شرح العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية في ضوء الكتاب والسنة
سعيد بن وهف القحطاني
المقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عقيدة أهل السنة والجماعة. ومن أسباب كتابته لها رحمه الله تعالى وتسميتها بالواسطية: أن القاضي الواسطي عندما قدم لموسم الحج من بلدته واسط طلب من شيخ الإسلام أن يكتب له عقيدته السلفية؛ فكتبها رحمه الله في جلسة واحدة بعد صلاة العصر، وهذا دليل واضح على سعة علمه رحمه الله وما أعطاه الله من القدرة والموهبة العلمية الباهرة، ولا يستغرب ذلك؛ فإن فضل الله يؤتيه من يشاء ويحرمه من يشاء فنسأل الله العلي العظيم من فضله، وكرمه. وعندما عرفت ما للعقيدة الواسطية من الأهمية البالغة أحببت أن أقوم بشرح مختصر لهذه العقيدة وأسأل الله أن يجعله خالصاً لوجهه
الكريم. لا شك أن العلماء قد قاموا بجهد كبير نحو هذه العقيدة بالحفظ، والتدريس، والتعليق، والشرح، ومما عرفته من الشروح لهذه العقيدة: الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية للشيخ زيد بن فياض، والكواشف الجلية عن معاني العقيدة الواسطية للشيخ عبد العزيز بن محمد السلمان، والأسئلة والأجوبة الأصولية على العقيدة الواسطية للشيخ عبد العزيز بن محمد أيضاً. وشرح العقيدة الواسطية لمحمد خليل الهراس، والتعليقات المفيدة على العقيدة الواسطية للشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الشريف. وهذه الشروح جيدة قد بسطت معاني هذه العقيدة، وهذا الشرح المختصر الذي قمت به قد عملت فيه كالآتي: خرَّجت الأحاديث وعزوتها إلى مصادرها الأصلية، وربما اكتفيت بالإشارة إلى مصدر الحديث بدون نصِّه. وعزوت الآيات إلى سورها مرقَّمة. ووضعت لكل موضوع عنواناً مناسباً على النحو الآتي: تعريف الفرقة الناجية، أركان الإيمان عند الفرقة الناجية، مذهب أهل السنة والجماعة في صفات الله تعالى، طريقة أهل السنة في النفي والإثبات، ومذهبهم في أسماء الله وصفاته وآيات الصفات وأحاديثها، وجعلت لكل صفة عنواناً، وربما جعلت عنواناً يضم صفات وليس ذلك للحصر بل لذكر الصفات التي ذكرها المؤلف رحمه الله، وذكر المؤلف آيات كثيرة وأحاديث كذلك فاكتفيت بالدليل لكل صفة بآية أو حديث وحذفت الباقي للرغبة في الاختصار، ثم ذكرت توسط أهل السنة في باب صفات
الله تعالى بين الفرق الأخرى، وتوسطهم في باب أفعال العباد، وتوسطهم في باب وعيد الله، وتوسطهم في باب أسماء الإيمان والدين، وتوسطهم في صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم الإيمان باليوم الآخر وما يتعلق به، ثم القدر ومراتبه الأربع، ثم مذهب أهل السنة في الإيمان والدين، وفي صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكرامات الأولياء، ثم آخر ذلك مكارم أخلاق أهل السنة والجماعة. وأسأل الله التوفيق لما يحبه ويرضاه وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه. المؤلف حرر في عام 1407هـ
المبحث الأول: تعريف الفرقة الناجية: (أهل السنة والجماعة)
المبحث الأول: تعريف الفرقة الناجية: ((أهل السنة والجماعة)) الفِرقة بكسر الفاء: الطائفة من الناس. ووصفت بأنها الناجية المنصورة إشارة إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)) (¬1). وأهل السنة والجماعة بدل من الفرقة، والمراد بالسنة: الطريقة التي كان عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة. والجماعة: في الأصل القوم المجتمعون، والمراد بهم في هذه العقيدة: سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وإن كان واحداً قد ثبت على الحق الذي كانت عليه الجماعة المذكورة (¬2). قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ((الجماعة من وافق الحق وإن كنت وحدك)) (¬3). وعن عوف بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، فواحدة في الجنة وسبعون في النار. وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة. فإحدى وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنة، والذي نفس محمد بيده لتفترقنَّ أمتي على ثلاث وسبعين فرقة واحدة في الجنة، واثنتان وسبعون في النار)) (¬4). ¬
المبحث الثاني: أركان الإيمان عند الفرقة الناجية
المبحث الثاني: أركان الإيمان عند الفرقة الناجية أولاً: الإيمان بالله تعالى: وهو الاعتقاد الجازم بأن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه الخالق، الرازق، المحيي، المميت، وأنه المستحق للعبادة دون ما سواه، وأن يُفرد بالعبادة والذل، والخضوع وجميع أنواع العبادات، وأن الله هو المتصف بصفات الكمال والعظمة، والجلال، المنزَّه عن كل عيب ونقص (¬1). ثانياً: الإيمان بالملائكة: وهو الاعتقاد الجازم بأن لله ملائكة موجودون مخلوقون من نور، وهم كما وصفهم الله عباد مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ويسبحون الله الليل والنهار لا يفترون، وأنهم قائمون بوظائفهم التي أمرهم الله بها كما تواترت بذلك النصوص من الكتاب والسنة، فكل حركة في السموات والأرض فهي ناشئة عن الملائكة الموكلين بالسموات والأرض امتثالاً لأمر الله - عز وجل -. فيجب الإيمان بمن سَمَّى الله منهم على وجه التفصيل، ومن لم يسمِّ منهم فيجب الإيمان به على وجه الإجمال (¬2). ثالثاً: الإيمان بالكتب: وهو التصديق الجازم بأن لله كتباً أنزلها على أنبيائه ورسله، وهي من كلامه حقيقة، وأنها نور وهدى، وأن ما تضمنته حق، ولا يعلم عددها إلا الله، ويجب الإيمان بها جملة إلا ما سمَّى الله منها ¬
رابعا: الإيمان بالرسل
فيجب الإيمان به على وجه التفصيل وهي: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، ويجب مع الإيمان بالقرآن وأنه من عند الله الإيمان بأن الله تكلم به كما تكلم بالكتب المنزَّلة، كما يجب مع هذا كله اتباع ما فيه من أوامر، واجتناب ما فيه من زواجر، وأنه مُهَيْمِن على الكتب السابقة، وأنه مخصوص من الله بالحفظ من التبديل والتغيير، فهو كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود (¬1). رابعاً: الإيمان بالرسل: وهو التصديق الجازم بأن الله أرسل رسلاً لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، واقتضت حكمته تعالى أن يرسلهم إلى خلقه مبشرين ومنذرين، فيجب الإيمان بهم جميعاً على وجه الإجمال، ويجب الإيمان بمن سمَّى الله منهم على وجه التفصيل وهم: خمسة وعشرون ذكرهم الله في القرآن الكريم، ويجب الإيمان بأن لله رسلاً غيرهم وأنبياء لا يُحصي عددهم إلا الله، ولا يعلم أسماءهم إلا هو جل وعلا كما يجب الإيمان بأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - أفضلهم وخاتمهم، وأن رسالته عامة للثقلين ولا نبي بعده - صلى الله عليه وسلم - (¬2). خامساً: الإيمان بالبعث بعد الموت: وهو الاعتقاد الجازم بأن هناك داراً آخرة يجازي الله فيها المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، ويغفر الله ما دون الشرك لمن يشاء. والبعث شرعاً: هو إعادة الأبدان وإدخال الأرواح فيها، فيخرجون ¬
سادسا: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى
من الأجداث كأنهم جراد منتشر أحياء مهطعين إلى الداعي، فنسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة (¬1). سادساً: الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى: وهو التصديق الجازم بأن كل خير وشر هو بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها أزلاً قبل إيجادها ثم أوجدها بقدرته، ومشيئته على وِفْقِ ما علمه منها، وأنه كتبها في اللوح المحفوظ قبل إحداثها (¬2). والأدلة على هذه الأركان الستة من الكتاب والسنة كثيرة منها: قوله تعالى: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} ... الآية (¬3)، وقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} (¬4)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جبريل. (( ... أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)) (¬5). ¬
المبحث الثالث: مذهب أهل السنة والجماعة في صفات الله تعالى إجمالا
المبحث الثالث: مذهب أهل السنة والجماعة في صفات الله تعالى إجمالاً أهل السنة والجماعة يثبتون صفات الله تعالى: بلا تعطيل، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تكييف، ويمرُّونها كما جاءت مع الإيمان بمعانيها وما تدل عليه. أولاً: التحريف: هو لغة التغيير والتبديل. واصطلاحاً. تغيير ألفاظ الأسماء الحسنى والصفات العلا أو معانيها. وهو ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: تحريف اللفظ بزيادة، أو نقص، أو تغيير شكل وذلك كقول الجهمية ومن تبعهم في استوى: استولى. بزيادة اللام. وكقول اليهود: حنطة لَمّا قيل لهم: قولوا حطة، وكقول بعض المبتدعة بنصب لفظ الجلالة في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬1). والقسم الثاني: تحريف المعنى وهو إبقاء اللفظ على حاله وتغيير معناه وذلك كتفسير بعض المبتدعة: الغضب بإرادة الانتقام، والرحمة بإرادة الإنعام، واليد بالنعمة. ثانياً: التعطيل: هو لغة: الترك. والمراد به نفي الصفات الإلهية عن الله تعالى وإنكار قيامها بذاته تعالى أو إنكار بعضها. فيكون الفرق بين التحريف والتعطيل هو أن التعطيل نفي للمعنى الحق الذي دل عليه الكتاب والسنة، والتحريف: هو تفسير النصوص بالمعاني الباطلة. أنواع التعطيل التعطيل أنواع: ¬
ثالثا: التكييف
1 - تعطيل الله عن كماله المقدس، وذلك بتعطيل أسمائه وصفاته أو تعطيل شيء من ذلك كما فعلت الجهمية والمعتزلة. 2 - تعطيل الله بترك معاملته، وذلك بترك عبادته أو بعضها، أو عبادة غيره معه. 3 - تعطيل المخلوق عن خالقه، وذلك مثل قول القائلين: إن الطبيعة هي التي أوجدت الأشياء، وإنها تتصرف بطبيعتها. وكل محرف معطل، وليس كل معطل محرفاً. فمن أثبت المعنى الباطل، ونفى المعنى الحق، فهو محرِّف ومعطِّل. أما من نفى الصفات فهو معطل وليس بمحرف. ثالثاً: التكييف: هو السؤال بكيف. والمراد به تعيين وتحديد كنه الصفة بحيث يجعل لها كيفية معلومة، وليس المراد بنفي الكيفية تفويض المعنى المراد من الصفات؛ بل المعنى معلوم من لغة العرب، وهذا مذهب السلف كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى حينما سئل عن كيفية الاستواء فقال رحمه الله تعالى: ((الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)) (¬1). فكل صفة من صفات الله تعالى تدل على معنى حقيقي ثابت نؤمن به ونثبته لله، ولكننا لا نعرف كيفيتها، وهيئتها وصورتها. فالواجب إثبات الصفات حقيقة ومعنى، وتفويض الكيفية بخلاف الواقفة الذين يفوضون معانيها. رابعاً: التمثيل: هو بمعنى التشبيه بحيث يُجعل لله شبيهٌ في صفاته الذاتية أو الفعلية، وهو قسمان: ¬
أ - تشبيه المخلوق بالخالق، كما شبهت النصارى المسيح بن مريم بالله تعالى، وكما شبهت اليهود عزيراً بالله. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ب - تشبيه الخالق بالمخلوق، كما فعلت المشبهة الذين يقولون: له وجه كوجه المخلوق، ويد كيد المخلوق، وسمع كسمع المخلوق، ونحو ذلك من التشبيه الباطل تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً (¬1) (¬2). ¬
المبحث الرابع: الإلحاد في أسماء الله وصفاته:
المبحث الرابع: الإلحاد في أسماء الله وصفاته: الإلحاد في أسماء الله تعالى: هو العدول بها وبحقائقها، ومعانيها عن الحق الثابت لها. والإلحاد إما أن يكون بجحدها أو إنكارها بالكلية، وإما بجحد معانيها وتعطيلها، وإما بتحريفها عن الصواب وإخراجها عن الحق بالتأويل الفاسد، وإما بجعلها أسماء لبعض المبتدعات كإلحاد أهل الاتحاد، فيدخل في الإلحاد: التحريف، والتعطيل، والتكييف، والتمثيل، والتشبيه (¬1). ¬
المبحث الخامس: طريقة أهل السنة والجماعة في النفي والإثبات
المبحث الخامس: طريقة أهل السنة والجماعة في النفي والإثبات أهل السنة والجماعة يثبتون ما أثبته الله لنفسه مفصلاً على حد قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، فكل ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من جميع الأسماء والصفات أثبتوه لله على الوجه اللائق به تعالى. وأهل السنة والجماعة ينفون ما نفاه الله عن نفسه، أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - نفياً إجمالياً غالباً على حد قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬1). والنفي يقتضي إثبات ما يضاده من الكمال فكل ما نفى الله عن نفسه من النقائص ومشاركة أحد من خلقه في شيء من خصائصه فإنها تدل على ضدها من أنواع الكمال. وجمع الله النفي والإثبات في آية واحدة - أعني النفي الإجمالي والإثبات المفصل - وهي قوله - سبحانه وتعالى -: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، فهذه الآية تضمنت تنزيه الله عن مشابهة خلقه لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وفي أول هذه الآية رد على المشبهة وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وفي آخرها رد على المعطلة وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، وفي أول هذه الآية نفي مجمل، وفي آخرها إثبات مفصّل، وفيها رد على الأشاعرة الذين يقولون ببعض الصفات وينفون البعض الآخر، وفيها رد على المعتزلة الذين يقولون سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر (¬2). وقد ساق المؤلف رحمه الله تعالى (¬3) الآية السابقة، وسورة الإخلاص، وآية الكرسي لتضمن ¬
هذه السورة - وما ذكر معها من الآيات - النفي والإثبات (¬1)، فسورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن كما بين ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وذكر العلماء من تفسير ذلك أن القرآن أنزل على ثلاثة أنواع: توحيد، وقصص، وأحكام. وهذه السورة تدل على التوحيد بأنواعه الثلاثة: توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ لذا قيل إنها تعدل ثلث القرآن (¬3). وآية الكرسي آية عظيمة، وهي أعظم آية في كتاب الله تعالى (¬4)، وما ذلك إلا لما اشتملت عليه من الأسماء الحسنى والصفات العلا، فقد اجتمع فيها ما لم يجتمع في غيرها، فآية احتوت على هذه المعاني العظيمة يحق أن تكون أعظم آية في كتاب الله تعالى (¬5). ¬
المبحث السادس: مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته تفصيلا
المبحث السادس: مذهب أهل السنة والجماعة في أسماء الله وصفاته تفصيلاً أهل السنة مذهبهم مذهب سلف هذه الأمة رحمهم الله تعالى، وهو أنهم يؤمنون بكل ما أخبر الله به عن نفسه في كتابه، وبكل ما أخبر به عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - إيماناً سالماً من التحريف والتعطيل، ومن التكييف والتمثيل، ويجعلون الكلام في صفات الله وذاته باباً واحداً فالقول في الصفات كالقول في الذات، فإن كان إثبات الذات إثبات وجود لا إثبات تكييف، فكذلك إثبات الصفات. فيجب عندهم الإيمان بأسماء الله وصفاته التي ثبتت بالكتاب والسنة الصحيحة أو بأحدهما ويجب أن تُمرّ كما جاءت بلا تكييف مع الإيمان بما دلّت عليه من المعاني العظيمة التي هي أوصاف لله - عز وجل - يجب وصفه بها على الوجه اللائق به بلا تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل (¬1). وأهل السنة والجماعة لا يقيسون الله بخلقه، فلا يجوز عندهم استعمال الأقيسة التي تقتضي المماثلة، والمساواة بين المقيس والمقيس عليه في الشؤون الإلهية، فلا يستخدمون قياس التمثيل، ولا قياس الشمول في حق الله تعالى. إنما يستخدمون في حقه سبحانه قياس الأَوْلى. ومضمون هذا القياس أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق به أولى، وكل نقص تنزّه عنه المخلوق فالخالق أحقّ بالتنزيه عنه. ¬
المبحث السابع: آيات الصفات وأحاديثها
المبحث السابع: آيات الصفات وأحاديثها بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله تعالى (¬1) عقيدة الفرقة الناجية إجمالاً: من الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره من الله تعالى، شرع في ذلك على وجه التفصيل، فذكر رحمه الله أن من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. ثم ذكر رحمه الله جملة من الآيات، وجملة من الأحاديث الصحيحة التي أثبت فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صفات الله - عز وجل - على الوجه اللائق به تعالى. وأراد المؤلف بهذا الإثبات أنه لا طريق لمعرفة الإنسان المسلم صفات ربه العلا، وأسمائه الحسنى إلا عن طريق الوحي. وأسماء الله وصفاته توقيفية فما أثبته الله لنفسه أو أثبته رسوله - صلى الله عليه وسلم - أثبتناه، وما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم - نفيناه. وحسبنا ما جاء في هذا القرآن وصحيح السنة. ومما ذكر رحمه الله ما يلي: 1 - صفة العزة: قال الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2)، فسبح الله نفسه عما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب. ¬
2 - صفة الإحاطة
2 - صفة الإحاطة: قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬1)، وقد فسر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: ((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) (¬2)، وهذا يدل على الإحاطة الزمانية {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} ويدل على الإحاطة المكانية قوله تعالى: {وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}. 3 - صفة العلم، 4 - صفة الحكمة، 5 - صفة الخبرة: قال الله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬3)، وقال تعالى: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (¬4)، وعلم الله تعالى من الصفات الذاتية التي لا تنفك عن الله، فهو قد أحاط بكل شيء علماً جملة وتفصيلاً. والله تعالى له الحكم في الدنيا والآخرة، وهو سبحانه إذا أحكم شيئاً لا يتطرّق إليه الفساد فقد أحكم هذا الخلق وأوجده وهو سبحانه الحكيم العليم (¬5). 6 - صفة الرزق، 7 - والقوة، 8 - والمتانة: قال الله تعالى: {إِنَّ الله هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} (¬6)، والرزاق هو كثير الرزق واسعه كما تدل ¬
9 - صفة السمع
عليه صيغة المبالغة، وكل ما في الكون من رزق فهو من الله تعالى. والرزق رزقان: رزق يستمر نفعه في الدنيا والآخرة، وهو رزق القلوب، الذي هو العلم والإيمان والرزق الحلال. والرزق الثاني وهو الرزق العام لسائر الخلق برَّهم وفاجرهم والبهائم وغيرها. والله تعالى موصوف بالقوة، والقوي شديد القوة، فَعُلِمَ أن القوي من أسمائه ومعناه الموصوف بالقوة. والمتين البالغ في القوة والقدرة نهايتهما (¬1). 9 - صفة السمع، 10 - صفة البصر: قال الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} (¬2)، من صفات الله الذاتية: السمع والبصر. فله تعالى سمع وبصر يليق بجلاله لا كسمع خلقه ولا بصرهم، بل قد أحاط سمعه بجميع المسموعات، وهو يشاهد، ويرى كل شيء وإن خفي ظاهراً وباطناً (¬3) وقد قال الشاعر: يا من يرى مدَّ البعوض جناحها ... في ظلمة الليل البهيم الأليل ويرى مناط عروقها في نحرها ... والمخَّ في تلك العظام النحَّل امننْ عليَّ بتوبةٍ تمحو بها ... ما كان مني في الزمان الأوّل ¬
11 - صفة الإرادة
11 - صفة الإرادة، 12 - والمشيئة: قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (¬1)، وقوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} (¬2)، والإرادة نوعان: 1 - إرادة كونية ترادفها المشيئة وهما تتعلقان بكل ما يشاء الله فعله وإحداثه، فهو سبحانه إذا أراد شيئاً وشاءه كان عقب إرادته له كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬3)، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. 2 - إرادة شرعية تتعلق بما أمر الله به عباده مما يحبه ويرضاه، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (¬4). الفرق بين الإرادتين: الإرادة الكونية القدرية عامة تشمل جميع الحوادث وكل ما يقع في هذا الكون من خير وشر، وكفر، وإيمان، وطاعة ومعصية. أما الإرادة الدينية الشرعية فتختص بما يحبه الله ويرضاه مما جاء في الكتاب والسنة. فتجتمعان في حق المطيع وتنفرد الكونية القدرية في حق العاصي ¬
13 - صفة المحبة
والكافر. ومعنى ذلك أن طاعة المطيع أرادها الله ديناً، وشرعاً، وكوناً، وقدراً. أما كفر الكافر فأراده الله كوناً وقدراً، ولم يرده ديناً وشرعاً (¬1). 13 - صفة المحبة، 14 - والمودة: قال الله تعالى: {وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬2)، ومحبة الله تليق بجلاله كما تقدم، وهي من الصفات الفعلية وسببها امتثال ما أمر الله به من الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى عباد الله. وكذلك صفة المودة لقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (¬3)، والود صفاء المحبة وخالصها. 15 - صفة الرحمة، 16 - والمغفرة: قال الله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا} (¬4)،وقال سبحانه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (¬5) في الآية الأولى أثبت الله لنفسه صفة الرحمة، وفي الآية الثانية أثبت سبحانه لنفسه صفة المغفرة، ونحن نثبت ما أثبت الله لنفسه على الوجه اللائق به - سبحانه وتعالى -. 17 - صفة الرضى، 18 - والغضب، 19 - والسخط، 20 - واللعن، 21 - والكراهية، 22 - والأسف، 23 - والمقت: قال الله تعالى: {رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬6)، وقال سبحانه: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا ¬
24 - مجيء الله
فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} (¬1)،وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ الله وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} (¬2)، وقال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} (¬3)، وقال سبحانه: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (¬4)، وقال سبحانه: {وَلَكِن كَرِهَ الله انبِعَاثَهُمْ} (¬5)، في هذه الآيات وصف الله نفسه بالغضب، والسخط، والرضى، واللعن، والكراهية، والأسف، والمقت. وهذه كلها من صفات الأفعال التي يفعلها جل وعلا متى شاء إذا شاء، فكما أثبت أهل السنة الصفات الذاتية لله كذلك أثبتوا أفعاله الاختيارية على ما يليق بجلاله - سبحانه وتعالى - (¬6). 24 - مجيء الله، 25 - وإتيانه: قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ} (¬7)، وقال تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (¬8). في هذه الآيات التي ذكر المؤلف وفي غيرها إثبات صفة المجيء، وصفة الإتيان، والنزول على ما يليق بالله تعالى. وهذه الأفعال الاختيارية المتعلقة بالمشيئة والقدرة. ¬
26 - صفة الوجه
26 - صفة الوجه، 27 - واليدين، 28 - والعينين: قال الله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} (¬1)، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} (¬2)، وقال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (¬3)، في هذه الآيات إثبات صفة الوجه، واليدين، والعينين لله تعالى على ما يليق به. ويدل على صفة العينين من السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن ربكم ليس بأعور)) (¬4). 29 - صفة المكر، 30 - والكيد: قال الله تعالى: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله وَالله خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬5)، وقال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} (¬6)، وقال تعالى: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} (¬7)، أثبت الله لنفسه هذه الصفات المذكورة في الآيات. وهي: المكر، والكيد، والمماحلة، وهذه صفات فعلية تثبت لله كما يليق بجلاله وعظمته، ولا يجوز أن يشتق له من هذه الصفات الفعلية اسم، فلا يُقال: من أسمائه الماكر، ولا الكائد؛ لأن ذلك لم يرد، بل نقف عندما ورد من أنه سبحانه خير الماكرين، وأنه يكيد لأعدائه الكافرين. فوصف الله نفسه بالمكر، والكيد على وجه الجزاء ¬
31 - صفة العفو
والمقابلة، نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} (¬1)، وقيل على بابه: وهو إيصال المكر والكيد لمن يستحقه عقوبة له: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيل* أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيل} (¬2)، والله تعالى أطلق على نفسه أفعالاً لم يتسمَّ فيها بأسماء الفاعل: كأراد، وشاء، وأحدث، ولم يُسمَّ بالمريد، والشائي، والمُحدث، كما لم يُسمِّ نفسَه بالصانع، والفاعل، والمتقن، وغير ذلك من الأسماء التي أطلق أفعالها على نفسه، فباب الأفعال أوسع من باب الأسماء. ولكن ما أثبته الله لنفسه أثبتناه، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} (¬3)، وكقوله: {صُنْعَ الله الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬4). 31 - صفة العفو، 32 - والمغفرة، 33 - والعزة، 34 - والقدرة: قال الله تعالى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} (¬5)، وقال تعالى: {وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (¬6)، وقوله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (¬7)، ففي هذه الآيات أثبت الله لنفسه صفة العفو، وصفة المغفرة، وصفة العزة، وصفة القدرة فنحن نثبتها لله على الوجه اللائق به تعالى لا يشبه في ذلك شيئاً من خلقه)) (¬8). ¬
35 - صفة الاستواء
35 - صفة الاستواء، 36 - والعلو: قال الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (¬1)، ذكر الله ذلك في سبعة مواضع من كتابه، فنحن نثبت ما أثبته الله لنفسه فنقول: إنه استوى حقيقة استواء يليق بجلاله، فالاستواء معلومٌ، والكيف مجهولٌ، والإيمان به واجبٌ، والسؤال عنه بدعةٌ، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة (¬2). وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} (¬3)، والعلوُّ وصفٌ ذاتيٌّ لله تعالى: فله العلوُّ المطلق: علوُّ الذاتِ وعلوُّ القدر، وعلوُّ القهر (¬4)، وفي الحديث: ((والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه)) (¬5). 37 - صفة المعيّة لله تعالى: قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ ¬
المعية معيتان:
وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَالله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (¬1)، وقال تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} (¬2)، نجد في هذه الآيات أن الله تعالى أثبت لنفسه معيّةً، وهذه المعيّة معيّتان: 1 - معيّة الله لجميع المخلوقات ومقتضاها العلم، والإحاطة، والاطلاع، ودليل ذلك ما جاء في آية سورة الحديد السابقة. 2 - معيّة خاصة لأهل الإيمان والتقوى ومقتضاها الحفظ، والعناية، والنصرة ... والمعيّة العامّة من الصفات الذاتية، والمعيّة الخاصّة من الصفات الفعلية. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنّ أحدكم إذا قام في صلاته فإنّه يناجي ربه أو إنّ ربه بينه وبين القبلة فلا يبزقنّ أحدكم قِبَلَ وجهه، [ولا عن يمينه] ولكن عن يساره أو تحت قدمه [وفي رواية] أو تحت قدمه اليسرى)) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((والذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلة أحدكم)) (¬4). 38 - صفة الكلام لله تعالى: قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى ¬
تَكْلِيمًا} (¬1)، هذه الآية وغيرها من الآيات التي ذكرها المؤلف، وهي كثيرة جداً، تدل على أن الله يتكلّم حقيقة على ما يليق بجلاله، فهو سبحانه يتكلّم إذا شاء بما شاء متى شاء، فهو تعالى قد تكلّم بالقرآن، والكتب المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والقرآن كلامه تعالى مُنَزَّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وإذا قرأ الناس القرآن أو كتبوه في المصاحف لم يخرجه ذلك عن أن يكون كلام الله؛ فإنّ الكلام إنّما يضاف إلى من قاله أولاً أي مبتدئاً لا إلى من بلّغه مؤدياً والله تكلم بحروفه، ومعانيه بلفظ نفسه سبحانه ليس شيء منه لغيره، فالله تعالى متكلّم بكلامٍ قديم النوع حادث الآحاد، وأنه لم يزل متكلّماً بحرف وصوت بكلام يُسْمِعُه من شاء من خلقه وهو سبحانه يكلّم المؤمنين يوم القيامة ويكلّمونه، وكلامه قائم بذاته وهو صفة ذات وفعل فهو لم يزل ولا يزال متكلماً إذا شاء على ما يليق بجلاله (¬2)، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان)) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله - عز وجل -: ((يا آدم فيقول: لبيك وسعديك، والخيرُ في يديك، قال: يقول: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسعمائة وتسعةً وتسعين. قال: فذاك حين يشيب الصغير، وتضعُ كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس ¬
39 - رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
سُكارَى، وما هم بسُكارَى ولكن عذاب الله شديد ... )) (¬1) الحديث. 39 - رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة: قال الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (¬2)، ذكر المؤلف رحمه الله تعالى تحت هذا الباب آيات تدل على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة عِياناً بأبصارهم على الوجه اللائق بالله تعالى، لا يشبه في ذلك شيء من خلقه، وقد وردت السنة بذلك أيضاً قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا دخل أهلُ الجنةِ الجنةَ قال يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟، قال: فيكشف الحجاب، فما أُعطوا شيئاً أحبّ إليهم من النظر إلى ربهم - عز وجل -))، ثم تلا هذه الآية: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (¬3) (¬4)، وقد اتفق على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة: الأنبياء، والمرسلون، وجميع الصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون. والمخالفون في ذلك: الجهمية، والمعتزلة، ومن تبعهم، وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة (¬5)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامّون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلَبوا ¬
40 - نزول الله إلى السماء الدنيا كل ليلة
على صلاةٍ قبل طلوع الشمس وصلاةٍ قبل غروب الشمس فافعلوا)) (¬1). 40 - نزول الله إلى السماء الدنيا كل ليلة: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) (¬2)، وهذا الحديث المتفق على صحته دليل صحيح صريح في إثبات نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، ونزوله تعالى يليق بجلاله، وعظمته، والنزول من الصفات الفعلية ينزل إذا شاء متى شاء فالنزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك (¬3). 41 - صفة الفرح لله تعالى: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلاة)) (¬4)، وهذه الصفة من ¬
42 - صفة الضحك
الصفات الفعلية وهي تليق بالله - عز وجل -. 42 - صفة الضحك لله تعالى: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر: كلاهما يدخل الجنة))، فقالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: ((يقاتل هذا في سبيل الله - عز وجل - فَيُسْتَشْهَد ثم يتوب الله على القاتل فيسلم فيقاتل في سبيل الله - عز وجل - فيستشهد)) (¬1)، في هذا الحديث دليل صحيح صريح على إثبات صفة الضحك لله على الوجه اللائق بجلاله تعالى، لا يشبه أحداً من خلقه، وهذه الصفة من الصفات الفعلية التي يفعلها الله إذا شاء متى شاء كيف شاء على الوجه اللائق به سبحانه (¬2). 43 - صفة العجب: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد عجب الله - عز وجل - أو ضحك من فلان وفلانة فأنزل الله - عز وجل -: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ})) (¬3)، وفي هذا الحديث الصحيح إثبات صفة العجب، وهي من الصفات الفعلية، فالله تعالى يعجب متى شاء إذا شاء على ما يليق بجلاله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}. ¬
44 - صفة قدم الرحمن
44 - صفة قَدَم الرحمن: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه -[وفي رواية] عليها قدمه - فينزوي بعضها إلى بعض فتقول قط قط)) (¬1)، وفي هذا إثبات صفة قدم الرحمن على ما يليق بجلاله كما تقدم (¬2). الصفات تنقسم إلى فعلية وذاتية القسم الأول: الصفات الذاتية: وهي التي لا تنفك عن الله تعالى، فهو لم يزل ولا يزال متصفاً بها: كالعلم، والحياة، والقدرة، والسمع، والبصر، والوجه، واليدين، والعينين، والرجل، والملك، والعظمة، والكبرياء، والعزة، والعلو، والإصبع، والقدم، والغنى، والرحمة، والكلام. القسم الثاني: الصفات الفعلية: وهي التي تتعلق بالمشيئة والقدرة: كالاستواء، والنزول، والمجيء، والضحك، والرضى، والعجب، والسخط، والإتيان، والإحياء، والإماتة، والفرح، والغضب، والكره، والحب، فهذه صفات يقال لها قديمة النوع حادثة الآحاد، وهذه الصفات وغيرها تتعلق بالمشيئة إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها (¬3). قد تكون الصفات ذاتية فعلية باعتبارين كالكلام فإنّه باعتبار أصله صفة ذاتية؛ لأنّه لم يزل ولا يزال متكلماً، ¬
وباعتبار آحاد الكلام صفة فعلية؛ لأنّ الكلام يتعلق بمشيئته يتكلم إذا شاء بما شاء، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، وكل صفة تتعلق بمشيئة الله تعالى فإنّها تابعة لحكمته، وقد تكون الحكمة معلومةً لنا، وقد نعجز عن إدراكها، لكننا نعلم علم اليقين أنه سبحانه لا يشاء شيئاً إلا وهو موافق للحكمة، كما يشير إليه قوله تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} (¬1) (¬2). ¬
المبحث الثامن: وسطية أهل السنة والجماعة
المبحث الثامن: وسطية أهل السنة والجماعة أولاً: توسط أهل السنة بين فرق الضلال في باب صفات الله تعالى الأمة الإسلامية وسط بين الملل، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬1)، وأهل السنة وسط بين الفرق المنتسبة للإسلام. فهم وسط بين الجهمية الذين ينفون صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى، فعطَّلوا الله عن صفاته، فبذلك أطلق عليهم اسم أهل التعطيل، وبين أهل التمثيل وهم طائفة عارضت الجهمية، فأثبتوا الصفات لله غير أنهم جعلوها كصفات المخلوقين، فقالوا: يد كيد المخلوق، وسمع كسمع المخلوق. تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً. وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون الصفات إثباتاً بلا تمثيل، وينزهون الله عن مشابهة المخلوقين تنزيهاً بلا تعطيل، فهم جمعوا بين التنزيه والإثبات. وقد ردّ الله على الطائفتين بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}، فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ردٌّ على المشبِّهة. وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ردٌّ على المعطِّلة (¬2). ثانياً: توسّط أهل السنة في باب أفعال العباد بين الجبرية والقدرية وأهل السنة وسط في باب أفعال العباد بين الجبرية والقدرية وغيرهم. فالجبرية الذين هم الجهمية أتباع الجهم بن صفوان يقولون: إن العبد مجبورٌ على فعله وحركاته وأفعاله كلها كحركات المرتعش والعروق ¬
ثالثا: أهل السنة وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية
النابضة [وكالريشة في مهب الريح] والكل فعل الله. أما القدرية الذين هم المعتزلة أتباع معبد الجهني ومن وافقهم فقالوا: إنّ العبد هو الخالق لأفعاله دون مشيئة الله وقدرته، فأنكروا أن يكون الله هو الخالق لأفعال العباد، وقالوا: إنّ الله لم يُرِدْها ولم يشأْها. وهدى الله أهل السنة والجماعة لأن يكونوا وسطاً بين هاتين الفرقتين، فقالوا: إنّ الله تعالى هو خالق العباد وأفعالهم، والعباد فاعلون حقيقة ولهم قدرة على أعمالهم، والله خالقهم وخالق قدراتهم قال الله تعالى: {وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (¬1)، وأثبتوا للعبد مشيئة واختياراً تابعين لمشيئة الله تعالى، قال الله تعالى: {لمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬2). ثالثاً: أهل السنة وسط في باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية من القدرية المرجئة: نسبة إلى الإرجاء وهو التأخير، وسُمُّوا بذلك لأنهم أخَّروا الأعمال عن الإيمان حيث قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فعندهم أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وأن مرتكب الكبيرة كامل الإيمان غير مُعرَّض للوعيد، ومذهبهم باطل بالكتاب والسنة. والوعيدية هم الذين قالوا: إنّ الله يجب عليه عقلاً أن يُعذِّب العاصي، كما يجب عليه أن يثيب الطائع، فمن مات على كبيرة ولم يتب منها فهو ¬
رابعا: أهل السنة وسط في باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية، والمعتزلة، وبين المرجئة، والجهمية
خالد مُخلَّد في النار، وهذا أصل من أصول المعتزلة، وبه تقول الخوارج، قالوا: لأنَّ الله لا يخلف الميعاد. ومذهبهم باطل مخالف للكتاب والسنة، قال الله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لمَن يَشَاء} (¬1). أما أهل السنة والجماعة فهم وسط في باب وعيد الله بين هاتين الطائفتين حيث قالوا: إنّ مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته أو مؤمن ناقص الإيمان، وإن مات ولم يتب فهو تحت مشيئة الله إن شاء عفا عنه برحمته وفضله وأدخله الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه بعدله بقدر ذنوبه في النار، ولكنه لا يخلد فيها بل يخرج بعد التطهير والتمحيص من الذنوب والمعاصي، ويدخل الجنة بشفاعة أو بفضل الله ورحمته، وكلٌّ من فضل الله تعالى. وقال أهل السنة: وإخلاف الوعيد كرم بخلاف إخلاف الوعد؛ فإنّه يمدح بإخلاف الوعيد بخلاف [إخلاف] الوعد. قال الشاعر: وإنِّي وإن أَوعدتُُه أو وعدتُُه ... لمخلفُُ إيعادي ومنجزُ موعدي (¬2) رابعاً: أهل السُّنَّة وسط في باب أسماء الإيمان والدِّين بين الحرورية، والمعتزلة، وبين المرجئة، والجهمية المراد بالأسماء هنا أسماء الدِّين مثل: مؤمن، ومسلم، وكافر، وفاسق. والمراد بالأحكام: أحكام أصحابها في الدنيا والآخرة. ¬
1 - الحرورية
1 - الحرورية طائفة من الخوارج نسبوا إلى حروراء، وهو موضع قريب من الكوفة اجتمعوا فيه حين خرجوا على علي - رضي الله عنه - فعندهم أنَّه لا يُسمَّى مؤمناً إلا من أدَّى الواجبات واجتنب الكبائر. ويقولون: إنّ الدين والإيمان قول، وعمل، واعتقاد. ولكنه لا يزيد ولا ينقص، فمن أتى كبيرة كفر في الدنيا وهو في الآخرة خالد مخلد في النار إن لم يتب قبل الموت. 2 - المعتزلة هم أتباع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد سُمُّوا بذلك لمّا اعتزلوا مجلس الحسن البصري، وقيل غير ذلك. فعندهم أنه لا يُسمَّى مؤمناً إلا من أدى الواجبات واجتنب الكبائر، ويقولون: إن الدين والإيمان قول وعمل واعتقاد، ولكنه لا يزيد ولا ينقص، فمن أتى كبيرة صار في منزلة بين المنزلتين - خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر - هذا حكمه عندهم في الدنيا،، وحكمه في الآخرة خالد مُخَلَّدٌ في النار. فوقع الخلاف بين الخوارج والمعتزلة في موضعين ووقع الاتفاق بينهم في موضعين. وقع الاتفاق بينهم في: أ - نفي الإيمان عن مرتكب الكبيرة. ب - خلوده في النار مع الكفار. ووقع الخلاف بينهم في: أ - الخوارج سَمُّوه كافراً، والمعتزلة قالوا في منزلة بين المنزلتين. ب - الخوارج استحلُّوا دمه وماله، والمعتزلة لم يفعلوا ذلك. 3 - المرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر
4 - الجهمية
طاعة، فهم يقولون: إن الإيمان مُجرَّد التصديق بالقلب. فمرتكب الكبيرة عندهم كامل الإيمان ولا يستحق دخول النار. فعلى هذا يكون إيمان أفسق الناس كإيمان أكمل الناس. 4 - وكذا قال الجهمية. فالجهم قد ابتدع التعطيل، والجبر، والإرجاء كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله، فمرتكب الكبيرة عند هؤلاء كامل الإيمان ولا يستحق دخول النار. 5 - أما أهل السنة والجماعة فهداهم الله للحق، فقالوا: إنّ الإيمان قول باللِّسان، وعمل بالجوارح، واعتقاد بالقلب، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. فمرتكب الكبيرة عندهم مؤمن ناقص الإيمان، قد نقص من إيمانه بقدر ما ارتكب من معصية، فلا ينفون عنه الإيمان أصلاً كالخوارج والمعتزلة، ولا يقولون: بأنَّه كامل الإيمان كالمرجئة والجهمية. أما حكمهُ في الآخرة فهو تحت مشيئة الله إن شاء أدخله الجنة من أول مرَّة رحمة منه وفضلاً، وإن شاء عذبه بقدر معصيته عدلاً منه سبحانه ثم بعد التطهير يخرجه من النار ويدخله الجنة. هذا إن لم يأت بناقض من نواقض الإسلام، أو يستحل ما حرم الله أو يحرم ما أحل الله. وحكم أهل السنة على عدم تخليد المؤمن في النار وسط كذلك بين الخوارج والمعتزلة لقولهم بخلوده في النار، وبين المرجئة والجهمية الذين قالوا لا يستحق على المعصية عقاباً (¬1). ¬
خامسا: أهل السنة وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج والنواصب
خامساً: أهل السنة وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج والنواصب الرافضة هم طائفة من الشيعة غلوا في علي - رضي الله عنه - وأهل البيت، ونصبوا العداوة لجمهور الصحابة كالثَّلاثة، وكفّروهم، ومن والاهم، وكفّروا من قاتل علياً وقالوا: إنّ علياً إمام معصوم، وسبب تسميتهم بهذا الاسم أنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين، حينما قالوا: تبرّأْ من الشيخين: أبي بكر وعمر، فقال: معاذ الله، وزيرا جدي، فرفضوه فسموا رافضة. وأما الزيدية فقالوا: نتولاهما، ونتبرّأ ممن تبرّأ منهما، وتبعوا زيداً فسُمّوا بالزيدية. والخوارج قابلوا هؤلاء فكفروا علياً، ومعاوية، ومن معهما من الصحابة، وقاتلوهم، واستحلوا دماءهم، وأموالهم. والنواصب: هم الذين نصبوا العداوة لأهل البيت ويطعنون فيهم. أما أهل السنة والجماعة فهداهم الله تعالى للحق والصواب، فلم يغلوا في علي وأهل البيت، ولم ينصبوا العداوة للصحابة - رضي الله عنهم - ولم يكفّروهم، ولم يفعلوا كما فعل النواصب من عداوة أهل البيت. بل يعترفون بحق الجميع وفضلهم، ويوالونهم ويرتبونهم في الفضل والأفضليَّة: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنهم -،ويكفون عن الخوض فيما جرى بينهم، ويترحَّمون على جميع الصحابة، فكانوا وسطاً بين غلو الرافضة، وجفاء الخوارج (¬1). ¬
المبحث التاسع: الإيمان باليوم الآخر
المبحث التاسع: الإيمان باليوم الآخر الإيمان باليوم الآخر هو أحد أركان الإيمان السِّتة، وقد تقدم ذكر الإيمان باليوم الآخر إجمالاً، وهاهنا أراد مؤلف العقيدة (¬1) رحمه الله ذكر بعض تفاصيل ذلك اليوم العظيم. وخلاصة مذهب أهل السنة في الإيمان باليوم الآخر على النحو الآتي: أولاً: الإيمان بفتنة القبر. يجب الإيمان بأنَّ الناس يمتحنون في قبورهم بعد الموت، وهذا الامتحان أو الاختبار يقال له فتنة القبر، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الناس يمتحنون في قبورهم فيقال للإنسان: ((مَن ربُّك؟ وما دينُك؟ ومن نبيُّك؟. فالمؤمن يقول: ربِّي الله وديني الإسلام، ونبيّيَ محمد - صلى الله عليه وسلم - والفاجر يقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فيقال له: لا دريت ولا تليت، فَيُضرب بمطرقةٍ من حديد فيصيح صيحةً يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها لصعق)) (¬2). قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} (¬3). ثانياً: نعيم القبر وعذابه: ورد به الكتاب والسنة، وأنه حق يجب الإيمان به. فإنّه بعد الفتنة في القبر نعوذ بالله من فتنة القبر وعذابه، بعد هذه الفتنة إما عذاب، وإما نعيم، فمن أجاب على أسئلة الامتحان في القبر نجا ¬
ثالثا: القيامة الكبرى
وسعد في قبره، ويوم حشره، ومن لم يجب على هذه الأسئلة فقد خسر خسراناً مبيناً نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. والنعيم أو العذاب في القبر يجري على الروح والجسد تبع له، وفي يوم القيامة على الروح والبدن جميعاً، والخلاصة أنّ عذاب القبر ونعيمه حقٌّ دلَّ عليه كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع الأمة الإسلامية. ثالثاً: القيامة الكبرى: يجب الإيمان بأنّه بعد انتهاء مُدَّة الحياة الدنيا تقوم القيامة الكبرى حين ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الأولى، ثم ينفخ نفخة البعث والنشور فتعاد الأرواح إلى أجسادها فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين: حفاة، عراة، غرلاً {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً} (¬1)، {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ*وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} (¬2)، وأول من ينشقّ عنه القبر محمد - صلى الله عليه وسلم -. وتدنو من العباد الشمس في هذا اليوم ويلجمهم العرق على حسب أعمالهم، ومنهم من يظله الله في ظله يوم لا ظلَّ إلاّ ظلُّه. رابعاً: الميزان: وتُنصب الموازين يوم القيامة فتوزن فيها أعمال العباد {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬3)، {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} (¬4)، وهذا الميزان حقيقي له لسان وكفتان، ويوزن العامل وعمله. خامساً: الدواوين وتطاير الصحف: وفي هذا اليوم تُنشر الدواوين ¬
سادسا: الحساب
وتفتح، فآخذٌ كتابه وصحائفَ أعماله بيمينه، فهذا له السعادة الأبدية التي لا يشقى بعدها أبداً، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} (¬1)، نسأل الله من فضله، وأن يجعلنا منهم. ومنهم آخذٌ كتابه بشماله من وراء ظهره، فهذا له الشقاوة، نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} (¬2) الآيات، نعوذ بالله من غضبه وعقابه. سادساً: الحساب: ويجب الإيمان بذلك؛ لأنَّ الله أخبر بذلك وأخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم -. فإنّ الله يوقف عباده على أعمالهم قبل الانصراف من المحشر، فيرى كل إنسان عمله سواء كان خيراً أو شراً، قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (¬3). وقال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (¬4)، ويُسأل الإنسان في هذا اليوم العظيم عن أربع: ((عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ¬
سابعا: الحوض المورود
فيم فعل)) (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه الله ليس بينه وبينه تُرجمان، فينظر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاءَ وجهه، فاتقوا النار ولو بشِقِّ تمرة)) (¬2)، ويقول الله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬3)، والكفار لا يحاسبون حساب من توزن حسناتهم، وإنما يوقفون على أعمالهم ويقرُّون بها؛ فإنّهم لا حسنات لهم. نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. سابعاً: الحوض المورود: ومن مذهب أهل السنة التصديق الجازم بأنّ حوض النبي - صلى الله عليه وسلم - في عرصات القيامة، ((وأنَّ ماءه أشدُّ بياضاً من اللَّبن، وأحلى من العسل، وآنيته عدد نجوم السماء، وطوله شهر وعرضه شهر، من شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبداً)) (¬4)، وهذا الحوض مُختصٌّ بمحمد - صلى الله عليه وسلم -. والأنبياء كل له حوض، ولكن الحوض الأعظم هو لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا الحوض في الأرض، ويصب فيه ميزابان من الجنة من الكوثر، ومنبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حوضه. ¬
ثامنا: الصراط وبعده القنطرة بين الجنة والنار
ثامناً: الصِّراط وبعده القنطرة بين الجنة والنار: يجب الإيمان بذلك وأنه حقّ، وهو الجسر المنصوب على متن جهنم بين الجنة والنار، يمرّ عليه الأوّلون والآخرون، وهذا الصّراط أحدُّ من السيف، وأدقُّ من الشعرة. فنسأل الله الثبات. والناس يمرُّون عليه على حسب أعمالهم. فمنهم من يتجاوزه كلمح البصر، ومنهم من يمرُّ كالبرق، ومنهم من يمرُّ كالريح، ومنهم من يمرُّ كالفرس الجواد، ومنهم من يمرُّ كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عَدْواً، ومنهم من يمشي مشياً، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من يسقط في جهنم، وعلى حافة الجسر كلاليب تخطف من أُمِرَتْ بخطفه، فإذا تجاوز المؤمنون وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعضٍ، فإذا نُقُّوا أُذِن لهم في دخول الجنة (¬1). تاسعاً: الشفاعة هي سؤال الخير للغير، وقد ذكر المؤلف رحمه الله ثلاثة أقسام من الشفاعة: ثنتان خاصتان بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، والثالثة يشفع هو وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي على النحو الآتي: 1 - الشَّفاعة العظمى وهي شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأهل الموقف حتى يُقضى بينهم حين يتراجع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. 2 - شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في أهل الجنة أن يدخلوها (¬2). وهاتان الشفاعتان ¬
3 - شفاعته - صلى الله عليه وسلم -، والنبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وغيرهم فيمن استحق النار من المؤمنين أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها
خاصتان به - صلى الله عليه وسلم -. 3 - شفاعته - صلى الله عليه وسلم -، والنبيين، والصِّدِّيقين، والشُّهداء، والصَّالحين، وغيرهم فيمن استحق النار من المؤمنين أن لا يدخلها، وفيمن دخلها أن يخرج منها. ويخرج الله من النار بغير شفاعة بل بفضله ورحمته أقواماً، ويبقى في الجنة فضل عن من دخلها من أهل الدنيا فينشئ الله لها أقواماً فيدخلهم الجنة. وقد أوصلها في شرح الطحاوية إلى ثمانية أقسام هي: 1 - الشفاعة العظمى لفصل القضاء. 2 - الشفاعة في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم. 3 - الشفاعة في أقوام أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها. 4 - الشفاعة في رفع درجات من دخل الجنة. 5 - الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب. 6 - شفاعته في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه. 7 - شفاعته لأن يُؤذن لجميع المؤمنين بدخول الجنة. وهي خاصة به كما تقدم. 8 - شفاعته في أهل الكبائر من أمته ممن دخل النار فيخرجون منها وهذه الشفاعة يشاركه غيره فيها. وهي تتكرر منه - صلى الله عليه وسلم - أربع مرات: أ - يشفع فيمن كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. ب - ثم فيمن كان في قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان. جثم فيمن كان في قلبه أدنى حبة من خردل من إيمان.
د - ثم فيمن قال لا إله إلا الله (¬1)، وفي الصحيح قال فيقول الله تعالى: ((شفعت الملائكة وشفع النبيُّون، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط)) (¬2)، وبعضهم أوصل الشفاعة إلى ستة أقسام: 1 - الشفاعة العظمى. 2 - الشفاعة في دخول الجنة. 3 - الشفاعة فيمن استحقَّ النار أن لا يدخلها. 4 - الشفاعة فيمن دخلها أن يخرج منها. 5 - الشفاعة في رفع درجات أقوام ممن دخل الجنة. 6 - الشفاعة في تخفيف العذاب عن أبي طالب (¬3). وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)) (¬4) والشفاعة المثبتة لها شرطان: الشرط الأول: إذن الله للشَّافع. الشرط الثاني: رِضى الله عن المشفوع له. ¬
عاشرا: الجنة والنار
عاشراً: الجنة والنار. ومذهب أهل السنة في الجنة والنار هو الاعتقاد الجازم بأنّ الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان، فالجنة دار أوليائه والنار دار أعدائه، وأهل الجنة فيها مخلدون، وأهل النار من الكفار فيها مخلدون، وأنَّ النار والجنة موجودتان وقد رآهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف، وقد جاء في الأحاديث الصحيحة أنَّ الموت يجاء به في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ويُذبح ويقال: يا أهل الجنة خلودٌ فلا موت، ويا أهل النار خلودٌ فلا موت (¬1). ¬
المبحث العاشر: القدر ومراتبه
المبحث العاشر: القدر ومراتبه القدر هو أحد أركان الإيمان الستة، وقد تقدم ذكر الإيمان بالقدر إجمالاً ثم ذكره المؤلف رحمه الله هنا تفصيلاً. والقدر هو تقدير الله تعالى للأشياء في القدم، وعلمه سبحانه أنَّها ستقع في أوقات معلومة عنده وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك ومشيئته له ووقوعها على حسب ما قدَّرها وخلقه لها (¬1)، وللقدر أربع مراتب يجب الإيمان بها كما آمن بها أهل السنة، على النحو الآتي. المرتبة الأولى: الإيمان بأنّ الله تعالى علم بما الخلق عاملون به بعلمه الأزلي الأبد، فقد علم جميع أحوالهم: من الطاعات، والأرزاق، والآجال، فهو سبحانه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان قال تعالى: {وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (¬2)، {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (¬3). المرتبة الثانية: كتابة الله لجميع الأشياء في اللَّوح المحفوظ: الدقيقة والجليلة، ما كان، وما سيكون، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} (¬4)، وقال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (¬5). ¬
المرتبة الثالثة: المشيئة النافذة التي لا يردها شيء
المرتبة الثالثة: المشيئة النافذة التي لا يردها شيء، والقدرة التي لا يعجزها شيء، فجميع الحوادث وقعت بمشيئة الله وقدرته فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1). المرتبة الرابعة: الخلق كُلُّهُ لله تعالى، فهو الخالق وكل ما سواه مخلوق له. لا إله غيره، ولا رب سواه، قال الله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬2) (¬3)، وقال تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} (¬4)، فالله الخالق لكل شيء وقع، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ونهاهم عن معصيته وهو سبحانه يحب المحسنين، والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، وهو الحكيم العليم، وقد جمع بعضهم مراتب القدر في بيت واحد قال فيه: علمُ كتابة مولانا مشيئتهُ ... وخلقه وهو إيجاد وتكوين والإيمان بكتابة المقادير يدخل فيه خمسة تقادير: ¬
1 - التقدير الشَّامل لجميع المخلوقات بمعنى أنَّ الله علمها، وكتبها، وشاءها وخلقها، وتقدم ذكر ذلك بأدلته في المراتب الأربع. 2 - التقدير الثاني كتابة الميثاق حينما قال الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (¬1) الآيات. 3 - التقدير العُمُري: تقدير رزق العبد، وأجله، وعمله، وشقي، أو سعيد في بطن أمه. ودليله حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - (¬2). 4 - التقدير السَّنوي {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} (¬3)،قال ابن عباس: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر، والأرزاق (¬4). 5 - التقدير اليومي قال الله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} (¬5)، فالله تعالى كل يوم يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين (¬6)، وهذا التقدير هو سوق المقادير إلى المواقيت التي قدرت لها فيما سبق. وهذا التقدير اليومي تفصيل من التقدير الحولي، والحولي تفصيل من ¬
أقلام المقادير التي دلت عليها السنة
التقدير العمري عند نفخ الروح في الجنين في بطن أمه، والعمري تفصيل من التقدير العمري الأول يوم الميثاق، وهو تفصيل من التقدير الذي خطه القلم في الإمام المبين (¬1)، وأقلام المقادير التي دلت عليها السنة أربعة أقلام: 1 - القلم الأول العام الشامل لجميع المخلوقات. 2 - القلم الثاني حين خلق آدم وهو قلم عام أيضاً لكنه لبني آدم. 3 - القلم الثالث حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه ويكتب به الأربع الكلمات. 4 - القلم الرابع الموضوع على العبد عند بلوغه الذي بأيدي الكرام الكاتبين، وهذا القلم يكتبون به ما يفعله بنو آدم (¬2). وإذا علم العبد أن كلاً من عند الله فالواجب إفراده سبحانه بالعبادة والتَّقوى (¬3). فعلى العبد أن يبذل الأسباب، ويسأل الله التوفيق والهداية، ويعلم أنَّه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له ويعلم علماً يقيناً أنّ الله لا يضيع أجر ¬
المحسنين، ولا يظلم مثقال ذرة: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬1). ¬
المبحث الحادي عشر: مذهب أهل السنة في الإيمان والدين
المبحث الحادي عشر: مذهب أهل السنة في الإيمان والدين الدين والإيمان عند أهل السنة هو: قول، وعمل، واعتقاد. قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان، والجوارح. وأنّ الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية. قول القلب تصديقه وإيقانه، وقول اللسان: النطق بالشهادتين والإقرار بلوازمهما، وعمل القلب: النِّيّة، والإخلاص والمحبة، والانقياد والإقبال على الله، والتوكل عليه، ولوازم ذلك وتوابعه، وكل ما هو من أعمال القلوب. وعمل اللِّسان: هو ما لا يُؤدَّى إلا به كتلاوة القرآن، وسائر الأذكار من التسبيح، والتحميد، والتكبير، والدعاء، والاستغفار، وغير ذلك. وعمل الجوارح هو ما لا يُؤدَّى إلا بها مثل القيام، والركوع، والسجود، والمشي في مرضاة الله، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر (¬1). وأما زيادة الإيمان ونقصانه؛ فلقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (¬2)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة)) (¬3). ومن الأدلة لزيادة الإيمان ونقصانه أن الله قسّم المؤمنين ثلاثة أقسام، قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ الله ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ ¬
الظالم لنفسه
الْكَبِيرُ} (¬1). والظَّالم لنفسه هو المفرِّط يفعل بعض الواجبات ويرتكب بعض المحرمات. والمقتصد هو المؤدِّي للواجبات التارك للمحرمات. وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات. والسَّابق بالخيرات، وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، والتارك للمحرمات والمكروهات (¬2). وأهل السنة والجماعة لا يكفِّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر ما لم يستحل الذنب من الفاعل، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من صلَّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم)) (¬3)، فكل من ارتكب كبيرةً أو أصرَّ على صغيرةٍ يسمى عاصياً، وفاسقاً، وهو كسائر المؤمنين لا يخرج من الإيمان بمعصيته ما لم يستحلَّها. فيقال: مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، أو مؤمن ناقص الإيمان. فلا يُعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم. أما حكمه في الآخرة فهو تحت مشيئة الله تعالى إذا مات ولم يتب، فإن شاء الله عذبه بقدر ذنبه ومصيره إلى الجنة، وإن شاء غفر له من أول ¬
وهلة وأدخله الجنة برحمته وفضله. أما مرتكب الكبيرة عند الخوارج والمعتزلة فهو مخلَّد في النار في الآخرة، وفي الدنيا كافر عند الخوارج مُستحَلُّ الدم والمال، أما المعتزلة ففي منزلة بين المنزلتين: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر. وعند الجهمية والمرجئة: كامل الإيمان ولا يستحق العذاب. وسبق التفصيل في هذا في توسط أهل السنة.
المبحث الثاني عشر: مذهب أهل السنة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه وأهل بيته
المبحث الثاني عشر: مذهب أهل السُّنَّة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأزواجه وأهل بيته من أصول أهل السنة سلامة قلوبهم لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحقد والبغض، والعداوة، وسلامة ألسنتهم من الطَّعن، والسَّبِّ. وهم يترضون عنهم ويدعون لهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} (¬1)، وهم يمتثلون أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: ((لا تسبُّوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفَه)) (¬2)، ويقبلون ما جاء في الكتاب والسنة من فضائلهم، ويفضِّلون من أنفق من قبل الفتح وقاتل، ويُقدِّمون المهاجرين على الأنصار، وكل العشرة المشهود لهم بالجنة من المهاجرين، ويؤمنون بأنَّ الله اطَّلع على أهل بدر وهم ثلاثمائةٍ وبضعةَ عشرَ رجلاً فقال: ((اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)) (¬3)، ويؤمنون بأنَّه لا يدخل النار أحدٌ بايع تحت الشجرة؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يدخل النار أحدٌ بايع تحت الشجرة)) (¬4)، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة، ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كثابت بن قيس بن شماس، فقد شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬5)، وكالعشرة ¬
المشهود لهم بالجنة. وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وسعد بن مالك بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد (¬1)، ويُقِرِّون بأن خير هذه الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي - رضي الله عنهم - (¬2)، ويتبرؤون من طريق الروافض - وقد سبق بيان مذهبهم - ومن طريق النواصب الذين يكفّرون آل البيت ويطعنون فيهم، وقد نصبوا العداوة لأهل البيت ويمسك أهل السنة عما شجر بين الصحابة، وما صحَّ من أخبارهم فهم معذورون؛ لأنهم إمّا مجتهدون مصيبون، وإمّا مجتهدون مخطئون. وأهل السنة يعتقدون أنه لا أحد معصوم من الكبائر إلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. والصحابة تجوز عليهم الذنوب، ولكن لهم من السوابق والفضائل الشيء الكثير، وهذا يمحو السيئة، وهم خير القرون (¬3)، وقد يكون أن من صدر منه ذنب قد تاب منه، وهم أسعد الناس بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأهل السنة يحبون آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لوصيته بهم (¬4)، ويوالون أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويترضَّون عنهنَّ، ويؤمنون أنَّهنَّ أزواجه في الآخرة، وأنَّهنَّ أمهات المؤمنين في الاحترام والتعظيم، وتحريم النكاح، وأنَّهنَّ ¬
مطهرات مبرآت من كل سوء، ويتبرؤون ممن آذاهن، أو سبهنَّ، ويحرمون طعنهن وقذفهنّ، وقد ورد في فضلهنَّ أحاديث كثيرة فلتراجع (¬1)، فرضيَ الله عنهن وعن جميع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ¬
المبحث الثالث عشر: مذهب أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء
المبحث الثالث عشر: مذهب أهل السنة والجماعة في كرامات الأولياء وأهل السنة يؤمنون بكرامات الأولياء. والكرامة هي خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة، فإذا اقترن بدعوى النبوة كان معجزة، ولا يكون الأمر الخارق كرامة إلا لعبد ظاهره الصلاح، ومصحوباً بصحة الاعتقاد والعمل الصالح. فإذا ظهر الأمر الخارق على يد المنحرفين فهو من الأحوال الشيطانية، وإذا ظهر الأمر الخارق على يد إنسان مجهول لا يعرف حاله فإنَّ حاله يعرض على الكتاب والسنة كما رُوي عن الشافعي أنه قال: إذا رأيتم الرجل يسير على الماء، ويطير في الهواء، فلا تصدقوه حتى تعرضوا حاله على الكتاب والسنة. أو كما قال رحمه الله (¬1). وأهل السنة يؤمنون ويعتقدون اعتقاداً جازماً بكرامات الأولياء، وما جرى على أيديهم من الخوارق للعادات في العلوم، والمكاشفات، وأنواع القدرة، والتأثير، ومن ذلك قصة أصحاب الكهف، والنوم الطويل الذي أوقعه الله بهم. ومن ذلك ما أكرم الله به مريم بنت عمران من إيصال الرزق إليها وهي في المحراب. ومن ذلك قول عمر بن الخطاب وهو على المنبر: ((يا سارية الجبل))، ورؤيته لجيش سارية وهو بنهاوند، وسمع سارية مع بُعد المسافة (¬2)، ¬
وغير ذلك لا يحصى ولا يُعَدُّ. وقد رأيت كثيراً من ذلك في كتاب الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية المسمَّى: ((الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان)).
المبحث الرابع عشر: طريقة أهل السنة الاتباع
المبحث الرابع عشر: طريقة أهل السنة الاتّباع أهل السنة يتبعون أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأفعاله، وتقريراته، وهذا هو المقصود باتباع آثاره، أما اتباع آثاره الحسِّيّة التي ليست من الدين كمواضع بوله، ونومه، ومشيه، فلا يجوز تتبّع ذلك؛ لأنّ ذلك وسيلة إلى الشرك. ومن طريقة أهل السنة اتّباع أقوال الصحابة عند خفاء سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، أما إذا وُجدَ النص من الكتاب أو من السنة، فإنه يجب تقديمه على رأي كل أحد من الناس، قال الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (¬1). وأهل السنة يتبعون وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - بسنته وسنة الخلفاء الراشدين، ويعضُّون عليها بالنَّواجذ ويتمسَّكون بها امتثالاً لأمره - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وهم يُقدِّمون كلام الله ثم يُقدِّمون هَدْي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولهذا سُمُّوا بأهل السنة والجماعة. ¬
المبحث الخامس عشر: أصول أهل السنة التي يزنون بها جميع ما عليه الناس
المبحث الخامس عشر: أصول أهل السنة التي يَزِنُونَ بها جميع ما عليه الناس أهل السنة يعتمدون على ثلاثة أصول يزنون بها جميع ما عليه الناس من أعمال، وأفعال ظاهرة، أو باطنة مما له تعلَّق بالدين، وهذه الأصول هي: 1 - كتاب الله - عز وجل - الذي هو خير الكلام، فمن قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن تمسك به هُدي إلى صراطٍ مستقيمٍ، ومن عدل عنه رغبة عنه ضلَّ وشقيَ في دنياه وأُخراه. وأهل السنة لا يقدِّمون على كلام الله قول أحدٍ من الناس. 2 - سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يقدمون على ما صحَّ منها كلام أحد من خلق الله. 3 - ما وقع عليه إجماع الصدر الأول من هذه الأمة قبل التفرق والانتشار وظهور البدع والمقالات، وما جاءهم بعد ذلك من المقالات وزنوها بهذه الأصول الثلاثة، فإن وافقها قبلوه، وإن خالفها ردّوه أيّاً كان قائله وهذا هو المنهج السليم والطريق القويم.
المبحث السادس عشر: من أخلاق أهل السنة والجماعة
المبحث السادس عشر: من أخلاق أهل السنة والجماعة ختم المؤلف رحمه الله تعالى عقيدته (¬1) ببعض الصفات الحميدة التي يتصف بها أهل السنة والجماعة، فمن محاسنهم، ومكارم أخلاقهم: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف ما حسنه الشرع والعقل، والمنكر هو كل قبيح شرعاً وعقلاً، قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2)؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (¬3). وهذه الأمور الثلاثة هي مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - اليد، ثم اللسان، ثم القلب -. ومن مكارم أخلاق أهل السنة: الإدانة بالنصيحة لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم (¬4). ¬
المؤمن للمؤمن كالبنيان
وأن المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص (¬1)، ويرحمون إخوانهم المسلمين (¬2)، ويحثُّون على مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويأمرون بالصبر والإحسان إلى عباد الله على حسب أحوالهم، وما يجب لهم من أقارب، وأيتام، وفقراء، وينهون عن الفخر، والخيلاء، وكلما يفعلونه إنما هم فيه متّبِعون للكتاب والسنة فنسأل الله أن يجعلنا من الطَّائفة التي لا تزال على الحق منصورة، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة (¬3)، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. ¬