شرح العقيدة الواسطية للعثيمين

ابن عثيمين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرحُ العَقِيدة الوَاسِطِيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لقد جرى مني الإذن لـ «دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع» بطبعي مؤلفي «شرح العقيدة الواسطية» بشرط العناية بالتصحيح وأن لا يحتفظوا بحقوق الطبع. كتبه محمد الصالح العثيمين في 29/ 12/ 1415 هـ الطبعة السادسة جمادى الأولى 1421 هجري دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية الدمام - شارع ابن خلدون - ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرمز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شارع الجامعة - ت: 5883122 جدة: ت: 6516549 الرياض: ت: 4266339

مقدمة

مقدمة الحمد لله رب العالَمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فهذا كتاب "شرح العقيدة الواسطية" لفضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، نقدّمه لطلبة العلم بعد أن تمت مراجعته من قبل الشيخ نفسهِ -حفظه الله-، فصححه، ونقحه، وأضاف إليه زيادات هامة، فخرج في ثوب جديد قشيب. وكتاب "العقيدة الواسطية" الذي ألّفه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، كتاب مختصر مفيد، اشتمل على بيان عقيدة أهل السنة والجماعة بأوضح بيان وأخصر عبارة، فكانت هذه الرسالة على صغر حجمها من أحسن ما جُمع وكُتب في موضوعه، ولا أدلَّ على هذا من عناية العلماء بشرحه وتدريسه على طلاب العلم. ولقد كان عُلَماؤنا يحرصون على تدريس مثل هذه المختصرات على طلبتهم، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى ما هو أوسع وأشمل.

ولقد سلك فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين -نفع اللهُ بعلومهِ- هذه الطريقة، وكان يؤكِّد دائمًا على العناية بمثل هذه المختصرات وحفظِها. فكان في دروسه للعقيدة مثلًا يقوم بتدريس كتاب "العقيدة الواسطية"، وكتاب "التوحيد" لشيخ الإسلامِ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، وفي الفقه بكتاب "زاد المستقنع" للحجَّاوي -رحمه الله-، وفي الفرائض بـ"منظومة القلائد البرهانية"، وفي النحو بـ"الآجرومية"، وهكذا في سائر دروسه. فكان لهذه الطريقة الأثر البالغ في نفوس طلابه ومستمعيه، فانتشرت كتبه وأشرطته في شرق البلاد الإسلاميّةِ وغربها، وعمَّ الله بها النفع العظيم. وهذا الأمرُ قد جعل دور النشر تقوم على طبع مؤلفات ورسائل الشيخ -حفظه الله-، وقد كان لدار ابن الجوزي للنشر والتوزيع السبق في ذلك منذ زمن ليس بالقريب، فنحمد الله تعالى ونشكره على أن يسّر لنا ذلك. ولقد طبع هذا الكتاب من قبل، ولكنه في الحقيقة لم يُعْطَ حقه في التدقيق والتحقيق من قبل الشيخ -سدّده اللهُ-، لذلك قام فضيلة الشيخ بمراجعة الكتاب وتصحيحه وإعادة النظر فيه، واستدراك النقص الذي في الطبعة الأولى. فكانت طبعة هذا الكتاب -حقًا- خيرًا من سابقتها.

عملي في الكتاب: خرَّجت الأحاديث والآثار التي أمكنني الوقوف عليها بقدر استطاعتي، فإن كان في "الصحيحين" أو في أحدهما فإنني أكتفي بهما، وإن كان في غيرهما عزوته إلى أهم مصادره تفاديًا للتطويل، وذكرنا ما قيل عنه من صحة وضعف مسترشدًا بأقوال العلماء المعتبرين في هذا الفن، دون أن يكون لنا زيادة على ذلك. قمت بعمل فهارس لأحاديث المتن والشرح، وفهرسٍ آخر لمواضيع الكتاب. آثرت عدم ذكر ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية مكتفيًا بالتراجم التي خرجت له -رحمه الله- وهي كثيرة جدًا (1). كما أنَّنا ذكرنا ترجمة موجزة للشيخ محمد بن عثيمين، قام بكتابتها الأخ الفاضل وليد بن أحمد الحسين. هذا هو جهد المقلِّ، وأنا أعلم بأن هناك من طلاب العلم من هو أولى بهذا العمل، فأسأل الله تعالى العفو والمغفرة، وأن يوفِّقنا لما فيه الخير والصواب. كما أرى لزامًا عليَّ أن أتوجَّه بالشكر لله -عز وجل-أولًا-، ثم لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين -نَفَعَ الله بعلومهِ- الذي أولانا

_ (1) مثل: "العقود الدرية" لابن عبد الهادي، و"الكواكب الدرية" للشيخ مرعي الكرمي الحنبلي، و"الرد الوافر" لابن ناصر الدين الدمشقي، و"الأعلام العلية" للبزار، وغيرها كثير.

العناية بطبع هذا الكتاب، وتخريج أحاديثه ومراجعته لها. كما أشكر الإخوة في دار الحسن للنشر والتوزيع -بالأردن، الذين قاموا بصف حروف وإخراج هذا الكتاب بحلته القشيبة. وختامًا؛ أسأل الله تعالى أن يجعل عملي خالصًا لوجهه، ليس لأحد فيه شيء، ويغفر لي ما كان فيه من خطأ، إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سعد بن فواز الصميل الخُبر

ترجمة المؤلف

ترجمة المؤلف اسمه ونسبه: هو أبو عبد الله، محمد بن صالح بن محمد بن عثيمين المقبل الوهيبي التميمي. مولده ونشأته: ولد الشيخ أبو عبد الله في مدينة عنيزة، إحدى مدن القصيم، عام 1347 هـ، في السابع والعشرين من شهر رمضان المبارك، في عائلة معروفة بالدين والاستقامة، بل تتلمذ على بعض أفراد عائلته، أمثال جدّه من جهة أمه، الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ، -رحمه الله-؛ فقد قرأ عليه القرآن، فحفظه، ثم اتجه إلى طلب العلم، فتعلم الخط والحساب، وبعض فنون الآداب. وكان الشيخ قد رزق ذكاء وزكاء، وهمة عالية، وحرصًا على التحصيل العلمي في مزاحمته الركب لمجالس العلماء، وفي مقدمتهم الشيخ العلامة المفسر الفقيه عبد الرحمن بن ناصر السعدي وكان الشيخ عبد الرحمن قد أقام اثنين من طلابه لتعليم

الصغار، وهما الشيخ علي الصالحي، والشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع، فقرأ الشيخ محمد بن صالح العثيمين عليهما "مختصر العقيدة الواسطية"، للشيخ عبد الرحمن السعدي، و"منهاج السالكين في الفقه" للشيخ السعدي أيضًا، و"الآجرومية"، و"الألفية" في النحو والصرف، وهكذا كانت نشأة الشيخ بين أحضان العلماء. ولم يرحل الشيخ لطلب العلم إلا إلى الرياض، حين فتحت المعاهد العلمية عام 1372 هـ، فالتحق بها. وبعد وفاة شيخه عبد الرحمن السعدي، الذي توفى في عنيزة عام 1376 هـ، عن عمر يناهز التاسعة والستين، رشح بعض المشايخ لإمامة الجامع الكبير، إلا أنهم لم يستمروا على ذلك إلا مدة قصيرة جدًا، فرشح الشيخ محمد بن صالح العثيمين لإمامة الجامع الكبير، عندها تصدى للتدريس مكان شيخه، ولم يتصدَّ للتأليف إلا عام 1382 هـ، حين ألف أول كتاب له، وهو "فتح رب البرية بتلخيص الحموية"، وهو تلخيص لكتاب شيخ الإسلام ابن تيمية "الحموية في العقيدة". واستغل الشيخ وجوده في الرياض بالدراسة على الشيخ عبد العزيز بن باز، فقرأ عليه من "صحيح البخاري"، وبعض رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض الكتب الفقهية. وقد عرض على الشيخ تولي القضاء من قبل مفتي المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، -رحمه الله-،

الذي ألح على فضيلته بتولي القضاء، بل أصدر قراره بتعيينه رئيسًا للمحكمة الشرعية بالأحساء، فطلب منه الإعفاء، وبعد مراجعات واتصالات سمح بإعفائه من منصب القضاء. مشايخه: استفاد الشيخ أبو عبد الله في طلبه للعلم من عدة شيوخ منهم. 1 - الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، المتوفى عام 1376 هـ، المفسر المشهور، صاحب التفسير المعروف بـ"تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان" في ثمان مجلدات. 2 - الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء. 3 - الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكني الشنقيطي، المتوفي عام 1393 هـ، المفسر، واللغوي، صاحب التفسير المشهور والمعروف بـ"أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن". 4 - الشيخ علي بن حمد الصالحي، ولا يزال على قيد الحياة، أطال الله عمره، وأحسن عمله. 5 - الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع، -رحمه الله-. 6 - الشيخ عبد الرحمن بن علي بن عودان، -رحمه الله-. 7 - الشيخ عبد الرحمن بن سليمان آل دامغ -رحمه الله-، جد

الشيخ من جهة أمه. تلاميذه: لا يمكن حصر جميع من تتلمذ على الشيخ؛ لأنهم ازدحموا في مجلسه -لاسيما في السنوات الأخيرة- بما يزيد على الخمسمائة طالب في بعض الدروس، على اختلاف مستوياتهم، وقد ذكرت مجموعة من طلابه البارزين في ترجمته المفصلة في "مجلة الحكمة" العدد الثاني لا على سبيل الحصر فارجع إليها. منهجه العلمي: لقد أوضح الشيخ -حفظه الله- منهجه، وصرح به مرات عديدة، أنه يسير على الطريقة التي انتهجها شيخه العلامة الشيخ عبد الرحمن الناصر السعدي، يقول شيخنا أبو عبد الله: "لقد تأثرت كثيرًا بشيخي عبد الرحمن السعدي في طريقة التدريس، وعرض العلم، وتقريبه للطلبة بالأمثلة والمعاني". والمنهج الذي سلكه الشيخ عبد الرحمن السعدي هو منهج خرج به عن المنهج الذي يسير عليه علماء الجزيرة -علماء نجد- عامتهم أو غالبتهم، حيث اعتماد المذهب الحنبلي في الفروع من مسائل الأحكام الفقهية، والاعتماد على كتاب "زاد المستنقع" في فقه الإمام أحمد بن حنبل، فكان الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي معروفًا بخروجه عن المذهب الحنبلي، وعدم التقيد به في مسائل كثيرة.

ومنهج الشيخ السعدي هو أنه كثيرًا ما يتبنى آراء شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ويرجحهما على المذهب الحنبلي، فلم يكن عنده الجمود تجاه مذهب معين، بل كان متجردًا للحق، وقد انطبعت فيه هذه الصفة وانتقلت إلى تلميذه محمد الصالح العثيمين. ولا بأس في أن نذكر أمثلة لبعض المسائل التي خالف شيخنا أبو عبد الله العثيمين فيها شيخ الإسلام ابن تيمية منها: 1 - يرى شيخ الإسلام ابن تيمية أن الجماعة شرط لصحة الصلاة، ويرى شيخنا أنها واجبة. 2 - يرى شيخ الإسلام أن المتمتع في الحج يكفيه سعي العمرة عن سعي الحج، ويرى شيخنا أن سعي العمرة لا يكفي عن سعي الحج. 3 - يرى شيخ الإسلام جواز سفر المرأة بلا محرم مع الأمن، ويرى شيخنا عدم جواز سفر المرأة بلا محرم مطلقًا. 4 - يرى شيخ الإسلام جواز الجمع بين الأختين من الرضاع، ويرى شيخنا التحريم لعموم حديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". 5 - يرى شيخ الإسلام جواز دفع الزكاة في قضاء دين الميت الذي لم يخلف وفاء، ويرى شيخنا عدم الجواز. 6 - يرى شيخ الإسلام جواز تعفير الوجه بالتراب تذللًا لله

تعالى -ذكرها في الاختيارات- ويرى شيخنا ضعف هذا القول؛ لأن الأصل في العبادات المنع والحظر، حتى يقوم دليل على المشروعية. 7 - يرى شيخ الإسلام أن للأم الثلث مع الإخوة المحجوبين بالأب، ويرى شيخنا أن للأم السدس؛ أي إن الأخوة، وإن كانوا محجوبين بالأب، لكن تأثيرهم على الأم يظل باقيًا، فيحجبونها حجب نقصان من الثلث إلى السدس، وهو قول الجمهور. 8 - يرى شيخ الإسلام جواز الزيادة بين الربويين من جنس واحد في مقابل الصنعة، ويرى شيخنا عدم الجواز للعمومات الدالة على أن الذهب بالذهب لابد فيه من التساوي وزنًا بوزن، سواء بسواء، يدًا بيد. 9 - يرى شيخ الإسلام أن المأموم تكفيه قراءة إمامه في الصلاة الجهرية، وهو المذهب، ويرى شيخنا وجوب قراءة الفاتحة على المأموم في الجهرية. طبيعة الدرس عند الشيخ: إن طبيعة الدرس التي التزمها الشيخ، وسار عليها، واتخذها منهجًا له منذ توليه التدريس في الجامع الكبير خلفًا لشيخه منذ أكثر من خمس وثلاثين سنة تكمن في نمط معين؛ ذلك أن الشيخ يركز كثيرًا على حفظ المتون، ويطالب التلميذ ويتابعه على الحفظ في كل درس، بل إن الشيخ ينكر على من يحضر درسه ولا يلتزم الحفظ. وقد حفظنا على الشيخ كثيرًا من المتون المنثورة

والمنظومة. ومن آثاره العلمية: ذكرت من آثاره العلمية خمسة وخمسين مؤلفًا، وأكثرها عبارة عن رسائل صغيرة، فارجع إلى التفصيل في ذكرها إلى مجلتنا "مجلة الحكمة" في عددها الثاني، في ترجمة الشيخ -حفظه الله-. فقد أطلنا في ترجمته إلى ثلاثين صفحة فارجع إليها. هذا ما تيسر كتابته وتدوينه باختصار عن ترجمة المؤلف، والله أسأل أن يَمُدَّ في عمره، ويحسن عمله، وينفع به الأمة إنه سميع قريب مجيب والحمد لله رب العالمين. بقلم تلميذه وليد بن أحمد الحسين أبو عبد الله الزبيري رئيس تحرير مجلة الحكمة

مقدمة الطبعة الثانية

مقدمة الطبعة الثانية إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: فقد مَنَّ الله تعالى علينا بشرح "العقيدة الواسطية" التي ألفها شيخ الإسلام ابن تيمية في عقيدة أهل السنة والجماعة تقريرًا على الطلبة الذين درسوها علينا في المسجد، ومن أجل حرصهم على حفظ التقرير؛ قاموا بتسجيله ثم تفريغه كتابة من أشرطة التسجيل. ومن المعلوم أن الشرح المتلقى من التقرير ليس كالشرح المكتوب بالتحرير؛ لأن الأول يعتريه من النقص والزيادة ما لا يعتري الثاني. وقد تقدمت عدة مكاتب نشر بطلب طباعته، وسبق إلى ذلك (مكتبة طبرية)، فأخرجته بثوب قشيب، وعليه تعليقات مفيدة في تحقيقه وتخريج أحاديثه لأخينا أبي محمد أشرف بن عبد المقصود بن

عبد الرحيم وفقه الله وجزاه خيرًا. ولكن؛ لما كان الشرح المتلقى من التقرير ليس كالشرح المكتوب بالتحرير؛ رأيت من المهم أن أقرأ الشرح بتمهُّل من أجل إخراج الشرح على الوجه المَرْضِيِّ، ففعلت ذلك ولله الحمد، وحذفت ما لا يُحتاج إليه، وزدت ما يُحتاج إليه. وأسأل الله تعالى أن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يجعلنا من دعاة الحق وأنصاره؛ إنه قريب مجيب. المؤلف محمد العثيمين 27/ 3 / 1415 هـ

مقدمة الشارح

مقدمة الشارح ... مقدمة بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فإنه هذا الكتاب الذي يسمى "العقيدة الواسطية" ألفه حبر الأمة في زمانه: أبو العباس، شيخ الإسلام، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية الحراني، رحمه الله، المتوفى سنة 728 هـ. ولهذا الرجل من المقامات ـ التي يشكر عليها والتي نرجو من الله له المثوبة عليها ـ في الدفاع عن الحق ومهاجمة أهل الباطل ما يعلمه كل من تتبع كتبه وسبرها، والحقيقة أنه من نعم الله على هذه الأمة، لأن الله سبحانه وتعالى كف به أموراً عظيمة خطيرة على العقيدة الإسلامية. وهذا الكتاب كتاب مختصر، يسمى "العقيدة الواسطية"، ألفه شيخ الإسلام، لأنه حضر إليه رجل من قضاة واسط، شكا إليه ما كان الناس يعانونه من المذاهب المنحرفة فيما يتعلق بأسماء الله

وصفاته، فكتب هذه العقيدة التي تُعدُّ زبدة لعقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالأمور التي خاض الناس فيها بالبدع وكثر فيها الكلام والقيل والقال. وقبل أن نبدأ الكلام على هذه الرسالة العظيمة نحب أن نبين أن جميع رسالات الرسل، من أولهم نوح عليه الصلاة والسلام، إلى آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم، كلها تدعو إلى التوحيد. قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وذلك أن الخلق خلقوا لواحد, وهو الله عز وجل، خلقوا لعبادته، لتتعلق قلوبهم به؛ تألهاً, وتعظيماً، وخوفاً, ورجاء, وتوكلاً, ورغبة, ورهبة، حتى ينسلخوا عن كل شيء من الدنيا لا يكون معيناً لهم على توحيد الله عز وجل في هذه الأمور؛ لأنك أنت مخلوق، لابد أن تكون لخالقك، قلباً وقالباً في كل شيء. ولهذا كانت دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام إلى هذا الأمر الهام العظيم، عبادة الله وحده لا شريك له. ولم يكن الرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى البشر يدعون إلى توحيد الربوبية كدعوتهم إلى توحيد الألوهية، ذلك أن منكري توحيد الربوبية قليلون جداً, وحتى الذين ينكرونه هم في

أقسام التوحيد

قرارة نفوسهم لا يستطيعون أن ينكروه، اللهم إلا أن يكونوا قد سُلبوا العقول المدركة أدنى إدراك، فإنهم قد ينكرون هذا من باب المكابرة. وقد قسم العلماء رحمهم الله التوحيد إلى ثلاثة أقسام: أحدها: توحيد الربوبية: وهو "إفراد الله سبحانه وتعالى في أمور ثلاثة: في الخلق والملك والتدبير". دليل ذلك قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف، 54] ووجه الدلالة من الآية: أنه قدم فيها الخبر الذي من حقه التأخير، والقاعدة البلاغية: أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر. ثم تأمل افتتاح هذه الآية بـ (ألا) الدالة على التنبيه والتوكيد: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف: 4]، لا لغيره، فالخلق هذا هو، والأمر هو التدبير. أما الملك، فدليلة مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الجاثية: 27]، فإن هذا يدل على انفراده سبحانه وتعالى بالملك، ووجه الدلالة من هذه الآية كما سبق تقديم ما حقه التأخير. إذاً، فالرب عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير. فإن قلت: كيف تجمع بين ما قررت وبين إثبات الخلق لغير الله، مثل قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:

14]، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في المصورين: "يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" (¬1) , ومثال قوله تعالى في الحديث القدسي: "ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي" (¬2)، فكيف تجمع بين قولك: أن الله منفرد بالخلق، وبين هذه النصوص؟! فالجواب أن يقال: إن الخلق هو الإيجاد، وهذا خاص بالله تعالى، أما تحويل الشيء من صورة إلى أخرى، فإنه ليس بخلق حقيقة، وإن سمي خلقاً باعتبار التكوين، لكنه في الواقع ليس بخلق تام، فمثلا: هذا النجار صنع من الخشب باباً، فيقال: خلق باباً, لكن مادة هذه الصناعة الذي خلقها هو الله عز وجل، لا يستطيع الناس كلهم مهما بلغوا في القدرة أن يخلقوا عود أراك أبداً، ولا أن يخلقوا ذرة ولا أن يخلقوا ذباباً. واستمع إلى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73]. {الَّذِينَ}: اسم موصول يشمل كل ما يدعى من دون الله من شجر وحجر وبشر وملك وغيره، كل الذين يدعون من دون الله ¬

_ (¬1) رواه البخاري كتاب اللباس/ باب من كره القعود عل الصورة، ومسلم/ كتاب الباس/ باب تحريم تصوير صورة الحيوان (¬2) رواه البخاري كتاب اللباس/ باب نقض الصور، ومسلم/ كتاب اللباس/ باب تحريم تصوير صورة الحيوان.

{لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]، ولو انفرد كل واحد بذلك، لكان عجزه من باب أولى، {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73]، حتى الذين يدعون من دون الله لو سلبهم الذباب شيئاً، ما استطاعوا أن يستنقذوه من هذا الذباب الضعيف، ولو وقع الذباب على أقوى ملك في الأرض، ومص من طيبه، لا يستطيع هذا الملك أن يستخرج الطيب من هذا الذباب، وكذلك لو وقع على طعامه، فإذاً الله عز وجل هو الخالق وحده. فإن قلت: كيف تجمع بين قولك: إن الله منفرد بالملك وبين إثبات الملك للمخلوقين، مثل قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} [النور: 61] {إِلاّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 61]؟ فالجواب: أن الجمع بينهما من وجهين: الأول: أن ملك الإنسان للشيء ليس عاماً شاملاً، لأنني أملك ما تحت يدي، ولا أملك ما تحت يدك والكل ملك لله عز وجل، فمن حيث الشمول: مُلكُ الله عز وجل أشمل وأوسع، وهو ملك تام. الثاني: أن ملكي لهذا الشيء ليس ملكاً حقيقياً أتصرف فيه كما أشاء، وإنما أتصرف فيه كما أمر الشرع، وكما أذن المالك الحقيقي، وهو الله عز وجل، ولو بعت درهماً بدرهمين، لم أملك ذلك، ولا يحل لي ذلك، فإذا ملكي قاصر, وأيضاً لا أملك فيه شيئاً من الناحية القدرية، لأن التصرف لله، فلا أستطيع أن أقول

القسم الثاني: توحيد الألوهية

لعبدي المريض: ابرأ! فيبرأ، ولا أستطيع أن أقول لعبدي الصحيح الشحيح: امرض! فيمرض، لكن التصرف الحقيقي لله عز وجل، فلو قال له: ابرأ! برأ، ولو قال: امرض! مرض، فإذا لا أملك التصرف المطلق شرعاً وقدراً، فملكي هنا قاصر من حيث التصرف، وقاصر من حيث الشمول والعموم، وبذلك يتبين لنا كيف كان انفراد الله عز وجل بالملك. وأما التدبير، فللإنسان تدبير، ولكن نقول: هذا التدبير قاصر، كالوجهين السابقين في الملك، ليس كل شيء أملك تدبير فيه, وإنما أملك تدبير ما كان تحت حيازتي وملكي, وكذلك لا أملك تدبيره إلا على وفق الشرع الذي أباح لي هذا التدبير. وحينئذ يتبين أن قولنا: "إن الله عز وجل منفرد بالخلق والملك والتدبير": كلية عامة مطلقة، لا يستثنى منها شيء، لأن كل ما أوردناه لا يعارض ما ثبت لله عز وجل من ذلك. القسم الثاني: توحيد الألوهية: وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة؛ بألا تكون عبداً لغير الله، لا تعبد ملكاً ولا نبياً ولا ولياً ولا شيخاً ولا أُمَّاً ولا أباً، لا تعبد إلا الله وحده، فتفرد الله عز وجل وحده بالتأله والتعبد، ولهذا يسمى: توحيد الألوهية، ويسمى: توحيد العبادة، فباعتبار إضافته إلى الله هو توحيد ألوهية، وباعتبار إضافته إلى العابد هو توحيد عبادة. والعبادة مبنية على أمرين عظيمين، هما المحبة والتعظيم،

الناتج عنهما: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء: 90]، فبالمحبة تكون الرغبة، وبالتعظيم تكون الرهبة والخوف. ولهذا كانت العبادة أوامر ونواهي: أوامر مبنية على الرغبة وطلب الوصول إلى الآمر، ونواهي مبنية على التعظيم والرهبة من هذا العظيم. فإذا أحببت الله عز وجل، رغب فيما عنده ورغب في الوصول إليه، وطلبت الطريق الموصل إليه، وقمت بطاعته على الوجه الأكمل، وإذا عظمته خفت منه، كلما هممت بمعصية، استشعرت عظمة الخالق عز وجل، فنفرت، {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} [يوسف: 24]، فهذه من نعمة الله عليك، إذا هممت بمعصية، وجدت الله أمامك، فهبت وخفت وتباعدت عن المعصية، لأنك تعبد الله رغبة ورهبة. فما معنى العبادة؟ العبادة: تطلق على أمرين، على الفعل والمفعول. تطلق على الفعل الذي هو التعبد، فيقال: عبد الرجل ربه عبادة وتعبداً وإطلاقها على التعبد من باب إطلاق اسم المصدر، ونعرفها باعتبار إطلاقها على الفعل بأنها: "التذلل لله عز وجل حباً وتعظيماً، بفعل أوامره واجتناب نواهيه". وكل من ذل لله عز بالله، {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8].

وتطلق على المفعول، أي: المتعبد به, وهي بهذا المعنى تعرف بما عرفها به شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال رحمه الله: "العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة" (¬1) هذا الشيء الذي تعبدنا الله به يجب توحيد الله به، لا يصرف لغيره، كالصلاة والصيام والزكاة والحج والدعاء والنذر والخشية والتوكل .. إلى غير ذلك من العبادات. فإن قلت: ما هو الدليل على أن الله منفرد بالألوهية؟ فالجواب: هناك أدلة كثيرة، منها: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]. وأيضاً قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، لو لم يكن من فضل العلم إلا هذه المنقبة، حيث إن الله ما أخبر أن أحداً شهد بألوهيته إلا أولو العلم، نسأل الله أن يجعلنا منهم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] , بالعدل، ثم قرر هذه الشهادة بقوله: {لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل ¬

_ (¬1) "رسالة العبودية" مجموع الفتاوى 10/ 149

عمران: 18] ,فهذا دليل واضح على أنه لا إله إلا الله عز وجل، أشهد أن لا إله إلا الله، وأنتم تشهدون أن لا إله إلا الله. هذه الشهادة الحق؛ إذا قال قائل: كيف تقرونها مع أن الله تعالى يثبت ألوهية غيره، مثل قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [القصص: 88]، ومثل قوله: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117]، ومثل قوله: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود: 101]، ومثل قول إبراهيم: {أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] ... إلى غير ذلك من الآيات، كيف تجمع بين هذا وبين الشهادة بأن لا إله إلا الله؟ فالجواب: أن ألوهية ما سوى الله ألوهية باطلة، مجرد تسمية، {إِنْ هِيَ إِلاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]، فألوهيتها باطلة، وهي وإن عبدت وتأله إليها من ضل، فإنها ليست أهلا لأن تعبد، فهي آلهة معبودة، لكنها آلهة باطلة، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان: 30]. وهذا النوعان من أنواع التوحيد لا يجحدهما ولا ينكرهما أحد من أهل القبلة المنتسبين إلى الإسلام، لأن الله تعالى موحد بالربوبية والألوهية، لكن حصل فيما بعد أن من الناس من ادعى ألوهية أحد من البشر، كغلاة الرافضة مثلاً، الذين يقولون: إن علياً إليه، كما صنع زعيمهم عبد الله بن سبأ، حيث جاء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال له: أنت الله حقاً‍! لكن عبد الله بن سبأ

أصله يهودي دخل في دين الإسلام بدعوى التشيع لآل البيت، ليفسد على أهل الإسلام دينهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: "إن هذا صنع كما صنع بولص حين دخل في دين النصارى ليفسد دين النصارى" (¬1). هذا الرجل عبد الله بن سبأ قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أنت الله حقاً! وعلي ابن أبي طالب لا يرضى أن أحداً ينزله فوق منزلته هو حتى إنه رضي الله عنه من إنصافه وعدله وعلمه وخبرته كان يقول منزلته هو حتى إنه رضي الله عنه من إنصافه وعدله وعلمه وخبرته كان يقول على منبر الكوفة: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" (¬2)، يعلن ذلك في الخطبة، وقد تواتر النقل عنه بذلك رضي الله عنه، والذي يقول هكذا ويقر بالفضل لأهله من البشر كيف يرضي أن يقول له قائل: إنك أنت الله؟ ‍! ولهذا عزرهم أبشع تعزير، أمر بالأخاديد فخدت، ثم ملئت حطباً وأوقدت، ثم أتى بهؤلاء فقذفهم في النار وأحرقهم بها، لأن فريتهم عظيمة ـ والعياذ بالله ـ وليست هينة، ¬

_ (¬1) رواه اللاكائي في "شرح السنة" (2823) عن الشعبي، وقد أورده شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة" (1/ 29) وأشار إلى من رواه من العلماء. وحسنه الحافظ في "الفتح" (12/ 270). (¬2) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 110)، وفي "فضائل الصحابة" (397)، وابن أبي عاصم في "السنة" (2/ 570)، وابن ماجه (106) عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والحديث أصله في "صحيح البخاري" (3671) عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال أبو بكر. قال: قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر.

القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات

ويقال: إن عبد الله بن سبأ هرب ولم يمسكوه المهم أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحرق السبئية بالنار، لأنهم ادعوا فيه الألوهية. فنقول: كل من كان من أهل القبلة لا ينكرون هذين النوعين من التوحيد: وهما: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وإن كان يوجد في بعض أهل البدع من يؤله أحداً من البشر. لكن الذي كثر فيه النزاع بين أهل القبلة هو: القسم الثالث وهو توحيد الأسماء والصفات: هذا هو الذي كثر فيه الخوض، فانقسم الناس فيه إلى ثلاثة أقسام، وهم: ممثل، ومعطل، ومعتدل، والمعطل: إما مكذب أو محرف. وأول بدعة حدث في هذه الأمة هي بدعة الخوارج، لأن زعيمهم خرج على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذو الخويصرة من بني تميم، حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم ذهبية جاءت فقسمها بين الناس، فقال له هذا الرجل: يا محمد! ‍ اعدل (¬1) ‍! فكان هذا أول خروج خُرِج به على الشريعة الإسلامية، ثم عظمت فتنتهم في أواخر خلافة عثمان وفي الفتنة بين علي ومعاوية، فكفروا المسلمين واستحلوا دماءهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3610) , ومسلم (1064) (148)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ثم حدثت بدعة القدرية مجوسي هذه الأمة الذين قالوا: إن الله سبحانه وتعالى لم يقدر أفعال العباد وليست داخلة تحت مشيئته وليست مخلوقة له، بل كان زعماؤهم وغلاتهم يقولون: إنها غير معلومة لله، ولا مكتوبة في اللوح المحفوظ، وأن الله لا يعلم بما يصنع الناس، إلا إذا وقع ذلك ويقولون: إن الأمر أُنف، أي: مستأنف وهؤلاء أدركوا آخر عصر الصحابة، فقد أدركوا زمن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعبادة بن الصامت وجماعة من الصحابة، لكنه في أواخر عصر الصحابة. ثم حدثت بدعة الإرجاء وأدركت زمن كثير من التابعين، والمرجئة هم الذين يقولون: إنه لا تضر المعصية مع الإيمان تزني وتسرق وتشرب الخمر، وتقتل ما دمت مؤمنا، فأنت مؤمن كامل الإيمان وإن فعلت كل معصية‍! لكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كلام القدرية والمرجئة حين رده بقايا الصحابة كان في الطاعة والمعصية والمؤمن والفاسق، لم يتكلموا في ربهم وصفاته. فجاء قوم من الأذكياء! ممن يدعون أن العقل مقدم على الوحي، فقالوا قولا بين القولين ـ قول المرجئة وقول الخوارج ـ قالوا: الذي يفعل الكبيرة ليس بمؤمن كما قاله المرجئة، وليس بكافر كما قاله الخوارج، بل هو في منزلة بين منزلتين، كرجل سافر من مدينة إلى أخرى فصار في أثناء الطريق، فلا هو في

مدينته ولا في التي سافر إليها، بل في منزلة بين منزلتين، هذا في أحكام الدنيا، أما في الآخرة، فهو مخلد في النار، فهم يوافقون الخوارج في الآخرة، لكن في الدنيا يخالفونهم. ظهرت هذه البدعة وانتشرت، ثم حدثت بدعة الظلمة والجهمة، وهي بدعة جهم بن صفوان وأتباعه، ويسمون الجهمية، حدثت هذه البدعة، وهي لا تتعلق بمسألة الأسماء، والأحكام، مؤمن أم كافر أم فاسق، ولم في منزلة بين منزلتين، بل تتعلق بذات الخالق. انظر كيف تدرجت البدع في صدر الإسلام، حتى وصلوا إلى الخالق جل وعلا، وجعلوا الخالق بمنزلة المخلوق، يقولون كما شاؤوا، فيقولون: هذا ثابت لله، وهذا غير ثابت، هذا يقبل العقل أن يتصف الله به، وهذا لا يقبل العقل أن يتصف به، فحدثت بدعة الجهمية والمعتزلة، فانقسموا في أسماء الله وصفاته إلى أقسام متعددة: 1 - قسم قالوا: لا يجوز أبداً أن نصف الله لا بوجود ولا بعدم، لأنه إن وصف بالوجود، أشبه الموجودات، وإن وصف بالعدم، أشبه المعدومات، وعليه يجب نفي الوجود والعدم عنه، وما ذهبوا إليه، فهو تشبيه للخالق بالممتنعات والمستحيلات، لأن تقابل العدم والوجود تقابل نقيضين، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وكل عقول بني آدم تنكر هذا الشيء ولا تقبله، فانظر كيف فروا من شيء فوقعوا في أشر منه!

2 - وقسم آخر قالوا: نصفه بالنفي ولا نصفه بالإثبات، يعني: أنهم يجوزون أن تسلب عن الله سبحانه وتعالى الصفات لكن لا تثبت، يعني: لا نقول: هو حي، وإنما نقول: ليس بمبيت! ولا نقول: عليم، بل نقول: ليس بجاهل ... وهكذا. قالوا: لو أثبت له شيئاً شبهته بالموجودات، لأنه على زعمهم كل الأشياء الموجودة متشابهة، فأنت لا تثبت له شيئاً، وأما النفي، فهو عدم، مع أن الموجود في الكتاب والسنة في صفات الله من الإثبات أكثر من النفي بكثير. قيل لهم: إن الله قال عن نفسه: سميع بصير! قالوا: هذا من باب الإضافات، بمعنى: نُسِب إليه السمع لا لأنه متصف به، ولكن لأن له مخلوقا يسمع، فهو من باب الإضافات، فـ (سميع)، يعني: ليس له سمع، لكن له مسموع. وجاءت طائفة ثانية، قالوا: هذه الأوصاف لمخلوقاته، وليست له، أما هو، فلا يثبت له صفة. 3 - وقسم قالوا: يثبت له الأسماء دون الصفات، وهؤلاء هم المعتزلة أثبتوا أسماء الله، قالوا: إن الله سميع بصير قدير عليم حكيم ... لكن قدير بل قدرة، سميع بلا سمع بصير بلا بصر، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة. وقسم رابع قالوا: نثبت له الأسماء حقيقة، ونثبت له صفات معينة دل عليها لعقل وننكر الباقي، نثبت له سبع صفات فقط والباقي ننكره تحريفاً لا تكذيباً، لأنهم لو أنكروه تكذيباً،

كفروا، لكن ينكرونه تحريفاً وهو ما يدعون أنه "تأويل". الصفات السبع هي مجموعة في قوله: له الحياة والكلام والبصر ... سمع إرادة وعلم واقتدر فهذه الصفات نثبتها لأن العقل دل عليها وبقية الصفات ما دل عليها العقل، فنثبت ما دل عليه العقل، وننكر ما لم يدل عليه العقل وهؤلاء هم الأشاعرة، آمنوا بالبعض، وأنكروا البعض. فهذه أقسام التعطيل في الأسماء والصفات وكلها متفرعة من بدعة الجهم، "ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" (¬1). فالحاصل أنكم أيها الإخوة لو طالعتم في كتب القوم التي تعتني بجمع أقاويل الناس في هذا الأمر، لرأيتم العجب العجاب، الذي تقولون: كيف يتفوه عاقل ـ فضلاً عن مؤمن ـ بمثل هذا الكلام؟! ولكن ... من لم يجعل الله له نوراً، فما له من نور! الذي أعمى الله بصيرته كالذي أعمى الله بصره، فكما أن أعمى البصر لو وقف أمام الشمس التي تكسر نور البصر لم يرها، فكذلك من أعمى الله بصيرته لو وقف أمام أنوار الحق ما رآها والعياذ بالله. ولهذا ينبغي لنا دائماً أن نسأل الله تعالى الثبات على الأمر، ¬

_ (¬1) جزء من حديث رواه مسلم (1017) ,من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.

وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا لأن الأمر خطير، والشيطان يدخل على ابن آدم من كل صوب ومن كل وجه ويشككه في عقيدته وفي دينه وفي كتاب الله وسنة رسوله فهذه في الحقيقة البدع التي انتشرت في الأمة الإسلامية. ولكن ولله الحمد ما ابتدع أحد بدعة، إلا قيض الله له بمنه وكرمه من يبين هذه البدعة ويدحضها بالحق وهذا من تمام مدلول قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، هذا من حفظ الله لهذا الذكر، وهذا أيضاً هو مقتضى حكمة الله عز وجل، لأن الله تعالى جعل محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، والرسالة لابد أن تبقى في الأرض، وإلا لكان للناس حجة على الله وإذا كانت الرسالة لابد أن تبقى في الأرض، لزم أن يقيض الله عز وجل بمقتضى حكمته عند كل بدعة من يبينها ويكشف عورها، وهذا هو الحاصل، ولهذا أقول لكم دائماً: احرصوا على العلم، لأننا في هذا البلد في مستقبل إذا لم نتسلح بالعلم المبني على الكتاب والسنة، فيوشك أن يحل بنا ما حل في غيرنا من البلاد الإسلامية، وهذا البلد الآن هو الذي يركز عليه أعداء الإسلام ويسلطون عليه سهامهم، من أجل أن يضلوا أهلها، فذلك تسلحوا بالعلم، حتى تكونوا على بينة من أمر دينكم وحتى تكونوا مجاهدين بألسنتكم وأقلامكم لأعداء الله سبحانه وتعالى. وكل هذه البدع انتشرت بعد الصحابة، فالصحابة رضي الله

عنهم لم يكونوا يبحثون في هذه الأمور، لأنهم يتلقون الكتاب والسنة على ظاهرهما وعلى ما تقتضيه الفطرة، والفطرة السليمة سليمة، لكن أتى هؤلاء المبتدعون، فابتدعوا في دين الله تعالى ما ابتدعوا، إما لقلة علمهم، أو لقصور فهمهم، أو لسوء قصدهم، فأفسدوا الدنيا بهذه البدع التي ابتدعوها، ولكن كما قلنا: إن الله تعالى بحكمته وحمده ومنته وفضله ما من بدعة خرجت إلا قيض الله لها من يدحضها ويبينها. ومن جملة الذين بينوا البدع وقاموا قياماً تاماً بدحضها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأسأل الله لي ولكم أن يجمعنا في جنات النعيم. هذا الرجل الذي نفع الله بما آتاه من فضله ومن على الأمة بمثله ألف هذه "العقيدة" كما قلت إجابة لطلب أحد قضاة واسط الذي شكا إليه ما كان الناس عليه من البدع وطلب منه أن يؤلف هذه "العقيدة" فألفها.

شرح مقدمة ابن تيمية

شرح العقيدة الواسطية ... شرح مقدمة ابن تيمية * قول المؤلف رحمه الله "بسم الله الرحمن الرحيم": الشرح البداية بالبسملة هي شأن جميع المؤلفين، اقتداء بكتاب الله، حيث أنزل البسملة في ابتداء كل سورة واستناداً إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وإعراب البسملة ومعناها تكلم فيه الناس كثيراً، وفي متعلقها، وأحسن ما يقال في ذلك: أنها متعلقة بفعل محذوف متأخر مناسب للمقام، فإذا قدمتها بين يدي الأكل، فيكون التقدير: بسم الله آكل، وبين يدي القراءة يكون التقدير: بسم الله اقرأ. نقدره فعلاً، لأن الأصل في العمل الأفعال لا الأسماء، ولهذا كانت الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء لا تعمل إلا بشرط، لأن العمل أصل في الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء، ولهذا كانت الأفعال تعمل بلا شرط، والأسماء لا تعمل إلا بشرط، لأن العمل أصل في الأفعال، فرع في الأسماء. ونقدره متأخراً لفائدتين: الأولى: الحصر، لأن تقديم المعمول يفيد الحصر، فيكون: باسم الله أقرأ، بمنزلة: لا أقرأ إلاّ باسم الله.

الثانية: تيمناً بالبداءة باسم الله سبحانه وتعالى. ونقدره خاصاً، لأن الخاص أدل على المقصود من العام، إذ من الممكن أن أقول: التقدير: باسم الله أبتدئ لكن (باسم الله أبتدئ) لا تدل على تعيين المقصود، لكن (باسم الله أقرأ) خاص، والخاص أدل على المعنى من العام. "الله" علم على نفس الله عز وجل، ولا يسمى به غيره ومعناه: المألوه، أي: المعبود محبة وتعظيماً وهو مشتق على القول الراجح لقوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3]، فإن {فِي السَّمَاوَاتِ} متعلق بلفظ الجلالة، يعني: وهو المألوه في السموات وفي الأرض. "الرحمن"، فهو ذو الرحمة الواسعة، لأن (فعلان) في اللغة العربية تدل على السعة والامتلاء، كما يقال: رجل غضبان: إذا امتلأ غضباً. "الرحيم": اسم يدل على الفعل، لأنه فعيل بمعنى فاعل فهو دال على الفعل. فيجتمع من "الرحمن الرحيم": أن رحمة الله واسعة وأنها واصلة إلى الخلق. وهذا هو ما أومأ إليه بعضهم بقوله: الرحمن رحمة عامة والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، ولما كانت رحمة الله للكافر رحمة خاصة في الدنيا فقط فكأنها لا رحمة لهم، لأنهم في الآخرة يقول تعالى لهم إذا سألوا الله أن يخرجهم من النار وتوسلوا إلى الله تعالى بربوبيته واعترافهم على أنفسهم:

تفسير الحمد

{رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون: 107]، فلا تدركهم الرحمة، بل يدركهم العدل، فيقول الله عز وجل لهم: {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108]. * قوله: "الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً" شرح: قوله: "الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق": الله تعالى يحمد على كماله عز وجل وعلى إنعامه، فنحن نحمد الله عز وجل لأنه كامل الصفات من كل وجه، ونحمده أيضاً لأنه كامل الأنعام والإحسان: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]، وأكبر نعمة أنعم الله بها على الخلق إرسال الرسل الذي به هداية الخلق، ولهذا يقول المؤلف: "الحمد لله الذي أرسل رسول رسوله بالهدى ودين الحق". والمراد بالرسول هنا الجنس، فإن جميع الرسل أرسلوا بالهدى ودين الحق، ولكن الذي أكمل الله به الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه قد ختم الله به الأنبياء، وتم به البناء، كما وصف محمد صلى الله عليه وسلم نفسه بالنسبة للرسل، كرجل بنى قصراً وأتمه، إلا موضع لبنة، فكان الناس يأتون إلى هذا القصر ويتعجبون منه، إلا موضع هذه اللبنة، يقول: "فأنا اللَبِنَة، وأنا خاتم النبيين" (¬1)، عليه الصلاة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3535) / كتاب المناقب/ باب خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ومسلم (2286) / كتاب الفضائل/ باب ذكر كونه خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.

المراد بالهدى ودين الحق

والسلام. وقوله: "بالهدى": الباء هنا للمصاحبة, والهدى هو العلم النافع ويحتمل أن تكون الباء للتعدية، أي: إن المرسل به هو الهدى ودين الحق. و"ودين الحق" هو العمل الصالح، لأن الدين هو العمل أو الجزاء على العمل، فمن إطلاقه على العمل: قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران: 19]، ومن إطلاقه على الجزاء قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17]. والحق ضد الباطل، وهو ـ أي الحق ـ المتضمن لجلب المصالح ودرء المفاسد في الأحكام والأخبار. قوله: "ليظهره على الدين كله": اللام للتعليل ومعنى "ليظهره"، أي: يعليه، لأن الظهور بمعنى العلو، ومنه: ظهر الدابة أعلاها ومنه: ظهر الأرض سطحها، كما قال تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]. والهاء في "يظهره" هل هو عائد على الرسول أو على الدين؟ إن كان عائداً على "دين الحق"، فكل من قاتل لدين الحق سيكون هو العالي. لأن الله يقول: "ليظهره"، يظهر هذا الدين على الدين كله، وعلى مالا دين له فيظهره عليهم من باب أولى، لأمن لا يدين أخبث ممن يدين بباطل، فإذا: كل الأديان التي يزعم أهلها أنهم على حق سيكون دين الإسلام عليه ظاهراً، ومن سواهم من باب أولى.

مناسبة كفى بالله شهيدا، لقوله: {ليظهره على الدين كله}

وإن كان عائداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنما يظهر الله رسوله لأن معه دين الحق. وعلى كلا التقديرين، فإن من تمسك بهذا الدين الحق، فهو الظاهر العالي، ومن ابتغى العزة في غيره، فقد ابتغى الذل، لأنه لا ظهور ولا عزة ولا كرامة إلا بالدين الحق، ولهذا أنا أدعوكم معشر الإخوة إلى التمسك بدين الله ظاهراً أو باطناً في العبادة والسلوك والأخلاق، وفي الدعوة إليه، حتى تقوم الملَّة وتستقيم الأمة. قوله: "وكفى بالله شهيداً" يقول أهل اللغة: إن الباء هنا زائدة، لتحسين اللفظ والمبالغة في الكفاية، وأصلها: "وكفى الله". و"شهيداً": تمييز محول عن الفاعل لأن أصلها "وكفت شهادة الله". المؤلف جاء بالآية؛ ولو قال قائل: ما مناسبة "كفى بالله شهيداً"، لقوله: "ليظهره على الدين كله"؟ قيل: المناسبة ظاهرة، لأن هذا النبي عليه الصلاة والسلام جاء يدعو الناس ويقول: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني دخل النار (¬1). ويقول بلسان الحال: من أطاعني سالمته، ومن ¬

_ (¬1) لما رواه البخاري (7280)، كتاب الاعتصام/ باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل أمتي يدخلون الجنة إلاّ من أبى, قالوا يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى".

معنى شهادة لا إله إلا الله

عصاني حاربته ويحارب الناس بهذا الدين، ويستبيح دماءهم وأموالهم ونساءهم وذريتهم، وهو في ذلك منصور مؤزر غالب غير مغلوب، فهذا التمكين له في الأرض، أي تمكين الله لرسوله في الأرض: شهادة من الله عز وجل فعلية بأنه صادق وأن دينه حق، لأن كل من افترى على الله كذباً فمآله الخذلان والزوال والعدم، وانظر إلى الذين ادعوا النبوة ماذا كان مآلهم؟ أن نسوا وأهلكوا، كمسيلمة الكذاب، والأسود العنسي .... وغيرهما ممن ادعوا النبوة، كلهم تلاشوا وبان بطلان قولهم وحرموا الصواب والسداد لكن هذا النبي محمداً صلى الله عليه وسلم على العكس دعوته إلى الآن والحمد لله باقية، ونسأل الله أن يثبتنا وإياكم عليها، دعوته إلى الآن باقية وإلى أن تقوم الساعة ثابتة راسخة، يستباح بدعوته إلى اليوم دماء من ناوأها من الكفار وأموالهم، وتسبى نساؤهم وذريتهم (¬1)، هذه الشهادة فعلية، ما أخذه الله ولا فضحه ولا كذبه، ولهذا جاءت بعد قوله: "ليظهره على الدين كله". * وقوله: "وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له، إقراراً به وتوحيداً". ¬

_ (¬1) لما رواه البخاري (25) , ومسلم (22)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة, فإن فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم؛ إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله".

معنى شهادة محمد عبده ورسوله

شرح: "أشهد"، بمعنى: أقر بقلبي ناطقاً بلساني، لأ، الشهادة نطق وإخبار عما في القلب، فأنت عند القاضي تشهد بحق فلان على فلان، تشهد باللسان المعبر عما في القلب واختيرت الشهادة دون الإقرار، لأن الشهادة أصلها من شهود الشيء، أي: حضوره ورؤيته، فكأن هذا المخبر عما في قلبه الناطق بلسانه، كأنه يشاهد الأمر بعينه. "لا إله إلا الله"، أي: لا معبود حق إلا الله، وعلى هذا يكون خبر لا محذوفاً، ولفظ الجلالة بدلاً منه. "وحده لا شريك له": "وحده" هي من حيث المعنى توكيد للإثبات, "لا شريك له": توكيد للنفي. "إقراراً به وتوحيداً": "إقراراً" هذه مصدر، وإن شئت، فقل: إنه مفعول مطلق، لأنه مصدر معنوي لقوله: "أشهد"، وأهل النحو يقولون: إذا كان المصدر بمعنى الفعل دون حروفه، فهو مصدر معنوي، أو مفعول مطلق، وإذا كان بمعناه وحروفه، فهو مصدر لفظي فـ: قمت قياماً: مصدر لفظي، و: قمت وقوفاً: مصدر معنوي، و: جلست جلوساً: لفظي، و: جلست قعوداً: معنوي. وقوله: "وتوحيداً" مصدر مؤكد لقوله: "لا إله إلا الله". * قوله: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله".

الشرح: نقول في "أشهد" ما قلنا في "أشهد" الأولى. محمد: هو ابن عبد الله بن عبد المطلب القرشي الهاشمي الذي هو من سلالة إسماعيل بن إبراهيم، أشرف الناس نسباً، عليه الصلاة والسلام. هذا النبي الكريم عبد الله ورسوله، وهو أعبد الناس لله، وأشدهم تحقيقاً لعبادته، كان عليه الصلاة والسلام يقوم في الليل حتى تتورم قدماه ويقال له: كيف تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: "أفلا أكون عبداً شكوراً؟ " (¬1). لأن الله تعالى أثنى على العبد الشكور حتى قال عن نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء/ 3]، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصل إلى هذه الغاية، وأن يعبد الله تعالى حق عبادته، ولهذا كان أتقى الناس، وأخشى الناس لله، وأشدهم رغبة فيما عند الله تعالى، فهو عبد لله، ومقتضى عبوديته أنه لا يملك لنفسه ولا لغيره نفعاً ولا ضراً وليس له حق في الربوبية إطلاقاً بل هو عبد محتاج إلى الله مفتقر له يسأله ويدعوه ويرجوه ويخافه، بل إن الله أمره أن يعلن وأن يبلغ بلاغاً خاصاً بأنه لا يملك شيئاً من هذه الأمور فقال: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188] وأمره أن ¬

_ (¬1) البخاري (4837) كتاب التهجد/ باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم، ومسلم (2820) / كتاب المنافقين/ باب إكثار الأعمال والاجتهاد في الطاعة عن عائشة رضي الله عنها.

يقول: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] وأمره أن يقول: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلاّ بَلاغاً} [الجن: 21 - 23] {إلاّ} استثناء منقطع، أي: لكن أبلغ بلاغاً من الله ورسالاته. فالحاصل أن محمداً صلوات الله وسلامه عليه عبد لله ومقتضى هذه العبودية أنه لا حق له في شيء من شؤون الربوبية إطلاقاً. وإذا كان محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بهذه المثابة، فما بالك بمن دونه من عباد الله؟! فإنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا لغيرهم أبداً وبهذا يتبين سفه أولئك القوم الذين يدعون من يدعونهم أولياء من دون الله عز وجل. قوله: "ورسوله": هذا أيضاً لا يكون لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه خاتم النبيين، فهو رسول الله الذي بلغ مكاناً لم يبلغه أحد من البشر، بل ولا من الملائكة فيما نعلم اللهم إلا حملة العرش، وصل إلى ما فوق السماء السابعة، وصل إلى موضع سمع فيه صريف أقلام (¬1) القضاء الذي يقضي به الله عز وجل في خلقه، ما وصل أحد فيما نعلم إلى هذا المستوى، وكلمه الله عز وجل بدون واسطة، وأرسله إلى الخلق كافة وأيده بالآيات ¬

_ (¬1) لما رواه البخاري (349) / كتاب الصلاة/ باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام".

العظيمة التي لم تكن لأحد من البشر أو الرسل قبله، وهو هذا القرآن العظيم، فإن هذا القرآن لا نظير له في آيات الأنبياء السابقين أبداً، ولهذا قال الله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 50 - 51]، هذا يكفي عن كل شيء، ولكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، أما المعرض، فسيقول كما قال من سبقه: هذا أساطير الأولين! الحاصل أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله وخاتم النبيين، ختم الله به النبوة والرسالة أيضاً، لأنه إذا انتفت النبوة، وهي أعم من الرسالة، انتفت الرسالة التي هي أخص، لأن انتفاء الأعم يستلزم انتفاء الأخص، فرسول الله عليه الصلاة والسلام هو خاتم النبيين. * قوله: " صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً ". شرح: معنى "صلى الله عليه ": أحسن ما قيل فيه ما قاله أبو العالية رحمه الله، قال: "صلاة الله على رسوله: ثناؤه عليه في الملأ الأعلى" (¬1). وأما من فسر صلاة الله عليه بالرحمة، فقوله ضعيف، لأن ¬

_ (¬1) رواه البخاري عن أبي العلية في تفسيره سورة الأحزاب: "باب إن الله وملائكته يصلون على النبي", "فتح" (8/ 532) , ووصله القاضي إسماعيل بن إسحاق الجهضمي في "فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" (95) بإسناد حسن كما قال الشيخ الألباني.

معنى آله وصحبه

الرحمة تكون لكل أحد، ولهذا أجمع العلماء على أنك يجوز أن تقول: فلان رحمه الله، واختلفوا، هل يجوز أن تقولك فلان صلى الله عليه؟ وهذا يدل على أن الصلاة غير الرحمة. وأيضاً، فقد قال الله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157]، والعطف يقتضي المغايرة، إذاً، فالصلاة أخص من الرحمة، فصلاة الله على رسوله ثناؤه عليه في الملأ الأعلى. وكذلك قوله: "وعلى آله"، و (آله) هنا: أتباعه على دينه هذا إذا ذكرت الآل وحدها أو مع الصحب، فإنها تكون بمعنى أتباعه على دينه منذ بعث إلى يوم القيامة ويدل على أن الآل بمعنى الأتباع على الدين قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، أي: أتباعه على دينه. أما إذا قرنت بالأتباع، فقيل: آله وأتباعه، فالآل هم المؤمنون من آل البيت، أي: بيت الرسول عليه الصلاة والسلام. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لم يذكر الأتباع هنا، قال: "آله وصحبه"، فنقول: آله هم أتباعه على دينه، وصحبه كل من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك. وعطف الصحب هنا على الآل من باب عطف الخاص على العام، لأن الصحبة أخص من مطلق الإتّباع. قوله: "وسلم تسليماً مزيداً": (سلم) فيها السلامة من الآفات، وفي الصلاة حصول الخيرات، فجمع المؤلف في هذه

إعراب كلمة أما بعد

الصيغة بين سؤال الله تعالى أن يحقق لنبيه الخيرات ـ وأخصها: الثناء عليه في الملأ الأعلى ـ وأن يزيد عنه الآفات، وكذلك من اتبعه. والجملة في قوله: "صلى" و "سلم" خبرية لفظاً طلبية معنى، لأن المراد بها الدعاء. قوله: "مزيداً"، بمعنى: زائداً أو زيادة، والمراد تسليماً زائداً على الصلاة، فيكون دعاء آخر بالسلام بعد الصلاة. والرسول عند أهل العلم: "من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه". وقد نبئ صلى الله عليه وسلم بـ {اقْرَأْ} وأرسل بالمدثر (¬1)، فبقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}. إلى قوله: {عَلَّمَ الأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 1 - 5] كان نبياً، وبقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1، 2] كان رسولا عليه الصلاة والسلام. * قوله: "أماّ بعد؛ فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة؛ أهل السنة والجماعة". شرح: "أما بعد": (أما) هذه نائبة عن اسم شرط وفعله، التقدير: مهما يكن من شيء، قال ابن مالك: ¬

_ (¬1) انظر "صحيح البخاري" (3 و 4).

أما كمهما يك من شيء وفا ... لتلو تلوها وجوباً ألفا فقولهم: أما بعد: التقدير: مهما يكن من شيء بعد هذا، فهذا. وعليه، فالفاء هنا رابطة للجواب والجملة بعدها في محل جزم جواب الشرط، ويحتمل عندي أن تكون: "أما بعد، فهذا"، أي أن (أما) حرف شرط وتفصيل أو حرف شرط فقط مجرد عن التفصيل، والتقدير: أما بعد ذكر هذا، فأنا أذكر كذا وكذا. ولا حاجة أن نقدر فعل شرط، ونقول: إن (أما) حرف ناب مناب الجملة. "فهذا اعتقاد": "فهذا": الإشارة لابد أن تكون إلى شيء موجود، أنا عندما أقول: هذا، فأنا أشير إلى شيء محسوس ظاهر، وهنا المؤلف كتب الخطبة قبل الكتاب وقبل أن يبرز الكتاب لعالم الشاهد، فكيف ذلك؟! أقول: إن العلماء يقولون: إن كان المؤلف كتب الكتاب ثم كتب المقدمة والخطبة، فالمشار إليه موجود ومحسوس، ولا فيه إشكال، وإن لم يكن كتبه، فإن المؤلف يشير إلى ما قام في ذهنه عن المعاني التي سيكتبها في هذا الكتاب، وعندي فيه وجه ثالث، وهو أن المؤلف قال هذا باعتبار حال المخاطب، والمخاطب لم يخاطب بذلك إلا بعد أن برز الكتاب وصدر، فكأنه يقول: "فهذا الذي بين يديك كذا وكذا". هذه إذاً ثلاثة أوجه.

معنى الاعتقاد: في اللغة والاصطلاح

"اعتقاد": افتعال من العقد وهو الربط والشد هذا من حيث التصريف اللغوي، وأما في الاصطلاح عندهم، فهو حكم الذهن الجازم، يقال: اعتقدت كذا، يعنى: جزمت به في قلبي، فهو حكم الذهن الجازم، فإن طابق الواقع، فصحيح، وإن خالف الواقع، ففاسد، فاعتقادنا أن الله إله واحد صحيح، واعتقاد النصارى أن الله ثالث ثلاثة باطل، لأنه مخالف للواقع ووجه ارتباطه بالمعنى اللغوي ظاهر، لأن هذا الذي حكم في قلبه على شيء ما كأنه عقده عليه وشده عليه بحيث لا يتفلت منه. و"الفرقة" بكسر الفاء، بمعنى: الطائفة، قال الله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122]، وأما الفرقة بالضم، فهي مأخوذة من الافتراق. و" الناجية": اسم فاعل من نجا، إذا سلم، ناجية في الدنيا من البدع سالمة منها وناجية في الآخرة من النار. ووجه ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: "من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي" (¬1). هذا الحديث يبين لنا معنى (الناجية)، فمن كان على مثل ما ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2641) / كتاب الإيمان/ باب ما جاء في افتراق هذه الأمة. واللالكائي في "شرح السنة" (147)، والحاكم (1/ 129) والآجري (15 و 16) , من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بإسناد فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي, وهو ضعيف لسؤ حفظه, ولكن للحديث شاهد من أنس رضي الله عنه أخرجه الطبراني في " الضغير" (724) , والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 262) , وبه يرتقي إلى درجة الحسن.

عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فهو ناج من البدع. و"كلها في النار إلا واحدة": إذا هي ناجية من النار، فالنجاة هنا من البدع في الدنيا، ومن النار في الآخرة. " المنصورة إلى قيام الساعة " عبر المؤلف بذلك موافقة للحديث، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين" (¬1)، والظهور الانتصار، لقوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، والذي ينصرها هو الله وملائكته والمؤمنون، فهي منصورة إلى قيام الساعة، منصورة من الرب عز وجل، ومن الملائكة، ومن عباده المؤمنين، حتى قد ينصر الإنسان من الجن، ينصره الجن ويرهبون عدوه. "إلى قيام الساعة"، أي: إلى يوم القيامة، فهي منصورة إلى قيام الساعة. وهنا يرد إشكال، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الساعة تقوم على شرار الخلق (¬2)، وأنه لا تقوم حتى لا يقال: ¬

_ (¬1) ورد عن جمع من الصحابة رضي الله عنهم, وهو حديث متواتركما نص على ذلك: شيخ الإسلام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط" (1/ 69) , والكتاني في: "نظم المتناثر" (94) , والزبيدي في "لقة اللالئ المتناثرة" (68) , والألباني في "صلاة العيدين" (ص 39 - 40). أخرجه البخاري/ كتاب المناقب/ باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية، ومسلم/ كتاب الإمارة/ باب قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة .... ". (¬2) رواه مسلم (2949) عن ابن مسعود رضي الله عنه في كتاب الفتن، باب قرب الساعة.

معنى أهل السنة والجماعة

الله الله" (¬1)، فكيف تجمع بين هذا وبين قوله: "إلى قيام الساعة"؟! والجواب: أن يقال: إن المراد: إلى قرب قيام الساعة، لقوله في الحديث: "حتى يأتي أمر الله" (¬2)، أو: إلى قيام الساعة، أي: ساعتهم، وهو موتهم، لأن من مات فقد قامت قيامته، لكن الأول أقرب، فهم منصورون إلى قرب قيام الساعة، وإنما لجأنا إلى هذا التأويل لدليل، والتأويل بدليل جائز، لأن الكل من عند الله. "أهل السنة والجماعة": أضافهم إلى السنة، لأنهم متمسكون بها، والجماعة، لأنهم مجتمعون عليها. فإن قلت: كيف يقول: "أهل السنة والجماعة"، لأنهم جماعة، فكيف يضاف الشيء إلى نفسه؟! فالجواب: أن الأصل أن كلمة الجماعة بمعنى الاجتماع، فهي اسم مصدر، هذا في الأصل، ثم نقلت من هذا الأصل إلى القوم المجتمعين، وعليه، فيكون معنى أهل السنة والجماعة، أي: أهل السنة والاجتماع، سموا أهل السنة، لأنهم متمسكون بها، لأنهم مجتمعون عليها. ولهذا لم تفترق هذه الفرقة كما افترق أهلا لبدع، نجد أهل البدع، كالجهمية متفرقين، والمعتزلة متفرقين، والروافض ¬

_ (¬1) رواه مسلم (148) عن أنس بن مالك رضي الله عنه, في كتاب الإيمان/ باب ذهاب الإيمان في آخر الزمان. (¬2) رواه البخاري (7312) , ومسلم (1920).

متفرقين، وغيرهم من أهل التعطيل متفرقين، لكن هذه الفرقة مجتمعة على الحق، وإن كان قد يحصل بينهم خلاف، لكنه خلاف لا يضر، وهو خلاف لا يضلل أحدهم الآخر به، أي: أن صدورهم تتسع له، وإلاّ، فقد اختلفوا في أشياء مما يتعلق بالعقيدة، مثل: هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بعينه أم لم يره؟ ومثله: هل عذاب القبر على البدن والرواح أو الروح فقط؟ ومثل بعض الأمور يختلفون فيها، لكنها مسائل تعد فرعية بالنسبة للأصول، وليست من الأصول. ثم هم مع ذلك إذا اختلفوا، لا يضلل بعضهم بعضاً، بخلاف أهل البدع. إذاً فهم مجتمعون على السنة، فهم أهل السنة والجماعة. وعلم من كلام المؤلف رحمه الله أنه لا يدخل فيهم من خالفهم في طريقتهم، فالأشاعرة مثلا والماتريدية لا يعدون من أهل السنة والجماعة في هذا الباب، لأنهم مخالفون لما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في إجراء صفات الله سبحانه وتعالى على حقيقتها، ولهذا يخطئ من يقول: إن أهل السنة والجماعة ثلاثة: سلفيون، وأشعريون، وماتريديون، فهذا خطأ، نقول: كيف يمكن الجميع أهل سنة وهم مختلفون؟! فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! وكيف يكونون أهل سنة وكل واحد يرد على الآخر؟! هذا لا يمكن، إلا إذا أمكن الجمع بين الضدين، فنعم، وإلاّ، فلا شك أن أحدهم وحده هو صاحب السنة، فمن هو؟ ‍ الأشعرية، أم الماتريدية، أم السلفية؟ ‍‍ نقول: من وافق السنة، فهو صاحب السنة ومن خالف السنة، فليس صاحب سنة، فنحن نقول: السلف هم أهل السنة

أركان الإيمان

والجماعة، ولا يصدق الوصف على غيرهم أبداً والكلمات تعتبر معانيها لننظر كيف نسمى من خالف السنة أهل سنة؟ ‍ لا يمكن وكيف يمكن أن نقول عن ثلاث طوائف مختلفة: إنهم مجتمعون؟ فأين الاجتماع؟ ‍‍ فأهل السنة والجماعة هم السلف معتقداً، حتى المتأخر إلى يوم القيامة إذا كان على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنه سلفي. * قوله: "وهو الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, والبعث بعد الموت, والإيمان بالقدر خيره وشره". شرح: هذه العقيدة أصلها لنا النبي صلى الله عليه وسلم في جواب جبريل حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم: ما الإسلام؟ ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ متى الساعة؟ فالإيمان ـ قال له ـ: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره" (¬1). "الإيمان بالله": الإيمان في اللغة: يقول كثير من الناس: إنه التصديق، فصدقت وآمنت معناهما لغة واحد، وقد سبق لنا في التفسير أن هذا القول لا يصح بل الإيمان في اللغة: الإقرار بالشيء عن تصديق به، بدليل أنك تقول: آمنت بكذا وأقررت بكذا وصدقت فلانا ولا تقول: آمنت فلاناً. إذا فالإيمان يتضمن معنى زائداً على مجرد التصديق، وهو ¬

_ (¬1) رواه مسلم (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتاب الإيمان/ باب بيان أركان الإيمان والإسلام.

الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور

الإقرار والاعتراف المستلزم للقبول للأخبار والإذعان للأحكام، هذا الإيمان، أما مجرد أن تؤمن بأن الله موجود، فهذا ليس بإيمان، حتى يكون هذا الإيمان مستلزما للقبول في الأخبار والإذعان في الأحكام، وإلا، فليس إيماناً. والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: 1 - الإيمان بوجوده سبحانه وتعالى. 2 - الإيمان بربوبيته، أي: الانفراد بالربوبية. 3 - الإيمان بانفراده بالألوهية. 4 - الإيمان بأسمائه وصفاته. لا يمكن أن يتحقق الإيمان إلا بذلك. فمن لم يؤمن بوجود الله، فليس بمؤمن، ومن آمن بوجود الله لا بانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية، فليس بمؤمن، ومن آمن بالله وانفراده بالربوبية والألوهية لكن لم يؤمن بأسمائه وصفاته، فليس بمؤمن، وإن كان الأخير فيه من يسلب عنه الإيمان بالكلية وفيه من يسلب عنه كمال الإيمان. الإيمان بوجوده: إذا قال قائل: ما الدليل على وجود الله عز وجل؟ قلنا: الدليل على وجود الله: العقل، والحس، والشرع.

دلالة العقل

ثلاثة كلها تدل على وجود الله، وإن شئت، فزد: الفطرة، فتكون الدلائل على وجود الله أربعة: العقل، والحس، والفطرة، والشرع. وأخرنا الشرع، لا لأنه لا يستحق التقديم، لكن لأننا نخاطب من لا يؤمن بالشرع. ـ فأما دلالة العقل، فنقول: هل وجود هذه الكائنات بنفسها، أو وجدت هكذا صدفة؟ فإن قلت: وجدت بنفسها، فمستحيل عقلاً ما دامت هي معدومة؟ كيف تكون موجودة وهي معدومة؟! المعدوم ليس بشيء حتى يوجد، إذاً لا يمكن أن توجد نفسها بنفسها وإن قلت: وجدت صدفة، فنقول: هذا يستحيل أيضاً، فأنت أيها الجاحد، هل ما أنتج من الطائرات والصواريخ والسيارات والآلات بأنواعها، هل وجد هذا صدفة؟! فيقول: لا يمكن أن يكون. فكذلك هذه الأطيار والجبال والشمس والقمر والنجوم والشجر والجمر والرمال والبحار وغير ذلك لا يمكن أن توجد صدفة أبداً. ويقال: إن طائفة من السُّمنية جاؤوا إلى أبي حنيفة رحمه الله، وهم من أهل الهند، فناظروه في إثبات الخالق عز وجل، وكان أبو حنيفة من أذكى العلماء فوعدهم أن يأتوا بعد يوم أو يومين، فجاؤوا، قالوا: ماذا قلت؟ أنا أفكر في سفينة مملوءة من البضائع والأرزاق جاءت تشق عباب الماء حتى أرسلت في الميناء ونزلت الحمولة وذهبت، وليس فيها قائد ولا حمالون. قالوا: تفكر بهذا؟! قال: نعم. قالوا: إذاً ليس لك عقل! هل يُعقل

دلالة الحس

أن سفينة تأتي بدون قائد وتنزل وتنصرف؟! هذا ليس معقول! قال: كيف لا تعقلون هذا، وتعقلون أن هذه السماوات والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب والناس كلها بدون صانع؟ فعرفوا أن الرجل خاطبهم بعقولهم، وعجزوا عن جوابه هذا أو معناه. وقيل لأعرابي من البادية: بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا تدل على السميع البصير؟ ولهذا قال الله عز وجل: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35]. فحينئذ يكون العقل دالاً دلالة قطعية على وجود الله. - وأما دلالة الحس على وجود الله، فإن الإنسان يدعو الله عز وجل، يقول: يا رب! ويدعو بالشيء، ثم يستجاب له فيه، وهذه دلالة حسه، هو نفسه لم يدع إلا الله، واستجاب الله له، رأى ذلك رأي العين. وكذلك نحن نسمع عمّن سبق وعمّن في عصرنا، أن الله استجاب له. الأعرابي الذي دخل والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة قال: هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا قال أنس: والله، ما في السماء من سحاب ولا قزعة (أي: قطعة سحاب) وما بيننا وبين سلع (جبل في المدينة تأتي من جهته السحب) من بيت ولا دار ... وبعد دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم فوراً خرجت

دلالة الفطرة

سحاباً مثل الترس، وارتفعت في السماء وانتشرت ورعدت، وبرقت، ونزل المطر، فما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم إلا والمطر يتحادر من لحيته عليه الصلاة والسلام (¬1) وهذا أمر واقع يدل على وجود الخالق دلالة حسيية. وفي القرآن كثير من هذا، مثل: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} [الأنبياء: 83 - 84] وغير ذلك من الآيات. - وأما دلالة الفطرة، فإن كثيراً من الناس الذين لم تنحرف فطرهم يؤمنون بوجود الله، حتى البهائم العُجم تؤمن بوجود الله، وقصة النملة التي رويت عن سليمان عليه الصلاة والسلام، خرج يستسقي، فوجد نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا سقياك. فقال: ارجعوا، فقد سقيتم بدعوة غيركم (¬2). فالفطر مجبولة على معرفة الله عز وجل وتوحيده. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1033) كتاب الاستسقاء/ باب الاستسقاء في خطبة الجمعة، ومسلم (897) ,من حديث انس رضي الله عنه في كتاب صلاة الاستسقاء/ باب الدعاء في الاستسقاء. (¬2) عزاه السيوطي في "الدر المنثور" لابن أبي شيبة, وأحمد في "الزهد "وابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي. وانظر: "اجتماع الجيوش" لابن قيم (ص 328 , 321).

دلالة الشرع

تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف: 172 - 173]، فهذه الآية تدل على أن الإنسان مجبول بفطرته على شهادته بوجود الله وربوبيته وسواء أقلنا: إن الله استخرجهم من ظهر آدم واستشهدهم، أو قلنا: إن هذا هو ما ركب الله تعالى في فطرهم من الإقرار به، فإن الآية تدل على أن الإنسان يعرف ربه بفطرته. هذه أدلة أربعة تدل على وجود الله سبحانه وتعالى. - وأما دلالة الشرع، فلأن ما جاءت به الرسل من شرائع الله تعالى المتضمنة لجميع ما يصلح الخلق يدل على أن الذي أرسل بها رب رحيم حكيم، ولا سيما هذا القرآن المجيد الذي أعجز البشر والجن أن يأتوا بمثله. "وملائكته": الملائكة جمع: ملأك، وأصل ملأك: مألك، لأنه من الألوكة، والألوكة في اللغة الرسالة، قال الله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى} [فاطر: 1]. فالملائكة عالم غيبئ، خلقهم الله عز وجل من نور، وجعلهم طائعين له متذللين له، ولكل منهم وظائف خصه الله بها، ونعلم من وظائفهم: أولاً: جبريل: موكل بالوحي، ينزل به من الله تعالى إلى الرسل. ثانياً: إسرافيل: موكل بنفخ الصور, وهو أيضاً أحد حملة

العرش. ثالثاً: ميكائيل: موكل بالقطر والنبات. وهؤلاء الثلاثة كلهم موكلون بما فيه حياة، فجبريل موكل بالوحي وفيه حياة القلوب، وميكائيل بالقطر والنبات وفيه حياة الأرض، وإسرافيل بنفخ الصور وفيه حياة الأجساد يوم المعاد. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل بربوبية الله لهم في دعاء الاستفتاح في صلاة الليل، فيقول: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عباد فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك. إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (¬1)، هذا الدعاء الذي كان يقوله في قيام الليل متوسلاً بربوبية الله لهم. كذلك نعلم أن منهم من وكل بقبض أرواح بني آدم، أو بقبض روح كل ذي روح وهم: ملك الموت وأعوانه ولا يسمى عزرائيل، لأنه لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أن اسمه هذا. قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61]. وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]. وقال تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (770) عن عائشة رضي الله عنها في كتاب صلاة المسافرين/ باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.

ولا منافاة بين هذه الآيات الثلاث، فإن الملائكة تقبض الروح، فإن ملك الموت إذا أخرجها من البدن تكون عنده ملائكة، إن كان الرجل من أهل الجنة، فيكون معهم حنوط من الجنة، وكفن من الجنة، يأخذون هذه الروح الطيبة، ويجعلونها في هذا الكفن، ويصعدون بها إلى الله عز وجل حتى تقف بين يدي الله عز وجل، ثم يقول اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فترجع الروح إلى الجسد من أجل الاختبار: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وإن كان الميت غير مؤمن والعياذ بالله، فإنه ينزل ملائكة معهم كفن من النار وحنوط من النار، يأخذون الروح، ويجعلونها في هذا الكفن، ثم يصعدون بها إلى السماء، فتغلق أبواب السماء دونها وتطرح إلى الأرض، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]، ثم يقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في سجين (¬1) نسأل الله العافية!. هؤلاء موكلون بقبض الروح من ملك الموت إذا قبضها، وملك الموت هو الذي يباشر قبضها، فلا منافاة إذن، والذي يأمر بذلك هو الله، فيكون في الحقيقة هو المتوفّي. ومنهم ملائكة سياحون في الأرض، يلتمسون حلق الذِكر، ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 287)، وأبو داود/ كتاب السنة/ باب في المسألة في القبر، وأبو داود (4753) وغيرهما, والحاكم (1/ 93) وقال: "صحيح على شرط الشيخين" وأقره الذهبي، وقال الهيثمي: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح" 3/ 49 , وانظر أحكام الجنائز وبدعها للألباني ص 156.

إذا وجدوا حلقة العلم والذكر، جلسوا (¬1). وكذلك هناك ملائكة يكتبون أعمال الإنسان: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. دخل أحد أصحاب الإمام أحمد عليه وهو مريض رحمه الله فوجده يئن من المرض، فقال له: يا أبا عبد الله! تئن، وقد قال طاووس: إن الملك يكتب حتى أنين المريض، لأن الله يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]؟ فجعل أبو عبد الله يتصبر, وترك الأنين (¬2)، لأن كل شيء يكتب {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ}: من: زائدة لتوكيد العموم، أي قول تقوله، يكتب لكن قد تجازى عليه بخير أو بشر، هذا حسب القول الذي قيل. ومنهم أيضاً ملائكة يتعاقبون على بني آدم في الليل والنهار، {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]. ومنهم ملائكة ركع وسجد لله في السماء، قال النبي عليه ¬

_ (¬1) لما رواه البخاري (6408) في كتاب الدعوات/ باب فضل ذكر الله عز وجل، ومسلم (2689) عن أبي هرية رضيالله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذكر, وجدوا قوماً يذكرون الله تعالى تنادوا هلما إلى حاجتكم. قال فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنياء". واللفظ للبخاري في كتاب الدعوات/ باب فضل مجالس الذكر. (¬2) لما رواه صالح بن الإمام أحمد قال: "قال أبي في مرض موته: أخرج كتاب عبد الله بن إدريس فقال: اقرأ عليّحديث ليث: إن طاووساً كان يكره الأنينفي المرض فما سمعت لأبي أنيناً حتى مات", "سير أعلام النبلاء" (11/ 215).

الصلاة والسلام: "أطت السماء، وحق لها أن تئط" والأطيط: صرير الرحل، أي: إذا كان على البعير حمل ثقيل، تسمع له صرير من ثقل الحمل، فيقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "أطت السماء، وحق لها أن تَئِط ما من موضع أربع أصابع منها، إلا وفيه ملك قائم لله أو راكع أو ساجد" (¬1) ,وعلى سعة السماء فيها هؤلاء الملائكة. ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في البيت المعمور الذي مر به في ليلة المعراج، قال: "يطوف به (أو قال: يدخله) سبعون ألف ملك كل يوم، ثم لا يعودون إلى آخر ما عليهم" (¬2)، والمعنى: كل يوم يأتي إليه سبعون ألف ملك غير الذين أتوه بالأمس، ولا يعودون له أبداً، يأتي ملائكة آخرون غير من سبق، وهذا يدل على كثرة الملائكة، ولهذا قال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاّ هُوَ} [المدثر: 31]. ومنهم ملائكة موكلون بالجنة وموكلون بالنار، فخازن النار اسمه مالك يقول أهل النار: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77]، يعنى: ليهلكنا ويمتنا، فهم يدعون الله أن يميتهم، لأنهم في عذاب لا يصبر عليه، فيقول: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]، ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 173)، والترمذي (2312) كتاب الزهد/ باب قوله صلى الله عليه وسلم "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً"، وابن ماجه (4190) كتاب الزهد/ باب الحزن والبكاء, والحاكم (2/ 510) عن أبي ذر رضي الله عنه. ولفظه: "أطت السماء وحق لها أن تئط, ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ عليه ملك واضع جبهته ساجداً لله ... " والحديث خرجه الألباني في "الصحيحة" (1722). (¬2) رواه مسلم (162) من حديث أنس في قصة الإسراء كتاب الإيمان/ باب الإسراء.

ثم يقال لهم: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78]. المهم: أنه يجب علينا أن نؤمن بالملائكة. وكيف الإيمان بالملائكة؟ نؤمن بأنهم عالم غيبي لا يشاهدون، وقد يشاهدون، إنما الأصل أنهم عالم غيبي مخلوقون من نور مكلفون بما كلفهم الله به من العبادات وهم خاضعون لله عز وجل أتم الخضوع، {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. كذلك نؤمن بأسماء من علمنا بأسمائهم ونؤمن بوظائف من علمنا بوظائفهم ويجب علينا أن نؤمن بذلك على ما عُلمنا. وهم أجساد، بدليل قوله تعالى: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ} [فاطر، 1]، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح قد سد الأفق (¬1) ,خلافاً لمن قال: إنهم أرواح. إذا قال قائل: هل لهم عقول؟ نقولك هل لك عقل؟ ما يسأل عن هذا إلا رجل مجنون، فقد قال الله تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، فهل يثني عليهم هذا الثناء وليس لهم عقول؟! {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]، أنقول: هؤلاء ليس لهم عقول؟! يأتمرون بأمر الله، ويفعلون ما ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3232 , 3233) عن ابن مسعود رضي الله عنه في كتاب بدء الخلق/ باب إذا قال أحدكم "آمين" والملائكة في السماء فوافقت أحدهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه.

الإيمان بالكتب

أمر الله به ويبلغون الوحي، ونقول: ليس لهم عقول؟! أحق من يوصف بعدم العقل من قال: إنه لا عقول لهم!! "وكتبه" أي: كتب الله التي أنزلها مع الرسل. ولكل رسول كتاب، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25]، وهذا يدل على أن كل رسول معه كتاب، لكن لا نعرف كل الكتب، بل نعرف كل الكتب، بل نعرف منها: صحف إبراهيم وموسى، التوراة، الإنجيل، الزبور، القرآن، ستة، لأن صحف موسى بعضهم يقول: هي التوراة، وبعضهم يقول: غيرها، فإن كانت التوراة، فهي خمسة، وإن كانت غيرها، فهي ستة، ولكن مع ذلك نحن نؤمن بكل كتاب أنزله الله على الرسل، وإن لم نعلم به، نؤمن به إجمالاً. "ورسله" أي: رسل الله, وهم الذين أوحى الله إليهم بالشرائع وأمرهم بتبليغها، وأولهم نوح وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم. الدليل على أن أولهم نوح: قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، يعني: وحياً، كإيحائنا إلى نوح والنبيين من بعده، وهو وحي الرسالة. وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26]: {فِي ذُرِّيَّتِهِمَا} أي ذرية نوح وإبراهيم، والذي قبل نوح لا يكون من ذريته. وكذلك قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الذاريات: 46]، قد نقول: إن قوله: {مِنْ قَبْلُ}: يدل على ما سبق.

آدم أول الأنبياء

إذاً من القرآن ثلاثة أدلة تدل على أن نوحا أول الرسل ومن السنة ما ثبت في حديث الشفاعة: "أن أهل الموقف يقولون لنوح: أنت أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض" (¬1)، وهذا صريح. أما آدم عليه الصلاة والسلام، فهو نبي، وليس برسول. وأما إدريس، فذهب كثير من المؤرخين أو أكثرهم وبعض المفسدين أيضاً إلى أنه قبل نوح، وأنه من أجداده لكن هذا قول ضعيف جداً والقرآن والسنة ترده والصواب ما ذكرنا. وآخرهم محمد عليه الصلاة والسلام، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40]، ولم يقل: وخاتم المرسلين، لأنه إذا ختم النبوة، ختم الرسالة من باب أولى. فإن قلت: عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل في آخر الزمان (¬2) وهو رسول، فما الجواب؟. ¬

_ (¬1) البخاري (7440) كتاب التوحيد/ باب كلاما لله مع الأنبياء يوم القيامة، ومسلم (194) كتاب الإيمان/ باب أدنى أهل الجنة منزلاً (¬2) لما رواه الإمام أحمد (2921) , عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قال: هو خروج عيسى بن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة. قال أحمد شاكر: إسناده صحيح, وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً" أخرجه البخاري (2222) كتاب البيوع/ باب قتل الخنزير، ومسلم (155) كتاب الإيمان باب نزول عيسى بن مريم وقد ذكر ابن كثير الأحاديث الواردة في نزول عيسى بن مريم عليه السلام إلى الأرض من السماء عند تفسيره لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء: 159].

الجواب على من استشكل خيرية أبي بكر بعيسى ابن مريم

نقول: هو لا ينزل بشريعة جديد، وإنما يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قال قائل: من المتفق عليه أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وعيسى يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون من أتباعه، فكيف يصح قولنا: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر؟ فالجواب: أحد ثلاثة وجود: أولها: أن عيسى عليه الصلاة والسلام رسول مستقل من أولي العزم ولا يخطر بالبال المقارنة بينه وبين الواحد من هذه الأمة، فكيف بالمفاضلة؟! وعلى هذا يسقط هذا الإيراد من أصله، لأنه من التنطع، وقد هلك المتنطعون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). الثاني: أن نقول: هو خير الأمة إلا عيسى. الثالث: أن نقول: إن عيسى ليس من الأمة، ولا يصح أن نقول: إنه من أمته، وهو سابق عليه، لكنه من أتباعه إذا نزل، لأن شريعة النبي صلى الله عليه وسلم باقية إلى يوم القيامة. فإن قال قائل: كيف يكون تابعاً، وهو يقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ولا يقبل إلا الإسلام مع أن الإسلام يقر أهل الكتاب الجزية؟!. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2670) , عن ابن مسعود رضي الله عنه كتاب العلم/ باب هلك المتنطعون.

الإيمان بالبعث بعد الموت والأدلة عليه

قلنا: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إقرار له، فتكون من شرعه ويكون نسخاً لما سبق من حكم الإسلام الأول. "والبعث بعد الموت" البعث بمعنى الإخراج، يعني: إخراج الناس من قبورهم بعد موتهم. وهذا من معتقد أهل السنة والجماعة. وهذا ثابت بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، بل إجماع اليهود والنصارى، حيث يقرون بأن هناك يوماً يبعث الناس فيه ويجازون: - أما القرآن، فيقول الله عز وجل: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] وقال عز وجل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15 - 16]. - وأما في السنة، فجاءت الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. - وأجمع المسلمون على هذا إجماعاً قطعياً، وأن الناس سيبعثون يوم القيامة ويلاقون ربهم ويجازون بأعمالهم، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]. {يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق: 6]، فتذكر هذا اللقاء حتى تعمل له، خوفاً من أن تقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة وليس عندك شيء من العمل الصالح، انظر

الإيمان بالقدر خيره وشره

ماذا عملت ليوم النقلة؟ وماذا عملت ليوم اللقاء؟ فإن أكثر الناس اليوم ينظرون ماذا عملوا للدنيا، مع العلم بأن هذه الدنيا التي عملوا لها لا يدرون هل يدركونها أم لا؟ قد يخطط الإنسان لعمل دنيوي يفعله غداً أو بعد غد، ولكنه لا يدرك غداً ولا بعد غد، لكن الشيء المتيقن أن أكثر الناس في غفلة من هذا، قال الله تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 63] وأعمال الدنيا يقول: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63]، فأتى بالجملة الاسمية المفيدة للثبوت والاستمرار: و {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}، وقال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: 22]: يعني: يوم القيامة وقال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22]. هذا البعث الذي اتفقت عليه الأديان السماوية وكل متدين بدين هو أحد أركان الإيمان الستة وهو من معتقدات أهل السنة والجماعة ولا ينكره أحد ممن ينتسب إلى ملة أبداً. "والإيمان بالقدر خيره وشره" هذا الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره. القدر هو: "تقدير الله عز وجل للأشياء". وقد كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة (¬1)، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ¬

_ (¬1) لما رواه مسلم (2653) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله المقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" قال: "وعرشه على الماء". كتاب القدر/ باب ذكر حجاج آدم وموسى عليهما السلام.

وصف القدر بالشر والجواب عليه

اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70]. وقوله: "خيره وشره": أما وصف القدر بالخير، فالأمر فيه ظاهر. وأما وصف القدر بالشر، فالمراد به شر المقدور لا شر القدر الذي هو فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، كل أفعاله خير وحكمة، ولكن الشر في مفعولاته ومقدوراته، فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، أما باعتبار الفعل، فلا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "والشر ليس إليك" (¬1). فمثلاً، نحن نجد في المخلوقات المقدورات شراً، ففيها الحيات والعقارب والسباع والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر، لأنها لا تلائمه، وفيها أيضاً المعاصي والفجور والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك، وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها إلى الله هي خير، لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمة بالغة عظيمة، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. وعلى هذا يجب أن تعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات، لا باعتبار التقدير الذي هو تقدير الله وفعله. ¬

_ (¬1) مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتاب صلاة المسافرين/ باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.

ثم اعلم أيضاً أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شراً في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى، قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، النتيجة طيبة، وعلى هذا، فيكون الشر في هذا المقدور شراً إضافياً يعنى: لا شراً حقيقياً، لأن هذا ستكون نتيجته خيراً. ولنفض حد الزاني مثلاً إذا كان غير محصن أن يجلد مئة جلدة ويسفر عن البلد لمدة عام، هذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه، لأنه لا يلائمه، لكنه خير من وجه آخر لأنه يكون كفارة له، فهذا خير، لأن عقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة، فهو خير له، ومن خيره أنه ردع لغيره ونكال لغيره، فإن غيره لو هم أن يزني وهو يعلم أنه سيفعل به مثل ما فعل بهذا، ارتدع، بل قد يكون خيراً له هو أيضاً، باعتبار أنه لن يعود إلى مثل هذا العمل الذي سبب له هذا الشيء. أما بالنسبة للأمور الكونية القدرية، فهناك شيء يكون شراً باعتباره مقدوراً، كالمرض مثلاً، فالإنسان إذا مرض، فلا شك أن المرض شر بالنسبة له، لكن فيه خير له في الواقع، وخيره تكفير الذنوب، قد يكون الإنسان عليه ذنوب ما كفرها الاستغفار والتوبة، لوجود مانع، مثلاً لعدم صدق نيته مع الله عز وجل فتأتي هذه الأمراض والعقوبات، فتكفر هذه الذنوب. ومن خيره أن الإنسان لا يعرف قدر نعمة الله عليه بالصحة،

الإيمان بما وصف الله نفسه في كتابه وبما وصفه به رسوله

إلا إذا مرض، نحن الآن أصحاء ولا ندري ما قدر الصحة لكن إذا حصل المرض، عرفنا قدر الصحة فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى .. هذا أيضاً خير، وهو أنك تعرف قدر النعمة. ومن خيره أنه قد يكون في هذا المرض أشياء تقتل جراثيم في البدن لا يقتلها إلا المرض، يقول الأطباء: بعض الأمراض المعينة تقتل هذه الجراثيم التي في الجسد وأنك لا تدري. فالحاصل أننا نقول: أولاً: الشر الذي وصف به القدر هو شر بالنسبة لمقدور الله، أما تقدير الله، فكله خير والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم "والشر ليس إليك" (¬1). ثانياً: أن الشر الذي في المقدور ليس شراً محضاً بل هذا الشر قد ينتج عنه أمور هي خير، فتكون الشرية بالنسبة إليه أمراً إضافياً. هذا، وسيتكلم المؤلف رحمه الله على القدر بكلام موسع يبين درجاته عند أهل السنة. * قوله: "ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه, وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم". ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه

شرح: قوله: "ومن الإيمان": (من): هنا للتبعيض، لأننا ذكرنا أن الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، وانفراده بالربوبية، وبالألوهية، وبالأسماء والصفات، يعني: بعض الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه. قوله: "بما وصف به نفسه في كتابه" ينبغي أن يقال: وسمى به نفسه لكن المؤلف رحمه الله ذكر الصفة فقط: إما لأنه ما من اسم إلا ويتضمن صفة، أو لأن الخلاف في الأسماء خلاف ضعيف، لم ينكره إلاّ غلاة الجهمية والمعتزلة، فالمعتزلة يثبتون الأسماء، والأشاعرة والماتريدية يثبتون الأسماء، لكن يخالفون أهل السنة في أكثر الصفات. فنحن الآن نقول: لماذا اقتصر المؤلف على "ما وصف الله به نفسه"؟ نقول: لأحد أمرين: إما لأن كل اسم يتضمن صفة، وإما لأن الخلاف في الأسماء قليل بالنسبة للمنتسبين للإسلام. "في كتابه": (كتابه) يعني: القرآن، وسماه الله تعالى كتاباً لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة الكرام البررة، ومكتوب كذلك بين الناس يكتبونه في المصاحف، فهو كتاب بمعنى مكتوب، وأضافه الله إليه، لأنه كلامه سبحانه وتعالى، فهذا القرآن كلام الله، تكلم به حقيقة، فكل حرف منه، فإن الله قد تكلم به.

المبحث الأول: الإيمان بما وصف به نفسه

وفي هذه الجملة مباحث: المبحث الأول: أن من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه: ووجه ذلك أن الإيمان بالله ـ كما سبق ـ يتضمن الإيمان بأسمائه وصفاته، فإنه ذات الله تسمى بأسماء وتوصف بأوصاف، ووجود ذات مجردة عن الأوصاف أمر مستحيل، فلا يمكن أن توجد ذات مجردة عن الأوصاف أبداً، وقد يفرض الذهن أن هناك ذاتاً مجردة من الصفات لكن الفرض ليس كالأمر الواقع، أي أن المفروض ليس كالمشهود، فلا يوجد في الخارج ـ أي: في الواقع المشاهد ـ ذات ليس لها صفات أبداً. فالذهن قد يفرض مثلاً شيئاً له ألف عين، في كل ألف عين ألف سواد وألف بياض، وله ألف رجل، في كل رجل ألف أصبع، في كل أصبع ألف ظفر، وله ملايين الشعر، في كل شعرة ملايين الشعر .... وهكذا يفرضه وإن لم يكن له واقع، لكن الشيء الواقع لا يمكن أن يوجد شيء بدون صفة. لهذا، كان الإيمان بصفات الله من الإيمان بالله، لو لم يكن من صفات الله إلا أنه موجود واجب الوجود، وهذا باتفاق الناس، وعلى هذا، فلا بد أن يكون له صفة. المبحث الثاني: أن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، والواجب على الإنسان نحو الأمور الغيبية: أن يؤمن بها على ما جاءت دون أن يرجع إلى شيء سوى النصوص.

قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث" (¬1). يعني أننا لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ويدل لذلك القرآن والعقل: ففي القرآن: يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف، 33]، فإذا وصفت الله بصفة لم يصف الله بها نفسه، فقد قلت عليه مالا تعلم وهذا محرم بنص القرآن. ويقول الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]، ولو وصفنا الله بما لم يصف به نفسه، لكنا قفونا ما ليس لنا به علم، فوقعنا فيما نهى الله عنه. وأما الدليل العقلي، فلأن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية ولا يمكن في الأمور الغيبية أن يدركها العقل، وحينئذ لا نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا نكيف صفاته، لأن ذلك غير ممكن. نحن الآن لا تدرك ما وصف الله به نعيم الجنة من حيث ¬

_ (¬1) انظر "مجموع الفتاوى شيخ الإسلام " (5/ 26).

الحقيقة مع أنه مخلوق، في الجنة فاكهة ونخل ورمان وسرر وأكواب وحور ونحن لا ندرك حقيقة هذه الأشياء، ولو قيل: صفها لنا، لا نستطيع وصفها، لقوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، ولقوله تعالى في الحديث القدسي: "أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" (¬1). فإذا كان هذا في المخلوق الذي وصف بصفات معلومة المعنى ولا تعلم حقيقتها، فكيف بالخالق؟! مثال آخر: الإنسان فيه روح، لا يحيا إلا بها، لولا أن الروح في بدنه ما حيي ولا يستطيع أن يصف الروح لو قيل له: ما هذه الروح التي بك؟ ما هي التي لو نزعت منك، صرت جثة، وإذا بقيت فأنت إنسان تعقل وتفهم وتدرك؟ لجلس ينظر ويفكر فلا يستطيع أن يصفها أبداً مع أنها قريبة، منه، في نفسه وبين جنبيه، ويعجز عن إدراكها مع أنها حقيقة، يعني: شيء يرى، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بـ" أن الروح إذا قبض، تبعه البصر" (¬2)، فالإنسان يرى نفسه وهي مقبوضة، ولهذا تبقى العين مفتوحة عند الموت تشاهد الروح وهي قد خرجت، وتؤخذ هذه الروح وتجعل في كفن ويصعد بها إلى الله ومع ذلك ما يستطيع أن يصفها وهي بين جنبيه، فكيف يحاول أن يصف الرب بأمر لم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3244) كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في صفة الجنة، ومسلم (2824) عن أبي هريرة رضي الله عنه كتاب الجنة. (¬2) رواه مسلم (920) عن أم سلمة رضي الله عنها في كتاب الجنائز/ باب في إغماض الميت.

المبحث الثالث: إننا لا نصف الله بما لم يصف به نفسه

يصف به نفسه! ولا بد إذاً تحقق ثبوت الصفات لله. المبحث الثالث: أننا لا نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه. ودليل ذلك أيضاً من السمع والعقل: ذكرنا من السمع آيتين. وأما من العقل، فقلنا: إن هذا أمر غيبي، لا يمكن إدراكه بالعقل، وضربنا لذلك مثلين. المبحث الرابع: وجوب إجراء النصوص الواردة في الكتاب والسنة على ظاهرها، لا نتعداها. مثال ذلك: لما وصف الله نفسه بأن له عيناً، هل نقول: المراد بالعين الرؤية لا حقيقة العين؟ لو قلنا ذلك، ما وصفنا الله بما وصف به نفسه. ولما وصف الله نفسه بأن له يدين: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، لو قلنا: إن الله تعالى ليس له يد حقيقة، بل المراد باليد ما يسبغه من النعم على عباده، فهل وصفنا الله بما وصف به نفسه؟ لا! المبحث الخامس: عموم كلام المؤلف يشمل كل ما وصف الله به نفسه من الصفات الذاتية المعنوية والخبرية والصفات الفعلية.

الصفات الذاتية نوعان: معنوية وخبرية

فالصفات الذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها وهي نوعان: معنوية وخبرية: فالمعنوية، مثل: الحياة، والعلم، القدرة، والحكمة ... وما أشبه ذلك، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر. والخبرية، مثل: اليدين، والوجه، والعينين ... وما أشبه ذلك مما سماه، نظيره أبعاض وأجزاء لنا. فالله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان لم يحدث له شيء من ذلك بعد أن لم يكن، ولن ينفك عن شيء منه، كما أن الله لم يزل حياً ولا يزال حياً، لم يزل عالماً ولا يزال عالماً، ولم يزل قادراً ولا يزال قادراً ... وهكذا، يعنى ليس حياته تتجدد، ولا قدرته تتجدد، ولا سمعه يتجدد بل هو موصوف بهذا أزلاً وأبداً، وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع، فأنا مثلاً عندما أسمع الأذان الآن فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان بل هو منذ خلقه الله في لكن المسموع يتجدد وهذا لا أثر له في الصفة. واصطلح العلماء رحمهم الله على أن يسموها الصفات الذاتية، قالوا: لأنها ملازمة للذات، لا تنفك عنها. والصفات الفعلية هي الصفات المتعلقة بمشيئته، وهي نوعان: صفات لها سبب معلوم، مثل: الرضى، فالله عز وجل إذا

وجد سبب الرضى، رضي، كما قال تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]. وصفات ليس لها سبب معلوم، مثل: النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر. ومن الصفات ما هو صفة ذاتية وفعلية باعتباري، فالكلام صفة فعلية باعتبار آحاده لكن باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً لكنه يتكلم بما شاء متى شاء، كما سيأتي في بحث الكلام إن شاء الله تعال. اصطلح العلماء رحمهم الله أن يسموا هذه الصفات الصفات الفعلية، لأنها من فعله سبحانه وتعالى. ولها أدلة كثيرة من القرآن، مثل: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22]، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]، {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80]. وليس في إثباتها لله تعالى نقص بوجه من الوجوه بل هذا من كماله أن يكون فاعلاً لما يريد. وأولئك القوم المحرفون يقولون: إثباتها من النقص! ولهذا ينكرون جميع الصفات الفعلية، يقولون: لا يجيء ولا يرضى، ولا يسخط ولا يكره ولا يحب .. ينكرون كل هذه، بدعوى

المبحث السادس: العقل لا مدخل له في الأسماء والصفات

أن هذه حادثة والحادث لا يقوم إلا بحادث وهذا باطل، لأنه في مقابلة النص، وهو باطل بنفسه، فإنه لا يلزم من حدوث الفعل حدوث الفاعل. المبحث السادس: أن العقل لا مدخل له في باب الأسماء والصفات: لأن مدار إثبات الأسماء والصفات أو نفيها على السمع، فعقولنا لا تحكم على الله أبداً، فالمدار إذاً على السمع، خلافاً للأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل التعطيل، الذين جعلوا المدار في إثبات الصفات أو نفيها على العقل، فقالوا: ما اقتضى العقل إثباته، أثبتناه، سواء أثبته الله لنفسه أم لا! وما اقتضى نفيه، نفيناه، وإن أثبته الله! وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه، فأكثرهم نفاه، وقال: إن دلالة العقل إيجابية، فإن أوجب الصفة، أثبتناها، وإن لم يوجبها، نفيناها! ومنها من توقف فيه، فلا يثبتها لأن العقل لا يثبتها لكن لا ينكرها، لأن العقل لا ينفيها، ويقول: نتوقف! لأن دلالة العقل عند هذا سلبية، إذا لم يوجب، يتوقف ولم ينف! فصار هؤلاء يحكمون العقل فيما يجب أو يمتنع على الله عز وجل. فيتفرغ على هذا: ما اقتضى العقل وَصف الله به، وُصِف الله به, وإن لم يكن في الكتاب والسنة، وما اقتضى العقل نفيه عن الله، نفوه، وإن كان في الكتاب والسنة.

العقل يدرك ما يجب لله سبحانه وتعالى ويمتنع على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل

ولهذا يقولون: ليس لله عين، ولا وجه، ولا له يد، ولا استوى على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا لكنهم يحرفون ويسمون تحريفهم تأويلاً ولو أنكروا إنكار جحد، لكفروا، لأنهم كذبوا لكنهم ينكرون إنكار ما يسمونه تأويلاً وهو عندنا تحريف. والحاصل أن العقل لا مجال له في باب أسماء الله وصفاته فإن قلت: قولك هذا يناقض القرآن، لأن الله يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} [المائدة: 50] والتفضيل بين شيء وآخر مرجعه إلى العقل وقال عز وجل {لِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60] وقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] وأشباه ذلك مما يحيل الله به على العقل فيما يثبته لنفسه وما ينفيه عن الآلهة المدعاة؟ فالجواب أن نقول: إن العقل يدرك ما يجب لله سبحانه وتعالى ويمتنع عليه على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل، فمثلاً: العقل يدرك بأن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات، لكن هذا لا يعني أن العقل يثبت كل صفة بعينها أو ينفيها لكن يثبت أو ينفي على سبيل العموم أن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات سالماً من النقص. فمثلاً: يدرك بأنه لابد أن يكون الرب سميعاً بصيراً، قال إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 42]. ولابد أن يكون خالقاً، لأن الله قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاّ

ليس كل كمال للمخلوق يكون كمالا للخالق

يَخْلُقُ} [النحل: 17] {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} [النحل: 20]. يدرك هذا ويدرك بأن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون حادثاً بعد العدم، لأنه نقص، ولقوله تعالى محتجاً على هؤلاء الذين يعبدون الأصنام: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20]، إذاً يمتنع أن يكون الخالق حادثاً بالعقل. العقل أيضاً يدرك بأن كل صفة نقص فهي ممتنعة على الله، لأن الرب لابد أن يكون كاملاً فيدرك بأن الله عز وجل مسلوب عنه الحجز، لأنه صفة نقص، إذا كان الرب عاجزاً وعُصِي وأراد أن يعاقب الذي عصاه وهو عاجز، فلا يمكن! إذاً، العقل يدرك بأن العجز لا يمكن أن يوصف الله به، والعمى كذلك والصم كذلك والجهل كذلك .... وهكذا على سبيل العموم ندرك ذلك، لكن على سبيل التفصيل لا يمكن أن ندركه فنتوقف فيه على السمع. سؤال: هل كل ما هو كمال فينا يكون كمالاً في حق الله، وهل كل ما هو نقص فينا يكون نقصاً في حق الله؟ الجواب: لا، لأن المقياس في الكمال والنقص ليس باعتبار ما يضاف للإنسان، لظهور الفرق بين الخالق والمخلوق، لكن باعتبار الصفة من حيث هي صفة، فكل صفة كمال، فهي ثابته لله سبحانه وتعالى. فالأكل والشرب بالنسبة للخالق نقص، لأن سببهما الحاجة،

قوله: "وبما وصف به رسوله" ينقسم إلى ثلاثة أقسام

والله تعالى غني عما سواه، لكن هما بالنسبة للمخلوق كمال ولهذا، إذا كان الإنسان لا يأكل، فلا بد أن يكون عليلاً بمرض أو نحوه هذا نقص. والنوم بالنسبة للخالق نقص، وللمخلوق كمال، فظهر الفرق. التكبر كمال للخالق ونقص للمخلوق، لأنه لا يتم الجلال والعظمة إلا بالتكبر حتى تكون السيطرة كاملة ولا أحد ينازعه .. ولهذا توعد الله تعالى من ينازعه الكبرياء والعظمة، قال: "من نازعني واحداً منهما عذبته" (¬1). فالمهم أنه ليس كل كمال في المخلوق يكون كمالاً في الخالق ولا كل نقص في المخلوق يكون نقصاً في الخالق إذا كان الكمال أو النقص اعتبارياً. هذه ستة مباحث تحت قوله: "ما وصف به نفسه" وكلها مباحث هامة، وقدمناها بين يدي العقيدة، لأنه سينبني عليها ما يأتي إن شاء الله تعالى. قوله: "وبما وصفه به رسوله": ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما بالقول، أو بالفعل، أو بالإقرار. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2620) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما, قلا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العز إزاره والكبرياء رداؤه, فمن ينازعني عذبته", كتاب البر/ باب تحريم الكبر, ورواه أحمد (2/ 414) بنحو عن أبي هريرة رضي الله عنه.

- القول

أ- أما القول، مثل "ربنا! الله الذي في السماء تقدس اسمك. أمرك في السماء والأرض" (¬1) وقوله في يمينه: "لا ومقلب القلوب" (¬2). ب- وأما الفعل، فهو أقل من القول، مثل إشارته إلى السماء يستشهد الله على إقرار أمته بالبلاغ، وهذا في حجة الوداع في عرفة، خطب الناس، وقال: "ألا هل بلغت؟ " قالوا: نعم ثلاث مرات. قال "اللهم! أشهد" يرفع إصبعه إلى السماء، وينكتها إلى الناس (¬3) فرفع إصبعه إلى السماء، هذا وصف الله تعالى بالعلو عن طريق الفعل. وجاءه رجل وهو يخطب الناس يوم الجمعة، قال: يا رسول الله! هلكت الأموال .. فرفع يديه (¬4) وهذا أيضاً وصف لله بالعلو عن طريق الفعل. وغير ذلك من الأحاديث التي فيها فعل النبي عليه الصلاة والسلام إذا ذكر صفة من صفات الله. وأحياناً يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام من صفات الله بالقول ويؤكدها بالفعل، وذلك حينما تلا قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58] فوضع إبهامه على أذنه اليمنى، والتي ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (6/ 20)، وأبو داود/ كتاب الطب/ باب كيف الرقى، والنسائي ص 299، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/ 164)، والدرامي في "الرد على الجهمية" ص 272، والحاكم (1/ 344)، قال شيخ الإسلام: "حديث حسن" وسيأتي ص 418 ". (¬2) البخاري/ كتاب القدر/ باب "يحول بين المرء وقلبه". (¬3) رواه مسلم) 1218) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في كتاب الحج/ باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم. (¬4) رواه البخاري (1013 و 1014) في كتاب الاستسقاء، ومسلم (897)؛عن أنس بن مالك رضي الله عنه في كتاب صلاة الاستسقاء.

- الإقرار

تليها على عينه وهذا إثبات للسمع والبصر بالقول والفعل (¬1). وحينئذ نقول: إن إثبات الرسول عليه والسلام للصفات يكون بالقول ويكون بالفعل، مجتمعين ومنفردين. جـ- أما الإقرار، فهو قليل بالنسبة لما قبله، مثل: إقراره الجارية التي سألها: "أين الله؟ " قالت: في السماء. فأقرها وقال: "أعتقها" (¬2). وكإقراره الحبر من اليهود الذي جاء وقال للرسول عليه الصلاة والسلام: إننا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع والثرى على إصبع .. آخر الحديث، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقول (¬3)، وهذا إقرار. إذا قال قائل: ما وجه وجوب الإيمان بما وصف الرسول به ربه أو: ما دليله؟ ¬

_ (¬1) قال الحافظ في "الفتح" (13/ 373): أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم؛ من رواية أبي يونس عن أبي هريرة؛ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأها, يعني: قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ...} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} ويضع إصبعيه في كتاب السنة/ باب في الجهمية. قال أبو يونس: وضع أبو هريرة إبهامه على أذنيه والتي تليها على عينه. والحديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود" (4738). (¬2) قصة الجارية. رواها مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه في كتاب المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة. (¬3) رواه البخاري (4811) كتاب التفسير/ باب "وما قدروا الله حق قدره". ومسلم (2786) (19)؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في كتاب صفة القيامة.

قوله: "من غير تحريف ولا تعطيل. . . ."

نقول: دليله قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136]، وكل آية فيها ذكر أن الرسول عليه الصلاة والسلام مبلغ، فهي دالة على وجوب قبول ما أخبر به من صفات الله، لأنه أخبر بها وبلغها إلى الناس، وكل ما أخبر به، فهو تبليغ من الله، ولأن الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم الناس بالله وأنصح الناس لعباد الله وأصدق الناس فيما قال، وأفصح الناس في التعبير، فاجتمع في حقه من صفات القبول أربع: العلم والنصح، والصدق، والبيان، فيجب علينا أن نقبل كل ما أخبر به عن ربه، وهو ـ والله ـ أفصح وأنصح وأعلم من أولئك القوم الذين تبعهم هؤلاء من المناطقة والفلاسفة، ومع هذا يقول: "سبحان لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" (¬1). * قوله: " من غير تحريف ولا تعطي, ومن غير تكييف ولا تمثيل". شرح: في هذه الجملة بيان صفة إيمان أهل السنة بصفات الله تعالى، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بها إيماناً خالياً من هذه الأمور الأربعة: التحريف والتعطيل، والتكييف، والتمثيل. فالتحريف: التغيير وهو إما لفظي وإما معنوي. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (486) عن عائشة رضي الله عنها كتاب الصلاة/ باب ما يقال في الركوع والسجود.

السبب في اختيار المؤلف كلمة التحريف دون التأويل

والغالب أن التحريف اللفظي لا يقع، وإذا وقع، فإنما يقع من جاهل، فالتحريف اللفظي يعني تغيير الشكل، فمثلاً: فلا تجد أحداً يقول: "الحمد لله رب العالمين" بفتح الدال، إلا إذا كان جاهلاً .. هذا الغالب! لكن التحريف المعنوي هو الذي وقع فيه كثير من الناس. فأهل السنة والجماعة إيمانهم بما وصف الله به نفسه خال من التحريف، يعني: تغيير اللفظ أو المعنى. وتغيير المعنى يسميه القائلون به تأويلاً ويسمون أنفسهم بأهل التأويل، لأجل أن يصبغوا هذا الكلام صبغة القبول، لأن التأويل لا تنفر منه النفوس ولا تكرهه، لكن ما ذهبوا إليه في الحقيقة تحريف، لأنه ليس عليه دليل صحيح، إلا أنهم لا يستطيعون أن يقولوا: تحريفاً! ولو قالوا: هذا تحريف، لأعلنوا على أنفسهم برفض كلامهم. ولهذا عبر المؤلف رحمه الله بالتحريف دون التأويل مع أن كثيراً ممن يتكلمون في هذا الباب يعبرون بنفي التأويل، يقولون: من غير تأويل، لكن ما عبر به المؤلف أولى لوجوه أربعة: الوجه الأول: أنه اللفظ الذي جاء به القرآن، فإن الله تعالى قال: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، والتعبير الذي عبر به القرآن أولى من غيره، لأنه أدل على المعنى. الوجه الثاني: أنه أدل على الحال، وأقرب إلى العدل، فالمؤول بغير دليل ليس من العدل أن تسميه مؤولاً، بل العدل أن

معاني التأويل

نصفه بما يستحق وهو أن يكون محرفاً. الوجه الثالث: أن التأويل بغير دليل باطل، يجب البعد عنه والتنفير منه، واستعمال التحريف فيه أبلغ تنفيراً من التأويل، لأن التحريف لا يقبله أحد، لكن التأويل لين، تقبله النفس، وتستفصل عن معناه، أما التحريف، بمجرد ما نقول: هذا تحريف. ينفر الإنسان منه، إذا كان كذلك، فإن استعمال التحريف فيمن خالفوا طريق السلف أليق من استعمال التأويل. الوجه الرابع: أن التأويل ليس مذموماً كله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" (¬1) ,وقال الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]، فامتدحهم بأنهم يعلمون التأويل. والتأويل ليس بمعنى العاقبة والمال، ويكون بمعنى صرف اللفظ عن ظاهره. (أ) يكون بمعنى التفسير، كثير من المفسرين عندما يفسرون الآية، يقولون: تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ثم يذكرون المعنى والسمي التفسير تأويلاً، لأننا أولنا الكلام، أي: جعلناه يؤول إلى معناه وسمي التفسير تأويلاً، لأننا أولنا الكلام، أي: جعلناه يؤول إلى معناه المراد به. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "المسند" (2396) , والفسوي في " المعرفة التاريخ" (1/ 494) وصححه أحمد شاكر, البخاري (75 و 143) بلفظ "اللهم علمه الكتاب" في كتاب الوضوء/ باب وضع الماء عند الخلاء، ومسلم/ كتاب فضائل الصحابة/ باب فضل عبد الله بن عباس.

(ب) تأويل بمعنى: عاقبة الشيء، وهذا إن ورد في طلب، فتأويله فعله إن كان أمراً وتركه إن كان نهياً، وإن ورد في خبر، فتأويله وقوعه. مثاله في الخبر قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]، فالمعنى: ما ينتظر هؤلاء إلا عاقبة ومال ما أخبروا به، يوم يأتي ذلك المخبر به، يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربنا بالحق. ومنه قول يوسف لما خر له أبواه وإخوته سجداً قال: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 100]: هذا وقوع رؤياي، لأنه قال ذلك بعد أن سجدوا له. ومثاله في الطلب قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده بعد أن أنزل عليه قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]، يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"، يتأول القرآن (¬1). أي: يعمل به. (جـ) المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وهذا النوع ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن دل عليه دليل، فهو محمود النوع ويكون من القسم الأول، وهو التفسير، وإن لم يدل عليه ¬

_ (¬1) رواه البخاري/ كتاب التفسير/ سورة النصر، ومسلم/ كتاب الصلاة/ باب ما يقال في الركوع والسجود.

دليل، فهو مذموم، ويكون من باب التحريف، وليس من باب التأويل. وهذا الثاني هو الذي درج عليه أهل التحريف في صفات الله عز وجل. مثاله قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: ظاهر اللفظ أن الله تعالى استوى على العرش: استقر عليه، وعلا عليه، فإذا قال قائل: معنى {اسْتَوَى}: استولى على العرش، فنقول: هذا تأويل عندك لأنك صرفت اللفظ عن ظاهره، لكن هذا تحريف في الحقيقة، لأنه ما دل عليه دليل، بل الدليل على خلافه، كما سيأتي إن شاء الله. فأما قوله تعالى {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، فمعنى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ}، أي سيأتي أمر الله، فهذا مخالف لظاهر اللفظ لكن عليه دليل وهو قوله: {فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ}. وكذلك قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، أي: إذا أردت أن تقرأ، وليس المعني: إذا أكملت القراءة، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأننا علمنا من السنة أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرد أن يقرأ، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم (¬1)، لا إذا أكمل القراءة، فالتأويل ¬

_ (¬1) لما رواه ابن أبي شيبة, والبيهقي في "سننه", كما في "الدر المنثور" عن جبير بن مطعم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل في الصلاة كبر ثم قال: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم".

صحيح. وكذلك قول أنس بن مالك: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء، قال: "أعوذ بالله من الخبث والخبائث" (¬1)، فمعنى "إذا دخل": إذاً أراد أن يدخل، لأن ذكر الله لا يليق داخل هذا المكان، فلهذا حملنا قوله "إذا دخل" على: إذ أراد أن يدخل: هذا التأويل الذي دل عليه صحيح، ولا يعدوا أن يكون تفسيراً. ولذلك قلنا: إن التعبير بالتحريف عن التأويل الذي ليس عليه دليل صحيح أولى، لأنه الذي جاء به القرآن، ولأنه ألصق بطريق المحرف، ولأنه أشد تنفيراً عن هذه الطريقة المخالفة لطريق السلف، ولأن التحريف كله مذموم، بخلاف التأويل، فإن منه ما يكون مذموماً ومحموداً، فيكون التعبير بالتحريف أولى من التعبير بالتأويل من أربعة أوجه. "ولا تعطيل": التعطيل بمعنى التخلية والترك، كقوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} [الحج: 45]، أي: مخلاة متروكة. والمراد بالتعطيل: إنكار ما أثبت الله لنفسه من الأسماء والصفات، سواء كان كلياً أو جزئياً، وسواء كان ذلك بتحريف أو بجحود، هذا كله يسمى تعطيلاً. فأهل السنة والجماعة لا يعطلون أي اسم من أسماء الله، أو ¬

_ (¬1) رواه البخاري (142) كتاب الوضوء/ باب ما يقول عند الخلاء. ومسلم (375) كتاب الحيض/ باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء.

الفرق بين التعطيل والتحريف

أي صفة من صفات الله ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً. فإن قلت: ما الفرق بين التعطيل والتحريف؟ قلنا: التحريف في الدليل والتعطيل في المدلول، فمثلاً: إذا قال قائل: معنى قوله تعالى {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، أي بل قوتاه هذا محرف للدليل، ومعطل للمراد الصحيح، لأن المراد اليد الحقيقية، فقد عطل المعنى المراد، وأثبت معنى غير المراد. وإذا قال: بل يداه مبسوطتان، لا أدري! أفوض الأمر إلى الله، لا أثبت اليد الحقيقية، ولا اليد المحرف إليها اللفظ. نقول: هذا معطل، وليس بمحرف، لأنه لم يغير معنى اللفظ، ولم يفسره بغير مراده، لكن عطل معناه الذي يراد به، وهو إثبات اليد لله عز وجل. أهل السنة والجماعة يتبرؤون من الطريقتين: الطريقة الأولى: التي هي تحريف اللفظ بتعطيل معناه الحقيقي المراد إلى معنى غير مراد. والطريقة الثانية: وهي طريقة أهل التفويض، فهم لا يفوضون المعنى كما يقول المفوضة بل يقولون: نحن نقول: {بَلْ يَدَاهُ}، أي: يداه الحقيقيتان {مَبْسُوطَتَانِ}، وهما غير القوة والنعمة. فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف ومن التعطيل. وبهذا تعرف ضلال أو كذب من قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض، هؤلاء ضلوا إن قالوا ذلك عن جهل بطريقة السلف،

التفويض من شر أقوال أهل البدع

وكذبوا إن قالوا ذلك عن عمد، أو نقول: كذبوا على الوجهين على لغة الحجاز، لأن الكذب عند الحجازيين بمعنى الخطأ. وعلى كل حال، لا شك أن الذين يقولون: إن مذهب أهل السنة هو التفويض، أنهم أخطأوا، لأن مذهب أهل السنة هو إثبات المعنى وتفويض الكيفية. وليعلم أن القول بالتفويض ـ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) ـ من شر أقوال أهل البدع والإلحاد! عندما يسمع الإنسان التفويض، يقول: هذا جيد، أسلم من هؤلاء وهؤلاء، لا أقول بمذهب السلف، ولا أقول بمذهب أهل التأويل، أسلك سبيلاً وسطاً وأسلم من هذا كله، وأقول: الله أعلم ولا ندري ما معناها. لكن يقول شيخ الإسلام: هذا من شر أقوال أهل البدع والإلحاد‍‍ ‍ وصدق رحمه الله. وإذا تأملته وجدته تكذيباً للقرآن وتجهيلاً للرسول صلى الله عليه وسلم واستطالة للفلاسفة. تكذيب للقرآن، لأن الله يقول: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وأي بيان في كلمات لا يدرى ما معناها؟ ‍ وهي من أكثر ما يرد في القرآن، وأكثر ما ورد في القرآن أسماء الله وصفاته، إذا كنا لا ندري ما معناها، هل يكون القرآن تبياناً لكل شيء؟ ‍ أين البيان؟ ¬

_ (¬1) في "درء التعارض العقل والنقل" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 121).

إن هؤلاء يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري عن معاني القرآن فيما يتعلق بالأسماء والصفات وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدري، فغيره من باب أولى. وأعجب من ذلك يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم في صفات الله، ولا يدري ما معناه يقول: "ربنا الله الذي في السماء" (¬1) , وإذا سئل عن هذا؟ قال: لا أدري وكذلك في قوله: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" (¬2) وإذا سئل ما معنى "ينزل ربنا"؟ قال: لا أدري .... وعلى هذا، فقس. وهل هناك قدح أعظم من هذا القدح بالرسول صلى الله عليه وسلم بل هذا من أكبر القدح رسول من عند الله ليبين للناس وهو لا يدري ما معنى آيات الصفات وأحاديثها وهو يتكلم بالكلام ولا يدري معنى ذلك كله. فهذان وجهان: تكذيب بالقرآن وتجهيل الرسول. وفيه فتح الباب للزنادقة الذين تطاولوا على أهل التفويض، وقال: أنتم لا تعرفون شيئاً، بل نحن الذين نعرف، وأخذوا يفسرون القرآن بغير ما أراد الله، وقالوا: كوننا نثبت معاني للنصوص خير من كوننا أميين لا نعرف شيئاً وذهبوا يتكلمون بما ¬

_ (¬1) سيأتي الحديث بطوله في بداية الجزء الثاني إن شاء الله. (¬2) سيأتي الحديث بطوله في أول الجزء الثاني إن شاء الله وهو في البخاري (7494) , كتا التوحي/ باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ومسلم (758)؛من حديث أبي هريرة كتاب صلاة المسافرين/ باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.

العبارة الكاذبة -طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم- قالها بعض الأغبياء

يريدون من معنى كلام الله وصفاته!! ولا يستطيع أهل التفويض أن يردوا عليهم، لأنهم يقولون: نحن لا نعلم ماذا أراد الله، فجائز أن يكون الذي يريد الله هو ما قلتم! ففتحوا باب شرور عظيمة، ولهذا جاءت العبارة الكاذبة: "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم"!. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "هذه قالها بعض الأغبياء" وهو صحيح، أن القائل غبي. هذه الكلمة من أكذب ما يكون نطقاً ومدلولاً، "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم"، كيف تكون أعلم وأحكم وتلك أسلم؟! لا يوجد سلامة بدون علم وحكمة أبداً! فالذي لا يدري عن الطريق، لا يسلم، لأنه ليس معه علم، لو كان معه علم وحكمة، لسلم، فلا سلامة إلا بعلم وحكمة. إذا قلت: إن طريقة السلف أسلم، لزم أن تقول: هي أعلم وأحكم وإلا لكنت متناقصاً. إذاً، فالعبارة الصحيحة: "طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم"، وهذا معلوم. وطريقة الخلف ما قاله القائل (¬1): لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم ¬

_ (¬1) هذان البيتين ذكرهما عبد الكريم الشهرستاني في كتابه "نهاية الإقدام في علم علم الكلام". ولم يبين قائلهما. انظر: "الصواعق" لانب القيم (1/ 166)

فلم أرد إلا واضعا كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم هذه الطريقة التي يقول عنها: إنه ما وجد إلا واضعاً كف حائر ذقن. وهذا ليس عنده علم، أو آخر: قارعاً سن نادم لأنه لم يسلك طريق السلامة أبداً. والرازي -وهو من كبرائهم- يقول (¬1): نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ثم يقول: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [الشورى: 11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110]، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي". أهؤلاء نقول: إن طريقتهم أعلم وأحكم؟! الذي يقول (¬2): "إني أتمنى أن أموت على عقيدة عجائز ¬

_ (¬1) هذه الأبيات للفخر الرازي؛ ذكرها في كتابه "أقسام اللذات", انظر: "الصواعق" لابن القيم (1/ 167) (¬2) القائل هو أبو المعالي الجويني, انظر: "الصواعق" لابن القيم (1/ 167).

معنى التكيف

نيسابور" والعجائز من عوام الناس، يتمنى أن يعود إلى الأميات! هل يقال: إنه أعلم وأحكم؟! أين العلم الذي عندهم؟! فتبين أن طريقة التفويض طريق خاطئ، لأنه يتضمن ثلاث مفاسد: تكذيب القرآن، وتجهيل الرسول، واستطالة الفلاسفة! وأن الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف! أو الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف، بل هم يثبتون اللفظ والمعني ويقررونه، ويشرحونه بأوفى شرح. أهل السنة والجماعة لا يحرفون ولا يعطلون، ويقولون بمعنى النصوص كما أراد الله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، بمعنى: علا عليه وليس معناه: استولى. {بِيَدِهِ}: يد حقيقية وليست القوة ولا نعمة، فلا تحريف عندهم ولا تعطيل. "ومن غير تكييف": (التكييف): لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ورد ما يدل على النهي عنها. التكييف: هو أن تذكر كيفية الصفة، ولهذا تقول: كيف يكيف تكييفاً، أي ذكر كيفية الصفة. التكييف يسأل عنه بـ (كيف)، فإذا قلت مثلاً: كيف جاء زيدا؟ تقول: راكباً. إذاً: كيفت مجيئه. كيف لون السيارة؟ أبيض. فذكرت اللون. أهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله، مستندين في ذلك إلى الدليل السمعي والدليل العقلي:

أما الدليل السمعي، فمثل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، والشاهد في قوله {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}. فإذا جاء رجل وقال: إن الله استوى على العرش، على هذه الكيفية ووصف كيفية معينة: نقول: هذا قد قال على الله مالا يعلم! هل أخبرك الله بأنه استوى على هذه الكيفية؟! لا، أخبرنا الله بأنه استوى ولم يخبرنا كيف استوى. فنقول: هذا تكييف وقول على الله بغير علم. ولهذا قال بعض السلف إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء، فكيف ينزل؟ فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل، ولم يخبرنا كيف ينزل. وهذه قاعدة مفيدة. دليل آخر من السمع: قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]: لا تتبع ما ليس لك به علم، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]. وأما الدليل العقلي، فكيفية الشيء لا تدرك إلا بواحد من أمور ثلاثة: مشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه أي: إما أن تكون شاهدته أنت وعرفت كيفيته. أو شاهدت نظيره، كما لو قال واحد: إن فلاناً اشترى سيارة داتسون موديل ثمان وثمانين رقم ألفين. فتعرف كيفيتها، لأن عندك مثلها أو خبر صادق عنه،

أتاك رجل صادق وقال: إن سيارة فلا صفتها كذا وكذا .. ووصفها تماماً، فتدرك الكيفية الآن. ولهذا أيضاً قال بعض العلماء جواباً لطيفاً: إن معنى قولنا: "بدون تكييف": ليس معناه ألا نعتقد لها كيفية، بل نعتقد لها كيفية لكن المنفى علمنا بالكيفية لأن استواء الله على العرش لا شك أن له كيفية، لكن لا تعلم، نزوله إلى السماء الدنيا له كيفية، لكن لا تعلم، لأن ما من موجود إلا وله كيفية، لكنها قد تكون معلومة، وقد تكون مجهولة. سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه العرق، ثم رفع رأسه وقال: "الاستواء غير مجهول"، أي: من حيث المعنى معلوم، لأن اللغة العربية بين أيدينا، كل المواضع التي وردت فيها {اسْتَوَى} معداة بـ (على) معناها العلو فقال: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول" لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية، وجب الكف عنها، "والإيمان به واجب"، لأن الله أخبر به عنه نفسه، فوجب تصديقه، "والسؤال عن بدعة" (¬1): السؤال عن الكيفية ¬

_ (¬1) رواه اللالكائي في "شرح السنة" (664)، والبيهقي في "الأسماء والصفات (867)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 325)، ورواه الدارمي في "الرد على الجهمية" (104)، وابن عبد البرفي "التمهيد" (7/ 151). قال ابن حجر "إسناده جيد" (الفتح: 13/ 407). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد قول مالك: "وهذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك، وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس في إسناده مما يعتمد عليه، وهكذا سائر قولهم يوافق مالك" "مجموع الفتاوى" (5/ 365).

بدعة، لأن من أهم أحرص منا على العلم ما سألوا عنها وهم الصحابة لما قال الله: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، عرفوا عظمة الله عز وجل، ومعنى الاستواء على العرش، وأنه لا يمكن أن تسأل: كيف استوى؟ لأنك لن تدرك ذلك فنحن إذا سئلنا، فنقول: هذا السؤال بدعة. وكلام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عن بدعة والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل يتنقل؟! فنقول: السؤال هذا بدعة كيف تسأل عن شيء ما سأل عنه الصحابة وهم أحرص منك على الخير وعلى العلم بما يجب لله عز وجل، ولسنا بأعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو لم يعلمهم. فسؤالك هذا بدعة، ولولا أننا نحسن الظن بك، لقلنا ما يليق بك بأنك رجل مبتدع. والإمام مالك رحمه الله قال: "ما أراك إلا مبتدعاً" ثم أمر به فأخرج، لأن السلف يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضاتهم وتقديراتهم ومجادلاتهم. فأنت يا أخي عليك هذا الباب بالتسليم، فمن تمام

الإسلام لله عز وجل ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذركم دائماً من البحث فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته على سبيل التعنت والتنطع والشيء الذي ما سأل الصحابة عنه، لأننا إذا فتحنا على أنفسنا هذه الأبواب، انفتحت علينا الأبواب، وتهدمت الأسوار، وعجزنا عن ضبط أنفسنا، فلذلك قل: سمعنا وأطعنا وآمنا وصدقنا، آمنا وصدقنا بالخبر وأطعنا الطلب وسمعنا القول، حتى تسلم! وأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عن شيء ما سأل عنه الصحابة، فقل كما قال الإمام مالك، فإن لك سلفاً: السؤال عن هذا بدعة. وإذا قلت ذلك، لن يلح عليك، وإذا ألح، فقل: يا مبتدع! السؤال عنه بدعة، اسأل عن الأحكام التي أنت مكلف بها، أما أن تسأل عن شيء يتعلق بالرب عز وجل وبأسمائه وصفاته، ولم يسأل عنه الصحابة، فهذا لا نقبله منك أبداً! وهناك كلام للسلف يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره، نقل عنهم أنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: "أمروها كما جاءت بلا كيف" (¬1)، وهذا يدل على أنهم يثبتون لها معنى من وجهين: أولاً: أنهم قالوا: "أمروها كما جاءت" ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعاني ولم تأت عبثاً، فإذا أمررناها كما جاءت، لزم من ¬

_ (¬1) أخرجه اللالكائي في"شرح السنة" (875).

معنى التمثيل

ذلك أن نثبت لها معنى. ثانياً: قوله: "بلا كيف" لأن نفي الكيفية يدل على وجود أصل المعنى، لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لغو وعبث. إذاً، فهذا الكلام المشهور عند السلف يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى. "ولا تمثيل"؛ يعنى: ومن غير تمثيل، فأهل السنة يتبرؤون من تمثيل الله عز وجل بخلقه، لا في ذاته ولا في صفاته. والتمثيل: ذكر مماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق، لأن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلا، لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل أن تقول: لي قلم كيفيته كذا وكذا. فإن قرنت بمماثل، صار تمثيلاً، مثل أن أقول: هذا القلم مثل هذا القلم، لأني ذكرت شيئاً مماثلا لشيء وعرفت هذا القلم بذكر مماثلة. وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة، يقولون: إن الله عز وجل له حياة وليست مثل حياتنا، له علم وليس مثل علمنا، له بصر، ليس مثل بصرنا، له وجه وليس مثل وجوهنا له يد وليست مثل أيدينا .... وهكذا جميع الصفات، يقولون: إن الله عز وجل لا يماثل خلقه فيما وصف به نفسه أبداً، ولهم على ذلك أدلة سمعية وأدلة عقلية:

التمثيل منتف سمعا وعقلا وفطرة

أ- الأدلة السمعية: تنقسم إلى قسمين: خبر، وطلب. - فمن الخبر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65]، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر، لأنه استفهام بمعنى النفي وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية. - وأما الطلب، فقال الله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22] أي: نظراء مماثلين. وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74]. فمن مثل الله بخلقه، فقد كذب الخبر وعصى الأمر ولهذا أطلق بعض السلف القول بالتكفير لمن مثل الله بخلقه، فقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله: "من شبه الله بخلقه، فقد كفر" (¬1)، لأنه جمع بين التكذيب بالخبر وعصيان الطلب. وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق: فمن وجوه: ¬

_ (¬1) رواه اللالكائي في "شرح السنة" (936). والذهبي في "العلو" ص 116 وصححه الألباني, انظر: "سير الأعلام النبلاء" (10/ 610).

أولاً: أن نقولك لا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بأي حال من الأحوال لو لم يكن بينهما من التباين إلا أصل الوجود، لكان كافياً، وذلك أن وجود الخالق واجب، فهو أزلي أبدي، ووجود المخلوق ممكن مسبوق بعدم ويلحقه فناء، فما كانا كذلك لا يمكن أن يقال: إنهما متماثلان. ثانياً: أنا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، في صفاته يسمع عز وجل كل صوت مهما خفي ومهما بعد، لو كان في قعار البحار، لسمعه عز وجل. وأنزل الله قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، تقول عائشة: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة، وإنه ليخفى على بعض حديثها" (¬1)، والله تعالى سمعها من على عرشه وبينه وبينها ما لا يعلم مداه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يقول قائل: إن سمع الله مثل سمعنا. ثالثاً: نقول: نحن نعلم أن الله تعالى مباين للخلق بذاته: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255]، {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67]، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فإذا كان مبايناً للخلق في ذاته، فالصفات تابعة للذات، فيكون أيضاً مبايناً للخلق في صفاته عز وجل، ولا يمكن ¬

_ (¬1) رواه البخاري معلقاً"الفتح" (131/ 372) في كتاب التوحيد/ باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً}. وقد وصله الإمام أحمد في "المسند" (6/ 46)، وابن كثير 4/ 286 , وابن ماجة بهذا اللفظ, ورواه ايضاً لفظ "تبارك" (2063).

الدليل الفطري

التماثل بين الخالق والمخلوق. رابعاً: نقول: إننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، يختلف الناس في صفاتهم: هذا قوي البصر وهذا ضعيف، وهذا قوي السمع وهذا ضعيف، هذا قوي البدن وهذا ضعيف وهذا ذكر وهذا أنثى .... وهكذا التباين في المخلوقات التي من جنس واحد، فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس؟ فالتباين بينها أظهر ولهذا، لا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يداً كيد الجمل، أولي يداً كيد الذرة، أول يداً كيد الهر، فعندنا الآن إنسان وجمل وذرة وهر، كل واحد له يد مختلفة عن الثاني، مع أنها متفقة في الاسم فنقول: إذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق الاسم، فجوازه بين الخالق والمخلوق ليس جائزاً فقط، بل هو واجب، فعندنا أربعة وجوه عقلية كلها تدل على أن الخالق لا يمكن أن يماثل المخلوق بأي حال من الأحوال. ربما نقول أيضاً: هناك دليل فطري، وذلك لأن الإنسان بفطرته بدون أن يلقن يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق ولولا هذه الفطرة، ما ذهب يدعو الخالق. فتبين الآن أن التمثيل منتف سمعاً وعقلاً وفطرة. فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا بأحاديث تشتبه علينا، هل هي تمثيل أو غير تمثيل؟ ونحن نضعها بين أيديكم:

حديث: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر"

- قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليل لبدر، لا تضامون في رؤيته" (¬1)، فقال: "كما" والكاف للتشبيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن من قاعدتنا أن نؤمن بما قال الرسول كما نؤمن بما قال الله، فأجيبوا عن هذا الحديث؟ نقول: نجيب عن هذا الحديث وعن غيره بجوابين: الجواب الأول مجمل والثاني مفصل. فالأول المجمل: أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين كلام الله وكلام رسوله الذي صح عنه أبداً، لأن الكل حق، والحق لا يتعارض، والكل من عند الله، وما عند الله تعالى لا يتناقض {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82]، فإن وقع ما يوهم التعارض في فهمك، فأعلم أن هذا ليس بحسب النص، ولكن باعتبار ما عندك، فأنت إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة، فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت، لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له، وإما لسوء القصد والنية، بحيث تستعرض ما ظاهره التعارض لطلب التعارض، فتحرم التوفيق، كأهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه. ويتفرع على هذا الجواب المجمل أنه يجب عليك عند الاشتباه أن ترد المشتبه إلى المحكم، لأن هذه الطريق ¬

_ (¬1) رواه البخاري (554) في كتاب مواقيت الصلاة/ باب فضل صلاة العصر، ومسلم (633) عن جرير بن عبد الله, في كتاب المساجد/ باب فضل صلاتي الصبح والعصر. وسوف يأتي الحديث بطوله في بداية الجزء الثانيبإذن الله.

حديث: "إن الله خلق آدم على صورته"

الراسخين في العلم، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، ويحملون المتشابه على المحكم حتى يبقى النص كله محكماً. وأما الجواب المفصل، فأن نجيب عن كل نص بعينه فنقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته" ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، ولكنه تشبيه للرؤية بالرؤية، "سترون ... كما ترون"، فالكاف في: "كما ترون": داخله على مصدر مؤول، لأن (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: كرؤيتكم القمر ليلة البدر وحينئذ يكون التشبيه للرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، والمراد أنكم ترونه رؤية واضحة كما ترون القمر ليلة البدر ولهذا أعقبه بقوله: "لا تضامون في رؤيته" أو: "لا تضارون في رؤيته" فزال الإشكال الآن. - قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله خلق آدم على صورته" (¬1)، والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال: هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6227) في كتاب الاستئذان/ باب بدء السلام، ومسلم (2612) في كتاب البر/ باب النهي عن ضرب الوجه عن أبي هريرةرضي الله عنه.

الإجابة على هذا الحديث من وجهين مجمل ومفصل

والكلمات، فالصورة مطابقة للصورة، والقائل: "إن الله خلق آدم على صورته": الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق. والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فإن يسر الله لك الجمع، فاجمع، وإن لم يتيسر، فقل: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له، بهذا تسلم أما الله عز وجل. هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضاً، لأنه كله خبر وليس حكماً كي ينسخ، فأقول: هذا نفي للماثلة، وهذا إثبات للصورة، فقل: إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم على صورته، فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله والكل حق نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا، ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع. وأما الجواب المفصل، فنقول: إن الذي قال: "إن الله خلق آدم على صورته" رسول الذي قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] والرسول لا يمكن أن ينطلق بما يكذب المرسل والذي قال: "خلق آدم على صورته": هو الذي قال: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر" (¬1)، فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3254) في كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ومسلم (2834) في كتاب الجنة/ باب في صفات الجنة وأهلها عن أبي هريرة رضي الله عنه.

يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمل واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه؟! فإن قلت بالأول، فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم آناف وليس لهم أفواه! وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال, وتبين أنه لايلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه. فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا، وقال: أنا لا أفهم إلا أنه مماثل. قلنا: هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فقوله: "على صورته"، مثل قوله عزوجل في آدم: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص: 72]، ولا يمكن أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عز وجل، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف، كما نقول: عباد الله، يشمل الكافر والمسلم والمؤمن والشهيد والصديق والنبي لكننا لو قلنا: محمد عبد الله، هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة. فقوله: "خلق آدم على صورته"، يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [الأعراف: 11]، والمصور أدم إذاً، فآدم على صورة الله، يعني: أن الله هو الذي صوره

على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، {لَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف، كأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة ومن أجل ذلك، لا تضرب الوجه، فتعيبه حساً، ولا تقبحه فتقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فتعيبه معنى، فمن أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي. ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفاً أم له نظير؟ نقول: له نظير، كما في: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله، لأن هذه الصورة (أي: صورة آدم) منفصلة بائنة من الله وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه، فهو من المخلوقات، فحينئذ يزول الإشكال. ولكن إذا قال لقائل: أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني؟ قلنا: المعنى الأول أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغاً في اللغة العربية وإمكاناً في العقل، فالواجب حمل الكلام عليه ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره. فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون أدم عليها؟ قلنا: إن الله عز وجل له وجه وله عين وله يد وله رجل عز وجل، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان، فهناك شيء من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة، كما أن

التعبير بالتمثيل أولى من التعبير بالتشبيه

الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. نسمع كثيراً من الكتب الني نقرأها يقولون: تشبيه، يعبرون بالتشبيه وهم يقصدون التمثيل، فأيما أولى: أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل؟ نقول: بالتمثيل أولى. أولاً: لأن القرآن عبر به: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22] .. وما أشبه ذلك، وكل ما عبر به القرآن، فهو أولى من غيره، لأننا لا نجد أفصل من القرآن ولا أدل على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبر بنفي التمثيل. وهكذا في كل مكان، فإ، موافقة النص في اللفظ أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب. ثانياً: أن التشبيه عند بعض الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون أهل السنة: مشبهة، فإن قلنا: من غير تشبيه. وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات، صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه. وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات، صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسداً فلهذا كان العدول عنه أولى.

ثالثاً: أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح، لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقاً، لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما. مثلاً: الوجود، يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك ونوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين، وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن. وكذلك السمع، فيه اشتراك، الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن اصل وجود السمع المشترك. فإذا قلنا: من غير تشبيه. ونفينا مطلق التشبيه، صار في هذا إشكال. وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه. فإن قلت: ما الفرق بين التكييف والتمثيل؟ فالجواب: الفرق بينهما من وجهين: الأول: أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل، فتقول يد فلان مثل يد فلان، والتكييف ذلك الصفة غير مقيدة بمماثل، مثل أن تقول: كيفية يد فلا كذا وكذا. وعلى هذا نقول: كل ممثل مكيف، ولا عكس. الثاني: أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك وفي العدد، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ

قوله: "بل يؤمنون بأن الله سبحانه {ليس كمثله شيء} "

سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، أي: في العدد. * قوله: "بل يؤمن بأن الله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ". الشرح: قوله: "بل يؤمنون ... "؛ أي: يقر أهل السنة والجماعة بذلك إقراراً وتصديقاً بأن الله ليس كمثله شيء، كما قال عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فهنا نفى المماثلة، ثم أثبت السمع والبصر فنفى العيب، ثم أثبت الكمال، لأن نفي العيب قبل إثبات الكمال أحسن، ولهذا يقال: التخلية قبل التحلية. فنفي العيوب يبدأ به أولاً، ثم يذكر إثبات الكمال. وكلمة {شَيْءٌ} نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء، ليس شيء مثله أبداً عز وجل أي مخلوق وإن عظم، فليس مماثلاً لله عز وجل، لأن مماثلة الناقص نقص، بل إن طلب المفاضلة بين الناقص والكامل تجعله ناقصاً، كما قيل: ألم تر أن السيف ينقص قدره ... إذا قيل إن السيف أمضى من العصا فهنا لو قلنا: إن لله مثيلاً، لزم من ذلك تنقص الله عز وجل، فلهذا نقول: نفى الله عن نفسه مماثلة المخلوقين، لأن مماثلة المخلوقين نقص وعيب، لأن المخلوق ناقص، وتمثيل

قوله: {ليس كمثله شيء}

الكامل بالناقص يجعله ناقصاً، بل ذكر المفاضلة بينهما يجعله ناقصاً، إلا إذا كان في مقام التحدي، كما في قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59]، وقوله: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140]. وفي قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}: رد صريح على الممثلة الذين يثبتون أن الله سبحانه وتعالى له مثيل. وحجة هؤلاء يقولون: إن القرآن عربي، وإذا كان عربياً، فقد خاطبنا الله تعالى بما نفهم، ولا يمكن أن يخاطبنا بما لا نفهم، وقد خاطبنا الله تعالى، فقال: إن له وجهاً وإن له عيناً، وإن له يدين ... وما أشبه ذلك ونحن لا نعقل بمقتضى اللغة العربية من هذه الأشياء إلا مثل ما تشاهد، وعلى هذا، فيجب أن يكون مدلول هذه الكلمات مماثلاً لمدلولها بالنسبة للمخلوقات: يد ويد، وعين وعين، ووجه ووجه ... وهكذا، فنحن إنما قلنا بذلك لأن لدينا دليلاً. ولا شك أن هذه الحجة واهية يوهيها ما سبق ما بيان أن الله ليس له مثيل ونقول: إن الله خاطبنا بما خاطبنا به من صفاته، لكننا نعلم علم اليقين أن الصفة بحسب الموصوف ودليل هذا في الشاهد، فإنه يقال للجمل يد وللذرة يد، ولا أحد يفهم من اليد التي أضفناها إلى الجمل أنها مثل اليد التي أضفناها إلى الذرة!.هذا وهو في المخلوقات، فكيف إذا كان ذلك من أوصاف الخالق؟! فإن التباين يكون أظهر وأجلى.

وعلى هذا، فيكون قول هؤلاء الممثلة مردوداً بالعقل كما أنه مردود بالسمع. قال الله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فأثبت لنفسه سبحانه وتعالى السمع والبصر، لبيان كمال، ونقص الأصنام التي تعبد من دونه، فالأصنام التي تعبد من دون الله تعالى لا يسمعون، ولو سمعوا، ما استجابوا، ولا يبصرون، كما قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21]، فهم ليس لهم سمع ولا عقل ولا بصر ولو فرض أن لهم ذلك، ما استجابوا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5]. فأهل السنة والجماعة يؤمنون بانتفاء المماثلة عن الله، لأنها عيب ويثبتون له السمع والبصر، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. وإيمان الإنسان بذلك يثمر للعبد أن يعظمه غاية التعظيم، لأنه ليس مثله أحد من المخلوقات، فتعظم هذا الرب العظيم الذي لا يماثله أحد، وإلا، لم يكن هناك فائدة من إيمانك بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. إذا آمنت بأنه سميع، فإنك سوف تحترز عن كل قول يغضب الله، لأنك تعلم أنه يسمعك, وتخشى عقابه؛ فكل قوليكون فيه معصية الله عزوجل؛ فسوف تتحاشاه؛ لأنك تؤمن بأنه سميع،

وإذا لم يحدث لك هذا الإيمان هذا الشيء، فاعلم أن إيمانك بأن الله سميع إيمان ناقص بلا شك. إذا آمنت بأن الله سميع، فلن تتكلم إلا بما يرضيه ولا سيما إذا كنت تتكلم معبراً عن شرعه، وهو المفتي والمعلم، فإن هذا أشد، والله سبحانه يقول {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]، فإن هذا من أظلم الظلم ولهذا قال {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10] وهذا من عقوبه من يفتي بلا علم، أنه لا يُهدَى، لأنه ظالم. فحذار يا أخي المسلم أن تقول قولاً لا يرضي الله، سواء قلته على الله، أو على غير هذا الوجه. وثمرة الإيمان بأن الله بصير أن لا تفعل شيئاً يغضب الله، لأنك تعلم أنك لو تنظر نظرة محرمة لا يفهم الناس أنها نظرة محرمة، فإن الله تعالى يرى هذه النظرة، ويعلم ما في قلبك، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]. إذا آمنت بهذا، لا يمكن أن تفعل فعلاً لا يرضاه أبداً. استحي من الله كما تستحيي من أقرب الناس إليك وأشدهم تعظيماً منك. إذاً، إذا آمنا بأن الله بصير، فسوف نتحاشى كل فعل يكون سبباً لغضب الله عز وجل، وإلا، فإن إيماننا بذلك ناقص.

قوله: "فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه"

لو أن أحداً أشر بأصبعه أو شفته أو بعينه أو برأسه لأمر محرم، فالناس الذين حوله لا يعلمون عنه، لكن الله تعالى يراه، فليحذر هذا من يؤمن به، ولو أننا نؤمن بما تقتضيه أسماء الله وصفاته، لوجدت الاستقامة كاملة فينا فالله المستعان. * قوله: "فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ولا يحرفون الكلم عن مواضعه". الشرح: قوله: "فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه"؛ أي: لا ينفي أهل السنة والجماعة عن الله ما وصف به نفسه، لأنهم متبعون للنص نفياً وإثباتاً، فكل ما وصف الله به نفسه يثبتونه على حقيقته، فلا ينفون عن الله ما وصف الله به نفسه، سواء كان من الصفات الذاتية أو الفعلية (أو الخبرية). الصفات الذاتية، كالحياة والقدرة، والعلم ... وما أشبه ذلك، وتنقسم إلى: ذاتية معنوية، وذاتية خبرية، وهي التي مسماها أبعاض لنا وأجزاء، كاليد والوجه، والعين، فهذه يسميها العلماء: ذاتية خبرية، ذاتية: لأنها لا تنفصل ولم يزل الله ولا يزال متصفاً بها. خبرية: لأنه متلقاة بالخبر، فالعقل لا يدل على ذلك، لولا أن الله أخبرنا أن له يداً، ما علمنا بذلك، لكنه أخبرنا بذلك، بخلاف العلم والسمع والبصر، فإن هذا ندركه بعقولنا مع دلالة السمع، لهذا نقول في مثل هذه الصفات اليد والوجه وما أشبهها: إنها ذاتية

قوله: "ولا يحرفون. . . ."

خبرية، ولا نقول: أجزاء وأبعاض، بل نتاحشى هذا اللفظ لكن مسماها لنا أجزاء وأبعاض، لأن الجزء والبعض ما جاز انفصاله عن الكل، فالرب عز وجل لا يتصور أن شيئاً من هذه الصفات التي وصف بها نفسه ـ كاليد ـ أن تزول أبداً، لأنه موصوف بها أزلاً وأبداً ولهذا لا نقول: إنه أبعاض وأجزاء. والصفات الفعلية: هي المتعلقة بمشيئته إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، وقد ذكرنا أن هذه الصفات الفعلية: منها ما يكون له سبب، ومنها ما ليس له سبب ومنها ما يكون ذاتياً فعلياً. قوله: "ولا يحرفون الكلم عن مواضعه" (الكلم): اسم، جمع كلمة ويراد به كلام الله وكلام رسوله. لا يحرفونه عن مواضعه، أي: عن مدلولاته، فمثلاً قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، يقولون: هي يد حقيقية ثابتة لله من غير تكييف ولا تمثيل. والمحرفون يقولون: قوته، أو نعمته أما أهل السنة، فيقولون: القوة شيء واليد شيء آخر، والنعمة شيء واليد شيء آخر، فهم لا يحرفون الكلم عن مواضعه، فإن التحريف من دأب اليهود، {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، فكل من حرف نصوص الكتاب والسنة، ففيه شبه من اليهود، فأحذر هذا، ولا تتشبه بالمغضوب عليهم الذين جعل الله منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، لا تحرف، بل فسر الكلام على ما أراد الله ورسوله. ومن كلام الشافعي ما يذكر عنه: "آمنت بالله وبما جاء عن

قوله: "ولا يلحدون. . . ."

الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله". * قوله: "ولا يلحدون في أسماء الله وآياته" الشرح: قوله: "ولا يلحدون ... " أي: أهل السنة والجماعة. والإلحاد في اللغة: الميل، ومنه سمي اللحد في القبر، لأنه مائل إلى جانب منه وليس متوسطاً والمتوسط يسمى شقاً واللحد أفضل من الشق. فهم لا يلحدون في أسماء الله، ولا يلحدون أيضاً في آيات الله، فأفادنا المؤلف رحمه الله أن الإلحاد يكون في موضعين: في الأسماء وفي الآيات. هذا الذي يفيده كلام المؤلف قد دل عليه القرآن قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 180]، فأثبت الله الإلحاد في الأسماء، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40]، فأثبت الله الإلحاد في الآيات. - فالإلحاد في الأسماء هو الميل فيها عما يجب، وهو أنواع: النوع الأول: أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه، كم سماه

الفلاسفة علة فاعلة وسماه النصارى: أباً، وعيسى: الابن، فهذا إلحاد في الأسماء الله وكذلك لو سمى الله بأي اسم لم يسم به نفسه، فهو ملحد في أسماء الله. ووجه ذلك أن أسماء الله عز وجل توقيفية، فلا يمكن أن نثبت له إلا ما ثبت بالنص، فإذا سميت الله بما لم يسم به نفسه، فقد ألحدت وملت عن الواجب. وتسمية الله بما لم يسم به نفسه سوء أدب مع الله وظلم وعدوان في حقة، لأنه لو أن أحداً دعاك بغير اسمك أو سماك بغير اسمك، لاعتبرته قد اعتدى عليك وظلمك هذا في المخلوق، فيكف بالخالق؟! إذاً، ليس لك حق أن تسمي الله بما لم يسم به نفسه، فإن فعلت، فأنت ملحد في أسماء الله. النوع الثاني: أن ينكر شيئاً من أسمائه، عكس الأول، فالأول سمى الله بما لم يسم به نفسه، وهذا جرد الله مما سمى به نفسه، فينكر الاسم، سواء أنكر كل الأسماء أو بعضها التي تثبت لله، فإذا أنكرها، فقد ألحد فيها. ووجه الإلحاد فيها: أنه لما أثبتها الله لنفسه، وجب علينا أن نثبتها له، فإذا نفيناها، كان إلحاداً وميلاً بها عما يجب فيها. وهناك من الناس من أنكر الأسماء، كغلاة الجهمية، فقالوا: ليس لله اسم أبداً! قالوا: لأنك لو أثبت له اسماً، شبهته

أنواع دلالات الاسم

بالموجودات، وهذا معروف أنه باطل مردود. النوع الثالث: أن ينكر ما دلت عليه من الصفات، فهو يثبت الاسم، لكن ينكر الصفة التي يتضمنها هذا الاسم، مثل أن يقول: إن الله سميع بلا سمع، وعليم بلا علم، وخالق بلا خلق، وقادر بلا قدرة ... وهذا معروف عن المعتزلة، وهو غير معقول! ثم هؤلاء يجعلون الأسماء أعلاماً محضة متغايرة، فيقولوا: السميع غير العلم، لكن لكها ليس لها معنى! السميع لا يدل على السمع! والعليم لا يدل على العلم! لكن مجرد أعلام!! ومنهم آخرون يقولون: هذه الأسماء شيء واحد، فهي عليم وسميع وبصير كلها واحد، لا تختلف إلا بتركيب الحروف فقط، فيجعل الأسماء شيئاً واحداً!! وكل هذا غير معقول، ولذلك نحن نقول: إنه لا يمكن الإيمان بالأسماء حتى تثبت ما تضمنته من الصفات. ولعلنا من هنا نتكلم على دلالة الاسم، فالاسم له أنواع ثلاثة في الدلالة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام: 1 - فدلالة المطابقة: دلالة اللفظ على جميع مدلوله، وعلى هذا، فكل اسم دال على المسمى به، وهو الله، وعلى الصفة المشتق منها هذا الاسم. 2 - ودلالة التضمن: دلالة اللفظ على بعض مدلوله، وعلى هذا، فدلالة الاسم على الذات وحدها أو على الصفة وحدها من

دلالة التضمن. 3 - ودلالة الالتزام: دلالته على شيء يفهم لا من لفظ الاسم لكن من لازمه ولهذا سميناه: دلالة الالتزام. مثل كلمة الخالق: اسم يدل على ذات الله ويدل على صفة الخلق. إذاً، فباعتبار دلالته على الأمرين يسمى دلالة مطابقة، لأن اللفظ دل على جميع مدلوله، ولا شك أنك إذا قلت: الخالق، فإنك تفهم خالقاً وخلقاً. - وباعتبار دلالته على الخالق وحده أو على الخلق وحده يسمى دلالة تضمن، لأنه دل على بعض معناه، وباعتبار دلالته على العلم والقدرة يسمى دلالة التزام، إذ لا يمكن خلق إلا بعلم وقدرة، فدلالته على القدرة والعلم دلالة التزام. وحينئذ، يتبين أن الإنسان إذا أنكر واحداً من هذه الدلالة، فهو ملحد في الأسماء. ولو قال: أنا أؤمن بدلالة الخالق على الذات، ولا أؤمن بدلالته على الصفة، فهو ملحد في الاسم. لو قال: أنا أؤمن بأن (الخالق) تدل على ذات الله وعلى صفة الخلق، لكن لا تدل على صفة العلم والقدرة. قلنا: هذا إلحاد أيضاً، فلازم علينا أن نثبت كل ما دل عليه هذا الاسم،

فإنكار شيء مما دل على الاسم من الصفة إلحاد في الاسم سواء كانت دلالته على هذه الصفة دلالة مطابقة أو تضمن أو التزام. ولنضرب مثلاً حسياً تتبين فيه أنواع هذه الدلالات: لو قلت: لي بيت. فكلمة (بيت) فيها الدلالات الثلاث، فتفهم من (بيت) أنها تدل على كل البيت دلالة مطابقة. وتدل على مجلس الرجال وحده، وعلى الحمامات وحدها، وعلى الصالة وحدها، دلالة تضمن، لأن هذه الأشياء جزء من البيت ودلالة اللفظ على جزء معناه دلالة تضمن. وتدل على أن هناك بانياً بناه دلالة التزام، لأنه ما من بيت، إلا وله بان. النوع الرابع من أنواع الإلحاد في الأسماء: أن يثبت الأسماء لله والصفات، لكن يجعلها دالة على التمثيل، أي دالة على بصر كبصرنا وعلم كعلمنا، ومغفرة كمغفرتنا ... وما أشبه ذلك، فهذا إلحاد، لأنه ميل بها عما يجب فيها، إذ الواجب إثباتها بلا تمثيل. النوع الخامس: أن ينقلها إلى المعبودات، أو يشتق أسماء منها للمعبودات، مثل أن يسمي شيئاً معبوداً بالإله، فهذا إلحاد، أو يشتق منها أسماء للمعبودات مثل: اللات من الإله، والعزى والعزيز، ومناة من المنان، فنقول: هذا أيضاً إلحاد في أسماء الله، لأن الواجب عليك أن تجعل أسماء الله خاصة به، ولا تتعدى وتتجاوز فتشتق للمعبودات منها أسماء. هذه أنواع الإلحاد في أسماء الله. فأهل السنة والجماعة لا يلحدون في أسماء الله أبداً بل

الإلحاد في آيات الله

يجرونها على ما أراد الله بها سبحانه وتعالى ويثبتون لها جميع أنواع الدلالات، لأنهم يرون أن ما خالف ذلك، فهو إلحاد. - وأما الإلحاد في آيات الله تعالى، فالآيات جمع آية، وهي العلامة المميزة للشيء عن غيره، والله عز وجل بعث الرسل بالآيات لا بالمعجزات، ولهذا كان التعبير بالآيات أحسن من التعبير بالمعجزات: أولاً: لأن الآيات هي التي يعبر بها في الكتاب والسنة. ثانياً: أن المعجزات قد تقع من ساحر ومشعوذ وما أشبه ذلك تُعجِز غيره. ثالثاً: أن كلمة (آيات) أدل على المعنى المقصود من كلمة معجزات، فآيات الله عز وجل هي الدالة على الله عز وجل، وحينئذ تكون خاصة به ولولا أنها خاصة، ما صارت آية له. وآيات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: آيات كونية، وآيات شرعية: فالآيات الكونية: ما يتعلق بالخلق والتكوين، مثال ذلك قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم: 20] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ

معنى الإلحاد في آيات الله الكونية

وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 22 - 25]، فهذه الآيات كونية وإن شئت، فقل: كونية قدرية، وكانت آية لله، لأنه لا يستطيع الخلق أن يفعلوها، فمثلاً: لا يستطيع أحد أن يخلق مثل الشمس والقمر، ولا يستطيع أن يأتي بالليل إذا جاء النهار، ولا بالنهار إذا جاء الليل، فهذه الآيات كونية. والإلحاد فيها أن ينسبها إلى غير الله استقلالاً أو مشاركة أو إعانة، فيقول: هذا من الولي الفلاني، أو: من النبي الفلاني، أو: شارك فيه النبي الفلاني أو الولي الفلاني، أو: أعان الله فيه، قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]، فنفى كل شيء يتعلق به المشركون بكون معبوداتهم لا تملك شيئاً في السماوات والأرض استقلالاً أو مشاركة ولا معينة لله عز وجل، ثم بالرابع: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23]، لما كان المشركون قد يقولون: نعم، هذه الأصنام لا تملك ولا تشارك ولم تعاون، لكنها شفعاء، قال: {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، فقطع كل سبب يتعلق به المشركون. القسم الثاني من الآيات: الآيات الشرعية، وهي ما جاءت به

معنى الإلحاد في آيات الله الشرعية

الرسل من الوحي، كالقرآن العظيم وهو آيه، لقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252] {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 50 - 51]، فجعله آيات. ويكون الإلحاد فيها إما بتكذيبها أو تحريفها أو مخالفتها: فتكذيبها: أن يقول: ليست من عند الله، فيكذب بها أصلاً، أو يكذب بما جاء فيها من الخبر مع تصديقه بالأصل، فيقول مثلاً: قصة أصحاب الكهف ليست صحيحة، وقصة أصحاب الفيل ليست صحيحة والله لم يرسل عليهم طيراً أبابيل. وأما التحريف، فهو تغيير لفظها، أو صرف معناها عما أراد الله بها ورسوله، مثل أن يقول: استوى على العرش، أي: استولى، أو: ينزل إلى السماء الدنيا، أي: ينزل أمره. وأما مخالفتها، فبترك الأوامر أو فعل النواهي. قال الله تعالى في المسجد الحرام: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، فكل المعاصي إلحاد في الآيات الشرعية، لأنه خروج بها عما يجب لها، إذ الواجب علينا أن نتمثل الأوامر وأن نجتنب النواهي، فإن لم نقم بذلك، فهذا إلحاد.

قوله: "ولا يكيفون ولا يمثلون. . . ."

* قوله: "ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانهلا سمي له وكفو له ولا ند له, بخلقه سبحانه وتعالى". الشرح: قوله: "ولا يكيفون"؛ أي: أهل السنة والجماعة، وسبق أن التكييف ذكر كيفية الصفة، سواء ذكرتها بلسانك أو بقلبك، فأهل السنة والجماعة لا يكيفون أبداً، يعنى: لا يقولون: كيفية يده كذا وكذا، ولا: كيفية وجهه كذا وكذا، فلا يكيفون هذا باللسان ولا بالقلب أيضاً، يعني: نفس الإنسان لا يتصور كيف استوى الله عز وجل، أو كيف ينزل، أو كيف وجهه، أو كيف يده، ولا يجوز أن يحاول ذلك أيضاً، لأن هذا يؤدي إلى أحد أمرين: إما التمثيل، وإما التعطيل. ولهذا لا يجوز للإنسان أن يحاول معرفة كيفية استواء الله على العرش، أو يقوله بلسانه، بل ولا يسأل عن الكيفية، لأن الإمام مالكاً رحمه الله قال: "السؤال عن بدعة"، لا تقل: كيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف يأتي؟ كيف وجهه؟ إن فعلت ذلك، قلنا: إنك مبتدع .. وقد سبق ذكر الدليل على تحريم التكييف، وذكرنا الدليل على ذلك من السمع والعقل. قوله: "ولا يمثلون"، أي: أهل السنة والجماعة: "صفاته بصفات خلقه"، وهذا معنى قوله فيما سبق: "من غير تمثيل" وسبق لنا امتناع التمثيل سمعاً وعقلاً، وأن السمع ورد خبراً وطلباً

قوله: "لأنه سبحانه"

في نفي التمثيل، فهم لا يكيفون ولا يمثلون. قوله: "لأنه سبحانه": (سبحان): اسم مصدر سبح والمصدر تسبيح، فـ (سبحان) بمعنى تسبيح، لكنها بغير اللفظ، وكل ما دل على معنى المصدر وليس بلفظه، فهو اسم مصدر، كـ: سبحان من سبح، وكلام من كلم وسلام من سلم، وإعرابها مفعول مطلق منصوب على المفعولية المطلقة، وعاملها محذوف دائماً. ومعنى (سبح)، قال العلماء: معناها: نزه، أصلها من السبح وهو البعد، كأنك تبعد صفات النقص عن الله عز وجل، فهو سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص. قوله: "لا سمي له": دليل ذلك قوله تعالى: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65]: {هَلْ} استفهام، لكنه بمعنى النفي ويأتي النفي بصيغة الاستفهام لفائدة عظيمة، وهي التحدي، لأن هناك فرقاً بين أن أقول: لا سمي له، و: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}، لأن {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} متضمن للنفي وللتحدي أيضاً، مُشرَب معنى التحدي، وهذه قاعدة مهمة: كلما كان الاستفهام بمعنى النفي، فهو مشرب معنى التحدي، كأني أقول: إن كنت صادقاً، فأتني بسمي له وعلى هذا، فـ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}: أبلغ من: "لا سميّ له". والسمي: هو المسامي، أي: المماثل. قوله: "ولاكفء له": والدليل قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ

قوله: "ولا يقاس بخلقه"

كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]. قوله: "ولا ند له": والدليل قوله تعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، أي: تعلمون أنه لا ند له والند بمعنى النظير. وهذه الثلاثة ـ السمي والكفء والند ـ معناها متقارب جداً، لأن معنى الكفء: الذي يكافئه، ولا يكفائ الشيءُ الشيءَ إلا إذا كان مثله، فإن لم يكن مثله، لم يكن مكافئاً، إذاً: لا كفء له، أي: ليس له مثيل سبحانه وتعالى. وهذا النفي المقصود منه كمال صفاته، لأنه لكمال صفاته لا أحد يماثله. قوله: "ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى": القياس ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قياس شمول، وقياس تمثيل، وقياس أولوية، فهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه قياس تمثيل ولا قياس شمول: 1 - قياس الشمول: هو ما يعرف بالعام الشامل لجميع أفراده، بحيث يكون كل فرد منه داخلاً في مسمى ذلك اللفظ ومعناه، فمثلاً: إذا قلنا: الحياة، فإنه لا تقاس حياة الله تعالى بحياة الخلق من أجل أن الكل يشمله اسم (حي). 2 - وقياس التمثيل: هو أن يلحق الشيء مثيله فيجعل ما ثبت للخالق مثل ما ثبت للمخلوق. 3 - وقياس الأولوية: هو أن يكون الفرع أولى بالحكم من

الأصل، ولهذا يقول العلماء: إنه مستعمل في حق الله، لقوله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60]، بمعنى كل صفة كمال، فلله تعالى أعلاها، والسمع والعلم والقدرة والحياة والحكمة وما أشبهها موجودة في المخلوقات، لكن لله أعلاها وأكملها. ولهذا أحياناً نستدل بالدلالة العقلية من زاوية القياس بالأولى، فمثلاً: نقول: العلو صفة كمال في المخلوق، فإذا كان صفة كمال في المخلوق، فإذا كان صفة كمال في المخلوق، فهو في الخالق من باب أولى وهذا دائماً نجده في كلام العلماء. فقول المؤلف رحمه الله: "ولا يقاس بخلقه"، بعد قوله: "لا سمي ولا كفء له، ولا ند له"، يعني القياس المقتضي للمساواة وهو قياس الشمول وقياس التمثيل. إذاً، يمتنع القياس بين الله وبين الخلق للتباين بينهما، وإذا كنا في الأحكام لا نقيس الواجب على الجائز، أو الجائز على الواجب، ففي باب الصفات بين الخالق والمخلوق من باب أولى. لو قال لك قائل: الله موجود، والإنسان موجود، ووجود الله كوجود الإنسان بالقياس. فنقول: لا يصح، لأن وجود الخالق واجب، ووجود الإنسان ممكن. فلو قال: أقيس سمع الخالق على سمع المخلوق.

قوله: "فإنه أعلم بنفسه"

نقول: لا يمكن، سمع الخالق واجب له، لا يعتريه نقص، وهو شامل لكل شيء، وسمع الإنسان ممكن، إذ يجوز أن يولد الإنسان أصم، والمولود سميعاً يلحقه نقص السمع، وسمعه محدود. إذاً، لا يمكن أن يقاس الله بخلقه، فكل صفات الله لا يمكن أن تقاس بصفات خلقه، لظهور التباين العظيم بين الخالق وبين المخلوق. قوله: "فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً وأحسن حديثاً من خلقه" الشرح: قال المؤلف هذا تمهيداً وتوطئة لوجوب قبول ما دل عليه كلام الله تعالى من صفاته وغيرها، وذلك أنه يجب قبول ما دل عليه كلام الله تعالى من صفاته وغيرها، وذلك أنه يجب قبول ما دل عليه الخبر إذا اجتمعت فيه أوصاف أربعة: الوصف الأول: أن يكون صادراً عن علم، وإليه الإشارة بقوله: "فإنه أعلم بنفسه وبغيره". الوصف الثاني: الصدق، وأشار إليه بقوله: "وأصدق قيلاً". الوصف الثالث: البيان والفصاحة، وأشار إليه بقوله: "وأحسن حديثاً".

الوصف الرابع: سلامة القصد والإرادة، بأن يريد المخبر هداية من أخبرهم. فدليل الأول ـ وهو العلم ـ: قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]، فهو أعلم بنفسه وبغيره من غيره، فهو أعلم بك من نفسك، لأنه يعلم ما سيكون لك في المستقبل، وأنت لا تعلم ماذا تكسب غداً؟ وكلمة {أَعْلَمُ} هنا اسم تفضيل، وهو يقتضي اشتراك المفضل والمفضل عليه، وهذا لا يجوز بالنسبة لله، لكن (عالم) اسم فاعل وليس فيه مقارنة ولا تفضيل. فنقول له: هذا غلط، فالله يعبر عن نفسه ويقول: {أَعْلَمُ} وأنت تقولك عالم! وإذا فسرنا {أَعْلَمُ} بـ (عالم)، فقد حططنا من قدر علم الله، لأن (عالم) يشترك فيه غير الله على سبيل المساواة، لكن {أَعْلَمُ} مقتضاه أن لا يساويه أحد في هذا العلم، فهو أعلم من كل عالم، وهذا أكمل في الصفة بلا شك. ونقول له: إن اللغة العربية بالنسبة لاسم الفاعل لا تمنع المساواة في الوصف، لكن بالنسبة لاسم التفضيل تمنع المشاركة فيما دل عليه.

ونقول أيضاً: في باب المقارنة لا بأس أن نقول: أعلم، بمعنى: أن تأتي باسم التفضيل، ولو فرض خلو المفضل عليه من ذلك المعنى، كما قال الله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24]، فجاء باسم التفضيل، مع أن المفضل عليه ليس فيه خير، وقال يوسف: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} {يوسف: 39]، والأرباب ليس فيها خير. فالحاصل أن نقول: إن {أَعْلَمُ} الواردة في كتاب الله يراد بها معناها الحقيقي، ومن فسرها بـ (عالم)، فقد أخطأ من حيث المعنى ومن حيث اللغة العربية. ودليل الوصف الثاني ـ الصدق ـ: قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً}، أي: لا أحد أصدق منه، والصدق مطابقة الكلام للواقع، ولا شيء من الكلام يطابق الواقع كما يطابقه كلام الله سبحانه وتعالى، فكل ما أخبر الله به، فهو صدق، بل أصدق من كل قول. ودليل الوصف الثالث ـ البيان والفصاحة ـ: قوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} وحسن حديثه يتضمن الحسن اللفظي والمعنوي.

ودليل الوصف الرابع ـ سلامة القصد والإرادة ـ: قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: 176]، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26]. فاجتمع في كلام الله الأوصاف الأربعة التي توجب قبول الخبر. وإذا كان كذلك، فإنه يجب أن نقبل كلامه على ما هو عليه، وأن لا يلحقنا شك في مدلوله، لأن الله لم يتكلم بهذا الكلام لأجل إضلال الخلق، بل ليبين لهم ويهديهم، وصدر كلام الله عن نفسه أو عن غيره من أعلم القائلين، ولا يمكن أن يعتريه خلاف الصدق، ولا يمكن أن يكون كلاماً عيياً غير فصيح، وكلام الله لو اجتمعت هذه الأمور الأربعة في الكلام، وجب عل المخاطب القبول بما دل عليه. مثال ذلك: قوله تعالى مخاطباً إبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، قال قائل: في هذه الآية إثبات يدين لله عز وجل يخلق بهما من شاء فنثبتهما، لأن كلام الله عزوجل صادر عن علم وصدق، وكلامه أحسن الكلام وأفصحه وأبينه، ولا يمكن أن لا يكون له يدان لكن أراد من الناس أن يعتقدوا ذلك فيه، ولو فرض هذا، لكان مقتضاه أن القرآن ضلال، حيث جاء بوصف الله بما ليس فيه، وهذا ممتنع، فإذا كان كذلك، وجب عليك أن تؤمن بأن لله تعالى يدين اثنتين خلق بهما آدم.

وإذا قلت: المراد بهما النعمة أو القدرة. قلنا: لا يمكن أن يكون هذا هو المراد، إلا إذا اجترأت على ربك ووصفت كلامه بضد الأوصاف الأربعة التي قلنا، فنقول: هل الله عز وجل حينما قال: {بِيَدَيَّ}: عالم بأن له يدين؟ فسيقول: هو عالم. فنقول: هل هو صادق؟ فسيقول: هو صادق بلا شك. ولا يستطيع أن يقول: هو غير عالم، أو: غير صادق، ولا أن يقول: عبر بهما وهو يريد غيرهما عياً وعجزاً، ولا أن يقول: أراد من خلقه أن يؤمنوا بما ليس فيه من الصفات إضلالاً لهم! فنقول له: إذاً، ما الذي يمنعك أن تثبت لله اليدين؟! فاستغفر ربك وتب إليه، وقل: آمنت بما أخبر الله به عن نفسه، لأنه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من غيره وأتم إرادة من غيره أيضاً. ولهذا أتى المؤلف رحمه الله بهذه الأوصاف الثلاثة ونحن زدنا الوصف الرابع، وهو: إرادة البيان للخلق وإرادة الهداية لهم، لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [النساء: 26]. هذا حكم ما أخبر الله به عن نفسه بكلامه الذي هو جامع للكمالات الأربع في الكلام. أما ما أخبرت به الرسل:

قوله: "ثم رسله صادقون. . . ."

* فقال المؤلف: "ثم رسله صادقون مصدقون؛ بخلاف الذين يقولون عليه ما لايعلمون". الشرح: قوله: "ثم رسله صادقون المصدوقون (¬1) ": الصادق: المخبر بما طابق الواقع، فكل الرسل صادقون فيما أخبروا به. ولكن: لابد أن يثبت السند إلى الرسل عليهم السلام، فإذا قالت اليهود: قال موسى كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة سنده إلى موسى. وإذا قالت النصارى: قال عيسى كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة السند إلى عيسى. وإذا قال قائل: قال محمد رسول الله كذا وكذا، فلا نقبل، حتى نعلم صحة السند إلى محمد صلوات الله عليهم. فرسله صادقون فيما يقولون، فكل ما يخبرون به عن الله وعن غيره من مخلوقاته، فهم صادقون فيه، لا يكذبون أبداً. ولهذا أجمع العلماء على أن الرسل عليهم الصلاة والسلام معصومون من الكذب. "مصدوقون" أو: "مصدقون": نسختان: أما على نسخة "مصدوقون"، فالمعنى أن ما أوحي إليهم، فهو صدق، والمصدوق: الذي أخبر بالصدق والصادق: الذي ¬

_ (¬1) وفي نسخة: مصدقون".

تصديق الله لرسله بالقول والفعل

جاء بالصدق، ومنه قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي هريرة حين قال له الشيطان: إنك إذا قرأت آية الكرسي، لم يزل عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح قال له: "صدقك وهو كذوب" (¬1)، يعني: أخبرك بالصدق. فالرسل مصدوقون، كل ما أوحي إليهم، فهو صدق، ما كذبهم الذي أرسلهم ولا كذبهم الذي أرسل إليهم، وهو جبريل عليه الصلاة والسلام، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19 - 21]. وأما على نسخة: "مصدقون"، فالمعنى أنه يجب على أممهم تصديقهم، وعلى هذا يكون معنى "مصدقون"، أي: شرعاً، يعني: يجب أن يصدقوا شرعاً، فمن كذب بالرسل أو كذبهم، فهو كافر، ويجوز أن يكون "مصدقون" له وجه آخر، أي: أن الله تعالى صدقهم، ومعلوم أن الله تعالى صدق الرسل، صدقهم بقوله وبفعله: أما بقوله: فإن الله قال لرسوله محمد عليه الصلاة والسلام: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ} [النساء: 166]، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} [المنافقون: 1]، فهذا تصديق بالقول. ¬

_ (¬1) علقه البخاري (2311) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند ما وكله رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان, في كتاب الوكالة إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل. وقال الحافظ: في "الفتح" (4/ 488): هكذا أورد البخاري هذا الحديث هنا ولم يصرح فيه بالتحديث ... وقد وصله النسائي والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق.

أما تصديقه بالفعل، فبالتمكين له، وإظهار الآيات، فهو يأتي للناس يدعوهم إلا الإسلام، فإن لم يقبلوا، فالجزية، فإن لم يقبلوا، استباح دمائهم ونساءهم وأموالهم، والله تعالى يمكن له، ويفتح عليه الأرض أرضاً بعد أرض، وحتى بلغت رسالته مشارق الأرض ومغاربها، فهذا تصديق من الله بالفعل، كذلك أيضاً ما يجريه الله على يديه من الآيات هو تصديق له سواء كانت الآيات شرعية أم كونية، فالشرعية كان دائماً يُسأل عن الشيء وهو لا يعلمه، فينزل الله الجواب: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] (¬1)، إذاً هذا تصديق بأنه رسول ولو كان غير رسول، ما أجاب الله {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217]. فالجواب: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} .. إلخ، فهذا تصديق من الله عز وجل. والآيات الكونية ظاهرة جداً وما أكثر الآيات الكونية التي أيد الله بها رسوله، سواء جاءت لسبب أو لغير سبب، وهذا معروف في السيرة. ¬

_ (¬1) لما رواه البخاري (4721) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, قال: "بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرث-وهو متكئ على عسيب- إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح, فقال: ما رابكم إليه – وقال بعضهم لا يستقبلكم بشيء شيئاً, فعلمت أنه يوحى إليه, فقمت مقامي, فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} في كتاب التفسير/ باب (ويسألونك عن الروح).

قوله: "بخلاف الذين يقولون. . . ."

ففهمنا من كلمة: "مصدقون": أنهم مصدقون من قبل الله بالآيات الكونية والشرعية، مصدقون من قبل الخلق، أي: يجب أن يصدقوا وإنما حملنا ذلك على التصديق شرعاً، لأن من الناس من صدق ومن الناس من لم يصدق، لكن الواجب التصديق. قوله: "بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون": فهؤلاء كاذبون أو ضالون، لأنهم قالوا مالا يعلمون. وكأن المؤلف يشير إلى أهل التحريف، لأن أهل التحريف قالوا على الله مالا يعلمون من وجهين: قالوا: إنه لم يرد كذا وأراد كذا! فقالوا في السلب والإيجاب لما لا يعلمون. مثلاً: قالوا: لم يرد بالوجه الحقيقي! فهنا قالوا على الله مالا يعلمون بالسلب، ثم قالوا: والمراد بالوجه الثواب! فقالوا على الله مالا يعلمون في الإيجاب. وهؤلاء الذين يقولون على الله مالا يعلمون لا يكونون صادقين ولا مصدوقين ولا مصدقين بل قامت الأدلة على أنهم كاذبون مكذوبون بما أوحى إليهم الشيطان. قوله: "ولهذا قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 183] "

قوله: "فسبح بنفسه عما وصف به المخالفون. . . ."

الشرح: قوله: "ولهذا "؛ أي: لأجل كمال كلامه وكلام رسله. "قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ} ": سبق معنى التسبيح وهو تنزيه الله عن كل ما لا يليق به. وقوله: " {رَبِّكَ} أضاف الربوبية إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهي ربوبية خاصة، من باب إضافة الخالق إلى المخلوق. وقوله: {رَبِّ الْعِزَّةِ} من باب إضافة الموصوف إلى الصفة، ومن المعروف أن كل مربوب مخلوق وهنا قال: {رَبِّ الْعِزَّةِ}، وعزه الله غير مخلوقة، لأنها من صفاته، فنقول: هذه من باب إضافة الموصوف إلى الصفة وعلى هذا، فـ {رَبِّ الْعِزَّةِ} هنا معناها: صاحب العزة، كما يقال: رب الدار، أي: صاحب الدار. قوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} يعني: عما يصفه المشركون، كما سيذكره المؤلف. قوله: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} أي: على الرسل. قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: حمد الله نفسه عز وجل بعد أن نزهها، لأن في الحمد كمال الصفات، وفي التسبيح تنزيه عن العيوب، فجمع في الآية بين التنزيه عن العيوب بالتسبيح، وإثبات الكمال بالحمد. قوله: "فسبح نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم

قوله: "وهو سبحانه قد جمع فيما وصف. . . ."

على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب": الشرح: معنى هذه الجملة واضح، وبقي أن يقال: وحمد نفسه لكمال صفاته بالنسبة لنفسه وبالنسبة لرسله، فإنه سبحانه محمود على كمال صفاته وعلى إرسال الرسل، لما في ذلك من رحمة الخلق والإحسان إليهم. * قوله: "وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات" بين المؤلف رحمه الله في هذه الجملة أن الله تعالى جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات، وذلك لأن تمام الكمال لا يكون إلا بثبوت صفات الكمال وانتفاء ما يضادها من صفات النقص، فأفادنا رحمه الله أن الصفات قسمان: 1 - صفات مثبتة: وتسمى عندهم: الصفات الثبوتية. 2 - وصفات منفية: ويسمونها: الصفات السلبية، من السلب وهو النفي، ولا حرج من أن نسميها سلبية، وإن كان بعض الناس توقف وقال: لا نسميها سلبية، بل نقول: منفية. فنقول: ما دام السلب في اللغة بمعنى النفي، فالاختلاف في اللفظ ولا يضر.

ضلال من زعم أن الصفات المثبتة تستلزم التمثيل

فصفات الله عز وجل قسمان: ثبوتية وسلبية، أو إن شئت، فقل: مثبتة ومنفية، والمعنى واحد. فالمثبتة: كل ما أثبته الله لنفسه، وكلها صفات كمال، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه، ومن كمالها أنه لا يمكن أن يكون ما أثبته دالاً على التمثيل، لأن المماثلة للمخلوق نقص. وإذا فهمنا هذه القاعدة، عرفنا ضلال أهل التحريف، الذين زعموا أن الصفات المثبتة تستلزم التمثيل، ثم أخذوا ينفونها فراراً من التمثيل. ومثاله: قالوا: لو أثبتنا لله وجهاً، لزم أن يكون مماثلاً لأوجه المخلوقين، وحينئذ يجب تأويل معناه إلى معنى آخر لا إلى الوجه الحقيقي. فنقول لهم: كل ما أثبت الله لنفسه من الصفات، فهو صفة كمال ولا يمكن أبداً أن يكون فيما أثبته الله لنفسه من الصفات نقص. ولكن، إذا قال قائل: هل الصفات توقيفية كالأسماء، أو هي اجتهادية، لمعنى أن يصح لنا أن نصف الله سبحانه وتعالى بشيء لم يصف به نفسه؟. فالجواب أن نقول: إن الصفات توقيفية على المشهور عند أهل العلم، كالأسماء، فلا تصف الله إلا بما وصف به نفسه. وحينئذ نقول: الصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صفة كمال

مطلق، وصفة كمال مقيد، وصفة نقص مطلق. أما صفة الكمال على الإطلاق، فهي ثابتة لله عز وجل، كالمتكلم، والفعال لما يريد، والقادر .. ونحو ذلك. وأما صفة الكمال بقيد، فهذه لا يوصف الله بها على الإطلاق إلا مقيداً، مثل: المكر، والخداع، والاستهزاء .. وما أشبه ذلك، فهذه الصفات كمال بقيد، إذا كانت في مقابلة من يفعلون ذلك، فهي كمال، وإن ذكرت مطلقة، فلا تصح بالنسبة لله عز وجل، ولهذا لا يصح إطلاق وصفه بالماكر أو المستهزئ أو الخادع، بل تقيد فنقول: ماكر بالماكرين، مستهزئ بالمنافقين، خادع للمنافقين، كائد للكافرين، فتقيدها لأنها لم تأت إلا مقيدة. وأما صفة النقص على الإطلاق، فهذه لا يوصف الله بها بأي حال من الأحوال، كالعاجز والخائن والأعمى والأصم، لأنها نقص على الإطلاق، فلا يوصف الله بها وانظر إلى الفرق بين خادع وخائن، قال الله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، فأثبت خداعه لمن خادعه لكن قال في الخيانة: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} [الأنفال: 71] ولم يقل: فخانهم، لأن الخيانة خداع في مقام الائتمان، والخداع في مقام الائتمان نقص، وليس فيه مدح أبداً. فإذاً، صفات النقص منفية عن الله مطلقاً. والصفات المأخوذة من الأسماء هي كمال بكل حال ويكون

الطريق لإثبات الصفات

الله عز وجل قد أتصف بمدلولها، فالسمع صفة كمال دل عليها اسمه السميع، فكل صفة دلت عليها الأسماء، فهي صفة كمال مثبته لله على سبيل الإطلاق، وهذه تجعلها قسماً منفصلاً، لأنه ليس فيها تفصيل، وغيرها تنقسم إلى الأقسام الثلاثة التي سلف ذكرها، ولهذا لم يسم الله نفسه بالمتكلم مع أنه يتكلم، لأن الكلام قد يكون خيراً، وقد يكون شراً، وقد لا يكون خيراً ولا شراً، فالشر لا ينسب إلى الله، واللغو كذلك لا ينسب إلى الله، لأنه سفه، والخير ينسب إليه، ولهذا لم يسم نفسه بالمتكلم، لأن الأسماء كما وصفها الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180]، ليس فيها أي شيء من النقص ولهذا جاءت باسم التفضيل المطلق. إذا قال قائل: فهمنا الصفات وأقسامها، فما هو الطريق لإثبات الصفة مادمنا نقول: إن الصفات توقيفية؟ فنقول: هناك عدة طرق لإثبات الصفة: الطريق الأول: دلالة الأسماء عليها، لأن كل اسم، فهو متضمن لصفة ولهذا قلنا فيما سبق: إن كل اسم من أسماء الله دال على ذاته وعلى الصفة التي اشتق منها. الطريق الثاني: أن ينص على الصفة، مثل الوجه، واليدين، والعينين ... وما أشبه ذلك، فهذه بنص من الله عز وجل، ومثل الانتقام، فقال عنه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47]، ليس من أسماء الله المنتقم، خلافاً لما يوجد في بعض

الكتب التي فيها عد أسماء الله، لأن الانتقام ما جاء إلا على سبيل الوصف أو اسم الفاعل مقيداً، كقوله: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22]. الطريق الثالث: أن تؤخذ من الفعل، مثل: المتكلم، فأخذها من {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164]. هذه هي الطرق التي تثبت بها الصفة, وبناء على ذلك نقول: الصفات أعم من الأسماء، لأن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة متضمنة لاسم. وأما الصفات المنفية عن الله عز وجل، فكثيرة ولكن الإثبات أكثر، لأن صفات الإثبات كلها صفات كمال، وكلما تعددت وتنوعت، ظهر من كمال الموصوف ما هو أكثر، وصفات النفي قليلة، ولهذا نجد أن صفات النفي تأتي كثيراً عامة، غير مخصصة بصفة معينة، والمخصص بصفة لا يكون إلا لسبب، مثل تكذيب المدعين بأن الله اتصف بهذه الصفة التي نفاها عن نفسه أو دفع توهم هذه الصفة التي نفاها. فالقسم الأول العامة، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في علمه وقدرته وسمعه وبصره وعزته وحكمته ورحمته .. وغير ذلك من صفاته، فلم يفصل، بل قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في كل كمال.

لا يرد النفي في صفات الله إلا على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص لسبب

أما إذا كان مفصلاً، فلا تجده إلا لسبب، كقوله {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91]، رداً لقول من قال: إن لله ولداً وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] كذلك وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، لأنه قد يفرض الذهن الذي لا يقدر الله حق قدره أن هذه السماوات العظيمة والأرض العظيمة إذا كان خلقها في ستة أيام، فسيلحقه التعب، فقال: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، أي: من تعب وإعياء. فتبين بهذا أن النفي لا يرد في صفات الله عز وجل إلا على سبيل العموم أو على سبيل الخصوص لسبب، لأن صفات السلب لا تتضمن الكمال إلا إذا كانت متضمنة لإثبات، ولهذا نقول: الصفات السلبية التي نفاها الله عن نفسه متضمنة لثبوت كمال ضدها، فقوله {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ}: متضمن كمال القوة والقدرة وقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]: متضمن لكمال العدل وقوله: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 85]: متضمن لكمال العلم والإحاطة .. وهلم جراً، فلا بد أن تكون الصفة المنفية متضمنة لثبوت، وذلك الثبوت هو كمال ضد ذلك المنفي وإلا، لم تكن مدحاً. لا يوجد في الصفات المنفية عن الله نفي مجرد لأن النفي المجرد عدم والعدم ليس بشيء، فلا يتضمن مدحاً ولا ثناء، ولأنه قد يكون للعجز عن تلك الصفة فيكون ذماً، وقد يكون

لعدم القابلية، فلا يكون مدحاً ولا ذماً. مثال الأول الذي للعجز قول الشاعر (¬1): قبيلة لا يغدرون بذمة ... ولا يظلمون الناس حبة خردل ومثال الثاني الذي لعدم القابلية: أن تقول: إن جدرانا لا يظلم أحداً. والواجب علينا نحو هذه الصفات التي أثبتها الله لنفسه والتي نفاها أن نقول: سمعنا وصدقنا وآمنا. هذه هي الصفات فيها مثبت وفيها منفي، أما الأسماء فكلها مثبتة. لكن أسماء الله تعالى المثبتة منها ما يدل على معنى إيجابي، ومنها ما يدل على معني سلبي، وهذا هو مورد التقسيم في النفي والإثبات بالنسبة لأسماء الله. فمثال التي مدلولها إيجابي كثير. ومثال التي مدلولها سلبي: السلام. ومعنى السلام، قال العلماء: معناه: السالم من كل عيب. إذاً، فمدلوله سلبي، بمعنى: ليس فيه نقص ولا عيب، وكذلك القدوس قريب من معنى السلام، لأن معناه المنزه عن كل نقص وعيب. فصارت عبارة المؤلف سليمة وصحيحة وهو لا يريد بالنسبة ¬

_ (¬1) القائل هو النجاشي الحارثي واسمه قيس بن عمرو, " الشعر والشعراء" (1/ 288)

قوله: "فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون"

للأسماء أن هناك أسماء منفية، لأن الاسم المنفي ليس باسم لله، لكن مراده أن مدلولات أسماء الله ثبوتية وسلبية. * قوله: "فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون؛ فإنه الصراط المستقيم, صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين". الشرح: قوله: "فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون": العدول معناه الانصراف والانحراف، فأهل السنة والجماعة لا يمكن أن يعدلوا عما جاءت به الرسل. وإنما جاء المؤلف بهذا النفي، ليبين أنهم لكمال اتباعهم رضي الله عنهم لا يمكن أن يعدلوا عما جاءت به الرسل، فهم مستمسكون تماماً، وغير منحرفين إطلاقاً، عما جاءت به الرسل، بل طريقتهم أنهم يقولون: سمعنا وأطعنا في الأحكام وسمعنا وصدقنا في الأخبار. وقوله: "عما جاء به المرسلون": ما جاء به محمد عليه الصلاة والسلام والواضح أننا لا نعدل عنه، لأنه خاتم النبيين، وواجب على جميع العباد أن يتبعوه، لكن ما جاء عن غيره، هل لأهل السنة والجماعة عدول عنه؟ لا عدول لهم عنه، لأن ما جاء عن الرسل عليهم الصلاة والسلام في باب الأخبار لا يختلف،

لأنهم صادقون ولا يمكن أن ينسخ، لأنه خبر، فكل ما أخبرت به الرسل عن الله عز وجل، فهو مقبول وصدق ويجب الإيمان به. مثلاً: قال موسى لفرعون لما قال له: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 51 - 52]، فنفى عن الله الجهل والنسيان، فنحن يجب علينا أن نصدق بذلك، لأنه جاء به رسول من الله {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49 - 50]، فلو سألنا سائل: من أين علمنا أن الله أعطى كل شيء خلقه؟ فنقول: من كلام موسى، فنؤمن بذلك، ونقول: أعطى كل شيء خلقه اللائق به، فالإنسان على هذا الوجه، والبعير على هذا الوجه، والبقرة على هذا الوجه، والضأن على هذا الوجه، ثم هدى كل مخلوق إلى مصالحه ومنافعه، فكل شيء يعرف مصالحه ومنافعه، فالنملة في أيام الصيف تدخر قوتها في جحورها، ولكن لا تدخر الحب كما هو، بل تقطم رؤوسه، لئلا ينبت، لأنه لو نبت، لفسد عليها، وإذا جاء المطر وابتل هذا الحب الذي وضعته في الجحور، فإنها لا تبقيه يأكله العفن والرائحة، بل تنشره خارج جحرها حتى ييبس من الشمس والريح، ثم تدخله! لكن يجب التنبيه إلى أن ما نسب للأنبياء السابقين يحتاج فيه إلى صحة النقل، لاحتمال أن يكون كذباً، كالذي نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى. وقوله رحمه الله: "عما جاء به المرسلون" هل يشمل هذا الأحكام أو أن الكلام الآن في باب الصفات، فيختص بالأخبار؟

الأحكام التي للرسل السابقين اختلف فيه العلماء

إن نظرنا إلى عموم اللفظ، قلنا: يشمل الأخبار والأحكام. وإن نظرنا إلى السياق، قلنا: القرينة تقتضي أن الكلام في باب العقائد وهي من باب الأخبار. ولكن نقول: إن كان كلام شيخ الإسلام رحمه الله خاصاً بالعقائد، فهو خاص، وليس لنا فيه كلام. وإن كان عاماً، فهو يشمل الأحكام. والأحكام التي للرسل السابقين اختلف فيها العلماء: هل هي أحكام لنا إذا لم يرد شرعنا بخلافها، أو ليست أحكاماً لنا؟ والصحيح أنها أحكام لنا، وأن ما ثبت عن الأنبياء السابقين من الأحكام، فهو لنا، إلا إذا ورد شرعنا بخلافه، فإذا ورد شرعنا بخلافه، فهو على خلافه، فمثلاً: السجود عند التحية جائز في شريعة يوسف ويعقوب وبنيه، لكن في شريعتنا محرم، كذلك الإبل حرام على اليهود: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] ولكن هي في شريعتنا حلال. فإذاً، يمكن أن نحمل كلام شيخ الإسلام رحمه الله على أنه عام في الأخبار والأحكام، وأن نقول: ما كان في شرع الأنبياء من الأحكام، فهو لنا، إلا بدليل. ولكن يبقى النظر: كيف نعرف أن هذا من شريعة الأنبياء

قوله: "فإنه الصراط المستقيم. . . ."

السابقين؟ نقول: لنا في ذلك طريقان: الطريق الأول: الكتاب، والطريق الثاني: السنة. فما حكاه الله في كتابه عن الأمم السابقين، فهو ثابت وما حكاه النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، فهو أيضاً ثابت. والباقي لا نصدق ولا نكذب، إلا إذا ورد شرعنا بتصديق ما نقل أهل الكتاب، فإننا نصدقه، لا لنقلهم، ولكن لما جاء في شريعتنا. وإذا ورد شرعنا بتكذيب أهل الكتاب، فإننا نكذبه، لأن شرعنا كذبه. فالنصارى يزعمون بأن المسيح ابن الله، فنقول: هذا كذب، واليهود يقولون: عزير ابن الله، فنقول: هذا كذب. قوله رحمه الله: "فإنه الصراط المستقيم": (فإنه): الضمير يعود على ما جاءت به الرسل ويمكن أن يعود على طريق أهل السنة والجماعة وهو الاتباع وعدم العدول عنه، فما جاءت به الرسل وما ذهب إليه أهل السنة والجماعة وهو الاتباع وعدم العدول عنه، فما جاءت به الرسل وما ذهب إليه أهل السنة والجماعة: هو الصراط المستقيم. (صراط): على وزن فعال، بمعنى: مصروط، مثل: فراش، بمعنى: مفروش، وغراس، بمعنى: مغروس، فهو بمعنى اسم المفعول. والصراط إنما يقال للطرق الواسع المستقيم مأخوذ من الزرط وهو بلع اللقمة بسرعة، لأن الطريق إذا كان واسعاً، لا يكون فيه ضيق يتعثر الناس فيه، فالصراط يقولون في تعريفه: كل طريق واسع ليس فيه صعود ولا نزول ولا اعوجاج.

قوله: "صراط الذين أنعم الله عليهم. . . ."

إذاً، الطريق الذي جاءت به الرسل هو الصراط المستقيم، الذي ليس فيه عوج ولا أمت، طريق مستقيم ليس فيه انحراف يميناً ولا شمالاً: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153]. وعليه، فيكون المستقيم صفة كاشفة على تفسيرنا الصراط بأنه الطريق الواسع الذي لا اعوجاج فيه، لأن هذا هو المستقيم أو يقال: إنها صفة مقيدة، لأن بعض الصراط قد يكون غير مستقيم كما قال تعالى {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات: 23 - 24]، وهذا الصراط غير مستقيم. قوله: "صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين": "صراط الذين أنعم الله عليهم"، أي طريقهم وأضافه إليهم لأنهم سالكوه، فهم الذين يمشون فيه، كما أضافه الله إلى نفسه أحياناً: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [الشورى: 52 - 53]، باعتبار أنه هو الذي شرعه ووضعه لعباده، وأنه موصل إليه، فهو صراط الله باعتبارين وصراط المؤمنين باعتبار واحد، صراط الله باعتبارين هما: أنه وضعه لعباده، وأنه موصل إليه وصراط المؤمنين، لأنهم هم الذين يسلكونه وحدهم. وقوله: "الذين أنعم الله عليهم": النعمة: كل فضل وإحسان من الله عز وجل على عباده، فهو نعمة وكل ما بنا من نعمة، فهو من الله، ونعم الله قسما: عامة وخاصة، والخاصة أيضاً قسمان خاصة، وخاصة أعم.

الذين أنعم الله عليهم أربعة أصناف

فالعامة: هي التي تكون للمؤمنين وغير المؤمنين ولهذا، لو سألنا سائل: هل لله على الكافر نعمة؟ قلنا: نعم، لكنها نعمة عامة وهي نعمة ما تقوم به الأبدان لا ما تصلح به الأديان، مثل الطعام والشراب والكسوة والمسكن وما أشبه ذلك، فهذه يدخل فيها المؤمن والكافر. والنعمة الخاصة: ما تصلح به الأديان من الإيمان والعلم والعمل الصالح، فهذه خاصة بالمؤمنين، وهي عامة للنبيين والصديقين، كالشهداء والصالحين. ولكن نعمة الله على النبيين والرسل نعمة هي أخص النعم، واستمع إلى قوله تعالى {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113]، فهذه النعمة التي هي أخص لا يلحق المؤمنين فيها النبيين، بل هم دونهم. وقوله: "صراط الذين أنعم الله عليهم": هي كقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 6 - 7]. فمن هم الذين أنعم الله عليهم؟ قسرها تعالى بقوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، فهؤلاء أربعة أصناف.

تعريف الصديق

أولا: النبيون, وهم كل من أوحى الله إليهم ونبأهم فهو داخل في هذه الآية: فيشمل الرسل، لأن كل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً وعلى هذا فيكون النبيون شامالً للرسل أولي العزم وغيرهم شاملاً أيضاً للنبيين الذين لم يرسلوا وهؤلاء أعلى أصناف الخلق. ثانيا: الصديقون, جمع صديق على وزن فعيل صيغة مبالغة. فمن هو الصديق؟ أحسن ما يفسر به الصديق قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، وقال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19]، فمن حقق الإيمان ـ ولا يتم تحقيق الإيمان إلا بالصدق والتصديق ـ فهو صديق: الصدق في العقيدة: بالإخلاص، وهذا أصعب ما يكون على المرء حتى قال بعض السلف: ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص، فلا بد من الصدق في المقصد ـ وهو العقيدة ـ والإخلاص لله عز وجل. الصدق في المقال: لا يقول إلا ما طابق الواقع، سواء على نفسه أو على غيره، فهو قائم بالقسط على نفسه وعلى غيره، أبيه وأمه وأخيه وأخته .. وغيرهم. الصدق في الفعال: وهي أن تكون أفعاله مطابقة لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ومن صدق الفعال أن تكون تابعة عن إخلاص، فإن لم تكن نابعة عن إخلاص، لم تكن صادقة, لأن فعله يخالف قوله. فالصديق إذاً من صدق في معتقده وإخلاصه وإرادته، وفي

تعريف الشهداء

مقاله وفي فعاله. وأفضل الصديقين على الإطلاق أبو بكر رضي الله عنه، لأن أفضل الأمم هذه الأمة، وأفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر رضي الله عنه. والصديقية مرتبة تكون للرجال والنساء، قال الله تعالى في عيسى ابن مريم: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75]، ويقال: الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها، والله تعالى يمن على من يشاء من عباده. أما الشهداء قيل: هم الذين قتلوا في سبيل الله، لقوله: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} وقيل: العلماء، لقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران: 18]، فجعل أهل العلم شاهدين بما شهد الله لنفسه ولأن العلماء يشهدون للرسل بالبلاغ وعلى الأمة بالتبليغ ولو قال قائل: الآية عامة لمن قتلوا في سبيل الله تعالى وللعلماء، لأن اللفظ صالح للوجهين، ولا يتنافيان، فيكون شاملاً للذين قتلوا في سبيل الله وللعلماء الذين شهدوا لله بالوحدانية وشهدوا للنبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ وشهدوا على الأمة بأنها بلغت. أما الصالحون يشمل كل الأنواع الثلاثة السابقة ومن دونهم في المرتبة، فالأنبياء صالحون، والصديقون صالحون، والشهداء صالحون، فعطفها من باب عطف العام على الخاص. والصالحون هم الذين قاموا بحق الله وحق عباده، لكن لا

قوله: "وقد دخل في هذه الجملة. . . ."

على المرتبة السابقة ـ النبوة والصديقية والشهادة ـ، فهم دونهم في المرتبة. هذا الصراط الذي جاءت به الرسل هو صراط هؤلاء الأصناف الأربعة، فغيرهم لا يمشون على ما جاءت به الرسل. قوله: "وقد دخل في هذه الجملة ما وصف الله به نفسه في سورة الإخلاص التي تعدل ثلث القرآن, حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4] ". الشرح: قوله: "دخل في هذه الجملة" يحتمل أنه يريد بها قوله: "وهو قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات" ويحتمل أن يريد ما سبق من أن أهل السنة والجماعة يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله، وأياً كان، فإن هذه السورة وما بعدها داخلة في ضمن ما سبق، من أن الله تعالى جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات وأن أهل السنة يؤمنون بذلك. قوله: "في سورة الإخلاص": (السورة): هي عبارة عن آيات من كتاب الله مسورة، أي منفصلة عما قبلها وعما بعدها، كالبناء الذي أحاط به السور.

الكلام على سورة الإخلاص

وقوله: "سورة الإخلاص": إخلاص الشيء، بمعنى: تنقيته، يعني: التي نقيت ولم يشبهها شيء وسميت بذلك، قيل: لأنها تتضمن الإخلاص لله عز وجل، وأن من آمن بها، فهو مخلص فتكون بمعنى مخلصة لقارئها، أي أن الإنسان إذا قرأها مؤمناً بها، فقد أخلص لله عز وجل وقيل لأنها مخلصة ـ بفتح اللام ـ، لأن الله تعالى أخلصها لنفسه، فلم يذكر فيها شيئاً من الأحكام ولا شيئاً من الأخبار عن غيره، بل هي أخبار خاصة بالله والوجهان صحيحان، ولا منافاة بينهما. وقوله: "التي تعدل ثلث القرآن": الدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: "أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلية؟ ". فشق ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: "الله الواحد الصمد ثلث القرآن" (¬1). فهذه السورة تعدل ثلث القرآن في الجزاء لا في الإجزاء، وذلك كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن: "من قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات فكأنما أعتق أربع أنفس من بني إسماعيل" (¬2) , فهل يجزئ ذلك عن إعتاق أربع رقاب ممن وجب عليه ذلك وقال ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5015) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في كتاب فضائل القرآن/ باب فضل {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. ومسلم (811) عن أبي الدرداء رضي الله عنه في كتاب صلاة المسافرين/ باب فضل قراءة قل هو الله أحد. (¬2) رواه البخاري (6404) كتاب الدعوات/ باب فضل التهليل. ومسلم (2693) عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه في كتاب الذكر والدعاء/ باب فضل التهليل.

سبب نزولها

هذا الذكر عشر مرات؟ فنقول: لا يجزئ. أما في الجزاء، فتعدل هذا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فلا يلزم من المعادلة في الجزاء المعادلة في الإجزاء. ولهذا، لو قرأ سورة الإخلاص في الصلاة ثلاث مرات، لم تجزئه عن قراءة الفاتحة. قال العلماء: ووجه كونها تعدل ثلث القرآن: أن مباحث القرآن خبر عن الله وخبر عن المخلوقات، وأحكام، فهذه ثلاثة: 1 - خبر عن الله: قالوا: إن سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تتضمنه. 2 - خبر عن المخلوقات، كالإخبار عن الأمم السابقة، والإخبار عن الحوادث الحاضرة، وعن الحوادث المستقبلة. 3 - والثالث: أحكام، مثل: أقيموا، آتوا، لا تشركوا .. وما أشبه ذلك. وهذا هو أحسن ما قيل في كونها تعدل ثلث القرآن. قوله: "حيث يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} ": {قُلْ}: الخطاب لكل من يصح خطابه. وسبب نزول هذه السورة: أن المشركين قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: صف لنا ربك؟ فأنزل الله هذه السورة (¬1)، وقيل: ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 133)، والواحدي في "أسباب النزول" (262) والترمذي (3364) , والبيهقي في "الأسماء والصفات" رقم (50 و 607 و 608) , وان حزيمة في "التوحيد" (45) , الدارمي في "الرد على الجهميةبرقم (28) من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه, وقال الحافظ في "الفتح": أخرجه البيهقي بسند جيد (13/ 356) , وصححه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" (268).

معنى الله

بل اليهود هم الذين زعموا أن الله خلق من كذا ومن كذا مما يقولون من المواد، فأنزل الله هذه السورة (¬1). سواء صح السبب أم لم يصح، فعلينا إذا سئلنا أي سؤال عن الله نقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ}. (2) {هُوَ}: ضمير وأين مرجعه؟ قيل: إن مرجعه المسؤول عنه، كأنه يقول: الذي سألتم عنه الله وقيل: هو ضمير الشأن و {اللَّهُ}: مبتدأ ثان و {أَحَدٌ}: خبر المبتدأ الثاني، وعلى الوجه الأول تكون {هُوَ}: مبتدأ، {اللَّهُ} خبر المبتدأ، {أَحَدٌ}: خبر ثان. ومعنى {اللَّهُ}: هو العلم على ذات الله، المختص بالله عز وجل، لا يتسمى به غيره وكل ما يأتي بعده من أسماء الله فو تابع له إلا نادراً، ومعنى {اللَّهُ}: الإله، وإله بمعنى مألوه أي: معبود، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال، وكما في (الناس)، ¬

_ (¬1) رواه أبو الشيخ في كتاب "العظمة" (86) , وفي إسناده يحيي بن عبد الله البابلتي ضعيف كما في "التقريبب", وفيه أيضاً أبان بن أبي عياش متروك, كما في "التقريب", والحديث عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 504) لأبي بكر السمرقندي في "فضائل قل هو الله أحد".رواه الواحدي في "أسباب النزول" (262).

معنى الصمد

وأصلها: الأناس، وكما في: هذا خير من هذا، وأصله: أخير من هذا لكن لكثرة الاستعمال حذفت الهمزة، فالله عز وجل {أَحَدٌ}. {أَحَدٌ}: لا تأتي إلا في النفي غالباً أو في الإثبات في أيام الأسبوع، يقال: الأحد، الإثنين .. لكن تأتي في الإثبات موصوفاً بها الرب عز وجل لأنه سبحانه وتعالى أحد، أي: متوحد فيما يختص به في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، {أَحَدٌ}، لا ثاني له ولا نظير له ولا ند له. قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ}: هذه جملة مستأنفة بعد أن ذكر الأحدية ذكر الصمدية، وأتى بها بجملة معرفة في طرفيها، لإفادة الحصر، أي: الله وحده الصمد. فما معنى الصمد؟ قيل: إن {الصَّمَدُ}: هو الكامل، في علمه في قدرته، في حكمته، في عزته، في سؤدده، في كل صفاته. وقيل: {الصَّمَدُ}: الذي لا جوف له، يعني لا أمعاء ولا بطن، ولهذا قيل: الملائكة صمد، لأنهم ليس لهم أجواف، لا يأكلون ولا يشربون. هذا المعنى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما (¬1) , ولا ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "السنة" (665) بسند ضعيف عن ابن عباس. وقد صح عن المجاهد؛ الصمد: الذي لاجوف له, كما في "السنة" لابن أبي عاصم (673) وصححه ابن كثير وقفه على عبد الله بن بريدة.

ينافي المعنى الأول، لأنه يدل على غناه بنفسه عن جميع خلقه، وقيل {الصَّمَدُ} يمعنى المفعول، أي: المصمود إليه، أي الذي تصمد إليه الخلائق في حوائجها، بمعنى: تميل إليه وتنتهي إليه وترفع إليه حوائجها، فهو بمعنى الذي يحتاج إليه كل أحد. هذه الأقاويل لا ينافي بعضها بعضاً فيما يتعلق بالله عز وجل، ولهذا نقول: إن المعاني كلها ثابتة، لعدم المنافاة فيما بينها. ونفسره بتفسير جامع فنقول: {الصَّمَدُ}: هو الكامل في صفاته الذي افتقرت إليه جميع مخلوقاته، فهي صامدة إليه. وحينئذ يتبين لك المعنى العظيم في كلمة {الصَّمَدُ}: أنه مستغن عن كل ما سواه، كامل في كل ما يوصف به، وأن جميع ما سواه مفتقر إليه. فلو قال لك قائل: إن الله استوى على العرش، هل استواؤه على العرش بمعنى أنه مفتقر إلى العرش بحيث لو أزيل لسقط؟ فالجواب: لا، كلا، لأن الله صمد كامل غير محتاج إلى العرش، بل العرش والسماوات والكرسي والمخلوقات كلها محتاجة إلى الله، والله في غنى عنها فنأخذه من كلمة {الصَّمَدُ}. لو قال قائل: هل الله يأكل أو يشرب؟ أقول: كلا، لأن الله صمد. وبهذا نعرف أن {الصَّمَدُ} كلمة جامعة لجميع صفات

معنى لم يلد ولم يولد

الكمال لله وجامعة لجميع صفات النقص في المخلوقات وأنها محتاجة إلى الله عز وجل. ثم قال: " {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ": هذا تأكيد للصمدية والوحدانية، وقلنا: توكيد، لأننا نفسهم هذا مما سبق فيكون ذكره توكيداً لمعنى ما سبق وتقريراً له، فهو لأحديته وصمديته لم يلد، لأن الولد يكون على مثل الوالد في الخلقة، في الصفة وحتى الشبه. لما جاء مجزز المدلجي إلى زيد بن حارثة وابنة أسامة، وهما ملتحفان برداء، قد بدت أقدامها، نظر إلى القدمين. فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض (¬1). فعرف ذلك بالشبه. فلكمال أحديته وكمال صمديته {لَمْ يَلِدْ} والوالد محتاج إلى الولد بالخدمة والنفقة ويعينه عند العجز ويبقي نسله. {وَلَمْ يُولَدْ} , لأنه لو ولد، لكان مسبوقاً بوالد مع أنه جل وعلا هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الخالق وما سواه مخلوق، فكيف يولد؟ وإنكار أنه ولد أبلغ من العقول من إنكار أنه والد ولهذا لم يدع أحد أن لله ولداً. وقد نفى الله هذا وهذا وبدأ ينفي الولد، لأهمية الرد على مدعيه بل قال: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91]، حتى ولو ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6770) كتاب الفرائض/ باب القائف. ومسلم (1459) عن عائشة رضي الله عنها في كتاب الرضاع/ باب العمل بإلحاق القائف الولد.

سورة الإخلاص اشتملت على صفات ثبوتية وصفات فعلية

بالتسمي، فهو لم يلد ولم يتخذ ولداً، بنو آدم قد يتخذ الإنسان منهم ولداً وهو لم يلده بالتبني أو بالولاية أو بغير ذلك، وإن كان التبني غير مشروع، أما الله عز وجل، فلم يلد ولم يولد، ولما كان يرد على الذهن فرض أن يكون الشيء لا والداً ولا مولوداً لكنه متولد، نفى هذا الوهم الذي قد يرد، فقال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، وإذا انتفى أن يكون له كفواً أحد، لزم أن لا يكون متولداً {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}، أي: لا يكافئه أحد في جميع صفاته. في هذه السورة: صفات ثبوتية وصفات سلبية: الصفات الثبوتية: {اللَّهُ} التي تتضمن الألوهية، {أَحَدٌ} تتضمن الأحدية {الصَّمَدُ} تتضمن الصمدية. والصفات السلبية: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}. ثلاثة إثبات، وثلاث نفي وهذا النفي يتضمن من الإثبات كمال الأحدية والصمدية. قوله: "وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله حيث يقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ

الدليل على أن آية الكرسي أعظم آية

وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] ". الشرح: قوله: "وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله" وهذه الآية تسمى آية الكرسي، لأن فيها ذكر الكرسي: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255]، وهي أعظم آية في كتاب الله. والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبي بن كعب، قال: "أي آية في كتاب الله أعظم؟ " فقال له: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فضرب على صدره، وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر" (¬1). يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره بأن هذه أعظم آية في كتاب الله، وأن هذا دليل على علم أبي في كتاب الله عز وجل. وفي هذا الحديث دليل على أن القرآن يتفاضل، كما دل عليه حديث سورة الإخلاص، وهذا موضع يجب فيه التفصيل، فإننا نقول: أما باعتبار المتكلم به، وهذا موضع يجب فيه التفصيل، فإننا نقول: أما باعتبار المتكلم به، فإنه لا يتفاضلن لأن المتكلم به واحد وهو الله عز وجل، وأما باعتبار مدلولاته وموضوعاته فإنه يتفاضل، فسورة الإخلاص التي فيها الثناء على الله عز وجل بما تضمنته من الأسماء والصفات ليست كسورة المسد التي فيها بيان حال أبي لهب من حيث الموضوع كذلك، يتفاضل من حيث التأثير والقوة في الأسلوب، فإن من الآيات ما تجدها آية قصيرة ¬

_ (¬1) رواه مسلم (810) عن أبي بن كعب رضي الله عنه في كتاب صلاة المسافرين/ باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.

تفسير آية الكرسي

لكن فيها ردع قوي للقلب وموعظة، وتجد آية أخرى أطول منها بكثير لكن لا تشتمل على ما تشتمل عليه الأولى، فمثلاً قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .. إلخ، هذه آية موضوعها سهل، والبحث فيها في معاملات تجري بين الناس وليس فيها ذاك التأثير الذي يؤثره مثل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، فهذه تحمل معاني عظيمة، فيها زجر وموعظة وترغيب وترهيب، ليست كآية الدين مثلاً مع أن آية الدين أطول منها. قول المؤلف: "حيث يقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ": في هذه الآية يخبر الله بأنه منفرد بالألوهية، وذلك من قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ ...}، لأن هذه جملة تفيد الحصر وطريقة النفي والإثبات هذه من أقوى صيغ الحصر. وقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}: {الْحَيُّ} أي: ذو الحياة الكاملة المتضمنة لجميع صفات الكمال لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا يعتريها نقص بوجه من الوجوه. و {الْحَيُّ} من أسماء الله، وقد تطلق على غير الله، قال تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام: 95]، ولكن ليس الحي كالحي، ولا يلزم من الاشتراك في الاسم التماثل في المسمى. {الْقَيُّومُ} على وزن فيعول، وهذه من صيغ المبالغة، وهي

مأخوذة من القيام. ومعنى {الْقَيُّومُ}، أي: أنه القائم بنفسه، فقيامه بنفسه يستلزم استغناءه عن كل شيء، لا يحتاج إلى أكل ولا شرب ولا غيرها، وغيره لا يقوم بنفسه بل هو محتاج إلى الله عز وجل في إيجاده وإعداده وإمداده. ومن معنى {الْقَيُّومُ} كذلك أنه قائم على غيره لقوله تعالى {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]، والمقابل محذوف تقديره: كمن ليس كذلك، والقائم على كل نفس بما كسبت هو الله عز وجل ولهذا يقول العلماء القيوم هو القائم على نفسه القائم على غيره، وإذا كان قائماً على غيره، لزم أن يكون غيره قائماً به، قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]، فهو إذاً كامل الصفات وكامل الملك والأفعال. وهذان الاسمان هما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ولهذا ينبغي للإنسان في دعائه أن يتوسل به، فيقول: يا حي! يا قيوم! وقد ذكرا في الكتاب العزيز في ثلاثة مواضع: هذا أحدها، والثاني في سورة آل عمران: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]، والثالث سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ

الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه: 111]. هذان الاسمان فيهما الكمال الذاتي والكمال السلطاني، فالذاتي في قوله: {الْحَيُّ} والسلطاني في قوله: {الْقَيُّومِ}، لأنه يقوم على كل شيء ويقوم به كل شيء. قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}: والسنة النعاس وهي مقدمة النوم ولم يقل: لا ينام، لأن النوم يكون باختيار، والأخذ يكون بالقهر. والنوم من صفات النقص، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام" (¬1) لنقصها، لأنها تحتاج إلى النوم من أجل الاستراحة من تعب سبق واستعادة القوة لعمل مستقبل، ولما كان أهل الجنة كاملي الحياة، كانوا لا ينامون، كما صحت بذلك الآثار. لكن لو قال قائل: النوم في الإنسان كمال، ولهذا، إذا لم ينم الإنسان، عد مريضاً. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (179) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب الإيمان/ باب قوله عليه السلام: "إن الله لا ينام .. ".

فنقول: كالأكل في الإنسان كمال ولو لم يأكل، عد مريضاً لكن هو كمال من وجه ونقص من وجه آخر، كمال لدلالته على صحة البدن واستقامته ونقص لأن البدن محتاج إليه، وهو في الحقيقة نقص. إذاً ليس كل كمال نسبي بالنسبة للمخلوق يكون كمالاً للخالق، كما أنه ليس كل كمال في الخالق يكون كمالاً في المخلوق، فالتكبر كمال في الخالق نقص في المخلوق والأكل والشرب والنوم كمال في المخلوق نقص في الخالق، ولهذا قال الله تعالى عن نفسه: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14]. وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}: {لَهُ}: خبر مقدم. {وَمَا}: مبتدأ مؤخر، ففي الجملة حصر، طريقة تقديم ما حقة التأخير وهو الخبر. {لَهُ}: اللام هذه للملك. ملك تام، بدون معارض. {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}: من الملائكة والجنة وغير ذلك مما لا نعلمه {وَمَا فِي الأَرْضِ}: من المخلوقات كلها الحيوان منها وغير الحيوان. وقوله: {السَّمَاوَاتِ}: تفيد أن السماوات عديدة، وهو كذلك وقد نص القرآن على أنها سبع {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86]. والأرضون أشار القرآن إلى أنها سبع بدون تصريح، وصرحت، بها السنة، قال الله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، مثلهن في العدد دون الصفة وفي

السنة قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً، طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين" (¬1). وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ}: {مَنْ ذَا} اسم استفهام أو نقول: {مَنْ} اسم استفهام، و {ذَا}: ملغاة، ولا يصح أن تكون {ذَا}: اسماً موصولاً في مثل هذا التركيب، لأنه يكون معنى الجملة: من الذي الذي! وهذا لا يستقيم. وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} الشفاعة في اللغة: جعل الوتر شفعاً، قال تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3]. وفي الاصطلاح: هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، فمثلاً: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف أن يقضى بينهم: هذه شفاعة بدفع مضرة، وشفاعته لأهل الجنة أن يدخلوها بجلب منفعة. وقوله: " {عِنْدَهُ} أي: عند الله. {إِلاّ بِإِذْنِهِ}؛ أي: إذنه له وهذه تفيد إثبات الشفاعة، لكن بشرط أن يأذن ووجه ذلك أنه لولا ثبوتها، لكان الاستثناء في قوله {إِلاّ بِإِذْنِهِ}: لغواً لا فائدة فيه. وذكرها بعد قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ ...} يفيد أن هذا الملك الذي هو خاص بالله عز وجل، أنه ملك تام السلطان، بمعنى أنه لا أحد يستطيع أن يتصرف، ولا بالشفاعة التي هي خير، إلا بإذن الله، وهذا من تمام ربوبيته وسلطانه عز وجل. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2452) كتاب المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، ومسلم (1610) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه كتاب المساقاة/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض.

شروط الشفاعة وفائدتها

وتفيد هذه الجملة أن له إذناً والإذن في الأصل الإعلام، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3]، أي إعلام من الله ورسوله، فمعنى {بِإِذْنِهِ}، أي: إعلامه بأنه راض بذلك. وهناك شروط أخرى للشفاعة: منها: أن يكون راضياً عن الشافع وعن المشفوع له، قال الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال: {يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109]. وهناك آية تنتظم الشروط الثلاثة {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، أي: يرضى عن الشافع والمشفوع له، لأن حذف المعمول يدل على العموم. إذا قال قائل: ما فائدة الشفاعة إذا كان الله تعالى قد علم أن هذا المشفوع له ينجو؟ فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى يأذن بالشفاعة لمن يشفع من أجل أن يكرمه وينال المقام المحمود. وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً، والله عز وجل {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} المستقبل، {وَمَا خَلْفَهُمْ} الماضي، وكلمة {مَا} من صيغ العموم تشمل كل ماض وكل مستقبل، وتشمل أيضاً ما كان من فعله وما كان من أفعال الخلق. وقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ}: الضمير في

الكرسي موضع قدمي الله -عز وجل-

{يُحِيطُونَ} يعود على الخلق الذي دل عليهم قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}، يعني لا يحيط من في السماوات والأرض بشيء من علم الله إلا بما شاء. وقوله: {مِنْ عِلْمِهِ}: يحتمل من علم ذاته وصفاته، يعني: أننا لا نعلم شيئاً عن الله وذاته وصفاته إلا بما شاء مما علمنا إياه ويحتمل أن (علم) هنا بمعنى معلوم، يعني: لا يحيطون بشيء من معلومه، أي: مما يعلمه، إلا بما شاءه، وكلا المعنيين صحيح وقد نقول: إن الثاني أعم، لأن معلومه يدخل فيه علمه بذاته وبصفاته وبما سوى ذلك. وقوله: {إِلاّ بِمَا شَاءَ}: يعني: إلا بما شاء مما علمهم إياه، وقد علمنا الله تعالى أشياء كثيرة عن أسمائه وصفاته وعن أحكامه الشرعية، ولكن هذا الكثير هو بالنسبة لمعلومه قليل، كما قال الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85]. وقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}: بمعنى شمل، يعني: أن كرسيه محيط بالسماوات والأرض، وأكبر منها، لأنه لولا أنه أكبر ما وسعها. والكرسي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنه موضع

قدمي الله عز وجل" (¬1)، وليس هو العرش، بل العرش أكبر من الكرسي وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أن السماوات والسبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة" (¬2). هذا يدل على عظم هذه المخلوقات وعظم المخلوق يدل على عظم الخالق. قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}: يعني: لا يثقله ويكرثه حفظ السماوات والأرض. وهذه من الصفات المنفية، والصفة الثبوتية التي يدل عليها هذا النفي هي كمال القدرة والعلم والقوة والرحمة. وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}: {الْعَلِيُّ} على وزن فعيل، ¬

_ (¬1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" (586)، وابن أبي شيبة في كتاب "العرش" (61)، وابن خزيمة في "التوحيد" (248)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 282) وقال: صحيح عن شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه الدارقطني في كتاب "الصفات" (36) عن ابن عباس موقوفاً عليه، وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (6/ 323) للطبراني، وقال: رجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في "مختصر العلو" (45): إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات. (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب "العرش" رقم (58)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (862) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وابن مردويه كما عند ابن كثير (1/ 309) والحديث صححه الألباني في السلسة الصحيحة برقم (109) وقال: إنه لا يصح حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة العرش إلا هذا الحديث.

آية الكرسي تتضمن خمسة أسماء لله وستة وعشرين صفة

وهي صفة مشبهة، لأن علوه عز وجل لازم لذاته، والفرق بين الصفة المشبهة واسم الفاعل أن اسم الفاعل طارئ حادث يمكن زواله، والصفة المشبهة لازمة لا ينفك عنها الموصوف. وعلو الله عز وجل قسمان: علو ذات، وعلو صفات: فأما علو الذات، فإن معناه أنه فوق كل شيء بذاته، ليس فوقه شيء ولا حذاءه شيء. وأما علو الصفات، فهي ما دل عليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60]، يعني: أن صفاته كلها علياً، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه. أما {الْعَظِيمُ}، أيضاً صفة مشبهة، ومعناها: ذو العظمة، وهي القوة والكبرياء وما أشبه ذلك مما هو معروف من مدلول هذه الكلمة. وهذه الآية تتضمن من أسماء الله خمسة وهي: الله، الحي، القيوم، العلي، العظيم. وتتضمن من صفات الله ستاً وعشرين صفة منها خمس صفات تضمنتها هذه الأسماء. السادسة: انفراده بالألوهية. السابعة: انتفاء السنة والنوم في حقه، لكمال حياته وقيوميته. الثامنة: عموم ملكه، لقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}.

التاسعة: انفارد الله عز وجل بالملك، ونأخذه من تقديم الخبر. العاشرة: قوة السلطان وكماله، لقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ}. الحادية عشرة: إثبات العندية، وهذا يدل على أنه ليس في كل مكان، ففيه الرد على الحلولية. الثانية عشرة: إثبات الإذن من قوله: {إِلاّ بِإِذْنِهِ}. الثالثة عشرة: عموم علم الله تعالى لقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}. الرابعة عشرة والخامسة عشرة: أنه سبحانه وتعالى لا ينسى ما مضى، لقوله: {وَمَا خَلْفَهُمْ} ولا يجهل ما يستقبل، لقوله {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}. السادسة عشرة: كمال عظمة الله، لعجز الخلق عن الإحاطة به. السابعة عشرة: إثبات الكرسي، وهو موضع القدمين. التاسعة عشرة والعشرون والحادية والعشرون: إثبات العظمة والقوة والقدرة، لقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}، لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق.

علو الله بذاته

الثانية والثالثة والرابعة والعشرون: كمال علمه ورحمته وحفظه، من قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}. الخامسة والعشرون: إثبات علو الله لقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى عال بذاته، وأن علوه من الصفات الذاتية الأزلية الأبدية. وخالف أهل السنة في ذلك طائفتان: طائفة قالوا: إن الله بذاته في كل مكان وطائفة قالوا: إن الله ليس فوق العالم ولا تحت العالم ولا في العالم ولا يمين ولا شمال ولا منفصل عن العالم ولا متصل. والذين قالوا بأنه في كل مكان استدلوا بقول الله تعالى: {وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، واستدلوا بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]، وعلى هذا، فليس عالياً بذاته، بل العلو عندهم علو صفة. أما الذين قالوا: إنه لا يوصف بجهة، فقالوا: لأننا لو وصفناه بذلك، لكان جسماً، والأجسام متماثلة، وهذا يستلزم التمثيل وعلى هذا، فننكر أن يكون في أي جهة. ولكننا نرد على هؤلاء وهؤلاء من وجهين:

الوجه الأول: إبطال احتجاجهم. والثاني: إثبات نقيض قولهم بالأدلة القاطعة. 1 - أما الأول، فنقول لمن زعموا أن الله بذاته في كل مكان: دعواكم هذه دعوى باطلة يردها السمع والعقل: - أما السمع، فإن الله تعالى أثبت لنفسه أنه العلي والآية التي استدللتم بها لا تدل على ذلك، لأن المعية لا تستلزم الحلول في المكان، ألا ترى إلى قول العرب: القمر معنا، ومحله في السماء؟ ويقول الرجل: زوجتي معي، وهو في المشرق وهي في المغرب؟ ويقول الضابط للجنود: اذهبوا إلى المعركة وأنا معكم، وهو في غرفة القيادة وهم في ساحة القتال؟ فلا يلزم من المعية أن يكون الصاحب في مكان المصاحب أبداً، والمعية يتحدد معناها بحسب ما تضاف إليه، فنقول أحياناً: هذا لبن معه ماء وهذه المعية اقتضت الاختلاط. ويقول الرجل متاعي معي، وهو في بيته غير متصل به، ويقول: إذا حمل متاعه معه: متاعي معي وهو متصل به. فهذه كلمة واحدة لكن يختلف معناها بحسب الإضافة، فبهذا نقول: معية الله عز وجل لخلقة تليق بجلاله سبحانه وتعالى، كسائر صفاته، فهي معية تامة حقيقية، لكن هو في السماء. - وأما الدليل العقلي على بطلان قولهم، فنقول: إذا قلت: إن الله معك في كل مكان، فهذا يلزم عليه لوازم باطلة، فيلزم عليه: أولاً: إما التعدد أو التجزؤ، وهذا لازم باطل بلا شك،

وبطلان اللازم يدل على بطلان اللزوم. ثانياً: نقول: إذا قلت: إنه معك في الأمكنه، لزم أن يزداد بزيادة الناس، وينقص بنقص الناس. ثالثاً: يلزم على ذلك ألا تنزهه عن المواضع القذرة، فإذا قلت: إن الله معك وأنت في الخلاء فيكون هذا أعظم قدح في الله عز وجل. فتبين بهذا أن قولهم مناف للسمع ومناف للعقل، وأن القرآن لا يدل عليه بأي وجه من الدلالات، لا دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام أبداً. 2 - أما الآخرون، فنقول لهم: أولاً: إن نفيكم للجهة يستلزم نفي الرب عز وجل، إذ لا نعلم شيئاً لا يكون فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال، ولا متصل ولا منفصل، إلا العدم، ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا صفوا الله بالعدم ما وجدنا أصدق وصفاً للعدم من هذا الوصف. ثانياً: قولكم: إثبات الجهة يستلزم التجسيم! نحن نناقشكم في كلمة الجسم: ما هذا الجسم الذي تنفرون الناس عن إثبات صفات الله من أجله؟! أتريدون بالجسم الشيء المكون من أشياء مفتقر بعضها إلى

بعض لا يمكن أن يقوم إلى باجتماع هذه الأجزاء؟! فإن أردتم هذا، فنحن لا نقره، ونقول: إن الله ليس بجسم بهذا المعنى، ومن قال: إن إثبات علوه يستلزم هذا الجسم، فقوله مجرد دعوى ويكفينا أن نقول: لا قبول. أما إن أردتم بالجسم الذات القائمة بنفسها المتصفة بما يليق بها، فنحن نثبت ذلك، ونقول: إن لله تعالى ذاتاً، وهو قائم بنفسه، متصف بصفات الكمال، وهذا هو الذي يعلم به كل إنسان. وبهذا يتبين بطلان قول هؤلاء الذين أثبتوا أن الله بذاته في كل مكان، أو أن الله تعالى ليس فوق العالم ولا تحته ولا متصل ولا منفصل ونقولك هو على عرشه استوى عز وجل. أما أدلة العلو التي يثبت بها نقيض قول هؤلاء وهؤلاء، والتي تثبت ما قاله أهل السنة والجماعة، فهي أدلة كثيرة لا تحصر أفرادها، وأما أنواعها، فهي خمسة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة. - أما الكتاب، فتنوعت أدلته على علو الله عز وجل منها التصريح بالعلو والفوقية وصعود الأشياء إليه ونزولها منه وما أشبه ذلك. - أما السنة، فكذلك، فتنوعت دلالتها، واتفقت السنة بأصنافها الثلاثة على علو الله بذاته، فقد ثبت علو الله بذاته في السنة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراراه.

- أما الإجماع، فقد أجمع المسلمون قبل ظهور هذه الطوائف المبتدعة على أن الله تعالى مستو على عرشه فوق خلقه. قال شيخ الإسلام: "ليس في كلام الله ولا رسوله، ولا كلام الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ما يدل لا نصاً ولا ظاهراً على أن الله تعالى ليس فوق العرش وليس في السماء، بل كل كلامهم متفق على أن الله فوق كل شيء". وأما العقل، فإننا نقول: كل يعلم أن العلو صفة كمال، وإذا كان صفة كمال، فإنه يجب أن يكون ثابتاً لله، لأن الله متصف بصفات الكمال، ولذلك نقولك إما أن يكون الله في أعلى أو في أسف أو في المحاذي، فالأسفل والمحاذي ممتنع، لأن الأسفل نقص في معناه، والمحاذي نقص لمشابهة المخلوق ومماثلته، فلم يبق إلا العلو، وهذا وجه آخر في الدليل العقلي. - وأما الفطرة، فإننا نقول: ما من إنسان يقول: يارب! إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو. فتطابقت الأدلة الخمسة. وأما علو الصفات، فهو محل إجماع من كل من يدين أو يتسمى بالإسلام. السادسة والعشرون: إثبات العظمة لله عز وجل، لقوله: {الْعَظِيمُ}.

تفسير قوله سبحانه: {هو الأول والآخر. . . .}

قول المؤلف: "ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة، لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح". الشرح: هذا طرف من حديث رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة استحفاظ النبي صلى الله عليه وسلم إياه على الصدقة، وأخذ الشيطان منها وقوله لأبي هريرة: "إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح فأخبر أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "إنه صدقك، وهو كذوب" (¬1). قول المؤلف: "وقوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] ". الشرح: "وقوله سبحانه": هذا معطوف على (سورة) في قول المؤلف: "ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص". {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}: هذه أربعة أسماء كلها متقابلة في الزمان والمكان، تفيد إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء أولاً وآخراً وكذلك في المكان ففيه الإحاطة الزمانية ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 137).

والإحاطة المكانية. {هُوَ الأَوَّلُ}: {الأَوَّلُ}: فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "الذي ليس قبله شيء" (¬1). وهنا فسر الإثبات بالنفي فجعل هذه الصفة الثبوتية صفة سلبية، وقد ذكرنا فيما سبق أن الصفات الثبوتية أكمل وأكثر، فلماذا؟ فنقول: فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، لتوكيد الأولية، يعني أنها مطلقة، أولية ليست أولية إضافية، فيقال: هذا أول باعتبار ما بعده وفيه شيء آخر قبله، فصار تفسيرها بأمر سلبي أدل على العموم باعتبار التقدم الزمني. {وَالآخِرُ}: فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "الذي ليس بعده شيء"، ولا يتوهم أن هذا يدل على غاية لآخريته، لأن هناك أشياء أبدية وهي من المخلوقات، كالجنة والنار، وعليه فيكون معنى {وَالآخِرُ} أنه محيط بكل شيء، فلا نهاية لآخريته. {وَالظَّاهِرُ}: من الظهور وهو العلو، كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، أي: ليعليه، ومنه ظهر الدابة لأنه عال عليها، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2713) كتاب الذكر والدعاء/ باب ما يقوم عند النوم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97]، أي يعلوا عليه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في تفسيرها: "الذي ليس فوقه شيء"، فهو عال على كل شيء. {وَالْبَاطِنُ}: فسره النبي عليه الصلاة والسلام قال: "الذي ليس دونه شيء" وهذا كناية عن إحاطته بكل شيء، ولكن المعنى أنه مع علوه عز وجل، فهو باطن، فعلوه لا ينافي قربه عز وجل، فالباطن قريب من معنى القريب. تأمل هذه الأسماء الأربعة، تجد أنها متقابله، وكلها خبر عن مبتدأ واحد لكن بواسطة حرف العطف والأخبار بواسطة حرف العطف أقوى من الأخبار بدون واسطة حرف العطف، فمثلاً: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 14 - 16]: هي أخبار متعددة بدون حرف العطف لكن أحياناً تأتي أسماء الله وصفاته مقترنة بواو العطف وفائدتها: أولاً: توكيد السابق، لأنك إذا عطفت عليه، جعلته أصلاً، والأصل ثابت. ثانياً: إفادة الجمع ولا يستلزم ذلك تعدد الموصوف، أرأيت قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3] فالأعلى الذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى. فإذا قلت: المعروف أن العطف يقتضي المغايرة.

فالجواب: نعم، لكن المغايرة تارة تكون بالأعيان، وتارة تكون بالأوصاف، وهذا تغاير أوصاف، على ان التغاير قد يكون لفظياً غير معنوي مثل قول الشاعر: فألقى قولها كذباً ومينا فالمين هو الكذب ومع ذلك عطفه عليه، لتغاير اللفظ والمعنى واحد، فالتغاير إما عيني أو معنوي أو لفظي وفلو قلت: جاء زيد وعمرو وبكر وخالد، لاتغاير عيني، لو قلت: جاء زيد الكريم والشجاع والعالم، فالتغاير معنوي، ولو قلت: هذا الحديث كذب مين، فالتغاير لفظي. واستفدنا من هذه الآية الكريمة إثبات أربعة أسماء لله، وهي الأول والآخر والظاهر والباطن. واستفدنا منها خمس صفات: الأولية، والآخرية، والظاهرية، والباطنية وعموم العلم. واستفدنا من مجموع الأسماء: إحاطة الله تعالى بكل شيء زمناً ومكاناً، لأنه قد يحصل من اجتماع الأوصاف زيادة صفة. فإذا قال قائل: هل هذه الأسماء متلازمة، بمعنى أنك إذا قلت: الأول، فلابد أن تقول: الآخر، أو: يجوز فصل بعضها عن بعض؟! فالظاهر أن المتقابل منها متلازم، فإذا قلت: الأول، فقل: الآخر، وإذا قلت: الظاهر، فقل: الباطن، لئلا تفوت صفة المقابلة

قوله: {وتوكل على الحي الذي لا يموت}

الدالة على الإحاطة. قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: هذا إكمال لما سبق من الصفات الأربع، يعني: ومع ذلك، فهو بكل شيء عليم. وهذه من صيغ العموم التي لم يدخلها تخصيص أبداً، وهذا العموم يشمل أفعاله وأفعال العباد الكليات والجزئيات، يعلم ما يقع وما سيقع ويشمل الواجب والممكن والمستحيل، فعلم الله تعالى واسع شامل محيط لا يستثنى منه شيء، فأما علمه باواجب، فكعلمه بنفسه وبما له من الصفات الكاملة، وأما علمه بالمستحيل، فمثل قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]، وأما علمه بالممكن، فكل ما أخبر الله به عن المخلوقات، فهو من الممكن: {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19]. إذاً، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء. والثمرة التي ينتجها الإيمان بأن الله بكل شيء عليم: كمال مراقبة الله عز وجل وخشيته، بحيث لا يفقده حيث أمره، ولا يراه حيث نهاه. قول المؤلف: "وقوله سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] ".

{وَتَوَكَّلْ}: مأخوذ من وكل الشيء إلى غيره، أي: فوضه إليه، فالتوكل على الغير، بمعنى: التفويض إليه. وعرف بعض العلماء التوكل على الله بأنه: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به سبحانه وتعالى، وفعل الأسباب الصحيحة. وصدق الاعتماد: أن تعتمد على الله اعتماداً صادقاً، بحيث لا تسأل إلا الله، ولا تستعين إلا بالله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، تعتمد على الله عز وجل بجلب المنافع ودفع المضار، ولا يكفي هذا الاعتماد دون الثقة به مع فعل السبب الذي أذن به، بحيث إنك واثق بدون تردد مع فعل السبب الذي أذن فيه. فمن لم يعتمد على الله واعتمد على قوته، فإنه يخذل، ودليل ذلك ما وقع للصحابة مع نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، حين قال الله عز وجل: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} , حيث قالوا: لن نغلب اليوم من قلة، {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 25 - 26].

من توكل على غير الله فإنه لا يخلو من ثلاثة أقسام

ومن توكل على الله، ولكن لم يفعل السبب الذي أذن الله فيه، فهو غير صادق، بل إن عدم فعل الأسباب سفه في العقل ونقص في الدين، لأنه طعن واضح في حكمة الله. والتوكل على الله هو شطر الدين، كما قال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، والاستعانة بالله تعالى هي ثمرة التوكل، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]. ولهذا، فإن من توكل على غير الله لا يخلو من ثلاثة أقسام: أولاً: أن يتوكل توكل اعتماد وتعبد، فهذا شرك أكبر، كأن يعتقد بأن هذا المتوكل عليه هو الذي يجلب له كل خير ويدفع عنه كل شر، فيفوض أمره إليه تفويضاً كاملاً في جلب المنافع ودفع المضار، مع اقتران ذلك بالخشية والرجاء، ولا فرق بين أن يكون المتوكل عليه حياً أو ميتاً، لأن هذا التفويض لا يصح إلا الله. ثانياً: أن يتوكل على غير الله بشيء من الاعتماد لكن فيه إيمان بأنه سبب وأن الأمر إلى الله، كتوكل كثير من الناس على الملوك والأمراء في تحصيل معاشهم، فهذا نوع من الشرك الأصغر. ثالثاً: أن يتوكل على شخص على أنه نائب عنه، وأن هذا المتوكل فوقه، كتوكل الإنسان على الوكيل في بيع وشراء ونحوهما مما تدخله النيابة، فهذا جائز، ولا ينافي التوكل على الله، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في البيع والشراء ونحوهما.

وقوله: {وهو العليم الحكيم}

وقوله: {عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}: يقولون: إن الحكم إذا علق بوصف، دل على عليه ذلك الوصف. لو قال قائل: لماذا لم تكن الآية: وتوكل على القوي العزيز، لأن القوة والعزة أنسب فيما يبدو؟! فالجواب: أنه لما كانت الأصنام التي يعتمد عليها هؤلاء بمنزلة الأموات: كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 20 - 21]، فقال توكل على من ليس صفته كصفة هذه الأصنام وهو الحي الذي لا يموت، على أنه قال في آية أخرى {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217]، لأن العزة أنسب في هذا السياق. ووجه آخر: أن الحي اسم يتضمن جميع الصفات الكاملة في الحياة، ومن كمال حياته عز وجل أنه أهل لأن يعتمد عليه. وقوله {لا يَمُوتُ}، يعني لكمال حياته لا يموت فيكون تعلقها بما قبلها المقصود به إفادة أن هذه الحياة كاملة لا يحلقها فناء. في هذه الآية من أسماء الله: الحي، وفيها من صفاته: الحياة، وانتفاء الموت المتضمن لكمال الحياة، ففيها صفتان واسم. قول المؤلف: "وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2] ".

حكم الله إما كوني أو شرعي

قوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ}: سبق تعريف العلم، وسبق أن العلم صفة كمال وسبق أن علم الله محيط بكل شيء. أما: {الْحَكِيمُ} هذه المادة (ح ك م): تدل على حكم وإحكام، فعلى الأول يكون الحكيم بمعنى الحاكم، وعلى الثاني يكون الحكيم بمعنى المحكم، إذاً: يدل هذا الاسم الكريم على أن الحكم لله، ويدل على أن الله موصوف بالحكمة، لأن الإحكام هو الإتقان، والإتقان وضع الشيء في موضعه. ففي الآية إثبات حكم وإثبات حكمة: فالله عز وجل وحده هو الحاكم، وحكم الله إما كوني وإما شرعي: فحكم الله الشرعي ما جاءت به رسله ونزلت به كتبه من شرائع الدين. وحكم الله الكوني: ما قضاه على عباده من الخلق والرزق والحياة والموت ونحو ذلك من معاني ربوبيته ومتقتضياتها. دليل الحكم الشرعي: قوله تعالى في سورة الممتحنة: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 10]. ودليل الحكم الكوني: قوله تعالى عن أحد أخوة يوسف: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80]. وأما قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، فشامل للكوني

أنواع الحكمة

والشرعي، فالله عز وجل حكيم بالحكم الكوني وبالحكم الشرعي، وهو أيضاً محكم لهما، فكل من الحكمين موافق للحكمة. لكن من الحكمة ما نعلمه، ومن الحكمة مالا نعلمه، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً}. ثم الحكمة نوعان: الأول: حكمة في كون الشيء على كيفيته وحاله التي هو عليها، كحال الصلاة، فهي عبادة كبيرة تسبق بطهارة من الحدث والخبث وتؤدى على هيئة معينة من قيام وقعود وركوع وسجود، وكالزكاة، فهي عبادة لله تعالى بأداء جزء من المال النامي غالباً لمن هم في حاجة إليها، أو في المسلمين حاجة إليهم كبعض المؤلفة قلوبهم. النوع الثاني: حكمة في الغاية من الحكم، حيث إن جميع أحكام الله تعالى لها غايات حميدة وثمرات جليلة. فانظر إلى حكمة الله في حكمه الكوني، حيث يصيب الناس المصائب العظيمة لغايات حميدة، كقوله تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، ففيها رد لقول من يقول: إن أحكام الله تعالى ليست لحكمة، بل هي لمجرد مشيئته. وفي هذه الآية من أسماء الله: العليم، والحكيم. ومن صفاته: العلم والحكمة.

قوله: {العليم الخبير}

وفيها من الفوائد المسلكية: أن الإيمان بعلم الله وحكمته يستلزم الطمأنينة التامة لما حكم به من أحكام كونية وشرعية، لصدور ذلك عن علم وحكمة، فيزول عنه القلق النفسي وينشرح صدره. وقوله: " {الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 2] ". الشرح: {الْعَلِيمُ}: سبق الكلام فيه. {الْخَبِيرُ}: هو العليم ببواطن الأمور فيكون هذا وصفاً أخص بعد وصف أعم، فنقول: العليم بظواهر الأمور، والخبير ببواطن الأمور، فيكون العلم بالبواطن مذكوراً مرتين: مرة بطريق العموم، ومرة بطريق الخصوص، لئلا يظن أن علمه مختص بالظواهر. وكما يكون هذا في المعاني يكون في الأعيان، فمثلاً: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]: الروح جبريل، وهو من الملائكة فنقول: الملائكة ومنهم جبريل، وخص جبريل بالذكر تشريفاً له ويكون النص عليه مرتين: مرة بالعموم، ومرة بالخصوص. وفي هذه الآية من أسماء الله تعالى: العليم، والخبير ومن صفاته: العلم، والخبرة.

صفة العلم والأدلة عليها

وفيها من الفوائد المسلكية: أن الإيمان بذلك يزيد المرء خوفاً من الله وخشية، سراً وعلناً. وقوله: " {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2]. {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. وقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11]. وقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12] ". الشرح: هذه الآيات في تفصيل صفة العلم: الآية الأولى: قوله: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} [سبأ: 2]: هذه تفصيل لما سبق من عموم علمه تعالى. {مَا}: اسم موصول يفيد العموم، كل ما يلج في الأرض مثل المطر والحب يبذر في الأرض والموتى والدود والنمل وغيره {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا}، كالماء والزروع .. وما أشبه ذلك {وَمَا يَنْزِلُ

مِنَ السَّمَاءِ}، مثل المطر والوحي والملائكة وأمر الله عز وجل، {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}، كالأعمال الصالحة والملائكة والأرواح والدعاء. وهنا قال {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} , فعدى الفعل بـ (في) وفي سورة المعارج قال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، فعداه بـ إلى، وهذا هو الأصل، فما وجه ونه عدى بـ (في) في قوله: {يَعْرُجُ فِيهَا}؟ فالجواب: اختلف نحاة البصرة والكوفة في مثل هذا، فقال نحاة البصرة: إن الفعل يضمن معنى يتلائم مع الحرف، وقال نحاة الكوفة: بل الحرف يضمن معنى يتلائم مع الفعل. فعلى الرأي الأول: يكون قوله: {يَعْرُجُ فِيهَا}: مضمناً معنى (يدخل)، فيصير المعنى: وما يعرج فيدخل فيها، وعليه يكون في الآية دلالة على أمرين: على عروج ودخول. أما على الرأي الثاني، فنقول: (في) بمعنى (إلى) ويكون هذا من باب التناوب بين الحروف. لكن على هذا القول لا تجد أن في الآية معنى جديداً وليس فيها إلا اختلاف لفظ (إلى) لفظ (في) ولهذا كان القول الأول أصح وهو أن تضمن الفعل معنى يتناسب مع الحرف. ولهذا نظير في اللغة العربية، قال الله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان: 6]، والعين يشرب منها والذي يشرب به الإناء، فعلى رأي أهل الكوفة نقول: {يَشْرَبُ بِهَا} الباء بمعنى

الآية الثانية

(من)، أي: منها، وعى رأي أهل البصرة يضمن الفعل {يَشْرَبُ} معنى يتلائم مع حرف الباء والذي يتلائم معها يروى ومعلوم أنه لا ري إلا بعد شرب، فيكون هذا الفعل ضمن معنى غايته وهو الري. وكذلك نقول في {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا}: لا دخول في السماء إلا بعد العروج إليها، فيكون الفعل ضمن معنى الغاية. ففي الآية ذكر الله عز وجل عموم علمه في كل شيء بنوع من التفصيل، ثم فصل في آية أخرى تفصيلاً آخر: الآية الثانية: قوله: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. {وَعِنْدَهُ}: أي: عند الله وهو خبر مقدم {مَفَاتِحُ} مبتدأ مؤخر. ويفيد هذا التركيب الحصر والاختصاص، عنده لا عند غيره مفاتح الغيب وأكد هذا الحصر بقوله: {لا يَعْلَمُهَا إِلاّ هُوَ}، ففي الجملة حصر بأن علم هذه المفاتح عند الله بطريقتين: إحداهما: بطريقة التقديم والتأخير والثانية: طريقة النفي والإثبات. كلمة {مَفَاتِحُ}، قيل: أنه جمع مفتح، بكسر الميم وفتح التاء: المفتاح، أو أنها جمع مفتاح لكن حذفت منها الياء وهو قليل، ونحن نعرف أن المفتاح ما يفتح به الباب وقيل: جمع

مفاتح الغيب خمسة

مفتح، بفتح الميم والكسر التاء وهي الخزائن، فـ {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} خزانته، وقيل: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}، أي: مبادئه، لأن مفتح كل شيء يكون في أوله، فيكون على هذا: {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ}، أي: مبادئ الغيب، فإن هذه المذكورات مبادئ لما بعدها. {الْغَيْبِ}: مصدر غاب يغيب غيباً، والمراد بالغيب: ماكان غائباً والغيب أمر نسب، لكن الغيب المطلق علمه خاص بالله. هذه المفاتح سواء قلنا إن المفاتح: هي المبادئ، أو: هي الخزائن، أو: المفاتيح، لا يعلمها إلا الله عز وجل، فلا يعلمها ملك، ولا يعلمها رسول، حتى إن أشرف الرسل الملكي وهو جبريل ـ سأل أشرف الرسل البشري ـ وهو محمد عليه الصلاة والسلام ـ قال: أخبرني عن الساعة؟ قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" (¬1) , والمعنى: كما أنه لا علم لك بها، فلا علم لي بها أيضاً. فمن ادعى علم الساعة، فهو كاذب كافر، ومن صدقه، فهو أيضاً كافر، لأنه مكذب للقرآن. وهذه المفاتح؟ فسرها أعلم الخلق بكلام الله محمد صلى الله عليه وسلم حين قرأ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34] (¬2)، فهي خمسة أمور: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 54). (¬2) رواه البخاري (4778) عن ابن عمر رضي الله عنه في كتاب التفسير/ باب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}.

الأول: علم الساعة: فعلم الساعة مبدأ مفتاح لحياة الآخرة، وسميت الساعة بهذا، لأنها ساعة عظيمة، يهدد بها جميع الناس، وهي الحاقة والواقعة، والساعة علمها عند الله لا يدري أحد متى تقوم إلا الله عز وجل. الثاني: تنزيل الغيث: لقوله: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}: {الْغَيْثَ}: مصدر ومعناه: إزالة الشدة والمراد به المطر، لأنه بالمطر نزول شدة القحط والجدب وإذا كان هو الذي ينزل الغيث، كان هو الذي يعلم وقت نزوله. والمطر نزوله مفتاح لحياة الأرض بالنبات، وبحياة النبات يكون الخير في المرعى وجميع ما يتعلق بمصالح العباد. وهنا نقطة: قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}، ولم يقل: وينزل المطر، لأن المطر أحياناً ينزل ولا يكون فيه نبات، فلا يكون غيثاً، ولا تحيا به الأرض، ولهذا ثبت في "صحيح مسلم": "ليست السَّنَة ألا تمطروا، إنما السنة أن تمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً" (¬1)، والسنة القحط. الثالث: علم ما في الأرحام: لقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ}، أي: أرحام الإناث، فهو عز وجل يعلم ما في الأرحام، أي: ما في بطون الأمهات من بني آدم وغيرهم، ومتعلق العلم عام بكل شيء، فلا يعلم ما في الأرحام إلا من خلقها عز وجل. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2904) عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الفتن/ باب في سكنى المدينة.

فإن قلت: يقال الآن: إنهم صاروا يعلمون الذكر من الأنثى في الرحم، فهل هذا صحيح؟ نقول: إن هذا الأمر وقع ولا يمكن إنكاره، لكنهم لا يعلمون ذلك إلا بعد تكوين الجنين وظهور ذكورته أو أنوثته، وللجنين أحوال أخرى لا يعلمونها، فلا يعلمون متى ينزل، ولا يعلمون إذا نزل إلى متى يبقى حياً ولا يعلمون هل يكون شقياً أو سعيداً، ولا يعلمون هل يكون غنياً أم فقيراً .. إلى غير ذلك من أحواله المجهولة. إذاً أكثر متعلقات العلم فيما يتعلق بالأجنة مجهول للخلق، فصدق العموم في قوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ}. الرابع: علم ما في الغد: وهو ما بعد يومك: لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} وهذا مفتاح الكسب في المستقبل، وإذا كان الإنسان لا يعلم ما يكسب لنفسه، فعدم علمه بما يكسبه غيره أولى. لكن لو قال قائل: أنا أعلم ما في الغد، سأذهب إلى المكان الفلاني، أو أقرأ، أو أزور أقاربي فنقول: قد يجزم بأنه سيعمل, ولكن يحول بينه وبين العمل مانع. الخامس: علم مكان الموت: لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، ما يدري أي أحد هل يموت في أرضه أو في أرض أخرى؟ في أرض إسلامية أو أرض كافر أهلها؟ ولا يدري هل يموت في البر أو في البحر أو في الجو؟ وهذا شيء مشاهد.

ولا يدري بأي ساعة يموت، لأنه إذا كان لا يمكنه أن يدري بأي أرض يموت وهو قد يتحكم في المكان، فكذلك لا يدري بأي زمن وساعة يموت. فهذه الخمسة هل مفاتح الغيب التي لا يعلمها إلا الله وسميت مفاتح الغيب، لأن علم ما في الأرحام مفتاح للحياة الدنيا، {مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} مفتاح للعمل المستقبل {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} مفتاح لحياة الآخرة، لأن الإنسان إذا مات، دخل عالم الآخرة، وسبق بيان علم الساعة وتنزيل الغيث، فتبين أن هذه المفاتح كلها مبادئ لكل ما وراءها، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. ثم قال عز وجل: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 59]: هذا إجمال، فمن يحصي أجناس ما في البر؟ كم فيها من عالم الحيوان والحشرات والجبال والأشجار والأنهار أمور لا يعلمها إلا الله عز وجل والبحر كذلك فيه من العوالم مالا يعلمه إلا خالقه عز وجل، يقولون: إن البحر يزيد على البر ثلاثة أضعاف من الأجناس، لأن البحر أكثر من اليابس. قال: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُهَا}: هذا تفصيل، فأي ورقة في أي شجرة صغيرة أو كبيرة قريبة أو بعيدة تسقط، فالله تعالى يعلمها، ولهذا جاءت {وَمَا تَسْقُطُ} النافية و {مِنْ} الزائدة، ليكون ذلك نصاً في العموم، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولى، لأن عالم ما يسقط عالم بما يخلق عز وجل.

انظر إلى سعة علم الله تعالى كل شيء يكون، فهو عالم به، حتى الذي لم يحص وسيحصل، فهو تعالى عالم به. قال: {وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ}: حبة صغيرة لا يدركها الطرف في ظلمات الأرض يعلمها عز وجل. {ظُلُمَاتِ}: جمع ظلمة ولنفرض أن حبة صغيرة غائصة في قاع البحر، في ليلة مظلمة مطيرة، فالظلمات: أولاً: طين البحر. ثانياً: ماء البحر. ثالثاً: المطر. رابعاً: السحاب. خامساً: الليل، فهذه خمس ظلمات من ظلمات الأرض ومع ذلك هذه الحبة يعلمها الله سبحانه وتعالى ويبصرها عز وجل. قال: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ}: هذا عام، فما من شيء إلا وهو إما رطب وإما يابس. {إِلاّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}: {كِتَابٍ}، بمعنى مكتوب. {مُبِينٍ} أي: مظهر وبين، لأن (أبان) تستعمل متعدياً ولازماً فيقال: أبان الفجر، بمعنى ظهر الفجر ويقال: أبان الحق بمعنى أظهره والمراد بالكتاب هنا: اللوح المحفوظ. كل هذه الأشياء معلومة عند الله سبحانه وتعالى ومكتوبة عنده في اللوح المحفوظ، لأن الله تعالى "لما خلق القلم، قال له: اكتب قال القلم: ماذا أكتب؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة" (¬1)، فكتب في تلك اللحظة ما هو كائن إلى يوم ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 317)، وأبو داود (4700)، والترمذي (2155)، والحاكم (2/ 498) وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (804)، والآجري في "الشريعة" (178)، وابن أبي عاصم في "السنة" (105)، والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" (133)، وفي "السنة" لابن أبي عاصم (1/ 48 و 49).

الآية الثالثة

القيامة ثم جعل سبحانه في أيدي الملائكة كتباً تكتب ما يعمله الإنسان، لأن الذي في اللوح المحفوظ قد كتب فيه ما كان يريد الإنسان أن يفعل، والكتاب التي تكتبها الملائكة هي التي يجزى عليها الإنسان ولهذا يقول الله عز وجل: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31]، أما علمه بأن عبده فلاناً سيصبر أو لا يصبر، فهذا سابق من قبل، لكن لا يترتب عليه الثواب والعقاب. الآية الثالثة: قوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11]. {مَا}: نافية. {أُنْثَى} فاعل {تَحْمِلُ} لكنه معرب بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد. وهنا إشكال: كيف تقول زائد وليس في القرآن زائد؟ فالجواب: أنه زائد من حيث الإعراب، أما من حيث المعنى، فهو مفيد وليس في القرآن شيء زائد لا فائدة منه، ولهذا نقول: هو زائد، زائد بمعنى أنه لا يخل بالإعراب إذا حذف، زائد من حيث المعنى يزيد فيه.

الآية الرابعة

وقوله: {مِنْ أُنْثَى}: يشمل أي أنثى، سواء آدمية أو حيوانية أخرى الذي يحمل حيواناً واضح أنه داخل في الآية، كبقرة، وبعير، وشاة .. وما أشبه ذلك، ويدخل في ذلك الذي يحمل البيض، كالطيور، لأن البيض في جوف الطائر حمل. {وَلا تَضَعُ إِلاّ بِعِلْمِهِ}، فابتداء الحمل بعلم الله، وانتهاؤه وخروج الجنين بعلم الله عز وجل. الآية الرابعة: قوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} [الطلاق: 12]. {لِتَعْلَمُوا}: اللام للتعليل، لأن الله قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الطلاق: 12]، فقد خلق هذه السماوات السبع والأرضين السبع، وأعلمنا بذلك، لنعلم {أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. القدرة وصف يتمكن به الفاعل من الفعل بدون عجز، فهو على كل شيء قدير، يقدر على إيجاد المعدوم وعلى إعدام الموجود، فالسماوات والأرض كانت معدومة، فخلقها الله عز وجل وأوجدها على هذا النظام البديع. {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}: كل شيء، الصغير والكبير، والمتعلق بفعله أو بفعل عباده والماضي واللاحق والحاضر، كل ذلك قد أحاط الله سبحانه به علماً. وذكر الله عز وجل العلم والقدرة بعد الخلق، لأن الخلق لا

مناقشة صاحب تفسير الجلالين

يتم إلا بعلم وقدرة، ودلالة الخلق على العلم والقدرة من باب دلالة التلازم وقد سبق أن دلالات الأسماء على الصفات ثلاثة أنواع. تنبيه: ذكر في "تفسير الجلالين" ـ عفا الله عنا وعنه ـ في آخر سورة المائدة ما نصه "وخص العقل ذاته، فليس عليها بقادر"! ونحن نناقش هذا الكلام من وجهين: الوجه الأول: أنه لا حكم للعقل فيما يتعلق بذات الله وصفاته، بل لا حكم له في جميع الأمور الغيبية، ووظيفة العقل فيها التسليم التام، وأن نعلم أن ما ذكره الله من هذه الأمور ليس محالاً، ولهذا يقال: إن النصوص لا تأتي بمحال، وإنما تأتي بمحار، أي: بما يحير العقول، لأنها تسمع ما لا تدركه ولا تتصوره. والوجه الثاني: قوله: "فليس عليها بقادر": هذا خطأ عظيم، كيف لا يقدر على نفسه وهو قادر على غيره، فكلامه هذا يستلزم أنه لا يقدر أن يستوى ولا أن يتكلم ولا أن ينزل إلى السماء الدنيا ولا يفعل شيئاً أبداً وهذا خطير جداً!! لكن لو قال قائل: لعله يريد: "خص العقل ذاته، فليس عليها بقادر"، يعني: لا يقدر على أن يلحق نفسه نقصاً قلنا: إن هذا لم يدخل في العموم حتى يحتاج إلى إخراج وتخصيص، لأن القدرة إنما تتعلق بالأشياء الممكنة، لأن غير الممكن ليس بشيء،

لا في الخارج ولا في الذهن" فالقدرة لا تتعلق بالمستحيل، بخلاف العلم. فينبغي للإنسان أن يتأدب فيما يتعلق بجانب الربوبية، لأن المقام مقام عظيم، والواجب على المرء نحوه أن يستسلم ويسلم. إذاً، نحن نطلق ما أطلقه الله، ونقول إن الله على كل شيء قدير، بدون استثناء. وفي هذه الآيات من صفات الله تعالى: إثبات عموم علم الله على وجه التفصيل، وإثبات عموم قدرة الله تعالى. والفائدة المسلكية من الإيمان بالعلم والقدرة: قوة مراقبة الله والخوف منه. "وقوله: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات: 58] ". وفي هذه الآية إثبات صفة القوة لله عز وجل. جاءت هذه الآية بعد قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56 - 57]، فالناس يحتاجون إلى رزق الله، أما الله تعالى، فإنه لا يريد منهم رزقاً ولا أن يطعموه. {الرَّزَّاقُ}: صيغة مبالغة من الرزق، وهو العطاء، قال تعالى {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8]، أي: أعطوهم، والإنسان يسأل الله تعالى في

الرزق قسمين: عام وخاص

صلاته، ويقول: اللهم ارزقني. وينقسم إلى قسمين: عام وخاص. فالعالم: كل ما ينتفع به البدن، سواء كان حلالاً أو حراماً، وسواء كان المرزوق مسلماً أو كافراً، ولهذا قال السفاريني (¬1): والرزق ما ينفع من حلال ... أو ضده فحل عن المحال لأنه رازق كل الخلق ... وليس مخلوق بغير رزق لأنك لو قلت: إن الرزق هو العطاء الحلال. لكان كل الذين يأكلون الحرام، لم يرزقوا، مع أن الله أعطاهم ما تصلح به أبدانهم، لكن الرزق نوعان: طيب وخبيث، ولهذا قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، ولم يقل: والرزق، أما الخبائث من الرزق، فهي حرام. أما الرزق الخاص، فهو ما يقوم به الدين من العلم النافع والعمل الصالح والرزق الحلال المعين على طاعة الله، ولهذا جاءت الآية الكريمة: {الرَّزَّاقُ} ولم يقل: الرازق، لكثره رزقه وكثرة من يرزقه، فالذي يرزقه الله عز وجل لا يحصى باعتبار أجناسه، فضلاً عن أنواعه، فضلاً عن آحاده، لأن الله تعالى يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6]، ويعطي الله الرزق بحسب الحال. ¬

_ (¬1) "الكواكب الدرية" لابن مانع (ص 37).

ولكن إذا قال قائل: إذا كان الله هو الرزاق، فهل أسعى لطلب الرزق: أو أبق في بيتي ويأتيني الرزق؟ فالجواب نقول: اسع لطلب الرزق، كما أن الله غفور، فليس معنى هذا أن لا تعمل وتتسبب للمغفرة. أما قول الشاعر: جنون من أن تسعى لرزق ... ويرزق في غشاوته الجنين فهذا القول باطل. وإما استشهاده بالجنين، فالجواب: أن يقال الجنين لا يمكن أن يوجه إليه طلب الرزق، لأنه غير قادر، بخلاف القادر. ولهذا قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15]، فلابد من سعي، وأن يكون هذا السعي على وفق الشرع. وقوله: {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}: القوة: صفة يتمكن الفاعل بها من الفعل بدون ضعف، والدليل على قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54]، وليست القوة هي القدرة، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} [فاطر: 44]، فالقدر يقابلها العجز، والقوة يقابلها الضعف، والفرق بينهما: أن القدرة يوصف بها ذو الشعور، والقوة يقابلها الضعف، والفرق بينهما: أن القدرة يوصف بها ذو الشعور، والقوة يوصف بها ذو الشعور وغيره. ثانياً: أن القوة

الفائدة المسلكية من الإيمان بصفة القوة والرزق

أخص فكل قوي من ذي الشعور قادر، وتقول: الحديد قوي، ولا تقول: قادر، لكن ذو الشعور تقول: إنه قوي، وإنه قادر. ولما قالت عاد: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]. (2) وقوله: {الْمَتِينُ}: قال ابن عباس رضي الله عنهما (¬1): الشديد. أي الشديد في قوته، والشديد في عزته، الشديد في جميع صفات الجبروت، وهو من حيث المعنى توكيد للقوي. ويجوز أن نخبر عن الله بأنه شديد، ولا نسمي الله بالشديد، بل نسميه بالمتين، لأن الله سمى نفسه بذلك. في هذه الآية إثبات اسمين من أسماء الله، هما: الرزاق، والمتين، وإثبات ثلاث صفات، وهي الرزق، والقوة، وما تضمنه اسم المتين. والفائدة المسلكية في الإيمان بصفة القوة والرزق، أن لا نطلب القوة والرزق إلا من الله تعالى، وأن نؤمن بأن كل قوة مهما عظمت، فلن تقابل قوة الله تعالى. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "الأسماء والصفات" (68) , وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 142). وعزاه لابن أبي حاتم.

قوله: {ليس كمثله شيء}

"وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58] ". الشرح: وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. هذه الآية ساقها المؤلف إثبات اسمين من أسماء الله وما تضمناه من صفة، وهما السميع والبصير، ففيها رد على المعطلة. قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}: هذا نفي، فهو من الصفات السلبية، والمقصود به إثبات كماله، يعني لكماله لا يماثله شيء من مخلوقاته، وفي هذه الجملة رد على أهل التمثيل. قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}: {السَّمِيعُ} له معنيان أحدهما: بمعنى المجيب. والثاني: بمعنى السامع للصوت. أما السميع بمعنى المجيب، فمثلوا له بقوله تعالى عن إبراهيم: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: 39]، أي: لمجيب الدعاء. وأما السميع بمعنى إدراك الصوت، فإنهم قسموه إلى عدة أقسام: الأول: سمع يراد به بيان عموم إدراك سمع الله عز وجل،

وأنه ما من صوت إلا ويسمعه الله. الثاني: سمع يراد به النصر والتأييد. الثالث: سمع يراد به الوعيد والتهديد. مثال الأول: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]، فهذا فيه بيان إحاطة سمع الله تعالى بكل مسموع، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، والله إني لفي الحجرة، وإن حديثها ليخفى على بعضه" (¬1). ومثال الثاني: كما في قوله تعالى لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. ومثال الثالث: الذي يراد به التهديد والوعيد: قوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]، فإن هذا يراد به تهديدهم ووعيدهم، حيث كانوا يسرون ما لا يرضى من القول. والسمع بمعنى إدراك المسموع من الصفات الذاتية، وإن كان المسموع قد يكون حادثاً. والسمع بمعنى النصر والتأييد من الصفات الفعلية، لأنه مقرون بسبب. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 104).

الفائدة المسلكية من هذه الآية

والسمع بمعنى الإجابة من الصفات الفعلية أيضاً. وقوله: {الْبَصِيرُ}، يعني: المدرك لجميع المبصرات، ويطلق البصير بمعنى العليم، فالله سبحانه وتعالى بصير، يرى كل شيء وإن خفي، وهو سبحانه بصير بمعنى: عليم بأفعال عباده، قال تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات: 18]، والذي نعمل بعضه مرئي وبعضه غير مرئي، فبصر الله إذاً ينقسم إلى قسمين، وكله داخل في قوله: {الْبَصِيرُ}، في هذه الآية إثبات اسمين من أسماء الله، هما: السميع، والبصير. وثلاث صفات، هي: كمال صفاته من نفي المماثلة، والسمع، والبصر. وفيها من الفوائد المسلكية: الكف عن محاولة تمثيل الله بخلقه، واستشعار عظمته وكماله، والحذر من أن يراك على معصيته أو يسمع منك مالا يرضاه. واعلم أن النحاة خاضوا خوضاً كثيراً في قوله: {كَمِثْلِهِ}، حيث قالوا: الكاف داخلة على (المثل)، وظاهره أن لله مثلاً ليس له مثل، لأنه لم يقل: ليس كهو، بل قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ}، فهذا ظاهرها من حيث المعنى، لكان ظاهر القرآن كفراً، وهذا مستحيل، ولهذا اختلفت عبارات النحويين في تخريج هذه الآية على أقوال: القول الأول: الكاف زائدة، وأن تقدير الكلام: ليس مثله شيء، وهذا القول مريح، وزيادة الحروف في النفي كثيرة، كما في

قوله: {إن الله نعما يعظكم به. . . .}

قوله: تعالى {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى} [فاطر: 11]، فيقولون: إن زيادة الحروف في اللغة العربية للتوكيد أمر مطرد. والقول الثاني: قالوا العكس، قالوا: إن الزائد (مثل)، ويكون التقدير: ليس كهو شيء، لكن هذا ضعيف، يضعفه أن الزيادة في الأسماء في اللغة العربية قليلة جداً أو نادرة، بخلاف الحروف، فإذا كنا لا بد أن نقول بالزيادة، فليكن الزائد الحرف، وهي الكاف. والقول الثالث: أن (مثل) بمعنى: صفة، والمعنى: "ليس كصفته شيء"، وقالوا: إن المثل والشبه والشبه في اللغة العربية بمعنى واحد، وقد قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد: 15]، أي: صفة الجنة، وهذا ليس ببعيد من الصواب. القول الرابع: أنه ليس في الآية زيادة، لكن إذا قلت: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، لزم من ذلك نفي المثل، وإذا كان ليس للمثل مثل، صار الموجود واحداً، وعلى هذا، فلا حاجة إلى ان نقدر شيئاً. قالوا: وهذا قد وجد في اللغة العربية، مثل قوله: ليس كمثل الفتى زهير. والحقيقة أن هذه البحوث لو لم تعرض لكم، لكان معنى الآية واضحاً، ومعناها أن الله ليس له مثيل، لكن هذا وجد في الكتب، والراجح: أن نقول، إن الكاف زائدة لكن المعنى الأخير لمن تمكن من تصوره أجود. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58] ".

هذه الآية تكملة لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]، فأمر عز وجل بأن نؤدي الأمانات إلى أهلها، ومنها الشهادة للإنسان له أو عليه، وأن نحكم إذا حكمنا بين الناس بالعدل، فبين الله سبحانه وتعالى أنه يأمرنا بالقيام بالواجب في طريق الحكم وفي الحكم نفسه، وطريق الحكم الذي هو الشهادة تدخل في عموم قوله: {أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}، والحكم: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، ثم قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}، أصلها: نعم ما ولكن ادغمت الميم بالميم من باب الإدغام الكبير، لأن الإدغام لا يكون بين جنسين إلا إذا كان الأول ساكناً، وهنا صار الإدغام مع أن الأول مفتوح. وقوله: {نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ}: جعل الله سبحانه الأمر بهذين الشيئين ـ أداء الأمانة والحكم بالعدل ـ موعظة، لأنه تصلح به القلوب، وكل ما يصلح القلوب، فهو موعظة، والقيام بهذه الأوامر لا شك أن يصلح القلب. ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً}، وقوله: {كَانَ}: هذه فعل، لكنها مسلوبة الزمن، فالمراد به الدلالة على الوصف فقط، أي: أن الله متصف بالسمع والبصر، وإنما قلنا: إنها مسلوبة الزمن، لأننا لو أبقيناها على دلالتها الزمانية، فالمراد بها الدلالة على الوصف فقط، أي: أن الله متصف بالسمع والبصر، وإنما قلنا: إنها مسلوبة الزمن، لأننا لو أبقيناها على دلالاتها الزمانية، لكان هذا الوصف قد انتهى، كان في الأول سميعاً بصيراً، أما الآن فليس كذلك، ومعلوم أن هذا المعنى فاسد باطل، وإنما المارد أنه متصف بهذين

إثبات السمع والبصر لله

الوصفين السمع والبصر على الدوام، و (كان) في مثل هذا السياق يراد به التحقيق. قوله: {سَمِيعاً بَصِيراً}: نقول فيها كما قلنا في الآية التي قبلها: فيها إثبات السمع لله بقسميه، وإثبات البصر بقسميه. قرأ أبو هريرة هذه الآية، وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع إبهامه وسبابته على عينه وأذنه (¬1). والمراد بهذا الوضع تحقيق السمع والبصر، لا إثبات العين والأذن، فإن ثبوت العين جاءت في أدلة أخرى، والأذن عند أهل السنة والجماعة لا تثبت لله ولا تنفى عنه لعدم ورود السمع بذلك. فإن قلت: هل لي أن أفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب: من العلماء من قال: نعم، افعل كما فعل الرسول، لست أهدى للخلق من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولست أشد تحرزاً من أن يضاف إلى الله ما لا يليق من الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: لا حاجة إلى أن تفعل ما دمنا نعلم أن المقصود هو التحقيق فهذه الإشارة إذاً غير مقصودة بنفسها، إنما هي مقصودة لغيرها، وحينئذ، لا حاجة إلى أن تشير، لا سيما إذا كان يخشي من هذه الإشارة توهم الإنسان التمثيل، كما لو كان أمامك عامة من الخلق لا يفهمون الشيء على ما ينبغي، فهذا ينبغي التحرز منه، ولكل مقام مقال. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 85).

آيات صفتي المشيئة والإرادة

وكذلك ما ورد في حديث ابن عمر كيف يحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يأخد الله عز وجل سماواته وأرضيه بيديه، فيقول: أنا الله"، ويقبض أصابعه ويبسطها (¬1). فيقال فيه ما قيل في حديث أبي هريرة. والفائدة المسلكية من الإيمان بصفتي السمع والبصر: أن نحذر مخالفة الله في أقوالنا وأفعالنا. وفي الآية من أسماء الله إثبات اسمين هما: السميع، والبصير. ومن الصفات: إثبات السمع، والبصر، والأمر، والموعظة. وقوله: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللَّهِ} [الكهف: 39]. وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]. وقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]. وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2788) كتاب صفات المنافقين/ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

الآية الأولى

125] ": الشرح: هذه آيات في إثبات صفتي المشيئة والإرادة: فالآية الأولى: قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللَّهِ} [الكهف: 39]. {وَلَوْلا}: بمعنى: هلا، فهي للتحضيض، والمراد بها هنا التوبيخ، بمعنى أنه يوبخه على ترك هذا القول. {إِذْ دَخَلْتَ}: حين دخلت. {جَنَّتَكَ}: الجنة، بفتح الجيم هي البستان الكثير الأشجار، سميت بذلك لأن من فيها مستتر بأشجارها وغصونها، فهو مستجن فيها، وهذه المادة (الجيم والنون) تدل على الاستتار، ومنه: الجنة ـ بضم الجيم ـ التي يتترس بها الإنسان عند القتال، ومنها: الجنة ـ بكسر الجيم ـ، يعني، الجن، لأنهم مستترون. وقوله: {جَنَّتَكَ}: هذه مفرد، والمعلوم من الآيات أن له جنتين، فما هو الجواب حيث كانت هنا مفردة مع أنهما جنتان؟ الجواب: أن يقال: إن المفرد إذا أضيف يعم فيشمل الجنتين. أو أن هذا القائل أراد أن يقلل من قيمة الجنتين، لأن المقام مقام وعظ وعدم إعجاب بما رزقه الله، كأنه يقول: هاتان الجنتان جنة واحدة، تقليلاً لشأنهما، والوجه الأول أقرب إلى قواعد اللغة العربية {قُلْتَ}: جواب {لَوْلا}.

وقوله: {مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاّ بِاللَّهِ}: {مَا}: يحتمل أن تكون موصولة، ويحتمل أن تكون شرطية: فإن جعلتها موصولة، فهي خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا ما شاء الله، أي: ليس هذا بإرادتي وحولي وقوتي، ولكنه بمشيئة الله، أي: هذا الذي شاءه الله. وإن جعلتها شرطية، ففعل الشرط {شَاءَ}، وجوابه محذوف، والتقدير: ما شاء الله كان، كما نقول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والمراد: كان ينبغي لك أن تقول حين دخلت جنتك: {مَا شَاءَ اللَّهُ}، لتتبرأ من حولك وقوتك لا تعجب بجنتك. وقوله: {لاَ قُوَّةَ إِلاّ بِاللَّهِ}: {لا}: نافية للجنس. و {قُوَّةَ}: نكرة في سياق النفي، فتعم، والقوة صفة يتمكن بها الفاعل من فعل ما يريد بدون ضعف. فإن قيل: ما الجمع بين عموم نفي القوة إلا باله، وبين قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54]، وقال عن عاد: {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]، ولم يقل: لا قوة فيهم، فأثبت للإنسان قوة. فالجواب: أن الجمع بأحد الوجهين: الأول: أن القوة التي في المخلوق كانت من الله عز وجل، فلولا أن الله أعطاه القوة، لم يكون قوياً، فالقوة التي عند الإنسان مخلوقة لله، فلا قوة في الحقيقة إلا بالله.

الآية الثانية

الثاني: أن المراد بقوله: {لا قُوَّةَ}، أي: لا قوة كاملة إلا بالله عز وجل. وعلى كل حال، فهذا الرجل الصالح أرشد صاحبه أن يتبرأ من حوله وقوته، ويقول: هذا بمشيئة الله وبقوة الله. في هذه الآية: إثبات اسم من أسماء الله، وهو: الله، وإثبات ثلاث صفات: الألوهية، والقوة، والمشيئة. ومشيئة الله: هي إرادته الكونية، وهي نافذة فيما يحبه وما لا يحبه، ونافذة على جميع العباد بدون تفصيل، ولابد من وجود ما شاءه بكل حال، فكل ما شاء الله وقع ولا بد، سواء كان فيما يحبه ويرضاه أم لا. الآية الثانية: وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253]: {لَوْ}: حرف امتناع لامتناع، وإذا كان جوابه منفياً بـ (ما)، فإن الأفصح حذف اللام، وإذا كان مثبتاً، فالأكثر ثبوت اللام، كما قال تعالى: {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة: 65]. فنقول: الأكثر، ولا نقول: الأفصح، لأنه ورد إثبات اللام وحذفها في القرآن الكريم: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة: 70]. وقولنا: إن الأفصح حذف اللام في المنفي، لأن اللام تفيد التوكيد، والنفي ينافي التوكيد، ولهذا كان قول الشاعر:

ولو نعطى الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الليالي خلاف الأفصح، والأفصح: لو نعطى الخيار ما افترقنا قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}: الضمير يعود على المؤمنين والكافرين، لقوله تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253]. وفي هذا رد واضح على القدرية الذي ينكرون تعلق فعل العبد بمشيئة الله، لأن الله قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}، يعني: ولكنه شاء أن يقتتلوا فاقتتلوا. ثم قال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}، أي: يفعل الذي يريده، والإرادة هنا إرادة كونية. وقوله: {يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}: الفعل باعتبار ما يفعله سبحانه وتعالى بنفسه فعل مباشر. وباعتبار ما يقدره على العباد فعل غير مباشر، لأنه من المعلوم أن الإنسان إذا صام وصلى وزكى وحج وجاهد، فالفاعل الإنسان بلا شك، ومعلوم أن فعله هذا بإرادة الله. ولا يصح أن ينسب فعل العبد إلى الله على سبيل المباشرة، لأن المباشر للفعل والإنسان، ولكن يصح أن ينسب إلى الله على سبيل التقدير والخلق. أما ما يفعله الله بنفسه، كاستواءه على عرشه، وكلامه، ونزوله إلى السماء الدنيا، وضحكه ... وما أشبه ذلك، فهذا ينسب إلى الله تعالى فعلاً مباشرة.

الآية الثالثة

في هذه الآية من الأسماء: الله. ومن الصفات: المشيئة، والفعل، والإرادة. الآية الثالثة: قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1]. {أُحِلَّتْ لَكُمْ}: المحل هو الله عز وجل، وكذلك النبي عليه الصلاة والسلام يحل ويحرم، لكن بإذن من الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان" (¬1)، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "إن الله يحرم عليكم"، كذا يخبر أنه حرم، وربما يحرم تحريماً يضفيه إلى نفسه، لكنه بإذن الله. {بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ}: هي الإبل والبقر والغنم، والأنعام جمع نعم، كأسباب جمع سبب. {إِلاّ مَا يُتْلَى}: إلا الذي يتلى عليكم في هذه السورة، وهي المذكورة في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة، 3]، فالاستثناء هنا فيه منقطع وفيه متصل، فبالنسبة للميتة من بهيمة الأنعام متصل، وبالنسبة للحم ¬

_ (¬1) رواه أحمد (2/ 97)، وابن ماجه (3314) , والدارقطني (4/ 272) وقال إن المؤلف أصح, البيهقي (1/ 254) ورجح أيضاً الموقوفح إلا أنه قال: إن له حكم الرفع, ورواه عبد حميد في "المنتخب" (818) , عزاه الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 202) لابن مردوية عن ابن عمر رضي الله عنه. وانظر "الصحيحة" (1118).

الآية الرابعة

الخنزير منقطع، لأنه ليس من بهيمة الأنعام. وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}: {غَيْرَ}: حال من الكاف في {لَكُمْ}، يعني: حال كونكم لا تحلون الصيد وأنتم حرم، وهذا الاستثناء منقطع أيضاً، لأن الصيد ليس من بهيمة الأنعام. وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ}، يعني: قاتليه في الإحرام، لأن الذي يفعل الشيء يصير كالمحل له، و {الصَّيْدِ}: هو الحيوان البري المتوحش المأكول، هذا هو الصيد الذي حرم في الإحرام. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}: هذه الإرادة شرعية، لأن المقام مقام تشريع، ويجوز أن تكون إرادة شرعية كونية، ونحمل الحكم على الحكم الكوني والشرعي، فما أراده كوناً، حكم به وأوقعه، وما أراده شرعاً، حكم به وشرعه لعباده. في هذه الآية من الأسماء: الله. والمن الصفات: التحليل، والحكم، والإرادة. الآية الرابعة: قوله {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125]. قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}: المراد بالإرادة هنا الإرادة الكونية، والمراد بالهداية هداية التوفيق، فتجده منشرح الصدر في شرائع الإسلام وشعائره، يفعلها بفرح وسرور

وانطلاق. فإذا عرف من نفسك هذا، فاعلم أن الله أراد بك خيراً وأراد لك هداية، أما من ضاق به ذرعاً والعياذ بالله فإن هذا علامة على الله لم يرد له هداية، وإلا لا نشرح صدره. ولهذا تجدون الصلاة التي هي أثقل ما يكون على المنافقين قرة عيون المخلصين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حبب إلى ما دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة" (¬1)، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس إيماناً، فانشرح صدره بالصلاة وصارت قرة عينه. فإذا قيل للشخص: إنه يجب عليك أن تصلي مع الجماعة في المسجد، فانشرح صدره، وقال الحمد لله الذي شرع لي ذلك، ولولا أن الله شرعه، لكان بدعة، وأقبل إليه، ورضي به، فهذا علامة على أن الله أراد أن يهديه وأراد به خيراً. قال: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ}: بمعنى يوسع، ومنه قول موسى عليه الصلاة والسلام لما أرسله الله إلى فرعون: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه: 25]، يعني: وسع لي صدري في مناجاة هذا الرجل ودعوته، لأن فرعون كان جباراً عنيداً. وقوله: {لِلإِسْلامِ}: هذا عام لأصل الإسلام وفروعه ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 128)، والنسائي (7/ 61)، والحاكم (2/ 160) , وصححه, وأبو يعلى (6/ 199) عن أنس رضي الله عنه, وحسّن الحافظ في "التلخيص" (3/ 134) رواية النسائي.

وواجباته، وكلما كان الإنسان بالإسلام وشرائعه أشرح صدراً، كان أدل على إرادة الله به الهداية. وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}: من يرد أن يضله: {كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}، يعني: كأنه حين يعرض عليه الإسلام يتكلف الصعود إلى السماء، ولهذا جاءت الآية: {يَصَّعَّدُ}، بالتشديد، ولم يقل: يصعد، كأنه يتكلف الصعود بمشقة شديدة، وهذا الذي يتكلف الصعود لا شك أنه يتعب ويسأم. ولنفرض أن هذا رجل طلب منه أن يصعد جبلاً رفيعاً وصعباً، فإذا قام يصعد هذا الجبل، سوف يتكلف، وسوف يضيق نفسه ويرتفع وينتهب، لأنه يجد من هذا ضيقاً. وعلى ما وصل إليه المتأخرون الآن، يقولون: إن الذي يصعد في السماء كلما ارتفع وازداد ارتفاعه، كثر عليه الضغط، وصار أشد حرجاً وضيقاً، وسواء كان المعنى الأول أو المعنى الثاني، فإن هذا الرجل الذي يعرض عليه الإسلام وقد أراد الله أن يضله يجد الحرج والضيق كأنما يصعد في السماء. ونأخذ من هذه الآية الكريمة إثبات إرادة الله عز وجل. والإرادة المذكورة هنا إرادة كونية لا غير، لأنه قال: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ}، {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ}، وهذا التقسيم لا يكون إلا في الأمور الكونيات، أما الشرعية، فالله يريد من كل أحد أن

تفسير قوله: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك. . . .}

يستسلم لشرع الله. وفيها من السلوك والعبادة أنه يجب على الإنسان أن يتقبل الإسلام كله، أصله وفرعه، وما يتعلق بحق الله وما يتعلق بحق العباد، وأنه يجب عليه أن يشرح صدره لذلك، فإن لم يكن كذلك، فإنه من القسم الثاني الذين أراد الله إضلالهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين" (¬1) ,والفقه في الدين يقتضي قبول الدين، لأن كل من فقه في دين الله وعرفه، قبله وأحبه. قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء: 65]، فهذا إقسام مؤكد بـ (لا)، وإقسام بأخص ربوبية من الله عز وجل لعباده ـ وهي ربوبية الله للرسول ـ على نفي الإيمان عمن لم يقم بهذه الأمور: الأول: تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم لقوله: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ}، يعني: الرسول: فمن طلب التحاكم إلى غير الله ورسوله، فإنه ليس بمؤمن، فإما كافر كفراً مخرجاً عن الملة، وإما كافر كفراً دون ذلك. الثاني: انشراح الصدر بحكمه، بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجاً مما قضى، بل يجدون القبول والانشراح لما قضاه النبي صلى الله عليه وسلم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (71) كتاب العلم/ باب "من يرد الله به خيراً"، ومسلم (1037) كتاب الزكاة/ باب النهي عن المسألة عن معاوية أبي سفيان رضي الله عنه.

أقسام الإرادة

الثالث: أن يسلموا تسليماً، وأكد التسليم بمصدر، يعني: تسليماً كاملاً. فاحذر أيها المسلم أن ينتفي عنك الإيمان. ولنضرب لهذا مثلاً: تجادل رجلان في حكم مسألة شرعية، فاستدل أحدهما بالسنة، فوجد الثاني في ذلك حرجاً وضيقاً، كيف يريد أن يخرج عن متبوعه إلى ابتاع هذه السنة؟ فهذا الرجل ناقص بلا شك في إيمانه، لأن المؤمن حقاً هو الذي إذا ظفر بالنص من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فكأنما ظفر بأكبر غنيمة يفرح بها، ويقول: الحمد لله الذي هداني لهذا. وفلان الذي يتعصب لرأيه ويحاول أن يلوي أعناق النصوص حتى تتجه إلى ما يريده هو لا ما يريده الله ورسوله، فإن هذا على خطر عظيم. أقسام الإرادة: الإرادة تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: إرادة كونية: وهذه الإرادة مرادفة تماماً للمشيئة، فـ (أراد) فيها بمعنى (شاء)، وهذه الإرادة: أولاً: تتعلق فيما يحبه الله وفيما لا يحبه. وعلى هذان فإذا قال قائل: هل أراد الله الكفر؟ فقل: بالإرادة الكونية نعم أراده، ولو لم يرده الله عز وجل، ما وقع. ثانياً: يلزم فيها وقوع المراد، يعني: أن ما أراده الله فلا بد

الفرق بين الإرادتين

أن يقع، ولا يمكن أن يتخلف. القسم الثاني: إرادة شرعية: وهي مرادفة للمحبة، فـ (أراد) فيها بمعنى (أحب)، فهي: أولاً: تختص بما يحبه الله، فلا يريد الله الكفر بالإرادة الشرعية ولا الفسق. ثانياً: أنه لا يلزم فيها وقوع المراد، بمعنى: أن الله يريد شيئاً ولا يقع، فهو سبحانه يريد من الخلق أن يعبدوه، ولا يلزم وقوع هذا المراد، قد يعبدونه وقد لا يعبدونه، بخلاف الإرادة الكونية. فصار الفرق بين الإرادتين من وجهين: 1 - الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد، والشرعية لا يلزم. 2 - الإرادة الشرعية تختص فيما يحبه الله، والكونية عامة فيما يحبه وما لا يحبه. فإذا قال قائل: كيف يريد الله تعالى كوناً ما لا يحبه، بمعنى: كيف يريد الكفر أو الفسق أو العصيان وهو لا يحبه؟! فالجواب: أن هذا محبوب إلى الله من وجه مكروه إليه من وجه آخر، فهو محبوب إليه لما يتضمنه من المصالح العظيمة، مكروه إليه لأنه معصية. ولا مانع من أن يكون الشيء محبوباً مكروها باعتبارين، فها

آيات صفة المحبة

هو الرجل يقدم طفله الذي هو فلذة كبده وثمرة فؤاده، يقدمه إلى الطبيب ليشق جلده ويخرج المادة المؤذية فيه ولو أتى أحد من الناس يريد أن يشقه بظفره وليس بالمشرط، لقاتله، لكن هو يذهب إلى الطبيب ليشقه، وهو ينظر إليه، وهو فرح مسرور، يذهب به إلى الطبيب ليحمي الحديد على النار حتى تلتهب حمراء، ثم يأخذها ويكوي بها ابنه، وهو راض بذلك، لماذا يرضى بذلك وهو ألم للابن؟ لأنه مراد لغيره للمصلحة العظيمة التي تترتب على ذلك. ونستفيد بمعرفتنا للإرادة من الناحية المسلكية أمرين: الأمر الأول: أن نعلق رجاءنا وخوفنا وجميع أحوالنا وأعمالنا بالله، لأن كل شيء بإرادته وهذا يحقق لنا التوكل. الأمر الثاني: أن نفعل ما يريده الله شرعاً، فإذا علمت أنه مراد لله شرعاً ومحبوب إليه، فإن ذلك يقوي عزمنا على فعله. هذا من فوائد معرفتنا بالإرادة من الناحية المسلكية، فالأول باعتبار الإرادة الكونية، والثاني: باعتبار الإرادة الشرعية. صفة المحبة. هذه آيات في إثبات صفة المحبة: الآية الأولى: قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [[البقرة: 195]. {وأحسنوا} فعل أمر.

والإحسان قد يكون واجباً، وقد يكون مستحباً مندوباً إليه، فما كان يتوقف عليه أداء الواجب، فهو واجب، وما كان زائداً على ذلك فهو مستحب. وبناء على ذلك، نقول: {وأحسنوا}: فعل الأمر مستعمل في الواجب والمستحب. والإحسان يكون في عبادة الله، ويكون في معاملة الخلق، فالإحسان في عبادة الله فسره النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل (¬1)، فقال: ما الإحسان؟ قال: "أن تعبد الله كأنك تراه". وهذا أكمل من الذي بعده، لأن الذي يعبد الله كأنه يراه عبادة طلب ورغبة، "فإن لم تكن تراه، فإنه يراك"، أي: فإن لم تصل إلى هذه الحال، فاعلم أنه يراك والذي يعبد الله على هذه المرتبة يعبده عبادة خوف وهرب، لأنه يخاف ممن يراه. وأما الإحسان بالنسبة لمعاملة الخلق؟ فقيل في تفسيره: بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه. بذل الندى: أي: المعروف، سواء كان مالياً أو بدنياً أم جاهياً. كف الأذى: أن لا تؤذي الناس بقولك ولا بفعلك. وطلاقة الوجه: أن لا تكون عبوساً عند الناس، لكن أحياناً الإنسان يغضب ويعبس، فنقول: هذا لسبب، وقد يكون من ¬

_ (¬1) رواه مسلم (8) كتاب الإيمان/ باب بيان أركان الإيمان والإسلام، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الإحسان إذا كان سبباً لصلاح الحال. ولهذا، إذا رجمن الزاني أو جلدناه، فهو إحسان إليه. ويدخل في ذلك إحسان المعاملة في البيع، والشراء، والإجارة، والنكاح ... وغير ذلك، لأنك إذا عاملتهم بالطيب في هذه الأمور، صبرت على العسر، وأوفيت الحق بسرعة، هذا يعد بذل الندى، فإن اعتديت بالغش والكذب والتزوير، فأنت لم تكف الأذى، لأن هذا أذية. أحسن في عبادة لله وإلى عباد الله. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين}: هذا تعليل للأمر، فهذا ثواب المحسن، أن الله يحبهن ومحبة الله مرتبة عالية عظيمة، ووالله إن محبة الله لتشترى بالدنيا كلها، وهي أعلى من أن تحب الله، فكون الله يحبك أعلى من أن تحبه أنت، ولهذا قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}، ولم يقل: فاتبعوني، تصدقوا في محبتكم لله. مع أن الحال تقتضي هكذا، ولكن قال: {يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. ولهذا قال بعض العلماء: الشأن كل الشأن في أن الله يحبك لا أنك تحب الله. كل يدعي أنه يحب الله، لكن الشأن في الذي في السماء عز وجل، هل يحبك أم لا؟ إذا أحبك الله عز وجل، أحبتك الملائكة في السماء، ثم يوضع لك القبول في الأرض، فيحبك أهل

الآية الثانية

الأرض (¬1)، ويقبلونك، ويقبلون ما جاء منك وهذه من عاجل بشرى المؤمن. وفي هذه الآية من الأسماء: الله. ومن الصفات الألوهية، والمحبة. الآية الثانية: قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. {وَأَقْسِطُوا}: فعل أمر، والإقساط ليس هو القسط، بل هو من فعل رباعي، فالهمزة فيه همزة النفي، هذه الهمزة هي همزة النفي، إذا دخلت على الفعل، نفت معناه، فالفعل (قسط)، بمعنى: جار، فإذا أدخلت عليه همزة (أقسط)، صار بمعنى: عدل، أي: أزال القسط، وهو الجور، فيسمون مثل هذه الهمزة همزة السلب، مثل خطئ وأخطأ، خطئ، بمعنى ارتكب الخطأ عن عمد، وأخطأ: ارتكبه عن غير عمد. فقوله: {وَأَقْسِطُوا}، أي: اعدلوا، وهذا واجب، فالعدل واجب في كل ما تجب فيه التسوية: يدخل في ذلك العدل في معاملة الله عز وجل، ينعم الله ¬

_ (¬1) لما رواه البخاري (3209) كتاب بدء الخلق/ باب ذكر الملائكة، ومسلم (2637) كتاب البر/ باب "إذا أحب الله عبداً" عن أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل أن الله يحب فلاناً فأحببهو فيحبه جبريل, فينادي جبريل أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوهو فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض".

عليك بالنعم، فمن العدل أن تقوم بشكره، يبين الله لك الحق، فمن العدل أن تتبع هذا الحق. ويدخل في ذلك العدل في معاملات الخلق: أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من أحب أن يزحزح عن النار ويدخله الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس ما يجب أن يؤتي إليه" (¬1). عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به، مثلاً: إذا أردت أن تعامل شخصاً معاملة، فاعرضها أولاً على نفسك: هل إذا عاملك إنسان بها، هل ترضى أم لا؟ إن كنت ترضى، فعامله، وإلا، فلا تدافعه. ويدخل في ذلك العدل بين الأولاد في العطية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" (¬2). ويدخل في ذلك العدل بين الورثة في الميراث، فيعطى كل واحد نصيبه، ولا يوصى لأحد منهم بشيء. ويدخل في ذلك العدل بين الزوجات، بأن تقسم لكل واحدة مثل ما تقسم للأخرى. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1844) كتاب الإمارة/ باب وجوب الوفاء بيعة الخلفاء الأول فالأول, عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (2587) كتاب الهبة/ باب الإشهاد في الهبة، ومسلم (1623) كتاب الهبات/ باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة, عن نعمان بن بشير رضي الله عنهما.

الإسلام دين عدل وليس دين مساواة

ويدخل في ذلك العدل في نفسك، فلا تكلفها ما لا تطيق من الأعمال، إن لربك عليك حقاً، لنفسك عليك حقاً. وعلى هذا فقس. وهنا يجب أن ننبه على أن من الناس من يستعمل بدل العدل: المساواة! وهذا خطأ، لا يقال: مساواة، لأن المساواة قد تقتضي التسوية بين شيئين الحكمة تقتضي التفريق بينهما. ومن أجل هذه الدعوة الجائرة إلى التسوية صاروا يقولون: أي فرق بين الذكر والأنثى؟! سووا بين الذكور والإناث! حتى إن الشيوعية قالت: أي فرق بين الحاكم والمحكوم، لا يمكن أن يكون لأحد سلطة على أحد، حتى بين الوالد والوالد، ليس للوالد سلطة على الولد ... وهلم جراً. لكن إذا قلنا بالعدل، وهو إعطاء كل أحد ما يستحقه، زال هذا المحذور، وصارت العبارة سليمة. ولهذا، لم يأت في القرآن أبداً: عن الله يأمر بالتسوية! لكن جاء: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90]، {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. وأخطأ على الإسلام من قال: إن دين الإسلام دين المساواة! بل دين الإسلام دين العدل، وهو الجمع بين المتساويين، والتفريق بين المفترقين، إلا أن يريد بالمساواة: العدل، فيكون أصاب في المعنى وأخطأ في اللفظ.

الآية الثالثة

ولهذا كان أكثر ما جاء في القرآن نفي المساواة: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [الرعد: 16]، {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد: 10]، {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ} [النساء: 95]. ولم يأت حرف واحد في القرآن يأمر بالمساواة أبداً، إنما يأمر بالعدل. وكلمة (العدل) أيضاً تجدونها مقبوله لدى النفوس. وأحببت أن أنبه على هذا، لئلا نكون في كلامنا إمعة، لأن بعض الناس يأخذ الكلام على عواهنه، فلا يفكر في مدلوله وفيمن وضعه وفي مغزاه عند من وضعه. وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها. الآية الثالثة: قوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]. {ما}: شرطية، وفعل الشرط: {اسْتَقَامُوا}، وجوابه: {فَاسْتَقِيمُوا}، أي: مهما استقام لكم المعاهدون الذين عاهدتهم عند المسجد الحرام بالوفاء بالعهد، فاستقيموا لهم في ذلك. وهذه الجملة الشرطية تقتضي بمنطوقها، أنهم إذا استقاموا لنا، وجب أن نستقيم لهم، وأن نوفي بعهدهم. وتدل بمفهومها

على أنهم إذا لم يستقيموا، لا نستقيم لهم. والمعاهدون ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: قسم استقاموا على عهدهم وأمناهم، فيجب علينا أن نستقيم لهم، لقوله تعالى: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}. وقسم خانوا ونقضوا العهد، فهؤلاء لا عهد لهم، لقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة: 12]. وقسم ثالث يظهرون الاستقامة لنا، لكننا نخاف من خيانتهم، بمعنى أنه توجد قرائن تدل على أنهم يريدون الخيانة، فهؤلاء قال الله فيهم: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58]، أي: انبذ إليهم عهدهم، فقل: لا عهد بيننا وبينكم. فإذا قال قائل: كيف ينبذ العهد إليهم وهم معاهدون؟! قلنا: لخوف الخيانة، فهؤلاء لا نأمنهم، لأنه يمكن في يوم من الأيام أن يصبحونا، فهؤلاء ننبذ إليهم على سواء، ولا نخونهم ما دام العهد قائماً، لأنه لو قال المسلمون: نحن نخاف منهم الخيانة، سنبادرهم بالقتال. قلنا: هذا حرام، لا تقاتلوهم حتى تنبذوا إليهم العهد. وقوله: {الْمُتَّقِينَ}: المتقون هم الذين اتخذوا وقاية

الآية الرابعة

من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، هذا من أحسن وأجمع ما يقال في تعريف التقوى. وفي الآية من الأسماء والصفات كالتي قبلها. الآية الرابعة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]. التواب: صيغة مبالغة من التوبة، وهو كثير الرجوع إلى الله، والتوبة هي الرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته. وشروطها خمسة: الأول: الإخلاص لله تعالى بأن يكون الحامل له على التوبة مخافة الله ورجاء ثوابه. الثاني: الندم على ما فعل من الذنب، وعلامة ذلك أن يتمنى أنه لم يقع منه. الثالث: الإقلاع عن الذنب، بتركه إن كان محرماً، أو تداركه إن كان واجباً يمكن تداركه. الرابع: العزم على أن لا يعود إليه. الخامس: أن تكون في وقت تقبل فيه التوبة، وهو ما كان قبل حضور الموت وطلوع الشمس من مغربها، فإن كانت بعد حضور الموت أو بعد طلوع الشمس من مغربها، لم تقبل. فالتواب: كثير التوبة. ومعلوم أن كثرة التوبة تسلتزم كثرة الذنب، ومن هنا نفهم بأن

الآية الخامسة

الإنسان مهما كثر ذنبه، إذا أحدث لكل ذنب توبة، فإن الله تعالى يحبه، والتائب مرة واحدة من ذنب واحد محبوب إلى الله عز وجل من باب أولى، لأن من كثرت ذنوبه وكثرت توبته يحبه الله، فمن قلت ذنوبه، كانت محبة الله له بالتوبة من باب أولى. وقوله: {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}: الذين يتطهرون من الأحداث ومن الأنجاس في أبدانهم وما يجب تطهيرة. وهنا جمع بين طهارة الظاهر وطهارة الباطن: طهارة الباطن بقوله: {التَّوَّابِينَ}، والظاهر بقوله: {الْمُتَطَهِّرِينَ}. وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها. الآية الخامسة: قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]. يسمى علماء السلف هذه الآية: آية المحنة، يعني الامتحان، لأن قوماً ادعوا أنهم يحبون الله فأمر الله نبيه أن يقول لهم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي}، وهذا تحد لكل من ادعى محبة الله، أن يقال له: إن كنت صادقاً في محبة الله، فاتبع الرسول, فمن أحدث في دين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ليس منه، وقال: إنني أحب الله ورسوله بما أحدثته، قلنا له: هذا كذب لو كانت محبتك صادقة، لا تبعت الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم تتقدم بين يديه بإدخال شيء في شريعته ليس من دينه، فكل من كان أتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كان لله أحب.

الآية السادسة

وإذا أحب الله وقام بعبادته، فإن الله تعالى يحبه، بل إن الله عز وجل يعطيه أكثر مما عمل، يقول تعالى في الحديث القدسي: "من ذكرني في نفسهن ذكرته في نفسي"، ونفس الله أعظم من نفوسنا. "ومن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه". وفي الحديث أيضاً: "أن من تقرب إليه شبراً تقرب الله إليه ذراعاً، ومن تقرب إليه ذراعاً، تقرب إليه باعاً، ومن أتى إلى الله يمشي، أتاه الله هرولة" (¬1). إذا فعطاه الله عز وجل وثوابه أكثر من عملك. وفي الآية من الأسماء والصفات مما سبق في التي قبلها. الآية السادسة: قوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]. الفاء واقعة في جواب الشرط في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، أي: إذا ارتددتم عن دين الله، فإن ذلك لا يضر الله شيئاً، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، وهذا كقوله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]. فكل من ارتد عن دين الله، فإن الله لا يعبأ به، لأنه تعالى غني عنه، بل يزيله ويأتي بخير منه، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} بدل منهم {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}، وإذا كانوا يحبون الله ويحبهم الله فسوف ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7405) كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى: "ويحذركم الله نفسه"، ومسلم (2675) عن أبي هريرة رضي اللع عنه في كتاب الذكر والدعاء/ باب الحث على باب الحث على ذكر الله تعالى.

يقومون بطاعته. وتمام الآية: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}: أما المؤمنين أذلة، يخفضون أجنحتهم للمؤمنين، ويلينون لهم، ويتطامنون، ومع الكفار أعزة أقوياء، لا يظهرون الذل أمام الكافر أبداً. وقد علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام: "وإذا لقيتموهم في طريق، فاضطروهم إلى أضيقه" (¬1)، فإذا لاقاكم اليهود والنصاري، ولو كانوا ألفاً وأنتم عشرة، نشق هذا الجمع، ولا نفسح لهم الطريق، بل نلجئهم إلى أضيقه، فنريهم العز بديننا لا بأنفسنا، لأننا نحن بشر وهم بشر، حتى يتبين لهم أن دين الإسلام هو الظاهر، وأن المتمسك به هو العزيز. {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}: يجاهدون في سبيل الله، كل من قام ضد دين الله من كافر وفاسق وملحد ومارق يجاهدونه، وكل إنسان يقابلونه من السلام بما يليق به، فمن قاتلهم بالحديد والنار، قاتلوه بالحديد والنار، ومن قاتلهم بالجدال والخصام الكلامي، جادلوه بمثل ذلك، فهم يجاهدون في الله بكل نوع من أنواع الجهاد. {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} لا يخافون نقد الناس عليهم، يقولون الحق ولو كان على أنفسهم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2167) عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب السلام/ باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام.

الآية السابعة

لكنهم يستعملون الحكمة في هذا الجهاد ويرومون الوصول إلى الغاية، فإذا رأوا أن الدعوة تستوجب التأخر في بعض الأمور، تأخروا، وإذا رأوا أن الدعوة تقتضي اللين في بعض الأحوال، استعملوه، لأنهم يريدون الوصول إلى غاية معينة، والوسيلة حسب ما تقتضيه الحال. ثم قال الله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]. وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها، وزيادة أن الله تعالى يكون محبوباً. الآية السابعة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]. هذه الآية في سورة الصف، وسورة الصف في الحقيقة هي سورة الجهاد، لأن الله تعالى بدأها بالثناء على المقاتلين في سبيله، ثم دعا إلى الجهاد في آخرها، ثم ذكر بين ذلك أن الله سيظهر دينه على كل الأديان ولو كره المشركون. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً}: لا يتقدم أحد على أحد ولا يتأخر، حتى في الجهاد. والصلاة جهاد مصغر، فيها قائد يجب اتباعه، فإن لم تتبعه، بطلت صلاتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة

حمار" (¬1) , والصف في الصلاة نظير الصف في الجهاد، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يصفهم في الجهاد كما يصفهم في الصلاة "كأنهم بنيان" والبنيان كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "يشد بعضه بعضاً" (¬2)، يتماسك بعضه ببعض، ولهذا قال: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، فليس كالمفرق: فالمرصوص أشد تماسكاً. فهؤلاء الذين علق الله المحبة لهم بأعمالهم لهم عدة صفات: أولاً: يقاتلون، فلا يركنون إلى الخلود والخمول والكسل والجمود الذي يضعف الدين والدنيا. ثانياً: الإخلاص، لقوله: {فِي سَبِيلِهِ}. ثالثاً: يشد بعضهم بعضاً، لقوله: {صَفَّاً}. رابعاً: أنهم كالبنيان، والبنيان حصن منيع. خامساً: لا يتخللهم ما يمزقهم، لقوله: {مَّرْصُوصٌ}. هذه خمس صفات علق الله المحبة لهؤلاء عليها. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (691) كتاب الأذان/ باب أثم من رفع رأسه قبل الإمام، ومسلم (427) عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الصلاة/ باب تحريم سبق الإمام. (¬2) رواه البخاري (6026) كتاب الآداب/ باب تعاون المؤمنين بعضهم بعضاً.، ومسلم كتاب البر والصلة (2585) باب تراحم المؤمنين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" ثم شبك بين أصابعه.

الآية الثامنة

وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها. الآية الثامنة: قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14]. {الْغَفُورُ}: الساتر لذنوب عباده المتجاوز عنها. {الْوَدُودُ} مأخوذ من الود، وهو خالص المحبة، وهي بمعنى: واد، وبمعنى: مودود، لأنه عز وجل محب ومحبوب، كما قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، فالله عز وجل واد ومودو، واد لأوليائه، وأولياؤه يودونه يحبونه، يحبون الوصول إليه وإلى جنته ورضوانه. وفي الآية اسمان من أسماء الله: الغفور، والودود. وصفتان: المغفرة، والود. وأتمنى لو أن المؤلف أضاف آية تاسعة في المحبة، وهي الخلة، لقوله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125]، والخليل هو من كان في أعلى المحبة، فالخلة أعلى أنواع المحبة، لأن الخليل هو الذي وصل حبه إلى سويداء القلب وتخلل مجاري عروقه، وليس فوق الخلة شيء من أنواع المحبة أبداً. يقول الشاعر لمعشوقته: قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلاً فالنبي عليه الصلاة والسلام يحب أصحابه كلهم، لكن ما

اتخذ واحداً منهم خليلاً أبداً، قال النبي عليه الصلاة وهو يخطب الناس: "لو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر" (¬1)، إذاً، أبو بكر هو أحب الناس إليه، لكن لم يصل إلى درجة الخلة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ أحداً خليلاً، لكن إخوة الإسلام ومودته، وأما الخلة، فهي بينه وبين ربه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً" (¬2). والخلة لا نعلم أنها ثبتت لأحد من البشر، إلا لاثنين، هما إبراهيم محمد عليهما الصلاة والسلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله اتخذني خليلاً". وهذه الخلة صفة من صفات الله عز وجل، لأنها أعلى أنواع المحبة، وهي توقيفية، فلا يجوز أن نثبت لأحد من البشر أنه خليل إلا بدليل، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا هذين الرسولين الكريمين، فهما خليلان لله عز وجل. وهذه الآية: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} هي التي استشهد بها من قتل الجعد بن درهم رأس المعطلة الجهمية، أول ما أنكر قال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً فقتله خالد بن عبد الله القسري رحمه الله (¬3)، حيث خرج به موثقاً في يوم عيد ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2356) , رواه مسلم (2383) كتاب فضائل الصحابة/ باب فضائل أبي بكر الصديق. (¬2) رواه مسلم (532) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه. (¬3) خالد بن عبد الله القسري, قال الذهبي: "الأمير أبو الهيثم الذهلي صاحب ما وراء النهر, له آثار حميدة ببخارى أكرم بها المحدثون وأعطاهم, طلب منه البخاري أن يحدث بقصره الصحيح يسمعه أولاده فأبى, فتألم, وأخرجه من البخارى ... كان يمشي في طلب الحديث ولا يركب, وأنفق في ذلك ألف ألف درهم, مات سنة سبعين ومأتين" "سير الأعلام النبلاء" (13/ 137)

الأضحى، وخطب الناس، وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإن مضح بالجعد بن درهم، لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه (¬1). ويقول ابن القيم في ذلك (¬2): ولأجل ذا ضحى بجعد خالد ... القسري يوم ذبائح القربان إذ قال إبراهيم ليس خليله ... كلا ولا موسى الكليم الداني شكر الضحية كل صاحب سنة ... لله درك من أخي قربان فلدينا الآن محبة وود وخلة، فالمحبة والود مطلقة، والخلة خاصة بإبراهيم ومحمد. ويجب أن يكون اعتمادنا في الأمور الغيبية على الأدلة السمعية، لكن لا مانع من أن نستدل بأدلة عقلية، لإلزام من أنكر أن تكون المحبة ثابتة بالأدلة العقلية، مثل الأشاعرة، يقولون: لا يمكن أن تثبت المحبة بين الله وبين العبد أبداً، لأن العقل لا يدل عليها، وكل ما لا يدل عليه العقل، فإنه يجب أن ننزه الله عنه. ¬

_ (¬1) ذكرها البخاري في"خلق أفعال العباد" برقم (12) , والدارمي في الرد على الجهمية (17) , وقوى إسناده الألباني في مختصر العلو (135) , وانظر مختصر الصواعق لابن القيم (13/ 1071). (¬2) "الكافية الشافية" لابن القيم بشرح ابن عيسى (1/ 50).

أسباب نيل محبة الله

فنحن نقول: نثبت المحبة بالأدلة العقلية، كما هي ثابتة عندنا بالأدلة السمعية، احتجاجاً على من أنكر ثبوتها بالعقل، فنقول وبالله التوفيق: إثابة الطائعين بالجنات والنصر والتأييد وغيره، هذا يدل بلا شك على المحية، ونحن نشاهد بأعيننا ونسمع بآذاننا عمن سبق وعمن لحق أن الله عز وجل أيد من أيد من عباده المؤمنين ونصرهم وأثابهم، وهل هذا إلا دليل على المحبة لمن أيدهم ونصرهم وأثابهم عز وجل؟! وهنا سؤالان: الأول: بماذا ينال الإنسان محبة الله عز وجل؟ وهذه هي التي يطلبها كل إنسان، والمحبة عبارة عن أمر فطري يكون في الإنسان ولا يملكه، ولهذا يروى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في العدل بين زوجاته: "هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك" (¬1)؟ فالجواب: أن المحبة لها أسباب كثيرة: منها: أن ينظر الإنسان: من الذي خلقه؟ ومن الذي أمده ¬

_ (¬1) رواه أحمد (6/ 144) , وأبو داود (2134) , وابن ماجة (1971) , والنسائي (7/ 64) , والترمذي (1140) , وابن حبان (10/ 5) , والحاكم (2/ 187)؛ وصححه ووافقه الذهبي. واختلف في وصله وإرساله. وانظر "ارواء الغليل" (2018).

بالنعم منذ كان في بطن أمه؟ ومن الذي أجرى إليك الدم في عروقك قبل أن تنزل إلى الأرض إلا الله عز وجل؟ من الذي دفع عنك النقم التي انعقدت أسبابها، وكثيراً ما تشاهد بعينك آفات ونقماً تهلكك، فيرفعها الله عنك؟ وهذا لا شك أنه يجلب المحبة، ولهذا ورد في الأثر: "أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم" (¬1). واعتقد لو أن أحداً أهدى إليك قلماً، لأحببته، فإذا كان كذلك، فأنت انظر نعمة الله عليك النعم العظيمة الكثيرة التي لا تحصيها، تحب الله. ولهذا إذا جاءت النعمة وأنت في حاجة شديدة إليها، تجد قلبك ينشرح، وتحب الذي أسداها إليك، بخلاف النعم الدائمة، فأنت تذكر هذه النعم التي أعطاك الله، وتذكر أيضاً أن الله فضلك على كثير من عباده المؤمنين، إن كان الله من عليك بالعلم، فقد فضلك بالعلم، أو بالعبادة، فقد فضلك بالعبادة، أو بالمال: فقد فضلك بالمال، أو بالأهل، فقد فضلك بالأهل، أو بالقوت فقد فضلك بالقوت، وما من نعمة إلا وتحتها ما هو دونها، فأنت إذا رأيت هذه النعمة العظيمة، شكرت الله وأحببته. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي/ كتاب المناقب (3789)، والحاكم (2/ 150) البيهقي في الشعب (1378) , والطبراني (3/ 31) , وأبو نعيم في الحلية (3/ 211) , والحديث ضعفه الألباني في تعليقه على "فقه السيرة" (23).

الآثار المسلكية

ومنها: محبة ما يحبه الله من الأعمال القولية والفعلية والقلبية، تحب الذي يحبه الله، فهذا يجعلك تحب الله، لأن الله يجازيك على هذا أن يضع محبته في قلبك، فتحب الله إذا قمت بما يحب، وكذلك تحب من يحب، والفرق بينهما ظاهر، الأخيرة من الأشخاص، والأولى من الأعمال، لأننا أتينا بـ (ما) التي لغير العاقل من الأعمال والأماكن والأزمان، وهذه (من) للعاقل من الأشخاص، تحب النبي عليه الصلاة والسلام، تحب إبراهيم، تحب موسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء، تحب الصديقين، كأبي بكر، والشهداء، وغير ذلك ممن يحبهم الله، فهذا يجلب لك محبة الله، وهو أيضاً من أثار محبة الله، فهو سبب وأثر. ومنها: كثرة ذكر الله، بحيث يكون دائماً على بالك، حتى تكون كلما شاهدت شيئاً، استدللت به عليه عز وجل، حتى يكون قلبك دائماً مشغولاً بالله، معرضاً عما سواه، فهذا يجلب لك محبة الله عز وجل. وهذه الأسباب الثلاثة هي عندي من أقوى أسباب محبة الله عز وجل. السؤال الثاني: ما هي الآثار المسلكية التي يستلزمها ما ذكر؟ والجواب: أولاً: قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]: يقتضي أن نحسن، وأن نحرص على الإحسان، لأن الله يحبه، وكل شيء يحبه الله، فإننا نحرص عليه.

ثانياً: قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]: يقتضي أن نعدل ونحرص على العدل. ثالثاً: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]: يقتضي أن نتقي الله عزوجل، لا نتقي المخلوقين بحيث إذا كان عندنا من نستحي منه من الناس، تركنا المعاصي، وإذا لم يكن، عصينا، فالتقوى أن نتقي الله عز وجل، ولا يهمك الناس. أصلح ما بينك وبين الله، يصلحا لله ما بينك وبين الناس. أنظر يا أخي إلى الشيء الذي بينك وبين ربك، يصلح الله ما بينك وبين الناس. أنظر يا أخي إلى الشيء الذي بينك وبين ربك، ولا يهمك غير ذلك، {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38]. افعل ما يقتضيه الشرع، وستكون لك العاقبة. رابعاً: يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222]، وهذه تستوجب أن أكثر التوبة إلى الله عز وجل، أكثر أن أرجع إلى الله بقلبي وقالبي، ومجرد قول الإنسان: أتوب إلى الله. هذا قد لا ينفع، لكن تستحضر وأنت تقول: أتوب إلى الله: أن بين يديك معاصي، ترجع إلى الله منها وتتوب، حتى تنال بذلك محبة الله. {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]: إذا غسلت ثوبك من النجاسة، تحس بأن الله أحبك، لأن الله يحب المتطهرين. إذا توضأت، تحس بأن الله أحبك، لأنك تطهرت. إذا اغتسلت، تحس أن الله أحبك، لأن الله يحب المتطهرين .... ووالله، إننا لغافلون عن هذه المعاني، أكثر ما نستعمل

الطهارة من النجاسة أو من الأحداث، لأنها شرط لصحة الصلاة، خوفاً من أن تفسد صلاتنا، لكن يغيب عنا كثيراً أن نشعر بأن هذا قربة وسبب لمحبة الله لنا، لو كنا نستحضر عندما يغسل الإنسان نقطة بول أصابت ثوبه أن ذلك يجلب محبة الله له، لحصلنا خيراً كثيراً، لكننا في غفلة. خامساً: قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران: 31]: هذا أيضاً يستوجب أن نحرص غاية الحرص على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث نترسم طريقه، لا تخرج منه، وا نقصر عنه، ولا نزيد، ولا ننقص. وشعورنا هذا يحمينا من البدع، ويحمينا من التقصير، ويحمينا من الزيادة والغلو، ولو أننا نشعر بهذه الأمور، فانظر كيف يكون سلوكنا آدابنا وأخلاقنا وعباداتنا. سادساً: قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، نحذر به من الردة عن الإسلام، التي منها ترك الصلاة مثلاً، فإذا علمنا أن الله يهددنا بأننا إن ارتددنا عن ديننا، أهلكنا الله، وأتى بقوم يحبهم ويحبونه، ويقومون بواجبهم نحو ربهم، فإننا نلازم طاعة الله والابتعاد عن كل ما يقرب للردة. سابعاً: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4]. إذا آمنا بهذه المحبة، فعلنا هذه الأسباب الخمسة التي

الرد على من أنكر المحبة

تستلزمها وتوجبها: القتال، وعدم التواني، والإخلاص، بأن يكون في سبيل الله، أن يشد بعضنا بعضاً كأننا بنيان، أن نحكم الرابطة بيننا إحكاماً قوياً كالبنيان المرصوص، أن نصف، وهذا يقتضي التساوي حساً، حتى لا تختلف القلوب، وهو مما يؤكد الألفة، والإنسان إذا رأى واحداً عن يمينه وواحداً عن يساره، يقوى على الإقدام، لكن لو يحيطون به من جميع الجوانب، فستشتد همته. فصار في هذه الآيات ثلاثة مباحث: 1 - إثبات المحبة بالأدلة السمعية. 2 - أسبابها. 3 - الآثار المسلكية في الإيمان بها. أما أهل البدع الذين أنكروها، فليس عندهم إلا حجة واهية، يقولون: أولاً: إن العقل لا يدل عليها. ثانياً: إن المحبة إنما تكون بين اثنين متجانسين، لا تكون بين رب ومخلوق أبداً، ولا بأس أن تكون بين المخلوقات. ونحن نرد عليهم فنقول: نجيبكم عن الأول ـ وهو أن العقل لا يدل عليها ـ بجوابين: أحدهما: بالتسليم، والثاني: بالمنع. التسليم: نقول: سلمنا أن العقل لا يدل على المحبة، فالسمع دل عليها، وهو دليل قائم بنفسه، والله عز وجل يقول في

القرآن: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فإذا كان تبياناً، فهو دليل قائم بنفسه، "وانتفاء الدليل المعين، لا يلزم منه انتفاء المدلول"، لأن المدلول قد يكون له أدلة متعددة، سواء الحسيات أو المعنويات: فالحسيات: مثل بلد له عدة طرق توصل إليه، فإذا انسد طريق، ذهبنا مع الطريق الثاني. أما المعنويات، فكم من حكم واحد يكون له عدة أدلة وجوب الطهارة للصلاة مثلاً فيه أدلة متعددة. فإذاً، إذا قلتم: إن العقل لا يدل على إثبات المحبة بين الخالق والمخلوق، فإن السمع دل عليه بأجلى دليل وأوضح بيان. الجواب الثاني: المنع: أن نمنع دعوى أن العقل لا يدل عليها، ونقول: بل العقل دل على إثبات المحبة بين الخالق والمخلوق، كما سبق. وأما قولكم: إن المحبة لا تكون إلا بين متجانسين، فيكفي أن نقول: لا قبول لدعواكم، لأن المنع كاف في رد الحجة، إذ أن الأصل عدم الثبوت، فنقول: دعواكم أنها لا تكون إلا بين متجانسين ممنوع، بل هي تكون بين غير المتجانسين، فالإنسان عنده ساعة قديمة ما أتعبته بالصيانة وما فسدت عليه قط فتجده يحبها، وعنده ساعة تأخذ نصف وقته في التصليح فتجده يبغضها. وأيضاً نجد أن البهائم تحب وتحب.

آيات صفة الرحمة

فنحن ـ ولله الحمد ـ نثبت لله المحبة بينه وبين عباده. صفة الرحمة: الشرح: هذه آيات في إثبات صفة الرحمة: الآية الأولى: قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30]. هذه آية أتى بها المؤلف ليثبت حكماً، وليست مقدمة لما بعدها، وقد سبق لنا شرح البسملة، فلا حاجة إلى إعادته. وفيها من أسماء الله ثلاثة: الله، الرحمن، الرحيم. ومن صفاته: الألوهية، والرحمة. الآية الثانية: قوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7]. هذا يقوله الملائكة: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7]. ما أعظم الإيمان وأعظم فائدته! الملائكة حول العرش يحملونه، يدعون الله للمؤمن. وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً}: يدل على أن كل شيء وصله علم الله، وهو واصل لكل شيء، فإن رحمته وصلت إليه، لأن الله قرن بينهما في الحكم {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ

الفرق بين الرحمة العامة والخاصة

شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً}. وهذه هي الرحمة العامة التي تشمل جميع المخلوقات، حتى الكفار، لأن الله قرن الرحمة هذه مع العلم، فكل ما بلغه علم الله، وعلم الله بالغ لكل شيء، فقد بلغته رحمته، فكما يعلم الكافر، يرحم الكافر أيضاً. لكن رحمته للكافر رحمة جسدية بدنية دنيوية قاصرة غاية القصور بالنسبة لرحمة المؤمن، فالذي يرزق الكافر هو الله الذي يرزقه بالطعام والشراب واللباس والمسكن والمنكح وغير ذلك. أما المؤمنون، فرحمتهم رحمة أخص من هذه وأعظم، لأنهار رحمة إيمانية دينية دنيوية. ولهذا تجد المؤمن أحسن حالاً من الكافر، حتى في أمور الدنيا، لأن الله يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]: الحياة الطيبة هذه مفقودة بالنسبة للكفار، حياتهم كحياة البهائم، إذا شبع، روث، وإذا لم يشبع، جلس يصرخ هكذا هؤلاء الكفار إن شبعوا، بطروا وإلا جلسوا يصرخون ولا يستفيدون من دنياهم، لكن المؤمن إن أصابته سراء، شكر، فهو في خير في هذا وفي هذا، وقلبه منشرح مطمئن متفق مع القضاء والقدر، لا جزع عند البلاء، ولا بطر عند النعماء، بل هو متوازن مستقيم معتدل. فهذا فرق ما بين الرحمة هذه وهذه.

الآية الثالثة

لكن مع الأسف الشديد أيها الأخوة: إن منا أناساً آلافاً يريدون أن يلحقوا بركب الكفار في الدنيا، حتى جعلوا الدنيا هي همهم، إن أعطوا، رضوا، وإن لم يعطوا، إذا هم يسخطون هؤلاء مهما بلغوا في الرفاهية الدنيوية، فهم في جحيم، لم يذوقوا لذة الدنيا أبداً، إنما ذاقها من آمن بالله وعمل صالحاً. ولهذا قال بعض السلف: والله، لو يعلم الملوك وأبناء لملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. لأنه حال بينهم وبين هذا النعيم ما هم عليه من الفسوق والعصيان والركون إلى الدنيا وأنها أكبر همهم ومبلغ علمهم. قوله: {رَحْمَةً وَعِلْماً}: {رَحْمَةً}: تمييز محول عن الفاعل، وكذلك {وَعِلْماً}، لأن الأصل: ربنا وسعت رحمتك وعلمك كل شيء. وفي الآية من صفات الله: الربوبية وعموم الرحمة، والعلم. الآية الثالثة: قوله: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43]. {بِالْمُؤْمِنِينَ}: متعلق بـ (رحيم)، وتقديم المعمول يدل على الحصر، فيكون معنى الآية: وكان بالمؤمنين لا غيرهم رحيماً. ولكن كيف نجمع بين هذه الآية والتي قبلها: {رَبَّنَا وَسِعْتَ

الآية الرابعة

كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7]؟! نقول: الرحمة التي هنا غير الرحمة التي هناك. هذه رحمة خاصة متصلة برحمة الآخرة لا ينالها الكفار، بخلاف الأولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا؛ بخلاف الأولى. هذا هو الجمع بينهما، وإلا، فكل مرحوم، لكن فرق بين الرحمة الخاصة والرحمة العامة. وفي الآية من الصفات: الرحمة. ومن الناحية المسلكية: الترغيب في الإيمان. الآية الرابعة: قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] يقول جل جلاله ممتدحاً مثنياً على نفسه {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ}، فأثنى على نفسه عز وجل بأن رحمته وسعت كل شيء من أهل السماء ومن أهل الأرض. ونقول فيها ما قلنا في الآية الثانية، فليرجع إليه. الآية الخامسة: قوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]. {كَتَبَ}: بمعنى: أوجب على نفسه الرحمة، فالله عز وجل لكرمه وفضله وجوده أوجب على نفسه الرحمة، فالله عز وجل لكرمه وفضله وجوده أوجب على نفسه الرحمة، وجعل رحمته سابقه لغضبه، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45]، لكن حلمه ورحمته أوجبت أن يبقى الخلق إلى أجل مسمى.

ومن رحمته ما ذكره بقوله: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54] هذه من رحمته. {سُوءاً}: نكرة في سياق الشرط، فتعم كل سوء، حتى الشرك. {بِجَهَالَةٍ}: يعني: بسفه، وليسالمراد بها عدم العلم، والسفه عدم الحكمة، لأن كل من عصى الله، فقد عصاه بجهالة وسفه وعدم حكمة. {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: فيغفر ذنبه ويرحمه. ولم يختم الآية بهذا، إلا سينال التائب المغفرة والرحمة، هذا من رحمته التي كتبها على نفسه، وإلا لكان مقتضى العدل أن يؤاخذه على ذنبه، ويجزيه على عمله الصالح. فلو أن رجلاً أذنب خمسين يوماً، ثم تاب وأصلح خمسين يوماً، فالعدل أن نعذبه عن خمسين يوماً، ونجازيه بالثواب عن خمسين يوماً، لكن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة، فكل الخمسين يوماً، لكن الله عز وجل كتب على نفسه الرحمة، فكل الخمسين يوماً التي ذهبت من السوء تمحى وتزول بساعة، وزد على ذلك: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، السيئات الماضية تكون حسنات، لأن كل حسنة عنها توبة، وكل توبة فيها أجر.

الآية السادسة

فظهر بهذا أثر قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}. وفي الآية من صفات الله: الربوبية، والإيجاب، والرحمة. الآية السادسة: قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]. الله عز وجل هو الغفور الرحيم، جمع عز وجل بين هذين الاسمين، لأن بالمغفرة سقوط عقوبة الذنوب، وبالرحمة حصول المطلوب، والإنسان مفقتر إلى هذا وهذا، ومفتقر إلى مغفرة ينجو بها من آثامه، ومفتقر إلى رحمة يسعد بها بحصول مطلوبة. فـ {الْغَفُورُ}: صيغة مبالغة مأخوذة من الغفر، وهو الستر مع الوقاية، لأنه مأخوذ من المغفر، والمغفر شيء يوضع على الرأس في القتال يقي من السهام، وهذا المغفر تحصل به فائدتان هما: ستر الرأس والوقاية. فـ {الْغَفُورُ}: الذي يستر ذنوب عباده، ويقيهم آثامها، بالعفو عنها. ويدل على هذا ما ثبت في الصحيح: "أن الله عز وجل يخلو يوم القيامة بعبده، ويقرره بذنوبه، يقول: عملت كذا، وعملت كذا .. حتى يقر، فيقول الله عز وجل له: قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم" (¬1). ¬

_ (¬1) رواها لبخاري (2441) كتاب المظالم/ باب قوله تعالى: "ألا لعنة الله على الظالمين"، ومسلم (2768) كتاب التوبة/ باب قبول توبة القاتل عن ابن عمر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله يدني المؤمنين فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا فيقول: نعم أي رب, إذا حتى أقروه بذنوبهم ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنياء, وأنا أغفرها لك اليوم".

الآية السابعة

أما {الرَّحِيمُ}؛ فهو ذو الرحمة الشاملة وسبق الكلام في ذلك. وفي الأية من الأسماء: الغفور والرحيم. ومن الصفات: المغفرة, والرحمة. الآية السابعة: قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]، قالها عن يعقوب حين أرسل مع أبنائه أخا يوسف الشقيق، لأن يوسف عليه الصلاة والسلام قال: لا كيل لكم إذا رجعتم، إلا إذا أتيتم بأخيكم، فبلغوا والدهم هذه الرسالة، ومن أجل الحاجة أرسله معهم، وقال لهم عند وداعه: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 64]، يعني: لن تحفظوه، لكن الله هو الذي يحفظه. {خَيْرٌ حَافِظاً}: {حَافِظاً}: قال العلماء: إنا تمييز، كقول العرب: لله دره فارساً. وقيل: إنها حال من فاعل {خَيْرٌ} في قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ}، أي: حال كونه حافظاً. الشاهد من الآية هنا قوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، حيث أثبت الله عز وجل الرحمة، بل بين أنه أرحم الراحمين، لو جمعت رحمة الخلق كلهم، بل رحمات الخلق كلهم، لكانت رحمة الله أشد وأعظم.

أرحم ما يكون من الخلق بالخلق رحمة الأم ولدها، فإن رحمة الأم ولدها لا يساويها شيء من رحمة الناس أبداً، حتى الأب لا يرحم أولاده مثل أمهم في الغالب. جاءت امرأة في السبي تطلب ولدها وتبحث عنه، فلما رأته، أخذته بشفقة وضمته إلى صدرها أمام الناس وأمام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون أن هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ ". قالوا: لا والله يا رسول الله. قال: "لله أرحم بعباده من هذه بولدها" (¬1). جل جلاله، عز ملكه وسلطانه. كل الراحمين، إذا جمعت رحماتهم كلهم، فليست بشيء عند رحمة الله. ويدلك على هذا أن الله عز وجل خلق مئة رحمة، وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلائق في الدنيا (¬2). كل الخلائق تتراحم، البهائم والعقلاء، ولهذا تجد البعير الجموح الرموح ترفع رجلها عن ولدها مخافة أن تصيبه عندما يرضع حتى يرضع بسهولة ويسر، وكذلك تجد السباع الشرسة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5999) كتاب الأدب/ باب رحمة الولد، ومسلم (2754) في كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (6000) كتاب الأدب/ باب جعل الله الرحمة في مائة جزء، ومسلم (2752) في كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأنزل في الأرض جزءاً واحداً فمن ذلك الجزء تترحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه".

الأدلة العقلية على ثبوت صفة الرحمة

تجدها تحن على ولدها وإذا جاءها أحد في جحرها مع أولادها، ترمي نفسها عليه، فتدافع عنهم، حتى ترده عن أولادها. وقد دل على ثبوت رحمة الله تعالى: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل: فأما الكتاب، فجاء به إثبات الرحمة على وجوه متنوعة، تارة بالاسم، كقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107]، وتارة بالصفة، قوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58]، وتارة بالفعل، كقوله: {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21]، وتارة باسم التفضيل، كقوله: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: 92]. وبمثل هذه الوجوه .. جاءت السنة. وأما الأدلة العقلية على ثبوت الرحمة لله تعالى، فمنها ما نرى من الخيرات الكثيرة التي تحصل بأمر الله عز وجل، ومنها ما نرى من النقم الكثيرة التي تندفع بأمر الله، كله دال على إثبات الرحمة عقلاً. فالناس في جدب وفي قحط، الأرض مجدبة، والسماء قاحطة، لا مطر، ولا نبات، فينزل الله المطر، وتنبت الأرض، وتشبع الأنعام، ويسقي الناس .. حتى العامي الذي لم يدرس، لو سألته وقلت: هذا من أي شيء؟ فسيقول: هذا من رحمة الله ولا يشك أحد في هذا أبداً.

فرحمة الله عز وجل ثابتة بالدليل السمعي والدليل العقلي. وأنكر الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل أن يكون الله تعالى متصفاً بالرحمة، قالوا: لأن العقل لم يدل عليها. وثانياً: لأن الرحمة رقة وضعف وتطامن للمرحوم، وهذا لا يليق بالله عز وجل، لأن الله أعظم من أن يرحم بالمعنى الذي هو الرحمة، ولا يمكن أن يكون لله رحمة!! وقالوا: المراد بالرحمة: إرادة الإحسان، أو: الإحسان نفسه، أي: إما النعم، أو إرادة النعم. فتأمل الآن كيف سلبوا هذه الصفة العظيمة، التي كل مؤمن يرجوها ويؤملها، كل إنسان لو سألته: ماذا تريد؟ قال: أريد رحمة الله {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. أنكروا هذا، قالوا: لا يمكن أن يوصف الله بالرحمة!! ونحن نرد عليهم قولهم من وجهين: بالتسليم، والمنع: التسليم أن نقول: هب أن العقل لا يدل عليها، ولكن السمع دل عليها، فثبتت بدليل آخر، والقاعدة العامة عند جميع العقلاء: أن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول، لأنه قد يثبت بدليل آخر. فهب أن الرحمة لم تثبت بالعقل، لكن ثبتت بالسمع، وكم من أشياء ثبتت بأدلة كثيرة. أما المنع، فنقول: إن قولكم: إن العقل لا يدل على الرحمة: قول باطل، بل العقل يدل على الرحمة، فهذه النعم المشهودة والمسموعة، وهذه النقم المدفوعة، ما سببها؟ إن سببها الرحمة بلا شك، ولو كان الله لا يرحم العباد، ما أعطاهم النعم،

ولا دفع عنهم النقم! وهذا أمر مشهود، يشهد به الخاص والعام، العامي في دكانه أو سوقه يعرف أن هذه النعم من آثار الرحمة. والعجيب أن هؤلاء القوم أثبتوا صفة الإرادة عن طريق التخصيص، قالوا: الإرادة ثابتة لله تعالى بالسمع والعقل: بالسمع: واضح. وبالعقل: لأن التخصيص، يدل على الإرادة ومعنى التخصيص يعني تخصيص المخلوقات بما هي عليه يدل على الإرادة، كون هذه السماء سماء، وهذه الأرض أرضاً، وهذه النجوم وهذه الشمس ... هذه مختلفة بسبب الإرادة، أراد الله أن تكون السماء سماء، فكانت، وأن تكون الأرض أرضاً، فكانت، والنجم نجماً، فكان .... وهكذا. قالوا: فالتخصيص يدل على الإرادة، لأنه لولا الإرادة، لكان الكل شيئاً واحداً! نقول لهم: يا سبحان الله العظيم! هذا الدليل على الإرادة بالنسبة لدلالة النعم على الرحمة أضعف وأخفى من دلالة النعم على الرحمة، لأن دلالة النعم على الرحمة يستوي في علمها العام والخاص، ودلالة التخصيص على الإرادة لا يعرفها إلا الخاص من طلبة العلم، فكيف تنكرون ما هو أجلى وتثبتون ما هو أخفى؟! وهل هذا إلا تناقض منكم؟!

ما نستفيد من الناحية المسلكية لهذه الآيات

ما نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآيات: الأمر المسلكي: هو أن الإنسان ما دام يعرف أن الله تعالى رحيم، فسوف يتعلق برحمة الله، ويكون منتظراً لها، فيحمله هذا الاعتقاد على فعل كل سبب يوصل إلى الرحمة، مثل: الإحسان، قال الله تعالى فيه: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]، والتقوى، قال تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، والإيمان، فإنه من أسباب رحمة الله، كما قال تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43]، ولكما كان الإيمان أقوى، كانت الرحمة إلى صاحبه أقرب بإذن الله عز وجل. صفة الرضى: وقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]. الشرح: هذه من آيات الرضى، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالرضى، وهو يرضى عن العمل، ويرضى عن العامل. يعني: أن رضى الله متعلق بالعمل وبالعامل .. أما بالعمل، فمثل قوله تعالى: {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7]، أي: يرض الشكر لكم. وكما في قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً} [المائدة: 3].

وكما في الحديث الصحيح: "إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً ... " (¬1). فهذا الرضى متعلق بالعمل. ويتعلق الرضى أيضاً بالعامل، مثل هذه الآية التي ساقها المؤلف: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]. فرضى الله صفة ثابتة لله عز وجل، وهي في نفسه، وليست شيئاً منفصلاً عنه: كما يدعيه أهل التعطيل. ولو قال لك قائل: فسر لي الرضى. لم تتمكن من تفسيره، لأن الرضى صفة في الإنسان غريزية، والغرائز لا يمكن لإنسان أن يفسرها بأجلي وأوضح من لفظها. فنقول: الرضى صفة في الله عز وجل، وهي صفة حقيقية، متعلقة بمشيئته، فهي من الصفات الفعلية، يرضى عن المؤمنين وعن المتقين وعن المقسطين وعن الشاكرين ولا يرضى عن القوم الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يرضى عن المنافقين، فهو سبحانه وتعالى يرضى عن أناس ولا يرضى عن أناس، ويرضى أعمالاً ويكره أعمالاً. ووصف الله تعالى بالرضى ثابت بالدليل السمعي، كما سبق، وبالدليل العقلي، فإن كونه عز وجل يثيب الطائعين ويجزيهم على أعمالهم وطاعاتهم يدل على الرضى. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1715) عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الأقضية/ باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة.

آيات صفات الغضب والسخط والكراهية والبغض

فإن قلت: استدلالك بالمثوبة على رضى الله عز وجل قد ينازع فيه، لأن الله سبحانه قد يعطي الفاسق من النعم أكثر مما يعطي الشاكر. وهذا إيراد قوي. ولكن الجواب عنه أن يقال: إعطاؤه الفاسق المقيم على معصيته استدراج، وليس عن رضى: كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 182 - 183]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه، لم يفلته"، وتلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] (¬1). وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 44 - 45]. أما إذا جاءت المثوبة والإنسان مقيم على طاعة الله، فإننا نعرف أن ذلك صادر عن رضى الله عنه. آيات صفات الغضب والسخط والكراهية والبغض: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4686) كتاب التفسير، ومسلم (2583) في كتاب البر/ باب تحريم الظلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

الآية الأولى

الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله في هذه الصفات خمس آيات: الآية الأولى: قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93]. {وَمَنْ}: شرطية. و (من) الشرطية تفيد العموم. {مُؤْمِناً}: هو من آمن بالله ورسوله، فخرج به الكافر والمنافق. لكن من قتل كافراً له عهد أو ذمة أو أمان، فهو آثم، لكن لا يستحق الوعيد المذكور في الآية. وأما المنافق، فهو معصوم الدم ظاهراً، ما لم يعلن بنفاقه. وقوله {مُتَعَمِّداً}: يدل على إخراج الصغير وغير العاقل، لأن هؤلاء ليس لهم قصد معتبر ولا عمد، وعلى إخراجا لمخطئ، وقد سبق بيانه في الآية التي قبلها. فالذي يقتل مؤمناً متعمداً جزاؤه هذا الجزاء العظيم. {جَهَنَّمُ}: اسم من أسماء النار. {خَالِداً فِيهَا}، أي: ماكثاً فيها. {وغَضِبَ الله عَلَيْهِ}: الغضب صفة ثابتة لله تعالى على الوجه اللائق به، وهي من صفاته الفعلية. {وَلَعَنَهُ}: اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله.

فهذه أربعة أنواع من العقوبة، والخامس: قوله: {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}. خمس عقوبات، واحدة منها كافية في الردع والزجر لمن كان له قلب. ولكن يشكل على منهج أهل السنة ذكر الخلود في النار، حيث رتب على القتل، والقتل ليس بكفر، ولا خلود في النار عند أهل السنة إلا بالكفر. وأجيب عن ذلك بعدة أوجه: الوجه الأول: أن هذه في الكافر إذا قتل المؤمن. لكن هذا القول ليس بشيء، لأن الكافر جزاؤه جهنم خالداً فيها وإن لم يقتل المؤمن: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [الأحزاب، 64 - 65]. الوجه الثاني: أن هذا فيمن استحل القتل، لأن الذي يستحل قتل المؤمن كافر. وعجب الإمام أحمد من هذا الجواب، قال: كيف هذا؟! إذا استحل قتله، فهو كافر وإن لم يقتله، وهو مخلد في النار وإن لم يقتله. ولا يستقيم هذا الجواب أيضاً.

الوجه الثالث: أن هذه الجملة على تقدير شرط، أي: فجزاؤه جهنم خالداً فيها إن جازاه. وفي هذا نظر، أي فائدة في قوله: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}، ما دام المعنى إن جازاه؟! فنحن الآن نسأل: إذا جازاه، فهل هذا جزاؤه؟ فإذا قيل: نعم، فمعناه أنه صار خالداً في النار، فتعود المشكلة مرة أخرى، ولا نتخلص. فهذه ثلاثة أجوبة لا تسلم من الاعتراض. الوجه الرابع: أن هذا سبب، ولكن إذا وجد مانع، لم ينفذ السبب، كما نقول: القرابة سبب للإرث، فإذا كان القريب رقيقاً، لم يرث، لوجود المانع وهو الرق. ولكن يرد علينا الإشكال من وجه آخر، وهو: ما الفائدة من هذا الوعيد؟ فنقول: الفائدة أن الإنسان الذي يقتل مؤمناً متعمداً قد فعل السبب الذي يخلد به في النار، وحينئذ يكون وجود المانع محتملاً، قد يوجد، وقد لا يوجد، فهو على خطر جداً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً" (¬1). فإذا أصاب دماً حراماً والعياذ بالله، فإنه قد يضيق بدينه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6862) في كتاب الديات عن ابن عمر رضي الله عنه, باب قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً}

حتى يخرج منه. وعلى هذا، فيكون الوعيد هنا باعتبار المال، لأنه يخشى أن يكون هذا القتل سبباً لكفره، وحينئذ يموت على الكفر، فيخلد. فيكون في هذه الآية على هذا التقدير ذكر سبب السبب، فالقتل عمداً سبب لأن يموت الإنسان على الكفر، والكفر سبب للتخليد في النار. وأظن هذا إذا تأمله الإنسان، يجد أنه ليس فيه إشكال. الوجه الخامس: أن المراد بالخلود المكث الطويل، وليس المراد به المكث الدائم، لأن اللغة العربية يطلق فيها الخلود على المكث الطويل كما يقال: فلان خالد في الحبس، والحبس ليس بدائم. ويقولون: فلا خالد خلود الجبال، ومعلوم أن الجبال ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً. وهذا أيضاً جواب سهل لا يحتاج إلى تعب، فنقول: إن الله عز وجل لم يذكر التأبيد، لم يقل: خالداً فيها أبداً بل قال: {خَالِداً فِيهَا}، والمعنى: أنه ماكث مكثاً طويلاً. الوجه السادس: أن يقال إن هذا من باب الوعيد، والوعيد يجوز إخلافه، لأنه انتقال من العدل إلى الكرم، والانتقال من العدل إلى الكرم كرم وثناء وأنشدوا عليه قول الشاعر: وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إبعادي ومنجز موعدي أوعدته بالعقوبة، ووعدته بالثواب، لمخلف إبعادي ومنجز

مسألة إذا تاب القاتل هل يستحق الوعيد

موعدي. وأنت إذا قلت لابنك: والله، إن ذهبت إلى السوق، لأضربنك بهذا العصا. ثم ذهب إلى السوق، فلما رجع، ضربته بيدك، فهذا العقاب أهون على ابنك، فإذا توعد الله عز وجل القاتل بهذا الوعيد، ثم عفا عنه، فهذا كرم. ولكن هذا في الحقيقة فيه شيء من النظر، لأننا نقول: إن نفذ الوعيد، فالإشكال باق، وإن لم ينفذ، فلا فائدة منه. هذه ستة أوجه في الجواب عن الآية، وأقربها الخامس، ثم الرابع. مسألة: إذا تاب القاتل، هل يستحق الوعيد؟ الجواب: لا يستحق الوعيد بنص القرآن، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 68 - 70]، وهذا واضح، أن من تاب ـ حتى من القتل ـ، فإن الله تعالى يبدل سيئاته حسنات. والحديث الصحيح في قصة الرجل من بني إسرائيل، الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، فألقى الله في نفسه التوبة، فجاء إلى عابد، فقال له: إن قتل تسعاً وتسعين نفساً، فهل له من توبة؟! فالعابد استعظم الأمر، وقال: ليس لك توبة! فقتله، فأتم به المائة.

هل للقاتل توبة

فدل على عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ قال: نعم، ومن يحول بينك وبين التوبة؟! ولكن هذه القرية ظالم أهلها، فاذهب إلى القرية الفلانية، فيها أهل خير وصلاة، فسافر الرجل، وهاجر من بلده إلى بلد الخير والصلاة، فوافته المنية في أثناء الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة الرحمة وملائكة العذاب، حتى أنزل الله بينهم حكماً، وقال: قيسوا ما بين القريتين، فإلى أيتهما كان أقرب، فهو من أهلها، فكان أقرب إلى أهل القرية الصالحة فقبضته ملائكة الرحمة (¬1). فأنظر كيف كان من بني إسرائيل فقبلت توبته، مع أن الله جعل عليهم آصاراً وأغلالاً، وهذه الأمة رفع عنها الآصار والأغلال، فالتوبة في حقها أسهل، فإذا كان هذا في بني إسرائيل، فكيف بهذه الأمة؟ فإن قلت: ماذا تقول فيما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن القاتل ليس له توبة (¬2)؟ فالجواب: من أحد الوجهين: 1 - إما أن ابن عباس رضي الله عنهما استبعد أن يكون للقاتل عمداً توبة، ورأى أنه لا يوفق للتوبة، وإذا لم يوفق للتوبة، فإنه لا يسقط عنه الإثم، بل يؤاخذ به. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3470) كتاب الأنبياء، ومسلم (2766) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في كتاب التوبة/ باب قبول توبة القاتل. (¬2) رواه البخاري (4764) كتاب التفسير/ باب قوله تعالى "يضاعف له العذاب يوم القيامة ...... ".

2 - وإما أن يقال: إن مراد ابن عباس رضي الله عنهما: أن لا توبة له فيما يتعلق بحق المقتول، لأن القاتل عمداً يتعلق به ثلاثة حقوق: حق الله، وحق المقتول، والثالث لأولياء المقتول. أ- أما حق الله، فلا شك أن التوبة ترفع، لقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر: 53]، وهذه في التائبين. ب- وأما حق أولياء المقتول، فيسقط إذا سلم الإنسان نفسه لهم، أتى إليهم وقال: أنا قتلت صاحبكم، واصنعوا ما شئتم فهم إما أن يقتصوا، أو يأخذوا الدية، أو يعفوا، والحق لهم. جـ- وأما حق المقتول، فلا سبيل إلى التخلص منه في الدنيا. وعلى هذا يحمل قول ابن عباس أنه لا توبة له، أي: بالنسبة لحق المقتول. على أن الذي يظهر لي أنه إذا تاب توبة نصوحاً، فإنه حتى حق المقتول يسقط، لا إهداراً لحقه، ولكن الله عز وجل بفضله يتحمل عن القاتل ويعطي المقتول رفعة درجات في الجنة أو عفواً عن السيئات، لأن التوبة الخالصة لا تبقي شيئاً، ويؤيد هذا عموم آية الفرقان: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ .....} إلى قوله: {إِلاّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]. وفي هذه الآية من صفات الله: الغضب، واللعن وإعداد

الآية الثاثية

العذاب. وفيها من الناحية المسلكية التحذير من قتل المؤمن عمداً. الآية الثانية: قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28]. {ذَلِكَ}: المشار إليه ما سبق، والذي سبق هو قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 27 - 28]، يعني: فكيف تكون حالهم في تلك اللحظات إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم عند الموت؟ {ذَلِكَ}، أي: ضرب الوجوه والأدبار. {بِأَنَّهُمُ [، أي: بسبب، فالباء للسببية. {اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ}، أي: الذي أسخط الله، فصاروا يفعلون كل ما به سخط الله عز وجل من عقيدة أو قول أو فعل. أما ما فيه رضي الله، فحالهم فيه قوله: {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ}، أي كرهوا ما فيه رضاه، فصارت عاقبتهم تلك العاقبة الوخيمة، أنهم عند الوفاة تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم. وفي هذه الآية من صفات الله: إثبات السخط والرضى. وسبق الكلام على صفة الرضى، وأما السخط، فمعناه قريب من معنى الغضب.

الآية الثالثة

الآية الثالثة: قوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]. {آسَفُونَا}، يعني: أعضبونا وأسخطونا. {فَلَمَّا}: هنا شرطية، فعل الشرط فيها: {آسَفُونَا}، وجوابه: {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}. ففيها رد على من فسروا السخط والغضب بالانتقام، لأن أهل التعطيل من الأشعرية وغيرهم يقولون: إن المراد بالسخط والغضب الانتقام، أو إرادة الانتقام، ولا يفسرون السخط والغضب بصفة من صفات الله يتصف بها هو نفسه، فيقولون: غضبه، أي انتقامه، أو بالإرادة لأنهم يقرون بها، ولا يفسرونه بأنه صفة ثابتة لله على وجه الحقيقة تليق به. ونحن نقول لهم: بل السخط والغضب غير الانتقام، والانتقام نتيجة الغضب والسخط، كما نقول: إن الثواب نتيجة الرضى، فالله سبحانه وتعالى يسخط على هؤلاء القوم ويغضب عليهم ثم ينتقم منهم. وإذا قالوا: إن العقل يمنع ثبوت السخط والغضب لله عز وجل. فإننا نجيبهم بما سبق في صفة الرضى، لأن الباب واحد. ونقول: بل العقل يدل على السخط والغضب، فإن الانتقام

هل يوصف الله بالحزن والندم

من المجرمين وتعذيب الكافرين دليل على السخط والغضب، وليس دليلاً على الرضى، ولا على انتفاء الغضب والسخط. ونقول: هذه الآية: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]: ترد عليكم، لأنه جعل الانتقام غير الغضب، لأن الشرط غير المشروط. مسألة: بقي أن يقال: {فَلَمَّا آسَفُونَا}: نحن نعرف أن الأسف هو الحزن والندم على شيء مضى على النادم لا يستطيع رفعه، فهل يوصف الله بالحزن والندم؟ الجواب: لا، ونجيب عن الآية بأن الأسف في اللغة له معنيان: المعنى الأول: الأسف بمعنى الحزن، مثل قول الله تعالى عن يعقوب: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [يوسف: 84]. الثاني: الأسف بمعنى الغضب، فيقال: أسف عليه باسم، بمعنى: غضب عليه. والمعنى الأول: ممتنع بالنسبة لله عز وجل. والثاني: مثبت لله، لأن الله تعالى وصف به نفسه، فقال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ}. وفي الآية من صفات الله: الغضب، والانتقام.

الآية الرابعة

ومن الناحية المسلكية: التحذير مما يغضب الله تعالى. الآية الرابعة: قوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]. يعني بذلك المنافقين الذين لم يخرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات، لأن الله تعالى كره انبعاثهم، لأن عملهم غير خالص له، والله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك، ولأنهم إذا خرجوا، كانوا كما قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47]، وإذا كانوا غير مخلصين، وكانوا مفسدين، فإن الله سبحانه وتعالى يكره الفساد ويكره الشرك: فـ {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ}، يعني: جعل هممهم فاترة عن الخروج للجهاد. {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]: قيل: يحتمل أن الله قال ذلك كوناً. ويحتمل أن بعضهم يقول لبعض: اقعد مع القاعدين، ففلان لم يخرج، وفلان لم يخرج، ممن عذرهم الله عز وجل، كالمريض والأعمى والأعرج، ويقولون: إذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم اعتذرنا إليه واستغفر لنا وكفانا. ويمكن أن جمع بين القولين، لأنه إذا قيل لهم ذلك، وقعدوا، فهم ما قعدوا إلا يقول الله عز وجل. وفي الآية هنا إثبات أن الله عز وجل يكره، وهذا أيضاً ثابت في الكتاب والسنة:

الآية الخامسة

- قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيَّاهُ .....} إلى قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 23 - 38]. - وكما في هذه الآية التي ذكها المؤلف: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46]. - وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله كره لكم قيل وقال" (¬1). فالكراهة ثابتة بالكتاب والسنة، أن الله تعالى يكره. وكراه الله سبحانه وتعالى للشيء تكون للعمل، كما في قوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} [التوبة: 46]، وكما في قوله: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء: 38]. وتكون أيضاً للعامل، كما جاء في الحديث: "إن الله تعالى إذا أبغض عبداً، نادى جبريل، إني أبغض فلاناً، فأبغضه" (¬2). الآية الخامسة: قوله: {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]. {كَبُرَ}، بمعنى: عظم. {مَقْتاً}: تمييز محول عن الفاعل، والمقت أشد البغض، وفاعل {كَبُرَ} بعد أن حول الفاعل إلى تمييز: (أن) وما دخلت عليه في قوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1477) كتاب الزكاة، ومسلم (1715) في كتاب الأقضية عن مغير بن شعبة رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (2637) عن أبي هريرة رضي الله عنه, في كتاب البر/ باب إذا أحب الله عبداً.

آيات صفة المجيء والإتيان

وهذه الآية تعليل للآية التي قبلها وبيان لعاقبتها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2 - 3]، فإن هذا من أكبر الأمور أن يقول الإنسان ما لا يفعل. ووجه ذلك أن يقال: إذا كنت تقول الشيء ولا تفعلها، فأنت بين أمرين: إما كاذب فيما نقول، ولكن تخوف الناس، فنقول لهم الشيء وليس بحقيقة. وإما أنك مستكبر عما تقول، تأمر الناس به ولا تفعله، وتنهى الناس عنه وتفعله. وفي الآية من الصفات: المقت، وأنه يتفاوت. ومن الناحية المسلكية: التحذير من أن يقول الإنسان مالا يفعل. آيات صفة المجئ والإتيان الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله تعالى لإثبات صفة المجيء والإتيان آيات أربع. الآية الأولى: قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} [البقرة: 210]. قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ}: {هَلْ}: استفهام بمعنى النفي، يعني: ما ينظرون، وكلما وجدت (إلا) بعد الاستفهام، فالاستفهام

يكون للنفي. هذه قاعدة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "هل أنت إلا أصبع دميت" (¬1)، أي: ما أنت. ومعنى: {يَنْظُرُونَ} هنا: ينتظرون لأنها لم تتعد بـ (إلى)، فلو تعدت بـ (إلى) لكان معناها النظر بالعين غالباً، أما إذا تعدت بنفسها، فهي بمعنى: ينتظرون. أي: ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وذلك يوم القيامة. {يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ}: و {فِي}: هنا بمعنى (مع)، فهي للمصاحبة، وليس للظرفية قطعاً، لأنها لو كانت للظرفية، لكانت الظلل محيطة بالله، ومعلوم أن الله تعالى واسع عليم، ولا يحيط به شيء من مخلوقاته. فـ {فِي ظُلَلٍ}، أي: مع الظلل، فإن الله عند نزوله جل وعلا للفصل بين عباده {تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ}: غمام أبيض، ظلل عظيمة، لمجيء الله تبارك وتعالى. وقوله: {فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} الغمام، قال العلماء: إن السحاب الأبيض، كما قال تعالى ممتناً على بني إسرائيل: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ} [البقرة: 57]، والسحاب الأبيض يبقي ¬

_ (¬1) تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المشاهد وقد دميت إصبعه, فقال: "هل أنت إلاّ إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت". أخرجه البخاري (6146) كتاب الأدب/ باب ما يجوز من الشعر، ومسلم (1769) عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه في كتاب الجهاد/ باب ما لقى النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين.

الآية الثانية

الجو مستنيراً، بخلاف الأسود والأحمر، فإنه تحصل به الظلمة، وهو أجمل منظراً. وقوله: {وَالْمَلائِكَةِ}: الملائكة بالرفع معطوف على لفظ الجلالة الله، يعني: أو تأتيهم الملائكة، وسبق بيان اشتقاق هذه الكلمة، ومن هم الملائكة. والملائكة تأتي يوم القيامة، لأنها تنزل في الأرض، ينزل أهل السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة وهكذا ... إلى السابعة؟ يحيطون بالناس. وهذا تحذير من هذا اليوم الذي يأتي على هذا الوجه، فهو مشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة، يحذر الله به هؤلاء المكذبين. الآية الثانية: قوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]. نقول في {هَلْ يَنْظُرُونَ} ما قلناه في الآية السابقة، أي: ما ينتظر هؤلاء إلا واحدة من هذه الأحوال: أولاً: {إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ}، أي: لقبض أرواحهم، قال الله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50]. ثانياً: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ}: يوم القيامة للقضاء بينهم. ثالثاً: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} وهذه طلوع الشمس من

الآية الثالثة

مغربها، فسرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم (¬1). وإنما ذكر الله هذه الأحوال الثلاث: لأن الملائكة إذا نزلت لقبض أرواحهم، لا تقبل منهم التوبة، لقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [الإنسان: 18]. وكذلك أيضاً إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن التوبة لا تقبل، وحينئذ لا يستطيعون خلاصاً مما هم عليه. وذكر الحالة الثالثة بين الحالين، لأن وقت الجزاء وثمرة العمل، فلا يستطيعون التخلص في تلك الحال مما عملوه. والغرض من هذه الآيات والتي قبلها تحذير هؤلاء المكذبين من أن يفوتهم الأوان ثم لا يستطيعون الخلاص من أعمالهم. الثالثة: قوله: {كَلاّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 21 - 22]. {كَلاّ} هنا للتنبيه، مثل (ألا). وقوله: {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّاً دَكّاً}: هذا يوم القيامة. وأكد هذا الدك لعظمته، لأنها تدك الجبال والشعاب وكل شيء يدك، حتى تكون الأرض كالأديم، والأديم هو الجلد، قال الله تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4636) كتاب التفسير/ باب "لا ينفع نفس إيمانها"، ومسلم (157) عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الإيمان/ باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان.

الآية الرابعة

106 - 107]. ويحتمل أن يكون تكرار الدك تأسيساً لا تأكيداً، ويكون المعنى: دكاً بعد دك. قال {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً}: {وَجَاءَ رَبُّكَ}، يعني: يوم القيامة، بعد أن تدك الأرض وتسوى ويحشر الناس يأتي الله للقضاء بين عباده. وقوله: {وَالْمَلَكُ}: (الـ) هنا للعموم، يعني: وكل ملك، يعني: الملائكة ينزلون في الأرض. {صَفّاً صَفّاً}، أي: صفاً من وراء صف، كما جاء في الأثر: "تنزل ملائكة السماء الدنيا فيصفون، ومن ورائهم ملائكة السماء الثانية، ومن ورائهم ملائكة السماء الثالثة" (¬1) هكذا. الآية الرابعة: قوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً} [الفرقان: 25]. يعني: اذكر يوم تشقق السماء بالغمام. و {تَشَقَّقُ}: أبلغ من تنشق، لأن ظاهرها تشقق شيئاً ¬

_ (¬1) رواه الحاكم (4/ 569 و 570) وقال: "رواة الحديث عن آخرهم محتج بهم غير علي بن جدعان, وهو وإن كان موقوفاً على ابن عباس فإنه عجيب بمرة". وقال الذهبي: "إسناده قوي", ورواه الدارمي في "الرد على الجهمية" (142 و 143) عن ابن عباس والضحاك. وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 123) لعبد حميد وابن أبي الدنياء وابن جرير وابن منذر وابن أبي حاتم والحاكم عن ابن عباس وابن كثير في "تفسيره" (3/ 316).

فشيئاً، ويخرج هذا الغمام، يثور ثوران الدخان، ينبعث شيئاً فشيئاً. تشقق السماء بالغمام، مثل ما يقال: تشقق الأرض بالنبات، يعني: يخرج الغمام من السماء ويثور متتابعاً، وذلك لمجيء الله عز وجل للفضل بين عباه، فهو يوم رهيب عظيم. قوله: {وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً}: ينزلون من السماوات شيئاً فشيئاً، تنزل ملائكة السماء الدنيا، ثم الثانية، ثم الثالثة ... وهكذا. وهذه الآية في سياقها ليس فيها ذكر مجيء الله، لكن فيها الإشارة إلى ذلك، لأن تشقق السماء بالغمام إنما يكون لمجيء الله تعالى، بدليل الآيات السابقة. هذه أربع آيات ساقها المؤلف لإثبات صفة من صفات الله، وهي: المجيء والإتيان. وأهل السنة والجماعة يثبتون أن الله يأتي بنفسه هو، لأن الله تعالى ذكر ذلك عن نفسه، وهو سبحانه أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلاً من غيره وأحسن حديثاً، فكلامه مشتمل على أكمل العلم والصدق والبيان والإرادة، فالله عز وجل يريد أن يبين لنا الحق وهو أعلم وأصدق وأحسن حديثاً. لكن يبقى السؤال: هل نعلم كيفية هذا المجيء؟ الجواب: لا نعلمه، لأن الله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه

مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم

يجيء، ولم يخبرنا كيف يجيء، ولأن الكيفية لا تعلم إلا بالمشاهدة أو مشاهدة النظير أو الخبر الصادق عنها، وكل هذا لا يوجد في صفات الله تعالى، ولأنه إذا جهلت الذات، جهلت الصفات، أي: كيفيتها، فالذات موجودة وحقيقية ونعرفها ونعرف ما معنى الذات وما معنى الذات وما معنى النفس، وكذلك نعرف ما معنى المجيء، لكن كيفية الذات أو النفس وكيفية المجيء غير معلوم لنا. فنؤمن بأن الله يأتي حقيقة وعلى كيفية تليق به مجهولة لنا. مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم: وخالف أهل السنة والجماعة في هذه الصفة أهل التحريف والتعطيل، فقالوا: إن الله لا يأتي، لأنك إذا أثبت أن الله يأتي، ثبت أنه جسم، والأجسام متماثلة فنقول: هذه دعوى وقياس باطل، لأنه في مقابلة النص، وكل شيء يعود إلى النص بالإبطال، فهو باطل، لقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24]. فإذا قالت: إن هذا الذي عاد النص بالإبطال هو الحق، صار النص باطلاً ولا بد، وبطلان النص مستحيل. وإن قلت: إن النص هو الحق، صار هذا باطلاً ولابد‍. ثم نقول: ما المانع من أن يأتي الله تعالى بنفسه على الكيفية التي يريدها؟ يقولون: المانع أنك إذا اثبت ذلك، فأنت ممثل. نقول: هذا خطأ، فإننا نعلم أن المجيء والإتيان يختلف حتى

بالنسبة للمخلوق، فالإنسان النشيط الذي يأتي كأنما ينحدر من مرتفع من نشاطه، لكنه لا يمشي مرحاً وإن شئت فقل: إنه يمش مرحاً: هل هذا كالإنسان الذي يمشي على عصا ولا ينقل رجلاً من مكانها إلا بعد تعب. والإتيان يختلف من وجه آخر، فإتيان إنسان مثلاً من كبراء البلد أو من ولاة الأمور ليس كإتيان شخص لا يحتفى به. ماذا يقول المعطل في قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} ونحوها؟ الجواب: يقول: المعنى: جاء أمر ربك، وأتى أمر ربك؟ لأن الله تعالى قال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، فيجب أن نفسر كل إتيان أضافة الله إلى نفسه بهذه الآية، ونقول: المراد: أتى أمر الله. فيقال: إن هذا الدليل الذي استدللت به هو دليل عليك وليس لك لو كان الله تعالى يريد إتيان أمره في الآيات الأخرى، فما الذي يمنعه أن يقول: أمره؟ ‍ فلما أراد الأمر، عبر بالأمر، ولما لم يرده، لم يعبر به. وهذا في الواقع دليل عليك، لأن الآيات الأخرى ليس فيها إجمال حتى نقول: إنها بينت بهذه الآية. فالآيات الأخرى واضحة، وفي بعضها تقسيم يمنع إرادة مجيء الأمر: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]؛ هل يستقيم لشخص أن يقول: {يَأْتِيَ رَبُّكَ}، أي: أمره في مثل هذا التقسيم؟!

الآداب المسلكية المستفادة من الإيمان بصفة المجيء والإتيان لله تعالى

فإذا قال قائل: ما تقولون في قوله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52]. فالجواب: أن المراد بذلك إتيان الفتح أو الأمر، لكن أضاف الله الإتيان به إلا نفسه، لأنه من عنده، وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية، فالإتيان إذا قيد بحرف جر مثلاً، فالمراد به ذلك المجرور، وإذا أطلق وأضيف إلى الله بدون قيد، فالمراد به إتيان الله حقيقة. الآداب المسلكية المستفادة من الإيمان بصفة المجيء والإتيان لله تعالى: الثمرة هي الخوف من هذا المقام وهذا المشهد العظيم الذي يأتي فيه الرب عز وجل للفصل بين عباده وتنزل الملائكة، ولا يبقى أمامك إلا الرب عز وجل والمخلوقات كلها، فإن عملت خيراً، جوزيت به، وإن عملت سوى ذلك، فإنك ستجزى به، كما قال النبي عليها لصلاة والسلام: "إن الإنسان يخلو به الله عز وجل، فينظر أيمن منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه، فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار، ولو بشق تمرة" (¬1). فالإيمان يمثل هذه الأشياء العظيمة لا شك أنه يولد للإنسان ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6539) كتاب الرقاق/ باب من نوقش الحساب عذب, ومسلم (1016) وانظر بداية الجزء الثاني.

آيات صفة الوجه لله سبحانه

رهبة وخوفاً من الله سبحانه وتعالى واستقامة على دينه. صفة الوجه لله سبحانه الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله لإثبات صفة الوجه لله تعالى آيتين: الآية الأولى: قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} [الرحمن: 27]. وهذه معطوفة على قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 26 - 27]، ولهذا قال بعض السلف: ينبغي إذا قرأت: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}، أن تصلها بقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}، حتى يتبين نقص المخلوق وكمال الخالق، وذلك للتقابل، هذا فناء وهذا بقاء، {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27]. قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}، أي: لا يفنى. والوجه: معناه معلوم، لكن كيفيته مجهولة، لا نعلم كيف وجه الله عز وجل، كسائر صفاته، لكننا نؤمن بأن له وجهاً موصوفاً بالجلال والإكرام، وموصوفاً بالبهاء والعظمة والنور العظيم، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: " حجابه النور، لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من

خلقه" (¬1). (سبحان وجهه)، يعني: بهاءه وعظمته وجلاله ونوره. (ما انتهى إليه بصره من خلقه): وبصره ينتهي إلى كل شيء، وعليه، فلو كشف هذا الحجاب ـ حجاب النور عن وجهه ـ، لاحترق كل شيء. لهذا نقول: هذا الوجه وجه عظيم، لا يمكن أبداً أن يماثل أوجه المخلوقات. وبناء على هذا نقول: من عقيدتنا أننا نثبت أن لله وجهاً حقيقة، ونأخذه من قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ}، ونقول بأن هذا الوجه لا يماثل أوجه المخلوقين، لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ونجهل كيفية هذا الوجه، لقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110]. فإن حاول أحد أن يتصور هذه الكيفية بقلبه أو أن يتحدث عنها بلسانه، قلنا: إنك مبتدع ضال، قائل على الله مالا تعلم، وقد حرم الله علينا أن نقول عليه مالا نعلم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (179) كتاب الإيمان/ باب قوله عليه والصلاة والسلام: "إن الله لا ينام" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

الآية الثانية

وهنا قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ}، أضاف الربوبية إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الربوبية أخص ما يكون من أنواع الربوبية، لأن الربوبية عامة وخاصة، والخاصة خاصة أخص، وخاص فوق ذلك، كربوبية الله تعالى لرسله، فالربوبية الأخص أفضل بلا شك. وقوله: {ذُو}: صفة لوجه، والدليل الرفع، ولو كانت صفة للرب، لقال ذي الجلال كما قال في نفس السورة: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} [الرحمن: 78]، فلما قال: {ذُو الْجَلالِ}، علمنا أنه وصف للوجه. {وَالأِكْرَامِ}: هي مصدر من أكرم، صالحة للمكرم والمكرم، فالله سبحانه وتعالى مكرم، وإكرامه تعالى القيام بطاعته، ومكرم لمن يستحق الإكرام من خلقه بما أعد لهم من الثواب. فهو لجلاله وكمال سلطانه وعظمته أهل لأن يكرم ويثنى عليه سبحانه وتعالى وإكرام كل أحد بحسبه، فإكرام الله عز وجل أن تقدره حق قدره، وأن تعظمه حق تعظيمه، لا لاحتياجه إلى إكرامك، ولكن ليمن عليك بالجزاء. الآية الثانية: قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]. قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ}، أي: فان، كقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا

فَانٍ} [الرحمن: 26]. وقوله: {إِلاّ وَجْهَهُ}: توازي قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ}. فالمعنى: كل شيء فان وزائل، إلا وجه الله عز وجل، فإنه باق، ولهذا قل: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] فهو الحكم الباقي الذي يرجع إليه الناس ليحكم بينهم. وقيل في معنى الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ}، أي: إلا ما أريد به وجهه. قالوا: لأن سياق الآية يدل على ذلك: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]، كأنه يقول: لا تدع مع الله إلهاً آخر فتشرك به، لأن عملك وإشراكك هالك، أي: ضائع سدى، إلا ما أخلصته لوجه الله، فإنه يبقى، لأن العمل الصالح له ثواب باقى لا يفنى في جنات النعيم. ولكن المعنى الأول أسد وأقوى. وعلى طريقة من يقول بجواز استعمال المشترك في معنييه، نقول: يمكن أن نحمل الآية على المعنيين، إذ لا منافاة بينهما، فتحمل على هذا وهذا، فيقال: كل شيء يفنى إلا وجه الله عز وجل، وكل شيء من الأعمال يذهب هباء، إلا ما أريد به وجه الله. وعلى أي التقديرين، ففي الآية دليل على ثبوت الوجه لله عز وجل.

مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم

وهو من الصفات الذاتية الخبرية التي مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء، ولا نقول: من الصفات الذاتية المعنوية، ولو قلنا بذلك، لكنا نوافق من تأوله تحريفاً، ولا نقول: إنها بعض من الله، أو: جزء من الله، لأن ذلك يوهم نقصاً لله سبحانه وتعالى. هذا وقد فسر أهل التحريف وجه الله بثوابه، فقالوا: المراد بالوجه في الآية الثواب، كل شيء يفنى، إلا ثواب الله! ففسروا الوجه الذي هو صفة كمال، فسروه بشيء مخلوق بائن عن الله قابل للعدم والوجود، فالثواب حادث بعد أن لم يكن، وجائز أن يرتفع، لولا وعدالله ببقائه، لكان من حيث العقل جائزاً أن يرتفع، أعني: الثواب!. فهل تقولون الآن: إن وجه الله الذي وصف الله به نفسه من باب الممكن أو من باب الواجب؟ إذا فسروه بالثواب، صار من باب الممكن الذي يجوز وجوده وعدمه. وقولهم مردود بما يلي: أولاً: أنه مخالف لظاهر اللفظ، فإن ظاهر اللفظ أن هذا وجه خاص، وليس هو الثواب. ثانياً: أنه مخالف لإجماع السلف، فما من السلف أحد قال: إن المراد بالوجه الثواب! وهذه كتبهم بين أيدينا مزبورة محفوظة، أخرجوا لنا نصاً عن الصحابة أو عن أئمة التابعين ومن تبعهم

بإحسان أنهم فسروا هذا التفسير، لن تجدوا إلى ذلك سبيلاً أبداً. ثالثاً: هل يمكن أن يوصف الثواب بهذه الصفات العظيمة: {ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} [الرحمن: 27]؟! لا يمكن. لو قلنا مثلاً جزاء المتقين ذو جلال وإكرام! فهذا لا يجوز أبداً، والله تعالى وصف هذا الوجه بأنه ذو الجلال والإكرام. رابعاً: نقول: ما تقولون في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "حجابه النور، لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بضره من خلقه" (¬1). فهل الثواب له هذا النور الذي يحرق ما انتهى إليه بصر الله من الخلق؟! أبداً، ولا يمكن. وبهذا عرفنا بطلان قولهم، وأن الواجب علينا أن نفسر هذا الوجه بما أراده الله به، وهو وجه قائم به تبارك وتعالى موصوف بالجلال والإكرام. فإن قلت: هل كل ما جاء من كلمة (الوجه) مضافاً إلى الله يراد به وجه الله الذي هو صفاته؟ فالجواب: هذا هو الأصلى، كما في قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19 - 21] ... وما أشبهها من الآيات. فالأصل أن المراد بالوجه المضاف إلى الله وجه الله عز ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 284)

وجل الذي هو صفة من صفاته، لكن هناك كلمة اختلف المفسرون فيها، وهي قوله: تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا}، يعني: إلى أي مكان تولوا وجوهكم عندا لصلاة. {فَثَمَّ} أي: فهناك وجه الله. فمنهم من قال: إن الوجه بمعنى الجهة، لقوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، فالمراد بالوجه الجهة، أي: فثم جهة الله، أي: فثم الجهة التي يقبل الله صلاتكم إليها. قالوا: لأنها نزلت في حال السفر، إذا صلى الإنسان النافلة، فإنه يصلي حيث كان وجهه، أو إذا اشتبهت القبلة، فإنه يتحرى ويصلي حيث كان وجهه. ولكن الصحيح أن المراد بالوجه هنا وجه الله الحقيقي، أي: إلى أي جهة تتوجهون، فثم وجه الله سبحانه وتعالى، لأن الله محيط بكل شيء، ولأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلي إذا قام يصلي، فإن الله قبل وجهه 1، ولهذا نهى أن يبصق أما وجهه، لأن الله قبل وجهه. فإذا صليت في مكان لا تدري أن القبلة، واجتهدت وتحريت، وصليت، وصارت القبلة في الواقع خلفك، فالله يكون قبل وجهك، حتى في هذه الحال.

وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية. والمعنى الأول لا يخالفه في الواقع. إذا قلنا: فثم جهة الله، وكان هناك دليل، سواء كان هذا الدليل تفسير الآية الثانية في الوجه الثاني، أو كان الدليل ما جاءت به السنة، فإنك إذا توجهت إلى الله في صلاتك، فهي جهة الله التي يقبل الله صلاتك إليها، فثم أيضاً وجه الله حقاً. وحينئذ يكون المعنيان لا يتنافيان. واعلم أن هذا الوجه العظيم الموصوف بالجلال والإكرام وجه لا يمكن الإحاطة به وصفاً، ولا يمكن الإحاطة به تصوراً، بل كل شيء تقدره، فإن الله تعالى فوق ذلك وأعظم، كما قال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110]. فإن قيل: ما المراد بالوجه في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]؟ إن قلت: المراد بالوجه الذات، فيخشى أن تكون حرفت وإن أردت بالوجه نفس الصفة أيضاً، وقعت في محظور ـ وهو ما ذهب إليه بعض من لا يقدرون الله حق قدره، حيث قالوا: إن الله يفنى إلا وجهه ـ فماذا تصنع؟! فالجواب: إن أردت بقولك: إلا ذاته، يعني: أن الله تعالى يبقى هو نفسه مع إثبات الوجه لله، فهذا صحيح، ويكون هنا عبر بالوجه عن الذات لمن له وجه. وإن أردت بقولك: الذات: أن الوجه عبارة عن الذات بدون

آيات صفة اليدين لله تعالى

إثبات الوجه، فهذا تحريف وغير مقبول. وعليه فنقول: {إِلاّ وَجْهَهُ}، أي: إلا ذاته المتصفة بالوجه، وهذا ليس فيه شيء، لأن الفرق بين هذا وبين قول أهل التحريف أن هؤلاء يقولون: إن المراد بالوجه الذات، لأن له وجهاً، فعبر به عن الذات. إثبات اليدين لله تعالى الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله لإثبات اليدين لله تعالى آيتين: الآية الأولى: قوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. {مَا مَنَعَكَ}: الخطاب لإبليس. و {مَا مَنَعَكَ}: استفهام للتوبيخ، يعني أي شيء منعك أن تسجد. وقوله {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}: ولم يقل: لمن خلقت، لأن المراد هنا آدم، باعتبار وصفه الذي لم يشركه أحد فيه، وهو خلق الله إياه بيده، لا باعتبار شخصه. ولهذا لما أراد إبليس النيل من آدم وخط قدره، قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 16].

ونحن قد قررنا أنه إذا عبر بـ (ما) عما يعقل، فإنه يلاحظ فيه معنى الصفة لا معنى العين والشخص، ومنه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، لم يقل: (من)، لأنه ليس المراد عين هذه المرأة، ولكن المراد الصفة. فهنا قال: {لِمَا خَلَقْتُ}، أي: هذا الموصوف العظيم الذي أكرمته بأنني خلقته بيدي، ولم يقصد: لمن خلقت، أي: لهذا الآدمي بعينه. وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}: هي كقول القائل: بريت بالقلم والقلم آلة البري، وتقول: صنعت هذا بيدي، فاليد هنا آلة الصنع. {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، يعني: أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وهنا قال: {بِيَدَيَّ}، وهي صيغة تثنية، وحذفت النون من التثنية من أجل الإضافة، كما يحذف التنوين، نحن عندما نعرب المثنى وجمع المذكر السالم، نقول: النون عوض من التنوين في الاسم المفرد. والعوض له حكم المعوض، فكما أن التنوين يحذف عند الإضافة، فنون التثنية والجمع تحذف عند الإضافة. في هذه الآية توبيخ إبليس في تركه السجود لما خلقه الله بيده، وهو آدم عليه الصلاة والسلام. وفيها: إثبات صفة الخلق: {لِمَا خَلَقْتُ}. وفيها: إثبات اليدين لله سبحانه وتعالى: اليدين اللتين بهما

يفعل، كالخلق هنا. اليدين اللتين بهما يقبض: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]، وبهما يأخذ، فإن الله تعالى يأخذ الصدقة فيربيها كما يربي الإنسان فلوه (¬1). وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}: فيها أيضاً تشريف لآدم عليه الصلاة والسلام، حيث خلقه الله تعالى بيده. قال أهل العلم: وكتب الله التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده (¬2). فهذه ثلاثة أشياء، كلها كانت بيد الله تعالى. ولعلنا بالمناسبة لا ننسى ما مر من قول النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الله خلق آدم على صورته" (¬3) , وذكرنا أن أحد الوجهين الصحيحين في تأويلها أن الله خلق آدم على الصورة التي اختارها واعتنى بها، ولهذا أضافها الله إلى نفسه إضافة تشريف ¬

_ (¬1) لما رواه البخاري (1410) كتاب الزكاة/ باب لا يقبل الله صدقة من غلول"، ومسلم (114) كتاب الزكاة/ باب قبول الصدقة من الكسب الطيبعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليصدق بالتمر من طيب, ولا يقبل الله إلاّ طيباً, فيجعلها الله في يده اليمنى, ثم يربيها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى تصير مثل أحد". (¬2) رواه الدارمي في "الرد على بشر المريسي" (ص 35) , الحاكم (2/ 319) , والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 304) , عن ابن عمر موقوفاً. وصححه الحاكم, ولم يتعقبه الذهبي, وهو كما قالا, والحديث له حكم الرفع. وانظر: "مختصر العلو" (104) , و"حادي الأرواح" لابن القيم (84). (¬3) تقدم تخريجه ص (107).

الآية الثانية

وتكريم، كإضافة الناقة والبيت إلى الله والمساجد إلى الله. والقول الثاني: أنه على صورته حقيقة ولا يلزم من ذلك التماثل. الآية الثانية: قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64]. {الْيَهُودُ}: هم أتباع موسى عليه الصلاة والسلام. سموا يهوداً، قيل: لأنهم قالوا: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]، وبناء على هذا يكون الاسم عربياً، لأن هاد يهود ـ إذا رجع ـ عربي. وقيل: أن أصله يهوذا، اسم أحد أولاء يعقوب، واليهود من نسبوا إليه، لكن عند التعريب صارت الذال دالاً، فقيل: يهود. وأياً كان، لا يهمنا أن أصله هذا أو هذا. ولكننا نعلم أن اليهود هم طائفة من بني إسرائيل، اتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام. وهؤلاء اليهود من أشد الناس عتواً ونفوراً، لأن عتو فرعون وتسلطه عليهم جعل ذلك ينطبع في نفوسهم، وصار فيهم العتو على الناس، بل وعلى الخالق عز وجل، فهم يصفون الله تعالى بأوصاف العيوب ـ قبحهم الله، وهم أهلها. يقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}، أي: محبوسة عن الإنفاق، كما قال الله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]، أي: محبوسة عن الإنفاق.

وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181]! أما قولهم: إن يد الله مغلولة، فقالوا: لولا أنها مغلولة، لكان الناس كلهم أغنياء، فكونه يجود على زيد ولا يجود على عمرو: هذا هو الغل وعدم الإنفاق!! وقالوا: إن الله فقير، لأن الله قال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245]، فقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: يا محمد! إن ربك افتقر، صار يستقرض منا. قاتلهم الله!! وقالت اليهود أيضاً: إن الله عاجز، لأن حين خلق السماوات والأرض، استراح يوم السبت، وجعل العطلة محل عيد، فصار عيدهم يوم السبت. قاتلهم الله!! هنا يقول الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}: {يَدُ}: أفردوها، لأن اليد الواحد أقل عطاء من اليدين الثنتين، ولهذا جاء الجواب بالتثنية والبسط، فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}. ولما وصفوا الله بهذا العيب، عاقبهم الله بما قالوا، فقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}، أي: منعت عن الإنفاق، ولهذا كان اليهود أشد الناس جمعاً للمال ومنعاً للعطاء، فهم أبخل عباد الله، وأشدهم شحاً في طلب المال، ولا يمكن أن ينفقوا فلساً، إلا وهم يظنون أنهم سيكسبون بدله درهماً، ونرى نحن الآن لهم جمعيات كبيرة وعظيمة، لكن هم يريدون من وراء هذه الجمعيات والتبرعات أكثر وأكثر، يريدون أن يسيطروا على العالم.

عقاب الله تعالى لليهود

فإذا، لا تقل أيها الإنسان: كيف نجمع بين قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}، وبين الواقع اليوم بالنسبة لليهود؟! لأن هؤلاء القوم يبذلون ليربحوا أكثر. {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}، أي: طردوا وأبعدوا عن رحمة الله عز وجل، لأن البلاء موكل بالمنطق، فهم لما وصفوا الله بالإمساك، طردوا وأبعدوا عن رحمته، قيل لهم: إذا كان الله عز وجل كما قلتم لا ينفق، فليمنعكم رحمته حتى لا يعطيكم من جوده، فعوقبوا بأمرين: 1 - بتحويل الوصف الذي عابوا به الله سبحانه إليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}. 2 - وبإلزامهم بمقتضى قولهم، بإبعادهم عن رحمة الله، حتى لا يجدوا جود الله وكرمه وفضله. {بِمَا قَالُوا}: الباء هنا للسببية، وعلامة الباء التي للسببية: أن يصح أن يليها كلمة (سبب). و (ما) هنا يصح أن تكون مصدرية، ويصح أن تكون موصولة، فإن كانت موصولة، فالعائد محذوف، وتقديره: بالذي قالوه. وإن كانت مصدرية، فالفعل يحول إلى مصدر، أي: بقولهم. ثم أبطل الله سبحانه وتعالى دعواهم، فقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}.

{بَلْ}: هنا للإضراب الإبطالي. وانظر كيف اختلف التعبير: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، لأن المقام مقام تمدح بالكرم، والعطاء باليدين أكل من العطاء باليد الواحدة. {مَبْسُوطَتَانِ}: ضد قولهم: {مَغْلُولَةٌ}، فيد الله تعالى مبسوطتان واسعتا العطاء: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يد الله ملأى سحاء (كثيرة العطاء) الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما فيه يمينه" (¬1). من يحصى ما أنفق الله منذ خلق السماوات والأرض؟! لا يحصيه أحد! ومع ذلك لم يغض ما في يمينه. وهذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر" (¬2). ولننظر إلى المخيط غمس في البحر، فإذا نزعته، لا ينقص ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7411) كتاب التوحيد/ باب "لما خلقت بيدي"، ومسلم (993) عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الزكاة/ باب الحث على النفقة. (¬2) رواه مسلم (2577) كتاب البر/ باب تحريم الظلم من حديث أبي ذر, قال عنه الإمام أحمد: "هو أشرف حديث لأهل الشام""جامع العلوم الحكم" (2/ 34) , وقد توسع الإمام ابن رجب في شرحه في كتاب "جامع العلوم والحكم".

البحر شيئاً أبداً، ومثل هذه الصيغة يؤتى بها للمبالغة في عدم النقص، لأن عدم نقص البحر في مثل هذه الصورة أم معلوم، مستحيل أن البحر ينقص بهذا، فمستحيل أيضاً أن الله عز وجل ينقص ملكه إذا قام كل إنسان من الإنس والجن، فقاوموا فسألوا الله تعالى، فأعطى كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكه شيئاً. لا تقل: "نعم، لا ينقص من ملكه شيئاً، لأنه انتقل من ملكه إلى ملكه"، لأنه لا يمكن أن يكون هذا هو المراد، لأنه لو كان هذا المراد، لكان الكلام عبثاً ولغواً. لكن المعنى: لو فرض أن هذه العطايا العظيمة أعطيت على أنها خارجة عن ملك الله، لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً. ولو كان المعنى هو الأول، لم يكن فيه فائدة، فمعروف أنه لو كان عندك عشرة ريالات، أخرجتها من الدرج الأيمن إلى الدرج الأيسر، وقال إنسان: إن مالك لم ينقص، لقيل: هذا لغو من القول! المهم أن المعنى: لو أن هذا الذي أعطاه السائلين خارج عن ملكه، فإنه لا ينقصه سبحانه وتعالى. وليس إنفاق الله تعالى لما نحصل من الدراهم والمتاع، بل كل ما بنا من نعمة فهو من الله تعالى، سواء كانت من نعم الدين أم الدنيا، فذرات المطر من إنفاق الله علينا، وحبات النبات من إنفاق الله.

اليد جاءت مفردة ومثناة وجمعا وكيفية الجمع بينها

أفبعد هذا يقال كما قالت اليهود عليهم لعائن الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}؟! لا والله! بل يقال: إن يدي الله عز وجل مبسوطتان بالعطاء والنعم التي لا تعد ولا تحصى. لكن إذا قالوا: لماذا أعطى زيداً ولم يعط عمراً؟ قلنا: لأن الله تعالى له السلطان المطلق والحكمة البالغة، ولهذا قال رداً على شبهتهم: {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ}، فمن الناس من يعطيه كثيراً، ومنهم من يعطيه قليلاً، ومنهم من يعطيه وسطاً، تبعاً لما تقتضيه الحكمة، على أن هذا الذي أعطي قليلاً ليس محروماً من فضل الله وعطائه من جهة أخرى، فالله أعطاه صحة وسمعاً وبصراً وعقلاً وغير ذلك من النعم التي لا تحصى، ولكن لطغيان اليهود وعدوانهم وأنهم لم ينزهوا الله عن صفات العيب، قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}. فالآيتان السابقتان فيهما إثبات صفة اليدين لله عز وجل. ولكن قد يقول قائل: إن لله أكثر من يدين، لقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس: 71]، فأيدينا هنا جمع، فلنأخذ بهذا الجمع، لأننا إذا أخذنا بالجمع، أخذنا بالمثنى وزيادة، فما هو الجواب؟ فالجواب أن يقال: جاءت اليد مفردة ومثناة وجمعاً: أما اليد التي جاءت بالإفراد، فإن المفرد المضاف يفيد

العموم، فيشمل كل ما ثبت لله من يد، ودليل عموم المفرد المضاف قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، فـ {نِعْمَتَ}: مفرد مضاف، فهي تشمل كثيراً، لقوله: {لا تُحْصُوهَا}، إذاً: فما هي واحدة ولا ألف ولا مليون ولا ملايين. {يَدُ اللَّهِ}: نقول هذا المفرد لا يمنع التعدد إذا ثبت، لأن المفرد المضاف يفيد العموم. أما المثنى والجمع، فنقول: إن الله ليس له إلا يدان اثنتان، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة. ففي الكتاب: في صورة ص قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:57]، والمقام مقام تشريف، ولو كان الله خلقه بأكثر من يدين، لذكره، لأنه كلما ازدادت الصفة التي بها خلق الله هذا الشيء، ازداد تعظيم هذا الشيء. وأيضاً: في سورة المائدة قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، في الرد على من قالوا: {يَدُ اللَّهِ}، بالإفراد، والمقام مقام يقتضي كثرة النعم، وكلما كثرت وسيلة العطاء، كثر العطاء، فلو كان لله تعالى أكثر من اثنتين لذكرهما. أما السنة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "يطوي

الله تعالى السماوات بيمينه والأرض بيده الأخرى" (¬1). قال صلى الله عليه وسلم: "كلتا يديه يمين" (¬2). ولم يذكر أكثر من اثنتين. وأجمع السلف على أن لله يدين اثنتين فقط بدون زيادة. فعندنا النص من القرآن والسنة والإجماع على أن لله تعالى يدين اثنتين، فيكف نجمع بين هذا وبين الجمع: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]؟! فنقول الجمع على أحد الوجهين: فإما أن نقول بما ذهب إليه بعض العلماء، من أن أقل الجمع اثنان، وعليه، فـ {أَيْدِينَا} لا تدل على أكثر من اثنتين، يعني: لا يلزم أن تدل على أكثر من اثنين، وحينئذ تطابق التثنية: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، ولا إشكال فيه. فإذا قلت: ما حجة هؤلاء على أن الجمع أقله اثنان؟ فالجواب: احتجوا بقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، وهما اثنتان، والقلوب جمع، والمراد به قلبان فقط، لقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4812 و 7412) , ومسلم (2787 و 2788)؛ من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما. (¬2) رواه مسلم (1827) عن ابن عمر رضي الله عنهما في كتاب الإمارة/ باب "فضيلة الإمام العدل ... ".

[الأحزاب: 4]، ولا لامرأة كذلك. واحتجوا أيضاً بقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، فـ {إِخْوَةٌ} جمع، والمراد به اثنان. واحتجوا أيضاً بأن جماعة الصلاة تحصل باثنين. ولكن جمهور أهل اللغة يقولون: إن أقل الجمع ثلاثة، وإن خروج الجمع إلى الاثنين في هذه النصوص لسبب، وإلا فإن أقل الجمع في الأصل ثلاثة. وإما أن نقول: إن المراد بهذا الجمع التعظيم، تعظيم هذه اليد وليس المراد أن لله تعالى أكثر من اثنتين. ثم إن المراد باليد هنا نفس الذات التي لها يد، وقد قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، أي: بما كسبوا، سواء كان من كسب اليد أو الرجل أو اللسان أو غيرها من أجزاء البدن، لكن يعبر بمثل هذا التعبير عن الفاعل نفسه. ولهذا نقول: إن الأنعام التي هي الإبل لم يخلقها الله تعالى بيده، وفرق بين قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}، وبين قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، فـ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}، كأنه قال: مما عملنا، لأن المراد باليد ذات الله التي لها يد، والمراد بـ {بِيَدَيَّ}: اليدان دون الذات. وبهذا يزول الإشكال في صفة اليد التي وردت بالإفراد

والتثنية والجمع. فعلم الآن أن الجمع بين المفرد والتثنية سهل، وذلك أن هذا مفرد مضاف فيعم كل منا ثبت لله من يد. وأما بين التثنية والجمع، فمن وجهين: أحدهما: أنه لا يراد بالجمع حقيقة معناه ـ وهو الثلاثة فأكثر ـ بل المراد به التعظيم كما قال الله تعالى: {إنَّا} و {نَحْنُ} و {وقُلْنَا} .... وما أشبه ذلك، وهو واحد، لكن يقول هذا للتعظيم. أو يقال: إن أقل الجمع اثنان، فلا يحصل هنا تعارض. وأما قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]، فالأيد هنا بمعنى القوة، فهي مصدر آد يئيد، بمعنى: قيد، وليس المراد بالأيد صفة الله، ولهذا ما أضافها الله إلى نفسه، ما قال: بأيدينا! بل قال: {بِأَيْدٍ}، أي: بقوة. ونظير ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، فإن لعلماء السلف في قوله: {عَنْ سَاقٍ}: قولين: القول الأول: أن المراد به الشدة. والقول الثاني: أن المراد به ساق الله عز وجل. فمن نظر إلى سياق الآية مع حديث أبي سعيد (¬1)، قال: إن المراد بالساق هنا ساق الله. ومن نظر إلى الآية بمفردها، قال: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7439) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه في كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناظرة"، ومسلم (183) كتاب الإيمان/ باب معرفة طريق الرؤية.

مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم

المراد بالساق الشدة. فإذا قال قائل: أنتم تثبتون أن لله تعالى يداً حقيقية، ونحن لا نعلم من الأيدي إلا أيادي المخلوقين، فيلزم من كلامكم تشبيه الخالق بالمخلوق. فالجواب أن نقول: لا يلزم من إثبات اليد لله أن نمثل الخالق بالمخلوقين، لأن إثبات اليد جاء في القرآن والسنة وإجماع السلف، ونفى مماثلة الخالق للمخلوقين يدل عليه الشرع والعقل والحس: - أما الشرع، فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. - وأما العقل، فلا يمكن أن يماثل الخالق المخلوق في صفاته، لأن هذا يعد عيباً في الخالق. - وأما الحس، فكل إنسان يشاهد أيدي المخلوقات متفاوتة ومتباينة من كبير وصغير، وضخم ودقيق .. إلخ، فيلزم من تباين أيدي المخلوقين وتفاوتهم مباينة يد الله تعالى لأيدي المخلوقين وعدم مماثلته لهم سبحانه وتعالى من باب أولى. هذا، وقد خالف أهل السنة والجماعة في إثبات اليد لله تعالى أهل التعطيل من المعتزلة والجهمية والأشعرية ونحوهم، وقالوا: لا يمكن أن نثبت لله يداً حقيقية، بل المراد باليد أمر معنوي، وهو القوة!! أو المراد باليد النعمة لأن اليد تطلق في اللغة العربية على

القوة وعلى النعمة. ففي الحديث الصحيح حديث النواس بن سمعان الطويل: "أن الله يوحي إلى عيسى أني أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم" (¬1)، والمعنى: لا قوة لأحد بقتالهم، وهم يأجوج ومأجوج. وأما اليد بمعنى النعمة، كثير، ومنه قول رسول قريش لأبي بكر: "لولا يد لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك" (¬2)، يعني: نعمة. وقول المتنبي: وكم لظلام الليل عندك من يد ... تحدث أن المانوية تكذب والمانوية: فرقة من المجوس الذين يقولون: إن الظلمة تخلق الشر، والنور يخلق الخير. فالمتنبي يقول: إنك تعطي في الليل العطايا الكثيرة التي تدل على أن المانوية تكذب، لأن ليلك يأتي بخير. فالمراد بيد الله: النعمة، وليس المراد باليد اليد الحقيقية، لأنك لو أثبت لله يداً حقيقية، لزم من ذلك التجسيم أن يكون الله تعالى جسماً، والأجسام متماثلة، وحينئذ تقع فيما نهى الله عنه في قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74]. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2937) عن نواس بن سمعان رضي الله عنه في كتاب الفتن/ باب ذكر الدجال. (¬2) رواه البخاري (2731 , 2732) ورسول قريش هو عروة بن مسعود, كتاب الشروط/ باب الشروط في الجهاد.

ونحن أسعد بالدليل منك أيها المثبت للحقيقة!! نقول: سبحان من تنزه من الأعراض والأبعاض والأغراض!! لا تجد مثل هذه السجعة لا في الكتاب ولا في السنة. وجوابنا على هذا من عدة وجوه: أولاً: أن تفسير اليد بالقوة أو النعمة مخالف لظاهر اللفظ، وما كان مخالفاً لظاهر اللفظ، فهو مردود، إلا بدليل. ثانياً: أنه مخالف لإجماع السلف، حيث إنهم كلهم مجمعون على أن المراد باليد اليد الحقيقية. فإن قال لك قائل: أين إجماع السلف؟ هات لي كلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي، يقولون: إن المراد بيد الله الحقيقية!. أقوله له: ائت لي بكلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو غيرهم من الصحابة والأئمة من بعدهم يقولون: إن المراد باليد القوة أو النعمة. فلا يستطيع أن بذلك. إذاً، فلو كان عندهم معنى يخالف ظاهر اللفظ، لكانوا يقولون به، ولنقل عنهم، فلما لم يقولون به، علم أنهم أخذوا بظاهر اللفظ وأجمعوا عليه. وهذه فائدة عظيمة، وهي أنه إذا لم ينقل عن الصحابة ما يخالف ظاهر الكتاب والسنة، فإنهم لا يقولون بسواه، لأنهم الذين

نزل القرآن بلغتهم، وخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بلغتهم، فلا بد أن يفهموا الكتاب والسنة على ظاهرهما، فإذا لم ينقل عنهم ما يخالفه، كان ذلك قولهم. ثالثاً: أنه يمتنع غاية الامتناع أن يراد باليد النعم أو القوة في مثل قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، لأنه يستلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط، ونعم الله لا تحصى!! ويستلزم أن القوة قوتان، والقوة بمعنى واحد لا يتعدد فهذا التركيب يمنع غاية المنع أن يكون المراد باليد القوة أو النعمة. هب أنه قد يمكن في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]: أن يراد بهما النعمة على تأويل، لكن لا يمكن أن يراد بقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} النعمة أبداً. أما القوة، فيمتنع أن يكون المراد باليدين القوة في الآيتين جميعاً، في قوله: {بَلْ يَدَاهُ} وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، لأن القوة لا تتعدد. رابعاً: أنه لو كان المراد باليد القوة، ما كان لآدم فضل على إبليس، بل ولا على الحمير والكلاب، لأنهم كلهم خلقوا بقوة الله، ولو كان المراد باليد القوة، ما صح الاحتجاج على إبليس، إذ إن إبليس سيقول: وأنا يا رب خلقتني بقوتك، فما فضله علي؟! خامساً: أن يقال: إن هذه اليد التي أثبتها الله جاءت على وجوه متنوعة يمتنع أن يراد بها النعمة أو القوة، فجاء فيها الأصابع والقبض والبسط والكف واليمين، وكل هذا يمتنع أن يراد

آيات صفة العينين لله تعالى

بها القوة، لأن القوة لا توصف بهذه الأوصاف. فتبين بهذا أن قول هؤلاء المحرفين الذين قالوا: المراد باليد القوة باطل من عدة أوجه. وقد سبق أن صفات الله عز وجل من الأمور الخبرية الغيبية التي ليس للعقل فيها مجال، وما كان هذا سبيله، فإن الواجب علينا إبقاؤه على ظاهره، من غير أن نتعرض له. إثبات العينين لله تعالى ذكر المؤلف رحمه الله تعالى لإثبات العينين لله تعالى ثلاث آيات. الآية الأولى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. الخطاب هنا للنبي عليه الصلاة والسلام. والصبر: بمعنى الحبس، ومنه قوله: قتل صبراً، أي: قتل وقد حبس للقتل. فالصبر في اللغة: بمعنى الحبس. وفي الشرع: قالوا: هو الصبر لأحكام الله، يعني: حبس النفس لأحكام الله.

وأحكام الله عز وجل شرعية وكونية: والشرعية: أوامر ونواه، فالصبر على طاعة الله صبر على الأوامر، والصبر عن معصيته صبر عن النواهي. والكونية: أقدار الله تعالى: فيبصر على أقداره وقضائه. وهذا معنى قول بعضهم الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة. فقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}: يتناول الأقسام الثلاثة: 1 - الصبر على طاعة الله. 2 - وعن معصية الله. 3 - وعلى أقدار الله. أي: اصبر لحكم ربك الكوني والشعري. وبهذا نعرف أن التقسيم الذي ذكره العلماء، وقالوا: إن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن مصية الله، وصبر على أقدار الله: داخل في هذه الكلمة: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ}. ووجه الدخول: أن الحكم إما كوني وإما شرعي، والشرعي أوامر ونواه. والنبي عليه الصلاة والسلام أمره الله عز وجل بأوامر، ونهاه عن نواهي، وقدر عليه مقدورات: فالأوامر مثل: {أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125]، وهذه أوامر عظيمة، يعني: لو قيل لإنسان: اعبد ربك، فإنه يتمكن من

العبادة، لكن الدعوة والتبليغ أمر صعب، لأنه يتعب في معاناة الآخرين وجهادهم، فيكون صعباً. وأما النواهي، فقد نهاه عن الشرك، قال: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14]، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ... وما أشبه ذلك. وأما الأحكام القدرية: فقد حصل عليه أذى من قومه، أذى قولي وأذى فعلي، لا يصبر عليه إلا أمثال الرسول عليه الصلاة والسلام. آذوه بالقوة: بالسخرية، والاستهزاء، والتهجين، وتنفير الناس عنه. وأذوه بالفعل: كان ساجداً تحت الكعبة في آمن بقعة من الأرض، ساجداً لربه، فذهبوا، وأتوا بسلى الناقة، ووضعوه على ظهره وهو ساجد (¬1)!! ليس هناك أبلغ من هذه الأذية مع العلم بأنه لو يدخل كافر مشرك إلى الحرم، لكان عندهم آمناً، لا يؤذونه فيه، بل يكرمونه ويطعمونه النبيذ ويسقونه ماء زمزم!! ومحمد عليه الصلاة والسلام ساجداً لله يؤذونه هذا الأذى!! ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3854) كتاب مناقب الأنصار/ باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين، ومسلم (1794) عن عبد الله بن مسعود قال: "بينما النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش, جاء عقبة بن أبي معيط بسلي جزور فقذفه على ظهر النبي لى الله عليه وسلم ". كتاب الجهاد/ باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين.

كانوا يأتون بالعذرة والأنتان والأقذار يضعونه عند عتبة بابه!! وخرج إلى أهل الطائف، وماذا صار؟! صار الإيذاء العظيم، صف سفهاؤهم وغلمانهم على جانبي الطريق، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه، فلم يفق إلا في فرن الثعالب (¬1). فصبر على حكم الله، ولكنه صبر مؤمن يؤمن بأن العاقبة له، لأن الله قال له: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ... هذا الاعتناء والحفاوة .... أكرم شيء يكون به الإنسان أن تقول له: أنت بعيني، أنت بقلبي ... وما أشبه ذلك. أنت بعيني، معناه: أنا ألاحظك بعيني. وهذا تعبير معروف عند الناس، يكون تمام الحراسة والعناية والحفظ بمثل هذا التعبير: أنت بعيني،. إذاً، قوله: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}، يعني: فإنك محروس غاية ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3231) كتاب بدء الخلق/ باب إذا قال أحدكم "أمين"، ومسلم (1795) عن عائشة رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم – أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد, قال: "لقد لقيت من قومك ما لقيت, وكان أشد مالقيت منهم يوم العقبة, إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت, فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعاليب, فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل, فنادى فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك, وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم, إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابه من يعبد الله وحده ولايشرك به شيئاً". كتاب الجهاد/ باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم في أذى المشركين.

الحديث دل على أن لله عينين اثنتين فقط

الحراسة، محفوظ غاية الحفظ. {بِأَعْيُنِنَا}: أعيننا معك، نحفظك، ونرعاك، ونعتني بك. في الآية الكريمة إثبات العين لله عز وجل، لكنها جاءت بصيغة الجمع، لما سنذكر إن شاء الله تعالى. العين من الصفات الذاتية الخبرية: الذاتية: لأنه لم يزل ولا يزال متصفاً بها، الخبرية: لأن مسماها بالنسبة إلينا أجزاء وأبعاض. فالعين منا بعض من الوجه، والوجه بعض من الجسم، لكنها بالنسبة لله لا يجوز أن نقول: إنها بعض من الله، لأنه سبق أن هذا اللفظ لم يرد، وأنه يقتضي التجزئة في الخالق، وأن البعض أو الجزء هو الذي يجوز بقاء الكل بفقده، ويجوز أن يفقد، وصفات الله لا يجوز أن تفقد أبداً، بل هي باقية. وقد دل الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لله عينين اثنتين فقط، حين وصف الدجال وقال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور" (¬1)، وفي لفظ: "أعور العين اليمنى" (¬2). وقد قال بعض الناس معنى (أعور)، أي: معيب، وليس من عور العين!! وهذا لا شك أنه تحريف وتجاهل للفظ الصحيح الذي في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3057) كتاب الجهاد/ باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، ومسلم (169) كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال, من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (7407) كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى "ولتصنع على عيني"، ومسلم (169) كتاب الإيمان/ باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال, من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

البخاري وغيره: "أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية" (¬1) وهذا واضح. ولا يقال أيضاً: (أعور) باللغة العربية، إلا لعور العين، أما إذا قيل: (عور) أو (عوار)، فربما يراد به مطلق العيب. وهذا الحديث يدل على أن لله تعالى عينين اثنتين فقط. ووجه الدلالة أنه لو كان لله أكثر من اثنتين، لكان البيان به أوضح من البيان بالعور، لأنه لو كان لله أكثر من عينين، لقال: إن ربكم له أعين، لأنه إذا كان له أعين أكثر من ثنتين، صار وضوح أن الدجال ليس برب أبين. وأيضاً: لو كان الله عز وجل أكثر من عينين، لكان ذلك من كماله، وكان ترك ذكره تفويتاً للثناء على الله، لأن الكثرة تدل على القوة والكمال والتمام، فلو كان لله أكثر من عينين، لبينها الرسول عليه الصلاة والسلام، لئلا يفوتنا اعتقاد هذا الكمال، وهو الزائد على العينين الثنتين. وذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "الصواعق المرسلة" حديثاً، لكنه ضعيف لانقطاعه، وهو: "إن العبد إذا قام في الصلاة قام بين عيني الرحمن ... " (¬2): "عيني": هذه تثنية، لكن الحديث ¬

_ (¬1) تقديم تخريجه في الحديث السابق. (¬2) ذكره ابن القيم في كتاب "الصواعق" (256)، وقال الألباني في "الضعيفة" (1024): ضعيف جداً, رواه العقيلي في "الضعفاء" (ص 24)., والبزار في "مسنده" (553 - كشف الأستار)

ضعيف، واعتمادنا في عقيدتنا هذه على الحديث الصحيح، حديث الدجال، لأنه واضح لمن تأمله. ولقد ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدرامي رحمه الله في "رده على بشر المريسي"، وكذلك أيضاً ذكره ابن خزيمة في "كتاب التوحيد"، وذكر أيضاً إجماع السلف على ذلك أبو الحسن الأشعري رحمه الله وأبو بكر الباقلاني، والأمر في هذا واضح. فعقيدتنا التي ندين لله بها: أن لله تعالى عينين اثنتين، لا زيادة. فإن قيل: إن من السلف من فسر قوله تعالى: {بِأَعْيُنِنَا}، بقوله: بمرأى منا. فسره بذلك أئمة سلفيون معروفون، وأنتم تقولون: إن التحريف محرم وممتنع، فما الجواب؟ فالجواب: أنهم فسروها باللازم، مع إثبات الأصل، وهي العين، وأهل التحريف يقولون: بمرأى منا، بدون إثبات العين، وأهل السنة والجماعة يقولون: {بِأَعْيُنِنَا}: بمرأى منا، ومع إثبات العين. لكن ذكر العين هنا أشد توكيداً وعناية من ذكر مجرد الرؤية، ولهذا قال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}. قالت المعطلة: أجلبتم علينا بالخيل والرجل في إنكاركم علينا التأويل، وأنتم أولتم فأخرجتم الآية عن ظاهرها، فالله يقول:

{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}، فخذوا بالظاهر، وإذا أخذتم بالظاهر، كفرتم، وإذا لم تأخذوا بالظاهر، تناقضتم، فمرة تقولون: يجوز التأويل، ومرة تقولون: لا يجوز التأويل، وتسمونه تحريفاً، وهل هذا إلا تحكم بدين الله؟! قلنا: نأخذ بالظاهر، وعلى العين والرأس، وهو طريقتنا، ولا نخالفه. قالوا: الظاهر من الآية أن محمد صلى الله عليه وسلم بعين الله، وسط العين، كما تقول: زيد بالبيت. زيد بالمسجد، فالباء للظرفية، فيكون زيد داخل البيت وداخل المسجد، فيكون قوله: {بِأَعْيُنِنَا}، أي: داخل أعيننا! وإذا قلتم بهذا كفرتم، لأنكم جعلتم الله محلاً للخلائق، فأنتم حلولية، وإن لم تقولوا به، تناقضتم؟! قلنا لهم: معاذ الله ثم معاذ الله ثم معاذ الله أن يكون ما ذكرتموه ظاهر القرآن، وأنتم إن اعتقدتم أن هذا ظاهر القرآن، كفرتم، لأن من اعتقد أن ظاهر القرآن كفر وضلال، فهو كافر ضال. فأنتم توبوا إلى الله من قولكم: إن هذا هو ظاهر اللفظ! واسألوا جميع أهل اللغة من الشعراء والخطباء: هل يقصدون بمثل هذه العبارة أن الإنسان المنظور إليه بالعين حال في جفن العين؟! اسألوا من شئتم من أهل اللغة أحياء وأمواتاً! فأنت إذا رأيت أساليب اللغة العربية، عرفت أن هذا المعنى

الآية الثانية: قوله: {وحملناه على ذات ألواح. . . .}

الذي ذكروه وألزمونا به لا يرد في اللغة العربية، فضلاً عن أن يكون مضافاً إلى الرب عز وجل، فإضافته إلى الرب كفر منكر، وهو منكر لغة وشرعاً وعقلاً. فإن قيل: بماذا تفسرون الباء في قوله: {بِأَعْيُنِنَا}؟ قلنا: نفسرها بالمصاحبة، إذا قلت: أنت بعين، يعني: أن عيني تصحبك وتنظر إليك، لا تنفك عنك، فالمعنى: أن الله عز وجل بقول لنبيه: أصبر لحكم الله، فإنك محوط بعنايتنا وبرؤيتنا لك بالعين حتى لا ينالك أحد بسوء. ولا يمكن أن تكون الباء هنا للظرفية، لأنه يقتضي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عين الله، وهذا محال. وأيضاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خوطب بذلك وهو في الأرض، فإذا قلتم: إنه كان في عين الله كانت دلالة القرآن كذباً. وهذا وجه آخر في بطلان دعوى أن ظاهر القرآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم في عين الله تعالى. الآية الثانية: قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 13 - 14]. {وَحَمَلْنَاهُ}: الضمير يعود على نوح عليه الصلاة والسلام. وقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}: أي: على سفينة ذات ألواح ودسر، وهذه السفينة كان عليه الصلاة والسلام يصنعها، وكان يمر به قومه، فيسخرون منه، فيقول: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ

مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38]. صنعها بأمر الله ورعاية الله وعنايته، وقالب الله له: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] فالله تعالى ينظر إليه وهو يصنع الفلك، ويلهمه كيف يصنعها. ووصفها الله هنا في قوله: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}: {ذَاتِ}: بمعنى: صاحبة. والألواح: الخشب. والدسر: مايربط به الخشب كالمسامير والحبال وما أشبه ذلك، وأكثر المفسرين على أن المراد بها المسامير التي تربط بها الأخشاب (¬1) {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}: هذا الشاهد: {بِأَعْيُنِنَا}: أي ذات الألواح والدسر بأعين الله عز وجل. والمراد بالأعين هنا عينان فقط، كما مر ومعنى تجري بها، أي: مصحوبة بنظرنا بأعيننا، فالباء هنا للمصاحبة، تجري على الماء الذي نزل من السماء ونبع من الأرض، لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام دعا ربه {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} [القمر: 11 - 12]، فكانت هذه السفينة تجري بعين الله عز وجل. قد يقول قائل: لماذا لم يقل: وحملناه على السفينة، أو: حملناه على فلك، بل قال: {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}؟ ¬

_ (¬1) قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والقرطبي وقادة وابن يد واخاره ابن جرير انظر: فسير الطبري وابن كثير.

الآية الثالثة: قوله: {وألقيت عليك محبة مني. . . .}

والجواب على هذا أن نقول: عدل عن التعبير بالفلك والسفينة إلى التعبير بذات ألواح ودسر، ولوجوه ثلاثة: الوجه الأول: مرعاة للآيات وفواصلها، فلو قال: حملنا على فلك، لم تتناسب هذه الآية مع ما بعدها ولا ما قبلها. ولو قال: على سفينة، كذلك، لكن من أجل تناسب الآيات في فواصلها وفي كلماتها قال: {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ}. الوجه الثاني: من أجل أن يتعلم الناس كيف يصنعون السفن، وبيان أنها من الألواح والمسامير، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15]، فأبقى الله تعالى علمها آية للخلق يصنعون كما ألهم الله تعالى نوحاً. الوجه الثالث: الإشارة إلى قوتها، حيث كانت من ألواح ودسر، والتنكير هنا للتعظيم. وروعي التركيز على مادتها، ونظير ذلك في ذكر الوصف دون الموصوف قوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11] ولم يقل: دروعاً، من أجل العناية بفائدة هذه الدروع، وهي أن تكون سابغة تامة، فهذه مثلها. وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}، نقول فيها ما قلناه في قوله تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. الآية الثالثة: قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39].

الخطاب لموسى عليه الصلاة والسلام. فقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}: اختلف المفسرون في معناها: فمنهم من قال: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي}، يعني: أني أحببتك. ومنهم من قال: ألقيت عليك محبة من الناس، والإلقاء من الله، أي أن: من رآك أحبك، وشاهد هذا أن امرأة فرعون لما رأته أحبته وقالت: {لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [القصص: 9]. ولو قال قائل: أيمكنكم أن تحملوا الآية على المعنيين؟ لقلنا: نعم بناء على القاعدة، وهو أن الآية إذا كانت تحمل معنيين لا منافاة بينهما، فإنها تحمل عليهما جميعاً، فموسى عليه الصلاة والسلام محبوب من الله عز وجل، ومحبوب من الناس، إذا رآه الناس، أحبوه، والواقع أن المعنيين متلازمان، لأن الله تعالى إذا أحب عبداً، ألقى في قلوب العباد محبته. ويروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أحبه الله وحببه إلى خلقه. ثم قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}: الصنع: جعل الشيء على صفة معينة، كصنع صفائح الحديد قدوراً، وصنع الأخشاب أبواباً،

وصنع شيء بحسبه، فصناعة البيت: بناء البيت، وصناعة الحديد: جعلها أواني مثلاً أو محركات، وصنع الآدمي: معناه التربية البدنية والعقلية: تربيته البدنية بالغذاء، وتربيته العقلية بالآداب والأخلاق وما أشبه ذلك. وموسى على الصلاة والسلام حصل له ذلك، فإنه ربي على عين الله: لما التقط آل فرعون، حماه الله عز وجل من قتلهم، مع أنهم كانوا يقتلون أبناء بني إسرائيل، فقضى الله تعالى أن هذا الذي تقتل الناس من أجله ستربى في أحضان آل فرعون، فالناس يقتلون من أجله، وهو يتربى آمناً في أحضانهم. وأنظر إلى هذه القدرة العظيمة! ومن تربية الله له عرض على المراضع ـ النساء اللاتي يرضعنه ـ، ولكنه ما رضع من أي واحدة: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12]، فما رضع من امرأة قط، وكانت أخته قد انتدبت من قبل أمه، فرأتهم، وقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} [القصص: 12]، قالوا: نعم، نحن نود هذا. فقالت: اتبعوني. فتبعوها، قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} [القصص: 13]، ولم يرضع من امرأة قط، مع أنه رضيع لكن هذا من كمال قدرة الله وصدق وعده، لأن الله عز وجل قال لها: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 7].

مخالفو أهل السنة والرد عليهم

الأم شفقتها على ابنها لا أحد يتصورها، قيل لها: اجعلي ابنك في صندوق، وألقيه في البحر، وسيأتي إليك. لولا الإيمان الذي مع هذه المرأة، ما فعلت هذا الشيء تلقي ابنها في البحر لو أن ابنها سقط في تابوته في البحر، لجرته فكيف وهي التي تلقيه؟ لكن لثقتها بالرب عز وجل ووعده ألقته في اليم. وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}، بالإفراد، هل ينافي ما سبق من ذكرها بالجمع؟! الجواب: لا تنافي، وذلك لأن المفرد المضاف يعم فيشمل كل ما ثبت لله من عين، وحينئذ لا منافاة بين المفرد وبين الجمع أو التثنية. إذاً، يبقى النظر بين التثنية والجمع، فكيف نجمع بينهما؟! الجواب أن نقول: إن كان أقل الجمع اثنين، فلا منافاة، لأننا نقول: هذا الجمع دال على اثنتين، فلا ينافيه. وإن كان أقل الجمع ثلاثة، فإن هذا الجمع لا يراد به الثلاثة، وإنما يراد به التعظيم والتناسب بين ضمير الجمع وبين المضاف إليه. وقد فسر أهل التحريف والتعطيل العين بالرؤية بدون عين، وقالوا: {بِأَعْيُنِنَا}: برؤية منا، ولكن لا عين، والعين لا يمكن أن تثبت لله عز وجل أبداً، لأن العين جزء من الجسم، فإذا أثبتنا العين لله، أثبتنا العين لله، أثبتنا تجزئة وجسماً، وهذا شيء ممتنع، فلا يجوز،

آيات صفة السمع والبصر لله تعالى

ولكنه ذكر العين من باب تأكيد الرؤية، يعني: كأنما نراك ولنا عين، والأمر ليس كذلك!! فنقول لهم: هذا القول خطأ من عدة أوجه: الوجه الأول: أنه مخالف لظاهر اللفظ. الثاني: أنه مخالف لإجماع السلف. الثالث: أنه لا دليل عليه، أي: أن المراد بالعين مجرد الرؤية. الرابع: أننا إذا قلنا بأنها الرؤية، وأثبت الله لنفسه عيناً، فلازم ذلك أنه يرى بتلك العين، وحينئذ يكون في الآية دليل على أنها عين حقيقية. صفة السمع والبصر لله تعالى: الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات صفتي السمع والبصر آيات سبعاً: الآية الأولى: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]. {قَدْ}: للتحقيق. والمجادلة: هي التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي زوجها

السمع المضاف إلى الله -عز وجل- ينقسم إلى قسمين

حين ظاهر منها. والظهار: أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي. أو كلمة نحوها. وكان الظهار في الجاهلية طلاقاً بائناً، فجاءت تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبين له كيف يطلقها هذا الرجل ذلك الطلاق البائن وهي أم أولاده، وكانت تحاور النبي صلى الله عليه وسلم، أي: تراجعه الكلام فأفتاها الله عز وجل بما أفتاها به في الآيات المذكورة. والشاهد من هذه الآيات قوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ}، ففي هذا إثبات السمع لله سبحانه وتعالى، وأنه يسمع الأصوات مهما بعدت ومهما خفيت. قالت عائشة رضي الله عنها: "تبارك (أو قالت: الحمد لله) الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي ناحية البيت، وإني ليخفى على بعض حديثها" (¬1). والسمع المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: 1 - سمع يتعلق بالمسموعات، فيكون معناه إدراك الصوت. 2 - وسمع بمعنى الاستجابة، فيكون معناه أن الله يجيب من دعاه، لأن الدعاء صوت ينطلق من الداعي، وسمع الله دعاءه، يعني: استجاب دعاءه، وليس المراد سمعه مجرد سماع فقط، لأن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (ص 1/ 104)

السمع الذي بمعنى إدراك الصوت ينقسم إلى ثلاثة أقسام

هذا لا فائدة منه، بل الفائدة أن يستجيب الله الدعاء. فالسمع الذي بمعنى إدراك الصوت ثلاثة أقسام: أحدها: ما يقصد به التأييد. والثاني: ما يقصد به التهديد. والثالث: ما يقصد به بيان إحاطة الله سبحانه وتعالى. 1 - أما ما يقصد به التهديد، فكقوله تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف: 80]، وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]. 2 - وأما ما يقصد به التأييد، فكقوله تعالى لموسى وهارون: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، أراد الله عز وجل أن يؤيد موسى وهارون بذكر كونه معهما يسمع ويرى، أي: يسمع ما يقولان وما يقال لهما ويراهما ومن أرسلا إليه، وما يفعلان، وما يفعل بهما. 3 - وأما ما يقصد به بيان الإحاطة، فمثل هذه الآية، وهي: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1]. الآية الثانية: قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]. {لَقَدْ}: جملة مؤكدة باللام، و (قد)، والقسم المقدر، تقديره: والله، فهي مؤكدة بثلاث مؤكدات.

الآية الثالثة: قوله: {أم يحسبون أنا لا نسمع. . . .}

والذين قالوا: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}: هم اليهود قاتلهم الله، فهم وصفوا الله بالعيب، قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ}. وسبب قولهم هذا: أنه لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245]، قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إن ربك افتقر، يسأل القرض منا. الآية الثالثة: قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80]. {أَمْ} في مثل هذا التركيب، يقولون: إنها متضمنة معنى (بل)، والهمزة، يعني: بل أيحسبون، ففيها إضراب وفيها استفهام، أي: بل أيحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم. والسر: ما يسره الإنسان إلى صاحبه. والنجوى: ما يناجي به صاحبه ويخاطبه، فهو أعلى من السر. والنداء: ما يرفع به صوته لصاحبه. فها هنا ثلاثة أشياء: سر ومناجاة ونداء. فمثلاً: إذا كان شخص إلى جانب: وساررته، أي: كلمته بكلام لا يسمعه غيره، نسمي هذا مسارة. وإذا كان الحديث بين القوم يسمعونه كلهم ويتجاذبونه، سمي مناجاة.

الآية الرابعة: قوله: {إنني معكما أسمع وأرى. . . .}

وأما المناداة، فتكون من بعيد لبعيد. فهؤلاء يسرون ما يقولونه من المعاصي، ويتناجون بها، فيقول الله عز وجل مهدداً إياهم: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى}. و {بَلَى}: حرف إيجاب، يعني: بلى نسمع، وزيادة على ذلك: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}، أي: عندهم يكتبون ما يسرون وما به يتناجون، والمراد بالرسل هنا الملائكة الموكلون بكتابة أعمال بني آدم، ففي هذه الآية إثبات أن الله تعالى يسمع سرهم ونجواهم. الآية الرابعة: قوله: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. الخطاب لموسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، يقول الله سبحانه وتعالى لهما: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}، أي: أسمع ما تقولان، وأسمع ما يقال لكما، وأراكما، وأرى أن من أرسلتما إليه، وأرى ما تفعلان، وأرى ما يفعل بكما. لأنه إما أن يساء إليهما بالقول أو بالفعل، فإن كان بالقول، فهو مسموع عند الله، وإن كان بالفعل، فهو مرئي عند الله. الآية الخامسة: قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14]. الضمير في {أَلَمْ يَعْلَمْ} يعود إلى من يسيء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى عَبْداً إِذَا صَلَّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 9 - 14]،

الآية السادسة: قوله: {الذي يراك حين تقوم. . . .}

وقد ذكر المفسرون أن المراد به أبو جهل (¬1). وفي هذه الآية: إثبات صفة الرية لله عز وجل. والرؤية المضافة إلى الله لها معنيان. المعنى الأول: العلم. المعنى الثاني: رؤية المبصرات، يعني: إدراكها بالبصر. فمن الأول: قوله تعالى عن القيامة: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج: 6 - 7]، فالرؤية هنا رؤية العلم، لأن اليوم ليس جسماً يرى، وأيضاً هو لم يكن بعد، فمعنى: {وَنَرَاهُ قَرِيباً}، أي: نعلمه قريباً. وأما قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}، فهي صالحة لأن تكون بمعنى العلم وبمعنى الرؤية البصرية، وإذا كانت صالحة لهما، ولا منافاة بينهما وجب أن تحمل عليهما جميعاً، فيقال: إن الله يرى، أي: يعلم ما يفعله هذا الرجل وما يقوله، ويراه أيضاً. الآية السادسة: قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء: 218 - 220]. وقبل هذه الآية قوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء: 217]. والرؤية هنا رؤية البصر، لأن قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} ¬

_ (¬1) انظر "الدر المنثور " (6/ 626).

لا تصح أن تكون بمعنى العلم، لأن الله يعلم به حين يقوم وقبل أن يقوم، وأيضاً لقوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} وهو يؤيد أن المراد بالرؤية هنا رؤية البصر. ومعنى الآية: أن الله تعالى يراه حين يقوم للصلاة وحده وحين يتقلب في الصلاة مع الساجدين في صلاة الجماعة. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}: {إِنَّهُ}، أي: الله الذي يراك حين تقوم: {هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}. وفي الآية هنا ضمير الفصل {هُوَ}، من فوائده الحصر، فهل الحصر هنا حقيقي، بمعنى: أنه حصر لا يوجد شيء من المحصور في غير المحصور فيه، أو هو إضافي؟ الجواب: هو إضافي من وجه حقيقي من وجه، لأن المراد بـ {السَّمِيعُ} هنا: ذو السمع الكامل المدرك لكل مسموع، وهذا هو الخاص بالله عز وجل، والحصر بهذا الاعتبار حقيقي، أما مطلق السمع، فقد يكون من الإنسان، كما في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان: 2]، فجعل الله تعالى الإنسان سميعاً بصيراً. وكذلك {عَلِيمُ}، فإن الإنسان عليم، كما قال الله تعالى: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28]، لكن العلم المطلق ـ أي: الكامل ـ خاص بالله سبحانه وتعالى، فالحصر بهذا الاعتبار حقيقي. وفي هذه الآية الجمع بين السمع والرؤية.

الآية السابعة: قوله: {وقل اعملوا فسيرى الله. . . .}

الآية السابعة: قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105]. والذي قبل هذه الآية: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 103 - 104]. في هذه الآية يقول: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}. قال ابن كثير وغيره: قال مجاهد: هذا وعيد ـ يعني من الله تعالى ـ للمخالفين أوامره، بأن أعمالهم ستعرض عليه وعلى الرسول والمؤمنين، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة، وقد يظهر ذلك للناس في الدنيا. والرؤية هنا شاملة للعلمية والبصرية. ففي الآية: إثبات الرؤية بمعنييها: الرؤية العلمية، والرؤية البصرية. وخلاصة ما سبق من صفتي السمع والرؤية: أن السمع ينقسم إلى قسمين: 1 - سمع بمعنى الاستجابة. 2 - وسمع بمعنى إدراك الصوت. وأن إدراك الصوت ثلاثة أقسام.

ما نستفيد من الناحية المسلكية

وكذلك الرؤية تنقسم إلى قسمين: 1 - رؤية بمعنى العلم. 2 - ورؤية بمعنى إدراك المبصرات. وكل ذلك ثابت لله عز وجل. والرؤية التي بمعنى إدراك المبصرات ثلاثة أقسام: 1 - قسم يقصد به النصر والتأييد، كقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. 2 - وقسم يقصد به الإحاطة والعلم، مثل قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [البقرة: 271]. 3 - وقسم يقصد به التهديد، مثل قوله: {قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 94]. ما نستفيده من الناحية المسلكية في الإيمان بصفتي السمع والرؤية: - أما الرؤية، فنستفيد من الإيمان بها الخوف والرجاء: الخوف عند المعصية، لأن الله يرانا. والرجاء عند الطاعة، لأن الله يرانا. ولا شك أنه سيثيبنا على هذا، فتتقوى عزائمنا بطاعة الله، وتضعف إرادتنا لمعصيته. - وأما السمع، فالأمر فيه ظاهر، لأن الإنسان إذا آمن بسمع

آيات صفة المكر والكيد والمحال لله تعالى

الله، استلزم إيمانه كمال مراقبة الله تعالى فيما يقول خوفاً ورجاءً: خوفاً، فلا يقول ما يسمع الله تعالى منه من السوء، ورجاء، فيقول الكلام الذي يرضي الله عز وجل. صفة المكر والكيد والمحال لله تعالى وقوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} , وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} , وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} , وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} ذكر المؤلف رحمه الله ثلاث صفات متقاربه في أربع آيات: المحال, والمكر. الآية الأولى: في المحال, وهي قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [سورة الرعد: 13]. أي: شديد الأخذ بالعقوبة. وقيل: إن المحال بمعنى المكر؛ أي: شديد المكر, وكأنه على هذا التفسير مأخوذ من الحيلة وهي أن يتخيل بخصمه حتى يتوقع به. وهذا المعنى ظاهر صنيع المؤلف رحمه الله؛ لأنه ذكرها في سياق آيات المكر والكيد. والمكر؛ قال العلماء في تفسيره: إنه التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم؛ يعني: أن تفعل أسباباً خفية فتوقع بخصمك وهو لا يحص ولا يدري، ولكنها بالنسبة لك معلومة مدبرة. والمكر يكون في موضع مدحاً ويكون في ذماً: فإن كان في مقابلة من يمكر؛ فهو مدح؛ لأنه يقتضي أنك أنت أقوى

الآية الثانية: قوله: {ومكروا ومكر الله. . . .}

منه. وإن كان في غير ذلك؛ فهو ذم ويسمي خيانة. ولهذا لم يصف الله نفسه به إلا على سبيل المقابلة والتقييد؛ كما قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] , {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال: 30]، ولا يوصف الله سبحانه وتعالى به على الإطلاق؛ فلا يقال: إن الله ماكر! لا على سبيل الخبر, ولا على سبيل التسمية؛ ذلك لأن هذا المعنى يكون مدحاً في حال ويكون ذماً في حال؛ فلا يمكن أن نصف الله به على سبيل الإطلاق. فأما قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]؛ فهذا كمال؛ ولهذا لم يقل: أمكر الماكرينبل قال: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}؛ فلا يكون مكره إلا خيراً, ولهذا يصح أن نصفه بذلك؛ فنقول: هو خير الماكرين. أو نصفه بصفة المكر في سبيل المقابلة؛ أي: مقابلة من يمكر به، فنقول: إن الله تعالى ماكر بالماكرين؛ لقوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ}. الآية الثانية: في المكر, وهي قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة آل عمران: 54]. هذه نزلت في عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام, مكر به اليهود ليقتلوه, ولكن كان الله تعالى أعظم منهم مكراً, رفعه الله، وألقى شبهه على أحدهم، على الذي تولى كبره وأراد أن يقتله, فلما دخل عليه هذا الذي يريد القتل, وإذا عيسى قد رفع,

الآية الثالثة: قوله: {ومكروا مكرا ومكرنا مكرا. . . .}

فدخل الناس, فقالوا: أنت عيسى! قال: لست عيسى! فقالوا: أنت هو! لأن الله تعالى ألقى عليه شبهه، فقتل هذا الرجل الذي كان يريد أن يقتل عيسى بن مريم؛ فكان مكره عائداً عليه، {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. الآية الثالثة: في المكر أيضاً, وهي قوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} {النمل: 50}. هذا في قوم صالح, كان في المدينة التي كان يدعو الناس فيها إلى الله تسعة رهط-أي: أنفار - {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49]؛ يعني: لنقتلنه بالليل , {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل: 49]؛ يعني: أنهم قتلوه بالليل؛ فما يشاهدونه. لكن مكروا ومكر الله! قيل: إنهم لما خرجوا ليقتلوه، لجؤوا إلى غار ينتظرون الليل؛ انطبق عليهم الغار, فهلكوا، وصالح وأهله لم يمسهم سوء, فيقول الله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً}. {وَمَكَرُوا}: في الموضعين منكرة للتعظيم؛ أي: مكروا مكراً عظيماً، ومكرنا مكراً أعظم. الآية الرابعة: في الكيد, وهي قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15 - 16]. {إِنَّهُمْ}؛ أي: كفار مكة، {يَكِيدُونَ} للرسول صلى الله عليه وسلم {كَيْداً} لا نظير له في التنفير منه ومن دعوته, ولكن الله تعالى يكيد كيداً أعظم وأشد.

{وَأَكِيدُ كَيْداً}؛ يعني: كيداً أعظم من كيدهم. ومن كيدهم ومكرهم ما ذكره الله في سورة الأنفال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]: ثلاثة آراء. 1 - {لِيُثْبِتُوكَ}؛ يعني: يحبسوك. 2 - {يَقْتُلُوكَ}؛ يعني: يعدموك. 3 - {يُخْرِجُوكَ}؛ يعني: يطردوك وكان رأي القتل أفضل الآراء عندهم بمشورة من إبليس؛ لأن إبليس جاءهم بصورة شيخ نجدي, وقال لهم: انتخبوا عشرة شبان من عشر قبائل من قريش, وأعطوا كل واحد سيفاً ثم يعمدون إلى محمد صلى الله عليه وسلم, فيقتلونه قتلة رجل واحد, فيضيع دمه في القبائل؛ فلا تستطيع بنو هاشم أن تقتل واحداً من هؤلاء الشبان وحينئذ يلجؤون إلى الدية, فتسلمون منه. فقالوا: هذا الرأي!! وأجمعوا على ذلك. ولكنهم مكروا مكراً والله تعالى يمكر خيراً منه؛ قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]؛ فما حصل لهم الذي يريدون! بل إن الرسول عليه الصلاة

تعريف المكر والكيد والمحال

والسلام خرج من بيته، يذر التراب على رؤوس العشرة هؤلاء، ويقرأ: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [يس: 9]، فكانوا ينتظرون الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج، فخرج، من بينهم، ولم يشعروا به. إذاً، صار مكر الله عز وجل أعظم من كرهم، لأنه أنجى رسوله منهم وهاجر. قال هنا: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15 - 16]، والتنكير فيها للتعظيم، وكان كيد الله عز وجل أعظم من كيدهم. وهكذا يكيد الله عز وجل لكل من انتصر لدينه، فإنه يكيد له ويؤيده، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف: 76]، يعني: عملنا عملاً حصل به مقصوده دون أن يشر به أحد. وهذا من فضل الله عز وجل على المرء، أن يقيه شر خصمه على وجه الكيد والمكر على هذا الخصم الذي أراد الإيقاع به. فإن قلت: ما هو تعريف المكر والكيد والمحال؟. فالجواب: تعريفها عند أهل العلم: التوصل بالأسباب الخفية إلى الإيقاع بالخصم؛ يعني: أن توقع بخصمك بأسباب خفية لا يدري عنها. وهي في محلها صفة كمال يحمد عليها وفي غير محلها

صفة نقص يذم عليها. ويذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما بارز عمرو بن ود-والفائدة من المبارزة أنه إذا غلب أحدهما أنكسرت قلوب خصومه-فلما خرج عمرو؛ صرخ علي: ما خرجت لأبارز رجلين. فالتفت عمرو, فلما التفت؛ ضربه علي رضي الله عنه على رقبته حتى أطاح برأسه (¬1)! هذا خداع, لكنه جائز، ويحمد عليه؛ لأنه في موضعه؛ فإن هذا الرجل ما خرج ليكرم علي بن أبي طالب ويهنئه، ولكنه خرج ليقتله؛ فكاد له علي بذلك. والمكر والكيد والمحال من صفات الله الفعلية التي لا يوصف بها على سبيل الإطلاق؛ لأنها تكون مدحاً في حال, وذماً في حال؛ فيوصف بها حين تكون مدحاً, ولا يوصف بها إذا لم تكن مدحاً؛ فيقال: الله خير الماكرين، خير الكائدين، أو يقال: الله ماكر بالماكرين، خادع لمن يخادعه. والاستهزاء من هذا الباب؛ فلا يصح أن نخبر عن الله بأنه مستهزئ على الإطلاق؛ لأن الاستهزاء نوع من اللعب, وهو منفي عن الله؛ قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38]، لكن في مقابلة من يستهزئ به يكون ¬

_ (¬1) انظر: "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (1/ 577 - الطبعة الجديدة/ مكتبة المعرف) للشيخ الألباني.

مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم

كمالاً؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]؛ قال الله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15]. فأهل السنة والجماعة يثبتون هذه المعاني لله عز وجل على سبيل الحقيقة. لكن أهل التحريف يقولون: لا يمكن أن يوصف بها أبداً, لكن ذكر مكر الله ومكرهم من باب المشاكلة اللفظية، والمعنى مختلف؛ مثل: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]. ونحن نقول لهم: هذا خلاف ظاهر النص, وخلاف إجماع السلف. وقد قلنا سابقاً: إذا قال قائل: أئت لنا بقول لأبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي يقولون فيه: إن المراد بالمكر والاستهزاء والخداع الحقيقة! فنقول لهم: نعم؛ هم قرؤوا القرآن وآمنوا به, وكونهم لم ينقلوا هذا المعنى المتبادر إلى معنى آخر؛ يدل على أنهم أقروا به، وأن هذا إجماع، ولهذا يكفينا أن نقول في الإجماع: لم ينقل عن واحد منهم خلاف ظاهر الكلام، وأنه فسر الرضى بالثواب, أو الكيد بالعقوبة .... ونحو ذلك. وهذه الشبهة ربما يوردها علينا أحد من الناس؛ يقولون: أنتم تقولون: هذا إجماع السلف؛ أين إجماعهم؟

ما نستفيد من الناحية المسلكية

نقول: عدم نقل ما يخالف ظاهرها عنهم دليل الإجماع. ما نستفيده من الناحية المسلكية في إثبات صفة المكر والكيد والمحال: المكر: يستفيد به الإنسان بالنسبة للأمر المسلكي مراقبة الله سبحانه وتعالى، وعدم التحيل على محارمه, وما أكثر المتحيلين على المحارم! فهؤلاء المتحيلون على المحارم، إذا علموا أن الله تعالى خير منهم مكراً، وأسرع منهم مكراً؛ فإن ذلك يستلزم أن ينتهوا عن المكر. ربما يفعل الإنسان شيئاً فيما يبدوا للناس أنه جائز لا بأس به، لكنه عند الله ليس بجائز, فيخاف, ويحذر. وهذا له أمثلة كثيرة جداً في البيوع والأنكحة وغيرهما: مثال ذلك في البيوع: رجل جاء إلى آخر؛ قال: أقرضني عشرة آلاف درهم. قال: لا أقرضك إلا بأثني عشر ألف وهذا رباً وحرام سيتجنبه لأنه يعرف أنه رباً صريح لكن باع عليه سلعة بأثنى عشر ألفاً مؤجلة إلى سنة بيعاً تاماً وكتبت الوثيقة بينهما، ثم إن البائع أتى إلى المشترى, وقال: بعنية بعشرة ألاف نقداً. فقال: بعتك إياه. وكتبوا بينهما وثيقة بالبيع! فظاهر هذا البيع الصحة، ولكن نقول: هذه حيلة؛ فإن هذا لما عرف أنه لا يجوز أن يعطيه عشر ألفاً؛ قال: أبيع السلعة عليه باثني عشر، وأشتريها نقداً بعشرة.

آيات صفة العفو والمغفرة والرحمة والعزة والقدرة

ربما يتسمر الإنسان في هذه المعاملة لأنها أمام الناس معاملة ليس فيها شيئاً لأنها أمام الناس معاملة ليس فيها شيء لكنها عند الله تحيل على محارمه, وقد يملي الله تعالى لهذا الظالم, حتى إذا آخذه لم يفلته؛ يعني: يتركه ينمو ماله ويزداد وينمو بهذا الرباء لكن إذا أخذه لم يفلته؛ وتكون هذه الأشياء خسارة عليه فيما بعد, وماله إلى الإفلاس, ومن الكلمات المشهورة على ألسنة الناس: من عاش في الحيلة مات فقيراً. مثال في الأنكحة: امرأة طلقها زوجها ثلاثاً؛ فلا تحل له إلا بعد زوج، فجاء صديق له، فتزوجها بشرط أنه متى حللها -يعني: متى جامعها -طلقها, ولما طلقها؛ أنت بالعدة, وتزوجها الأول؛ فإنها ظاهراً تحل للزوج الأول، لكنها باطناً لا تحل؛ لأن هذه حيلة. فمتى علمنا أن الله أسرع مكراً, وأن الله خير الماكرين؛ أو جب لنا ذلك أن نبتعد غاية البعد عن التحيل على محارم الله. صفة العفو والمغفرة والرحمة والعزة: الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله أربع آيات في صفة العفو والقدرة والمغفرة والرحمة والعزة: الآية الأولى: في العفو والمقدرة: قوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ

أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء: 149]. يعني: إن تفعلوا خيراً, فتبدوه؛ أي: تظهروه للناس, {أَوْ تُخْفُوهُ}؛ يعني: عن الناس فإن الله تعالى يعلمه، ولا يخفى عليه شيء. وفي الآية الثانية: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} [الأحزاب: 54] , وهذا أعم يشمل الخير والشر وما ليس بخير ولا شر. ولكل آية مكانها ومناسبتها لمن تأمل. وقوله: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ}: العفو: هو التجاوز عن العقوبة؛ فإذا أساء إليكم إنسان فعفوت عنه؛ فإن الله سبحانه وتعالى يعلم ذلك. ولكن العفو يشترك للثناء على فاعله أن يكون مقروناً بالإصلاح؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] , وذلك أن العفو قد يكون سبباً للزيادة في الطغيان والعدوان, وقد يكون سبباً للانتهاء عن ذلك، وقد لا يزيد المعتدي ولا ينقصه. 1 - فإذا كان مسباً للزيادة في الطغيان؛ كان العفو هنا مذموماً, وربما يكون ممنوعاً؛ مثل أن نعفوا عن هذا المجرم, ونعلم - أو يغلب على الظن أنه يذهب فيجرم إجراماً أكبر؛ فهنا لا يمدح العافي؛ عنه, بل يذم.

2 - وقد يكون العفو سبباً للانتهاء عن العدوان؛ بحيث يخجل ويقول: هذا الذي عفا عني لا يمكن أن أعتدي عليه مرة أخرى، ولا على أحد غيره. فيخجل أن يكون هو من المعتدين, وهذا الرجل من العافين؛ فالعفو محمود ومطلوب وقد يكون واجباً. 3 - وقد يكون العفو لا يؤثر ازدياداً ولا نقصاً؛ فهو أفضل لقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]. وهنا يقول تعالى: {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}؛ يعني: إذا عفوتم عن السوء؛ عفا الله عنكم, ويؤخذ هذا الحكم من الجواب: {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}؛ يعني: فيعفو عنكم مع قدرته على الانتقام منكم, وجمع الله تعالى هنا بين العفو والقدير؛ لأن كمال العفو أن يكون عن قدرة. أما العفو الذي يكون عن عجز؛ فهذا لا يمدح فاعله؛ لأنه عاجز عن الأخذ بالثأر. وأما العفو الذي لا يكون مع قدرة؛ فقد يمدح لكنه ليس عفواً كاملاً، بل العفو الكامل ما كان عن قدرة. ولهذا جمع الله تعالي بين هذين الاسمين (العفو) و (التقدير): فالعفو: هو المتجاور عن سيئات عباده، والغالب أن العفو يكون عن ترك الواجبات، والمغفرة عن فعل المحرمات. والقدير: ذو القدرة يتمكن بها الفاعل من الفعل بدون عجز.

الآية الثانية: قوله: {وليعفوا وليصفحوا. . .}

وهذان الاسمان يتضمنان صفتين، وهما العفو، والقدرة. الآية الثانية: في المغفرة والرحمة: قوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]. هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وذلك أن مسطح بن أثاثه رضي الله عنه كان ابن خالة أبي بكر، وكان ممن تكلموا في الإفك. وقصة الإفك (¬1): أن قوماً من المنافقين تكلموا في عرض عائشة رضي الله عنها، وليس والله قصدهم عائشة، لكن قصدهم رسول الله صلي الله عليه وسلم: أن يدنسوا فراشه، وأن يلحقوه العار والعياذ بالله! ولكن الله ولله الحمد فضحهم، وقال: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 11]. تكلموا فيها، وكان أكثر من تكلم فيها المنافقون، وتكلم فيها نفر من الصحابة رضي الله عنهم معروفون بالصلاح، ومنهم مسطح بن أثاثة، فلما تكلم فيها، وكان هذا من أكبر القطيعة قطعية الرحم أن يتكلم إنسان في قريبه بما يخدش كرامته، لا سيما وأن ذلك في أم المؤمنين زوجة رسول الله صلي الله عليه وسلم، أقسم أبو بكر ألا ينفق عليه، وكان أبو بكر هو الذي ينفق عليه، فقال الله تعالي: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ ¬

_ (¬1) قصة الإفك رواها البخاري (4750 , 4757) , كتاب التفسير (سور النور)، ومسلم (2770) عن عائشة رضي الله عنها, في كتاب التوبة / باب قصة الإفك.

وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} - وكل هذه الأوصاف ثابتة في حق مسطح؛ فهو قريب ومسكين ومهاجر- {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 22]، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بلي والله، نحب أن يغفر الله لنا! فرد عليه النفقة. هذا هو ما نزلت فيه الآية: أما تفسيرها، فقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}: اللام لامر الأمر، وسكنت لأنها أتت بعد الواو، ولام الأمر تسكن إذا وقعت بعد الواو كما هنا أو بعد الفاء أو بعد (ثم): قال الله تعالي: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] وقال تعالي: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29]، هذا إذا كانت لام أمر، أما إذا كانت لام تعليل، فإنها تبقي مكسورة، لا تسكن, وإن وليت هذه الحروف. قوله: {وَلْيَعْفُوا}، يعني: يتجاوزوا عن الأخذ بالذنب. {لْيَقْضُوا}، يعني: يعرضوا عن هذا الأمر، ولا يتكلموا فيه، مأخوذ من صفحة العنق، وهي جانبه، لأن الإنسان إذا أعرض، فالذي يبدو منه صفحة العنق. والفرق بين العفو والصفح: أن الإنسان قد يعفو ولا يصفح، بل يذكر هذا العدوان وهذه الإساءة، لكنه لا يأخذ بالندب، فالصفح أبلغ من مجرد العفو. وقوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}: {أَلا}: للعرض،

الآية الثالثة: قوله: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}

والجواب: بلي نحب ذلك، فإذا كنا نحب أن يغفر الله لنا، فلتتعرض لأسباب المغفرة. ثم قال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}: {غَفُورٌ}: هذه إما أن تكون اسم فاعل للمبالغة، وإما أن تكون صفة مشبهة، فإذا كانت صفة مشبهة، فهي دالة على الوصف اللازم الثابت، هذا هو مقتضى الصفة المشبهة، وإن كانت اسم فاعل محولاً إلي صيغة التكثير، كانت دالة على وقوع المغفرة من الله بكثرة. وبعد هذا نقول: إنها جامعة بين الأمرين، فهي صفة مشبهة، لأن المغفرة صفة دائمة لله عز وجل، وهي أيضاً فعل يقع بكثرة، فما أكثر مغفرة الله عز وجل وما أعظمها. وقوله: {رَّحِيمٌ}: هذه أيضاً اسم فاعل محول إلي صيغة المبالغة، وأصل أسم الفاعل من رحم: راحم، لكن حول إلي رحيم لكثرة رحمة الله عز وجل وكثرة من يرحمهم الله عز وجل. والله سبحانه وتعالي يقرن بين هذين الاسمين، لأنهما دالان على معني متشابه، ففي المغفرة زوال المكروب واثار الذنب، وفي الرحمة حصول المطلوب، كما قال الله تعالي للجنة: " أنت رحمتي أرحم بك من أشاء" (¬1). الآية الثالثة: في العزة، وهي قوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4850) كتاب التفسير / باب قوله تعالي: {وتقول هل من مزيد}، ومسلم (2846) كتاب الجنة/ باب النار يدخلها الجبارون من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

أقسام العزة

هذه الآية نزلت في مقابلة قول المنافقين: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8]، يدون أنهم الأعز، وأن رسول الله والمؤمنين الأذلون، فبين الله تعالي أنه عزة لهم، فضلاً عن أن يكونوا هم الأعزون، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. ومقتضى قول المنافقين أن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلي آله وسلم والمؤمنين هم الذين يخرجون المنافقين، لأنهم أهل العزة، والمنافقين أهل الذلة، ولهذا كانوا يحسبون كل صيحة عليهم، وذلك لذلهم وهلعهم، وكانوا إذا لقوا الذين آمنوا، قالوا: آمنا، خوفاً وجبناً، وإذا خلوا إلي شياطينهم, قالوا: إنا معكم، إنما نحن مستهزءون! وهذا غاية الذل. أما المؤمنون، فكانوا أعزاء بدينهم، قال الله عنهم في مجادلة أهل الكتاب: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]، فيعلنونها صريحة، لا يخافون في الله لومه لائم. وفي هذه الآية الكريمة إثبات العزة لله سبحانه وتعالي. وذكر أهل العلم أن العزة تنقسم إلي ثلاثة أقسام: عزة القدر، وعزة القهر، وعزة الامتناع: 1 - فعزة القدر: معناه أن الله تعالي ذو قدر عزيز، يعني: لا نظير له. 2 - وعزة القهر: هي عزة الغلبة، يعني: أنه غالب كل شيء،

قاهر كل شيء، ومنه قوله تعالي: {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23]، يعني: غلبني في الخطاب. فالله سبحانه عزيز له بل هو غالب كل شيء. 3 - وعزة الامتناع: وهي أن الله تعالي يمتنع أن يناله سوء أو نقص، فهو مأخوذ من القوة والصلابة، ومنه قولهم: أرض عزاز، يعني قوية شديدة. هذه معاني العزة التي أثبتها الله تعالي لنفسه، وهي تدل على كمال قهره وسلطانه، وعلي كمال صفاته، وعلي تمام تنزهه عن النقص. تدل على كمال قهره وسلطانه في عزة القهر. وعلى تمام صفاته وكمالها وأنه لا مثيل لها في عزة القدر. وعلى تمام تنزهه عن العيب والنقص في عزة الامتناع. قوله: {وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم، له عزة، وللمؤمنين أيضاً عزة وغلبة. ولكن يجب أن نعلم أن العزة التي أثبتها الله لرسوله وللمؤمنين ليست كعزة الله، فإن عزة الرسول عليه الصلاة والمؤمنين قد يشوبها ذلة، لقوله تعالي: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران: 123]، وقد يغلبون أحياناً لحكمة يريدها الله عز وجل، ففي أحد لم يحصل لهم تمام العزة، لأنهم غلبوا في النهاية لحكم عظيمة، وكذلك في حنين ولوا مدبرين، ولم يبق مع

الآية الرابعة: قوله: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين}

النبي صلى الله عليه وسلم، من أثني عشر ألفاً إلا نحو مئة رجل. هذا أيضاً فقد للعزة، لكنه مؤقت. أما عزة الله عز وجل، فلا يمكن أبداً أن تفقد. وبهذا عرفنا أن العزة التي أثبتها الله لرسوله وللمؤمنين ليست كالعزة التي أثبتها لنفسه. وهذا أيضاً يمكن أن يؤخذ من القاعدة العامة، وهي أنه: لا يلزم من اتفاق الاسمين أن يتماثل المسميان، ولا من اتفاق الصفتين أن يتماثل الموصوفان. الآية الرابعة: في العزة أيضاً، وهي قوله عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82]. الباء هنا للقسم، لكنه اختار القسم بالعزة دون غيرها من الصفات لأن المقام مقام مغالبة، فكأنه قال: بعزتك التي تغلب بها من سواك لأغوين هؤلاء وأسطير عليهم يعني: بني آدم حتىيخرجوا من الرشد إلي الغي. ويستثني من هذا عباد الله المخلصون، فإن إبليس لا يستطيع أن يغويهم، كما قال تعالي: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]. ففي هاتين الآيتين إثبات العزة لله.

ما نستفيده من الناحية المسلكية

وفي الآية الثالثة إثبات أن الشيطان يقر بصفات الله! فكيف نجد من بني آدم من ينكر صفات الله أو بعضها، أيكون الشيطان أعلم بالله وأعقل مسلكاً من هؤلاء النفاة؟! ما نستفيده من الناحية المسلكية: في العفو والصفح: هو أننا إذا علمنا أن الله عفو، وأنه قدير، أوجب لنا ذلك أن نسأله العفو دائماً، وأن نرجو منه العفو عما حصل منا من التقصير في الواجب. أما العزة أيضاً: نقول: إذا علمنا أن الله عزيز، فإننا لا يمكن أن نفعل فعلاً نحارب الله فيه. مثلاً الإنسان المرابي معاملته مع الله المحاربة: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279]. إذا علمنا أن الله ذو عزة لا يغلب، فإنه لا يمكننا أن نقدم على محاربة الله عز وجل. قطع الطريق محاربة: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33]، فإذا علمنا أن قطع الطريق محاربة لله، وأن العزة لله، امتنعنا عن العمل، الله هو الغالب. ويمكن أن نقول فيها فائدة من الناحية المسلكية أيضاً، وهي أن الإنسان المؤمن ينبغي له أن يكون عزيزاً في دينه، بحيث لا يذل

إثبات الاسم لله قوله: {تبارك اسم ربك ذي الجلال}

أمام أحد من الناس، كائناً من كان، على المؤمنين، فيكون عزيزاً على الكافرين، ذليلاً على المؤمنين. إثبات الاسم لله تعالي الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله آية في إثبات الاسم لله تعالي، وآيات أخري كثيرة في تنزيه الله تعالي ونفي المثيل عنه. آية إثبات الاسم: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} [الرحمن: 78]. {تَبَارَكَ}: قال العلماء: معناها: تعالي وتعاظم إن وصف بها الله، كقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنين: 14] , وإن وصف بها اسم الله، معناها: أن البركة تكون باسم الله، أي أن اسم الله إذا صاحب شيئاً، صارت فيه البركة. ولهذا جاء في الحديث: " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ " بسم الله " فهو أبتر " (¬1)، أي: ناقص البركة. ¬

_ (¬1) أخرجه الخطيب البغدادي في " الجامع " (2/ 69)، والسيوطي في " الجامع الصغير " (2/ 92) وسئل العلامة الجليل/ محمد العثيمين حفظه الله تعالي عن هذا الحديث فقال: " هذا الحديث اختلف العلماء في صحته فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي، ومنهم من ضعفه، ولكن تلقي العلماء له بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن ذلك له أصلاً .. " انتهي من كتاب (العلم) ص 127 , روى هذا الحديث بألفاظ متعددة ومجموع رواياته يقتضي بأنه حسن أو صحيح لغيره, ود صححه غير واحد من الأئمة, وأعله آخرون. وأنظر: "مسند الإمام أحمد" تحقيق أحمد شاكر (8697) , و"صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان" تحقيق شعيب الأرناؤوط (1/ 173) , "وإرواء الغليل" (1 و 2).

بل إن التسمية تفيد حل الشيء الذي يحرم بدونها، فإنه إذا سمي الله على الذبيحة صارت حلالاً، وإذا لم يسم صارت حراماً وميتة، وهناك فرق بين الحلال الطيب الطاهر، والميتة النجسة الخبيثة. وإذا سمي الإنسان على طهارة الحدث، صحت، وإذا لم يسم، لم تصح على أحد القولين. وإذا سمي الإنسان على طعامه، لم يأكل معه الشيطان، وإن لم يسم، أكل معه. وإذا سمي الإنسان على جماعه، وقال: " اللهم! جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا " (¬1)، ثم قدر بينهما ولد، لم يضره الشيطان أبداً، وإن لم يفعل، فالولد عرضه لضرر الشيطان. وعليه، فنقول: إن {فَتَبَارَكَ} هنا ليست بمعني: تعالي وتعاظم، بل يتعين أن يكون معناها: حلت البركة باسم الله، أي أن أسمه سبب للبركة إذا صحب شيئاً. وقوله: {ذِي الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ}: {ذِي}: بمعني صاحب، وهي صفة لـ (رب)، لا لـ (اسم)، لو كانت صفة لـ (اسم)، لكانت، ذو. و {الْجَلالِ}، بمعني: العظمة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3271) كتاب بدء الخلق/ باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (1434) كتاب النكاح/ باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع, من حديث ابن عباس رضي الله عنه.

آيات الصفات المنفية في تنزيه الله ونفي المثل عنه

و {الأِكْرَامِ} , بمعني: التكريم، وهو صالح لأن يكون الإكرام من الله لمن أطاعه، وممن أطاعه له. فـ {الْجَلالِ}: عظمته في نفسه، {وَالأِكْرَامِ}: عظمته في المؤمنين، فيكرمونه ويكرمهم. آيات الصفات المنفية في تنزيه الله ونفي المثل عنه الشرح: الأية الأولى: قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65]. شرع المؤلف رحمه الله بصفات السلبية، أي صفات النفي. وقد مر علينا فيما سبق أن صفات الله عز وجل ثبوتية وسلبية أي: منفية، لأن الكمال لا يتحقق إلا بالإثبات والنفي، إثبات الكمالات، ونفي النقائض. قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}: الفاء مفرعة على ما سبق، وهو قوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [مريم: 65]، فذكر سبحانه وتعالي الربوبية {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} , وفرع على ذلك وجوب عبادته، لأن كل ما من أقر بالربوبية، لزمه الإقرار بالعبودية والألوهية، وإلا، صار متناقضاً. فقوله: {فَاعْبُدْهُ}، أي: تذلل له من محبة وتعظيماً، والعبادة، يراد بها المتعبد به، ويراد بها التعبد الذي هو فعل العبد،

كما سبق في المقدمة. وقوله: {وَاصْطَبِرْ}: اصطبر، أصلها في اللغة: اصتبر، فأبدلت التاء طاء لعلة تصريفية. والصبر: حبس النفس. وكلمة (اصطبر) أبلغ من (اصبر)، لأنها تدل على معاناة، فالمعني اصبر، وإن شق عليك ذلك، واثبت القرين لقرينه في القتال. وقوله: {لِعِبَادَتِهِ}، قيل: إن اللام بمعني (علي) , أي: اصطبر عليها، كما قال تعالي: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]. وقيل: بل اللام على أصلها، أي: اصطبر لها, أي كن مقابلاً لها بالصبر، كما يقابل القرين قرينه في ميدان القتال. وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}: الاستفهام للنفي، وإذا كان الاستفهام بمعني النفي، كان مشرباً معني التحدي، يعني: إن كنت صادقاً، فأخبرنا: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}؟ و (السمي): الشبيه والنظير. يعني: هل تعلم له مسامياً أو نظيراً يستحق مثل اسمه؟ والجواب: لا. فإذا كان كذلك، فالواجب أن تعبده وحده. وفيها من الصفات: قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} , وهي من الصفات السلبية. فما الذي تتضمنه من صفات الكمال (لأننا ذكرنا فيما سبق أن الصفات السلبية لابد أن تتضمن ثبوتاً) فما هو الثبوت الذي تضمنه النفي هنا؟

الآية الثانية: قوله: {ولم يكن له كفوا أحد}

الجواب: الكمال المطلق، فيكون المعني: هل تعلم له سمياً لثبوت كماله المطلق الذي لا يساميه أحد فيه؟ الآية الثانية: قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الأخلاص: 4]. تقدم الكلام عليها، أي: ليس يكافئه أحد، وهو نكره في سياق النفي فتعم. و {كُفُواً}: فيها ثلاث قراءات: كفواً، وكفئاً، وكفواً، فهي بالهمزه ساكنة الفاء ومضمومتها، وبالواو مضمومة الفاء لا غير، وبهذا نعفرف خطأ الذين يقرؤون بتسكين الفاء مع الواو (كفوا). هذه الآية أيضاً فيها نفي الكفء لله عز وجل، وذلك لكمال صفاته، فلا أحد يكافئه، لا في علمه, ولا سمعه، ولا بصره, ولا قدرته، ولا عزته، ولا حكمته، ولا غير ذلك من صفاته. الآية الثالثة: قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]. هذه مفرع على قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} , وكل هذا من توحيد الربوبية، ثم قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 21 - 22] يعني: في الألوهية، لأن أولئك القوم المخاطبين لم يجعلوا لله

الآية الرابعة: قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا. . . .}

أنداداً في الربوبية، إذا، فلا تجعلوا لله أنداداً في الألوهية كما أنكم تقرون أنه ليس له أنداداً في الربوبية. وقوله: {أَنْدَاداً}: جمع ند، وند الشيء ما كان مناداً (أي مكافئاً) له ومتشابهاً، وما زال الناس يقولون: هذا ند لهذا، أي: مقابل له ومكافئله. وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}: الجملة هنا حالية، وصاحب الحال هي الواو قوله: {فَلا تَجْعَلُوا}، والمفعول محذوف، يعني: وأنتم تعلمون أنه لا ند له. الجملة الحالية هنا صفة كاشفة، والصفة الكاشفة كالتعليل للحكم, فكأنه قال: لا تجعلوا لله أنداداً، لأنكم تعملون أنه لابد له، فإذا كنتم تعلمون ذلك، فكيف تلجعلونه فتخالفون علملكم؟! وهذه أيضاً سلبية، وذلك من قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} , لأنه لا ند له، لكمال صفاته. الآية الرابعة: قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165]. {وَمِنَ}: تبعيضية، والميزان لـ {مِنْ} التبعيضية أن يحل محلها: بعض، يعني: وبعض الناس. {مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً}: يتخذهم أنداداً، يعني: في المحبة، كما فسره بقوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، ويجوز أن نقول: إن المراد بالأنداد ما هو أعم من المحبة، يعني: أنداداً

ما نستفيده من الناحية المسلكية من الآيات

يعبدونهم كما يعبدون الله، وينذرون لهم كما ينذرون لله، لأنهم يحبونهم كحب الله، يحبون هذه الأنداد كحب الله عز وجل. وهذا إشراك في المحبة، بحيث تجعل غير الله مثل الله في محبته. وينطبق ذلك على من أحب رسول الله كحب الله، لأنه يجب أن تحب رسول الله صلي الله عليه وسلم محبة ليست كمحبة الله، لأنك إنما تحب الرسول صلي الله عليه وسلم تبعاً لمحبة الله عز وجل، لا علي أنه مناد لله، فكيف بمن يحبون الرسول صلي الله عليه وسلم أكثر مما يحبون الله؟! وهنا يجب أن نعرف الفرق بين المحبة مع الله والمحبة لله: المحبة مع الله: أن تجعل غير الله مثله في محبته أو أكثر. وهذا شرك. والمحبة في الله أو لله: هي أن تحب الشيء تبعاً لمحبة الله عز وجل. والذي نستفيده من الناحية المسلكية في هذا الآيات: أولا: في قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} [الرحمن: 78]: إذا علمنا أن الله تعالي موصوف بالجلال، فإن ذلك يستوجب أن نعظمه، وأن نجله. وإذا علمنا أنه موصوف بالإكرام فإن ذلك يستوجب أن نرجو كرمه وفضله. وبذلك نعظمه بما يستحقه من التعظيم والتكريم. ثانياً: قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ}، فالفوائد

الآية الخامسة: قوله: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا}

المسلكية في ذلك هو أن يعبد العبد ربه، ويصطبر للعبادة، لا يمل، ولا يتعب، ولا يضجر، بل يصبر عليها صبر القرين لقرينه في المبارزة في الجهاد. ثالثاً: قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] , {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22]، ففيها تنزيه لله عز وجل، وأن الإنسان يشعر في قلبه بأن الله تعالي منزه عن كل نقص، وأنه لا مثيل له، ولا ندله، وبهذا يعظمه حق تعظيمه بقدر استطاعته. رابعاً: قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 165]، فمن فوائدها من الناحية المسلكية: أنه لا يجوز للإنسان أن يتخذ أحداً من الناس محبوباً كمحبة الله، وهذه تسمي المحبة مع الله. الآية الخامسة: قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الأسراء: 111]. {وَقُلِ}: الخطاب في مثل هذا: إما خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، أو عام لكل من يصح توجيه الخطاب إليه. فإن كان خاصاً بالرسول صلي الله عليه وسلم، فهو خاص به بالقصد الأول، وأمته تبع له. وإن كان عاماً، فهو يشمل الرسول صلي الله عليه وسلم وغيره بالقصد الأول. {الْحَمْدُ لِلَّهِ}: سبق تفسيه هذه الجملة، وأن الحمد هو

وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم. وقوله: {لِلَّهِ}: اللام هنا للاستحقاق والاختصاص: للاستحقاق، لأن الله تعالي يحمد وهو أهل للحمد. والاختصاص، لأن الحمد الذي يحمد الله به ليس كالحمد الذي يحمد به غيره، بل هو أكمل وأعظم وأعم وأشمل. وقوله: {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً}: هذا من الصفات السلبية: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} لكمال صفاته وكمال غناه عن غيره، ولأنه لا مثيل له، فلو اتخذ ولداً، لكان الولد مثله، لو كان له ولد، لكان محتاجاً إلي الولد يساعده ويعينه، لو كان له ولد، لكان ناقصاً، لأنه إذا شابهه أحد من خلقه، فهو نقص. اليهود قالوا: لله ولد، وهو عزير! والنصارى قالوا: لله ولد، وهو المسيح! والمشركون قالوا: لله ولد، وهم الملائكة! وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}: هذا معطوف على قوله: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً}، يعني: والذي لم يكن له شريك في الملك، لا في الخلق، ولا في الملك، ولا في التدبير. كل ما سوى الله، فهو مخلوق لله، مملوك له، يدبره كما

يشاء، ولم يشاركه أحد في ذلك، كما قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 22] على سبيل التعين، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22] على سبيل الشيوع، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]، لم يعاونه أحد في هذه السموات والأرض، {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23]، وبهذا تقطعت جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون في آلهتهم. فالآلهة هذه لا تملك من السماوات والأرض شيئاً معيناً، وليست شريكة لله، ولا معينة، ولا شفاعة، إلا بإذنه، يقول: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111]. وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ}: لم يكن له ولي، لكن قيد بقوله: {مِنَ الذُّلِّ}. و {مِّنَ} هنا للتعليل، لأن الله تعالى له أولياء: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63]، وقال تعالى في الحديث القدسي: "من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب .. " (¬1)، ولكن الولي المنفي هو الولي من الذل، لأن الله تعالى له العزة جميعاً، فلا يلحقه الذل بوجه من الوجوه، لكمال عزته. وقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً}، يعني: كبر الله عز وجل تكبيراً، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6502) كتاب الرفاق/ باب التواضع, من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ما نستفيده من الناحية المسلكية لهذه الآية

بلسانك وجنانك: اعتقد في قلبك أن الله أكبر من كل شيء، وأن له الكبرياء في السماوات والأرض، وكذلك بلسانك تكبره، تقولك: الله أكبر! وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم يكبرون كلما علوا نشزاً (¬1)، أي: مرتفعاً، وهذا في السفر، لأن الإنسان إذا علا في مكانه، قد يشعر في قلبه أنه مستعل على غيره، فيقول: الله أكبر. من أجل أن يخفف تلك العلياء التي شعر بها حين علا وارتفع. وكانوا إذا هبطوا، قالوا: سبحان الله. لأن النزول سفول، فيقول: سبحان الله، أي: أنزهه عن السفول الذي أنا الآن فيه. وقوله: {تَكْبِيراً}: هذا مصدر مؤكد، يراد به التعظيم، أي: كبره تكبيراً عظيماً. والذي نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآية: أن الإنسان يشعر بكمال غنى الله عز جل عن كل أحد، وانفراده بالملك، وتمام عزته وسلطانه، وحينئذ يعظم الله سبحانه وتعالى بما يستحق أن يعظم به بقدر استطاعته. ونستفيد حمد الله تعالى على تنزهه عن العيوب، كما يحمد على صفات الكمال. الآية السادسة: قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2993) كتاب الجهاد/ باب التسبيح إذا هبط وادياً عن جابر رضي الله عنهما قال: "كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا" وسيأتي في (2/ 54).

الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1]. {يُسَبِّحُ}، بمعنى: ينزه عن كل صفة نقص وعيب، و (سبح) تتعدى بنفسها وتتعدى باللام. - أما تعهديها بنفسها، فمثل قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9]. - وأما تعديها باللام، فهي كثيرة، فكل السور المبدوءة بهذا متعدية باللام. قال العلماء: وإذا أريد مجرد الفعل، تعدت بنفسها: {وَتُسَبِّحُوهُ}، أي: تقولوا: سبحان الله! وإذا أريد بيان القصد والإخلاص، تعدت باللام، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ}، أي: سبحوا إخلاصاً لله واستحقاقاً. فاللام هنا تبين كمال الإرادة من الفاعل، وكمال الاستحقاق من المسبح، وهو الله. وقوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}: عام يشمل كل شيء. لكن التسبيح نوعان: تسبيح بلسان المقال، وتسبيح بلسان الحال. - أما التسبيح بلسان الحال، فهو عام: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44].

الآية السابعة والثامنة: قوله: {تبارك الذي نزل الفرقان}

- وأما التسبيح بلسان المقال، فهو عام كذلك، لكن يخرج منه الكافر، فإن الكافر لم يسبح الله بلسانه، ولهذا يقول تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23]، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 159] فهم لم يسبحوا الله تعالى، لأنهم أشركوا به ووصفوه بما لا يليق به. فالتسبيح بلسان الحال يعني: أن حال كل شيء في السماوات والأرض تدل على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن العبث وعن النقص، حتى الكافر إذا تأملت حاله، وجتها تدل على تنزه الله تعالى عن النقص والعيب. وأما التسبيح بلسان المقال، فيعني: أن يقول: سبحان الله. وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: هذه الصفات الأخيرة صفات ثبوتية، وسبق ذكر معناها، لكن {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} صفة سلبية، لأن معناها، تنزيهه عما لا يليق به. الآية السابعة والثامنة: وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 1 - 2]. {تَبَارَكَ}، بمعنى: تعالى وتعاظم. و {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}: هو الله عز وجل. وقوله: {الْفُرْقَانَ}، يعني به: القرآن، لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين المسلم والكافر، وبين البر والفاجر، وبين الضار

والنافع، وغير ذلك مما فيه الفرقان، فكله فرقان. {عَلَى عَبْدِهِ}: محمد عليه الصلاة والسلام، فوصفه بالعبودية في مقام التحدث عن تنزل القرآن عليه، وهذا المقام من أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم. وله وصفه الله تعالى بالعبودية في مقام تنزل القرآن عليه، كما هنا، وكما في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، ووصفه بالعبودية في مقام الدفاع عنه والتحدي: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، ووصفه بالعبودية في مقام تكريمة بالمعراج، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأسراء: 1] , وقال في سورة النجم: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، مما يدل على أن وصف الإنسان بالعبودية لله يعد كمالاً، لأن العبودية لله هي حقيقة الحرية، فمن لم يتعبد له، كان عابداً لغيره. قال ابن القيم رحمه الله (¬1). هربوا من الرق الذي خلقوا له وبلوا برق النفس والشيطان و" الرق الذي خلقوا له ": عبادة الله عز وجل. و" بلوا برق النفس والشيطان ": حيث صاروا أرقاء لنفوسهم، وأرقاء للشيطان، فما من إنسان يفر من عبودية الله، إلا وقع في عبودية هواه وشيطانه, قال الله تعالي: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ¬

_ (¬1) "الكافية الشافية" لابن القيم بشرح ابن عيسى (2/ 466).

ما نستفيده من هذه الآيات من الناحية المسلكية

وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]. قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}: اللام هنا للتعليل، والضمير في {لِيَكُونَ} عائد على النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه أقرب مذكور، ولأن الله تعالي قال: {لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2]، وقال تعالي: {لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] , فالمنذر: الرسول عليه الصلاة والسلام. وقوله: {لِلْعَالَمِينَ}: يشمل الجن والإنس. وقوله: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}: سبق معناهما، وهما صفة سلبية. {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً}: الخلق: الإيجاد على وجه معين. والتقدير: بمعني التسوية أو بمعني القضاء في الأزل، والأول أصح، ويدل لذلك قوله تعالي: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلي:2]، وبه تكون الآية على الترتيب الذكري والمعنوي، وعلى الثاني تكون الآية على الترتيب الذكري. ونستفيد من هذه الآيات من الناحية المسلكية: أنه يجب علينا أن نعرف عظمة الله عز وجل، وننزهه عن كل نقص، وإذا علمنا ذلك، ازددنا محبة له وتعظيماً. ومن آيتي الفرقان نستفيد بيان هذا القرآن العظيم، وأن مرجع العباد، وأن الإنسان إذا أراد أن تتبين له الأمور، فليرجع إلى

الآية التاسعة والعاشرة: قوله: {ما اتخذ الله من ولد. . . .}

القرآن، لأن الله سماه فرقاناً: {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1]. ونستفيد أيضاً من الناحية المسلكية التربوية: أن تتأكد وتزداد محبتنا لرسول الله صلي الله عليه وسلم حيث كان عبد الله، قائماً بإبلاغ الرسالة وإنذار الخلق. ونستفيد أيضاً: أن النبي عليه الصلاة والسلام آخر الرسل، فلا نصدق بأي دعوي للنبوة من بعده، لقوله: {لِلْعَالَمِينَ}، ولو كان بعده رسول، لكان تنتهي رسالته بهذا الرسول، ولا كانت للعالمين كلهم. الآية التاسعة والعاشرة: قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:91 - 92]. ينفي الله تعالي في هذه الآية أن يكون اتخذ ولداً، أو أن يكون معه إله. ويتأكد هذا النفي بدخول {مِنْ} في قوله {مِنْ وَلَدٍ}، وقوله: {مِنْ إِلَهٍ} , لأن زيادة حرف الجر في سياق النفي ونحو تفيد التوكيد. فقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ}، يعني: ما اصطفي أحداً يكون ولداً له، لا عزير، ولا المسيح، ولا الملائكة ولا غيرهم،

لأنه الغني عما سواه. وإذا انتفي اتخاذه الولد فانتفاء أن يكون والداً من باب أولي. وقوله: {مِنْ إِلَهٍ}: {إِلَهٍ}، بمعني: مألوه، مثل: بناء، بمعني: مبني، وفراش، بمعني: مفروش، فالإله بمعني المألوه، أي: المعبود المتذلل له. يعني: ما كان معه من إله حق، أما الآلهات الباطلة، فهي موجودة، لكن لكونها باطلة، كانت كالعدم، فصح أن يقال: ما كان مع الله من إله. {إِذاً}، يعني: لو كان معه إله. {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}: لو كان هناك إله آخر يساوي الله عز وجل, لكان له ملك خاص ولله ملك خاص، يعني: لا نفرد كل واحد منهم بما خلق، قال: هذا خلقي لي، وكذلك الآخر. وحينئذ، يريد كل منهما أن يسيطر على الآخر كما جرت به العادة، فملوك الدنيا كل واحد منهم يريد أن يسيطر على الآخر، وتكون المملكة كلها له، وحينئذ: إما أن يتمانعا، فيعجز كل واحد منهما عن الآخر، وإذا عجز كل واحد منهما عن الآخر، ما صح أن يكون واحد منهما إلهاً، لأن الإله لا يكون عاجزاً.

وإما أن يعلو أحدهما على الآخر، فالعالي هو الإله. فترجع المسألة إلي أنه لابد أن يكون للعالم إله واحد, ولا يمكن أن يكون للعالم إلهان أبداً لأن القضية لا تخرج من هذين الاحتمالين. كما أننا أيضاً إذا شاهدنا الكون علوية وسفلية، وجدنا أنه كون يصدر عن مدبر واحد، وإلا، لكان فيه تناقض، فأحد الإلهين يقول مثلاً: أنا أريد الشمس تخرج من المغرب! والثاني يقول: أريدها تطلع من المشرق! واتفاق الإرادتين بعيد جداً، ولا سيما أن المقام مقام سلطة، فكل واحد يريد أن يفرض رأيه. ومعلوم أننا لا نشاهد الآن الشمس تطلع يوماً مع هذا ويوماً مع هذا، أو يوماً تتأخر لأن الثاني منعها ويوماً تتقدم لأن الأول أمر الثاني بإخراجها، فلا تجد هذا، نجد الكون كله واحداً متناسباً متناسقاً، مما يدل دلالة ظاهرة على أن المدبر له واحد، وهو الله عز وجل. فبين الله سبحانه وتعالى بدليل عقلي أنه لا يمكن التعدد، إذ لو أمكن التعدد، لحصل هذا، لا نفصل كل واحد عن الثاني، وذهب كل إله بما خلق، وحينئذ إما أن يعجز أحدهما عن الآخر، وإما أن يعلو أحدهما الآخر، فإن كان الأول، لم يصلح أي واحد منهما للألوهية، وإن كان الثاني، فالعالي هو الإله، وحينئذ يكون الإله واحداً. فإن قيل: ألا يمكن أن يصطلحا وينفرد كل واحد بما خلق؟

ما نستفيده من الناحية المسلكية

فالجواب: أنه لو أمكن ووقع، لزم أن يختل نظام العالم. ثم إن اصطلاحهما لا يكون إلا لخوف كل واحد منهما من الآخر، وحينئذ لا تصلح الربوبية ولواحد منهما، لعجزه عن مقاومة الآخر. ثم قال تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُون}، أي: تنزيهاً لله عز وجل عما يصفه به الملحدون المشركون الذي يقولون في الله سبحانه مالا يليق به. {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}: الغيب: ما غاب عن الناس، والشهادة: ما شهده الناس. {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}: {فَتَعَالَى}، يعني: ترفع وتقدس. {عَمَّا يُشْرِكُونَ}: عن الأصنام التي جعلوها آلهة مع الله تعالى. وفي هاتين الآيتين من صفات النفي: تنزه الله تعالى عن اتخاذ الولد الذي وصفه به الكافرون، وعن الشريك له في الألوهية الذي أشرك به المشركون. وهذا النفي لكمال غناه وكمال ربوبيته وإلهيته. ونستفيد منهما من الناحية المسلكية: أن الإيمان بذلك يحمل الإنسان على الإخلاص لله عز وجل. الآية الحادية عشرة: قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ

وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]. يعني: لا تجعلوا لله مثلاً، فتقولون: مثل الله كمثل كذا وكذا‍ أو تجعلوا له شريكاً في العبادة. يعني {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}، بمعنى: أنه سبحانه وتعالى يعلم بأنه ليس له مثل، وقد أخبركم بأنه لا مثل، وقد أخبركم بأنه لا مثل له، في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] ... وما أشبه ذلك، فالله يعلم وأنتم لا تعلمون. يقال: إن هذه الجملة تتضمن الدليل الواضح على أن الله ليس له مثل، وأنها كضرب المثل في امتناع المثل، لأننا نحن لا نعلم والله يعلم، فإذا انتفى العلم عنا، وثبت لله، فأين المماثلة؟! هل يماثل الجاهل من كان عالماً؟! ويدلك على نقص علمنا: أن الإنسان لا يعلم ما يفعله في اليوم التالي: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان: 34]، وأن الإنسان لا يعلم روحه التي بين جنبيه: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. وما زال الفلاسفة والمتفلسفة وغيره يبحثون عن حقيقة هذه الروح، ولم يصلوا إلى حقيقتها، مع أنها هي مادة الحياة، وهذا يدل على نقصان العلم في المخلوق، ولهذا قال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].

فإن قلت: كيف تجمع بين هذه الآية: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]؟! الجواب: أنه هناك يخاطب الذين يشركون به في الألوهية فيقول: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} في العبادة والألوهية {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه لا ند له في الربوبية، بدليل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 - 22]. أما هنا: ففي باب الصفات: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ}، فتقولوا: مثلاً: إن يد الله مثل يد كذا! وجه الله مثل وجه كذا! وذات الله مثل الذات الفلانية ... وما أشبه هذا، لأن الله تعالى يعلم وأنتم لا تعلمون وقد أخبركم بأنه لا مثيل له. أو يقال: إن إثبات العلم لهم خاص في باب الربوبية، ونفيه عنهم خاص في باب الألوهية، حيث أشركوا بالله فيها، فنزلوا منزلة الجاهل. وهذه الآية تتضمن من الكما كمال صفات الله عز وجل، حيث إنه لا مثيل له. أما الفائدة المسلكية التي تؤخذ من هذه الآية، فهي: كمال تعظيمنا للرب عز وجل، لأننا إذا علمنا أنه لا مثيل له، تعلقنا به رجاءً وخوفاً، وعظمناه، وعلمنا أنه لا يمكن أن يماثله سلطان ولا

الآية الثانية عشرة: قوله: {قل إنما حرم ربي. . . .}

ملك ولا وزير ولا رئيس، مهما كانت عظمة ملكيتهم ورئاستهم ووزارتهم، لأن الله سبحانه ليس له مثل. الآية الثانية عشرة: قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. {قُلْ}: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي: قل معلناً للناس. {إِنَّمَا}: أداة حصر، وذلك لقابلة تحريم من حرم ما أحل الله. {حَرَّمَ}، بمعنى: منع، وأصل هذه المادة (ح ر م) تدل على المنع، ومنه حريم البئر: للأرض التي تحميه حوله: لأنه يمنع من التعدي عليه. {الفَوَاحِشَ}: جمع فاحشة، وهي الذنب الذي يستفحش، مثل: الزنى واللواط. والزنى، قال الله فيه: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32]. وفي اللواط، قال لوط لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80]. ومن الزنى أن يتزوج الإنسان امرأة لا تحل له لقرابة أو رضاع أو مصاهرة، قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاءَ سَبِيلاً}

[النساء: 22]، بل إن هذا أشد من الزنى، لأنه وصفه بثلاثة أوصاف: فاحشة، ومقت، وساء سبيلاً، وفي الزنى وصفه الله بوصفين: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32]. وقوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}: قيل: إن المعنى ما ظهر فحشه وما خفي، وقيل: المعنى ما ظهر للناس وما بطن عنهم، باعتبار فعل الفاعل، لا باعتبار العمل، أي: ما أظهره الإنسان للإنسان وما أبطنه. قوله: {وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، يعني: حرم الإثم والبغي بغير الحق. والإثم: المراد به ما يكون سبباً له من المعاصي. والبغي: العدوان على الناس، قال الله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42]. وفي قوله: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}: إشارة إلى أن كل بغي فهو بغير حق، وليس المراد أن البغي ينقسم إلى قسمين: بغي بحق، وبغي بغير حق، لأن البغي كله بغير حق. وعلى هذا، فيكون الوصف هنا من باب الوصف الكاشف، ويسميها العلماء صفة كاشفة، أي: مبينة، وهي التي تكون كالتعليل لموصوفها. قوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}: هذه معطوفة على ما سبق، يعني: وحرم ربي أن تشركوا بالله ما لم ينزل به

الفائدة المسلكية من هذه الآية

سلطاناً، يعني: أن تجعلوا له شريكاً لم ينزل به سلطاناً، أي حجة، وسميت الحجة سلطاناً، لأنها سلطة للمحتج بها. وهذا القيد: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً}: نقول فيه كما قلنا في {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}، أي: أنه قيدكاشف، لأن كل من أشرك بالله، فليس له سلطان بشركه. قوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، يعني: وحرم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون، فحرام علينا أن نقول على الله مالا نعلم، سواء كان في ذاته أو أسمائه أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه. فهذه خمسة أشياء حرمها الله علينا. وفيها رد على المرشكين الذين حرموا مالم يحرمه الله. إذا قال قائل: أين الصفة السلبية في هذه الآية؟ قلنا: هي {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ}، فالاثنتان جميعاً من باب الصفات السلبية: {وَأَنْ تُشْرِكُوا}، يعني: لا تجعلوا لله شريكاً لكماله. {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} كذلك، لكماله، فإنه من تمام سلطانه أن لا يقول عليه أحد ما لا يعلم. الفائدة المسلكية من هذه الآية هي: أن تتجنب هذه الأشياء الخمسة التي صرح الله تعالى بتحريمها. وقد قال أهل العلم: إن هذه المحرمات الخمسة مما أجمعت الشرائع على تحريمها.

استواء الله على عرشه

ويدخل في القول على الله بغير علم تحريف نصوص الكتاب والسنة في الصفات وغيرها، فإن الإنسان إذا حرف نصوص الصفات، مثل أن يقول: المراد باليدين النعمة فقد قال على الله مالا يعلم من وجهين: الوجه الأول: أنه نفي الظاهر بلا علم. والثاني: أثبت لله خلافه بغير دليل. فهو يقول: لم يرد الله كذا، وأراد كذا، فنقول: هات الدليل على أنه لم يرد، وعلى أنه أراد كذا! فإن لم تأت بالدليل فإنك قد قلت على الله ما لا تعلم. استواء الله على عرشه الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله ثبوت استواء الله على عرشه وأنه في سبعة مواضع في القرآن: الموضع الأول: قوله في سورة الأعراف: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]. {اللَّهُ} خبر {إنَّ}. {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}: أوجدهما من العدم على وجه

تعريف العرش في اللغة

الإحكام والإتقان. {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}: ومدة هذه الأيام كأيامنا التي تعرف، لأن الله سبحانه وتعالى ذكرها منكرة، فتحمل على ما كان معروفاً. وأول هذه الأيام يوم الأحد، وآخرها يوم الجمعة. منها أربعة أيام للأرض، ويومان للسماء، كما فصل الله ذلك في سورة فصلت: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9 - 10]، فصارت أربعة: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 11 - 12]. وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: {ثَمَّ}: للترتيب. و {الْعَرْشِ}: هو ذلك السقف المحيط بالمخلوقات، ولا نعلم مادة هذا العرش، لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح يبين من أين خلق هذا العرش، لكننا نعلم أنه أكبر المخلوقات التي نعرفها. وأصل العرش في اللغة: السرير الذي يختص به الملك، ومعلوم أن السرير الذي يختص به الملك سيكون سريراً عظيماً فخماً لا نظير له.

تفسير الاستواء عند السلف

وفي هذه الآية من صفات الله تعالى عدة صفات، لكن المؤلف ساقها لإثبات صفة واحدة، وهي الاستواء على العرش. وأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الله تعالى مستوى على عرشه استواء يليق بجلاله ولا يماثل استواء المخلوقين. فإن سألت: ما معنى الاستواء عندهم؟ فمعناه العلو والاستقرار. وقد ورد عن السلف في تفسيره أربعة معاني: الأول: علا، والثاني: ارتفع، والثالث: صعد. والرابع: استقر. لكن (علا) و (ارتفع) و (صعد) معناها واحد، وأما (استقر)، فهو يختلف عنها. ودليلهم في ذلك: أنها في جميع مواردها في اللغة العربية لم تأت إلا لهذا المعنى إذا كانت متعدية بـ (على): قال الله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]. وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 12 - 13]. وفسره أهل التعطيل بأن المراد به الاستيلاء، وقالوا: معنى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، يعني: ثم استولى عليه. واستدلوا لتحريفهم هذا بدليل موجب وبدليل سالب:

استدلال أهل التعطيل

- أما الدليل الموجب، فقالوا: إننا نستدل بقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف أو دم مهراق (بشر): ابن مروان، (استوى)، يعني: استولى على العراق. قالوا: وهذا بيت بن رجل عربي، ولا يمكن أن يكون المراد به استوى على العراق، يعني علا على العراق! لا سيما أنه في ذلك الوقت لا طائرات يمكن أن يعلو على العراق بها. أما الدليل السلبي، فقالوا لو أثبتنا أن الله عز وجل مستو على عرشه بالمعنى الذي تقولون، وهو العلو والاستقرار، لزم من ذلك أن يكون محتاجاً إلى العرش، وهذا مستحيل، واستحالة اللازم تدل على إستحالة الملزوم. ولزم من ذلك أن يكون جسماً، لأن استواء شيء على شيء بمعنى علوه عليه يعني أنه جسم. ولزم أن يكون محدوداً، لأن المستوي على الشيء يكون محدودا، وإذا استويت على البعير، فأنت محدود في منطقة معينة محصور بها وعلى محدود أيضاً. هذه الأشياء الثلاثة التي زعموا أنها تلزم من إثبات أن الاستواء بمعنى العلو والارتفاع. والرد عليهم من وجوه: أولاً: تفسيركم هذا مخالف لتفسير السلف الذي أجمعوا عليه، والدليل على إجماعهم أنه لم ينقل عنهم أنهم قالوا به

وخالفوا الظاهر، ولو كانوا يرون خلاف ظاهره، لنقل إلينا، فما منهم أحد قال: إن (استوى) بمعنى (استولى) أبداً. ثانياً: أنه مخالف لظاهر اللفظ، لأن مادة الاستواء إذا تعدت بـ (على)، فهي بمعنى العلو والاستقرار، هذا ظاهر اللفظ، وهذه مواردها في القرآن وفي كلام العرب. ثالثاً: أنه يلزم عليه لوازم باطلة: 1 - يلزم أن يكون الله عز وجل حين خلق السماوات والأرض ليس مستولياً على عرشه، لأن الله يقول: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، و {ثُمَّ} تفيد الترتيب، فيلزم أن يكون العرش قبل تمام خلق السماوات والأرض لغير الله. 2 - أن الغالب من كلمة (استولى) أنها لا تكون إلا بعد مغالبة! ولا أحد يغالب الله. أن المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغال (¬1) 3 - من اللوازم الباطلة أنه يصح أن نقول: إن الله استوى على الأرض والشجر والجبال، لأنه مسئول عليها. وهذه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم. ¬

_ (¬1) ينسب هذا البيت إلى نفيل بن حبيبو قاله عندما أنزل الله على أصحاب الفيل النقمة, "تفسير ابن كثير" (4/ 502).

وأما استدلالهم بالبيت، فنقول: 1 - أثبتوا لنا سند هذا البيت وثقة رجاله، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلاً. 2 - من هذا القائل؟ أفلا يمكن أن يكون قاله بعد تغير اللسان؟ لأنه كل قول يستدل به على اللغة العربية بعد تغير اللغة العربية فإنه ليس بدليل، لأن العربية بدأت تتغير حين اتسعت الفتوح ودخل العجم مع العرب فاختلف اللسان، وهذا فيه احتمال أنه بعد تغير اللسان. 3 - أن تفسيركم "استوى بشر على العراق" بـ (استولى) تفسير تعضده القرينة، لأنه من المعتذر أن بشراً يسعد فوق العراق فيستوي عليه كما يستوي على السرير أو على ظهر الدابة فلهذا نلجأ إلى تفسيره بـ (استولى). هذا نقوله من باب التنزل، وإلا، فعندنا في هذا جواب آخر: أن نقول: الاستواء في البيت بمعنى العلو، لأن العلو نوعان: 1 - علو حسي، كاستوائنا على السرير. 2 - وعلو معنوي، بمعنى السيطرة والغلبة.

معنى الجسم

فيكون معنى "استوى بشر على العراق" يعني: علا علو غلبة وقهر. وأما قولكم: إنه يلزم من تفسير الاستواء بالعلو أن يكون الله جسماً. فجوابه: كل شيء يلزم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهوحق، ويجب علينا أن نلتزم به، ولكن الشأن كل الشأن أن يكون هذا من لازم كلام الله ورسوله، لأنه قد يمنع أن يكون لازماً، فإذا ثبت أنه لازم، فليكن، ولا حرج علينا إذا قلنا به. ثم نقول: ماذا تعنون بالجسم الممتنع؟ إن أردتم به أنه ليس لله ذات تتصف بالصفات اللازمة لها اللائقة بها، فقولكم باطل، لأن لله ذاتاً حقيقية متصفة بالصفات، وأن له وجهاً ويداً وعيناً وقدماً، وقولوا ما شئتم من اللوازم التي هي لازم حق. وأن أردتم بالجسم الذي قلتم يمتنع أن يكون الله جسماً: الجسم المركب من العظام واللحم والدم وما أشبه ذلك، فهذا ممتنع على الله، وليس بلازم من القول بأن استواء الله على العرش علوه عليه. وأما قولهم: إنه يلزم أن يكون محدوداً. فجوابه أن نقول بالتفصيل: ماذا تعنون بالحد؟ إن أردتم أن يكون محدوداً، أي: يكون مبايناً للخلق منفصلاً

خلاصة رد أهل السنة والجماعة على أهل التعطيل

عنهم، كما تكون أرض لزيد وأرض لعمر، فهذه محدودة منفصلة عن هذه، فهذا حق ليس فيه شيء من النقص. وإن أردتم بكونه محدوداً: أن العرش محيط به، فهذا باطل، وليس بلازم، فإن الله تعالى مستوى على العرش، وإن كان عز وجل أكبر من العرش ومن غير العرش، ولا يلزم أن يكون العرش محيطاً به بل لا يمكن أن يكون محيطاً به، لأن الله سبحانه وتعالى أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه. وأما قولهم: يلزم أن يكون محتاجاً إلى العرش. فنقول: لا يلزم، لأن معنى كونه مستوياً على العرش: أنه فوق العرش، لكنه علو خالص، وليس معناه أن العرش يقله أبداً، فالعرش لا يقله، والسماء لا تقله، وهذا اللازم الذي ادعيتموه ممتنع، لأنه نقص بالنسبة إلى الله عز وجل، وليس بلازم من الاستواء الحقيقي، لأننا لسنا نقول: إن معنى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، يعني: أن العرش يقله ويحمله، فالعرش محمول: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17]، وتحمله الملائكة الآن، لكنه ليس حاملاً لله عز وجل، لأن الله سبحانه وتعالى ليس محتاجاً إليه، ولا مفتقراً إليه، وبهذا تبطل حججهم السلبية. وخلاصة ردنا لكلامهم من عدة أوجه: الأول: أن قولهم هذا مخالف لظاهر النص.

ثانياً: مخالف لإجماع الصحابة وإجماع السلف قاطبة. ثالثاً: أنه لم يرد في اللغة العربية أن (استوى) بمعنى (استولى)، والبيت الذي احتجوا به على ذلك لا يتم به الاستدلال. رابعاً: أنه يلزم عليه لوازم باطلة منها: 1 - أن يكون العرش قبل خلق السماوات والأرض، ملكاً لغير الله. 2 - أن كلمة (استولى) تعطي في الغالب أن هناك مغالبة بين الله وبين غيره، فاستولى عليه وغلبه. 3 - أنه يصح أن نقول ـ على زعمكم ـ: أن الله استوى على الأرض والشجر والجبال والإنسان والبعير، لأنه (استولى) على هذه الأشياء، فإذا صح أن نطلق كلمة (استولى) على شيء، صح أن نطلق كلمة (استولى) على شيء، صح أن نطلق (استوى) على ذلك الشيء، لأنهما مترادفان على زعمكم. فبهذه الأوجه يتبين أن تفسيرهم باطل. ولما كان أبو المعالي الجويني ـ عفا الله عنه ـ يقرر مذهب الأشاعرة، وينكر استواء الله على العرش، بل وينكر علو الله بذاته، قال: "كان الله تعالى ولم يكن شيء غيره، وهو الآن على ما كان عليه". وهو يريد أن ينكر استواء الله على العرش، يعني: كان ولا عرش، وهو الآن على ما كان عليه، إذاً: لم يستو على العرش. فقال له أبو العلاء الهمذاني: يا أستاذ! دعنا من ذكر العرش والاستواء على العرش ـ يعني: لأن دليله سمعي، ولولا أن

الموضع الثاني: في سورة يونس

الله أخبرنا به ما علمناه ـ أخبرنا عن هذه الضرورة التي تجد في نفوسنا: ما قال عارف قط: يا الله! إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو. فبهت أبو المعالي، وجعل يضرب على رأسه: حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاتي! وذلك لأن هذا دليل فطري لا أحد ينكره. الموضع الثاني: في سورة يونس، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]. نقول فيها ما قلنا في الآية الأولى. الموضع الثالث: في سورة الرعد قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد: 2]. {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ}: {بِغَيْرِ عَمَدٍ}: هل يعني: ليس لها عمد مطلقاً؟ أو لها عمد لكنها غير مرئية لنا؟ فيه خلاف بين المفسرين، فمنهم من قال: إن جملة {تَرَوْنَهَا} صفة لـ {عَمَدٍ}، أي: بغير عمد مرئية لكم، ولها عمد غير مرئية. ومنهم من قال: إن جملة {تَرَوْنَهَا} جملة مستأنفة، معناها: ترونها كذلك بغير عمد. وهذا الأخير أقرب، فإن السماوات ليس لها عمد مرئية ولا غير مرئية، ولو كان لها عمد، لكانت مرئية في الغالب، وإن كان الله تعالى قد يحجب عنا بعض المخلوقات الجسيمة لحكمة يريدها.

الموضع الرابع: في سورة طه

وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: هذا الشاهد، ويقال في معناها ما سبق. الموضع الرابع: في سورة طه قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. قدم {عَلَى الْعَرْشِ} وهو معمول لـ {اسْتَوَى} لإفادة الحصر والتخصيص وبيان أنه سبحانه وتعالى لم يستو على شيء سوى العرش. وفي ذكر {الرَّحْمَنُ} إشارة إلى أنه مع علوه وعظمته موصوف بالرحمة. الموضع الخامس: في سورة الفرقان قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 59]. {الرَّحْمَنُ}: فاعل {اسْتَوَى}. وقال في سورة آلم السجدة: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} , وقال في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}. الموضع السادس: في سورة آلم السجدة قال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة: 4]. نقول فيها مثل ماقلنا في آيتي الأعراف ويونس, لكن هنا فيه زيادة: {وَمَا بَيْنَهُمَا}؛ يعني: بين السماء والأرض, والذي بينهما مخلوقات عظيمة استحقت أن تكون معادلة للسماوات والأرض، والذي بينهما مخلوقات عظيمة استحقت أن تكون معادلة للسماوات والأرض وهذه المخلوقات العظيمة منها ما هو معلوم لنا كالشمس والقمر والنجوم والسحاب ومنها ما هو مجهول إلى الآن.

الموضع السابع: في الحديد

الموضع السابع: في سورة الحديد قال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4]. فهذه سبعة مواضع؛ كلها يذكر الله تعالى فيها الإستواء معدى بـ {عَلَى}. وبعد؛ فقد قال العلماء: إن أصل هذه المادة (س وي) تدل على الكمال {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى:2]؛ أي: أكمل ما خلقه؛ فأصل السين والواو والياء تدل على الكمال. ثم هي على أربعة أوجه في اللغة العربية: معداة بـ (إلى) , ومعداة بـ (على) , ومقرونة بالواو, ومجردة: - فالمعداة بـ (على) مثل: {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد: 4] , ومعناها: علا واستقر - والمعداة بـ (إلى): مثل قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29]. فهل معناها كالأولى المعداة بـ (على)؟ فيها خلاف بين المفسرين: منهم من قال: إن معناها واحد, وهذا ظاهر تفسير ابن جرير رحمه الله؛ فمعنى {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}؛ أي: ارتفع إليها. ومنهم من قال: بل الاستواء هنا بمعنى القصد الكامل؛ فمعنى: استوى إليها؛ أي: قصد إليها قصداً كاملاً, وأيدوا تفسيرهم هذا بأنها عديت بما يدل على هذا المعنى, وهو (إلى) ,

وإلى هذا ذهب ابن كثير رحمه الله؛ ففسر قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}؛ أي: قصد إلى السماء، وإلا ستواء ها هنا مضمن معنى القصد والإقبال؛ لأنه عدي بـ (إلى).أ. هـ كلامه. والمقرونة بالواو؛ كقولهم: استوى الماء والخشبة؛ بمعنى: تساوى الماء والخشبة. والمجردة؛ كقوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14] , ومعناها: كمل. تنبيه: إذا قلنا: استوى على العرش؛ بمعنى: علا؛ فها هنا سؤال, وهو: إن الله خلق السماوات, ثم استوى على العرش؛ فهل يستلزم أنه قبل ذلك ليس عالياً؟ فالجواب: لا يستلزم ذلك؛ لأن الاستواء على العرش أخص من مطلق العلو؛ لأن الاستواء على العرش علو خاص به، والعلو شامل على جميع المخلوقات؛ فعلوه عز وجل ثابت له أزلاً وابداً, لم يزل عالياً على كل شيء قبل أن يخلق العرش, ولا يلزم من عدم استوائه على العرش عدم علوه، بل هو عال, ثم بعد خلق السماوات والأرض علا علواً خاصاً على العرش. فإن قلت: نفهم من الآية الكريمة أنه حين خلق السماوات والأرض علا علواً خاصاً على العرش. فإن قلت: نفهم من الآية الكريمة أنه حين خلق السماوات والأرض ليس مستوياً على العرش, لكن قبل خلق السماوات والأرض, هل هو مستو على العرش أولاً؟

إثبات علو الله على مخلوقاته

فالجواب: الله أعلم بذلك. فإن قلت: هل استواء الله تعالى على عرشه من الصفات الفعلية أو الذاتية؟ فالجواب: أنه من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته, وكل صفة تتعلق بمشيئته؛ فهي من الصفات الفعلية. إثبات علو الله على مخلوقاته الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات علو الله على خلقه ست آيات. الآية الأولى: قوله: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] الخطاب لعيسى بن مريم الذي خلقه الله من أم بلا أب, ولهذا ينسب إلى أمه, فيقال: عيسى بن مريم. يقول الله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ}: ذكر العلماء فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: {مُتَوَفِّيكَ}؛ بمعنى قابضك, ومنه قولهم: توفى حقه؛ أي: قبضه. القول الثاني: {مُتَوَفِّيكَ}: منيمك؛ لأن النوم وفاة؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} [الأنعام: 60].

العلو ينقسم إلى قسمين: علو معنوي وعلو ذاتي

القول الثالث: أنه وفاة موت: {مُتَوَفِّيكَ}: مميتك, ومنه قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 43]. والقول بأن {مُتَوَفِّيكَ} متوفيك بمعنى مميتك بعيد؛ لأن عيسى عليه السلام لم يمت، وسينزل في آخر الزمان؛ قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]؛ أي: قبل موت عيسى على أحد القولين، وذلك إذا نزل في آخر الزمان. وقيل: قبل موت الواحد؛ يعني: ما من أحد من أهل الكتاب إلا إذا حضرته الوفاة؛ أمن بعيسى, حتى وإن كان يهودياً. وهذا القول ضعيف. بقى النظر بين وفاة القبض ووفاة النوم, فنقول: إنه يمكن أن يجمع بينهما فيكون قابضاً له حال نومه؛ أي أن الله تعالى ألقى عليه النوم؛ ثم رفعه, ولا منافاة بين الأمرين. قوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}: الشاهد هنا؛ فإن {إِلَيَّ} تفيد الغاية, وقوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} يدل على أن المرفوع إليه كان عالياً، وهذا يدل على علو الله عز وجل. فلو قال قائل: المراد: رافعك منزلة؛ كما قال الله تعالى: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45]. قلن هذا لا يستقيم؛ لأن الرفع هنا عدى بحرف يختص بالرفع الذي هو الفوقية؛ رفع الجسد، وليس رفع المنزلة. واعلم أن علو الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: علو

أدلة أهل السنة على علو الله سبحانه الذاتي

معنوي, وعلو ذاتي: 1 - أما العلو المعنوي؛ فهو ثابت لله بإجماع أهل القبلة؛ أي: بالإجماع من أهل البدع وأهل السنة؛ كلهم يؤمنون بأن الله تعالى عال علواً معنوياً. 2 - وأما العلو الذاتي؛ فيثبته أهل السنة, ولا يثبته أهل البدعة؛ يقولون: إن الله تعالى ليس عالياً علواً ذاتياً. فنبدأ أولاً بأدلة أهل السنة على علو الله سبحانه وتعالى الذاتي فنقول: إن أهل السنة استدلوا على علو الله تعال علواً ذاتياً بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة: أولاً: فالكتاب تنوعت دلالته على علو الله؛ فتارة بذكر العلو، وتارة بذكر القوقية, وتارة بذكر نزول الأشياء من عنده، وتارة بذكر صعودها إليه، وتارة بكونه في السماء ... 1) فالعلو مثل قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] , {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]. 2) والفوقية: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]. 3) ونزول الأشياء منه؛ مثل قوله: {يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [السجدة: 5] , {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] ... وما أشبه ذلك.

ثانيا: السنة

4) وصعود الأشياء إليه؛ مثل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] , ومثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. 5) كونه في السماء؛ مثل قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]. ثانياً: وأما السنة فقد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله وإقراره: 1) فأما قول الرسول عليه الصلاة والسلام: فجاء بذكر العلو والفوقية, ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "سبحان ربي الأعلى" (¬1)، وقوله لما ذكر السماوات؛ قال: "والله فوق العرش" (¬2). وجاء بذكر أن الله في السماء؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (772) من حديث حذيفة رضي الله عنه. (¬2) رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" (1/ 244) , واللالكائي في "شرح السنة" (659) , والطبراني في"كبير" (9/ 228) ,وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 86): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح, ورواه البيهقي "الأسماء والصفات" (851) , وأبو الشيخ في كتاب "العظم" (279) , والدارميفي "الرد على الجهمي" (81) , وقال الذهبي في "العلو": إسناده صحيح. "مختصر العلو" (48) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. (¬3) رواه البخاري (4351) , ومسلم (1064)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

2) وأما الفعل؛ فمثل رفع أصبعه إلى السماء, وهو يخطب الناس في أكبر جمع, وذلك في يوم عرفة, عام حجة الوداع؛ فإن الصحابة لم يجتمعوا اجتماعاً أكبر من ذلك الجمع؛ إذ إن الذي حج معه بلغ نحو مئة ألف, والذي مات عنهم نحو مئة وأربعة وعشرين ألفاً: يعني: عامة المسلمين حضروا ذلك الجمع، فقال عليه الصلاة والسلام: "ألا هل بلغت؟ ". قالوا: نعم. "ألا هل بلغت؟ ". قالوا: نعم. "ألا هل بلغت؟ وكان يقول: "اللهم أشهد"؛ يشير إلى السماء بأصبعه, وينكتها إلى الناس (¬1). ومن ذلك رفع يديه إلى السماء في الدعاء. وهذا إثبات للعلو بالفعل. 3) وأما التقرير؛ فإنه في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه؛ أنه أتى بجارية يريد أن يعتقها, فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ ". قالت: في السماء. فقال: "من أنا؟ ". قالت: رسول الله. قال: "أعتقها؛ فإنها مؤمنة" (¬2). فهذه جارية لم تتعلم, والغالب على الجواري الجهل, لا سيما أمة غير حرة, لا تملك نفسها, تعلم أن ربها في السماء، وضلال بني آدم ينكرون أن الله في السماء, ويقولون: إما ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1218)؛ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم. (¬2) تقدم تخريجه (ص 85) وهو عند مسلم.

ثالثا: الإجماع

أنه لا فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال! أو أنه في كل مكان!! ثالثاً: وأما دلالة الإجماع؛ فقد أجمع السلف على أن الله تعالى بذاته في السماء, من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام, إلى يومنا هذا. إن قلت كيف أجمعوا؟ نقول: إمرارهم هذه الآيات والأحاديث مع تكرار العلو فيها والفوقية ونزول الأشياء منه وصعودها إليه دون أن يأتوا بما يخالفها إجماع منهم على مدلولها. ولهذا لما قال شيخ الإسلام: "إن السلف مجمعون على ذلك"؛ قال: "ولم يقل أحد منهم: إن الله ليس في السماء, أو: إن الله في الأرض, أو: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل، أو: إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه". رابعاً: وأما دلالة العقل؛ فنقول: لا شك أن الله عز وجل إما أن يكون في العلو أو في السفل, وكونه في السفل مستحيل؛ لأنه نقص يستلزم أن يكون فوقه شيء من مخلوقاته فلا يكون له العلو التام والسيطرة التامة والسلطان التام فإذا كان السفل مستحيلاً؛ كان العلو واجباً.

خامسا: الفطرة

وهناك تقرير عقلي آخر, وهو أن نقول: إن العلو صفة كمال باتفاق العقلاء, وإذا كان صفة كمال؛ وجب أن يكون ثابتاً لله؛ لأن كل صفة كمال مطلقة؛ فهي ثابتة لله. وقولنا: "مطلقة": احترازاً من الكمال النسبي, الذي يكون كمالاً في حال دون حال؛ فالنوم مثلاً نقص، ولكن لمن يحتاج إليه ويستعيد قوته به كمال. خامساً: وأما دلالة الفطرة: فأمر لا يمكن المنازعة فيها ولا المكابرة؛ فكل إنسان مفطور على أن الله في السماء, ولهذا عندما يفجؤك الشيء الذي لا تستطيع دفعه، وإنما تتوجه إلى الله تعالى بدفعه؛ فإن قلبك ينصرف إلى السماء حتى الذين ينكرون علو الذات لا يقدرون أن ينزلوا أيديهم إلى الأرض. وهذه الفطرة لا يمكن إنكارها. حتى إنهم يقولون: إن بعض المخلوقات العجماء تعرف أن الله في السماء كما في الحديث الذي يروى أن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام وعلى أبيه خرج يستسقي ذات يوم بالناس, فلما خرج؛ رأى نملة مستلقية على ظهرها, رافعة قوائمها نحو السماء، تقول: "اللهم! إنا خلق من خلقك, ليس بنا غنى عن سقياك". فقال: "ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم" (¬1). وهذا إلهام فطري. ¬

_ (¬1) تقدم (ص 58).

مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم

فالحاصل أن: كون الله في السماء أمر معلوم بالفطرة. والله؛ لولا فساد فطرة هؤلاء المنكرين لذلك؛ لعلموا أن الله في السماء بدون أن يطالعوا أي كتاب؛ لأن الأمر الذي تدل عليه الفطرة لا يحتاج إلى مراجعة الكتب. والذين أنكروا علو الله عز وجل بذاته يقولون: لو كان في العلو بذاته؛ كان في جهة، وإذا كان في جهة؛ كان محدوداً وجسماً, وهذا ممتنع! والجواب عن قولهم: "إنه يلزم أن يكون محدوداً وجسماً، وهذا ممتنع! والجواب عن قولهم: "إنه يلزم أن يكون محدوداً وجسماً"؛ نقول: أولاً: لا يجوز إبطال دلالة النصوص بمثل هذه التعليلات, ولو جاز هذا؛ لأمكن كل شخص لا يريد ما يقتضيه النص أن يعلله بمثل هذه العلل العليلة. فإذا كان الله أثبت لنفسه العلو, ورسوله, صلى الله عليه وسلم أثبت له العلو، والسلف الصالح أثبتوا له العلو؛ فلا يقبل أن يأتي شخص ويقول: لا يمكن أن يكون علو ذات؛ لأنه لو كان علو ذات؛ لكان كذا وكذا. ثانياً: نقول: إن كان ما ذكرتم لازماً لإثبات العلو لزوماً صحيحاً؛ فلنقل به؛ لأن لازم كلام الله ورسوله حق؛ إذ أن الله تعالى يعلم ما يلزم من كلامه. فلو كانت نصوص العلو تستلزم معني فاسداً، لبينه، ولكنها لا تستلزم معني فاسداً.

الآية الثانية: قوله: {بل رفعه الله إليه}

ثالثاً: ثم نقول: ما هو الحد والجسم الذي أجلبتم علينا بخيلكم ورجلكم فيها. أتريدون بالحد أن شيئاً من المخلوقات يحيط بالله؟ فهذا باطل ومنتف عن الله، وليس بلازم من إثبات العلو لله أو تريدون بالحد أن الله بائن من خلقه غير حال فيهم؟ فهذا حق من حيث المعني، ولكن لا نطلق لفظه نفياً ولا إثباتاً، لعدم ورود ذلك. وأما الجسم، فنقول: ماذا تريدون بالجسم؟ أتريدون أنه جسم مركب من عظم ولحم وجلد ونحو ذلك؟ فهذا باطل ومنتف عن الله، لأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. أم تريدون بالجسم ما هو قائم بنفسه متصف بما يليق به؟ فهذا حق من حيث المعني، لكن لا نطلق لفظه نفياً ولا إثباتاً، لما سبق. وكذلك نقول في الجهة، هل تريدون أن الله تعالي له جهة تحيط به؟ فهذا باطل، وليس بلازم من إثبات علوه. أم تريدون جهة علو لا تحيط بالله؟ فهذا حق لا يصح نفيه عن الله تعالي. الآية الثانية: قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]. {بَل}: للإضراب الإبطالي، لإبطال قولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 157 - 158]، فكذبهم الله بقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}.

الآية الثالثة: قوله: {إليه يصعد الكلم الطيب. . . .}

والشاهد قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ}، فإنه صريح بأن الله تعالي عال بذاته، إذ الرفع إلي الشيء يستلزم علوه. الآية الثالثة: قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]. {إِلَيْهِ}: إلي الله عز وجل. {يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ}: و {الكَلِمُ} هنا اسم جمع، مفرده كلمة، وجمع كلمة كلمات، والكلم الطيب يشمل كل كلمة يتقرب بها إلي الله، كقراءة القرآن والذكر والعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكل كلمة تقرب إلي الله عز وجل، فهي كلمة طيبة، تصعد إلي الله عز وجل، وتصل إليه، والعمل الصالح يرفعه الله إليه أيضاً. فالكلمات تصعد إلي الله، والعمل الصالح يرفعه الله، وهذا يدل على أن الله عال بذاته، لأن الأشياء تصعد إليه وترفع. الآية الرابعة: قوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36 - 37]. هامان وزير فرعون، والآمر بالبناء فرعون. {صَرْحاً}، أي بناء عالياً. {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} , يعني: لعلي أبلغ الطرق التي توصل إلي السماء.

الآية الخامسة والسادسة: قوله: {أأمنتم من في السماء}

{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}، يعني: أنظر إليه، وأصل إليه مباشرة، لأن موسي قال له: أن الله في السماء. فموه فرعون على قومه بطلب بناء هذا الصرح العالي ليرقي عليه ثم يقول: لم أجد أحداً، ويحتمل أنه قاله على سبيل التهكم، يقول: إن موسي قال: إلهه في السماء، اجعلونا نرقي لنراه!! تهكماً. وأيا كان، فقد قال: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً}، للتمويه على قومه، وإلا، فهو يعلم أنه صادق، وقد قال له موسي: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، فلم يقل: ما علمت! بل أقره على هذا الخبر المؤكد باللام و (قد) والقسم. والله عز وجل يقول في آية أخري: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14]. الشاهد من هذا: أن أمر فرعون ببناء صرح يطلع به على إله موسي يدل على أن موسي صلي الله عليه وسلم قال لفرعون وآله: إن الله في السماء. فيكون علو الله تعالى ذاتياً قد جاءت به الشرائع السابقة. الآية الخامسة والسادسة: قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16 - 17]. والذي في السماء هو الله عز وجل، لكنه كنى عن نفسه بهذا، لأن المقام مقام إظهار عظمته، وأنه فوقكم، قادر عليكم، مسيطر عليكم، مهيمن عليكم، لأن العالي له سلطة على من تحته. {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}، أي: تضطرب.

إشكال حول {في} وجواب العلماء عليه

والجواب: لا تأمن والله! بل نخاف على أنفسنا إذا كثرت معاصينا أن تخسف بنا الأرض. والانهيارات التي يسمونها الآن: أنهياراً أرضياً، وانهياراً جبلياً .. وما أشبه ذلك هي نفس التي هدد الله بها هنا، لكن يأتون بمثل هذه العبارات ليهونوا الأمر على البسطاء من الناس. {أَمْ أَمِنْتُمْ}، يعني بل أأمنتم، و (أم) هنا بمعني (بل) والهمزة. {أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً}: الحاصب عذاب من فوق يحصبون به، كما فعل بالذين من قبلهم، كقوم لوط وأصحاب الفيل، والخسف من تحت. فالله عز وجل هددنا من فوق ومن تحت، قال الله تعالي: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، أربعة أنواع من العذاب. وهنا ذكر الله نوعين منها: الحاصب والخسف. والشاهد من هذه الآية هو قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ}. والذي في السماء هو الله عز وجل وهو دليل على علو الله بذاته. ولكن ها هنا إشكال، وهو أن (في) للظرفية، فإذا كان الله في السماء، و (في) للظرفيه، فإن الظرف محيط بالمظروف! أرأيت لو

قلت: الماء في الكأس، فالكأس محيط بالماء وأوسع من الماء! فإذا كان الله يقول: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ}، فهذا ظاهره أن السماء محيطة بالله، وهذا الظاهر باطل، وإذا كان الظاهر باطلاً، فإننا نعلم علم اليقين أنه غير مراد لله، لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر الكتاب والسنة باطلاً. فما الجواب على هذا الإشكال؟ قال العلماء: الجواب أن نسلك أحد طريقين: 1 - فإما أن نجعل السماء بمعني العلو، والسماء معني العلو وارد في اللغة، بل في القرآن, قال تعالي: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]، والمراد بالسماء العلو، لأن الماء ينزل من السحاب لا من السماء التي هي السقف المحفوظ، والسحاب في العلو بين السماء والأرض، كما قال الله تعالي: {الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 164]. فيكون معني {مَنْ فِي السَّمَاءِ}، أي: من في العلو. ولا يوجد إشكال بعد هذا، فهو في العلو. ليس يحاذيه شئ، ولا يكون فوقه شئ. 2 - أو نجعل (في) بمعني (علي) , ونجعل السماء هي السقف المحفوظ المرفوع، يعني: الآجرام السماوية، وتأتي (في) بمعني (علي) في اللغة العربية، بل في القرآن الكريم، قال فرعون لقومه السحرة الذين آمنوا: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:

الجمع بين قوله: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} وقوله: {وهو الله في السماوات وفي الأرض}

71] , أي: على جذوع النخل. فيكون معني {مَنْ فِي السَّمَاءِ}، أي: من على السماء. ولا إشكال بعد هذا. فإن قلت: كيف تجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالي: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3]؟! فالجواب: أن نقول: أما الآية الأولي، فإن الله يقول: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ}، فالظرف هنا لألوهيته، يعني: أن ألوهيته ثابتة في السماء وفي الأرض، كما تقول: فلان أمير في المدينة ومكة، فهو نفسه في واحدة منهما، وفيهما جميعاً بإمارته وسلطته، فالله تعالي ألوهيته في السماء وفي الأرض، وأما هو عز وجل ففي السماء. أما الآية الثاني: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} فنقول فيها كما قلنا في التي قبلها: {وَهُوَ اللَّهُ}، أي: وهو الإله الذي ألوهيته في السماوات وفي الأرض، أما هو نفسه، ففي السماء. فيكون المعني: هو المألوه في السماوات المألوه في الأرض، فألوهيته في السماوات وفي الأرض. فتخرج هذه الآية كتخريج التي قبلها. وقيل المعني: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ}، ثم تقف، ثم تقرأ:

الفوائد المسلكية من هذه الآيات

{وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ}، أي أنه نفسه في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض، فليس كونه في السماء مع علوه بمانع من علمه بسركم وجهركم في الأرض. وهذا المعني فيه شيئ من الضعف، لأنه يقتضي تفكيك الآية وعدم ارتباط بعضها ببعض، والصواب الأول: أن نقول: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ}، يعني أن ألوهيته ثابتة في السماوات وفي الأرض، فتطابق الآية الأخري. من الفوائد المسلكية في هذه الآيات: أن الإنسان إذا علم بأن الله تعالي فوق كل شيء، فإنه يعرف مقدار سلطانه وسيطرته على خلقه، وحينئذ يخافه ويعظمه، وإذا خاف الإنسان ربه وعظمه، فإنه يتقيه ويقوم بالواجب ويدع المحرم. إثبات معية الله لخلقه الشرح: شرع المؤلف بسوق أدلة المعية؛ أي: أدلة معية الله تعالى لخلقه، وناسب أن يذكرها بعد العلو؛ لأنه قد يبدون للإنسان أن هناك تناقضاً بين كونه فوق كل شيء وكونه مع العباد، فكان من المناسب جداً أن يذكر الآيات التي تثبت معية الله للخلق بعد ذكر آيات العلو.

المبحث الأول: في أقسامها

وفي معية الله تعالى لخلقه مباحث: المبحث الأول: في أقسامها: معية الله عز وجل تنقسم إلى قسمين: عامة، وخاصة. والخاصة تنقسم إلى قسمين: مقيدة بشخص, ومقيدة بوصف. أما العامة؛ فهي التي تشمل كل أحد من مؤمن وكافر وبر وفاجر. ودليلها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]. أما الخاصة المقيدة بوصف؛ فمثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]. وأما الخاصة المقيدة بشخص معين؛ فمثل قوله تعالى عن نبيه: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة 40]، وقال لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. وهذه أخص من المقيدة بوصف. فالمعية درجات: عامة مطلقة، وخاصة مقيدة بوصف، وخاصة مقيدة بشخص. فأخص أنواع المعية ما قيد بشخص, ثم ما قيد بوصف، ثم ما كان عاماً. فالمعية العامة تستلزم الإحاطة بالخلق علماً وقدرة وسمعاً

المبحث الثاني: هل المعية حقيقية أو هي كناية

وبصراً وسلطاناً وغير ذلك من معاني ربوبيته، والمعية الخاصة بنوعيها تستلزم مع ذلك النصر والتأييد. المبحث الثاني: هل المعية حقيقية أو هي كتابة عن علم الله عز وجل وسمعه وبصره وقدرته وسلطانه وغير ذلك من معاني ربوبيته؟ أكثر عبارات السلف رحمهم الله يقولون: إنها كتابة عن العلم وعن السمع والبصر والقدرة وما أشبه ذلك, فيجعلون معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} أي: وهو عالم بكم سميع لأقوالكم, بصير بأعمالكم, قادر عليكم حاكم بينكم .... وهكذا, فيفسرونها بلازمها. واختار شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب وغيره أنها على حقيقتها, وأن كونه معنا حق على حقيقته, لكن ليست معيته كمعية الإنسان للإنسان التي يمكن أن يكون الإنسان مع الإنسان في مكانه؛ لأن معية الله عز وجل ثابتة له وهو في علوه؛ فهو معنا وهو عال على عرشه فوق كل شيء, ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون معنا في الأمكنة التي نحن فيها. وعلى هذا، فإنه يحتاج إلى الجمع بينها وبين العلو. والمؤلف عقد لها فصلاً خاصاً سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وأنه لا منافاة بين العلو والمعية، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته، فهو علي في دنوه، قريب في علوه (¬1). ¬

_ (¬1) انظر بداية الجزء الثاني.

المبحث الثالث: هل المعية من الصفات الذاتية أو من الصفات الفعلية

وضرب شيخ الإسلام رحمه الله لذلك مثلاً بالقمر، قال: إنه يقال: مازلنا نسير والقمر معنا، وهو موضوع في السماء، وهو من أصغر المخلوقات، فكيف لا يكون الخالق عز وجل مع الخلق، الذي الخلق بالنسبة إليه ليسوا بشيء، وهو فوق سماواته؟! وما قاله رحمه الله فيه دفع حجة بعض أهل التعطيل حيث احتجوا على أهل السنة، فقالوا: أنتم تمنعون التأويل، وأنتم تؤولون في المعية، تقولون: المعية بمعنى العلم والسمع والبصر والقدرة والسلطان وما اشبه ذلك. فنقول: إن المعية حق على حقيقتها، لكنها ليست في المفهوم الذي فهمه الجهمية ونحوهم، بأنه مع الناس في كل مكان وتفسير بعض السلف لها بالعلم ونحوه، بأنه مع الناس في كل مكان وتفسير بعض السلف لها بالعلم ونحوه تفسير باللازم. المبحث الثالث: هل المعية من الصفات الذاتية أو منا لصفات الفعلية؟ فيه تفصيل: - أما المعية العامة، فهي ذاتية، لأن الله لم يزل ولا يزال محيطاً بالخلق علماً وقدرة وسلطاناً وغير ذلك من معاني ربوبيته. - وأما المعية الخاصة، فهي صفة فعلية، لأنها تابعة لمشيئة الله، وكل صفة مقرونة بسبب هي من الصفات الفعلية، فقد سبق لنا أن الرضى من الصفات الفعلية، لأنه مقرون بسبب، إذا وجد السبب الذي به يرضى الله، وجد الرضى، وكذلك المعية الخاصة

المبحث الرابع: هل المعية هي حقيقة أو لا؟

إذا وجدت التقوى أو غيرها من أسبابها في شخص، كان الله معه. المبحث الرابع في المعية: هل هي حقيقة أو لا؟ ذكرنا ذلك، وأن من السلف من فسرها باللازم، وهو الذي لا يكاد يرى الإنسان سواه. ومنهم من قال: هي على حقيقتها، لكنها معية تليق بالله، خاصة به. وهذا صريح كلام المؤلف هنا في هذا الكتاب وغيره، لكن تصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن الله معنا في الأرض ونحو ذلك، فإن هذا باطل مستحيل! المبحث الخامس في المعية: هل بينها وبين العلو تناقض؟ الجواب: لا تناقض بينهما، لوجوه ثلاثة: الوجه الأول: أن الله جمع بينهما فيما وصف به نفسه، ولو كانا يتناقضان ما صح أن يصف الله بهما نفسه. الوجه الثاني: أن نقول: ليس بين العلو والمعية تعارض، أصلاً، إذ من الممكن أن يكون الشيء عالياً وهو معك، ومنه ما يقوله العرب: القمر معنا ونحن نسير، والشمس معنا ونحن نسير، والقطب معنا ونحن نسير، مع أن القمر والشمس والقطب كلها في السماء، فإذا أمكن اجتماع العلو والمعية في المخلوق، فاجتماعهما في الخالق من باب أولى. أرأيت لو أن إنساناً على جبل عالٍ، وقال للجنود: اذهبوا إلى مكان بعيد في المعركة، وأنا معكم، وهو واضع المنظار على

الوجه الثالث

عينيه، ينظر إليهم من بعيد، فصار معهم، لأنه الآن يبصر كأنهم بين يديه، وهو بعيد عنهم، فالأمر ممكن في حق المخلوق، فكيف لا يمكن في حق الخالق؟! الوجه الثالث: أنه لو تعذر اجتماعهما في حق المخلوق، لم يكن متعذراً في حق الخالق، لأن الله أعظم وأجل، ولا يمكن أن تقاس صفات الخالق بصفات المخلوقين، لظهور التباين بين الخالق والمخلوق. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في سفره: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل" (¬1)، فجمع بين كونه صاحباً له وخليفة له في أهله، مع أنه بالنسبة للمخلوق غير ممكن، لا يمكن أن يكون شخص ما صاحباً لك في السفر وخليفة لك في أهلك. وثبت في الحديث الصحيح (¬2): أن الله عز وجل يقول إذا قال المصلى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: "حمدني عبدي". كم من مصل يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}؟ لا يحصون. وكم من مصليين، أحدهما يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، والثاني يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وكل واحد منهما له رد، الذي يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1342)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) رواه مسلم (395)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الْعَالَمِينَ}: يقول الله له: "حمدني عبدي". والذي يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: يقول الله له: "هذا بيني وبين عبدي نصفين" ..... إذاً، يمكن أن يكون الله معنا حقاً وهو على عرشه في السماء حقاً، ولا يفهم أحداً أنهما يتعارضان، إلا من أراد أن يمثل الله بخلقه، ويجعل معية الخالق كمعية المخلوق. ونحن بينا إمكان الجمع بين نصوص العلو ونصوص المعية، فإن تبين ذلك، وإلا، فالواجب أن يقول العبد: آمنت بالله ورسوله، وصدقت بما قال الله عن نفسه ورسوله، ولا يقول: كيف يمكن؟! منكراً ذلك! إذا قال: كيف يمكن؟! قلنا: سؤالك هذا بدعة، لم يسأل عنه الصحابة، وهم خير منك، ومسؤولهم أعلم من مسؤولك وأصدق وأفصح وأنصح، عليك أن تصدق، لا تقل: كيف؟ ولا لم؟ ولكن سلم تسليماً. تنبيه: تأمل في الآية، تجد كل الضمائر تعود على الله سبحانه وتعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى}، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ}، فكذلك ضمير {وَهُوَ مَعَكُمْ}، فيجب علينا أن نؤمن بظاهر الآية الكريمة، ونعلم علم اليقين أن هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله معنا في الأرض، بل هو معنا مع استوائه على العرش.

المبحث السادس: في شبهة القائلين بأن الله معنا والرد

هذه المعية، إذا آمنا بها، توجب لنا خشية الله عز وجل وتقواه، ولهذا جاء في الحديث: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت" (¬1). أما أهل الحلول، فقالوا: إن الله معنا بذاته في أمكنتنا، إن كنت في المسجد، فالله معك في المسجد والذين في السوق الله معهم في السوق!! والذين في الحمامات الله معهم في الحمامات!! ما نزهوه عن الأقذار والأنتان وأماكن اللهو والرفث!! المبحث السادس: في شبهة القائلين بأن الله معنا في أكنتنا والرد عليهم: شبهتهم: يقولون: هذا ظاهر اللفظ: {وَهُوَ مَعَكُمْ}؛ لأن كل الضمائر تعود على الله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ} , {ثُمَّ اسْتَوَى} , {يَعْلَمُ} , {وَهُوَ مَعَكُمْ} , وإذا كان معنا؛ فنحن لأنفهم من المعية إلا المخالطة أو المصاحبة في المكان!! والرد عليهم من وجوه: أولاً: أن ظاهرها ليس كما ذكرتم؛ إذ لو كان الظاهر كما ذكرتم؛ لكان في الآية تناقض: أن يكون مستوياً على العرش، وهو ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في الكبير والأوسط كما في مجمع الزائد (1/ 60) , والبيهقي في الأسماء والصفات (907) , وأبو نعيم في الحلية (6/ 124) والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1002). وقد ورد الحديث بلفظ: "تزكية النفس أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان" رواه البيهقي في "السنن" (4/ 95) , وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1062) , والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 269) بسند صحيح؛ كما في "السلسلة الصحيحة" (1046).

مع كل إنسان في أي مكان! والتناقض في كلام الله تعالى مستحيل. ثانياً: قولكم: "إن المعية لا تعقل إلا مع المخالطة أو المصاحبة في المكان! هذا ممنوع؛ فالمعية في اللغة العربية أسم لمطلق المصاحبة، وهي أوسع مدلولاً مما زعمتم؛ فقد تقتضي الإختلاط, وقد تقتضي المصاحبة في المكان، وقد تقتضي مطلق المصاحبة وإن اختلف المكان؛ هذه ثلاثة أشياء: 1 - مثال المعية التي تقتضي المخالطة: أن يقال: اسقوني لبناً مع ماء؛ أي: مخلوطاً بماء. 2 - ومثال المعية التي تقتضي المصاحبة في المكان: قولك: وجدت فلاناً مع فلان يمشيان جميعاً وينزلان جميعاً. 3 - ومثال المعية التي تقتضي الإختلاط ولا المشاركة في المكان: أن يقال: فلان مع جنوده. وإن كان في غرفة القيادة, لكن يوجههم. فهذا ليس فيه اختلاط ولا مشاركة في مكان. ويقال: زوجة فلان معه. وإن كانت هي في المشرق وهو في المغرب. فالمعية إذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكما هو ظاهر من شواهد اللغة: مدلولها مطلق المصاحبة، ثم هي بحسب ما تضاف إليه. فإذا قيل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: 128]؛ فلا

يقتضي ذلك لا اختلاطاً ولا مشاركة في المكان, بل هي معية لائقة بالله, ومقتضاها النصر والتأييد. ثالثاً: نقول: وصفكم الله بهذا! من أبطل الباطل وأشد التنقص لله عز وجل, والله عز وجل ذكرها هنا عن نفسه متمدحاً؛ أنه مع علوه على عرشه؛ فهو مع الخلق, وإن كانوا أسفل منه, فإذا جعلتم الله في الأرض؛ فهذا نقص. إذا جعلتم الله نفسه معكم في كل مكان, وأنتم تدخلون الكنيف؛ هذا أعظم النقص, ولا تستطيع أن تقوله ولا لملك من ملوك الدنيا: إنك أنت في الكنيف! لكن كيف تقوله لله عز وجل؟! رابعاً: يلزم على قولكم هذا أحد أمرين لا ثالث لهما, وكلاهما ممتنع: إما أن يكون الله متجزئاً, كل جزء منه في مكان. وإما أن يكون متعدداً؛ يعني: كل إله في جهة ضرورة تعدد الأمكنة. خامساً: أن نقول: قولكم هذا أيضاً يستلزم أن يكون الله حالاً في الخلق؛ فكل مكان في الخلق؛ فالله تعالى فيه، وصار هذا سلماً لقول أهل وحدة الوجود. فأنت ترى أن هذا القول باطل, ومقتضى هذا القول الكفر. ولهذا نرى أن من قال: إن الله معنا في الأرض؛ فهو كافر؛ يستتاب, ويبين له الحق، فإن رجع، وإلا؛ وجب قتله.

آيات المعية

وهذه آيات المعية: الآية الأولى: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]: والشاهد فيها قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} , وهذه من المعية العامة؛ لأنها تقتضي الإحاطة بالخلق علماً وقدرة وسلطاناً وسمعاً وبصراً وغير ذلك من معاني الربوبية. الآية الثانية: قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]. {مَا يَكُونُ}: {يَكُونُ}؛ تامة يعني: ما يوجد. وقوله: {مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ}: قيل: إنها من باب إضافة الصفة إلى الموصوف, وأصلها: من ثلاثة نجوى, ومعنى {نَجْوَى}؛ أي: متناجين. وقوله: {إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} ولم يقل: إلا هو ثالثهم؛ لأنه من غير الجنس, وإذا كان من غير الجنس, فإنه يؤتى بالعدد التالي، أما إذا كان من الجنس؛ فإنه يؤتى بنفس العدد، أنظر قوله تعالى عن النصارى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة: 73] , ولم يقولوا: ثالث أثنين؛ لأنه من الجنس على زعمهم فعندهم كل الثلاثة آلهة, فلما كان من الجنس

الآية الثالثة: قوله: {لا تحزن إن الله معنا}

على زعمهم؛ قالوا فيه: ثالث ثلاثة. قوله: {وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ} ذكر العدد الفردي ثلاثة وخمسة، وسكت عن العدد الزوجي، لكنه داخل في قوله: {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ}: الأدنى من ثلاثة أثنان, {وَلا أَكْثَرَ} من خمسة, ستة فما فوق. ما من اثنين فأكثر يتناجيان بأي مكان من الأرض؛ إلا والله عز وجل معهم. وهذه المعية عامة؛ لأنها تشمل كل أحد: المؤمن, والكافر، والبر، والفاجر, ومقتضاها الإحاطة بهم علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً وغير ذلك. وقوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ يعني: أن هذه المعية تقتضي إحصاء ما عملوه؛ فإذا كان يوم القيامة؛ نبأهم بما عملوا؛ يعني: أخبرهم به وحاسبهم عليه؛ لأن المراد بالإنباء لازمه, وهو المحاسبة, لكن إن كانوا مؤمنين؛ فإن الله تعالى يحصي أعمالهم, ثم يقول: "سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم" (¬1). وقوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}: كل شيء موجود أو معدوم, جائز أو واجب أو ممتنع, كل شيء؛ فالله عليم به. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (1/ 253) , وهو في الصحيحين.

وقد سبق لنا الكلام على صفة العلم, وأن علم الله يتعلق بكل شيء، حتى بالواجب والمستحيل والصغير والكبير, والظاهر والخفي. الآية الثالثة: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. الخطاب لأبي بكر من النبي صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]. أولاً: نصره حين الإخراج و {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}. ثانياً: وعند المكث في الغار {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}. ثالثاً: عند الشدة حينما وقف المشركون على فم الغار: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ}. فهذه ثلاثة مواقع بين الله تعالى فيها نصره لنبيه صلى الله عليه وسلم. وهذا الثالث حين وقف المشركون عليهم؛ يقول أبو بكر: "يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى قدمه؛ لأبصرنا" (¬1)؛ يعني: إننا على خطر؛ كقول أصحاب موسى لما وصلوا إلى البحر: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء: 61]، وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم, لأبي بكر رضي الله عنه: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. فطمأنه وأدخل الأمن في نفسه, وعلل ذلك بقوله: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3653) , ومسلم (2381)؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

{إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}. وقوله: {لا تَحْزَنْ}: نهي يشمل الهم مما وقع وما سيقع؛ فهو صالح للماضي والمستقبل. والحزن: تألم النفس وشدة همها. {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}: وهذه المعية خاصة، مقيدة بالنبي صلى الله عليه وسلموأبي بكر، وتقتضي مع الإحاطة التي هي المعية العامة النصر والتأييد. ولهذا وقفت قريش على الغار, ولم يبصروهما! أعمى الله أبصارهم. وأما قول من قال: فجاءت العنكبوت فنسجت على باب الغار, والحمامة وقعت على باب الغار، فلما جاء المشركون, وإذا على الغار, حمامة وعش عنكبوت, فقالوا: ليس فيه أحد؛ فانصرفوا (¬1). فهذا باطل!! الحماية الإلهية والآية البالغة أن يكون الغار مفتوحاً صافياً؛ ليس فيه مانع حسي, ومع ذلك لا يرون من فيه، هذه هي الآية!! أما أن تأتي حمامة وعنكبوت تعشش؛ فهذا بعيد, وخلاف قوله: "لو نظر أحدهم إلى قدمه، لأبصرنا". ¬

_ (¬1) نسبه الهيثمي في "المجمع" (6/ 53) للبزار والطبراني وقال: "وفيه جماعة لا أعرفهم", ورواه ابن سعد في "الطبقات" (1/ 229) , وانظر "الضعيفة" للألباني (1128) فقد ضعفه.

الآية الرابعة: قوله: {إنني معكما أسمع وأرى}

المهم أن بعض المؤرخين – عفا الله عنهم – يأتون باشياء غريبة شاذة منكرة لا يقبلها العقل ولا يصح بها النقل. الآية الرابعة: قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]. هذا الخطاب موجه لموسى وهارون, لما أمرهما الله عز وجل أن يذهبا إلى فرعون؛ قال: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:43 - 46]. فقوله: {أَسْمَعُ وَأَرَى}: جملة استئنافية لبيان مقتضى هذه المعية الخاصة، وهو السمع والرؤية، وهذا سمع ورؤية خاصان تقتضيان النصر والتأييد والحماية من فرعون الذي قالا عنه: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}. الآية الخامسة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]. هذه جاءت بعد قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 126 - 127]. عقوبة الجاني بمثل ما عوقب به من باب التقوى, وأكثر ظلم وعدوان، والعفو إحسان, ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}. والمعية هنا خاصة مقيدة بصفة: كل من كان من المتقين

الآية السادسة: قوله: {واصبروا إن الله مع الصابرين}

المحسنين؛ فالله معه. وهذا يثمر لنا بالنسبة للحالة المسلكية: الحرص على الإحسان والتقوى؛ فإن كل إنسان يحب أن يكون الله معه. الآية السادسة: قوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46]. سبق لنا أن الصبر حبس النفس على طاعة الله, وحبسها عن معصية الله، وحبسها عن التسخط على أقدار الله؛ سواء باللسان أو بالقلب أو بالجوارح. وأفضل أنواع الصبر: الصبر على طاعة الله، ثم عن معصية الله لأن فيهما اختياراً: إن شاء الإنسان فعل المأمور، وإن شاء لم يفعل, وإن شاء ترك المحرم وإن شاء ما تركه, ثم على أقدار الله؛ لن أقدار الله واقعة شئت أم أبيت؛ فإما أن تصبر صبر الكرام وإما أن تسلو سلو البهائم. والصبر درجة عالية لا تنال إلا بشيء يصبر عليه, أما من فرشت له الأرض وروداً, وصار الناس ينظرون إلى مايريد؛ فإنه لا بد أن يناله شيء من التعب النفس أو البدني الداخلي أو الخارجي. ولهذا جمع الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بين الشكر والصبر. فالشكر؛ كان يقوم حتى تتورم قدماه, فيقول: "أفلا أكون

الآية السابعة: قوله: {كم من فئة قليلة. . . .}

عبداً شكوراً؟ " (¬1) والصبر: صبر على ما أوذي, فقد أوذي من قومه ومن غيرهم من اليهود والمنافقين، ومع ذلك؛ فهو صابر. الآية السابعة: قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. {كَمْ}: خبرية, تفيد التكثير؛ يعني: فئة قليلة غلبت فئة كثيرة عدة مرات، أو فئات قليلة متعددة غلبت فئات كثيرة متعددة، لكن لا بحولهم ولا بقوتهم، بل بإذن الله, أي: بإرادته وقدرته. ومن ذلك: أصحاب طالوت غلبوا عدوهم وكانوا كثيرين. أصحاب بدر خرجوا لغير قتال، بل لأخذ عير أبي سفيان, وأبو سفيان لما علم بهم؛ أرسل صارخاً إلى أهل مكة يقول: أنقذوا عيركم، محمد وأصحابه خرجوا إلينا يريدون أخذ العير. فيها أرزاق كثيرة لقريش، فخرجت قريش بأشرافها وأعيانها وخيلائها وبطرها، يظهرون القوة والفخر والعزة, حتى قال أبو جهل: والله؛ لا ترجع حتى نقدم بدراً فنقيم فيها ثلاثاً؛ ننحر الجزور، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب؛ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه وهو في الصحيحين.

الثمرات التي نستفيدها بأن الله معنا

فلا يزالون يهابوننا أبداً (¬1). فالحمد لله, غنوا على قتله هو ومن معه! كان هؤلاء القوم ما بين تسعمائة وألف، كل يوم ينحرون من الإبل تسعاً إلى عشر، والنبي عليه الصلاة والسلام هو أصحابه ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً, معهم سبعون بعيراً وفرسان فقط يتعاقبونها, ومع ذلك قتلوا الصناديد العظماء لقريش حتى جيفوا وانتفخوا من الشمس وسحبوا إلى قليب من قلب بدر خبيثة. فـ {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}؛ لأن الفئة القليلة صبرت، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}؛ صبرت كل أنواع الصبر؛ على طاعة الله, وعن معصية الله، وعلى ما أصابها من الجهد والتعب والمشقة في تحمل أعباء الجهاد، {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}. انتهت آيات المعية، وسيأتي للمؤلف رحمه الله فصل كامل في تقريرها. فما هي الثمرات التي نستفيدها بأن الله معنا؟ أولاً: الإيمان بإحاطة الله عز وجل بكل شيء, وأنه مع علوه ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري (6/ 262)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

إثبات الكلام لله تعالى

فهو مع خلقه، لا يغيب عنه شيء من أحوالهم أبداً. ثانياً: أننا إذا علمنا ذلك وآمنا به؛ فإن ذلك يوجب لنا كمال مراقبته بالقيام بطاعته وترك معصيته؛ بحيث لا يفقدنا حيث أمرنا, ولا يجدنا حيث نهانا, وهذه ثمرة عظيمة لمن آمن بهذه المعية. إثبات الكلام لله تعالى: الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على كلام الله تعالى وأن القرآن من كلامه تعالى. الآية الأولى والثانية: قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء: 87] {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122]. {وَمَنْ}: اسم استفهام بمعنى النفي, وإتيان النفي بصيغة الإستفهام أبلغ من إتيان النفي مجرداً؛ لأنه يكون بالاستفهام مشرباً معنى التحدي؛ كأنه يقول: لا أحد أصدق من الله حديثاً, وإذا كنت تزعم خلاف ذلك؛ فمن اصدق من الله؟ وقوله: {حَدِيثاً} و {قِيلاً}: تمييز لـ {أَصْدَقُ}. وإثبات الكلام في هاتين الآيتين يؤخذ من: قوله: {أَصْدَقُ}؛ لأن الصدق يوصف به الكلام, وقوله: {حَدِيثاً} لأن الحديث هو الكلام، ومن قوله في الآية الثانية: {قِيلاً}؛ يعني: قولاً, والقول لا يكون إلا باللفظ.

الآية الثالثة: قوله: {وإذ قال الله ياعيسى ابن مريم}

ففيهما إثبات الكلام لله عز وجل، وأن كلامه حق وصدق, ليس فيه كذب بوجه من الوجوه. الآية الثالثة: قوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة: 116]. قوله: {يَا عِيسَى}: مقول القول، وهي جملة من حروف: {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}. ففي هذا إثبات أن الله يقول: وأن قوله مسموع، فيكون بصوت, وأن قوله كلمات وجمل, فيكون بحرف. ولهذا كانت عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الله يتكلم بكلام حقيقي متى شاء, كيف شاء، بما شاء, بحرف وصوت، لا يماثل أصوات المخلوقين. "متى شاء ": باعتبار الزمن. "بما شاء": باعتبار الكلام؛ يعني: موضوع الكلام من أمر أو نهي أو غير ذلك. " كيف شاء": يعني على الكيفية والصفة التي يريدها سبحانه وتعالى. قلنا: إنه بحرف وصوت لا يشبه أصوات المخلوقين. الدليل على هذا من الآية الكريمة {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}: هذا حروف.

الآية الرابعة: قوله: {وتمت كلمة ربك}

وبصوت؛ لأن عيسى يسمع ما قال. لا يماثل أصوات المخلوقين؛ لأن الله قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. الآية الرابعة: قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام: 115]. {كَلِمَةُ}؛ بالإفراد، وفي قراءة {كَلِمَاتُ}؛ بالجمع, ومعناها واحد؛ لأن {كَلِمَةُ} مفرد مضاف فيعم. تمت كلمات الله عز وجل على هذين الوصفين: الصدق والعدل، والذي يوصف بالصدق الخبر، والذي يوصف بالعدل الحكم، ولهذا قال المفسرون: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام. فكلمات الله عز وجل في الأخبار صدق لا يعتريها الكذب بوجه الوجوه, وفي الأحكام عدل لا جور فيها بوجه من الوجوه. هنا وصفت الكلمات بالصدق والعدل. إذا؛ فهي أقوال؛ لأن القول هو الذي يقال فيه: كاذب أو صادق. الآية الخامسة: قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164].

الآية السادسة: قوله: {منهم من كلم الله}

{اللَّهُ}: فاعل؛ فالكلام واقع منه. {تَكْلِيماً}: مصدر مؤكد, والمصدر المؤكد –بكسر الكاف-؛ قال العلماء: إنه ينفي احتمال المجاز. فدل على أنه كلام حقيقي؛ لأن المصدر المؤكد ينفي احتمال المجاز. أرأيت لو قلت: جاء زيد. فيفهم أنه جاء هو نفسه، ويحتمل أن يكون المعنى جاء خبر زيد، وإن كان خلاف الظاهر, لكن إذا أكدت فقلت: جاء زيد نفسه. أو: جاء زيد. انتفى احتمال المجاز. فكلام الله عز وجل لموسى كلام حقيقي, بحرف وصوت سمعه, ولهذا جرت بينهما محاورة؛ كما في سورة طه وغيرها. {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة:253]. {مِنْهُمْ}؛أي: من الرسل {مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}: الاسم الكريم {اللَّهُ} فاعل كلم، ومفعولها محذوف يعود على {مَنْ} , والتقدير: كلمه الله. الآية السابعة: قوله: وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]. أفادت هذه الآية أن الكلام يتعلق بمشيئته, وذلك لأن الكلام صار حين المجيء., لا سابقاً عليه، فدل هذا على أن كلامه يتعلق بمشيئته. فيبطل به قول من قال: إن كلامه هو المعنى القائم بالنفس, وإنه لا يتعلق بمشيئته, وذلك لأن الكلام صار حين المجيء، لا سابقاً عليه، فدل هذا على أن كلامه يتعلق بمشيئته. فيبطل به قول من قال: إن كلامه هو المعنى القائم بالنفس,

الآية الثامنة: قوله: {وناديناه من جانب الطور}

وإنه لا يتعلق بمشيئته؛ كما تقوه الأشاعرة. وفي هذه الآية إبطال زعم من زعم أن موسى فقط هو الذي كلم الله, وحرف قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} إلى نصب الاسم الكريم؛ لأنه في هذه الآية لا يمكنه زعم ذلك ولا تحريفها. الآية الثامنة: قوله: وقوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً}. [مريم:52]. {وَنَادَيْنَاهُ}: ضمير الفاعل يعود إلى الله, وضمير المفعول يعود إلى موسى؛ أي: نادى الله موسى. {نَجِيّاً}: حال, وهو فعيل بمعنى مفعول؛ أي: مناجي. والفرق بين المناداة والمناجاة أن المناداة تكون للبعيد, والمناجاة تكون للقريب وكلاهما كلام. وكون الله عز وجل يتكلم مناداة ومناجاة داخل في قول السلف: "كيف شاء". فهذه الآية مما يدل على أن الله يتكلم كيف شاء مناداة كان الكلام أو مناجاة. الآية التاسعة: قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء:10]. {وَإِذْ نَادَى}؛ يعني: واذكر إذ نادى.

الآية العاشرة: قوله: {وناداهما ربهما}

والشاهد قوله: {رَبُّكَ مُوسَى}: فسر النداء بقوله: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. فالنداء يدل على أنه بصوت، و {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}: يدل على أنه بحرف. الآية العاشرة: قوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف:22]. {وَنَادَاهُمَا}: ضمير المفعول يعود على آدم وحواء. {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ}: يقرر أنه نهاهما عن تلكما الشجرة, وهذا يدل على أن الله كلمهما من قبل، وأن كلام الله بصوت وحرف، ويدل على أنه يتعلق بمشيئته؛ لقوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا}؛ فإن هذا القول بعد النهي، فيكون متعلقاً بالمشيئة. الآية الحادية عشرة: قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65]. يعني: واذكر يوم يناديهم، وذلك يوم القيامة, والمنادي هو الله عز وجل: {فَيَقُولُ}. وفي هذه الآية إثبات الكلام من وجهين: النداء والقول. وهذه الآيات تدل بمجموعها على أن الله يتكلم بكلام حقيقي، متى شاء, بما شاء, بحرف وصوت مسموع، لا يماثل أصوات المخلوقين. وهذه هي العقيدة السلفية عقيدة أهل السنة والجماعة.

إثبات أن القرآن كلام الله

إثبات أن القرآن كلام الله تعالى الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله. وهذه المسألة وقع فيها النزاع الكثير بين المعتزلة وأهل السنة, وحصل بها شر كثير على أهل, وممن أوذي في الله في ذلك الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة، الذي قال فيه بعض العلماء: "إن الله سبحانه وتعالى حفظ الإسلام (أو قال: نصره) بأبي بكر يوم الردة، وبالإمام أحمد يوم المحنة" (¬1). والمحنة: هو أن المأمون عفا الله عنا وعنه أجبر الناس على أن يقولوا بخلق القرآن, حتى إنه صار يمتحن العلماء ويقتلهم إذا لم يجيبوا, وأكثر العلماء رأوا أنهم في فسحة من الأمر، وصاروا يتأولون: إما بأن الحال حال إكراه, والمكره إذا قال الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان؛ فإنه معفو عنه. وإما بتنزيل اللفظ على غير ظاهره؛ يتأولون، فيقولون مثلاً: القرآن والتوراة والإنجيل والزبور؛ هذه مخلوقة. وهو يتأول أصابعه. ¬

_ (¬1) قاله علي بن المديني, فيما رواه عنه الحافظ عب الغني المقدسي في كتابه "محنة الإمام أحمد بن حنبل" (ج 31) , وانظر: "السير الأعلام النبلاء" (11/ 196).

الآية الأولى: قوله: {وإن أحد من المشركين استجارك}

أما الإمام أحمد ومحمد بن نوح رحمهما؛ فأبيا ذلك، وقالا: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق. ورأيا أن الإكراه في هذا المقام لا يسوغ لهما أن يقولا خلاف الحق؛ لأن المقام مقام جهاد, والإكراه يقتضي العفو إذا كانت المسألة شخصية؛ بمعنى أن تكون على الشخص نفسه، أما إذا كانت المسألة شخصية؛ بمعنى أن تكون على الشخص نفسه, أما إذا كانت المسألة لحفظ شريعة الله عز وجل. لو قال الإمام أحمد في ذلك الوقت: إن القرآن مخلوق, ولو بتأويل أو لدفع الإكراه؛ لقال الناس كلهم: القرآن مخلوق! وحينئذ يتغير المجتمع الإسلامي من أجل دفع الإكراه، لكنه صمم, فصارت العاقبة له، ولله الحمد. المهم أن القول في القرآن جزء من القول في كلام الله على العموم, لكن لما وقعت فيه المحنة، وصار محك النزاع بين المعتزلة وأهل السنة؛ صار الناس يفردون القول في القرآن بكلام خاص، والمؤلف رحمه الله من الآن ساق الآيات الدالة على أن القرآن كلام الله في آيات متعددة. الآية الأولى: قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]. {أَحَدٌ}: هذه اسم, و {وَإِنْ}: أداة الشرط, والاسم إذا ولي أداة الشرط؛ فقد ولي أداة لا يليها إلا الفعل، فاختلف النحويون في هذا:

فقال بعضهم: إنه فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده, وعليه يكون {أَحَدٌ} فاعل لفعل محذوف, والتقدير: وإن استجارك أحد من المشركين؛ فأجره، ومثلها: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فـ {السَّمَاءُ} فاعل لفعل محذوف, والتقدير: إذا انشقت السماء. القول الثاني: وهو قول الكوفيين وهم في الغالب أسهل من البصريين: أن {أَحَدٌ} فاعل مقدم، والفعل استجارك مؤخر, ولا حاجة للتقدير. القول الثالث: أن ورود الأسماء بعد أدوات الشرط في القرآن كثيراً يدل على عدم امتناعه، وعلى هذا القول يكون الإسم الواقع بعد أداة الشرط مبتدأ إذا كان مرفوعاً، فيكون {أَحَدٌ}: مبتدأ, و {اسْتَجَارَكَ}: خبر المبتدأ. والقاعدة عندي أن ما كان أسهل من أقوال النحويين؛ فهو المتبع، حيث لا مانع شرعاً من ذلك. قوله: {اسْتَجَارَكَ}؛ أي: طلب جوارك، والجوار: بمعنى العصمة والحماية. {حَتَّى يَسْمَعَ}: {حَتَّى}: للغاية؛ والمعنى: إن أحد استجارك ليسمع كلام الله؛ فأجره حتى سمع كلام الله؛ أي: القرآن، وهذا بالاتفاق. وإنما قال: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ}؛ لأن سماع كلام الله عز وجل مؤثر ولا بد كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ

عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن وأدلتهم على ذلك

قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37]، وكم من إنسان سمع كلام الله فآمن, لكن بشرط أن يكون يفهمه تماماً. وقوله: {كَلامَ اللَّهِ}: أضاف الكلام إلى نفسه, فقال: {كَلامَ اللَّهِ} , فدل هذا على أن القرآن كلام الله، وهو كذلك. وعقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن؛ يقولون: إن القرآن كلام الله, منزل, غير مخلوق منه بدأ, وإليه يعود. قولهم: "منزل": دليلة قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] , وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] , وقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} [الإسراء:106]. وقولهم: "غير مخلوق": دليله: قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]؛ فجعل الخلق شيئاً والأمر شيئاً آخر؛ لأن العطف يقتضي المغايرة, والقرآن من الأمر؛ بدليل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52]؛ فإذا كان القرآن أمراً, وهو قسيم للخلق؛ صار غير مخلوق؛ لأنه لو كان مخلوقاً؛ ما صح التقسيم. وهذا دليل سمعي. أما الدليل العقلي؛ فنقول: القرآن كلام الله، والكلام ليس

قولهم: "وإليه يعود" في معناه وجهان

عيناً قائمة بنفسها حتى يكون بائناً من الله، ولو كان عيناً قائمة بنفسها بائنة من الله؛ لقلنا: إنه مخلوق, لكن الكلام صفة للمتكلم به، فإذا كان صفة للمتكلم به، وكان من الله؛ كان غير مخلوق؛ لأن صفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة. وأيضاً؛ لو كان مخلوقاً؛ لبطل مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة. لكانت مجرد أشكال خلقت على هذه الصورة لا دلالة لها على معناها؛ كما يكون شكل النجوم والشمس والقمر ونحوها. وقولهم: "منه بدأ"؛ أي: هو الذي ابتدأ به، وتكلم به أولاً. والقرآن أضيف إلى الله وإلى جبريل وإلى محمد, صلى الله عليه وسلم. مثال الأول: قول الله عز وجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] , فيكون منه بدأ؛ أي: من الله جل جلاله, ومنه: حرف جر وضمير قدم على عامله لفائدة الحصر والاختصاص. ومثال الثاني -إضافته إلى جبريل-: قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19 - 20]. ومثال الثالث- إضافته إلى محمد عليه الصلاة والسلام -: قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحافة: 40 - 41] , لكن أضيف إليها لأنهما يبلغانه، لا لأنهما ابتدأاه. وقولهم: "وإليه يعود": في معناه وجهان:

الأول: أنه كما جاء في بعض الآثار: يسرى عليه في ليلة, فيصبح الناس ليس بين أيديهم قرآن؛ لا في صدورهم, ولا في مصاحفهم, يرفعه الله عز وجل (¬1). وهذا-والله أعلم-حينما يعرض عنه الناس إعراضاً كلياً؛ لا يتلونه لفظاً ولا عقيدة ولا عملاً؛ فإنه يرفع؛ لأن القرآن أشرف من أن يبقى بين يدي أناس هجروه وأعرضوا عنه فلا يقدرونه قدره، وهذا-والله أعلم-نظير هدم الكعبة في آخر الزمان (¬2)؛ حيث يأتي رجل من الحبشة قصير أفحج أسود, يأتي بجنوده من البحر إلى المسجد الحرام، وينقض على الكعبة حجراً حجراً، كلما نقض حجراً؛ مده للذي يليه .... وهكذا يتمادون الأحجار إلى أن يرموها في البحر، والله عز وجل يمكنهم من ذلك، مع أن أبرهة جاء بخيله ¬

_ (¬1) لما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "لينزعن القآن من بين أظهركم, يسري عليه ليلاً فيذهب من أجواف الرجال, فلا يبقى في الأرض منه شيء", ورواه الطبراني, ورجاله رجال الصحيح غير شداد بن معقل وهو ثقة. كما في"مجمع الزوائد" (7/ 330) , وقال ابن حجر: سنده صحيح لكنه موقوف "فتح الباري" (13/ 16) , وقد صح مرفوعاً نحوه من حديث حذيفة, رواه ابن ماجة وقوى إسناده الحافظ في "الفتح" (13/ 16) , وانظر "الصحيحة" للألباني (87). (¬2) لمار رواه الإمام أحمد (2/ 220) عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرب الكعبة ذو السويقين من الحبشة, ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها, ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمداته مهولة" , وعند البخاري (1591) , ومسلم (2909)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقين من الحبشة", وانظر كتاب "أشراط الساعة" للشيخ يوسف الوابل (ص 231).

مخالفة المعتزلة لأهل السنة والجماعة وأدلتهم والرد

ورجله وفيله فصمه الله قبل أن يصل إلى المسجد هيبته وعظمته، ولكن آخر الزمان لن يبعث نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا أعرض الناس عن تعظيم هذا البيت نهائياً؛ فإنه يسلط عليه هذا الرجل من الحبشة؛ فهذا نظير رفع القرآن. والله أعلم. الوجه الثاني: في معنى قولهم: "وإليه يعود": أنه يعود إلى الله وصفاً؛ أي أنه لا يوصف به أحد سوى الله فيكون المتكلم بالقرآن هو الله عز وجل، وهو الموصوف به. ولا مانع أن نقول: إن المعنيين كلاهما صحيح. هذا كلام أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم. ويرى المعتزلة أن القرآن مخلوق، وليس كلام الله! ويستدلون لذلك بقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] , والقرآن شيء, فيدخل في عموم قوله: {كُلِّ شَيْءٍ} , ولأنه ما ثم إلا خالق ومخلوق, والله خالق, وما سواه مخلوق. والجواب من وجهين: الأول: أن القرآن كلام الله تعالى، وهو صفة من صفات الله, وصفات الخالق غير مخلوقة. الثاني: أن مثل هذا التعبير {كُلِّ شَيْءٍ} عام قد يراد به الخاص؛ مثل قوله تعالى عن ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}

[النمل:23]، وقد خرج شيء كثير لم يدخل في ملكها منه شيء؛ مثل ملك سليمان. فإن قال قائل: هل هناك فرق كبير بين قولنا: إنه منزل, وقولنا: إنه مخلوق؟ فالجواب: نعم؛ بينهما فرق كبير، جرت بسببه المحنة الكبرى في عصر الإمام أحمد. فإذا قلنا: إنه منزل. فهذا ما جاء به القرآن؛ قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]. وإذا قلنا: إنه مخلوق. لزم من ذلك: أولاً: تكذيب للقرآن؛ لأن الله يقول: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، فجعله الله تعالى موحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام, ولو كان مخلوقاً؛ ما صح أن يكون موحى؛ فإذا كان وحياً لزم ألا يكون مخلوقاً؛ لأن الله هو الذي تكلم به. ثانياً: إذا قلنا: إنه مخلوق؛ فإنه يلزم على ذلك إبطال مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة؛ لكانت مجرد شكل خلق على هذه الصورة؛ كما خلقت الشمس على صورتها, والقمر على صورته، والنجم على صورته .. وهكذا, ولم تكن أمراً ولا نهياً ولا خبراً ولا استخباراً؛ فمثلاً: كلمة (قل) (لا تقل) (قال فلان) (هل قال فلان) كلها نقوش على هذه الصورة, فتبطل دلالتها على الأمر والنهي

والخبر والاستخبار, وتبقى كأنها صور ونقوش لا تفيد شيئاً. ولهذا قال ابن القيم في "النونية": "إن هذا القول يبطل به الأمر والنهي؛ لأن الأمر كأنه شيء خلق على هذه الصورة دون أن يعتبر مدلوله، والنهي خلق على هذه الصورة دون أن يعتبر مدلوله, والنهي خلق على هذه الصورة دون أن يقصد مدلوله، وكذلك الخبر والاستخبار". ثالثاً: إذا قلنا: إن القرآن مخلوق، وقد أضافه إلى نفسه إضافة خلق؛ صح أن نطلق على كل كلام من البشر وغيرهم أنه كلام الله؛ لأن كل كلام الخلق مخلوق، وبهذا التزم أهل الحلول والاتحاد؛ حيث يقول قائلهم: وكل كلام في الوجوه كلامه ... سواء علينا نثره ونظامه (¬1) وهذا اللازم باطل، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم. فهذه ثلاثة أوجه تبطل القول بأنه مخلوق. والوجه الرابع: أن نقول: إذا جوزتم أن يكون الكلام-وهو معنى لا يقوم إلا بمتكلم – مخلوقاً؛ لزمكم أن تجوزوا أن تكون جميع صفات الله مخلوقة؛ إذ لا فرق؛؛ فقولوا إذا: سمعه مخلوق, وبصره مخلوق .... وهكذا. فإن أبيتم إلا أن تقولوا: إن السمع معنى قائم بالسامع لا ¬

_ (¬1) البيت لابن عربيو وقد ذكره في كتابه "الفتوحات المكية" (4/ 141) , انظر: "منهاج السنة" لشيخ الإسلام (2/ 373).

الآية الثانية: قوله: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله}

يسمع منه ولا يرى، بخلاف الكلام؛ فإنه جائز أن الله يخلق أصواتاً في الهواء فتسمع!! قلنا لكم: لو خلق أصواتاً في الهواء، فسمعت؛ لكان المسموع وصفاً للهواء, وهذا أنتم بأنفسكم لا تقولوه؛ فكيف تعيدون الصفة إلى غير موصوفها؟! هذه وجوه أربعة كلها تدل على أن القول بخلق القرآن باطل، ولو لم يكن منه إلى إبطال الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لكان ذلك كافياً. الآية الثانية: قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75]. هذا في سياق قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}؛ يعني: لا تطمعون أن يؤمنوا لكم؛ أي: اليهود. {فَرِيقٌ مِنْهُمْ}: طائفة منهم، وهم علماؤهم. {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ}: يحتمل أن يراد به القرآن, وهو ظاهر صنيع المؤلف، فيكون دليلاً على أن القرآن كلام الله. ويحتمل أن يراد به كلام الله تعالى لموسى حين اختار موسى سبعين رجلاً لميقات الله تعالى، فكلمه الله وهم يسمعون, فحرفوا كلام الله تعالى من بعدما عقلوه وهم يعلمون. ولم أر الاحتمال الأول لأحد من المفسرين. أيا كان؛ ففيه إثبات أن كلام الله بصوت مسموع, والكلام

الآية الثالثة: قوله: {يريدون أن يبدلوا كلام الله}

صفة المتكلم, وليس شيئاً بائناً منه؛ فوجب أن يكون القرآن كلام الله لا كلام غيره. {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: {يُحَرِّفُونَهُ}: أي: يغيرون معناه. وقوله:: {مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}: {يُحَرِّفُونَهُ} هذا أشد في قبح عملهم وجرأتهم على الله سبحانه وتعالى: أن يحرفوا الشيء من بعد ما عقلوه ووصل إلى عقولهم وهم يعلمون أنهم محرفون له؛ لأن الذي يحرف المعنى عن جهل أهون من الذي يحرفه بعد العقل والعلم. {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:15]. في هذه الآية إثبات أن القرآن كلام الله؛ لقوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}. والضمير يعود على الأعراب الذين قال الله فيهم: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح: 15]؛ فهؤلاء أرادوا أن يبدلوا كلام الله, فيخرجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام, ولكن الله تعالى إنما كتب المغانم لقوم معينين, للذين غزوا في الحديبية, وأما من تبعوه لأخذ الغنائم فقط؛ فلا حق لهم فيها.

الآية الرابعة: قوله: {واتل ما أوحي إليك. . . .}

وفي الآية ايضاً إثبات القول لله تعالى؛ لقوله: {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ}. الآية الرابعة: قوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27]. قوله: {مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ}؛ يعني: القرآن, والوحي لا يكون إلا قولاً؛ فهو إذا غير مخلوق. وقوله: {مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ}: أضافه إليه سبحانه وتعالى؛ لأنه هو الذي تكلم به، أنزله على محمد, صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل الأمين. {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}؛ يعني: لا أحد يبدل كلمات الله, أما الله عز وجل؛ فيبدل آية مكان آية؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل: 101]. وقوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}: يشمل الكلمات الكونية والشرعية: أما الكونية: فلا يستثنى منها شيء, لا يمكن لأحد أن يبدل كلمات الله الكونية: إذا قضي الله على شخص بالموت؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك. إذا قضى الله تعالى بالفقر؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك. إذا قضى الله تعالى بالفقر؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك.

الآية الخامسة: قوله: و {إن هذا القرآن. . . .}

إذا قضى الله تعالى بالجدب؛ ما استطاع أحد أن يبدل ذلك. وكل هذه الأمور التي تحدث في الكون؛ فإنها بقوله؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. أما الكلمات الشرعية؛ فإنها قد تبدل من قبل أهل الكفر والنفاق، فيبدلون الكلمات: إما بالمعنى، وإما باللفظ إن استطاعوا، أو بهما. وفي قوله: {لِكَلِمَاتِهِ} دليل على أن القرآن كلام الله تعالى. الآية الخامسة: قوله: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]. الشاهد قوله: {يَقُصُّ} , والقصص لا يكون إلا قولاً؛ فإذا كان القرآن هو الذي يقص؛ فهو كلام الله؛ لأن الله تعالى هو الذي قص هذه القصص؛ قال الله سبحانه وتعالى لأن الله تعالى هو الذي يقص؛ فهو كلام الله؛ لأن الله تعالى هو الذي قص هذه القصص؛ قال الله سبحانه وتعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3] , وحينئذ يكون القرآن كلام الله عز وجل.

إثبات أن القرآن منزل

إثبات أن القرآن منزل من الله تعالى الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله الآيات التي فيها أن القرآن منزل من الله تعالى: الآية الأولى: قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام:155]. {وَهَذَا كِتَابٌ}؛ أي: مكتوب؛ لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ, ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة, ومكتوب في المصاحف التي بأيدينا. وقوله: {مُبَارَكٌ}؛ أي: ذو بركة. فهو مبارك؛ لأنه شفاء لما في الصدور, إذا قرأه الإنسان بتدبر وتفكر؛ فإنه يشفي القلب من المرض, وقد قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]. مبارك في إتباعه؛ إذ به صلاح الأعمال الظاهرة والباطنة. مبارك في اثاره العظيمة؛ فقد جاهد المسلمون به بلاد الكفر؛ لأن الله يقول: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً} [الفرقان:52]، والمسلمون فتحوا مشارق الأرض ومغاربها بهذا القرآن حتى ملكوها, ولو رجعنا إليه؛ لملكنا مشارق الأرض ومغاربها بهذا القرآن حتى ملكوها, ولو رجعنا إليه؛ لملكنا مشارق الأرض ومغاربها؛ كما ملكها أسلافنا, ونسأل الله ذلك.

الآية الثانية: قوله: {لو أنزلنا هذا القرآن. . . .}

مبارك في أن من قرأه؛ فله بكل حرف عشر حسنات (¬1)؛ فكلمة (قال) مثلاً فيها ثلاثون حسنة, وهذا من بركة القرآن؛ فنحن نحصل خيرات كثيرة لا تحصى بقراءة آيات وجيزة من كلام الله عز وجل. والحاصل: أن القرآن كتاب مبارك؛ فكل أنواع البركة حاصلة بهذا القرآن العظيم. والشاهد في قوله: {أنْزَلْنَاهُ}. وثبوت نزوله من الله دليل على أنه كلامه. الآية الثانية: قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]. الجبل من أقسى ما يكون, والحجارة التي منها تتكون الجبال هي مضرب المثل في القساوة؛ قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]، ولو نزل هذا القرآن على جبل؛ لرأيت هذا الجبل خاشعاً متصدعاً من خشية الله. ¬

_ (¬1) لما رواه التروذي (2910) واللفظ لهو والدارمي (3190) , والحاكم (1/ 555) وصححه, وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 263) , من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنةو والحسنة بعشر أمثالها, لا أقول الم حرف, ولكن ألف حرف, ولام حرف, وميم حرف". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.

{خَاشِعاً}؛ أي: ذليلاً. ومن شدة خشيته لله يكون {مُتَصَدِّعاً} يتفلق ويتفتق. وهو ينزل على قلوبنا, وقلوبنا –إلا أن يشاء الله –تضمر وتقسو لا تتفتح ولا تتقبل. فالذين آمنوا إذا نزلت عليهم الآيات؛ زادتهم إيماناً، والذين في قلوبهم مرض؛ تزيدهم رجساً إلى رجسهم؛ والعياذ بالله! ومعنى ذلك: أن قلوبهم تتصلب وتقسو أكثر وتزداد رجساً إلى رجسها, نعوذ بالله من ذلك! وهذا القرآن لو أنزل على جبل؛ لتصدع الجبل وخشع؛ لعظمة ما أنزل عليه من كلام الله. وفي هذا دليل على أن للجبل إحساساً؛ لأنه يخشع ويتصدع, والأمر كذلك, قال النبي صلى الله عليه وسلم في أحد: "هذا أحد جبل يحبنا ونحبه" (¬1). وبهذا الحديث نعرف الرد على المثبتين للمجاز في القرآن, والذي يرفعون دائماً علمهم مستدلين بهذه الآية: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]؛ يقول: كيف يريد الجدار؟! فنقول: يا سبحان الله! العليم الخبير يقول: {يُرِيدُ أَنْ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4422) , ومسلم (1392)؛ عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه.

الرد على المثبتين للمجاز

يَنْقَضَّ} , وأنت تقول: لا يريد! أهذا معقول؟ فليس من حقك بعد هذا أن تقول: كيف يريد؟! وهذا يجعلنا نسأل أنفسنا: هل نحن أوتينا علم كل شيء؟ فنجيب بالقول بأننا ما أوتينا من العلم إلا قليلاً فقول من يعلم الغيب والشهادة: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}: لا يسوغ لنا أن نعترض عليه, فنقول: لا إرادة للجدار! ولا يريد أن ينقض! وهذا من مفاسد المجاز؛ لأنه يلزم منه نفي ما أثبته القرآن. أليس الله تعالى يقول: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]؛ هل تسبح بلا إرادة؟! يقول: {تُسَبِّحُ لَهُ}: اللام للتخصيص؛ إذا؛ هي مخلصة, وهل يتصور إخلاص بلا إرادة؟! إذا؛ هي تريد وكل شيء يريد لأن الله يقول: {إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ} , واظنه لا يخفى علينا جميعاً أن هذا من صيغ العموم؛ فـ (إن): نافية بمعنى (ما) , و {مِنْ شَيْءٍ}: نكرة في سياق النفي, {إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} , فيعم كل شيء. فيا أخي المسلم! إذا رأيت قلبك لا يتأثر بالقرآن؛ فاتهم نفسك؛ لأن الله أخبر أن هذا القرآن لو أنزل على جبل لتصدع، وقلبك يتلى عليه القرآن, ولا يتأثر. اسأل الله أن يعينني وإياكم.

الآية الثالثة والرابعة والخامسة: قوله: {وإذا بدلنا آية مكان آية. . . .}

الآية الثالثة والرابعة والخامسة: قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 101 - 103]. قوله عز وجل {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}: قوله: {بَدَّلْنَا}؛ أي: جعلنا آية مكان آية, وهذا إشارة إلى النسخ المذكور في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]، فالله سبحانه إذا نسخ آية؛ جعل بدلها آية, سواء نسخها لفظاً, أو نسخها حكماً. وقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ}: هذه جمله اعتراضية, وهي من أحسن ما يكون في هذا الموضع, والمعنى أن تبديلنا للآية ليس سفهاً وعبثاً, بل هو صادر عن علم بما يصلح الخلق، فنبدل آية مكان آية؛ لعلمنا أن ذلك أصلح للخلق وأنفع لهم. وفيها أيضاً فائدة أخرى، وهي أن هذا التبديل ليس من عمل الرسول عليه الصلاة والسلام. بل هو من الله, أنزله بعلمه, وأبدل آية مكان آية بعلمه، وليس منك أيها الرسول.

قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15]؛ فماذا كان الجواب؟ كان الجواب بأن أجاب عن شيء من كلامهم وترك شيئاً فقال تعالى {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس:15]، ولم يقل: ولا أتي بقرآن غيره. لماذا؟ لأنه قد يأتي بتبديل من عنده، وإذا كان لا يمكنه تبديله؛ فالإتيان بغيره أولى بالامتناع. فالمهم: أن الذي يبدل آية مكان آية، سواء لفظها أو حكمها, هو الله سبحانه. قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ}: الجملة جواب {وَإِذَا}. قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ}: الخطاب هنا لمحمد, صلى الله عليه وسلم. قوله: {مُفْتَرٍ}؛ أي: كذاب, بالأمس تقول لنا كذا, واليوم تقول لنا كذا, هذا كذب، بالأمس تقول لنا كذا، واليوم تقول لنا كذا، هذا كاذب, إنما أنت مفتر!! لكن هذا القول الذي يقولونه إزاء إتيانه بآية مكان آية هو قول سفه, ولو أمعنوا النظر؛ لعلموا علم اليقين أن الذي يأتي بآية مكان آية هو الله سبحانه، وذلك يدل على صدقه, صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكذاب يحذر غاية الحذر أن يأتي بكلام غير كلامه الأول؛ لأنه يخشى أن يطلع على كذبه، فلو كان كاذباً كما يدعون أن ذلك من علامة الكذب؛ ما أتى بشيء يخالف الأول؛ لأنه إذا أتى بشيء يخالف الأول على زعمهم تبين كذبه بل إتيانه بما يخالف الأول دليل على صدقه بلا شك.

ولهذا قال هنا: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} , وهذا إضراب إبطالي؛ معناه: بل لست مفترياً, ولكن أكثرهم لا يعلمون, ولو أنهم كانوا من ذوي العلم لعلموا أنه إذا بدلت آية مكان آية فإنما ذلك دليل على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام. قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ}: {رُوحُ الْقُدُسِ}: هو جبريل، ووصفه بذلك لطهارته من الخيانة عليه الصلاة والسلام. ولهذا قال في آية أخرى {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:19 - 20]. قوله: {مِنْ رَبِّكَ} قال: {مِنْ رَبِّكَ} , ولم يقل: من رب العالمين؛ إشارة إلى الربوبية الخاصة؛ ربوبية الله للنبي, صلى الله عليه وسلم, وهي ربوبية أخص الخاصة. وقوله: {بِالْحَقِّ}: إما أن يكون وصفاً للنازل أو للمنزول به. فإن كان وصفاً للنازل؛ فمعناه: أن نزوله حق، وليس بكذب. وإن كان وصفاً للمنزول به؛ فمعناه: أن ما جاء به فهو حق. وكلاهما مراد؛ فهو حق من عند الله, ونازل بالحق. قال الله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} [الإسراء:105] , فالقرآن حق، وما نزل به حق. قوله: {ليثبت الذين آمنوا}: هذا تعليل وثمرة عظيمةو ويثبت الذين آمنوا به, ويمكنهم من الحق, ويقويهم.

قوله: {وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}؛ أي: هدى يهتدون به، ومناراً يستنيرون به، وبشارة لهم يستبشرون به. بشارة؛ لأن من عمل به، واستسلم له كان ذلك دليلاً على أنه من أهل السعادة، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 5 - 7]. ولهذا ينبغي للإنسان أن يفرح إذا رأى من نفسه الخير والثبات عليه والإقبال عليه، يفرح؛ لأن هذه بشارة له؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حدث أصحابه؛ قال "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار". قالوا أفلا ندع العمل ونتكل؟ قال: "لا؛ اعملوا؛ فكل ميسر لما خلق له"، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5 - 10] (¬1) ". فإذا رأيت من نفسك أن الله عز وجل قد من عليك بالهداية, والتوفيق والعمل الصالح ومحبة الخير وأهل الخير؛ فأبشر؛ فإن في هذا دليلاً على أنك من أهل اليسرى, الذين كتبت لهم السعادة. ولهذا قال هنا: {وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4945) , ومسلم (2647)؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ}؛ قال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ} , ولم يقل: لقد علمنا؛ لأن قولهم هذا يتجدد, فكان التعبير بالمضارع أولى من التعبير بالماضي؛ لأنه لو قال: لقد علمنا؛ لتبادر إلى ذهن بعض الناس أن المعنى: علمنا أنهم قالوا ذلك سابقاً, لا أنهم يستمرون عليه. وسبب نزول هذه الآية أن قريشاً قالت: إن هذا القرآن الذي يأتي به محمد ليس من عند ربه، وإنما هو من شخص يعلمه ويقص عليه من قصص الأولين، ويأتي ليقول لنا: هذا من عند الله! أعوذ بالله!! ادعوا أنه كلام البشر! والعجيب أنهم يدعون أنه كلام بشر، ويقال لهم: ائتوا بمثله, ولا يستطيعون!! وقد أبطل الله افتراءهم هذا بقوله تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} , ومعنى {يُلْحِدُونَ} يميلون؛ لأن قولهم هذا ميل عن الصواب بعيد عن الحق. والأعجمي: هو الذي لا يفصح بالكلام, وإن كان عربياً, والعجمي بدو همزة هو: المنسوب إلى العجم وإن كان يتكلم العربية. فلسان هذا الذي يلحدون إليه أعجمي لا يفصح بالكلام العربي. وأما القرآن؛ فإن الله قال فيه: {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ

مُبِينٌ}. بين في نفسه مبين لغيره. فالقرآن كلام عربي، وهو أفصح الكلام, كيف يأتي من هذا الرجل الأعجمي، الذي لسانه لا يفصح بالكلام؟! والشاهد هو قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} , وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} , وقوله {وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}. وكل هذه تدل على أن القرآن كلام الله تعالى منزل من عنده. والمؤلف ترك الآية التي بعدها؛ لأنه ليس فيها شاهد, ولكنها مفيدة؛ فنذكرها: قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل:104 - 105]. ومعنى هذه الآية: أن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله ولا ينتفعون بآياته، والعياذ بالله؛ فالهداية مسدودة عليهم. وهذه الحقيقة فيها فائدة كبيرة، وهي: أن من لم يؤمن بآيات الله لا يهديه الله ومفهوم المخالفة فيها: أن من آمن بآيات الله؛ هداه الله. مثال ذلك: أننا نجد من لم يؤمن بالآيات؛ لم يهتد لبيان وجهها؛ مثل قول بعضهم: يكف ينزل الله إلى السماء الدنيا وهو في العلو؟!

ما نستفيد من الناحية المسلكية من هذه الآيات

فنقول: آمن تهتد! فإذا آمنت بأنه ينزل حقيقة علمت أن هذا ليس بمستحيل: لأنه في جانب الله عز وجل، ولا يماثله شيء. ونجد من يقول في قوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77]: كيف يريد الجدار؟ فنقول: آمن بأن الجدار يريد أن يتبين لك أن هذا ليس بغريب. وهذه قاعدة ينبغي أن تكون أساسية عندك، وهي: آمن تهتد! والذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله، ويبقى القرآن عليهم عمى-والعياذ بالله - ولا يستطيعون الاهتداء به، نسأل الله لنا ولكم الهداية. ما نستفيده من الناحية المسلكية من هذه الآيات: نستفيد أننا إذا علمنا أن هذا القرآن تكلم به رب العالمين؛ أوجب لنا ذلك تعظيم هذا القرآن, واحترامه, وامتثال ما جاء فيه من الأوامر, وترك ما فيه من المنهيات والمحذورات, وتصديق ما جاء فيه من الأخبار عن الله تعالى وعن مخلوقاته السابقة واللاحقة.

إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة الشرح: ذكر المؤلف رحمه الله آيات إثبات رؤية الله تعالى. الآية الأولى: قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ}؛ يعني بذلك اليوم الآخر. قوله: {نَاضِرَةٌ}؛ أي: حسنة، من النضارة؛ بالضاد, وهي: الحسن، يدل على ذلك قوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان:11]؛ أي: حسناً في وجوههم, وسروراً في قلوبهم. قوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}: {نَاظِرَةٌ}؛ بالظاء, من النظر, وهنا عدي النظر بـ (إلى) الدالة على الغاية، وهو نظر صادر من الوجوه، والنظر الصادر من الوجوه يكون بالعين؛ بخلاف النظر الصادر من القلوب؛ فإنه يكون بالبصيرة والتدبر والتفكر؛ فهنا صدر النظر من الوجوه إلى الرب عز وجل؛ لقوله: {إِلَى رَبِّهَا}. فنفيد الآية الكريمة: أن هذه الوجوه الناضرة الحسنة تنظر إلى ربها عز وجل، فتزداد حسناً إلى حسنها. وانظر كيف جعل هذه الوجوه مستعدة متهيئة للنظر إلى وجه الله عز وجل؛ لكونها نضرة حسنة متهيئة للنظر إلى وجه الله. ففي هذه الآية دليل على أن الله عز وجل يرى بالأبصار

وهذا هو قول أهل السنة والجماعة. واستدلوا لذلك بالآيات التي ساقها المؤلف, واستدلوا أيضاً بالأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي نقلها عنه صحابة كثيرون ونقلها عن هؤلاء الصحابة تابعون (¬1) كثيرون, ونقلها عن التابعين من تابع التابعين كثيرون. وهكذا. والنصوص فيها قطعية الثبوت والدلالة؛ لأنها في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله, صلى الله عليه وسلم المتواترة. وأنشدوا في هذا المعنى: مما تواتر حديث من كذب ... ومن بنى لله بيتاً واحتسب ورؤية شفاعة والحوض ... ومسح خفين وهذي بعض فالمراد بقوله: "ورؤية" رؤية المؤمنين لربهم. وأهل السنة والجماعة يقولون: إن النظر هنا بالبصر حقيقة. ولا يلزم منه الإدراك؛ لأن الله تعالى يقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103]؛ كما أن العلم بالقلب أيضاً لا يلزم منه الإدراك؛ قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110]. ونحن نعلم ربنا بقلوبنا, لكن لا ندرك كيفيته وحقيقته, وفي ¬

_ (¬1) انظر: "شرح السنة" للالكائي (ص 480) , و"الشريعة" للآجري (ص 251) , "والسنة" لعبد الله بن الإمام أحمد (1/ 299) , وكتاب "الرؤية " للإمام الدارقطني, و"حادي الأرواح" لابن القيم (204).

الآية الثانية: قوله: {على الأرائك ينظرون}

يوم القيامة نرى ربنا بأبصارنا، ولكن لا تدركه أبصارنا. الآية الثانية: قوله: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:23]. {الأَرَائِكِ}: جمع أريكة، وهي السرير الجميل المغطى بما يشبه الناموسية. {يَنْظُرُونَ}: لم يذكر المنظور إليه، فيكون عاماً لكل ما يتنعمون بالنظر إليه. وأعظمه وأنعمه النظر إلى الله تعالى؛ لقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24]؛ فسياق الآية يشبه قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}؛ فهم ينظرون إلى كل ما يتنعمون بالنظر إليه. ومنه النظر إلى قرناء السوء يعذبون في الجحيم؛ كما قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ} قال أي: لأصحابه: {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}: {هَلْ}. للتشويق يطلعون على ماذا؟! على هذا القرين، {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}!! أعوذ بالله! رآه في سوائها أي: في أصلها، وقعرها, سبحان الله هذا في أعلى عليين, وهذا في أسفل سافلين, وينظر إليه مع بعد المسافة العظيمة! لكن نظر أهل الجنة ليس كنظر أهل الدنيا، هناك ينظر الإنسان في ملكه في الجنة مسيرة ألفي عام ينظر أقصاه كما ينظر أدناه, من كمال النعيم؛ لأن الإنسان لو كان نظره كنظره في الدنيا؛

ما استمتع بنعيم الجنة؛ لأنه ينظر إلى مدى قريب, فيخفى عليه شيء كثير منه. اطلع من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، فرآه في سواء الجحيم، قال يخاطبه: {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ}؛ وهذا يدل على أنه كان دائماً يحاول أن يضله, ولهذا قال: {إِنْ كِدْتَ} , وهذا يدل على أنه كان دائماً يحاول أن يضله, ولهذا قال: {إِنْ كِدْتَ}؛ يعني: إنك قاربت, و {إِنْ} هذه المخففة لا الثقيلة, {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ} إلى آخر الآيات [الصافات: 54 - 58]. أقول: إن الناس سابقاً يمارون في مثل هذا؛ كيف يكون في أعلى مكان ويخاطب من ينظر إليه ويكلمه في أسفل مكان؟! ولكن ظهرت الآن أشياء من صنع البشر؛ كالأقمار الصناعية، والهواتف التليفزيونية .... وغير ذلك؛ يرى الإنسان م خلالها من يكلمه وينظر إليه وهو بعيد. مع أنه لا يمكن أن نقيس ما في الآخرة على ما في الدنيا. إذاً؛ {يَنْظُرُونَ}: عامة: ينظرون إلى الله، وينظرون مالهم من النعيم، وينظرون ما يحصل لأهل النار من العذاب. إذا قال قائل: هذا فيه إشكال!! كيف ينظرون إلى أهل النار ينكتون عليهم ويوبخونهم؟! فنقول: والله؛ ما أكثر ما أذاق أهل النار أهل الجنة في الدنيا من العذاب والبلاء والمضايقة!!

الآية الثالثة: قوله: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة}

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}: يضحكون سواء في مجالسهم, أو معهم, {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ}؛ أي: انقلبوا متنعمين بأقوالهم، {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ ...}! قال الله تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ...} [المطففين: 29 - 35]؛ ينظرون إليهم وهم-والعياذ بالله –في سواء الجحيم. إذاً؛ يكون هذا من تمام عدل الله عز وجل؛ بأن جعل هؤلاء الذين كانوا يضايقون في دار الدنيا، جعلهم الآن يفرحون بنعمة الله عليهم، ويوبخون هؤلاء الذين في سواء الجحيم. الآية الثالثة: قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. قوله: {لِلَّذِينَ}: خبر مقدم. و {الْحُسْنَى}: مبتدأ مؤخر, وهي الجنة. {وَزِيَادَةٌ}: هي النظر إلى وجه الله. هكذا فسره النبي صلى الله عليه وسلم: كما ثبت ذلك في "صحيح مسلم" (¬1) وغيره. ففي هذه الآية دليل على ثبوت رؤية الله من تفسير الرسول عليه الصلاة والسلام, وهو أعلم الناس بمعاني القرآن بلا شك, ¬

_ (¬1) رواه مسلم (181) عن صهيب رضي الله عنه.

الآية الرابعة: قوله: {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}

وقد فسرها بالنظر إلى وجه الله، وهي زيادة على نعيم الجنة. إذاً؛ فهي نعيم ليس من جنس النعيم في الجنة؛ لأن جنس النعيم في الجنة نعيم بدن، أنهار, وثمار, وفواكه، وأزواج مطهرة ..... وسرور القلب فيها تبع، لكن النظر إلى وجه الله نعيم قلب، لا يرى أهل الجنة نعيماً أفضل منه، نسأل الله أن يجعلنا ممن يراه. وهذا نعيم ما له نظير أبداً, لا فاكهة, ولا أنهار, ولا غيرها أبداً, ولهذا قال: {وَزِيَادَةٌ} أي: زيادة على الحسنى. الآية الرابعة: قوله {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35]. قوله: {مَا يَشَاءُونَ فِيهَا}؛ أي: في الجنة كل ما يشاؤون. وقد ورد في الحديث الصحيح أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أفي الجنة خيل؟ فإني أحب الخيل. فقال: "إن يدخلك الله الجنة فلا تشاء أن تركب فرساً, ومن ياقوتة حمراء, تطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت". وقال الأعرابي: يا رسول الله! أفي الجنة إبل؟ قال: "يا أعرابي! إن يدخلك الله الجنة؛ أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذة عينك" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (5/ 352) , والترمذي (2543) , وأبو نعيم في زياداته على "الزهد" لابن مبارك (271) , والبغوي في "شرح السنة" (4385) عن بريدة الأسلمي رضي الله عنه. والحديث ضعفه الألباني في "ضعيف سن الترمذي" (459).

إضافة الشارح لآية خامسة استدل بها الشافعي

فإذا اشتهى أي شيء فإنه يكون يتحقق حتى إن بعض العلماء يقول: لو اشتهى الولد لكان له ولد, فكل شيء يشتهونه فهو لهم. قال تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71]. وقوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} , أي: مزيد على ما يشاؤون. يعني: أن الإنسان إذا شاء شيئاً يعطى زيادة كما جاء في الحديث الصحيح في آخر أهل الجنة دخولاً يعطى الله عز وجل نعيماً, نعيماً ... ويقول: له: "لك مثله وعشرة أمثاله" (¬1). فهو أكثر مما يشاء. وفسر المزيد كثير من العلماء بما فسر به النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة, وهي: النظر إلى وجه الله الكريم. فتكون الآية التي ساقها المؤلف لإثبات رؤية الله تعالى أربعة. وهناك آية الخامسة استدل بها الشافعي رحمه الله, وهي قوله تعالى: {كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. ووجه الدلالة أنه ما حجب هؤلاء في الغضب, إلا رآه أولئك ¬

_ (¬1) رواه مسلم (188) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

مخالفو أهل السنة والجماعة وأدلتهم

في الرضى, فإذا كان الغضب محجوب عن الله فأهل الرضى يرون الله عز وجل. وهذا استدلال قوي جداً لأنه لو كان الكل محجوبين لم يكن مزية لذة هؤلاء. وعلى هذا, فنقول: الآية خمس, ويمكن أن نلحق بها قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام: 103] على ما سنقرره في الرد على النفاة إن شاء الله. فهذا قول أهل السنة في رؤية الله تعالى وأدلتهم, وهي ظاهر جلية, لا ينكرها إلا جاهل أو مكابر. وخالفهم في ذلك طوائف من أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم, واستدلوا بأدلة سمعية متشابة وأدلة عقلية متداعية: أما الأدلة السمعية: فالأول: قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف: 143]. ووجه الدلالة أن (لن) للنفي المؤبد, والنفي خبر, وخبر الله تعالى صدق, لا يدخله النسخ.

والرد عليهم من وجوه: - الأول: منع كون (لن) للنفي المؤبد؛ لأنه مجرد دعوى: قال ابن مالك في "الكافية": ومن رأى النفي بلن مؤبداً ... فقوله اردد وسواه فاعضدا - الثاني: أن موسى عليه صلاة والسلام لم يطلب من الله الرؤية في الآخرة؛ وإنما طلب رؤية حاضرة؛ لقوله: {أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}؛ أي: الآن. فقال الله تعالى له: {لَنْ تَرَانِي}؛ يعني: لن تستطيع أن تراني الآن, ثم ضرب الله تعالى له مثلاً بالجبل حيث تجلى الله تعالى له فجعله دكاً, فقال: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} , فلما رأى موسى ما حصل للجبل؛ علم أنه هو لا طاقة برؤية الله, وخر صعقاً لهول ما رأى. ونحن نقول: إن رؤية الله تعالى في الدنيا مستحيلة؛ لأن الحال البشرية لا تستطيع تحمل رؤية الله عز وجل كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: "حجابه النور, لو كشف لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (¬1). أما رؤية الله تعالى في الآخرة فممكنة؛ لأن الناس في ذلك اليوم يكونون في عالم آخرة تختلف فيه أحوالهم عن حالهم في الدنيا؛ كما يعلم ذلك من نصوص الكتاب والسنة فيما يجري للناس في عرصات القيامة وفي مقرهم في دار النعيم أو الجحيم. - الوجه الثالث: أن يقال استحالة رؤية الله في الآخرة عند ¬

_ (¬1) سبق تخريجه ص (284).

الدليل الثاني والرد عليه

المنكرين لها مبنية على أن إثباتها يتضمن نقصاً في حق الله تعالى! كما يعللون نفيهم بذلك, وحينئذ يكون سؤال موسى لربه الرؤية دائراً بين الجهل بما يجب لله ويستحيل في حقه أو الاعتداء في دعائه حين طلب من الله ما لا يليق به إن كان عالماً بأن ذلك مستحيل في حق اللهو وحينئذ يكون هؤلاء النفاة أعلم من موسى فيما يجب لله تعالى ويستحيل في حقه!! وهذا غاية الضلال! وبهذا الوجه يتبين أن في الآية دليلاً عليهم لا دليلاً لهم. وهكذا كل دليل من الكتاب والسنة الصحيحة يستدل به على باطل أو نفي حق فسيكون دليلاً على من أورده, لا دليلاً له. الدليل الثاني لنفاة رؤية الله تعالى: قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]. والرد عليهم: أن الآية فيها نفي الإدراك, والرؤية لا تستلزم الإدراك؛ ألا ترى أن الرجل يرى الشمس ولا يحيط بها إدراكاً؟! فإذا أثبتنا أن الله تعالى يرى؛ لم يلزم أن يكون يدرك بهذه الرؤية لأن الإدراك أخص من مطلق الرؤية. ولهذا نقول: إن نفي الإدراك يدل على وجوه أصل الرؤية لأن نفي الأخص يدل على وجوه الأعم ولو كان الأعم منتفياً لوجب نفيه وقيل: لا تراه الأبصار, لأن نفيه يقتضي نفي الأخص ولا عكس ولأنه لو كان الأعم منتفياً لكان نفي

أدلة نفاة الرؤية العقلية والرد عليهم

الأخص إيهاماً وتلبيساً ينزه عنه كلام الله عز وجل. وعلى هذا يكون في الآية دليل عليهم لا دليل لهم. وأما أدلة نفاة الرؤية العقلية؛ فقالوا: لو كان الله يرى لزم أن يكون جسماً والجسم ممتنع على الله تعالى لأنه يستلزم التشبيه والتمثيل. والرد عليهم: أنه إن كان يلزم ن رؤية الله تعالى أن يكون جسماً فليكن ذلك, لكننا نعلم علم اليقين أنه لا يماثل أجسام المخلوقين؛ لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]. على أن القول بالجسم نفياً أو إثباتاً مما أحدثه المتكلمون وليس في الكتاب والسنة إثباته ولا نفيه. وقد أجاب النفاة عن أدلة أهل الإثبات بأجوبة باردة, فحرفوها تحريفاً لا يخفى على أحد وليس هذا موضع ذكرها وهي مذكورة في الكتب المطولة. ما نستفيد من الناحية المسلكية من هذا الآيات: أما في مسألة الرؤية؛ فما أعظم أثرها على الاتجاه المسلكي؛ لأن الإنسان إذا وجد أن غاية ما يصل إليه من الثواب هو النظر إلى وجه الله كانت الدنيا كلها رخيصة عنده؛ وكل شيء يرخص في جانب الوصول إلى رؤية الله عز وجل لأنها غاية كل طالب, ومنتهى المطالب.

قول المؤلف: "وهذا الباب في كتاب الله كثير. . . ."

فإذا علمت انك سوف ترى ربك عياناً بالبصر فوالله لا تساوي الدنيا عندك شيئاً. فكل الدنيا ليست بشيء؛ لأن النظر إلى وجه الله هو الثمرة التي يتسابق فيها المتسابقون, ويسعى إليها الساعون وهي غاية المرام من كل شيء. فإذا علمت هذا فهل تسعى إلى الوصول إلى ذلك أم لا؟! والجواب: نعم؛ أسعى إلى الوصول إلى ذلك بدون تردد. وإنكار الرؤية في الحقيقة حرمان عظيم, لكن الإيمان بها يسوق الإنسان سوقاً عظيماً إلى الوصول إلى هذا الغاية؛ فهو يسر ولله الحمد؛ فالدين كله يسر حتى إذا وجد الحرج تيسر الدين فأصله ميسر وإذا وجد الحرج تيسر ثانية, وإذا لم يمكن القيام به أبداً سقط؛ واجب مع العجز, ولا حرام مع الضرورة. قال المؤلف رحمه الله: "وهذا الباب في كتاب الله كثير ومن تدبر القرآن طالباً للهدى تبين له طريق الحق". قوله: "وهذا الباب": الإشارة هنا إلى باب الأسماء والصفات. قوله: "في كتاب الله كثير": ولذلك؛ ما من آية من كتاب الله إلا وتجد فيها غالباً اسماً من أسماء الله أو فعلاً من أفعاله أو حكماً من أحكامه بل لو شئت لقلت: كل آية في كتاب الله

فهي صفة من صفات الله لأن القرآن الكريم كلام الله عز وجل؛ فكل آية منه فهي صفة من صفات الله عز وجل. وقوله: "ومن تدبر القرآن": تدبر الشيء معناه: التفكر فيه, كان الإنسان يستدبره مرة ويستقبله أخرى فهو يكرر اللفظ ليفهم المعنى فالذي يتدبر القرآن بهذا الفعل واما النية فهي أن يكون "طالباً للهدى" منه فليس قصده بتدبر القرآن أن ينتصر لقوله, أو أن يتخذ منه مجادلة بالباطل, ولكن قصده طلب الحق فإنه سوف تكون النتيجة قول المؤلف: "تبين له طريق الحق". وما أعظمها من نتيجة!! لكنها مسبوقة بأمرين: التدبر وحسن النية بأن يكون الإنسان طالباً للهدى من القرآن فحينئذ يتبين له طريق الحق. والدليل على ذلك عدة آيات؛ منها: قول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29]. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 32].

والآيات في هذا كثيرة تدل على أن من تدبر القرآن - لكن بهذه النية, وهي طلب الهدى منه- لابد أن يصل إلى النتيجة وهي تبين طريق الحق. أما من تدبر القرآن ليضرب بعضه ببعض وليجادل بالباطل ولينصر قوله كما يوجد عند أهل البدع وأهل الزيغ فإنه يعمى عن الحق والعياذ بالله: لأن الله تعالى يقول: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7]؛ على تقدير (أما)؛ أي: وأما راسخون في العلم فـ {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] , وإذا قالوا هذا القول؛ فسيهديهم إلى بيان هذا المتشابه ثم قال: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُو الألْبَابِ} [آل عمران: 7]. وقال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44].

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرحُ العَقِيدة الوَاسِطِيَّة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لقد جرى مني الإذن لـ «دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع» بطبعي مؤلفي «شرح العقيدة الواسطية» بشرط العناية بالتصحيح وأن لا يحتفظوا بحقوق الطبع. كتبه محمد الصالح العثيمين في 29/ 12/ 1415 هـ الطبعة السادسة جمادى الأولى 1421 هجري دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع المملكة العربية السعودية الدمام - شارع ابن خلدون - ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرمز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شارع الجامعة - ت: 5883122 جدة: ت: 6516549 الرياض: ت: 4266339

فصل: في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فصل في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشرح: * السنة في اللغة: الطريقة، ومنه قال - صلى الله عليه وسلم -: "لتركبن سنن من كان قبلكم" (¬1)؛ يعني: طريقتهم. * وفي الاصطلاح: هي قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله وإقراره. فتشمل الواجب والمستحب. * والسنة هي المصدر الثاني في التشريع. ومعنى قولنا: "المصدر الثاني": يعني: في العدد، وليس في الترتيب؛ فإن منزلتها إذا صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كمنزلة القرآن. لكن الناظر في القرآن يحتاج إلى شيء واحد، وهو صحة الدلالة على الحكم، والناظر في السنة يحتاج إلى شيئين: الأول: صحة نسبتها إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والثاني: صحة دلالتها على الحكم؛ فكان المستدل بالسنة يعاني من الجهد أكثر مما يعانيه المستدل بالقرآن؛ لأن القرآن قد كفينا سنده؛ فسنده متواتر، ليس فيه ما يوجب الشك؛ بخلاف ما ينسب إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فإذا صحت السنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ كانت بمنزلة القرآن تمامًا في تصديق الخبر والعمل بالحكم: كما قال تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

السنة تفسر القرآن وتبينه

113]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته؛ يأتيه الأمر من أمري؛ يقول: لا ندري! ما وجدنا في كتاب الله؛ اتبعناه، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه" (¬1). ولهذا كان القول الصحيح أن القرآن يُنسخ بالسنة إذا صحت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن ذلك جائز عقلًا وشرعًا، ولكن ليس له مثال مستقيم (¬2). • قال المؤلف: "فَالسُّنَّةُ تُفَسِّرُ القُرْآنَ وَتُبيِّنُهُ وَتَدُلُّ عَلَيْهِ وَتُعَبِّرُ عَنْهُ". * قوله: "تفسر القرآن"، يعني: توضح المعنى المراد منه: كما في تفسير قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]؛ حيث فسرها النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها النظر إلى وجه الله عز وجل (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 132)، وأبو داود (4605)، والترمذي (2663)، وابن ماجه (13)، والحاكم (1/ 109)، وقد أطال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "الرسالة" للشافعي (ص 9) تخريج هذا الحديث وتَصْحيحِه. وانظر "الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام" للألباني، فقد صححه. (¬2) وهو قول الجمهور كما حكاه عنهم الشوكاني في "إرشاد الفحول" (ص 191). (¬3) تقدم تخريجه (1/ 452).

وكما فَسَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، فقال: "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي" (¬1). * و "تبيِّنُه"؛ يعني: تبين المجمل منه؛ حيث إن في القرآن آيات مجملة، لكن السنة بينتها ووضحتها؛ مثل: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]: أمر الله بإقامتها، وبيَّنت السنة كيفيتها. وقوله سبحانه: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78]. {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ}؛ يعني: من دلوك الشمس إلى غسق الليل؛ أي: غاية ظلمته، وهو نصفه؛ لأن أشد ما يكون في ظلمة الليل نصفه. فظاهر الآية أن هذا وقت واحد، ولكن السنة فصلت هذا المجمل: فللظهر: من دلوك الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. وللعصر: من ذلك إلى اصفرار الشمس في الاختيار، ثم إلى غروبها في الضرورة. وللمغرب: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1917)، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه.

وللعشاء: من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل، وليس هناك وقت ضرورة للعشاء، ولهذا لو طهرت الحائض في منتصف الليل الأخير؛ لم يجب عليها صلاة العشاء ولا صلاة المغرب، لأن وقت صلاة العشاء تنتهي بانتصاف الليل، ولم يأت في السنة دليل على أن وقت صلاة العشاء يمتد إلى طلوع الفجر. وللفجر: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. ولهذا قال في نفس الآية: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ}، ثم فَصَلَ وقت الفجر، فقال: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78]، لأن وقت الفجر بينه وبين الأوقات الأخرى فاصل من قبله ومن بعده، فنصف الليل الثاني قبله، ونصف النهار الأول بعده. هذا من بيان السنة حيث بينت الأوقات. كذلك: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، بينت السنة الأنصبة والأموال الزكوية. * و "تدل عليه": هذه كلمة تعم التفسير والتبيين والتعبير" فالسنة تفسر القرآن وتبين القرآن. * و"تعبر عنه"، يعني: تأتي بمعانٍ جديدة أو بأحكام جديدة ليست في القرآن. وهذا كثير، فإن كثيرًا من الأحكام الشرعية استقلت بها السنة، ولم يأت بها القرآن. لكن دل على أن لها حكم ما جاء في القرآن مثل قوله تعالى:

وجوب الإيمان بأحاديث الصفات

{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]، وقوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]. أما الحكم المعين؛ فالسنة استقلت بأحكام كثيرة عن القرآن، ومن ذلك ما سيأتينا في أول حديث ذكره المؤلف في هذا الفصل: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ... " (¬1)، فإن هذا ليس في القرآن. إذًا؛ السنة مقامها مع القرآن على هذه الأنواع الأربعة: تفسير مشكل، وتبيين مجمل، ودلالة عليه، وتعبير عنه. * * * • ثم قال رحمه الله قاعدة مهمة: "وَمَا وَصَفَ الرَّسُولُ بهِ رَبَّه عَزَّ وَجَلَّ مِن الأَحَادِيثِ الصِّحاح الَّتي تَلَقَّاها أَهْلُ المَعْرِفَةِ بالقَبُولِ، وَجَبَ الإيمانُ بِهَا كَذَلِكَ". " قوله: "وما": هذه شرطية. وفعل الشرط: "وصف". "وجب الإيمان بها": هذا جواب الشرط. فما وصف الرسول به ربه، وكذلك ما سمى به ربه، لأن هناك أسماء مما سمى به الرسول ربه لم تكن موجودة في القرآن؛ مثل (الشافي)؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "واشف أنت الشافي، لا شفاء ¬

_ (¬1) سوف يأتي الحديث بطوله (2/ 13)، وهو في الصحيحين.

إلا شفاؤك" (¬1). * "الرب": لم يأت في القرآن بدون إضافة لكن في السنة قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" (¬2). وقال في السواك: "مطهرة للفم مرضاة للرب" (¬3) وظاهر كلام المؤلف أنه يشترط لقبولها شرطان: الأول: أن تكون الأحاديث صحيحة. الثاني: أن يكون أهل المعرفة يعني بالأحاديث تلقوها بالقبول، ولكن ليس هذا هو المراد، بل مراد الشيخ -رحمه الله- أن الأحاديث الصحاح تلقاها أهل المعرفة بالقبول فتكون الصفة هذه صفة كاشفة لا صفة مقيدة. * فقوله: "التي تلقاها": هذا بيان لحال الأحاديث الصحيحة أي أن أهل المعرفة تلقوها بالقبول لأنه من المستحيل أن تكون الأحاديث صحيحة، ثم يرفضها أهل المعرفة، بل سيقبلونها. صحيح أن هناك أحاديث ظاهرها الصحة، ولكن قد تكون معلولة بعلة؛ كانقلاب على الراوي ونحوه، وهذه لا تعد من الأحاديث الصحيحة. ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (5742)، ومسلم (2191)؛ عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه مسلم (479)، عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري معلقًا مجزومًا (4/ 158)، ووصله أحمد (6/ 62)، والنسائي (1/ 10)، وابن حبان (2/ 287)، وحسّنه البغوي في "شرح السنة" (1/ 349).

قال: "وَجَبَ الإيمانُ بها": لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 136]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59]، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ} [القصص: 65، 66] ... والنصوص في هذا كثيرة معلومة. واعلم أن موقف أهل الأهواء والبدع تجاه الأحاديث المخالفة لأهوائهم يدور على أمرين: إما التكذيب، وإما التحريف. فإن كان يمكنهم تكذيبه؛ كذبوه؛ كقولهم في القاعدة الباطلة: أخبار الآحاد لا تقبل في العقيدة!! وقد رد ابن القيم رحمه الله هذه القاعدة وأبطلها بأدلة كثيرة في آخر "مختصر الصواعق". وإن كان لا يمكنهم تكذيبه؛ حرفوه؛ كما حرفوا نصوص القرآن. أما أهل السنة؛ فقبلوا كل ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمور العلمية والأمور العملية؛ لقيام الدليل على وجوب قبول ذلك. * وقوله: "كذَلِك"؛ يعني: كما يجب الإيمان بما في القرآن؛ من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. وقد ذكر المؤلف منها أحاديث عديدة؛ منها. * * *

فصل: في أحاديث الصفات

فصل في أحاديث الصفات • الحديث الأول في إثبات نزول الله إلى السماء الدنيا: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَنْزِلُ رَبُّنا إلى سَماءِ الدُّنْيا كُلَّ لَيْلَةٍ، حينَ يَبْقى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَيَقولُ: مَنْ يَدْعوني فَأستجيبَ لَهُ، مَنْ يَسْألُني فَأعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُني فَأغْفِرَ لَهُ". متفق عليه (¬1). الشرح: * هذا الحديث قال بعض أهل العلم: إنه من الأحاديث المتواترة، واتفقوا على أنه من الأحاديث المشهورة المستفيضة عند أهل العلم بالسنة. * قوله: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا": نزوله تعالى حقيقي؛ لأنه كما مرَّ علينا من قبل: أن كل شيء كان الضَّمير يعود فيه إلى الله؛ فهو ينسب إليه حقيقة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (1/ 94).

فعلينا أن نؤمن به ونصدق ونقول: ينزل ربُّنا إلى السماء الدنيا، وهي أقرب السماوات إلى الأرض، والسماوات سبع، وإنما ينزل عزَّ وجلَّ في هذا الوقت من الليل للقرب من عباده جل وعلا؛ كما يقرب منهم عشية عرفة؛ حيث يباهي بالواقفين الملائكة (¬1). * وقوله: "كل ليلة": يشمل جميع ليالي العام. * "حين يبقى ثلث الليل الآخر" والليل يبتدئ من غروب الشمس اتفاقًا لكن حصل الخلاف في انتهائه هل يكون بطلوع الفجر أو بطلوع الشمس والظاهر أن الليل الشرعي ينتهي بطلوع الفجر والليل الفلكي يشهي بطلوع الشمس. * وقوله: "فيقول: من يدعوني": "من": استفهام للتشويق؛ كقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10]. * و "يدعوني"؛ أي: يقول: يا رب! * وقوله: "فأستجيب له ": بالنصب؛ لأنها جواب الطلب. * "من يسألني": يقول: أسألك الجنة، أو نحو ذلك. * "من يستغفرني": فيقول: اللهم اغفر لي، أو: أستغفرك اللهم! * "فأغفر له": والمغفرة ستر الذنب والتجاوز عنه. بهذا يتبيَّن لكل إنسان قرأ هذا الحديث أن المراد بالنزول هنا نزول الله نفسه، ولا نحتاج أن نقول: بذاته؛ ما دام الفعل أُضيف ¬

_ (¬1) كما جاء ذلك في "صحيح مسلم" (1348)، عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟ ".

مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم

إليه؛ فهو له، لكن بعض العلماء قالوا: ينزل بذاته؛ لأنهم لجؤوا إلى ذلك، واضطروا إليه؛ لأن هناك من حرَّفوا الحديث وقالوا: الذي ينزل أمر الله! وقال آخرون: بل الذي ينزل رحمة الله! وقال آخرون: بل الذي ينزل مَلَكٌ من ملائكة الله! وهذا باطل؛ فإن نزول أمر الله دائمًا وأبدًا، ولا يختص نزوله في الثلث الأخير من الليل؛ قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة: 5]، وقال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123]. وأما قولهم: تنزل رحمة الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر! فسبحان الله! الرحمة لا تنزل إلا في هذا الوقت! قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]؛ كل النعم من الله، وهي من آثار رحمته، وهي تترى كل وقت!! ثم نقول: أي فائدة لنا بنزول الرحمة إلى السماء الدنيا؟! ثم نقول لمن قال: إنه ملَك من ملائكته: هل من المعقول أنَّ الملَك ملائكة الله يقول: مَن يدعوني فأستجيب له ... إلخ؟! فتبيَّن بهذا أن هذه الأقوال تحريف باطل يبطله الحديث. ووالله؛ ليسوا أعلم بالله من رسول الله، وليسوا أنصح لعباد الله من رسول الله، وليسوا أفصح في قولهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -!! يقولون: كيف تقولون: إن الله ينزل؟! إذا نزل؛ أين العلو؟! وإذا نزل؛ أين الاستواء على العرش؟! إذا نزل؛ فالنزول حركة

أقوال علماء أهل السنة في خلو الله من العرش

وانتقال!! إذا نزل؛ فالنزول حادث، والحوادث لا تقوم إلا بحادث!! فنقول: هذا جدال بالباطل، وليس بمانع من القول بحقيقة النزول!! هل أنتم أعلم بما يستحقُّه الله عزَّ وجلَّ من أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟! فأصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما قالوا هذه الاحتمالات أبدًا؛ قالوا: سمعنا وآمنَّا وقبلنا وصدَّقنا. وأنتم أيها الخالفون المخالفون تأتون الآن وتجادلون بالباطل وتقولون: كيف؟! وكيف؟! نحن نقول: ينزل، ولا نتكلَّم عن استوائه على العرش؛ هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟! أما العلو؛ فنقول: ينزل، لكنه عال عزَّ وجلَّ على خلقه؛ لأنه ليس معنى النزول أن السماء تُقِلُّه، وأن السماوات الأخرى تظلُّه؛ إذ إنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته. فنقول: هو ينزل حقيقة مع علوه حقيقة، وليس كمثله شيء. أما الاستواء على العرش فهو فعل، ليس من صفات الذات، وليس لنا حق -فيما أرى- أن نتكلم هل يخلو منه العرش أو لا يخلو، بل نسكت كما سكت عن ذلك الصحابة رضي الله عنهم. وإذا كان علماء أهل السنة لهم في هذا ثلاثة أقوال: قول بأنه

يخلو، وقول بأنه لا يخلو، وقول بالتوقُّف. وشيخ الإسلام رحمه الله في "الرسالة العرشية" يقول: إنه لا يخلو منه العرش، لأن أدلة استوائه على العرش محكمَة، والحديث هذا محكم، والله عزَّ وجلَّ لا تُقاس صفاته بصفات الخلق؛ فيجب علينا أن نبقي نصوص الاستواء على إحكامها، ونصَّ النزول على إحكامه، ونقول: هو مستو على عرشه، نازل إلى السماء الدنيا، والله أعلم بكيفية ذلك، وعقولنا أقصر وأدنى وأحقر من أن تحيط بالله عزَّ وجلَّ. القول الثاني: التوقُّف؛ يقولون: لا نقول: يخلو، ولا: لا يخلو. والثالث: أنه يخلو منه العرش. وأورد المتأخرون الذين عرفوا أن الأرض كروية وأن الشمس تدور على الأرض إشكالًا؛ قالوا: كيف ينزل في ثلث الليل الآخر؟! وثلث الليل الآخر إذا انتقل عن المملكة العربية السعودية، ذهب إلى أوروبا وما قاربها؟! أفيكون نازلًا دائمًا؟! فنقول: آمن أولًا بأن الله ينزل في هذا الوقت المعين، وإذا آمنت؛ ليس عليك شيء وراء ذلك، لا تقل: كيف؟! وكيف؟! بل قل: إذا كان ثلث الليل الآخر في السعودية، فالله نازل، وإذا كان في أمريكا ثلث الليل، يكون نزول الله أيضًا، وإذا طلع الفجر؛ انتهى وقت النزول في كل مكان بحسبه.

فوائد الحديث

إذًا؛ موقفنا أن نقول: إنا نؤمن بما وصل إلينا عن طريق محمد رسول الله؛ بأن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى الثلث الآخر من الليل، ويقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟! * من فوائد هذا الحديث: أولًا: إثبات العلو لله من قوله: "ينزل". ثانيًا: إثبات الأفعال الاختيارية التي هي الصفات الفعلية من قوله: "ينزل ربنا حين يبقى ثلث الليل الآخر". ثالثًا: إثبات القول لله من قوله: "يقول". رابعًا: إثبات الكَرَم لله عزَّ وجلَّ من قوله: "مَن يدعوني ... مَن يسألني ... مَن يستغفرني ... ". * وفيه من الناحية المسلكية: أنه ينبغي للإنسان أن يغتنم هذا الجزء من الليل، فيسأل الله عزَّ وجلَّ ويدعوه ويستغفره. ما دام الرب سبحانه يقول: "من يدعوني ... من يستغفرني ... "، و (مَن): للتشويق؛ فينبغي لنا أن نستغل هذه الفرصة؛ لأنه ليس لك من العمر إلا ما أمضيته في طاعة الله، وستمر بك الأيام؛ فإذا نزل بك الموت؛ فكأنك وُلِدت تلك الساعة، وكل ما مضى ليس بشيء. * * *

* الحديث الثاني: في إثبات الفرح

• الحديث الثاني في إثبات الفرح، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لَلهُ أشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبةِ عَبْدهِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِراحِلَتِهِ ... " الحديث، متفق عليه (¬1). * "الله": اللام هذه لام الابتداء. "الله": مبتدأ. * "أشد": خبر المبتدأ. * "فرحًا": تمييز. * قال المؤلف: "الحديث"؛ أي: أكمل الحديث. والحديث أن هذا الرجل كان معه راحلته، عليها طعامه وشرابه، فضلَّت عنه، فذهب يطلبها، فلم يجدها، فأيس من الحياة، ثم اضطجع تحت شجرة ينتظر الموت؛ فإذا بخطام ناقته متعلقًا بالشجرة ... ولا أحد يستطيع أن يقدر هذا الفرح؛ إلا من وقع فيه ... فأمسك بخطام الناقة، وقال: اللهمَّ! أنت عبدي، وأنا ربك؛ أخطأ من شدة الفرح؛ لم يملك كيف يتصرَّف في الكلام!! فالله عزَّ وجلَّ أفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه من هذا الرجل براحلته، وليس الله عزَّ وجلَّ بمحتاج إلى توبتنا، بل نحن مفتقرون إليه في كل أحوالنا، لكن لكرمه جل وعلا ومحبته للإحسان والفضل والجود يفرح هذا الفرح الذي لا نظير له بتوبة الإنسان إذا تاب إليه. * في هذا الحديث: إثبات الفرح لله عزَّ وجلَّ؛ فنقول في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (11/ 102)، ومسلم (ص 2102)، عن عدة من الصحابة بألفاظ مختلفة.

فوائد الحديث

هذا الفرح: إنه فرح حقيقي، وأشد فرح، ولكنه ليس كفرح المخلوقين. الفرح بالنسبة للإنسان هو نشوة وخفة يجدها الإنسان من نفسه عند حصول ما يسرُّه، ولهذا تشعر بأنك إذا فرحت بالشيء كأنك تمشي على الهواء، لكن بالنسبة لله عزَّ وجلَّ لا نفسِّر الفرح بمثل ما نعرفه من أنفسنا؛ نقول: هو فرح يليق به عزَّ وجلَّ؛ مثل بقية الصفات؛ كما أننا نقول: لله ذات، ولكن لا تماثل ذواتنا؛ فله صفات لا تماثل صفاتنا؛ لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات. فنؤمن بأن الله تعالى له فرح كما أثبت ذلك أعلم الخلق به، محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنصح الخلق للخلق، وأفصح الخلق فيما ينطق به عليه الصلاة والسلام. ونحن على خطر إذا قلنا: المراد بالفرح الثَّواب؛ لأن أهل التحريف يقولون: إن الله لا يفرح، والمراد بفرحه: إثابته التائب، أو: إرادة الثواب؛ لأنهم هم يثبتون أن لله تعالى مخلوقًا بائنًا منه هو الثواب، ويثبتون الإرادة؛ فيقولون في الفرح: إنه الثواب المخلوق، أو: إرادة الثواب. ونحن نقول: المراد بالفرح: الفرح حقيقة؛ مثلما أن المراد بالله عزَّ وجلَّ: نفسه حقيقة، ولكننا لا نمثل صفاتنا بصفات الله أبدًا. * ويستفاد من هذا الحديث مع إثبات الفرح لله عزَّ وجلَّ:

الفوائد المسلكية من هذا الحديث

كمال رحمته جلَّ وعلا ورأفته بعباده؛ حيث يحب رجوع العاصي إليه هذه المحبة العظيمة ... هارب من الله، ثم وقف ورجع إلى الله ... يفرح الله به هذا الفرح العظيم. * هي ومن الناحية المسلكية: يفيدنا أن نحرص على التوبة غاية الحرص، كلما فعلنا ذنبًا؛ تبنا إلى الله. قال الله تعالى في وصف المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً}؛ أي فاحشة؛ مثل: الزنى، واللواط، ونكاح ذوات المحارم ... قال الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22]، {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] وقال لوط لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80]. إذًا؛ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ}؛ ذكروا الله تعالى في نفوسهم؛ ذكروا عظمته، وذكروا عقابه، وذكروا ثوابه للتائبين؛ {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}؛ فعلوا ما فعلوا؛ لكنهم ذكروا الله تعالى في نفوسهم، واستغفروا لذنوبهم، فيغفر الله لهم، والدليل: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا اللَّهُ} [آل عمران: 135]. فأنت إذا علمت أن الله يفرح بتوبتك هذا الفرح الذي لا نظير له؛ لا شك أنك سوف تحرص غاية الحرص على التوبة.

شروط التوبة

* وللتوبة شروط خمسة: الأول: الإخلاص لله عزَّ وجلَّ؛ بأن لا يحملك على التوبة مراءاة الناس، أو نيل الجاه عندهم، أو ما أشبه ذلك من مقاصد الدنيا. الثاني: الندم على المعصية. الثالث: الإقلاع عنها، ومن الإقلاع إذا كانت التوبة في حقٍّ من حقوق الآدميين: أن ترد الحق إلى صاحبه. الرابع: العزم على أن لا تعود في المستقبل. الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، وينقطع قَبول التوبة بالنسبة لعموم الناس بطلوع الشمس من مغربها، وبالنسبة لكل واحد بحضور أجله. قال الله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء: 18]. وصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن زمن التوبة ينقطع إذا طلعت الشمس من مغربها، والناس يؤمنون حينئذ، ولكن؛ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] (¬1). ¬

_ (¬1) لما رواه البخاري (4636)، ومسلم (157)، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها، ثم قرأ الآية".

هل يشترط لصحة التوبة أن يتوب من جميع الذنوب؟

هذه خمسة شروط؛ إذا تمت؛ صحت التوبة. * ولكن؛ هل يشترط لصحة التوبة أن يتوب من جميع الذُّنوب؟! فيه خلاف، ولكن الصحيح أنه ليس بشرط، وأنها تصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره (¬1)، لكن هذا التائب لا يصدق عليه وصف التائبين المطلق؛ فيقال: تاب توبة مقيدة، لا مطلقة. فلو كان أحد يشرب الخمر ويأكل الربا، فتاب من شرب الخمر؛ صحت توبته من الخمر، وبقي إثمه في أكل الربا، ولا ينال منزلة التائبين على الإطلاق؛ لأنه مصرٌّ على بعض المعاصي. * رجل تمَّت الشروط في حقِّه، وعاد إلى الذنب مرة أخرى؛ فلا تنتقض توبته الأولى؛ لأنه عزم على أن لا يعود، ولكن سوَّلت له نفسه، فعاد؛ إنما يجب عليه أن يتوب مرة ثانية ... وهكذا، كلما أذنب، يتوب ... وفضل الله واسع. * * * • الحديث الثالث في إثبات الضحك، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَضْحَكُ اللهُ إلى رَجُلَيْنِ، يَقْتُلُ أحَدُهُما الآخَرَ، كِلاهُما يَدْخُلُ الجَنَّةَ" (¬2). وفي بعض النسخ: "يدخلان"، وهي صحيحة؛ لأن (كلا) ¬

_ (¬1) وهما روايتان للإمام أحمد، انظر كتاب "مدارج السالكين" لابن القيم (1/ 273). (¬2) رواه: البخاري (2826)، ومسلم (1890)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

مخالفو أهل السنة والرد عليهم

يجوز في خبرها -سواء كان فعلًا أو اسمًا- مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى، وقد اجتمعا في قول الشاعر يصف فرسين: كِلاهُما حِينَ جَدَّ الجَرْيُ بَيْنَهُما ... قَدْ أقْلَعا وَكِلا أنْفَيْهِما رَابِي * الحديث يخبر فيه النبي عليه الصلاة والسلام أن الله يضحك إلى رجلين؛ عند ملاقاتهما يقتل أحدهما الآخر؛ كلاهما يدخلان الجنة، وأحدهما لم يقتل الآخر إلا لشدة العداوة بينهما، ثم يدخلان الجنة بعد ذلك، فتزول تلك العداوة؛ لأن أحدهما كان مسلمًا، والآخر كان كافرًا، فقتله الكافر، فيكون هذا المسلم شهيدا، فيدخل الجنة، ثم منَّ الله على هذا الكافر، فأسلم، ثم قُتِلَ شهيدًا، أو مات بدون قتل؛ فإنه يدخل الجنة، فيكون هذا القاتل والمقتول كلاهما يدخل الجنة، فيضحك الله إليهما. * ففي هذا إثبات الضحك لله عزَّ وجلَّ، وهو ضحك حقيقي، لكنه لا يماثل ضحك المخلوقين؛ ضحك يليق بجلاله وعظمته، ولا يمكن أن نمثِّله؛ لأننا لا يجوز أن نقول: إن لله فمًا أو أسنانًا أو ما أشبه ذلك، لكن نثبت الضحك لله على وجه يليق به سبحانه وتعالى. * فإذا قال قائل: يلزم من إثبات الضحك أن يكون الله مماثلًا للمخلوق!! فالجواب: لا يلزم أن يكون مماثلًا للمخلوق؛ لأن الذي قال: "يضحك ": هو الذي أُنزِل عليه قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

ومن جهة أخرى؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يتكلم في مثل هذا إلا عن وحي؛ لأنه من أمور الغيب، ليس من الأمور الاجتهادية التي قد يجتهد فيها الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم يقرُّه الله على ذلك أو لا يقرُّه، ولكنه من الأمور الغيبية التي يتلقَّاها الرسول عليه الصلاة والسلام عن طريق الوحي. * لو قال قائل: المراد بالضحك الرضى؛ لأن الإنسان إذا رضي عن الشيء؛ سُرَّ به وضحك، والمراد بالرضى الثواب أو إرادة الثواب؛ كما قال ذلك أهل التعطيل. فالجواب أن نقول: هذا تحريف للكَلِم عن مواضعه؛ فما الذي أدراكم أن المراد بالرضى الثواب؟! فأنتم الآن قلتم على الله ما لا تعلمون من وجهين: الوجه الأول: صرفتم النص عن ظاهره بلا علم. الثاني: أثبتُّم له معنى خلاف الظاهر بلا علم. ثم نقول لهم: الإرادة؛ إذا قلتم: إنها ثابتة لله عزَّ وجلَّ؛ فإنه تنتقض قاعدتكم؛ لأن للإنسان إرادة؛ كما قال تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران: 152]؛ فللإنسان إرادة، بل للجدار إرادة؛ كما قال تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف: 77]؛ فأنتم إما أن تنفوا الإرادة عن الله عزَّ وجلَّ كما نفيتم ما نفيتم من الصفات، وإما إن تثبتوا لله عزَّ وجلَّ ما أثبته لنفسه، وإن كان للمخلوق نظيره في

الفوائد المسلكية من هذا الحديث

الاسم لا في الحقيقة. * والفائدة المسلكية من هذا الحديث: هو أننا إذا علمنا أن الله عزَّ وجلَّ يضحك؛ فإننا نرجو منه كل خير. ولهذا قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله! أوَيضحك ربنا؟ قال: "نعم". قال: لن نعدم من رب يضحك خيرًا (¬1). إذا علمنا ذلك؛ انفتح لنا الأمل في كل خير؛ لأن هناك فرقًا بين إنسان عبوس لا يكاد يُرى ضاحكًا، وبين إنسان يضحك. وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - دائم البِشر كثير التبسُّم عليه الصلاة والسلام. * * * • الحديث الرابع: في إثبات العجب وصفات أخرى. وهو قوله: "عَجِبَ رَبُّنا مِنْ قُنوطِ عِبادِه وقُرب غِيَرِهِ؛ يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزِلينَ قَنِطينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ؛ يَعْلَمُ أنَّ فرَجَكُمْ قَرِيبٌ". حديث حسن (¬2). ¬

_ (¬1) لما رواه وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، قال: قلت يا رسول الله! أويضحك الرب عزَّ وجلَّ قال: نعم، قال: لن نعدم من رب يضحك خيرًا"، رواه أحمد (4/ 11، 12)، وابن ماجه (181)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (987)، والآجري في "الشريعة" (279)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 244)، والحديث حسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2810) مخطوط، كما نقله عنه الأخ علي الحلبي في تحقيقه لـ "العقيدة الواسطية" (ص 41)، وانظر ما بعده. (¬2) من حديث أبي رزين عند ابن كثير في تفسيره، لقوله تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا =

أسباب العجب

* العجب: هو استغراب الشيء، ويكون ذلك لسببين: السبب الأول: خَفاء الأسباب على هذا المستغرب للشيء المتعجَّب منه؛ بحيث يأتيه بغتة بدون توقع، وهذا مستحيل على الله تعالى؛ لأن الله بكل شيء عليم، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والثاني: أن يكون السبب فيه خروج هذا الشيء عن نظائره وعمّا ينبغي أن يكون عليه، بدون قصور من المتعجب؛ بحيث يعمل عملًا مستغربًا لا ينبغي أن يقع من مثله. وهذا ثابت لله تعالى؛ لأنه ليس عن نقص من المتعجِّب، ولكنه عجب بالنظر إلى حال المتعجَّب منه. * قوله: "عَجِبَ ربُّنا من قنوط عباده": القنوط: أشد اليأس. يعجب الرب عزَّ وجلَّ من دخول اليأس الشديد على قلوب العباد. "وقُربِ غِيَرِه": الواو بمعنى (مع)، يعني: مع قرب غيره. و (الغير): اسم جمع غِيَرَة، كطِيَر: اسم جمع طِيَرَة، وهي اسم بمعنى التغيير، وعلى هذا؛ فيكون المعنى: وقرب تغييره. فيعجب الرب عزَّ وجلَّ، كيف نقنط وهو سبحانه وتعالى ¬

_ = الجنة ...} [البقرة: 214]، ولفظه: "عجب ربك ... " الحديث. وبدل "غيره" "غيثه".

الصفات التي تضمنها هذا الحديث

قريب التغيير، يغير الحال إلى حال أخرى بكلمة واحدة، وهي: كُنْ. فيكون. * وقوله: "ينظر إليكم أَزِلين"؛ أي: ينظر الله إلينا بعينه. * "أزِلين قَنِطين": الأزِل: الواقع في الشدة. و"قنطينَ": جمع قانط، والقانط: اليائس من الفرج وزوال الشدة. فذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الإنسان وحال قلبه، حاله أنه واقع في شدة، وقلبه قانط يائس مستبعد للفَرَجِ. * "فيظل يضحك": يظل يضحك من هذه الحال العجيبة الغريبة؛ كيف تقنط من رحمة أرحم الراحمين الذي يقول للشيء: كنْ. فيكون؟ * "يعلم أن فرجكم قريب"، أي: زوال شدتكم قريب. * في هذا الحديث عدة صفات: -أولًا: العجب، لقوله: "عجب ربنا من قنوط عباده". وقد دلَّ على هذه الصفة القرآن الكريم، قال الله تعالى: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12]؛ على قراءة ضم التاء. - وفيه أيضًا بيان قدرة الله عزَّ وجلَّ، لقوله: "وقرب غِيَره"، وأنه عزَّ وجلَّ تام القدرة، إذا أراد؛ غيَّر الحال من حال إلى ضدها في وقت قريب. - وفيه أيضًا إثبات النظر، لقوله: "ينظر إليكم".

الفائدة المسلكية من هذا الحديث

- وفيه إثبات الضحك، لقوله: "فيظل يضحك". - وكذلك العلم، "يعلم أن فرجكم قريب". - والرحمة؛ لأن الفرج من الله دليل على رحمة الله بعباده. وكل هذه الصفات التي دلَّ عليها الحديث يجب علينا أن نثبتها لله عزَّ وجلَّ حقًّا على حقيقتها، ولا نتأول فيها. * والفائدة المسلكية في هذا: أن الإنسان إذا علم ذلك من الله سبحانه وتعالى، حذر من هذا الأمر، وهو القنوط من رحمة الله، ولهذا، كان القنوط من رحمة الله من الكبائر: قال الله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلا الضَّالُّونَ} [الحجر: 56]. وقال تعالى: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. فالقنوط من رحمة الله، واستبعاد الرحمة: من كبائر الذنوب، والواجب على الإنسان أن يحسن الظن بربه؛ إن دعاه؛ أحسن الظن به بأنه سيجيبه، وإن تعبَّد له بمقتضى شرعه؛ فليحسن الظن بأن الله سوف يقبل منه، وإن وقعت به شدة؛ فليحسن الظن بأن الله سوف يزيلها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرًا" (¬1). ¬

_ (¬1) قطعة من الحديث الذي رواه الإمام أحمد (1/ 307)، والترمذي (2518)، وقال حديث حسن صحيح، وأبو يعلى (2556) عن ابن عباس. قال الحافظ ابن رجب =

* الحديث الخامس: في إثبات الرجل أو القدم

بل قد قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5، 6]، ولن يغلب عسر يسرين، كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما. * * * • الحديث الخامس: في إثبات الرجل أو القدم: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال جهَنَّمُ يُلْقى فيها، وهيَ تَقولُ: هَلْ مِنْ مَزيدٍ، حتّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فيها رِجْلَهُ (وفي رواية: عليها قَدَمَهُ)، فيَنْزَوي بَعْضُها إلى بَعْضٍ، فَتَقولُ: قَطْ قَطْ". متفق عليه (¬1). * قوله: "لا تزال جهنمُ يُلْقى فيها": هذا يوم القيامة، يعني: يُلقى فيها الناس والحجارة، لأن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]، وقد يقال: يُلقى فيها الناس فقط، وأن الحجارة لم تزل موجودة فيها، والعلم عند الله. * "يُلْقَى فيها": في هذا دليل على أن أهلها -والعياذ بالله- يُلْقَون فيها إلقاء لا يدخلون مكرَّمين، بل يدَعُّون إلى نار جهنم دَعًّا، {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8]. * قوله: "وهي تقول: هل من مزيد؟ ": (هل): للطلب؛ ¬

_ = في شرحه لهذا الحديث في "جامع العلوم والحكم" (1/ 460): وقد روي هذا الحديث من طرق كثيرة، وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي. (¬1) رواه: البخاري (7384)، ومسلم (2848)؛ عن أنس رضي الله عنه.

يعني: زيدوا". وأبعد النجعة من قال: إن الاستفهام هنا للنفي، والمعنى على زعمه: لا مزيد على ما فيَّ، والدليل على بطلان هذا التأويل: * قوله: "حتى يضع رب العزة فيها رجله (وفي رواية: عليها قدمه) ": لأن هذا يدل على أنها تطلب زيادة، وإلا، لما وضع الله عليها رجله حتى ينزوي بعضها إلى بعض؛ فكأنها تطلب بشوق إلى من يلقى فيها زيادة على ما فيها. * قوله: "حتى يضع رب العزة": عَبَّر برب العزة؛ لأن المقام مقام عزَّة وغلبة وقهر. وهنا (رب)؛ بمعنى: صاحب، وليست بمعنى خالق، لأن العزة صفة من صفات الله، وصفات الله تعالى غير مخلوقة. * وقوله: "فيها رجله"، وفي رواية: "عليها قدمه": (في) و (على): معناهما واحد هنا، والظاهر أن (في) بمعنى (على)؛ كقوله: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]؛ أي: عليها. أما الرجل والقدم؛ فمعناهما واحد، وسميت رجل الإنسان قدمًا؛ لأنها تتقدم في المشي؛ فإن الإنسان لا يستطيع أن يمشي برجله إلا إذا قدمها. * قوله: "فينزوي بعضها إلى بعض"؛ يعني: ينضم بعضها إلى بعض من عظمة قدم الباري عزَّ وجلَّ. * قوله: "فتقول: قط قط"، بمعنى: حسبي حسبي؛ يعني:

الصفات التي تضمنها هذا الحديث

لا أريد أحدًا. * في هذا الحديث من الصفات: أولًا: إثبات القول من الجماد؛ لقوله: "وهي تقول"، وكذلك: "فتقول: قط قط"، وهو دليل على قدرة الله الذي أنطق كل شيء. ثانيًا: التحذير من النار؛ لقوله: "لا تزال جهنم يُلْقَى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ ". ثالثًا: إثبات فضل الله عزَّ وجلَّ؛ فإن الله تعالى تكفَّل للنار بأن يملأها كما قال: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119]؛ فإذا في دخلها أهلها، وبقي فيها فضل، وقالت: هل من مزيد؟ وضع الله عليها رجله، فانزوى بعضها إلى بعض، وامتلأت بهذا الانزواء. وهذا من فضل الله عزَّ وجلَّ؛ وإلا؛ فإن الله قادر على أن يخلق أقوامًا ويكمل ملأها بهم، ولكنه عزَّ وجلَّ لا يعذب أحدًا بغير ذنب؛ بخلاف الجنة، فيبقى فيها فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فيخلق الله أقوامًا يوم القيامة ويدخلهم الجنة بفضله ورحمته. رابعًا: أن لله تعالى رجلًا وقدمًا حقيقية، لا تماثل أرجل المخلوقين، ويسمي أهل السنة مثل هذه الصفة: الصفة الذاتية الخبرية؛ لأنها لم تعلم إلا بالخبر، ولأن مسماها أبعاض لنا

مخالفوا أهل السنة والجماعة والرد عليهم

وأجزاء، لكن لا نقول بالنسبة لله: إنها أبعاض وأجزاء؛ لأن هذا ممتنع على الله عزَّ وجلَّ. وخالف الأشاعرة وأهل التحريف في ذلك، فقالوا: "يضع عليها رجله"؛ يعني: طائفة من عباده مستحقين للدخول، والرجل تأتي بمعنى الطائفة؛ كما في حديث أيوب عليه الصلاة والسلام (¬1)؛ أرسل الله إليه رجل جراد من ذهب؛ يعني: طائفة من جراد. وهذا تحريف باطل؛ لأن قوله: "عليها": يمنع ذلك. وأيضًا؛ لا يمكن أن يضيف الله عزَّ وجلَّ أهل النار إلى نفسه؛ لأن إضافة الشيء إلى الله تكريم وتشريف. وقالوا في القدم: قدم؛ بمعنى: مقدم؛ أي: يضع الله تعالى عليها مقدمه؛ أي: من يقدمهم إلى النار. وهذا باطل أيضًا؛ فإن أهل النار لا يقدمهم الباري عزَّ وجلَّ، ولكنهم {يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13]، ويلقون فيها إلقاء؛ فهؤلاء المحرفون فروا من شيء ووقعوا في شرًّ منه؛ فروا من تنزيه الله عن القدم والرجل، لكنهم وقعوا في السفه ومجانبة الحكمة في أفعال الله عزَّ وجلَّ. والحاصل أنه يجب علينا أن نؤمن بأن لله تعالى قدمًا، وإن شئنا؛ قلنا: رجلًا؛ على سبيل الحقيقة؛ مع عدم المماثلة، ولا نكيِّف الرجل؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا بأن لله تعالى رجلًا أو قدمًا، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3391، 7493) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الفائدة المسلكية من هذا الحديث

ولم يخبرنا كيف هذه الرجل أو القدم، وقد قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]. * والفائدة المسلكية من هذا الحديث: هو الحذر الشديد من عمل أهل النار؛ خشية أن يلقى الإنسان فيها كما يلقى غيره. * * * • الحديث السادس: في إثبات الكلام والصوت: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يَقُولُ اللهُ تَعالى: يا آدَمُ! فَيَقولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ. فَيُنادِي بِصَوْتٍ: إنَّ اللهَ يَأمُرُكَ أنْ تُخْرِجَ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ بَعْثًا إلى النَّارِ ... ". متفق عليه (¬1). الشرح: * يخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن ربه أنه يقول: يا آدم! وهذا يوم القيامة، فيجيب آدم: "لبيك وسعديك". * "لبيك"؛ بمعنى: إجابة بعد إجابة، وهو مثنى لفظًا، ومعناه: الجمع، ولهذا يعرب على أنه ملحق بالمثنى. * "سعديك"؛ يعني: إسعادًا بعد إسعاد؛ فأنا ألبي قولك وأسألك أن تسعدني وتعينني. * قال: "فينادي"؛ أي: الله؛ فالفاعل هو الله عزَّ وجلَّ. ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (7483)، ومسلم (222)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

* الحديث السابع: في إثبات الكلام أيضا

* وقوله: "بصوت": هذا من باب التأكيد؛ لأن النداء لا يكون إلا بصوت مرتفع؛ فهو كقوله تعالى: {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38]؛ فالطائر الذي يطير؛ إنما يطير بجناحيه، وهذا من باب التأكيد. * وقوله: "إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار": ولم يقل: إني آمرك! وهذا من باب الكبرياء والعظمة؛ حيث كنى عن نفسه تعالى بكنية الغائب، فقال: "إن الله يأمرك"؛ كما يقول الملك لجنوده: إنَّ الملك يأمركم بكذا وكذا؛ تفاخرًا وتعاظمًا، والله سبحانه هو المتكبر وهو العظيم. وجاء في القرآن مثل هذا: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، ولم يقل: إني آمركم. * وقوله: "أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار"؛ أي: مبعوثًا. * والحديث الآخر؛ قال: "يا رب! وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعون" (¬1). * * * • الحديث السابع في إثبات الكلام أيضًا: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنكمْ مِنْ أحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ، ولَيْسَ ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (6530)، ومسلم (222)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

الفوائد المسلكية من هذين الحديثين

بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تَرْجُمان" (¬1). الشرح: * "ما": نافية. * "من أحد": مبتدأ؛ دخلت عليه (من) الزائدة للتوكيد؛ يعني: ما منكم من أحد. * "إلا سيكلمه ربه"؛ يعني: هذه حاله؛ سيكلمه الله عز وجل؛ "ليس بينه وبينه ترجمان"، وذلك يوم القيامة. * والترجمان: هو الذي يكون واسطة بين متكلمين مختلفين في اللغة، ينقل إلى أحدهما كلام الآخر باللغة التي يفهمها. ويشترط في المترجم أربعة شروط: الأمانة، وأن يكون عالمًا باللغة التي يترجم منها، وباللغة التي يترجم إليها، وبالموضوع الذي يترجمه. * وفي هذا الحديث من صفات الله: الكلام، وأنه بصوت مسموع مفهوم. * الفوائد المسلكية في الحديث الأول: "يقول الله: يا آدم! ": فيه بيان أن الإنسان إذا علم بذلك؛ فإنه يحذر ويخاف أن يكون من التسع مئة والتسعة والتسعين. وفي الحديث الثاني: يخاف الإنسان من ذلك الكلام الذي ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (6539)، ومسلم (1016) عن عدي بن حاتم رضي الله عنه.

* الحديث الثامن: في إثبات العلو لله وصفات أخرى

يجري بينه وبين ربه عزَّ وجلَّ أن يفتضح بين يدي الله إذا كلمه تعالى بذنوبه، فيقلع عن الذنوب، ويخاف من الله عزَّ وجلَّ. * * * • الحديث الثامن: في إثبات العلو لله وصفات أخرى: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - في رُقْيَةِ المريض: "رَبَّنا اللهُ الذي في السَّماءِ! تَقَدَّسَ اسْمُكَ، أمْرُكَ في السَّماءِ والأرْضِ؛ كما رَحْمَتُكَ في السَّماءِ؛ اجْعَلْ رَحْمَتَكَ في الأرْضٍ، اغْفِرْ لَنا حُوبَنا وخَطايانا، أنتَ رَبُّ الطَّيِّبينَ، أنْزِلْ رَحْمَةً مِنْ رَحْمَتِكَ وَشِفاءً مِنْ شفائِكَ على هذا الوَجِع؛ فَيَبْرَأ". حديث حسن، رواه أبو داود وغيره (¬1). الشرح: * قوله: "في رُقْيَة المريض": من باب إضافة المصدر إلى المفعول؛ يعني: في الرقية إذا قرأ على المريض. * قوله: "ربنا الله الذي في السماء": تقدم الكلام على قوله: "في السماء" في الآيات. * وقوله: "تقدَّس اسمُك"؛ أي: طهر، والاسم هنا مفرد، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3892)، وأحمد (6/ 20)، واللالكائي (648)، والحاكم (1/ 344)، وصححه ابن عدي في "الكامل" (3/ 1054)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (892)، وابن قدامة في "العلو" (ص 48)، والدارمي في "الرد على الجهمية (70)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" كما في "تحفة الأشرف" (8/ 230).

لكنه مضاف، فيشمل كل الأسماء؛ أي: تقدست أسماؤك من كل نقص. * "أمرك في السماء والأرض": أمر الله نافذ في السماء والأرض؛ كما قال تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} [السجدة: 5]، وقال: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]. * وقوله: "كما رحمتك في السماء؛ اجعل رحمتك في الأرض ": الكاف هنا للتعليل، والمراد بها التوسُّل؛ توسل إلى الله تعالى بجعل رحمته في السماء أن يجعلها في الأرض. فإن قلت: أليس رحمة الله في الأرض أيضًا؟! قلنا: هو يقرأ على المريض، والمريض يحتاج إلى رحمة خاصة يزول بها مرضه. * وقوله: "اغفر لنا حُوبنا وخطايانا": الغفر: ستر الذنب والتجاوز عنه. والحوب: كبائر الإثم. والخطايا: صغائره. هذا إذا جمع بينهما، أما إذا افترقا؛ فهما بمعنى واحد؛ يعني: اغفر لنا كبائر الإثم وصغائره؛ لأن في المغفرة زوال المكروب وحصول المطلوب، ولأن الذنوب قد تحول بين الإنسان وبين توفيقه؛ فلا يوفَّق ولا يُجاب دعاؤه. * قوله: "أنت رب الطَّيِّبين": هذه ربوبية خاصة، وأما الربوبية العامة؛ فهو رب كل شيء، والربوبية قد تكون خاصة وقد تكون عامة.

واستمع إلى قول السحرة الذين آمنوا: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف: 121 - 122]؛ حيث عموا ثم خصوا. واستمع إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91]، فـ {رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ}: خاص، {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ}: عام. * والطيبون: هم المؤمنون؛ لأكل مؤمن، فهو طيب، وهذا من باب التوسل بهذه الربوبية الخاصة، إلى أن يستجيب الله الدعاء ويشفي المريض. * قوله: "أنزل رحمةً من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا الوجع": هذا الدعاء وما سبقه من باب التوسل. * "أنزل رحمة من رحمتك": الرحمة نوعان: - رحمة هي صفة الله؛ فهذه غير مخلوقة وغير بائنة من الله عزَّ وجلَّ؛ مثل قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ} [الكهف: 58]، ولا يطلب نزولها. - ورحمة مخلوقة، لكنها أثر من آثار رحمة الله؛ فأطلق عليها الرحمة؛ مثل قوله تعالى في الحديث القدسي عن الجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء" (¬1). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (1/ 344)، وهو في "الصحيحين".

* الحديث التاسع: في إثبات العلو أيضا

* كذلك الشفاء؛ فالله شاف، ومنه الشفاء؛ فوصفه الشفاء، وهو فعل من أفعاله، وهو بهذا المعنى صفة من صفاته، وأما باعتبار تعديه إلى المريض؛ فهو مخلوق من مخلوقاته؛ فإن الشفاء زوال المرض. * قوله: "فيبرأ": بفتح الهمزة منصوبًا؛ لأنه جواب الدعاء: أنزل رحمة؛ فيبرأ. أما إذا قرئ بالضم مرفوعًا؛ فإنه مستأنف، ولا يتبع الحديث، بل يوقف عند قوله: "الوجع"، وتكون "فيبرأ": جملة خبرية تفيد أن الإنسان إذا قرأ بهذه الرقية؛ فإن المريض يبرأ، ولكن الوجه الأول أحسن وهو بالنصب. * * * • الحديث التاسع: في إثبات العلو أيضًا: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا تَأمَنوني وأَنا أَمينُ مَنْ في السَّماءِ" (¬1). الشرح: * "ألا تأمنوني": فيها إشكال لغوي، وهو حذف نون الفعل بدون ناصب ولا جازم!! والجواب عن هذا: أنه إذا اتصلت نون الوقاية بفعل من الأفعال الخمسة؛ جاز حذف نون الرفع. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

* الحديث العاشر: في إثبات العلو أيضا

* "ألا تأمنوني"؛ أي: ألا تعتبروني أمينًا. * "وأنا أمين من في السماء": والذي في السماء هو الله عز وجل، وهو أمينه عليه الصلاة والسلام على وحيه، وهو سيد الأمناء عليه الصلاة والسلام، والرسول والذي ينزل عليه جبريل هو أيضًا أمين: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19، 20]. * وهذا الحديث له سبب، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم ذهيبة بعث بها علي من اليمن بين أربعة نفر، فقال له رجل: نحن أحق بهذا من هؤلاء. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء". * "ألا": للعرض؛ كأنه يقول: ائمنوني؛ فإني أمين من في السماء! ويحتمل أن تكون الهمزة لاستفهام الإنكار، و (لا): نافية. * والشاهد قوله: "من في السماء"، ونقول فيها ما قلناه فيما سبق في الآيات. * * * • الحديث العاشر: في إثبات العلو أيضًا: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وَالعَرْشُ فَوْقَ الماءِ، وَاللهُ فَوْقَ العَرْشِ، وَهُوَ يَعْلَمُ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ". حديث حسن، رواه أبو داود

الفائدة المسلكية من هذا الحديث

وغيره (¬1). الشرح: * لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام المسافات التي بين السماوات؛ قال: "والعرش فوق الماء". ويشهد لهذا قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]. * قال: "والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه": هو فوق العرش، ومع ذلك لا يخفى عليه شيء من أحوالنا وأعمالنا، بل قد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16]؛ يعني: الشيء الذي في ضميرك يعلمه الله؛ مع أنه ما بان لأحد. * وقوله: "وهو يعلم ما أنتم عليه": يفيد إحاطة علم الله بكل ما نحن عليه. * الفائدة المسلكية من هذا الحديث: وإذا آمنا بهذا الحديث؛ فإننا نستفيد منه فائدة مسلكية، وهي ¬

_ (¬1) رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد" (1/ 242)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (851)، وأبو الشيخ في كتاب "العظمة" (279)، واللالكائي في "شرح السنة" (659)، والدارمي في "الرد على الجهمية" (81)، وقال الذهبي: في "مختصر العلو" (103) إسناده صحيح، وعزاه الهيثمي في "المجمع " (1/ 86) للطبراني في "الكبير" وقال: رجاله رجال الصحيح.

* الحديث الحادي عشر: في إثبات العلو أيضا

تعظيم الله عزَّ وجلَّ، وأنه في العلو، وأنه يعلم ما نحن عليه، فنقوم بطاعته؛ بحيث لا يفقدنا حيث أمرنا، ولا يجدنا حيث نهانا. * * * • الحديث الحادي عشر: في إثبات العلو أيضًا: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - للجارية: "أيْنَ الله؟ ". قالت: في السماء. قال: "مَنْ أنا؟ ". قالت: أنت رسول الله. قال: "أعْتِقْها" فإنَّها مُؤْمِنَة". رواه مسلم (¬1). الشرح: * قوله: "أين الله؟ ": (أين): يستفهم بها عن المكان. * "قالت: في السماء"، يعني: على السماء، أو: في العلو؛ على حسب الاحتمالين السابقين (¬2). * "قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة". وعند أهل التعطيل هي بقولها: "في السماء": إذا أرادت أنه في العلو؛ هي كافرة!! لأنهم يرون أن من أثبت أن الله في جهة، فهو كافر، إذ يقولون: إن الجهات خالية منه. واستفهام النبي - صلى الله عليه وسلم - بـ (أين) يدل على أن لله مكانًا. ولكن يجب أن نعلم أن الله تعالى لا تحيط به الأمكنة، لأنه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (1/ 85). (¬2) (1/ 397 - 398).

* الحديث الثاني عشر: في إثبات المعية

أكبر من كل شيء، وأن ما فوق الكون عدم، ما ثَمَّ إلا الله؛ فهو فوق كل شيء. * وفي قوله: "أعتقها؛ فإنها مؤمنة": دليل على أن عتق الكافر ليس بمشروع، ولهذا لا يجزئ عتقه في الكفارات؛ لأن بقاء الكافر عندك رقيقًا؛ فيه نوع حماية له وسلطة وإمرة وتقريب من الإسلام؛ فإذا أعتقته؛ تحرر، وإذا تحرر؛ فيخشى منه أن يرجع إلى بلاد الكفر؛ لأن أصل الرق هو الكفر، ويبقى معينًا للكافرين على المؤمنين. * * * • الحديث الثاني عشر: في إثبات المعية: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت". حديث حسن، أخرجه الطبراني من حديث عبادة بن الصامت (¬1). الشرح: * أفاد الحديث معيَّة الله عزَّ وجلَّ، وقد سبق في الآيات أن معية الله لا تستلزم أن يكون في الأرض، بل يمتنع غاية الامتناع أن يكون في الأرض؛ لأن العلو من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها أبدًا، بل هي لازمة له سبحانه وتعالى. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (1/ 407).

* الحديث الثالث عشر: في إثبات كون الله قبل وجه المصلي

وسبق (¬1) أيضًا أنها قسمان. * وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الإيمان أن تعلم": يدل على أن الإيمان يتفاضل؛ لأنك إذا علمت أن الله معك حيثما كنت؛ خفت منه عزَّ وجلَّ وعظَّمته. لو كنت في حجرة مظلمة ليس فيها أحد؛ فاعلم أن الله معك، لا في الحجرة؛ لكنه سبحانه وتعالى معك؛ لإحاطته بك علمًا وقدرة وسلطانًا وغير ذلك من معاني ربوبيته. * الحديث الثالث عشر: في إثبات كون الله قبل وجه المصلي: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قامَ أحَدُكُمْ إلى الصَّلاة؛ فَلا يَبْصُقَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلا عَنْ يَمينِه؛ فإنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِهِ، ولكِنْ عَنْ يَسارِهِ، أو تَحْتَ قَدَمِهِ". متفق عليه (¬2). الشرح: * "قبل وجهه"؛ يعني: أمامه. قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]. * "يمينه": ورد فيه حديث: "فإن عن يمينه ملكًا (¬3) "، ولأن ¬

_ (¬1) (1/ 386 - 388). (¬2) البخاري (405)، ومسلم (547)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) البخاري (416) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ما يستفاد من هذا الحديث

اليمين أفضل من الشمال، فيكون اليسار أولى بالبصاق ونحوه، ولهذا قال: "ولكن عن يساره أو تحت قدمه". فإن كان في المسجد؛ قال العلماء: فإنه يجعل البصاق في خرقة أو منديل أو ثوبه، ويحك بعضه ببعض، حتى تزول صورة البصاق، وإذا كان الإنسان في المسجد عند الجدار، والجدار قصير عن يساره، فإنه يمكن أن يبصق عن يساره إذا لم يؤذ أحدًا من المارة. * يستفاد من هذا الحديث: أن الله تبارك وتعالى أمام وجه المصلي، ولكن يجب أن نعلم أن الذي قال: إنه أمام وجه المصلي، هو الذي قال: إنه في السماء، ولا تناقض في كلامه هذا وهذا؛ إذ يمكن الجمع من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن الشرع جمع بينهما، ولا يجمع بين متناقضين. الوجه الثاني: أنه يمكن أن يكون الشيء عاليًا، وهو قِبَل وجهك؛ فها هو الرجل يستقبل الشمس أول النهار، فتكون أمامه، وهي في السماء، ويستقبلها في آخر النهار، تكون أمامه، وهي في السماء، فإذا كان هذا ممكنًا في المخلوق، ففي الخالق من باب أولى بلا شك. الوجه الثالث: هب أن هذا ممتنع في المخلوق؛ فإنه لا يمتنع في الخالق، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في جميع صفاته.

* الحديث الرابع عشر: في إثبات العلو وصفات أخرى

يستفاد من هذا الحديث من الناحية المسلكية وجوب الأدب مع الله عزَّ وجلَّ ويستفاد أنه متى آمن المصلي بذلك فإنه يحدث له خشوعًا وهيبة من الله عزَّ وجلَّ. • الحديث الرابع عشر: في إثبات العلو وصفات أخرى: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهُمَّ! رَبَّ السَّماواتِ السَّبْع وَالأرْضِ وَرَبَّ العَرْشِ العَظيمِ! رَبَّنا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ! فالِقَ الحَبِّ والنَّوَى! مُنْزِلَ التَّوْراةِ وَالإنْجيلِ وَالقُرْآنِ! أعوذُ بِكَ مِنْ شَر نَفْسي، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دابَّةٍ أنْتَ آخِذٌ بِناصِيَتِها. أنْتَ الأوَّلُ؛ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وأنْتَ الآخِرُ؛ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْء، وأنْتَ الظَّاهِرُ؛ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وأنْتَ الباطِنُ؛ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ؛ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ، وأغْنِني مِنَ الفَقْرِ". رواه مسلم (¬1). الشرح: * هذا حديث عظيم، توسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الله تعالى بربوبيته في قوله: "اللهم! رب السماوات السبع والأرض! ورب العرش العظيم! ربنا ورب كل شيء! "، وهذا من باب التعميم بعد التخصيص في قوله: "ورب كل شيء"، وهذا التعميم بعد التخصيص؛ لئلا يتوهم واهم اختصاص الحكم بما خصص به. وانظر إلى قوله تعالى {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91]؛ حيث قال: {وَلَهُ كُلُّ ¬

_ (¬1) مسلم (2713) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

شَيْءٍ}؛ حتى لا يظن ظان أنه ليس ربًّا إلا لهذه البلدة. * "فالق الحب والنوى": حب الزروع. و"النوى": نوى الغرس، فالأشجار التي تخرج: إما زروع أصلها الحب، وإما أشجار أصلها النوى، فما للأشجار يسمى نوى، وما للزروع يسمى حبًّا، {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: 6]. هذا الحب والنوى اليابس الذي لا ينمو ولا يزيد، يفلقه الرب عزَّ وجلَّ، أي: يفتحه حتى تخرج منه الأشجار والزروع، ولا يستطيع أحد أن يفعل ذلك، مهما بلغ النالس في القدرة، ما استطاعوا أن يفلقوا حبة واحدة أبدًا! والنوى كذلك الذي كالحجر؛ لا ينمو، ولا يزيد، يفلقه الله عزَّ وجلَّ، وينفرج، ثم تكون منه الغريسة التي تنمو، ولا أحد يستطيع ذلك، إلا الذي فلقها سبحانه وتعالى. ولما ذكر الآية الكونية العظيمة؛ ذكر الآيات الشرعية، وهي: * قوله: "منزل التوراة والإنجيل والقرآن": وهذه أعظم كتب أنزلها الله عزَّ وجلَّ، وبدأها على الترتيب الزمني: التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، والفرقان على محمد - صلى الله عليه وسلم -. وفي هذا نص صريح على أن التوراة منزلة كما جاء في القرآن: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} [المائدة: 44]، وقال في أول سورة آل عمران: {نزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3 - 4].

* قوله: "أعوذ بك من شر نفسي": أعتصم بالله من شر نفسي. إذًا؛ في نفسك شر، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]. لكن النفس نفسان: - نفس مطمئنة طيبة تأمر بالخير. - ونفس شريرة أمارة بالسوء. والنفس اللوامة، هل هي ثالثة، أو وصف للثنتين السابقتين؟! فيه خلاف: بعضهم يقول: إنها نفس ثالثة. وبعضهم يقول: هي وصف للثنتين السابقتين، فالمطمئنة تلومك، والأمارة بالسوء تلومك، فيكون قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2]؛ يشمل النفسين جميعًا. فالمطمئنة تلومك على التقصير في الواجب، إذا أهملت واجبًا، لامتك، وإذا فعلت محرمًا، لامتك. والأمارة بالسوء بالعكس، إذا فعلت الخير، لامتك، وتلومك إذا فوَّتَّ ما تأمرك به من السوء. إذًا؛ صارت اللوَّامة على القول الراجح وصفًا للنفسين معًا. وقوله هنا: "أعوذ بك من شر نفسي": المراد بها النفس الأمارة بالسوء.

* قوله: "ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها": الدابة: كل ما يدب على الأرض، حتى الذي يمشي على بطنه داخل في هذا الحديت؛ كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} [النور: 45]، وقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. وإن كانت الدابة تطلق في العرف على ذوات الأربع، وفي عرف أخص تطلق على الحمار فقط، لكنها في مثل هذا الحديث يراد بها كل ما يدب على الأرض، وما يدب على الأرض فيه شرور، أما بعضه؛ فشر محض بالنسبة لذاته، وأما بعضه؛ ففيه خير وفيه شر، وحتى الذي فيه خير، لا يسلم من الشر. * قوله: "أنت آخذ بناصيتها": الناصية: مقدم الرأس، وإنما نص على الناصية؛ لأنه هو المقدم، وهو الذي يمسك به لقيادة البعير وشبهه. وقيل: خُصَّ ذلك؛ لأن المخ الذي فيه التصور والتلقي يكون في مقدمة الرأس، والعلم عند الله. * قوله: "أنت الأول؛ فليس قبلك شيء": هذا تفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله: "الأول"، والأول من أسماء الله. وقد ذكرنا عند تفسير الآية أن أهل الفلسفة يسمُّون الله: القديم، وذكرنا أن القديم ليس من أسماء الله الحسنى، وأنه لا يجوز أن يسمَّى به، لكن يجوز أن يخبر به عنه، وباب الخبر أوسع من باب التسمية؛ لأن القديم ليس من الأسماء الحسنى، والقديم فيه نقص؛ لأن القدم قد يكون قدمًا نسبيًّا؛ ألم تر إلى قوله تعالى:

{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، والعرجون القديم حادث، لكنه قديم بالنسبة لما بعده. * قوله: "وأنت الظاهر؛ فليس فوقك شيء": الظاهر من الظهور، وهو العلو؛ كما قال تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 97]؛ {يظهروه} أي: يعلوا عليه. وأما من قال: الظاهر بآياته؛ فهذا خطأ؛ لأنه لا أحد أعلم بتفسير كلام الله من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد قال: "الظاهر؛ فليس فوقك شيء"؛ بل هو فوق كل شيء سبحانه. * قوله: "وأنت الباطن؛ فليس دونك شيء": المعنى: ليس دون الله شيء، لا أحد يدبر دون الله، ولا أحد ينفرد بشيء دون الله، ولا أحد يخفى على الله؛ كل شيء؛ فالله محيط به، ولهذا قال: "ليس دونك شيء"؛ يعني: لا يحول دونك شيء، ولا يمنع دونك شيء، ولا ينفع ذا الجد منك الجد ... وهكذا. * قوله: "اقض عني الدَّين": الدَّين: ما يستحق على الإنسان من مال أو حق؛ اشتريت منك حاجة، ولم أنقدك الثمن؛ فهذا يسمى دينًا، وإن كان غير مؤجل. * قوله: "وأغنني من الفقر": الفقر: خلو ذات اليد، ولا شك أن الفقر فيه إيلام للنفس، والدَّين فيه ذل؛ المدين ذليل للدائن، والفقير معوز ربما يجره الفقر إلى أمر محرم. ألم يأتكم نبأ الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فتوسل كل

الأسماء والصفات التي تضمنها هذا الحديث

واحد منهم بصالح عمله، وكان لأحدهم ابنة عم أعجبته، وكان يراودها عن نفسها، ولكنها كانت تأبى ذلك، فألمت بها سنة من السنين، واحتاجت، وجاءت إليه تطلب منه أن يعينها، فأبى عليها؛ إلا أن تمكِّنه من نفسها، ومن أجل ضرورتها؛ وافقت على هذا، فلما جلس منها مجلس الرجل من امرأته؛ قالت له: يا هذا! اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه! وأثرت هذه الكلمة في الرجل عندما كانت نابعة من القلب، فقام عنها. قال: فقمت عنها وهي أحب الناس إليَّ. لكن ذكرته هذه الموعظة الكريمة؛ فأقلع (¬1). فانظر إلى الفقر؛ فإن هذه المرأة أرادت أن تبيع عرضها بسبب الفقر. إذًا؛ قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أغنثي من الفقر": سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يغنيه من الفقر؛ لأن الفقر له آفات عظيمة. * وفي هذا الحديث أسماء وصفات: - فمن الأسماء: الأول، والآخر، والظاهر، والباطن. - ومن الصفات: الأولية والآخرية، وفيهما الإحاطة الزمانية. والظاهرية والباطنية، وفيهما الإحاطة المكانية. ومنها: العلو، وعموم ربوبيته، وتمام قدرته. ومنها: كمال رحمته وحكمته بإنزال الكتب؛ لتحكم بين الناس وتهديهم صراط الله. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3465)، ومسلم (2743)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

الفوائد المسلكية من هذا الحديث

* ومن غير الأسماء والصفات: التوسل إلى الله بصفات الله، والتحذير من شر النفوس، وسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقضي الله دينه ويغنيه من الفقر، وبيان ضعف الحديث الذي فيه سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحييه ربه مسكينًا (¬1). * وفيه من الفوائد المسلكية: التحذير من شر النفس، وتعظيم شأن الدين، وأن يحرص على تلافي الدَّين بقدر الإمكان، ويقتصد في ماله طلبًا وتصرفًا، لأنه إذا اقتصد في ذلك، سلم غالبًا من الفقر والدين. * * * • الحديث الخامس عشر: في إثبات قرب الله تعالى: وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا رفع الصحابة أصواتهم بالذكر: "أيُّها النَّاسُ! أرْبَعُوا عَلى أنْفُسِكُمْ، فَإنكمْ لا تَدْعُون أصَمَّ وَلا غائِبًا؛ إنَّما تَدْعونَ سَميعًا بَصيرًا، إنَّ الذي تَدْعونَهُ أقْرَبُ إلى أحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ ¬

_ (¬1) لما رواه الترمذي (2352) عن أنس، وابن ماجه (4126) عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة"، وصححه الألباني في "الصحيحة" (308) و"الإرواء" (853). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وسواء صح لفظه أم لم يصح، فالمسكين المحمود هو المتواضع. "مجموع الفتاوى" (18/ 326)، وقال الحافظ في "التلخيص الحبير" (275): أسرف ابن الجوزي فذكر هذا الحديث في "الموضوعات"!

راحِلَتِهِ". متفق عليه (¬1) الشرح: * كان الصحابة رضي الله عنهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذا علوا نشزًا؛ كبروا، وإذا نزلوا واديًا؛ سبحوا (¬2)؛ لأن الإنسان إذا ارتفع؛ قد يتعاظم في نفسه، ويرى أنه مرتفع عظيم؛ فناسب أن يقول: الله أكبر! تذكيرًا لنفسه بكبرياء الله عزَّ وجلَّ، وأما إذا نزل؛ فهذا سفول ونزول، فيقول: سبحان الله! تذكيرًا لنفسه بتنزه الله عن السفل. فكان الصحابة رضي الله عنهم يرفعون أصواتهم بالذكر جدًّا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: * "أيها الناس! اربعوا على أنفسكم"؛ يعني: هوّنوا عليها. * "فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبًا"؛ لا تدعون أصم لا يسمع، ولا غائبًا لا يرى. * "إنما تدعون سميعًا"؛ يسمع ذكركم، "بصيرًا"؛ يرى أفعالكم. * "إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته": عنق الراحلة للراكب قريب جدًّا؛ فالله تعالى أقرب من هذا إلى الإنسان، ومع هذا؛ فهو فوق سماواته على عرشه. ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (6610)، ومسلم (2704)، والإمام أحمد في "المسند" (4/ 402)؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬2) تقدم تخريجه (1/ 359).

ما يستفاد من هذا الحديث

ولا منافاة بين القرب والعلو؛ لأن الشيء قد يكون بعيدًا قريبًا؛ هذا بالنسبة للمخلوق؛ فكيف بالخالق؟! فالرب عزَّ وجلَّ قريب مع علوه، أقرب إلى أحدنا من عنق راحلته. * هذا الحديث فيه فوائد: - فيه شيء من الصفات السلبية: نفي كونه أصم أو غائبًا؛ لكمال سمعه ولكمال بصره وعلمه وقربه. - وفيه أيضًا أنه ينبغي للإنسان ألا يشقَّ على نفسه في العبادة؛ لأن الإنسان إذا شق على نفسه؛ تعبت النفس وملت، وربما يتأثر البدن، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا" (¬1). فلا ينبغي للإنسان أن يشق على نفسه، بل ينبغي أن يسوس نفسه: إذا وجد منها نشاطًا في العبادة؛ عمل واستغلَّ النشاط، وإذا رأى فتورًا في غير الواجبات، أو أنها تميل إلى شيء آخر من العبادات؛ وجهها إليه. حتى إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر من نعس في صلاته أن ينام ويدع الصلاة؛ قال: "فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر فيسب نفسه" (¬2). ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى يقول القائل: لا يفطر، ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (1151، 1970)، ومسلم (782)؛ عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه: البخاري (212)، ومسلم (786)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

الفوائد المسلكية من هذا الحديث

ويفطر حتى يقول القائل: لا يصوم (¬1)، وكذلك في القيام والنوم. - وفيه أيضًا: أن الله قريب، وقد دل عليه قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقر ة: 186]. * ونستفيد من هذا الحديث من الناحية المسلكية: - أنه لا ينبغي لنا أن نشق على أنفسنا بالعبادات، وأن يكون سيرنا إلى الله وسطًا؛ لا تفريط ولا إفراط. - وفيه أيضًا: الحذر من الله؛ لأنه سميع وقريب وبصير، فنبتعد عن مخالفته. - وفيه أيضًا من الناحية الحكمية: جواز تشبيه الغائب بالحاضر للإيضاح؛ حيث قال: "إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته". - وفيه أيضًا أنه ينبغي أن يراعي الإنسان في المعاني ما كان أقرب إلى الفهم؛ لأن هؤلاء مسافرون، وكل منهم على راحلته، وإذا ضرب المثل بما هو قريب؛ فلا أحسن من هذا المثل الذي ذكره النبي عليه الصلاة والسلام. * * * ¬

_ (¬1) كما جاء ذلك في "صحيح البخاري" (1972، 1973)، ومسلم (1157)؛ من حديث ابن عباس وأنس بن مالك رضي الله عنهم. أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم".

* الحديث السادس عشر: إثبات رؤية المؤمنين لربهم

• الحديث السادس عشر: إثبات رؤية المؤمنين لربهم: وهو - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَما تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لا تُضامُّونَ في رُؤْيَتِهِ، فَإنِ اسْتَطَعْتُمْ أنْ لا تُغْلَبُوا على صَلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وَصَلاةٍ قَبْلَ غُروبِها" فَافْعَلوا". متفق عليه (¬1). الشرح: * قوله: "إنكم سترون ربكم": السين للتحقيق، وتخلص الفعل المضارع إلى الاستقبال بعد أن كان صالحًا للحال والاستقبال، كما أن (لم) تخلصه للماضي، والخطاب للمؤمنين. * قوله: "كما ترون القمر": هذه رؤية بصرية؛ لأن رؤيتنا للقمر بصرية، وهنا شبه الرؤية بالرؤية، فتكون رؤية بصرية. * وقوله: "كما ترون": (ما) هذه مصدرية، فيحوَّل الفعل بعدها إلى مصدر، ويكون التقدير: كرؤيتكم القمر، فالتشبيه حينئذ للرؤية بالرؤية، وليس للمرئي بالمرئي، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء. والنبي عليه الصلاة والسلام يقرب المعاني أحيانًا بذكر الأمثلة الحسية الواقعية، كما سأله أبو رزين العقيلي لقيط بن عامر؛ قال: يا رسول الله! أكلنا يرى ربه يوم القيامة، وما آية ذلك في خلقه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلكم ينظر إلى القمر مخليًا به". قال: بلى. قال ¬

_ (¬1) رواه البخاري (554)، ومسلم (633)؛ عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه.

النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فالله أعظم" (¬1). وقوله: "مُخليًا به"، يعني: خاليًا به. وكما ثبت به الحديث في "صحيح مسلم" (¬2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إن الله يقولى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين. قال: حمدني عبدي". وهذا يشمل كل مصلٍّ، ومن المعلوم أنه قد يتفق المصلون في هذه الآية جميعًا، فيقولى الله لكل واحد: "حمدني عبدي"، في آن واحد. * قال: "كما ترون القمر ليلة البدر": أي: ليلة إبداره، وهي الليلة الرابعة عشرة والخامسة عشرة والثالثة عشرة أحيانًا، والوسط الرابعة عشرة، كما قال ابن القيم: كالبدر ليل الست بعد ثمان. في قوله: "لا تضامُّون في رؤيته"، وفي لفظ: "لا تضامُون"، وفي لفظ: "لا تضارون": - "لا تُضامون": بضم التاء وتخفيف الميم، أي: لا ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (4/ 11)، وأبو داود (4731)، والحاكم (4/ 560)، وصححه ووافقه الذهبي، ورواه ابن خزيمة في "التوحيد" (438)، والآجري في "الشريعة" (262)، وابن أبي عاصم في كتاب "السنة" (1/ 200)، وقال الألباني في "ظلال الجنة": حديث حسن، رجاله رجال مسلم غير وكيع بن عدس ويقال: حدس. (¬2) رواه مسلم (395).

الصفات التي تضمنها هذا الحديث

يلحقكم ضيم، والضيم الظلم، والمعنى: لا يحجب بعضكم بعضًا عن الرؤية فيظلمه بمنعه إياه. لأن كل واحد يراه. - "لا تضامُّون": بتشديد الميم وفتح التاء وضمها: يعني: لا ينضم بعضكم إلى بعض في رؤيته؛ لأن الشيء إذا كان خفيًّا؛ ينضم الواحد إلى صاحبه ليريه إياه. - أما "لا تضارُون" أو "لا تضارُّون"؛ فالمعنى: لا يلحقكم ضرر؛ لأن كل إنسان يراه سبحانه وتعالى وهو في غاية ما يكون من الطمأنينة والراحة. * قوله: "فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها؛ فافعلوا": الصلاة قبل طلوع الشمس هي الفجر، وقبل غروبها هي العصر. والعصر أفضل من الفجر؛ لأنها الصلاة الوسطى التي خصها الله بالأمر بالمحافظة عليها بعد التعميم، والفجر أفضل من العصر من وجه؛ لأنها الصلاة المشهودة؛ كما قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]، وجاء في الحديث الصحيح: "من صلى البردين؛ دخل الجنة" (¬1)، وهما: الفجر والعصر. * في هذا الحديث من صفات الله: إثبات أن الله يرى، وقد سبق (¬2) شرح هذه الصفة عند ذكر الآيات الدالة عليها، وهي أربع ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (574)، ومسلم (635)؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. (¬2) (1/ 448 - 455).

آيات، والأحاديث في هذا متواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فثبوتها قطعي، ودلالتها قطعية. ولهذا ذهب بعض العلماء إلى أن من أنكر رؤية الله تعالى؛ فهو كافر مرتد (¬1)، وأن الواجب على كل مؤمن أن يقر بذلك. قال: وإنما كفرناه؛ لأن الأدلة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، ولا يمكن لأحد أن يقول: إن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "إنكم سترون ربكم"؛ إنه ليس قطعي الدلالة؛ إذ ليس هناك شئ أشد قطعًا من مثل هذا التركيب. لو كان الحديث: "إنكم ترون ربكم": لربما تحتمل التأويل، وأنه عبر عن العلم اليقيني بالرؤية البصرية، ولكنه صرح بأنا نراه كما نرى القمر، وهو حسي. وسبق لنا أن أهل التعطيل يؤولون هذه الأحاديث ويفسرون الرؤية برؤية العلم، وسبق بطلان قولهم (¬2). * قوله: "إلى أمثال هذه الأحاديث ... " إلخ؛ يعني: انظر إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر بها النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ربه؛ فما كان مثلها ثبوتًا ودلالة؛ فحكمه حكمها. * قوله: "الفرقة الناجية": "الفرقة"؛ أي: الطائفة. * "الناجية": التي نجت في الدنيا من البدع، وفي الآخرة من ¬

_ (¬1) انظر "حادي الأرواح" لابن القيم (ص 242)، فقد نقل كلام الإمام أحمد وغيره؛ في أن من أنكر رؤية الله تعالى فهو كافر. (¬2) (1/ 456 - 458).

النار. * "أهل السنة والجماعة"؛ أي: الذين أخذوا بالسنة واجتمعوا عليها. * "يؤمنون بذلك"؛ أي: بما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. * "كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه": لأن ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام يجب علينا أن نؤمن به كما يجب علينا أن نؤمن بما أخبر الله به في كتابه؛ إلا أنه يختلف عن القرآن في الثبوت؛ فإن لنا نظرين بالنسبة لما جاءت به السنة: النظر الأول: في ثبوته. والنظر الثاني: في دلالته. أما ما في القرآن؛ فلنا نظر واحد، وهو النظر في الدلالة. وقد سبق (¬1) لنا بيان الأدلة الدالة على وجوب قبول ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم -. * قال: "من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل": سبق شرح هذا (¬2). * * * ¬

_ (¬1) (2/ 11). (¬2) (2/ 86).

فصل: مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة واتصافهم بالوسطية

فصل مكانة أهل السنة والجماعة بين فرق الأمة وأتصافهم بالوسطية • قال المؤلف رحمه الله: "بَلْ هُمُ الوَسَطُ في فِرَقِ الأمَّةِ، كما أنَّ الأمَّةَ هِيَ الوَسَطُ في الأمَمِ". الشرح: * قوله: "الأمة هي الوسط بين الأمم"؛ يعني: الأمم السابقة، وذلك من عدة أوجه: - ففي حق الله تعالى: كانت اليهود تصف الله تعالى بالنقائص، فتلحقه بالمخلوق. وكانت النصارى تلحق المخلوق الناقص بالرب الكامل. أما هذه الأمة، فلم تصف الرب بالنقائص، ولم تلحق المخلوق به. * وفي حق الأنبياء؛ كذبت اليهود عيسى بن مريم، وكفرت به. وغلت النصارى فيه، حتى جعلته إلهًا. أما هذه الأمة، فآمنت

به بدون غلو، وقالت: هو عبد الله ورسوله. - وفي العبادات، النصارى يدينون لله عزَّ وجلَّ بعدم الطهارة؛ بمعنى أنهم لا يتطهرون من الخبث، يبول الواحد منهم، ويصيب البول ثيابه، ويقوم، ويصلي في الكنيسة!! واليهود بالعكس، إذا أصابتهم النجاسة؛ فإنهم يقرضونها من الثوب؛ فلا يطهرها الماء عندهم؛ حتى إنهم يبتعدون عن الحائض لا يؤاكلونها ولا يجتمعون بها. أما هذه الأمة، فهم وسط، فيقولون: لا هذا ولا هذا، لا يُشَق الثوب، ولا يُصَلى بالنجاسة، بل يغسل غسلًا حتى تزول النجاسة منه، ويصلى به، ولا يبتعدون عن الحائض، بل يؤاكلونها ويباشرها زوجها في غير الجماع. - وكذلك أيضًا في باب المحرَّمات من المآكل والمشارب؛ النصارى استحلوا الخبائث وجميع المحرمات، واليهود حرِّم عليهم كل ذي ظفر، كما قال تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الأنعام: 146]، أما هذه الأمة، فهم وسط، أحلت لهم الطيبات، وحرمت عليهم الخبائث. - وفي القصاص؛ القصاص فرض على اليهود، والتسامح عن القصاص فرض على النصارى، أما هذه الأمة، فهي مخيرة بين القصاص والدية والعفو مجانًا. فكانت الأمة الإسلامية وسطًا بين الأمم بين الغلو والتقصير.

- الأصل الأول: باب الأسماء والصفات

فأهل السنة والجماعة بين فرق الأمة كالأمة بين الديانات الأخرى؛ يعني: أنهم وسط. ثم ذكر المؤلف رحمه الله أصولًا خمسة كان أهل السنة والجماعة فيها وسطًا بين فرق الأمة: * * * • الأصل الأول: باب الأسماء والصفات: قال المؤلف: "فَهُمْ وَسَطٌ في باب صِفاتِ اللهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى بَيْنَ أهْلِ التَّعْطيلِ الجَهْمِيَّةِ وَأهْلِ التَّمْثيلِ المُشَبِّهَةِ". الشرح: * هذان طرفان متطرفان: أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة. * فالجهمية: ينكرون صفات الله عزَّ وجلَّ، بل غلاتهم ينكرون الأسماء ويقولون: لا يجوز أن نثبت لله اسمًا ولاصفةً، لأنك إذا أثبت له اسمًا؛ شبهته بالمسميات، أو صفة؛ شبهته بالموصوفات!! إذًا، لا نثبت اسمًا ولا صفة!! وما أضاف الله إلى نفسه من الأسماء؛ فهو من باب المجاز، وليس من باب التسمي بهذه الأسماء!! - والمعتزلة ينكرون الصفات ويثبتون الأسماء. - والأشعرية يثبتون الأسماء وسبعًا من الصفات.

* كل هؤلاء يشملهم اسم التعطيل، لكن بعضهم معطل تعطيلًا كاملًا؛ كالجهمية، وبعضهم تعطيلًا نسبيًّا؟ مثل المعتزلة والأشاعرة. * وأما أهل التمثيل المشبهة؛ فيثبتون لله الصفات، ويقولون: يجب أن نثبت لله الصفات؛ لأنه أثبتها لنفسه، لكن يقولون: إنها مثل صفات المخلوقين. فهؤلاء غلوا في الإثبات، وأهل التعطيل غلوا في التنزيه. فهؤلاء قالوا: يجب عليك أن تثبت لله وجهًا، وهذا الوجه مثل وجه أحسن واحد من بني آدم. قالوا: لأن الله خاطبنا بما نعقل ونفهم؛ قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)} [الرحمن: 27]، ولا نعقل ونفهم من الوجه إلا ما نشاهد، وأحسن ما نشاهد الإنسان. فهو على زعمهم -والعياذ بالله- على مثل أحسن واحد من الشباب الإنساني!! ويدَّعون أن هذا هو المعقول!! * وأما أهل السنة والجماعة؛ فقالوا: نحن نأخذ بالحق الذي مع الجانبين؛ فنأخذ بالحق في باب التنزيه؛ فلا نمثل، ونأخذ بالحق في باب الإثبات؛ فلا نعطل؛ بل إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل؛ نحن نثبت ولكن بدون تمثيل، فنأخذ بالأدلة من هنا ومن هنا.

- الأصل الثاني: أفعال الله

والخلاصة: هم وسط في باب الصفات بين طائفتين متطرفتين: طائفة غلت في التنزيه والنفي، وهم أهل التعطيل من الجهمية وغيرهم، وطائفة غلت في الإثبات، وهم الممثلة. وأهل السنة والجماعة يقولون: لا نغلوا في الإثبات ولا في النفي، ونثبت بدون تمثيل؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [لشورى: 11]. * * * • الأصل الثاني: أفعال الله: قال المؤلف: "وَهُمْ وَسَطٌ في بابِ أفْعالِ اللهِ بَيْنَ الجَبْرِيَّةِ وَالقَدَرِيَّةِ". الشرح: * في باب القدر انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: - قسم آمنوا بقدر الله عزَّ وجلَّ وغلوا في إثباته، حتى سلبوا الإنسان قدرته واختياره، وقالوا: إن الله فاعل كل شيء، وليس للعبد اختيار ولا قدرة، وإنما يفعل الفعل مجبرًا عليه، بل إن بعضهم ادعى أن فعل العبد هو فعل الله، ولهذا دخل من بابهم أهل الاتحاد والحلول، وهؤلاء هم الجبرية. - والقسم الثاني قالوا: إن العبد مستقل بفعله، وليس لله فيه مشيئة ولا تقدير، حتى غلا بعضهم، فقال: إن الله لا يعلم فعل العبد إلا إذا فعله، أما قبل؛ فلا يعلم عنه شيئًا، وهؤلاء هم

القدرية، مجوس هذه الأمة. فالأولون غلوا في إثبات أفعال الله وقدره وقالوا: إن الله عز وجل يجبر الإنسان على فعله، وليس للإنسان اختيار. والآخرون غلوا في إثبات قدرة العبد، وقالوا: إن القدرة الإلهية والمشيئة الإلهية لا علاقة لها في فعل العبد؛ فهو الفاعل المطلق الاختيار. - والقسم الثالث: أهل السنة والجماعة؛ قالوا: نحن نأخذ بالخق الذي مع الجانبين؛ فنقول: إن فعل العبد واقع بمشيئة الله وخلق الله، ولا يمكن أن يكون في ملك الله ما لا يشاؤه أبدًا، والإنسان له اختيار وإرادة، ويفرق بين الفعل الذي يضطر إليه والفعل الذي يختاره، فأفعال العباد باختيارهم وإرادتهم، ومع ذلك؛ فهي واقعة بمشيئة الله وخلقه. لكن سيبقى عندنا إشكال: كيف تكون خلقًا لله وهي فعل الإنسان؟! والجواب أن أفعال العبد صدرت بإرادة وقدرة، والذي خلق فيه الإرادة والقدرة هو الله عزَّ وجلَّ. لو شاء الله تعالى؛ لسلبك القدرة؛ فلم تستطع. ولو أن أحدًا قادرًا لم يرد فعلًا؛ لم يقع الفعل منه. كل إنسان قادر يفعل الفعل؛ فإنه بإرادته، اللهمَّ إلا من أكره.

- الأصل الثالث: الوعيد

فنحن نفعل باختيارنا وقدرتنا، والذي خلق فينا الاختيار والقدرة هو الله. * * * • الأصل الثالث: الوعيد: قال المؤلف: "وَفي بابِ وَعيدِ اللهِ بَيْنَ المُرْجِئَةِ وَبَيْنَ الوَعيدِيَّةِ مِنَ القَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ". الشرح: * المرجئة: اسم فاعل من أرجَأ؛ بمعنى: أخر، ومنه قوله تعالى: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف: 111]، وفي قراءة: (أرجئه)؛ أي: أخره وأخر أمره، وسمُّوا مرجئة: إما من الرجاء؛ لتغليبهم أدلة الرجاء على أدلة الوعيد، وإما من الإرجاء؛ بمعنى: التأخير؛ لتأخيرهم الأعمال عن مسمَّى الإيمان. فهم يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، والإيمان هو الاعتراف بالقلب فقط. ولهذا يقولون: الأعمال ليست من الإيمان، والإيمان هو الاعتراف بالقلب فقط. ولهذا يقولون: إن فاعل الكبيرة كالزاني والسارق وشارب الخمر وقاطع الطريق لا يستحق دخول النار لا دخولًا مؤبَّدًا ولا مؤقتًا؛ فلا يضر مع الإيمان معصية؛ مهما كانت صغيرة أم كبيرة؛ إذا لم تصل إلى حد الكفر.

* وأما الوعيديَّة؛ فقابلوهم، وغلَّبوا جانب الوعيد، وقالوا: أي كبيرة يفعلها الإنسان ولم يتب منها؛ فإنه مخلَّد في النار بها: إن سرق؛ فهو من أهل النار خالدًا مخلدًا، وإن شرب الخمر؛ فهو في النار خالدًا مخلدًا ... وهكذا. والوعيدية يشمل طائفتين: المعتزلة، والخوارج. ولهذا قال المؤلف: "من القدرية وغيرهم"؛ فيشمل المعتزلة -والمعتزلة قدرية، يرون أن الإنسان مستقل بعمله، وهم وعيدية- ويشمل الخوارج. فاتفقت الطائفتان على أن فاعل الكبيرة مخلد في النار، لا يخرج منها أبدًا، وأن من شرب الخمر مرة؛ كمن عبد الصنم ألف سنة، كلهم مخلَّدون في النار، لكن يختلفون في الاسم؛ كما سيأتي إن شاء الله في الباب التالي. * وأما أهل السنة والجماعة؛ فيقولون: لا نغلب جانب الوعيد كما فعل المعتزلة والخوارج، ولا جانب الوعد كما فعل المرجئة، ونقول: فاعل الكبيرة مستحق للعذاب، وإن عذِّب؛ لا يخلد في النار. * وسبب الخلاف بين الوعيدية وبين المرجئة: أن كل واحد منهما نظر إلى النصوص بعين عوراء؛ ينظر من جانب واحد. - هؤلاء نظروا نصوص الوعد، فأدخلوا الإنسان في الرجاء، وقالوا: نأخذ بها، وندع ما سواها، وحملوا نصوص الوعيد على الكفار.

- الأصل الرابع: أسماء الإيمان والدين

- والوعيدية بالعكس؛ نظروا إلى نصوص الوعيد، فأخذوا بها، وغفلوا عن نصوص الوعد. فلهذا اختل توازنهم لما نظروا من جانب واحد. * وأهل السنة والجماعة أخذوا بهذا وهذا، وقالوا: نصوص الوعيد محكمة؛ فنأخذ بها، ونصوص الوعد محكمة؛ فنأخذ بها. فأخذوا من نصوص الوعد ما ردوا به على الوعيدية، ومن نصوص الوعيد ما ردوا به على المرجئة، وقالوا: فاعل الكبيرة مستحق لدخول النار؛ لئلا نهدر نصوص الوعيد؛ غير مخلَّد فيها؛ لئلا نهدر نصوص الوعد. فأخذوا بالدليلين ونظروا بالعينين. * * * • الأصل الرابع: أسماء الإيمان والدين: قال المؤلف: "وفي باب أسماءِ الإيمانِ والدِّينِ بَيْنَ الحَرُورِيَّةِ وَالمُعْتَزِلَةِ، وَبَيْنَ المُرْجِئَةِ الجَهمِيَّة". الشرح: * هذا في باب الأسماء والدين، وهو غير باب الأحكام الذي هو الوعد والوعيد؛ ففاعل الكبيرة ماذا نسميه؟! أمؤمن أم كافر؟! * وأهل السنة وسط فيه بين طائفتين: الحرورية والمعتزلة من وجه، والمرجئة الجهمية من وجه:

- فالحرورية والمعتزلة أخرجوه من الإيمان، لكن الحرورية قالوا: إنه كافر يحل دمه وماله، ولهذا خرجوا على الأئمة، وكفَّروا الناس. - وأما المرجئة الجهمية؛ فخالفوا هؤلاء، وقالوا: هو مؤمن كامل الإيمان!! يسرق ويزني ويشرب الخمر ويقتل النفس ويقطع الطريق؛ ونقول له: أنت مؤمن كامل الإيمان!! كرجل فعل الواجبات والمستحبات وتجنَّب المحرمات!! أنت وهو في الإيمان سواء!! فهؤلاء وأولئك على الضد في الاسم وفي الحكم. وأما المعتزلة؛ فقالوا: فاعل الكبيرة خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر؛ فهو في منزلة بين منزلتين؛ لا نتجاسر أن نقول: إنه كافر! وليس لنا أن نقول: إنه مؤمن؛ وهو يفعل الكبيرة؛ يزني ويسرق ويشرب الخمر! وقالوا: نحن أسعد الناس بالحق! حقيقة أنهم إذا قالوا: إن هذا لا يتساوى مع مؤمن عابد؛ فقد صدقوا. لكن كونهم يخرجونه من الإيمان، ثم يحدثون منزلة بين منزلتين: بدعة ما جاءت لا في كتاب الله ولا في سنة رسوله!! كل النصوص تدل على أنه لا يوجد منزلة بين منزلتين: كقوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].

وقوله: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلا الضَّلَالُ} [يونس: 32]. وقوله: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2]. وفي الحديث: "القرآن حجة لك أو عليك" (¬1). فأين المنزلة بين المنزلتين؟! وفي باب الوعيد ينفذون عليه الوعيد، فيوافقون الخوارج في أن فاعل الكبيرة مخلَّد في النار، أما في الدنيا؛ فقالوا: تجرى عليه أحكام الإسلام؛ لأنه هو الأصل؛ فهو عندهم في الدنيا بمنزلة الفاسق العاصي. فيا سبحان الله! كيف نصلي عليه، ونقول: اللهمَّ! اغفر له. وهو مخلَّد في النار؟! فيجب عليهم أن يقولوا في أحكام الدنيا: إنه يُتَوَقَّف فيه! لا نقول: مسلم، ولا: كافر، ولا نعطيه أحكام الإسلام، ولا أحكام الكفر!! إذا مات؛ لا نصلي عليه، ولا نكفنه، ولا نغسله، ولا يدفن مع المسلمين، ولا ندفنه مع الكفار؛ إذًا؛ نبحث له عن مقبرة بين مقبرتين!! - وأما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطًا بين هذه الطوائف؛ فقالوا: نسمي المؤمن الذي يفعل الكبيرة مؤمنًا ناقص الإيمان، أو نقول: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وهذا هو العدل؛ فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم. ¬

_ (¬1) قطعة من حديث رواه مسلم في "صحيحه" (223)، عن ابن مالك الأشعري.

- الأصل الخامس: الصحابة -رضي الله عنهم-

ويترتَّب على هذا: أن الفاسق لا يجوز لنا أن نكرهه كرهًا مطلقًا، ولا أن نحبه حبًّا مطلقًا، بل نحبه على ما معه من الإيمان، ونكرهه على ما معه من المعصية. * * * • الأصل الخامس: في الصحابة رضي الله عنهم: قال المؤلف: "وَفي أصْحابِ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بَيْنَ الرَّافِضَةِ وَالخَوارِجِ". الشرح: * "أصحاب": جمع صاحب، والصحب اسم جمع صاحب، والصاحب: الملازم للشيء. والصحابي: هو الذي اجتمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به ومات على ذلك. وهذا خاص في الصحابة، وهو من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، أن الإنسان يكون من أصحابه، وإن لم يجتمع به إلا لحظة واحدة؛ لكن بشرط أن يكون مؤمنًا به (¬1). * وأهل السنة والجماعة وسط فيهم بين الرافضة والخوارج. - فالرافضة: هم الذين يسمَّون اليوم: شيعة، وسموا رافضة، لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي ¬

_ (¬1) انظر: "فتح الباري" (7/ 4) لابن حجر.

طالب رضي الله عنه، الذي ينتسب إليه الآن الزيدية؛ رفضوه لأنهم سألوه: ما تقول في أبي بكر وعمر؟ يريدون منه أن يسبهما ويطعن فيهما! ولكنه رضي الله عنه قال لهم: نعم الوزيران وزيرا جدي. يريد بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فأثنى عليهما، فرفضوه، وغضبوا عليه، وتركوه! فسموا رافضة (¬1)!! هؤلاء الروافض -والعياذ بالله- لهم أصول معروفة عندهم، ومن أقبح أصولهم: الإمامة التي تتضمن عصمة الإمام، وأنه لا يقول خطأ، وأن مقام الإمامة أرفع من مقام النبوة؛ لأن الإمام يتلقى عن الله مباشرة، والنبي بواسطة الرسول، وهو جبريل، ولا يخطئ الإمام عندهم أبدًا، بل غلاتهم يدعون أن الإمام يخلق؛ يقول للشيء: كن. فيكون!! وهم يقولون: إن الصحابة كفار، وكلهم ارتدوا بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حتى أبو بكر وعمر عند بعضهم كانا كافرين وماتا على النفاق والعياذ بالله، ولا يستثنون من الصحابة إلا آل البيت، ونفرًا قليلًا ممن قالوا: إنهم من أولياء آل البيت. وقد قال صاحب كتاب "الفصل": "إن غلاتهم كفروا علي بن أبي طالب؛ قالوا: لأن عليًّا أقر الظلم والباطل حين بايع أبا بكر وعمر، وكان الواجب عليه أن ينكر بيعتهما، فلما لم يأخذ بالحق والعدل، ووافق على الظلم؛ صار ظالمًا كافرًا". ¬

_ (¬1) انظر سبب تسميتهم بالرافضة كتاب: "منهاج السنة" لشيخ الإسلام (1/ 34).

- أما الخوارج؛ فهم على العكس من الرافضة؛ حيث إنهم كفروا علي بن أبي طالب، وكفروا معاوية بن أبي سفيان، وكفروا كل من لم يكن على طريقتهم، واستحلوا دماء المسلمين، فكانوا كما وصفهم النبي عليه الصلاة والسلام: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرَّمِيَّة" (¬1)، وإيمانهم لا يتجاوز حناجرهم. فالشيعة غلوا في آل البيت وأشياعهم، وبالغوا في ذلك، حتى إن منهم من ادعى ألوهية علي، ومنهم من ادعى أنه أحق بالنبوة من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والخوارج بالعكس. - أما أهل السنة والجماعة؛ فكانوا وسطًا بين الطائفتين؛ قالوا: نحن ننزل آل البيت منزلتهم، ونرى أن لهم حقين علينا: حق الإسلام والإيمان، وحق القرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقالوا: قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها الحق علينا، لكن من حقها علينا أن ننزلها منزلتها، وأن لا نغلو فيها. ويقولون في بقية أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -: لهم الحق علينا بالتوقير والإجلال والترضي، وأن نكون كما قال الله تعالى: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10]، ولا نعادي أحدًا منهم أبدًا؛ لا آل البيت، ولا غيرهم؛ فكل منهم نعطيه حقه؛ فصاروا وسطًا بين جفاة وغلاة. * * * ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (6930)، ومسلم (1066)؛ عن علي رضي الله عنه.

فصل: في المعية وبيان الجمع بينها وبيان علو الله واستوائه على عرشه

فصل في المعية وبيان الجمع بينها وبيان علو الله واستوائه على عرشه الشرح: سبق (¬1) أن مما يدخل في الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته، ومن ذلك الإيمان بعلو الله واستوائه على عرشه، والإيمان بمعيته، وفي هذا الفصل بين المؤلف رحمه الله الجمع بين العلو والمعية؛ فقال: * "وَقَدْ دَخَلَ فِيما ذَكَرْناهُ مِنَ الإيمانِ باللهِ: الإيمانُ بما أخْبَرَ اللهُ بهِ في كِتابِهِ، وَتَواتَرَ عَنْ رَسولِهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأجْمَعَ عَلَيهِ سَلَفُ الأمَّةِ، مِنْ أنَّه سُبحانَهُ فوقَ سماواتِه على عرشِهِ عليّ على خلقِهِ": هذه ثلاثة أدلة على علو الله تعالى: الكتاب، والسنة، والإجماع. ومر علينا دليل رابع وخامس، وهما: العقل والفطرة. * "من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه علي على خلقه" تقدم لنا أن علو الله عزَّ وجلَّ نوعان: علو صفة، وعلو ذات، وأن علو الذات دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة وكذلك علو الصفة. ¬

_ (¬1) (1/ 386 - 400).

* فالكتاب مملوء من ذلك: تارة بالتصريح بالفوقية، وتارة بالتصريح بالعلو، وتارة بالتصريح بأنه في السماء، وتارة بنزول الأشياء من عنده، وتارة بصعودها إليه، ونحو ذلك. * والسنة جاءت بالقول والفعل والإقرار، وسبق ذكر ذلك. * أما الإجماع؛ فقد أجمع السلف على ذلك، وطريق العلم بإجماعهم عدم نقل ضد ما جاء في الكتاب والسنة؛ فإنهم كانوا يقرؤون القرآن وينقلون الأخبار ويعلمون معانيها، ولما لم ينقل عنهم ما يخالف ظاهرها؛ علم أنهم لا يعتقدون سواه، وأنهم مجمعون على ذلك. وهذا طريق حسن لإثبات إجماعهم، فاستمسك به ينفعك في مواطن كثيرة. * وأما العقل؛ فمن وجهين: الوجه الأول: أن العلو صفة كمال، والله تعالى قد ثبت له كل صفات الكمال، فوجب إثبات العلو له سبحانه. الوجه الثاني: إذا لم يكن عاليًا؛ فإما أن يكون تحت أو مساويًا، وهذا صفة نقص؛ لأنه يستلزم أن تكون الأشياء فوقه أو مثله؛ فلزم ثبوت العلو له. * أما الفطرة؛ فلا أحد ينكرها؛ إلا من انحرفت فطرته؛ فكل إنسان يقول: يا الله! يتجه قلبه إلى السماء، لا ينصرف عنه يمنة ولا يسرة، لأن الله تعالى في السماء. * * *

الإيمان بمعية الله لخلقه

* قوله: "وَهُوَ سُبْحانَهُ مَعَهُمْ أيْنَما كانُوا؛ يَعْلَمُ ما هُمْ عاملونَ". * وهذا من الإيمان بالله، وهو الإيمان بمعيته لخلقه. * وقد سبق (¬1) أن معية الله تنقسم إلى عامة وخاصة وخاصة الخاصة. - فالعامة: التي تشمل كل أحد من مؤمن وكافر وبر وفاجر، ومثالها قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]. - والخاصة: مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]. - والتي أخص: مثل قوله تعالى لموسى وهارون: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46] وقوله عن رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -: {إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة: 45]. وسبق أن هذه المعية حقيقية، وأن من مقتضى المعية العامة العلم والسمع والبصر والقدرة والسلطان وغير ذلك، ومن مقتضى الخاصة النصر والتأييد. * * * * قوله: "كمَا جَمَعَ بَينَ ذلِكَ في قَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ ¬

_ (¬1) (1/ 400 - 418).

الجمع بين العلو والمعية

بَصِيرٌ} [الحديد: 4]. * قوله: "بين ذلك"؛ أي: بين العلو والمعية. * ففي قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: إثبات العلو. * وفي قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}: إثبات المعية، فجمع بينهما في آية واحدة، ولا منافاة بينهما كما سبق ويأتي. ووجه الجمع من وجوه ثلاثة: الأول: أنه ذكر استواءه على العرلش، ثم قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}، وإذا جمع الله لنفسه بين وصفين، فإننا نعلم علم اليقين أنهما لا يتناقضان؛ لأنهما لو تناقضا؛ لاستحال اجتماعهما، إذ المتناقضين لا يجتمعان ولا يرتفعان؛ فلا بد من وجود أحدهما وانتفاء الثاني، ولو كان هناك تناقض؛ لزم أن يكون أول الآية مكذبًا لآخرها أو بالعكس. الثاني: أنه قد يجتمع العلو والمعية في المخلوقات؛ كما سيذكره المؤلف في قول الناس: ما زلنا نسير والقمر معنا. الثالث: لو فرض تعارضهما بالنسبة للمخلوق؛ لم يلزم ذلك بالنسبة للخالق، لأن الله ليس كمثله شيء. * قوله: "وَلَيْسَ مَعْنى قَوْلِهِ: {وَهُوَ مَعَكُمْ}، أنَّهُ مُخْتَلِطٌ بِالخَلْقِ": لأن هذا المعنى نقص، وقد سبق أنه لو كان هذا هو المعنى؛ لزم أحد أمرين: إما تعدد الخالق، أو تجزؤه؛ مع ما في

ذلك أيضًا من كون الأشياء تحيط به، وهو سبحانه محيط بالأشياء. * قوله: "فإنَّ هذا لا تُوجِبُهُ اللُّغَةُ"؛ يعني؛ وإذا كانت اللغة لا توجبه؛ لم يتعين، وهذا أحد الوجوه الدالة على بطلان مذهب الحلولية من الجهمية وغيرهم؛ القائلين بأن الله مع خلقه مختلطًا بهم. ولم يقل: لا تقتضيه اللغة؛ لأن اللغة قد تقتضيه، وفرق بين كون اللغة تقتضي ذلك وبين كونها توجب ذلك. فالمعية في اللغة قد تقتضي الاختلاط؛ مثل الماء واللبن؛ تقول: ماء مع لبن مخلوطًا. * قوله: "وَهُوَ خِلافُ ما أجْمَعَ عَلَيهِ سَلَفُ الأمَّةِ، وَخِلافُ ما فَطَرَ اللهُ عَلَيْهِ الخَلْقَ": وذلك لأن الإنسان مفطور على أن الخالق بائن من المخلوق، ليس أحد إذا قال: يا الله! إلا ويعتقد أن الله تعالى بائن من خلقه، لا يعتقد أنه حالٌّ في خلقه؛ فدعوى أنه مختلط بالخلق مخالف للشرع ومخالف للعقل ومخالف للفطرة. * قوله: "بَلِ القَمَرُ آيَةٌ مِنْ آياتِ اللهِ مِنْ أصْغَرِ مَخْلوقاتِهِ، وَهُوَ مَوْضوعٌ في السَّماءِ، وَهُوَ مَعَ المُسافِرِ وَغَيْرِ المُسافِرِ أيْنَما كانَ". * "بل": للإضراب الانتقالي. * وهذا مثل ضربه المؤلف رحمه الله تقريبًا للمعنى وتحقيقًا لصحة كون الشيء مع الإنسان حقيقة مع تباعد ما بينهما، وذلك أن

تقرير للشيخ محمد بن إبراهيم يبين أن المعية حق على حقيقتها

القمر من أصغر المخلوقات، وهو في السماء، ومع المسافر وغيره أينما كان. فإذا كان هذا المخلوق، وهو من أصغر المخلوقات؛ نقول: إنه معنا، وهو في السماء. ولا يعد ذلك تناقضًا، ولا يقتضي اختلاطًا؛ فلماذا لا يصح أن نجري آيات المعية على ظاهرها، ونقول: هو معنا حقيقة، وإن كان هو في السماء فوق كل شيء؟! وكما قلنا سابقًا: لو فرض أن هذا ممتنع في الخلق؛ لكان في الخالق غير ممتنع، فالرب عزَّ وجلَّ هو في السماء حقيقة، وهو معنا حقيقة، ولا تناقض في ذلك، حتى وإن كان بعيدًا عزَّ وجلَّ في علوه؛ فإنه قريب في علوه. وهذا الذي حققه شيخ الإسلام في كتبه، وقال: إنه لا حاجة إلى أن نؤول الآية، بل الآية على ظاهرها، لكن مع اعتقادنا بأن الله تعالى في السماء على عرشه؛ فهو معنا حقًّا، وهو على عرشه حقًّا؛ كما نقول: إنه ينزل إلى السماء الدنيا حقًّا، وهو في العلو، ولا أحد من أهل السنة ينكر هذا أبدًا؛ كل أهل السنة يقولون: هو ينزل حقًّا، متفقون على أنه في العلو؛ لأن صفات الخالق ليست مثل صفات المخلوق. وقد عثرت على تقرير للشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله يبين هذا المعنى تمامًا؛ أي أن المعية حق على حقيقتها، ولا تستلزم أن يكون مختلطًا بالخلق، أو أنه في الأرض؛ قال جوابًا على قول بعض السلف: "معهم بعلمه":

"إذا جاءت هذه الكلمة؛ فهي تفسير للمعية بالمقتضى، ليس تفسيرًا لحقيقة الكلمة، والذي يحمل ويحدو على التفسير بهذا أن المنازع في هذا المبتدعة الذين يقولون: إنه مختلط بهم، فيأتي البعض من السلف بالمراد بالسياق، وهو أنه بكمال علمه، ولكن لا يريدون أن كلمة (مع) مدلولها بكل شيء عليم، بل اجتمعت معها في العلم، وزادت المعية في المعنى، وهو كونه معهم؛ فتفسيرها بالمقتضى لا يدل على أن معناها باطل؛ فالكل حق ... ". إلى أن قال: "ولهذا؛ شيخ الإسلام في عقيدته الأخرى المباركة المختصرة؛ بين أن قوله معهم حق على حقيقته؛ فمن فسرها من السلف بالمقتضى؛ فلحاجة دعت إلى ذلك، وهو الرد على أهل الحلول الجهمية الذين ينكرون العلو كما تقدم، والقرآن يفسر بالمطابقة وبالمفهوم وبالاستلزام والمقتضى وغير ذلك من الدلالات، وهؤلاء العلماء الذين روي عنهم التفسير بالمقتضى لا ينكرون المعية، بل هي عندهم كالشمس" اهـ من "الفتاوى"؛ تقريرًا على الحموية (¬1). * سؤال: هل يصح أن نقول: هو معنا بذاته؟ الجواب: هذا اللفظ يجب أن يبعد عنه؛ لأنه يوهم معنىً فاسدًا يحتج به من يقول بالحلول، ولا حاجة إليه؛ لأن الأصل أن كل شيء أضافه الله إلى نفسه؛ فهو له نفسه؛ ألا ترى إلى قوله ¬

_ (¬1) "فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ" (1/ 212 - 213).

تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ}؛ هل يحتاج أن نقول: جاء بذاته؟! وإلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا" (¬1)، هل يحتاج أن نقول: ينزل بذاته؟! إننا لا نحتاج إلى ذلك؛ اللهم إلا في مجادلة من يدعي أنه جاء أمره أو ينزل أمره، لرد تحريفه. * * * * قوله: "وهو سبحانه فوق عرشه، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع عليهم": * يقول رحمه الله: "وهو سبحانه فوق عرشه": مع أنه مع الخلق، لكنه فوق عرشه. * "رقيب على خلقه": يعني: مراقبًا حافظًا لأقوالهم وأفعالهم وحركاتهم وسكناتهم. * "مهيمن عليهم"؛ أي: حاكم مسيطر على عباده، فله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله، وأمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن! فيكون. * قوله: "إلى غير ذلك من معاني ربوبيته"؛ يعني بذلك ما تضمنه معنى الربوبية من ملك وسلطان وتدبير وغير ذلك، فإن معاني الربوبية كثيرة؛ لأن الرب هو الخالق المالك المدبر، وهذه تحمل معاني كثيرة جدًّا. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (1/ 94)، وهو في "الصحيحين".

التأكيد على أن الله فوق عرشه وأنه معنا

* قوله: "وَكُلُّ هذا الكَلامِ الذي ذَكَرَهُ اللهُ مِنْ أنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ وَأنَّهُ مَعَنا: حَقٌّ على حَقِيقَتِهِ، لا يَحْتاجُ إلى تَحْريفٍ": * هذه الجملة تأكيد لما سبق، وإنما كرر معنى ما سبق لأهمية الموضوع؛ فبين رحمه الله أن ما ذكره الله من كونه فوق العرش حق على حقيقته، وكذلك ما ذكره من كونه معنا حق على حقيقته، لا يحتاج إلى تحريف. * يعني: لا يحتاج أن نصرف معنى الفوقية إلى فوقية القدر كما ادعاه أهل التحريف والتعطيل، بل هي فوقية ذات وقدر، كما لا يحتاج أن نصرف معنى المعية عن ظاهرها، بل نقول: هي حق على ظاهرها، ومن فسرها بغير حقيقتها، فهو محرف؛ لكن ما ورد من تفسيرها بلازمها ومقتضاها، وارد عن السلف لحاجة دعت إلى ذلك، وهو لا ينافي الحقيقة، لأن لازم الحق حق. * ثم استدرك المؤلف رحمه الله، فقال: -ولكن يصان عن الظنون الكاذبة- "مِثْلَ أنْ يُظَنَّ أنَّ ظاهِرَ قَوْلِهِ: {فِي السَّمَاءِ} [الملك: 17]: أن السَّماءَ تُقِلُّهُ أوْ تُظِلُّهُ، وَهذا باطِلٌ بِإجْماعِ أهْلِ العِلْمِ وَالإيْمانِ". * الظنون الكاذبة هي الأوهام التي ليس لها أساس من الصحة؛ فيجب أن يصان عنها كلام الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. * مثال ذلك أن يُظَنَّ أن ظاهر قوله: {فِي السَّمَاءِ}؛ أن السماء تُقِلُّه؛ أي: تحمله كما يحمل سقف البيت من كان على ظهره. "أو تُظِلُّهُ"؛ يعني: تكون فوقه؛ كالسقف على الإنسان.

إذا ظن الإنسان هذا؛ فهو ظن كاذب، يجب صون الأدلة الدالة على أن الله في السماء عن ذلك. * قال المؤلف: "وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان". تنبيه: قد يقول قائل: كان على المؤلف أن يقول: ومثل أن يظن أن ظاهر قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4]؛ أنه مختلط بالخلق؛ لأن هذا الظن كاذب أيضًا. وجوابه أن نقول: إن المؤلف رحمه الله ذكر ذلك سابقًا في قوله: "وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ}؛ أنه مختلط بالخلق". * * * * قوله: "فإن الله قد {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] ". * "الكرسي": كما يروى عن ابن عباس: موضع القدمين (¬1). * {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ يعني: أحاط بالسماوات والأرض؛ السماوات السبع والأرضين السبع. فكيف يظنُّ ظانٌّ أن السماء تظل الله أو تقلُّه؟! فإذا كان قد وسع كرسيه السماوات والأرض؛ فلا يظن أحد أبدًا هذا الظن الكاذب، وهو أن السماء تقلُّه أو تظلُّه. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (1/ 172).

* قوله: "وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} [فاطر: 31] ": * يمسكهما أن تزولا عن أماكنهما، ولولا إمساك الله لهما؛ لاضطربتا ومادتا وزالتا، ولكن الله عزَّ وجلَّ بقدرته وقوته يمسك السماوات والأرض أن تزولا، بل قال تعالى: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41]؛ ما أمسكهما أحد بعد الله أبدًا. لو تزول نجمة من النجوم؛ لا يستطيع أحد أن يمسكها؛ فكيف لو زالت السماوات والأرض؟! ما يمسكهما إلا الله الذي خلقها، الذي يقول للشيء: كن! فيكون. سبحانه وتعالى، بيده ملكوت السماوات والأرض. * قوله: " {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إلا بِإِذْنِهِ} [الحج: 65] ". السماء فوق الأرض، ووالله؛ لولا إمساك الله لها؛ لوقعت على الأرض؛ لأنها أجرام عظيمة؛ كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32]، وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]؛ فلولا أن الله يمسكها؛ لوقعت على الأرض، وإذا وقعت على الأرض؛ أتلفتها. فالذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه؛ هل يتصور متصور أن السماء تقلُّه أو تظلُّه؟!

لا أحد يتصور ذلك. * قوله: " {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] ": * {وَمِنْ آيَاتِهِ}؛ يعني: من العلامات الدالة على كماله عز وجل من كل وجه: * {أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ}: الكوني والشرعي؛ لأن أمره مبني على الحكمة والرحمة والعدل والإحسان؛ {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، والأهواء فساد للسماوات والأرض، وهي مخالفة للأمر الشرعي. إذًا؛ فالسماوات والأرض تقوم بأمر الله الكوني والشرعي، ولو أن الحق اتبع أهواء الخلق؛ لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، ولهذا قال العلماء في قوله تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 56]؛ أي: "لا تفسدوا فيها بالمعاصي". * * *

فصل: في قرب الله تعالى وإجابته وأن ذلك لا ينافي علوه وفوقيته

فصل في قرب الله تعالى وإجابته وأن ذلك لا ينافي علوه وفوقيته الشرح: * قوله: "وقد دخل في ذلك"؛ يعني: فيما وصف به نفسه: * "الإيمان بأنه قريب من خلقه مجيب": الإيمان بأنه قريب في نفسه، ومجيب؛ يعني: لعباده. * ودليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]. في هذه الآية ستة ضمائر تعود على الله، وعلى هذا؛ فيكون القرب قربه عزَّ وجلَّ، ولكن نقول في {قَرِيبٌ} كما قلنا في المعية؛ أنه لا يستلزم أن يكون في المكان الذي فيه الإنسان. * وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "إنه أقرب

الأدلة على قربه سبحانه وتعالى من عباده

إلى أحدكم من عنق راحلته" (¬1)، ولا يلزم أن يكون الله عزَّ وجلَّ نفسه في الأرض بينه وبين عنق راحلته. وإذا كان قول الرسول عليه الصلاة والسلام: "فإن الله قبل وجه المصلي" (¬2): لا يستلزم أن يكون الله بينه وبين الجدار، إن كان يصلي إلى الجدار، ولا بينه وبين الأرض إن كان ينظر إلى الأرض. فكذلك لا يلزم من قربه أن يكون في الأرض؛ لأن الله ليس كمثله شيء في جميع صفاته، وهو محيط بكل شيء. * واعلم أن من العلماء من قسم قرب الله تعالى إلى قسمين؛ كالمعية، وقال: القرب الذي مقتضاه الإحاطة قرب عام، والقرب الذي مقتضاه الإجابة والإثابة قرب خاص. * ومنهم من يقول: إن القرب خاص فقط؛ مقتضٍ لإجابة الداعي وإثابة العابد، ولا ينقسم. - ويستدل هؤلاء بقوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" (¬3)، وأنه لا يمكن أن يكون الله تعالى قريبًا من الفجرة الكفرة. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (2/ 54). (¬2) سبق تخريجه (1/ 289) وهو في "الصحيحين". (¬3) رواه مسلم (482) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى. - ولكن أورد على هذا القول قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)} [ق: 16] فالمراد بـ {الْإِنْسَانَ}: كل إنسان، ولهذا قال في آخر الآية: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ...} إلى أن قال: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 22 - 23]؛ فهو شامل. - وأورد عليه أيضًا قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83 - 85]، ثم قسم هؤلاء الذين بلغت أرواحهم الحلقوم إلى ثلاثة أقسام، ومنهم الكافر. - وأجيب عن ذلك بأن قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]؛ يعني: بملائكتنا، واستدل لذلك بقوله: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: 17]؛ فإن {إِذْ} ظرف متعلق بـ {أَقرَبُ} يعني: ونحن أقرب إليه حين يتلقى المتلقيان، وهذا يدل على أن المراد بقربه تعالى قرب ملائكته. وكذلك قوله في المحتضر: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}: المراد: قرب الملائكة، ولهذا قال: {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85]، وهذا يدل على أن هذا القريب موجود عندنا، لكن لا نبصره، وهذا يمتنع غاية الامتناع أن يكون المراد به الله عزَّ وجلَّ؛ لأن الله في السماء.

وما ذهب إليه شيخ الإسلام؛ فهو عندي أقرب، ولكنه ليس في القرب بذاك. * * * * قوله: "كَمَا جَمَعَ بَيْنَ ذلِكَ في قَوْلهِ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، وَقَوْلهِ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الذي تَدْعونَهُ أقْرَبُ إلى أحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ راحِلَتِهِ (¬1) ". * قوله: "كما جمع بين ذلك": المشار إليه القرب والإجابة. * * * * قال المؤلف: "وَمَا ذُكِرَ في الكِتابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ قُرْبِهِ وَمَعِيَّتِهِ لا يُنافي ما ذُكِرَ مِنْ عُلُوِّهِ وَفَوْقِيَّتِهِ؛ فإنهُ سُبْحانَهُ لَيْسَ كمِثْلِهِ شَيْءٌ في جَميعِ نُعوتِهِ، وَهُوَ عَلِيٌّ في دُنُوِّهِ، قَريبٌ في عُلُوِّهِ". * "نعوته"؛ يعني: صفاته. هو علي مع أنه دانٍ، قريب مع أنه عال، ولا تناقض في ذلك، وقد سبق بيان ذلك قريبًا في الكلام على المعية. * * * ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (2/ 54).

فصل: في الإيمان بأن القرآن كلام الله حقيقة

فصل في الإيمان بأن القرآن كلام الله حقيقة الشرح: * قوله: "فَصْل: وَمِنَ الإيمانِ بِاللهِ وَكتُبهِ: الإيمانُ بِأنَّ القُرْآنَ كلامُ اللهِ، مُنَزَّلٌ، غَيْرُ مَخْلوقٍ؛ مِنْهُ بَدَأ، وَإلَيْهِ يَعودُ": * قوله: "الإيمان بأن القرآن كلام الله": وجه كون الإيمان بالقرآن على هذا الوجه من الإيمان بالله: أن القرآن من كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، وأيضًا؛ فإن الله وصف القرآن بأنه كلامه، وأنه منزل؛ فتصديق ذلك من الإيمان بالله. * قوله: "كلام الله": والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]. * قول المؤلف: "منزل"؛ أي: من عند الله تعالى: لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]. * قوله: "غير مخلوق"؛ أي: ليس من مخلوقات الله التي خلقها. والدليل على ذلك قوله تعالى: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]. والقرآن من الأمر؛ لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، ولأن الكلام صفة المتكلم، والمخلوق مفعول للخالق، بائن منه؛ كالمصنوع؛ بائن من الصانع. * قوله: "منه بدأ"؛ يعني: أن ابتداء تنزيله من الله، لا من جبريل ولا غيره؛ فجبريل نازل به من عند إلله تعالى؛ كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 192 - 193]، وقال: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102]، وقال تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1]. * وقوله: "وإليه يعود": سبق الكلام (¬1) عن معناها والدليل عليها في شرح الآيات عند البحث عن كلام الله. * قال المؤلف: "وأن الله تكلم به حقيقة": بناء على الأصل؛ أن جميع الصفات حقيقية، وإذا كان كلام الله حقيقة؛ فلا يمكن أن يكون مخلوقًا؛ لأنه صفته، وصفة الخالق غير مخلوقة؛ كما أن صفة المخلوق مخلوقة. ¬

_ (¬1) (1/ 428).

تفصيل القول في مسألة اللفظ

وقد قال الإمام أحمد: "من قال: لفظ بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق؛ فهو مبتدع" (¬1). فنقول: اللفظ يطلق على معنيين: على المصدر الذي هو فعل الفاعل، وعلى الملفوظ به: - أما على المعنى الأول الذي هو المصدر؛ فلا شك أن ألفاظنا بالقرآن وغير القرآن مخلوقة لأننا إذا قلنا: إن اللفظ هو التلفظ؛ فهذا الصوت الخارج من حركة الفم واللسان والشفتين مخلوق. فإذا أريد باللفظ التلفظ؛ فهو مخلوق، سواء كان الملفوظ به قرآنًا أو حديثًا أو كلامًا أحدثته من عندك. - أما إذا قصد باللفظ الملفوظ به؛ فهذا منه مخلوق، ومنه غير مخلوق. وعليه؛ إذا كان الملفوظ به هو القرآن؛ فليس بمخلوق. هذا تفصيل القول في هذه المسألة. لكن الإمام أحمد رحمه الله قال: "من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو جهمي"! قال ذلك لأحد احتمالين: ¬

_ (¬1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة" (1/ 165)، ورواه الخلال أيضًا في كتاب "السنة"، كما في كتاب "درء تعارض العقل والنقل" لابن تيمية (1/ 261).

- أما أن هذا القول من شعار الجهمية، كأن الإمام أحمد يقول: إذا سمعت الرجل يقول: لفظي بالقرآن مخلوق، فاعلم أنه جهمي. - وإما أن يكون ذلك حين يريد القائل باللفظ الملفوظ به، وهذا أقرب؛ لأن الإمام أحمد نفسه فسره؛ قال: "من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ -يريد القرآن-، فهو جهمي". وحينئذ يتضح معنى قوله: "من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي"، لأنه أراد الملفوظ به. ولا شك أن الذي يريد باللفظ هنا الملفوظَ به فهو جهمي، أما من قال: غير مخلوق؛ فالإمام أحمد يقول: مبتدع؛ لأن هذا ما عهد عن السلف، وما كانوا يقولون مثل هذا القول، يقولون: القرآن كلام الله؛ فقط. * * * * قوله: "وَأنَّ هذا القُرْآنَ الذي أُنْزِلَ عَلى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - هُوَ كَلامُ اللهِ حَقيقَةً، لا كَلامُ غَيرِهِ". * كرر المؤلف هذا؛ لأن المقام مقام عظيم، فإن هذه المسألة حصل فيها على علماءالمسلمين من المحن ما هو معلوم، وهلك فيها أمم كثيرة، ولكن حمى الله الحق بالإمام أحمد وأشباهه، الذين أبوا أن يقولوا إلا أن القرآن كلام الله غير مخلوق.

حكم إطلاق القول بأن القرآن عبارة عن كلام الله

* وقوله: "لا كلام غيره": خلافًا لمن قال: إن القرآن من كلام جبريل؛ ألهمه الله إياه، أو من كلام محمد ... أو ما أشبه ذلك. فإن قلت: قول المؤلف هنا: "لا كلام غيره": معارض بقول الله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 40 - 41]، وقوله {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19 - 20]، والأول محمد - صلى الله عليه وسلم -، والثاني جبريل؟! فالجواب عن ذلك أن نقول: لا يمكن أن نحمل الآيتين على أن الرسولين تكلما به حقيقة، وأنه صدر منهما؛ لأن كلامًا واحدًا لا يمكن أن يصدر من متكلمين!! * * * * قوله: "وَلا يَجوزُ إطْلاقُ القَوْلِ بِأنَّهُ حِكايَةٌ عَنْ كلامِ اللهِ أو عِبارَةٌ": * قال. "لا يجوز إطلاق القول": ولم يقل: لا يجوز القول! يعني: لا يجوز أن نقول: هذا القرآن عبارة عن كلام الله؛ إطلاقًا، ولا يجوز أن نقول: إنه حكاية عن كلام الله؛ على سبيل الإطلاق. والذين قالوا: إنه حكاية: هم الكلابية، والذين قالوا: إنه عبارة: هم الأشعرية. والكل اتفقوا على أن هذا القرآن الذي في المصحف ليس كلام الله، بل هو إما حكاية أو عبارة، والفرق بينهما: أن الحكاية المماثلة؛ يعني: كان هذا المعنى الذي هو الكلام

القرآن كلام من تكلم به أولا لا كلام من بلغه إلى غيره

عندهم حُكي بمرآة؛ كما يحكي الصدى كلام المتكلم. أما العبارة؛ فيعني بها أن المتكلم عبر عن كلامه النفسي بحروف وأصوات خلقت. فلا يجوز أن نطلق أنه حكاية أو عبارة، لكن عند التفصيل؛ قد يجوز أن نقول: إن القارئ الآن يعبر عن كلام الله أو يحكي كلام الله؛ لأن لفظه بالقرآن ليس هو كلام الله. وهذا القول على هذا التقييد لا بأس به، لكن إطلاق أن القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله لا يجوز. وكان المؤلف رحمه الله دقيقًا في العبارة حيث قال: "لا يجوز إطلاق القول"، بل لا بد من التقييد والتعيين. * * * * قوله: "بَلْ إذا قَرَأهُ النَّاسُ أوْ كَتَبوهُ فيٍ المَصاحِفِ؛ لَمْ يَخْرُجْ بِذلِكَ عَنْ أنْ يَكُونَ كَلامَ اللهِ تَعالى حَقيقَةً؛ فإنَّ الكلامَ إنَّما يُضافُ حَقيقَةً إلى مَنْ قالَهُ مُبْتَدِئًا لا إلى مَنْ قالَهُ مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا". * يعني: مهما كتبه الناس في المصاحف أو حفظوه في صدورهم أو قرؤوه بألسنتهم؛ فإنه لا يخرج عن كونه كلام الله. * ثم علل ذلك، فقال: "فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا". وهذا تعليل واضح؛ فالكلام يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا، أما إضافته إلى من قاله مبلغًا مؤديًا؛ فعلى سبيل التوسع؛

القرآن كلام الله حروفه ومعانيه

فلو قرأنا الآن مثلًا: حُكْمُ المَحَبَّةِ ثابِتُ الأرْكانِ ... مَا لِلصُّدودِ بِفَسْخِ ذاكَ يَدانِ فإن هذا البيت ينسب حقيقة إلى ابن القيم (¬1). ولو قلت: كَلامُنا لَفْظٌ مُفِيدٌ كَاستَقِمْ ... وَاسْمٌ وَفِعْلٌ ثُمَّ حَرْفٌ الكَلِمْ فهذا ينسب حقيقة إلى ابن مالك (¬2). إذًا؛ الكلام يضاف حقيقة إلى القائل الأول. فالقرآن كلام من تكلم به أولًا، وهو الله تعالى، لا كلام من بلغه إلى غيره. * * * * قوله: "وَهُوَ كَلامُ اللهِ؛ حُروفُهُ وَمَعانِيهِ": هذا مذهب أهل السنة والجماعة؛ قالوا: إن الله تعالى تكلم بالقرآن بحروفه ومعانيه. * قوله: "وَلَيْسَ كَلامُ اللهِ الحُروفَ دُونَ المَعاني": وهذا مذهب المعتزلة والجهمية؛ لأنهم يقولون: إن الكلام ليس معنىً يقوم بذات الله، بل هو شيء من مخلوقاته؛ كالسماء ¬

_ (¬1) "شرح قصيدة الإمام ابن القيم" لابن عيسى (1/ 37). (¬2) "شرح ابن عقيل على الألفية" (1/ 13).

والأرض والناقة والبيت وما أشبه ذلك! فليس معنىً قائمًا في نفسه، فكلام الله حروف خلقها الله عزَّ وجلَّ، وسماها كلامًا له، كما خلق الناقة وسماها ناقة الله، وكما خلق البيت وسماه بيت الله. ولهذا كان الكلام عند الجهمية والمعتزلة هو الحروف؛ لأن كلام الله عندهم عبارة عن حروف وأصوات خلقها الله عزَّ وجلَّ ونسبها إليه تشريفًا وتعظيمًا. * قوله: "وَلَا المَعاني دُونَ الحُروفِ". وهذا مذهب الكلابية والأشعرية؛ فكلام الله عندهم معنى في نفسه، ثم خلق أصواتًا وحروفًا تدل على هذا المعنى؛ إما عبارة أو حكاية. واعلم أن ابن القيم رحمه الله ذكر أننا إذا أنكرنا أن الله يتكلم؛ فقد أبطلنا الشرع والقدر: - أما الشرع، فلأن الرسالات إنما جاءت بالوحي، والوحي كلام مبلغ إلى المرسل إليه؛ فإذا نفينا الكلام؛ انتفى الوحي، وإذا انتفى الوحي؛ انتفى الشرع. - أما القدر؛ فلأن الخلق يقع بأمره؛ بقوله: كن! فيكون؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]. * * *

فصل: في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية

فصل في الإيمان برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ومواضع الرؤية * قول المؤلف: "فَصْلٌ: وَقَدْ دَخَلَ أيْضًا فيما ذَكرْناهُ مِنَ الإيمان بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَبِمَلائكَتِهِ وَبِرُسُلِهِ: الإيمانُ بِأنَّ المُؤمِنِين يَرَوْنَهُ يَوْمَ القِيامَةِ". الشرح: * قوله: "الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة": - وجه كون الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة من الإيمان بالله ظاهر؛ لأن هذا مما أخبر الله به؛ فإذا آمنا به؛ فهو من الإيمان بالله. - ووجه كونه من الإيمان بالكتب؛ لأن الكتب أخبرت بأن الله يُرى؛ فالتصديق بذلك تصديق بالكتب.

- ووجه كونه من الإيمان بالملائكة؛ لأن نقل الوحي بواسطة الملائكة، فإن جبريل ينزل بالوحي من الله تعالى، فكأن الإيمان بأن الله يُرى من الإيمان بالملائكة. - وكذلك نقول: من الإيمان بالرسل، لأن الرسل هم الذين بلغوا ذلك للخلق؛ فكأن الإيمان بذلك من الإيمان بالرسل. * قوله: "عيانًا بأبصارهم": (عيانًا)؛ بمعنى: معاينة، والمعاينة هي الرؤية بالعين. * قوله: "كما يرون الشمس صحوا ليس دونها سحاب": ودليل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: "ترونه كما ترون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب" (¬1). والمراد بالرؤية: بالعين؛ كما يدل عليه تشبيه الرؤية برؤية الشمس صحوًا ليس دونها سحاب. * قوله رحمه الله: "وَكَما يَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ، لا يُضَامُونَ في رُؤْيَتِهِ": سبق الكلام في ذلك. * * * * قوله: "يَرَوْنَهُ سُبْحانَهُ وَهُمْ في عَرَصاتِ القِيامَةِ": * "عَرَصات": جمع عَرْصة، وهي المكان الواسع الفسيح، الذي ليس فيه بناء؛ لأن الأرض تُمَدُّ مَدَّ الأديم، كما قال الرسول ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (7439)، ومسلم (183)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

أجناس الناس في عرصات القيامة

عليه الصلاة والسلام (¬1)؛ يعني: مَدَّ الجلد. * فالمؤمنون يرون الله في عرصات يوم القيامة قبل أن يدخلوا الجنة؛ كما قال الله تعالى عن المكذبين بيوم الدين: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، {يَوْمَئِذٍ} يعني: يوم الدين، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6]، ويرونه كذلك بعد دخول الجنة. * أما في عرصات القيامة، فالناس في العرصات ثلاثة أجناس: 1 - مؤمنون خُلَّص ظاهرًا وباطنًا. 2 - وكافرون خُلَّص ظاهرًا وباطنًا. 3 - ومؤمنون ظاهرًا كافرون باطنًا، وهم المنافقون. - فأما المؤمنون؛ فيرون الله تعالى في عرصات القيامة وبعد دخول الجنة. - وأما الكافرون، فلا يرون ربهم مطلقًا، وقيل: يرونه، لكن رؤية غضب وعقوبة، ولكن ظاهر الأدلة يدل على أنهم لا يرون ¬

_ (¬1) ما رواه الحاكم (4/ 575) عن عبد الله بن عمرو -موقوفًا- قال: "إذا كان يوم القيامة مدت الأرض مد الأديم وحشر الخلائق"، ومن حديث جابر (4/ 470) رفعه: "تمد الأرض مد الأديم ثم لا يكون لابن آدم منها إلّا موضع قدميه"، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (11/ 376): رجاله ثقات. وصحّح الألباني في "الصحيحة" (4/ 607) سند الموقوف.

الله، كما قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]. - وأما المنافقون، فإنهم يرون الله عزَّ وجلَّ في عرصات القيامة، ثم يحتجب عنهم، ولا يرونه بعد ذلك. * * * * قوله: "ثُمَّ يَرَوْنَهُ بَعْدَ دُخولِ الجَنَّةِ كَما يَشاءُ اللهُ تَعالى": * قوله: "كما يشاء"؛ يعني: يرون الله كما يشاء سبحانه وتعالى في كيفية رؤيتهم إياه، وكما يشاء الله في زمن رؤيتهم إياه، وفي جميع الأحوال؛ يعني: على الوجه الذي يشاؤه الله عزَّ وجلَّ في هذه الرؤية. * وحينئذ، فإن هذه الرؤية لا نعلم كيفيتها؛ بمعنى أن الإنسان لا يعلم كيف يرى ربه، ولكن معنى الرؤية معلوم، أنهم يرون الله كما يرون القمر، لكن على أي كيفية؟ هذه لا نعلمها، بل كما يشاء الله. وقد سبق التفصيل في الرؤية. * * *

فصل: في الإيمان باليوم الآخر

فصل في الإيمان باليوم الآخر الشرح: شرع المؤلف رحمه الله تعالى في الكلام عن اليوم الآخر وعقيدة أهل السنة والجماعة فيه، فقال: * "فصل: ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعد الموت": * حكم الإيمان باليوم الآخر فريضة واجب، ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة. وكثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الإيمان به تعالى والإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالمبدأ والإيمان بالمعاد؛ لأن من لم يؤمن باليوم الآخر، لا يمكن أن يؤمن بالله، إذ إن الذي لا يؤمن باليوم الآخر، لن يعمل؛ لأنه لا يعمل إلا لما يرجوه من الكرامة في اليوم الآخر، وما يخافه من العذاب والعقوبة، فإذا كان لا يؤمن به، صار

للإنسان خمس مراحل والأدلة عليه

كمن حكى الله عنهم: {وَقَالُوا مَا هِيَ إلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24]. * وسمي اليوم الآخر باليوم الآخر؛ لأنه يوم لا يوم بعده؛ فهو آخر المراحل. * والإنسان له خمس مراحل: مرحلة العلم، ثم العمل، ثم الدنيا، ثم البرزخ، ثم الآخرة. - فأما مرحلة العدم؛ فقد دل عليها قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5)} [الحج: 5]. - وأما مرحلة الحمل؛ فقال الله عنها: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6]. - وأما مرحلة الدنيا؛ فقال الله عنها: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78]. وهذه المراحل هي التي عليها مدار السعادة والشقاء، وهي

دار الامتحان والابتلاء؛ كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. - وأما مرحلة البرزخ؛ فقال الله عنها: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 100]. - وأما مرحلة الآخرة؛ فهي غاية المراحل، ونهاية الراحل؛ قال الله تعالى بعد ذكر المراحل: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15، 16]. * وقوله رحمه الله: "الإيمانُ بكلِّ ما أخْبَرَ بهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ المَوْتِ": كل هذا داخل في الإيمان باليوم الآخر. وذلك لأن الإنسان إذا مات؛ دخل في اليوم الآخر، ولهذا يقال: من مات، قامت قيامته؛ فكل ما يكون بعد الموت، فإنه من اليوم الآخر. إذًا؛ ما أقرب اليوم الآخر لنا، ليس بيننا وبينه إلا أن يموت الإنسان، ثم يدخل في اليوم الآخر الذي ليس فيه إلا الجزاء على العمل. ولهذا يجب علينا أن ننتبه لهذه النقطة. فكر أيها الإنسان؛ تجد أنك على خطر؛ لأن الموت ليس له أجل معلوم عندنا، قد يخرج الإنسان من بيته ولا يرجع إليه، وقد يكون الإنسان على كرسي مكتبه ولا يقوم منه، وقد ينام الإنسان على فراشه ولكنه يحمل من فراشه إلى سرير غسله، وهذا أمر

المراد بفتنة القبر والأدلة من الكتاب والسنة

يستوجب منا أن ننتهز فرصة العمر بالتوبة إلى الله عَزَّ وَجَلَّ، وأن يكون الإنسان دائمًا يستشعر بأنه تائب إلى الله وراجع ومنيب حتى يأتيه الأجل وهو على خير ما يرام. * * * * قوله: "فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه": * الفتنة هنا الاختبار، والمراد بفتنة القبر: سؤال الميت إذا دفن عن ربه ودينه ونبيه. * والضمير في "يؤمنون": يعود على أهل السنة؛ أي أن أهل السنة والجماعة يؤمنون بفتنة القبر، وذلك لدلالة الكتاب والسنة عليها. - أما الكتاب؛ ففي قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]؛ فإن هذا في فتنة القبر؛ كما ثبت في "الصحيحين" (¬1) وغيرهما من حديث البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. - وأما السنة؛ فقد تظافرت بأن الإنسان يفتن في قبره، وهي فتنة قال فيها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه قد أوحي إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل (أو: قريبًا من) فتنة الدجال" (¬2). وفتنة الدجال أعظم فتنة منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4699)، ومسلم (2871). (¬2) رواه البخاري (184)، ومسلم (905)؛ عن أسماء رضي الله عنها.

الساعة؛ كما في "صحيح مسلم" عن عمران بن حصين رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال" (¬1). ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه، بل قال لأمته: "إن يخرج وأنا فيكم؛ فأنا حجيجه دونكم، وإنا يخرج ولست فيكم؛ فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم" (¬2). ومع ذلك؛ فإن نبينا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أعلمنا كيف نحاجه، وأعلمنا بأوصافه وميزاته، حتى كأنا نشاهده رأي عين، وبهذه الأوصاف والميزات نستطيع أن نحاجه. ولهذا نقول: إن فتنة الدجال أعظم فتنة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: "إنكم تفتنون في قبوركم مثل -أو قريبًا من- فتنة الدجال" (¬3). وما أعظمها من فتنة! لأن الإنسان يتلقى فيها السؤال الذي لا يمكن الجواب عليه؟ إلا على أساس متين من العقيدة والعمل الصالح. * * * * قوله: "فأما الفتنة فإن الناس يفتنون في قبورهم": ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2946) عن عمران بن حصين رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (2937) عن النواس بن سمعان رضي الله عنه. (¬3) سبق تخريجه (2/ 108).

تفصيل المسألة في فتنة الناس عامة في القبر

* هذا شروع في بيان كيفية فتنة الميت في قبره. * وكلمة "الناس" عامة، وظاهر كلام المؤلف أن كل أحد؛ حتى الأنبياء والصديقون والشهداء والمرابطون وغير المكلفين من الصغار والمجانين يفتنون في قبورهم، وفي هذا تفصيل؛ فنقول: أولًا: أما الأنبياء؛ فلا تشملهم الفتنة، ولا يسألون، وذلك لوجهين: الأول: أن الأنبياء أفضل من الشهداء، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الشهيد يوقى فتنة القبر، وقال: "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة"؛ أخرجه النسائي (¬1). الثاني: أن الأنبياء يسأل عنهم؛ فيقال للميت: من نبيك؟ فهم مسؤول عنهم، وليسوا مسؤولين، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنه أوحي إليَّ أنكم تفتنون في قبوركم" (¬2)، والخطاب للأمة المرسل إليهم؛ فلا يكون الرسول داخلًا فيهم. ثانيًا: وأما الصديقون؛ فلا يسألون؛ لأن مرتبة الصديقين أعلى من مرتبة الشهداء؛ فإذا كان الشهداء لا يسألون؛ فالصديقون من باب أولى، ولأن الصديق على وصفه مصدَّق وصادق؛ فهو قد علم صدقه؛ فلا حاجة إلى اختباره؛ لأن الاختبار لمن يُشَك فيه؛ ¬

_ (¬1) رواه النسائي (4/ 99)، وعنه القاسم السرقسطي في "غريب الحديث" (2/ 165 / 1) كما في "أحكام الجنائز" (36) للألباني، وقال: سنده صحيح. (¬2) سبق تخريجه (2/ 108).

ثالثا: الشهداء

هل هو صادق أو كاذب، أما إذا كان صادقًا؛ فلا حاجة تدعو لسؤاله، وذهب بعض العلماء إلى أنهم يسألون؛ لعموم الأدلة، والله أعلم. ثالثًا: وأما الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله؛ فإنهم لا يسألون؛ لظهور صدق إيمانهم بجهادهم: قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ...} الآية [التوبة: 111]. وقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة" (¬1). وإذا كان المرابط؛ إذا مات؛ أمن الفتان؛ لظهور صدقه؛ فهذا الذي قتل في المعركة مثله أو أولى منه؛ لأنه بذل وعرض رقبته لعدو الله؛ إعلاءً لكلمة الله، وانتصارًا لدينه، وهذا من أكبر الأدلة على صدق إيمانه. رابعًا: وأما المرابطون؛ فإنهم لا يفتنون؛ ففي "صحيح مسلم"؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات؛ جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري ¬

_ (¬1) تقدم قريبًا.

خامسا: الصغار والمجانين

عليه رزقه، وأمن الفتان" (¬1). خامسًا: الصغار والمجانين؛ هل يفتنون أو لا يفتنون؟ قال بعض العلماء: إنهم يفتنون، لدخولهم في العموم، ولأنهم إذا سقط التكليف عنهم في حال الحياة، فإن حال الممات تخالف حال الحياة. وقال بعض العلماء: إن المجانين والصغار لا يسألون؛ لأنهم غير مكلفين، وإذا كانوا غير مكلفين، فإنه لا حساب عليهم، إذ لا حساب إلا على من كان مكلفًا يعاقب على المعاصي، وهؤلاء لا يعاقبون، وليس لهم إلا الثواب؛ إن عملوا عملًا صالحًا يثابون عليه. * إذًا؛ خرج من قول المؤلف: "فإن الناس": خمسة أصناف: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والمرابطون، ومن لا عقل له، كالمجانين والصبيان. تنبيه: الناس ثلاثة أقسام: مؤمنون خلص ومنافقون، وهذان القسمان يفتنون، والثالث كفار خلص، ففي فتنتهم خلاف، وقد رجح ابن القيم في كتاب "الروح" أنهم يفتنون. * وهل تسأل الأمم السابقة؟ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1913) عن سلمان رضي الله عنه.

الفتنة لا تكون حتى يدفن الميت

ذهب بعض العلماء -وهو الصحيح- إلى أنهم يسألون؛ لأنه إذا كانتا هذه الأمة -وهي أشرف الأمم- تسأل، فمن دونها من باب أولى. * قوله: "في قبورهم": جمع قبر، وهي مدفن الأموات، والمراد ما هو أعم، فيشمل البرزخ، وهو ما بين موت الإنسان وقيام الساعة، سواء دفن الميت أو أكلته السباع في البر أو الحيتان في البحر أو أتلفته الرياح. والظاهر أن الفتنة لا تكون إلا إذا انتهت الأحوال الدنيوية، وسلم إلى عالم الآخرة، فإذا تأخر دفنه يومًا أو أكثر، لم يكن السؤال حتى يدفن. * قوله: "فيقال للرجل": القائل ملكان يأتيان إلى الإنسان في قبره، ويجلسانه، ويسألانه، حتى إنه ليسمع قرع نعال المنصرفين عنه، وهما يسألانه، ولهذا كان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أنه إذا دفن الميت؛ وقف عليه، وقال: "استغفروا لأخيكم، واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل" (¬1). * وورد في بعض الآثار أن اسمهما: منكر، ونكير (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3221)، والبيهقي (4/ 56)، وصححه الحاكم (1/ 370)، ووافقه الذهبي، وجوَّد إسناده النووي في "المجموع" (5/ 292)، وانظر "أحكام الجنائز" للألباني (156). (¬2) لما رواه الترمذي (1083)، وابن أبي عاصم في "السنة" (864)، والآجري في "الشريعة" (365)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا =

وأنكر بعض العلماء هذين الاسمين؛ قال: كيف يسمى الملائكة وهم الذين وصفهم الله تعالى بأوصاف الثناء بهذين الاسمين المنكرين، وضعف الحديث الوارد في ذلك. وذهب آخرون إلى أن الحديث حجة، وأن هذه التسمية ليس لأنهما منكران من حيث ذواتهما, ولكنهما منكران من حيث إن الميت لا يعرفهما, وليس له بهما علم سابق، وقد قال إبراهيم لأضيافه الملائكة: {قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25]؛ لأنه لا يعرفهم؛ فهذان منكر ونكير؛ لأنهما غير معروفين للميت. * ثم هذان الملكان هل هما ملكان جديدان، موكلان بأصحاب القبور أو هما الملكان الكاتبان اللذان عن اليمين وعن الشمال قعيد؟ - منهم من قال: إنهما الملكان اللذان يصحبان المرء؛ فإن لكل إنسان ملكين في الدنيا يكتبان أعماله، وفي القبر يسألانه هذه الأسئلة الثلاثة. - ومنهم من قال: بل هما ملكان آخران، والله عَزَّ وَجَلَّ يقول: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إلا هُوَ} [المدثر: 31] والملائكة خلق كثير؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أطت السماء، وحق لها أن تئط (والأطيط: صرير الرحل)؛ ما من موضع شبر (أو قال: أربع أصابع)؛ إلا وفيه ¬

_ = قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، والآخر: النكير ... ". والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" (1391).

الأسئلة التي توجه للميت

ملك قائم لله أو راكع أو ساجد" (¬1)، والسماء واسعة الأرجاء؛ كما قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]. فالمهم أنه لا غرابة أن ينشئ الله عَزَّ وَجَلَّ لكل مدفون ملكين يرسلهما إليه، والله على كل شيء قدير. * قوله: "من ربك؟ "؛ يعني: من ربك الذي خلقك وتعبده وتخصه بالعبادة؟ لأجل أن تنتظم هذه الكلمة توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. * وقوله: "ما دينك؟ ": يعني: ما عملك الذي تدين به لله عَزَّ وَجَلَّ، وتتقرب به إليه؟ * والثالث: "من نبيك؟ ": يعني: من النبي الذي تؤمن به وتتبعه؟ * قوله: "فـ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] "؛ أي: يجعلهم ثابتين لا يترددون ولا يتلعثمون في الجواب. * والقول الثابت: هو التوحيد؛ كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم: 24]. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 173)، والترمذي (2312)، وابن ماجه (4190)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 510)؛ عن أبي ذر رضي الله عنه، وحسنه الألباني في "الصحيحة" (1722).

ماذا يقول المؤمن

* وقوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}: يحتمل أنها متعلقة بـ {يُثَبِّتُ}؛ يعني: أن الله يثبت المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة. ويحتمل أنها متعلقة بالثابت؛ فتكون وصفًا للقول؛ يعني: أن هذا القول ثابت في الدنيا وفي الآخرة. ولكن المعنى الأول أحسن وأقرب؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] وقال الله عز وجل: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]؛ فهم يثبتون في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالقول الثابت. * قوله: "فيقول المؤمن: ربي الله، والإِسلام ديني، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيي": فيقول المؤمن: ربي الله. عندما يقال له: من ربك؟ ويقول إذا قيل له: ما دينك؟ فيقول: الإِسلام ديني. ويقول كذلك: محمَّد - صلى الله عليه وسلم - نبيي. إذا قيل له: من نبيك؟ وحينئذ يكون الجواب صوابًا، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة. * قوله: "وأما المرتاب، فيقول: هاه هاه! لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته": * المرتاب: الشاك والمنافق وشبههما. * "فيقول: هاه! هاه! لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا

ضرب الذي لم يجب بمرزبة من حديد

فقلته"؛ يعني: لم يلج الإيمان قلبه، وإنما كان يقول كما يقول الناس من غير أن يصل الإيمان إلى قلبه. وتأمل قوله: "هاه! هاه! "؟ كأن شيئًا غاب عنه؛ يريد أن يتذكره، وهذا أشد في التحسر؛ أن يتخيل أنه يعرف هذا الجواب، ولكن يحال بينه وبينه، ويقول: هاه! هاه! ثم يقول: سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. ولا يقول: ربي الله! ولا: ديني الإِسلام! ولا: نبيي محمَّد! لأنه في الدنيا مرتاب شاك! هذا إذا سئل في قبره وصار أحوج ما يكون إلى الجواب الصواب؛ يعجز ويقول: لا أدري؛ سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته. إذًا؛ إيمانه قول فقط!! * قوله: "فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان": * "يضرب"؛ يعني: الذي لم يجب؛ سواء كان الكافر أو المنافق والضارب له الملكان اللذان يسألانه. * والمرزبة: هي مطرقة من حديد، وقد ورد في بعض الروايات أنه لو اجتمع عليها أهل منى؛ ما أقلوها. فإذا ضرب؛ يصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان. * قوله: "يضرب فيصيح"؛ أي: صياحًا مسموعًا؛ يسمعة كل شيء، يكون حوله مما يسمع صوته، وليس كل شيء في أقطار

الحكمة في عدم سماع الإنسان لعذاب القبر

الدنيا يسمعه، وأحيانًا يتأثر به ما يسمعه؛ كما مر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأقبر للمشركين على بغلته؛ فحادت به، حتى كادت تلقيه؛ لأنها سمعت أصواتهم يعذَّبون (¬1). * قوله: "إلا الإنسان"؟ يعني: أنه لا يسمع هذا الصياح، وذلك لحكم عظيمة؛ منها: أولًا: ما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "لولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر" (¬2). ثانيًا: أن في إخفاء ذلك سترًا للميت. ثالثًا: أن فيه عدم إزعاج لأهله؛ لأن أهله إذا سمعوا ميتهم يعذب ويصيح؛ لم يستقر لهم قرار. رابعًا: عدم تخجيل أهله؛ لأن الناس يقولون: هذا ولدكم! هذا أبوكم! هذا أخوكم! وما أشبه ذلك. خامسًا: أننا قد نهلك؛ لأنها صيحة ليست هيئة، بل صيحة توجب أن تسقط القلوب من معاليقها، فيموت الإنسان أو يغشى عليه. سادسًا: لو سمع الناس صراخ هؤلاء المعذبين؛ لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة، لا من باب الإيمان بالغيب، وحينئذ تفوت مصلحة الامتحان؛ لأن الناس سوف يؤمنون ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2867) عن زيد بن ثابت رضي الله عنه. (¬2) جزء من الحديث السابق.

تنبيه

بما شاهدوه قطعًا؛ لكن إذا كان غائبًا عنهم، ولم يعلموا به إلا عن طريق الخبر؛ صار من باب الإيمان بالغيب. * تنبيه: قول المؤلف رحمه الله: "فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان؛ لصعق"؛ إنما ورد قوله: "يسمعها كل شيء إلا الإنسان ... " إلخ في قول الجنازة إذا احتملها الرجال على أعناقهم؛ كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإن كانت صالحة؛ قالت: قدموني! وإن كانت غير صالحة؛ قالت: يا ويلها! أين يذهبون بها؟! يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعه؟ لصعق" (¬1). أما الصيحة في القبر؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين"؛ أخرجه البخاري بهذا اللفظ (¬2)، والمراد بالثقلين: الإنس والجن. * * * * قوله: "ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب": * "ثم": هذه لمطلق الترتيب، وليست للتراخي؛ لأن الإنسان يعذب أو ينعم فورًا؛ كما سبق أنه إذا قال: لا أدري! يضرب بمرزبة، وأن ذاك الذي أجاب بالصواب؛ يفتح له باب إلى الجنة، ويوسع له في قبره. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1316 و 1380) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (1374) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

العذاب والنعيم يكون على الروح والبدن تابع له

* وهذا النعيم أو العذاب؛ هل هو على البدن أو على الروح أو يكون على البدن والروح جميعًا؟ نقول: المعروف عند أهل السنة والجماعة أنه في الأصل على الروح، والبدن تابع لها؛ كما أن العذاب في الدنيا على البدن، والروح متابعة له، وكما أن الأحكام الشرعية في الدنيا على الظاهر، وفي الآخرة بالعكس؛ ففي القبر يكون العذاب أو النعيم على الروح، لكن الجسم يتأثر بهذا تبعًا، وليس على سبيل الاستقلال، وربما يكون العذاب على البدن والروح تتبعه، لكن هذا لا يقع إلا نادرًا؛ إنما الأصل أن العذاب على الروح والبدن تبع، والنعيم للروح والبدن تبع. * وقوله: "إما نعيم وإما عذاب": فيه إثبات النعيم والعذاب في القبر، وقد دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل لنا أن نقول: وإجماع المسلمين: - أما من كتاب الله؛ فالثلاثة أصناف التي في آخر الواقعة ظاهرة في ثبوت عذاب القبر ونعيمه. قال الله تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 83 - 94]. وهذا أمر مشاهد؛ يسمع المحتضر يرحب بالقادمين عليه من

الملائكة (¬1)، ويقول: مرحبًا! وأحيانًا يقول: مرحبًا؛ اجلس هنا! كما ذكره ابن القيم في كتاب "الروح"، وأحيانًا يحس بأن هذا الرجل أصيب بشيء مخيف، فيتغير وجهه عند الموت إذا نزلت عليه ملائكة العذاب والعياذ بالله. ومن أدلة القرآن قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا}، وهذا قبل قيام الساعة؛ بدليل قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]. ومن أدلة القرآن أيضًا قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}، وهم شاحون بأنفسهم، لا يريدونها أن تخرج؛ لأنهم قد بشروا بالعذاب والعقوبة؛ فتجد الروح تأبى الخروج، ولهذا قال: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: 93]: {الْيَوْمَ}: (الـ): للعهد الحضوري؛ كقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]؛ يعني: اليوم الحاضر. وكذلك {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ}: (الـ) للعهد الحضوري، والمراد ¬

_ (¬1) لما رواه البراء بن عازب في قصة خروجه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في جنازة رجل من الأنصار. أخرجه الإِمام أحمد (4/ 287 و 288 و 295 و 296)، وأبو داود (4753)، والآجري في "الشريعة" (367)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 37)؛ وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقره الذهبي، ووافقهما الألباني في "أحكام الجنائز" (159). وقال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 369): هذا الحديث حديث حسن.

الأدلة من السنة

به: يوم حضور الملائكة لقبض أرواحهم، وهذا يقتضي أنهم يعذبون من حين أن تخرج أرواحهم، وهذا هو عذاب القبر. ومن أدلة القرآن أيضًا قوله تعالى: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [النحل: 32] وذلك في حال الوفاة. ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "يقال لنفس المؤمن: اخرجي أيتها النفس الطيبة إلى مغفرة من الله ورضوان"؛ (¬1) فتفرح بهذه البشرى، وتخرج منقادة سهلة، وإن كان البدن قد يتألم، لكن الروح منقادة مستبشرة. - وأما السنة في عذاب القبر ونعيمه، فمتواترة، ومنها ما ثبت في "الصحيحين" من حديث ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين، فقال: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير ... " (¬2) الحديث. - وأما الإجماع؛ فكل المسلمين يقولون في صلاتهم: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر ... ولو أن عذاب القبر غير ثابت، ما صح أن يتعوذوا بالله منه، إذ لا تعوذ من أمر ليس موجودًا، وهذا يدل على أنهم يؤمنون به. * فإن قال قائل: هل العذاب أو النعيم في القبر دائم أو ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (2/ 121) من حديث البراء بن عازب. (¬2) رواه: البخاري (1378)، ومسلم (1980)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

كيف يكون العذاب على من تمزق أوصالا أو أكلته السباع أو ذرته الرياح؟

ينقطع؟ فالجواب أن يقال: - أما العذاب للكفار؛ فإنه دائم، ولا يمكن أن يزول العذاب عنهم؛ لأنهم مستحقون لذلك، ولأنه لو زال العذاب عنهم؛ لكان هذا راحة لهم، وهم ليسوا أهلًا لذلك؛ فهم باستمرار في عذاب إلى يوم القيامة، ولو طالت المدة؛ فقدم نوح الذين أغرقوا ما زالوا يعذبون في هذه النار التي أدخلوا فيها، ويستمر عذابهم إلى يوم القيامة، وكذلك آل فرعون يعرضون على النار غدوًّا وعشيًّا. وذكر بعض العلماء أنه يخفف عن الكفار ما بين النفختين، واستدلوا بقوله تعالى: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] , ولكن هذا ليس بلازم؛ لأن قبورهم مرقد لهم، وإن عذبوا فيها. - أما عصاة المؤمنين الذين يقضي الله تعالى عليهم بالعذاب؛ فهؤلاء قد يدوم عذابهم وقد لا يدوم، وقد يطول وقد لا يطول؛ حسب الذنوب، وحسب عفو الله عَزَّ وَجَلَّ. والعذاب في القبر أهون من عذاب يوم القيامة؛ لأن العذاب في القبر ليس فيه خزي وعار، لكن في الآخرة فيه الخزي والعار؛ لأن الأشهاد موجودون: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]. * فإن قال قائل: لو أن هذا الرجل تمزق أوصالًا، وأكلته السباع، وذرته الرياح؛ فكيف يكون عذابه، وكيف يكون سؤاله؟!

كيف يوسع للميت مد البصر وهو يدفن في قبر ضيق؟

فالجواب: أن الله عَزَّ وَجَلَّ على كل شيء قدير، وهذا أمر غيبي؛ فالله عَزَّ وَجَلَّ قادر على أن يجمع هذه الأشياء في عالم الغيب، وإن كنا نشاهدها في الدنيا متمزقة متباعدة، لكن في عالم الغيب ربما يجمعها الله: فانظر إلى الملائكة تنزل لقبض روح الإنسان في المكان نفسه؛ كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85] ومع ذلك؛ لا نبصرهم. وملك الموت يكلم الروح، ونحن لا نسمع. وجبريل يتمثل أحيانًا للرسول عليه الصلاة والسلام، ويكلمه بالوحي في نفس المكان، والناس لا ينظرون ولا يسمعون. فعالم الغيب لا يمكن أبدًا أن يقاس بعالم الشهادة، وهذه من حكمة الله عَزَّ وَجَلَّ؛ فنفسك التي في جوفك ما تدري كيف تتعلق ببدنك؟! كيف هي موزعة على البدن؟! وكيف تخرج منك عند النوم؟! هل تحس بها عند استيقاظك بأنها ترجع؟! ومن أين تدخل لجسمك؟! فعالم الغيب ليس فيه إلا التسليم، ولا يمكن فيه القياس إطلاقًا؛ فالله عَزَّ وَجَلَّ قادر على أن يجمع هذه المتفرقات من البدن المتمزق الذي ذرته الرياح، ثم يحصل عليه المساءلة والعذاب أو النعيم؛ لأن الله سبحانه على كل شيء قدير. * فإن قال قائل: الميت يدفن في قبر ضيق؛ فكيف يوسع له

كيف تختلف أضلاع الميت الكافر ونحن لا نرى ذلك

مدَّ البصر؟! فالجواب: أن عالم الغيب لا يقاس بعالم الشهادة، بل إننا لو فرض أن أحدًا حفر حفرة مدَّ البصر، ودفن فيها الميت، وأطبق عليه التراب؛ فالذي لا يعلم بهذه الحفرة؟ هل يراها أو لا يراها؟! لا شك أنه لا يراها؟ مع أن هذا في عالم الحس، ومع ذلك لا يرى هذه السعة، ولا يعلم بها؛ إلا من شاهدها. * فإذا قال قائل: نحن نرى الميت الكافر إذا حفرنا قبره بعد يوم أو يومين؟ نرى أن أضلاعه لم تختلف وتتداخل من الضيق؟! فالجواب كما سبق: أن هذا من عالم الغيب، ومن الجائز أن تكون مختلفة؟ فإذا كشف عنها؟ أعادها الله، وردّ كل شيء إلى مكانه؛ امتحانًا للعباد؛ لأنها لو بقيت مختلفة ونحن قد دفناه وأضلاعه مستقيمة؛ صار الإيمان بذلك إيمان شهادة. * فإن قال قائل كما قال الفلاسفة: نحن نضع الزئبق على الميت، وهو أسرع الأشياء تحركًا ومروقًا، وإذا جئنا من الغد؛ وجدنا الزئبق على ما هو عليه، وأنتم تقولون: إن الملائكة يأتون ويجلسون هذا الرجل، والذي يجلس؛ كيف يبقى عليه الزئبق؟! فنقول أيضًا كما قلنا سابقًا: هذا من عالم الغيب، وعلينا الإيمان والتصديق، ومن الجائز أيضًا أن الله عَزَّ وَجَلَّ يرد هذا الزئبق إلى مكانه بعد أن تحول بالجلوس. ونقول أيضًا: انظروا إلى الرجل في المنام؛ يرى أشياء لو

كان على حسب رؤيته إياها، ما بقي في فراشه على السرير، وأحيانًا تكون رؤيا حق من الله عَزَّ وَجَلَّ، فتقع كما كان يراها في منامه، ومع ذلك، نحن نؤمن بهذا الشيء. والإنسان إذا رأى في منامه ما يكره، أصبح وهو متكدر، وإذا رأى ما يسره، أصبح وهو مستبشر، كل هذا يدل على أن أمور الروح ليست من الأمور المشاهدة، ولا تقاس أمور الغيب بالمشاهد، ولا ترد النصوص "الصحيحة" لاستبعادنا ما تدل عليه حسب المشاهد. * * *

فصل: في القيامة الكبرى

فصل في القيامة الكبرى * قوله: "إلى أنْ تَقومَ القِيامَةُ الكُبْرى": الشرح: * القيامة الكبرى هي التي يقوم فيها الناس من قبورهم لرب العالمين. * وأفادنا المؤلف رحمه الله بقوله: "القيامة الكبرى": أن هناك قيامة صغرى، وهي قيامة كل إنسان بعينه؛ فإن كل إنسان له قيامة؛ فمن مات؛ قامت قيامته. * وسكت المؤلف رحمه الله عن أشراط الساعة؛ فلم يذكرها؛ لأن المؤلف إنما يريد أن يتكلم عن اليوم الآخر، وما أشراط الساعة إلا مجرد علامات وإنذارات لقرب قيام الساعة؛ ليستعد لها من يستعد. وبعض أهل العلم الذين صنفوا في العقائد ذكروا أشراط

الأمر الأول: مما يكون في القيامة "إعادة الأرواح إلى الأجساد"

الساعة هنا، والحقيقة أنه لا تعلق لها في الإيمان باليوم الآخر، وإن كانت هي من الأمور الغيبية التي أشار الله إليها في القرآن وفصلها النبي - صلى الله عليه وسلم - في السنة. * * * • الأمر الأول مما يكون في القيامة: ما أشار إليه المؤلف بقوله: "فَتُعادُ الأرْواحُ إلى الأجْسادِ". هذا أول الأمور: * ويكون بعد النفخة الثانية في الصور، وذلك بعد أن فارقتها بالموت، وهذه غير الإعادة التي تكون في البرزخ حين سؤال الميت عن ربه ودينه ونبيه، وذلك أن الله يأمر إسرافيل فينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض؛ إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه مرة أخرى فتتطاير الأرواح من الصور إلى أجسادها، وتحل فيها. * وفي قول المؤلف: "إلى الأجساد": إشارة إلى أن الأرواح لا تخرج من الصور؛ إلا بعد أن تتكامل الأجساد مخلوقة؛ فإذا كملت خلقتها؛ نفخ في الصور، فأعيدت الأرواح إلى أجسادها. * وفي قوله: "تعاد الأرواح إلى الأجساد": دليل على أن البعث إعادة، وليس تجديدًا، بل هو إعادة لما زال وتحول؛ فإن الجسد يتحول إلى تراب، والعظام تكون رميمًا؛ يجمع الله تعالى هذا المتفرق، حتى يتكون الجسد، فتعاد الأرواح إلى أجسادها،

وأما من زعم بأن الأجساد تخلق من جديد؛ فإن هذا زعم باطل يرده الكتاب والسنة والعقل: - أما الكتاب؛ فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]؛ أي: يعيد ذلك الخلق الذي ابتدأه. وفي الحديث القدسي: "يقول الله تعالى: ليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته" (¬1)؛ فالكل على الله هين. وقال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]. وقال تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15، 16]. وقال تعالى: {مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79]. - وأما السنة؛ فهي كثيرة جدًّا في هذا؛ حيث بين النبي - صلى الله عليه وسلم - "أن الناس يحشرون حفاة عراة غُرْلًا" (¬2)؛ فالناس هم الذين يحشرون، وليس سواهم. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4974) عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) لما رواه البخاري (3349 و 3447)، ومسلم (2860)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا بموعظة فقال: "يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلًا ... ".

قيام الساعة والأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والعقل

فالمهم؛ أن البعث إعادة للأجساد السابقة. * فإذا قلت: ربما يؤكل الإنسان من قبل السباع، ويتحول جسمه الذي أكله السبع إلى تغذية لهذا الآكل تختلط بدمه ولحمه وعظمه وتخرج في روثه وبوله؛ فما الجواب على ذلك؟ فالجواب: أن الأمر هين على الله؛ يقول: كن! فيكون، ويتخلص هذا الجسم الذي سيبعث من كل هذه الأشياء التي اختلط بها، وقدرة الله عَزَّ وَجَلَّ فوق ما نتصوره؛ فالله على كل شيء قدير. * * * * قوله: "وَتَقومُ القِيامَةُ التي أخْبَرَ اللهُ بِها في كِتابِهِ وَعَلى لِسانِ رَسولِهِ وَأجْمَعَ عَلَيْها المُسْلِمونَ". هذه ثلاثة أنواع من الأدلة: كتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، بإجماع المسلمين. - فأما كتاب الله تعالى؛ فقد أكد الله تعالى في كتابه هذه القيامة، وذكرها الله عَزَّ وَجَلَّ بأوصاف عظيمة، توجب الخوف والاستعداد لها: فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 1 - 2].

وقال تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 1 - 3]. وقال تعالى: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 1 - 5]. والأوصاف لها في القرآن كثيرة؛ كلها مروعة مخوفة؛ لأنها عظيمة، وإذا لم نؤمن بها؛ فلن نعمل لها؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يعمل لهذا اليوم حتى يؤمن به وحتى يذكر له أوصافه التي توجب العمل لهذا اليوم. - وأما السنة؛ فالأحاديث في ذكر القيامة كثيرة، بين الرسول عليه الصلاة والسلام بها ما يكون فيها؛ كما سيأتي إن شاء الله في ذكر الحوض والصراط والكتاب وغير ذلك مما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. - وأما الإجماع -وهو النوع الثالث-؛ فقد أجمع المسلمون إجماعًا قطعيًّا على الإيمان بيوم القيامة، ولهذا كان من أنكره؛ فهو كافر؛ إلا إذا كان غريبًا عن الإِسلام وجاهلًا؛ فإنه يعرَّف؛ فإن أصر على الإنكار بعد ذلك؛ فهو كافر. - وهناك نوع رابع من الأدلة، وهو الكتب السماوية؛ حيث اتفقت على إثبات اليوم الآخر، ولهذا كان اليهود والنصارى يؤمنون بذلك، وحتى الآن يؤمنون به، ولهذا تسمعونهم يقولون: فلان المرحوم، أو: رحمه الله، أو: ما أشبه ذلك؛ مما يدل على أنهم يؤمنون باليوم الآخر إلى يومنا هذا.

الأمر الثاني: مما يكون في القيامة "قيام الناس من قبورهم"

- وثَمَّ نوع خامس، وهو العقل، ووجه ذلك أنه لو لم يكن هذا اليوم، لكان إيجاد الخلائق عبثًا، والله عَزَّ وَجَلَّ منزه عن العبث، فما الحكمة من قوم يُخلقون ويُؤمرون ويُنهون ويُلزَمون بما يُلزَمون به ويُندَبون إلى ما يُندَبون إليه، ثم يموتون، ولا حساب، ولا عقاب؟! ولهذا قال الله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: 115، 116]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85]. كيف يُفرض القرآن ويُفرض العمل به، ثم لا يكون هناك معاد؛ نحاسب على ما نفذنا من هذا القرآن الذي فرض علينا؟! فصارت أنواع الأدلة على ثبوت اليوم الآخر خمسة. * * * • الأمر الثاني مما يكون في القيامة: ما أشار إليه بقوله: "فَيَقومُ النَّاسُ مِنْ قُبورِهِمْ لِرَبِّ العالَمينَ حُفاةً عُراةً غُرْلًا". * قوله: "من قبورهم": هذا بناء على الأغلب، وإلا، فقد يكون الإنسان غير مدفون. * قوله: "لرب العالمين"؛ يعني: لأن الله عَزَّ وَجَلَّ يناديهم.

قال الله تعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 41، 42] فيقومون لهذا النداء العظيم من قبورهم لربهم عَزَّ وَجَلَّ. قال الله تبارك وتعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 4 - 6]. * قوله: "حُفاة عُراةً غُرْلًا": "حفاة": ليس عليهم نعال ولا خفاف؛ يعني: أنه ليس عليهم لباس للرجل. * "عراة": ليس عليهم لباس للجسد. * "غرلًا": لم ينقص من خلقهم شيء، والغرل: جمع أغرل، وهو الذي لم يختن؛ أي أن القلفة التي قطعت منه في الدنيا تعود يوم القيامة؛ لأن الله يقول: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104]؛ فيعاد كاملًا، لم ينقص منه شيء؛ يعودون على هذا الوصف مختلطين رجالًا ونساء. ولما حدث النبي عليه الصلاة والسلام بذلك؛ قالت عائشة: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال: "الأمر أشد من أن يُهِمَّهم ذلك" (وفي رواية: من أن ينظر بعضهم إلى بعض) (¬1). فكل إنسان له شأن يغنيه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6527)، والرواية الأخرى عند مسلم (2859)، عن عائشة رضي الله عنها.

الأمر الثالث: مما يكون يوم القيامة "دنو الشمس مقدار ميل"

وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 34 - 37]. لا رجل ينظر إلى امرأة، ولا امرأة تنظر إلى رجل، حتى إن ابنه أو أباه يفر منه؛ خوفًا من أن يطالبه بحقوق له، وإذا كان هذا هو الواقع؛ فإنه لا يمكن أن تنظر المرأة إلى الرجل، ولا الرجل إلى المرأة؛ الأمر أشد وأعظم. ولكن؛ مع ذلك؛ يكسون بعد هذا، وأول من يكسى إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * * * • الأمر الثالث مما يكون يوم القيامة: ما أشار إليه بقوله: "وَتَدْنُو مِنْهُمُ الشَّمْسُ". * "تدنو": أي: تقرب منهم الشمس، وتقرب منهم مقدار ميل. وهذا الميل سواء كان المسافة أو ميل المكحلة؛ فإنها قريبة، وإذا كانت هذه حرارتها في الدنيا، وبيننا وبينها من البعد شيء عظيم؛ فكيف إذا كانت عن الرؤوس بمقدار ميل (¬2)؟! ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (3349)، ومسلم (2860)؛ عن ابن عباس رضي الله عنه. (¬2) كما جاء في صحيح مسلم (2864)، من حديث المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق =

* قد يقول قائل: المعروف الآن أن الشمس لو تدنو بمقدار شعرة عن مستوى خطبها؛ لأحرقت الأرض؛ فكيف يمكن أن تكون في ذلك اليوم بهذا المقدار من البعد، ثم لا تحرق الخلق؟ فالجواب على ذلك: أن الناس يحشرون يوم القيامة؛ ليسوا على القوة التي هم عليها الآن، بل هم أقوى وأعظم وأشد تحملًا. لو أن الناس الآن وقفوا خمسين يومًا في شمس لا ظل ولا أكل ولا شرب؛ فلا يمكنهم ذلك، بل يموتون! لكن يوم القيامة يبقون خمسين ألف سنة؛ لا أكل ولا شرب ولا ظل؛ إلا من أظله الله عَزَّ وَجَلَّ، ومع ذلك؛ يشاهدون أهوالًا عظيمة؛ فيتحملون. واعتبر بأهل النار؛ كيف يتحملون هذا التحمل العظيم؛ {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56]. وبأهل الجنة؛ ينظر الإنسان إلى ملكه مسيرة ألف عام إلى أقصاه؛ كما ينظر إلى أدناه؛ كما روي ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). * فإن قيل: هل أحد يسلم من الشمس؟ فالجواب: نعم! هناك أناس يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ كما أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله ¬

_ = إلجامًا"، قال: وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى فيه". (¬1) رواه أحمد (2/ 64)، والترمذي (2553)، والحاكم (2/ 509)، وضعفه الألباني في "الضعيفة" (1985).

الأمر الرابع: مما يكون يوم القيامة "غرق الناس بالعرق على حسب أعمالهم"

اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خاليًا؛ ففاضت عيناه" (¬1). وهناك أيضًا أصناف أخرى يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. * وقوله: "لا ظل إلا ظله"؟ يعني: إلا الظل الذي يخلقه، وليس كما توهم بعض الناس أنه ظل ذات الرب عَزَّ وَجَلَّ؛ فإن هذا باطل؛ لأنه يستلزم أن تكون الشمس حينئذ فوق الله عَزَّ وَجَلَّ. ففي الدنيا؛ نحن نبني الظل لنا، لكن يوم القيامة؛ لا ظل إلا الظل الذي يخلقه سبحانه وتعالى ليستظل به من شاء من عباده. • الأمر الرابع مما يكون يوم القيامة: ما ذكره المؤلف رحمه الله بقوله: "وَيُلْجِمْهُمُ العَرَقُ". * "يلجمهم"؛ أي: يصل منهم إلى موضع اللجام من الفرس، وهو الفم. * ولكن هذا غاية ما يصل إليه العرق، وإلا؛ فبعضهم يصل العرق إلى كعبيه، وإلى ركبيته، وإلى حقويه، ومنهم من يلجمه؛ فهم يختلفون في هذا العرق، ويعرقون من شدة الحر؛ لأن المقام ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (660)، ومسلم (1031)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

مقام زحام وشدة ودنو شمس؛ فيعرق الإنسان مما يحصل في ذلك اليوم؛ لكنهم على حسب أعمالهم (¬1). * فإن قلت: كيف يكون ذلك وهم في مكان واحد؟ فالجواب: أننا أصلنا قاعدة يجب الرجوع إليها، وهي: أن الأمور الغيبية يجب علينا أن نؤمن بها ونصدق دون أن نقول: كيف؟! ولِمَ؟! لأنها شيء وراء عقولنا, ولا يمكن أن ندركها أو نحيط بها. أرأيت لو أن رجلين دُفِنا في قبر واحد: أحدهما مؤمن، والثاني: كافر؛ فإنه ينال المؤمن من النعيم ما يستحق، وينال الكافر من العذاب ما يستحق، وهما في قبر واحد، وهكذا نقول في العرق يوم القيامة. * فإن قلت: هل تقول: إن الله سبحانه وتعالى يجمع من يلجمهم العرق في مكان، ومن يصل إلى كعبيه في مكان، وإلى ركبتيه في مكان، وإلى حقويه في مكان؟ فالجواب: لا نجزم بهذا، والله أعلم، بل نقول: من الجائز أن يكون الذي يصل العرق إلى كعبه إلى جانب الذي يلجمه العرق، والله على كل شيء قدير، وهذا نظير النور الذي يكون للمؤمنين؛ يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، والكفار في ظلمة؛ فيوم القيامة يجب علينا أن نؤمن به وبما يكون فيه، أما كيف؟! ولِمَ؟! ¬

_ (¬1) انظر: (2/ 134).

الأمر الخامس: مما يكون يوم القيامة "نصب الموازين"

فهذا ليس إلينا. * * * • الأمر الخامس مما يكون يوم القيامة: ما ذكره بقوله: "فتُنْصَبُ المَوازينُ فَتُوزَنُ بِها أعْمالُ العِبادِ". * الذي ينصب الموازين هو الله عَزَّ وَجَلَّ، لتوزن بها أعمال العباد. * والمؤلف يقول: "الموازين": بالجمع، وقد وردت النصوص بالجمع والإفراد: - فمثال الجمع: قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] وقال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف: 8، 9]. - وأما الإفراد؛ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" (¬1). فقال: "في الميزان"؛ فأفرد؛ فكيف نجمع بين الآيات القرآنية وبين هذا الحديث؟! فالجواب أن نقول: ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (6406)، ومسلم (2694)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

إنها جمعت باعتبار الموزون؛ حيث إنه متعدد، وأفردت باعتبار أن الميزان واحد، أو ميزان كل أمة. أو أن المراد بالميزان في قوله عليه الصلاة والسلام: "ثقيلتان في الميزان"؛ أي: في الوزن. ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أن الميزان واحد، وأنه جمع باعتبار الموزون؛ بدليل قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8]. لكن يتوقف الإنسان: هل يكون ميزانًا واحدًا لجميع الأمم أو لكل أمة ميزان؛ لأن الأمم كما دلت عليه النصوص تختلف باعتبار أجرها؟! * وقوله: "تنصب الموازين": ظاهره أنها موازين حسية، وأن الوزن يكون على حسب المعهود بالراجح والمرجوح، وذلك لأن الأصل في الكلمات الواردة في الكتاب والسنة حملها على المعهود المعروف؛ إلا إذا قام دليل على أنها خلاف ذلك، والمعهود المعروف عند المخاطبين منذ نزول القرآن الكريم إلى اليوم أن الميزان حسي، وأن هناك راجحًا ومرجوحًا. وخالف في ذلك جماعة: - فالمعتزلة قالوا: إنه ليس هناك ميزان حسي، ولا حاجة له؛ لأن الله تعالى قد علم أعمال العباد وأحصاها, ولكن المراد بالميزان: الميزان المعنوي الذي هو العدل.

وزن أعمال العباد

ولا شك أن قول المعتزلة باطل؛ لأنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف، ولأننا إذا قلنا: إن المراد بالميزان: العدل؛ فلا حاجة إلى أن نعبر بالميزان؛ بل نعبر بالعدل؛ لأنه أحب إلى النفس من كلمة (ميزان)، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]. - وقال بعض العلماء: إن الرجحان للعالي؛ لأنه يحصل فيه العلو, لكن الصواب أن نجري الوزن على ظاهره، ونقول: إن الراجح هو الذي ينزل، ويدل لذلك حديث صاحب البطاقة، فإن فيه أن السجلات تطيش وتثقل البطاقة، وهذا واضح، بأن الرجحان يكون بالنزول. * وقوله: "فتوزن بها أعمال العباد": كلام المؤلف رحمه الله صريح بأن الذي يوزن: العمل. * وهنا مبحثان: المبحث الأول: كيف يوزن العمل؛ والعمل وصف قائم بالعامل، وليس جسمًا فيوزن؟! والجواب على ذلك: أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى يجعل هذه الأعمال أجسامًا، وليس هذا بغريب على قدرة الله عَزَّ وَجَلَّ، وله نظير، وهو الموت؛ فإنه يجعل على صورة كبش، ويذبح بين الجنة والنار (¬1)، مع أن الموت معنى، وليس بجسم، وليس الذي ¬

_ (¬1) كما جاء ذلك في "صحيح البخاري" (4730)، ومسلم (2849)؛ عن أبي سعيد =

الجمع بين النصوص الواردة في وزن العمل والعامل والصحائف

يذبح ملك الموت، ولكنه نفس الموت، حيث يجعله الله تعالى جسمًا يشاهد ويرى، كذلك الأعمالك يجعلها الله عَزَّ وَجَلَّ أجسامًا توزن بهذا الميزان الحسي. المبحث الثاني: صريح كلام المؤلف أن الذي يوزن العمل، سواء كان خيرًا أم شرًّا: وهذا هو ظاهر القرآن؛ كما قال الله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 6 - 8]؛ فهذا واضح أن الذي يوزن العمل، سواء كان خيرًا أم شرًّا. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان" (¬1)، وهذا ظاهر أيضًا، بل صريح، في أن الذي يوزن العمل، والنصوص في هذا كثيرة. ولكن هناك نصوص قد يخالف ظاهرها هذا الحديث: - منها حديث صاحب البطاقة، رجل يؤتى به على رؤوس الخلائق، وتعرض عليه أعماله في سجلات تبلغ تسعة وتسعين سجلًّا؛ كل سجل منها يبلغ مد البصر، فيقر بها، فيقال له: ألك عذر أو حسنة؟ فيقول: لا، يا رب! فيقول الله: بلى؛ إن لك ¬

_ = الخدري رضي الله عنه. (¬1) تقدم تخريجه (2/ 138)، وهو في "الصحيحين".

عندنا حسنة. فيؤتى ببطاقة صغيرة، فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟! فيقال: إنك لا تظلم. قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة ... الحديث (¬1). وظاهر هذا أن الذي يوزن صحائف الأعمال. - وهناك نصوص أخرى تدل على أن الذي يوزن العامل؛ مثل: قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105]؛ مع أنه قد ينازع في الاستدلال بهذه الآية؛ فيقال: إن معنى قوله: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}؛ يعني: قدرًا. ومثل ما ثبت من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أنه كان يجتني سواكًا من الأراك، وكان رضي الله عنه دقيق الساقين، جعلت الريح تحركه، فضحك الصحابة رضي الله عنهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مم تضحكون؟ ". قالوا: من دقة ساقيه. قال: "والذي ¬

_ (¬1) رواه: أحمد (2/ 213)، والترمذي (2639) وحسنه، وابن ماجه (4300)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 529) وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "الصحيحة" (135)، وللحافظ حمزة الكناني "جُزء البطاقة".

نفسي بيده؛ لهما في الميزان أثقل من أحد" (¬1). فصار ها هنا ثلاثة أشياء: العمل، والعامل، والصحائف. - فقال بعض العلماء: إن الجمع بينها أن يقال: إن من الناس من يوزن عمله، ومن الناس من يوزن صحائف عمله، ومن الناس من يوزن هو بنفسه. - وقال بعض العلماء: الجمع بينها أن يقال: إن المراد بوزن العمل أن العمل يوزن وهو في الصحائف، ويبقى وزن صاحب العمل، فيكون لبعض الناس. - ولكن عند التأمل نجد أن أكثر النصوص تدل على أن الذي يوزن هو العمل، ويخص بعض الناس، فتوزن صحائف أعماله، أو يوزن هو نفسه. وأما ما ورد في حديث ابن مسعود وحديث صاحب البطاقة؛ فقد يكون هذا أمرًا يخص الله به من يشاء من عباده. * * * * قوله: " {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون: 102] ": ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1/ 421)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 289): "رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني من طرق وأمثل طرقها فيه عاصم بن أبي النجود، وهو حسن الحديث على ضعفه، وبقية رجال أحمد وأبي يعلى رجال الصحيح".

فلاح من رجحت حسناته على سيئاته

* {فَمَنْ}: شرطية. * وجواب الشرط جملة: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. وأتت الجملة الجزائية جملة اسمية بصفة الحصر {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، والجملة الاسمية تفيد الثبوت والاستمرار. وجاءت باسم الإشارة الدال على البعد {فَأُولَئِكَ}، ولم يقل: فهم المفلحون. إشارة إلى علو مرتبتهم. وجاءت بصفة الحصر في قوله: {هُمُ}، وهو ضمير فصل يفيد الحصر والتوكيد، والفصل بين الخبر والصفة. * والمفلح: هو الذي فاز بمطلوبه ونجا من مرهوبه؛ فحصل له السلامة مما يكره، وحصل له ما يحب. * والمراد بثقل الموازين رجحان الحسنات على السيئات. * وقوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}: فيه إشكال من جهة العربية؛ فإن {مَوَازِينُهُ} الضمير فيه مفرد، و {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الضمير فيه جمع!! وجوابه أن (من) الشرطية صالحة للإفراد والجمع؛ فباعتبار اللفظ يعود الضمير إليها مفردًا، وباعتبار المعنى يعود الضمير إليها جمعًا. وكلما جاءت (من)؛ فإنه يجوز أن تعيد الضمير إليها بالإفراد أو بالجمع، وهذا كثير في القرآن؛ قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ

خسران من رجحت سيئاته على حسناته

رِزْقًا} [الطلاق: 11]؛ فتجد الآية الكريمة فيها مراعاة اللفظ ثم المعنى ثم اللفظ. * قوله: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 103]. * والإشارة هنا للبعد، لانحطاط مرتبتهم، لا لعلو مرتبتهم. * وقوله: {خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}: الكافر قد خسر نفسه وأهله وماله: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 15] بينما المؤمن العامل للصالحات قد ربح نفسه وأهله وماله وانتفع به. فهؤلاء الكفار خسروا أنفسهم؛ لأنهم لم يستفيدوا من وجودهم في الدنيا شيئًا، بل ما استفادوا إلا الضرر، وخسروا أموالهم؛ لأنهم لم ينتفعوا بها، حتى ما أعطوه للخلق لينتفِع به، فإنه لا ينفعهم؛ كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة: 54] وخسروا أهليهم، لأنهم في النار، فصاحب النار لا يأنس بأهله، بل إنه مغلق عليه في تابوت، ولا يرى أن أحدًا أشد منه عذابًا. * والمراد بخفة الموازين: رجحان السيئات على الحسنات، أو فقدان الحسنات بالكلية، إن قلنا بأن الكفار توزن أعمالهم، كما هو ظاهر هذه الآية الكريمة وأمثالها، وهو أحد القولين لأهل العلم.

الأمر السادس: مما يكون يوم القيامة "نشر الدواوين"

والقول الثاني: أن الكفار لا توزن أعمالهم؛ لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 103 - 105]. والله أعلم. * * * • الأمر السادس مما يكون يوم القيامة: وهو ما ذكره المؤلف بقوله: "وَتُنْشَرُ الدَّواوينُ". * "تنشر"؛ أي: تفرق وتفتح لقارئها. * "والدواوين": جمع ديوان، وهو السجل الذي تكتب فيه الأعمال، ومنه دواوين بيت المال، وما أشبه ذلك. * قال: "وهي صحائف الأعمال"؛ يعني: التي كتبتها الملائكة الموكلون بأعمال بني آدم؛ قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 9 - 12]. فيكتب هذا العمل، ويكون لازمًا للإنسان في عنقه، فإذا كان يوم القيامة؛ أخرج الله هذا الكتاب. قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13، 14].

قال بعض السلف: لقد أنصفك من جعلك حسيبًا على نفسك. * والكتابة في صحائف الأعمال: إما للحسنات، وإما للسيئات، والذي يكتب من الحسنات ما عمله الإنسان، وما نواه، وما هم به؛ فهذه ثلاثة أشياء: - فأما ما عمله؛ فظاهر أنه يكتب. - وأما ما نواه، فإنه يكتب له، لكن يكتب له أجر النية فقط كاملًا؛ كما في الحديث الصحيح في قصة الرجل الذي كان له مال ينفقه في سبل الخير، فقال الرجل الفقير: لو أن عندي مالًا؛ لعملت فيه بعمل فلان؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فهو بنيته؛ فأجرهما سواء" (¬1). ويدل على أنهما ليسا سواء في الأجر من حيث العمل: أن فقراء المهاجرين لما أتوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا: يا رسول الله! إن أهل الدثور سبقونا. فقال لهم - صلى الله عليه وسلم -: تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثًا وثلاثين ... فلما سمع الأغنياء بذلك؛ فعلوا مثله، فرجع الفقراء يشكون إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهم: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء (¬2)، ولم يقل: إنكم بنيتكم ¬

_ (¬1) قطعة من الحديث الذي رواه أحمد (4/ 230)، والترمذي (2325)، وابن ماجه (4228) عن أبي كبشة الأنماري. وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الألباني في "صحيح الجامع" (3024). (¬2) رواه البخاري (843)، ومسلم (595)، عن حديث أبي هريرة.

الهم ينقسم إلى قسمين

أدركتم عملهم. ولأن هذا هو العدل؛ فرجل لم يعمل لا يكون كالذي عمل، لكن يكون مثله في أجر النية فقط. - وأما الهم؛ فينقسم إلى قسمين: الأول: أن يهم بالشيء ويفعل ما يقدر عليه منه، ثم يحال بينه وبين إكماله. فهذا يكتب له الأجر كاملًا؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100]. وهذه بشرى لطلبة العلم: إذا نوى الإنسان أنه يطلب العلم وهو يريد أن ينفع الناس بعلمه ويذب عن سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وينشر دين الله في الأرض، ثم لم يقدر له ذلك؛ بأن مات مثلًا وهو في طلبه؛ فإنه يكتب له أجر ما نواه وسعى إليه. بل إن الإنسان إذا كان من عادته العمل، وحيل بينه وبينه لسبب؛ فإنه يكتب له أجره. قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا مرض العبد أو سافر؛ كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا" (¬1). القسم الثاني: أن يهم بالشيء ويتركه مع القدرة عليه؛ فيكتب له به حسنة كاملة؛ لنيته. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2996)، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

وأما السيئات؛ فإنه يكتب على الإنسان ما عمله، ويكتب عليه ما أراده وسعى فيه ولكن عجز عنه، ويكتب عليه ما نواه وتمناه. فالأول: واضح. والثاني: يكتب عليه كاملًا؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما؛ فالقاتل والمقتول في النار". قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل؛ فما بال المقتول؟! قال: "لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه" (¬1)، ومثله من هم أن يشرب الخمر، ولكن حصل له مانع؛ فهذا يكتب عليه الوزر كاملًا؛ لأنه سعى فيه. والثالث: الذي نواه وتمناه يكتب عليه، لكن بالنية، ومنه الحديث الذي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن رجل أعطاه الله مالًا؛ فكان يتخبط فيه، فقال رجل فقير: لو أن لي مالًا؛ لعملت فيه بعمل فلان. قال النبي عليه الصلاة والسلام: "فهو بنيته؛ فوزرهما سواء" (¬2). ولو هم بالسيئة، ولكن تركها؛ فهذا على ثلاثة أقسام: 1 - إن تركها عجزًا؛ فهو كالعامل إذا سعى فيها. 2 - وإن تركها لله؛ كان مأجورًا. ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (31)، ومسلم (2888)؛ عن أبي بكرة رضي الله عنه. (¬2) تقدم تخريجه (2/ 147).

الناس يأخذون كتبهم على ثلاثة أوجه

3 - وإن تركها لأن نفسه عزفت عنها، أو لم تطرأ على باله؛ فهذا لا إثم عليه ولا أجر. والله عَزَّ وَجَلَّ يجزي بالحسنات أكثر من العمل، ولا يجزي بالسيئات إلا مثل العمل؛ قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160]، وهذا من كرمه عَزَّ وَجَلَّ ومن كون رحمته سبقت غضبه. - من قوله: "فآخِذٌ كِتابَهُ بِيَمينِهِ": "آخذ": مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: فمنهم آخذ. وجاز الابتداء به وهو نكرة؛ لأنه في مقام التفصيل؛ أي أن الناس ينقسمون؛ فمنهم من يأخذ كتابه بيمينه، وهم المؤمنون، وهذا إشارة إلى أن لليمنى الإكرام، ولذلك يأخذ المؤمن كتابه بها، والكافر يأخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره؛ كما قال المؤلف: "وآخذ كتابه بشماله". * وقوله: "أو من وراء ظهره": "أو" للتنويع، وليست للشك. فظاهر كلام المؤلف أن الناس يأخذون كتبهم على ثلاثة أوجه: باليمين، وبالشمال، ومن وراء الظهر. ولكن الظاهر أن هذا الاختلاف اختلاف صفات؛ فالذي يأخذ كتابه من وراء ظهره هو الذي يأخذ كتابه بشماله؛ فيأخذ بالشمال، وتجعل يده من الخلف؛ فكونه يأخذه بالشمال؛ لأنه من أهل

الشمال، وكونه من وراء ظهره؛ لأنه لما استدبر كتاب الله، وولَّى ظهره إياه في الدنيا؛ صار من العدل أن يجعل كتاب أعماله يوم القيامة خلف ظهره؛ فعلى هذا؛ تخلع اليد الشمال حتى تكون من الخلف. والله أعلم. * قوله: "كما قال سبحانه وتعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13، 14] ": * {طَائِرَهُ}؛ أي: عمله؛ لأن الإنسان يتشاءم به أو يتفاءل به، ولأن الإنسان يطير به فيعلو أو يطير به فينزل. * {فِي عُنُقِهِ}؛ أي: رقبته، وهذا أقوى ما يكون تعلقًا بالإنسان؛ حيث يربط في العنق؛ لأنه لا يمكن أن ينفصل إلا إذا هلك الإنسان؛ فهذا يلزم عمله. * وإذا كان يوم القيامة؛ كان الأمر كما قال الله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا}؛ أي: مفتوحًا؛ لا يحتاج إلى تعب ولا إلى مشقة في فتحه. * ويقال له: في {اقرَأ كِتَابك} هو وانظر ما كتب عليك فيه. * {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}: وهذا من تمام العدل والإنصاف: أن يوكل الحساب إلى الإنسان نفسه. والإنسان العاقل لا بد أن ينظر ماذا كتب في هذا الكتاب الذي سوف يجده يوم القيامة مكتوبًا.

الأمر السابع: مما يكون يوم القيامة "أن الله يحاسب الخلائق"

ولكن؛ نحن أمامنا باب يمكن أن يقضي على كل السيئات، وهو التوبة، وإذا تاب العبد إلى الله؛ مهما عظم ذنبه؛ فإن الله يتوب عليه، وحتى لو تكرر الذنب منه، وهو يتوب؛ فإن الله يتوب عليه؛ فما دام الأمر بأيدينا الآن، فعلينا أن نحرص على أن لا يكتب في هذا الكتاب إلا العمل الصالح. * * * • الأمر السابع مما يكون يوم القيامة: وهو ما ذكره المؤلف بقوله: "وَيُحاسِبُ اللهُ الخَلائِقَ": * المحاسبة: إطلاع العباد على أعمالهم يوم القيامة. وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل: - أما الكتاب؛ فقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 7، 8] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 10 - 12]. - وأما السنة؛ فقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام بعدة أحاديث أن الله تعالى يحاسب الخلائق. - وأما الإجماع؛ فإنه متفق عليه بين الأمة: أن الله تعالى يحاسب الخلائق. - وأما العقل؛ فواضح؛ لأننا كلفنا بعمل فعلًا وتركًا وتصديقًا، والعقل والحكمة تقتضيان أن من كلف بعمل، فإنه يحاسب عليه ويناقش فيه.

* وقول المؤلف: "الخلائق": جمع خليقة؛ يشمل كل مخلوق. إلا أنه يستثنى من ذلك من يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ كما ثبت ذلك في "الصحيحين": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى أمته ومعهم سبعون ألفًا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون (¬1). وقد روى الإِمام أحمد بسند جيد: أن مع كل واحد سبعين ألفًا (¬2). فتضرب سبعين ألفًا بسبعين ألفًا، ويزاد سبعون ألفًا. هؤلاء كلهم ودخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب. * وقوله: "الخلائق": يشمل أيضًا الجن؛ لأنهم مكلفون، ولهذا يدخل كافرهم النار بالنص والإجماع؛ كما قال تعالى: {قَالَ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6541)، ومسلم (220)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه الإِمام أحمد (1/ 5 و 196) عن أبي بكر وابنه عبد الرحمن، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 410 - 411): رواه أحمد والبزار بنحوه، والطبراني بنحوه، وفي أسانيدهم القاسم بن مهران عن موسى بن عبيد، وموسى بن عبيد هذا هو مولى خالد بن عبد الله بن أسيد، ذكره ابن حبان في "الثقات"، والقاسم بن مهران ذكره الذهبي في "الميزان"، وأنه لم يرو عنه إلّا سليم بن عمرو النخعي، وليس كذلك، فقد روى عنه هذا الحديث هشام بن حسان، وباقي إسناده محتج بهم في "الصحيح".

ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: 38] ويدخل مؤمنهم الجنة على قول جمهور أهل العلم، وهو الصحيح؛ كما يدل عليه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ...} إلى قوله: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 46 - 56]. * وهل تشمل المحاسبة البهائم؟! أما القصاص؛ فيشمل البهائم؛ لأنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه يقتص للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" (¬1)، وهذا قصاص، لكنها لا تحاسب حساب تكليف وإلزام؛ لأن البهائم ليس لها ثواب ولا عقاب. * * * * قوله: "وَيَخْلو بِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ فَيقَرِّرُهُ بِذُنوبِهِ": * هذا صفة حساب المؤمن: يخلو به الله عَزَّ وَجَلَّ دون أن يطلع عليه أحد، ويقرره بذنوبه؛ أي: يقول له: عملت كذا، وعملت كذا ... حتى يقر ويعترف، ثم يقول: "سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم" (¬2). ومع ذلك؛ فإنه سبحانه وتعالى يضع عليه ستره؛ بحيث لا يراه أحد، ولا يسمعه أحد، وهذا من فضل الله عَزَّ وَجَلَّ على ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2582) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) تقدم تخريجه (1/ 253).

الكافر لا يحاسب محاسبة من توزن حسناته وسيئاته

المؤمن؛ فإن الإنسان إذا قررك بجناياتك أمام الناس وإن سمح عنك؛ ففيه شيء من الفضيحة، لكن إذا كان ذلك وحدك؛ فإن ذلك ستر منه عليك. * قوله: "كما وصف ذلك في الكتاب والسنة": * "ذلك": المشار إليه الحساب؛ يعني: كما وصف الحساب في الكتاب والسنة، لأن هذا من الأمور الغيبية المتوقفة على الخبر المحض، فوجب الرجوع فيه إلى ما وصف في الكتاب والسنة. * * * * في قوله: "وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم فتحصى فيوقفون عليها ويقررون بها ويخزون بها". * هكذا جاء معناه في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حينما ذكر حساب الله تعالى لعبده المؤمن، وأنه يخلو به، ويقرره بذنوبه. قال: "وأما الكفار والمنافقون؛ فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين". متفق عليه (¬1). وفي "صحيح مسلم" (¬2)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، في ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في الجزء الأول. (¬2) "صحيح مسلم" (2968).

حديث طويل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فيلقى العبد، أَي: يلقى الله العبد، يعني: المنافق، فيقول: يا فل، أي: يا فلان، ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟! فيقول: بلى، قال: فيقول: أظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول: لا، فيقول: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثاني فيسأله فيجيب كما أجاب الأول، فيقول الله: فإني أنساك كما نسيتني، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسلك وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ها هنا إذن، قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويفكر في نفسه من ذا الذي يشهد عليّ؟ فيختم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطقي، فتنطق بعمله، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه. (تنبيه): في قول المؤلف رحمه الله محاسبة من توزن حسناته وسيئاته ... الخ، إشارة إلى أن المراد بالمحاسبة المنفية عنهم هي محاسبة الموازنة بين الحسنات والسيئات، وأما محاسبة التقرير والتقريع فثابتة كما يدل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه. فائدة: أول ما يحاسب عليه العبد من الأعمال الصلاة، وأول ما يقضى فيه بين الناس الدماء؛ لأن الصلاة أفضل العبادات البدنية، والدماء أعظم ما يعتدى به في حقوق الآدميين.

الأمر الثامن: مما يكون يوم القيامة "الحوض"

• الأمر الثامن مما يكون يوم القيامة: وهو ما ذكره المؤلف بقوله: "وَفى عَرَصاتِ القِيامَةِ الحَوْضُ المَوْرودُ لِلنَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -". * العرَصات: جمع عرْصة، وهي المكان المتسع بين البنيان، والمراد به هنا مواقف القيامة. * والحوض في الأصل: مجمع الماء، والمراد به هنا: حوض النبي - صلى الله عليه وسلم -. * والكلام على الحوض من عدة وجوه: أولًا: هذا الحوض موجود الآن؛ لأنه ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب ذات يوم في أصحابه، وقال: "وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن" (¬1). وأيضًا؛ ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام؛ أنه قال: "ومنبري على حوضي" (¬2). وهذا يحتمل أنه في هذا المكان، لكن لا نشاهده؛ لأنه غيبي، ويحتمل أن المنبر يوضع يوم القيامة على الحوض. ثانيًا: هذا الحوض يصب فيه ميزابان من الكوثر، وهو النهر العظيم، الذي أعطيه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة؛ ينزلان إلى هذا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6590)، ومسلم (2296)؛ عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. (¬2) البخاري (6589)، ومسلم (1391)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الحوض (¬1). ثالثًا: زمن الحوض قبل العبور على الصراط؛ لأن المقام يقتضي ذلك؛ حيث إن الناس في حاجة إلى الشرب في عرصات القيامة قبل عبور الصراط (¬2). رابعًا: يرد هذا الحوض المؤمنون بالله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، المتبعون لشريعته، وأما من استنكف واستكبر عن اتباع الشريعة؛ فإنه يطرد منه (¬3). خامسًا: في كيفية مائه: فيقول المؤلف رحمه الله: "ماؤه أشد بياضًا من اللبن": هذا في اللون، أما في الطعم؛ فقال: "وأحلى من العسل"، وفي الرائحة أطيب من ريح المسك؛ كما ثبت به الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬4). سادسًا: في آنيته: يقول المؤلف: "آنيته عدد نجوم السماء". هذا كما ورد في بعض ألفاظ الحديث، وفي بعضها: "آنيته ¬

_ (¬1) لما رواه مسلم (2300 و 2301)؛ من حديث أبي ذر وثوبان رضي الله عنهما. (¬2) لما رواه عبد الله بن الإمام أحمد في زياداته على المسند (4/ 13) في الحديث الطويل عن أبي رزين. وقال الحافظ في الفتح (11/ 467) بعد أن عزاه لابن أبي عاصم في السنة والطبراني والحاكم قال: "وهو صريح في أن الحوض قبل الصراط". (¬3) ثبت ذلك في "صحيح البخاري" (6576)، ومسلم (2297)، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن رجالٌ منكم ثم ليختلجن دوني، فأقول: يا رب أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك". (¬4) رواه: البخاري (6579)، ومسلم (2292)؛ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

كنجوم السماء"، وهذا اللفظ أشمل؛ لأنه يكون كالنجوم في العدد وفي الوصف بالنور واللمعان؛ فآنيته كنجوم السماء كثرة وإضاءة. سابعًا: آثار هذا الحوض: قال المؤلف: "من يشرب منه شربة؛ لا يظمأ بعدها أبدًا": حتى على الصراط وبعده. وهذه من حكمة الله عزَّ وجلَّ؛ لأن الذي يشرب من الشريعة في الدنيا لا يخسر أبدًا كذلك. ثامنًا: مساحة هذا الحوض: يقول المؤلف: "طوله شهر وعرضه شهر": هذا إذًا يقتضي أن يكون مدورًا؛ لأنه لا يكون بهذه المساحة من كل جانب؛ إلا إذا كان مدورًا، وهذه المسافة باعتبار ما هو معلوم في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من سير الإبل المعتاد. تاسعًا: هل للأنبياء الآخرين أحواضٌ؟ فالجواب: نعم؛ فإنه جاء في حديث رواه الترمذي -وإن كان فيه مقال-: "إن لكل نبي حوضًا" (¬1). لكن هذا يؤيده المعنى، وهو أن الله عزَّ وجلَّ بحكمته وعدله ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2443)، وابن أبي عاصم في "السنة" (734)، والحديث أورده الهيثمي في "المجمع" (10/ 363) بلفظ آخر، وقال: وفيه مروان بن جعفر السميري وثقه ابن أبي حاتم، وقال الأزدي: يتكلمون فيه، وبقية رجاله ثقات. وقال الألباني في "الصحيحة" (1589): وجملة القول: إن الحديث بمجموع طرقه حسن أو صحيح، والله أعلم. وانظر: "فتح الباري" (11/ 467).

الأمر التاسع: مما يكون يوم القيامة "الصراط"

كما جعل للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - حوضًا يرده المؤمنون من أمته؛ كذلك يجعل لكل نبي حوضًا، حتى ينتفع المؤمنون بالأنبياء السابقين، لكن الحوض الأعظم هو حوض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. * * * • الأمر التاسع مما يكون يوم القيامة: الصراط: وقد ذكره المؤلف بقوله: "وَالصِّراطُ مَنْصوبٌ عَلى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الجِسْرُ الذي بين الجنة والنار". * وقد اختلف العلماء في كيفيته: - فمنهم من قال: طريق واسع يمر الناس عليه على قدر أعمالهم؛ لأن كلمة الصراط مدلولها اللغوي هو هذا؛ ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه دَحْض ومَزِلة (¬1)، والدحض والمزلة لا يكونان إلا في طريق واسع، أما الضيق؛ فلا يكون دحضًا ومزلة. - ومن العلماء من قال: بل هو صراط دقيق جدًّا؛ كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم بلاغًا (¬2)؛ أنه أدق من الشعر، وأحد من السيف. * على هذا يرد سؤال: وهو: كيف يمكن العبور على طريق كهذا؟ ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (7439)، ومسلم (183)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. (¬2) رواه مسلم (183).

مرور الناس على الصراط على قدر أعمالهم

والجواب: أن أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا؛ فالله تعالى على كل شيء قدير، ولا ندري؛ كيف يعبرون؟! هل يجتمعون جميعًا في هذا الطريق أو واحدًا بعد واحد؟ وهذه المسألة لا يكاد الإنسان يجزم بأحد القولين؛ لأن كليهما له وجهة قوية. * وقوله: "منصوب على متن جهنم"؛ يعني: على نفس النار. * * * * قوله: "يمر عليه الناس على قدر أعمالهم: فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدوا عدوًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف خطفًا ويلقى في جهنم؛ فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم" (¬1). * قوله: "يمر الناس": المراد بـ "الناس" هنا: المؤمنون؛ لأن الكفار قد ذهب بهم إلى النار. فيمر الناس عليه على قدر أعمالهم؛ منهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق، ولمح البصر أسرع من البرق، ¬

_ (¬1) لما رواه البخاري (7439)، ومسلم (183)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ومنهم من يمر كالريح؛ أي: الهواء، ولا شك أن الهواء سريع، لا سيما قبل أن يعرف الناس الطائرات، والهواء المعروف يصل أحيانًا إلى مئة وأربعين ميلًا في الساعة، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، وهي دون الفرس الجواد بكثير، ومنهم من يعدو عدوًا؛ أي: يسرع، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا؛ أي: يمشي على مقعدته، وكل منهم يريد العبور. وهذا بغير اختيار الإنسان، ولو كان باختياره؛ لكان يحب أن يكون بسرعة، ولكن السير على حسب سرعته في قبول الشريعة في هذه الدنيا؛ فمن كان سريعًا في قبول ما جاءت به الرسل؛ كان سريعًا في عبور الصراط، ومن كان بطيئًا في ذلك؛ كان بطيئًا في عبور الصراط؛ جزاء وفاقًا، والجزاء من جنس العمل. * وقوله: "ومنهم من يخطف"؛ أي: يؤخذ بسرعة، وذلك بالكلاليب التي على الجسر؛ تخطف الناس بأعمالهم. * "ويلقى في جهنم": يفهم منه أن النار التي يلقى فيها العصاة هي النار التي يلقى فيها الكفار، ولكنها لا تكون بالعذاب كعذاب الكفار، بل قال بعض العلماء: إنها تكون بردًا وسلامًا عليهم كما كانت النار بردًا وسلامًا على إبراهيم، ولكن الظاهر خلاف ذلك، وأنها تكون حارة مؤلمة، لكنها ليست كحرارتها بالنسبة للكافرين. ثم إن أعضاء السجود لا تمسها النار؛ كما ثبت ذلك عن

وقوف الناس على قنطرة بين الجنة والنار

النبي عليه الصلاة والسلام في "الصحيحين" (¬1)، وهي الجبهة والأنف والكفان والركبتان وأطراف القدمين. * قوله: "فمن مر على الصراط؛ دخل الجنة"؛ أي: لأنه نجا. * * * * قوله: "فإذا عبروا عليه؛ وُقِفوا على قنطرة بين الجنة والنار": "القنطرة": هي الجسر، لكنها جسر صغير، والجسر في الأصل ممر على الماء من نهر ونحوه. واختلف العلماء في هذه القنطرة؛ هل هي طرف الجسر الذي على متن جهنم أو هي جسر مستقل؟! والصواب في هذا أن نقول: الله أعلم، وليس يعنينا شأنها، لكن الذي يعنينا أن الناس يوقفون عليها. * قوله: "فيقتص لبعضهم من بعض": وهذا القصاص غير القصاص الأول الذي في عرصات القيامة، لأن هذا قصاص أخص؛ لأجل أن يذهب الغل والحقد والبغضاء التي في قلوب الناس، فيكون هذا بمنزلة التنقية والتطهير، وذلك لأن ما في القلوب لا يزول بمجرد القصاص. ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (7437)، ومسلم (182)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

الأمر العاشر: مما يكون يوم القيامة "دخول الجنة"

فهذه القنطرة التي بين الجنة والنار؛ لأجل تنقية ما في القلوب، حتى يدخلوا الجنة وليس في قلوبهم غل؛ كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 47]. * قوله: "فإذا هُذِّبوا ونُقُّوا؛ أُذِن لهم في دخول الجنة". هكذا رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (¬1). إذا هذبوا مما في قلوبهم من العداوة والبغضاء ونقوا منها؛ فإنه يؤذن لهم في دخول الجنة؛ فإذا أذن لهم في الدخول؛ فلا يجدون الباب مفتوحًا، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشفع إلى الله في أن يفتح لهم باب الجنة؛ كما سيأتي في أقسام الشفاعة إن شاء الله. * * * • الأمر العاشر مما يكون يوم القيامة: دخول الجنة: وأشار إليه المؤلف بقوله: "وأول من يستفتح باب الجنة محمد - صلى الله عليه وسلم -". ودليله ما ثبت في "صحيح مسلم" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أول شفيع في الجنة"، وفي لفظ: "أنا أول من يقرع باب الجنة" (¬2)، وفي لفظ: "آتي باب الجنة يوم القيامة، فأستفتح، فيقول الخازن: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7439). (¬2) رواه مسلم (196) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

أول من يدخل من الأمم أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -

من أنت؟ فأقول: محمد. فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد من قبلك" (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فأستفتح"؛ أي: أطلب فتح الباب. * وهذا من نعمة الله على محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن الشفاعة الأولى التي يشفعها في عرصات القيامة لإزالة الكروب والهموم والغموم، والشفاعة الثانية لنيل الأفراح والسرور؛ فيكون شافعًا للخلق عليه الصلاة والسلام في دفع ما يضرهم وجلب ما ينفعهم. * ولا دخول إلى الجنة إلا بعد شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن ذلك ثبت في السنة كما سبق، وأشار إليه الله عز وجل بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]؛ فإنه لم يقل: حتى إذا جاؤوها؛ فتحت! وفيه إشارة إلى أن هناك شيئًا قبل الفتح، وهو الشفاعة. أما أهل النار؛ فقال فيهم: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]؛ لأنهم يأتونها مهيأة فتبغتهم؛ نعوذ بالله منها. * * * * قوله: "وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته": هذا حق ثابت؛ دليله ما ثبت في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن الآخرون ¬

_ (¬1) رواه مسلم (197) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

تتمة "أبواب الجنة"

الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة" (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" (¬2). وهذا يشمل كل مواقف القيامة، وانظر: "حادي الأرواح" لابن القيم. * تتمة: أبواب الجنة لم يذكرها المؤلف، لكنها معروفة أنها ثمانية؛ قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]؛ وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمن توضأ وأسبغ الوضوء وتشهد: "إلَّا فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء" (¬3). وهذه الأبواب كانت ثمانية بحسب الأعمال؛ لأن كل باب له عمال؛ فأهل الصلاة ينادون من باب الصلاة، وأهل الصدقة من باب الصدقة، وأهل الجهاد من باب الجهاد، وأهل الصيام من باب الريان. وقد يوفق الله عزَّ وجلَّ بعض الناس لأعمال صالحة شاملة؛ فيدعى من جميع الأبواب، كما في "الصحيحين" (¬4) عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أنفق زوجين في سبيل الله؛ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (855). (¬2) رواه: البخاري (6624)، ومسلم (855)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (234) عن عقبة بن عامر رضي الله عنه. (¬4) رواه: البخاري (3666)، ومسلم (1027).

الأمر الحادي عشر: مما يكون يوم القيامة "الشفاعة"

نودي من أبواب الجنة: يا عبد الله! هذا خير ... " وذكر الحديث، وفيه: فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة؛ فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟ قال: "نعم، وأرجو أن تكون منهم". * فإن قلت: إذا كانت الأبواب بحسب الأعمال؛ لزم أن يدعى كل أحد من كل تلك الأبواب إذا عمل بأعمالها؛ فما هو الجواب؟ فالجواب: أن يقال: يُدْعى من الباب المعين مَن كان يكثر من العمل المخصص له؛ مثلًا: إذا كان هذا الرجل كثير الصلاة، فيدعى من باب الصلاة، كثير الصيام من باب الريان، وليس كل إنسان تحصل له الكثرة في كل عمل صالح؛ لأنك تجد في نفسك بعض الأعمال أكثر وأنشط من بعض، لكن قد يمن الله على بعض الناس، فيكون نشيطًا قويًّا في جميع الأعمال؛ كما سبق في قصة أبي بكر رضي الله عنه. * * * • الأمر الحادي عشر مما يكون يوم القيامة: الشفاعة: وقد ذكرها المؤلف بقوله: "وله - صلى الله عليه وسلم - في القيامة ثلاث شفاعات". * "له": الضمير يعود للنبي - صلى الله عليه وسلم -.

أقسام الشفاعة

* والشفاعات: جمع شفاعة، والشفاعة في اللغة: جعل الشيء شفعًا. وفي الاصطلاح: التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، ومناسبتها للاشتقاق ظاهرة؛ لأنك إذا توسطت له؛ صرت معه شفعًا تشفعه. * والشفاعة تنقسم إلى قسمين: شفاعة باطلة، وشفاعة صحيحة. - فالشفاعة الباطلة: ما يتعلق به المشركون في أصنامهم؛ حيث يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاء لهم عند الله؛ كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18]، ويقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]. لكن هذه الشفاعة باطلة لا تنفع؛ كما قال تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]. - والشفاعة الصحيحة ما جمعت شروطًا ثلاثة: الأول: رضي الله عن الشافع. الثاني: رضاه عن المشفوع له، لكن الشفاعة العظمى في الموقف عامة لجميع الناس من رضي الله عنهم ومن لم يرض عنهم. الثالث: إذنه في الشفاعة. والإذن لا يكون إلا بعد الرضى عن الشافع والمشفوع له.

شفاعات النبي - صلى الله عليه وسلم -

ودليل ذلك قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إلا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، ولم يقل: عن الشافع، ولا: المشفوع له؛ ليكون أشمل. وقال تعالى: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه: 109]. وقال سبحانه: {وَلَا يَشْفَعُونَ إلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]. فالآية الأولى تضمنت الشروط الثلاثة، والثانية تضمنت شرطين، والثالثة تضمنت شوطًا واحدًا. * * * * فللنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث شفاعات: 1 - الشفاعة العظمى. 2 - والشفاعة لأهل الجنة ليدخلوا الجنة. 3 - والشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها. * * * * قال المؤلف مبينًا هذه الثلاث: "أما الشفاعة الأولى؛ فيشفع في أهل الموقف، حتى يقضى بينهم بعد أن يتراجع الأنبياء: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم عن الشفاعة حتى تنتهي إليه".

* قوله: "حتى يقضى بينهم": (حتى) هذه تعليلية، وليست غائية؛ لأن شفاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تنتهي إليه قبل أن يقضى بين الناس؛ فإنه إذا شفع؛ نزل الله عزَّ وجلَّ للقضاء بين عباده وقضى بينهم. ونظيرها قوله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7]؛ فإن قوله: {حَتَّى يَنْفَضُّوا}: للتعليل؛ أي: من أجل أن ينفضوا، وليست للغاية؛ لأن المعنى يفسد بذلك. * قوله: "بعد أن يتراجع الأنبياء؛ آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم عن الشفاعة": أي: يردها كل واحد منهم إلى الآخر. * شرح هذه الجملة ما رواه البخاري ومسلم (¬1) عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون فيم ذلك؟ يجمع الله الناس الأولين والآخرين في صعيد واحد؛ يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، وتدنو منهم الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعضهم لبعض: عليكم بآدم! فيأتونه، فيقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (4712)، ومسلم (194).

يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة، فعصيته؛ نفسي نفسي نفسي! اذهبوا إلى نوح! فيأتون نوحًا، فيقولون: يا نوح! إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي؛ اذهبوا إلى إبراهيم! فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم! أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإني قد كذبت ثلاث كذبات؛ اذهبوا إلى موسى! فيأتون موسى، فيقولون: يا موسى! أنت رسول الله، فضلك الله برسالته وبكلامه على الناس؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، وإني قد قتلت نفسًا لم أومر بقتلها؛ اذهبوا إلى عيسى! فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى! أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وكلمت الناس في المهد صبيًّا؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول كما قال آدم في غضب الله، ولم يذكر ذنبًا، اذهبوا إلى محمد! وكلهم يقول كما قال آدم: نفسي نفسي نفسي! فيأتون محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؛ اشفع لنا إلى ربك؛ ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق، فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي عز وجل، ثم يفتح الله عليَّ من محامده وحسن الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك؛ سل

تعطه، واشفع تشفع ... " وذكر تمام الحديث. * والكذبات الثلاث التي ذكرها إبراهيم - عليه السلام - فُسِّرت بما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: لم يكذب إبراهيم - عليه السلام - إلا ثلاث كذبات؛ اثنتين منهن في ذات الله: قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، وذكر قوله عن امرأته سارة: إنها أختي. وفي "صحيح مسلم" في حديث الشفاعة السابق أن الثالثة قوله في الكوكب {هَذَا رَبِّي}، ولم يذكر قصة سارة. لكن قال ابن حجر في "الفتح" (¬1): "الذي يظهر أنها وهم من بعض الرواة"، وعلل لذلك. وإنما سمى إبراهيم - عليه السلام - هذه كذبات؛ تواضعًا منه؛ لأنها بحسب مراده صدق مطابق للواقع؛ فهي من باب التورية، والله أعلم. * قوله: "حتى تنتهي إليه"؛ أي: إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسبق في الحديث ما يكون بعد ذلك. وهذه الشفاعة العظمى لا تكون لأحد أبدًا إلا للرسول عليه الصلاة والسلام، وهي أعظم الشفاعات؛ لأن فيها إراحة الناس من هذا الموقف العظيم والكرب والغم. ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (6/ 391).

وهؤلاء الرسل الذين ذكروا في حديث الشفاعة كلهم من أولي العزم، وقد ذكرهم الله تعالى في موضعين من القرآن: في سورة الأحزاب، وفي سورة الشورى. أما في سورة الأحزاب؛ ففي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7]. وأما في سورة الشورى؛ فقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13]. تنبيه: قوله: "الأنبياء؛ آدم ونوح ... " إلى آخره: جزم المؤلف رحمه الله بأن آدم نبي، وهو كذلك؛ لأن الله تعالى أوحى إليه بشرع أمره ونهاه. وروى ابن حبان في "صحيحه" (¬1): أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: هل كان آدم نبيًّا؟ قال: "نعم". فيكون آدم أول الأنبياء الموحى إليهم، وأما أول الرسل؛ فنوح؛ كما هو صريح في حديث الشفاعة وظاهر القرآن في قوله ¬

_ (¬1) "صحيح ابن حبان" (2/ 77). والحديث رواه الإمام أحمد في "المسند" (5/ 978)، وقال الهيثمي في "المجمع": رواه أحمد والبزار والطبراني في "الأوسط" بنحوه.

الثانية: الشافعة في دخول أهل الجنة الجنة

تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26]. * * * * قوله: "وأما الشفاعة الثانية؛ فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة". * وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط؛ وقفوا على قنطرة، فيقتص لبعضهم من بعض، وهذا القصاص غير القصاص الذي كان في عَرَصات القيامة، بل هو قصاص أخص، يطهر الله فيه القلوب، ويزيل ما فيها من أحقاد وضغائن؛ فإذا هُذِّبوا ونُقّوا؛ أُذن لهم في دخول الجنة. ولكنهم إذا أتوا إلى الجنة؛ لا يجدونها مفتوحة كما يجد ذلك أهل النار؛ فلا تفتح الأبواب، حتى يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الجنة أن يدخلوها، فيدخل كل إنسان من باب العمل الذي يكون أكثر اجتهادًا فيه من غيره، وإلا، فإن المسلم قد يدعى من كل الأبواب. * وهذه الشفاعة يشير إليها القرآن؛ لأن الله قال في أهل الجنة: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، وهذا يدل أن هناك شيئًا بين وصولهم إليها وبين فتح الأبواب.

وهو صريح فيما رواه مسلم (¬1) عن حذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يجمع الله تبارك وتعالى الناس، فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة، فيأتون آدم، فيقولون: يا أبانا! استفتح لنا الجنة ... " وذكر الحديث، وفيه: "فيأتون محمدًا، فيقوم، فيؤذن له. . ." الحديث. * * * * قوله: "وهاتان الشفاعتان خاصتان له"، يعني: الشفاعة في أهل الموقف أن يقضى بينهم، والشفاعة في دخول الجنة. * "خاصتان له"؛ أي: للنبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولذلك يعتذر عنهما آدم وأولو العزم من الرسل. * * * * وهناك أيضًا شفاعة ثالثة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لا تكون لغيره، وهي الشفاعة في عمه أبي طالب. * وأبو طالب -كما في "الصحيحين" (¬2) وغيرهما- مات على الكفر. * فأعمام الرسول عليه الصلاة والسلام عشرة، أدرك الإسلام ¬

_ (¬1) رواه مسلم (195). (¬2) لما رواه البخاري (4772)، ومسلم (24)؛ من قصة ابن المسيب عن أبيه، لما حضرت أبا طالب الوفاة ... فذكر الحديث ... حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: "هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول لا إله إلا الله".

منهم أربعة؛ فبقي اثنان على الكفر وأسلم اثنان: - فالكافران هما: أبو لهب: وقد أساء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إساءة عظيمة، وأنزل الله تعالى فيه وفي امرأته حمالة الحطب سورة كاملة في ذمهما ووعيدهما. والثاني: أبو طالب، وقد أحسن إلى الرسول عليه الصلاة والسلام إحسانًا كبيرًا مشهورًا، وكان من حكمة الله عزَّ وجلَّ أن بقي على كفره؛ لأنه لولا كفره؛ ما حصل هذا الدفاع عن الرسول عليه الصلاة والسلام، بل كان يؤذى كما يؤذى الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن بجاهه العظيم عند قريش وبقائه على دينهم صاروا يعظمونه وصار للنبي عليه الصلاة والسلام جانب من الحماية بذلك. - واللذان أسلما هما العباس وحمزة، وهو أفضل من العباس، حتى لقبه الرسول عليه الصلاة والسلام أسد الله، وقتل شهيدًا في أحد رضي الله عنه وأرضاه، وسماه النبي - صلى الله عليه وسلم - سيد الشهداء (¬1). فأبو طالب أذن الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يشفع فيه، مع أنه كافر، ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (3/ 195) عن جابر، وعزاه الهيثمي في "المجمع" (9/ 368) للطبراني في "الأوسط"، والحديث أورده الألباني في "السلسلة الصحيحة" (374).

الثالثة: الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخلها وفيمن دخلها أن يخرج منها

فيكون هذا مخصوصًا من قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، ولكنها شفاعة لم تخرجه من النار، بل كان في ضحضاح من نار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه؛ قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "ولولا أنا؛ لكان في الدرك الأسفل كان النار" (¬1)، وليس هذا من أجل شخصية أبي طالب، لكن من أجل ما حصل من دفاعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه. * * * * قوله: "وأما الشفاعة الثالثة، فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها". * قوله: "وأما الشفاعة الثالثة، فيشفع فيمن استحق النار"؛ أي: من عصاة المؤمنين. وهذه لها صورتان: يشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها. - أما فيمن دخلها أن يخرج منها؛ فالأحاديث في هذا كثيرة جدًّا، بل متواترة. - وأما فيمن استحقها أن لا يدخلها؛ فهذه قد تستفاد من دعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين بالمغفرة والرحمة على جنائزهم؛ فإنه ¬

_ (¬1) لما رواه البخاري (3883)، ومسلم (209)؛ عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه.

من لازم ذلك أن لا يدخل النار؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "اللهم! اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين ... " الحديث (¬1). * لكن هذه شفاعة في الدنيا؛ كما في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون بالله شيئًا؛ إلا شفعهم الله فيه" (¬2). * وهذه الشفاعة ينكرها من أهل البدع طائفتان؛ المعتزلة والخوارج؛ لأن المعتزلة والخوارج مذهبهما في فاعل الكبيرة أنه مخلد في نار جهنم، فيرون من زنى كمن أشرك بالله؛ لا تنفعه الشفاعة، ولن يأذن الله لأحد بالشفاعة له. وقولهم مردود بما تواترت به الأحاديث في ذلك. * قوله: "وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين والصديقين وغيرهم"؛ فيشفع فيمن استحق النار أن لا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، يعني: أنها ليست خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، بل تكون للنبيين؛ حيث يشفعون في عصاة قومهم، وللصديقين يشفعون في عصاة أقاربهم وغيرهم من المؤمنين، وكذلك تكون لغيرهم من الصالحين، حتى يشفع الرجل في أهله وفي جيرانه وفيما أشبه ذلك. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (920)؛ عن أم سلمة رضي الله عنها. (¬2) رواه مسلم (948)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

الأمر الثاني عشر: مما يكون يوم القيامة "أنه يبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا

* قوله: "ويخرج الله من النار أقوامًا بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته": يعني: أن الله تعالى يخرج من عصاة المؤمنين من شاء بغير شفاعة، وهذا من نعمته؛ فإن رحمته سبقت غضبه، فيشفع الأنبياء والصالحون والملائكة وغيرهم، حتى لا يبقى إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج من النار من يخرج بدون شفاعة، حتى لا يبقى في النار إلا أهلها الذين هم أصحاب النار. فقد روى الشيخان البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن الله تعالى يقول: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط؛ قد عادوا حممًا ... " الحديث (¬1). * * * • الأمر الثاني عشر مما يكون يوم القيامة: وهو ما ذكره المؤلف بقوله: "وَيَبْقى في الجَنَّةِ فَضْلٌ عَمَّنْ دَخَلَها مِنْ أهْلِ الدُّنْيا". * الجنة عرضها السماوات والأرض، وهذه الجنة التي عرضها السماوات والأرض يدخلها أهلها، ولكن لا تمتلئ. ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (7439)، ومسلم (183)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

وقد تكفل الله عزَّ وجلَّ للجنة وللنار لكل واحدة ملؤها: - "فالنار لا تزال يلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد؟ فلا تمتلئ، فيضع الله عزَّ وجلَّ عليها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط" (¬1). - وأما الجنة؛ فينشئ لها أقوامًا، فيدخلون الجنة بفضل الله ورحمته: - ثبت ذلك في "الصحيحين" (¬2) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وهذا مقتضى قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، وقول النبي عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه سبحانه وتعالى: "إن رحمتي سبقت غضبي" (¬3). ولهذا قال المؤلف: "فينشئ الله لها أقوامًا، فيدخلهم الجنة". * * * * في قوله: "وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب والثواب والعقاب": * الأصناف: الأنواع. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (2/ 30). (¬2) رواه: البخاري (4850)، ومسلم (2848). (¬3) البخاري (7554)، ومسلم (2751)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الإيمان بوجود الجنة والنار وأبديتهما

* وسبق معنى الحساب. * "والثواب": جزاء الحسنات؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة. * "والعقاب": جزاء السيئات، ومن جاء بالسيئة؛ فلا يجزى إلا مثلها، وهم لا يظلمون. * قوله: "والجنة والنار": "الجنة": هي الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر؛ {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]؛ أي: لا تعلم حقيقته وكنهه. والجنة موجودة الآن؛ لقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، والأحاديث في هذا المعنى متواترة. ولا تزال باقية أبد الآبدين؛ لقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108]، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}؛ في آيات متعددة. وأما "النار"؛ فهي الدار التي أعدها الله تعالى لأعدائه، وفيها من أنواع العذاب والعقاب ما لا يطاق. وهي موجودة الآن؛ لقوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 131]، والأحاديث في هذا المعنى مستفيضة مشهورة.

أقسام العلم المأثور عن الأنبياء وحجيته

وأهلها خالدون فيها أبدًا؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الأحزاب: 64 - 65]. وقد ذكر الله خلودهم أبدًا في ثلاث آيات من القرآن؛ هذه أحدها، والثانية في آخر سورة النساء، والثالثة في سورة الجن، وهي ظاهرة في أن النار لا تزال باقية أبد الآبدين. * * * * قوله: "وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء"؛ يعني: مثل التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى وغيرها من الكتب المنزلة؛ فقد ذكر فيها ذلك مبينًا مفصلًا لحاجة الناس، بل ضرورتهم إلى بيانه وتفصيله؛ إذ لا يمكنهم الاستقامة إلا بالإيمان باليوم الآخر الذي يجازى فيه كل عامل بما عمل من خير وشر. * قوله: "والآثار من العلم المأثور عن الأنبياء": * اعلم أن العلم المأثور عن الأنبياء قسمان: 1 - قسم ثبت بالوحي، وهو ما ذكر في القرآن والسنة الصحيحة، وهذا لا شك في قبوله واعتقاد مدلوله. 2 - وقسم آخر أتى عن طريق النقل غير الوحي، وهذا هو الذي دخل فيه الكذب والتحريف والتبديل والتغيير. ولهذا لا بد من أن يكون الإنسان حذرًا مما ينقل بهذه الطريق عن الأنبياء السابقين، حتى قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "إذا

حدثكم أهل الكتاب؛ فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم، وقولوا: آمنا بما أنزل إلينا وما أنزل إليكم" (¬1)؛ لأنك إن صدقت؛ قد تصدق بباطل، وإن كذبته؛ قد تكذب بحق؛ فلا تصدق ولا تكذب؛ قل: إن كان هذا من عند الله؛ فقد آمنت به. * وقد قسم العلماء ما أثر عمن سبق ثلاثة أقسام: الأول: ما شهد شرعنا بصدقه. والثاني: ما شهد شرعنا بكذبه. والحكم في هذين واضح. الثالث: ما لم يحكم بصدقه ولا كذبه. فهذا مما يجب فيه التوقف؛ لا يصدَّق ولا يكذَّب. * قوله: "وفي العلم الموروث عن محمد - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما يشفي ويكفي": * العلم الموروث عن محمد صلوات الله وسلامه عليه سواء في كتاب الله أو في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه من ذلك ما يشفي ويكفي. فلا حاجة إلى أن نبحث عن مواعظ ترقق القلوب من غير الكتاب والسنة، بل نحن في غنى عن هذا كله؛ ففي العلم ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد (4/ 135) عن أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه، والبخاري (4485) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

اختلاف العلماء في جواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال

الموروث عن محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يشفي ويكفي في كل أبواب العلم والإيمان. * ثم المنسوب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في باب الوعظ والفضائل ترغيبًا أو ترهيبًا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: صحيح مقبول، وضعيف، وموضوع؛ فليس كله صحيحًا مقبولًا، ونحن في غنى عن الضعيف والموضوع. - فالموضوع اتفق العلماء رحمهم الله على أنه لا يجوز ذكره ونشره بين الناس؛ لا في باب الفضائل والترغيب والترهيب، ولا في غيره؛ إلا من ذكره ليبين حاله. - والضعيف اختلف فيه العلماء، والذين قالوا بجواز نشره ونقله اشترطوا فيه ثلاثة شروط (¬1): الشرط الأول: أن لا يكون الضعف شديدًا. الشرط الثاني: أن يكون أصل العمل الذي رتب عليه الثواب أو العقاب ثابتًا بدليل صحيح. الشرط الثالث: أن لا يعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله، بل يكون ¬

_ (¬1) ذكر ذلك الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه السخاوي في "القول البديع" (ص 364)، وجاء عن الإمام أحمد أنه قال: "إذا جاء الحلال والحرام شدّدنا في الأسانيد، وإذا جاء الترغيب والترهيب تساهلنا في الأسانيد" "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (18/ 65)، وانظر مقدمة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني لكتاب "الترغيب والترهيب"، فقد ذكر أقوال العلماء في حكم العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال.

مترددًا غير جازم، لكنه راجٍ في باب الترغيب، خائفٌ في باب الترهيب. أما صيغة عرضه؛ فلا يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل يقول: روي عن رسول الله، أو: ذكر عنه ... وما أشبه ذلك. فإن كنت في عوام لا يفرقون بين ذكر وقيل وقال؛ فلا تأت به أبدًا؛ لأن العامي يعتقد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قاله؛ فما قيل في المحراب؛ فهو عنده الصواب! تنبيه: هذا الباب -أي: باب اليوم الآخر وأشراط الساعة- ذكرت فيه أحاديث كثيرة فيها ضعف وفيها وضع، وأكثر ما تكون هذه في كتب الرقائق والمواعظ؛ فلذلك يجب التحرز منها، وأن نحذر العامة الذين يقع في أيديهم مثل هذه الكتب. * قوله: "فمن ابتغاه"؛ أي: طلبه: "وجده". وهذا صحيح؛ فالقرآن بين أيدينا، وكتب الأحاديث بين أيدينا، لكنها تحتاج إلى تنقيح وبيان الصحيح منها والضعيف، حتى يبني الناس ما يعتقدونه في هذا الباب على أساس سليم. * * *

فصل: في الإيمان بالقدر

فصل في الإيمان بالقدر * قوله: "وَتُؤْمِنُ الفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ أهْلُ السُّنَّةِ والجَماعَةِ بِالقَدَرِ؛ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ": الشرح: * قوله: "الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة": سبق تعريفها والكلام عنها في أول الكتاب. * وقوله: "بالقدر خيره وشره": - القدر في اللغة؛ بمعنى: التقدير؛ قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23]. - وأما القضاء؛ فهو في اللغة: الحكم. ولهذا نقول: إن القضاء والقدر متباينان إن اجتمعا، ومترادفان إن تفرقا؛ على حد قول العلماء: هما كلمتان: إن

اجتمعتا افترقتا، وإن افترقتا اجتمعتا. فإذا قيل: هذا قدر الله؛ فهو شامل للقضاء، أما إذا ذكرا جميعًا؛ فلكل واحد منهما معنى. - فالتقدير: هو ما قدره الله تعالى في الأزل أن يكون في خلقه. - وأما القضاء؛ فهو ما قضى به الله سبحانه وتعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير، وعلى هذا يكون التقدير سابقًا. * فإن قال قائل: متى قلنا: إن القضاء هو ما يقضيه الله سبحانه وتعالى في خلقه من إيجاد أو إعدام أو تغيير، وإن القدر سابق عليه إذا اجتمعا؛ فإن هذا يعارض قوله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]؛ فإن هذه الآية ظاهرها أن التقدير بعد الخلق؟ فالجواب على ذلك من أحد وجهين: - إما أن نقول: إن هذا من باب الترتيب الذكري لا المعنوي، وإنما قدم الخلق على التقدير لتتناسب رؤوس الآيات. ألم تر إلى أن موسى أفضل من هارون، لكن قدم هارون عليه في سورة طه في قوله تعالى عن السحرة: {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه: 70]؛ لتتناسب رؤوس الآيات. وهذا لا يدل على أن المتأخر في اللفظ متأخر في الرتبة. -أو نقول: إن التقدير هنا بمعنى التسوية؛ أي: خلقه على

فوائد الإيمان بالقدر

قدر معين؛ كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2]؛ فيكون التقدير بمعنى التسوية. وهذا المعنى أقرب من الأول؛ لأنه يطابق تمامًا لقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}؛ فلا إشكال. * والإيمان بالقدر واجب، ومرتبته في الدين أنه أحد أركان الإيمان الستة؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام لجبريل حين قال: ما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" (¬1). * وللإيمان بالقدر فوائد؛ منها: أولًا: أنه من تمام الإيمان، ولا يتم الإيمان إلا بذلك. ثانيًا: أنه من تمام الإيمان بالربوبية؛ لأن قدر الله من أفعاله. ثالثًا: رد الإنسان أموره إلى ربه؛ لأنه إذا علم أن كل شيء بقضائه وقدره؛ فإنه سيرجع إلى الله في دفع الضراء ورفعها، ويضيف السراء إلى الله، ويعرف أنها من فضل الله عليه. رابعًا: أن الإنسان يعرف قدر نفسه، ولا يفخر إذا فعل الخير. خامسًا: هون المصائب على العبد؛ لأن الإنسان إذا علم أنها من عند الله؛ هانت عليه المصيبة؛ كما قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ ¬

_ (¬1) رواه مسلم (8) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]، قال علقمة رحمه الله: "هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم" (¬1). سادسًا: إضافة النعم إلى مُسديها؛ لأنك إذا لم تؤمن بالقدر؛ أضفت النعم إلى من باشر الإنعام، وهذا يوجد كثيرًا في الذين يتزلفون إلى الملوك والأمراء والوزراء؛ فإذا أصابوا منهم ما يريدون، جعلوا الفضل إليهم، ونسوا فضل الخالق سبحانه. صحيح أنه يجب على الإنسان أن يشكر الناس؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من صنع إليكم معروفًا؛ فكافئوه" (¬2)، ولكن يعلم أن الأصل كل الأصل هو فضل الله عزَّ وجلَّ جعله على يد هذا الرجل. سابعًا: أن الإنسان يعرف به حكمة الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه إذا نظر في هذا الكون وما يحدث فيه من تغييرات باهرة؛ عرف بهذا حكمة الله عزَّ وجلَّ؛ بخلاف من نسي القضاء والقدر؛ فإنه لا يستفيد هذه الفائدة. ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري (28/ 80)، وعزاه السيوطي لعبد بن حميد وابن المنذر، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6/ 227)، كما عزاه ابن كثير لابن أبي حاتم (8/ 163)، انظر "نسخة وكيع عن الأعمش" (5). (¬2) رواه: أحمد (2/ 68)، وأبو داود (1672)، واللفظ له، وابن حبان (8/ 199)، والنسائي (5/ 82)، والحاكم (1/ 412)، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في "الصحيحة" (254)، و"الإرواء (1617).

الخير والشر في القدر

* وقوله: "خيره وشره": - الشر في القدر: ما لا يلائم طبيعة الإنسان؛ بحيث يحصل له به أذية أو ضرر. - والخير: ما يلائم طبيعته؛ بحيث يحصل له به خير أو ارتياح وسرور، وكل ذلك من الله عزَّ وجلَّ. * ولكن؛ إن قيل: كيف يقال: إن في قدر الله شَرًّا؛ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الشر ليس إليه"؟ (¬1) فالجواب على ذلك أن يقال: الشر في القدر ليس باعتبار تقدير الله له، لكنه باعتبار المقدور له؛ لأن لدينا قدرًا هو التقدير ومقدورًا؛ كما أن هناك خلقًا ومخلوقًا وإرادة ومرادًا؛ فباعتبار تقدير الله له ليس بشر، بل هو خير، حتى وإن كان لا يلائم الإنسان ويؤذيه ويضره، لكن باعتبار المقدور؛ فنقول: المقدور إما خير وإما شر؛ فالقدر خيره وشره يراد به المقدور خيره وشره. ونضرب لهذا مثلًا في قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم: 41]. ففي هذه الآية بين الله عزَّ وجلَّ ما حدث من الفساد وسببه والغاية منه؛ فالفساد شر، وسببه عمل الإنسان السيئ، والغاية منه: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (1/ 70).

فكون الفساد يظهر في البر والبحر فيه حكمة؛ فهو نفسه شر، لكن لحكمة عظيمة، بها يكون تقديره خيرًا. كذلك المعاصي والكفر شر، وهو من تقدير الله، لكن لحكمة عظيمة، لولا ذلك لبطلت الشرائع، ولولا ذلك لكان خلق الناس عبثًا. * والإيمان بالقدر خيره وشره لا يتضمن الإيمان بكل مقدور، بل المقدور ينقسم إلى كوني وإلى شرعي: - فالمقدور الكوني: إذا قدر الله عليك مكروهًا؛ فلا بد أن يقع؛ رضيت أم أبيت. - والمقدور الشرعي قد يفعله الإنسان وقد لا يفعله، ولكن باعتبار الرضى به فيه تفصيل: إن كان طاعة لله؛ وجب الرضى به، وإن كان معصية؛ وجب سخطه وكراهته والقضاء عليه؛ كما قال الله عزَّ وجلَّ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وعلى هذا؛ يجب علينا الإيمان بالمقضي كله؛ من حيث كونه قضاء لله عزَّ وجلَّ، أما من حيث كونه مقضيًّا؛ فقد نرضى به وقد لا نرضى؛ فلو وقع الكفر من شخص؛ فلا نرضى بالكفر منه، لكن نرضى بكون الله أوقعه. * * *

المقدور ينقسم إلى كوني وشرعي

فصل في درجات الإيمان بالقدر * قوله: "وَالإيمانُ بِالقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ، كُلُّ دَرَجَةٍ تَتَضَمَّنُ شَيْئَيْنِ": الشرح: * إنما قسم المؤلف هذا التقسيم من أجل الخلاف؛ لأن الخلاف في القدر ليس شاملًا لكل مراتبه، وباب القدر من أشكل أبواب العلم والدين على الإنسان، وقد كان النزاع فيه من عهد الصحابة رضي الله عنهم، لكنه ليس مشكلًا لمن أراد الحق. * * * * الدرجة الأولى من درجات الإيمان بالقدر: قوله: "فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو موصوف به أزلًا":

الأدلة من الكتاب والسنة والعقل

الشرح: * قوله: "فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله علم ما الخلق عاملون": ولم يذكر المؤلف أن الله علم ما يفعله هو؛ لأن هذه المسألة ليس فيها خلاف، إنما ذكر ما فيه الخلاف، وهو: هل الله يعلم ما الخلق عاملون أو لا يعلمه إلا بعد وقوعه منهم؟ ومذهب السلف والأئمة أن الله تعالى عالم بذلك. * قوله: "بعلمه القديم": القديم في اصطلاحهم: هو الذي لا أول لابتدائه؛ أي أنه لم يزل فيما مضى من الأزمنة التي لا نهاية لها عالمًا بما يعمله الخلق؛ بخلاف القديم في اللغة؛ فقد يراد به ما كان قديمًا نسبيًّا؛ كما في قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، ومعلوم أن عرجون النخلة ليس بقديم أزلي، بل قديم بالنسبة لما بعده. * فالله تعالى موصوف بأنه عالم بما الخلق عاملون بعلمه القديم الأزلي، الذي لا نهاية لأوله، عالم جل وعلا بأن هذا الإنسان سيعمل كذا في يوم كذا في مكان كذا بعلمه القديم الأولي؛ فيجب أن نؤمن بذلك: * ودليل ذلك من الكتاب والسنة والعقل: - أما الكتاب؛ فما أكثر الآيات التي فيها العموم في علم الله؛ مثل: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 280]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء: 32]، {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ

رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] ... إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثرة. - أما في السنة؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر بأن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وبأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الأقلام قد جفت وطويت الصحف ... والأحاديث في هذا كثيرة. - وأما العقل؛ فإن من المعلوم بالعقل أن الله تعالى هو الخالق، وأن ما سواه مخلوق، ولا بد عقلًا أن يكون الخالق عالمًا بمخلوقه، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]. فالكتاب والسنة والعقل كلها تدل على أن الله تعالى عالم بما الخلق عاملون بعلمه الأزلي. * قوله: "الذي هو موصوف به أزلًا وأبدًا": ففي كونه موصوفًا به أزلًا نفي للجهل، وفي كونه موصوفًا به أبدًا نفي النسيان. ولهذا كان علم الله عزَّ وجلَّ غير مسبوق بجهل ولا ملحوق بنسيان؛ كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لفرعون: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52]، بخلاف علم المخلوق المسبوق بالجهل والملحوق بالنسيان.

إذًا؛ يجب علينا أن نؤمن بأن الله عالم بما الخلق عاملون بعلم سابق موصوف به أزلأ وأبدًا. * * * * قوله: "عَلِمَ جَميعَ أحْوالِهِم مِنَ الطَّاعاتِ وَالمَعاصي وَالأرْزاقِ وَالآجالِ": * ودليل ذلك ما ثبت في "الصحيحين" عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه ... " وذكر أطوار الجنين، وفيه: "ثم يبعث الله ملكًا، فيؤمر بأربع كلمات، ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد ... " وذكر تمام الحديث (¬1). فالله عالم بذلك قبل أن يخلق الإنسان. فطاعاتنا معلومة لله، ومعاصينا معلومة لله، وأرزاقنا معلومة له، وآجالنا معلومة له، إذا مات الإنسان بسبب معلوم أو بغير سبب معلوم؛ فإنه لله معلوم، ولا يخفى عليه؛ بخلاف علم الإنسان بأجله؛ فإنه لا يعرف أجله؛ فلا يعرف أين يموت، ولا متى يموت، ولا يعرف بأي سبب يموت، ولا يعرف على أي حال يموت؛ نسأل الله تعالى حسن الخاتمة. وهذا هو الشيء الأول من الدرجة الأولى. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (328)، ومسلم (2643)؛ من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.

الإيمان بأن الله كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ

* قوله: "ثُمَّ كَتَبَ اللهُ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ مَقاديرَ الخَلْقِ". هذا الشيء الثاني من الدرجة الأولى، وهو أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير الخلق. * اللوح المحفوظ: لا نعرف ماهيته؛ من أي شيء؛ أمن خشب، أم من حديد، أم من ذهب، أم من فضة، أم من زمرد؟ فالله أعلم بذلك؛ إنما نؤمن بأن هناك لوحًا كتب الله فيه مقادير كل شيء، وليس لنا الحق في أن نبحث وراء ذلك، لكن لو جاء في الكتاب والسنة ما يدلنا على شيء؛ فالواجب أن نعتقده. ووصف بكونه محفوظًا؛ لأنه محفوظ من أيدي الخلق؛ فلا يمكن أن يلحق أحد به شيئًا، أو يغير به شيئًا أبدًا. ثانيًا: محفوظ من التغيير؛ فالله عزَّ وجلَّ لا يغير فيه شيئًا؛ لأنه كتبه عن علم منه؛ كما سيذكره المؤلف، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: "إن المكتوب في اللوح المحفوظ لا يتغير أبدًا"، وإنما يحصل التغيير في الكتب التي بأيدي الملائكة. * قوله: "مقادير الخلق"؛ أي: مقادير المخلوقات كلها، وظاهر النصوص أنه شمل ما يفعله الإنسان، وما يفعله البهائم، وأنه عام وشامل. * ولكن؛ هل هذه الكتابة إجمالية أو تفصيلية؟ قد نقول: إننا لا نجزم بأنها تفصيلية أو إجمالية. فمثلًا: القرآن الكريم: هل هو مكتوب في اللوح المحفوظ

الإيمان بأن أول ما خلق الله القلم وأنه كتب ما هو كائن إلى يوم القيامة

بهذه الآيات والحروف أو أن المكتوب في اللوح ذكره وأنه سينزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - وأنه سيكون نورًا وهدىً للناس وما أشبه ذلك؟ ففيه احتمال: إن نظرنا إلى ظاهر النصوص؛ قلنا: إن ظاهرها أن القرآن كله مكتوب جملة وتفصيلًا، وإن نظرنا إلى أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بالقرآن حين نزوله، قلنا: إن الذي كتب في اللوح المحفوظ ذكر القرآن، ولا يلزم من كون ذكره في اللوح المحفوظ أن يكون قد كتب فيه؛ كما قال الله تعالى عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196]؛ يعني: كتب الأولين، ومعلوم أن القرآن لم يوجد نصه في الكتب السابقة، وإنما وجد ذكره، ويمكن أن نقول مثلها في قوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22]؛ أي: ذكره في هذا اللوح. فالمهم أن نؤمن بأن مقادير الخلق مكتوبة في اللوح المحفوظ، وأن هذا اللوح لا يتغير ما كتب فيه؛ لأن الله أمره أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. * * * * قوله: "فأول ما خلق الله القلم؛ قال له: اكتب! قال: ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة" (¬1). * قوله: "فأول ما خلق الله القلم؛ قال له: اكتب": فأمره أن يكتب؛ مع أن القلم جماد!! ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (1/ 198).

* فكيف يوجه الخطاب إلى الجماد؟! والجواب عن ذلك: أن الجماد بالنسبة إلى الله عاقل يصح أن يوجه إليه الخطاب: قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]؛ فوجه الخطاب إليهما، وذكر جوابهما، وكان الجواب بجمع العقلاء طائعين دون طائعات. وقال تعالى: {قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]، فكانت كذلك. وقال تعالى: {يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} [سبأ: 10]، فكانت الجبال تؤوب معه. * والحاصل أن الله أمر القلم أن يكتب، وقد امتثل القلم، لكنه أشكل عليه ماذا يكتب؛ لأن الأمر مجمل، فقال: "ما أكتب؟ "؛ أي: أي شيء أكتب؟ * "قال"، أي: الله. * "اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة": فكتب القلم بأمر الله ما هو كائن إلى يوم القيامة. فانظر كيف علم القلم ماذا يكون إلى يوم القيامة، فكتبه؛ لأن أمر الله عزَّ وجلَّ لا يرد. * وقوله: "ما هو كائن إلى يوم القيامة": يشمل ما كان من

الإيمان بأن ما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه

فعل الله تعالى وما كان من أفعال الخلق. * * * * قوله: "فَما أصابَ الإنْسانَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَما أخْطَأهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَهُ". * إذا آمنت بهذه الجملة؛ اطمأننت: ما أصاب الإنسان؛ لم يكن ليخطئه أبدًا. * ومعنى "ما أصاب": يحتمل أن المعنى: ما قدر أن يصيبه؛ فإنه لن يخطئه، ويحتمل أن ما أصابه بالفعل لا يمكن أن يخطئه، حتى لو تمنى الإنسان، وهما معنيان صحيحان لا يتنافيان. وما أخطأه لم يكن ليصيبه أي: ما قُدِّر أن يخطئه فإنه لم يكن ليصيبه، أو المعنى: ما أخطأه بالفعل، لأنه معروف أنه غير صائب، ولو تمنى الإنسان، وهما معنيان صحيحان لا يتنافيان. * * * * قال المؤلف: "جَفَّتِ الأقْلامُ وَطُوِيَتِ الصُّحُفُ". * "الأقلام": هي أقلام القدر التي كتب الله بها المقادير؛ جفت وانتهت. * و"الصحف": طويت، وهذا كناية عن أن الأمر انتهى. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن جابر رضي الله عنه؛ قال: جاء ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2648).

سراقة بن مالك بن جعشم؛ فقال: يا رسول الله! بيِّن لنا ديننا كأنا خلقنا الآن: فيم العمل اليوم؛ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير؟ أم فيما نستقبل؟ قال: "لا؛ بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير". قال: ففيم العمل؟ قال: "اعملوا؛ فكل ميسر". * قوله: "كما قال الله تعالى": الكاف في مثل هذا التعبير للتعليل. * {أَلَمْ تَعْلَمْ}: أيها المخاطب. * {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}: وهذا عام؛ علم لما فيهما من أعيان وأوصاف وأعمال وأحوال. * {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ}: وهو اللوح المحفوظ. * {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}؛ أي: الكتابة على الله أمر يسير. * قوله: "وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] ". * {فِي الْأَرْضِ}: كالجدب والزلازل والفيضانات وغيرها. * {وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ}: كالمرض والأوبئة المهلكة وغير ذلك. * {إلا فِي كِتَابٍ}: هو اللوح المحفوظ. * {نَبْرَأَهَا}؛ أي: من قبل أن نخلقها، والضمير في

مواضع التقدير التابع لعلمه

{نَبْرَأَهَا}: يحتمل أن يعود على المصيبة، ويحتمل أن يعود على الأنفس، ويحتمل أن يعود على الأرض، والكل صحيح؛ فالمصيبة قد كتبت قبل أن يخلقها الله عزَّ وجلَّ، وقبل أن يخلق النفس المصابة، وقبل أن يخلق الأرض. وفي "صحيح مسلم" (¬1) عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. قال: وكان عرشه على الماء". * * * * قوله: "وَهذا التَّقْديرُ التَّابِعُ لِعِلْمِهِ سُبْحانَهُ يَكونُ في مَواضِعَ جُمْلَةً وَتَفْصيلًا". * قوله: "في مواضع"؛ يعني: مواضع غير اللوح المحفوظ. * * * * ثم بين هذه المواضع بقوله: "فَقَدْ كَتَبَ في اللَّوْحِ المَحْفوظِ ما شاءَ". "وإذا خَلَقَ جَسَدَ الجَنينِ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فيهِ؛ بَعَثَ إليهِ مَلَكًا، فَيُؤْمَرُ بِأرْبَعِ كَلِماتٍ، فَيُقالُ لَهُ: اكْتُبْ رِزْقَهُ وَأجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيّ أم سَعيدٌ وَنَحْوَ ذلكَ". * فهذان موضعان: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2653).

إنكار غلاة القدرية للعلم والكتابة

الأول: اللوح المحفوظ، وسبق دليل ذلك وتفصيل القول فيه. والثاني: الكتابة العمرية التي تكون للجنين في بطن أمه، وسبق دليلها في حديث ابن مسعود رضي الله عنه (¬1). والموضع الثالث: ما أشار إليه بقوله: "ونحو ذلك"، وهو التقدير الحولي الذي يكون في ليلة القدر؛ فإن ليلة القدر يكتب فيها ما يكون في تلك السنة؛ كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 4 - 5]. * * * * قال المؤلف: "فهذا التقدير قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا، ومنكروه اليوم قليل". * "هذا التقدير"؛ يعني: العلم والكتابة، ينكره غلاة القدرية قديمًا، ويقولون: إن الله لا يعلم أفعال العبد إلا بعد وجودها، وأنها لم تكتب، ويقولون: إن الأمر أنف؛ أي: مستأنف، لكن متأخروهم أقروا بالعلم والكتابة، وأنكروا المشيئة والخلق، وهذا بالنسبة لأفعال المخلوقين. أما بالنسبة لأفعال الله؛ فلا أحد ينكر أن الله عالم بها قبل وقوعها. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (2/ 196) وهو في "الصحيحين".

- الدرجة الثانية: درجة المشيئة والقدرة

وهؤلاء الذين ينكرون علم الله بأفعال العبد حكمهم في الشرع أنهم كفار؛ لأنهم كذبوا قول الله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]، وغيرها من الآيات، وخالفوا المعلوم بالضرورة من الدين. * * * * الدرجة الثانية من درجات الإيمان بالقدر: * قوله: "وَأمّا الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ"؛ يعني: من درجات الإيمان بالقدر. * قوله: "فَهِيَ مَشيئَةُ اللهِ النَّافِذَةُ، وَقُدْرَتُهُ الشَّامِلَةُ، وَهُوَ الإيمانُ بِأنَّ ما شاءَ اللهُ كانَ، وَما لَمْ يَشَأ لَمْ يَكُنْ، وَأنَّهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرض مِن حَرَكَةٍ وَلا سُكونٍ إلَّا بِمَشيئَةِ اللهِ سُبْحانَهُ". * يعني: أن تؤمن بأن مشيئة الله نافذة في كل شيء، سواء كان مما يتعلق بفعله أو يتعلق بأفعال المخلوقين، وأن قدرته شاملة، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]. وهذه الدرجة تتضمن شيئين؛ المشيئة والخلق: - أما المشيئة؛ فيجب أن نؤمن بأن مشيئة الله تعالى نافذة في كل شيء، وأن قدرته شاملة لكل شيء من أفعاله وأفعال المخلوقين.

لا يكون في ملك الله ما لا يريد

- فأما كونها شاملة لأفعاله؛ فالأمر فيها ظاهر. - وأما كونها شاملة لأفعال المخلوقين؛ فلأن الخلق كلهم ملك لله تعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما شاء. * والدليل على هذا: قوله تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]. وقوله سبحانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً} [هود: 118]. وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} [البقرة: 253]. فهذه الآيات تدل على أن أفعال العباد متعلقة بمشيئة الله. وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30]. وهذه تدل على أن مشيئة العبد داخلة تحت مشيئة الله وتابعة لها. * * * * قوله: "لا يكونُ في مُلْكِهِ ما لا يُريدُ". * هذه العبارة تحتاج إلى تفصيل: لا يكون في ملكه ما لا يريد بالإرادة الكونية، أما بالإرادة الشرعية؛ فيكون في ملكه ما لا يريد.

وحينئذ؛ نحتاج إلى أن نقسم الإرادة إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية: - فالإرادة الكونية بمعنى المشيئة، ومثالها قول نوح عليه السلام لقومه: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34]. - والإرادة الشرعية بمعنى المحبة، ومثالها قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 27]. وتختلف الإرادتان في موجبهما وفي متعلقهما: - ففي المتعلق: الإرادة الكونية تتعلق فيما وقع، سواء أحبه أم كرهه، والإرادة الشرعية تتعلق فيما أحبه، سواء وقع أم لم يقع. - وفي موجبهما: الإرادة الكونية يتعين فيها وقوع المراد، والإرادة الشرعية لا يتعين فيها وقوع المراد. * وعلى هذا يكون قول المؤلف: "ولا يكون في ملكه ما لا يريد"؛ يعني به: الإرادة الكونية. * فإن قال قائل: هل المعاصي مرادة لله؟ فالجواب: أما بالإرادة الشرعية؛ فليست مرادة له؛ لأنه لا يحبها، وأما بالإرادة الكونية؛ فهي مرادة له سبحانه؛ لأنها واقعة بمشيئته. * * *

قدرة الله على كل شيء من الموجودات والمعدومات

* قوله: "وَأنَّهُ سُبْحانَهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ مِنَ المَوْجوداتِ وَالمعدوماتِ". * كل شيء؛ فالله قادر عليه من الموجودات؛ فيعدمها أو يغيرها، ومن المعدومات؛ فيوجدها. فالقدرة تتعلق في الموجود بإيجاده أو إعدامه أو تغييره، وفي المعدوم بإعدامه أو إيجاده. فمثلًا؛ كل موجود؛ فالله قادر أن يعدمه، وقادر أن يغيره؛ أي: ينقله من حال إلى حال، وكل معدوم؛ فالله قادر على أن يوجده؛ مهما كان؛ كما قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20]. * ذكر بعض العلماء استثناء من ذلك، وقال: إلا ذاته؛ فليس عليها بقادر! وزعم أن العقل يدل على ذلك!! فنقول: ماذا تريد بأنه غير قادر على ذاته؟ - إن أردت أنه غير قادر على أن يعدم نفسه أو يلحقها نقصًا؛ فنحن نوافقك على أن الله لا يلحقه النقص أو العلم، لكننا لا نوافقك على أن هذا مما تتعلق به القدرة؛ لأن القدرة إنما تتعلق بالشيء الممكن، أما الشيء الواجب أو المستحيل؛ فهذا لا تتعلق به القدرة أصلًا؛ لأن الواجب مستحيل العدم، والمستحيل مستحيل الوجود. - وإن أردت بقولك: إنه غير قادر على ذاته: أنه غير قادر

ما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه

على أنه يفعل ما يشاء؛ فلا يقدر أن يجيء أو نحوه! فهذا خطأ، بل هو قادر على ذلك، وفاعل له، ولو قلنا: إنه ليس بقادر على مثل هذه الأفعال؛ لكان ذلك من أكبر النقص الممتنع على الله سبحانه. وبهذا علم أن هذا الاستدراك من عموم القدرة في غير محله على كل تقدير. * وإنما نص المؤلف على هذا ردًّا على القدرية الذين قالوا: إن الله ليس بقادر على فعل العبد!! وإن العبد مستقل بعمله! ولكن ما في الكتاب والسنة من شمول قدرة الله يرد عليهم. * * * * قوله: "فَما مِن مَخْلوقٍ في الأرضِ وَلا في السَّماءِ إلَّا اللهُ خالِقُهُ سُبْحانَهُ لا خالِقَ غيْرُهُ وَلا رَبَّ سِواهُ". * وهذا صحيح بلا شك. * ولهذا دليل أثري ودليل نظري: - أما الدليل الأثري: فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]. وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36]. فلا يمكن أن يوجد شيء في السماء والأرض إلا الله خالقه وحده.

ولقد تحدى الله العابدين للأصنام تحديًا أمرنا أن نستمع له، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ}، ومعلوم أن الذين يدعون من دون الله في القمة عندهم؛ لأنهم اتخذوهم أربابًا، فإذا عجز هؤلاء القمة عن أن يخلقوا ذبابًا، وهو أخس الأشياء وأهونها؛ فما فوقه من باب أولى، بل قال: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73]، فيعجزون حتى عن مدافعة الذباب وأخذ حقهم منه. فإن قيل: كيف يسلب الذباب هذه الأصنام شيئًا؟! فالجواب: قال بعض العلماء: إن هذا على سبيل الفرض؛ يعني: على فرض أن يسلبهم الذباب شيئًا؛ لا يستنقذوه منه. وقال بعضهم: بل على سبيل الواقع؛ فيقع الذباب على هذه الأصنام، ويمتص ما فيها من أطياب؛ فلا تستطيع الأصنام أن تخرج ما امتصه الذباب. وإذا كانت عاجزة عن الدفع عن نفسها، واستنقاذ حقها؛ فهي عن الدفع عن غيرها واستنقاذ حقه أعجز. والمهم أن الله تعالى خالق كل شيء، وأن لا خالق إلا الله؛ فيجب الإيمان بعموم خلق الله عزَّ وجلَّ، وأنه خالق كل شيء، حتى أعمال العباد؛ لقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: 16]، وعمل الإنسان من الشيء، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2] ... والآيات في هذا كثيرة.

خلق الله لأفعال العباد

وفيه آية خاصة في الموضوع، وهو خلق أفعال العباد: فقال إبراهيم لقومه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96]. فـ (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: خلقكم وعملكم، وهذا نص في أن عمل الإنسان مخلوق لله تعالى. فإن قيل: ألا يحتمل أن تكون (ما) اسمًا موصولًا، ويكون المعنى: خلقكم وخلق الذي تعملونه؟ فكيف يمكن أن نقول إن في الآية دليلًا على خلق أفعال العباد على هذا التقدير أن [ما] موصولة؟ فالجواب: أنه إذا كان المعمول مخلوقًا لله؛ لزم أن يكون عمل الإنسان مخلوقًا؛ لأن المعمول كان بعمل الإنسان؛ فالإنسان هو الذي باشر العمل في المعمول؛ فإذا كان المعمول مخلوقًا لله، وهو فعل العبد؛ لزم أن يكون فعل العبد مخلوقًا، فيكون في الآية دليل على خلق أفعال العباد على كلا الاحتمالين. - وأما الدليل النظري على أن أفعال العبد مخلوقة لله؛ فتقريره أن نقول: إن فعل العبد ناشئ عن أمرين: عزيمة صادقة وقدرة تامة. مثال ذلك: أردت أن أعمل عملًا من الأعمال؛ فلا يوجد هذا العمل حتى يكون مسبوقًا بأمرين هما: أحدهما: العزيمة الصادقة على فعله؛ لأنك لو لم تعزم ما

فعلته. الثاني: القدرة التامة، لأنك لو لم تقدر؛ ما فعلته؛ فالذي خلق فيك هذه القدرة هو الله عزَّ وجلَّ، وهو الذي أودع فيك العزيمة، وخالق السبب التام خالق للمسبب. - ووجه ثان نظري: أن نقول: الفعل وصف الفاعل، والوصف تابع للموصوف، فكما أن الإنسان بذاته مخلوق لله؛ فأفعاله مخلوقة؛ لأن الصفة تابعة للموصوف. فتبين بالدليل أن عمل الإنسان مخلوق لله، وداخل في عموم الخلق أثريًّا ونظريًّا، والدليل الأثري قسمان عام وخاص، والدليل النظري له وجهان. * وقوله: "لا خالق غيره": * إن قلت: هذا الحصر يرد عليه أن هناك خالقًا غير الله؛ فالمصور يعد نفسه خالقًا، بل جاء في الحديث أنه خالق: "فإن المصورين يعذبون، يقال لهم: أحيوا ما خلقتم" (¬1)، وقال عز وجل: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]؛ فهناك خالق، لكن الله تعالى هو أحسن الخالقين؛ فما الجواب عن قول المؤلف؟ الجواب: أن الخلق الذي ننسبه إلى الله عزَّ وجلَّ هو الإيجاد وتبديل الأعيان من عين لأخرى؛ فلا أحد يوجد إلا الله عزَّ وجلَّ، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (1/ 22)، وهو في "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها.

الجمع بين قول المؤلف "لا رب سواه" وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حتى تلد الأمة ربها"

ولا أحد يبدل عينًا إلى عين؛ إلا الله عزَّ وجلَّ، وما قيل: إنه خلق؛ بالنسبة للمخلوق؛ فهو عبارة عن تحويل شيء من صفة إلى صفة؛ فالخشبة مثلًا بدلًا من أن كانت في الشجرة، تحولت بالنجارة إلى باب؛ فتحويلها إلى باب يسمى خلقًا، لكنه ليس الخلق الذي يختص به الخالق، وهو الإيجاد من العدم، أو تبديل العين من عين إلى أخرى. * وقوله: "لا رب سواه"؛ أي: أن الله وحده هو الرب المدبر لجميع الأمور، وهذا حصر حقيقي. * ولكن ربما يرد عليه أنه جاء في الأحاديث إثبات الربوبية لغير الله: ففي لقطة الإبل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دعها؛ معها وحذاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها" (¬1) وربها: صاحبها. وجاء في بعض ألفاظ حديث جبريل؛ يقول: "إذا ولدت الأمة ربها" (¬2). فما هو الجمع بين هذا وبين قول المؤلف: "لا رب سواه"؟ نقول: إن ربوبية الله عامة كاملة؛ كل شيء؛ فالله ربه، لا يسأل عما يفعل في خلقه؛ لأن فعله كله رحمة وحكمة، ولهذا ¬

_ (¬1) البخاري (2429)، ومسلم (1722) (1)؛ من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه. (¬2) رواه البخاري (50)، ومسلم (9)؛ من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

أمر الله بطاعته وطاعة رسوله ونهاهم عن معصيته

يقدر الله عزَّ وجلَّ الجدب والمرض والموت والجروح في الإنسان وفي الحيوان، ونقول: هذا غاية الكمال والحكمة. أما ربوبية المخلوق للمخلوق؛ فربوبية ناقصة قاصرة، لا تتجاوز محلها، ولا يتصرف فيها الإنسان تصرفًا تامًّا، بل تصرفه مقيد: إما بالشرع، وإما بالعرف. * * * * قوله: "ومع ذلك؛ فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته". * يعني: ومع عموم خلقه وربوبيته لم يترك العباد هملًا، ولم يرفع عنهم الاختيار، بل أمرهم بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته. وأمره بذلك أمر ممكن؛ فالمأمور مخلوق لله عزَّ وجلَّ، وفعله مخلوق لله، ومع ذلك؛ يؤمر وينهى. ولو كان الإنسان مجبرًا على عمله؛ لكان أمره أمرًا بغير ممكن، والله عزَّ وجلَّ يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، ويقول تعالى: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152]، وهذا يدل على أنهم قادرون على فعل الطاعة، وعلى تجنب المعصية، وأنهم غير مكرهين على ذلك. * * * * قوله: "وَهُوَ سُبْحانَهُ يُحِبُّ المُتَّقينَ وَالمُحْسِنينَ

لا يحب الله الكافرين

وَالمُقْسِطينَ". * يعني أن الله عزَّ وجلَّ يحب المحسنين؛ لقوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، والمتقين؛ لقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 7]، والمقسطين؛ لقوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. فهو عزَّ وجلَّ يحب هؤلاء، ومع ذلك هو الذي قدر لهم هذا العمل الذي يحبه، فكان فعلهم محبوبًا إلى الله مرادًا له كونًا وشرعًا؛ فالمحسن قام بالواجب والمندوب، والمتقي قام بالواجب، والمقسط اتقى الجور في المعاملة. * قوله: "وَيَرْضَى عَنِ الذينَ آمَنوا وَعَمِلوا الصّالِحاتِ وَلا يُحِبُّ الكافِرينَ". * "يرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات": والدليل قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 7، 8]. * قوله: "ولا يحب" الله عزَّ وجلَّ "الكافرين". والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل

لا يرضى الله عن القوم الفاسقين

عمران: 32]. مع أن الكفر واقع بمشيئته، لكن لا يلزم من وقوعه بمشيئته، أن يكون محبوبًا له سبحانه وتعالى. * قوله: "ولا يرضى عن القوم الفاسقين": والدليل قوله تعالى: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 96]. * والفاسق -وهو الخارج عن طاعة الله- قد يراد به الكافر، وقد يراد به العاصي. - ففي قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 18 - 20]؛ فالمراد بالفاسق الكافر. - وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]؛ فالمراد بالفاسق العاصي. * فالله عزَّ وجلَّ لا يرضى عن القوم الفاسقين، لا هؤلاء ولا هؤلاء، لكن الفاسقين بمعنى الكافرين لا يرضى عنهم مطلقًا، وأما الفاسقون بمعنى العصاة؛ فلا يرضى عنهم فيما فسقوا فيه، ويرضى عنهم فيما أطاعوا فيه. * قوله: "ولا يأمر بالفحشاء": والدليل قوله تعالى: {قُلْ

لا يرضى لعباده الكفر

إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}، لأنهم إذا فعلوا فاحشة: {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا}؛ فاحتجوا بأمرين، فقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ}، وسكت عن قولهم: {وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا}؛ لأنه حق لا ينكر، لكن {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} كذب، ولهذا كذبهم وأمر نبيه أن يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، ولم يقل: ولم يجدوا عليها آباءهم؛ لأنهم قد وجدوا عليها آباءهم. * قوله: "ولا يرضى لعباده الكفر": لقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، لكن يقدر أن يكفروا، ولا يلزم من تقديره الكفر أن يكون راضيًا به سبحانه وتعالى، بل يقدره وهو يكرهه ويسخطه. * قوله: "ولا يحب الفساد": دليل ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. * كرر المؤلف مثل هذه العبارات ليبين أنه لا يلزم من إرادته الشيء أن يكون محبوبًا له، ولا يلزم من كراهته للشيء أن لا يكون مرادًا له بالإرادة الكونية، بل هو عزَّ وجلَّ يكره الشيء ويريده بالإرادة الكونية، ويوقع الشيء ولا يرضى عنه، ولا يريده بالإرادة الشرعية. * فإن قلت: كيف يوقع ما لا يرضاه وما لا يحبه؟! وهل أحد يكرهه على أن يوقع ما لا يحبه ولا يرضاه؟! فالجواب: لا أحد يكرهه على أن يوقع ما لا يحبه ولا

يرضاه، وهذا الذي يقع من فعله عزَّ وجلَّ وهو مكروه له، هو مكروه له من وجه محبوب له من وجه آخر؛ لِما يترتب عليه من المصالح العظيمة. فمثلًا، الإيمان محبوب لله، والكفر مكروه له، فأوقع الكفر وهو مكروه له؛ لمصالح عظيمة؛ لأنه لولا وجود الكفر؛ ما عرف الإيمان، ولولا وجود الكفر؛ ما عرف الإنسان قدر نعمة الله عليه بالإيمان، ولولا وجود الكفر؛ ما قام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الناس كلهم يكونون على المعروف، ولولا وجود الكفر؛ ما قام الجهاد، ولولا وجود الكفر؛ لكان خلق النار عبثًا؛ لأن النار مثوى الكافرين، ولولا وجود الكفر؛ لكان الناس أمة واحدة، ولم يعرفوا معروفًا ولم ينكروا منكرًا، وهذا لا شك أنه مخل بالمجتمع الإنساني، ولولا وجود الكفر؛ ما عرفت ولاية الله؛ لأن من ولاية الله أن تبغض أعداء الله وأن تحب أولياء الله. وكذلك يقال في الصحة والمرض؛ فالصحة محبوبة للإنسان وملائمة له، ورحمة الله تعالى فيها ظاهرة، لكن المرض مكروه للإنسان، وقد يكون عقوبة من الله له، ومع ذلك يوقعه؛ لما في ذلك من المصالح العظيمة. كم من إنسان إذا أسبغ الله عليه النعمة بالبدن والمال والولد والبيت والمركوب؛ ترفع ورأى أنه مستغن بما أنعم الله به عليه عن طاعة الله عزَّ وجلَّ، كما قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7]، وهذه مفسدة عظيمة؛ فإذا أراد الله أن

العباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم

يرد هذا الإنسان إلى مكانه؛ ابتلاه، حتى يرجع إلى الله، وشاهد هذا قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]. وأنت أيها الإنسان إذا فكرت هذا التفكير الصحيح في تقديرات الله عزَّ وجلَّ؛ عرفت ما له سبحانه وتعالى من الحكمة فيما يقدره من خير أو شر، وأن الله سبحانه وتعالى يخلق ما يكرهه ويقدر ما يكرهه لمصالح عظيمة، قد تحيط بها، وقد لا تحيط بها ويحيط بها غيرك، وقد لا يحيط بها لا أنت ولا غيرك. * فإن قيل: كيف يكون الشيء مكروهًا لله ومرادًا له؟ فالجواب: أنه لا غرابة في ذلك، فها هو الدواء المر طعمًا الخبيث رائحة يتناوله المريض وهو مرتاح، لما يترتب عليه من مصلحة الشفاء، وها هو الأب يمسك بابنه المريض ليكويه الطبيب، وربما كواه هو بنفسه، مع أنه يكره أشد الكره أن يحرق ابنه بالنار. * * * * قوله: "وَالعِبادُ فاعِلونَ حَقيقَةً، وَاللهُ خالِقُ أفْعالِهِم". * هذا صحيح؛ فالعبد هو المباشر لفعله حقيقة، والله خالق فعله حقيقة، وهذه عقيدة أهل السنة، وقد سبق تقريرها بالأدلة. * وخالفهم في هذا الأصل طائفتان:

الطائفة الأولى: القدرية من المعتزلة وغيرهم؛ قالوا: إن العباد فاعلون حقيقة، والله لم يخلق أفعالهم. الطائفة الثانية: الجبرية من الجهمية وغيرهم؛ قالوا: إن الله خالق أفعالهم، وليسوا فاعلين حقيقة، لكن أضيف الفعل إليهم من باب التجوز، وإلا؛ فالفاعل حقيقة هو الله. وهذا القول يؤدي إلى القول بوحدة الوجود، وأن الخلق هو الله، ثم يؤدي إلى قول من أبطل الباطل؛ لأن العباد منهم الزاني ومنهم السارق ومنهم شارب الخمر ومنهم المعتدي بالظلم؛ فحاشا أن تكون هذه الأفعال منسوبة إلى الله!! وله لوازم باطلة أخرى. * وبهذا تبين أن في قول المؤلف: "والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم": ردًّا على الجبرية والقدرية. * قوله: "وَالعَبْدُ هُوَ المُؤْمِنُ وَالكافِرُ، وَالبَرُّ وَالفاجِرُ، وَالمُصَلّي وَالصّائِمُ". * يعني: أن الوصف بالإيمان والكفر والبر والفجور والصلاة والصيام وصف للعبد، لا لغيره؛ فهو المؤمن، وهو الكافر، وهو البار، وهو الفاجر، وهو المصلي، وهو الصائم ... وكذلك هو المزكي، وهو الحاج، وهو المعتمر ... وهكذا، ولا يمكن أن يوصف بما ليس من فعله حقيقة. * وهذه الجملة تتضمن الرد على الجبرية.

العبودية عامة وخاصة

* والمراد بالعبودية هنا العبودية العامة؛ لأن العبودية نوعان: عامة وخاصة: - فالعامة: هي الخضوع لأمر الله الكوني؛ كقوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93]. - والعبودية الخاصة: هي الخضوع لأمر الله الشرعي، وهي خاصة بالمؤمنين؛ كقوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63]، وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}، وهذه أخص من الأولى. * قوله: "وَلِلعِبادِ قدرَةٌ عَلى أعمالِهِم، وَلَهُم إرادَةٌ، وَاللهُ خالِقُهم وَخالِقُ قدرَتِهم وَإرادَتِهِم". * "للعباد قدرة على أعمالهم وإرادة"؛ خلافًا للجبرية القائلين بأنهم لا قدرة لهم ولا إرادة، بل هم مجبرون عليها. * "والله خالقهم وخالق إرادتهم وقدرتهم"؛ خلافًا للقدرية القائلين بأن الله ليس خالقًا لفعل العبد ولا لإرادته وقدرته. * وكأن المؤلف يشير بهذه العبارة إلى وجه كون فعل العبد مخلوقًا لله تعالى؛ بأن فعله صادر عن قدرة وإرادة، وخالق القدرة والإرادة هو الله، وما صدر عن مخلوق؛ فهو مخلوق. ويشير بها أيضًا إلى كون فعل العبد اختياريًّا لا إجباريًّا؛ لأنه صادر عن قدرة وإرادة؛ فلولا القدرة والإرادة؛ لم يصدر منه

مخالفو أهل السنة والجماعة لدرجة المشيئة والخلق والرد عليهم

الفعل، ولولا الإرادة؛ لم يصدر منه الفعل، ولو كان الفعل إجباريًّا؛ ما كان من شرطه القدرة والإرادة. * * * ثم استدل المؤلف لذلك، فقال: "كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28، 29] ". * فقوله: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}: فيها رد على الجبرية. * وفي قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}: رد على القدرية. * * * * قوله: "وَهذِهِ الدَّرَجَةُ مِنَ القَدَرِ"؛ أي: درجة المشيئة والخلق. * "يُكَذِّبُ بِها عامَّةُ القَدَرِيَّةِ، الذينَ سمَّاهُمُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مَجوسَ هذِهِ الأمَّةِ". * "عامة القدرية"؛ أي: أكثرهم يكذبون بهذه الدرجة، ويقولون: إن الإنسان مستقل بعمله، وليس لله فيه مشيئة ولا خلق. * و"سماهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مجوس هذه الأمة" (¬1)؛ لأن المجوس ¬

_ (¬1) لما رواه الإمام أحمد (2/ 86) عن ابن عمر، وأبو داود (4691)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (2/ 641)، وابن أبي عاصم في "السنة" (145) =

يقولون: إن للحوادث خالقين: خالقًا للخير، وخالقًا للشر! فخالق الخير هو النور، وخالق الشر هو الظلمة؛ فالقدرية يشبهون هؤلاء المجوس من وجه؛ لأنهم يقولون: إن الحوادث نوعان: حوادث من فعل الله؛ فهذه خلق الله، وحوادث من فعل العباد؛ فهذه للعباد استقلالًا، وليس لله تعالى فيها خلق. * * * * قوله: "وَيَغْلو فيها قَوْمٌ مِنْ أهْلِ الإثْباتِ، حتَّى سَلَبوا العَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيارَهُ، وَيُخْرِجونَ عَن أفْعالِ اللهِ وَأحكامِهِ حِكَمَها وَمَصالِحَها". * "يغلو فيها"؛ أي: في هذه الدرجة. * "قوم من أهل الإثبات"؛ أي: إثبات القدر. * وهؤلاء القوم هم الجبرية؛ حيث إنهم سلبوا العبد قدرته واختياره، وقالوا: إنه مجبر على عمله؛ لأنه مكتوب عليه. * قوله: "ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها": "يخرجون": معطوفة على قوله: "يغلو". * ووجه كونهم يخرجون الحكم والمصالح عن أفعال الله ¬

_ = عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكل أمة مجوس، ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر"، وخرجه الآجري في "الشريعة" (190)، والطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع الزوائد" (7/ 207). والحديث حسنه الألباني بمجموع طرقه في "السنة" (145) لابن أبي عاصم.

وأحكامه: أنهم لا يثبتون لله حكمة أو مصلحة؛ فهو يفعل ويحكم لمجرد مشيئة، ولهذا يثيب المطيع، وإن كان مجبرًا على الفعل، ويعاقب العاصي، وإن كان مجبرًا على الفعل. ومن المعلوم أن المجبر لا يستحق الحمد على محمود، ولا الذم على مذموم؛ لأنه بغير اختياره. * وهنا مسألة يحتج بها كثير من العصاة: إذا أنكرت عليه المنكر؛ قال: هذا هو ما قدره الله عليه؛ أتعترض على الله؟! فيحتج بالقدر على معاصي الله، ويقول: أنا عبد مسير! ثم يحتج أيضًا بحديث: "تحاج آدم وموسى، فقال له موسى: أنت أبونا، خيبتنا وأخرجتنا من الجنة؟! فقال له آدم: أنت موسى! اصطفاك الله بكلامه، وكتب لك التوراة بيده! أتلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ ". قال النبي عليه الصلاة والسلام: "فحج آدم موسى"؛ قالها ثلاثًا (¬1). وعند أحمد: "فحجه آدم" (¬2). وهي صريحة في أن آدم غلب موسى بالحجة. قال: فهذا آدم لما اعترض عليه موسى؛ احتج عليه بالقدر، وآدم نبي، وموسى رسول، فسكت موسى؛ فلماذا تحتج عليَّ؟ والجواب على حديث آدم: - أما على رأي القدرية؛ فإن طريقتهم أن أخبار الآحاد لا ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (6614)، ومسلم (2652)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬2) رواه أحمد في "المسند" (268).

توجب اليقين، قالوا: وإذا عارضت العقل، وجب أن ترد. وبناء على ذلك قالوا: هذا لا يصح ولا نقبله ولا نسلم به. - أما الجبرية؛ فقالوا: إن هذا هو الدليل، ودلالته حق، ولا يلام العبد على ما قدر عليه. - أما أهل السنة والجماعة؛ فقالوا: إن آدم عليه الصلاة والسلام فعل الذنب، وصار ذنبه سببًا لخروجه من الجنة، لكنه تاب من الذنب، وبعد توبته اجتباه الله وتاب عليه وهداه، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ومن المحال أن موسى عليه الصلاة والسلام -وهو أحد أولي العزم من الرسل- يلوم أباه على شيء تاب منه ثم اجتباه الله بعده وتاب عليه وهداه، وإنما اللوم على المصيبة التي حصلت بفعله، وهي إخراج الناس ونفسه من الجنة، فإن سبب هذا الإخراج هو معصية آدم، على أن آدم عليه الصلاة والسلام لا شك أنه لم يفعل هذا ليخرج من الجنة حتى يلام؛ فكيف يلومه موسى؟! وهذا وجه ظاهر في أن موسى - عليه السلام - لم يرد لوم آدم على فعل المعصية، إنما على المصيبة التي هي من قدر الله، وحينئذ يتبين أنه لا حجة بهذا الحديث للجبرية. فنحن نقبله ولا ننكره كما فعل القدري، ولكننا لا نحتج به على المعصية، كما فعل الجبري. وهناك جواب آخر أشار إليه ابن القيم رحمه الله، وقال: الإنسان إذا فعل المعصية واحتج الإنسان بالقدر عليها بعد التوبة

منها؛ فلا بأس به. ومعناه: أنه لو لامك أحد على فعل المعصية بعد أن تبت منها، وقلت: هذا بقضاء الله وقدره، وأستغفر الله وأتوب إليه ... وما أشبه ذلك؛ فإنه لا حرج عليك في هذا. فآدم احتج بالقدر بعد أن تاب من المعصية، وهذا لا شك أنه وجه حسن، لكن يبعده أن موسى لا يمكن أن يلوم آدم على معصية تاب منها. ورجح ابن القيم قوله هذا بما جرى للنبي عليه الصلاة والسلام حين طرق عليًّا وفاطمة رضي الله عنهما ليلة، فقال: "ألا تصليان؟ ". فقال علي رضي الله عنه: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله؛ فإذا شاء أن يبعثنا؛ بعثنا. فانصرف النبي - صلى الله عليه وسلم - يضرب فخذه وهو يقول: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54] (¬1). وعندي أن في الاستدلال بهذا الحديث نظرًا؛ لأن عليًّا رضي الله عنه احتج بالقدر بنومه، والإنسان النائم له أن يحتج بالقدر؛ لأن فعله لا ينسب إليه، ولهذا قال الله تعالى في أصحاب الكهف: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف: 18]؛ فنسب التقليب إليه، مع أنهم هم الذين يتقلبون، لكن لما كان بغير إرادة منهم؛ لم يضفه إليهم. والوجه الأول في الجواب عن حديث آدم وموسى -وهو ما ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (1127)، ومسلم (775)؛ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية -هو الصواب. * فإذًا؛ لا حجة للجبري بهذا الحديث، ولا للعصاة الذين يحتجون بهذا الحديث لاحتجاجهم بالقدر. فنقول له: إن احتجاجك بالقدر على المعاصي يبطله السمع والعقل والواقع: - فأما السمع؛ فقد قال الله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا} [الأنعام: 148]؛ قالوا ذلك احتجاجًا بالقدر على المعصية، فقال الله تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؛ يعني: كذبوا الرسل واحتجوا بالقدر {حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا}، وهذا يدل على أن حجتهم باطلة؛ إذ لو كانت حجة مقبولة؛ ما ذاقوا بأس الله. - ودليل سمعي آخر: قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِه} [النساء: 163] [النساء: 163] إلى قوله: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، ووجه الدلالة من هذه الآية أنه لو كان القدر حجة؛ ما بطلت بإرسال الرسل، وذلك لأن القدر لا يبطل بإرسال الرسل، بل هو باق. فإذا قال قائل: يرد عليك في الدليل الأول قول الله تبارك وتعالى في سورة الأنعام: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا

أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 106 - 107]؛ فهنا قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}؛ فنقول: إن قول الإنسان عن الكفار: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا}: قول صحيح وجائز، لكن قول المشرك: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148]؛ يريد أن يحتج بالقدر على المعصية قول باطل، والله عزَّ وجلَّ إنما قال لرسوله هكذا تسلية له وبيانًا أن ما وقع فهو بمشيئة الله. - وأما الدليل العقلي على بطلان احتجاج العاصي بالقدر على معصية الله أن نقول له: ما الذي أعلمك بأن الله قدر لك أن تعصيه قبل أن تعصيه؟ فنحن جميعًا لا نعلم ما قدر الله إلا بعد أن يقع، أما قبل أن يقع؛ فلا ندري ماذا يراد بنا؛ فنقول للعاصي: هل عندك علم قبل أن تمارس المعصية أن الله قدر لك المعصية؟ سيقول: لا. فنقول: إذًا؛ لماذا لم تقدر أن الله قدر لك الطاعة وتطع الله؛ فالباب أمامك مفتوح؛ فلماذا لم تدخل من الباب الذي تراه مصلحة لك؛ لأنك لا تعلم ما قدر لك. واحتجاج الإنسان بحجة على أمر فعله قبل أن تتقدم حجته على فعله احتجاج باطل؛ لأن الحجة لا بد أن تكون طريقًا يمشي به الإنسان؛ إذ إن الدليل يتقدم المدلول. ونقول له أيضًا: ألست لو ذكر لك أن لمكة طريقين أحدهما طريق معبد آمن، والثاني طريق صعب مخوف؛ ألست تسلك الآمن؟ سيقول: بلى. فنقول: إذًا؛ لماذا تسلك في عبادتك الطريق المخوف المحفوف بالأخطار، وتدع الطريق الآمن الذي تكفل الله

تعالى بالأمن لمن سلكه؛ فقال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ} [الأنعام: 82]، وهذه حجة واضحة. ونقول له: لو أعلنت الحكومة عن وظيفتين: إحداهما بالمرتبة العالية، والثانية بالمرتبة السفلى؛ فأيهما تريد؟ بلا شك ستريد المرتبة العالية، وهذا يدل على أنك تأخذ بالأكمل في أمور دنياك؛ فلماذا لم تأخذ بالأكمل في أمور دينك؟! وهل هذا إلا تناقض منك؟! وبهذا يتبين أنه لا وجه أبدًا لاحتجاج العاصي بالقدر على معصية الله عزَّ وجلَّ. * * *

فصل: في الإيمان

فصل في الإيمان * قوله: "فَصْلٌ: وَمِنْ أصولِ أهْلِ السُّنَّةِ وَالجَماعَةِ أنَّ الدِّينَ وَالإيمانَ قَولٌ وَعَمَلٌ". * "الدين": هو ما يدان به الإنسان، أو يدين به؛ فيطلق على العمل ويطلق على الجزاء: ففي قوله تعالى: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 18، 19]؛ فالمراد بالدين في هذه الآية: الجزاء. وفي قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]؛ أي: عملًا تتقربون به إلى الله. ويقال: كما تَدينُ تُدان؛ أي: كما تعمل تجازى. والمراد بالدين في كلام المؤلف: العمل. * وأما "الإيمان"؛ فأكثر أهل العلم يقولون: إن الإيمان في

اللغة التصديق. ولكن في هذا نظر؛ لأن الكلمة إذا كانت بمعنى الكلمة؛ فإنها تتعدى بتعديتها، ومعلوم أن التصديق يتعدى بنفسه، والإيمان لا يتعدى بنفسه؛ فتقول مثلًا: صدقته، ولا تقول: آمنته! بل تقول: آمنت به. أو: آمنت له. فلا يمكن أن نفسر فعلًا لازمًا لا يتعدى إلا بحرف الجر بفعل متعد ينصب المفعول به بنفسه، ثم إن كلمة (صدقت) لا تعطي معنى كلمة (آمنت)، فإن (آمنت) تدل على طمأنينة بخبره أكثر من (صدقت). ولهذا؛ لو فسر الإيمان بالإقرار؛ لكان أجود؛ فنقول: الإيمان: الإقرار، ولا إقرار إلا بتصديق؛ فتقول: أقرَّ به؛ كما تقول: آمن به، وأقرَّ له؛ كما تقول: آمن له. هذا في اللغة. * وأما في الشرع؛ فقال المؤلف: "قول وعمل". * وهذا تعريف مجمل فصله المؤلف بقوله: "قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح". * فجعل المؤلف للقلب قولًا وعملًا، وجعل للسان قولًا وعملًا. - أما قول اللسان؛ فالأمر فيه واضح، وهو النطق، وأما عمله؛ فحركاته، وليست هي النطق، بل النطق ناشئ عنها إن سلمت من الخرس.

- وأما قول القلب؛ فهو اعترافه وتصديقه. وأما عمله؛ فهو عبارة عن تحركه وإرادته؛ مثل الإخلاص في العمل؛ فهذا عمل قلب، وكذلك التوكل والرجاء والخوف؛ فالعمل ليس مجرد الطمأنينة في القلب، بل هناك حركة في القلب. - وأما عمل الجوارح؛ فواضح؛ ركوع، وسجود، وقيام، وقعود، فيكون عمل الجوارح إيمانًا شرعًا؛ لأن الحامل لهذا العمل هو الإيمان. * فإذا قال قائل: أين الدليل على أن الإيمان يشمل هذه الأشياء؟ قلنا: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره" (¬1)؛ فهذا قول القلب. أما عمل القلب واللسان والجوارح؛ فدليله قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمان بضع وسبعون شعبة: أعلاها: قول: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان" (¬2)؛ فهذا قول اللسان وعمله وعمل الجوارح، والحياء عمل قلبي، وهو انكسار يصيب الإنسان ويعتريه عند وجود ما يستلزم الحياء. فتبين بهذا أن الإيمان يشمل هذه الأشياء كلها شرعًا. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (1/ 54)، وهو عند مسلم (8). (¬2) رواه مسلم (35) من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ، وقد أخرجه البخاري (9) بلفظ: "الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان".

مخالفو أهل السنة والجماعة

ويدل لذلك أيضًا قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ قال المفسرون (¬1): أي: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ فسمى الله تعالى الصلاة إيمانًا؛ مع أنها عمل جوارح وعمل قلب وقول لسان. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة. * وشموله لهذه الأشياء الأربعة لا يعني أنه لا يتم إلا بها، بل قد يكون الإنسان مؤمنًا مع تخلف بعض الأعمال، لكنه ينقص إيمانه بقدر ما نقص من عمله. * وخالف أهل السنة في هذا طائفتان بدعيتان متطرفتان: الطائفة الأولى: المرجئة: يقولون: إن الإيمان هو الإقرار بالقلب، وما عدا ذلك؛ فليس من الإيمان!! ولهذا كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص عندهم؛ لأنه إقرار القلب، والناس فيه سواء؛ فالإنسان الذي يعبد الله آناء الليل والنهار كالذي يعصي الله آناء الليل والنهار عندهم، ما دامت معصيته لا تخرجه من الدين إ! فلو وجدنا رجلًا يزني ويسرق ويشرب الخمر ويعتدي على الناس، ورجلًا آخر متقيًا لله بعيدًا عن هذه الأشياء كلها؛ لكانا عند المرجئة في الإيمان والرجاء سواء؛ كل منهما لا يعذب؛ لأن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان. ¬

_ (¬1) انظر: "تفسير ابن كثير" (1/ 167)، و"الدر المنثور" (1/ 268).

الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية

الطائفة الثانية: الخوارج والمعتزلة؛ قالوا: إن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأنها شرط في بقائه، فمن فعل معصية من كبائر خرج من الإيمان. لكن الخوارج يقولون: إنه كافر، والمعتزلة يقولون: هو في منزلة بين منزلتين؛ فلا نقول: مؤمن، ولا نقول: كافر، بل نقول: خرج من الإيمان، ولم يدخل في الكفر، وصار في منزلة بين منزلتين. هذه أقوال الناس في الإيمان. * * * * قوله: "وَأنَّ الإيمانَ يَزيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالمَعْصِيَةِ". * هذا معطوف على قوله: "أن الدين ... " إلخ؛ أي: أن من أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص. * ويستدلون لذلك بأدلة من الكتاب والسنة: - فمن الكتاب: قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124]، وقوله تعالى: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31]، وهذا صريح في ثبوت الزيادة. - وأما النقص؛ فقد ثبت في "الصحيحين" (¬1) أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعظ النساء وقال لهن: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (304)، ومسلم (79)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.

أسباب زيادة الإيمان

للب الرجل الحازم من إحداكن"؛ فأثبت نقص الدين. ثم لو فرض أنه لم يوجد نص في ثبوت النقص؛ فإن إثبات الزيادة مستلزم للنقص؛ فنقول: كل نص يدل على زيادة الإيمان؛ فإنه متضمن للدلالة على نقصه. * وأسباب زيادة الإيمان أربعة: الأول: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته؛ فإنه كما ازداد الإنسان معرفة بالله وأسمائه وصفاته؛ ازداد إيمانه. الثاني: النظر في آيات الله الكونية والشرعية: قال الله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} [الغاشية: 17 - 20]. وقال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]. وكلما ازداد الإنسان علمًا بما أودع الله تعالى في الكون من عجائب المخلوقات ومن الحكم البالغات؛ ازداد إيمانًا بالله عز وجل، وكذلك النظر في آيات الله الشرعية يزيد الإنسان إيمانًا بالله عزَّ وجلَّ؛ لأنك إذا نظرت إلى الآيات الشرعية، وهي الأحكام التي جاءت بها الرسل؛ وجدت فيها ما يبهر العقول من الحكم البالغة والأسرار العظيمة التي تعرف بها أن هذه الشريعة نزلت من عند الله، وأنها مبنية على العدل والرحمة، فتزداد بذلك إيمانًا.

أسباب نقص الإيمان

الثالث: كثرة الطاعات وإحسانها، لأن الأعمال داخلة في الإيمان، وإذا كانت داخلة فيه؛ لزم من ذلك أن يزيد بكثرتها. السبب الرابع: ترك المعصية تقربًا إلى الله عزَّ وجلَّ، فإن الإنسان يزداد بذلك إيمانًا بالله عزَّ وجلَّ. * أسباب نقص الإيمان أربعة: الأول: الإعراض عن معرفة الله تعالى وأسمائه وصفاته. الثاني: الإعراض عن النظر في الآيات الكونية والشرعية؛ فإن هذا يوجب الغفلة وقسوة القلب. الثالث: قلة العمل الصالح، ويدل لذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في النساء: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبِّ الرجل الحازم من إحداكن". قالوا: يا رسول الله! كيف نقصان دينها؟ قال: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ " (¬1). الرابع: فعل المعاصي؛ لقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14]. * وخالف أهل السنة والجماعة في القول بالزيادة والنقصان طائفتان: الطائفة الأولى: المرجئة، والطائفة الثانية: الخوارج والمعتزلة. الطائفة الأولى: المرجئة: قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ¬

(¬1) تقدم تخريجه (2/ 233)، وهو في "الصحيحين".

ينقص؛ لأن الأعمال ليست من الإيمان، حتى يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها؛ فالإيمان هو إقرار القلب، والإقرار لا يزيد ولا ينقص. ونحن نرد عليهم فنقول: أولًا: إخراجكم الأعمال من الإيمان ليس بصحيح؛ فإن الأعمال داخلة في الإيمان، وقد سبق ذكر الدليل. ثانيًا: قولكم: إن الإقرار بالقلب لا يختلف زيادة ونقصًا: ليس بصحيح، بل الإقرار بالقلب يتفاضل، فلا يمكن لأحد أن يقول: إن إيماني كإيمان أبي بكر!! بل يتعدى ويقول: إن إيماني كإيمان الرسول عليه الصلاة والسلام!! ثم نقول: إن الإقرار بالقلب يقبل التفاضل؛ فإقرار القلب بخبر الواحد ليس كإقراره بخبر اثنين، وإقراره بما سمع ليس كإقراره بما شاهد؛ ألم تسمعوا قول إبراهيم: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260]؛ فهذا دليل على أن الإيمان الكائن في القلب يقبل الزيادة والنقص. ولهذا قسم العلماء درجات اليقين ثلاثة أقسام: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، قال الله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5 - 7]، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)} [الحاقة: 51]. الطائفة الثانية المخالفة لأهل السنة طائفة الوعيدية، وهذه الخوارج والمعتزلة، وسموا وعيدية، لأنهم يقولون بأحكام الوعيد

مخالفو أهل السنة والجماعة في القول بزيادة الإيمان ونقصانه أهل السنة والجماعة لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والذنوب

دون أحكام الوعد؛ أي: يغلبون نصوص الوعيد على نصوص الوعد، فيخرجون فاعل الكبيرة من الإيمان، لكن الخوارج يقولون: إنه خارج من الإيمان داخل في الكفر، والمعتزلة يقولون: خارج من الإيمان غير داخل في الكفر، بل هو في منزلة بين منزلتين. ومناقشة هاتين الطائفتين المرجئة والوعيدية في الكتب المطولات. * * * * قوله: "وَهُمْ مَعَ ذلِكَ"؛ أي: مع قولهم: إن الإيمان قول وعمل. * "لا يُكَفِّرونَ أهْلَ القِبْلَةِ بِمُطْلَقِ المَعاصي وَالكَبائِرِ". * أهل القبلة هم المسلمون، وإن كانوا عصاة؛ لأنهم يستقبلون قبلة واحدة، وهي الكعبة. * فالمسلم عند أهل السنة والجماعة لا يكفر بمطلق المعاصي والكبائر. * وتأمل قول المؤلف: "بمطلق المعاصي"، ولم يقل: بالمعاصي والكبائر؛ لأن المعاصي منها ما يكون كفرًا، وأما مطلق المعصية؛ فلا يكون كفرًا. والفرق بين الشيء المطلق ومطلق الشيء: أن الشيء المطلق يعني الكمال، ومطلق الشيء؛ يعني؛ أصل الشيء.

أدلة أهل السنة والجماعة

فالمؤمن الفاعل للكبيرة عنده مطلق الإيمان؛ فأصل الإيمان موجود عنده، لكن كماله مفقود. فكلام المؤلف رحمه الله دقيق جدًّا. * قوله: "كما يفعله الخوارج"؛ يعني: الذين يقولون: إن فاعل الكبيرة كافر، ولهذا خرجوا على المسلمين، واستباحوا دماءهم وأموالهم. * قوله: "بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي"؛ يعني: أن الأخوة بين المؤمنين ثابتة! ولو مع المعصية؛ فالزاني أخ للعفيف، والسارق أخ للمسروق منه، والقاتل أخ للمقتول. * * * * ثم استدل المؤلف لذلك فقال: "كَمَا قالَ سُبْحانَهُ في آيَةِ القِصاصِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 178] ": * آية القصاص هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ...} إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ...} الآية، والمراد بـ {أَخِيهِ} هو المقتول. ووجه الدلالة من هذه الآية على أن فاعل الكبيرة لا يكفر أن الله سمى المقتول أخًا للقاتل، مع أن قتل المؤمن كبيرة من كبائر الذنوب. * "وقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ

بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9، 10] ". وهذا دليل آخر لقول أهل السنة: إن فاعل الكبيرة لا يخرج من الإيمان. * {اقْتَتَلُوا} جمع، {بَيْنَهُمَا} مثنى، وهو {طَائِفَتَانِ} مثنى؛ فكيف يكون مثنى وجمع ومثنى آخر والمرجع واحد؟! نقول: لأن قوله: هو {طَائِفَتَانِ}: الطائفة عدد كبير من الناس، فيصح أن أقول: اقتتلوا، وشاهد هذا قوله تعالى: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]، ولم يقل: لم تصل. فالطائفة أمة وجماعة، ولهذا عاد الضمير إليها جمعًا؛ فيكون الضمير في قوله: {اقْتَتَلُوا} عائدًا إلى المعنى، وفي قوله: {بَيْنَهُمَا} عائدًا إلى اللفظ. فهاتان الطائفتان من المؤمنين اقتتلوا، وحمل السلاح بعضهم على بعض، وقتال المؤمن للمؤمن كفر، ومع هذا قال الله تعالى بعد أن أمر بالصلح بينهما للطائفة الثالثة التي لم تدخل القتال {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 9، 10]؛ فجعل الله تعالى الطائفة المصلحة إخوة للطائفتين المقتتلتين. وعلى هذا؛ ففي الآية دليل على أن الكبائر لا تخرج من

أهل السنة والجماعة لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية

الإيمان. * وعلى هذا؛ لو مررت بصاحب كبيرة، فإني أسلم عليه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر من حقوق المسلم على المسلم: "إذا لقيته، فسلم عليه" (¬1)، وهذا الرجل ما زال مسلمًا، فأسلم عليه، إلا إذا كان في هجره مصلحة؛ فحينئذ أهجره للمصلحة؛ كما جرى لكعب ابن مالك وصاحبيه الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، فهجرهم المسلمون خمسين ليلة حتى تاب الله عليهم (¬2). * وهل نحبه على سبيل الإطلاق أو نكرهه على سبيل الإطلاق؟ نقول: لا هذا ولا هذا، نحبه بما معه من الإيمان، ونكرهه بما معه من المعاصي، وهذا هو العدل. * * * * قوله: "ولا يسلبون الفاسق المِلِّي الإسلام بالكلية": * "الفاسق": هو الخارج عن الطاعة. * والفسق -كما أشرنا إليه سابقًا- ينقسم إلى فسق أكبر مخرج عن الإسلام، ومنه قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة: 20]، وفسق أصغر ليس مخرجًا عن الإسلام؛ ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (1240)، ومسلم (2162)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه، واللفظ لمسلم. (¬2) قصة كعب بن مالك؛ رواها البخاري (4418)، ومسلم (2769).

الإيمان قد يراد به مطلق الإيمان وقد يراد به الإيمان المطلق

كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6]. * والفاسق الذي لا يخرج من الإسلام هو الفاسق الملي، وهو من فعل كبيرة، أو أصر على صغيرة. ولهذا قال المؤلف: "المِلِّي"؛ يعني: المنتسب إلى الملة الذي لم يخرج منها. فأهل السنة والجماعة لا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية؛ فلا يمكن أن يقولوا: إن هذا ليس بمسلم، لكن يمكن أن يقولوا: إن هذا ناقص الإسلام أو ناقص الإيمان. * قوله: "ولا يخلدونه في النار": معطوف على قوله: "ولا يسلبون": وعلى هذا يكون قوله: "كما تقول المعتزلة": عائدًا للأمرين؛ لأن المعتزلة يسلبونه الإسلام ويخلدونه في النار، وإن كانوا لا يطلقون عليه الكفر. * قوله: "بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان المطلق": مراد المؤلف بـ "المطلق" هنا؛ يعني: إذا أطلق الإيمان؛ فالوصف يعود إلى الاسم لا إلى الإيمان؛ كما سيتبين من كلام المؤلف رحمه الله؛ فيكون المراد به مطلق الإيمان الشامل للفاسق والعدل. * قوله: "كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] "؛ فإن المؤمنة هنا يدخل فيه الفاسق. فلو أن إنسانًا اشترى رقيقًا فاسقًا وأعتقه في كفارة؛ أجزأه؛

مع أن الله قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}؛ فكلمة {مُؤْمِنَةٍ} تشمل الفاسق وغيره. * قوله: "وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق"؛ أي: في مطلق اسم الإيمان. * كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] "؛ فـ {إِنَّمَا} أداة حصر؛ يعني: ما المؤمنون إلا هؤلاء، والمراد بالمؤمنين؛ يعني: ذوي الإيمان المطلق الكامل. فلا يدخل في المؤمنين هنا الفساق؛ لأن الفاسق لو تلوت عليه آيات الله؛ ما زادته إيمانًا، ولو ذكرت الله له؛ لم يَوْجَل قلبه. فبين المؤلف أن الإيمان قد يراد به مطلق الإيمان، وقد يراد به الإيمان المطلق. فإذا رأينا رجلًا: إذا ذكر الله؛ لم يوجل قلبه، وإذا تليت عليه آياته؛ لم يزدد إيمانًا؛ فيصح أن نقول: إنه مؤمن، ويصح أن نقول: ليس بمؤمن؛ فنقول: مؤمن؛ أي: معه مطلق الإيمان؛ يعني: أصله، وليس بمؤمن؛ أي: ليس معه الإيمان الكامل. * قوله: "وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها

أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن" (¬1). هذا مثال ثان للإيمان الذي يراد به الإيمان المطلق، أي: الكامل. * قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن": هنا نفى عنه الإيمان الكامل حين زناه، أما بعد أن يفرغ من الزنى؛ فقد يؤمن؛ فقد يلحقه الخوف من الله بعد أن يتم الزنى فيتوب، لكن حين إقدامه على الزنى لو كان عنده إيمان كامل، ما أقدم عليه، بل إيمانه ضعيف جدًّا حين أقدم عليه. * وتأمل قوله: "حين يزني": احترازًا من أنه قبل الزنى وبعده تختلف حاله، لأن الإنسان ما دام لم يفعل الفاحشة، ولو هم بها، فهو على أمل ألا يقدم عليها. * وقوله: "ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن"، أي: كامل الإيمان، لأن الإيمان يردعه عن سرقته. * وقوله: "ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"، أي: كامل الإيمان. * "ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم": "ذات شرف"، أي: ذات قيمة عند الناس، ولهذا يرفعون إليه أبصارهم؛ فلا ينتهبها حين ينتهبها وهو مؤمن، أي: كامل الإيمان. ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (2475)، ومسلم (57)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الفرق بين الإيمان المطلق ومطلق الإيمان

هذه أربعة أشياء: الزنى (وهو الجماع في فرج حرام)، والسرقة (وهي أخذ المال المحترم على وجه الخفية من حرز مثله)، وشرب الخمر (والمراد تناوله بأكل أو شرب، والخمر كل ما أسكر على وجه اللذة والطرب)، والنهبة التي لها شرف وقيمة عند الناس (قيل: الانتهاب: أخذ المال على وجه الغنيمة)؛ لا يفعل هذه الأشياء الأربعة أحد وهو مؤمن بالله حين فعله لها. فالمراد بنفي الإيمان هنا: نفي تمام الإيمان. * * * * قول المؤلف: "ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم". * هذا بيان للوصف الذي يستحقه الفاسق الملي عند أهل السنة والجماعة. * والفرق بين مطلق الشيء والشيء المطلق: أن الشيء المطلق هو الشيء الكامل، ومطلق الشيء، يعني: أصل الشيء، وإن كان ناقصًا. فالفاسق المِلِّي لا يعطى الاسم المطلق في الإيمان، وهو الاسم الكامل، ولا يسلب مطلق الاسم؛ فلا نقول: ليس بمؤمن، بل نقول: مؤمن ناقص الإيمان، أو: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المذهب العدل

مخالفو أهل السنة والجماعة

الوسط. * وخالفهم في ذلك طوائف: - المرجئة، يقولون: مؤمن كامل الإيمان. - والخوارج، يقولون: كافر. - والمعتزلة، يقولون: في منزلة بين منزلتين.

فصل: في موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فصل في موقف أهل السنة والجماعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - * قوله: "ومن أصول أهل السنة والجماعة"؛ أي: من أسس عقيدتهم. * قوله: "سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": ولم يقل: وأفعالهم؛ لأن الأفعال متعذرة بعد موت الصحابة، حتى لو فرض أن أحدًا نبش قبورهم وأخرج جثثهم؛ فإن ذلك لا يؤذيهم ولا يضرهم، لكن الذي يمكن أن يكون بعد موت الصحابة نحوهم هو ما يكون في القلب وما ينطق به اللسان. * فمن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ سلامة القلب من البغض والغل والحقد والكراهة، وسلامة ألسنتهم من كل قول لا يليق بهم. فقلوبهم سالمة من ذلك، مملوءة بالحب والتقدير والتعظيم

أسباب محبتهم لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما يليق بهم. * فهم يحبون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويفضلونهم على جميع الخلق؛ لأن محبتهم من محبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من محبة الله، وألسنتهم أيضًا سالمة من السب والشتم واللعن والتفسيق والتكفير وما أشبه ذلك مما يأتي به أهل البدع؛ فإذا سلمت من هذا، ملئت من الثناء عليهم والترضي عنهم والترحم والاستغفار وغير ذلك، وذلك للأمور التالية: أولًا: أنهم خير القرون في جميع الأمم، كما صرح بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (¬1). ثانيًا: أنهم هم الواسطة بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين أمته؛ فمنهم تلقت الأمة عنه الشريعة. ثالثًا: ما كان على أيديهم من الفتوحات الواسعة العظيمة. رابعًا: أنهم نشروا الفضائل بين هذه الأمة من الصدق والنصح والأخلاق والآداب التي لا توجد عند غيرهم، ولا يعرف هذا من كان يقرأ عنهم من وراء جدر، بل لا يعرف هذا إلا من عاش في تاريخهم وعرف مناقبهم وفضائلهم وإيثارهم واستجابتهم لله ولرسوله. * فنحن نُشْهِد الله عزَّ وجلَّ على محبة هؤلاء الصحابة، ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (3651)، ومسلم (2533)؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

أدلة أهل السنة والجماعة

ونثني عليهم بألسنتنا بما يستحقون، ونبرأ من طريقين ضالين: طريق الروافض الذين يسبون الصحابة ويغلون في آل البيت، ومن طريق النواصب الذين يبغضون آل البيت. * ونرى أن لآل البيت إذا كانوا صحابة ثلاثة حقوق: حق الصحبة، وحق الإيمان، وحق القرابة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: "لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": سبق أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كل من اجتمع به مؤمنًا به ومات على ذلك، وسمي صاحبًا؛ لأنه إذا اجتمع بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا به؛ فقد التزم اتباعه، وهذا من خصائص صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أما غير الرسول؛ فلا يكون الشخص صاحبًا له حتى يلازمه ملازمة طويلة يستحق أن يكون بها صاحبًا. * * * * ثم استدل المؤلف رحمه الله لموقف أهل السنة بقوله: "كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] ". * هذه الآية بعد آيتين سابقتين هما قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8]، وعلى رأس هؤلاء المهاجرين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.

* ففي قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا}: إخلاص النية، وفي قوله: {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}: تحقيق العمل، وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} أي: لم يفعلوا ذلك رياء ولا سمعة، ولكن عن صدق نية. * ثم قال في الأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]؛ فوصفهم الله بأوصاف ثلاث: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}، {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}. * ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} الآية [الحشر: 10]:، وهم التابعون لهم بإحسان وتابعوهم إلى يوم القيامة؛ فقد أثنوا عليهم بالأخوة، وبأنهم سبقوهم بالإيمان، وسألوا الله أن لا يجعل في قلوبهم غلًّا لهم؛ فكل من خالف في ذلك وقدح فيهم ولم يعرف لهم حقهم؛ فليس من هؤلاء الذين قال الله عنهم: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا}. ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن قوم يسبون الصحابة؛ قالت: لا تعجبون! هؤلاء قوم انقطعت أعمالهم بموتهم، فأحب الله أن يجري أجرهم بعد موتهم (¬1)!! ¬

_ (¬1) لما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قيل لعائشة: "إن ناسًا يتناولون أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، حتى أبا بكر وعمر، فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم =

النهي عن سب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

* وقوله: {وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا}، ولم يقل: للذين سبقونا بالإيمان؛ ليشمل هؤلاء السابقين وغيرهم إلى يوم القيامة. * {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}: ولرأفتك ورحمتك نسألك المغفرة لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان. * * * * قوله: "وطاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "لا تسبوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده؛ لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" (¬1) ". * "طاعة": معطوف على قوله: "سلامة"؛ أي: من أصول أهل السنة والجماعة: طاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - ... إلخ. * السب: هو القدح والعيب؛ فإن كان في غيبة الإنسان؛ فهو غيبة. * وقوله: "أصحابي"؛ أي: الذين صحبوه، وصحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا شك أنها تختلف: صحبة قديمة قبل الفتح، وصحبة متأخرة بعد الفتح. والرسول عليه الصلاة والسلام كان يخاطب خالد بن الوليد ¬

_ = العمل فأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأجر"، ذكره ابنُ الأثير في "جامع الأصول" (8/ 554)، وعزاه لرزين!! (¬1) رواه: البخاري (3673)، ومسلم (2541)؛ من حديث أبي سعيد وأبي هريرة.

حين حصل بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ما حصل من المشاجرة في بني جذيمة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالد: "لا تسبوا أصحابي"، والعبرة بعموم اللفظ. ولا شك أن عبد الرحمن بن عوف وأمثاله أفضل من خالد بن الوليد رضي الله عنه من حيث سبقهم إلى الإسلام، لهذا قال: "لا تسبوا أصحابي"؛ يخاطب خالد بن الوليد وأمثاله. وإذا كان هذا بالنسبة لخالد بن الوليد وأمثاله؛ فما بالك بالنسبة لمن بعدهم. * وقوله: "فوالذي نفسي بيده؛ لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ... " إلخ. * أقسم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو الصادق البار بدون قسم: "لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه". * "أحد": جبل عظيم كبير معروف في المدينة. * والمد: ربع الصاع. * "ولا نصيفه"؛ أي: نصفه. قال بعضهم: من الطعام، لأن الذي يقدر بالمد والنصيف هو الطعام، أما الذهب فيوزن، وقال بعضهم: من الذهب؛ بقرينة السياق؛ لأنه قال: "لو أنفق مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه"، يعني: من الذهب. وعلى كل حال؛ فإن قلنا: من الطعام؛ فمن الطعام، وإن

فضائل ومراتب صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قلنا: من الذهب، فليكن من الذهب، ونسبة المد أو نصف المد من الذهب إلى جبل أحد من الذهب لا شيء. * فالصحابة رضي الله عنهم إذا أنفق الإنسان منا مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، والإنفاق واحد، والمنفَق واحد، والمنفَق عليه واحد، وكلهم بشر، لكن لا يستوي البشر بعضهم مع بعض، فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لهم من الفضائل والمناقب والإخلاص والاتباع ما ليس لغيرهم؛ فلإخلاصهم العظيم، واتباعهم الشديد، كانوا أفضل من غيرهم فيما ينفقون. * وهذا النهي يقتضي التحريم؛ فلا يحل لأحد أن يسب الصحابة على العموم، ولا أن يسب واحدًا منهم على الخصوص؛ فإن سبهم على العموم، كان كافرًا، بل لا شك في كفر من شك في كفره، أما إن سبهم على سبيل الخصوص؛ فينظر في الباعث لذلك؛ فقد يسبهم من أجل أشياء خَلْقية أو خُلُقية أو دينية، ولكل واحد من ذلك حكمه. * * * * قوله: "ويقبلون"؛ أي: أهل السنة. * قوله: "ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع من فضائلهم ومراتبهم": * الفضائل: جمع فضيلة، وهو ما يفضل به المرء غيره ويعد

منقبة له. * والمراتب: الدرجات؛ لأن الصحابة درجات ومراتب؛ كما سيذكرهم المؤلف رحمه الله. * فما جاء من فضائل الصحابة ومراتبهم؛ فإن أهل السنة والجماعة يقبلون ذلك: - فمثلًا يقبلون ما جاء عنهم من كثرة صلاة أو صدقة أو صيام أو حج أو جهاد أو غير ذلك من الفضائل. - ويقبلون مثلًا ما جاء في أبي بكر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حث على الصدقة، فجاء أبو بكر بجميع ماله (¬1)، وهذه فضيلة. - ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة من أن أبا بكر رضي الله عنه كان وحده صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هجرته في الغار. - ويقبلون ما جاء به النص من قول الرسول عليه الصلاة والسلام في أبي بكر: "إن من أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر" (¬2). - وكذلك ما جاء في عمر وفي عثمان وفي علي رضي الله عنهم، وما جاء في غيرهم من الصحابة من الفضائل؛ يقبلون هذا ¬

_ (¬1) رواه: أبو داود (1678)، والترمذي (3675)؛ وقال هذا حديث حسن صحيح. وحسنه الألباني في "المشكاة" (3/ 1700). (¬2) رواه: البخاري (3904)، ومسلم (2382)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

فضل من أنفق قبل الفتح وقاتل على من أنفق بعد وقاتل

كله. - وكذلك المراتب، فيقبلون ما جاء في مراتبهم؛ فالخلفاء الراشدون هم القمة في هذه الأمة في المرتبة، وأعلاهم مرتبة أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي؛ كما سيذكره المؤلف. * * * * قوله: "ويفضلون من أنفق من قبل الفتح -وهو صلح الحديبية- وقاتل على من أنفق من بعد وقاتل": * ودليل ذلك قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10]. فالذين أنفقوا وقاتلوا قبل صلح الحديبية أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكان صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة في ذي القعدة؛ فالذين أسلموا قبل ذلك وأنفقوا وقاتلوا أفضل من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا. * فإذا قال قائل: كيف نعرف ذلك؟ فالجواب: أن ذلك يعرف بتاريخ إسلامهم؛ كأن نرجع إلى "الإصابة في تمييز الصّحابة" لابن حجر أو "الاستيعاب في معرفة الأصحاب" لابن عبد البر أو غير ذلك من الكتب المؤلفة في الصّحابة رضي الله عنهم، ويعرف أن هذا أسلم من قبل أو أسلم من بعد.

فضل المهاجرين على الأنصار

* وقول المؤلف: "وهو صلح الحديبية": - هذا أحد القولين في الآية، وهو الصَّحيح، ودليله قصة خالد مع عبد الرحمن بن عوف، وقول البراء بن عازب: تعدون أنتم الفتح فتح مكّة، وقد كان فتح مكّة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية. رواه البُخاريّ (¬1). - وقيل: المراد فتح مكّة، وهو قول كثير من المفسرين أو أكثرهم (¬2). * * * * قوله: "ويقدمون المهاجرين على الأنصار": - المهاجرون: هم الذين هاجروا إلى المدينة في عهد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قبل فتح مكّة. - والأنصار هم الذين هاجر إليهم النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في المدينة. * وأهل السنة يقدمون المهاجرين على الأنصار لأنَّ المهاجرين جمعوا بين الهجرة والنصرة، والأنصار أتوا بالنصرة فقط. - فالمهاجرون تركوا أهلهم وأموالهم، وتركوا أوطانهم، وخرجوا إلى أرض هم فيها غرباء؛ كل ذلك هجرة إلى الله ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (4150). (¬2) انظر: "الدر المنثور" (6/ 58).

فضل أهل بدر

ورسوله، ونصرة لله ورسوله. - والأنصار أتاهم النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في بلادهم، ونصروا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أنهم منعوه ممَّا يمنعون منه أبناءهم ونساءهم. ودليل تقديم المهاجرين: قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]؛ فقدم المهاجرين على الأنصار، وقوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117]؛ فقدم المهاجرين، وقوله في الفيء: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. . .} [الحشر: 8]، ثم قال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9]. * * * * قوله: "ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر -وكانوا ثلاث مئة وبضعة عشر-: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم". * أهل بدر مرتبتهم من أعلى مراتب الصّحابة. * وبدر مكان معروف، كانت فيه الغزوة المشهورة، وكانت في السنة الثَّانية من الهجرة في رمضان، وسمى الله تعالى يومها يوم الفرقان. * وسببها أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - سمع أن أبا سفيان قدم بعير من الشام إلى مكّة، فندب أصحابه من أجل هذه العير فقط، فانتدب منهم ثلاث مئة وبضعة عشر رجلًا، معهم سبعون بعيرًا وفرسان،

وخرجوا من المدينة لا يريدون قتالًا، لكن الله عزَّ وجلَّ بحكمته جمع بينهم وبين عدوهم. فلما سمع أبو سفيان بذلك، وأن الرسول عليه الصَّلاة والسلام خرج إليه لتلقي العير؛ أخذ بساحل البحر، وأرسل صارخًا إلى أهل مكّة يستنجدهم، فانتدب أهل مكّة لذلك، وخرجوا بأشرافهم وكبرائهم وزعمائهم، خرجوا على الوصف الذي ذكر الله عزَّ وجلَّ: {بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ} [الأنفال: 47]. وفي أثناء ذلك جاءهم الخبر أن أبا سفيان نجا بالعير، فتآمروا بينهم في الرجوع، لكن أبا جهل قال: والله؛ لا نرجع حتى نقدم بدرًا، فنقيم فيها ننحر الجزور ونسقي الخمور وتضرب علينا القيان وتسمع بنا العرب؛ فلا يزالون يهابوننا أبدًا!! وهذا الكلام يدل على الفخر والخيلاء والاعتزاز بالنفس، ولكن -ولله الحمد- كان الأمر على عكس ما يقول؛ سمعت العرب بهزيمتهم النكراء، فهانوا في نفوس العرب!! قدموا بدرًا، والتقت الطائفتان، وأوحى الله تعالى إلى الملائكة: {أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 12 - 14]. حصل اللقاء بين الطائفتين، وكانت الهزيمة -ولله الحمد-

على المشركين، والنصر المبين للمؤمنين، انتصروا، وأسروا منهم سبعين رجلًا، وقتلوا سبعين رجلًا، منهم أربعة وعشرون رجلًا من كبرائهم وصناديدهم؛ سُحبوا، فأُلقوا في قليب من قُلب بدر خبيثة قبيحة. * ثم إن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بعد انتهاء الحرب بثلاثة أيَّام ركب ناقته، ووقف عليهم يدعوهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: "يا فلان ابن فلان! أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًّا؛ فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًّا". فقالوا: يا رسول الله! ما تُكلم من أجساد لا أرواح لها؟ فقال: "والذي نفسي بيده؛ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" (¬1). والنبي عليه الصَّلاة والسلام وقف عليهم توبيخًا وتقريعًا وتنديمًا، وهم قد وجدوا ما وعد الله حقًّا؛ قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} [الأنفال: 14]؛ فوجدوا النَّار من حين ماتوا وعرفوا أن الرسول حق، ولكن أنى لهم التناوش من مكان بعيد. * فأهل بدر الذين جعل الله على أيديهم هذا النصر المبين والفرقان الذي هاب العرب به رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وأصحابه، وكان لهم منزلة عظيمة بعد هذا النصر؛ اطلع الله عليهم، وقال: "اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم" (¬2)؛ فكل ما يقع منهم من ذنوب؛ فإنَّه ¬

_ (¬1) رواه: البُخاريّ (3976)، ومسلم (2874)؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) رواه: البُخاريّ (3007)، ومسلم (2494)؛ عن علي رضي الله عنه؛ في قصة =

فضل أصحاب الشجرة

مغفور؛ لهم؛ بسبب هذه الحسنة العظيمة الكبيرة التي جعلها الله تعالى على أيديهم. * وفي هذا الحديث دليل على أن ما يقع منهم من الكبائر مهما عظم؛ فهو مغفور لهم. * وفيه بشارة بأنهم لن يموتوا على الكفر؛ لأنهم مغفور لهم، وهذا يقتضي أحد أمرين: - إما أنهم لا يمكن أن يكفروا بعد ذلك. - وإما أنهم إن قدر أن أحدهم كفر؛ فسيوفق للتوبة والرجوع إلى الإسلام. وأيًّا كان؛ ففيه بشارة عظيمة لهم، ولم نعلم أن أحدًا منهم كفر بعد ذلك. * * * * قوله: "وبأنه لا يدخل النَّار أحد بايع تحت الشجرة؛ كما أخبر به النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، بل لقد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا ¬

_ = حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه. (¬1) لما رواه مسلم (2496)، عن جابر بن عبد الله يقول: أخبرتني أم مبشر أنها سمعت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول عند حفصة: "لا يدخل النَّار إن شاء الله من أصحاب الشجرة أحد الذين بايعوا تحتها"، ورواه أبو داود (4653)، والترمذي (3859) بنحوه.

أكثر من ألف وأربع مئة" (¬1). * أصحاب الشجرة هم أصحاب بيعة الرضوان. * وسبب هذه البيعة أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرج من المدينة إلى مكّة يريد العمرة، ومعه أصحابه والهدي، وكانوا نحو ألف وأربع مئة رجل، لا يريدون إلَّا العمرة، فلما بلغوا الحديبية، وهي مكان قرب مكّة، في طريق جدة الآن، بعضها من الحل وبعضها من الحرم، وعلم بذلك المشركون؛ منعوا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وأصحابه؛ لأنهم يزعمون أنهم أهل البيت وحماة البيت، {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إلا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال: 34]، وجرت بينهم وبينهم مفاوضات. وأرى الله تعالى من آياته في هذه الغزوة ما يدل على أن الأولى تنازل الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لما يترتب على ذلك من الخير والمصلحة؛ فإن ناقة الرسول عليه الصَّلاة والسلام بركت وأبت أن تسير، حتَّى قالوا: "خلأت القصواء"؛ يعني: حرنت وأبت المسير. فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مدافعًا عنها: "والله؛ ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل". ثم قال: "والذي نفسي بيده؛ لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله؛ إلَّا أعطيتهم إياها" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (4154) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. (¬2) رواه البُخاريّ (2731، 2732) عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم. قال الحافظ في "الفتح" (5/ 333): وهذه الرّواية بالنسبة إلى مروان مرسلة، لأنَّه لا =

جرى التفاوض، وأرسل النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - عثمان بن عفَّان، لأنَّ له رهطًا بمكة يحمونه؛ أرسله إلى أهل مكّة، يدعوهم إلى الإسلام، ويخبرهم أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - إنما جاء معتمرًا معظمًا للبيت، فشاع الخبر بأن عثمان قد قتل، وكبُر ذلك على المسلمين، فدعا النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - إلى البيعة، يبايع أصحابه على أن يقاتلوا أهل مكة الذين قتلوا رسول رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وكانت الرسل لا تقتل، فبايع الصّحابة رضي الله عنهم النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - على أن يقاتلوا ولا يفروا إلى الموت. وكان النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - تحت شجرة يبايع النَّاس؛ يمدُّ يده فيبايعونه على هذه البيعة المباركة التي قال الله عنها: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وكان عثمان رضي الله عنه غائبًا، فبايع النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بيده عن يد عثمان، وقال بيده اليمنى: "هذه يد عثمان". ثم تبيّن أن عثمان لم يقتل، وصارت الرسل تأتي وتروح بين رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وقريش، حتَّى انتهى الأمر على الصلح الذي صار فتحًا مبينًا للرسول عليه الصلاة والسلام. * هؤلاء الذين بايعوا قال الله عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 18 - 19]. ¬

_ = صحبة له، وأمَّا المسور فهي بالنسبة إليه أيضًا مرسلة، لأنَّه لم يحضر القصة ... وقد سمع المسور ومروان من جماعة من الصّحابة شهدوا هذه القصة.

الجمع بين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة وبين قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها. . . .}

* وكان من جملة المبايعين أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. فوصفهم الله تعالى بالإيمان، وهذه شهادة من الله عزَّ وجلَّ بأن كل من بايع تحت الشجرة؛ فهو مؤمن مرضي عنه، والنبي عليه الصَّلاة والسلام قال: "لا يدخل النَّار أحد بايع تحت الشجرة"؛ (¬1) فالرضى ثابت بالقرآن، وانتفاء دخول النَّار ثبت بالسنة. * وقول النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا يدخل النَّار أحد بايع تحت الشجرة" قد يقول قائل: كيف نجمع بينه وبين قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 71]؟ فالجمع من أحد وجهين: الأول: أن يقال: إن المفسرين اختلفوا في المراد بالورود، فقال بعضهم: هو المرور على الصراط؛ لأنَّ هذا نوع ورود بلا شك؛ كما في قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص: 23]، ومعلوم أنَّه لم ينزل وسط الماء، بل كان حوله وقريبًا منه، وبناء على هذا؛ لا إشكال ولا تعارض أصلًا. والوجه الثَّاني: أن من المفسرين من يقول: المراد بالورود الدخول، وأنه ما من إنسان إلَّا ويدخل النَّار، وبناء على هذا القول؛ فيحمل قوله: "لا يدخل النَّار أحد بايع تحت الشجرة": لا يدخلها دخول عذاب وإهانة، وإنَّما يدخلها تنفيذًا للقسم: {وَإِن ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (2/ 260).

مِنْكُمْ إلا وَارِدُهَا}، أو يقال: إن هذا من باب العام المخصوص بأهل بيعة الرضوان. * وقوله: "الشجرة": الشجرة هذه شجرة سدر، وقيل: شجرة سمر، ولا طائل تحت هذا الخلاف، كانت ذات ظل، فجلس النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تحتها يبايع النَّاس، وكانت موجودة في عهد الرسول عليه الصَّلاة والسلام وعهد أبي بكر رضي الله عنه وأول خلافة عمر، فلما قيل له: إن النَّاس يختلفون إليها -أي: يأتونها- يصلون عندها؛ أمر رضي الله عنه بقطعها، فقطعت. قال في "الفتح" (¬1): "وجدته عند ابن سعد بإسناد صحيح، لكن في "صحيح البُخاريّ" (¬2) عن ابن عمر رضي الله عنهما؛ قال: رجعنا من العام المقبل -يعني: بعد صلح الحديبية- فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التي بايعنا تحتها، كانت رحمة من الله. وهكذا قال المسيب والد سعيد: فلما خرجنا من العام المقبل؛ نسيناها، فلم نقدر عليها". وهذا لا ينافي ما ذكره ابن حجر عن ابن سعد؛ لأنَّ نسيانها لا يستلزم عدمها ولا عدم تذكرها بعد. والله أعلم. وهذه من حسنات عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ لأننا نظن ¬

_ (¬1) "فتح الباري" (7/ 448). (¬2) رواه: البُخاريّ (4162 و 4163) (2958) عن ابن عمر رضي الله عنه، ورواه أيضًا (4162 و 4163) عن والد سعيد بن المسيب.

الشهادة بالجنة لمن شهد له النبي - صلى الله عليه وسلم -

أن هذه الشجرة لو كانت باقية إلى الآن؛ لعبدت من دون الله. * * * * قوله: "ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ كالعشرة، وثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصّحابة". * "يشهدون"؛ أي: أهل السنة والجماعة. * والشهادة بالجنة نوعان: شهادة معلقة بوصف، وشهادة معلقة بالشخص. - أما المعلقة بالوصف؛ فأن نشهد لكل مؤمن أنَّه في الجنة، وكل متق أنَّه في الجنة؛ بدون تعيين شخص أو أشخاص. وهذه شهادة عامة، يجب علينا أن نشهد بها؛ لأنَّ الله تعالى أخبر به، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [لقمان: 8 - 9]، وقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133]. - وأمَّا الشهادة المعلقة بشخص معين؛ فأن نشهد لفلان أو لعدد معين أنهم في الجنة. وهذه شهادة خاصة؛ فنشهد لمن شهد له الرسول - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ سواء شهد لشخص معين واحد أو لأشخاص معينين. * مثال ذلك ما ذكره المؤلف بقوله: "كالعشرة"؛ يعني بهم: العشرة المبشرين بالجنة؛ لقبوا بهذا الاسم لأنَّ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - جمعهم

في حديث واحد، وهم: الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، وأبو عبيدة عامر بن الجراح، وانظر تراجمهم في المطولات. وقد جمع الستة الزائدون عن الخلفاء الأربعة في بيت واحد؛ فاحفظه: سَعيدٌ وَسَعْدٌ وَابْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةٌ ... وَعامِرُ فِهْرٍ وَالزُّبَيْرُ المُمَدَّحُ هؤلاء بشرهم النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في نسق واحد، فقال: "أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة ... " (¬1)، ولهذا لقبوا بهذا اللقب؛ فيجب أن نشهد أنهم في الجنة لشهادة النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بذلك. * قوله: "وثابت بن قيس بن شماس": ثابت بن قيس رضي الله عنه أحد خطباء النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، كان جهوري الصوت، فلما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]؛ خاف أن يكون حبط عمله وهو لا يشعر، فاختفى في بيته، ففقده النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسلام، فبعث إليه رجلًا يسأله عن اختفائه فقال: إن الله أنزل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا ¬

_ (¬1) رواه أحمد (1/ 187 و 188 و 189)، وأبو داود (4649)، والترمذي (3748)، وابن ماجه (134)، وابن حبان في "صحيحه" (10/ 6996)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 450)، وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (875).

أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}، وأنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حبط عملي، أنا من أهل النَّار!! فأتى الرجل إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بما قال ثابت، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اذهب إليه؛ فقل له إنك لست من أهل النَّار، ولكنك من أهل الجنة" (¬1)؛ فبشره النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالجنة. * قوله: "وغيرهم من الصّحابة": مثل أمهات المؤمنين؛ لأنهن في درجة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومنهم: بلال، وعبد الله بن سلام، وعكاشة بن محصن، وسعد بن معاذ، رضي الله عنهم (¬2). * * * ¬

_ (¬1) رواه: البُخاريّ (3613)، ومسلم (119)؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه. (¬2) - أما بلال؛ ففي حديث جابر عند مسلم (2457)؛ أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ قال: أريت الجنة، فرأيت امرأة أبي طلحة، ثم سمعت خشخشة أمامي؛ فإذا بلال. - وأمَّا عبد الله بن سلام؛ ففي حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عند البُخاريّ (1982) ومسلم (2481)؛ قال: ما سمعت النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة؛ إلَّا لعبد الله بن سلام. - وأمَّا عكاشة بن محصن؛ فقد دعا له النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأن يكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وذلك في حديث ابن عباس عند البُخاريّ (6541) ومسلم (220). - وأمَّا سعد بن معاذ؛ ففي حديث البراء عند البُخاريّ (3802) ومسلم (2468)؛ قال: أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلة حرير، فجعل أصحابه يلمسونها ويعجبون من لينها، فقال: أتعجبون من لين هذه؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه وألين.

خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر

* قوله: "ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره؛ من أن خير هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر". * التواتر: خبر يفيد العلم اليقيني، وهو الذي نقله طائفة لا يمكن تواطؤهم على الكذب. * ففي "صحيح البُخاريّ" (¬1) وغيره عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ قال: كُنَّا نخير بين النَّاس في زمن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؛ فنخير أبا بكر، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفَّان. * وفي "صحيح البُخاريّ" (¬2) أيضًا أن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: أي النَّاس خير بعد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكر. قلت: ثم من؟ قال: ثم عمر. وخشيت أن يقول: عثمان؛ قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلَّا رجل من المسلمين. فإذا كان علي رضي الله عنه يقول وهو في زمن خلافته: إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر؛ فقد اندحضت حجة الرافضة الذين فضلوه عليهما. * قوله: "وغيره"؛ يعني: غير علي من الصّحابة والتابعين. * وهذا متَّفقٌ عليه بين الأئمة. - قال الإمام مالك: ما رأيت أحدًا يشك في تقديمهما. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (3655). (¬2) رواه البُخاريّ (3671).

الأدلة على هذا الترتيب

- وقال الشَّافعي: لم يختلف الصحابة والتابعون في تقديم أبي بكر وعمر. ومن خرج عن هذا الإجماع؛ فقد اتبع غير سبيل المؤمنين. * قوله: "ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي؛ رضي الله عنهم؛ كما دلت عليه الآثار". * "يثلِّثون"؛ يعني: أهل السنة؛ أي: يجعلون عثمان هو الثالث. * "ويربِّعون بعلي"؛ أي: يجعلون عليًّا هو الرابع. * وعلى هذا؛ فأفضل هذه الأمة هؤلاء الأربعة: أبو بكر، ثم عمر، وهذا بالإجماع، ثم عثمان، ثم علي. * * * * ثم استدل المؤلف لهذا التَّرتيب بدليلين: الأول: قوله: "كما دلت عليه الآثار": وقد سبق ذكر شيء منها. والثاني: قوله: "وكما أجمع الصّحابة على تقديم عثمان في البيعة": فصار في تقديم عثمان على علي رضي الله عنهما آثار نقلية، وفيه أيضًا دليل عقلي، وهو إجماع الصّحابة على تقديم عثمان في البيعة؛ فإن إجماعهم على ذلك يستلزم أن عثمان أفضل من علي،

اختلاف أهل السنة والجماعة في المفاضلة بين عثمان وعلي

وهو كذلك؛ لأنَّ حكمة الله عزَّ وجلَّ تأبى أن يولِّي على خير القرون رجلًا وفيه من هو أفضل منه؛ كما جاء في الأثر: "كما تكونون يولَّى عليكم"، فخير القرون لا يولِّي الله عليهم إلَّا من هو خيرهم. * * * * قوله: "مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي رضي الله عنهما بعد اتفاقهما على تقديم أبي بكر وعمر، أيهما أفضل؟ فقدم قوم عثمان، وسكتوا، أو ربعوا بعلي": فيقولون: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ويسكتون، أو يقولون: ثم علي. * قال المؤلف: "وقدم قوم عليًّا"، فقالوا: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان. وهذا رأي من آراء أهل السنة. * قال المؤلف: "وقوم توقفوا"، فقالوا: أبو بكر، ثم عمر. وتوقفوا أيهما أفضل: عثمان أو علي؟ وهذا غير الرأي الأول. * فالآراء أربعة: - الرأي المشهور: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. - الرأي الثَّاني: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم السكوت. - الرأي الثالث: أبو بكر، ثم عمر، ثم علي، ثم عثمان.

- الرأي الرابع: أبو بكر، ثم عمر، ثم نتوقف أيهما أفضل: عثمان أو علي؛ فهم يقولون: لا نقول: عثمان أفضل، ولا علي أفضل، لكن لا نرى أحدًا يتقدم على عثمان وعلي في الفضيلة بعد أبي بكر وعمر. * قال المؤلف: "لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان ثم علي": هذا الذي استقر عليه أمر أهل السنة؛ فقالوا: أفضل هذه الأمة بعد نبيها: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي؛ على ترتيبهم في الخلافة. وهو الصواب؛ كما سبق دليله. * * * * قوله: "وإن كانت هذه المسألة -مسألة عثمان وعلي- ليست من الأصول التي يُضَلَّل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة". * يعني: المفاضلة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما ليست من أصول أهل السنة التي يضلل فيها المخالف؛ فمن قال: إن عليًّا أفضل من عثمان؛ فلا نقول: إنه ضال، بل نقول: هذا رأي من آراء أهل السنة، ولا نقول فيه شيئًا. * قوله: "لكن التي يُضَلَّل فيها مسألة الخلافة": فيجب أن نقول: الخليفة بعد نبينا في أمته أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي. ومن قال: إن الخلافة لعلي دون هؤلاء الثلاثة؛ فهو ضال،

ومن قال: إنَّها لعلي بعد أبي بكر وعمر، فهو ضال؛ لأنَّه مخالف لإجماع الصّحابة رضي الله عنهم. * ولهذا قال المؤلف: "وذلك أنهم يؤمنون أن الخليفة بعد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي". وهذا ما أجمع عليه أهل السنة في مسألة الخلافة. * قوله: "ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء، فهو أضل من حمار أهله". * الذي يطعن في خلافة أحد من هؤلاء، ويقول: إنه لا يستحق الخلافة! أو: إنه أحق ممن سبقه! فهو أضل من حمار أهله. وعبر المؤلف بهذا التعبير؛ لأنَّه تعبير الإمام أحمد رحمه الله، ولا شك أنَّه أضل من حمار أهله، وإنَّما ذكر الحمار؛ لأنَّه أبلد الحيوانات على الإطلاق؛ فهو أقل الحيوانات فهمًا؛ فالطعن في خلافة أحد من هؤلاء أو في ترتيبه طعنٌ في الصّحابة جميعًا. * فيجب علينا أن نعتقد بأن الخليفة بعد رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وأنهم في أحقية الخلافة على هذا التَّرتيب، حتَّى لا نقول: إن هناك ظلمًا في الخلافة؛ كما ادعته الرافضة حين زعموا أن أبا بكر وعمر وعثمان والصحابة كلهم ظلمة؛ لأنهم ظلموا علي بن أبي طالب؛ حيث اغتصبوا الخلافة منه.

من أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

* أما من بعدهم؛ فإننا لا نستطيع أن نقول: إن كل خليفة استخلفه الله على النَّاس؛ فهو أحق بالخلافة من غيره؛ لأنَّ من بعدهم ليسوا في خير القرون، بل حصل فيهم من الظلم والانحراف والفسوق ما استحقوا به أن يولى عليهم من ليس أحق بالخلافة منهم؛ كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام: 129]. * وأعلم أن التَّرتيب في الأفضلية على ما سبق لا يعني أن من فضل غيره؛ فإنَّه يفضله في كل شيء، بل قد يكون للمفضول فضيلة لم يشاركه فيها أحد، وتميز أحد هؤلاء الأربعة أو غيرهم بميزة يفضل بها غيره لا يدل على الأفضلية المطلقة؛ فيجب التَّفريق بين الإطلاق والتقييد. * * * * قوله: "وَيُحِبُّونَ أهْلَ بَيْتِ رَسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - وَيَتَولَّوْنَهُم". * أي: ومن أصول أهل السنة والجماعة أنهم يحبون آل بيت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ يحبونهم لأمرين: للإيمان، وللقرابة من رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، ولا يكرهونهم أبدًا. ولكن لا يقولون كما قال الرافضة: كل من أحب أبا بكر وعمر؛ فقد أبغض عليًّا!! وعلى هذا؛ فلا يمكن أن نحب عليًّا حتَّى نبغض أبا بكر وعمر!! وكأن أبا بكر وعمر أعداء لعلي بن أبي طالب!! مع أنَّه قد تواتر النقل عن علي رضي الله عنه أنَّه كان يثني عليهما على المنبر.

أزواجه - صلى الله عليه وسلم - من أهل بيته

فنحن نقول: إننا نشهد الله على محبة آل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقرابته؛ نحبهم لمحبة الله ورسوله. - ومن أهل بيته أزواجه بنص القرآن؛ قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33)} [الأحزاب: 28 - 33]؛ فأهل البيت هنا يدخل فيها أزواج الرسول عليه الصَّلاة والسلام بلا ريب. - وكذلك يدخل فيه قرابته؛ فاطمة وعلي والحسن والحسين وغيرهم كالعباس بن عبد المطّلب وأبنائه. فنحن نحبهم لقرابتهم من رسول الله عليه الصَّلاة والسلام، ولإيمانهم بالله. فإن كفروا؛ فإننا لا نحبهم، ولو كانوا من أقارب الرسول عليه الصَّلاة والسلام؛ فأبو لهب عم الرسول عليه الصَّلاة والسلام لا يجوز أن نحبه بأي حال من الأحوال، بل يجب أن نكرهه لكفره

المؤمنون من قرابته من أهل بيته

ولإيذائه النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، وكذلك أبو طالب؛ يجب علينا أن نكرهه لكفره، لكن نحب أفعاله التي أسداها إلى الرسول عليه الصَّلاة والسلام من الحماية والذب عنه. * قال المؤلف: "ويتولَّونهم"؛ أي: يجعلونهم من أوليائهم، والولي: يطلق على عدة معان، يطلق على الصِّديق، والقريب، والمتولِّي للأمر، وغير ذلك من الموالاة والنصرة. وهنا يشمل النصرة والصداقة والمحبة. * قوله: "ويحفظون فيهم وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ حيث قال يوم غدير خم: "أذكركم الله في أهل بيتي" (¬1) ". * "وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -"؛ أي: عهده الذي عهد به إلى أمته. * و "يوم غدير خم": هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة. وهذا الغدير ينسب إلى رجل يسمى (خم)، وهو في الطريق الذي بين مكّة والمدينة، قريب من الجحفة، نزل الرسول عليه الصَّلاة والسلام فيه منزلًا في رجوعه من حجة الوداع، وخطب النَّاس، وقال: "أذكركم الله في أهل بيتي"؛ ثلاثًا، يعني: اذكروا الله، اذكروا خوفه وانتقامه إن أضعتم حق آل البيت، واذكروا رحمته وثوابه إن قمتم في حقهم. * قوله: "وقال أيضًا للعباس عمه وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم؛ فقال: "والذي نفسي بيده، لا يؤمنون حتَّى ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2408) عن زيد بن أرقم رضي الله عنه.

بحبوكم لله ولقرابتي" (¬1) ". * "أيضًا": مصدر آض يئيض؛ أي: رجع، وهو مصدر لفعل محذوف، والمعنى: عودًا على ما سبق. * "يجفو": يترفع ويكره. * "هاشم": هو جد أبي الرسول صَلَّى الله عليه وعلي الله وسلم. * فأقسم - صَلَّى الله عليه وسلم - أنهم لا يؤمنون؛ أي: لا يتم إيمانهم؛ حتَّى يحبوكم لله، وهذه المحبة يشاركهم فيها غيرهم من المؤمنين؛ لأنَّ الواجب على كل إنسان أن يحب كل مؤمن لله. * لكن قال: "ولقرابتي": فهذا حب زائد على المحبة لله، ويختص به آل البيت قرابة النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسلام. * وفي قول العباس: "إن بعض قريش يجفو بني هاشم": دليل على أن جفاء آل البيت كان موجودًا منذ حياة النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، وذلك لأنَّ الحسد من طبائع البشر؛ إلَّا من عصمه الله عزَّ وجلَّ، ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (1/ 207)، وفي "فضائل الصّحابة" (1757)، عن العباس بلفظ: "والله لا يدخل قلب امرئ إيمان، حتَّى يحبكم لله ولقرابتي" عن يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف. ورواه الإمام أحمد في "فضائل الصّحابة" (1756)، بلفظ: "لن ينالوا خيرًا حتَّى يحبوكم لله ولقرابتي"، وإسناده ضعيف لإرساله. ورواه متصلًا طراد الزينبي في "أماليه" (88 ب)، كما نقله محقق "فضائل الصّحابة" وصي الله عباس (1756).

فكانوا يحسدون آل بيت الرسول عليه الصَّلاة والسلام على ما منَّ الله به عليهم من قرابة النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فيجفونهم ولا يقومون بحقهم. * قوله: "وقال: إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم" (¬1). وهذا دليل على أن بني هاشم مصطفون عند الله، مختارون من خلقه. * فعقيدة أهل السنة والجماعة بالنسبة لآل البيت: أنهم يحبونهم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية الرسول - صَلَّى الله عليه وسلم - في التذكير بهم، ولا ينزلونهم فوق منزلتهم، بل يتبرؤون ممن يغلون فيهم، حتَّى يوصلوهم إلى حد الألوهية؛ كما فعل عبد الله بن سبأ في علي بن أبي طالب حين قال له: أنت الله! والقصة مشهورة. * و"إسماعيل": هو ابن إبراهيم الخليل، وهو الذي أمر الله إبراهيم بذبحه، وقصته في سورة الصافات. * و "كنانة": هو الأب الرابع عشر لرسول الله صَلَّى الله عليه وعلى آله وسلم. * و "قريش": هو الأب الحادي عشر لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وهو فهر بن مالك، وقيل: الأب الثالث عشر، وهو النضر بن كنانة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2276)، والترمذي (3609 و 3612)؛ من حديث واثلة بن الأسقع رضي الله عنه.

اصطفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم

* و "هاشم": هو الأب الثالث لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * * قوله: "ويتولون أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين": * قوله: "أمهات المؤمنين": هذه صفة لـ "أزواج"؛ فأزواج النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أمهات لنا في الإكرام والاحترام والصلة؛ قال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]؛ فنحن نتولاهن بالنصرة والدفاع عنهن واعتقاد أنهن أفضل أزواج أهل الأرض؛ لأنهن زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم -. * قوله: "ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة": لأحاديث وردت في ذلك، ولقوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر: 7 - 8] فقال: {وَأَزْوَاجِهِمْ}؛ فأثبت الزوجية لهن بعد دخول الجنة، وهذا يدل على أن زوجة الإنسان في الدُّنيا تكون زوجته في الآخرة إذا كانت من أهل الجنة. * * * * قوله: "خصوصًا خديجة رضي الله عنها أم أكثر أولاده": * "خصوصًا خديجة رضي الله عنها": "خصوصًا": مصدر

محذوف العامل؛ أي: أخص خصوصًا. * "خديجة" بنت خويلد: تزوجها النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أول ما تزوج، وكان عمره حينذاك خمسًا وعشرين سنة، وعمرها أربعين سنة، وكانت امرأة عاقلة، وانتفع بها - صَلَّى الله عليه وسلم - انتفاعًا كثيرًا؛ لأنها امرأة ذات عقل وذكاء، ولم يتزوج عليها أحدًا. * فكانت كما قال المؤلف: "أم أكثر أولاده": البنين والبنات، ولم يقل المؤلف: أم أولاده؛ لأنَّ من أولاده من ليس منها، وهو إبراهيم؛ فإنَّه كان من مارية القبطية. وأولاده الذين من خديجة هم ابنان وأربع بنات: القاسم، ثم عبد الله، ويقال له: الطَّيِّب، والطاهر. وأمَّا البنات؛ فهن: زينب، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية. وأكبر أولاده القاسم، وأكبر بناته زينب. * قوله: "وأول من آمن به وعاضده على أمره": لا شك أنها أول من آمن به؛ لأنَّ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - لما جاءها وأخبرها بما رأى في غار حراء؛ قالت: كلا؛ والله لا يخزيك الله أبدًا. وآمنت به، وذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وقصت عليه الخبر، وقال له: إن هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى (¬1). "الناموس": أي: صاحب السر. فآمن به ورقة. ¬

_ (¬1) رواه: البُخاريّ (3)، ومسلم (160)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

فضل عائشة -رضي الله عنها-

ولهذا نقول: أول من آمن به من النساء خديجة، ومن الرجال ورقة بن نوفل. * قوله: "وعاضده على أمره"؛ أي: ساعده، ومن تدبر السيرة؛ وجد لأم المؤمنين خديجة رضي الله عنها من معاضدة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما لم يحصل لغيرها من نسائه. * قوله: "وكان لها منه المنزلة العالية": حتَّى إنه كان يذكرها بعد موتها صلوات الله وسلامه عليه، ويرسل بالشيء إلى صديقاتها، ويقول: "إنَّها كانت وكانت وكان لي منها ولد" (¬1)؛ فكان يثني عليها، وهذا يدل على عظم منزلتها عند الرسول - صلى الله عليه وسلم -. * قوله: "والصديقة بنت الصِّديق رضي الله عنها": أما كونها صديقة؛ فلكمال تصديقها لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، ولكمال صدقها في معاملته، وصبرها على ما حصل من الأذى في قصة الإفك، ويدلك على صدقها وصدق إيمانها بالله أنَّه لما نزلت براءتها؛ قالت: إنِّي لا أحمد غير الله. وهذا يدل على كمال إيمانها وصدقها. وأمَّا كونها بنت الصِّديق؛ فكذلك أيضًا؛ فإن أباها رضي الله عنه هو الصِّديق في هذه الأمة، بل صديق الأمم كلها؛ لأنَّ هذه الأمة أفضل الأمم؛ فإذا كان صديق هذه الأمة؛ فهو صديق غيرها من الأمم. ¬

_ (¬1) رواه: البُخاريّ (3818)، عن عائشة رضي الله عنها.

المفاضلة بين خديجة وعائشة -رضي الله عنهما-

* قوله: "التي قال فيها النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطَّعام"". * قوله: "على النساء": ظاهره العموم؛ أي: على جميع النساء. وقيل: إن المراد: فضل عائشة على النساء؛ أي: من أزواجه اللاتي على قيد الحياة؛ فلا تدخل في ذلك خديجة. * لكن ظاهر الحديث العموم؛ لأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلَّا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطَّعام"، وقد أخرجه الشيخان (¬1) بدون ذكر خديجة. وهذا يدل على أنها أفضل النساء مطلقًا. * ولكن ليست أفضل من فاطمة باعتبار النسب؛ لأنَّ فاطمة بلا شك أشرف من عائشة نسبًا. وأمَّا منزلة؛ فإن عائشة رضي الله عنها لها من الفضائل العظيمة ما لم يدركه أحد غيرها من النساء. * وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هاتين الزوجين رضي الله عنهما في منزلة واحدة؛ لأنَّه قال: "خصوصًا خديجة ... والصديقة"، ولم يقل: ثم الصديقة. * والعلماء اختلفوا في هذه المسألة: ¬

_ (¬1) رواه: البُخاريّ (3769)، ومسلم (2431)؛ عن أبي موسى الأشعري. وزيادة خديجه عزاها الحافظ في الفتح (6/ 447) للطبراني وأبي نعيم في "الحلية".

البراءة من طريقة الروافض والنواصب

- فقال بعض العلماء: خديجة أفضل؛ لأنَّ لها مزايا لم تلحقها عائشة فيها. - وقال بعض العلماء: بل عائشة أفضل؛ لهذا الحديث، ولأن لها مزايا لم تلحقها خديجة فيها. - وفصل بعض أهل العلم؛ فقال: إن لكل منهما مزية لم تلحقها الأخرى فيها؛ ففي أول الرسالة لا شك أن المزايا التي حصلت عليها خديجة لم تلحقها فيها عائشة، ولا يمكن أن تساويها، وبعد ذلك، وبعد موت الرسول - صَلَّى الله عليه وسلم -، حصل من عائشة من نشر العلم ونشر السنة وهداية الأمة ما لم يحصل لخديجة؛ فلا يصح أن تفضَّل إحداهما على الأخرى تفضيلًا مطلقًا، بل نقول: هذه أفضل من وجه، وهذه أفضل من وجه، ونكون قد سلكنا مسلك العدل؛ فلم نهدر ما لهذه من المزية، ولا ما لهذه من المزية، وعند التفصيل يحصل التحصيل. وهما وبقية أزواج الرسول في الجنة معه. * * * * قوله: "ويتبرؤون من طريقة الروافض الدين يبغضون الصّحابة ويسبونهم": * الروافض: طائفة غلاة في علي بن أبي طالب وآل البيت، وهم من أضل أهل البدع، وأشدهم كرهًا للصحابة رضي الله عنهم، ومن أراد معرفة ما هم عليه من الضلال؛ فليقرأ في كتبهم

وفي كتب من رد عليهم. وسموا روافض لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عندما سألوه عن أبي بكر وعمر، فأثنى عليهما، وقال: هما وزيرا جدي. * أما النواصب؛ فهم الذين ينصبون العداء لآل البيت، ويقدحون فيهم، ويسبونهم؛ فهم على النقيض من الروافض. * فالروافض اعتدوا على الصّحابة بالقلوب والألسن. - ففي القلوب يبغضون الصّحابة ويكرهونهم؛ إلَّا من جعلوهم وسيلة لنيل مآربهم وغلوا فيهم، وهم آل البيت. - وفي الألسن يسبونهم فيلعنونهم ويقولون: إنهم ظلمة! ويقولون: إنهم ارتدوا بعد النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلَّا قليلًا، إلى غير ذلك من الأشياء المعروفة في كتبهم. * وفي الحقيقة إن سب الصّحابة رضي الله عنهم ليس جرحًا في الصّحابة رضي الله عنهم فقط، بل هو قدح في الصّحابة وفي النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وفي شريعة الله وفي ذات الله عزَّ وجلَّ: - أما كونه قدحًا في الصّحابة؛ فواضح. - وأمَّا كونه قدحًا في رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -؛ فحيث كان أصحابه وأُمناؤه وخلفاؤه على أمته من شرار الخلق، وفيه قدح في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجه آخر، وهو تكذيبه فيما أخبر به من فضائلهم ومناقبهم.

الإمساك عما شجر بين الصحابة

- وأمَّا كونه قدحًا في شريعة الله؛ فلأن الواسطة بيننا وبين رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في نقل الشريعة هم الصّحابة، فإذا سقطت عدالتهم؛ لم يبق ثقة فيما نقلوه من الشريعة. - وأمَّا كونه قدحًا في الله سبحانه؛ فحيث بعث نبيه - صلى الله عليه وسلم - في شرار الخلق، واختارهم لصحبته وحمل شريعته ونقلها لأمته!! فانظر ماذا يترتب من الطوام الكبرى على سب الصّحابة رضي الله عنهم. * ونحن نتبرأ من طريقة هؤلاء الروافض الذين يسبون الصّحابة ويبغضونهم، ونعتقد أن محبتهم فرض، وأن الكف عن مساوئهم فرض، وقلوبنا -ولله الحمد- مملوءة من محبتهم؛ لما كانوا عليه من الإيمان والتقوى ونشر العلم ونصرة النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -. * * * * قوله: "وطريقة النواصب الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل". * يعني: يتبرأ أهل السنة والجماعة من طريقة النواصب. وهؤلاء على عكس الروافض، الذين يغلون في آل البيت، حتَّى يخرجوهم عن طور البشرية إلى طور العصمة والولاية. أما النواصب؛ فقابلوا البدعة ببدعة، فلما رأوا الرافضة يغلون في آل البيت؛ قالوا: إذًا؛ نبغض آل البيت ونسبهم؛ مقابلة لهؤلاء في الغلو في محبتهم والثناء عليهم، ودائمًا يكون الوسط هو خير

الأمور؛ ومقابلة البدعة ببدعة لا تزيد البدعة إلَّا قوة. * * * * قوله: "ويمسكون عما شجر بين الصّحابة"؛ يعني: عما وقع بينهم من النزاع. * فالصحابة رضي الله عنهم وقعت بينهم بعد مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه نزاعات، واشتد الأمر بعد مقتل عثمان، فوقع بينهم ما وقع، ممَّا أدى إلى القتال. وهذه القضايا مشهورة، وقد وقعت -بلا شك- عن تأويل واجتهاد، كل منهم يظن أنَّه على حق، ولا يمكن أن نقول: إن عائشة والزبير بن العوام قاتلا عليًّا رضي الله عنهم أجمعين وهم يعتقدون أنهم على باطل، وأن عليًّا على حق. واعتقادهم أنهم على حق لا يستلزم أن يكونوا قد أصابوا الحق. ولكن إذا كانوا مخطئين، ونحن نعلم أنهم لن يقدموا على هذا الأمر إلَّا عن اجتهاد؛ فإنَّه ثبت عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجر" (¬1)؛ فنقول: هم مخطئون مجتهدون؛ فلهم أجر واحد. ¬

_ (¬1) رواه: البُخاريّ (7352)، ومسلم (1716)؛ عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

موقف أهل السنة والجماعة من الآثار المروية في مساوئ الصحابة

* فهذا الذي حصل موقفنا نحن منه له جهتان: الجهة الأولى: الحكم على الفاعل. والجهة الثَّانية: موقفنا من الفاعل. - أما الحكم على الفاعل؛ فقد سبق، وأن ما ندين الله به أن ما جرى بينهم؛ فهو صادر عن اجتهاد، والاجتهاد إذا وقع فيه الخطأ؛ فصاحبه معذور مغفور له. - وأمَّا موقفنا من الفاعل؛ فالواجب علينا الإمساك عما شجر بينهم، لماذا نتخذ من فعل هؤلاء مجالًا للسب والشتم والوقيعة فيهم والبغضاء بيننا؛ ونحن في فعلنا هذا إما آثمون وإما سالمون، ولسنا غانمين أبدًا؟! * فالواجب علينا تجاه هذه الأمور أن نسكت عما جرى بين الصّحابة، وأن لا نطالع الأخبار أو التآريخ في هذه الأمور؛ إلَّا المراجعة للضرورة. * * * * قوله: "ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساويهم؛ منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه الصريح". * قسم المؤلف الآثار المروية في مساويهم ثلاثة أقسام: - منها ما هو كذب محض لم يقع منهم، وهذا يوجد كثيرًا فيما يرويه النواصب في آل البيت وما يرويه الروافض في غير آل البيت.

- ومنها شيء له أصل، لكن زيد فيه ونقص وغيِّر عن وجهه. وهذان القسمان كلاهما يجب رده. - القسم الثالث: ما هو صحيح؛ فماذا نقول فيه؟ بينه المؤلف بقوله: * "والصحيح منه هم فيه معذورون: إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون". * والمجتهد إن أصاب؛ فله أجران، وإن أخطأ؛ فله أجر واحد؛ لقول النَّبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم: "إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم، فاجتهد، ثم أخطأ؛ فله أجر" (¬1). * فما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما صادر عن اجتهاد وتأويل. لكن لا شك أن عليًّا أقرب إلى الصواب فيه من معاوية، بل قد نكاد نجزم بصوابه؛ إلَّا أن معاوية كان مجتهدًا. * ويدل على أن عليًّا أقرب إلى الصواب أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويح عمار! تقتله الفئة الباغية" (¬2)؛ فكان الذي قتله أصحاب ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (2/ 285)، وهو في "الصحيحين". (¬2) رواه: البُخاريّ (447)، ومسلم (2915)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

الصحابة غير معصومين من الكبائر والصغائر

معاوية، وبهذا عرفنا أنها فئة باغية خارجة على الإمام، لكنهم متأولون، والصّواب مع علي إما قطعًا وإما ظنًّا. * * * - وهناك قسم رابع، وهو ما وقع منهم من سيئات حصلت لا عن اجتهاد ولا عن تأويل: فبينه المؤلف بقوله: * "وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصّحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره". * لا يعتقدون ذلك؛ لقوله صَلَّى الله عليه وعلى آله وسلم: "كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون" (¬1). ولكن العصمة في إجماعهم؛ فلا يمكن أن يجمعوا على شيء من كبائر الذنوب وصغائرها فيستحلوها أو يفعلوها. لكن الواحد منهم قد يفعل شيئًا من الكبائر؛ كما حصل من مِسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش في قصة الإفك (¬2)، ولكن هذا الذي حصل تطهروا منه بإقامة الحد عليهم. ¬

_ (¬1) رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 198)، والترمذي (2499)، والدارمي (2627)، وابن ماجه (4251)، والحاكم (4/ 244)؛ عن أنس بن مالك، وحسنه الألباني في "المشكاة" (2341). (¬2) حديث الإفك؛ رواه البُخاريّ (4757)، ومسلم (2770)؛ عن عائشة رضي الله عنها.

الصحابة خير القرون

* قوله: "بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة"؛ يعني: كغيرهم من البشر. * * * لكن يمتازون عن غيرهم بما قال المؤلف رحمه الله: * "ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر". * هذا من الأسباب التي يمحو الله بها عنهم ما فعلوه من الصغائر أو الكبائر، وهو ما لهم من السوابق والفضائل التي لم يلحقهم فيها أحد؛ فهم نصروا النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسلام، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم، وبذلوا رقابهم لإعلاء كلمة الله؛ فهذه توجب مغفرة ما صدر منهم، ولو كان من أعظم الذنوب، إذا لم يصل إلى الكفر. * ومن ذلك قصة حاطب بن أبي بلتعة حين أرسل إلى قريش يخبرهم عن مسير النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم، حتَّى أطلع الله نبيه على ذلك، فلم يصلهم الخبر، فاستأذن عمر النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يضرب عنق حاطب، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنه شهد بدرًا، وما يدريك؟ لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم! " (¬1). * قوله: "حتَّى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم، لأنَّ لهم من الحسنات التي تمحوا السيئات ما ليس لمن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (2/ 259)، وهو في "الصحيحين" عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به؛ كان أفضل من جبل أحد ذهبًا ممن بعدهم". * وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير النَّاس قرني" (¬1)، وفي قوله: "لا تسبُّوا أصحابي؛ فوالذي نفسي بيده؛ لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا؛ ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" (¬2). * قوله: "ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب؛ فيكون قد تاب منه": يعني: وإذا تاب منه؛ ارتفع عنه وباله ومعرته؛ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا. . .} إلى قوله: {إلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 68 - 70]، ومن تاب من الذنب كان كمن لا ذنب له؛ فلا يؤثر عليه. * قوله: "أو أتى بحسنات تمحوه"؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. * قوله: "أو غفر له بفضل سابقته": لقوله تعالى في الحديث القدسي في أهل بدر: "اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم". ¬

_ (¬1) سبق تخريجه (2/ 248)، وهو في "الصحيحين"؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) سبق تخريجه (2/ 251)، وهو في "الصحيحين"؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

الأسباب التي ترفع القدح في الصحابة

* قوله: "أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هم أحق النَّاس بشفاعته". وقد سبق أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يشفع في أمته، والصحابة رضي الله عنهم أحق النَّاس في ذلك. * قوله: "أو ابتلي ببلاء في الدُّنيا كفر به عنه": فإن البلاء في الدُّنيا يكفر الله به السيئات؛ كما أخبر بذلك النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله: "ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه؛ إلَّا حط الله به سيئاته؛ كما تحط الشجرة ورقها" (¬1)، والأحاديث في هذا مشهورة كثيرة. * قوله: "فإذا كان هذا في الذنوب المحققة؛ فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين: إن أصابوا؛ فلهم أجران، وإن أخطؤوا؛ فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور"، وسبق دليله؛ فتكون هذه من باب أولى ألا تكون سببًا للقدح فيهم والعيب. * فهذه الأسباب التي ذكرها المؤلف ترفع القدح في الصّحابة، وهي قسمان: الأول: خاص بهم، وهو ما لهم من السوابق والفضائل. والثاني: عام، وهي التوبة، والحسنات الماحية، وشفاعة النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والبلاء. ¬

_ (¬1) رواه البُخاريّ (5660)، ومسلم (2571)؛ عن ابن مسعود رضي الله عنه.

فضائل ومناقب الصحابة

* قوله: "ثم إن القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم": * القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل جدًّا نزر أقل القليل، ولهذا قال: "مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم". * ولا شك أنَّه حصل من بعضهم سرقة وشرب خمر وقذف وزنى بإحصان وزنى بغير إحصان، لكن كل هذه الأشياء تكون مغمورة في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، وبعضها أقيم فيه الحدود، فيكون كفارة. * ثم بين المؤلف رحمه الله شيئًا من فضائلهم ومحاسنهم بقوله: * "من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح". فكل هذه مناقب وفضائل معلومة مشهورة، تغمر كل ما جاء من مساوئ القوم المحققة؛ فكيف بالمساوئ غير المحققة أو التي كانوا فيها مجتهدين متأولين. * * * * قوله: "ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما من الله عليهم به من الفضائل؛ علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء": هذا بالإضافة إلى ما ثبت عن النَّبيِّ صلي الله عليه وعلى آله وسلم من قوله: "خير النَّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين

يلونهم". أخرجه البُخاريّ ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (¬1). وعلى هذا تثبت خيريتهم على غيرهم من أتباع الأنبياء بالنص والنظر في أحوالهم. فإذا نظرت بعلم وبصيرة وإنصاف في محاسن القوم وما أعطاهم الله من الفضائل؛ علمت يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء؛ فهم خير من الحواريين أصحاب عيسى، وخير من النقباء أصحاب موسى، وخير من الذين آمنوا مع نوح ومع هود وغيرهم، لا يوجد أحد في أتباع الأنبياء أفضل من الصّحابة رضي الله عنهم، والأمر في هذا ظاهر معلوم؛ لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وخيرنا الصّحابة، ولأن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - خير الخلق؛ فأصحابه خير الأصحاب بلا شك. هذا عند أهل السنة والجماعة، أما عند الرافضة؛ فهم شر الخلق؛ إلَّا من استثنوا منهم. * قوله: "لا كان ولا يكون مثلهم"؛ أي: ما وجد ولا يوجد مثلهم؛ لقوله عليه الصَّلاة والسلام: "خير النَّاس قرني"؛ فلا يوجد على الإطلاق مثلهم رضي الله عنهم لا سابقًا ولا لاحقًا. * قوله: "وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة، التي هي خير الأمم وأكرمها على الله عزَّ وجلَّ": ¬

_ (¬1) تقدم (2/ 248).

- أما كون هذه الأمة خير الأمم؛ فلقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]، ولأن النَّبيَّ صَلَّى الله عليه وعلى آله وسلم خير الرسل؛ فلا جرم أن تكون أمته خير الأمم. - وأمَّا كون الصّحابة صفوة قرون الأمة؛ فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير النَّاس قرني" (¬1)، وفي لفظ: "خير أمتي قرني" (¬2)، والمراد بقرنه: الصّحابة، وبالذين يلونهم: التابعون، وبالذين يلونهم: تابعو التّابعين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والاعتبار بالقرون الثلاثة بجمهور أهل القرن، وهم وسطه، وجمهور الصّحابة انقرضوا بانقراض خلافة الخلفاء الأربعة، حتَّى إنه لم يكن بقي من أهل بدر إلَّا نفر قليل، وجمهور التّابعين بإحسان انقرضوا في أواخر عصر أصاغر الصّحابة في إمارة ابن الزُّبير وعبد الملك وجمهور تابعي التّابعين في أواخر الدولة الأموية وأوائل الدولة العباسية" اهـ. وكان آخر الصّحابة موتًا أبو الطفيل عامر بن واثلة الليثي سنة مئة من الهجرة، وقيل: مئة وعشر. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (2/ 248)، وهو في "الصحيحين"، عن ابن مسعود رضي الله عنه. (¬2) رواه البُخاريّ (3650)؛ عن عمران بن حصين رضي الله عنهما.

قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (¬1): "واتفقوا أن آخر من كان من أتباع التّابعين ممن يقبل قوله من عاش إلى حدود العشرين ومئتين". * * * ¬

_ (¬1) "الفتح" (7/ 6).

فصل: في كرامات الأولياء

فصل في كرامات الأولياء كرامات الأولياء مسألة هامة ينبغي أن يعرف الحق فيها من الباطل؛ هل هي حقيقة ثابتة، أو هي من باب التخيلات؟ فبين المؤلف رحمه الله قول أهل السنة فيها بقوله: * "ومن أصول أهل السنة: التصديق بكرامات الأولياء": * فمن هم الأولياء؟ والجواب: أنّ الله بيّنهم بقوله: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 63]. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من كان مؤمنًا تقيًّا؛ كان لله وليًّا". ليست الولاية بالدعوى والتمني، الولاية إنَّما هي بالإيمان والتقوى؛ فلو رأينا رجلًا يقول: إنه ولي! ولكنه غير متق لله تعالى؛ فقوله مردود عليه.

تعريف الكرامة

* أما الكرامات؛ فهي جمع كرامة، والكرامة أمر خارق للعادة، يجريه الله تعالى على يد ولي؛ تأييدًا له، أو إعانة، أو تثبيتًا، أو نصرًا للدين. - فالرجل الذي أحيا الله تعالى له فرسه، وهو صلة بن أشيم، بعد أن ماتت، حتَّى وصل إلى أهله، فلما وصل إلى أهله؛ قال لابنه: ألق السرج عن الفرس؛ فإنَّها عرية! فلما ألقى السرج عنها؛ سقطت ميتة (¬1). فهذه كرامة لهذا الرجل إعانة له. - أما التي لنصرة الإسلام؛ فمثل الذي جرى للعلاء بن الحضرمي رضي الله عنه في عبور ماء البحر، وكما جرى لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في عبور نهر دجلة، وقصتهما مشهورة في التاريخ. فالكرامة أمر خارق للعادة. أما ما كان على وفق العادة؛ فليس بكرامة. * وهذا الأمر إنَّما يجريه الله على يد ولي؛ احترازًا من أمور السحر والشعوذة؛ فإنَّها أمور خارقة للعادة، لكنها تجري على يد غير أولياء الله، بل على يد أعداء الله؛ فلا تكون هذه كرامة. * وقد كثرت هذه الكرامات التي تدعى أنها كرامات في هؤلاء المشعوذين الذين يصدون عن سبيل الله؛ فالواجب الحذر ¬

_ (¬1) "صفة الصفوة" (3/ 217)، "الزهد" لابن المبارك (295)؛ إلّا أنهما ذكرًا ذهاب بغلته وليس موتها.

الكرامات ثابتة بالقرآن والسنة

منهم ومن تلاعبهم بعقول النَّاس وأفكارهم. * فالكرامة ثابتة بالقرآن والسنة والواقع، سابقًا ولاحقًا. - فمن الكرامات الثابتة بالقرآن والسنة لمن سبق قصة أصحاب الكهف، الذين عاشوا في قوم مشركين، وهم قد آمنوا بالله، وخافوا أن يغلبوا على أمرهم، فخرجوا من القرية مهاجرين إلى الله عزَّ وجلَّ، فيسر الله لهم غارًا في جبل، وجه هذا الغار إلى الشمال، فلا تدخل الشّمس عليهم فتفسد أبدانهم ولا يحرمون منها، إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، وهم في فجوة منه، وبقوا في هذا الكهف ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعًا، وهم نائمون، يقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال، في الصيف وفي الشتاء، لم يزعجهم الحر، ولم يؤلمهم البرد، ما جاعوا وما عطشوا وما ملوا من النوم. فهذه كرامة بلا شك، بقوا هكذا حتَّى بعثهم الله وقد زال الشرك عن هذه القرية، فسلموا منه. - ومن ذلك قصة مريم رضي الله عنها، أكرمها الله حيث أجاءها المخاض إلى جذع النخلة، وأمرها الله أن تهز بجذعها لتتساقط عليها رطبًا جنيًّا. - ومن ذلك قصة الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه؛ كرامة له، ليتبين له قدرة الله تعالى، ويزداد ثباتًا في إيمانه. - أما في السنة؛ فالكرامات كثيرة، وراجع (كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل) في "صحيح البُخاريّ"، وكتاب

مخالفة المعتزلة لمذهب أهل السنة والجماعة في الكرامات

"الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشَّيطان" لشيخ الإسلام ابن تيمية. - وأمَّا شهادة الواقع بثبوت الكرامات؛ فظاهر، يعلم به المرء في عصره: إما بالمشاهدة، وإما بالأخبار الصادقة. فمذهب أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء. * وهناك مذهب مخالف لمذهب أهل السنة، وهو مذهب المعتزلة ومن تبعهم؛ حيث إنهم ينكرون الكرامات، ويقولون: إنك لو أثبت الكرامات؛ لاشتبه الساحر بالولي والولي بالنبي؛ لأنَّ كل واحد منهم يأتي بخارق. فيقال: لا يمكن الالتباس؛ لأنَّ الكرامة على يد ولي، والولي لا يمكن أن يدعي النبوة، ولو ادعاها؛ لم يكن وليًّا. آية النَّبيِّ تكون على يد نبي، والشعوذة والسحر على يد عدو بعيد من ولاية الله، وتكون بفعله باستعانته بالشياطين، فينالها بكسبه؛ بخلاف الكرامة؛ فهي من الله تعالى، لا يطلبها الولي بكسبه. * قال العلماء: كل كرامة لولي؛ فهي آية للنبي الذي اتبعه؛ لأنَّ الكرامة شهادة من الله عزَّ وجلَّ أن طريق هذا الولي طريق صحيح. وعلى هذا؛ ما جرى من الكرامات للأولياء من هذه الأمة؛ فإنَّها آيات لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. * ولهذا قال بعض العلماء: ما من آية لنبي من الأنبياء

السابقين؛ إلا ولرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مثلها. - فأورد عليهم أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يلق في النار فيخرج حيًّا؛ كما حصل ذلك لإبراهيم. فأجيب بأنه جرى ذلك لأتباع الرسول عليه الصَّلاة والسلام؛ كما ذكره المؤرخون عن أبي مسلم الخولاني (¬1)، وإذا أكرم أتباع الرسول عليه الصَّلاة والسلام بجنس هذا الأمر الخارق للعادة؛ دلَّ ذلك على أن دين النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - حق؛ لأنَّه مؤيد بجنس هذه الآية التي حصلت لإبراهيم. - وأورد عليهم أن البحر لم يفلق للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد فلق لموسى! فأجيب بأنه حصل لهذه الأمة فيما يتعلق في البحر شيء أعظم ممَّا حصل لموسى، وهو المشي على الماء؛ كما في قصة العلاء بن الحضرمي؛ (¬2) حيث مشوا على ظهر الماء، وهذا أعظم ممَّا حصل لموسى؛ لأنَّ موسى مشى على أرض يابسة. - وأورد عليهم أن من آيات عيسى إحياء الموتى، ولم يقع ¬

_ (¬1) "صفة الصفوة" (4/ 208) لابن الجوزي، وقال: إن الأسود العنسي المتنبي طرح أبا مسلم الخولاني في النَّار، فلم تضره، فكان يشبه بالخليل - عليه السلام -. (¬2) لما رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 7)؛ عن سهم بن منجاب قال: غزونا مع العلاء ابن الحضرمي، فسرنا حتَّى أتينا دارين، والبحر بيننا وبينهم، فقال: يا عليم، يا حليم، يا عليّ، يا عظيم، إنا عبيدك، وفي سبيلك نقاتل عدوك، اللَّهم فاجعل لنا إليهم سبيلًا فنقتحم البحر، فخضنا ما يبلغ لبودنا الماء.

الآيات التي كانت للأنبياء السابقين كان من جنسها للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لأمته

ذلك لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -. فأجيب بأنه وقع لأتباع الرسول عليه الصَّلاة والسلام؛ كما في قصة الرجل الذي مات حماره في أثناء الطريق، فدعا الله تعالى أن يحييه، فأحياه الله تعالى. - وأورد عليهم إبراء الأكمه والأبرص. فأجيب بأنه حصل من النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن قتادة بن النُّعمان لما جرح في أحد؛ ندرت عينه حتَّى صارت على خده، فجاء النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فأخذها بيده، ووضعها في مكانها، فصارت أحسن عينيه (¬1). فهذه من أعظم الآيات. فالآيات التي كانت للأنبياء السابقين كان من جنسها للنبي - صَلَّى الله عليه وسلم - أو لأمته، ومن أراد المزيد من ذلك؛ فليرجع إلى كتاب "البداية والنهاية في التاريخ" لابن كثير. تنبيه: الكرامات؛ قلنا: إنَّها تكون تأييدًا أو تثبيتًا أو إعانة للشخص أو نصرًا للحق، ولهذا كانت الكرامات في التّابعين أكثر منها في الصّحابة؛ لأنَّ الصّحابة عندهم من التثبيت والتأييد والنصر ما ¬

_ (¬1) وقد أخرجها الحافظ بن حجر في "الإصابة" (3/ 217)؛ عن البغوي وأبو يعلى والدارقطني والبيهقيّ في "دلائل النبوة"، وعزاها الهيثمي في "المجمع" (8/ 298) للطبراني وأبي يعلى، وقال: في إسناد الطّبرانيّ من لم أعرفهم، وفي إسناد أبي يعلى يَحْيَى بن عبد الحميد الحماني؛ وهو ضعيف.

الكرامات لها أربع دلالات

يستغنون به عن الكرامات؛ فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان بين أظهرهم، وأمَّا التابعون؛ فإنهم دون ذلك، ولذلك كثرت الكرامات في زمنهم تأييدًا لهم وتثبيتًا ونصرًا للحق الذي هم عليه. * * * * قوله: "وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات": "خوارق": جمع خارق. * و"العادات": جمع عادة. والمراد بـ "خوارق العادات": ما يأتي على خلاف العادة الكونية. * وهذه الكرامات لها أربع دلالات: أولًا: بيان كمال قدرة الله عزَّ وجلَّ؛ حيث حصل هذا الخارق للعادة بأمر الله. ثانيًا: تكذيب القائلين بأن الطبيعة هي التي تفعل؛ لأنَّه لو كانت الطبيعة هي التي تفعل؛ لكانت الطبيعة على نسق واحد لا يتغير؛ فإذا تغيرت العادات والطبيعة؛ دل على أن للكون مدبرًا وخالقًا. ثالثًا: أنها آية للنبي المتبوع كما أسلفنا قريبًا. رابعًا: أن فيها تثبيتًا وكرامة لهذا الولي. * * *

أقسام الكرامة

* قوله: "في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات"، يعني: أن الكرامة تنقسم إلى قسمين: قسم يتعلق بالعلوم والمكاشفات، وقسم آخر يتعلق بالقدرة والتأثيرات. - أما العلوم؛ فأن يحصل للإنسان من العلوم ما لا يحصل لغيره. - وأمَّا المكاشفات؛ فأن يظهر له من الأشياء التي يكشف له عنها ما لا يحصل لغيره. - مثال الأول -العلوم-: ما ذكر عن أبي بكر: أن الله أطلعه على ما في بطن زوجته -الحمل-؛ أعلمه الله أنَّه أنثى (¬1). - ومثال الثَّاني -المكاشفات-: ما حصل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين كان يخطب النَّاس يوم الجمعة على المنبر، فسمعوه يقول: يا سارية! الجبل! فتعجبوا من هذا الكلام، ثم سألوه عن ذلك؟ فقال: إنه كشف له عن سارية بن زنيم -وهو أحد قواده في العراق-، وأنه محصور من عدوه، فوجهه إلى الجبل، وقال له: يا سارية! الجبل! فسمع سارية صوت عمر، وانحاز إلى الجبل، وتحصن به (¬2)! ¬

_ (¬1) رواه اللالكائي في "كرامات الأولياء" (63)، وأوردها ابن حجر في "الإصابة" (4/ 261). (¬2) رواه البيهقي في "دلائل النبوة"، وذكره ابن كثير في "البداية" (7/ 131) وقال: إسناده حسن جيد. وحسنه الألباني في "السلسلة الصحيحة" (1110).

الكرامات موجودة فيما سبق من الأمم وفي هذه الأمة إلى يوم القيامة

هذه من أمور المكاشفات؛ لأنه أمر واقع، لكنه بعيد. - أما القدرة والتأثيرات؛ فمثل ما وقع لمريم من هزها لجذع النخل وتساقط الرطب عليها. ومثل ما وقع للذي عنده علم من الكتاب؛ حيث قال لسليمان: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. * * * * قوله: "والمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر فرق الأمة". الكرامات موجودة فيما سبق من الأمم، ومنها قصة أصحاب الغار الذين انطبقت عليهم الصخرة (¬1)، وموجودة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ كقصة أسيد بن حضير (¬2)، وتكثير الطعام عند بعض الصحابة (¬3)، وموجودة في التابعين؛ مثل قصة صلة بن أشيم الَّذي أحيا الله له فرسه (¬4). يقول شيخ الإسلام في كتاب "الفرقان": "وهذا باب واسع، ¬

_ (¬1) قصة أصحاب الغار؛ رواها البخاري (3465)، ومسلم (2743)؛ عن ابن عمر رضي الله عنه. (¬2) أسيد بن حضير؛ رواها البخاري (5018)، ومسلم (796)؛ من حديث أبي سعيد الخدري عن أُسيد بن حضير رضي الله عنه. (¬3) رواها البخاري (602)، ومسلم (2057)؛ من حديث عبد الرحمن بن أبي، بكر رضي الله عنهما. (¬4) انظر: (2/ 298).

قد بسط الكلام على كرامات الأولياء في غير هذا الموضع، وأما ما نعرفه نحن عيانًا ونعرفه في هذا الزمان؛ فكثير". * * * * قوله: "وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة". * والدليل على أنها موجودة إلى يوم القيامة: سمعي وعقلي: - أما السمعي، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر في قصة الدجال أنَّه يدعو رجلًا من الناس من الشباب، يأتي، ويقول له: كذبت! إنما أنت المسيح الدجال الَّذي أخبرنا عنك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيأتي الدجال، فيقتله قطعتين، فيجعل واحدة هنا وواحدة هنا رمية الغرض (يعني: بعيد ما بينهما)، ويمشي بينهما، ثم يدعوه، فيقوم يتهلل، ثم يدعوه ليقر له بالعبودية، فيقول الرجل: ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم! فيريد الدجال أن يقتله؛ فلا يسلط عليه (¬1). فهذه (أي: عدم تمكن الدجال من قتل ذلك الشاب) من الكرامات بلا شك. - وأما العقلي؛ فيقال: ما دام سبب الكرامة هي الولاية؛ فالولاية لا تزال موجودة إلى قيام الساعة. * * * ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (7132)، ومسلم (2938)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

فصل: في طريقة أهل السنة العملية

فصل في طريقة أهل السنة العملية * قوله: "ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنًا وظاهرًا". لما فرغ المؤلف مما يريد ذكره من طريقة أهل السنة العقدية؛ شرع في ذكر طريقتهم العملية: * قوله: "اتباع الآثار": لا اتباع إلا بعلم؛ إذًا؛ فهم حريصون على طلب العلم؛ ليعرفوا آثار الرسول عليه الصلاة والسلام ثم يتبعوها. * فهم يتبعون آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - في العقيدة والعبادة والأخلاق والدعوة إلى الله تعالى؛ يدعون عباد الله إلى شريعة الله في كل مناسبة، وكلما اقتضت الحكمة أن يدعوا إلى الله؛ دَعَوا إلى الله، ولكنهم لا يخبطون خبط عشواء، وإنما يدعون بالحكمة؛ يتبعون آثار الرسول عليه الصلاة والسلام في الأخلاق الحميدة في معاملة

الناس باللطف واللين، وتنزيل كل إنسان منزلته؛ يتبعونه أيضًا في أخلاقه مع أهله، فتجدهم يحرصون على أن يكونوا أحسن الناس لأهليهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي" (¬1). ونحن لا نستطيع أن نحصر آثار الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن نقول على سبيل الإجمال في العقيدة والعبادة والخلق والدعوة: في العبادة لا يتشددون ولا يتهاونون ويتبعون ما هو أفضل. وربما يشتغلون عن العبادة بمعاملة الخلق للمصلحة؛ كما كان الرسول يأتيه الوفود يشغلونه عن الصلاة؛ فيقضيها فيما بعد. * قوله: "ظاهرًا وباطنًا": الظهور والبطون أمر نسبي: ظاهرًا فيما يظهر للناس، وباطنًا فيما يسرونه بأنفسهم. ظاهرًا في الأعمال الظاهرة، وباطنًا في أعمال القلوب ... فمثلًا؛ التوكل والخوف والرجاء والإنابة والمحبة وما أشبه ذلك؛ هذه من أعمال القلوب؛ يقومون بها على الوجه المطلوب، والصلاة فيها القيام والقعود والركوع والسجود والصدقة والحج والصيام، وهذه من أعمال الجوارح؛ فهي ظاهرة. ¬

_ (¬1) رواه: الترمذي (3895)، والدارمي (2177)، وابن ماجة (1977)، وابن حبان (4177)؛ عن عائشة رضي الله عنها. والحديث صححه الألباني في "الصحيحة" (285).

آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - تنقسم إلى ثلاثة أقسام أو أكثر

* ثم اعلم أن آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - تنقسم إلى ثلاثة أقسام أو أكثر: أولًا: ما فعله على سبيل التعبد؛ فهذا لا شك أننا مأمورون باتباعه؛ لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]؛ فكل شيء لا يظهر فيه أنَّه فعله تأثرًا بعادة أو بمقتضى جبلة وفطرة أو حصل اتفاقًا؛ فإنه على سبيل التعبد، ونحن مأمورون به. ثانيًا: ما فعله اتفاقًا؛ فهذا لا يشرع لنا التأسي فيه؛ لأنه غير مقصود؛ كما لو قال قائل: ينبغي أن يكون قدومنا إلى مكة في الحج في اليوم الرابع من ذي الحجة! لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قدم مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة (¬1). فنقول: هذا غير مشروع؛ لأن قدومه - صلى الله عليه وسلم - في هذا اليوم وقع اتفاقًا. ولو قال قائل: ينبغي إذا دفعنا من عرفة ووصلنا إلى الشعب الَّذي نزل فيه - صلى الله عليه وسلم - وبال أن ننزل ونبول ونتوضأ وضوءًا خفيفًا كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فنقول: هذا لا يشرع. وكذلك غيرها من الأمور التي وقعت اتفاقًا؛ فإنه لا يشرع التأسي فيه بذلك؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - فعله لا على سبيل القصد للتعبد، ¬

_ (¬1) كما رواه الإمام أحمد في "المسند" (3/ 366)؛ من حديث جابر قال: "وقدمنا الكعبة في أربع مضين من ذي الحجة أيامًا أو ليالي ... "، وهو عند الطبراني في "الكبير" (7/ 123)، وهو حديثٌ صحيح، وأصلُه في "صحيح مُسلم".

والتأسي به تعبد. ثالثًا: ما فعله بمقتضى العادة؛ فهل يشرع لنا التأسي به؟ الجواب: نعم؛ ينبغي لنا أن نتأسى به، لكن بجنسه لا بنوعه. وهذه المسألة قل من يتفطن لها من الناس؛ يظنون أن التأسي به فيما هو على سبيل العادة بالنوع، ثم ينفون التأسي به في ذلك. ونحن نقول: نتأسى به، لكن باعتبار الجنس؛ بمعنى أن نفعل ما تقتضيه العادة التي كان عليها الناس؛ إلا أن يمنع من ذلك مانع شرعي. رابعًا: ما فعله بمقتضى الجبلة؛ فهذا ليس من العبادات قطعًا، لكن قد يكون عبادة من وجه؛ بأن يكون فعله على صفة معينة عبادة: كالنوم؛ فإنه بمقتضى الجبلة، لكن يسن أن يكون على اليمين، والأكل والشرب جبلة وطبيعة، ولكن قد يكون عبادة من جهة أخرى، إذا قصد به الإنسان امتثال أمر الله والتنعم بنعمه والقوة على عبادته وحفظ البدن، ثم إن صفته أيضًا تكون عبادة كالأكل باليمين، والبسملة عند البداءة، والحَمْدلة عند الانتهاء. وهنا نسأل: هل اتخاذ الشعر عادة أو عبادة؟ يرى بعض العلماء أنَّه عبادة، وأنه يسن للإنسان اتخاذ الشعر. ويرى آخرون أن هذا من الأمور العادية؛ بدليل قول الرسول

اتباع سبيل السابقين الأولين

- صلى الله عليه وسلم - للذي رآه قد حلق بعض رأسه وترك بعضه؛ فنهاهم عن ذلك، وقال: "احلقوا كله أو ذروا كله" (¬1)، وهذا يدل على أن اتخاذ الشعر ليس بعبادة، وإلا؛ لقال: أبقه، ولا تحلق منه شيئًا! وهذه المسألة ينبغي التثبت فيها، ولا يحكم على شيء بأنه عبادة؛ إلا بدليل؛ لأن الأصل في العبادات المنع؛ إلا ما قام الدليل على مشروعيته. * * * * قوله: "واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار"؛ أي: ومن طريقة أهل السنة اتباع ... إلخ؛ فهي معطوفة على "اتباع الآثار". * قوله: "السابقين"؛ يعني: إلى الأعمال الصالحة. * وقوله: "الأولين"؛ يعني: من هذه الأمة. * والمهاجرون: من هاجروا إلى المدينة. * والأنصار: أهل المدينة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2120)؛ عن ابن عمر من طريق معمر عن أيوب عن نافع، ولم يسق لفظه. وهو عند عبد الرزاق في "مصنفه" (19564)، وأبو داود (4195)، والنسائي (8/ 130)، وأحمد (2/ 88)؛ بلفظ: "احلقوا كله أو ذروا كله". قال الحميدي: وحكى أبو مسعود الدمشقي أن في رواية مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى غلامًا قد حلق بعض رأسه وترك بعض، فنهاهم عن ذلك وقال: "احلقوا كله أو ذروا كله"، انظر: "جامع الأصول" (4/ 753).

اتباع سنة الخلفاء الراشدين

* وإنما كان اتباع سبيلهم من منهج أهل السنة والجماعة؛ لأنهم أقرب إلى الصواب والحق ممن بعدهم، وكلما بعد الناس عن عهد النبوة؛ بعدوا من الحق، وكلما قرب الناس من عهد النبوة؛ قربوا من الحق، وكلما كان الإنسان أحرص على معرفة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين؛ كان أقرب إلى الحق. ولهذا ترى اختلاف الأمة بعد زمن الصحابة والتابعين أكثر انتشارًا وأشمل لجميع الأمور، لكن الخلاف في عهدهم كان محصورًا. فمن طريقة أهل السنة والجماعة أن ينظروا في سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فيتبعوها؛ لأن اتباعها يؤدي إلى محبتهم، مع كونهم أقرب إلى الصواب والحق؛ خلافًا لمن زهد في هذه الطريقة، وصار يقول: هم رجال ونحن رجال! ولا يبالي بخلافهم!! وكأن قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي قول فلان وفلان من أواخر هذه الأمة!! وهذا خطأ وضلال؛ فالصحابة أقرب إلى الصواب، وقولهم مقدم على قول غيرهم من أجل ما عندهم من الإيمان والعلم، وما عندهم من الفهم السليم والتقوى والأمانة، وما لهم من صحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. * * * * قوله: "واتباع وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": حيث قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل

بدعة ضلالة" (¬1) * "اتباع": معطوفة على "اتباع الآثار". * والوصية: العهد إلى غيره بأمر هام. * ومعنى: "عليكم بسنتي ... " إلخ: الحث على التمسك بها، وأكد هذا بقوله: "وعضوا عليها بالنواجذ"، وهي أقصى الأضراس؛ فأمر بالتمسك بها باليد والعض عليها بالأضراس مبالغة في التمسك بها. * والسنة: هي الطريقة ظاهرًا وباطنًا. * والخلفاء الراشدون: هم الذين خلفوا النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمته علمًا وعملًا ودعوة. * وأول من يدخل في هذا الوصف وأولى من يدخل فيه: الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي. * ثم يأتي رجل في هذا العصر، ليس عنده من العلم شيء، ويقول: أذان الجمعة الأول بدعة؛ لأنه ليس معروفًا على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويجب أن نقتصر على الأذان الثاني فقط! ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 126)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجة (43 - 44)، والحاكم (1/ 95 - 96)، وابن حبان (1/ 187)؛ من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: صحيح ليس له علة، ووافقه الذهبي. وقد نقل الألباني في "إرواء الغليل" (8/ 107) تصحيح جماعةٍ من أهل العلم له.

التحذير من الابتداع في الدين

فنقول له: إن سنة عثمان رضي الله عنه سنة متبعة إذا لم تخالف سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقم أحد من الصحابة الذين هم أعلم منك وأغير على دين الله بمعارضته، وهو من الخلفاء الراشدين المهديين، الذين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باتباعهم. ثم إن عثمان رضي الله عنه اعتمد على أصل، وهو أن بلالًا يؤذن قبل الفجر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا لصلاة الفجر، ولكن ليرجع القائم ويوقظ النائم، كما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر عثمان بالأذان الأول يوم الجمعة (¬1)، لا لحضور الإمام، ولكن لحضور الناس؛ لأن المدينة كبرت واتسعت واحتاج الناس أن يعلموا بقرب الجمعة قبل حضور الإمام؛ من أجل أن يكون حضورهم قبل حضور الإمام. * فأهل السنة والجماعة يتبعون ما أوصى به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الحث على التمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده وعلى رأسهم الخلفاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؛ إلا إذا خالف كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخالفة صريحة؛ فالواجب علينا أن نأخذ بكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونعتذر عن هذا الصحابي، ونقول: هذا من باب الاجتهاد المعذور فيه. * قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وإياكم ومحدثات الأمور": "إياكم": هذه ¬

_ (¬1) لما رواه السائب بن يزيد: "إن الَّذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة؛ عثمان بن عفان رضي الله عنه". أخرجه البخاري (912، 913).

للتحذير؛ أي: أحذركم. * و"الأمور": بمعنى: الشؤون، والمراد بها أمور الدين، أما أمور الدنيا؛ فلا تدخل في هذا الحديث؛ لأن الأصل في أمور الدنيا الحل؛ فما ابتدع منها؛ فهو حلال، إلا أن يدل الدليل على تحريمه. لكن أمور الدين الأصل فيها الحظر؛ فما ابتدع منها؛ فهو حرام بدعة؛ إلا بدليل من الكتاب والسنة على مشروعيته. * قال النبي عليه الصلاة والسلام: "فإن كل بدعة ضلالة": الجملة مفرعة على الجملة التحذيرية، فيكون المراد بها هنا توكيد التحذير وبيان حكم البدعة. * "كل بدعة ضلالة": هذا كلام عام مسور بأقوى لفظ دال على العموم، وهو لفظ (كل)، فهو تعميم محكم صدر من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والرسول عليه الصلاة والسلام أعلم الخلق بشريعة الله، وأنصح الخلق لعباد الله، وأفصح الخلق بيانًا، وأصدقهم خبرًا؛ فاجتمعت في حقه أربعة أمور: علم ونصح وفصاحة وصدق، نطق بقوله: "كل بدعة ضلالة". فعلى هذا: كل من تعبد لله بعقيدة أو قول أو فعل لم يكن شريعة الله؛ فهو مبتدع. - فالجهمية يتعبدون بعقيدتهم، ويعتقدون أنهم منزهون لله. والمعتزلة كذلك. والأشاعرة يتعبدون بما هم عليه من عقيدة باطلة.

مفاسد البدعة

- والذين أحدثوا أذكارًا معينة يتعبدون لله بذلك، ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا. - والذين أحدثوا أفعالًا يتعبدون لله بها ويعتقدون أنهم مأجورون على هذا. كل هذه الأصناف الثلاثة الذين ابتدعوا في العقيدة أو في الأقوال أو في الأفعال؛ كل بدعة من بدعهم، فهي ضلالة، ووصفها الرسول عليه الصلاة والسلام بالضلالة؛ لأنها مركب، ولأنها انحراف عن الحق. - والبدعة تستلزم محاذير فاسدة: فأولًا: تستلزم تكذيب قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] لأنه إذا جاء ببدعة جديدة يعتبوها دينًا؛ فمقتضاه أن الدين لم يكمل. ثانيَّا: تستلزم القدح في الشريعة، وأنها ناقصة، فأكملها هذا المبتدع. ثالثًا: تستلزم القدح في المسلمين الذين لم يأتوا بها؛ فكل من سبق هذه البدع من الناس دينهم ناقص! وهذا خطير!! رابعًا: من لوازم هذه البدعة أن الغالب أن من اشتغل ببدعة؛ انشغل عن سنة؛ كما قال بعض السلف: "ما أحدث قوم بدعة؛ إلا هدموا مثلها من السنة". خامسًا: أن هذه البدع توجب تفرق الأمة؛ لأن هؤلاء

خطأ من قسم البدعة إلى أقسام

المبتدعة يعتقدون أنهم هم أصحاب الحق، ومن سواهم على ضلال!! وأهل الحق يقولون: أنتم الذين على ضلال! فتتفرق قلوبهم. فهذه مفاسد عظيمة، كلها تترتب على البدعة من حيث هي بدعة، مع أنَّه يتصل بهذه البدعة سفه في العقل وخلل في الدين. * وبهذا نعرف أن من قسم البدعة إلى أقسام ثلاثة أو خمسة أو ستة؛ فقد أخطأ، وخطؤه من أحد وجهين: - إما أن لا ينطبق شرعًا وصف البدعة على ما سماه بدعة. - وإما أن لا يكون حسنًا كما زعم. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أكل بدعة ضلالة"؛ فقال: "كل"؛ فما الَّذي يخرجنا من هذا السور العظيم حتَّى نقسم البدع إلى أقسام؟ * فإن قلت: ما تقول في قول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين خرج إلى الناس وهم يصلون بإمامهم في رمضان، فقال: نعمت البدعة هذه. فأثنى عليها، وسماها بدعة (¬1)؟! فالجواب أن نقول: ننظر إلى هذه البدعة التي ذكرها؛ هل ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية أو لا. فإذا نظرنا ذلك؛ وجدنا أنَّه لا ينطبق عليها وصف البدعة الشرعية؛ فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بأصحابه في رمضان ثلاث ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2010).

توجيه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سن في الإسلام سنة حسنة"

ليال، ثم تركه خوفًا من أن تفرض عليهم، فثبت أصل المشروعية، وانتفى أن تكون بدعة شرعية، ولا يمكن أن نقول: إنها بدعة، والرسول - صلى الله عليه وسلم - قد صلاها!! وإنما سماها عمر رضي الله عنه بدعة؛ لأن الناس تركوها، وصاروا لا يصلون جماعة بإمام واحد، بل أوزاعًا؛ الرجل وحده والرجلان والثلاثة والرهط، فلما جمعهم على إمام واحد؛ صار اجتماعهم بدعة بالنسبة لما كانوا عليه أولًا من هذا التفرق. فإنه خرج رضي الله عنه ذات ليلة، فقال: لو أني جمعت الناس على إمام واحد؛ لكان أحسن، فأمر أبي بن كعب وتميمًا الداري أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، فقاما للناس بإحدى عشرة ركعة، فخرج ذات ليلة والناس يصلون بإمامهم، فقال: نعمت البدعة هذه. إذًا، هي بدعة نسبية؛ باعتبار أنها تركت ثم أنشئت مرة أخرى. فهذا وجه تسميتها ببدعة. وأما أنها بدعة شرعية، ويثني عليها عمر؛ فكلَّا. وبهذا نعرف أن كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يعارضه كلام عمر رضي الله عنه. * فإن قلت: كيف تجمع بين هذا وبين قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى

أهل السنة يعتقدون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -

يوم القيامة"؛ فأثبت أن الإنسان يسن سنة حسنة في الإسلام؟ فنقول: كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصدق بعضه بعضًا، ولا يتناقض؛ فيريد بالسنة الحسنة السنة المشروعة، ويكون المراد بسنها المبادرة إلى فعلها. يعرف هذا ببيان سبب الحديث، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله حين جاء أحد الأنصار بصرة (يعني: من الدراهم)، ووضعها بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم - حين دعا أصحابه أن يتبرعوا للرهط الذين قدموا من مضر مجتابي النمار، وهم من كبار العرب، فتمعر وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى من حالهم، فدعا إلى التبرع لهم، فجاء هذا الرجل أول ما جاء بهذه الصرة، فقال: "من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة" (¬1). أو يقال: المراد بالسنة الحسنة ما أحدث ليكون وسيلة إلى ما ثبتت مشروعيته؛ كتصنيف الكتب وبناء المدارس ونحو ذلك. وبهذا نعرف أن كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يناقض بعضه بعضًا، بل هو متفق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى. * * * * قوله: "ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله": * هذا علمنا واعتقادنا، وأن ليس في كلام الله من كذب، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1017) عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه.

بل هو أصدق الكلام؛ فإذا أخبر الله عن شيء بأنه كائن، فهو كائن، وإذا أخبر عن شيء بأنه سيكون؛ فإنه سيكون، وإذا أخبر عن شيء بأن صفته كذا وكذا؛ فإن صفته كذا وكذا. * فلا يمكن أن يتغير الأمر عما أخبر الله به، ومن ظن التغير؛ فإنما ظَنّه خطأ؛ لقصوره أو تقصيره. مثال ذلك لو قال قائل: إن الله عزَّ وجلَّ أخبر أن الأرض قد سطحت، فقال: {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20]، ونحن نشاهد أن الأرض مكورة؛ فكيف يكون خبره خلاف الواقع؟ فجوابه أن الآية لا تخالف الواقع، ولكن فهمه خاطئ إما لقصوره أو تقصيره؛ فالأرض مكورة مسطحة، وذلك لأنها مستديرة، ولكن لكبر حجمها لا تظهر استدارتها إلا في مساحة واسعة تكون بها مسطحة، وحينئذ يكون الخطأ في فهمه؛ حيث ظن أن كونها قد سطحت مخالف لكونها كروية. فإذا كنا نؤمن أن أصدق الكلام كلام الله؛ فلازم ذلك أنَّه يجب علينا أن نصدق بكل ما أخبر الله به في كتابه، سواء كان ذلك عن نفسه أو عن مخلوقاته. * قوله: "وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -": * "الهدي": هو الطريق التي كان عليها السالك. والطرق شتى، لكن خيرها طريق النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فنحن نعلم ذلك ونؤمن به، نعلم أن خير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - في العقائد

والعبادات والأخلاق والمعاملات، وأن هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ليس بقاصر؛ لا في حسنه وتمامه وانتظامه وموافقته لمصالح الخلق، ولا في أحكام الحوادث التي لم تزل ولا تزال تقع إلى يوم القيامة؛ فإن هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - كامل تام، فهو خير الهدي؛ أهدى من شريعة التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وجميع الهدي. فإذا كنا نعتقد ذلك؛ فوالله؛ لا نبغي به بديلًا. * وبناء على هذه العقيدة لا نعارض قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقول أحد من الناس، كائنًا من كان، حتَّى لو جاءنا قول لأبي بكر، وهو خير الأمة، وقول لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أخذنا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وأهل السنة والجماعة بنوا هذا الاعتقاد على الكتاب والسنة: - قال الله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]. - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب الناس على المنبر: "خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -" (¬1). ولهذا تجد الذين اختلفوا في الهدي وخالفوا فيه: إما مقصرين عن شريعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإما غالين فيها، بين متشددين وبين متهاونين، بين مفرِّط ومفرِط، وهدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون بين هذا وهذا. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (867) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

تقديم كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - على غيره

* قوله: "ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس": * "يؤثرون"؛ أي: يقدمون. * "كلام الله على كلام غيره": من سائر أصناف الناس في الخبر والحكم؛ فأخبار الله عندهم مقدمة على خبر كل أحد. * فإذا جاءتنا أخبار عن أمم مضت وصار القرآن يكذبها؛ فإننا نكذبها. مثال ذلك: اشتهر عند كثير من المؤرخين أن إدريس قبل نوح، وهذا كذب؛ لأن القرآن يكذبه؛ كما قال تعالى: {* إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]، وإدريس من النبيين؛ كما قال الله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا ...} [مريم: 56]، إلى أن قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} [مريم: 58]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26]؛ فلا نبي قبل نوح إلا آدم فقط. * * * * قوله: "ويقدمون هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - على هدي كل أحد": * "يقدمون هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -"؛ أي: طريقته وسنته التي هو عليها. * "على هدي كل أحد": في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والأحوال وفي كل شيء؛ لقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا

سبب تسميتهم بأهل الكتاب والسنة والجماعة

صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31]. * * * * قوله: "ولهذا": اللام في قوله: "ولهذا" للتعليل، أي: ومن أجل إيثارهم كلام الله وتقديم هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * "سموا أهل الكتاب والسنة": لتصديقهما والتزامهما وإيثارهما على غيرهما. ومن خالف الكتاب والسنة، وادعى أنَّه من أهل الكتاب والسنة، فهو كاذب؛ لأن من كان من أهل شيء لا بد أن يلزمه ويلتزم به. * * * * قوله: "وسموا أهل الجماعة، لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة": * قوله: "وسموا أهل الجماعة، لأن الجماعة هي الاجتماع، وضدها الفرقة"؛ فالجماعة اسم مصدر اجتمع يجتمع اجتماعًا وجماعة؛ فالجماعة هي الاجتماع؛ فمعنى أهل الجماعة أهل الاجتماع؛ لأنهم مجتمعون على السنة، متآلفون فيها، لا يضلل بعضهم بعضًا، ولا يبدع بعضهم بعضًا، بخلاف أهل البدع. * قوله: "وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسمًا لنفس القوم المجتمعين": هذا في استعمال ثان، حيث صار لفظ (الجماعة)

الأصل الثالث: الإجماع

عرفًا: اسمًا للقوم المجتمعين. * وعلى ما قرره المؤلف تكون (الجماعة) في قولنا: "أهل السنة والجماعة": معطوفة على (السنة)، ولهذا عبر المؤلف بقوله: "سموا أهل الجماعة"، ولم يقل: سموا جماعة؛ فكيف يكونون أهل الجماعة وهم جماعة؟! نقول: الجماعة في الأصل: الاجتماع؛ فأهل الجماعة؛ يعني: أهل الاجتماع، لكن نقل اسم الجماعة إلى القوم المجتمعين نقلًا عرفيًّا. * * * * قوله: "والإجماع هو الأصل الثالث الَّذي يعتمد عليه في العلم والدين": * يعني به الدليل الثالث؛ لأن الأدلة أصول الأحكام؛ حيث تبنى عليها. * والأصل الأول هو الكتاب، والثاني السنة، والإجماع هو الأصل الثالث، ولهذا يسمون: أهل الكتاب والسنة والجماعة. * فهذه ثلاثة أصول يعتمد عليها في العلم والدين، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب والسنة؛ فأصلان ذاتيان، وأما الإجماع؛ فأصل مبني على غيره؛ إذ لا إجماع إلا بكتاب أو سنة. * أما كون الكتاب والسنة أصلًا يُرجع إليه؛ فأدلته كثيرة؛

هل الإجماع موجود أو غير موجود

منها: - قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]. - وقوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة: 92]. - وقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. - قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. ومن أنكر أن تكون السنة أصلًا في الدليل؛ فقد أنكر أن يكون القرآن أصلًا. ولا شك عندنا في أن من قال: إن السنة لا يرجع إليها في الأحكام الشرعية؛ أنَّه كافر مرتد عن الإسلام؛ لأنه مكذب ومنكر للقرآن، فالقرآن في غيرما موضع جعل السنة أصلًا يرجع إليه. - وأما الدليل على أن الإجماع أصل؛ فيقال: أولًا: هل الإجماع موجود أو غير موجود؟ قال بعض العلماء: لا إجماع موجود؛ إلا على ما فيه نص، وحينئذ؛ يستغنى بالنص عن الإجماع. فمثلًا؛ لو قال قائل: العلماء مجمعون على أن الصلوات المفروضة خمس؛ فهذا صحيح، لكن ثبوت فرضيتها بالنص.

الأدلة على حجية الإجماع

ومجمعون على تحريم الزنى؛ فهذا صحيح، لكن ثبوت تحريمه بالنص. ومجمعون على تحريم نكاح ذوات المحارم؛ فهذا صحيح، لكن ثبوت تحريمه بالنص. ولهذا قال الإمام أحمد: من ادعى الإجماع؛ فهو كاذب، وما يدريه؟ لعلهم اختلفوا (¬1). * والمعروف عند عامة العلماء أن الإجماع موجود، وأن كونه دليلًا ثابت بالقرآن والسنة: - فمن ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]؛ فإن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ}: يدل على أن ما أجمعنا عليه لا يجب رده إلى الكتاب والسنة؛ اكتفاء بالإجماع! وهذا الاستدلال فيه شيء!! - ومن ذلك قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فقال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ}. - واستدلوا أيضًا بحديث: "لا تجتمع أمتي على ¬

_ (¬1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في "مسائله عن أبيه" (37)، وانظر "أعلام الموقعين" لابن القيم (1/ 30).

أهل السنة والجماعة يزنون ما عليه الناس من قول أو عمل باطن أو ظاهر، بالكتاب والسنة والإجماع

ضلالة" (¬1). وهذا الحديث حسنه بعضهم وضعفه آخرون، لكن قد نقول: إن هذا، وإن كان ضعيف السند، لكن يشهد لمتنه ما سبق من النص القرآني. فجمهور الأمة أن الإجماع دليل مستقل، وأننا إذا وجدنا مسألة فيها إجماع؛ أثبتناها بهذا الإجماع. وكأن المؤلف رحمه الله يريد من هذه الجملة إثبات أن إجماع أهل السنة حجة. * * * * قوله: "وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين". * "الأصول الثلاثة": هي الكتاب والسنة والإجماع. * يعني: أن أهل السنة والجماعة يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من قول أو عمل، باطن أو ظاهر، لا يعرفون ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3/ 207)، وابن ماجة (2/ 1303)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 115). وذكره السخاوي في "المقاصد" (460)، وقال عنه: "وبالجملة فهو حديث مشهور المتن ذو أسانيد كثيرة وشواهد متعددة؛ في المرفوع وغيره". وذكره الهيثمي في "المجمع" (5/ 129)، وقال: "رواه الطبراني بإسنادين، رجال أحدهما ثقات رجال الصحيح، خلا مرزوق مولى آل طلحة وهو ثقة". وحسّنه الألباني في "ظلال الجنّة" (80).

الإجماع المنضبط هو ما كان عليه السلف الصالح

أنَّه حق؛ إلا إذا وزنوه بالكتاب والسنة والإجماع؛ فإن وجد له دليل منها؛ فهو حق، وإن كان على خلافه؛ فهو باطل. * قوله: "والإجماع الَّذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة": * يعني: أن الإجماع الَّذي يمكن ضبطه والإحاطة به هو ما كان عليه السلف الصالح، وهم القرون الثلاثة، الصحابة والتابعون وتابعوهم. * ثم علل المؤلف ذلك بقوله: "إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة"؛ يعني: أنَّه كثر الاختلاف ككثرة الأهواء؛ لأن الناس تفرقوا طوائف، ولم يكونوا كلهم يريدون الحق، فاختلفت الآراء وتنوعت الأقوال. * "وانتشرت الأمة": فصارت الإحاطة بهم من أصعب الأمور. فشيخ الإسلام رحمه الله كأنه يقول: من ادعى الإجماع بعد السلف الصالح، وهم القرون الثلاثة، فإنه لا يصح دعواه الإجماع، لأن الإجماع الَّذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، وهل يمكن أن يوجد إجماع بعد الخلاف؛ فنقول: لا إجماع مع وجود خلاف سابق ولا عبرة بخلاف بعد تحقق الإجماع. * * *

فصل: في منهج أهل السنة والجماعة فى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال

فصل في منهج أهل السنة والجماعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الخصال * قوله رحمه الله تعالى: "ثم هم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر": * "هم"؛ أي: أهل السنة والجماعة. * "مع هذه الأصول": السابقة التي ذكرها قبل هذا، وهو اتباع آثار الرسول عليه الصلاة والسلام واتباع الخلفاء الراشدين وإيثارهم كلام الله وكلام رسوله على غيره واتباع إجماع المسلمين؛ مع هذه الأصول: * "يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر": و"المعروف": كل ما أمر به الشرع؛ فهم يأمرون به. و"المنكر": كل ما نهى عنه الشرع؛ فهم ينهون عنه.

الأدلة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

لأن هذا هو ما أمر الله به في قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104]. وكذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: "لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرًا" (¬1). فهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولا يتأخرون عن ذلك. * ولكن يشترط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكونا على ما توجبه الشريعة وتقتضيه. * ولذلك شروط: الشرط الأول: أن يكون عالمًا بحكم الشرع فيما يأمر به أو ينهى عنه؛ فلا يأمر إلا بما علم أن الشرع أمر به، ولا ينهى إلا عما علم أن الشرع نهى عنه، ولا يعتمد في ذلك على ذوق ولا عادة. لقوله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4336)، وابن ماجة (4006)، والترمذي (3047 و 3048) وقال: "حديث حسن غريب"، وقال: "وقد روي هذا الحديث عن أبي عبيدة عن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحوه، وبعضهم يقول: عن أبي عبيدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسل". وعزاه الهيثمي في "المجمع" (7/ 269) للطبراني عن أبي موسى الأشعري وقال: ورجاله رجال الصحيح. وانظر: "الدر المنثور" في تفسير قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ...} [المائدة: 78 - 80].

أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48]. وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36]. وقوله: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [النحل: 116]. - فلو رأى شخصًا يفعل شيئًا الأصل فيه الحل؛ فإنه لا يحل له أن ينهاه عنه حتَّى يعلم أنَّه حرام أو منهي عنه. - ولو رأى شخصًا ترك شيئًا يظنه الرائي عبادة؛ فإنه لا يحل له أن يأمره بالتعبد به حتَّى يعلم أن الشرع أمر به. الشرط الثاني: أن يعلم بحال المأمور: هل هو ممن يوجه إليه الأمر أو النهي أم لا؟ فلو رأى شخصًا يشك هل هو مكلف أم لا؛ لم يأمره بما لا يؤمر به مثله حتَّى يستفصل. الشرط الثالث: أن يكون عالمًا بحال المأمور حال تكليفه؛ هل قام بالفعل أم لا؟ - فلو رأى شخصًا دخل المسجد ثم جلس، وشك هل صلى ركعتين؛ فلا ينكر عليه، ولا يأمره بهما، حتَّى يستفصل. ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب يوم الجمعة، فدخل رجل، فجلس، فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:

"أصليت؟ ". قال: لا. قال: "قم فصل ركعتين وتجوز فيهما" (¬1). - ولقد نقل لي أن بعض الناس يقول: يحرم أن يسجل القرآن بأشرطة؛ لأن ذلك إهانة للقرآن على زعمه!! فينهى الناس أن يسجلوا القرآن على هذه الأشرطة؛ لظنه أنَّه منكر!! فنقول له: إن المنكر أن تنهاهم عن شيء لم تعلم أنَّه منكر!! فلا بد أن تعلم أن هذا منكر في دين الله. وهذا في غير العبادات، أما العبادات؛ فإننا لو رأينا رجلًا يتعبد بعبادة؛ لم يعلم أنها مما أمر الله به؛ فإننا ننهاه؛ لأن الأصل في العبادات المنع. الشرط الرابع: أن يكون قادرًا على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا ضرر يلحقه؛ فإن لحقه ضرر؛ لم يجب عليه، لكن إن صبر وقام به؛ فهو أفضل؛ لأن جميع الواجبات مشروطة بالقدرة والاستطاعة؛ لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. فإذا خاف إذا أمر شخصًا بمعروف أن يقتله؛ فإنه لا يلزمه أن يأمره؛ لأنه لا يستطيع ذلك، بل قد يحرم عليه حينئذ. وقال بعض العلماء: بل يجب عليه الأمر والصبر، وإن تضرر بذلك، ما لم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (931)، ومسلم (875) واللفظ له، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.

يصل إلى حد القتل. لكن القول الأول أولى؛ لأن هذا الآمر إذا لحقه الضرر بحبس ونحوه؛ فإن غيره قد يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خوفًا مما حصل، حتَّى في حال لا يخشى منها ذلك الضرر. وهذا ما لم يصل الأمر إلى حد يكون الأمر بالمعروف من جنس الجهاد؛ كما لو أمر بسنة ونهى عن بدعة، ولو سكت؛ لاستطال أهل البدعة على أهل السنة؛ ففي هذه الحال يجب إظهار السنة وبيان البدعة؛ لأنه من الجهاد في سبيل الله، ولا يعذر من تعين عليه بالخوف على نفسه. الشرط الخامس: أن لا يترتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مفسدة أعظم من السكوت؛ فإن ترتب عليها ذلك؛ فإنه لا يلزمه، بل لا يجوز له أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر. ولهذا قال العلماء: إن إنكار المنكر ينتج منه إحدى أحوال أربعة: إما أن يزول المنكر، أو يتحول إلى أخف منه، أو إلى مثله، أو إلى أعظم منه. - أما الحالة الأولى والثانية؛ فالإنكار واجب. - وأما في الثالثة؛ فهي في محل نظر. - وأما في الرابعة، فلا يجوز الإنكار؛ لأن المقصود بإنكار المنكر إزالته أو تخفيفه. مثال ذلك: إذا أراد أن يأمر شخصًا بفعل إحسان، لكن

يستلزم فعل هذا الإحسان ألا يصلي مع الجماعة؛ فهنا لا يجوز الأمر بهذا المعروف؛ لأنه يؤدي إلى ترك واجب من أجل فعل مستحب. وكذلك في المنكر لو كان إذا نهى عن هذا المنكر؛ تحول الفاعل له إلى فعل منكر أعظم؛ فإنه في هذه الحال لا يجوز أن ينهى عن هذا المنكر دفعًا لأعلى المفسدتين بأدناهما. ويدل لهذا قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]؛ فإن سب آلهة المشركين؛ لا شك أنَّه أمر مطلوب، لكن لما كان يترتب عليه أمر محظور أعظم من المصلحة التي تكون بسب آلهة المشركين، وهو سبهم لله تعالى عدوًا بغير علم؛ نهى الله عن سب آلهة المشركين في هذه الحال. ولو وجدنا رجلًا يشرب الخمر، وشرب الخمر منكر، فلو نهيناه عن شربه؛ لذهب يسرق أموال الناس ويستحل أعراضهم؛ فهنا لا ننهاه عن شرب الخمر؛ لأنه يترتب عليه مفسدة أعظم. الشرط السادس: أن يكون هذا الآمر أو الناهي قائمًا بما يأمر به منتهيًا عما ينهى عنه، وهذا على رأي بعض العلماء، فإن كان غير قائم بذلك؛ فإنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر؛ لأن الله تعالى قال لبني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]؛ فإذا كان هذا الرجل لا يصلي؛ فلا يأمر غيره بالصلاة، وإن كان يشرب الخمر؛ فلا

ينهى غيره عنها، ولهذا قال الشاعر: لا تَنْهَ عَن خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عارٌ عَلَيْكَ إذا فَعَلْتَ عَظيمُ فهم استدلوا بالأثر والنظر. ولكن الجمهور على خلاف ذلك، وقالوا: يجب أن يأمر بالمعروف، وإن كان لا يأتيه، وينهى عن المنكر، وإن كان يأتيه، وإنما وبخ الله تعالى بني إسرائيل، لا على أمرهم بالبر، ولكن على جمعهم بين الأمر بالبر ونسيان النفس. وهذا القول هو الصحيح؛ فنقول: أنت الآن مأمور بأمرين: الأول: فعل البر، والثاني: الأمر بالبر. منهي عن أمرين: الأول: فعل المنكر، والثاني: ترك النهي عن فعله. فلا تجمع بين ترك المأمورين وفعل المنهيين، فإن ترك أحدهما لا يستلزم سقوط الآخر. فهذه ستة شروط؛ منها أربعة للجواز، وهن الأول والثاني والثالث والخامس، على تفصيل فيه، واثنان للوجوب، وهما الرابع والسادس؛ على خلاف فيهن. * ولا يشترط أن لا يكون من أصول الآمر أو الناهي كأبيه أو أمه أو جده أو جدته، بل ربما نقول: إن هذا يتأكد أكثر؛ لأن من بر الوالدين أن ينهاهما عن فعل المعاصي ويأمرهما بفعل الطاعات.

إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا

قد يقول: أنا إذا نهيت أبي؛ غضب علي، وزعل، وهجرني؛ فماذا أصنع؟ نقول: اصبر على هذا الَّذي ينالك بغضب أبيك وهجره، والعاقبة للمتقين، واتبع ملة أبيك إبراهيم - عليه السلام -؛ حيث عاتب أباه على الشرك؛ فقال: {يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ...} إلى أن قال: {يَاأَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ} أي: أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم: 42 - 46]. وقال إبراهيم أيضًا لأبيه آزر: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 74]. * * * * قوله: "ويرون إقامة الحج، والجهاد، والجمع، والأعياد؛ مع الأمراء، أبرارًا كانوا أو فجارًا". * الأبرار: جمع بَر، وهو كثير الطاعة، والفجار: جمع فاجر وهو العاصي كثير المعصية. * فأهل السنة رحمهم الله يخالفون أهل البدع تمامًا؛ فيرون إقامة الحج مع الأمير، وإن كان من أفسق عباد الله. * وكان الناس فيما سبق يجعلون على الحج أميرًا؛ كما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أميرًا على الحج في العام التاسع من الهجرة، وما

زال الناس على ذلك، يجعلون للحج أميرًا قائدًا يدفعون بدفعه ويقفون بوقوفه، وهذا هو المشروع؛ لأن المسلمين يحتاجون إلى إمام يقتدون به، أما كون كل إنسان على رأسه؛ فإنه يحصل به فوضى واختلاف. فهم يرون إقامة الحج مع الأمراء، وإن كانوا فساقًا، حتَّى وإن كانوا يشربون الخمر في الحج، لا يقولون: هذا إمام فاجر، لا نقبل إمامته؛ لأنهم يرون أن طاعة ولي الأمر واجبة، وإن كان فاسقًا، بشرط أن لا يخرجه فسقه إلى الكفر البواح الَّذي عندنا فيه من الله برهان؛ فهذا لا طاعة له، ويجب أن يزال عن تولي أمور المسلمين، لكن الفجور الَّذي دون الفسق مهما بلغ؛ فإن الولاية لا تزول به، بل هي ثابتة، والطاعة لولي الأمر واجبة في غير المعصية: - خلافًا للخوارج، الذين يرون أنَّه لا طاعة للإمام والأمير إذا كان عاصيًا، لأن من قاعدتهم: أن الكبيرة تخرج من الملة. - وخلافًا للرافضة الذين يقولون: إنه لا إمام إلا المعصوم، وإن الأمة الإسلامية منذ غاب من يزعمون أنَّه الإمام المنتظر، ليست على إمام، ولا تبعًا لإمام، بل هي تموت ميتة جاهلية من ذلك الوقت إلى اليوم، ويقولون: إنه لا إمام إلا الإمام المعصوم، ولا حج ولا جهاد مع أي أمير كان؛ لأن الإمام لم يأت بعد. * لكن أهل السنة والجماعة يقولون: نحن نرى إقامة الحج مع الأمراء سواء كانوا أبرارًا أو فجارًا، وكذلك إقامة الجهاد مع

فعل الأمير للمنكر يلزم منه محذوران عظيمان

الأمير، ولو كان فاسقًا، ويقيمون الجهاد مع أمير لا يصلي معهم الجماعة، بل يصلي في رحله. فأهل السنة والجماعة لديهم بعد نظر؛ لأن المخالفات في هذه الأمور معصية لله ورسوله، وتجر إلى فتن عظيمة. فما الَّذي فتح باب الفتن والقتال بين المسلمين والاختلاف في الآراء إلا الخروج على الأئمة؟! فيرى أهل السنة والجماعة وجوب إقامة الحج والجهاد مع الأمراء، وإن كانوا فجارًا. * ولكن هذا لا يعني أن أهل السنة والجماعة لا يرون أن فعل الأمير منكر، بل يرون أنَّه منكر، وأن فعل الأمير للمنكر قد يكون أشد من فعل عامة الناس؛ لأن فعل الأمير للمنكر يلزم منه زيادة على إثمه محذوران عظيمان: الأول: اقتداء الناس به وتهاونهم بهذا المنكر. والثاني: أن الأمير إذا فعل المنكر سيقل في نفسه تغييره على الرعية أو تغيير مثله أو مقاربه. * لكن أهل السنة والجماعة يقولون: حتَّى مع هذا الأمر المستلزم لهذين المحذورين أو لغيرهما؛ فإنه يجب علينا طاعة ولاة الأمور، وإن كانوا عصاة؛ فنقيم معهم الحج والجهاد، وكذلك الجمع؛ نقيمها مع الأمراء، ولو كانوا فجارًا. فالأمير إذا كان يشرب الخمر مثلًا، ويظلم الناس بأموالهم؛

نصلي خلفه الجمعة، وتصح الصلاة، حتَّى إن أهل السنة والجماعة يرون صحة الجمعة خلف الأمير المبتدع إذا لم تصل بدعته إلى الكفر؛ لأنهم يرون أن الاختلاف عليه في مثل هذه الأمور شر، ولكن لا يليق بالأمير الَّذي له إمامة الجمعة أن يفعل هذه المنكرات. وكذلك أيضًا إقامة الأعياد مع الأمراء الذين يصلون بهم، أبرارًا كانوا أو فجارًا. * وبهذه الطريق الهادئة يتبين أن الدين الإسلامي وسط بين الغالي فيه والجافي عنه. * فقد يقول قائل: كيف نصلي خلف هؤلاء ونتابعهم في الحج والجهاد والجمع والأعياد؟! فنقول: لأنهم أئمتنا، ندين لهم بالسمع والطاعة: امتثالًا لأمر الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]. ولأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إنكم سترون بعدي أثرة وأمورًا تنكرونها". قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟! قال: "أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم". رواه مسلم (¬1). وحقهم: طاعتهم في غير معصية الله. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (7052)، ومسلم (1843)؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

فعن وائل بن حجر؛ قال: سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقهم ويمنعونا حقنا؛ فما تأمرنا؟ قال: "اسمعوا وأطيعوا؛ فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم". رواه مسلم (¬1). وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه؛ قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله. قال: "إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم فيه من الله برهان" (¬2). ولأننا لو تخلفنا عن متابعتهم؛ لشققنا عصا الطاعة الَّذي يترتب على شقه أمور عظيمة، ومصائب جسيمة. * والأمور التي فيها تأويل واختلاف بين العلماء إذا ارتكبها ولاة الأمور؛ لا يحل لنا منابذتهم ومخالفتهم، لكن يجب علينا مناصحتهم بقدر المستطاع فيما خالفوا فيه؛ مما لا يسوغ فيه الاجتهاد، وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد؛ فنبحث معهم فيه بحث تقدير واحترام؛ لنبين لهم الحق، لا على سبيل الانتقاد لهم والانتصار للنفس، وأما منابذتهم وعدم طاعتهم؛ فليس من طريق أهل السنة والجماعة. * * * ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1846). (¬2) رواه البخاري (7056)، ومسلم (1709).

المحافظة على إقامة الجماعات في الصلوات

* قوله: "ويحافظون على الجماعات". * أي: يحافظ أهل السنة والجماعة على الجماعات؛ أي: على إقامة الجماعة في الصلوات الخمس؛ يحافظون عليها محافظة تامة؛ بحيث إذا سمعوا النداء؛ أجابوا وصلوا مع المسلمين؛ فمن لم يحافظ على الصلوات الخمس؛ فقد فاته من صفات أهل السنة والجماعة ما فاته من هذه الجماعات. * وربما يدخل في الجماعات الاجتماع على الرأي وعدم النزاع فيه، فإن هذا ما أوصى به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معاذ بن جبل وأبا موسى حين بعثهما إلى اليمن، فقال: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا". رواه البخاري (¬1). * * * * قوله: "ويدينون بالنصيحة للأمة": * "يدينون"، أي: يتعبدون لله عزَّ وجلَّ بالنصيحة للأمة، ويعتقدون ذلك دينًا. * والنصح للأمة قد يكون الحامل عليه غير التعبد لله، فقد يكون الحامل عليه الغيرة، وقد يكون الحامل عليه الخوف من العقوبات، وقد يكون الحامل عليه أن يتخلق بالأخلاق الفاضلة ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (4341، 4342)، ومسلم (1733)؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

التي يريد بها نفع المسلمين ... إلى غير ذلك من الأسباب. * لكن هؤلاء ينصحون للأمة طاعة لله تعالى وتدينًا له؛ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث تميم بن أوس الداري: "الدين النصيحة، الدين النصيحة". قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم" (¬1). - فالنصيحة لله صدق الطلب في الوصول إليه. - والنصيحة للرسول عليه الصلاة والسلام صدق الاتباع له، ويستلزم ذلك الذود عن دين الله عزَّ وجلَّ، الَّذي جاء به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال: "ولكتابه". - فينصح للقرآن ببيان أنَّه كلام الله، وأنه منزل غير مخلوق، وأنه يجب تصديق خبره وامتثال أحكامه، وهو كذلك يعتقده في نفسه. - وأئمة المسلمين كل من ولاه الله أمرًا من أمور المسلمين؛ فهو إمام في ذلك الأمر؛ فهناك إمام عام كرئيس الدولة، وهناك إمام خاص؛ كالأمير والوزير والمدير والرئيس وأئمة المساجد وغيرهم. - وعامتهم؛ يعني: عامة المسلمين، وهم التابعون للأئمة. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (55).

- ومن أعظم أئمة المسلمين العلماء، والنصيحة لعلماء المسلمين هي نشر محاسنهم، والكف عن مساوئهم، والحرص على إصابتهم الصواب؛ بحيث يرشدهم إذا أخطؤوا، ويبين لهم الخطأ على وجه لا يخدش كرامتهم، ولا يحط من قدرهم؛ لأن تخطئة العلماء على وجه يحط من قدرهم ضرر على عموم الإسلام؛ لأن العامة إذا رأوا العلماء يضلل بعضهم بعضًا، سقطوا من أعينهم، وقالوا: كل هؤلاء راد ومردود عليه، فلا ندري من الصواب معه! فلا يأخذون بقول أي واحد منهم، لكن إذا احترم العلماء بعضهم بعضًا، وصار كل واحد يرشد أخاه سرًّا إذا أخطأ، ويعلن للناس القول الصحيح؛ فإن هذا من أعظم النصيحة لعلماء المسلمين. * وقول المؤلف: "للأمة": يشمل الأئمة والعامة؛ فأهل السنة والجماعة يدينون بالنصيحة للأمة؛ أئمتهم وعامتهم. وكان مما يبايع الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه: "والنصح لكل مسلم" (¬1). * فإذا قال قائل: ما هو ميزان النصيحة للأمة؟ فالميزان هو ما أشار إليه النبي عليه الصلاة والسلام؛ بقوله: "لا يؤمن أحدكم حتَّى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" (¬2)، فإذا عاملت ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (57)، ومسلم (56)؛ عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه. (¬2) البخاري (13)، ومسلم (45)؛ عن أنس رضي الله عنه.

المؤمن للمؤمن كالبنيان

الناس هذه المعاملة؛ فهذا هو تمام النصيحة. فقبل أن تعامل صاحبك بنوع من المعاملة فكر؛ هل ترضى أن يعاملك شخص بها؟ فإن كنت لا ترضى؛ فلا تعامله!! * * * * قوله: "ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضًا"، وشبك بين أصابعه (¬1) ". * شبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم المؤمن لأخيه المؤمن بالبنيان الَّذي يشد بعضه بعضًا، حتَّى يكون بناء محكمًا متماسكًا يشد بعضه بعضًا، ويقوى به، ثم قرب هذا وأكده، فشبك بين أصابعه. فالأصابع المتفرقة فيها ضعف؛ فإذا اشتبكت؛ قوَّى بعضها بعضًا؛ فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا؛ فالبنيان يمسك بعضه بعضًا، كذلك المؤمن مع أخيه إذا صار في أخيه نقص؛ فإن هذا يكمله؛ فهو مرآة أخيه إذا وجد فيه النقص؛ كمله إذا احتاج أخوه؛ ساعده، إذا مرض أخوه؛ عاده ... وهكذا في كل الأحوال. * فأهل السنة والجماعة يعتقدون هذا المعنى ويطبقونه عملًا. ¬

_ (¬1) البخاري (6026)، ومسلم (2585)؛ عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

* قوله: "وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو؛ تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" (¬1) ". * "قوله" هنا معطوف على "قوله" في الحديث السابق. * "مثل المؤمنين في توادهم"؛ أي: مودة بعضهم بعضًا. * "وتراحمهم": رحمة بعضهم بعضًا. * "وتعاطفهم": عطف بعضهم على بعض. * "كالجسد الواحد"؛ أي: أنهم يشتركون في الآمال والآلام، فيرحم بعضهم بعضًا، فإذا احتاج؛ أزال حاجته، ويعطف بعضهم على بعض باللين والرفق وغير ذلك ... ويود بعضهم بعضًا، حتَّى إن الواحد منهم إذا رأى في قلبه بغضاء لأحد من إخوانه المسلمين؛ حاول أن يزيله وأن يذكر من محاسنه ما يوجب زوال هذه البغضاء. فالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، ولو من أصغر الأعضاء؛ تداعى له سائر الجسد؛ فإذا أوجعك أصبعك الخنصر الَّذي هو من أصغر الأعضاء؛ فإن الجسد كله يتألم ... إذا أوجعتك الأذن؛ تألم الجسد كله ... وإذا أوجعتك العين؛ تألم الجسد كله ... وغير ذلك؛ ¬

_ (¬1) البخاري (6011)، ومسلم (2586)؛ عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.

الصبر عند البلاء

فهذا المثل الَّذي ضربه النبي عليه الصلاة والسلام مثل مصور للمعنى ومقرب له غاية التقريب. * * * * قوله: "ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضى بمر القضاء": * "يأمرون": قد يقال: إن هذه الكلمة تشمل أمر نفوسهم؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53]، فهم يأمرون حتَّى أنفسهم. * "بالصبر عند البلاء": الصبر: هو تحمل البلاء، وحبس النفس عن التسخط بالقلب أو اللسان أو الجوارح. والبلاء: المصيبة، قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 155، 156]. فالصبر يكون عند البلاء، وأفضله وأعلاه الصبر عند الصدمة الأولى، وهذا عنوان الصبر الحقيقي، كما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - للمرأة التي مر بها وهي تبكي عند قبر، فقال لها: "اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى" (¬1)، أما بعد أن تبرد ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1283)، ومسلم (926)؛ عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

الشكر عند الرخاء

الصدمة؛ فإن الصبر يكون سهلًا، ولا ينال به كمال الصبر. * فأهل السنة والجماعة يأمرون بالصبر عند البلاء، وما من إنسان؛ إلا يبتلى إما في نفسه وإما في أهله، وإما في ماله، وإما في صحبه، وإما في بلده، وإما في المسلمين عامة. ويكون ذلك إما في الدنيا وإما في الدين، والمصيبة في الدين أعظم بكثير من المصيبة في الدنيا. * فأهل السنة والجماعة يأمرون بالصبر عند البلاء في الأمرين: - فأما الصبر على بلاء الدنيا؛ فأن يتحمل المصيبة كما سبق. - وأما الصبر على بلاء الدين، فأن يثبت على دينه، ولا يتزعزع عنه، ولا يكن كمن قال الله تعالى فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 10]. * "ويأمرون"؛ أي: أهل السنة والجماعة. * "الشكر عند الرخاء": الرخاء: سعة في العيش، والأمن في الوطن، فيأمرون عند ذلك بالشكر. * وأيهما أشق: الصبر على البلاء، أو الشكر عند الرخاء؟ اختلف العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إن الصبر على البلاء أشق، وقال آخرون: الشكر عند الرخاء أشق.

الرضى بمر القضاء

والصواب أن لكل واحد آفته ومشقته؛ لأن الله عزَّ وجلَّ قال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 9، 10]. لكن كل منهما قد يهونه بعض التفكير: فالمصاب إذا فكر وقال: إن جزعي لا يرد المصيبة ولا يرفعها؛ فإما أن أصبر صبر الكرام، وإما أن أسلو سلو البهائم، فإن عليه الصبر، وكذلك الَّذي في رخاء ورغد. * لكن أهل السنة والجماعة يأمرون بهذا وهذا؛ بالصبر عند البلاء والشكر عند الرخاء. * "ويأمرون"؛ أي: أهل السنة والجماعة. * "بالرضى بمر القضاء": الرضى أعلى من الصبر. ومر القضاء: هو ما لا يلائم طبيعة الإنسان، ولهذا عبر عنه بـ "المر". * فإذا قضى الله قضاء لا يلائم طبيعة البشر، وتأذى به؛ سمي ذلك مر القضاء؛ فهو ليس لذيذًا ولا حلوًا، بل هو مر؛ فهم يأمرون بالرضى بمر القضاء. * واعلم أن مر القضاء لنا فيه نظران: النظر الأول: باعتباره فعلًا واقعًا من الله. والنظر الثاني: باعتباره مفعولًا له. فباعتبار كونه فعلًا من الله يجب علينا أن نرضى به، وألا

المصابون لهم تجاه المصائب أربعة مقامات

نعترض على ربنا به؛ لأن هذا من تمام الرضى بالله ربًّا. وأما باعتباره مفعولًا له؛ فهذا يسن الرضى به، ويجب الصبر عليه. * فالمرض باعتبار كون الله قدره الوضى به واجب، وباعتبار المرض نفسه يسن الرضى به، وأما الصبر عليه؛ فهو واجب، والشكر عليه مستحب. * ولهذا نقول: المصابون لهم تجاه المصائب أربعة مقامات: المقام الأول: السخط، والثاني: الصبر، والثالث: الرضى، والرابع: الشكر. فأما السخط؛ فحرام، بل هو من كبائر الذنوب؛ مثل أن يلطم خده، أو ينتف شعره، أو يشق ثوبه، أو يقول: وا ثبوراه! أو يدعو على نفسه بالهلاك وغير ذلك مما يدل على السخط؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ليس منا من شق الجيوب ولطم الخدود ودعا بدعوى الجاهلية" (¬1). الثاني: الصبر: بأن يحبس نفسه قلبًا ولسانًا وجوارح عن التسخط؛ فهذا واجب. الثالث: الرضى: والفرق بينه وبين الصبر: أن الصابر يتجرع المر، لكن لا يستطيع أن يتسخط؛ إلا أن هذا الشيء في نفسه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1298)، ومسلم (103)؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

صب ومر، ويتمثل بقول الشاعر: وَالصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِهِ مُرٌّ مَذاقَتُهُ ... لَكِنْ عَواقِبُهُ أحْلى مِنَ العَسَلِ لكن الراضي لا يذوق هذا مرًّا، بل هو مطمئن، وكأن هذا الشيء الَّذي أصابه لا شيء. وجمهور العلماء على أن الرضى بالمَقْضِي مستحب. وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصحيح. الرابع: الشكر: وهو أن يقول بلسانه وحاله: "الحمد لله"، ويرى أن هذه المصيبة نعمة. * لكن؛ هذا المقام؛ قد يقول قائل: كيف يكون؟! فنقول: يكون لمن وفقه الله تعالى: فأولًا: لأنه إذا علم أن هذه المصيبة كفارة للذنب، وأن العقوبة على الذنب في الدنيا أهون من تأخير العقوبة في الآخرة؛ صارت هذه المصيبة عنده نعمة يشكر الله عليها. وثانيًا: أن هذه المصيبة إذا صبر عليها؛ أثيب؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]. فيشكر الله على هذه المصيبة الموجبة للأجر. وثالثًا: أن الصبر من المقامات العالية عند أرباب السلوك، لا

القضاء يطلق على معنيين

ينال إلا بوجود أسبابه، فيشكر الله على نيل هذا المقام. * ويُذْكَر أن بعض العابدات أصيبت في أصبعها، فشكرت الله، فقيل لها في ذلك، فقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها. * فأهل السنة والجماعة رحمهم الله يأمرون بالصبر على البلاء والشكر عند الرخاء والرضى بمر القضاء. تتمة: القضاء يطلق على معنيين: أحدهما: حكم الله تعالى الَّذي هو قضاؤه ووصفه؛ فهذا يجب الرضى به بكل حال، سواء كان قضاء دينيًّا أم قضاء كونيًّا، لأنه حكم الله تعالى، ومن تمام الرضى بربوبيته. - فمثال القضاء الديني قضاؤه بالوجوب والتحريم والحل، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23]. - ومثال القضاء الكوني: قضاؤه بالرخاء والشدة والغنى والفقر والصلاح والفساد والحياة والموت، ومنه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} [سبأ: 14]، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4]. المعنى الثاني: المقضي، وهو نوعان: الأول: المقضي شرعًا، فيجب الرضى به وقبوله، فيفعل

الدعوة إلى مكارم الأخلاق

المأمور به، ويترك المنهي عنه، ويتمتع بالحلال. والنوع الثاني: المقضي كونًا: - فإن كان من فعل الله؛ كالفقر والمرض والجدب والهلاك ونحو ذلك؛ فقد تقدم أن الرضى به سنة، لا واجب، على القول الصحيح. - وإن كان من فعل العبد؛ جرت فيه الأحكام الخمسة؛ فالرضى بالواجب واجب، وبالمندوب مندوب، وبالمباح مباح، وبالمكروه مكروه، وبالحرام حرام. * * * * قوله: "ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال": * "مكارم الأخلاق"؛ أي: أطايبها، والكريم من كل شيء هو الطيب منه بحسب ذلك الشيء منه قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: "إياك وكرائم أموالهم" (¬1)؛ حين أمره بأخذ الزكاة من أهل اليمن. * والأخلاق: جمع خلق، وهو الصورة الباطنة في الإنسان؛ يعني: السجايا والطبائع؛ فهم يدعون إلى أن يكون الإنسان سريرته كريمة؛ فيحب الكرم والشجاعة والتحمل من الناس والصبر، وأن يلاقي الناس بوجه طلق وصدر منشرح ونفس مطمئنة؛ كل هذه من مكارم الأخلاق. ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (4347)، ومسلم (19)؛ عن ابن عباس رضي الله عنهما.

* وأما "محاسن الأعمال"؛ فهي مما يتعلق بالجوارح، ويشمل الأعمال التعبدية والأعمال غير التعبدية؛ مثل البيع والشراء والإجارة؛ حيث يدعون الناس إلى الصدق والنصح في الأعمال كلها، وإلى تجنب الكذب والخيانة، وإذا كانوا يدعون الناس إلى ذلك؛ فهم بفعله أولى. * قوله: "ويعتقدون معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا" (¬1). * هذا الحديث ينبغي أن يكون دائمًا نصب عيني المؤمن؛ فأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا مع الله ومع عباد الله. - أما حسن الخلق مع الله؛ فأن تتلقى أوامره بالقبول والإذعان والانشراح وعدم الملل والضجر، وأن تتلقى أحكامه الكونية بالصبر والرضى وما أشبه ذلك. - أما حسن الخلق مع الخَلْق؛ فقيل: هو بذل الندى، وكف الأذى، وطلاقة الوجه. بذل الندى؛ يعني: الكرم، وليس خاصًّا بالمال، بل بالمال والجاه والنفس، وكل هذا من بذل الندى. وطلاقة الوجه ضده العبوس. ¬

_ (¬1) رواه: أحمد (2/ 250)، والترمذي (2612)، وأبو داود (4682)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 53)، وابن حبان (2/ 227)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث حسنه الألباني في "الصحيحة" (284).

وكذلك كف الأذى بأن لا يؤذي أحدًا لا بالقول ولا بالفعل. * * * * قوله: "ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك": * "يندبون"، أي: يدعون. * "أن تصل من قطعك": من الأقارب ممن تجب صلتهم عليك، إذا قطعوك؛ فصلهم، لا تقل: من وصلني؛ وصلته! فإن هذا ليس بصلة؛ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: "ليس الواصل بالمكافئ، إنما الواصل من إذا قطعت رحمه؛ وصلها" (¬1)، فالواصل هو الَّذي إذا قطعت رحمه؛ وصلها. وسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ، فقال: يا رسول الله! إن لي أقارب؛ أصلهم ويقطعونني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن كنت كما قلت" فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك" (¬2). "تسفهم المل"، أي: كأنما تضع التراب أو الرماد الحار في أفواههم. * فأهل السنة يندبون إلى أن تصل من قطعك، وأن تصل من وصلك بالأولى؛ لأن من وصلك وهو قريب، صار له حقان: حق ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5991) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬2) رواه مسلم (2558) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

القرابة، وحق المكافأة؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "من صنع إليكم معروفًا؛ فكافئوه" (¬1). * "وتعطي من حرمك"؛ أي: من منعك، ولا تقل: منعني؛ فلا أعطيه. * "وتعفو عمن ظلمك"؛ أي: من انتقصك حقك: إما بالعدوان، وإما بعدم القيام بالواجب. * والظلم يدور على أمرين: اعتداء وجحود: إما أن يعتدى عليك بالضرب وأخذ المال وهتك العرض، وإما أن يجحدك فيمنعك حقك. وكمال الإنسان أن يعفو عمن ظلمه. * ولكن العفو إنما يكون عند القدرة على الانتقام، فأنت تعفو مع قدرتك على الانتقام. أولًا: رجاء لمغفرة الله عزَّ وجلَّ ورحمته؛ فإن من عفا وأصلح؛ فأجره على الله. ثانيًا: لإصلاح الود بينك وبين صاحبك؛ لأنك إذا قابلت إساءته بإساءة؛ استمرت الإساءة بينكما، وإذا قابلت إساءته بإحسان؛ عاد إلى الإحسان إليك، وخجل. قال الله تعالى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (2/ 190).

الأمر ببر الوالدين

أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]. فالعفو عند المقدرة من سمات أهل السنة والجماعة، لكن بشرط أن يكون العفو إصلاحًا؛ فإن تضمن العفو إساءة؛ فإنهم لا يندبون إلى ذلك؛ لأن الله اشترط، فقال: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى: 40]؛ أي: كان في عفوه إصلاح، أما من كان في عفوه إساءة، أو كان سببًا للإساءة؛ فهنا نقول: لا تعف! مثل أن يعفو عن مجرم، ويكون عفوه هذا سببًا لاستمرار هذا المجرم في إجرامه؛ فترك العفو هنا أفضل، وربما يجب ترك العفو حينئذ. * * * * قوله: "ويأمرون ببر الوالدين": وذلك لعظم حقهما. * ولم يجعل الله لأحد حقًّا يلي حقه وحق وسوله إلا للوالدين، فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]. وحق الرسول في ضمن الأمر بعبادة الله؛ لأنه لا تتحقق العبادة حتى يقوم بحق الرسول عليه الصلاة والسلام؛ بمحبته واتباع سبيله، ولهذا كان داخلًا في قوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}، وكيف يعبد الله إلا من طريق الرسول - صلى الله عليه وسلم -؟! وإذا عبد الله على مقتضى شريعة الرسول؛ فقد أدى حقه. ثم يلي ذلك حق الوالدين؛ فالوالدان تعبا على الولد، ولا سيما الأم، قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ

كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15]، وفي آية أخرى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} [لقمان: 14]، والأم تتعب في الحمل، وعند الوضع، وبعد الوضع، وترحم صبيها أشد من رحمة الوالد له، ولهذا كانت أحق الناس بحسن الصحبة والبر، حتى من الأب. قال رجل: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك". قال: ثم من؟ قال: "أمك". ثم قال في الرابعة: "ثم أبوك" (¬1). والأب أيضًا يتعب في أولاده، ويضجر بضجرهم، ويفرح لفرحهم، ويسعى بكل الأسباب التي فيها راحتهم وطمأنينتهم وحسن عيشهم، يضرب الفيافي والقفار من أجل تحصيل العيش له ولأولاده. فكل من الأم والأب له حق؛ مهما عملت من العمل؛ لن تقضي حقهما، ولهذا قال الله عزَّ وجلَّ: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]؛ فحقهم سابق؛ حيث ربياك صغيرًا حين لا تملك لنفسك نفعًا ولا ضرًّا؛ فواجبهما البر. * والبر فرض عين بالإجماع على كل واحد من الناس، ولهذا قدمه النبي - صلى الله عليه وسلم - على الجهاد في سبيل الله؛ كما في حديث ابن مسعود؛ قال: قلت: يا رسول الله! أي العمل حب إلى الله؟ ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (5971)، ومسلم (2548)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.

قال: "الصلاة على وقتها". قلت: ثم أي؟ قال: "بر الوالدين". قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" (¬1). * والوالدان هما الأب والأم، أما الجد والجدة؛ فلهما بر، لكنه لا يساوي بر الأم والأب؛ لأن الجد والجدة لم يحصل لهما ما حصل للأم والأب من التعب والرعاية والملاحظة؛ فكان برهما واجبًا من باب الصلة، لكن هما أحق الأقارب بالصلة، أما البر؛ فإنه للأم والأب. * لكن؛ ما معنى البر؟ البر: إيصال الخير بقدر ما تستطيع، وكف الشر. إيصال الخير بالمال، إيصال الخير بالخدمة، إيصال الخير بإدخال السرور عليهما، من طلاقة الوجه، وحسن المقال والفعال، وبكل ما فيه راحتهما. * ولهذا كان القول الراجح وجوب خدمة الأب والأم على الأولاد، إذا لم يحصل على الولد ضرر، فإن كان عليه ضرر؛ لم يجب عليه خدمتهما، اللهم إلا عند الضرورة. ولهذا نقول: إن طاعتهما واجبة فيما فيه نفع لهما ولا ضرر على الولد فيه، أما ما فيه ضرر عليه، سواء كان ضررًا دينيًّا؛ كأن يأمراه بترك واجب أو فعل محرم؛ فإنه لا طاعة لهما في ذلك، أو كان ضررًا بدنيًّا؛ فلا يجب عليه طاعتهما. أما المال، فيجب عليه ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (5970)، ومسلم (85)؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

الأمر بصلة الأرحام

أن يبرهما ببذله، ولو كثر، إذا لم يكن عليه ضرر، ولم تتعلق به حاجته، والأب خاصة له أن يأخذ من مال ولده ما شاء، ما لم يضر. * وإذا تأملنا في أحوال الناس اليوم؛ وجدنا كثيرًا منهم لا يبر بوالديه، بل هو عاق؛ تجده يحسن إلى أصحابه، ولا يمل الجلوس معهم، لكن لو يجلس إلى أبيه أو أمه ساعة من نهار؛ لوجدته متململًا، كأنما هو على الجمر؛ فهذا ليس ببار، بل البار من ينشرح صدره لأمه وأبيه ويخدمهما على أهداب عينيه، ويحرص غاية الحرص على رضاهما بكل ما يستطيع. وكما قالت العامة: "البر أسْلاف"؛ فإن البر مع كونه يحصل به البار على ثواب عظيم في الآخرة؛ فإنه يجازى به في الدنيا. فالبر والعقوق كما يقول العوام: "أسلاف"، أقراض؛ تستوفى، إن قدمت البر؛ برك أولادك، وإن قدمت العقوق؛ عقك أولادك ... وهنا حكايات كثيرة في أن من الناس من بر والديه فبر به أولاده، وكذلك العقوق فيه حكايات تدل على أن الإنسان عقه أولاده كما عق هو آباءه. فأهل السنة والجماعة يأمرون ببر الوالدين. * * * * وكذلك يأمرون بصلة الأرحام. * ففرق بين الوالدين والأقارب الآخرين، الأقارب لهم

الصلة، والوالدان لهما البر، والبر أعلى من الصلة؛ لأن البر كثرة الخير والإحسان، لكن الصلة ألا يقطع، ولهذا يقال في تارك البر: إنه عاق، ويقال فيمن لم يصل: إنه قاطع! * فصلة الأرحام واجبة، وقطعها سبب للعنة والحرمان من دخول الجنة. قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22 - 23]. وقال النبي عليه الصلاة والسلام: "لا يدخل الجنة قاطع" (¬1)؛ أي: قاطع رحم. * والصلة جاءت في القرآن والسنة مطلقة. وَكُلُّ ما أتى وَلَمْ يُحَدَّدِ ... بِالشَّرْعِ كَالحِرْزِ فَبِالعُرْفِ احْدُدِ (¬2) وعلى هذا؛ يرجع إلى العرف فيها؛ فما سماه الناس صلة؛ فهو صلة، وما سماه قطيعة؛ فهو قطيعة، وهذه تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة والأمم. - إذا كان الناس في حالة فقر، وأنت غني، وأقاربك فقراء؛ فصلتهم أن تعطيهم بقدر حالك. ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (5984)، ومسلم (2556)؛ عن جبير بن مطعم رضي الله عنه. (¬2) من منظومة الشيخ حفظه الله في أصول الفقه، انظر "مجلة الحكمة" العدد (1).

الأمر بحسن الجوار

- وإذا كان الناس أغنياء، وكلهم في خير؛ فيمكن أن الذهاب إلى أقاربك في الصباح أو المساء يعد صلة. * وفي زماننا هذا الصلة بين الناس قليلة، وذلك لانشغال الناس في حوائجهم، وانشغال بعضهم عن بعض، والصلة التامة أن تبحث عن حالهم، وكيف أولادهم، وترى مشاكلهم، ولكن هذه مع الأسف مفقودة؛ كما أن البر التام مفقود عند كثير من الناس. * * * * قوله: "وحسن الجوار": * أي: ويأمرون؛ يعني: أهل السنة والجماعة بحسن الجوار مع الجيران، والجيران هم الأقارب في المنزل، وأدناهم أولاهم بالإحسان والإكرام: قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36]، فأوصى الله بالإحسان إلى الجار القريب والجار البعيد. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم جاره" (¬1). وقال: "إذا طبخت مرقة؛ فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك". وقال: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (6135)، ومسلم (48)؛ عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه.

سيورثه" (¬1). وقال: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن؛ قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" (¬2). إلى غير ذلك من النصوص الدالة على العناية بالجار والإحسان إليه وإكرامه. * والجار إن كان مسلمًا قريبًا؛ كان له ثلاثة حقوق: حق الإسلام، وحق القرابة، وحق الجوار. وإن كان قريبًا جارًا؛ فله حقان: حق القرابة، وحق الجوار. وإن كان مسلمًا غير قريب وهو جار؛ فله حقان: حق الإسلام، وحق الجوار. وإن كان جارًا كافرًا بعيدًا؛ فله حق واحد، وهو حق الجوار. * فأهل السنة والجماعة يأمرون بحسن الجوار مطلقًا، أيًّا كان الجار، ومن كان أقرب؛ فهو أولى. * ومن المؤسف أن بعض الناس اليوم يسيئون إلى الجار أكثر مما يسيئون إلى غيره؛ فتجده يعتدي على جاره بالأخذ من ملكه وإزعاجه. وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله في آخر باب الصلح في الفقه ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (6014)، ومسلم (2624)؛ عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري (6016)؛ عن أبي شريح الخزاعي رضي الله عنه.

الأمر بالإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل

شيئًا من أحكام الجوار؛ فليرجع إليه. * * * * قوله: "والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل": * كذلك يأمرون؛ أي: أهل السنة والجماعة بالإحسان إلى هؤلاء الأصناف الثلاثة. * اليتامى: جمع يتيم، وهو الذي مات أبوه قبل بلوغه. وقد أمر الله تعالى بالإحسان إلى اليتامى، وكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - حث عليه في عدة أحاديث (¬1). ووجه ذلك أن اليتيم قد انكسر قلبه بفقد أبيه؛ فهو في حاجة إلى العناية والرفق. والإحسان إلى اليتامى يكون بحسب الحال. * والمساكين: هم الفقراء، وهو هنا شامل للمسكين والفقير. فالإحسان إليهم مما أمر به الشرع في آيات متعددة من القرآن، وجعل لهم حقوقًا خاصة في الفيء وغيره. ووجه الإحسان إليهم أن الفقر أسكنهم وأضعفهم وكسر قلوبهم، فكان من محاسن الإسلام أن نحسن إليهم جبرًا لما حصل ¬

_ (¬1) والتي منها ما رواه البخاري (6005)؛ عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا" وقال: بالسبابة والوسطى.

لهم من النقص والانكسار. والإحسان إلى المساكين يكون بحسب الحال: فإذا كان محتاجًا إلى طعام؛ فالإحسان إليه بأن تطعمه، وإذا كان محتاجًا إلى كسوة؛ فالإحسان إليه بأن تكسوه، وإلى اعتبار بأن توليه اعتبارًا، فإذا دخل المجلس؛ ترحب به، وتقدمه لأجل أن ترفع من معنويته. فمن أجل هذا النقص الذي قدره الله عزَّ وجلَّ عليهم بحكمته أمرنا عزَّ وجلَّ أن نحسن إليهم. * كذلك ابن السبيل، وهو المسافر، وهو هنا المسافر الذي انقطع به السفر، أو لم ينقطع؛ بخلاف الزكاة؛ لأن المسافر غريب، والغريب مستوحش، فإذا آنسته بإكرامه والإحسان إليه؛ فإن هذا مما يأمر به الشرع. فإذا نزل ابن سبيل بك ضيفًا؛ فمن إكرامه أن تكرم ضيافته. لكن قال بعض العلماء: إنه لا يجب إكرامه بضيافته إلا في القرى دون الأمصار! ونحن نقول: بل هي واجبة في القرى والأمصار؛ إلا أن يكون هناك سبب؛ كضيق البيت مثلًا، أو أسباب أخرى تمنع أن تضيف هذا الرجل، لكن على كل حال ينبغي إذا تعذر أن تحسن الرد. * * *

الأمر بالرفق بالمملوك

* قوله: "والرفق بالمملوك"؛ يعني: أن أهل السنة والجماعة يأمرون بالرفق بالمملوك. * وهذا يشمل المملوك الآدمي والبهيم: - فالرفق بالمملوك الآدمى أن تطعمه إذا طعمت، وتكسوه إذا اكتسيت، ولا تكلفه ما لا يطيق. - والرفق بالمملوك من البهائم سواء كانت مما تركب أو تحلب أو تقتنى؛ يختلف بحسب ما تحتاج إليه؛ ففي الشتاء تجعل في الأماكن الدافئة إذا كانت لا تتحمل البرد، وفي الصيف في الأماكن الباردة إذا كانت لا تتحمل الحر، ويؤتى لها بالطعام وبالشراب إن لم تحصل عليه بنفسها بالرعي، وإذا كانت مما تحمل؛ فلا تحمل ما لا تطيق. وهذا يدل على كمال الشرع، وأنه لم ينس حتى البهائم، وعلى شمولية طريقة أهل السنة والجماعة. * * * * قوله: "وينهون عن الفخر والخيلاء والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق". * الفخر بالقول، والخيلاء بالفعل، والبغي العدوان، والاستطالة الترفع والاستعلاء. فينهون عن الفخر: أن يتفاخر الإنسان على غيره بقوله، فيقول: أنا العالم! أنا الغني! أنا الشجاع!

وإن زاد على ذلك أن يستطيل على الآخرين ويقول: ماذا أنتم عندي؟ فيكون هذا فيه بغي واستطالة على الخلق. والخيلاء تكون بالأفعال؛ يتخايل في مشيته وفي وجهه وفي رفع رأسه ورقبته إذا مشى، كأنه وصل إلى السماء، والله عزَّ وجلَّ وبخ من هذا فعله، وقال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37]. فأهل السنة والجماعة ينهون عن هذا، ويقولون: كن متواضعًا في القول وفي الفعل، حتى في القول، لا تثن على نفسك بصفاتك الحميدة؛ إلا حيث دعت الضرورة أو الحاجة إلى ذلك؛ كقول ابن مسعود رضي الله عنه: "لو أعلم أحدًا هو أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل؛ لركبت إليه" (¬1)؛ فإنه رضي الله عنه قصد بذلك أمرين: الأول: حث الناس على تعلم كتاب الله تعالى. والثاني: دعوتهم للتلقي عنه. والإنسان ذو الصفات الحميدة لا يظن أن الناس تخفى عليهم خصاله أبدًا، سواء ذكرها للناس أم لم يذكرها، بل إن الرجل إذا صار يعدد صفاته الحميدة أمام الناس؛ سقط من أعينهم؛ فاحذر هذا الأمر. * والبغي: العدوان على الغير، ومواقعه ثلاثة بينها الرسول ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2463).

- صلى الله عليه وسلم - في قوله: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" (¬1). فالبغي على الخلق بالأموال والدماء والأعراض. - في الأموال؛ مثل أن يدعي ما ليس له، أو ينكر ما كان عليه، أو يأخذ ما ليس له؛ فهذا بغي على الأموال. - وفي الدماء: القتل فما دونه؛ يعتدي على الإنسان بالجرح والقتل. - وفي الأعراض: يحتمل أن يراد بها الأعراض؛ يعني: السمعة، فيعتدى عليه بالغيبة التي يشوه بها سمعته، ويحتمل أن يراد بها الزنى وما دونه، والكل محرم؛ فأهل السنة والجماعة ينهون عن الاعتداء على الأموال والدماء والأعراض. * وكذلك الاستطالة على الخلق؛ يعني: الاستعلاء عليهم بحق أو بغير حق. فالاستعلاء على الخلق ينهى عنه أهل السنة والجماعة، سواء كان بحق أو بغير حق، والاستعلاء هو أن الإنسان يترفع على غيره. وحقيقة الأمر أن من شكر نعمة الله عليك أن الله إذا من عليك بفضل على غيرك من مال أو جاه أو سيادة أو علم أو غير ذلك؛ فإنه ينبغي أن تزداد تواضعًا، حتى تضيف إلى الحسن حسنًا؛ لأن الذي يتواضع في موضع الرفعة هو المتواضع حقيقة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1739)؛ من حديث ابن عباس، ومسلم (1679)؛ من حديث أبي بكرة.

يأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفسافها

* ومعنى قوله: "بحق"؛ أي: حتى لو كان له الحق في بيان أنه عال مترفع؛ فإن أهل السنة والجماعة ينهون عن الاستعلاء والترفع. أو يقال: إن معنى قوله: "الاستطالة بحق": أن يكون أصل استطالته حقًّا؛ بأن يكون قد اعتدى عليه إنسان، فيعتدي عليه أكثر. فأهل السنة والجماعة رحمهم الله ينهون عن الاستطالة والاستعلاء على الخلق، سواء كان ذلك بحق أو بغير حق. * * * * قوله: "ويأمرون بمعالي الأخلاق". أي: ما كان عاليًا منها، كالصدق والعفاف وأداء الأمانة ونحو ذلك. * "وينهون عن سفسافها"؛ أي: رديئها؛ كالكذب والخيانة والفواحش ونحو ذلك. * * * * قوله: "وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره؛ فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام، الذي بعث الله به محمدًا - صلى الله عليه وسلم -". * "كل ما يقولونه"؛ أي: أهل السنة والجماعة.

إخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة

* "ويفعلونه": من هذا وغيره. * "فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة": وهذه حال ينبغي أن يتنبه لها، وهو أننا كل ما نقوله وكل ما نفعله نشعر حال قوله أو فعله أننا نتبع فيه الرسول عليه الصلاة والسلام، مع الإخلاص لله؛ لتكون أقوالنا وأفعالنا كلها عبادات لله عزَّ وجلَّ، ولهذا يقال: إن عبادات الغافلين عادات، وعادات المنتبهين عبادات. فالإنسان الموفق يمكن أن يحول العادات إلى عبادات، والإنسان الغافل يجعل عباداته عادات. فليحرص المؤمن على أن يجعل أقواله وأفعاله كلها تبعًا لكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لينال بذلك الأجر، ويحصل به كمال الإيمان والإنابة إلى الله عزَّ وجلَّ. * * * * قوله: "لكن لما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة؛ كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة" (¬1): ¬

_ (¬1) رواه: أحمد (4/ 102)، وأبو داود (4597)، وابن ماجه (2/ 479)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 33)، والآجري في "الشريعة" (18)، واللالكائي في "شرح السنة" (150)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 128)؛ من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد أن ساق حديث معاوية: "هذا حديث محفوظ من حديث صفوان بن عمرو، وعن الأزهر بن عبد الله الحزازي، وعن أبي عامر عبد الله بن لحي، عن معاوية، رواه عنه غير واحد .. "، وانظر: "اقتضاء الصراط" (1/ 118)، و"السلسلة الصحيحة" للألباني (204).

* "أن أمته"؛ يعني: أمة الإجابة، لا أمة الدعوة؛ لأن أمة الدعوة يدخل فيها اليهود والنصارى، وهم مفترقون؛ فاليهود على إحدى وسبعين فرقة، والنصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وهذه الأمة على ثلاث وسبعين؛ كلها تنسب نفسها إلى الإسلام واتباع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * وقوله: "كلها في النار إلا واحدة": لا يلزم من ذلك الخلود في النار، وإنما المعنى أن عملها مما تستحق به دخول النار. * وهذه الثلاث والسبعون فرقة؛ هل وقعت الآن وتمت أو هي في المنظور؟ أكثر الذين تكلموا على هذا الحديث قالوا: إنها وقعت وانتهت، وصاروا يقسمون أهل البدع إلى خمسة أصول رئيسة، ثم هذه الخمسة الأصول يفرعون عنها فرقًا، حتى أوصلوها إلى اثنتين وسبعين فرقة، وأبقوا فرقة واحدة، وهي أهل السنة والجماعة. وقال بعض العلماء: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أبهم هذه الفرق، ولا حاجة أن نتكلم فنقسم البدع الموجودة الآن إلى خمسة أصول، ثم نقسم هذه الأصول إلى فروع، حتى يتم العدد، حتى إننا نجعل الفرع أحيانًا فرقة تامة من أجل مخالفتها في فرع واحد؛ فإن هذا لا يعد فرقة مستقلة. فالأولى أن نقول: إن هذه الفرق غير معلومة لنا، ولكننا نقول: بلا شك أنها فرق خرجت عن الصراط المستقيم؛ منها ما

الفرقة الناجية

خرج فأبعد، ومنها ما خرج خروجًا متوسطًا، ومنها ما خرج خروجًا قريبًا، ولا نلزم بحصرها؛ لأنه ربما يخرج فرق تنتسب للأمة الإسلامية غير التي عدها العلماء؛ كما هو الواقع؛ فقد خرج فرق تنتسب إلى الإسلام من غير الفرق التي كانت قد عدت في عهد العلماء السابقين. وعلى كل حال؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن أمته أمة الإجابة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها ضالة، وفي النار؛ إلا واحدة: * قال: "وهي الجماعة"؛ يعني: التي اجتمعت على الحق ولم تتفرق فيه. * قوله: "وفي حديث عنه أنه قال: "هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي" (¬1)؛ صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة". * قال: "وفي حديث عنه أنه قال: "هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي"": والذين كانوا على ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه هم الجماعة الذين اجتمعوا على شريعته، وهم الذين امتثلوا ما وصى الله به: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]؛ فهم لم يتفرقوا، بل كانوا جماعة واحدة. * قال: "صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه في الجزء الأول.

الأشاعرة والماتريدية ليسوا من أهل السنة والجماعة

الشوب هم أهل السنة والجماعة": جملة "صار" جواب الشرط في قوله: "لكن لما". * فإذا سئلنا: من أهل السنة والجماعة؟ فنقول: هم المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب. * وهذا التعريف من شيخ الإسلام ابن تيمية يقتضي أن الأشاعرة والماتريدية ونحوهم ليسوا من أهل السنة والجماعة؛ لأن تمسكهم مشوب بما أدخلوا فيه من البدع. وهذا هو الصحيح؛ أنه لا يعد الأشاعرة والماتريدية فيما ذهبوا إليه في أسماء الله وصفاته من أهل السنة والجماعة. وكيف يعدون من أهل السنة والجماعة في ذلك مع مخالفتهم لأهل السنة والجماعة؟! لأنه يقال: إما أن يكون الحق فيما ذهب إليه هؤلاء الأشاعرة والماتريدية، أو الحق فيما ذهب إليه السلف. ومن المعلوم أن الحق فيما ذهب إليه السلف؛ لأن السلف هنا هم الصحابة والتابعون وأئمة الهدى من بعدهم. فإذا كان الحق فيما ذهب إليه السلف، وهؤلاء يخالفونهم؛ صاروا ليسوا من أهل السنة والجماعة في ذلك. * * * * قوله: "وفيهم"؛ أي: في أهل السنة.

أهل السنة والجماعة فيهم الصديقون والشهداء والصالحون وأعلام الهدى ومصابيح الدجى والأبدال وأئمة الدين

* "الصديقون": جمع صديق، من الصدق، وهذه الصيغة للمبالغة، وهو الذي جاء بالصدق وصدق به؛ كما قال تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33]؛ فهو صادق في قصده، وصادق في قوله، وصادق في فعله. - أما صدقه في قصده؛ فعنده تمام الإخلاص لله عزَّ وجلَّ، وتمام المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، قد جرد الإخلاص والمتابعة، فلم يجعل لغير الله تعالى شركًا في العمل، ولم يجعل لغير سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - اتباعًا في عمله؛ فلا شرك عنده ولا ابتداع. - صادق في قوله، لا يقول إلا صدقًا، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا" (¬1). - صادق في فعله؛ بمعنى: أن فعله لا يخالف قوله، فإذا قال؛ فعل، وبهذا يخرج عن مشابهة المنافقين الذين يقولون ما لا يفعلون. - وأيضًا يصدق بما قامت لبينة على صدقه؛ فليس عنده رد للحق، ولا احتقار للخلق. * ولهذا كان أبو بكر أول من سمي لصديق من هذه الأمة؛ لأنه لما أسري بالنبي عليه الصلاة والسلام، وجعل يتكلم أنه أسري ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6094)، ومسلم (2607)؛ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

به إلى بيت المقدس وعرج به إلى السماء؛ صار الكفار يضحكون به ويكذبونه ويقولون: كيف تذهب يا محمد في ليلة وتصل في ليلة إلى ما وصلت إليه في السماء ونحن إذا ذهبنا إلى الشام نبقى شهرًا حتى نصله وشهرًا للرجوع؟! فاتخذوا من هذا سلمًا ليكذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ولما وصلوا إلى أبي بكر، وقالوا: إن صاحبك يحدث ويقول كذا وكذا! قال: إن كان قال ذلك؛ فقد صدق (¬1). فمن ذلك اليوم سمي الصديق، وهو أفضل الصديقين من هذه الأمة وغيرها. * قوله: "وفيهم الشهداء": جمع شهيد؛ بمعنى: شاهد. * فمن هم الشهداء؟ - قيل: هم العلماء؛ لأن العالم يشهد بشرع الله، ويشهد على عباد الله بأنها قامت عليهم الحجة، ولهذا يعد العالم مبلغًا عن الله عزَّ وجلَّ ورسوله شريعته التي جاء بها رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيكون شاهدًا بالحق على الخلق. - وقيل: إن الشهيد من قتل في سبيل الله. والصحيح أن الآية عامة لهذا وهذا. * قوله: "وفيهم الصالحون"، والصالح ضد الفاسد، وهو ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (3/ 62)، وصححه ووافقه الذهبي، وعزاه ابن كثير في أول تفسير سورة الإسراء للبيهقي. وانظر: "السلسلة الصحيحة" للألباني (306).

الذي قام بحق الله وحق عباده، وهو غير المصلح؛ فالإصلاح وصف زائد على الصلاح؛ فليس كل صالح مصلحًا، فإن من الصالحين من همه هم نفسه، ولا يهتم بغيره، وتمام الصلاح بالإصلاح. * * * * قوله: "ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى": * الأعلام: جمع علم، وهو في الأصل الجبل؛ قال الله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32]؛ يعني: الجبال، وسمي الجبل علمًا، لأنه يهتدى به ويستدل به. * و"أعلام الهدى": الذين يستدل الناس بهم ويهتدون بهديهم، وهم العلماء الربانيون؛ فإنهم هم الهداة، وهم مصابيح الدجى. * والمصابيح: جمع مصباح، وهو ما يستصبح به للإضاءة. * والدجى: جمع دجية، وهي الظلمة، أي: هم مصابيح الظلم، يستضيء بهم الناس، ويمشون على نورهم. * قوله: "أولو المناقب المأثورة، والفضائل المذكورة": * "المناقب": جمع منقبة، وهي المرتبة؛ أي: ما يبلغه الإنسان من الشرف والسؤدد. * وأما "الفضائل"؛ فهي جمع فضيلة، وهي الخصال الفاضلة، التي يتصف بها الإنسان من العلم والعبادة والزهد والكرم

وغير ذلك؛ فالفضائل سلم للمناقب. * * * * قوله: "وفيهم الأبدال": "الأبدال": جمع بدل، وهم الذين تميزوا عن غيرهم بالعلم والعبادة، وسموا أبدالًا: إما لأنهم كلما مات منهم واحد؛ خلفه بدله، أو أنهم كانوا يبدلون سيئاتهم حسنات، أو أنهم كانوا لكونهم أسوة حسنة كانوا يبدلون أعمال الناس الخاطئة إلى أعمال صائبة، أو لهذا كله وغيره. * * * * قوله: "وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم": * الإمام: هو القدوة. * وفي أهل السنة والجماعة أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم؛ مثل: الإمام أحمد، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وغيرهم من الأئمة المشهورين المعروفين؛ كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب. * وقوله: "أئمة الدين": خرج به أئمة الضلال من أهل البدع؛ فهؤلاء ليسوا من أهل السنة والجماعة، بل هم على خلاف أهل السنة والجماعة، وهم؛ وإن سموا أئمة؛ فإن من الأئمة أئمة يدعون إلى النار؛ كما قال تعالى عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً

أهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة

يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} [القصص: 41]. * * * * قوله: "وهم الطائفة المنصورة": * يعني: أن أهل السنة والجماعة هم الطائفة المنصورة التي نصرها الله عزَّ وجلَّ؛ لأنهم داخلون في قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]؛ فهم منصورون، والعاقبة لهم. * ولكن لا بد قبل النصر من معاناة وتعب وجهاد؛ لأن النصر يقتضي منصورًا ومنصورًا عليه؛ إذًا؛ فلا بد من مغالبة، ولا بد من محنة، ولكن؛ كما قال ابن القيم رحمه الله: الحَقُّ مَنْصورٌ وَمُمْتَحَنٌ فَلا ... تَعْجَبْ فَهذي سُنَّةُ الرَّحْمنِ فلا يلحقك العجز والكسل إذا رأيت أن الأمور لم تتم لك بأول مرة، بل اصبر وكرر مرة بعد أخرى، واصبر على ما يقال فيك من استهزاء وسخرية؛ لأن أعداء الدين كثيرون. لا يثني عزمك أن ترى نفسك وحيدًا في الميدان؛ فأنت الجماعة وإن كنت واحدًا، ما دمت على الحق، ولهذا ثق بأنك منصور إما في الدنيا وإما في الآخرة. * ثم إن النصر ليس نصر الإنسان بشخصه، بل النصر الحقيقي أن ينصر الله تعالى ما تدعو إليه من الحق، أما إذا أصيب الإنسان بذل في الدنيا؛ فإن ذلك لا ينافي النصر أبدًا؛ فالنبي عليه

الصلاة والسلام أوذي إيذاء عظيمًا، لكن في النهاية انتصر على من آذاه، ودخل مكة منصورًا مؤزرًا ظافرًا بعد أن خرج منها خائفًا. * قوله: "الذين قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة؛ لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم، حتى تقوم الساعة"". * هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم (¬1) بنحو ما ساقه المؤلف عن عدد من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. * قوله: "لا تزال": هذا من أفعال الاستمرار، وأفعال الاستمرار أربعة، وهي: فتئ، وانفك، وبرح، وزال؛ إذا دخل عليها النفي أو شبهه. * فقوله: "لا تزال طائفة من أمتي على الحق"؛ يعني: تستمر على الحق. * وهذه الطائفة غير محصورة بعدد ولا بمكان ولا بزمان، يمكن أن تكون بمكان تنصر فيه في شيء من أمور الدين، وفي مكان آخر تنصر فيه طائفة أخرى، وبمجموع الطائفتين يكون الدين باقيًا منصورًا مظفرًا. * وقوله: "لا يضرهم"، ولم يقل: لا يؤذيهم؛ لأن الأذية قد تحصل، لكن لا تضر، وفرق بين الضرر والأذى، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري ¬

_ (¬1) رواه: البخاري (7311)، ومسلم (1920).

النصر لهذه الطائفة حتى تقوم الساعة

فتضروني" (¬1)، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]، وفي الحديث القدسي: "يؤذيني ابن آدم؛ يسب الدهر، وأنا الدهر" (¬2)؛ فأثبت الأذى ونفى الضرر، وهذا ممكن، ألا ترى الرجل يتأذى برائحة البصل ونحوه، ولا يتضرر بها. * وفي قوله: "حتى تقوم الساعة": إشكال؛ لأنه قد ثبت في الصحيح أنها "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله، الله" (¬3)؛ أي: حتى يمحى الإسلام كله، ولا يبقى من يعبد الله أبدًا؛ فكيف قال هنا: "حتى تقوم الساعة"؟! وأجاب عنه العلماء بأحد جوابين: - إما أن يكون المراد حتى قرب قيام الساعة، والشيء قد يعبر به عما قرب منه إذا كان قريبًا جدًّا، وكأن هؤلاء المنصورون إذا ماتوا؛ فإن الساعة تكون قريبة جدًّا. - أو يقال: إن المراد بالساعة ساعتهم. ولكن القول الأول أصح؛ لأنه إذا قال: "حتى تقوم الساعة"؛ فقد تقوم ساعتهم قبل الساعة العامة بأزمنة طويلة، وظاهر الحديث ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2577)؛ عن حديث أبي ذر رضي الله عنه. (¬2) رواه: البخاري (7491)، ومسلم (2246)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه. (¬3) رواه مسلم (148)؛ عن أنس رضي الله عنه.

أن هذا النصر سيمتد إلى آخر الدنيا؛ فالصواب أن المراد بذلك إلى قرب قيام الساعة. والله أعلم. * * *

الخاتمة

الخاتمة * قوله: "فنسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة؛ إنه هو الوهاب، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا". * وبهذا الدعاء الجليل ختم المؤلف رحمه الله هذه الرسالة القليلة اللفظ الكثيرة المعنى، وهي تعتبر خلاصة مذهب أهل السنة والجماعة، وفيها فوائد عظيمة، ينبغي لطالب العلم أن يحفظها. * والحمد لله رب العالمين على الإتمام، ونسأل الله أن يتم ذلك بالقبول والثواب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قمت بمراجعة الكتاب وإضافة ما تدعو الضرورة إليه وحذف ما لا يحتاج إليه في يوم الجمعة السابع عشر من شعبان سنة 1414 هـ وقمت بمراجعته مع المضاف مساء يوم الخميس السابع والعشرين من صفر سنة 1415 هـ * * *

§1/1