شرح العقيدة الطحاوية للبراك

عبد الرحمن بن ناصر البراك

بسم الله الرحمن الرحيم

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، وصلى الله وسلم على محمد عبدِ الله ورسولِه، أرسله بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. ... أما بعد: فإن أعظمَ نعمة على العبد بعد الإسلامِ، لزومُ السنة والجماعة، والسلامة من البدع والأهواء؛ فقد وقع في هذه الأمة ما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من التفرق، والابتداع في الدين، ـ كما وقع في من قبلها ـ فانحرفت هذه الفرق عن الصراط المستقيم، ولم يستقيموا على سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى؛ بل اتبعوا أهواءهم، وقدموا عقولهم القاصرة، وجعلوها حكما على الشريعة في مسائل أصول الدين، وهم في هذا الانحراف متفاوتون؛ فمنهم الغالي، ومنهم دون ذلك، ومنهم المعاند المتعصب لبدعته، ومنهم المجتهد المخطئ، فتصدى أئمة السنة للرد على المبتدعين، وكشف شبهاتهم، مع العدل في أحكامهم عملا بقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ} [الأنعام: 152] فكتبوا في ذلك، وفي بيان مذهب أهل السنة كتبا كثيرة، مطولة وقصيرة، وكان من هؤلاء الأعلامِ الإمامُ أبو جعفر الطحاوي ـ رحمه الله ـ، فقد كتب رسالة في عقيدة أهل السنة والجماعة، صغيرة الحجم كثيرة المعاني، ذكر فيها جملا من أصول مذهب أهل السنة من غير تفصيل ولا تدليل. وقد تصدى لشرحها جمع من العلماء منهم: العلامة أبو الحسن علي بن علي بن محمد المشهور بابن أبي العز الحنفي المتوفى سنة

792هـ ـ رحمه الله ـ (¬1)، وقد اعتمد في أكثر شرحه على كتب شيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم ـ رحمهما الله ـ، فجاء شرحا عظيما، حافلا بالتقريرات النفيسة، والبحوث المتينة، والردود الشافية على أهل البدع. وكان ممن تولى شرحها للطلاب في هذا العصر: فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك ـ حفظه الله ـ فشرحها في مجالس علمية متعددة، ومن ذلك شرحه لها في جامع الإمام علي بن المديني ـ رحمه الله ـ في مدينة الرياض ضمن الدورات العلمية المكثفة في الصيف في أربعة أعوام من عام 1422 إلى عام 1425هـ. فعرضتُ على الشيخ ـ حفظه الله ـ فكرة العناية بهذا الشرح، وتهيئته للطباعة؛ لما يرجى من نفع ذلك، فوافق على طلبي، أجزل الله مثوبته. فاستعنت بالله على ذلك، وسار العمل في الإخراج على ما يلي: 1 - كتابة ما في الأشرطة من الشرح، ولم أدخل الأسئلة. 2 - صححت المكتوب وهيئته ونسقته ليناسب الطباعة. 3 - أثبت نصوص الأحاديث والآثار والنقول على ما جاءت في مصادرها. 4 - عزوت الآيات إلى مواضعها من كتاب الله، وخرجت الأحاديث، والآثار، والطريقة في التخريج ما يلي: (أ) إذا كان الحديث في الصحيحين، أو أحدهما اقتصرت في العزو عليه. (ب) إذا كان الحديث في غير الصحيحين خرجته من أشهر وأهم المصادر من غير استيعاب، ونقلت ما تيسر من كلام أهل العلم عليه تصحيحا، أو تضعيفا باختصار، إذ ليس هذا موضع استقصاء، وقد أحيل ¬

(¬1) انظر ترجمته في: إنباء الغمر 3/ 50، ووجيز الكلام 1/ 295، وشذرات الذهب 8/ 557.

للكتب المتخصصة في التخريج لمن أراد التوسع والزيادة في المواضع التي تحتاج لذلك. 5 - وثقت النقول، وأحلت في مواضع كثيرة من الشرح إلى كتب الأئمة خصوصا شيخ الإسلام ابن تيمية زيادة في التوثيق، والفائدة لمن أرد التوسع. 6 - اعتمدت في متن العقيدة الطحاوية على طبعة الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد عام 1404هـ مع مراجعة المتن الذي مع شرح ابن أبي العز، وبعض المخطوطات عند الحاجة، والفرق الذي لا يترتب عليه اختلاف في المعنى لن أنبه عليه حفظا لوقت القارئ، وقد ميزت المتن بتعريض الخط ووضعه بين أقواس صغيرة كهذه «». 7 - وضعت عناوين في بداية المقاطع المشروحة من المتن في إطار للتوضيح. 8 - قرأت الشرح كاملا على الشيخ ـ حفظه الله ـ فأضاف، وحذف، وعدَّل، وغيَّر ما رآه مناسبا. 9 - وضعت بين يدي الكتاب ترجمة مختصرة للإمام الطحاوي وأخرى للشيخ البراك. 10 - وضعت فهرسا للأحاديث، وقائمة بالمراجع التي عزوت لها، وفهرسا شاملا لمسائل الكتاب، وفهرسا إجماليا لموضوعات الكتاب. هذا وأسأل الله أن يجزي الشيخ عبد الرحمن البراك خير الجزاء، وأن يمد في عمره على طاعته، وأن ينفع به المسلمين، إنه تعالى جواد كريم. كتبه عبد الرحمن بن صالح بن عبد الله السديس الرياض/ assdais@gmail. com

[ترجمة الإمام الطحاوي]

[ترجمة الإمام الطحاوي] اسمه ونسبه: أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك الأزدي المصري الطحاوي، نسبة لقرية «طحا» في صعيد مصر. كنيته: أبو جعفر. مولده: اختلف في سنة ولادته فقيل: 239 هـ وقيل: 238هـ والأكثر على الأول. شيوخه: يونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، والربيع بن سليمان المرادي، وخاله إسماعيل المزني، وبكار بن قتيبة، ويزيد بن سنان، وأحمد بن أبي عمران، ويحيى بن محمد بن عمروس، وهو الذي أدَّبه وعلمه القرآن. رحلته: رحل إلى الشام سنة 268هـ، ولقي القاضي أبا خازم عبد الحميد بن عبد العزيز، وتفقه عليه، وتنقل بين مدن الشام وسمع من جماعة من المحدثين. مذهبه الفقهي: كان الطحاوي في أول أمره شافعيا، ثم تحول إلى مذهب أبي حنيفة، وسببه:

أنه كان يقرأ على خاله المزني الفقيه الشافعي، فمرت مسألة دقيقة فلم يفهمها أبو جعفر، فبالغ المزني في تقريبها، فلم يتفق ذلك، فغضب المزني، فقال: والله لا جاء منك شيء، فغضب أبو جعفر من ذلك، وانتقل إلى مجلس القاضي الحنفي ابن أبي عمران. وقال الخليلي: سمعت عبد الله بن محمد الحافظ يقول: سمعت أحمد بن محمد الشروطي يقول: قلت للطحاوي: لم خالفت خالك واخترت مذهب أبي حنيفة؟ قال: لأني كنت أرى خالي يديم النظر في كتب أبي حنيفة، فلذلك انتقلت إليه. وقال أبو سليمان بن زَبْر: قال لي الطحاوي: أول من كتبت عنه الحديث: المزني، وأخذت بقول الشافعي، فلما كان بعد سنين، قدم أحمد بن أبي عمران قاضيا على مصر، فصحبته، وأخذت بقوله. مؤلفاته: له مؤلفات كثيرة منها: «شرح مشكل الآثار»، و «معاني الآثار» و «اختلاف العلماء» و «الشروط»، و «المختصر» و «أحكام القرآن» و «الوصايا» و «شرح الجامع الكبير» «شرح الجامع الصغير» و «الفرائض» وغيرها. تلاميذه: يوسف بن القاسم الميانجي، وأبو القاسم الطبراني، وأبو بكر بن المقرئ، وأحمد بن عبد الوارث الزجاج، وعبد العزيز بن محمد الجوهري قاضي الصعيد، ومحمد بن المظفر الحافظ، وخلق سواهم من الرحالين في الحديث. ثناء العلماء عليه: قال ابن يونس: كان ثقة ثبتا فقيها عاقلا، لم يخلف مثله. قال مسلمة بن قاسم: كان ثقة جليل القدر، فقيه البدن، عالما

باختلاف العلماء، بصيرا بالتصنيف، وكان يذهب مذهب أبي حنيفة، وكان شديد العصبية فيه. قال الخليلي في الإرشاد: للطحاوي كتب مصنفات في الحديث، وكان عالما بالحديث. وقال ابن عبد البر: كان من أعلم الناس بسير القوم ـ أي: أبي حنفيو أصحابه ـ وأخبارهم؛ لأنه كان كوفي المذهب، وكان عالما بجميع مذاهب الفقهاء. وقال السمعاني: وكان ثقة ثبتا فقيها عالما لم يخلف مثله. وقال الذهبي: الإمام العلامة الحافظ الكبير، محدث الديار المصرية وفقيهها، وقال: من نظر في تواليف هذا الإمام علم محله من العلم، وسعة معارفه. وقال ابن كثير: الفقيه الحنفي صاحب المصنفات المفيدة والفوائد، وهو أحد الثقات الأثبات، والحفاظ الجهابذة. وفاته: توفي بمصر ليلة الخميس مستهل ذي القعدة سنة 321هـ. مصادر الترجمة: الإرشاد في معرفة علماء الحديث ص 110، وجامع بيان العلم 2/ 78، والأنساب 4/ 73 و 9/ 53،، وتاريخ دمشق 5/ 369، ووفيات الأعيان 1/ 71، وسير أعلام النبلاء 15/ 27، والبداية والنهاية 15/ 72، والجواهر المضية 1/ 271، ولسان الميزان 1/ 415.

[ترجمة الشيخ عبد الرحمن البراك]

[ترجمة الشيخ عبد الرحمن البراك] اسمه ونسبه: عبد الرحمن بن ناصر بن براك بن إبراهيم البراك، ينحدر نسبه من بطن العرينات من قبيلة سبيع. ميلاده ونشأته: ولد الشيخ في بلدة البكيرية من منطقة القصيم في شهر ذي القعدة سنة 1352هـ. وتوفي والده وعمره سنة، فنشأ في طفولته في بيت أخواله مع أمه، فتربى خير تربية. ولما بلغ الخامسة من عمره سافر مع أمه إلى مكة، وكان في كفالة زوج أمه محمد بن حمود البراك. وفي مكة التحلق الشيخ بالمدرسة الرحمانية، وهو في السنة الثانية الابتدائية قدر الله أن يصاب بمرض في عينيه تسبب في ذهاب بصره، وهو في العاشرة من عمره. طلبه للعلم ومشايخه: عاد من مكة إلى البكيرية مع أسرته، فحفظ القرآن وعمره عشر سنين تقريبا على عمه عبد الله بن منصور البراك، ثم قرأ على مقرئ البلد عبد الرحمن بن سالم الكريديس رحمهم الله. وفي حدود عام 1364 و 1365هـ بدأ الشيخ حضور الدروس والقراءة على العلماء، فقرأ على الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السبيل

جملة من كتاب «التوحيد»، و «الآجرومية»، وقرأ على الشيخ محمد بن مقبل «الثلاثة الأصول». ثم سافر إلى مكة مرة أخرى في عام 1366هـ تقريبا، ومكث بها ثلاث سنين، فقرأ في مكة على الشيخ عبد الله بن محمد الخليفي إمام المسجد الحرام في «الآجرومية»، وهناك التقى بعالم فاضل من كبار تلاميذ العلامة محمد بن إبراهيم، وهو: الشيخ صالح بن حسين العلي العراقي ـ رحمه الله ـ، وكان من أصدقاء الإمام عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ فجالسه واستفاد منه، ولما عُيِّن الشيخ صالح بن حسين العلي العراقي مديرا للمدرسة العزيزة في بلدة الدلم أحب الشيخ صالح أن يرافقه الشيخ عبد الرحمن حفاوة به، فصحبه لطلب العلم على الشيخ ابن باز حين كان قاضيا في بلدة الدلم، فرحل معه في ربيع الأول من عام 1369هـ، والتحق بالمدرسة العزيزة بالصف الرابع، وكان من أهم ما استفاده في تلك السنة الإلمام بقواعد التجويد الأساسية. وفي نفس السنة سافر مع جمع من الطلاب مع الشيخ ابن باز إلى الحج، وبعد عودته ترك الدراسة في المدرسة العزيزة، وآثر حفظ المتون مع طلاب الشيخ عبد العزيز بن باز، ولازم دروس الشيخ ابن باز المتنوعة، فقد كان يُقرأ عليه في: كتاب «التوحيد»، و «الأصول الثلاثة»، و «عمدة الأحكام»، و «بلوغ المرام»، و «مسند أحمد»، و «تفسير ابن كثير»، و «الرحبية»، و «الآجرومية». ومكث في الدلم في رعاية الشيخ صالح العراقي، فقد كان مقيما في بيته، ودرس عليه علم العروض. وحَفِظ في بلدة الدلم كتاب «التوحيد»، و «الأصول الثلاثة»، و «الآجرومية»، و «قطر الندى»، و «نظم الرحبية»، وقدرا من «ألفية ابن مالك»، ومن «ألفية العراقي» في علوم الحديث. وبقي في الدلم إلى أواخر سنة 1370، وكانت إقامته في الدلم لها أثر كبير في حياته العلمية.

ثم لما فتح المعهد العلمي في الرياض في عام 1370هـ انتقل إليه كثير من طلاب المشايخ، ومنهم طلاب الشيخ عبد العزيز ابن باز، فاضطر الشيخ للتسجيل فيه، وبدأت دراسة أول دفعة فيه في محرم1371هـ، وكانت الدراسة في المعهد تتكون من مرحلتين: تمهيدي للمبتدئين الصغار، وثانوي لمن بعدهم، والتحق به كثير من طلاب العلم في وقتها، وكانت الدراسة الثانوية أربع سنوات فتخرج عام 1374هـ، والتحق بكلية الشريعة، وتخرج فيها سنة 1378هـ. وتتلمذ في المعهد والكلية على مشايخ كثيرين من أبرزهم: العلامة عبد العزيز ابن باز، والعلامة محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ، ودرَّسهم في المعهد في التفسير، وأصول الفقه، والعلامة عبد الرزاق عفيفي ـ رحمه الله ـ ودرَّسهم في التوحيد، والنحو، وأصول الفقه، والشيخ محمد عبد الرزاق حمزة، والشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد، والشيخ عبد الرحمن الأفريقي، والشيخ عبد اللطيف سرحان درس عليه النحو، وآخرين رحمهم الله جميعا. وكان في تلك المدة يحضر بعض دروس العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ في المسجد. وأكبر مشايخه عنده، وأعظمهم أثرًا في نفسه الإمام العلامة عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ فقد أفاد منه أكثر من خمسين عاما بدءا من عام 1369هـ إلى وفاته في عام 1420هـ، ثم شيخه العراقي الذي استفاد منه حب الدليل، ونبذ التقليد، والتدقيق في علوم اللغة، كالنحو، والصرف، والعروض. الأعمال التي تولاها: عيِّن الشيخ مدرسا في «المعهد العلمي» في مدينة الرياض عام 1379هـ وبقي فيه ثلاثة أعوام، ثم نُقل إلى «كلية الشريعة» بالرياض، وتولى تدريس العلوم الشرعية، ولما افتتحت كلية أصول الدين عام

1396هـ صُنِّف الشيخ في أعضاء هيئة التدريس في قسم «العقيدة والمذاهب المعاصرة»، ونقل إليها، وتولى التدريس في الكُليتين إلى أن تقاعد في عام 1420هـ، وأشرف خلالها على عشرات الرسائل العلمية. وبعد التقاعد رغبت الكلية التعاقد معه؛ فعمل مدة ثم تركه، كما طلب منه سماحة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ أن يتولى العمل في الإفتاء مرارا فتمنَّع، فرضي منه الشيخ ابن باز أن ينيبه على الإفتاء في دار الإفتاء في الرياض في فصل الصيف حين ينتقل المفتون إلى مدينة الطائف، فأجاب الشيخ حياءً، إذ تولى العمل في فترتين ثم تركه. وبعد وفاة الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ طلب منه سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ أن يكون عضوا في الإفتاء، وأَلَحَّ عليه في ذلك فامتنع، وآثر الانقطاع للتدريس في المساجد. جهوده في نشر للعلم: جلس الشيخ للتعليم في مسجده الذي يتولى إمامته ـ مسجد الخليفي بحي الفاروق ـ، ومعظم دروسه فيه، وقرئ عليه عشرات الكتب في شتى الفنون؛ كالفقه وأصوله، والتفسير وأصوله، والحديث، والعقيدة، والنحو، وغيرها، كما أنه له دروسا في بيته مع بعض خاصة طلابه، وله دروس منتظمة في مساجد أخرى في مدينة الرياض، وله مشاركات متكررة في الدورات العلمية المكثفة التي تقام في الصيف، إضافة لإلقائه كثيرا من المحاضرات والكلمات الدعوية، وإجابته على الأسئلة المعروضة عليه من عدد من أشهر المواقع الإسلامية في الشبكة العالمية. طلابه: تصدى الشيخ لنشر قبل نصف قرن تقريبا، وتتلمذ عليه أمم من طلاب العلم يتعذر على العاد حصرهم، وكثير من أساتذة جامعاتنا الشرعية، والدعاة المعروفين، قد تتلمذوا عليه.

وبعد أن يسر الله جملة من الوسائل الحديثة، كالشبكة العالمية تمكن كثير من طلاب العلم في خارج البلاد من متابعة دروس الشيخ على الهواء مباشرة، عن طريق موقع البث الإسلامي: www.liveislam.net احتسابه: للشيخ جهود كبيرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومناصحة المسؤلين، والكتابة لهم، والإصلاح بين الناس، والتحذير من البدع، وسائر الانحرافات والمخالفات، وله في ذلك فتاوى كثيرة، وله مشاركة مع بعض المشايخ في عدد من البيانات والنصائح الموجهة لعموم المسلمين. اهتمامه بأمور المسلمين: للشيخ ـ حفظه الله ـ اهتمام بالغ بأمور المسلمين في جميع أنحاء العالم، فيتابع لأخبارهم، ويحزن ويتألم لما يحدث لهم من نكبات، وفي أوقات الأزمات يبادر بالدعاء لهم، والدعاء على أعدائهم، ويبذل النصح والتوجيه لهم، وللمسلمين فيما يجب نحوهم. إنتاجه العلمي: الشيخ انصرف عن التأليف مع توفر آلته، وبذل معظم وقته في تعليم العلم، والإجابة على الأسئلة، وقد قُرئت عليه عشرات الكتب في مختلف الفنون، وقد سجل بعضها، وما لم يسجل أكثر، ولا زالت دروسه عامرة كما كانت. وقد صدر للشيخ من المطبوعات: «شرح الرسالة التدمرية»، و «جواب في الإيمان ونواقضه»، و «موقف المسلم من الخلاف»، و «التعليقات على المخالفات العقدية في فتح الباري»، و «توضيح مقاصد الواسطية». وفي حياة الشيخ جوانب كثيرة مشرقة أعلم أنه يكره ذكرها، أسأل الله أن يبارك في عمره، ويمد فيه على الطاعة، وينفع المسلمين بعلمه، إنه سميع قريب.

[المقدمة]

[المقدمة] الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه. أما بعد: فالعقيدة المعروفة بـ «الطحاوية» ـ نسبة إلى مؤلفها الإمام أبي جعفر الطحاوي رحمه الله ـ من المؤلفات المختصرة في عقيدة أهل السنة والجماعة، وأهل العلم درجوا على التأليف في أصناف علوم الشريعة على مناهج متنوعة؛ فمنهم من ينهج نهج البسط والتفصيل والتدليل، ومنهم من ينهج طريق الاختصار، ولكل منهما خصائصه ومزاياه. والمختصرات تتميز بأنها ميسورة الحفظ، ويمكن الإلمام بها بوقت قصير، فَيُلِّمُ الطالب بِجُلِّ المسائل على سبيل الاختصار في وقت وجيز، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يمدنا وإياك بالتوفيق والفتح منه سبحانه وتعالى، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يهدينا سواء السبيل. (قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي ـ بمصرـ رحمه الله: هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة: أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويَدينون به رب العالمين). هذه مقدمة مختصرة تناسب المضمون والمؤلَف المختصر. قوله: «هذا ذكر عقيدة أهل السنة والجماعة» أي: ذكر ما يعتقده أهل السنة والجماعة، وأكثر ما يعبر أهل العلم بالاعتقاد،

والمراد بالعقيدة والاعتقاد: نفس عقد القلب، وجزمه ويقينه. وتارة يطلق الاعتقاد على نفس الشيءِ المعتقَد المعلوم، فتقول في الأول: إن فلانا اعتقاده قوي، واعتقاده سليم، واعتقاده جازم. ويقال في الثاني: ـ مثلا ـ اعتقاد أهل السنة والجماعة: هو الإيمان بالله وملائكته ... كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة الواسطية: «فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة ـ أهل السنة والجماعة ـ: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ... » (¬1). ففسر الاعتقاد بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ... إلخ. وكذلك العقيدة فعيلة بمعنى مفعولة أي: الشيء المعتقَد، فتقول هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، يقول الإمام الطحاوي: «على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني» لو قال: على مذهب فقهاء الملة منهم: أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد بن الحسن كان أولى؛ لأن هؤلاء الأئمة لاشك أنهم من فقهاء الأمة، لكن ليست الإمامة والفقه محصورة فيهم، ولكنه نظَر إلى كونه ينتمي إلى أبي حنيفة، وقد ذُكر في ترجمته (¬2) أنه كان شافعيا، ثم تمذهب على مذهب أبي حنيفة وتفقه على فقه أبي حنيفة، وهو فقيه محدث، كما يدل على ذلك كتاباه: «معاني الآثار»، و «شرح مشكل الآثار»، فرحمه الله، ورحم أئمة الدين، وجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرا. يقول: «وما يعتقدون في أصول الدين، ويدينون به رب العالمين» هذا هو المقصود: بيان ما يعتقدونه في أصول الدين، ويدينون به لرب ¬

(¬1) الواسطية ص 21. (¬2) انظر ترجمته في ص 9.

العالمين، وغلب على تعبير كثير من أهل العلم إطلاق أصول الدين على مسائل الاعتقاد، والواقع أن أصول الدين لا تختص بأمور الاعتقاد، بل أصول الدين منها: اعتقادية كأصول الإيمان الستة، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر هذه من أصول الدين الاعتقادية العلمية. ومنها: عملية كأصول الإسلام الخمسة، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج، وهذه أصول الدين العملية؛ لأن مسائل الدين نوعان: مسائل علمية، ومسائل عملية، فكل من القسمين له أصول وله فروع، إذًا؛ لا يختص اسم أصول الدين في مسائل الاعتقاد، ولا يختص اسم الفروع بالمسائل العملية، كما حرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1)، وأنكر على من يجعل جميع مسائل الاعتقاد من أصول الدين، بل الدين له أصول وله فروع علمية وعملية، اعتقادية وعبادات عملية. ¬

(¬1) منهاج السنة 5/ 87، ومجموع الفتاوى 6/ 56 و 19/ 207.

[قول أهل السنة في التوحيد]

[قول أهل السنة في التوحيد] يقول رحمه الله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يُعجزه، ولا إله غيره). يقول رحمه الله: «نقول» هذا شروع في بيان ما قصد إليه «نقول» نحن أهل السنة، هو يعبر عن نفسه، وعمن ذكر من الأئمة وغيرهم من أئمة الدين «نقول» بألسنتنا «معتقدين» بقلوبنا، فجمع بين الإقرار باللسان، والاعتقاد بالجنان «نقول في توحيد الله» يعني نقول في موضوع التوحيد، والأصل في معنى التوحيد جعل الشيء واحدا، واعتقاده واحدا، والمراد بتوحيد الله يعني في شأن وحدانيته تعالى واعتقاد تفرده فهو تعالى واحد، والتوحيد: هو الإيمان بأنه واحد في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته، وتخصيصه وإفراده بالعبادة، هذا هو توحيد الله. فالتوحيد صفة العبد وفعله. أما الوحدانية فصفة الرب تعالى كما يدل على ذلك اسمه الواحد والأحد فهو واحد في كل شؤونه سبحانه وتعالى. والله تعالى يوحد نفسه بمعنى أنه يثني على نفسه بذلك، ويُعلِّم عباده بأنه واحد، كما قال تعالى: (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ) [آل عمران: 18] فهذه شهادة منه تعالى لنفسه بالوحدانية تتضمن علمه بأنه واحد، وذكره لنفسه بتفرده بالإلهية، وأمره عباده بذلك، وقد ذكر ابن أبي العز ـ رحمه الله ـ في الشرح كلاما مستفيضا على هذه الآية، وهو منقول من مدارج السالكين لابن القيم؛ فليرجع إليه (¬1) ¬

(¬1) شرح الطحاوية ص 44، ومدارج السالكين 3/ 418.

يقول: «نقول في توحيد الله معتقدين» هذا فيه تنبيه على أنه لا بد من الجمع بين اعتقاد القلب وإقرار اللسان، فلا يكفي أحدهما دون الآخر، لا بد في التوحيد من اعتقاد القلب وهو: العلم والتصديق الجازم بأنه تعالى واحد، وإقرار اللسان بذلك. ثم يقول: «بتوفيق الله» هذه لها دلالة عظيمة، وهي: أن إيماننا وقولنا واعتقادنا إنما يتحقق لنا بتوفيقه سبحانه وتعالى وهدايته، فنحن نقول ونعتقد ما نعتقده بتوفيقه سبحانه، وهذا يتضمن الإيمان بالشرع والقدر جميعا. (إن الله واحد لا شريك له) هذا هو ما نقوله وما نعتقده في وحدانيته الله تعالى: (إن الله واحد لا شريك له) واحد اسم من أسمائه جاء في القرآن في مواضع مقرونا باسمه القهار (وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) [الرعد: 16]، ((أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)) [يوسف: 39]، فهو الواحد قال تعالى: ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ)) [البقرة: 163] ((وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ)) [المائدة: 73]. (إن الله واحد) هو واحد، والوحدة تنافي الشريك، ولهذا أكدها بقوله: (لا شريك له)، فهو متفرد عن الشركاء، فهو الربُ ولا ربَ غيره، فهو ربُ كلِ شيء، فهو واحد في ربوبيته في أفعاله، فلا خالق ولا رازق ولا مدبر لهذا الوجود سواه، وهو واحد في إلهيته فلا إله غيره، ولا شريك له، ولا معبود بحق سواه، وهو واحد في أسمائه وصفاته، فلا شبيه له في شيء من صفاته وأفعاله. (إن الله واحد لا شريك له) إذاً؛ هذه الجملة ضمنها المؤلف أصل الدين، وهو التوحيد، فالتوحيد بكل معانيه هو أصل دين الرسل من أولهم إلى آخرهم، خصوصا توحيد العبادة. وقد أخبر سبحانه وتعالى عن الرسل إجمالا وتفصيلا بذلك قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ)) [الأنبياء: 25] وقال تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل: 36]، وأخبر عن أنبيائه: نوح وهود وصالح

وشعيب أنهم قالوا لأقوامهم: ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) [المؤمنون: 23والأعراف: 65 و 73 و 85] فالتوحيد هو أصل دين الرسل، وهو أول واجب على المكلفين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) (¬1) مع شهادة أن محمدا رسول الله؛ لأن الشهادتين متلازمتان لا تصح إحداهما إلا بالأخرى، فلابد منهما جميعا، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله) (¬2) فَعَدَّ هذه الشهادة واحدا من المباني الخمسة. فالكافر الأصلي أو النصراني أو اليهودي أو المشرك إنما يدخل في الإسلام بإقراره بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، مع التزامه بالشرائع الأخرى كما قال تعالى: ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ)) [التوبة: 5]، ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)) [التوبة: 11] وقال بعض أهل الكلام (¬3): إن أول واجب هو النظر، ويريدون بالنظر التفكر في الأدلة الكونية مثلا، فقالوا: إن أول واجب هو النظر، وبعضهم تنطع وقال: بل أول واجب القصد إلى النظر، وأقبح من هذا وذاك من قال منهم: إن أول واجب هو الشك! يعني أول واجب أن يشك الإنسان في الحقائق، فيشك في وجود الله وفي إلهيته، ثم بعد ذلك ينظر في الأدلة! بئس ما قالوا أنْ جعلوا الكفر هو أول واجب؛ لأن الشك بالله كفر. وهذه الأقوال ظاهرة الفساد والبطلان. والنظر مشروع لكن لا يقال: إنه أول واجب، والنظر قد ندب الله إليه العباد، فمن كان عنده توقف أو شك مثل حال الكفار فعليه أن ينظر ¬

(¬1) رواه البخاري (25)، ومسلم (22) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (8)، ومسلم (16) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) درء تعارض العقل 7/ 352 و 405 و 8/ 3، ومدارج السالكين 3/ 412.

ويتأمل في الأدلة، وينظر في الآيات ويتفكر ((أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)) [الأعراف: 185]، ((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ)) [الروم: 8]. والنظر من الأسباب التي يَقوى بها إيمان المؤمن، ولهذا أثنى الله على أولياءه أولي الألباب أثنى عليهم بالتفكر بالمخلوقات ((وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) [آل عمران: 191] وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من الليل يرفع بصره إلى السماء، ويقرأ هذه الآيات ويتفكر (¬1)، فالتفكر في الآيات الكونية، والتدبر للآيات الشرعية القرآنية هما من روافد الإيمان، ومما يسقي شجرة الإيمان، فالإيمان يزيد بالتفكر في مخلوقات الله. المقصود: أن النظر مشروع، لكن لا يقال: إنه أول واجب، بل أول واجب هو شهادة أن لا إله إلا الله. يقول المؤلف: (إن الله واحد لا شريك له) فالله تعالى نزه نفسه عن الشركاء في مواضع ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْركُونَ)) [الطور: 43]، وفي الآية الأخرى ((أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ)) [الأعراف: 191]، وقال سبحانه وتعالى: ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ)) [الإسراء: 111]، أي لا شريك له في ملكه ولا شريك له في تدبيره، ولا شريك له في إلهيته، ((قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)) [سبأ: 22 - 23] هذه الآية قد قيل فيها: «إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب» (¬2)، فليس لشرك المشركين أي شبهة يمكنهم التعويل عليها فكلها باطلة، فشركاؤهم لا يملكون مثقال ذرة، وليس لهم شرك في ذرة من ¬

(¬1) رواه البخاري (4569)، ومسلم (763) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب ص 33.

السماوات والأرض، وليس أحد منهم معينا لله، ولا أحد منهم يملك أن يشفع عند الله إلا بإذنه. الملائكة لا أحد منهم يشفع عند الله إلا بإذنه كما قال سبحانه وتعالى: ((وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)) [النجم: 26].

[أقسام التوحيد]

[أقسام التوحيد] في هذا المقام يحسن ذكر أقسام التوحيد، فأهل السنة والجماعة يقسمون التوحيد ثلاثة أقسام (¬1)، ومنهم من يجعل التوحيد قسمين وهما طريقتان متفقتان لا منافاة بينهما، فمنهم من يقول: إن التوحيد ثلاثة: توحيد الربوبية، توحيد العبادة، وتوحيد الأسماء والصفات. ما معنى توحيد الربوبية؟ معناه: توحيد الله في شؤون الربوبية؛ كالخلق والرزق والتدبير والإحياء والإماتة، ولهذا يعبر عنه بتوحيد الرب بأفعاله، وذلك بالإقرار بأنه لا شريك له في أفعاله. وتوحيد الإلهية: هو إفراد الله بالعبادة، هو الإقرار بأنه لا معبود بحق سواه، فهو الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، وتحقيق ذلك بالفعل وهو: تخصيصه تعالى بالعبادة. وتوحيد الأسماء والصفات هو الإقرار بتفرده سبحانه وتعالى بما له من الأسماء والصفات، بأنه متفرد لا شبيه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. أما من يجعل التوحيد قسمين ـ والعبارات تختلف لكن المؤدى واحد (¬2) ـ يقول: توحيد في المعرفة والإثبات، وبعبارة أخرى: توحيد ¬

(¬1) انظر: كتاب المختصر المفيد في بيان دلائل أقسام التوحيد. (¬2) مدارج السالكين 3/ 417، واجتماع الجيوش الإسلامية ص 93.

في العلم والقول، أو: التوحيد العلمي الخبري، هذه كلها عبارات عن شيء واحد، هو التوحيد الاعتقادي، توحيد علمي اعتقادي معرفي، وهذا القسم يشمل: توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فاندرج قسمان من الثلاثة في هذا القسم، في التوحيد العلمي الخبري، أو في توحيد المعرفة والإثبات؛ لأن توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات كل منهما توحيد يتعلق بالعلم، فهو اعتقادي علمي فقط، والنصوص الدالة عليهما كلها نصوص خبرية، يعني من نوع الخبر؛ لأن الكلام قسمان: خبر وإنشاء. القسم الثاني على الطريقة الثانية: توحيد الإلهية، أو توحيد العبادة، أو توحيد الإرادة والقصد والعمل، أو التوحيد الطلبي؛ لأن نصوصه طلبيه، انظر سورة الإخلاص {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [سورة الإخلاص: 1 - 4] جمل خبرية، كل نصوص الأسماء والصفات تجدها خبرية، لكن توحيد العبادة الآيات الواردة فيها إنشاء ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)) [النساء: 36] ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء: 23] ((فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 22] ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ)) [البقرة: 21] فلا منافاة بين الطريقتين، فمن يجعل التوحيد قسمين يدرج توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات في التوحيد في المعرفة والإثبات الذي هو التوحيد العلمي الخبري، فلاحظ هذا ولا يشكل عليك تنوع التقسيم. وهذا التقسيم مستمد من استقراء النصوص، وبعض أهل البدع يشنع على أهل السنة ويقول: إن هذا التقسيم مبتدع، وهذا تشنيع باطل (¬1)، نعم العبارات والتقسيمات هي اصطلاح جديد كما قسم الفقهاء ـ مثلاـ أفعال الصلاة إلى: أركان وواجبات وسنن، أخذا من الأدلة؛ ¬

(¬1) انظر: كتاب المختصر المفيد في بيان دلائل أقسام التوحيد.

لأن أفعال الصلاة ليست على مرتبة واحدة، وكذلك أفعال الحج: أركان وواجبات وسنن، أخذا من الأدلة، كذلك في مسائل الاعتقاد هذه التقسيمات مستمدة من النصوص. وقد دلت النصوص على وجوب توحيد الله في ربوبية، وذلك باعتقاد أنه رب كل شيء ومليكه، وأن ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، هذا حق. ودلت النصوص على وجوب اعتقاد أنه الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه كما قال تعالى في خطابه لموسى عليه السلام: ((إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي)) [طه: 14]، وقال تعالى: ((وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ)) [المائدة: 73]، وقال تعالى: ((وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) [البقرة: 163]. وفي باب الأسماء والصفات قال سبحانه وتعالى: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص: 1]، وقال تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) [الشورى: 11]، وقال تعالى: ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)) [الإخلاص: 4]. إذًا؛ هذا تقسيم مستمد من الكتاب والسنة، دال على أنه تعالى واحد في هذا كله، وهل التقسيم له ثمرة؟ نعم؛ بهذا عرفنا أن الإقرار بتوحيد الربوبية وحده لا يكفي، فإن المشركين كانوا مقرين بهذا التوحيد قال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [لقمان: 25] لكنهم جعلوا مع الله آلهة أخرى، وعبدوا مع الله آلهة سواه، إذًا؛ الانحراف الذي عندهم هو في توحيد العبادة، ولهذا قال أهل العلم: «إن توحيد العبادة هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم» (¬1)، كما قال المشركون ـ لما قال لهم ¬

(¬1) كتاب التوحيد للإمام محمد بن عبد الوهاب ص 6.

الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «قولوا: لا إله إلا الله» ـ: ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ)) [ص: 5] (¬1). وهؤلاء المبتدعة الطاعنون على أهل السنة في هذا التقسيم يقسمون التوحيد تقسيما مبتدعا مشتملا على الباطل، كما ذكر شيخ الإسلام عن كثير من أهل الكلام أنهم يقولون: «إن التوحيد اسم لثلاثة: توحيد الذات، وتوحيد الصفات، وتوحيد الأفعال، فيقولون: إن الله تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له» (¬2)، والكلام على هذا يطول، ولكن خلاصة القول: إن هذا التقسيم على طريقتهم قد أدخلوا في التوحيد ما ليس فيه، فأدخلوا في مسمى التوحيد نفي الصفات، وهذا إلحاد، وأخرجوا عن مسمى التوحيد توحيد العبادة فلا ذكر له عندهم، وأحسن ما يذكرون هو توحيد الربوبية، وهو توحيد الرب بأفعاله، فيقولون: هو واحد في أفعاله لا شريك له، وهو أن خالق العالم واحد، وهذا حق (¬3). ¬

(¬1) رواه أحمد 1/ 227، وصححه الترمذي (3232)، وابن حبان (6686)، والحاكم 2/ 432 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) درء تعارض العقل والنقل1/ 225، والرسالة التدمرية ص 440. (¬3) انظر: تقسيم الطوائف للتوحيد في: التدمرية ص 440، ومجموع الفتاوى 4/ 150، ومدارج السالكين 3/ 415.

[نفي المثل عن الله تعالى]

[نفي المثل عن الله تعالى] وقوله: (ولا شيء مثله) نلاحظ أن الجمل التالية كأنها تفصيل للجملة الأولى، فالجملة الأولى فيها نوع من الشمول، لكن الجمل التي تلتها هي تفصيل لها، من ذلك قوله: (ولا شيء مثله) هذه الجملة قد دلت على نفي المثل عن الله، وأنه لا مثيل له من خلقه، لا شيء يماثله، ودليل ذلك قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى: 11] وهذا نص في نفي مشابهة المخلوق للخالق، فلا شيء يماثله سبحانه، وقوله تعالى: ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)) [الإخلاص: 4] أي ليس أحد كُفُوا له، وقال تعالى: ((فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا)) [البقرة: 22]؛ لأنه تعالى لا ند له ولا مثل له، والند والكفو والمثل والسمي ألفاظ متقاربة كلها تفسر بالنظير والشبيه ونحو ذلك. (لا شيء مثله) هذا من اعتقاد أنه سبحانه وتعالى واحد لا شريك له، فمضمون هذه الجملة في الحقيقة يندرج في الجملة الأولى. يجب الإيمان بأنه تعالى موصوف بصفات الكمال، وأن إثبات صفات الكمال التي وصف الله بها نفسه ليست من التشبيه في شيء خلافا للمعطلة من الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم؛ فإنهم يزعمون أن إثبات الصفات (¬1)، فينفونها بهذه الشبهة، وبشبهٍ أخرى لكن هذه من أشهر شبههم، فينفون عن الله ما وصف به نفسه زاعمين أن إثبات هذه الصفات ¬

(¬1) تشبيه [منهاج السنة 2/ 105، ومجموع الفتاوى 4/ 150، و 5/ 110 و 6/ 33.

يستلزم التشبيه، والله تعالى منزه عن التشبيه، حقا إنه منزه عن التشبيه، ولكن ليس إثبات الصفات من التشبيه في شيء، وتسميةُ إثبات الصفات تشبيها هذا من التلبيس والتمويه، وأصل هذه الشبهة قولهم: المخلوق يوصف بأنه عليم وأنه سميع وأنه بصير وأنه حي وأنه يرضى ويغضب ويحب، فلو أثبتنا هذه الصفات لله كان مماثلا للمخلوق. وقد رد عليهم أهل السنة (¬1) واحتجوا عليهم بما يفحمهم، ومن ذلك أن يقال: يلزمكم أن تقولوا: إن وصفه تعالى بالوجود تشبيه، فالمخلوق موجود، وهذا ظاهر الفساد والبطلان، فالله تعالى موجود والمخلوق موجود، ولكل منهما وجود يخصه، وليس الموجود كالموجود. وإن كان بين الوجودين قدر مشترك، وهو مطلق الوجود الذي هو ضد العدم، ونقول مثل ذلك في سائر ما سمى ووصف به نفسه سبحانه، فالله تعالى الحي، والمخلوق الحي، قال تعالى: ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)) [الفرقان: 58]، وقال تعالى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم: 19] ولكن ليس الحي كالحي، فالله تعالى الحي بحياة تخصه وهي الحياة التامة، وهي الحياة الواجبة وهي الحياة التي لا يعتريها نقص ولا نوم ولا سنة ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)) [الفرقان: 58] وقال سبحانه وتعالى: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)) [البقرة: 255] والمخلوق يوصف بالحياة التي تناسبه وهي الحياة المحدثة بعد موت والمتبوعة بالموت، ((كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ)) [البقرة: 28] وهي حياة ناقصة، وهي حياة موهوبة للمخلوق، فالله هو الذي يحيي ويميت، وأما حياة الرب فليست كحياة المخلوق، بل حياة لازمة لذاته، وهي أكمل حياة. وإن اتفق الاسمان عند الإطلاق بمعنى أن كلا من الاسمين يدل ¬

(¬1) الرسالة التدمرية ص 96، ومنهاج السنة 2/ 111.

على الحياة التي تقابل الموت، فليس الحي كالحي، وقُلْ مثل هذا في بقية الأسماء والصفات. إذًا؛ إثبات الأسماء والصفات لله لا يقتضي تشبيها، والقدر المشترك بين اسم الخالق واسم المخلوق أو بين صفة الخالق وصفة المخلوق ليست من التشبيه في شيء، فإن القدر المشترك لا يمكن نفيه عن الموجودات، فكل الموجدات تشترك في مطلق الوجود, وكل الأحياء تشترك في مطلق الحياة، وكل المحسوسات تشترك في مطلق الحس، كما بين ذلك أهل العلم وبسطوه.

[نفي العجر عن الله تعالى]

[نفي العجر عن الله تعالى] (ولا شيء يعجزه) لا شيء يعجز الرب، هذا فيه نفي العجز المنافي لكمال القدرة عن الله،، وقد صرح الله سبحانه وتعالى في قوله: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا)) [فاطر: 44]، وقال تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)) [ق: 38]، وقال تعالى: ((وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا)) [البقرة: 255]، يعني لا يتعبه ولا يشق عليه ولا يلحقه كلل ولا تعب ولا إعياء، وذلك لكمال القدرة. فالله تعالى يوصف بنفي النقائص؛ كالسِنة والنوم واللغوب والعجز والظلم والغفلة والنسيان، لكن كل ما يوصف الله به من النفي فإنه متضمن لإثبات كمال، هذه قاعدة، فالله تعالى لا يوصف بنفي محض لا يدل على ثبوت؛ فإن النفي المحض ليس فيه مدح، وإنما المدح في النفي المتضمن للكمال (¬1). فكل ما جاء في صفات الكمال من النفي فإنه متضمن لإثبات كمال الضد، قال تعالى: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)) [البقرة: 255] فنفي السِنة والنوم متضمنة لكمال حياته وقيوميته، وقوله ¬

(¬1) التدمرية ص 184، ومجموع الفتاوى 10/ 250، وجواب أهل العلم والإيمان 17/ 109 و 142، ومنهاج السنة 2/ 319، ودرء تعارض العقل والنقل6/ 167.

تعالى: ((وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)) [ق: 38] متضمن لإثبات كمال قدرته ونهاية قوته، وقوله تعالى: ((لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ)) [سبأ: 3] يتضمن كمال العلم، ونفيُ الظلم يتضمن كمال العدل، ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)) [الفرقان: 58] نفي الموت عن الله يتضمن كمال الحياة، ونفي العجز يتضمن كمال القدرة. أما المعطلة فإنهم يصفونه بالنفي المحض؛ لأنهم قد يقولون: إن الله لا يجهل، وقد يقولون: إن الله لا يعجز، فيصفونه بالنفي، لكنهم لا يثبتون الأضداد، فيصفونه بالنفي المحض. ولهذا جاء في المناظرة التي جرت بين عبد العزيز الكناني (¬1) ـ رحمه الله ـ وبين بشر المَرِيْسِي أنه لما طالبه بوصف الله بالعلم قال: أقول الله لا يجهل! (¬2) لأن عنده أن نفي الجهل لا يستلزم إثبات علم، فيقول: الله لا يجهل. فهذه قاعدة لابد من ملاحظتها، وهي: أن الله موصوف بالإثبات والنفي، إثبات الكمال ونفي النقائص والعيوب والآفات ومماثلة المخلوقات، فإثبات الكمالات يتضمن نفي أضدادها، فوصفه بالعلم يتضمن نفي الجهل عنه ونفي النسيان ونفي الغفلة، ووصفه بالسمع والبصر يتضمن نفي الصمم والعمى عن الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعا بصيرا» (¬3)، فالنصوص ¬

(¬1) عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز بن مسلم الكناني المكي: سمع من سفيان بن عيينة والشافعي، وقدم بغداد في أيام المأمون، وجرى بينه وبين بشر المريسي مناظرة في القرآن، وكان من أهل الفضل والعلم، وله مصنفات عدة، وكان ممن تفقه بالشافعي واشتهر بصحبته، توفي بعد الثلاثين ومائتين. تاريخ بغداد 10/ 449، وتقريب التهذيب ص 617. (¬2) الحيدة ص 31. (¬3) رواه البخاري (6610) ـ واللفظ له ـ، ومسلم (2704) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.

اشتملت على وصف الله بالكمالات، وعلى تنزيهه عن النقائص، فالله تعالى موصوف بالإثبات والنفي، فيجب إثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وتنزيهه تعالى عن النقائص بنفي ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

[كلمة التوحيد وما تتضمنه]

[كلمة التوحيد وما تتضمنه] قال المؤلف: (ولا إله غيره) هذه كلمة التوحيد، ولما سبق ذكر الاسم الشريف الذي هو لفظ الجلالة «الله» رد المؤلف الضمائر إلى ذلك الاسم الظاهر، وهذه الكلمة يأتي فيها ذكر الله بالاسم الظاهر، وبضمير المتكلم والخاطب والغائب، قال تعالى لموسى: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدني)) [طه: 14]، وقال يونس عليه السلام: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) [الأنبياء: 87] وقال تعالى {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] فإذا خاطب الإنسان ربه قال: لا إله إلا أنت، وإذا كان يخبر يقول: لا إله إلا الله، أو يقول: لا إله إلا هو، أو يقول: لا إله غيره. أما إذا أراد أن يذكر ربه فيقول: لا إله إلا الله، سبحان الله، والحمد لله فيأتي بالاسم الظاهر ((إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ)) [الصافات: 35]. وأما الذكر باللفظ المفرد أو بالضمير فهو ذكر مبتدع كما يفعل الصوفية (¬1) يذكرون الله بالاسم المفرد (الله) ويكررونها، أو (هو) ويكررونها، ويعتبرون هذا ذكرا! وهذا ذكر مبتدع باطل لغة وعقلا وشرعا، فقول: (هو هو) أو (الله الله) ليس فيه ذكر، ولا إيمان، ولا كفر، فكلمة (الله) وحدها لا تفيد حكما بالنسبة للعبد، فمن سمعناه يقول (الله) لا نقول: إنه يذكر ربه، ولا نقول: إنه يسبح. ¬

(¬1) العبودية 10/ 226، وطريق الهجرتين ص 339.

فكلمة (الله) يقولها الموحد إذا جعلها في كلام مركب فيقول (سبحان الله) أو (لا إله إلا الله) أو (الله أكبر)، ويقولها الكافر إذا قال: الله لا وجود له، فيكون بهذا كافرا ملحدا. إذًا؛ يجب أن يكون الذكر بالجملة التامة: لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر. (لا إله غيره) إله على وزن فِعال بمعنى مَفعول، مثل كتاب بمعنى مكتوب، فإله بمعنى مألوه، من أَله يَأله بمعنى عَبَد، فمعنى (لا إله إلا الله) أي: لا معبودَ إلا الله، أو لا معبودَ غيرُ الله، لكن يرد على هذا بأن في الكون معبودات كثيرة مثل آلهة المشركين، قال تعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)) [الكافرون: 1 - 2]، وقال تعالى: ((أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا)) [ص: 5] فلهم معبودات، إذًا؛ هذا التقدير لا يستقيم، والصواب أن يُقدَّر: لا إله حق، أو: لا معبود بحق، أما المعبودات بباطل؛ فهي منتشرة في الأرض، كل طائفة لهم معبود، ويقول الله تعالى لهم يوم القيامة: «لتتبع كل أمة ما كانت تعبد» (¬1).، فمنهم من يعبد الشمس، ومنهم من يعبد القمر، ومنهم من يعبد البقر، ومنهم من يعبد الأصنام المختلفة، ومنهم من يعبد الصليب، لكن لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى. إذًا؛ هذه الجملة مركبة من النفي والإثبات، نفي الإلهية بحق عن كل أحد إلا الله، فالله تعالى هو الإله الحق، وكل معبود سواه باطل، قال تعالى: ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)) [الحج: 62] فالنفي هو الكفر بالطاغوت، والإثبات هو الإيمان بالله قال تعالى: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)) [البقرة: 256]. ¬

(¬1) رواه البخاري (4581)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -.

(لا إله إلا الله) بما تتضمنه من إيمان وكفر، تتضمن الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، وتتضمن التولي لله ومحبته وإجلاله، والبراءة من كل معبود سواه كما قال الخليل لأبيه وقومه: ((إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ)) [الزخرف: 26 - 27] وفي آية أخرى يقول: ((أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ)) [الشعراء: 75 - 77]، وقال تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل: 36] فما بعث الله به رسله متضمن لمضمون هذه الكلمات، فقوله تعالى: ((اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) [النحل: 36] هو معنى (لا إله إلا الله) فـ (اعبدوا الله) مقتضى الإثبات، و (اجتنبوا الطاغوت) مقتضى النفي، فتضمنت هذه الآية (أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) آمنوا بالله وخصوه بالعبادة، واجتنبوا عبادة ما سواه واكفروا به.

[دوام الرب تعالى أزلا وأبدا]

[دوام الرب تعالى أزلا وأبدا] قوله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء، لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد، لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام، ولا يشبه الأنام) لما ذكر الإمام الطحاوي بعض ما يجب تنزيه الله تعالى عنه من: الشريك والشبيه والعَجْر، ذكر أنَّ مما يجب إثباته لله القِدم والدوام ـ أي ـ دوام الوجود أزلا وأبدا، فهو تعالى دائم أزلا وأبدا، فلا ابتداء ولا نهاية لوجوده. والقديم في اللغة ضد الحديث، كما قال تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39]، وقال عن إبراهيم - صلى الله عليه وسلم -: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 75 و 76]، وأصل القديم المتقدم على غيره فيشمل التقدم المطلق، والتقدم النسبي؛ فالتقدم النسبي للمخلوقات فبعضها متقدم على بعض، وأما التقدم المطلق فهو لله تعالى، فهو سابق في وجوده لكل شيء، ولا بداية لوجوده، ولهذا احتاج المؤلف أن يقول: (بلا ابتداء). ويقال: أزلي، فالأزل: هو الماضي الذي لا حد له، فالأزل والأبد متقابلان هذا في الماضي، وهذا في المستقبل. وهذان الوصفان حق؛ فالله تعالى دائم البقاء أزلا وأبدا، لكن ليس هذان الاسمان من أسمائه الحسنى التي يثنى عليه بها، ويدعى بها، فلا يقال: يا قديم، أو سبحان القديم، كما لا يقال: يا موجود، أو سبحان الموجود؛ فإن هذا لا يحصل به التخصيص والتعيين؛ بل يقال: سبحان الله، سبحان ذي الملك والملكوت، والعزة والجبروت، سبحان الحي الذي لا يموت.

فإن القديم والدائم لم يردا في الكتاب والسنة، وإنما الوارد: الأول والآخر، كما قال تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]، وفي السنة ـ في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ: «اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء»، (¬1) وهذا الحديث يفسر الآية. فهذان اسمان من أسمائه الحسنى التي سمى الله بها نفسه، وسماه بها رسوله - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق به. وغلب على أهل الكلام إطلاق لفظ (القديم) على الله تعالى فيقولون: هذا يجوز على القديم، وهذا لا يجوز على القديم؛ فجعلوه اسما لله تعالى، وهذا من أغلاطهم، والواجب أن يقولوا: هذا يجوز على الله؛ فالله هو اسم رب العالمين. لكن القديم والدائم يصح الأخبار بهما عن الله مثل أن تقول: الله موجود، والله شيء، والله له ذات، والله قديم، والله دائم، لكن لا تقل: من أسمائه (قديم) بل من أسمائه (الأول) قال تعالى: (وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ففي الدعاء إنما يدعى الله بما سمى به نفسه، أو سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - (¬2). قوله: (لا يفنى ولا يبيد) هذه تأكيد لقوله (بلا انتهاء) ومن أجل تحصيل السجع مع ما بعده، والفناء والبيد معناهما واحد قال تعالى: ((كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)) [الرحمن: 26]، وقال الكافر صاحب الجنة: ((مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا)) [الكهف: 35]، (لا يفنى ولا يبيد) سبحانه، وإنما الذي يفنى الخلق. ¬

(¬1) رواه مسلم (2713) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) مجموع الفتاوى 6/ 142.

[إثبات الإرادة لله تعالى]

[إثبات الإرادة لله تعالى] قوله: (ولا يكون إلا ما يريد) فإنه تعالى {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [سورة البروج: 16]، وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، وهو رب كل شيء، وهو الخالق لكل شيء، فما شاء الله كونه لا بد أن يكون ((إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)) [النحل: 40]، وما لم يشأ لا يكون أبدًا. إذًا؛ كل ما يجري في الوجود من: حركات الأفلاك، وجريان النجوم، والشمس والقمر، وتقلب الليل والنهار، وأمواج البحار بمشيئة الله، وكل ما يقع من العباد، فما تلفظ ولا تحرك شفتيك إلا بمشيئة الله، ولا تفتح عينك إلا بمشيئة الله ولو شاء الله ما فتحت عينك. (ولا يكون إلا ما يريد). والإرادة هنا هي الإرادة الكونية الشاملة للوجود، ونقول: الإرادة الكونية؛ لأن الإرادة المضافة لله نوعان: إرادة كونية، وإرادة شرعية. (¬1) فمن شواهد الإرادة الكونية: قوله تعالى: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ))، وقوله: ((وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ)) وقوله: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) وقوله: ((وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ))، وفي معناه المشيئة ((إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ)) ((يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 8/ 188، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/ 266، وشفاء العليل ص 280.

مَنْ يَشَاءُ)) فالإرادة الكونية بمعنى المشيئة تمامًا. والإرادة الشرعية من شواهدها: قوله تعالى: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) وقوله تعالى: ((تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ)) ((يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)) ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)). فهذه إرادة شرعية. والفرق بين الإرادتين منوجهين: الأول: أن الإرادة الكونية: عامة لكل ما يكون لا يخرج عنها شيء، فتشمل ما يحبه الله وما يبغضه الله. فإيمان المؤمنين وطاعة المطيعين، وكفر الكافرين ومعصية العاصين، كل ذلك بإرادته الكونية. وأما الإرادة الشرعية: فإنها تختص بما يحبه الله سبحانه وتعالى. إذًا؛ الإرادة الكونية عامة، وهذه خاصة. الإرادة الكونية لا تستلزم المحبة، وأما الإرادة الشرعية فإنها تستلزم المحبة. والفرق الثاني: أن الإرادة الكونية لا يتخلف مرادها أبدا، وأما الإرادة الشرعية: فإنه لا يلزم منها وقوع المراد. وتجتمع الإرادتان في إيمان المؤمن، فهو مرادٌ لله كونا، ومرادٌ شرعا، فهو مرادٌ بالإرادتين. وتنفرد الإرادة الكونية في كفر الكافر ومعصية العاصي، فهو مرادٌ بالإرادة الكونية لا الشرعية، إذ ليس ذلك بمحبوب بل مسخوط ومبغوض لله سبحانه. وتنفرد الإرادة الشرعية في إيمان الكافر الذي لم يقع؛ لأنا نقول: إنه مرادٌ من أبي جهل أن يؤمن بالإرادة الشرعية، لكنه لم يقع. لكن الإرادة الشرعية لا تفسر بالمشيئة، فلا نقول: إن الله شاء الإيمان من أبي جهل، لكن نقول: إن الله أراد منه الإيمان، يعني: الإرادة الشرعية، وأمره بالإيمان الأمر الشرعي،

وبهذه المناسبة الصحيح أن المشيئة لا تنقسم، فلا يقال: إن المشيئة نوعان شرعية وكونية. بل المشيئة كونية فقط، وليس لمن قال: (إن المشيئة نوعان) ما يدل على قوله؛ بل المشيئة كونية فقط، وهي عامة (ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن). وتقسيم الإرادة إلى كونية، وشرعية يجري مثله في معاني متعددة في القرآن، فمما يضاف إلى الله الإذن، وهو: شرعي وقدري ـ والقدري هو الكوني ـ والقضاء، والتحريم، والبعث، والإرسال، وغيرها كلها يجري فيها هذا التقسيم (¬1). مثلا: الإذن منه كوني وشرعي، قال الله تعالى في شأن السحرة ((وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)) [البقرة: 102] فالسحرة لا يضرون أحدا بسحرهم إلا بإذنه الكوني. وأما الإذن الشرعي فقوله تعالى ((مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ)) [الحشر: 5] والقضاء: قال تعالى: ((وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ)) [الإسراء: 4] هذا قضاء كوني، وقال تعالى ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)) [الإسراء: 23] هذا القضاء الشرعي. والتحريم: قال تعالى ((وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ)) هذا تحريم كوني، لكن قوله تعالى ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)) و ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ)) هذا تحريم شرعي. المقصود: أن قول الطحاوي: (ولا يكون إلا ما يريد) فيه تقرير واثبات للإرادة الكونية، وفي هذا رد على المعتزلة؛ فإنهم ينفون الإرادة الكونية، ومن أصولهم الباطلة ما يسمونه بالعدل، ويدرجون فيه نفي القدر، ومن نفيهم للقدر، نفيهم عموم المشيئة، فعندهم أن مشيئة الله ¬

(¬1) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/ 265، وشفاء العليل ص 280.

ليست عامة، فكل أفعال العباد عندهم ليست بمشيئة الله، (¬1) فالإنسان يقوم ويقعد، ويذهب ويجيء، ويقاتل كل ذلك ليس بمشيئة الله! تبًا لهم تبًا لهم، ما أضلهم، فقد أخرجوا عن ملك الله كثيرا مما في الوجود، ونسبوا ربَ العالمين إلى العجز، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا. بل أفعال العباد لا خروج لها عن حكم سائر الموجودات، وكل الموجودات محكومة بمشيئة الله وقدرته سبحانه وتعالى. ¬

(¬1) التدمرية ص 488.

[تنزيه الله تعالى عن الإحاطة به]

[تنزيه الله تعالى عن الإحاطة به] قوله: (لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام). هذا فيه تنزيه أيضًا، وتقدم بعض ما يجب تنزيه الله تعالى عنه لكن المؤلف يُثَنَّي، فيذكر بعض ما يجب تنزيه الله تعالى عنه، وما يجب إثباته له سبحانه وتعالى. (لا تبلغه الأوهام) يعني الظنون والخيال، فلا تبلغه ظنون الظانين، ولا خيال المتخيلين، فلا يمكن للعباد أن يدركوا حقيقة ذات الرب أو شيءٍ من صفاته بوهم وتخيل أبدا. (ولا تدركه الأفهام) فالعباد يعرفون ربهم بما هداهم سبحانه وتعالى به من الوحي، ومن الآيات الكونية، لكنهم لا يحيطون به علما؛ لذلك قال: (لا تدركه) الإدراك فيه الإحاطة، ولم يقل لا تعرفه الأفهام ولا يعرفه العباد! لا، العبادُ يعرفون ربهم على حسب مراتبهم في معرفة ربهم لكنهم لا يحيطون به علما، قال تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)) وقال تعالى: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)) والله سبحانه وتعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) وهذا يتضمن أن تخيل الإنسان وظنونه إنما هو مرتبطٌ بما يعرفه، والله تعالى ليس كمثله شيء. ويقول بعض المتكلمين: (كل ما خطر ببالك فإن الله تعالى بخلاف ذلك) (¬1) ¬

(¬1) الرد على الجهمية والزنادقة ص 99، والاستقامة 118.

وهذا كلامٌ ولفظٌ مبتدع لم يأت في نص من كتاب ولا سنة، فيجب أن يحكم عليه بحكم الألفاظ المبتدعة المجملة. (كل ما خطر ببالك) إن أراد من الكيفيات فصحيح، والله بخلاف ذلك؛ لأن كل ما يخطر ببالك من الكيفيات فإنه راجعٌ إلى شيء من المخلوقات، والله تعالى بخلاف ذلك ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)). فكيفية ذات الرب وكيفية صفاته لا سبيل للعباد إلى معرفتها. أما ما خطر ببالك من أنه فوق السماوات فهذا علم وحق، وليس بخاطر، ويجب الإيمان بأنه فوق السماوات، وما يخطر ببالك أنه سبحانه وتعالى ينزل كما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬1) فهذا حق، فكل ما يخطر ببالك من المعاني الثابتة فهو حق. إذًا؛ هذا التعبير لا يصح على الإطلاق، فهو لفظ مبتدع مجمل، فلا بد فيه من التفصيل، فالخواطر إما أن تكون مما يعلم بطلانه، أو مما يعلم صحته، أو مما لا يعلم صحته ولا بطلانه، فيمسك عنه، ولا يقال: إن الله بخلاف ذلك. ¬

(¬1) بقوله: «ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ... » رواه البخاري (1145)، ومسلم (758) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه]

[تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه] قوله: (ولا يشبه الأنام) أي لا يشبه الناس، ولا يشبه شيئا من المخلوقات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في «الرسالة التدمرية» (¬1): ـ في تقرير نفي المثل عن الله ـ «فيُعلم قطعًا أنه سبحانه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة ولا السموات ولا الكواكب، ولا الهواء ولا الماء ولا الأرض، ولا الآدميين ولا أبدانهم ولا أنفسهم، ولا غير ذلك، بل يُعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر»؛ لأنه تعالى ليس كمله شيء. (لا يشبه الأنام) في حاشية الشرح (¬2) أن في بعض النسخ (ولا يشبهه الأنام) وكأن الشارح ابن أبي العز رجح هذه النسخة، وعندي أن الصواب بدون الضمير (ولا يشبه الأنام) لأنك إذا قلت: (ولا يشبهه الأنام) لا يكون في العبارة معنىً جديدٌ يختلف عن قوله: (لا شيء مثله) فـ (لا شيء مثله) نفيٌ لتمثيل المخلوق بالخالق. والتمثيل الذي يجب نفيه عن الله نوعان: تمثيل الخالق بالمخلوق، وتمثيل المخلوق بالخالق، وضابط ذلك: وصف الخالق بخصائص المخلوق هذا تشبيهٌ للخالق بالمخلوق، ¬

(¬1) ص 392. (¬2) ص 88.

ووصف المخلوق بخصائص الخالق تشبيهٌ للمخلوقين بالخالق. إذًا؛ فكل المشركين الذين اتخذوا مع الله آلهة أخرى قد شبهوا المخلوق بالخالق؛ لأنهم شبهوا ما يعبدونه برب السماوات والأرض فجعلوا لذلك المخلوق ما هو من خصائص الرب وهو الإلهية، ومن وصف الله بالفقر أو العجز والبخل ـ كما قالت اليهود ـ فقد شبه الخالق بالمخلوق؛ لأن العجز والبخل كل هذه من خصائص المخلوق. إذاً؛ فقول المؤلف (ولا شيء مثله) هذا نفيٌ لتمثيل المخلوق بالخالق، وقوله (ولا يشبه الأنام) نفيٌ لمماثلة الخالق للمخلوق، فاختلف مدلول الجملتين، وأفادت الجملتان نفي التشبيه أو نفي التمثيل بنوعيه، وهذا هو المطلوب.

[إثبات الحياة والقيومية لله تعالى]

[إثبات الحياة والقيومية لله تعالى] قال رحمه الله: (حيٌ لا يموت، قيوم لا ينام). يقول رحمه الله ـ في ذكر بعض أسماء الرب وصفاته وتنزيهه عن ما يضادها ـ (حيٌ) أي: نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله (حيٌ لا يموت، قيومٌ لا ينام) الحي القيوم اسمان من أسمائه الحسنى التي سمى بها نفسه. فأما (الحي) فقد ورد في مواضع كثيرة في القرآن، وأما (القيوم) فقد ورد في ثلاثة مواضع مقرونا بالحي: في آية الكرسي، وأول سورة آل عمران، وفي سورة طه ((وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ)) حتى قيل: إنهما (الاسم الأعظم). (¬1) وأما الحي فقد ورد غير مقرون بهذا الاسم ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)) {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فمن أسمائه الحسنى أنه الحي القيوم، واسمه الحي يدل على إثبات الحياة له، فهو الحي والحياة صفته، فله الحياة التامة التي لا تشبه حياة المخلوق، الحياة المتضمنة لكل ما هو كمال للحياة، وهو القيوم، وقيل في معناه (¬2): أنه القائم بنفسه، ¬

(¬1) عن أبي أمامة - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن اسم الله الأعظم لفي ثلاث سور من القرآن في سورة البقرة، وآل عمران، وطه» رواه ابن ماجه (3856)، والطحاوي في شرح مشكل الآثار 1/ 162، والطبراني في الكبير (7758)، والحاكم 1/ 505 و 506. (¬2) تفسير الطبري 4/ 529، والكافية الشافية ص 182.

فليس مفتقرًا إلى غيره في وجوده، ولا في شيء من صفاته وأفعاله سبحانه وتعالى، وقيل: بأنه القائم بالمخلوقات (¬1) فكل المخلوقات لا قيام لها، ولا وجود لها، ولا بقاء لها، ولا صلاح لها أبدًا إلا به سبحانه، فهو المبدع الخالق لها، وهو الممد لها بما تحتاج، وهو المبقي لما شاء بقاءه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت. قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: إن هذين الاسمين يتضمنان جميع الصفات، فاسمه الحي يتضمن جميع الصفات الذاتية من: العلم، والسمع، والبصر، والقدرة والعزة، والحكمة، والرحمة. واسمه القيوم يتضمن جميع الصفات الفعلية من: الخلق، والتدبير، والإحياء، والإماتة، والإعزاز والإذلال، والعطاء والمنع، والخفض والرفع. معنى كلامه. (¬2) والله تعالى لما ذكر هذين الاسمين أكد مضمونهما بقول: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)). فنفي السنة والنوم عن الله يتضمن ويؤكد كمال الحياة والقيومية؛ لأن النوم أخو الموت، والسِنة التي هي مبادئ النوم نقص، وأكد ذلك في آية أخرى ((وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)) فأثبت لنفسه الحياة، ونفى عنه كل ما يضاد الحياة. يقول المؤلف: (حيٌ لا يموت، قيوم لا ينام) وهذا تفريق منه حين ربط نفي الموت بإثبات الحياة، ونفي النوم بإثبات القيومية، وإلا فالله تعالى ربط نفي النوم بالاسمين جميعا فقال: ((لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ))؛ لأن النوم ينافي كمال الاسمين، والصواب أن نقول: إنه تعالى حيٌ لا يموت، ولا ينام، ولا تأخذه سنةٌ ولا نوم، فالموت والسنة والنوم كلها تنافي هذين الاسمين. ¬

(¬1) تفسير الطبري 4/ 529، والكافية الشافية ص 182. (¬2) بدائع الفوائد 2/ 678، والكافية الشافية ص 44 - 45.

[تنزيه الله تعالى عن الحاجة والخوف والمشقة]

[تنزيه الله تعالى عن الحاجة والخوف والمشقة] قوله: (خالقٌ بلا حاجة، رازقٌ بلا مؤونة) خالقٌ للخلق بدون حاجةٍ إليهم، اللهُ لم يخلق الخلق ليتكثّر بهم من قلة، أو يتعزز بهم من ذلة، أو ليستغني بهم من فقر، قال تعالى ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) فهو الذي يُطعم ولا يطعم، وهو الرزاق ذو القوة المتين ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وما ذلك على الله بعزيز)). فالخلق كلهم فقراء إليه في وجودهم، وفي جميع أحوالهم، وشؤونهم، والله تعالى غنيٌ الغنى التام عن كل ما سواه. (رازقٌ بلا مؤونة) فالله هو الخالق الرازق ((اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ)) رازق بلا مؤنه، أي: بلا كلفة ولا مشقة يرزق كل العباد ((وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ)) ((وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ))، ((وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)) والله تعالى خير الرازقين، وفي الصحيحين «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار» (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (7419)، ومسلم (993) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قوله: (مميتٌ بلا مخافة، باعثٌ بلا مشقة) الله تعالى منزهٌ عن الخوف، فلا يخاف من أحد وهو فعالٌ لما يريد، يميت من يشاء، فلو شاء أن يميت العالم كله؛ فإنه لا يخاف، فليس فوقه أحد؛ بل هو تعالى المالك لكل شيء. ولعل مما يستشهد به في هذا المعنى قوله تعالى: ((فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا)) [الشمس: 14 - 15]. (باعث بلا مشقة) سيبعث الأموات في اليوم الموعود ((أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) [المطففين: 4 - 6] ((قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ)) [الواقعة: 49 - 50] يبعث الأموات من أولهم إلى آخرهم من غير أن تلحقه مشقة، ولهذا يقول سبحانه وتعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) ((مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) ((وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) [الروم: 27] وهذا في الاحتجاج على المكذبين بالبعث بأن الذي بدأ الخلق هو على الإعادة أقدر إنما أريد به أنه أقدر في معقول الناس (أن الإعادة أهون من البدء) ولكن بالنسبة إلى الله ليس في الأشياء هينٍ وأهون، ولا يقال: إن الله على كذا أقدر منه على كذا، بل قدرته على كل شيء واحدة، فقدرته تعالى على خلق السماوات والأرض، أو خلقه لذرة من المخلوقات واحدة، بمعنى أنه لا يعجزه شيء، فليس شيءٌ أهون عليه من شيء. أما قوله تعالى: ((وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ)) فقد قيل: إن (أهون) بمعنى هين، وهو هين عليه، فيكون من أفعل التفضيل الذي على غير بابه. كما يقول النحاة (¬1). أو إن هذا من خطاب العباد بما يعقلونه وما يدركونه، فالناس ¬

(¬1) شرح ابن عقيل 1/ 406، وشرح الرضي على الكافية 3/ 460.

مفطورون على إن الإعادة أهون من الابتداء فخوطبوا على حسب معقولهم، ومفهومهم (¬1). ولهذا الله تعالى يحتج عليهم في إنكارهم للبعث بالنشأة الأولى ((وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)) [يّس: 79] والآيات في هذا كثيرة. ¬

(¬1) زاد المسير6/ 155، والجامع لأحكام القرآن 16/ 418.

[إثبات الكمال المطلق لله تعالى أزلا وأبدا]

[إثبات الكمال المطلق لله تعالى أزلا وأبدا] قوله: (مازال بصفاته قديما قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان في صفاته أزليًا كذلك لا يزال عليها أبديًا). ما زال ولا يزال فعلان يدلان على الاستمرار والدوام، ما زال يدل على الدوام في الماضي، ولا يزال في المستقبل، فالله تعالى مازال ولا يزال موصوفا بصفات الكمال في الأزل والقدم الذي لا نهاية له، ولا يزال كذلك موصوفا بصفاته سبحانه وتعالى. (قبل خلقه) قبل وجود الخلق (لم يزدد بكونهم) يعني لم يزدد بوجودهم. الله تعالى لم يزدد بوجودهم شيئًا من كماله لم يكن قبل خلقهم ووجودهم؛ بل مازال موصوفا بصفات الكمال، ولا يتوقف في شيءٍ من صفات الكمال على وجود شيء من المخلوقات. (وكما كان في صفاته أزليا) أزلي نسبة للأزل، والأزل: يقابل الأبد، والأبد في المستقبل الدائم الذي لانهاية له، هذا هو الأصل في معنى الأبد، ويقابله الأزل، ويقال للموصوف: هذا أزلي، أبدي. (وكما كان في صفاته أزليًا كذلك لا يزال عليها أبديًا) أفاد في هذه الجملة أن الله تعالى موصوف بصفات الكمال أزلا وأبدا، لا يتجدد له شيء من الكمال لم يكن، ولا يعدم سبحانه وتعالى شيء من كماله، فهو الموصوف بصفات الكمال على الدوام أزلا وأبدا. قال الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)، ((إن الله كان

عزيزاً حكيماً))، ((إن الله كان عليماً حكيماً))، ((إن الله كان غفوراً رحيماً)) كان هذه في مثل هذا تفيد الاستمرار، كان ولا يزال؛ لأن حدوث الكمال يستلزم سبق النقص، والله تعالى منزهٌ عن النقص، فحياته لم تسبق بموت تعالى الله، وعلمه لم يسبق بجهل، فلا يقال: إنه تعالى علم بعد أن لم يكن عالما، وكان سميعا بعد أن لم يكن، أو بصيرا بعد أن لم يكن تعالى الله، فهذا شأن المخلوق، فهو الذي كان بعد أن لم يكن، وتكلم بعد أن لم يكن متكلما، أما الخالق سبحانه وتعالى فلم يزل عالما، ولم يزل سميعا بصيرا، عزيزا حكيما، غفورا رحيما، حيا قيوما، لم يزل فعالا لما يريد لم يزل على كل شيء قدير، لم يزل متكلما إذا شاء بما شاء ولا يزل كذلك. وهذه كلمة عامة من المصنف في كل الصفات (مازال بصفاته)، لم يخص شيئا من الصفات.

[صفات الله نوعان: ذاتية وفعلية]

[صفات الله نوعان: ذاتية وفعلية] وصفات الله نوعان: صفات ذاتية، وهي: اللازمة لذات الرب ـ التي لا تنفك عن الذات ـ كالعلم، والسمع، والبصر، والحياة، والقدرة، والعزة، والرحمة، والقيّوميّة، فهي صفاتٌ ذاتية. وصفاتٌ فعلية مثل: الاستواء على العرش، والنزول، والمجيء، والغضب. فكل ما تستطيع أن تقول فيه (مازال كذا) فهي ذاتية. وضابط الذاتية والفعلية (أن الذاتية لا تتعلق بها المشيئة، وأما الفعلية فتتعلق بها المشيئة). فتقول: إن الله تعالى ينزل إذا شاء، واستوى على العرش حين شاء، ويجيء يوم القيامة إذا شاء، فهذه فعلية. ولكن لا يصح أن تقول: إنه يعلم إذا شاء، ويسمع إذا شاء، وهو حيٌ إذا شاء؛ لأن هذه من لوازم ذاته سبحانه وتعالى. وهناك صفات ذاتية فعلية (¬1)، مثل: الكلام، والخلق، والرَزق. فيصح أن تقول: إنه مازال متكلما إذا شاء؛ لأن الكلام من جهة القدرة عليه معنى ذاتي، فيقال للمتكلم مازال متكلما، وهو يتكلم بمشيئةٍ، خلافا لمن قال: إن كلام الله قديم مطلقا. والمعطلة المبتدعة أنواع (¬2): ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 12/ 435. (¬2) مجموع الفتاوى 6/ 51.

الجهمية نفوا كل الصفات ـ الذاتية والفعلية ـ، ولم يثبتوا إلا ذاتا مجردة، وتبعهم المعتزلة في ذلك. وهناك طوائف لفّقوا واضطربوا أخذوا من هذا في جانب، ومن هذا في جانب مثل: الكُلَّابية ينفون الصفات الفعلية، وهي المتعلقة بالمشيئة، وكذلك الأشاعرة ينفون كثيرا من الصفات ـ الذاتية والفعلية ـ فيقولون: إنه تعالى لا تقوم به الأفعال الاختيارية. الأفعال الاختيارية: هي المتعلقة بالمشيئة، مثل: النزول (فعل اختياري) يفعله الرب بمشيئته، والاستواء (فعل اختياري) يفعله الرب بمشيئته، والغضب والرضا والحب، فيغضب إذا شاء، ويرضى إذا شاء، ويحب مَن شاء إذا شاء. ونُفاة الأفعال الاختيارية بنوه على شبهة باطلة لا أصل لها. قالوا: إنه تعالى منزه عن حلول الحوادث، فيقال: هذا لفظٌ محدث فليس في القرآن ولا في السنة أن الله تعالى منزه عن حلول الحوادث. وهو أيضا: لفظٌ مجمل يحتمل حقا وباطلا؛ فمن قال: الله منزه عن حلول الحوادث، نقول: ما معنى قولك: (منزه عن حلول الحوادث)؟ فإن قال: الله منزه أن يحل فيه شيءٌ من المخلوقات. نقول: نعم هذا حق، اللهُ لا يحل في ذاته شيء من مخلوقاته. وإن قال: إنه منزهٌ ـ أيضاـ عن أن تقوم به الأفعال الحادثة التي تكون بالمشيئة. نقول: هذا باطل، الله تعالى يفعل ما يشاء، إذا شاء، كيف شاء، فهو تعالى فعّال لما يريد. وأهل البدع منهم من نفى الأفعال الاختيارية مطلقا حذرا مما أصّلوه وهو نفي حلول الحوادث.

ومنهم من يثبت الأفعال لكن يقول: إنها لا تتعلق بها المشيئة، وهم الكلابية، فيقولون: إنه يتكلم ويغضب ويرضى لا بمشيئة؛ بل هذه الصفات قديمة، فهو لم يزل متكلما، وغاضبا عن من هو أهل للغضب، وراضيا عن من هو أهل للرضا. والأشاعرة ينفون، ولا يثبتون إلا الصفات السبع على ما في إثباتهم من تذبذبٍ واضطراب. والجهمية، والمعتزلة يقولون: إنه صار متكلما بعد أن لم يكن ـ ليس متكلما بمعنى أنه يقوم به الكلام ـ بل يريدون أنه خلق كلاما؛ لأن الكلام عندهم مخلوق، والقرآن مخلوق، وصار فاعلا بعد أن لم يكن، وليس معنى ذلك أنه يقوم به الفعل، وأنه يفعل فعلاً يقوم بذاته، ولهذا يقول ابن القيم في الشافية الكافية (¬1) عن الجهم: وَقَضَى بِأنَّ الله لَيسَ بفاعِلٍ * ... فِعلاً يَقومُ بِه بِلاَ بُرهَانِ فقضى بأن الله ليس بفاعل فعلا يقوم به؛ بل الفعل عند جهم، والمعتزلة، والأشاعرة هو نفس المفعول. والحق المعقول أن الأمور ثلاثة: (فعل، وفاعل، ومفعول) فالمفعول يقتضي فاعلا، وفعلا يقوم به، هذا هو الشيء البدهي المعقول، ولا يعمى عن هذا إلا من لُبِّس عليه، وغُرست في قلبه الشبهات، وعاش على التقليد، والتبعية. وهؤلاء الجهمية، والمعتزلة، ومن تبعهم في نفي قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه وتعالى قالوا: إنه يجب أن تكون لجنس المخلوقات بداية، وقبل هذه البداية يمتنع دوام الحوادث، أو تسلسل المخلوقات، أو دوام المخلوقات، أو حوادث لا أول لها، قالوا: هذا مستحيل، ممتنع لذاته، وإذا كان دوام الحوادث ممتنعا فالرب تعالى غير قادرٍ على أن يخلق في الأزل! ¬

(¬1) ص 26.

وكفى بهذا تنقصا لرب العالمين! لأن الممتنع لا تتعلق به القدرة. ومن يقول: إن دوام الحوادث ممتنع، والرب لم يزل قادرا عليها؛ فقد جمع بين النقيضين؛ لأن كونه قادرا يقتضي أن يكون دوام الحوادث ممكنا، فكأنه يقول: إن دوام الحوادث ممكن ممتنع، وهذا جمعٌ بين النقيضين. وجمهور المتكلمين على امتناع دوام الحوادث في الماضي. لكن ينبغي فهم معنى دوام الحوادث، أو تسلسل الحوادث ـ أي: المخلوقات ـ أو حوادث لا أول لها فمعناه: هل يمكن أن يكون ما من مخلوق إلا قبله مخلوق، وقبل المخلوق مخلوق، وقبل المخلوق مخلوق إلى ما لا نهاية له، هل هذا ممتنع؟ هذا هو معنى الكلام. وفي تسلسل المخلوقات ثلاثة مذاهب: (¬1) قال جهم: بامتناع دوام الحوادث في الماضي والمستقبل فجنس الحوادث عنده لها بداية، ويمتنع دوامها في المستقبل، ولهذا قال بفناء الجنة والنار. وجمهور المتكلمين قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي، وجوازه في المستقبل. وإقرارهم بدوام الحوادث في المستقبل حُجّةٌ عليهم، والصواب هو: جواز دوام الحوادث في الماضي والمستقبل؛ لأنه جائز ـ أي: ممكن لا مانع منه ـ فإذا كان الرب لم يزل على كل شيءٍ قدير، فلم يزل الفعل ممكنا، ومن يقول: إنه لم يخلق في الأزل فعليه الدليل. والأمر الذي نقطع ببطلانه قول من يقول: بامتناع دوام الحوادث في الماضي. ¬

(¬1) انظر: منهاج السنة 1/ 146، ودرء تعارض العقل والنقل1/ 351، وموقف ابن تيمية من الأشاعرة 3/ 996، وقِدم العالم وتسلسل الحوداث.

أما إذا قيل: إنه ممكن، والله فعالٌ لما يريد فهذا هو الحق، وأهم شيء أن تعلم أن هذا لا يستلزم محذورا كما ضنه الضانون والجاهلون؛ لأنه على هذا التقدير ـ دوام الحوادث ـ معناه: أن كل مخلوق فإنه مسبوق بعدم نفسه. ـ أي محدث بعد أن لم يكن ـ والله تعالى متقدم على كل شيء، مهما يُفرض من مخلوقات متسلسلة فالله تعالى سابق لها، فكل مخلوق فالله تعالى خالقه، والمخلوق محدثٌ والله تعالى لم يزل. وهذه في الحقيقة تُشكِل على كثير من الناس؛ لكن يجب أن تؤمن أيها المسلم بأن الله لم يزل على كل شيء قدير، ولم يزل فعالا لما يريد، وإذا آمنت بأن الله لم تحدث له قدرة ـ أي ـ لم يصر قادرا بعد أن لم يكن قادرا، ولم يصر فعالا بعد أن لم يكن فعالا، فإذا آمنت بهذا حصل المطلوب سواء فهمت المسألة أو ما فهمت. لكن نقول لك: إذا استقر في نفسك هذا فهمت أن هذا يقتضي جواز وإمكان دوام الحوادث في الماضي، مادام أن ربك لم يزل على كل شيء قدير، ولم يزل فعالا لما يريد. وأهم شيء هو الأصل: الإيمان بكمال ودوام قدرة وفاعلية الرب، وأنه تعالى لم يزل فعالا لما يريد، ولم يزل على كل شيء قدير، هذا هو الذي يجب أن تستمسك به. والمسلمون هذه فطرتهم، وهذه عقيدتهم، ولا يتكلمون في مسألة التسلسل، لكن ألجأ إلى الكلام في ذلك أهل البدع المعطلة ـ الجهمية، والمعتزلة، والذين تأثروا بهم ـ حين تكلموا وقالوا: يمتنع دوام الحوادث! فلزم بيان الحق، وهو أن الله تعالى لم يزل على كل شيء قدير، ولم يزل فعالا لما يريد، ولم يزل خالقا، ولم يزل قادرا، وهكذا (مازال بصفاته قديما قبل خلقه) بعد هذه الجملة العامة المجملة، ذكر بعد ذلك جملا تفصيلية فيقول:

[وصف الله تعالى بالخالق والبارئ قبل خلقه للخلق]

[وصف الله تعالى بالخالق والبارئ قبل خلقه للخلق] (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم «الخالق»، ولا بإحداث البرية استفاد اسم «البارئ» له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق). هو الخالق والخلّاق ولو لم يخلق، والخالق البارئ اسمان من أسمائه الحسنى التي سمى بها نفسه {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} و (الخَلق): يأتي بمعنى التقدير، وبمعنى الإيجاد. و (البارئ): هو الذي يحدث الشيء من العدم إلى الوجود. يقول: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق) وهذه الجملة من جنس التي قبلها، فهو سبحانه موصوف بالربوبية، والخالقيّة، ولو لم يكن هناك مخلوق ولا مربوب، فليس مفتقرا في أسمائه وصفاته إلى خلقه. قوله: (وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم، ذلك بأنه على كل شيٍ قدير) كما أنه استحق الاسم (محيي الموتى) قبل إحياء الموتى، كذلك استحق اسم (الخالق) قبل إنشائهم. وفي هذه العبارة: تدليل وتعليل وتفصيل لما تقدم من أنّ أسماءَه، وصفاته لا تتوقف على ما يخلقه أو ما يفعله، فهو تعالى مستحقٌ لوصفه بإحياء الموتى، وأنه يحيي ويميت قبل إحياء الموتى.

وقوله: (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق) يحتمل أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي؛ لأنه حين يقول: (ليس بعد خلق الخلق)، (وله معنى الربوبية ولا مربوب) كأنه يفهم منه أن لجنس المخلوقات بداية. لكن هل يقول: إن دوام الحوادث ممتنع؟ أو يقول: إنه ممكن لكنه غير واقع؟ فيه احتمال. والمنكر هو القول بامتناع تسلسل الحوادث في الماضي، لكن هل هو واقع ـ أي: أن المخلوقات لم تزل فعلاً ـ أو يمكن دوامها وتسلسلها في الماضي لكنه لم يقع؟ الأمر في هذا واسع.

[إثبات كمال قدرته وغناه تعالى، وفقر خلقه إليه]

[إثبات كمال قدرته وغناه تعالى، وفقر خلقه إليه] ثم قال: (ذلك بأنه على كل شيء ٍقدير، وكل شيءٍ إليه فقير، وكل أمرٍ عليه يسير لا يحتاج إلى شيء). هذا تعليل لما سبق من أنه سبحانه وتعالى لم يزل هو الخالق، البارئ، المصور، المحيي، المميت ذلك بأنه لم يزل على كل شيءٍ قدير، وهذا وصف قد أثنى الله به على نفسه في مواضع كثيرة من القرآن كما قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) ((إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)) ((وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِِراً)) ((قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ)) الآية. وذِكر هذا الاسم في القرآن كثير جدا فهو القادر، وهو القدير، وهو المقتدر سبحانه وتعالى. والأدلة على كمال قدرته بدلالاتٍ أخرى متنوعة قال تعالى: ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ)) فإخباره تعالى بخلق السماوات والأرض، وخلق كل شيء يستلزم إثبات كمال قدرته ((وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)) [قّ: 38] قال سبحانه: ((مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ)) ((وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عليه)). (ذلك بأنه على كل شيء قدير) فلا خروج لشيء عن قدرته؛ فكل الموجودات إنما وجدت بمشيئته وقدرته سبحانه وتعالى، ولا خروج لشيء عن قدرته، وفي هذا ردٌ على القدرية؛ كالمعتزلة، الذين

يخرجون أفعال العباد عن قدرة الله وعن مشيئته، (¬1) فأفعال العباد عندهم لا تتعلق بها بمشيئة الله وقدرته وخلقه! فالعباد هم الخالقون لأفعالهم يتصرفون بدون مشيئة الله، والله لا يقدر أن يجعل القائم قاعدًا، والقاعد قائمًا، ولا المؤمن كافرا، ولا الكافر مؤمنا، فكل ما يجري في الوجود من أفعال العباد، بل وأفعال الحيوان، خارج عن مشيئة الله، والله تعالى لا يقدر على أن يمنع شيئا من هذه الأمور! فالقتال الذي يجري بين الناس لمختلف الأسباب والدوافع ليس بمشيئة الله بزعمهم، والله تعالى يقول ((وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)) [البقرة: 253] ((وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)) [الأنعام: 137] هذا مضمون هذا المذهب القبيح المنكر. وقوله: (وكل شيءٍ إليه فقير) قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ)) كل شيء إليه فقير وهو الغني بذاته عن كل من سواه. فالغنى المطلق من لوازم ذات الرب تعالى، والفقر من لوازم المخلوق، فالفقر صفة ذاتية للمخلوق، والغنى صفة ذاتية للخالق. فالمخلوق فقير إلى الله من جميع الوجوه، والله غني عن خلقه من جميع الوجوه ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)) [فاطر: 15]. فكل شيءٍ مفتقر إلى الله في وجوده، وفي بقائه، وفي مصالحه، وفي كل شؤونه. وقوله: (وكل شيءٍ عليه يسير) كل شيءٍ عليه هين، وهذا يؤكد أنه على كل شيءٍ قدير، فليس ¬

(¬1) الرسالة التدمرية ص 488.

هناك ما يصعب عليه، ويعجزه ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ)) ((أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [العنكبوت: 19]. وقوله: (لا يحتاج إلى شيء) هذا يؤكد كمال غناه، فهو الغني بذاته عن كل ما سواه. لو قال المؤلف: (ذلك بأنه على كل شيءٍ قدير، وكل شيءٍ عليه يسير، وكل شيءٍ إليه فقير لا يحتاج إلى شيء) لكان أكثر تناسبا؛ لأن الجملة الثالثة مناسبة للجملة الأولى، والجملة الرابعة مناسبة للجملة الثانية، لكن كأنه فعل ذلك لمراعاة السجع.

[إثبات صفاته تعالى، ونفي مماثلته للمخلوقات]

[إثبات صفاته تعالى، ونفي مماثلته للمخلوقات] وقوله: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) هذه بعض آية من القرآن (¬1) تتضمن الدلالة على المذهب الحق في باب أسماء الله وصفاته، ورد الباطل؛ فهي تدل على أنه تعالى موصوف بصفات الكمال، منزهٌ عن مماثلة المخلوقات. ومذهب أهل السنة والجماعة يقوم على إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه، وأثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل. فقوله: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) ردٌ على أهل التشبيه، والتكييف. وقوله: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) ردٌ على أهل التعطيل. فدلت على الحق ورد الباطل، وفيها ركائز المذهب الحق، وهو: (إثبات صفات الكمال لله تعالى، ونفي مماثلته للمخلوقات، ونفي العلم بالكيفية)؛ فإنه إذا كان تعالى لا مثل له؛ فلا يعلم كيف هو إلا هو. ولأهل التفسير واللغة (¬2) كلام حول (ليس كمثله شيء) فقيل: إن الكاف صلة ـ زائدة ـ للتوكيد، والمعنى: ليس شيءٌ مثلَه، هذا أنسب وأقرب وأسهل ما يقال في معنى هذا التركيب ¬

(¬1) الشورى: 11. (¬2) تفسير الطبري 20/ 477، والتبيان في إعراب القرآن ص 339، والبحر المحيط 7/ 510، ومغني اللبيب ص 203.

وإعرابه ((ليس كمثله شيء)) فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى: ((وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)). وهو (السميع البصير) اسمان من أسمائه الحسنى دالّان على صفتين من صفاته العلى، فهو السميع وهو ذو السمع، وهو البصير وذو بصر، فتدل الآية على إثبات الاسمين، وما تضمناه من صفة السمع، والبصر.

[إثبات علم الله تعالى، وتقديره الأقدار، وضربه الآجال]

[إثبات علم الله تعالى، وتقديره الأقدار، وضربه الآجال] وقوله: (خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، ولم يخف عليه شيءٍ قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم) خلق الخلق عالما بهم، والخلق يستلزم العلم: ((أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)) [الملك: 14] فالله علم أحوال الخلق وأعمالهم بعلمه القديم، والإيمان بذلك هو أحد مراتب الإيمان بالقدر. وفيه إثبات العلم لله، والأدلة على إثبات العلم لله كثيرة في الكتاب والسنة، وهو من الصفات الثابتة بالعقل والسمع، فالله تعالى اسمه العليم، وأخبر بأنه بكل شيءٍ عليم، يعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون، يعلم الدقيق والجليل، والله تعالى قد فصّل ذلك في كتابه ((وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ))، ((إن الله عليمٌ بذات الصدور))، ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) [الأنعام: 59] ((لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)) [الطلاق: 12]. علمه تعالى محيطٌ بالأشياء، أحاط علمه بأعمال العباد، وأقوالهم، وأحوالهم، يعلم الخواطر التي ترد على النفوس، ويعلم ما في قلوب العباد: الملائكة، والأنبياء، وكل الناس يعلم ما في قلوبهم من أفكار،

وخواطر، ((يعلم خائنة الأعين)) اللحظة التي يرسلها الإنسان خُفية ما يدري عنها أحد، الله يعلمها ((يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور)). يعلم دقائق الأشياء: ((إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأتي بها الله))، ((وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتابٍ مبين)). والله تعالى من أسمائه العليم، وعلام الغيوب، وعالم الغيب والشهادة. والعلم من صفاته تعالى، ومن أهل البدع من ينكر هذا! فالجهمية ينفون عن الله أسماءَه وصفاتِه ويقولون: هذه الأسماء إضافتها إلى الله مجاز، وإلا فهي أسماء لبعض المخلوقات. والمعتزلة ينفون الصفات، ويقولون: اسمه عليم لكنه بلا علم، فليس العلم صفةً قائمة به، وقدير بلا قدرة، وسميع بصير بلا سمع ولا بصر! كذا حكى أهل العلم عنهم (¬1). وأما الحق الذي دل عليه كتاب الله، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ودل عليه العقل، وأجمع عليه سلف الأمة، والذين اتّبعوهم بإحسان فهو أنه عليم بعلم، وأن العلم صفته سبحانه وتعالى، وجاء ذكر العلم في القرآن، قال تعالى: ((أنزله بعلمه)) ((ولا يحيطون بشيءٍ من علمه))، وفي السُنّة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أستخيرك بعلمك» (¬2) وهذا تصريح بلفظ العلم، ولو لم ترد هذه النصوص لكان ذكر الإسم كافيا في الدلالة على إثبات الصفة. وعلمه تعالى أزلي لا يتجدد ـ بمعنى ـ أنه يصير عالماً بعد أن لم يكن، ويعلم الشيء بعد أن لم يكن عالما به! فهذا نقص، والله منزه ¬

(¬1) التمهيد 7/ 145، والتدمرية ص 92، ومجموع الفتاوى3/ 335، والنبوات 1/ 577. (¬2) رواه البخاري (1162) من حديث جابر - رضي الله عنه -.

عنه، كما تقدم (¬1) في التنبيه على دوام كماله (ما زال في صفاته قديما قبل خلقه). فنقول: ما زال بكل شيءٍ عليما، وعلمه تعالى مطابق للواقع؛ لأن ما لم يطابق الواقع جهل. وأما ما جاء في القرآن مما قد يفهم منه تجدد العلم، كقوله تعالى ((وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ)) [البقرة: 143] وقوله تعالى: ((أفحسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله))، وقوله تعالى: ((أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا))، فالمراد به علمه تعالى بالشيء موجوداً. ولهذا بعضهم يعبّر عنه بـ (علم الظهور، أوعلم الوجود). فالله تعالى قبل أن يخلق الخلق يعلم أحوالهم، وصفاتهم، ومن يطيعه، ومن يعصيه، لكن هل يعلمهم موجودين؟ لا؛ بل يعلم أن ذلك الشيء سيكون، فإذا وجد علمه موجوداً. فهو تعالى يعلم من يجاهد، ومن لا يجاهد، ومن يصبر، ومن لا يصبر، ويعلم من يقبل تشريعه في أمر القبلة، ومن لا يقبل، ومن يتبع الرسول، ومن لا يتبع الرسول ... إلخ يعلم أنه سيكون وهم غير موجودين، فإذا وجدوا علمهم موجودين، والثواب والعقاب مرتبٌ على ما يوجد بالفعل، هذا مقتضى عدله وحكمته. فالله لا يجزي العباد بموجب علمه قبل خلقهم؛ بل يجزيهم على ما وقع منهم بالفعل. والله تعالى يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون، وشاهد هذا في ¬

(¬1) ص 54.

القرآن قوله تعالى: ((ولو رُدّوا لعادوا لما نهوا عنه)) [الأنعام: 28]، وقد حكم الله بأنهم لا يُردّون ((وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ)) [الأنبياء: 95] وكما دل السمع على إثبات صفة العلم؛ دل العقل عليها، وبيان ذلك: أن إيجاد المخلوقات وإحكام هذا الخلق العظيم الواسع لابد أن يكون عن علم يقوم بالرب تعالى، ولا يتصور أن يكون بلا علم تعالى الله عمَّا يقول الجاهلون علوا كبيرا. ومن الطرق العقلية ـ أيضا ـ أن العلم يوصف به المخلوق على يليق به، وهو صفة كمال، فلو لم يتصف الخالق سبحانه بالعلم لزم أن يكون المخلوق أكمل من الخالق؛ وهذا ممتنع بداهةً. وقوله: (وقدّر لهم أقدارا) قال تعالى: ((وخلق كل شيءٍ فقدره تقديراً)) ((إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر)). وجاء في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (قدّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) (¬1). مقادير تكون من جهة الزمان، والمكان، والذات، فكل إنسان قدر الله له زمنا ((وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) [الحج: 5] يعني مقدار لُبْث الجنين في الرحم مقدّر، هذا ستة أشهر، وذا تسعة، وذا عشرة، وذا أكثر. وعملهم مقدّر، ورزقهم مقدّر، وقدّر جميع الأشياء. وقوله - صلى الله عليه وسلم - (قدّر الله المقادير) كلمة قصيرة لكن مفهومها واسع جدا، لا نحيط به ولا نتصوره لكن نفهمه إجمالا. وقوله: (وضرب لهم آجالا) ¬

(¬1) رواه أحمد2/ 169ـ والفظ له ـ، ومسلم (2653)، والترمذي (2156)، وابن حبان (6138) وصححاه، وعند مسلم: «كتب».

وعطف هذه الجملة على التي قبلها من عطف الخاص على العام، (ضرب لهم آجالا) حدد للخلق أجالا، والأجل: يطلق على نهاية المدة المقدرة، أو على نفس المدة المقدرة كلها، فالدنيا لها أجل، ينتهي بيوم القيامة ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ)) [الأنعام: 2]. والأمم لها آجال ((لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)) [يونس: 49] كل أمة لها أجل ثم تنتهي كيف شاء الله، وفي تاريخ المسلمين، الدولة الأموية لها تاريخ وانتهت، ثم الدولة العباسية وانتهت، وهكذا غيرها. وكذلك آجال مختصة بكل فرد مثل ما جاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله) (¬1)، قال تعالى: ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)) [آل عمران: 145]. إذًا؛ بأي شيء يموت الإنسان؟ هو ميت بأجله، وفي الوقت المحدود ((وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا)) [آل عمران: 145] فالمقتول ميت بأجله هذا عند أهل السُنّة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يقولون: إن المقتول قد قطع القاتل عليه أجله، فيمكن أنه سيعيش مائة سنة لكن اعتدى عليه القاتل فقتله وهو ابن عشرين سنة فضيّع عليه القاتل ثمانين سنة! (¬2) نعوذ بالله من الجهالة، والضلالة؛ بل المقتول ميت بأجله، والآجال جعل الله لانقضائها أسبابا؛ فمن الناس من يموت بأسباب سماوية لا دخل لأحدٍ من الناس فيها، ومنها ماله تسببٌ من الناس؛ مثل المقتول، وكلٌ في كتابٍ مبين، معلوم لرب العالمين، ((وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)) [فاطر: 11]. ¬

(¬1) رواه البخاري (3208)، ومسلم (2643). (¬2) مجموع الفتاوى 8/ 516.

فالآجال، والأعمار كلها مقدرة، ودلت النصوص على أن لطول العمر وقصره أسبابا كونية، وشرعية، فمن الأسباب الشرعية: صلة الرحم، وبر الوالدين، ففي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه) (¬1) وفي الحديث الآخر قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ولا يزيد في العمر إلا البر) (¬2) والتحقيق أنه لا ينافي القدر، فليس معناه أن هذا سبق في علم الله وكتابه أن عمره ستون سنة، ثم يحدث أنه يبر بوالديه فيزاد في عمره، لا؛ بل هذا الذي وصَل رحمه، ومَد الله في عمره جزاءً له؛ قد سبق في علم الله وفي كتابه أنه يطول عمره بهذا السبب، وكل الأمور جارية على الأسباب والمسببات، ومندرجة في قدر الله التام. ويقال مثل هذا في الدعاء، وبعضُ أهل البدع يقول: الدعاء لا فائدة منه؛ فإن كان الله قدَّر هذا المطلوب فلا حاجة للدعاء، فهو حاصل دعوت أو لم تدع، وإن كان غير مقدر فلا فائدة في الدعاء؛ لأنه لن يحدث! وهذا فهم باطل مبني على عدم تأثير الأسباب في مسبَبَاتها، ويلزمهم أن يقولوا مثل هذا في كل الأسباب. وما قدر الله حصوله في هذا الدعاء قد يُقدِّر سببه، وقد لا يقدر، فما لم يقدر سببه لا يحصل بالدعاء، وما قدر سببه يحصل السبب، والمسبَبَ. فتارة يقدر الله السبب، ولم يقدر المسبَب. وتارة يقدر هذا الأمر بدون هذا السبب. ¬

(¬1) البخاري (5986)، ومسلم (2557) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬2) أحمد5/ 277، وابن ماجه (90)، وصححه ابن حبان (872) والحاكم1/ 493، وحسنه العراقي فيما نقله البوصيري في مصباح الزجاجة (33) من حديث ثوبان - رضي الله عنه -.

وتارة يكون المقدّر السبب، والمسبَب، وهذا موضوع معناه واسع جدا، فالرزق للإنسان يحصل بسبب الطلب والكدح، وأحيانا يحصل بدون سعي ولا جهد (¬1). وهذا كله يرجع إلى الإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان، والمؤلف لما قال: (خلق الخلق بعلمه، وقدّر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا) يريد تقرير الأصل السادس، وإن كان سيُثنّي ويردد الكلام في القدر. ثم أكد المصنف قوله: (خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا) بقوله: (لم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم) أكده بالنفي، فالأول إثبات، والثاني سلب. ثم قال: (وعلم ما هم عاملون) وهذا أيضا تأكيد، لكن الجملة الأولى عامّة. (علم ما هم عاملون) سبق علمه بأعمالهم: المؤمن، والكافر، والمطيع، والعاصي قبل أن يخلقهم، وكتب ذلك وقضاه وقدّره في أم الكتاب. وفي التقدير الثاني: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فيؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله) (¬2) ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 8/ 192 و 14/ 143. (¬2) تقدم تخريجه في ص 72.

[وجوب الإيمان بالشرع والقدر]

[وجوب الإيمان بالشرع والقدر] وقوله: (وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته) في هذا التنبيه على وجوب الإيمان بالشرع مع الإيمان بالقدر؛ الإيمان بأن الله علم ما العباد عاملون بعلمه القديم، وكتب ذلك، وأن كل شيء يجري بمشيئة الله، والإيمان بأن الله أمر عباده بطاعته، ونهاهم عن معصيته ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)) [البقرة: 21] ((فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا)) [البقرة: 22] ((وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)) [النساء: 36] ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [الإسراء: 23]. لا بد للاستقامة على الصراط المستقيم في هذا المقام من الإيمان بالشرع، والقدر جميعا. أما الإيمان بالقدر فهو الأصل السادس، وأما الإيمان بالشرع فهو موجب الإيمان بكتب الله ورسله. فأهل الهدى والفلاح يؤمنون بهذا وهذا، ويؤمنون بحكمة الرب في شرعه وقدره. وأما فرق الضلال فالمشركون، وأتباعهم من الجبريّة فإنهم يثبتون القدر، ولكنهم ينكرون الشرع أو يعرضون عن الشرع كما قال الله عن المشركين: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] قولهم: (لو شاء الله ما أشركنا) هذا يتضمن أنهم يُقرّون بالقدر، وبمشيئة الله، ولكنها كلمة حق أريد بها باطل، فهم يقولون ذلك معارضةً لما جاءت به الرسل من الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، ونهيهم عن الشرك به.

والجبرية ـ المنتسبين للمسلمين ـ يقال لهم: مشركيّة؛ لأنهم بمنهجهم ذلك شابهوا المشركين الذين قالوا: ((لو شاء الله ما أشركنا)). ويقابلهم المجوسية وهم: (القدرية) كالمعتزلة فإنهم ينفون تعلق مشيئة الله بأفعال العباد، ويخرجون أفعال العباد عن مشيئته وقدرته، وملكه، مع أنهم يقرون بالشرع. وأسلافهم الأولون الذين ظهروا في عهد الصحابة ينفون القدر كله بمراتبه الأربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق. وطائفة قالت: إن الشرع والقدر فيهما تناقض، وإن أثبتتهما، فطعنت في حكمة الرب سبحانه، وتسمى: الإبليسية؛ فزعيمهم في هذا إبليس، فهو الذي أعترض على الرب، وطعن في حكمته، مع إقراره بخلق الله وأمره، فكان هو إمام هذه الطائفة المخذولة. هذه فرق الضلال من الخائضين في القدر كما يُعبّر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. (¬1) ¬

(¬1) الرسالة التدمرية ص 488.

[إثبات عموم مشيئة الله تعالى]

[إثبات عموم مشيئة الله تعالى] قال رحمه الله تعالى: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئتِه، ومشيئتُه تنفذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا). يقرر المؤلف في هذه الجملة عموم مشيئة الله، وأنها شاملة لكل شيء، فكل شيءٍ يجري بتقديره ومشيئته؛ كحركات الأفلاك، وتصريف الرياح، وحركات الناس كلها تجري بعلمه وبمشيئته قد سبق بها العلم، والكتاب. (لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم) فالعباد لهم مشيئة، وأفعالهم نوعان: اختيارية؛ فالإنسان يذهب ويجيء، ويأكل ويشرب، ويتكلم، ويضرب، هذه حركات اختيارية. وأفعال لا اختيارية كحركة النائم، والمرتعش، فهذه يقال لها: لا إرادية. ومشيئة العباد مقيدة بمشيئة الله، قال تعالى: ((لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)) بإثبات المشيئة للعباد ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [التكوير: 29] ففي هذه الآية رد على طائفتين: الجبرية، والقدرية؛ فقوله: ((لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)) رد على الجبرية، وقوله: ((إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ)) رد على القدرية نفاةِ القدر.

(لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم) وهذا الذي نعبّر عنه بقولنا: ما شاء الله كان، أما مشيئة الإنسان فقد تتحقق، وقد لا تتحقق، فيشاء العبد ما لا يكون، كالعاجز يريد شيئا ولا يكون، وقد يكون ما لا يريد، كالمكره يجري عليه من الأمور ما لا يريده. أما الرب القدير على كل شيء فما شاء كان، وما لم يشأ لا يكون، سبحانه وتعالى. وقوله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا) أدلة هذا في القرآن كثيرة، قال الله تعالى: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [البروج: 16] هذا دليل عام. وقال تعالى: ((يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)) [النحل: 93] ((مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الأنعام: 39] وقوله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا) يوفق من يشاء لسبل الخيرات، والأعمال الصالحات، ويعصم من الوقوع في الزلّات والسيئات، ويعافي من يشاء، وكل ذلك بفضله تعالى: ((وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [الحجرات: 7 - 8] فضلٌ من الله ((وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)) [إبراهيم: 11] فهو يهدي من يشاء بفضله وحكمته فيضع ولايته في موضعها فضلا منه وحكمة، ولهذا قال سبحانه: ((وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [النساء: 26]، ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) [الأنعام: 124]، ((ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)) [النساء: 70]. وقوله: (ويضل من يشاء) هذا قد نص الله عليه في كتابه في مواضع (¬1) كما قال تعالى: ((فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)) [إبراهيم: 4]. ¬

(¬1) الرعد: 27، والنحل: 93، وفاطر: 8.

وقوله: (ويخذل ويبتلي عدلا) الخذلان: عدم التوفيق، ويبتلي: يصيب من يشاء بالبلاء، عدلا: أي: بعدله وحكمته. والهداية المضافة إلى الله المتعلقة بالمكلف نوعان: هداية عامة ـ للمؤمن، والكافر ـ وهي: هداية الدلالة، والبيان، والإرشاد لسبيل الخير والشر، قال تعالى: ((وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)) [البلد: 10]، ((وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ)) [فصلت: 17] أي: دلَّهُم، وبيَّن لهم بإرسال رسوله ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ)) [النمل: 45]. والنوع الثاني: هداية التوفيق لقبول الحق، وإلهام الرشد، وشرح الصدر، قال تعالى: ((فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ)) [الأنعام: 125] ((أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)) [الزمر: 22] فهاتان هدايتان: الأولى تسمى: (الهداية العامة)، والثانية: (الهداية الخاصة). أما الهداية الخاصة فلا يملكها إلا الله تعالى. وأما الهداية العامة فالله قد جعلها للرسل ـ أيضا ـ قال تعالى: ((وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [الشورى: 52]، وقال تعالى: ((إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ)) [القصص: 56] نفى عنه أن يهدي من يحب، وأثبتها لنفسه سبحانه وتعالى، فبين الآيتين تعارض في الظاهر، والجمع بينهما بمراعاة التقسيم. وأنكرت المعتزلة هداية التوفيق؛ لأنهم أخرجوا أفعال العباد عن مشيئة الرب وقدرته تعالى وتقدّس، فعندهم أن الله لا يقدر أن يهدي أحدا، وإنما أثبتوا الهداية العامة: هداية الدلالة والإرشاد. وقالوا: (يضل) و (يهدي) أي: من اهتدى حَكَم له بالهداية، ومن ضل سماه ضالا، أما أنه يجعل هذا مهتديا أو هذا ضالا فلا! تعالى عن قول الظالمين والمفترين علوا كبيرا.

[إثبات الحكمة لله تعالى في أفعاله]

[إثبات الحكمة لله تعالى في أفعاله] وقوله: (وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله). من تتمةِ قولِه (يهدي من يشاء ويعصم، ويعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا) قولُه (فكل الخلق يتقلبون بين فضله وعدله) هذه النتيجة، والله تعالى حكيم يضع فضله حيث شاء، وعدله حيث شاء له الحكمة البالغة، فالله يهدي من يشاء بفضله وحكمته، ويضل من يشاء بعدله وحكمته. فالحكمة معتبرة وجارية وواقعة في الكل له الحكمة البالغة في هدايته لمن شاء من عباده، وخذلانه لمن شاء، وكان من المناسب أن ينبه المؤلف إلى هذا. والأدلة على حكمة الرب كثيرة فاسمه الحكيم يدل على الحكمة، وكذلك قوله: ((ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا)) [النساء: 70] ((اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) [الأنعام: 124]. وأفعال الرب معللة (¬1) لكن من العلل والحكم ما نعلمه بالنص عليه في الكتاب أو السنة، ومنها ما يُهتدى إليه بالتدبُّر، ومنها ما لا يعلم؛ فالعباد لا يحيطون بحكمة الرب كما لا يحيطون بسائر الصفات. فكل الخلق يتقلبون بين فضله وعدله، حتى في الساعة الواحدة يكون للإنسان حظ من فضل الرب سبحانه وتعالى بالتوفيق، أو يكون في حالة ابتلاء ¬

(¬1) منهاج السنة 1/ 141، وشفاء العليل ص 190، وانظر: ص عند قوله: تعالى عن الحدود والغايات.

وخذلان، واقرأ ما كتبه ابن القيم ـ رحمه الله ـ في مدارج السالكين (¬1) في مشاهد الخلق في المعصية في مشهد التوفيق والخذلان. ¬

(¬1) 1/ 414 «فالعبيد متقلبون بين توفيقه وخذلانه؛ بل العبد في الساعة الواحدة ينال نصيبه من هذا وهذا. فيطيعه ويرضيه ويذكره ويشكره بتوفيقه له، ثم يعصيه ويخالفه ويسخطه ويغفل عنه بخذلانه له، فهو دائر بين توفيقه وخذلانه؛ فإن وفقه فبفضله ورحمته، وإن خذله فبعدله وحكمته، وهو المحمود على هذا وهذا له أتم حمد وأكمله، ولم يمنع العبد شيئا هو له، وإنما منعه ما هو مجرد فضله وعطائه وهو أعلم حيث يضعه وأين يجعله».

[تنزيه الله تعالى أن يكون ضد أو ند]

[تنزيه الله تعالى أن يكون ضد أو ند] وقوله: (وهو سبحانه وتعالى متعالٍ عن الأضداد والأنداد). وصف الرب بالتعالي كثيرٌ في القرآن ((سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [يونس: 18] ((سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ)) [الأنعام: 100] ((فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الأعراف: 190] تعالى: تقدّس وتنزّه وترفّع، فهذا اللفظ يدل على التنزيه، فنقول: تعالى الله عن الصاحبة والولد، وتعالى الله عن السنة والنوم والموت، وتعالى الله عن الشركاء، والأضداد والأنداد، فلا ضد له ولا ند له. فالمضاد: المقاوم المدافع، والند: المثل. فلا ضد يضاد أمره وحكمه سبحانه وتعالى.

[نفاذ قضائه وحكمه تعالى]

[نفاذ قضائه وحكمه تعالى] وقوله: (لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره). هذا تفصيل لما قبله؛ فلا ضد له يرد قضاءه {وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} [الرعد: 11]. وقوله: (ولا معقب لحكمه) أي: مؤخر لحكمه فحكم الله ماض قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ)) [الرعد: 41]. وقوله: (ولا غالب لأمره) هذه الجمل الثلاث معناها متقارب كلها تفيد أن أمر الله وحكمه وقضاءه نافذ، وأنه غالبٌ لا يُغلب. وقوله: (آمنّا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده). هذه الإشارة ترجع إلى كل ما ذكره من قوله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله ... الخ) (وأيقنا) اليقين: الإيمان الذي لا يخالجه شك، (أن كلا من عنده) أي: كل ما يجري في الوجود فهو بتدبيره وتقديره سبحانه وتعالى: ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) [النساء: 78] ويحتمل أن المؤلف أراد (آمنا بذلك كله) أي: ما قرره من أمر الهداية والضلال، ونفاذ المشيئة، والتقدير، ويحتمل أنه يريد عموم ما تقدم.

[وجوب اعتقاد أن محمدا عبد الله ورسوله، وذكر ما تثبت به النبوة]

[وجوب اعتقاد أن محمدا عبد الله ورسوله، وذكر ما تثبت به النبوة] وقوله: (وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى). قرر المؤلف في الكلام المتقدم التوحيد بأنواعه الثلاثة، ثم ذكر بعض الأسماء، ثم ذكر أشياء مما هو من توحيده سبحانه وتعالى، ثم ذكر ما يتعلق بالقدر، فما تقدم كله يتضمن تقرير توحيده بأنواعه الثلاثة، وأنواع التوحيد الثلاثة كلها تندرج في شهادة أن لا إله إلا الله. فكأن مجمل قوله: نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله إن الله رب كل شيء ومليكه، وأنه لا إله غيره، وأنه سبحانه وتعالى الموصوف بصفات الكمال المنزّه عن كل نقصٍ وعيب، وهذا هو مضمون شهادة أن لا إله إلا الله، وبهذا تتضح المناسبة في قوله: وإن محمدًا عبده المصطفى، ـ يعني ـ نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحدٌ لا شريك له، ونقول في شأن محمد - صلى الله عليه وسلم - معتقدين بتوفيق الله: إن محمدا عبده المصطفى بكسر همزة (إنَّ)؛ لأنها مقولُ القول. وهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي القرشي من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام. ومحمد هو أشهر أسمائه - صلى الله عليه وسلم -، وإلا فله أسماء فإنه قال: «أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر، وأنا الحاشر

الذي يحشر الناس على عقبي، وأنا العاقب» والعاقب الذي ليس بعده نبي. (¬1) وأسماؤه - صلى الله عليه وسلم - أعلام وصفات، فاسمه محمد علم وصفة يدل على كثرة محامده، وكثرة حامديه؛ لأنه اسم مفعول من حُمِّد، وهو أبلغ من حُمِد. (¬2) وقوله: (وإن محمدا عبده المصطفى) مما تجب الشهادة به للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عبد الله ((وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا)) [الجن: 19] ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)) [الإسراء: 1] ((وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا)) [البقرة: 23] ((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ)) [الفرقان: 1] في هذه الآيات وصفٌ له، وثناء عليه بالعبودية، وهي العبودية الخاصة، وفيها إضافته - صلى الله عليه وسلم - إلى ربه فالله أضافه في هذه المواضع إلى نفسه إضافة تشريف، فهو أكمل الناس وأقومهم بالعبودية لله، فلا بد في الشهادة من شهادة أنه عبد الله ورسوله خلافا لمن يغلوا فيه ويجعل له بعض خصائص الإلهية. وقوله: (المصطفى) المختار، والاصطفاء، والاختيار: طلب خير الشيئين. وقوله: (ونبيه المجتبى) هو - صلى الله عليه وسلم - عبدٌ نبيٌ منبأٌ بالوحي الذي أنزله الله إليه، قال تعالى: ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)) [النساء: 163]. والاجتباء: قريب من معنى الاصطفاء. وقوله: (ورسوله المرتضى) فهو نبي رسول - صلى الله عليه وسلم -، والمرتضى: الذي ارتضاه الله، قال سبحانه وتعالى: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)) [الجن: 27]. ¬

(¬1) رواه البخاري (4896)، ومسلم (2354) ـ واللفظ له ـ من حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه -. (¬2) انظر: جلاء الأفهام ص 183.

ونلاحظ هنا إن المصنف قد أحسن في تناسب هذه الكلمات حيث ربط الاصطفاء بالعبودية، فقال (عبده المصطفى)، والاجتباء بالنبوة (ونبيه المجتبى)، والارتضاء بالرسالة (ورسوله المرتضى)؛ فإن هذا موافق لما جاء في القرآن، فقد قال سبحانه وتعالى: ((قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)) [النمل: 59] وفي سورة الأنعام لما ذكر الله إبراهيم، ومن هدى الله من ذريته: ((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ)) [الأنعام: 84] قال بعد ذلك: ((وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ)) [الأنعام: 87] فوصف هؤلاء الصفوة من الأنبياء بالاجتباء. وأما الارتضاء ففي قوله تعالى: ((إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)) [الجن: 27]، فكأنه استوحى هذا من الآيات. والنبي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - نبيٌ ورسول، والله خاطبه بـ (يا أيها النبي) في آيات (¬1)، وبـ (يا أيها الرسول) في آيتين (¬2) فخاطبه بالصفتين: النبوة، والرسالة. نبي؛ لأنه منبأ، فقد أنزل الله عليه النبأ العظيم ـ القرآن ـ. وهو رسول مرسلٌ إلى الناس كافة: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا)) [الأعراف: 158] ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ)) [سبأ: 28] ((وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا)) [النساء: 79]. وأكثر ما يُذكر - صلى الله عليه وسلم - بصفة الرسالة؛ لأنها هي المتعلقة بالمكلفين، والمقتضية للبلاغ. لكن ما الفرق بين النبي والرسول؟ فإن الله سبحانه وتعالى قال: ((ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وأتينا داود زبوراً)) وقال سبحانه وتعالى: ((تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)) فنجد آيات فيها ذكر الأنبياء وآيات فيها ذكر الرسل. ¬

(¬1) وعددها (13) آية، منها: «الأنفال: 64 و 65 و 70». (¬2) المائدة: 41 و 67.

والفرق المشهور بين النبي والرسول: أن النبي من أوحي إليه بشرعٍ ولم يؤمر بتبليغه. والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه. فلفظة نبي لا تشعر بالتبليغ، وكأن هذا التعريف مستمد من لفظة (نبي)، ولفظة (رسول) ليس إلا، وهذا تعريف غير مستقيم؛ لأن قولهم: إن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه. فيه ملاحظتان: الأولى: أنه أوحي إليه بشرع يدل على أنه يكون على شريعة يستقل بها. وثانيا: أنه لا يؤمر بالتبليغ؛ بل إنما هو مكلف بنفسه؛ فكأن الشريعة التي أوحي بها إليه مختصةٌ به فيتدين بدين يخصّه، هذا ما يفيده هذا التعريف، ومعناه أنه لا يؤمر، ولا يدعو، ولا ينهى! وهذا خلاف ما وصف الله به الأنبياء؛ كأنبياء بني إسرائيل، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} [(44) سورة المائدة] فكان أنبياء بني إسرائيل يحكمون بالتوراة، وكانوا يسوسون الناس كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي). (¬1) والصواب: أن كل نبي رسولٌ مأمور بالتبليغ، لكن الإرسال على نوعين: الإرسال إلى قوم مؤمنين بتعليمِهِم، وفتواهُم، والحكمِ بينهم. والإرسال إلى قوم كفار مكذبين لدعوتهم إلى الله. وبهذا يحصل الفرق بين النبي، والرسول. ¬

(¬1) رواه البخاري (3455)، ومسلم (1842).

وهذا هو التعريف الذي اعتمده شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب «النبوات» (¬1). إذًا؛ فالإرسال الشرعي فيه هذا التفصيل قال الله تعالى: ((وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبي)) فأثبت الإرسال للنبي أيضا، فإذا ورد ذكر الأنبياء بإطلاق فإنه يشمل الرسل، وإذا ذكر الرسل بإجمال فإنه يشملهم كلهم. فإذا جاء ذكر نبي ورسول فلا بد من هذا التفصيل، كما قال الله تعالى: ((تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)) وهذا يشمل نوحا ومن بعده، وكذلك قول الله تعالى: ((ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض)) يشمل نوحا ومن بعده. ولذا سمّى الله تعالى أنبياء بني إسرائيل رسلا: ((ولقد أتينا موسى بالكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جائكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم)) فإذا أردنا أن نصنف في ضوء التعريف المختار؛ فنوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب، وموسى، وعيسى؛ هؤلاء رسل قص الله علينا أخبارهم مع أممهم. وزكريا، ويحيى، وداود، سليمان وأيوب أنبياء. وذهبت المعتزلة أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزات، مثل: عصى موسى، ويده، وغيرهما من الآيات، ومثل: انشقاق القمر لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. وهذا باطل؛ فإن من الأنبياء من لم يذكر الله لهم آيات، لكن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثلُه آمن عليه البشر) (¬2) فالنبوة تثبت بغير المعجزات، بأدلة من حال المُدّعي للنبوة، ومن حال ما جاء به، وما يدعوا إليه. ¬

(¬1) 2/ 714. (¬2) رواه البخاري (4981)، ومسلم (152) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ففي الصحيحين أن خديجة رضي الله عنها لما جاءها النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجف ويقول: «إني خشيت على نفسي» قالت له: «كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق». (¬1) فاستدلّت على صدقه، وحفظ الله له، ووقايته من شر الشيطان بما هو عليه من الفضائل العظيمة. وكذلك مما احتُجّ به على النبوة في القرآن أنه - صلى الله عليه وسلم - عاش بين أهله ولم يُجرب عليه كذب، قال تعالى: ((وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقائنا إئت بقرآن غير هذا أو بدِّله قل ما يكون لي أن أبدِّلهُ من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يومٍ عظيم * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون)) فإنه نُبِّأ على رأسٍ أربعين سنة من عمره - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن هرقل استدل على نبوته - صلى الله عليه وسلم - بما تضمنه جواب المسائل العشر التي سأل عنها أبا سفيان بن حرب. (¬3) وعقلاء الناس يفرقون بين النبي الصادق، والمتنبي الكاذب، وإن كان المتنبي يمكن أن يأتي بخوارقَ وشعوذاتٍ، لكن من له عقل حسن لا يلتبس عليه المتنبي الكذّاب بالنبي الصّادق؛ بل يعرف ذلك من ملامحه، (¬4) ومن سيرته، ومن أقواله، ومن أفعاله، قال تعالى: ¬

(¬1) رواه البخاري (4953)، ومسلم (160) من حديث عائشة رضي الله عنها. (¬2) رواه البخاري (3547)، ومسلم (2347) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) البخاري (7)، ومسلم (1773). (¬4) قال عبد الله بن رواحة - رضي الله عنه - يمدح النبي - صلى الله عليه وسلم -: لَو لَم تَكُن فيهِ آياتٌ مُبَيَّنَةٌ ... كانَت بَديهَتُهُ تُنبيكَ بِالخَبَرِ. الإصابة 4/ 75.

((هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفّاكٍ أثيم * يلقون السمع وأكثرهم كاذبون)). فالصواب: أن النبوة تثبت بأدلةٍ كثيرة، ولا يتوقف إثبات النبوة على مجرد المعجزات. وتأمل قولَه سبحانه وتعالى: ((وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون)) فمن أدلة صدقه - صلى الله عليه وسلم - إنه جاء بهذا الكتاب العظيم، وهو - صلى الله عليه وسلم - أمي لا يقرأ ولا يكتب؛ بل يكتبُ ويقرأ له أصحابُه رضي الله عنهم. فكونه بهذه المثابة من الصدق، والأمانة، والطهر، والشرف، والفضائل، ولا يقرأ، ولا يكتب، ولا اتصل بأحد يمكن أن يتلقى عنه، ثم يأتي بهذا القرآن العظيم المحكم؛ هذا أعظم دليل على صدقه، قال تعالى: ((وقالوا لولا أنزل عليه آياتٌ من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذيرٌ مبين * أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقومٍ يؤمنون)).

[من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنه خاتم الأنبياء، وسيد المرسلين]

[من خصائصه - صلى الله عليه وسلم - أنه خاتم الأنبياء، وسيد المرسلين] قوله: (وإنه خاتم الأنبياء، وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين) أي الذي ختم به الأنبياء فلا نبي بعده، وقد دل على ذلك قوله سبحانه: ((ما كان محمدٌ أبا أحدٍ من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النّبيّين))، وقال تعالى: ((وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل)) فجميع الرسل، والأنبياء قد مضوا قبله، فلا نبي، ولا رسول بعده - صلى الله عليه وسلم -. وقد دلت نصوصٌ كثيرة من السنة على أنه - صلى الله عليه وسلم - لا نبي بعده، فمن أسمائه - صلى الله عليه وسلم - العاقب وهو الذي جاء بعد الأنبياء، فلا نبي بعده. (¬1) وفي حديث ثوبان - رضي الله عنه -: (إنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي) (¬2) وهذه قضيةٌ معلومةٌ من دين الإسلام بالضرورة ليس في ذلك اختلاف، ولا خفاء بل هو أمرٌ ظاهر مثل الشمس، ومن شك في أنه - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين فهو كافر، فضلا عن من يدّعي النبوة، أو يُصّدق مدعيها. إذًا؛ فلا بد في شهادة أن محمدًا رسول الله من الإيمان بأنه خاتم الأنبياء. ¬

(¬1) تقدم في ص 84. (¬2) رواه أحمد 5/ 278، وأبو داود (4252) والترمذي (2219) وصححه، ونحوه في البخاري (3609)، ومسلم في الفتن (157) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ولا بد من الشهادة أنه - صلى الله عليه وسلم - رسول إلى جميع الناس، وهذه ـ أيضا ـ من ضرورات الدين، قال تعالى: ((قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)) ((وما أرسلناك إلَّا كافَّةً للنَّاس)) ((تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)) ((وما أرسلناك إلى رحمةً للعالمين)). فمن اعتقد أن أحدًا يسعه الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، فضلا عن من ادعى ذلك لنفسه. ومن اعتقد أن اليهود والنصارى لا يلزمهم اتباع محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فهو كافر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي) (¬2) وعيسى عليه السلام ينزل في آخر الزمان، ويحكم بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬3). فشريعة محمد، ودعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لازمة لجميع البشرية، ولا يسع أحدًا الخروجُ عن شريعته - صلى الله عليه وسلم -. قوله: (وإمام الأتقياء) الأتقياء: جمع تقي، وإمامهم ـ أي ـ مُقدّمَهُم، فجميع المتقين من النبيين فمن دونهم إمامهم مطلقا محمد - صلى الله عليه وسلم -، لكن يمكن للإنسان أن يكون إماما لجنس من المتقين، ولهذا كان من دعاء عباد الرحمن: ((واجعلنا للمتقين إماماً)) [الفرقان: 74] فيمكن أن تقول: اللهم اجعلني إماما للمتقين ـ أي ـ قدوة في الخير، ويقتدي به المتقون. ¬

(¬1) رواه مسلم (153) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه ابن أبي شيبة 13/ 459، وأحمد 3/ 338 من حديث جابر - رضي الله عنه -، وانظر: إرواء الغليل 6/ 34. (¬3) رواه مسلم (155) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قوله: (وسيد المرسلين) أي: أفضلهم، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) (¬1). أي: هو أفضل ذرية آدم من أولهم إلى آخرهم بما فيهم من الأنبياء والمرسلين، ومن الأدلة ـ أيضا ـ أنه يوم القيامة عندما يطلب الناس الشفاعة من آدم، وأولي العزم فيترادّونها حتى ينتهي الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيقول: (أنا لها فأستأذن على ربي فيؤذن لي ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخر له ساجدا فيقال يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع). (¬2) وهذا هو المقام المحمود الذي خصّهُ الله به وفضّلهُ به قال تعالى: ((عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا)) [الإسراء: 79] (¬3) ولا شك أن الأنبياء، والرسل متفاضلون بنص القرآن، فأفضلهم على الإطلاق محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويليه إبراهيم، ويليه بقية أولوا العزم، وهم في المشهور عند أهل العلم أنهم خمسة: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13] إذًا؛ فأفضل الأنبياء والرسل هم أولوا العزم، وأفضلهم الخليلان، فالله تعالى قد أخبر أنه اتخذ إبراهيم خليلا {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125]، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله اتخذه خليلا كما اتخذا إبراهيم خليلا (¬4) ¬

(¬1) رواه مسلم (2278) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (7510) ومسلم (192) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) تفسير الطبري 15/ 43. (¬4) سيذكره بلفظه في ص (بعد صفحة).

أما ما جاء من النهي عن التفضيل في قوله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تفضلوا بين أنبياء الله) فهذا محمول عند أهل العلم بالتفضيل على وجه التعّصب الذي يتضمن تنقُّص الآخر، كما يبينه سبب الحديث الصحيح: أن يهوديا عرض سلعة له فأعطي بها شيئا كرهه فقال: لا والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر، فسمعه رجل من الأنصار فلطم وجهه، قال: تقول والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا، فذهب اليهودي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهدا، وقال: فلان لطم وجهي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لم لطمت وجهه»؟ قال: قال يا رسول الله: والذي اصطفى موسى عليه السلام على البشر، وأنت بين أظهرنا، قال: فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى عرف الغضب في وجهه، ثم قال: «لا تفضلوا بين أنبياء الله، فإنه ينفخ في الصور، فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، قال: ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث فإذا موسى عليه السلام آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أو بعث قبلي» (¬1). فالنهي عن التفضيل على سبيل التعّصب، أو الذي يتضمن تنقّص الأنبياء، أما التفضيل لبيان الواقع ولاعتقاد الحق، وإنزال كل منزلته فهذا لا بد منه، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - نوه بفضله؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته أو من القرآن، والله تعالى نص على التفاضل بين الأنبياء {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253] ¬

(¬1) رواه البخاري (3414)، ومسلم (2373) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[إثبات الخلة له - صلى الله عليه وسلم - كإبراهيم عليه السلام]

[إثبات الخلة له - صلى الله عليه وسلم - كإبراهيم عليه السلام] وقوله: (وحبيب رب العالمين) (حبيب) بمعنى محبوب له سبحانه وتعالى، والله تعالى يحب الرسل والأنبياء، والصالحين، وكل مؤمن له حظٌ من محبة الله تعالى؛ فإن الله تعالى يحب المتقين، والتوابين، والمتطهرين، والمقسطين، والصابرين، والمجاهدين ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ)) [الصف: 4] إذًا؛ وصفه - صلى الله عليه وسلم - بأنه حبيب رب العالمين لا تظهر فيه خصوصية؛ فكل نبي، وكل مؤمن فهو حبيب لرب العالمين، فمثلا: علي - رضي الله عنه - حبيب رب العالمين قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) (¬1)، ولهذا كان اللائق بالمؤلف أن يقول: وخليل رب العالمين؛ لأن المحبة مشتركة بين جميع المؤمنين، وعباد الله الصالحين. أما الخلة فمن خصائصه - صلى الله عليه وسلم - مع إبراهيم عليه السلام، والخلة أعلى مراتب المحبة؛ فالخليل هو أحب العباد إلى الله، والله أخبر في كتابه أن الله اتخذ إبراهيم خليلا {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125] وثبت في السنة الصحيحة أن الله اتخذ محمدا - صلى الله عليه وسلم - خليلا، ففي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا إني أبرأ إلى كل خِل من خِله، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا إن صاحبكم خليل الله) (¬2)، وفي الحديث ¬

(¬1) رواه البخاري (3009)، ومسلم (2406) من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (2383) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.

الآخر: (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا) (¬1) فإبراهيم ومحمد خليلا رب العالمين، ففيه إثبات صفة المحبة لله، وأنه يحب إبراهيم ومحمدا محبة تامة، وذلك؛ لأنهما أكمل الأنبياء توحيدا، ومباعدة من الشرك والمشركين، فكان المناسب أن يقول المؤلف: وخليل رب العالمين. وكثيرٌ من الصوفية يعبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه (حبيب الله) ويرددون مثل هذا، ولا يعلمون أن هذه ليس فيها خصوصية، ومزيّة بيّنة (¬2). وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن إبراهيم خليل الله ... وأنا حبيب الله ولا فخر) (¬3) فجعل الخلة لإبراهيم، والمحبة له، وهو حديث ضعيف معارض للأحاديث الصحيحة، ولا يصح سندا ولا متنا. ¬

(¬1) رواه مسلم (532) من حديث جندب - رضي الله عنه -. (¬2) العبودية 10/ 204، وروضة المحبين ص 47، وانظر: ص 198. (¬3) رواه الدارمي (47)، والترمذي (3616) ـ وقال: حديث غريب ـ من طريق: زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، وزمعة ضعيف، وسلمة ضُعِّف، وخصوصا إن روى عنه زمعة. تهذيب التهذيب1/ 635، و 2/ 79.

[حكم دعوى النبوة بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -]

[حكم دعوى النبوة بعد محمد - صلى الله عليه وسلم -] قوله: (وكل دعوى النبوة بعده فغيٌ وهوى) هذا نفيٌ وإبطال لدعوى النبوة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو مقتضى أنه خاتم الأنبياء، فإذا علم بالضرورة أنه خاتم الأنبياء، فيعلم بالضرورة أن كل دعوى للنبوة بعده فهي دعوى باطلة، وهي من الغي ضد الرشد، ومن الهوى ضد الهدى. فكل دعوى النبوة بعد مبعثه - صلى الله عليه وسلم - سواء كانت في حياته أو بعد مماته فهي دعوى باطلة، ومن يدعي النبوة بعد رسالته - صلى الله عليه وسلم - فهو من أكذب وأظلم الخلق قال الله تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ)) [الأنعام: 93]. وقد ادعى النبوة في حياته - صلى الله عليه وسلم - مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي (¬1)، وادعاها غيرهما بعده - صلى الله عليه وسلم -، وأخبر - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في حديث ثوبان: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يدعون أنهم نبي، وأنه لا نبي بعدي) (¬2) فكل من يدعي النبوة فهو كذاب، ولا نحتاج إلى أن ننظر في ما عنده إلا لبيان كذبه لمن قد يلتبس عليه أمره. ¬

(¬1) البخاري (3620 و 3621) ومسلم (2273 و 2274). (¬2) تقدم ص 91.

[عموم بعثته - صلى الله عليه وسلم - للجن والأنس]

[عموم بعثته - صلى الله عليه وسلم - للجن والأنس] قوله: (وهو المبعوث إلى عامة الجن، وكافة الورى) وهو المبعوث - صلى الله عليه وسلم - إلى عامة الجن، وكافة الورى ـ أي ـ الناس، وهذا كله مراعاة للسجع لينسجم هذا الكلام مع ما تقدم من العبارات. فهو - صلى الله عليه وسلم - مرسل إلى الثقلين ـ الجن والإنس ـ وهذا تقريرٌ لعموم رسالته - صلى الله عليه وسلم -، وهذا معلومٌ من الدين بالضرورة (¬1)، ولا يكون الإنسان شاهدا بأن محمدا رسول الله حتى يشهد بأنه رسول الله إلى الناس كافة قال تعالى: ((قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً))، ((وما أرسلناك إلا كافة للناس)) إلى غير ذلك من الآيات. ومن الأدلة على إرساله للجن سورة الجن، والآيات من سورة الأحقاف، وخطاب الثقلين في سورة الرحمن. قال تعالى: ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا)) [الجن: 1 - 2] إلى آخر السورة. وفي سورة الأحقاف ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)) [الأحقاف: 29] الآيات. وفي سورة الرحمن ذكر الله خلق الثقلين، وخاطبهما وذكر جزاءهما قال تعالى: ((يا معشر الجن والإنس))، ((يرسل عليكما شواظٌ من ¬

(¬1) انظر: إيضاح الدلالة في عموم الرسالة للثقلين لشيخ الإسلام ابن تيمية.

نار))، ((فيومئذٍ لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جان))، وفي الثواب ((ولمن خاف مقام ربه جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان)) إلا آخر السورة. ويظهر من آيات الأحقاف أن موسى - صلى الله عليه وسلم - كذلك مرسلٌ إلى الجن قال تعالى: ((وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ)) [الأحقاف: 29 - 30]. واختلف الناس هل من الجن رسل، أم الرسل كلهم من الإنس؟ جمهور أهل العلم على أن الرسل من البشر، وأما الجن فمنهم دُعاة، ونُذُر، (¬1) قال تعالى: ((وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى)) وإذا صح وعلم بالوحي أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرسلٌ إلى الجن، وموسى كذلك؛ علم أن إرسال الإنس إلى الجن يحصل به قيام الحجة عليهم. واستدل أهل القول الثاني بقول الله تعالى: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا)) [الأنعام: 130] فخوطب الجميع: الجن والإنس ألم يأتكم رسلٌ منكم. والجمهور قالوا: إن هذه الآية محتملة، وليست صريحة، والمراد من المجموع؛ لأن الخطاب للجميع. والأمر في هذا سهل، والمقصود إن الجن والإنس كلهم مكلفون، وقد خلقهم الله لعبادته، وأقام الحجة عليهم، وكلهم منهم المؤمن والكافر، والصالح، والطالح. والجن عالَمُ غيب وإن ظهروا للناس وتمثلوا بأشكال مختلفة، وهم ¬

(¬1) تفسير الطبري 9/ 561، ومجموع الفتاوى 4/ 234، وطريق الهجرتين ص 416.

كثير، ويعيشون على الأرض مع الناس، ولهم صفاتهم، ويأكلون ويشربون، ومنهم الذكور والإناث، ويتوالدون، قال تعالى: ((وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا)) [الجن: 6] وفي القرآن وفي السنة من الإخبار عنهم شيءٌ كبير، ومن ينكر وجود الجن؛ فهو كافر.

[فضل رسالته، وكمال شريعته - صلى الله عليه وسلم -]

[فضل رسالته، وكمال شريعته - صلى الله عليه وسلم -] وقوله: (بالحق والهدى، وبالنور والضياء) أي فمحمد - صلى الله عليه وسلم - مرسل بالحق والهدى، والنور والضياء، والمؤلف ينوع في التعبير، فهو - صلى الله عليه وسلم - مرسلٌ إليهم بالحق، وهو ضد الباطل، والهدى، وهو ضد الضلال، وبالنور والضياء، يدل على ذلك قوله تعالى: ((هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق)) وقال سبحانه وتعالى: ((إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً)) بالحق في الأمور الاعتقادية، والعملية، وهذا الحق الذي جاء به - صلى الله عليه وسلم - نور وهدى للناس ((فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا)) ((فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون)) نورٌ يبصر به المهتدون طريق السعادة، ومن حرم هذا النور؛ تخبط في ظلمات: الجهل، والغفلة، والكفر، وأكثر البشرية تتخبط في الظلمات فلا طريق لمعرفة الحقائق، والحق من الباطل، والحلال والحرام إلا من طريق الوحي. فهذا الذي ذكره المؤلف جملة من خصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وله خصائص كثيرة فُضِّل بها على سائر الأنبياء، منها ما يختص به، ومنها ما يتعلق بأمته، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا؛ فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه

خاصة، وبعثت إلى الناس عامة) (¬1) وفي حديث آخر: (فُضِّلتُ على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون) (¬2) وخصائص الرسول - صلى الله عليه وسلم - كثيرة عُني أهل العلم بجمعها (¬3) فأما حقه على أمته فهو الإيمان به، وبما جاء به، ومحبته فوق محبة الأهل والولد، والمال، والنفس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... ) الحديثَ. (¬4) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) (¬5) وتحقيق متابعته - صلى الله عليه وسلم - بامتثال أمره، واجتناب نهيه، وتصديقه بكل ما أخبر به، والتقيد في عبادة الله بشريعته وما جاء به - صلى الله عليه وسلم -، ومن ذلك تحكيمه - صلى الله عليه وسلم - والتحاكم إلى شريعته، قال تعالى: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)) والناس في شأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أقسام: منهم: من يغلو فيه - صلى الله عليه وسلم - ويجعل له بعض خصائص الإلهية. ومنهم: الجافون المقصرون، وشرهم المكذبون له، وكذلك ¬

(¬1) رواه البخاري (335) ـ واللفظ له ـ، ومسلم (521) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (523) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) كـ «بداية السول في تفضيل الرسول» للعز بن عبد السلام، و «الخصائص الكبرى» للسيوطي، و «خصائص المصطفى بين الغلو والجفاء» للدكتور الصادق بن محمد. (¬4) رواه البخاري (16)، ومسلم (43) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬5) رواه البخاري (15)، ومسلم (44) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

المعرضون عن سنته، والمقصرون في تحقيق متابعته، وطاعته، وتحكيمه - صلى الله عليه وسلم -. والوسط من آمن به، وصدقه، واتبع أمره، وترك نهيه، وعبَد الله بشرعه.

[عقيدة أهل السنة في القرآن، والرد على المخالفين]

[عقيدة أهل السنة في القرآن، والرد على المخالفين] وقوله: (وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا، وأنزله على رسوله وحيًا، وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده سقر حيث قال تعالى: ((سأصليه سقر)) فلما أوعد الله بسقر لمن قال: ((إن هذا إلا قول البشر)) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر، ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، فمن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر) قوله: (وإن) هذا عطف على ما سبق، مثل ما قلنا في قوله: (وإن محمدا) (¬1) يعني: ونقول في القرآن معتقدين بتوفيق الله: (إن القرآن كلام الله) أي: نُقِرُّ ونعتقد أن الكتاب المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -، المبدوء بسورة الفاتحة، والمختوم بسورة الناس هو كلام الله، تكلم به تعالى، وأنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما قال سبحانه وتعالى: ((وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)) وقوله: ((أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريقٌ منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون)) وقال سبحانه وتعالى: ((يريدون أن يبدلوا كلام الله))، فالقرآن كله «كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس كلامُ الله ¬

(¬1) ص 84.

الحروفَ دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف» (¬1) ((الم)) كلام الله ((ذلك الكتاب لا ريب فيه)) كلام الله تكلم به تعالى بما فيه من أوامر، ونواهي، وأخبار. وقوله: (منه بدا) أي: ظهر. أو بدأ: ابتدأ ظهوره ونزوله من الله، ودليل ذلك قوله تعالى: ((تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم)) ((نزيلٌ من الرحمن الرحيم)) ((قل نزله روح القدس من ربك)) فـ (مِن) في هذه الآيات لابتداء الغاية، فنزول القرآن مبتدأ من الله نزل به الروح الأمين جبريل عليه السلام. وقوله: (بلا كيفية) يعني: كيفية معقولة لنا، لا بد من هذا التقييد، فلا نقول: إن الله تكلم على هيئة كذا وكذا، أو بصفة كذا وكذا. وقوله: (قولاً) مصدرٌ مؤكِد لقوله: (منه بدا بلا كيفية)، أي: بدا من الله كلاما مسموعا، سمعه جبريلُ، وبلغه محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، وأهل السنة يقولون: «إن القرآن كلام الله منزلٌ غير مخلوق، منه بدا، وإليه يعود» (¬2)، ومعنى إليه يعود، ما ورد في الآثار أن القرآن يُسرى عليه في آخر الزمان، ويرفع من الصدور والمصاحف، فلا يبقى له وجودٌ في الأرض، ... (¬3) وهذا عندما يعطل، وينتهي الأجل المعدود، والمحدود بتكليف العباد، وأمرهم ونهيهم بهذا القرآن. وقوله: (وأنزله على رسوله وحيًا) بدأ من الله قولا، وأنزله وحْيًا على رسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بواسطة الرسول جبريل عليه السلام، قال تعالى: ((نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسانٍ عربيٍ مبين)) ¬

(¬1) الواسطية ص 197. (¬2) الواسطية ص 197. (¬3) مصنف عبد الرزاق3/ 362، ومصنف ابن أبي شيبة 15/ 528، وسنن الدارمي2/ 895، وانظر: الدر المنثور 5/ 334 - 336. وذكر شيخ الإسلام في مناظرة الواسطية 3/ 174: أن الحافظ أبا الفضل بن ناصر، والحافظ أبا عبد الله المقدسي جَمَعَا ما في ذلك من الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة، والتابعين.

وقال سبحانه وتعالى: ((فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لُدّاً)). وقوله: (وصدقه المؤمنون على ذلك حقًا) صدق المؤمنون الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما جاء به تصديقا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما أرسله الله ودعا الناس رموه وسفّهوه، ووصفوه بالشعر، والكهانة، والجنون، والسحر، وصدّقه من صدقه، وأول من صدقه خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أم المؤمنين السيدة العظيمة، وفازت بهذا الفضل العظيم، ثم آمن به بعض الناس على قلة من الأحرار والعبيد: واحد، واثنين، وثلاثة، حتى تتابع الناس على الإيمان، حتى دخلوا في دين الله أفواجا، وهؤلاء المؤمنون صدّقوا بأن القرآن كلام الله، وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله. وقوله (حقا) مصدر مؤكِد لقوله (صدقوه)؛ كأنه قال: صدقوه تصديقا، والمصدر المؤكِد يشترط أن يكون من لفظ الفعل، كما إذا قلت: قمت قياما، أو من معناه كما إذا قلت: قمت وقوفا. وقوله: (وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية) أي: وأيقن المؤمنون الذين صدّقوا: أنه كلام الله على الحقيقة لا المجاز؛ فإن المعطلة من الجهميّة، والمعتزلة يقولون: إنه كلام الله، لكنه مخلوق، فإضافته إلى الله إضافة مخلوقٍ إلى خالقه، فليس هو كلام الله على الحقيقة؛ لأنهم يعتقدون أن الله لا يتكلم! إذًا؛ فالقرآن عندهم ليس كلاما تكلم الله به، ولا يخصون القرآن بهذا؛ فكل كلام الله عندهم مخلوق حتى الخطاب الذي نودي به موسى عليه السلام في الوادي المقدس زعموا أن الله خلق كلاما في الشجرة سمعه موسى! وردَّ عليهم أهل السنة بأن هذا يقتضي أن الشجرة هي التي قالت: ((إني أنا الله لا إله إلا أنا))؛ لأن الله إذا خلق كلاما في بعض مخلوقاته؛ فالكلام لا يوصف به إلا من قام به الكلام. وهذه المسألة هي التي نشأت عنها فتنة القول بخلق القرآن، حتى

حُمل الناس على هذه البدعة بالقوة، وامتُحِن العلماءُ، وعلى رأسهم إمامُ أهل السنة الإمامُ أحمد ـ رحمه الله ـ. (¬1) والقول بخلق القرآن قول مبتدع باطل مبني على باطل، فهو مبني على أن الله لا يقوم به كلام، وهذا قولُ الجهميةِ والمعتزلةِ. والأشاعرةُ مذهبهم في القرآن ملفق، فيثبتون الكلام لله، ويقولون: إنه تعالى متكلم، والكلام يقوم به. (¬2) لكن ما هو الكلام الذي يثبتونه؟ يقولون: إن كلام الله معنى نفسي قديم واحد. هذا ضابط كلام الله عندهم، فهو عندهم: معنىً واحدٌ قديم قائم به سبحانه لازمٌ لذاته لا تتعلق به المشيئة، ليس بحروف وأصوات، ولا يسمع من الله، هذا تحرير مذهبهم. وعلى هذا؛ فالقرآن المسموع، المتلو، المحفوظ، المكتوب؛ عبارة عن ذلك المعنى النفسي! إذًا؛ فحقيقة قولهم: إن هذا القرآن مخلوقٌ للدلالة على ذلك المعنى النفسي. فالجهمية والمعتزلة، والأشاعرة، كلهم يقولون: القرآن كلام الله، لكن كلٌ على أصله. فالجهمية، والمعتزلة: يريدون أنه مخلوقٌ لله، وإضافته إلى الله من إضافة المخلوق إلى الخالق. والأشاعرة يقولون: إنه كلام الله، فهذا الكلام المكتوب في المصاحف دليلٌ على المعنى النفسي، وفي هذه ¬

(¬1) انظر: "ذكر محنة الإمام أحمد" لحنبل بن إسحاق، و "مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي ص 432، و "سير أعلام النبلاء" 11/ 232. (¬2) انظر مذاهب الناس في كلام الله، وتقرير مذهب أهل السنة في: منهاج السنة 2/ 358، ومجموع الفتاوى12/ 162، والكافية الشافية ص 47، ومختصر الصواعق4/ 1302.

يقتربون جدا من الجهمية، والمعتزلة، فليس بينهم كبير فرقٍ؛ لأن النزاع في هذا القرآن الذي يحفظه المسلمون، ويسمعونه، ويتلونه، ويكتبونه. وأهل السنة والجماعة عندهم: أن القرآن كلام الله على الحقيقة كيف ما تصرف: مكتوبا، ومحفوظا، ومسموعا، ومتلوّا. فالكلام المكتوب في المصاحف هو كلام الله، وما في صدورِ حَفَظَةِ القرآن هو كلام الله، وما يتلوه التالون هو كلام الله، لكن الصوت صوت القارئ، والكلام المتلو كلام البارئ، وكل عاقل يفرق بين الكلام الذي يبتدؤه المتحدث، وبين كلام غيره حين يقرأه، فالكلام إنما يضاف حقيقةً إلى من قاله مبتدئا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا. فإذا سمعت إنسانا يقرأ حديث «إنما الأعمال بالنيات» (¬1) تقول: هذا قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا تقول هذا كلام الذي قرأ الحديث؛ لأن القارئ يقرأ كلام النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا سمعته ينشد قصيدة للشاعر امرئ القيس فإنك لا تقول: هذا كلام فلان الذي ينشد القصيدة بل تقول: هذا كلام امرئ القيس (¬2). فالقرآن هو (كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق)، كما تقول: الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة (ككلام البرية) فالبشر وكلامهم، وأفعالهم، وصفاتهم مخلوقة. وقوله: (فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه، وأوعده بسقر حيث قال تعالى: {سأصليه سقر}). من سمع القرآن فزعم أنه كلام البشر، أنشأه محمد فهو كافر، مكذب للرسول - صلى الله عليه وسلم -، مفتر على الله تعالى، وعلى رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ويشير المؤلف إلى الآيات من سورة المدثر النازلة في الوليد بن ¬

(¬1) رواه البخاري (1)، ومسلم (1907) من حديث عمر - رضي الله عنه -. (¬2) درء تعارض العقل والنقل 1/ 259، ومناظرة الواسطية 3/ 176.

المغيرة، فإنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع القرآن فرق له، فجاء إلى قريش فأثنى على القرآن، فعابوه، فلما عيروه بذلك أراد أن يحتفظ بمكانته ـ نسأل الله العافية ـ فقال ما أخبر الله به عنه: ((ذرني ومن خلقت وحيداً * وجعلت له مالاً ممدوداً * وبنين شهوداً * ومهدت له تمهيداً * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيداً * سأرهقه صعوداً * إنه فكر وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر * ثم عبس وبسر * ثم أدبر واستكبر * فقال إن هذا إلا سحرٌ يؤثر * إن هذا إلا قول البشر * سأصليه سقر * وما أدراك ما سقر * لا تبقي ولا تذر * لواحةٌ للبشر * عليها تسعة عشر)). (¬1) وقوله: (فلما أوعد الله بسقر لمن قال: ((إن هذا إلا قول البشر)) علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر) لما علمنا أن الله ذمّ وتوعّد من قال: إنه قول البشر؛ علمنا أنه قول رب العالمين، لا قول البشر، ولا يشبه قول البشر، ولهذا كان القرآن معجزا تحدى الله الثقلين أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أوبسورةٍ من مثله قال تعالى: ((قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً))، وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ¬

(¬1) رواه الطبري في تفسيره 23/ 429، والحاكم 2/ 506 ـ وصححه من حديث ابن عباس ـ وعنه البيهقي في دلائل النبوة 2/ 198، وقال: هكذا حدثناه موصولا، وفي حديث حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة قال: جاء الوليد بن المغيرة ... وهذا فيما رواه يوسف بن يعقوب القاضي، عن سليمان بن حرب، عن حماد، هكذا مرسلا. وكذلك رواه معمر عن عباد بن منصور، عن عكرمة مرسلا. ورواه أيضا: معتمر بن سليمان، عن أبيه، فذكره أتم من ذلك مرسلا. وكل ذلك يؤكد بعضه بعضا.

وقال تعالى: ((وإن كنتم في ريبٍ مما نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله)) وقوله: (ولا يشبه قول البشر) لا في بيانه وفصاحته، ولا في معناه؛ لاشتماله على المعاني العظيمة في أخباره، فقد بلغ الغاية في الصدق في أخباره، والعدل في أحكامه ((تنزيلٌ من حكيمٌ حميد)) ((تنزيلٌ من الرحمن الرحيم)) ((تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم))، لا يشبه قولَ البشر، مع أنه كلام، وقول البشر كلام، ولذا قال بعض أهل العلم (¬1): إن افتتاح السور بالحروف المقطعة فيه تنبيه على الإعجاز، وأن القرآن كلام مؤلفٌ من هذه الحروف التي يتألف منها سائر الكلام: (ال م رص ط هـ ك ع ق) فهو حروف وكلمات، وسور وآيات. وقوله: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، فمن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أنه بصفاته ليس كالبشر) يعني من شبه الله بخلقه فقد كفر؛ لأنه تكذيب لقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء وهو السميع البصير))، ((ولم يكن له كفواً أحد)). فالله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، قال الإمام نعيم بن حماد (¬2): (من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر، وليس في ما وصف الله به نفسه ¬

(¬1) الكشاف 1/ 69، والجامع لأحكام القرآن 1/ 238، وتفسير ابن كثير1/ 160. (¬2) نعيم بن حماد الخزاعي الإمام العلامة صاحب التصانيف كان صلبا في السنة شديدا على الجهمية، روى عن ابن المبارك والفضيل وابن عيينة، وغيرهم. وروى عنه يحيى بن معين، والبخاري وأبو داود وغيرهم. قال الخطيب: إن أول من جمع المسند وصنفه نعيم. توفي عام 229هـ. سير أعلام النبلاء 10/ 595.

ولا رسوله تشبيه). (¬1) وقوله: (فمن أبصر هذا اعتبر) من أبصر هذا بعقله وبصيرته اعتبر وحذر من حال المكذبين، وانزجر عن المقالات الباطلة، كقول الوليد بن المغيرة، وقول الجهميّة والمعتزلة والأشاعرة. فالقرآن كلام الله، والله تعالى يتكلم بما شاء إذا شاء، وكلام الله يسمعه من شاء الله بلا واسطة. والأدلة على إثبات كلام الله كثيرة ومتنوعة ففي القرآن قال تعالى: {قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} ((وكلم الله موسى تكليماً)) ((ولما جاء موسى بميقاتنا وكلمه ربه)) {فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فقد جاء ذكر الكلام بلفظ القول، والكلام، والكلمات، والنداء، والمناجاة. والله كلم موسى، وناداه، وناجاه ناداه بصوت مرتفع، وناجاه بصوت خفي، قال تعالى: ((وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيّا)) فموسى كليم الله، ونجي الله؛ لأن الله ناجاه، وهو تعالى يوصف بالمناداة، والمناجاة، والتكليم. والمخلوق يوصف بالمناداة، والمناجاة، والتكليم، ولكن نقول: ليس التكليم كالتكليم، ولا المناداة كالمناداة، ولا المناجاة كالمناجاة، كما نقول: إن حياته سبحانه وتعالى ليست كحياة المخلوقين، ولا علمه كعلمهم، ولا قدرته كقدرتهم، فالقول في الصفات واحد ولا فرق، وهذا أصل معقول صحيح. ¬

(¬1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة ص 587، وتاريخ دمشق 62/ 163، والعلو 2/ 1093.

[إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة]

[إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة] قال رحمه الله تعالى: (والرؤية حقٌّ لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربِّنا: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) [القيامة22 - 23]، وتفسيره على ما أراد الله تعالى، وعلمه) أي رؤية المؤمنين لربهم بأبصارهم ثابتة وواقعة، فيجب الإيمان بأن المؤمنين يرون ربَّهم يوم القيامة عياناً بأبصارهم. وقوله: (بغير إحاطة) أي: يرونه ولا يُحيطون به، فلا يرونه رؤية يدركونه بها من كل وجه، فهو تعالى أعظم من أن يُحيطَ به العباد، فإنهم: ((لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)) [طه: 110]، وكذلك لا يُحيطونَ به رؤية، قال تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) [الأنعام: 103] يعني: لا تُحيطُ به الأبصار. وقوله: (ولا كيفية) هذا يصح إن أريد به نفي العلم بالكيفية، وإلا فرؤية المؤمن لربه لها كيفية، وله تعالى كيفية، لكن لا نعلمها، فالنفي للكيفية مُتعلِّقٌ بالعلم، فيكون المعنى: بغير إحاطة ولا كيفية معلومة لنا. ومسألة الرؤية، مسألة عظيمة افترقت فيها الأمة، فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة عيانا بأبصارهم، يرونه في عرصات القيامة ـ يعني: في مواقف القيامة ـ، ويرونه في الجنة، كما يشاء سبحانه وتعالى، يرونه ويسعدون، وينعمون بالنظر إلى ربهم، ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) [القيامة: 22 - 23] وفي الآية الأخرى: ((عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)) [المطففين: 23 - 24].

وقد دلَّ على مسألة رؤية المؤمنين لربهم القرآن، والسنة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وأجمع على ذلك أهل السنة والجماعة؛ فأما القرآن فأصرح دليل في ذلك آية سورة القيامة التي ذكرها المصنف: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ)) أي: بهيَّةٌ مشرِقَةٌ حسنةٌ ((إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) يعني: تنظر إلى ربها، وهذا الفعل: «نَظَرَ» يأتي على وجوه في اللغة العربية (¬2): يأتي متعدِّيا «بنفسه» فيكون بمعنى الانتظار، قال تعالى: ((هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ)) [الأعراف: 53] أي: هل ينتظرون إلا تأويله. ويأتي متعدِّيا بـ «في» فيكون معناه: التفكر، قال تعالى: ((أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ والأرض)) [الأعراف: 185] وقال تعالى: ((أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ)) [الروم: 8]. ويأتي مُعدَّا بـ «إلى» فيُرادُ به نظر العين، قال تعالى: ((أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ)) [ق: 6] وقال تعالى: ((أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ)) [الغاشية: 17]. ومما أُستُدلَّ بها على إثبات الرؤية من القرآن قولُه تعالى: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) [يونس: 26]، وقد بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الزيادة: هي النظر إلى وجه الله الكريم (¬3)، وفي معناها: قوله تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) [ق: 35] (¬4) كما استدل أهل السنة بقوله تعالى في الكفار: ((كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)) [المطففين: 15]، فلو كان المؤمنون لا يرونه؛ لاستووا هم والكفار. ومما استُدلَّ به من القرآن قوله تعالى: ((عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ ¬

(¬1) انظر: رؤية الله للدارقطني، شرح أصول اعتقاد أهل السنةص520، وحادي الأرواح 2/ 625، ونظم المتناثر من الحديث المتواتر ص 250. (¬2) حادي الأرواح 2/ 623. (¬3) رواه مسلم (181) عن صهيب - رضي الله عنه -، وانظر: حادي الأرواح 2/ 609. (¬4) شرح أصول اعتقاد أهل السنةص519، وحادي الأرواح 2/ 617، وتفسير ابن كثير 7/ 407.

فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)) قيل: ينظر بعضهم إلى بعض، وقيل: ينظرون إلى الكفار وهُم يُعذَّبون، فيغتبطون بنعمة الله عليهم أن نجَّاهم وعافاهم، وقيل: ينظرون إلى ما أعطاهم الله من النعيم، وقيل: ينظرون إلى ربهم، أقاويل في تفسيرها للسلف (¬1) كما هي عادتهم يذكرون بعض ما تدلّ عليه الآية، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: ولقد هضم معنى الآية من قال: ينظرون إلى أعدائهم يعذبون، أو ينظرون إلى قصورهم وبساتينهم، أو ينظر بعضهم إلى بعض، وكل هذا عدول عن المقصود إلى غيره، وإنما المعنى: ينظرون إلى وجه ربهم، ضد حال الكفار الذين هم عن ربهم لمحجوبون. (¬2) وأما السنة فقد تواترت النصوص عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إثبات الرؤية، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: حين سألوه: هل نرى ربنا؟ قال: (هل تضارُّون في القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فهل تُضارُّون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فإنكم ترونه كذلك) (¬3)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تُضامُون في رؤيته) (¬4) إذًا؛ رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع أهل السنة، وهي من مطالب المؤمنين، ومما يرجون الفوز به، ولهذا جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أسألك لذة النظر إلى وجهك) (¬5). ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن 22/ 150. (¬2) إغاثة اللهفان 1/ 41. (¬3) رواه البخاري (7437 و 7438)، ومسلم (182) من حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما. (¬4) رواه البخاري (554)، ومسلم (633) من حديث جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -. (¬5) رواه أحمد 30/ 265، والنسائي 3/ 62، وصححه ابن خزيمة في التوحيد ص 12، وابن حبان (1971) والحاكم 1/ 524 من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما، ورواه أحمد 35/ 520، وصححه ابن خزيمة في التوحيد ص 14، والحاكم1/ 516 من حديث زيد بن ثابت - رضي الله عنه -.

ومع هذه الأدلة قد عَميَ عنها من لبَّسَ عليهم الشيطان، فأضلَّهم عن سواء السبيل من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم فقالوا: إنه تعالى لا يُرى، وهذا ليس غريبا منهم، فالذين ينفون عن الله كل الصفات حقيق بأن يقولوا: إنه تعالى لا يُرى، بل لعل قولهم: إنه لا يُرى هو من لوازم نفيهم لجميع الصفات؛ لأن نفي جميع الصفات يستلزم نفي الذات، والمعدوم لا يُرى، فقولهم بنفي الرؤية مناسبٌ لمذهبهم في التعطيل. ومن شبهاتهم في ذلك استدلالهم بقوله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) [الأنعام: 103] فقالوا: معناه لا تراه الأبصار. وأُجيب (¬1) عن هذا بأن قوله تعالى: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) نفي للإحاطة، ونفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم، وعلى هذا فالآية دالة على إثبات الرؤية لا على نفيها، لكنها دالة على إثبات الرؤية من غير إحاطة. وقد قيل في تفسير هذه الآية: لا تُدركه الأبصار في الدنيا، أو لا تُدركه أبصار الكفار (¬2)، وهذان تفسيران مرجوحان: أولا: لأن الإدراك أخصُّ من مطلق الرؤية، وليس المنفي الرؤية. ثانيا: إنه على هذا التفسير لابد من التقييد أو التخصيص، أما على التفسير الأول لا تدركه، فالآية على إطلاقها. ومن صفات ربنا أنه لا تُدركه الأبصار، وهذه صفة سلبية، وتقدم (¬3) أن النفي الذي من صفات الله تعالى لابد أن يتضمن ثبوتا، ¬

(¬1) منهاج السنة 2/ 317، وبيان تلبيس الجهمية 4/ 420، وعنه في حادي الأرواح 2/ 618. (¬2) تفسير الطبري 9/ 464 - 465. (¬3) ص 33 عند قول الطحاوي: ولا يعجزه شيء.

فأما النفي الذي لا يتضمَّنُ ثبوتا؛ لا يدخل في صفاته تعالى، بل كلُّ نفيٍ في صفاته فإنه مُتضمِّنٌ لإثبات، فنفي إدراك الأبصار له يتضمَّنُ إثباتَ كمال عظمته سبحانه، فلِكمالِ عظمته لا تُدركه الأبصار. إذًا؛ فهذا نفي مُتضمِّن لإثبات مدح، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: «ومعلوم أن كونه الشيء لا يُرى ليس صفة مدح؛ لأن النفي المحض لا يكون مدحا إن لم يتضمن أمرا ثبوتيا؛ ولأن المعدوم لا يُرى، والمعدوم لا يُمدح، فعلم أن مجرد نفي الرؤية لا مدح فيه» (¬1). أما الآيات؛ التي فيها إثبات الرؤية فإنهم يُحرِّفونها، فأظهر آية في الدلالة على إثبات الرؤية: ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) [القيامة: 23] قالوا: ناظرة إلى ثواب ربها، أو يُفسِّرون النظر بالانتظار! وتقدم (¬2) إن هذا لا يتفق مع قاعدة اللغة. وقد جاء في الحديث: تشبيه رؤية المؤمنين لربهم برؤية الشمس والقمر، فالمشبَّه والمشبَّه به هو الرؤية، فشبَّهَ الرؤية بالرؤية، ولم يُشبِّه المرئي بالمرئي، فلا يُقال: إن الله تعالى كالشمس والقمر، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم سترون ربكم كما ترون) يعني: ترون ربكم رؤية كرؤيتكم للشمس والقمر، ووجه الشبه بين الرؤيتين: أولا: إنها رؤية بصرية لا علمية، ونفاة الرؤية يفسرون هذه الرؤية بالرؤية العلمية، ـ أي ـ يزداد علمهم بالله يوم القيامة، لا أنهم يرونه بأبصارهم. ثانيا: إنهم يرونه في العلو كما يُرى القمران في العلو. ثالثا: إنها رؤية من غير إحاطة، فالمؤمنون يرون ربهم يوم القيامة من غير إحاطة، كما أن الناس في الدنيا يرون الشمس والقمر من غير إحاطة. ¬

(¬1) منهاج السنة 2/ 319. (¬2) ص 113.

فماذا يصنعون بهذا الحديث وغيره؟! يزعمون أنها أخبار آحاد، ومن أصولهم الباطلة: أن أخبار الآحاد لا يُحتجُّ بها في مسائل الاعتقاد! أو يردونها، طاعنين في بعض رواتها، مع أنهم ليسوا أهلا أن يتكلَّموا في ذلك. فقول الجهمية والمعتزلة قولٌ باطل مردود بالكتاب والسنة والإجماع، وإنكار الرؤية كفر؛ لأنه إنكار لأمر معلوم من دين الإسلام بالضرورة، إذ إنه جحد لما دلَّت عليه هذه النصوص المستفيضة من القرآن، ومن الحديث، ولما اتفق عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان. وأما الأشاعرة: فيقولون: إنه يُرى لا في جهة! فلا يُرى من فوق ولا تحت، ولا يمين ولا شمال، ولا أمام ولا خلف! فأضحكوا عليهم العقلاء، وفتحوا بابًا للمعتزلة فاحتجوا عليهم، وكأنهم ما أثبتوا الرؤية. فقول الأشاعرة فيه تلفيق، وهذه عادتهم، فهم في باب الصفات يثبتون بعضا من الصفات، وينفون كثيرًا منها، وفي الكلام ـ كما تقدم ـ (¬1) يثبتون الكلام، لكن ليس على الوجه المعقول الذي دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنة. وهكذا الرؤية إثباتهم ليس على ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، بل ولا على الوجه المعقول. وهذا يرجع إلى أن من أصولهم الباطلة نفي علو الله على خلقه، ويقولون: إن الرؤية تحتاج إلى مقابلة. نعم فليكن، الله تعالى في العلو والعباد ينظرون إلى ربهم كيف شاء سبحانه وتعالى. وقال رحمه الله: (وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعَلِمَه). ¬

(¬1) ص 107.

هذه العبارة مضمونها التفويض، يعني: ونحن لا نعلم معاني تلك النصوص، لكن لا يصح أن يُريده المؤلف؛ لأنه أثبت الرؤية، فقال: (بغير إحاطة ولا كيفية) فأثبت رؤية حقيقية، فلا يصح أن يقال: يُريد المؤلف بهذا إنا لا نعلم تفسير ما ورد في هذه النصوص من ذكر الرؤية؛ بل تفسيرها على ما أراد الله! فإنَّ مراد الله من ذلك أنهم ينظرون إلى ربهم، كما دلت على ذلك السنة الصحيحة الصريحة، فما أراد الله من معانيها معلوم لنا، وما أراد الله من حقائق ذلك وكيفياته هو الذي لا نعلمه، فنحن نعلم مراد الله بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)) [النساء: 58] أنه ذو سمع وبصر، هذا مرادٌ معلوم لنا، والله أراد منا أن نعلمه، فعلَّمنا إياه وعرَّفنا به، وهكذا نقول في الرؤية. وكذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم سترون ربكم) (¬1) مراده أن نعلم أننا نرى ربنا يوم القيامة. والذي يظهر لي من مراد المؤلف بالتفسير: معرفة الحقيقة والكيفية؛ فذلك الذي لا نعلمه، كما سيأتي (¬2) في الكلام على التأويل، فكأنه قال: وكيفية ذلك على ما أراد الله وعَلِمَه. ¬

(¬1) ص 114. (¬2) ص 136.

[وجوب التصديق بخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحمله على مراده]

[وجوب التصديق بخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وحمله على مراده] وقوله ـ رحمه الله ـ: (وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك مُتأوِّلين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا؛ فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وردّ علم ما اشتبه عليه إلى عالمه) يعني: ما جاء عن الله تعالى في كتابه هو على ما أراده وعَلِمَه، وما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحَّ من سنته؛ فهو كما قال، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم سترون ربكم) فسنرى ربنا كما قال، وهذا معناه التصديق، فما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من الحديث الصحيح فهو حقٌّ كما أخبر، هذا معنى (كما قال) فنحن نؤمن به مصدقين لخبر الله تعالى، وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا بيان لوجوب الإيمان بما أخبر الله به، وما أخبر به رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذه المسألة وغيرها. وقوله: (ومعناه على ما أراد) الكلام في هذا كالكلام فيما قبله، فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم سترون ربكم) ماذا أراد - صلى الله عليه وسلم -؟ أراد الرؤية البصرية، ونعلم أنه أراد ذلك يقينا، وليس المقصودُ التفويضَ، فنقول: الله أعلم بمراده ومراد رسوله؛ بل نقول: نعم هو كما قال، ومعناه على ما أراد، ونحن نعلم المعنى الذي أراده من قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنكم سترون ربكم)؛ لأنه يُخاطبنا بكلام واضح مبين مفسَّر لا إجمال فيه ولا إبهام، فلا يجوز أن يكون المراد ستعلمون ربكم؛ لأن العباد يعلمون ربهم وهم في الدنيا قبل أن يموتوا: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا)) [طه: 110] يعرفون ربهم أنه خالقهم، وخالق كل شيء، وأنه الله الذي لا إله غيره، فلا يجوز أن يُراد

بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (سترون ربكم) يعني: تعلمون، وتكون الرؤية علمية؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (كما ترون الشمس .. كما ترون القمر .. ) هذا كلام واضح قاطع مبطل لكل التحريفات. وهذه الكلمات توهم التفويض، لكن لا يصح أن نقول: إن المصنف يُفوِّض في هذه النصوص؛ لأن التفويض لا يجري إلا على مذهب من ينفي حقيقة الرؤية، والمصنف بريء من هذا، فإنه يثبت الرؤية. وقوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا) التأول بمعنى التأويل، فلا ندخل في ذلك متأولين لتلك النصوص برأينا المحض فنؤولها على خلاف ظاهرها. قال الإمام ابن تيمية: «إن التأويل صار مستعملا في ثلاثة معان: الأول: التأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين المتكلمين في الفقه وأصوله: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى احتمال مرجوح لدليل يقترن به. الثاني: التأويل بمعنى: التفسير وهذا هو الغالب على اصطلاح المفسرين. الثالث: التأويل بمعنى: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام». (¬1) والمأثور من هذه المعاني هو الثاني والثالث، وأما الأول فهو اصطلاح حادث، وهو نوعٌ من التفسير، لكن الأصل إن الكلام يُحمل على ظاهره، ولا يجوز صرفه عن ظاهره إلا بدليل يجب المصير إليه، فهذه النصوص لا يجوز صرفها عن ظاهرها، بل يجب إجراؤها على ظاهرها، كالقول في سائر نصوص الصفات، وظاهرها هو إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة عيانا بأبصارهم، ولا يجوز صرفها عن هذا الظاهر؛ لأنه ليس هناك حجةٌ صحيحة توجب صرف هذه النصوص عن ظاهرها. ¬

(¬1) التدمرية ص 262 باختصار.

وإذا قال الأصوليون: هذا مُأوَّل، أو مُتأوَّل؛ معناه: أنه مصروف عن ظاهره إلى غيره، لكن تارة يكون بحجة صحيحة، فيكون هذا التأويل صحيحا، وتارة يكون ذلك التأويل بغير حجةٍ صحيحة، كتأويل المبتدعة للنصوص المخالفة لأصولهم، فكل تأويلات المبتدعة للنصوص المخالفة لأصولهم من نوع التأويل الباطل، والاسم المطابق لتأويلهم، هو التحريف؛ فإن صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى احتمالٍ مرجوح، أو صرفه عن ظاهره إلى غيره بغير دليل يوجب ذلك، هو من تحريف الكلم عن مواضعه. قوله: (ولا متوهمين بأهوائنا) ولا نتوهم فيها خلاف ظاهرها بدافع الهوى؛ فإن من التأويل ما لا دليل عليه غير وهم باعثه الهوى؛ فإن الإنسان إذا كان له هوى في شيء يكون في عقله تصورات واعتقادات تنبعث من هواه، وهذا هو الذي يرمي إليه المؤلف بقوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا) فنحرف النصوص ونصرفها عن ظاهرها بموجب آراء وشبهات، بل يجب أن نُجري النصوص على ظاهرها، ونفهمها على موجب ما دل عليه اللسان العربي، وعلى موجب فهم السلف الصالح؛ فإن أي فهم لآية أو حديث يتناقض مع فهم الصحابة، أو فهم السلف الصالح؛ فهو باطل. وقوله: (فإنه ما سلم في دينه إلا من سلَّم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ورد عِلْمَ ما اشتبه عليه إلى عالمه) هذا تعليل لقوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا)، بل نؤمن به على مراد الله، ومراد رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإن الواجب علينا الإيمان بهذه النصوص، والتسليم لما أخبر الله به، فما علمنا منه آمنا به على ما فهمنا منه، وما لم نعلمه نكل علمه إلى عالمه، هذا هو الواجب على المؤمن إذا ورد عليه آية من كتاب الله، أو حديث صحيح عن رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجب عليه أن يؤمن به فورا ولا يتوقف، فهم معناه أو لم يفهمه، يجب أن يقابل ما أخبر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالإيمان والإذعان.

فإنه ما سلم عبدٌ في دينه؛ إلا إذا انقاد لله بالتصديق وإخلاص العبادة، وانقاد للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتصديق والمتابعة، ومن عارض النصوص بعقله فليس عابدا لله تعالى، ولا متبعا لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، بل متبع لهواه، قال الله تعالى: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ)) [النجم: 23] وكل أهل الباطل ينطلقون من هذين الأصلين: الظن، أو الهوى. فمذاهبهم مبنية على الظنون، والخَرص، وليست مبنية على حجج وبينات، بل على شبهات واهيات، وعلى الهوى: ((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ))، ((وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ)) [الأنعام: 116]، ((فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ)) [القصص: 50] فإنهم قد يكونون على علم بالحق، لكن يمنعهم من اتباعه الهوى، وقد يضلون عن الحق بسبب ظنونهم، وآرائهم، وشبهاتهم، وفي كثير من الأحيان يجتمع الأمران: فيكون الباعثُ على ذلك الباطلِ الشبهةُ والهوى؛ فالذين يُحكِّمون عقولهم ـ مثلا ـ في باب الصفات؛ كالجهمية والمعتزلة أصلهم هو تحكيم العقل الفاسد؛ لأن العقل الصحيح لا يُناقض النقل الصحيح أبدًا، لكنهم حكَّموا عقولهم الفاسدة، ولو حكَّموا العقل الصريح لكان موافقا لما جاءت به الرسل، «فإن الرسل لا يأتون بما تُحيلُهُ العقول أبدًا، لكن قد يُخبرون بما لا تدركه العقول، أو بما تحار فيه العقول، ولا يأتون بما تقطع العقول السليمة ببطلانه» (¬1). فما تأتي به الرسل إما أن يكون العقل شاهدا ومصدقا على صدقه وحسنه، أو يكون العقل واقفا جاهلا، والجاهل عليه أن ينقاد ويُسلِّم. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 2/ 312 و 17/ 444، والفرقان 11/ 243، ودرء تعارض العقل والنقل5/ 297 و 7/ 327، والصواعق المرسلة 3/ 829.

فأخبار الرسل دائرة بين الأمرين، أما شيء يُحيله العقل فلا والله لا تأتي به الرسل؛ لأن العقل الصريح والقضايا العقلية القطعية لا تتناقض، والحق لا يتناقض، وهذه القضية الكبيرة أعني: الوفاق بين العقل والنقل، ألَّف فيها الإمام العلم شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه العظيم: (العقل والنقل) أو (درء تعارض العقل والنقل) الذي قال فيه ابن القيم: وَاقرَأ كِتَابَ العَقلِ وَالنَّقلِ الذِي ... مَا فِي الوُجُودِ لَهُ نَظِيرٌ ثَانِ (¬1) يعني في بابه. ¬

(¬1) الكافية الشافية ص 197.

وقوله: (فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ورد عِلم ما اشتبه عليه إلى عالمه). هذا فيه تقرير وجوب التسليم لله، والانقياد لحكمه، وحكم الله نوعان: حكم كوني. وحكم شرعي. ويجب على العبد الرضا عن الله في تدبيره وحكمه الكوني وحكمه الشرعي، فلا يعارض حكم الله برأي ولا ذوق ولا استحسان، هذا بالنسبة للحكم والقضاء الكوني. وأما الأمور المكونة والمقضية فهذه يجب أن يعمل فيها من حيث الاستسلام والدفع والطلب بموجب الشرع، فيحكم شرع الله، فما أمره الله بفعله فعله، وما أمره بتركه تركه، فيحب ما أحبه الله، ويبغض ما أبغضه الله، ويأتي ما أمره الله به، ويذر ما نهاه الله تعالى عنه، ويصبر على ما أوجب الله عليه فيه الصبر، ويدفع ما أوجب الله عليه دفعه من المكروهات. وهذه الأعمال من طلب أو دفع للمقدرات تجري فيها الأحكام التكليفية: الواجب والمحرم والمكروه والمستحب والمباح. فلا بد من التسليم لحكم الله؛ بالرضا بحكمه وتدبيره، وأنه حكيم عليم، وذلك بعدم الاعتراض عليه في قضائه الكوني وقضائه الشرعي.

[وجوب التسليم لحكم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتقديمه على الآراء]

وجهلة الصوفية وغلاتهم يرون أن من التسليم للقدر الاستسلام لكل ما يجري على الإنسان، بحيث لا يطلب خلاف ما يجري عليه، ولا يدفع شيئا من المكروه، حتى يقول قائلهم: إن العارف لا حظ له! أو إنه يصير كالميت بين يدي الغاسل! قال الإمام ابن تيمية: «فهذا إنما يمدح منه سقوط إرادته التي لم يؤمر بها، وعدم حظه الذي لم يؤمر بطلبه، وأنه كالميت في طلب ما لم يؤمر بطلبه، وترك دفع ما لم يؤمر بدفعه». (¬1) وهذا كلام باطل، ولا يمكن تحقيقه في الواقع أبدا. [وجوب التسليم لحكم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وتقديمه على الآراء] وقوله: (ما سلِم في دينه إلا من سلَّم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -) كأنه يظهر من سياق الكلام أنه يريد التسليم لشرع الله في المسائل العلمية الاعتقادية، وفي المسائل العملية؛ فإن الدين يتضمن قسمين: اعتقادات، وأعمال، قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ)) [التوبة: 33] الهدى هو: العلم النافع، ودين الحق: العمل الصالح، ((أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمَاً)) [الأنعام: 114]، ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)) [الأنعام: 57]، قال تعالى: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدَاً)) [الكهف: 26]، قال تعالى في تحكيم الرسول: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً)) [النساء: 65] لا بد من التسليم لحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقبوله بانشراح صدر، وطيب نفس، لا يتحقق الإيمان كاملا إلا بهذه الشروط: ((حَتَّى يُحَكِّمُوكَ)) وذلك بالإيمان به، وأن ما جاء به حق من عند الله، وأن ما حكم به في كل مسائل الدين هو الحق والعدل والصواب، فإنه - صلى الله عليه وسلم - إنما يحكم بشرع الله وحكمه، ((مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)) [النساء: 80]، ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر: 7]، ((ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَاً)) [النساء: 65]. ¬

(¬1) التدمرية ص 518.

وقد خرج عن هذا السبيل المبتدعة على اختلاف بدعهم، فلم يقنعوا بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فالمعطلة يرون أن كل ما في القرآن والسنة من صفات الرب سبحانه وتعالى؛ ليس المراد منها ظاهرها، وأهل التفويض يرون أنها لا معنى لها، وهذا خروج عن تحكيم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعن الرضا بحكمه، والتسليم له، فعندهم أن الحق في معرفة الله، وفيما يجوز عليه وما لا يجوز عليه؛ هو ما عرفوه بعقولهم، ومضمون هذا الكلام أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يبين للناس ما يجب أن يعتقدوه في ربهم، فترك هذا العلم العظيم الذي هو أهم العلوم وأجل المطالب بلا بيان. وقد فند شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة العقيدة الحموية (¬1) هذا التصور الساقط الباطل، وذكر وجوها من دلالات العقل على بطلان هذا القول، فكيف يبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - كل صغير وكبير للناس حتى آداب قضاء الحاجة، ثم لا يبين ما يجب على العباد أن يعتقدوه في ربهم؟! هذا من أبطل الباطل. ومن الوجوه التي ذكر: «إن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصا أو ظاهرا؛ لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير؛ بل كان وجود الكتاب والسنة ضررا محضا في أصل الدين» (¬2)؛ لأنهم يقولون: إن نصوص الأسماء والصفات ظاهرها التشبيه، ثم يلجئون للتخلص من ذلك إما بالتفويض فيقولون: هذه نصوص الله أعلم بمراده منها، فنحن لا نفهمها وليس علينا أن نتدبرها، بل علينا أن نتلوها ألفاظا، والأكثرون منهم يسلكون طريق التأويل، وهو ¬

(¬1) ص 195. (¬2) ص 235.

تفسير النصوص بمعان بعيدة مخالفة لظاهرها، ولما دلت عليه سائر النصوص الأخرى الموضحة لها، فكل الآيات والأحاديث الواردة ـ مثلا ـ في اليدين مؤولة عندهم بخلاف ظاهرها، فيجعلون ذلك كله من قبيل المجاز والتخييل، وهذا كله ضد التسليم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، فحكموا عقولهم، ولم يحكموا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضلوا ضلالا بعيدا، وهذا ما يتضمنه قول المؤلف: (فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، ورد ما اشتبه عليه علمه إلى عالمه) وهذا هو الواجب، فما خفي على الإنسان فهمه وأشكل عليه؛ فعليه أن يقول: الله أعلم، والله تعالى يعلم نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويعلمنا بقوله: ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)) [الكهف: 22]، ((قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)) [الكهف: 26]، ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) [الإسراء: 36] فالواجب على المكلف فيما لم يعلم أن يفوض علم ذلك إلى الله. وقوله: (ورد ما اشتبه عليه علمه إلى عالمه) فهناك أمور استأثر الله بعلمها، كحقائق ما أخبر الله سبحانه عن نفسه من أسمائه وصفاته، وحقائق اليوم الآخر، فهذا كله مما يخفى على العباد ولا يمكنهم معرفته؛ فالواجب في هذا هو التفويض، ورد علم ذلك إلى الله. أما معاني النصوص؛ فالأصل أنها كلها يمكن فهمها، فما أخبر الله به عن نفسه، وما أخبر به عن اليوم الآخر هذه لا بد أن تكون معلومة لنا من جهة معانيها، لكن قد يخفى بعضها على بعض الناس في بعض الأحوال، فهنا قبل أن يعرف المراد، يرد ما اشتبه عليه؛ فيقول: الله أعلم به، ثم هذا لا يمنع التدبر والبحث لمعرفة المراد، ولهذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في القاعدة الخامسة من الرسالة التدمرية (¬1) «إنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه» وقوله: (ورد ما اشتبه عليه علمه إلى عالمه) هذا أدب رفيع، وهو مقتضى علم العبد بربه وعلمه بنفسه، فلا يتجاوز حده فيدعي علم ما ¬

(¬1) ص 251.

لا علم له به، ولا يتكلف في البحث عما لا سبيل إلى معرفته، فما علمه قال به واعتقده وآمن به، وما خفي عليه رد علمه إلى عالمه. وقوله ـ رحمه الله ـ: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة وصحيح الإيمان) هذا تعبير فيه شيء من التشبيه والاستعارة على طريقة أهل البيان، فقوله: (لا يثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم) فيصور المؤلفُ الإسلامَ كأن له قدم يقوم عليها، والتسليمَ بأنه مركب ثابت إذا اعتمد الإنسان عليه استقر وأمن من السقوط والاضطراب. فلا يستقر إسلام العبد، وتحصل له الطمأنينة إلا إذا ثبتت تلك القدم على ظهر التسليم. والاستسلام، والتسليم معناهما متقارب، قال تعالى: ((وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ)) [لقمان: 22] الإسلام: الاستسلام والانقياد، وهذا يقتضي عدم المنازعة؛ لأن من ينازع لم يسلم، وهذا الكلام يؤكد قولَه السابق: (فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -). والتسليم أصل مهم، فإذا أصَّلت أصل الدين: الإيمان بالله ورسوله وكتابه، والإيمان بالله يتضمن أنه تعالى هو الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، وأنه تعالى رب كل شيء ومليكه، وأنه سبحانه وتعالى موصوف بالكمال منزه عن النقص، فلا ظلم ولا عبث في خلقه وشرعه وقدره؛ بل هو تعالى حكيم في ذلك كله، إذا حققت هذا؛ فكل ما يرد عليك عن الله تعالى وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا بد أن يقوم على التسليم؛ لأن المعارضة والمنازعة ما تجيء إلا من ضعف الإيمان بعدل الرب، ومن ضعف الإيمان بحكمة الرب. وكل ما يعارض الحق فهو باطل؛ لكن تارة تكون المعارضة وقحة صريحة، كما يفعل الكفرة أو الذين قد تزلزل إيمانهم، أو كاد أن يزول،

فهؤلاء يتكلمون بالمعارضات في شرع الله وقدره، وأحيانًا لا يتكلم بها لكن تكون في النفس. والمسلم يجب عليه أن يدفع كل المعارضات التي تخطر بباله، أو يسمعها على ألسن الشياطين، أو ألسن الجاهلين، يدفع ذلك بالإيمان بأن الله تعالى حكم عدل، حكيم عليم. وهذا لا يقتضي أن الشرع مخالف للعقل؛ بل العقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح؛ لكن العقل مع النقل له طاقة وله حدود، فلا يمكن لعقل الإنسان أن يدرك ويحيط بكل شيء؛ بل له حدود يقف عندها؛ لأن الإنسان ناقص، فلا يمكن أن كل سؤال تجيب عليه، أو يجاب عليه، فلا بد من أن تقول: الله أعلم، الله حكيم عليم. فإذا سلم الإنسان استراح كثيرا وأراح، وما يرد عليك من المعارضات: إما أن تدفعه بالبينات والحجج الكاشفة لزيف تلك الشبهات الواردة. وإن لم يتهيأ ذلك لقلة العلم فادفعه بهذا الأصل وقل: آمنت بالله ورسوله، فإن الشيطان يلقي الوساوس في النفوس. والرسول - صلى الله عليه وسلم - ما ترك شيئا يقرب أمته إلى الجنة، ويبعدهم من النار إلا دلهم عليه، ولا ترك أمرا يحتاجون إليه في دينهم إلا بينه، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (يأتي الشيطانُ أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته). (¬1) وفي لفظ آخر: (فليقل: آمنت بالله ورسله) (¬2) فهل بعد هذا الوسواس وسواس؟! فإن ورد عليك ادفعه بسرعة بالعلاج النبوي: ¬

(¬1) رواه البخاري (3276)، ومسلم (134) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) عند مسلم في الموضع السابق.

فقاطع الوسواس، ولا تسترسل معه، واترك التفكير، وقل: أعوذ بالله من الشيطان، آمنت بالله ورسله؛ فأنك إذا تفكرت فيه زاد وطمع الشيطان فيك؛ لأنه وجد عندك قابلية للوسواس. وانظر إلى إيمان الصحابي الذي وجد مثل هذا، فجاء مذعورا يتذمر، ويقول: (يا رسول الله، إني أحدث نفسي بالشيء ما لو أخر من السماء أحب إلي من أن أتكلم به. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} (¬1) وقال في لفظ آخر: {ذاك صريح الإيمان} (¬2) والمراد كراهة هذا الوسواس، وبغضه والخوف منه، وهذا نابع من الإيمان، فبقدر إيمان العبد وقوته يكون موقفه من تلك الأفكار والوساوس. وهذا كله يرجع إلى التسليم فأي شبهة، أو فكر، أو خاطر، أو قول يعارض الحق فهو باطل، وهذا المبدأ عصمة للمسلم من كثير من الشرور والشبهات والضلالات. فالتسليم لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، معتصم للمسلم أمام كل باطل وكل مجادل، فلا يعط لعقله الحرية التي تسمى حرية العقل، وليست حرية للعقل؛ بل عبودية للشيطان، وخروج عن عبودية الله، فليكن هذا الأصل على بالك، فكل ما يخالف الحق الذي جاء عن الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو باطل من الوهلة الأولى، وليس بلازم أن يكون الإنسان عنده القدرة على تزييف تلك الشبهة، المهم أن الحق عنده ثابت، فما يُدعى أن هذا يعارضه فهو مردود مدفوع، فاعتصم بالحق واثبت عليه واطرح كل ما خالفه. ¬

(¬1) رواه أحمد 1/ 235ـ واللفظ له ـ، وأبو داود (5112)، وصححه ابن حبان (147) من حديث ابن عباس - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (132) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وأحببت أن أؤكد على هذا فإنه ينفع المسلم ويريح باله عند ورود الشبهات على قلبه، (¬1) فقد انفتح على الناس أبواب شر في هذا العصر ممثلة في وسائل الإعلام، وفي الشبكة العنكبوتية، فهي وسائل عظيمة الأثر في الخير والشر؛ ولكن أكثر ما تستعمل في الشر؛ لأن أكثر الناس على غير هدى، فكن على حذر مما يطرح في هذه الوسائل، فقد أصبح الناس في فتنة مدلهمة، فكل يستطيع أن يتكلم بما يريد، الملحد والمبتدع والذي ينتسب للسنة فإن من المنتسبين للسنة من تسربت إليه أفكار وتوجهات فيحملها ويحمل لواءها، فيصير ـ والعياذ بالله ـ داعي فتنة، سواء مما يتعلق بالاعتقادات أو بالسلوكيات. وقوله رحمه الله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان). هذا بيان لأثر عدم التسليم، (من رام) يعني: طلب (ما حظر عنه علمه) يعني: حجب عنه ومنع من علمه، (ولم يقنع بالتسليم) فهو كثير الاعتراض والسؤال، فيقول: ـ مثلا ـ لم خلق الله الحشرات؟ لم خلق الله هذه المؤذيات؟ لم خلق الله الناس هذا دميم، وهذا قصير؟ لم أضل من أضل من الخلق؟ لم أغنى هذا وأفقر هذا؟ في تساؤلات عن حِكِم الله في تقديراته، ففي نفسه اعتراضات! ومن الأشياء التي تجري على بعض الألسن ـ وهي نابعة من عدم التسليم ـ: (فلان والله ما يستحق أنه يبتلى بهذه الأمراض والأوجاع والمصائب أو يبتلى بالفقر) هذا اعتراض على تدبير أحكم الحاكمين. وقوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم) فيريد أن يفهم كل شيء، وهذا لا يمكن؛ لأن عقل الإنسان له حد، فلا يمكن أن يعرف أسرار الوجود، وتفاصيل حِكِم الله في أقداره، وإن لم يسلم لله؛ ¬

(¬1) الإيمان الكبير 7/ 282، ومفتاح دار السعادة 1/ 140.

(حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان) هذه هي النتيجة، (حجبه مرامه) أي: منعه طلبه وتكلفه، معرفة ما هو محجوب عنه، عن خالص التوحيد وصحيح الإيمان، فالتكلف وطلب ما لا سبيل إلى معرفته ينافي تحقيق التوحيد، فتحقيق التوحيد يقتضي التسليم؛ لأن التسليم والاستسلام لله هو موجب التوحيد والإيمان الصحيح والمعرفة الحقة، قال تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولَاً)) [الإسراء: 36]، ((وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 169] ومما يأمر به الشيطانُ أن يقول الإنسان على الله ما لا يعلم.

[سوء عاقبة من لم يسلم لخبر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -]

[سوء عاقبة من لم يسلم لخبر الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -] وقوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوسا تائها، شاكا زائغا). من (لم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه ... ) فيبقى متذبذبا مترددا كحال المنافق ((مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ)) [النساء: 143] بين المؤمنين والكفار ((لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ)) [النساء: 143] فبسبب عدم التسليم والانقياد لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يبقى مترددا. وقوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان) إما أنه يقع في الكفر الأعظم فِعلا فيصير مرتدا ثم يرجع، وهذا يحصل تارة ظاهرا، كما قال الله: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرَاً)) [النساء: 137]. ويحصل تارة داخل القلب فقط، فلا يتبين أمره، وقد يرجع إلى الإيمان، وقد لا يرجع ـ والعياذ بالله ـ، وقد يتردد ويكون عنده حالة من الحرج والضيق فيما جاء وحكم به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا قال سبحانه: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ)) [النساء: 65]. وقوله: (والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار) هذه الكلمات متقاربة، فالكفر يكون بالتكذيب والإنكار، والإيمان يكون بالتصديق والإقرار، فهذا تنويع في التعبير، وإن كانت الألفاظ مختلفة المعاني لكنها متلازمة.

وقوله: (موسوسا تائها) فيبقى متذبذبا بين هذه الأضداد (موسوسا تائها) فالوساوس التي يلقيها الوسواس الخناس تجعله في حيرة، فما يخطر بالبال من شبهات وأفكار تعارض الحق كلها من إلقاء الشيطان، فهو مسلط على الإنسان، والإنسان مبتلى بالشيطان، هو عدو خفي، والله سبحانه وتعالى أقدره على أن يوسوس للإنسان، والقلب بين حالتين: بين لَمَّةِ الملك، ولَمَّةِ الشيطان؛ فلمة الملك لقلب المؤمن المسلم، أما الكافر فقد أحاط الشيطان به، وليس للملك فيه لمة، «فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق»، (¬1) فالشيطان يوسوس، فيبقى هذا المتكلف الذي لم يوفق للتسليم متذبذبا موسوسا، فقلبه في هذه الوساوس فتجعله في تردد، كما قال سبحانه في المنافقين: ((فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ)) [التوبة: 45] فهو يتقلب، فتارة يكون مؤمنا، وتارة كافرا، وتارة حائرا. وقوله: (شاكا زائغا) أي: مترددا تائها، زائغا منحرفا، قال تعالى: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)) [الصف: 5] ((وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ)) [التوبة: 127] فهذه آثار عدم التسليم، وعكس ذلك من كان مُسَلِّما لله عز وجل، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - قد قام دينه على التسليم، فأصبح ثابت القلب ليس عنده تردد ولا تذبذب ولا حيرة ولا قلق، بل هو يسير على صراط واضح مستقيم، يمشي بنور من الله، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ¬

(¬1) رواه الترمذي (2988)، والبزار (2027)، والنسائي في الكبرى (11051)، وابن حبان (997) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، ورجح الأئمة وقفه، انظر: علل الترمذي الكبير (654)، والعلل لابن أبي حاتم (2224)، ومصادر التخريج.

آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورَاً تَمْشُونَ بِهِ)) [الحديد: 28] فالمؤمن الصحيح التوحيد يمشي في هذه الحياة بنور الحق، فيعرف مواقع أقدامه، والطريق الذي يسير عليه ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمَاً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ)) [الأنعام: 153] لكن هذا المتذبذب لا يدري أين طريق النجاة، فهو متذبذب متردد بين التصديق والتكذيب والإقرار والإنكار فهو في حيرة دائمة؛ لأن الشك والحيرة عذاب، أما المؤمن فقلبه في نعيم، وكلامنا هذا في إنسان ينتمي للإسلام، أما الكافر فهو غارق في بحر الضلال والكفر، فليس عنده تفكير، وتردد بين حق وباطل وإقرار وإنكار وإيمان وكفر؛ بل عنده كفر خالص وإنكار دائم تام؛ لكن هذا الذي ينتمي للدين، ويدعي الإيمان، ولكنه لم يكن مستقيما مسلما مستسلما، فهذا الذي يحصل له ما يحصل من الاضطراب والقلق، فإما أن يعصمه الله ويثبته ويوفقه؛ فيثبت على الإيمان وينجو من هذه الوساوس والشكوك، وإما أن يقوى في قلبه سلطان الباطل؛ فيصير إلى الكفر دائما ولا يكون عنده تردد. وقوله: (لا مؤمنا مصدقا ولا جاحدا مكذبا، ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم، إذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ـ بترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين). هذا كأنه كلام معترض من قوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه ... ) واسترسل في هذه الكلمات في التأكيد والحث على التسليم والاستسلام والتحذير من ضد ذلك، وبيان الآثار المترتبة على عدم التسليم والاستسلام، فكل هذا الكلام معترض في ثنايا كلامه في تقرير رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وبَيَّن أن من أثبت الرؤية على خلاف ظاهر النصوص، أو تخيل كيفيتها بوهم، أو تأولها بفهم، كما صنع المعطلة نفاة الرؤية، فلا يصح إيمانه برؤية المؤمنين لربهم.

وقوله: (إذ كان تأويل الرؤية ـ وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ـ بترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين). فالصراط المستقيم والمنهج القويم: بترك التأويل الذي معناه: صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره، أو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى احتمال مرجوح. فتأويل الرؤية يعني: تفسيرها، وتفسير كل معنى يضاف إلى الرب من صفاته سبحانه وتعالى بترك التفسير، ومثل هذه العبارة توهم ـ أيضا ـ التفويض، كقول السلف: «أمروها كما جاءت بلا كيف»، فتفسيرها بترك تفسيرها، وهذا لا يقصده السلف، فإنه قد علم أن أهل السنة يثبتون حقيقة الرؤية، وأنها رؤية بصرية، ويصرحون بذلك، ويثبتون لله الصفات بالمعاني المعقولة المفهومة من النصوص، فإذا جاءت مثل هذه العبارات فلا بد أن نفهمها على وجهها الصحيح، أمروها كما جاءت: أجروها على ظاهرها، مثبتين لما دلت على ثبوته، بلا بحث عن الكيفية، ولا تحديد لِكُنْهِ تلك الصفات، وليس المقصود: أمروها ألفاظا من غير فهم للمعنى! هذا باطل؛ لأن معناه أننا ما أثبتنا شيئا. فتفسيرها أن نجريها على ظاهرها بترك صرفها عن ظاهرها، بترك التأويل في اصطلاح المتأخرين، ونجد في كلام بعض الأئمة مثل نحو هذه الكلمة: الواجب في هذه النصوص عدم تأويلها، أو إجراؤها على ظاهرها بترك التأويل. وتركُ التأويل ليس تركَ التفسير مطلقا، فيكون كلاما لا يفهم معناه؛ لأن الكلام الذي لا يفهم معناه لا فائدة منه، تعالى الله عما يقول الجاهلون والظالمون علوا كبيرا. المقصود: أن عبارة الطحاوي من جنس عبارات بعض السلف التي توهم أنه يقرر التفويض وليس كذلك، إذ كيف يقول: (الرؤية حق لأهل الجنة) إذا كانت الرؤية لا تفسر ولا تفهم، فلا معنى لقوله: (حق). فمن يقول: إن الله خاطب عباده بما لا يفهم منه شيء لا يجوز أن

يتكلم في النصوص بأنها تدل على كذا، أو لا تدل على كذا، كما أوضح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في آخر القاعدة الخامسة من الرسالة التدمرية، يقول: (وهؤلاء) يعني: أهل التفويض (قد يظنون أنا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يفهم منه شيء، وهذا مع أنه باطل فهو متناقض) إلى آخره. (¬1) ¬

(¬1) التدمرية ص 329.

[مذهب أهل السنة في إثبات الصفات وسط بين المعطلة والمشبهة]

[مذهب أهل السنة في إثبات الصفات وسط بين المعطلة والمشبهة] وقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه) الناس في باب الأسماء والصفات ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: المعطلة نفاة الأسماء والصفات: الجهمية ورأسهم الجهم بن صفوان ومن تبعه، والمعتزلة ومن وافقهم. والطائفة الثانية: المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه. فهما طائفتان متقابلتان على طرفي نقيض، المعطلة يزعمون أنهم بنفيهم للصفات يقصدون تنزيه الله عن مشابهة المخلوقات، فأظهروا الباطل بصورة من الحق، فأفرطوا في التنزيه، وتجاوزوا الحدود حتى وقعوا في الإلحاد والضلال البعيد. والمشبهة أثبتوا لله الصفات لكنهم شبهوه بخلقه، يقول قائلهم: له سمع كسمعنا وبصر كبصرنا، فأفرطوا في الإثبات حتى شبهوا الله بخلقه. وكلتا الطائفتين زائغتان عن الصراط المستقيم. والطائفة الثالثة: أهل الصراط المستقيم ـ أهل السنة والجماعة ـ الذين آمنوا بكل ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر به عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم - من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل، فمذهبهم بريء من التحريف والتعطيل، والتكييف والتمثيل، ولهذا قال نعيم بن حماد ـ رحمه الله ـ ذلك الأثر الجليل: (من شبه الله بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه كفر،

وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه) (¬1) ليس إثبات الصفات من التشبيه في شيء؛ بل إثبات الصفات هو التوحيد. وقوله: (ومن لم يتوق) يجتنب ويحذر (من النفي) نفي الأسماء والصفات، وهو التعطيل، (والتشبيه) من لم يجتنب ويحذر هذين المذهبين الباطلين (زل) زلت قدمه عن الصراط المستقيم (ولم يصب التنزيه) يعني: المعطلة زعموا أنهم ينزهون الله، وما نزهوا الله؛ بل تنقصوه تعالى أعظم تنقص، والمشبهة الذين قالوا: إن الله له سمع كسمعنا، هؤلاء وإن كان مذهبهم باطلا؛ فإنهم خير من المعطلة النفاة، ولهذا قال بعض أهل العلم: (إن المعطل يعبد عدما، والمشبه يعبد صنما) (¬2)؛ لأن نفي الأسماء والصفات يستلزم نفي الذات، فكلهم مبطلون؛ لكن الذي يعبد موجودا أعقل من الذي يعبد معدوما. وقوله: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية). المصنف ـ رحمه الله ـ يتحرى السجع؛ لأنه يروق للسامع، فهو من جنس الشعر (فإن ربنا موصوف بصفات الوحدانية) هذه الكلمات فيها تنويع في التعبير، وتحسينات لفظية مترادفة تقريبا، والوحدانية نسبة للواحد بزيادة (نون). وقوله: (منعوت بنعوت الفردانية) نسبة للفرد، (ليس في معناه أحد من البرية) ليس له مِثلٌ من خلقه، فالجمل الثلاث مدلولها واحد، وتتضمن أمرين: إثبات أنه الواحد. ¬

(¬1) تقدم في ص 110. (¬2) مجموع الفتاوى5/ 261.

ونفي الشريك والمثيل عنه سبحانه وتعالى؛ فهو الواحد الذي لا نظير له ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوَاً أَحَدٌ)) [الإخلاص: 4]. واسم (الواحد) ثابت في القرآن {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65] وهو الأحد ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الإخلاص: 1].

[الواجب في الألفاظ المحدثة في صفاته تعالى]

[الواجب في الألفاظ المحدثة في صفاته تعالى] وقوله: (وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات). كلمة (تعالى) تفيد التنزيه، وجاءت في القرآن في مواضع: ((سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى)) [الأنعام: 100]، ((تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 63]، وهي من جنس ((سُبْحَانَهُ)) و ((تَبَارَكَ)) [الأعراف: 54] فكلها ألفاظ تفيد التنزيه. (تعالى) تنزه وتقدس، وهذه الألفاظ التي استعملها الإمام الطحاوي ـ عفا الله عنا وعنه ـ لم ترد في كتاب ولا سنة، فليس في شيء من النصوص هذا النوع من النفي، فليته لم يأت بهذه العبارات التي هي من جنس عبارات أهل البدع؛ فإنهم يأتون بألفاظ محدثة ومجملة، والقاعدة في الألفاظ المحدثة المجملة: التوقف عن الحكم على قائلها أو عليها إلا بعد الاستفصال؛ فإن أراد منها حقًا قبلنا ما أراد، وإن أراد باطلا؛ رددنا الباطل، وإن أراد حقا وباطلا؛ وقفنا اللفظ، وقبلنا الحق، ورددنا الباطل. (¬1) وهذا الموقف هو موقف العدل والإنصاف، فإن الموافقة على مثل ذلك يؤدي إلى الوقوع في الباطل وموافقة المبطل، والمبادرة بالرد يؤدي ¬

(¬1) التدمرية ص 204، ومجموع الفتاوى 3/ 347، و 5/ 305، و 12/ 114، ومنهاج السنة 2/ 217 و 554، ودرء تعارض العقل 1/ 76 و 238.

إلى رد الحق؛ لأن المتكلم بذلك قد يريد حقا، فكان التوقف والاستفصال فيه مخرج من التورط برد الحق، أو الموافقة على الباطل، هذه قاعدة مقررة معروفة، وهي منهج من مناهج الجدل والمناظرة. ونأتي لهذه الكلمات: (تعالى عن الحدود) هذا لفظ مجمل، والحد يطلق ويراد به تحديد الماهية، مثل الحد عند المناطقة، أي: التعريف الذي يتضمن تحديد كنه الشيء وماهيته؛ فإن أريد هذا فهو ممتنع، إذ لا سبيل إلى تحديد الرب تعالى وذكر حقيقته، فتعالى عن أن يحده الحادون، وأن يصلوا إلى معرفة كنهه وحقيقته، قال شيخ الإسلام: «أهل العقول هم أعجز عن أن يحدوه أو يكيفوه منهم عن أن يحدوا الروح أو يكيفوها» (¬1)، فهذا المعنى حق، تعالى الله عن أن يدرك أحد حقيقة ذاته أو حقيقة صفاته. ويأتي لفظ (الحد) ويراد به أنه سبحانه وتعالى ليس ساريا في العالم حالا في المخلوقات؛ بل هو فوق سماواته، وهذا المعنى جاء عن الإمام ابن المبارك، لما قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: «بأنه فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه. قيل: بحد؟ قال: بحد» (¬2) وقوله: (والغايات) الغاية تطلق ويراد بها النهاية، وتطلق ويراد بها المقصود من الفعل، أي: الحكمة منه، فإذا أريد أن الله تعالى منزه عن أن تكون له غايات في أفعاله؛ فهذا باطل؛ لأن الله له الحكمة البالغة في خلقه وفي شرعه، يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في التدمرية (¬3): «والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته ـ وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة ـ تدل على حكمته البالغة». ¬

(¬1) التدمرية ص 179. (¬2) نقض عثمان بن سعيد ص 57 والرد على الجهمية ص 48، والسنة لعبد الله بن أحمد 1/ 174، والإبانة 3/ 158، وانظر: بيان تلبيس الجهمية3/ 42. (¬3) ص 123.

ومن العلل والحكم ما علمناه بالنص عليه في الكتاب أو السنة، ومنها ما يُهتدى إليه بالتدبُّر والتفكر، ومنها ما طوى الله علمه عن عباده؛ فالعباد لا يحيطون بحكمته تعالى. (¬1) وكذلك إذا أريد بنفي الغايات: نفي أن يكون الله في السماء فوق العرش؛ وأنه في كل مكان، كقول الجهمية الحلولية. فنفي الغايات من النفي المحدث لمعان أو ألفاظ مجملة. وقوله: (والأركان والأعضاء والأدوات) لا حول ولا قوة إلا بالله! عفا الله عن المؤلف وغفر الله لنا وله! ماذا يريد بالأركان والأعضاء والأدوات؟! لقد كان في غنى عن هذا الكلام، أين الآية أو الحديث الذي فيه هذا الألفاظ؟ الأركان: الجوانب، والأعضاء التي في الإنسان والحيوان هي أجزاؤه التي يمكن أن تتبعض والمخلوق يتبعض، فالإنسان يتجزأ، وأجزاؤه يقال لها: أعضاء؛ لأنه يمكن انفصالها. فنفي الأعضاء بمعنى تعالى أنه منزه عن التجزؤ، حق فالله منزه عن التجزؤ، فهو تعالى أحد صمد؛ لكن هذا التعبير المحدَث يمكن أن يفهم منه المبطل نفي بعض الصفات؛ لأن قوله: (والأعضاء) يحتمل نفي بعض الصفات الذاتية كالوجه والعينين واليدين، فيقول المبطل: هذه أعضاء، فننفي الأعضاء، وهذا باطل، ونرجو أن المؤلف لم يرد هذا، وإنما أراد نفي ما يحصل ما به مماثلة المخلوق للخالق، لاسيما أنه قال: (موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية) فهو في مقام تنزيه الله عن مماثلة المخلوقات. ¬

(¬1) وانظر: ص 80 عند قوله: وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله.

وقوله: (لا تحويه الجهات الست). الجهات الست: فوق وتحت، وأمام وخلف، ويمين وشمال. والمبدعات: المخلوقات. وهذه ـ أيضا ـ من الألفاظ المجملة؛ فنفي الجهة عن الله لفظ مجمل مبتدع، ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة - صلى الله عليه وسلم -؛ أن الله ليس في جهة؛ بل النصوص مصرحة بأنه تعالى فوق: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)) [الأنعام: 18] ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) [الملك: 16] فهو سبحانه في العلو، ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه: 5] والعرش فوق المخلوقات، والله فوق العرش. قال شيخ الإسلام رحمه الله: «لفظ الجهة قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقًا، كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السماوات. وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما إذا أريد بالجهة ما فوق العالم». (¬1) فإذا أُريد بالجهة ما وراء العالم فالنافي للجهة مبطل، إذ ليس وراء العالم شيء مخلوق؛ بل وليس وراء العالم شيء موجود إلا الله تعالى. وإذا أريد بالجهة شيء مخلوق، مثل أن يراد بالجهة نفس السماء أو العرش، وأن الرب سبحانه حال في ذلك؛ فالنافي لهذا محق والمثبت له مبطل. فإذا أريد بكلمة (الجهات) أشياء موجودة مخلوقة؛ فالله منزه من أن يحيط به شيء من المخلوقات؛ بل هو تعالى أعظم وأكبر من أن يحيط به شيء من المخلوقات؛ لأنه تعالى العظيم الذي لا أعظم منه فهو الذي ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ)) [البقرة: 255]، وهو الذي ((يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا)) [فاطر: 41] {والْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ¬

(¬1) التدمرية ص 205، وانظر: منهاج السنة 2/ 321 و 558 و 648، وبيان تلبيس الجهمية 3/ 305، ودرء تعارض العقل 5/ 58 و 7/ 15.

وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] لا يحيط به شيء من الجهات؛ لكنه في العلو فوق جميع المخلوقات، بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في المخلوقات شيء من ذاته. وقد وقف الشارح ابن أبي العز ـ رحمه الله ـ في هذا الموضع (¬1)، وتكلم على هذه الألفاظ، فجزاه الله خيرا على ما فعل، وقد أحسن كثيرا بهذا الشرح، الذي لزم فيه منهج أهل السنة. ¬

(¬1) ص 260.

[مذهب أهل السنة والجماعة في الإسراء والمعراج]

[مذهب أهل السنة والجماعة في الإسراء والمعراج] وقوله: (والمعراج حق، وقد أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعُرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى، (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) [النجم: 11]، فـ - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة والأولى). الإمام الطحاوي ـ رحمه الله ـ في هذا المؤلَف المختصر في مسائل الاعتقاد لم يلتزم بالتنسيق بين المسائل، وضم كل نوع إلى ما يناسبه؛ بل نوَّع؛ فتارة يذكر المسائل المتعلقة بالتوحيد وبأسماء الله وصفاته، والمسائل التي تخص الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومسائل أخرى كثيرة تتصل بالقدر، والملائكة ... ، فتجده يتنقل؛ فمثلا: قال هنا: (والمعراج حق، وقد أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم -) فالإسراء والمعراج مما يتصل بخصائص نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فَصَلَه المؤلف عما تقدم من كلامه (¬1) في رسالة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما ذكره من بعض خصائصه. وأصل كلمة (مِعْرَاج) في اللغة: آلة العروج (¬2)، والعروج: الصعود، فتقول: عرج إلى السطح وإلى الجبل وإلى السماء، أي: صعد، قال تعالى: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ)) [المعارج: 4] وفي الحديث: (ثم يعرج الذين باتوا فيكم) (¬3) وليس المراد هو إثبات الآلة أو الوسيلة التي ¬

(¬1) ص 84. (¬2) في القاموس ص 253: المِعْراجُ: السُلَّم والمَصْعَد. (¬3) رواه البخاري (555)، ومسلم (632) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

عرج بها النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ بل إثبات عروج النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى السماوات، وإلى حيث شاء الله من العلا، فكأن المصنف يقول: وعروج نبينا - صلى الله عليه وسلم - إلى ما شاء الله حق؛ لكن صار لفظ (الِمعراج) عَلَم على هذا الأمر. وقد أشار الله إلى العروج بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في القرآن في سورة النجم: ((مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)) [النجم11 - 14] وقد ثبت في الصحيح: (أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى جبريل على صورته التي خُلِق عليها له ستمائة جناح، مرتين) (¬1) والمراد بالإسراء هو: الذهاب بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، قال الله تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ)) [الإسراء: 1] وقد جاء ذِكرُ صفات المِعْراج في أحاديث؛ لكن الغالب أنها ليست من الأحاديث المعتمدة، لكن الإسراء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والعروج به إلى السماوات هذا أمر معلوم، ومجمع عليه بين أهل السنة، ودلت عليه الأحاديث الصحاح المتواترة (¬2). وقد اختلف الناس في حقيقة الإسراء والمعراج ـ مع الاتفاق على ثبوتهما ـ على أي وجه وقع؟ والحق أنه قد أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بروحه وبدنه، وعرج به إلى حيث شاء الله من العلا يقظة لا مناما، ولهذا نص المؤلف على ذلك بقوله: (وقد أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وعُرج بشخصه في اليقظة) وهذا هو الذي يدل عليه ظاهر الأدلة، قال تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ)) [الإسراء: 1] والعبد اسم للروح والبدن. ¬

(¬1) البخاري (4855)، ومسلم (177). (¬2) نظم المتناثر ص 219، وانظر: تفسير ابن كثير 5/ 6 فقد ساق روايات كثيرة جدا.

وتصدير هذه الآية بالتسبيح دال على عظم الأمر، والإسراء كان بروحه وبدنه يقظة لا مناما؛ فإن الذهاب والانتقال في النوم أمر ليس بمستغرب ولا مستنكر، فهو يحدث لسائر الناس. ومما يؤكد هذه الحقيقة ما جاء في الحديث الصحيح أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أخبر قريشا استعظموا ذلك وكذبوه، وسألوه عن أشياء من بيت المقدس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطّ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ» (¬1) فهذا كله يؤكد أن الإسراء كان بروحه وبدنه يقظة لا مناما. وكذلك العروج به إلى ما شاء الله من العلا كان بشخصه - صلى الله عليه وسلم - يقظة لا مناما، فهذا هو الأمر الخارق العظيم أن يقطع هذه المسافات ويعود في ليلة. وفي حديث الإسراء والمعراج أمور كثيرة، فيها أن جبريل عليه السلام صعد به واستفتح له السماء، ثم فتح له، فلقي الأنبياء: آدم وعيسى ويحيى ويوسف وإدريس وهارون وموسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وعند كل سماء يستفتح، فكل سماء لها أبواب وحراس من ملائكة الله، وكل ذلك من الغيب، لا نتصوره ولا ندرك حقائقه، فيستفتح جبريل عليه السلام، فيقول له الملك الموكل بباب السماء: من؟ فيقول: جبريل. فيقول: ومن معك؟ فيقول: محمد - صلى الله عليه وسلم -. فيقول: وهل أرسل إليه؟ فيقول: نعم، فيقول: مرحبا ولنِعم المجيء جاء، عند كل سماء يتجاوزها حتى بلغ سدرة المنتهى، وفرض الله عليه الصلوات الخمس. (¬2) وقال بعضهم: إنه كان مناما! واحتجوا برواية شريك بن عبد الله ابن أبي نمر: «واستيقظ وهو في المسجد الحرام» (¬3) ورد ذلك ¬

(¬1) رواه مسلم (172). (¬2) حديث الإسراء روي في الصحيحين في مواضع من رواية عدد من الصحابة منها: البخاري (3207) ومسلم (164) من حديث مالك بن صعصعة - رضي الله عنه -. (¬3) البخاري (7517) من روايته عن أنس - رضي الله عنه -.

المحققون وقالوا: إن هذا وهم من شريك، وقد وهم في هذا الحديث في مواضع عدة. (¬1) وهذا قول باطل ليس بشيء، فلو قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقريش: إني رأيت في المنام، لم يكذبوه؛ لأنه أمر عادي يحصل لآحاد الناس. ونُسب إلى عائشة ومعاوية رضي الله عنهما (¬2) أن الإسراء والمعراج كان بروحه - صلى الله عليه وسلم - دون جسده. وهو رأي عندي غير مقبول، ويَرِدُ عليه ما يرد على القول بأنه كان مناما، فإذا كان جسده باقيا عندهم فلا يكون بينه وبين رؤيا المنام كبير فرق، وما معنى أن جبريل يأتيه بالبراق، ويحمله عليه ويسير به، ويصلي بالأنبياء؟ فهذا القول فيه نظر، وهو خلاف ظاهر الأدلة. ومن اختار هذه الأقوال من العلماء أراد أن يوفق بين الروايات فيقول: إن الإسراء كان مرة يقظة ومرة مناما، ومرة في مكة ومرة في المدينة! وهذا وهنه العلامة ابن القيم، وقال: «هذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوه مرة أخرى، فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع! والصواب الذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة، ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه مرارا، كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلاة خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا، ثم يقول: «أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها عشرا عشرا». (¬3) ¬

(¬1) انظر: صحيح مسلم (162)، وزاد المعاد 3/ 42، وتفسير ابن كثير 5/ 7، وفتح الباري 13/ 485. (¬2) ذكره الطبري في تفسيره 14/ 445 ونقضه، وانظر: زاد المعاد 3/ 40. (¬3) زاد المعاد3/ 42.

فالصواب: أن الإسراء والمعراج حدث مرة واحدة والنبي - صلى الله عليه وسلم - في مكة قبل الهجرة، وفرضت عليه الصلوات الخمس، وقد اتفق أهل العلم: أن الصلوات الخمس قد فرضت عليه وهو في مكة قبل الهجرة، والمشهور أن ذلك قبل الهجرة بثلاث سنوات، وقيل: بأقل، وقيل: بأكثر. (¬1) وفي قصة الإسراء والمعراج الدلالة على عظم شأن الصلاة حيث فرضت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة وفرضت عليه وهو في أعلى المقامات فوق السماوات. وفي قصة الإسراء والمعراج دلالة على علو الله تعالى على خلقه، فإنه عرج به إلى ربه، كما قال تعالى: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ)) [المعارج: 4] الملائكة والأرواح تعرج إلى الله؛ لأنه في العلو. وفيها إثبات صفة الكلام والتكليم لله تعالى، وتكليمه لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - بلا واسطة. وفي ذلك فضيلة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - حيث أكرمه الله ورفعه على سائر النبيين والمرسلين، حتى تجاوز كل الأنبياء، حتى إبراهيم عليه السلام لقيه في السماء السابعة وتجاوز إلى مكان فوق ذلك يسمع فيه صريف الأقلام. (¬2) سبحان الله مع هذه الأبعاد العظيمة يتم هذا في ليلة، هذا أمر خارق، ولا تقل: كيف؟ الآن أتَى الله للناس بشيء ما كان يخطر ببالهم، هذا الصوت الآن في أقصى الدنيا، يقول لك: السلام عليكم، فتقول: وعليكم السلام، فتسمعه وترد عليه، والذين يصعدون في المراكب الفضائية أيضًا مع البعد العظيم الذي تنتهي إليه تلك المراكب، يتكلمون مع من يكلمهم ¬

(¬1) التمهيد 8/ 48. (¬2) رواه البخاري (349)، ومسلم (163) من حديث ابن عباس وأبي حَبَّة الأنصاري رضي الله عنهما.

في الأرض، ويصل الصوت في نفس الوقت، فهذا مثال أصغر للحدث العظيم حدث الإسراء والمعراج، سبحان الله! هذه أمثلة وآيات لعلها تدخل في عموم: ((سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)) [فصلت: 53]. وأي أمر تستعظمه مما أخبرت به الرسل فرده إلى كمال القدرة يسهل عليك جدًا، ((إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [البقرة: 20] ومتى استبعد الإنسانُ شيئًا من ذلك، فذلك لنقص إيمانه بكمال قدرة الرب تعالى وتقدس، ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمَاً قَدِيرَاً)) [فاطر: 44]

[إثبات حوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -]

[إثبات حوض نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -] وقوله: (والحوض الذي أكرمه الله تعالى به ـ غياثًا لأمته ـ حق) تواترت السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخبر عن حوضه (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: (إنكم ستلقون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض) (¬2) وأخبر عن ورود أمته عليه وهو على حوضه، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إني فَرَطُكم على الحوض ـ أي: سابقكم ـ وإنه سَيَرِدُ عليَّ أقوام من أمتي فيذادون عن حوضي فأقول: (إنهم مني فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غَيَّر بعدي) (¬3) فيجب الإيمان بما دلت عليه الأخبار من حوضه - صلى الله عليه وسلم -، وأن طوله شهر وعرضه شهر (¬4)، وآنيته عدد نجوم السماء، وماؤه أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل. (¬5) والحوض في عرصات القيامة، قبل دخول الجنة، يرد عليه ¬

(¬1) قطف الأزهار المتناثرة ص 297، ونظم المتناثر ص 248، وانظر: البداية والنهاية لابن كثير 19/ 423 - 466 فقد أطال في سرد أحاديث الحوض. (¬2) رواه البخاري (4330)، ومسلم (1061) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (6583 و 6584)، ومسلم (2290 و 2291) من حديث سهل بن سعد وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم. (¬4) رواه البخاري (6579) مسلم (2292) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. (¬5) رواه البخاري (6579)، ومسلم (2292) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ومسلم (247) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - و (2300) من حديث أبي ذر - رضي الله عنه -، و (2301) من حديث ثوبان - رضي الله عنه -.

المستمسكون بسنته - صلى الله عليه وسلم -، فمن شرب منه لم يظمأ بعدها أبدا (¬1)؛ لأنه يصير إلى الجنة، وعنده أنهارها: ((وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى)) [طه: 119] فليس فيها ظمأ ولا جوع؛ لأن كل مطالب النفوس موجودة، ((يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ)) [الزخرف: 71]، {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [محمد: 15] ((تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ)) [الأعراف: 43] في آيات كثيرة. ومما جاء في أحاديث الحوض أنه: «يشخب فيه ميزابان من الجنة» (¬2) ميزابان يصبان فيه ـ الله أعلم بقدرهما وصفتهما ـ من نهر الكوثر الذي أعطاه الله وأكرمه به ((إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)) [الكوثر: 1] والمعتمد في تفسيره: أنه نهر في الجنة أكرمه الله به، ففي حديث أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم». (¬3) فيجب الإيمان بما دلت عليه هذه الأخبار، وأهل السنة والجماعة يؤمنون بذلك، ولهذا قال الطحاوي: (والحوض الذي أكرمه الله تعالى به ـ غياثًا لأمته ـ حق). وورد في حديث رواه الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن لكل نبي حوضا) (¬4)؛ ولكن أعظمها حوض نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن المؤمنين من أمته - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) نفس تخريج حديث سهل وأبي سعيد السابق. (¬2) رواه مسلم (2300) عن أبي ذر - رضي الله عنه -، و (2301) عن ثوبان - رضي الله عنه -. (¬3) رواه مسلم (400) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬4) الترمذي (2443)، وقال: حديث غريب، وقد روى الأشعث بن عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا، ولم يذكر فيه عن سمرة، وهو أصح، وانظر: فتح الباري 11/ 467، والسلسلة الصحيحة (1589).

هم أضعاف أضعاف المؤمنين من سائر الأمم، فكثرة أتباعه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين به يقتضي أن يكون حوضه أعظم الموارد. وتكلم بعض العلماء في شأن ترتيب الحوض مع بعض أمور القيامة، هل يكون قبل الميزان أو بعده؟ وهل هو قبل الصراط أو بعده؟ والشارح ابن أبي العز (¬1) نقل عن القرطبي (¬2): أنه قبل الميزان، وعلل هذا بأن الناس يبعثون من قبورهم عطاشا، فيقدم قبل الميزان والصراط. وهذا لا يكفي دليلا، وما الدليل على أن المؤمنين الذين هم أهل الورود يبعثون عطاشا؟! فهذه المسألة يجب الإمساك عن الكلام فيها، فلا نقول: قبل ولا بعد، فالله أعلم، هذه أمور غيبية، ولا يجزم بشيء منها إلا بحجة وبرهان. وأما كونه قبل الصراط أو بعد الصراط فهذا فيه تأمل، واستدل من قال: إنه قبل الصراط: بأنه ثبت أنه يَرِد عليه من يذاد عنه ممن استوجب العذاب، وهؤلاء لا يجاوزون الصراط. واختار ابن القيم: بعد أن حكى القولين أنه لا يمتنع أن يكون قبل الصراط وبعده، فإن طوله شهر وعرضه شهر، فإذا كان بهذا الطول والسعة، فما الذي يحيل امتداده إلى ما وراء الصراط، فيردونه قبل وبعد. (¬3) والأمر محتَمل. والله أعلم. ¬

(¬1) ص 282. (¬2) التذكرة 2/ 702. (¬3) زاد المعاد 3/ 683.

[إثبات شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وذكر الشفاعة الخاصة به]

[إثبات شفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وذكر الشفاعة الخاصة به] وقوله: (والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار). أي: الشفاعة التي ادخرها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأمته يوم القيامة، كما صح بذلك الحديث فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة ـ إن شاء الله ـ من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا) (¬1) فهذه الشفاعة في أهل الكبائر، وهي إحدى شفاعات نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن له - صلى الله عليه وسلم - عدة شفاعات: أولها وأعظمها: شفاعته في أهل الموقف أن يقضى بينهم، وهي المقام المحمود الذي خصه الله به في قوله: ((عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامَاً مَحْمُودَاً)) [الإسراء: 79]، وجاء في الحديث في الدعاء بعد الأذان: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلةَ والفضيلةَ، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدتَه، حَلَّت له شفاعتي يوم القيامة}. (¬2) وقد تواترت الأحاديث (¬3) في ذكر استشفاع الناس بآدم وأولي العزم من الرسل أن يشفعوا لهم عند الله أن يريحهم مما هم فيه من الكرب والشدة وأهوال الموقف. ¬

(¬1) رواه البخاري (6304)، مسلم (199) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (614) من حديث جابر - رضي الله عنه -. (¬3) قطف الأزهار المتناثرة ص 303، ونظم المتناثر ص 245.

وهذه الشفاعة لا ينكرها أحد من أهل البدع؛ لأنها لا تناقض شيئا من أصولهم. والثانية: شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، فبعدما يجوزون الصراط يوقفون على قنطرة بين الجنة والنار فإذا هُذِّبُوا ونُقُّوا أذن لهم بدخول الجنة (¬1)، ثم إنهم لا يدخلون إلا بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وهاتان الشفاعتان خاصتان به - صلى الله عليه وسلم -. والثالثة: شفاعته - صلى الله عليه وسلم - فيمن دخل النار من عصاة الموحدين أن يخرج منها، وهذا جاء صريحا في الأحاديث، وأنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع أربع مرات وفي كل مرة: (يسجد - صلى الله عليه وسلم - لربه ويدعو ويستشفع فيقال له: ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، ثم أشفع: فيَحُدُّ لي حدًا فأخرجهم من النار}. (¬3) وتواترت الأحاديث (¬4) بأنه يخرج من النار بهذه الشفاعات من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال خردلة، أو شعيرة، أو بُرَّة أو ذرة من إيمان، وأنهم يخرجون من النار وقد صاروا حُمَمًا ـ أي: مثل الفحم ـ فَيُلْقَون في نهر بأفواه الجنة يقال له: نهر الحياة، فَيَنْبُتُون كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل. (¬5) وهذه الشفاعة في أهل التوحيد لا تختص بالرسول - صلى الله عليه وسلم - لكن له من ذلك النصيب الأكبر والأعظم، فمن يخرج بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - أكثر ممن يخرج بشفاعة غيره، وإلا فإنه تشفع الملائكة، ويشفع النبيون، ويشفع المؤمنون ¬

(¬1) رواه البخاري (2440) من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (195) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، ومعناه (196) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (6565)، ومسلم (193) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬4) الموضع السابق في المتواتر. (¬5) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

كل يشفع حسب ما يحد له، فإنه لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه سبحانه وتعالى. (¬1) وهذه الشفاعة تنكرها الخوارج والمعتزلة (¬2)؛ لأنها تناقض مذهبهم في تخليد أهل الكبائر في النار، فهم يقولون: إن أهل الكبائر مخلدون في النار، ويستحيل أن يخرجوا منها، واستدلوا بمثل قوله تعالى: ((فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)) [المدثر: 48]، ((مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ)) [غافر: 18]. والشفاعة في إخراج عصاة الموحدين هي التي أشار إليها المؤلف؛ لأنها هي محل النزاع بين أهل السنة والخوارج والمعتزلة. والرابعة: شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في تخفيف العذاب عن عمه أبي طالب، فقد سأله عمه العباس - رضي الله عنه - فقال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: (نعم، هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) (¬3) فأبو طالب بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - صار من أهون أهل النار عذابا. وبهذه يُعلم أن الشفاعة التي تذكر لها الشروط هي الشفاعة في خروج أهل التوحيد من النار، وهي متوقفة على شرطين: إِذْنُ الله للشافع، ورضاه عن المشفوع له، وذلك بأن يكون من أهل التوحيد، قال تعالى: ((وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)) [النجم: 26]، ((مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)) [البقرة: 255]، ((وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)) [الأنبياء: 28]، فلا يرد على ذلك شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي طالب؛ فإنها ليست شفاعة في خروجه من النار بل هي شفاعة في تخفيف العذاب عنه. ¬

(¬1) المرجع السابق. (¬2) مجموع الفتاوى 1/ 116واقتضاء الصراط المستقيم 2/ 359. (¬3) رواه البخاري (6208)، ومسلم (209).

[إثبات الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم]

[إثبات الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم] وقوله: (والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق). الميثاق عهد مؤكد، قال الله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) [آل عمران: 187]، ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ)) [آل عمران: 81]، ((وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ)) [المائدة: 12]. الميثاق: العهد الذي أخذه الله على آدم وذريته يوم استخرجهم من ظهره مثل الذر، ثم استنطقهم فقال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)) [الأعراف: 172]، وهذا الميثاق استُدِل له بقوله تعالى: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ)) [الأعراف: 172] الآيات، واستُدِل له بأحاديث عديدة جاءت في المسند والسنن (¬1) وفيها: أن الله تعالى مسح ظهر آدم واستخرج ذريته أمثال الذر، وفي بعضها: أن الله استنطقهم ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ)) فقال: ((أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى)). والأحاديث التي فيها استخراج ذرية آدم من ظهره كثيرة (¬2)، وبعضها ¬

(¬1) أحمد 1/ 44، وأبو داود (4703)، والترمذي (3075)، والنسائي في الكبرى (11190) وابن حبان (6166) والحاكم 1/ 27 من حديث عمر - رضي الله عنه -، ورواه أحمد 1/ 272، والنسائي في الكبرى (11191) والحاكم 1/ 27من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) انظرها وبعض الكلام عليها في: الروح ص 245 وتفسير ابن كثير 3/ 501، والدر المنثور 3/ 598، وانظر: السلسلة الصحيحة (1623).

يشهد لبعض؛ لكن الرواية التي فيها أنه استنطقهم وأشهدهم على أنفسهم فيها مقال لأهل الحديث؛ فمنهم من لا يثبت هذه الرواية كما ذكر الشارح ابن أبي العز (¬1)، وأصح ما ورد في شأن الميثاق الحديث الذي في الصحيحين عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله يقول لأهون أهل النار عذابا: لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت تفتدي به؟ قال: نعم، قال: فقد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشرك). (¬2) الشاهد: (قد سألتك ما هو أهون من هذا وأنت في صلب آدم: أن لا تشرك بي، فأبيت إلا الشرك)، هذا أصح ما استدل به على الميثاق الأول. ومن الناس من لا يثبت هذا الميثاق ويقول: هذا الميثاق لا يذكره أحد من الناس، وليس فيه حجة على أحد. والجواب عن هذا: نعم ليس حجة وحده، ولا يستوجب من خالفه بمجرده العذاب، إنما يستوجب العذاب من جاءته الرسل، وبلَغَتْه دعوة الحق. وأما الآية ففيها نزاع، هل هي في الميثاق الأول الذي أخذه الله على آدم وذريته يوم استخرجهم من ظهره؟ في ذلك رأيان: أكثر المفسرين على أنها في هذا الشأن. ومنهم من يرى أنها في معنى آخر، وأن المراد منها ميثاق الفطرة التي فطر الله عليها عباده. ورجح ذلك ابن القيم بوجوه (¬3)، منها: ¬

(¬1) ص 310. (¬2) البخاري (3334)، ومسلم (2805). (¬3) الروح ص 260.

أن الله تعالى قال: ((وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ)) ولم يقل: من آدم. وقال تعالى: ((مِنْ ظُهُورِهِمْ)) ولم يقل: من ظهره. وقال تعالى: ((ذُرِّيَّتَهُمْ)) ولم يقل: ذريته. والمراد استخراجهم جيلا بعد جيل، من ظهور آبائهم ((وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ)) بما نصبه من الأدلة على ربوبيته سبحانه وإلهيته، وفطر عباده على وحدانيته، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة) (¬1). فالآية في ميثاق الفطرة، ومع ذلك هذا الميثاق لم يجعله الله بمجرده هو الحجة على العباد، نعم هو من جملة الحجج؛ لكن الحجة الكبرى هي: إرسال الرسل، قال تعالى: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولَاً)) [الإسراء: 15] وقال سبحانه: ((رُسُلَاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)) [النساء: 165]، فبالرسل قطع الله المعذرة، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين) (¬2)، فالحجةُ القاطعةُ لحجةِ العباد على ربهم هي: إرسال الرسل، وما هذه المواثيق، وهذه الآيات إلا من حجج الرسل عليهم، ولهذا يحتج الرسل على أممهم فيما أنكروه بما أقروا به، فيحتجون عليهم بإقرارهم بربوبيته تعالى، وأنه خالقهم وخالق السماوات والأرض يحتجون عليهم بهذا الإقرار على وجوب عبادته تعالى وحده دون ما سواه ((اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)) [الأعراف: 59]. ومما تقدم يتبين أن ما ذكر الله هو موجب الدليل، كما في حديث أنس - رضي الله عنه - في الصحيحين (¬3)، وكما دلت عليه الشواهد من الأحاديث ¬

(¬1) رواه البخاري (1358)، ومسلم (2658) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (7416)، ومسلم (1499) من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -. (¬3) تقدم تخريجه ص 159.

الأخرى، فالميثاق الأول حق، ولكن ليس هو الحجة القاطعة للمعذرة على المكلفين، وإنما هو مما يَحْتَجُ به الرسل على أممهم، وذلك بتذكيرهم إياه وإخبارهم به.

[وجوب الإيمان بالقدر بمراتبه الأربع]

[وجوب الإيمان بالقدر بمراتبه الأربع] وقوله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يُزاد في ذلك العدد، ولا يُنقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله). الأصل السادس من أصول الإيمان: الإيمان بالقدر، والإيمان بالقدر يشمل أربعة أصول، وهي التي تسمى مراتب الإيمان بالقدر: الإيمان بعلم الله السابق: وهو الإيمان بأن الله علم بعلمه القديم كل ما يكون، فعَلِمَ العباد وأعمالهم وأحوالهم وطاعاتهم ومعاصيهم بعلمه القديم الأزلي الذي لم يحدث بعد أن لم يكن؛ فإنه تعالى لم يزل عالما بما سيكون. المرتبة الثانية: الإيمان بكتابة المقادير: وهو الإيمان بأن الله قدر مقادير الخلق، وكتب ذلك على وفق ما علم قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عند مسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض) (¬1)، والآيات الدالة على هاتين المرتبتين كثيرة منها: قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70] وقوله: ¬

(¬1) تقدم في ص 71.

{وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] المرتبة الثالثة: الإيمان بعموم مشيئة الله: وهو أنه لا خروج لشيء عن مشيئة الله، فكل ما يجري في الوجود فهو بمشيئة الله، فكل حركة وسكون، وكل تغير بوجود أو عدم أو زيادة أو نقص على أي وجه كل ذلك بمشيئة الله، قال تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] وقوله: {وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاء} [إبراهيم: 27]، وقوله: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} [الإنسان: 30]. والمرتبة الرابعة: الإيمان بعموم خلقه، ومعناه: أن الله خالق كل شيء، فكل موجود فهو مخلوق لله، قال تعالى: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر: 62]، ((ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الأنعام: 102]. هذه أربع مراتب لا بد أن تكون مستقرة في ذهن المسلم، والمؤلف ذكر عبارات كثيرة تتعلق بتقرير الإيمان بالقدر في حدود هذه المراتب المذكورة؛ لكنه نوَّع العبارات وذكر جزئيات وتفصيلات، وفرق الكلام في القدر، فقد تقدم (¬1) قوله: (خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقدارا، وضرب لهم آجالا، ولم يَخْفَ عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم) وذكر المشيئة (¬2) وأن (كل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم)، وهنا ذكر أيضا بعض التفصيلات في إطار مراتب القدر المتقدمة، فقال: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار جملة واحدة فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه)؛ لأنه إذا زاد أو نقص لزم منه تغير علم الله، وأن الله لم يعلم ما سيكون، لا، بل قد فُرغ من الأمر، كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار). (¬3) ¬

(¬1) ص 68. (¬2) ص 77. (¬3) رواه البخاري (1362)، ومسلم (2647) من حديث علي - رضي الله عنه -.

وهذا المعنى الذي ذكره مستمد من النصوص، قال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [الأنفال: 75]، وقال تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [التوبة: 28]، فوَصْفه تعالى بالعلم التام يقتضي أنه سبحانه يعلم ما سيكون تماما من كل الوجوه، يعلم من يدخل الجنة وعددهم ومنازلهم ومراتبهم بعلم مفصل، وليس علما إجماليا. وقوله: (فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه). بل العدة قد انقضت، فعدة البشر قد سبق علم الله وكتابه بها من آدم إلى آخر من يخلقه الله من هذا الجنس البشري. وقوله: (وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه). وكذلك علم أفعالهم: طاعاتهم ومعاصيهم وما ليس بطاعة ولا معصية، قد أحصاه ((وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدَاً)) [الجن: 28]. وقوله: (وكل ميسر لما خلق له). لما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه (ما من نفس إلا وقد علم مكانها من الجنة ومكانها من النار، قال رجل: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة، فييسرون لعمل أهل الشقاوة) (¬1) وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا؛ بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) (¬2) ومعنى ذلك أن الله تعالى يجري الأمور على ما وفق ما سبق به علمه وكتابه، فيُيسير للعبد طريقه ويجعله مهيئا سالكا وهو يسلكه باختياره ومشيئتِه، ولكن مشيئتُه واختياره محكومان بمشيئة الرب ¬

(¬1) تقدم في ص 163. (¬2) رواه مسلم (2650) من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه -.

كما قال تعالى: ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [التكوير: 29]، فإذا أطاع العبد ربه فبتوفيقٍ وتيسيرٍ منه تعالى لعبده، وإذا فعل العبد المعصية فبعدم ذلك التوفيق، وعدمُ هذا التوفيق هو تيسيرٌ لذلك العمل. وهناك سؤال يجري على ألسن بعض الناس يقولون: الإنسان مسير أم مخير؟ وهذا من الألفاظ التي لم ترد في النصوص فلا بد فيها من التفصيل، فمن أراد أنه (مخير) بمعنى أنه له مشيئة واختيار؛ فنعم، وإن أراد أنه مخير أنه يتصرف بمحض مشيئته خارجا عن مشيئة الله وقدرته فهذا باطل، فلا خروج لأحد عن قدرة الله ومشيئته، وكذلك (مسير)؛ فإن أراد بميسر أنه في جميع أموره يتحرك بتدبير الله وتقديره ومشيئته فنعم، وإن أراد أنه مسير لا اختيار له ولا مشيئة؛ بل هو مجبور؛ فهذا باطل. وقوله: (والأعمال بالخواتيم). أي: أن المعتبر في مصير العبد هو ما يختم له به، فقد يعيش الإنسان عمرا طويلا وهو في أعمال الكفر والضلال والعصيان، ثم يدركه ما سبق به الكتاب، فيؤمن ويموت، فيختم له بالإيمان والعمل الصالح كحادثة سحرة فرعون أمضوا حياتهم كلها في عبادة فرعون، وعمل السحر، ولما رأوا الآيات أشرق الإيمان في قلوبهم ((فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ)) [الشعراء: 46 - 48] وقوله تعالى: حكاية عن قول فرعون لهم: ((وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابَاً وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ)) [طه: 71 - 72] تحولوا من الكفر الذي هو من أغلظ الكفر إلى هذه المرتبة من الإيمان، فصاروا إلى كرامة الله فختم لهم بذلك العمل، وشواهد هذا كثيرة.

وكم من كافر يسلم ثم ينضم إلى صف المسلمين فيقاتِل ويُقتَل ولم يعمل قبلها شيئا؛ لكنه آمن بالله ورسوله إيمانا صادقا، وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر يدخلان الجنة، يقاتل هذا في سبيل الله فيقتل، ثم يتوب الله على القاتل فيستشهد) (¬1) وفي حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في الصحيحين: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. قال: فوالله الذي لا إله غيره، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها) (¬2) فالعبرة بالخواتيم، ماذا ينفع من كان دأبه الإحسان إذا تحول وتغير وانقلب من الإحسان إلى العدوان فبعد أن كان محسنا مصلحا صار ظالما مفسدا، فمن كان مؤمنا مدة طويلة، ثم صار كافرا، فكفره يحبط ما قبله. ولهذا من أهم ما يجب أن يهتم به المسلم أمر الخاتمة، فيسأل ربه الثبات أولا؛ لأن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، ومن دعائه النبي - صلى الله عليه وسلم -: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك) (¬3) وهذا يتضمن سؤال حسن الخاتمة، والله تعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ ¬

(¬1) رواه البخاري (2826)، ومسلم (1890) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) في ص 72. (¬3) رواه أحمد 3/ 112، والبخاري في الأدب المفرد (684)، والترمذي (2140) ـ وقال: حسن ـ وصححه الحاكم 1/ 526 والضياء في المختارة 6/ 211 من حديث أنس - رضي الله عنه - وروي من حديث غيره من الصحابة.

إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران: 102] أي: استقيموا على الإسلام حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك، ((وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) [الحجر: 99] ومن دعاء الصالحين: سؤال الوفاة على الإسلام كما قال السحرة: ((رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرَاً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)) [الأعراف: 126]، ويوسف عليه السلام يقول: ((تَوَفَّنِي مُسْلِمَاً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) [يوسف: 101] وهذا كله من سؤال الله حسن الخاتمة. وقوله: (والسعيد من سَعِد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله). السعيد هو الذي يفوز بمطلوبه ومحبوبه، وينجو من مرهوبه ومكروهه، وهو من يظفر بالكرامة ويفوز بالنعيم المقيم، والشقي ضده، وهو الذي يفوته المطلوب والمحبوب، ويبوء بالمكروه والمرهوب، هو الذي يصير إلى عذاب الله الأليم المهين قال تعالى: ((فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ)) [هود: 105 - 108]. فالسعادة والشقاوة مقضيان ومُقَدَّران، وفي الحديث الذي تقدم ذكره (¬1): (أن الملك يؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد) وهذا لا يعني أن الإنسان يصير شقيًا بدون أسباب الشقاوة، ويصير سعيدًا بدون أسباب السعادة، لا؛ بل للشقاوة أسباب، وللسعادة أسباب، فالسعادة سببها توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، وطاعته وطاعة رسله، هذه أسس السعادة؛ إيمان وتقوى، وعمل صالح، ولا تكون السعادة بدون ذلك أبدًا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنه لن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة) (¬2) فالسعادة موقوفة على أسبابها والشقاوة موقوفة ¬

(¬1) تقدم تخريجه في ص 72. (¬2) رواه أحمد 1/ 79، والترمذي (3092) ـ وقال: حسن صحيح ـ، والحاكم 4/ 178وصححه.

على أسبابها، فالشقاوة سببها الكفر والعصيان والشرك والظلم والفسق والعدوان، فلا يدخل النار أحد إلا بالأسباب الموجبة لدخولها، ولا يدخل الجنة أحد إلا بالأسباب المقتضية لدخولها، والكل قد سبق به علم الله وقضاؤه وكتابه، فلا بد من استحضار هذه الحقائق، فالشقاوة لا تكون بلا سبب، فمن سبق قضاء الله في شقاوته فلا بد أن تقوم به أسباب الشقوة، ومن سبق قضاء الله بسعادته؛ فلا بد أن تقوم به أسباب السعادة. ومقام الكلام في القدر من المقامات العظيمة التي تموج فيها الأفكار والأقوال موجا؛ ولكن المعتصَم الذي به النجاة من الزلل في هذه المسالك، وهذه المتاهات التي ضل فيها أكثر الخلق هو كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أشكل عليك أمر ولم تدركه بعقلك الناقص القاصر؛ فاعتصم بالله وبكتابه، وحسبك. وهذا الأصل العظيم مع ما يذكر فيه من تفاصيل بعض المسائل يقوم على المراتب الأربعة المتقدمة، ولا بد مع الإيمان بالقدر من الإيمان بالشرع والإيمان بحكمة الرب، فهذه ثلاثة أصول لا بد من التحقق بها، الإيمان بالقدر بمراتبه الأربع، والإيمان بشرع الله كما تقدم أن المؤلف ذكر الأصلين: الإيمان بالشرع والقدر بعدما ذكر بعض الجوانب في القدر قال: (ولم يخفَ عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته) (¬1). ¬

(¬1) ص 74.

[عجز الخلق عن معرفة حكم وأسرار القدر]

[عجز الخلق عن معرفة حِكَمِ وأسرار القدر] وقوله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل). قدر الله وقضاؤه الشامل النافذ له حِكَمٌ وأسرار لا سبيل للخلق إلى معرفتها، فإن الخلق لا يحيطون به تعالى علما، لا بذاته ولا صفاته ولا أفعاله ولا بحكمته في خلقه وأمره، وما دام أن الله تعالى قد استأثر بذلك؛ فلا تطلب ما لا سبيل إلى معرفته، فالله قد استأثر بعلم كيفية صفاته فلا تطلب معرفة ذلك، ولا تسأل: كيف استوى؟ وكيف يغضب؟ وكيف ينزل؟ كل ذلك غير معقول لنا، ولا يمكن لعقولنا أن تصل إليه، كذلك أمر القدر، الله تعالى سبحانه قد استأثر بعلم أسرار القدر، وحِكَمه في أقداره على التفصيل. فالأشياء التي نبهت عليها النصوص قد تدرك بالتدبر؛ لكن تأمل في خلق الله، هذا يجعله غنيا وهذا فقيرا وهذا بين ذلك، وهذا مؤمنا مهتديا، وهذا ضالا، وهذا عاصيا، وفي الخلق طويل وقصير، وجميل ودميم، وكل التفاوتات التي تلاحظها، أغنى الله هذا دون ذاك، وأفقر هذا دون ذاك، وجعل هذا طويلا، وهذا قصيرا، وجعل هذا عاقلا وهذا غير عاقل وفي الناس: معتوه، وبليد وذكي، ويولد للإنسان العدد من الأولاد أبوهم واحد وأمهم واحدة وتتفاوت خلقتهم وأخلاقهم وعقولهم وحظوظهم، ابحث عن أسرار هذه التخصيصات لا تجدُ إلى ذلك سبيلا. وقوله: (لم يَطَّلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل) فكيف بمن دونهم؟ إذا كان الرسل الذين هم صفوة الخلق،

والمقربون من الملائكة لم يطلعوا على سر القدر، فهذا يؤكد أن ذلك مما استأثر الله به واختص بعلمه، فسر القدر من الغيب المطلق؛ لأن الغيب نوعان: غيب مطلق، وغيب نسبي. فالغيب النسبي: الذي يعلمه بعض الخلق دون بعض، فهو غيب بالنسبة لمن لم يعلمه، وفي الدعاء المعروف: (أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك) (¬1)، فالسر القدري من الغيب المطلق الذي اختص الله به، لم يُطْلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا؛ لأنهم لا علم لهم إلا ما علمهم الله: ((قَالُواْ سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا)) [البقرة: 32]، وقال تعالى: ((وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلَاً)) [الإسراء: 85]. ¬

(¬1) رواه أحمد 1/ 391، وابن حبان (972) والحاكم 1/ 509 من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وقال الدارقطني في العلل 5/ 200: إسناد ليس بالقوي.

[البحث في أسرار القدر سبب للضلال]

[البحث في أسرار القدر سبب للضلال] وقوله: (والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان). التعمق: التكلف في البحث. والنظر: التفكر. فالتعمق والنظر في أسرار القدر والبحث عن ذلك، يقول المؤلف إنه: (ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان) هذه كلمات متقاربة مقصودها: أن التعمق والنظر سبب الشقاء الهلاك، والمصنف من منهجه في هذه الرسالة أنه يتحرى السجع، وتنويع العبارات. والخذلان: عدم التوفيق، ((إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ)) [آل عمران: 160] فالتعمق والنظر في أسرار القدر سبب لخذلانه وعدم توفيقه وحرمانه من الاستقامة، وسبب للطغيان فالذي يبحث ويخوض ويتعمق قد طغى وتعدى حده، قف فأنت ضعيف وعبد ومحدود الإدراك، ولا تطلب ما ليس لك، ولا ترم ما لا سبيل لك إليه ولا قدرة لك عليه. فالتعمق والنظر سبب لكل شر وشقاء وهلاك، فإنه يضرب في متاهة لا ينتهي فيها إلى حدود. وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة؛ فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء: 23]). يؤكد المؤلف ما سبق، بعدما بين خطورة الخوض في أسرار القدر بالكلمات السابقة قال: فالحذر كل الحذر من التعمق والبحث في أسرار

القدر (نظرا وفكرا ووسوسة) والنظر والفكر بمعنى: التفكير. والوسوسة دون ذلك، فقد تكون بداية التفكر والنظر، (فالحذرَ) منصوب على الإغراء، أي: الزم الحذر والخوف أيها المسلم العاقل الناصح لنفسك. والوسوسة هي: إلقاء المعاني في القلب، فالشيطان يوسوس فيلقي معاني الشبهات، ومعاني الشهوات في القلب مثل البذر، فوساوس الشيطان هي البذرة الأولى للشرور كلها؛ لكن هذه الوساوس قد تموت في مكانها إذا وفق الإنسان لدفعها، وتعوذ بالله منه فإنها تنتهي، وقد يثمر تفكيرا وتفكرا، ثم قد يثمر كلاما وعملا، فكل الشرور التي تشاهد بالعيون وتسمع بالآذان كلها نابتة من ذلك الوسواس، والله تعالى قد أنزل سورة ليتحصن بها المسلم من ذلك الوسواس الخناس: ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * من الجنة والنَّاسِ)) [الناس: 1 - 6]، وسبقت الإشارة (¬1) إلى الحديث الذي ورد في شأن الوسواس: (يأتي الشيطانُ أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته) فالشيطان يلقي في القلوب أخبث الوساوس؛ لكن المؤمن الموفق يدفعها باعتصامه بربه وبلجوئه إلى مولاه، ويقول: أعوذ بالله من الشيطان، فإن الله هو الذي خلق الشيطان وهو قادر على أن يصرفه عنك. وقوله: (فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه) عن خليقته (ونهاهم عن مرامه) هذا تأكيد لما سبق من قوله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل) فالمؤلف ـ رحمه الله ـ أراد أن يؤكد هذا الأمر العظيم بهذه المؤكدات: (فإن الله طوى علم القدر عن أنامه) طوى علمه: اختص به، ولم يطلعهم ¬

(¬1) في ص 129.

عليه، (ونهاهم عن مرامه) أي: طلبه، فعلم أسرار القدر من العلم الذي لا يجوز أن يطلب. لكن هل يجوز البحث في القدر؟ نعم، فنحن الآن نبحث ونتكلم في القدر، وهذا الذي نتكلم فيه ليس هو الذي نُهينا عنه، نحن الآن نتكلم في معرفة ما يجوز وما لا يجوز من الكلام في القدر، فالإيمان بالقدر أحد أصول الإيمان، والإيمان بالقدر لا يعارض الإيمان بالشرع، بل لا بد من الجمع بينهما، كما أن الإيمان بالقدر لا يعارض إثبات الأسباب، فالأسباب والمسببات كلها جارية بقدر الله، فلا بد أن تنتبه لهذا. إذاً؛ الشيء الذي لا يجوز البحث فيه هو البحث في أسرار القدر، لِمَ؟! لِمَ؟! فقد قال تعالى: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ)) [الأنبياء: 23] لا يُسأل تعالى عن ما يفعل لكمال حكمته، والعباد يُسألون ((وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء: 23] وهذا من النفي غير المحض، وكلُ نفي في صفات الله تعالى فإنه يتضمن ثبوتا. وقوله: (فمن سأل: لِمَ فعل؟). فمن سأل: لِمَ هدى هذا؟ وأضل هذا؟ وأفقر هذا؟ لِمَ خلق الشرور؟ لِمَ خلق الشياطين؟ يسأل على وجه الاعتراض. فإن السؤال يكون على وجهين: سؤال اعتراض ومعارضة بالعقل. وسؤال طلب للمعرفة. فالمنكر العظيم: السؤال على وجه الاعتراض، أو السؤال عن أمر لا سبيل إلى معرفته. فالأول: ظاهر الفساد،؛ لأنه اعتراض على أحكم الحاكمين. والثاني: تكلف وبحث عما استأثر الله بعلمه وطوى علمه عن العباد.

وقوله: (فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين) حكم الكتاب هو حكم الله، ومن رد حكم الله كان كافرا به سبحانه وتعالى، ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)) [يوسف: 40]، ((فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)) [التين: 7 - 8].

[وجوب التمسك بالكتاب والسنة، وترك الخوض فيما طوي عنا علمه]

[وجوب التمسك بالكتاب والسنة، وترك الخوض فيما طوي عنا علمه] وقوله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منوَّر قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود). قد يكون مراده من هذه الإشارة من أول ما يتعلق بالتوحيد والرسالة والقرآن وما بعد ذلك، أو يريد القريب وهو ما يتعلق بالأصل السادس وهو الإيمان بالقدر، وكأن الأرجح رجوع الضمير إلى كل ما تقدم، (فهذا جملة ما يحتاج إليه) أي: ما لا بد منه (لمن هو منوَّر القلب) ولا يكون منوَّر القلب إلا بذلك، فنستطيع أن نقول: فهذا جملة اعتقاد من قلبه نَيِّر، والإيمان في القلب نور؛ لأن النور نوعان: نور حسي: يرى بالأبصار. ونور معنوي: قال الله تعالى: ((اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [النور: 35]، الشاهد: ((مَثَلُ نُورِهِ)) [النور: 35] أي: مثل نور الله في قلب عبده المؤمن. فالإيمان نور في القلب، والله تعالى سمى الوحي المنزل نورًا: ((فَآمِنُوا

بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا)) [التغابن: 8] والإيمان والعلم في القلوب نور: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتَاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورَاً)) [الأنعام: 122] أي: في قلبه. وهذه معان عظيمة تُنَبِّه إليها هذه النصوص؛ ولكن ما حظك من هذا الأمر العظيم؟ وفي دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن يساري نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا واجعل لي نورا) (¬1) المؤمن الكامل الإيمان في قلبه نور، وفي سمعه، وفي بصره، والنور محيط به؛ والنور المعنوي هو: نور العلم والإيمان قال تعالى: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتَاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورَاً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ)) [الأنعام: 122] وقال تعالى: ((اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)) [البقرة: 257] يخرجهم من ظلمات الكفر والغفلة والمعصية والجهل، إلى نور الإيمان والعلم والبصيرة. والقلوب لها أحوال كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مُرْبَادّا كالكوز مُجَخِّيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) (¬2) وقد دلت النصوص على أن القلوب ثلاثة أقسام (¬3): قلب حي سليم، وهو قلب المؤمن. وقلب ميت، وهو قلب الكافر. وقلب مريض، فيه مادة حياة، ومادة موت، أي: فيه صحة ومرض، وهو لما غلب عليه منهما. ¬

(¬1) رواه البخاري (6316)، ومسلم (763) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه مسلم (144) من حديث حديفة - رضي الله عنه -. (¬3) إغاثة اللهفان 1/ 7.

واقرأ ما ذكر ابن القيم في «اجتماع الجيوش الإسلامية» في مثل النور في قلب المؤمن (¬1) واقرؤوا كلامه على قوله تعالى: ((مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ)) [النور: 35] في «الوابل الصيب» (¬2) فقد أجاد في الكلام عليها وأحسن. وقوله: (من هو منوَّر القلب من أولياء الله) فكل ولي لله فهو منوَّر القلب، وكل منوَّر للقلب فهو ولي لله، وولاية الله تقوم على الإيمان والتقوى، والإيمان والتقوى لا يكونان إلا بالعلم. إذًا؛ فولي الله هو الذي نور الله قلبه بالعلم والإيمان، وظهر أثر ذلك على جوارحه بالتقوى وبالأعمال الصالحة، ولذا قال المؤلف: (وهي درجة الراسخين في العلم) الراسخون في العلم ذكرهم الله في قوله: ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا)) [آل عمران: 7]، فالراسخون في العلم هم المتمكنون في العلم، ليسوا على حَرف في العلم أو في الإيمان أو في العبادة، لا؛ بل هم ثابتون راسخون، وهم يؤمنون بكل ما جاء عن الله، ولا يعارضون ما أخبر الله به، وما أخبرت به رسله: ((وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ)) [آل عمران: 7] بخلاف الذين في قلوبهم زيغ فإنهم يتبعون المتشابه ((ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ)) [آل عمران: 7] وابتغاء إضلال الناس، ولبس الحق بالباطل. وقوله: (لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود) العلم الموجود: مسائل الاعتقاد والشرائع، فهذا العلم الذي بعث الله به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو موجود في القرآن والسنة ففيهما من الأخبار عن الغيوب الماضية والمستقبلة ما يعلمه من تدبرهما. (وعلم في الخلق مفقود) وهو علم الغيب الذي طواه الله، مثلما تقدم في القدر: (أن الله ¬

(¬1) ص 39. (¬2) ص 119.

تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه) (¬1) فسر القدر هو من العلم المفقود، وكيفية صفات الرب من العلم المفقود، وحقائق الآخرة من العلم المفقود، ولا سبيل إلى معرفة ما استأثر الله بعلمه. والمؤلف رتب على هذا قوله: (فإنكار العلم الموجود كفر) جحد شيء مما علم بالضرورة من أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو الشرائع التي جاء بها كفرٌ. (وادعاء العلم المفقود كفر)؛ لأنه ادعاء لعلم الغيب، فتكييف صفات الرب كفر؛ لأنه قول على الله بلا علم؛ لكن الذي يسأل عن الكيف، كمن يقول: كيف استوى؟ فهذا مبتدع يجب الإنكار عليه، كما أنكر الأئمة عليه كمالك ـ رحمه الله ـ حين رد بتلك الجمل التي صارت قاعدة: (الاستواء معلوم، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا رجل سوء، فأمر به فأخرج). (¬2) وقوله: (ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود). لا يثبت الإيمان ولا يستقر ولا يسلم (إلا بقبول العلم الموجود) وهو الإيمان بما بعث الله به رسوله (وترك طلب العلم المفقود)، قال تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولَاً)) [الإسراء: 36]، والله تعالى علم نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)) [الأنعام: 50] وفي الآية الأخرى: ((وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)) [الأعراف: 188]. ¬

(¬1) ص 171. (¬2) صح هذا الأثر عن الإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن، والإمام مالك رحمهما الله. انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ص 440 - 442، وعقيدة السلف أصحاب الحديث ص 37، وذم التأويل ص 25، والأثر المشهور عن الإمام مالك ـ رحمه الله ـ في صفة الاستواء ص 84 و 123.

[الإيمان باللوح والقلم]

[الإيمان باللوح والقلم] وقوله: (ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رُقِم، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائنًا لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبدَ لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمُه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما، ليس فيه ناقض ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عَقْد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيْرَاً)) [الفرقان: 2] وقال تعالى: ((وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرَاً مَقْدُوْرَاً)) [الأحزاب: 38]، فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما، وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما) كل هذا دائر على موضوع القدر، والمصنف أطنب في الكلام على موضوع القدر وذلك لأهميته، وفرق الكلام فيه كما تقدم؛ لأن قوله هناك (¬1): (ولا يكون إلا ما يريد)، وقوله أيضا (¬2): (خلق الخلق بعلمه)، كل هذا مما يتصل بالقدر، والموضوع لا شك أنه جدير بزيادة التقرير ¬

(¬1) ص 41. (¬2) ص 68.

والتأكيد، وبيان ما يقتضيه الإيمان بالقدر، وتقدم ... (¬1) أنَّ جِماعَ الأمرِ الإيمانُ بالقدر بمراتبه الأربع، والإيمانُ يتضمن التسليم لحكم الله ولقدره، وترك المعارضة، والإمساك عن الخوض فيما طوى الله علمه عن العباد. ويقول هنا: (ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رُقِم) من توابع الإيمان بالقدر الإيمان باللوح، واللوح المحفوظ ذكره الله تعالى بهذا اللفظ في سورة البروج، قال تعالى: ((فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)) [البروج: 22] واللوح المحفوظ هو: أم الكتاب ((يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)) [الرعد: 39]، وهو الكتاب المبين المذكور في قوله تعالى: ((وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) [الأنعام: 59] وهو الكتاب المكنون: ((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)) [الواقعة: 77 - 78] فقد ذكر بأسماء متعددة في القرآن: ((أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)) [الحج: 70]. فيجب الإيمان باللوح المحفوظ تصديقا لخبر الله تعالى، وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي كتب الله فيه مقادير كل ما هو كائن إلى يوم القيامة، (وبالقلم) أي: قلم المقادير الذي ورد فيه حديث عبادة بن الصامت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: ما هو كائن إلى يوم القيامة) (¬2) فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وهذا القلم هو قلم المقادير الأول، والمقادير أو التقديرات أنواع، وكل قَدر له قلم يناسبه؛ لأن الكتابة تكون بالقلم. فالقدر الأول هو القدر العام لجميع المخلوقات. ¬

(¬1) ص 162 وما بعدها. (¬2) رواه أحمد 5/ 317، وأبو داود (4700)، والترمذي (2155) ـ وقال: حسن صحيح غريب من هذا الوجه ـ، وابن جرير في تاريخه 1/ 28، وصححه، والضياء في المختارة في مواضع منها: 8/ 351 - 353.

والتقدير الثاني الذي قدر الله فيه أمور آدم وذريه، وهو الذي أُشير إليه في حديث احتجاج آدم وموسى، وأن آدم عليه السلام قال لموسى عليه السلام: (هل وجدت في التوراة: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى)؟ قال: نعم. قال: أفتلومني على أن عملتُ عملا كتبه الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فحج آدم موسى" (¬1). والتقدير الثالث: وهو التقدير المختص بكل إنسان، كما في الحديث المتفق على صحته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أنه قال ـ في الجنين عندما يبلغ أربعة أشهرـ: فيأتيه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ... (¬2). والتقدير الرابع، وهو التقدير الحولي: وهو ما يكون في ليلة القدر: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 3 - 4]، وسميت ليلة القدر؛ لأنه يقدر فيها ما يكون في السنة إلى مثلها. وهذه التقديرات لا تخالف ولا تناقض التقدير الأول العام. فنؤمن باللوح والقلم ولا نتكلم في كيفية اللوح، وكيفية القلم، وكيفية تلك الكتابة، فالله أعلم كيف كانت تلك الكتابة، كل ذلك غيب يجب أن نمسك عنه، ولا نخوض فيه، ولا نفكر فيه. وقوله: (وبجميع) أي: ونؤمن بجميع (ما فيه قد رُقم) أي: كُتِب، فنؤمن إيمانا مجملا بأن الله كتب فيه مقادير الخلق، لكن هل نعلم ما رُقِم فيه وما كُتِب فيه؟ لا نعلم؛ إلا ما أخبر الله تعالى به ورسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ لكن نعلم أن كل ما يقع في الوجود فهو ¬

(¬1) رواه البخاري (6614)، ومسلم (2652) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم في ص 72.

مكتوب؛ لكن قبل الوقوع لا ندري إلا أن يأتي فيه خبرٌ من معصوم. وقوله: (لو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن، ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائنًا لم يقدروا عليه] يعني: لو اجتمع الخلق على أن يغيروا ما سبق به علم الله وكتابه لم يقدروا، وهذا معلوم بالضرورة أن الخلق لا يقدرون على تغيير قدر الله، ومن أدلة ذلك ما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) (¬1) فالأمر قد فرغ منه، وهذا يوجب للعبد أن يعلق رجاءه وخوفه بربه لا بالأسباب ولا بالعباد؛ لأن العباد إن نفعوك فالله هو الذي أجرى تلك المنفعةَ على أيديهم، وأقدرهم عليها، وجعلهم يريدونها، وهيأ لهم أسبابها، وإن حصلت لك مضرة على يد أحد؛ فاعلم أن هذا بتقدير الله، فلا تغفلْ عن الله وتعلقْ قلبك بهم فتخافهم ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ)) [العنكبوت: 10]. وقوله: (جف القلم بما هو كائن) جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (جف القلم بما أنت لاقٍ) (¬2) جف القلم: هذه كناية عن الفراغ من الأمر الذي سبق به القدر، فكل ما يجري في الوجود فقد سبق به علم الله وكتابه، لكن نؤكد على أن الله قضى بحكمته وعلمه وكتابه، إن هذه الأقدار متربط بعضها ببعض، ومن ¬

(¬1) رواه أحمد 1/ 293، والترمذي (2516) ـ وقال: حسن صحيح ـ، والضياء في المختارة 10/ 22 - 25، وحسنه الحافظ ابن رجب في جامع العلوم والحكم ص 345. (¬2) رواه البخاري تعليقا (5076) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

قدر الله ترتيب المسبَبَات على الأسباب، ما يجيء لك ولد إلا إذا تزوجت، ولا يعقل أن تقول: إنْ كتب الله لي ولدا فسيأتي ولو لم أتزوج! أو تترك طلب الرزق وتقول: إنْ كتب الله لي رزقا سيأتيني وأنا نائم! نعم قد يكون؛ لكن ليس هذا موجب العقل والفطرة والشرع؛ بل موجب العقل والفطرة والشرع: أن تسعى في طلب الرزق، ولو توكلت على الله، فلا بد لك من الأخذ بالأسباب، وأعظم من ذلك أمر السعادة، فلا تكون السعادة إلا بأسبابها وهي الإيمان والعمل الصالح، ولا يمكن أن يكون الإنسان سعيدًا إلا بالأسباب، فمن تحققت له أسباب السعادة فنعلم بذلك أنه قد سبق علم الله وكتابه بسعادته. وقوله: (وما أخطأ العبدَ لم يكن ليصيبَه وما أصابه لم يكن ليخطئه). هذا تأكيد، وقد جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) (¬1) فما حصل لك من خير أو شر فقد سبق في علم الله وكتابه أنه يصيبك ويحصل لك، وما أخطأك وما فاتك وما سلمت منه فقد سبق علم الله وكتابه بذلك، ولم يكن في علم الله وكتابه أنه يصيبك ثم يخطئك. وقوله: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمُه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه). هذه الجملة تؤكد ما سبق، وهي أعم من قوله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، ¬

(¬1) رواه أحمد 5/ 182، وأبو داود (4699)، وابن ماجه (77)، وابن حبان (727) من حديث ابن الديلمي عن أبي بن كعب، وابن مسعود، وحذيفة موقوفا، ورفعه زيد بن ثابت رضي الله عنهم، وقال الذهبي في المهذب في اختصار السنن الكبير 8/ 4213: إسناده صالح، وصححه ابن القيم في شفاء العليل ص 113. وانظر: السلسلة الصحيحة (2439).

فلا يُزاد في ذلك العدد، ولا يُنقص منه) (¬1) فهذه الجملة بخصوص عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار، وقد علم الله ذلك كله؛ لكن هنا المؤلف يؤكد ما يتعلق بالمرتبة الأولى من مراتب القدر, فلا بد أن يعلم العبد أنه قد سبق علم الله بكل ما هو كائن، وسبق قضاؤه وحكمه قضاء مبرما محكما، فلا مُغَيِّر ولا ناقض، ولا زائد ولا ناقص لعلمه وتقديره تعالى، وهذه الجملة شاملة يدخل فيها ـ مثلا ـ الملائكة، فقد سبق علم الله وكتابه وتقديره للملائكة بأعدادهم وصفاتهم ومنازلهم وفضائلهم وأعمالهم وأقوالهم، وقد سبق علمه سبحانه وتعالى وكتابه بعدد الأشجار وأنواعها وأجناسها وثمارها وأوراقها، قال تعالى: ((وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)) [الأنعام: 59] تأمل ماذا يتساقط من أوراق وحبوب الزروع والأشجار المأكولة وغير المأكولة في القفار وفي الديار؟! وتأمل قوله (وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ) فإنها تشمل كل شيء من هذه الكائنات. وقس سائر المخلوقات على هذين المثالين المذكورين. ولسيد قطب ـ رحمه الله ـ في تفسيره كلام وتصوير بديع لدلالة هذه الآية، وما فيها من الشمولية العظيمة، والدلالة على الإعجاز. (¬2) وقوله: (وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة). العلم بأن الله قد سبق علمه في كل كائن، وقدر ذلك تقديرا محكما هذا من عقد الإيمان، وباختصار نقول: الإيمان بالقدر بكل مراتبه؛ ولكن المؤلف ركَّز هنا على المرتبة الأولى والثانية: مرتبة الإيمان بالعلم السابق الأزلي، ومرتبة الكتاب فركَّز عليها وأكَّد عليها، بقوله: (وذلك ¬

(¬1) ص 162. (¬2) في ظلال القرآن 2/ 1111.

كله من عقد الإيمان) الذي يجب عقد القلب عليه، والإيمان اعتقاد يعقد الإنسان قلبه عليه. وقوله: (والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته). لاحظ أن الإيمان بالقدر هو من توحيد الربوبية؛ لأننا نقول في توحيد الربوبية هو: الإيمان بأنه تعالى رب كل شيء ومليكه، وأنه على كل شيء قدير، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه خالق كل شيء، هكذا نفسر توحيد الربوبية، وهذا يتضمن الإيمان بالقدر، وهو أن كل شيء جارٍ بقدر الله وبمشيئة الله على وفق علمه وتقديره السابق، ولهذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن وحَّد الله وآمن بالقدر فقد تم توحيده، ومن كذَّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيده) (¬1) فالمكذب بالقدر لم يحقق توحيدَ الربوبية؛ فإن كان من الغلاة جحد علم الله وتقديره السابق، ونفى عموم المشيئة وعموم الخلق، وإن كان من مقتصدي النفاة القدرية فهو يُخرج أفعال العباد عن مشيئة الله وعن قدرته وخلقه وملكه. إذًا؛ الإيمان بالقدر من توحيد الربوبية، فمن كذَّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيدَه، وهذا يوضح قول المؤلف: (وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة). وقوله: (كما قال تعالى في كتابه: ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيْرَاً)) [الفرقان: 2]، وقال تعالى: ((وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرَاً مَقْدُوْرَاً)) [الأحزاب]). هذان دليلان من الأدلة الدالة على الإيمان بالقدر، وأنه تعالى خلق كل شيء على وفق ما سبق به قدره. وقوله: (فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما، وأحضر للنظر ¬

(¬1) أخرجه عبد الله بن أحمد في السنة 2/ 422، والفريابي في القدر ص 143، والآجري في الشريعة ص 183 و 184، وابن بطة في الإبانة 2/ 159 و 160، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة ص 742، بمعناه.

فيه قلبا سقيما، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سِرًا كتيمًا، وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما). بعدما ذكر أن هذا هو ما عليه الراسخون في العلم أولياء الله الذين نوَّر الله قلوبهم، وذكر أن هذا كله من عقد الإيمان وأصول المعرفة والتوحيد، أشار إلى من خالف ذلك ولم يعترف به، أو آمن بالقدر إيمانا ليس على الوجه المشروع، فقال: (فويل لمن صار) ويل: كلمة للوعيد والتهديد، قال تعالى: ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ)) [المطففين: 1]، ((وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ)) [الهمزة: 1]، ((فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)) [الطور: 11] وهذا الوعيد يشمل كل الطوائف: الجبرية المشركية، والمجوسية نفاة القدر، والإبليسية، كلهم يصدق عليهم هذا؛ ولكن دخول الجبرية والإبليسية أظهر؛ لأن الجبرية يحتجون بالقدر في معارضة الشرع كما قال المشركون: ((لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا)) [الأنعام: 148] فهم يعارضون شرعه بقدره، ويحتجون على الشرع بالقدر. والإبليسية الأمر فيهم أظهر وخصومتهم لله تعالى وطعنهم في حكمته أشهر، كما قال الله عن سلفهم إبليس لما أمره الله بالسجود لآدم فأبى وقال: ((أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ)) [الأعراف: 12]. وقوله: (وأحضر للنظر) في القدر (قلبا سقيما) فنظر في القدر بقلب سقيم عليل مريض، لم ينظر بقلب حي سليم، والقلوب كما تقدم (¬1) ثلاثة على سبيل الإجمال: القلب السليم: وهو الذي سلم من أمراض الشبهات والشهوات، وقلب ميت، وقلب مريض. فالذي ينظر في القدر وهو عليل القلب لا يستقيم فهمه، وتضطرب الحقائق في نظره. ¬

(¬1) ص 176.

وقوله: (لقد التمس) هذا الذي نظر في القدر بقلب سقيم يطلب ما لا سبيل إلى معرفته؛ لأنه طلب ما استأثر الله بعلمه كما تقدم أن: (القدر سر الله تعالى في خلقه ... والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان ... فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه) (¬1) وهذا الكلام يؤكد ما سبق. فالذي نظر في القدر على غير هدىً، وعلى غير بصيرة لم يعتصم بالوحي، فالمعتصم في كل المضائق هو دين الله أرسل به الرسل، وأنزل به الكتب ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، من اتبع الرسل اهتدى، ومن أعرض عما جاءوا به ضل وتخبط في الظلمات. وقوله: (بِوَهْمِه في فحص القدر سرا كتيما، وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما) سر كتيم أي: مكتوم، سرٌ استأثر الله بعلمه، ما دام أنه نظر فيه بقلب سقيم، ونظر فيه بوهمه وتكلف فسيعود بأقوالٍ في القدر هي إفك وكذب، فالجبرية، والقدرية النفاة، والإبليسية كلهم يشملهم هذا الكلام، عادوا بالكذب والإثم المبين، فالجبرية أعرضوا عن الشرع أو كذبوا به، والقدرية كذبوا بالقدر، والإبليسية طعنوا في حكمة الرب وضربوا أحكام الله بعضها ببعض. وهنا انتهى ما يتعلق بالقدر مما ذكره المؤلف وقد أطنب فيه ـ رحمه الله ـ، وقد أحسن في هذه الكلمات الطيبة في التأكيد على وجوب الإيمان بالقدر، وأكد على أصل التسليم وهو أصل عظيم، وحذر من الخوض فيما لا سبيل إلى معرفته من أسرار القدر، وأشار إلى أحوال القلوب، وغير ذلك، فجزاه الله خيرا ورحمه، وسائر أهل العلم والإيمان. ¬

(¬1) ص 169، 171.

[إثبات العرش والكرسي، وغناه تعالى عن كل شيء]

[إثبات العرش والكرسي، وغناه تعالى عن كل شيء] وقوله: (والعرش والكرسي حق، وهو مستغن عن العرش وما دونه). مما يجب الإيمان به عرش رب العالمين الذي تمدح الرب سبحانه وتعالى بربوبيته له، واستوائه عليه، فقال تعالى: ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وقال تعالى: ((رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)) [التوبة: 129]، ((ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)) [البروج: 15]، وأضافه تعالى إلى نفسه، فقال: ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)) [الحاقة: 17]. وقد جاء ذكر العرش في القرآن في مواضع كثيرة. وأخبر الله عن صفة العرش بأنه عرش عظيمٌ: ((رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)) [التوبة: 129]، وكريمٌ ((رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) [المؤمنون: 116] ومجيدٌ على قراءة الجر ((ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدِ)) [البروج: 15]. (¬1) وأخبر تعالى أن له حملة: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ)) [غافر: 7]، ((وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ)) [الحاقة: 17]. وأخبر سبحانه وتعالى عن استوائه على العرش في سبعة مواضع من القرآن (¬2)، ¬

(¬1) هي قراءة حمزة والكسائي وخلف العاشر. التيسير ص 221، والنشر 2/ 339. (¬2) في سورة الأعراف آية 54، وسورة يونس آية 3، وسورة الرعد آية 2، وسورة طه آية 5، وسورة الفرقان آية 59، وسورة السجدة آية 4، وسورة الحديد آية 4.

وجاء في السنة وصف العرش بأنه فوق السماوات (¬1)، وكل هذا يجب الإيمان به من غير تحديد لكيفيته، فنحن لا نتصور كيفية العرش؛ لأنه غيب. وأهل السنة والجماعة يثبتون العرش لله، ويثبتون استواء الله تعالى على العرش، ويثبتون كل ما ورد في صفة العرش، على أساس الإيمان بالله وبكتابه ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأما المعطلة نفاة الصفات كالجهمية والمعتزلة؛ فإنهم لا يثبتون حقيقة العرش التي دلت عليها النصوص، فيفسرون العرش بالملك، ويقولون: ((اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) [الأعراف: 54] استولى على الملك، فالعرش عبارة عن كل المخلوقات. وُرد عليهم بأن هذا التفسير لا يستقيم مع ما ورد في وصف العرش بأن له حملة، قال تعالى: ((الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ)) [غافر: 7] أيكون معناه يحملون الملك؟! هذا لا يستقيم؛ لأن حملة العرش من جملة ملك الله، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش) (¬2) فتفسير العرش بالملك من تحريفات أهل البدع. وأما الكرسي فلم يرد في القرآن إلا في آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله، كما صح بذلك الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3)، وسميت بهذا لذكر الكرسي فيها: ((وَسِعَ كُرْسِيُّهُ)) [البقرة: 255] فأضاف الله الكرسي ¬

(¬1) رواه أحمد 1/ 206، وأبو داود (4723) والترمذي (3320) ـ وقال: حسن غريب ـ، وابن ماجه (193) وابن خزيمة في التوحيد ص 101، والحاكم 2/ 412 و 500 ـ وصححه، وتعقبه الذهبي ـ من حديث العباس - رضي الله عنه -، وصححه الجوزجاني في الأباطيل 1/ 79، وقواه ابن تيمية في الحموية ص 222، ومناظرة الواسطية 3/ 192، وابن القيم في تهذيب السنن7/ 92، وجاء هذا المعنى في أحاديث أخر]، وأن له قوائم [روى البخاري (2412) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تخيروا بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش». الحديث. (¬2) رواه البخاري (2412) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬3) رواه مسلم (810).

إليه، وإضافة العرش والكرسي إليه تعالى من إضافة المخلوق إلى خالقه، وفي هذا تشريف للعرش والكرسي، وورد في السنة ذكر الكرسي، وأن العرش أعظم منه، كما في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ما السماوات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة) (¬1)، فالكرسي عظيم وواسع، ومع سعته فالعرش أعظم منه. وقد اختلف المفسرون (¬2) في الكرسي المذكور في الآية فقيل: علم الله تعالى، وعلى هذا القول فلا يكون في الآية دلالة على إثبات الكرسي الذي هو شيء قائم بنفسه موصوف بسعته للسماوات والأرض. وقيل: إن الكرسي هو العرش، وعلى هذا فليس هناك شيئان، فما هو إلا العرش. وقيل: وهو الصحيح عن ابن عباس (¬3)، والمشهور من مذهب أهل السنة أن الكرسي مخلوق عظيم، وهو موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى. (¬4) وهذا أرجح الأقوال في تفسير الكرسي. وبهذا يتبين أن العرش أعظم من الكرسي بكثير، كما يظهر ذلك من ورود النصوص بذكر العرش وتنوعها، والله سبحانه وتعالى هو العلي العظيم، هو ¬

(¬1) رواه بن حبان (361) وانظر: السلسلة الصحيحة (109). (¬2) تفسير الطبري 4/ 537 و 539. (¬3) السنة لعبد الله بن أحمد1/ 301، وصححه ابن خزيمة في التوحيد ص 107، والحاكم 2/ 282، والضياء في المختارة 10/ 311، وقال العلامة الأزهري في تهذيب اللغة10/ 33: الصحيح عن ابن عباس في الكرسي: ما رواه الثوري وغيره عن عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: «الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فلا يُقدر قدره». وهذه الرواية اتفق أهل العلم على صحتها، والذي عن ابن عباس في الكرسي أنه العلم فليس مما يثبته أهل المعرفة بالأخبار. وانظر: فتح الباري 8/ 199. (¬4) انظر: أصول السنة ص 96، والفتوى الحموية ص 351.

العلي بكل معاني العلو، فله العلو ذاتا وقدرا وقهرا، وهو العظيم الذي لا أعظم منه، فالمخلوقات كلها صغيرة في جنب عظمته، قال تعالى: ((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعَاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) [الزمر: 67]. وقوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه). خلق الله السماوات والأرض ثم استوى على العرشِ، واستواؤه تعالى على العرش لا يلزم منه حاجته إلى العرش؛ بل هو تعالى مستوٍ على العرش مع غناه عن العرش، وما دون العرش، هو تعالى الممسك للعرش، والسماوات والأرض، ((إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا)) [فاطر: 41]، ((وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ)) [الحج: 65] وليس استواؤه سبحانه على العرش كاستواء المخلوق على ظهر الفلك والأنعام ونحوها من المراكب، فالمخلوق مفتقر إلى ما هو مستو عليه مستقر عليه بحيث لو عثرت الدابة أو غرقت السفينة لسقط أو غرق المستوي عليها، فهو مفتقر إلى ما هو مستوٍ عليه، محتاج ومعتمد عليه، والله بخلاف ذلك، فاستواؤه على العرش لا يستلزم افتقاره ولا حاجته إلى العرش، بل هو مستغنٍ عن العرش وعن كل شيء، هو الغني سبحانه وتعالى عن كل ما سواه، والذين نفوا حقيقة الاستواء زعموا وتوهموا أنه إذا كان تعالى مستوٍ على العرش لزم أن يكون استواؤه كاستواء المخلوق على ظهر الفلك والأنعام، وهذا فهم باطل وقياس للخالق على المخلوق، ولا يظن ذلك إلا جاهل ضال، فاستواؤه على العرش صفة فعلية من جملة أفعاله، وليس هو كاستواء المخلوق، كما يقال مثل ذلك في سائر الصفات، فكما أن علمه تعالى ليس كعلمنا، ولا قدرته كقدرتنا، ولا سمعه وبصره ورؤيته مثلنا، كذلك استواؤه على العرش ليس كاستوائنا، بل صفاته مختصة به مناسبة له لا تماثل صفات المخلوقين.

[إثبات صفة الإحاطة والفوقية لله تعالى]

[إثبات صفة الإحاطة والفوقية لله تعالى] وقوله: (محيط بكل شيء وفوقه) محيط بكل شيء، وفوق كل شيء، الله تعالى وصف نفسه بالإحاطة في آيات كثيرة كقوله تعالى: ((وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)) [البروج: 20]، وفي الآية الأخرى: ((وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) [الأنفال: 47]، وقال سبحانه وتعالى: ((لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَاً)) [الطلاق: 12]، هذا الذي جاء في القرآن الإحاطة العلمية، ومعناها: أنه لا يخرج عن علمه تعالى شيء، والشيء المحيط بغيره هو الذي يكون محيط به من جميع الجوانب، فعلم الله محيط بكل شيء، فهو تعالى محيط بكل شيء علما وقدرة ((إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [فصلت: 39]، ((وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) [البقرة: 29]. أما الإحاطة الذاتية بمعنى أنها كإحاطة الفلك بما فيه فلا، فالله تعالى فوق كل شيء، وليس في ذاته شيء من مخلوقاته؛ بل هو بائن من خلقه، ليس في ذاته شيء من مخلوقاته، ولا في مخلوقاته شيء من ذاته. وقوله: (وفوقه) ذكر الشارح ابن أبي العز (¬1) أن في بعض النسخ (محيط بكل شيء فوقه) بدون واو، وحينئذٍ يكون المعنى: محيط بكل شيء فوق العرش. وأما النسخة التي اعتمدها الشارح بإثبات الواو؛ (¬2) فتكون مفيدة ¬

(¬1) ص 373. (¬2) وهي الصواب: وقد نقلها بإثبات الواو: الذهبي في العلو 2/ 1237، وابن القيم في اجتماع الجيوش ص 223.

لمعنىً آخر، وهو: أنه تعالى محيط بكل شيء، وفوق كل شيء، فتفيد الجملة أمرين: إثبات الإحاطة وإثبات الفوقية. والفوقية قد جاء ذكرها في القرآن في مواضع مثل قوله تعالى: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)) [الأنعام: 18]، وقال تعالى: ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)) [النحل: 50]، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والله فوق العرش). (¬1) والقول في الفوقية كالقول في العلو، فهي ثلاثة أنواع كالعلو: علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر لكل شيء. كذلك الفوقية يقال: فوقية الذات، وفوقية القدر، وفوقية القهر. ففوقية القدر هي: فوقية الصفات، والنزاع الذي بين أهل السنة والمبتدعة إنما هو في علو وفوقية الذات؛ فإن نفاة العلو والفوقية يفسرون علو الذات بعلو القدر، فيقولون: قوله تعالى: ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)) [الأنعام: 18] كقولك: الذهب فوق الفضة، من حيث القدر والقيمة. وآيات الفوقية هي من جملة الأدلة على علو الله تعالى بذاته، فالله فوق عباده ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)) [الأنعام: 18]، وقال تعالى: ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)) [النحل: 50]، وأدلة علو الله في ذاته على المخلوقات كثيرة جدا، وذكر ابن القيم (¬2) أنها أنواع، وكل نوع تحته أفراد، فمنها: 1 - التصريح بوصفه تعالى بالعلو، كقوله تعالى: ((وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)) [البقرة: 255] في آيات كثيرة. 2 - التصريح بالفوقية ((يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)) [النحل: 50]. 3 - التصريح بأنه في السماء: ((أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ)) [الملك: 16] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا تأمونني وأنا أمين من في السماء) (¬3). ¬

(¬1) تقدم قبل صفحة: رواه أحمد 1/ 206، وأبو داود (4723) والترمذي (3320) ـ وقال: حسن غريب ـ، وابن ماجه (193) وابن خزيمة في التوحيد ص 101، والحاكم 2/ 412 و 500 ـ وصححه، وتعقبه الذهبي ـ من حديث العباس - رضي الله عنه -، وصححه الجوزجاني في الأباطيل 1/ 79، وقواه ابن تيمية في الحموية ص 222، ومناظرة الواسطية 3/ 192، وابن القيم في تهذيب السنن7/ 92. (¬2) الكافية الشافية ص 103، وإعلام الموقعين 2/ 281. (¬3) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1064) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

4 - الإخبار برفع بعض المخلوقات إليه: ((بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ)) [النساء: 158]. 5 - الإخبار بعروج بعض المخلوقات إليه: ((تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ)) [المعارج: 4]. 6 - الإخبار بصعود بعض الأمور إليه: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) [فاطر: 10]. 7 - الإخبار عن بعض المخلوقات بأنها عنده: ((إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ)) [الأعراف: 206]، ((وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ)) [الأنبياء: 19] ويستدل أهل السنة بهذا على العلو؛ لأن المبتدعة الذين ينفون علو الله يقولون: إنه في كل مكان، وإذا كان في كل مكان ـ تعالى الله عن ذلك ـ فلا تكون بعض المخلوقات عنده دون بعض؛ بل تصبح كل المخلوقات عنده؛ لأنه في كل مكان، فلا يختص الملائكة بقرب ولا يوجد قريب وبعيد! إذًا؛ الله تعالى ليس في كل مكان، وإذا لم يكن في كل مكان ـ وهو كذلك ـ فلا بد أن يكون في أكمل الأمور والأحوال وهو العلو لا في السفل. كما يستدلون بالسؤال عنه بـ (أين)؛ لأن من أدلة أهل السنة على إثبات علو الله على خلقه صحة السؤال عنه بـ (أين) كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء) (¬1)، ونفاة العلو لا يجوز عندهم السؤال عن الله بـ (أين) إنما يُسأل بـ (أين) عمن هو في مكان، والله عندهم ليس في مكان، ويقولون المقولة التي فيها التضليل والتزوير: (كان الله ولا عرش، وهو على ما عليه كان) ويتوصلون بهذا التعبير إلى نفي الاستواء على العرش. (¬2) ¬

(¬1) رواه مسلم (537) من حديث معاوية بن الحكم - رضي الله عنه -. (¬2) الاستقامة ص 137، وسير أعلام النبلاء 18/ 474، واجتماع الجيوش ص 275.

وإذا قلنا: إنه تعالى ليس في كل مكان؛ بل هو في العلو فليس معناه: أنه في مكان موجود محيط به؛ بل هو فوق العالم، وليس فوق العالم كله موجود إلا الله تعالى، فالله تعالى لا يحيط به شيء من مخلوقات؛ بل هو تعالى فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، فتضمن قول الطحاوي: (محيط بكل شيء وفوقه) إثبات صفة الإحاطة وإثبات العلو لله تعالى، وبين إثبات العرش وإثبات العلو تناسب؛ لأنه تعالى مستوٍ على العرش، بل نصوص إثبات الاستواء هي من جملة ما يستدل به على علو الله تعالى بذاته.

[عجز الخلق عن الإحاطة بالله تعالى]

[عجز الخلق عن الإحاطة بالله تعالى] وقوله: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه). أعجز الخلق عن أن يحيطوا به، فلا يحيطون به علما كما قال تعالى: ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمَاً)) [طه: 110]، فالعباد يعرفون ربهم بما جعله في فطرهم، وبما أوحاه إلى رسله، ومع ذلك هم لا يحيطون به علما، يقول أعلم الخلق به - صلى الله عليه وسلم -: (لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك) (¬1)] لا يحيط العباد بما له من الأسماء، وبما له من الصفات، ولا يعلمون كيفية ذاته وكيفية صفاته، وكذلك إنْ رأوه لا يحيطون به رؤية: ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) [الأنعام: 103] فلا تحيط به الأبصار. ¬

(¬1) رواه مسلم (486) من حديث عائشة - رضي الله عنها -.

[إثبات صفة الخلة والتكليم لله تعالى]

[إثبات صفة الخلة والتكليم لله تعالى] وقوله: (ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا، وكلم الله موسى تكليما، إيمانا وتصديقا وتسليما). نقول نحن أهل السنة: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا، كما أخبر سبحانه في كتابه: ((وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَاً)) [النساء: 125] وأخبر سبحانه أنه كلم موسى تكليما، قال سبحانه: ((وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمَاً)) [النساء: 164]، وفي هذا فضيلة لإبراهيم وفضيلة لموسى، فإبراهيم خليل الله، وموسى كليم الله عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام، وثبت في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا) (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن صاحبكم خليل الله) (¬2). وأهل السنة يثبتون المحبة ويثبتون الكلام لله، ويقولون: إن الله يُحِب ويُحَب، قال تعالى: ((يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)) [المائدة: 54] , ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) [التوبة: 4]، ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)) [البقرة: 222]، ويُكَلِّم ويَتَكَلَم، فيثبتون صفة المحبة وصفة الكلام. والخُلَّة هي أكمل المحبة، فإبراهيم - صلى الله عليه وسلم - خليل الله، فله من محبة الله ما تبوأ به منزلة الخُلَّة التي هي: أعلى درجات المحبة، ونبينا - صلى الله عليه وسلم - خليل الله أيضا، فإبراهيم ومحمد هما خليلان لله تعالى، وأما ما ورد في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن إبراهيم خليل الله ... وأنا حبيب الله ¬

(¬1) تقدم ص 96. (¬2) تقدم ص 95.

ولا فخر) فهو حديث ضعيف (¬1)، وقد تعلق به بعض الجهلة وأهل الغلو، فيسمون الرسول - صلى الله عليه وسلم -: حبيب الله (¬2)، وكأن المحبة عندهم أعلى من الخُلَّة، وهذا خلاف اللغة، وخلاف دلالات النصوص، فالمحبة ثابتة للأنبياء والمؤمنين والملائكة، كل على منزلته من محبة الله سبحانه وتعالى، ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) [آل عمران: 31]، ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)) [التوبة: 4]، ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)) [البقرة: 195]، فالمحبة مشتركة بين سائر المؤمنين، كل له حظه من محبة الله بحسب إيمانه وتقواه، فوصف الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه: حبيب الله فقط ليس فيه خصوصية ولا تميز، فكل مؤمن هو حبيب الله ـ أي ـ: محبوب لله. وتقدم ذكر (¬3) الأدلة على إثبات صفة المحبة، وصفة الكلام لله تعالى. والمعطلة من الجهمية والمعتزلة (¬4) ومن تبعهم ينفون هذه الصفات، فالجهمية يقولون: إنه لا يُحِب ولا يُحَب؛ لأن المحبة ميل الشيء إلى ما يناسبه، ولا تناسب بين الخالق والمخلوق، وهذا ـ إن صح أن يكون تفسيرا للمحبة ـ يختص بمحبة المخلوق، فالمحبة معنىً معقولٌ هو ضد البغض، والله تعالى أخبر بأنه يحب أولياءه ويحب المؤمنين والمقسطين والتوابين، وأخبر بأنه يمقت الكافرين: ((لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)) [غافر: 10]. ونفاة المحبة منهم من يفسر المحبة من الله بإرادة الإنعام، أو يفسرها بنفس النعم المخلوقة، ويفسر البغض بإرادة الانتقام، أو بنفس العقوبة، المهم عندهم نفي حقيقة المحبة عن الله، وينفون محبة المخلوق ¬

(¬1) تقدم في ص 96. (¬2) انظر: ص 96. (¬3) ص 95، ص 111. (¬4) مجموع الفتاوى 10/ 66.

للخالق سبحانه ويقولون: إن المحبة هي محبة ثوابه، أو محبة طاعته، والمحبة عندهم لا تتعلق إلا بالمخلوق. ومن المبتدعة من أثبت المحبة من جهة المخلوق، كالصوفية؛ فإنهم يبالغون في إثبات محبة المخلوق للخالق حتى يعبرون عن محبتهم لله بالعشق، وكذلك الفلاسفة يطلقون العشق على الله تعالى. (¬1) والحق: ما دل عليه كتاب الله، ودلت عليه الفطر والعقول بأنه سبحانه وتعالى يُحِب ويُحَب؛ يحب ملائكته وأنبياءه والصالحين من عباده، كما أخبر تعالى بذلك عن نفسه، ويحبه أولياؤه كما في الآية التي جمعت بين الأمرين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)) [المائدة: 54] وقوله تعالى: ((قل إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) [آل عمران: 31]. وكل صفة تثبت لله تعالى فليست مثل صفة المخلوق، فليس حبه تعالى كحبنا، وليس كلامه وتكليمه ككلامنا، والقول في بعض الصفات كالقول في بعض، فـ ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى: 11] لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فكما أنه تعالى له علم لا كعلمنا، وسمع لا كسمعنا، فله محبة لا كمحبتنا، ورِضًا لا كرِضَانا. وأما ما ذكره الشارح ابن أبي العز (¬2) من الكلام في الخُلَّة، وقول الشاعر (¬3): قد تخللت مسلك الروح مني ... ولذا سمي الخليل خليلا فهذا تفسير للخُلَّة التي هي صفة المخلوق، وكذلك قوله: (¬4) إن ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 10/ 131، والرد على المنطقيين ص 258 و 359، ودرء تعارض العقل والنقل1/ 100 و 231 والرسالة الصفدية ص 125 و 297. (¬2) ص 396. (¬3) البيت لبشار بن برد في ديوانه 2/ 475. (¬4) ص 397.

الخُلَّة لا تقبل الشركة، فهذا فيه نظر؛ لأن الله اتخذ إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - خليلا واتخذ محمدا - صلى الله عليه وسلم - خليلا، نعم من كان الله خليله فلا يكون أحد من الخلق خليله، كما في الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله) (¬1) فدل على أن المانع له من أن يتخذ أبا بكر خليلا أن الله اتخذه خليلا، وهذا يقتضي أن يكون الله خليله، وإن لم يرد ـ فيما أعلم ـ وصف الله بأنه خليل إبراهيم، أو خليل محمد، لكن هذا الحديث يشعر بهذا، وأن الله حين اتخذ محمدا خليلا لم يكن للرسول - صلى الله عليه وسلم - خليل من الخلق، وأن ذلك يقتضي أن الله خليله، وهذا من الأدلة على أن أبا بكر - رضي الله عنه - هو أفضل هذه الأمة على الإطلاق، فهو صديق الأمة وخيرها بعد نبيها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا). ¬

(¬1) تقدم في ص 95.

[وجوب الإيمان بالملائكة والأنبياء والكتب]

[وجوب الإيمان بالملائكة والأنبياء والكتب] وقوله: (ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين). أهل السنة يؤمنون بهذه الأصول، بالملائكة وبالأنبياء وبالكتب، وهذه ثلاثة أصول من أصول الإيمان التي ذكرها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في جوابه لجبريل حيث قال: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). (¬1) والإيمان بأصول الإيمان يكون على وجهين: مجمل، ومفصل. فأما الإيمان بهذه الأصول إجمالا فرض عين على كل مكلف، فعلى كل مكلف أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقدر، والإمام الطحاوي ـ رحمه الله ـ في هذه العقيدة لم يراعِ ترتيب مسائل الإيمان، فيذكر مسائل تتعلق ـ مثلا ـ بالإيمان بالله، ومسائل تتعلق بالإيمان بالرسل، ثم يعود ويذكر مسائل تتعلق بالإيمان بالكتب أو بالملائكة أو باليوم الآخر، من غير مراعاة للترتيب، ولهذا قال الشارح ابن أبي العز: (الشيخ ـ رحمه الله ـ لم يجمع الكلام في الصفات في المختصر في مكان واحد، وكذلك الكلام في القدر ونحو ذلك، ولم يعتن فيه بترتيب. وأحسن ما يرتب عليه كتاب أصول الدين ترتيب جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل عليه السلام حين سأله عن الإيمان). (¬2) ¬

(¬1) رواه مسلم (8) من حديث عمر - رضي الله عنه -. (¬2) ص 689.

ولكن في الحقيقة هذا التفريق عندي له فائدة وهي: أن الصلة بهذه الأصول مستمرة لا تنقطع؛ فيتجدد الكلام ويتكرر؛ فيحصل بسبب ذلك التذكير والضبط، فعلى سبيل المثال: مسائل القدر جاءت متفرقة؛ لكن صار من فائدته: تجدد الكلام في القدر، وحصل فيه التأكيد ومزيد الإيمان والإيضاح؛ لكن إذا جُمع الكلام في موضع واحد فإنه مع طول الوقت يُغفل عنه. فهنا قال: (ونؤمن بالملائكة والنبيين) هذا إيمان مجمل، نؤمن بالملائكة كما ذكر، والإيمان بالملائكة كما جاء في السنة جاء في القرآن مقرونا بالإيمان بالله في ثلاثة مواضع في قوله تعالى: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)) [البقرة: 177]، وقال سبحانه وتعالى: ((وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالَاً بَعِيدَاً)) [النساء: 136]، وقال سبحانه: ((آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)) [البقرة: 285] فنؤمن بالملائكة الذين وصفهم الله بصفات كريمة، فقال تعالى عنهم: ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدَاً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ)) [الأنبياء: 26 - 28]. وقد أخبر الله تعالى أن الملائكة أصناف منهم: ملك الموت، قال تعالى: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)) [السجدة: 11]. ومنهم الملائكة الذين هم من أعوان ملك: ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وقد أضاف الله إليهم التوفي كما أضافه إلى ملك الموت، قال تعالى: ((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)) [الأنعام: 93]، وقال تعالى: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [النحل: 32]. ومنهم الملائكة الموكلون بحفظ وكتابة أعمال العباد ((وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)) [الانفطار: 10].

ومنهم الملائكة الموكلون بالوحي ((يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ)) [النحل: 2]. وقد سمى الله من الملائكة في القرآن جبريلَ وميكائيل ومالك خازن النار، قال تعالى: ((مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ)) [البقرة: 98] وقال تعالى: ((وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ)) [الزخرف: 77]. وجاء في السنة تسمية إسرافيل ومنكر ونكير، ففي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يستفتح في قيام الليل: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل) (¬1) وروى الترمذي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تسمية الملكين الَّذَيْنِ يسألان المقبور: بـ «المنكر والنكير» (¬2). والملائكة خلق من خلق الله فيجب الإيمان بأنهم عباد مخلوقون مربوبون مدبرون ليسوا بآلهة كما ظن المشركون، وليسوا بنات الله كما افترى المفترون ((فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثَاً وَهُمْ شَاهِدُونَ * أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) [الصافات: 149 - 152] فمن الناس من ينكر وجودهم، ومنهم المتأول الذي يقول: الملائكة هي القوى الَخيِّرة في الإنسان، والشياطين هي القوى الشريرة في الإنسان، فليسوا خلقا قائمين بأنفسهم، وهذا خلاف ما أخبر الله به في كتابه من أمر الملائكة، فهم عباد عابدون لله مطيعون في غاية من العبودية والطاعة لله رب العالمين: ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)) [الأنبياء: 20]، ((لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ)) [الأعراف: 206]، وذكر الله ما دار بينه وبين الملائكة في أمر خلق آدم: ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ ¬

(¬1) رواه مسلم (770). (¬2) (1071) ـ وقال: حسن غريب ـ، وابن حبان (3117) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)) [البقرة: 30] إلى آخر القصة. وأما الأنبياء فكذلك يجب الإيمان بهم إجمالا، ويجب الإيمان بمن سمى الله منهم تفصيلا، وقد ذكر الله الإيمان بالرسل في الآيات الثلاث التي تقدمت (¬1)، وذكروا في آيات أخرى: ((وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجَاً وَذُرِّيَّةً)) [الرعد: 38]، ((وَرُسُلَاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلَاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ)) [النساء: 164]، فرسل الله وأنبياؤه كثيرون؛ لكن منهم من قص الله علينا من أخبارهم، ومنهم من لم يقصهم علينا، ومنهم من ذَكر اسمه ولم يذكر تفصيلَ خبره، مثل: ذي الكفل وإدريس واليسع، وقص الله علينا أخبار أنبياء كثيرين؛ كنوح وهود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وموسى، فيجب الإيمان بما أخبر الله به عن الأنبياء والمرسلين إجمالا وتفصيلا؛ فأما الأيمان بهم مجملا؛ فهو فرض عين، وأما معرفة أخبارهم تفصيلا فهو فرض كفاية، ويجب على من علم شيئا من تفصيل أخبارهم أن يؤمن به. وبمناسبة ذكرِ المؤلف ـ رحمه الله ـ (ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين) ترد مسألة الفرق بين النبي والرسول، وقد سبق الكلام عليها عند قول المؤلف: (وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى) (¬2). والأصل الثالث من أصول الإيمان في عبارة المؤلف ـ رحمه الله ـ هو الإيمان بالكتب، فإنه قال: (ونؤمن بالملائكة والنبيين وبالكتب المنزلة على المرسلين) وقدَّم ذكر الأنبياء على الكتب، مع أن الذي في الآيات والأحاديث تقديم ذكر الكتب على الرسل، قال تعالى: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)) [البقرة: 177]، ((كُلٌّ آمَنَ ¬

(¬1) في ص 202. (¬2) ص 86.

بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ)) [البقرة: 285]؛ لكن الظاهر أن المؤلف قدم وأخر، مراعاة لتناسب الجمل. فيجب الإيمان بالكتب التي أنزلها الله على من شاء من رسله، والله أخبر في آيات كثيرة أنه أنزل الكتب وسمى لنا التوراة والإنجيل، قال تعالى: ((نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ)) [آل عمران: 3]، والزبور ((وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا)) [الإسراء: 55]، وصحف إبراهيم وموسى ((صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى)) [الأعلى: 19]، فيجب الإيمان بكتب الله إجمالا، وهذا فرض عين، وبما سمى الله منها تفصيلا وتعيينا فنؤمن بالتوراة المنزلة على موسى، وبالإنجيل المنزل على عيسى، وبالزبور المنزل على داود، وبصحف موسى وإبراهيم، ونؤمن بأنها كلام الله، فالكتب المنزلة كلها كلام الله. والإيمان بالكتب يندرج في الإيمان بالرسل؛ لأنهم هم الذين جاءوا بها قال الله تعالى: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)) [البقرة: 136] لا نفرق بين الرسل ولا نفرق بين الكتب ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلَاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقَّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابَاً مُهِينَاً * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)) [النساء: 150 - 152]. وأنكر الله على اليهود إيمانهم ببعض الكتاب وكفرهم ببعض. وهذه الأصول يتعلق بها كثير من مسائل الاعتقاد، نص المصنف ـ رحمه الله ـ على بعضها، فيما تقدم، وكما سيأتي بعضها. وقوله: (ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين). ونشهد أن الأنبياء والمرسلين رسل من عند الله، جاءوا بالحق من عنده، وكلهم صادقون مَصْدوقون، ((لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)) [البقرة: 136]،

وأنهم خير خلق الله، وأن بعضهم أفضل من بعض، كما قال سبحانه: ((تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ)) [البقرة: 253] وقال سبحانه وتعالى: ((وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ)) [الإسراء: 55] وأفضلهم أولو العزم، وأفضل أولو العزم الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وأفضلهما نبينا محمد خاتم النبيين - صلى الله عليه وسلم -.

[تسمية أهل القبلة بالمسلمين]

[تسمية أهل القبلة بالمسلمين] وقوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين). أهل القبلة: هم الذين يستقبلون الكعبة في صلاتهم، فنسمي كل من يستقبل الكعبة: (مسلمين)، فجميع الفرق الإسلامية يسمون أهل القبلة؛ لأن القبلة تجمع المسلمين، وليس فيها خلاف بينهم. وأما قوله: (مؤمنين) هذا جارٍ على عدم الفرق بين الإسلام والإيمان، وأنَّ كلَ مسلمٍ مؤمنٌ وكلَ مؤمنٍ مسلمٌ، وأنهما اسمان لمسمىً واحد، وهي مسألة معروفة وكبيرة: فمن أهل العلم من يقول: إنهما اسمان لمسمىً واحد. ومنهم من يقول: بل هما متغايران ومختلفان. والقول الوسط هو: أن الإسلام والإيمان إذا أفردا اتحد معناهما، وإذا اقترنا وذكرا جميعًا اختلف معناهما، كقوله تعالى: ((إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) [الأحزاب: 35]، فإذا ذكر الإيمان والإسلام كان المراد بالإسلام الأعمال الظاهرة، وبالإيمان اعتقاد القلب، ولهذا فرق - صلى الله عليه وسلم - بين الإسلام والإيمان في حديث جبريل، فلما قال: (أخبرني عن الإسلام) أخبره بأصول الأعمال الظاهرة، وهي أركان الإسلام، وعندما قال: (أخبرني عن الإيمان؟) (¬1)، فسره له بأصول الاعتقاد وهي الأصول الستة. ¬

(¬1) تقدم في ص 201.

فعلى القول بالفرق لا نسمي كلَ أحدٍ مسلما مؤمنا؛ بل الفاسق لا نعطيه الاسم المطلق بل نقول: هو مسلم، وإذا وصفناه بالإيمان نقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بما معه من الإيمان. وقوله: (ما داموا بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين) ما داموا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، واستقاموا واستمروا على الشهادتين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقوله: (وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين) تأكيد للجملة الأولى؛ لأنها داخلة فيها. والرسول - صلى الله عليه وسلم - جاء بأمرين: بعلم، وعمل، قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ)) [الفتح: 28] فالهدى هو: العلم النافع، ودين الحق هو: العمل الصالح، والدين دائر على هذين الأصلين: العلم والعمل؛ فالإيمان بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشمل: الإيمان بما جاء به من مسائل الاعتقاد، ونسميها: المسائل العلمية. وبما جاء به من الشرائع والأحكام، ونسميها: المسائل العملية. فنسمي أهل القبلة مسلمين ما لم يكن منهم ما يوجب الردة، ومن عُلمت ردته من المنتسبين للإسلام فليس من أهل القبلة؛ بل هو مرتد، مثل: القائل بوحدة الوجود، أو من يقول بنبوة أحد غير الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ كالقاديانية الذين يقولون بنبوة مرزا غلام أحمد الهندي (¬1)، فهؤلاء ليسوا من أهل القبلة، وليسوا بمسلمين ولا مؤمنين، وإن انتسبوا للإسلام، فهم كفار وليسوا بمسلمين ولا مؤمنين. ¬

(¬1) الموسوعة الميسرة 1/ 419، وفتاوى اللجنة الدائمة 2/ 312.

[أهل السنة لا يتكلمون في الله ودينه وكتابه بغير علم]

[أهل السنة لا يتكلمون في الله ودينه وكتابه بغير علم] وقوله: (ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله). من منهج أهل العلم والتقوى أنهم لا يتكلمون في ذات الله وصفاته وأفعاله بغير علم أو بالكلام الباطل؛ بل يتكلمون في شأن الله بما علموا مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والحكمة، فعلينا أن نصف الله بما وصف به نفسه ونسميه بما سمى به نفسه، ونخبر عنه بما أخبر به عن نفسه، وما أخبر به عنه رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وليس هذا من الخوض، هذا من بيان الحق ومن الثناء على الله، ومن تعظيم الله والإيمان به سبحانه، وما كان غير ذلك فهو من الخوض الباطل كالكلام في كيفية ذاته أو صفاته بغير علم. وقوله: (ولا نماري في دين الله) المراء: الجدال، وأكثر ما يطلق المراء على الجدال بالباطل، إما من جهة القصد، أو من جهة ما يجادل به ويحتج به من الحجج الباطلة الداحضة، فالاحتجاج بالحجج الباطلة كالاحتجاج والاستدلال بالشبه العقلية وبالروايات المكذوبة، أو الجدال على وجه التعصب لا لقصد إظهار وبيان الحق والوصول إليه، كل هذا من الجدال بالباطل، ومن المراء في الدين، ومن ذلك الجدال أو المراء على وجه المعارضة لما جاءت به النصوص، فكل هذا من المراء في الدين. والجدال بالباطل هو سبيل أعداء الرسل، قال تعالى: ((مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ)) [غافر: 4]، ويقول

تعالى عن أعداء الرسل: ((وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ)) [غافر: 5]، أما الجدال الذي يراد منه الوصول إلى الحق وإظهاره ودفع الباطل؛ فهذا مشروع، وهو من طرق الدعوة، كما قال سبحانه وتعالى: ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) [النحل: 125]، وقال تعالى: ((وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ)) [العنكبوت: 46]، فالجدال بالبينات، وبالحجج الظاهرات، والأدلة العقلية والسمعية، كل هذا من طرق الدعوة إلى الله ومن الجدال بالتي هي أحسن، وما خالف ذلك فهو من المراء المذموم. وقوله: (ولا نجادل في القرآن) يظهر أن هذا يدخل في قوله: (لا نماري في دين الله) لكن عطفها على ما قبلها من عطف الخاص على العام، فلا نماري في دين الله، ولا نماري في القرآن، أي: لا نجادل فيه تكذيبا، ولا نجادل في معانيه تحريفا، لكن نحتج به ونستدل به؛ وهناك فرق بين الأسلوبين، فنجادل بالقرآن، أي: يكون القرآن هو السلاح الذي نجادل به، ونرد به على أهل الباطل؛ لكن لا نجادل فيه معارضةً لأخباره أو أحكامه، أو تكذيبا أو تأويلا له وصرفا له عن ظاهره، فكل هذا من سبل الباطل، فأهل الباطل هم الذين يجادلون في آيات الله، كما قال سبحانه وتعالى: ((مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا)) [غافر: 4] فيقولون: هذا سحر، هذا شعر، هذا كهانة، تكذيبا له، ((الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتَاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)) [غافر: 35]، ((إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)) [غافر: 56]. وقوله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين،

فعلمه سيد المرسلين محمدًا صلى عليه وعلى آله أجمعين، وهو كلام الله تعالى، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين). هذا من شواهد ما تقدم ذكره (¬1) من أن المصنف لم يرتب الكلام في مسائل الاعتقاد، ويجمع كل صنف ويضمه إلى جنسه، بل فرق الكلام في أصول الإيمان. فهذه الجملة المذكورة تتعلق بالقرآن، وقد تقدم (¬2) القول في عقيدة أهل السنة في القرآن، وأن القرآن كلام الله حقيقة منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنه كلام الله على الحقيقة وليس ككلام البشر، والناس في القرآن منهم الكفار المكذبون للقرآن الذين قالوا: إنه كلام محمد: ((إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ)) [المدثر: 25]، ومنهم من يؤمن بتنزيل القرآن لكنه يتأوله على غير تأويله، ويفسره بما يوافق هواه وأصوله الباطلة كما فعل القدرية والجهمية والرافضة فكل طائفة تؤول القرآن على ما يوافق مذهبها وأصولها. وقوله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين). نشهد ونؤمن ظاهرا وباطنا، ونقر بقلوبنا وألسنتنا أن هذا القرآن كلام ربنا، تكلم به سبحانه حقيقةً، وأنه كلام الله حروفه ومعانيه، هو كلام الله تعالى مكتوبا في المصاحف، أو محفوظا في الصدور، أو متلوا بالألسن، أو مسموعا بالآذان، فالذي يقرأه القارئ نقول: هذا كلام الله، أي: المتلو ((وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)) [التوبة: 6] لكن نحن نسمع كلام الله من صوت القارئ، كما سمع الصحابة القرآن بصوت الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وسمعه الرسول من جبريل عليه السلام، وسمعه جبريل من رب العالمين. ¬

(¬1) ص 201. (¬2) ص 104.

وقوله: (نزل به الروح الأمين) جبريل عليه السلام هو: الروح الأمين، وهو روح القدس. وقوله: (فعلمه سيد المرسلين محمدا صلى عليه وعلى آله أجمعين). كما قال سبحانه وتعالى: ((إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)) [النجم: 4 - 10] فجبريل هو الموكل بالوحي، ولهذا أضاف الله القرآن إلى الرسول من البشر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأضافه إلى الرسول من الملائكة وهو جبريل عليه السلام، كما قال تعالى: ((فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلَاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ)) [الحاقة: 38 - 45] فالمراد بالرسول في هذه الآيات: محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقال سبحانه في سورة التكوير: ((فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)) [التكوير: 15 - 21] وهذا جبريل عليه السلام. وقوله: (وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين). هذا تأكيد لما سبق أنه كلام الله، ولا يساويه شيء من كلام العالمين، ولهذا تحدى الله به الثقلين: ((قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا)) [الإسراء: 88]. وقوله: (ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين). ولا نقول بخلق القرآن كما قالت المعطلة المبتدعة كالجهمية والمعتزلة ومن وافقهم؛ بل نقول: إنه كلام الله حقيقة حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ولا المعاني دون الحروف (¬1). ¬

(¬1) العقيدة الواسطية ص 197.

وقوله: (ولا نخالف جماعة المسلمين). جماعة المسلمين في الصدر الأول، وإلا فالمسلمون بعد الصدر الأول قد تفرقوا واضطربوا واختلفوا في القرآن، فنحن لا نخالف جماعة السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

[أهل السنة لا يكفرون بكل ذنب]

[أهل السنة لا يكفرون بكل ذنب] وقوله: (ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله). عبارة المؤلف تقتضي أن أهل السنة لا يكفرون أحدا من أهل القبلة بأي ذنب، والذنوب نوعان: ذنوب من أنواع الردة؛ كالشرك وما في درجته، وهي أعظم الذنوب، وذنوب دون الشرك لا توجب الردة، وإذا أخذت عبارة المؤلف على إطلاقها فظاهرها أن كل من كان مسلما فإنه لا يكفر، بأي ذنب ارتكبه حتى ولو كان شركا، ولا ريب أن الطحاوي لم يقصد هذا، وإنما يقصد الذنوب التي دون الشرك. ولهذا قال الشارح ابن أبي العز: (امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحدًا بذنب؛ بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب) (¬1) فهذه هي العبارة الدقيقة، وتكون من سلب العموم، لا من عموم السلب؛ كعبارة الطحاوي ومضمون سلب العموم: أنا لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بكل ذنب، إنما نكفره بالشرك وما في حكمه، ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بما دون ذلك، والله تعالى قد جعل الذنوب قسمين: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء: 48] فنحن أهل السنة لا نكفر أحدا من أهل القبلة بشيء من الذنوب التي دون الشرك، خلافا للخوارج الذين يكفرون بالذنوب، وقد يعدون ما ليس بذنب ذنبا فيكفرون به، والخوارج الذين ظهروا بهذه البدعة في عهد علي - رضي الله عنه - ¬

(¬1) ص 433.

فقاتلهم، وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عنهم وندب إلى قتالهم، وذكر الأجر العظيم لمن قتلهم، (¬1) إذًا؛ الذنوب فيها مكفر وغير مكفر؛ فكل ما هو من أنواع الردة فهو مكفر، كالشرك، والتكذيب بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والاستهزاء بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو بالقرآن، وهناك ذنوب اختلف العلماء في كفر فاعلها؛ كترك الصلاة. وقوله: (ما لم يستحله) أي: لا نكفره بهذا الذنب إلا أن يعتقد حله، فإن اعتقد حله كفر؛ كجحد وجوب الصلاة أو الحج أو صيام رمضان، وجحد تحريم المحرمات المعلوم حكمها بالضرورة من دين الإسلام؛ كتحريم الزنا، والخمر؛ لأنه يكون مكذبا للقرآن والسنة المتواترة، وما أجمع عليه المسلمون، ومن اعتقد حل ما حرمه الله مما تحريمه معلوم من دين الإسلام بالضرورة فهو كافر حتى ولو لم يفعله؛ لأنه ليس من شرط ثبوت الردة بالاستحلال فعل المكلف لما استحله من الحرام. ¬

(¬1) صحيح البخاري (6930 - 6932)، وصحيح مسلم (1066).

[تأثير الذنوب على الإيمان]

[تأثير الذنوب على الإيمان] وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله). وأهل السنة لا يقولون: (لا يضر مع الإيمان ذنب) خلافا للمرجئة، والطحاوي في هاتين الجملتين يقصد الرد على الخوارج في الأولى، وعلى المرجئة الغلاة في الثانية، والمرجئة والخوارج على طرفي نقيض، فالخوارج يكفرون بالذنوب، فعندهم فاعل الكبيرة كافر مرتد خارج عن ملة الإسلام حلال الدم والمال (¬1)، أما عند المرجئة ما دام معه أصل الإيمان وهو التصديق أو معرفته للخالق فهو عندهم مؤمن كامل الإيمان، لا يضره ما يفعل من الذنوب، (¬2) وبدعتهم هذه أقبح من بدعة الخوارج؛ لأن الخوارج يعظمون أمر الذنوب، ويبالغون في الحذر والتحذير منها، وقد اختلف العلماء في تكفيرهم، فعن أحمد فيهم روايتان (¬3)، ونقل شيخ الإسلام أن الصحابة أجمعوا على عدم كفر الخوارج (¬4) لكنهم مبتدعة ضُلَّال. أما بدعة المرجئة الغلاة فهي أشنع من بدعة الخوارج؛ لأن مضمونها الجرأة على المحرمات وعدم المبالاة بها، واقتراف السيئات، وهذا فيه رد لنصوص الكتاب والسنة الدالة على تحريم المحرمات، وترتب العقاب عليها؛ كالقتل، والتولي يوم الزحف، وأكل مال اليتيم، قال تعالى: ¬

(¬1) مقالات الإسلاميين ص 86، والملل والنحل 1/ 85، ومجموع الفتاوى 12/ 470. (¬2) مجموع الفتاوى 12/ 470. (¬3) مجموع الفتاوى 28/ 518. (¬4) الإيمان 7/ 217.

((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنَاً مُتَعَمِّدَاً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)) [النساء: 93] وقال تعالى: ((وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفَاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزَاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)) [الأنفال: 16]، وقال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمَاً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارَاً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرَاً)) [النساء: 10] فكيف يقال: لا يضر مع الإيمان ذنب؟! وهذا مذهب جهم، وجهم إمام غلاة المرجئة، أما مرجئة الفقهاء فمذهبهم ليس كذلك إنما هم يخرجون الأعمال عن مسمى الإيمان، لكن يقولون بوجوب الواجبات وتحريم المحرمات، وترتب العقاب على فعل المحرمات وترك الواجبات، فالذنوب عندهم تضر مرتكبها، ويستحق العقاب الذي توعد الله به في كتابه، أو أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأهل السنة وسط في هذا المقام فلا يُكفِّرون أهل الكبائر، ولا يُؤَمِنُونَهم من العقاب، ويرون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا مؤمن بما معه من الإيمان، فاسق بما ارتكب من الكبيرة، وما ورد في النصوص من إطلاق اسم الكفر على بعض الأعمال، أو بعض العاملين مما هو دون الشرك، فهو محمول على الكفر الأصغر الذي يعبر عنه بكفر دون كفر، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) (¬1)، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) (¬2) وما أشبه ذلك، وفي الآخرة هو تحت مشيئة الله، هذا حكمهم في الآخرة، كما سيأتي تقرير حكم أهل الكبائر في قول الطحاوي: (وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن كانوا غير تائبين). ¬

(¬1) رواه البخاري (48) ومسلم (64) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (67) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[الرجاء للمحسنين، والخوف على المسيئين]

[الرجاء للمحسنين، والخوف على المسيئين] وقوله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم، ولا نقنطهم). نرجو للمحسنين ـ لا أي أحد ـ أن يعفو الله عنهم، ويتجاوز عن ذنوبهم؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، وأن يدخلهم الجنة برحمته سبحانه وتعالى، ولا نأمن عليهم العقاب على ذنوبهم؛ لأن ذلك مردود إلى مشيئته سبحانه وتعالى؛ لأن الله تعالى قال: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء: 48] وهو سبحانه أعلم وأحكم؛ فيجعل فضله وعفوه وإحسانه ورحمته حسبما تقتضيه حكمته البالغة، ويعاقب من يشاء، كما قال سبحانه وتعالى: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء: 48]، ((فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)) [البقرة: 284] فالأمر مردود إلى مشيئة الله؛ لكن نعلم بدلالة النصوص أن من المذنبين من يعفو الله عنهم، ومنهم من يعاقبه ويدخله النار ثم يخرجه منها، ولا يصح أن نقول: يجوز أن يتجاوز الله عن جميع المذنبين فلا يدخل أحد منهم النار؛ لأن النصوص دلت على أن من أهل الكبائر من يدخل النار ثم يخرج منها. (¬1) وقوله: (ونرجو للمحسنين) يريد أهل الإحسان الذين حسن إسلامهم واستقاموا عليه، فهؤلاء ¬

(¬1) انظر ص 156.

أهل الإحسان العظيم يرجى لهم من العفو والرحمة والمغفرة ما لا يرجى لغيرهم؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات. وقوله: (ولا نشهد لهم بالجنة) لا نشهد لأحد من المحسنين الصالحين بالجنة، فضلا عمن دونهم، وهذه مسألة سيأتي النص عليها في كلام الطحاوي (¬1)؛ لأنه يكرر المعنى الواحد أحيانا في أكثر من موضع، فلا نشهد لأهل القبلة بجنة ولا نار. والشهادة بالجنة ذكر فيها الشارح ابن أبي العز ثلاثة مذاهب (¬2): قيل: لا يشهد إلا للأنبياء. وقيل: يشهد بالجنة لكل من جاء فيه النص، وهو قول كثير من العلماء وأهل الحديث. وقيل: يُشهد بالجنة لهؤلاء، ولمن شهد له المؤمنون. والقول الثاني هو: أصحها فمن شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - شهدنا له بالجنة، كالعشرة المبشرين بالجنة (¬3)، وثابت بن قيس بن شماس (¬4)، والحسن والحسين، (¬5) رضوان الله عليهم، ومن شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الجماعات؛ كأهل بيعة الرضوان نشهد بأن جميعهم في الجنة، قال تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)) [الفتح: 18]، وقال ¬

(¬1) ص 264 عند قوله: ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا. (¬2) ص 538، وهو منقول من منهاج السنة 5/ 295. (¬3) رواه أبو داود (4649)، والترمذي (3757) ـ وقال: حسن صحيح ـ، وابن ماجه (133)، وصححه ابن حبان (6993)، والحاكم 3/ 440، والضياء في المختارة 3/ 282 - 290 من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه -. (¬4) رواه البخاري (4846) ومسلم (119) عن أنس - رضي الله عنه -. (¬5) رواه أحمد 3/ 3، والترمذي (3768) وابن حبان (6959) والحاكم 3/ 167ـ وصححوه ـ من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا يدخلُ النارَ أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة) (¬1) أما من شهد له المؤمنون، فيستدل له بحديث أنس - رضي الله عنه - قال: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت»، ثم مروا بأخرى، فأثنوا عليها شرا، فقال: «وجبت»، فقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض». ... (¬2) لكن هذا خطاب لجماعة من خيار الصحابة رضي الله عنهم، فلا يتأتى اعتبار أي جماعة من الناس أن شهادتهم للشخص توجب الشهادة له بالجنة، إذا شهدوا له بالخير والصلاح؛ لكن شهادة المسلمين والصالحين مما يستبشر به، ومما يبشر بالخير ويبعث على الرجاء، أما أن يشهد له بالجنة بناء على هذا فلا، وهذا المثنى عليه خيرا لم يعلم أنه في الجنة إلا بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «وجبت»، وهذا لا يتأتى لغيره من الناس. وقوله: (ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم). نرجو للمحسنين أن يعفو الله عنهم ويدخلهم الجنة، ولا نأمن عليهم ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر للمسيئين، قال تعالى: ((وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) [محمد: 19] فالله ندب نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يستغفر ربه لذنبه وللمؤمنين، وهذه سنة الأنبياء فقد ذكر الله عن نوح أنه قال: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنَاً وَلِلْمُؤْمِنِينَ)) [نوح: 28] وعن إبراهيم أنه قال: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)) [إبراهيم: 41] وقد أثنى الله على الذين يستغفرون لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلَّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ ¬

(¬1) رواه أحمد 3/ 350، وأبو داود (4653)، والترمذي (3860) من حديث جابر - رضي الله عنه -، ونحوه عند مسلم (2496) من روايته عن أم مبشر رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (1367)، ومسلم (949).

رَحِيمٌ)) [الحشر: 10]، فينبغي أن يكون هذا دأب المسلم فيستغفر ربه لنفسه ولإخوانه المسلمين. وقوله: (ونخاف عليهم) في المحسنين قال: (ولا نأمن عليهم) مع إحسانهم، وهنا قال: (ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم، ولا نقنطهم) فنخاف على المسيئين من عقاب الله، ولا نؤمنهم كحال المرجئة الذين يقولون: (لا يضر مع الإيمان ذنب)، ولا نقنطهم كحال الخوارج الذين يقولون: (لا يرجى لهم مغفرة ولا رحمة ولا يدخلون الجنة)، وهذا مسلك أهل السنة رضي الله عنهم ورحمهم فهم وسط بين هذه الفرق، وسط في باب الأسماء والصفات، وسط في أفعال العباد، وسط في أسماء الإيمان والدين، وسط في أهل الكبائر، وسط في الصحابة، فكل هذه العبارات تتضمن تقرير التوسط في أمر أهل الذنوب، فلا نكفرهم، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله.

[مذهب أهل السنة وسط بين الوعيدية والمرجئة]

[مذهب أهل السنة وسط بين الوعيدية والمرجئة] وقوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة). الأمن ضد الخوف، والمراد الأمن من عذاب الله ومكره، كما قال تعالى: ((أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتَاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)) [الأعراف: 97 - 99] والأمن من عذاب الله يتضمن التكذيب بوعيد الله، وهو مقتضى قول غلاة المرجئة: (لا يضر مع الإيمان ذنب)، وهذا إذا كان عن اعتقاد أنه في مأمن من عذاب الله، لا إن كان ناتجا عن غفلة، كحال كثير من الناس، إذ لو كان يخاف من العذاب ويستحضره لأوجب ذلك خوفه من الله، وإقباله عليه، وقيامه بالواجبات، واجتنابه للمحرمات، فهذا ليس من الأمن الذي جاء في شأنه الوعيد. وضد الأمن من عذاب الله وبأسه ومكره، اليأس من رحمة الله، والإياس: هو اليأس، وهو ضد الرجاء، وقد قال سبحانه وتعالى: ((إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)) [يوسف: 87] وقريب من معنى اليأس القنوط، وهو أشد اليأس، كما قال تعالى عن إبراهيم أنه قال: ((وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ)) [الحجر: 56]. والقنوط واليأس يتضمن إنكار التوبة، وأن الله لا يتوب على من تاب، وفي هذا تكذيب لخبر الله أنه يتوب على التائبين، قال تعالى:

((إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلَاً صَالِحَاً)) [الفرقان: 70]، ((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)) [النساء: 17]، وهذا هو مقتضى مذهب الخوارج، فإن مذهبهم يتضمن أن مرتكب الكبيرة يخرج عن الإسلام، وأن مات على ذلك من غير توبة؛ فهو مخلد في النار كسائر الكفار، وهذا تقنيط للعصاة من رحمة الله، ولهذا قال الطحاوي: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام) ومقتضى هذا أنهما ردة عن الإسلام، ولا شك في كفر من قال: إن الله لا يتوب على من تاب، لمخالفة وتكذيب خبر الله سبحانه وتعالى في كتابه، وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ويلاحظ أن الأمن غلو في الرجاء، والإياس غلو في الخوف، فالغلو في الخوف ينتهي إلى اليأس والتيئيس والتقنيط من رحمة الله، والغلو في الرجاء يفضي إلى الأمن من عذاب الله؛ ولكن إذا كان هذا اليأس عارضا للإنسان ليس عن اعتقاد؛ بل استعظم ذنبه، وخاف منه، وبلغ به الأمر أنه ظن بجهله أنه لا يغفر له؛ فهذا قد يعذر بأنه يسيء الظن بنفسه، وأن الله لا يغفر له لسوء عمله؛ مثل الذي أمر أولاده أن يحرقوه إذا مات لشدة خوفه من عذاب الله (¬1). (وسبيل الحق بينهما) الصراط المستقيم بين الأمن واليأس، فالواجب على العبد أن يكون خائفا راجيا، فالرجاء من مقامات الدين، ومما أثنى الله به على المؤمنين: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ)) [البقرة: 218]، وقال سبحانه وتعالى: ((وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)) [الإسراء: 57]. والخوف من مقامات الدين، والله أثنى على أوليائه بأنهم يخافونه ويرجونه: ((يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفَاً وَطَمَعَاً)) [السجدة: 16]، وقال سبحانه وتعالى: ((يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبَاً وَرَهَبَاً)) [الأنبياء: 90]، وقال سبحانه وتعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ ¬

(¬1) رواه البخاري (3481)، ومسلم (2756) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ)) [الإسراء: 57] فهذا هو الصراط المستقيم في هذا المقام فلا أمن ولا يأس. والأمور المقتضية للعمل ثلاثة أمور: المحبة، والرجاء، والخوف، فالرسل وأتباعهم يعبدون ربهم حبا له تعالى، ورجاء لرحمته وفضله وثوابه، وخوفا من سخطه وعقابه، فيعبدونه بكل هذه الأحوال والمقامات. أما أهل الضلال فمنهم من يعبده بالحب فقط؛ كجهلة الصوفية وغلاتِهم، ويستخفون بمقام الرجاء والخوف. ومنهم من يعبده بالرجاء كالمرجئة، ومنهم من يعبده بالمبالغة في الخوف كالخوراج، ولهذا قال بعض أهل العلم: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد) (¬1) من كانت عبادته لربه فقط بالحب لا يخاف ولا يرجو، فهذا ضد طريق الرسل، فالله ذكر أسماءَه وصفاتِه المقتضية للرجاء والخوف، وأثنى على رسله بالرجاء والخوف. و (حروري) أي: من الخوارج، (ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد) لأن هذا هو الصراط المستقيم في هذا المقام، لا أمن ولا إياس، بل خوف ورجاء، فالخوف يُعَدِّل الرجاء، والرجاء يُعَدِّل الخوف. فالواجب على الإنسان أن يسير إلى الله في هذه الحياة بين الخوف والرجاء، فيرجو ويخاف، وفي الأثر: (لا يرجو عبد إلا ربه، ولا يخاف إلا ذنبه) (¬2). ¬

(¬1) التحفة العراقية 10/ 81 والعبودية 10/ 207. (¬2) قاله علي - رضي الله عنه -. رواه العدني في الإيمان رقم (19)، وأبو نعيم في الحلية 1/ 76، وابن عبد البر في جامع العلوم والحكم 1/ 90، وانظر شرح هذا الأثر في مجموع الفتاوى 8/ 161.

[ما يخرج به المسلم من الإيمان]

[ما يخرج به المسلم من الإيمان] وقوله: (ولا يَخرج العبدُ من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه). أي: لا يصير كافرا مرتدا بعد أن صار مسلما مؤمنا إلا بجحود ما أدخله فيه، وهذه الجملة خطيرة جدا؛ لأن الإنسان يدخل الإسلام بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فالكافر إذا شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ظاهرا وباطنا، صار مسلما؛ فإن شهد بها بلسانه فقط فهو منافق، وإن شهد بها في باطنه دون ظاهره فهو جاحد، قال تعالى: ((فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ)) [الأنعام: 33]، وقال تعالى: ((وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمَاً وَعُلُوَّاً)) [النمل: 14] فلا بد أن يشهد الشهادتين ظاهرا وباطنا، عن علم وانقياد وإقرار، بذلك يدخل في الإسلام حقيقة. فقوله: (إلا بجحود ما أدخله فيه) معنى ذلك أن ينكر تفرد الله بالإلهية، فيصير بها مشركا، أو ينكر رسالة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى جميع الناس، فيصير مُكذبا للرسول - صلى الله عليه وسلم -، هذا معنى هذه الجملة. فإذا كان يخرج عن الإسلام بجحود التوحيد أو جحود الرسالة، فلأن يخرج عن الإسلام بالتكذيب أو الشك أولى، وعلى هذا فلا يخرج عن الإسلام إلا بالتكذيب، أو الشك في الباطن، أو بالجحود سواءً مع تكذيب وشك أو مع تصديق. ويمكن أن يقال: إن هذه العبارة تقتضي أنه لا يكفر بأي فعل بعد ذلك إذا لم يجحد، وهذا لا يستقيم؛ بل من تكلم بما هو كفر؛ فإنه

يكفر ولو لم يجحد؛ كمن يستهزئ بالرسول - صلى الله عليه وسلم - مع إقراره برسالته؛ فهل يقال: إنه جحد الرسالة؟ لا، ومن ذبح لغير الله؛ فإنه يكفر، ولو قال: لا إله إلا الله وأن الله هو الإله الحق الذي لا يستحق العبادة سواه، فهذا غير جاحد، فكفره بالفعل، وقد سبق أن الكفر يكون قولا وفعلا واعتقادا، فهذه العبارة لا تصح على هذا الإطلاق؛ فإنه حصر الحكم بالكفر بالجحود، وهي تساوي قولك: لا يكفر المسلم إلا بالجحود. والله أعلم.

[مذاهب الفرق في مسمى الإيمان]

[مذاهب الفِرَقِ في مسمى الإيمان] وقوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان). هذا هو تعريف الإيمان عند مرجئة الفقهاء، وهو يقتضي أن أعمال الجوارح كلها ليست من الإيمان؛ بل وأعمال القلوب. وهو خلاف ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة: أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، أو هو: قول وعمل، قول القلب وهو: اعتقاده، وقول اللسان: وهو إقراره، وعمل: وهو عمل القلب، وعمل الجوارح، فالإيمان يشمل كل هذه الجوانب، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص، قال الله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) [الأنفال: 2]، وقال الله في الصلاة التي صلاها المسلمون إلى بيت المقدس ومات من مات قبل نسخ القبلة: ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)) [البقرة: 143] إي: صلاتكم إلى بيت المقدس، وعقد البخاري ـ رحمه الله ـ أبوابا عديدة في كتاب الإيمان تَرْجم بها لمختلف الأعمال: باب: الجهاد من الإيمان، (¬1) باب: صوم رمضان احتسابا من الإيمان، ... (¬2) باب: اتباع الجنائز من الإيمان، (¬3) باب: أداء الخمس من الإيمان (¬4)، ومن الأحاديث الجامعة قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وسبعون أو بضع ¬

(¬1) 1/ 16. (¬2) 1/ 16. (¬3) 1/ 18. (¬4) 1/ 20.

وستون شعبة) (¬1). فالصلاة والصيام والحج والجهاد وبر الوالدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان). (¬2) ومسألة مسمى الإيمان مسالة كبيرة، وقد خالف أهل السنة والجماعة طوائف المرجئة، فمنهم مرجئة الفقهاء وهم الذين ذكر الطحاوي مذهبهم: أن الإيمان هو: «تصديق القلب وإقرار اللسان»، وبعضهم يجعل الإيمان هو: «تصديق القلب»، والإقرار شرط فيه، وليس من مسماه، فلا يصح إيمان القلب إلا بإقرار اللسان. والقول الآخر قول الجهمية ومن تبعهم: «الإيمان هو مجردُ التصديقِ أو مجرد المعرفةِ»، والمعرفةُ والتصديقُ في نظري محصلهما متقارب، فعلى تقريرهم: إذا كان المكلف يعرف ربه فهو مؤمن، والكفر هو جحود الخالق، فأما الإقرار بالإنسان، وعمل الجوارح، وعمل القلب؛ فالكل ليس من مسمى الإيمان، وهذا يقتضي أن كل طوائف الكفر مؤمنون؛ لأنهم يعرفون الله، حتى كفار قريش، قال تعالى: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)) [لقمان: 25]، وأخبر الله عن عادٍ وثمودَ أنهم قالوا: ((لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنزَلَ مَلائِكَةً)) [فصلت: 14]، وقوم نوح قالوا: ((ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً)) [المؤمنون: 24]، إلى غير ذلك، فهذا أفسد أقوال الناس في مسمى الإيمان. ومن الأقوال الباطلة قول الكرامية: أن الإيمان هو: «الإقرار باللسان»، فالمنافق عندهم مؤمن، لكنه إذا مات فهو مخلد في النار، يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ تعليقا على هذا: «فخالفوا الجماعة في الاسم دون الحكم» (¬3)، ¬

(¬1) رواه البخاري (9)، ومسلم (35) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (49) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬3) التدمرية ص 462.

فالمنافق عند المسلمين ليس بمؤمن؛ لأنه يبطن التكذيب والشك والإباء، قال تعالى: ((وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)) [البقرة: 8] ويقول شيخ الإسلام عن قولهم: (قول منكر لم يسبقهم إليه أحد) (¬1) فهذه أربعة مذاهب في مسمى الإيمان، وأهمُ هذه الأقوالِ المخالفةِ قولُ مرجئة الفقهاء: الإيمان هو: «التصديق، وإقرار اللسان»، وأن الأعمال ليست من الإيمان، ولهم على ذلك شبهات كثيرة، وقد أجاب عنها شيخ الإسلام ابن تيمية في «الإيمان الكبير» و «الإيمان الأوسط» وغيرهما. والمقصود: أنه قول مخالف لما دل عليه القرآن، والسنة الصحيحة أن الإيمان اسم لكل أمور الدين: الاعتقادية والعملية والقولية، كما في الحديث: (الإيمان بضع وستون شعبة) (¬2)، وإن كان ما في القلب أصل لأعمال الجوارح كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا وإن في الجسد مضغة: إذا صلَحت صلَح الجسد كلُه وإذا فسدت فسد الجسد كلُه ألا وهي القلب) ... (¬3). فالجوارح تابعة للقلب صلاحا وفسادا، وهو بالنسبة لها بمثابة الملك مع جنوه. ومن شبهات المرجئة قولهم: إن الإيمان معناه في اللغة العربية: التصديق. وقد رد ذلك ابن تيمية (¬4) بوجوه كثيرة، منها: أنه ليس كذلك في اللغة العربية؛ بل الإيمان أخص من مطلق ¬

(¬1) الموضع السابق. (¬2) تقدم ص 227. (¬3) رواه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما. (¬4) الإيمان الكبير 7/ 289.

التصديق، وهو الإيمان بالأمر الغائب الذي يؤتمن عليه المخبِر، فلا تقول لمن قال لك: طلعت الشمس: آمنتُ لك، بل صدقتُك، لكن من أخبرك بأمر لا تدركه ولا تعرفه بحسك نعم، كما قال إخوة يوسف: ((وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ)) [يوسف: 17] فالإيمانُ في اللغة العربية تصديقٌ، لكن ليس كلُ تصديقٍ يكون إيمانا. وهكذا بالنسبة للاستعمال، فـ (آمن) يتعدى باللام وبالباء تقول: آمنت به، هذا بالنسبة للخبر أو المؤمَن به، وآمنت له بالنسبة للمخبِر, وأما (صَدَّق) فإنه يتعدى بنفسه، فتقول: صَدَّقه، فهو يختلف عن الإيمان من جهة اللفظ والاستعمال، ومن جهة المعنى والمضمون، وسيأتي لهذا مزيد بحث عند قول المؤلف: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء). (¬1) ¬

(¬1) ص 234.

[وجوب الإيمان والعمل بكل ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -]

[وجوب الإيمان والعمل بكل ما صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -] وقوله: (وجميع ما صح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الشرع والبيان كله حق). أي: ما رواه الثقات العدول حسب قواعد أهل الحديث؛ فالروايات عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مروية بالأسانيد، وهي قسمان: متواتر، وآحاد. (¬1) فالمتواتر: هو الذي يرويه عدد كثير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، عن مثلهم إلى أن يبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم -. والآحاد هو: ما يروى بأسانيد معدودة، وقسمه العلماء إلى مشهور وعزيز وغريب. لكن القسمة العامة: متواتر وآحاد. أما المتواتر فكل الطوائف متفقة على ثبوته. والآحاد تنقسم إلى: صحيح، وحسن، وضعيف. أما الضعيف فهو مردود لا يعتمد عليه، لكن الشأن في المقبول الذي يشمل الصحيح والحسن، فأهل السنة والجماعة يقبلون ما توافرت فيه شروط القبول، ولو كان واحداً، في جميع أمور الدين، في الأمور الاعتقادية؛ كصفات الرب سبحانه وتعالى، وأفعاله، أو ما يتعلق باليوم الآخر، وفي ¬

(¬1) روضة الناظر 1/ 347، ونزهة النظر ص 37.

الأمور العملية؛ كأحكام الطهارة والصلاة والزكاة والمعاملات. وهذه قضية أصولية عقدية، وهي: حجية خبر الواحد، والصواب: أن خبر الواحد حجة في مسائل الدين الاعتقادية والعملية، والأدلة على قبول خبر الآحاد كثيرة في السنة، منها: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل الرسل آحادًا. (¬1) وعند أهل البدع من المتكلمين: أن خبر الواحد لا يحتج به في العقائد، فيردون كثيرا من النصوص الواردة في صفات الله تعالى بحجة أنها خبر آحاد. والتفريق بين مسائل الاعتقاد ومسائل العمل من حيث الإثبات بدعة، فكل مسائل الدين ما ثبت به هذا ثبت به ذاك، فما تثبت به الأحكام الشرعية الحلال والحرام تثبت به مسائل الاعتقاد، ثم إن أهل البدع ليس مقصودهم فقط الاحتياط في الثبوت، إنما مقصودهم رد النصوص المخالفة لأصولهم، فما استطاعوا رده ردوه بقولهم: إن هذه آحاد لا تثبت بها مسائل الاعتقاد؛ لكن إذا جاء متواترًا فماذا يصنعون؟ يقولون: نعم. هذا قطعي الثبوت؛ لكن نفس النصوص ظنية الدلالة، ويقولون: إن مسائل الاعتقاد لا تثبت بالأدلة اللفظية! والأدلة السمعية: الآيات والأحاديث كلها أدلة لفظية في مقابل الأدلة العقلية، وعندهم: إن العقائد لا تثبت إلا بالدلائل العقلية، هذا هو الأصل الفاسد والطاغوت الأكبر الذي أفضى بهم إلى التلاعب بكلام الله تعالى، وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وإلى رد كثير من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخباره، فردوا نصوص الصفات، ونفوا الصفات بالشبهات العقلية التي هي بزعمهم حجج، ولهذا يقول شيخ الإسلام فيهم: «ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات، يسفسطون في العقليات، ويقرمطون ¬

(¬1) انظر: الرسالة ص 401، وصحيح البخاري 9/ 86، ومختصر الصواعق 4/ 1465.

في السمعيات». (¬1) فلما أصلوا نفي الصفات وقفوا من النصوص أحد ثلاثة مواقف: الأول: الرد لما قدروا على رده؛ كأخبار الآحاد قالوا: هذه لا تثبت بها العقائد. الموقف الثاني: التأويل لما لا يستطيعون رده؛ كالقرآن، فسلكوا فيه طريق التأويل، وهو صرف ألفاظ النصوص عن ظاهرها. والثالث: مسلك التفويض، وهو إمرار النصوص ألفاظا من غير فهم لمعناها ومراد الله منها؛ بل إمرارها ألفاظا دون توقف في تدبرها، وفهم دلالاتها. وأهل السنة والجماعة يؤمنون بكل ما أخبر الله تعالى به، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، من الشرع والبيان، وهو يشمل: مسائل الاعتقاد، ومسائل الأحكام، فكلها حق من عند الله. ¬

(¬1) التدمرية ص 94.

[زيادة الإيمان ونقصانه]

[زيادة الإيمان ونقصانه] وقوله: (والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتُّقَى، ومخالفة الهوى وملازمة الأَوْلى). الإيمان واحد هو: التصديق بالقلب، ومعناه أنه لا يزيد ولا ينقص، ومسألة الزيادة والنقصان هي من فروع الخلاف بين أهل السنة والمرجئة، فمرجئة الفقهاء عندهم: أن الإيمان واحد لا يزيد ولا ينقص، وعند أهل السنة: أنه يزيد وينقص، فالتصديق نفسه يزيد وينقص، يقوى ويضعف، وهذا أمر معقول، فـ «ليس الخبرُ كالمعاينةِ»، وليس ما يستفاد بالخبر المتواتر كالمستفاد بخبر الآحاد من حيث قوة العلم واليقين، فهل وجوب الصلوات الخمس كوجوب الوتر عند من يقول به؟ أو كوجوب بعض واجبات الصلاة؟ فالتصديق نفسه والعلم نفسه يتفاوت قوة وضعفا، وكذلك أعمال القلوب: الحب والبغض والخوف والرجاء والتوكل هذه الأعمال القلبية تتفاوت قوة وضعفا، فهناك بغض وبغض شديد، وحب وحب شديد، قال تعالى: ((قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)) [التوبة: 24]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) (¬1)، فهو أمر محسوس لا يستطيع المنصف العاقل أن ينكره أو أن يتجاهله. أما أعمال الجوارح فالزيادة فيها والنقص ظاهر للعيان، والآيات ¬

(¬1) تقدم ص 102.

الدالة على الزيادة كثيرة؛ كقوله سبحانه: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً)) [آل عمران: 173]، ((وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً)) [الأنفال: 2]، ((لِيَزْدَادُوا إِيمَانَاً مَعَ إِيمَانِهِمْ)) [الفتح: 4]، ((وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانَاً)) [المدثر: 31]، ((فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)) [التوبة: 124]. وقوله: (وأهله في أصله سواء) إذا كان الإيمان لا يزيد ولا ينقص فلا بد أن يكون أهله فيه سواء؛ لأنه شيء واحد. لكن المؤلف أتى بتعبير فيه عندي عدم وضوح، وهو قوله: (وأهله في أصله) ولم يقل: (وأهله فيه) والمناسب على مذهبه أن يقول: (وأهله فيه سواء)؛ لأن هذا مقتضى كون الإيمان واحدا، أن يكون الناس فيه سواء، ولا أدري ماذا يريد بقوله: (في أصله)، إن أراد أن المؤمنين كلهم عندهم إيمان فهم مشتركون في الأصل، وبينهم قدر مشترك، فهذا لا يصح أن يقال: إنهم فيه سواء؛ لأن وجود قدر مشترك لا يصح معه أن يقال: إنهم فيه سواء، وحقيقة القول عند المرجئة: أن أهله فيه سواء، لكن الطحاوي ـ رحمه الله ـ كأنه تحاشى أن يقول: وأهله فيه سواء فقال: (وأهله في أصله سواء) ويؤكد هذا أنه قال: (والتفاضل بينهم في الخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) ولم يقل: يتفاضلون في الإيمان، فعنده أن أعمال القلوب فيها زيادة ونقص؛ لكن الخشية، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى، والتقوى هل هي من الإيمان عند هؤلاء المرجئة؟ لا، ليست من مسمى الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق بالقلب، وإقرار اللسان. فعندهم أن أعمال القلوب وأعمال الجوارح كلها ليست من الإيمان، فالتفاضل في أعمال القلوب والجوارح هي ثمرة وأثر ذلك الإيمان وليست منه. وعلى قولهم: يكون إيمان أفسق الناس الذي معه الإيمان وإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما سواء!

وقوله: (والتفاضل بينهم في الخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأَولى) أي: الخشية من الله، قال تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر: 28]، ((فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي)) [البقرة: 150]. و (التقى) التقوى، وهي: أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وعقابه وقاية بفعل أمره وترك معصيته. و (مخالفة الهوى) طاعةً لله ورسوله، قال تعالى: ((وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى)) [النازعات: 40]، ((أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)) [الفرقان: 43]، ((وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)) [ص: 26]، ((فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) [القصص: 50]. و (ملازمة الأَولى) المحافظة على ما هو الأولى به، هذا هو مجال التفاضل عندهم، أما الإيمان الذي هو التصديق فليس فيه تفاضل ولا زيادة ولا نقص، وبهذا يعلم أن الخلاف بين أهل السنة والمرجئة ليس خلافا لفظيا؛ لأن الخلاف اللفظي يقال: لا خلاف فيه. كيف يكون الخلاف لفظيا وتبذل فيه هذه الجهود من المؤلفات، وتقرير الدلائل، ورد الشبهات، ويشتد الإنكار على من اخرج الأعمال عن مسمى الإيمان؟! لا، ليس الخلاف لفظيا؛ بل هو حقيقي، ترتب عليه: مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، ومسألة الاستثناء في الإيمان.

[ولاية الله وبم تكون؟]

[ولاية الله وبم تكون؟] وقوله: (والمؤمنين كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم، وأتبعهم للقرآن). قال تعالى: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) [يونس: 62 - 63] والأنبياء هم خير وأفضل الأولياء، وهم أكمل المؤمنين إيمانا وتقوى، وأتباعهم المؤمنون كلهم أولياء الله، قال تعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)) [النساء: 69] فهؤلاء أصناف أولياء الله: الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون. وطبقات أولياء الله إجمالا طبقتان: (¬1) مقربون، ومقتصدون. فالمقربون: هم الذين يفعلون الفرائض والنوافل والمستحبات، ويجتنبون المحرمات والمكروهات وفضول المباحات، وهم المسارعون في الخيرات. والمقتصدون: هم الذين يؤدون الفرائض ويجتنبون المحارم، وليس لهم تميز في النوافل، وليس معنى ذلك أنهم لا يفعلون شيئا مع النوافل. فالمؤمنون هم أولياء الله، وهو وليهم، قال تعالى: ((وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)) [آل عمران: 68]، والكافرون والمنافقون أعداؤه وهو عدوهم، قال تعالى: ((فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ)) [البقرة: 98]. ¬

(¬1) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/ 176.

وقوله: (وأكرم أولياء الله أطوعهم) أكرم أولياء الله عند الله هو: أطوعهم لله تعالى ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، (أطوعهم) أفعل تفضيل، أي: أكملهم طاعة وامتثالا للأوامر، واجتنابا للمنهيات. وقوله: (وأتبعهم للقرآن) هذا من التنويع في التعبير؛ لأن من كان أطوع فهو أتبع، ومن كان أتبع فهو أطوع، ولا طاعة إلا باتباع القرآن، قال الله تعالى: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)) [الحجرات: 13] فالمؤمنون متفاضلون تفاضلا لا يعلمه إلا الله، فالأنبياء بعضهم أفضل من بعض، والصديقون متفاضلون، والشهداء متفاضلون. واتباع القرآن يكون بامتثال ما فيه من الأوامر، واجتاب ما فيه من المناهي، والإيمان بكل ما فيه من الأخبار مما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته، أو بما كان وما سيكون، والله تعالى ذكر الاتباع في مواضع: ((فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)) [طه: 123]، ((اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ)) [الأعراف: 3] فأمر الله باتباع القرآن، واتباع الرسول: ((وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف: 158] فلا رأي لأحد مع ما جاء في القرآن، ولا رأي لأحد مع بيان الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ بل يجب أن يكون العبد تابعا لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لا يقدم عليهما هوىً ولا رأيا.

[الإيمان بالأصول الخمسة، وتفصيل الإيمان باليوم الآخر]

[الإيمان بالأصول الخمسة، وتفصيل الإيمان باليوم الآخر] وقوله: (والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر). فسر الطحاوي الإيمان في هذا الموضع بما فسره به النبي - صلى الله عليه وسلم -، في حديث جبريل (¬1)، فهذه الأصول الستة هي: أركان الإيمان، أو أصوله، أو أصول الاعتقاد: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة, والإيمان بالكتب, والإيمان بالرسل, والإيمان باليوم الآخر, والإيمان بالقدر، وهذا هو الإيمان بالمعنى الخاص، فإن الإيمان يُطلق إطلاقين: إطلاقا عاما يشمل جميع أمور الدين العلمية والعملية، فهو اعتقاد، وقول، وعمل، قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح. ويطلق إطلاقا خاصا ويراد به هذا الأصول الستة. وهذا هو ما يفسر به الإيمان إذا قرن بالإسلام، كما في حديث جبريل حينما سأله عن الإسلام، ثم سأله عن الإيمان، ففسر الإسلام بمبانيه الخمس، وفسر الإيمان بأصوله الست، وقال الطحاوي فيما تقدم: (الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان) (¬2)، وهنا قال: (الإيمان هو الإيمان بالله ... ) فيما تقدم أراد أن يبين مسمى الإيمان، ¬

(¬1) تقدم تخريجه في ص 201. (¬2) ص 227.

وأنه يكون بتصديق بالقلب وبالإقرار، وهنا أراد أن يفسر الإيمان ببيان ما يتعلق به فالتصديق بالجنان والإقرار باللسان، بأي شيء؟ فكأنه يقول: الإيمان هو التصديق بالجنان والإقرار باللسان بهذه الأمور الستة، وهذه الأصول الستة هي أصول اعتقاد أهل السنة، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مطلع العقيدة الواسطية: «فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة ـ أهل السنة والجماعة ـ: الإيمان بالله وملائكته ورسله والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره» (¬1)، فالإيمان بهذه الأصول إجمالا فرض عين على كل مكلف، أما الإيمان والعلم بهذه الأصول تفصيلا فهو من فروض الكفاية؛ لكن من علم بشيء من علم التفصيل؛ وجب عليه الإيمان به، وهذا الكلام فيه تكرار؛ لأن الطحاوي ـ رحمه الله ـ ذكر الأصول الثلاثة فيما تقدم بقوله: (ونؤمن بالملائكة، والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين) (¬2) وسبق الكلام على هذه الأصول الثلاثة: الملائكة والكتب والرسل هناك، وتقدم ما يتعلق بالإيمان بالله عند قوله: (إن الله واحد لا شريك له) (¬3). وأما الإيمان باليوم الآخر، فهو الأصل الخامس من أصول الإيمان، وقد ذكره الله في كتابه وفصَّل الخبر عنه تفصيلا عظيما، لم يتقدم مثله في كتاب من كتب الله المنزلة، فذكر الله الإيمان باليوم الآخر على سبيل الإجمال، كما في قوله تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)) [البقرة: 177]، ((وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا)) [النساء: 136]. أما التفصيل؛ فكثير جدا؛ فسورة الواقعة والحاقة والتكوير ¬

(¬1) الواسطية ص 21. (¬2) ص 201. (¬3) ص 22.

والانفطار والانشقاق والزلزلة والقارعة كلها في شأن القيامة وما يجري في ذلك اليوم من التغيرات والتحولات، ولهذا اليوم أسماء متعددة: يوم القيامة، والحاقة، والغاشية، والصاخة، والطامة الكبرى، ويوم الحساب، ويوم النشور، والساعة، ويوم الدين. ويدخل في الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بعد الموت، من فتنة القبر وعذاب القبر، والإيمان بالقيامة الكبرى، والمراد بها: قيام الناس من قبورهم وبعثهم ونشرهم، قال تعالى: ((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعَاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ)) [ق: 43 - 44]، ومن الخبر المفصل عن اليوم الآخر قوله تعالى: ((وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ)) [الروم: 14 - 16] وقوله تعالى: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) [الأنبياء: 47]. ومن أهم ما يجب الإيمان به من أمر اليوم الآخر هو الإيمان بالبعث، والجنة والنار؛ لأن البعث هو الذي أنكره الكفار من عهد نوح إلى عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يؤمن به إلا المنتسبون إلى دين الرسل، كاليهود والنصارى؛ لكن اعتقادهم للبعث فيه خلل؛ لكن بعث الناس من قبورهم هذا قدر مشترك، يؤمن به جميع المسلمين، ولا ينكره إلا الخارجون عن أديان الرسل، ولهذا المكذبون للرسل مكذبون باليوم الآخر، قال تعالى: ((ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابَاً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ)) [ق: 1 - 3]، ثم جاء الرد عليهم في نفس السورة فالسورة من أولها إلى آخرها في شأن القيامة، وهذا المعنى ثُنِّي في القرآن كثيرا، وأمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم على البعث في ثلاثة مواضع: ((زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ)) [التغابن: 7]،

((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ)) [سبأ: 3]، ((وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ)) [يونس: 53]، فحكى الله إنكار الكفار للبعث والنشور ومعاد الأجساد، وأنكر عليهم ذلك وأبطل دعواهم، وذكر الأدلة العقلية على إمكان البعث ووقوعه في آيات كثيرة. وأظهر طرق القرآن في تقرير إمكان البعث أربعة: 1 - الاستدلال بخلق السماوات والأرض. 2 - الاستدلال بإحياء الأرض بعد موتها. 3 - الاستدلال بالنشأة الأولى. 4 - الاستدلال بما وقع من إحياء الموتى فيما سبق. تجد هذه الأربع تثنى في القرآن في آيات كثيرة، فمثلا في سورة ق، لما ذكر الله عن المكذبين إنكار البعث، ذكر الأدلة الدالة على بطلان قولهم، وبيان صحة وإمكان البعث، فقال تعالى: ((قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)) [ق: 4 - 8]. هذا الدليل الأول. ((وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكَاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقَاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتَاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)) [ق: 9 - 11]. هذا الدليل الثاني. أي: الخروج من القبور كإخراج هذا النبات من الأرض. الدليل الثالث بعد ذلك: ((أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) [ق: 15]. فتارة يذكر الله هذه الأدلة في سياق واحد، أوفي سورة واحدة، وتارة يذكر الله منها اثنين، وأحيانا يذكر واحدا، فمثلا في سورة الحج:

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا)) [الحج: 5] الآية، هذا استدلال بالنشأة الأولى، ثم قال تعالى: ((وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)) [الحج: 5 - 7] وهذا استدلال بإحياء الأرض بعد موتها. وهذا المعنى تجده ـ أيضا ـ في قوله تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [فصلت: 39]. وهذا المعنى هو المذكور في قوله تعالى: ((فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [الروم: 50]. وجاءت هذه المعاني في سورة يس: ((وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبَّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ)) [يس: 33] ((وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ)) [يس: 37]، ((وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ)) [يس: 41] كلها فيها الدلائل على القدرة؛ لكن في آخر السورة ذِكْرٌ خاص لهذه القضية: ((أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلَاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)) [يس: 77 - 78] جاء الرد في نفس الآية قبل التصريح بمقالة الكافر: ((وَضَرَبَ لَنَا مَثَلَاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ)) [يس: 78] فذكر الحجة على إبطال الدعوى قبل ذكرها، ((قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)) [يس: 79] وهذا استدلال بذكر النشأة الأولى، إلى قوله: ((أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)) [يس: 81]، ومن هذا القبيل قوله تعالى: ((لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ)) [غافر: 57]

وهو استدلال بخلق السماوات والأرض، وأن من أبدعها أقدر على خلق الناس وإعادتهم. وأما الاستدلال بما كان من إحياء الموتى فذكر الله في سورة البقرة خمس وقائع: الأولى: ((وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) [البقرة: 55 - 56] الثانية: قال تعالى: ((وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسَاً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) [البقرة: 72 - 73]، الثالثة: قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ)) [البقرة: 243]. الرابعة: قوله تعالى: ((أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [البقرة: 259]. الخامسة: ((وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] فهذا بعض ما يتعلق بالإيمان باليوم الآخر.

[الإيمان بالقدر خيره وشره]

[الإيمان بالقدر خيره وشره] وقوله: (والقدر خيره وشره، وحلوه ومره من الله تعالى) هذا الأصل السادس من أصول الإيمان: وهو الإيمان بالقدر، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) (¬1) والطحاوي هنا ـ رحمه الله ـ قال: (والقدر خيره) ولم يقل: وبالقدر؛ بل عَطَف، والجملة كأنها مستأنَفة، وتكون: (والقدرُ خيرُه وشرُّه وحلوُه ومرُّه من الله تعالى). ولفظ القدر يطلق بمعنى التقدير، كما إذا قلنا: القدر السابق، والقدر العام، والقدر الخاص، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات، والأرض بخمسين ألف سنة) (¬2) أي: تقدير الله لمقادير الأشياء. ويطلق القَدَر على الشيء المقدَّر، وهذا كثير في اللغة العربية؛ فالمصدر تارةً يطلَق ويراد به الفعل، ويطلَق ويراد به المفعول، مثل كلمة الخَلْقِ: فالخلقُ يطلق ويراد به فعل الرب تعالى، فإن الله تعالى من صفته ومن فعله الخلق، فهو يخلق، وهو الخلاق، وهو الخالق. ويطلَق على نفس المفعول، فتقول: هذا خلق الله، كما قال تعالى: ((هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)) [لقمان: 11] أي: هذا هو المخلوق لله. ¬

(¬1) تقدم في ص 201. (¬2) تقدم في ص 71.

كذلك القدر يطلق ويراد به المقدر، فإذا حدث الآن حادث للإنسان يقول: هذا قدر، أي: هذا مُقَدَّرٌ قد قَدَّره الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلتُ كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل). (¬1) ومثلُ القدرِ القضاءُ؛ فإنه يطلق ويراد به الحكم، وهو فعل الرب تعالى، ويطلق ويراد به المقضي، وهو ما قضاه الله وشاءه من المخلوقات، ولهذا يقول المسلمون فيما يحدث: هذا قضاء وقدر، أي: هذا أمر مقضي مقدر، أي: هذا أمر حكم الله به، وقدره سبحانه وتعالى. وقوله: (والقدر خيره وشره) لاشك أن المقدرات المخلوقات فيها خير وشر وحلو ومر، فيها النعم والمصائب، فيها طيب وخبيث، وحسن وقبيح، هذه المخلوقات فيها هذا التنويع. فإذا أريد بالقدر: المقدر فهذا أمر ظاهر، نؤمن بأن كل الأشياء مُقدرة مخلوقة لله، واقعة بقدرة الله ومشيئته، لا يخرج شيء منها عن ملك الله، فكل ما يجري في الوجود من خير وشر؛ فهو بمشيئة الله وخلق لله، ومقدر بتقدير الله، وهو مقضي بحكم الله وقضائه. وقوله: (وحلوُه ومرُّه) كأن هذا التعبير من تنويع الكلام؛ لأن الأمور المقدرة منها ما هو حلو في حس وذوق الناس؛ كالنعم والأشياء المستطابة، والمر الأشياء الكريهة كالمصائب؛ لأن لها مرارة في النفوس. ويفسر الخير باللذات وأسبابها، والشر بالآلام وأسبابها، لكن هناك لذات في نفسها لكنها أسباب لآلام طويلة، فتكون في ذاتها خيرا، لكنها شر باعتبار ما تفضي إليه، فالمعاصي شر وإن استلذتها النفوس؛ لأنها تفضي إلى أعظم الآلام. ¬

(¬1) رواه مسلم (2664) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

والطاعات خير في ذاتها ومآلها، وإن اشتملت على بعض المشاق والكُلَف، لكنها خير؛ لأنها نفسها مصالح ومنافع عظيمة، وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات» (¬1)، والله تعالى اقتضت حكمته تنويعَ الخلْقِ، وخلْقَ الأضداد في هذا الوجود، فخلَقَ الخير والشر، والنافع والضار، والحسن والقبيح في الذوات والصفات والأفعال، فخلق النور والظلمات، وخلق الملائكة والشياطين، وخلق الصحة والمرض والحياة والموت: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلَاً)) [الملك: 2]. إذاً؛ الأشياء المخلوقة فيها خير وشر والله خالق الخير والشر، أما فعل الرب سبحانه: حكمه وقضاؤه وتقديره؛ فكله خير، ليس فيه شر، والشر لا يضاف إلى الله اسمًا، ولا صفةً ولا فعلا، فالشر لا يكون في أسمائه فكلها حسنى، ولا في صفاته فكلها صفات كمال وحمد، ولا في أفعاله فكلها أفعال عدل وحكمة، وإنما يكون في مفعولاته، أي: مخلوقاته. وهذا ما فُسر به قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والشر ليس إليك) (¬2) أنه تعالى لا يخلق شرا محضا؛ بل كل الشر الذي في المخلوقات شر نسبي ليس شرًا محضًا، وهذا يرجع إلى الإيمان بحكمته سبحانه وتعالى، وأنه حكيم، ما خلق شيئا عبثا، لم يخلق شيئا إلا لمصالحَ وحكمٍ يعلمها سبحانه، وليس من شرط ذلك أن تكون عائدة للعبد، بل قد يكون فيها شر لبعض الناس، وهو شر جزئي إضافي، فأما شر كلي، أو شر مطلق؛ فالله تعالى منزه عنه. وكل ما خلقه الله إما أن يكون خيرا محضا، أو أن وجوده خير من ¬

(¬1) رواه البخاري (6487)، ومسلم (2823) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

عدمه باعتبار الحكمة العامة، فالله خلق هذه الأضداد لحكم بالغة، ومن حِكمه تعالى في خلقه: الابتلاء، قال تعالى: ((خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ)) [الملك: 2] وقال تعالى: ((إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلَاً)) [الكهف: 7]، (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود: 7]. والشر الذي في المخلوقات لا يضاف إلى الله مفردا أبدا؛ بل إما يدخل في عموم المخلوقات كقوله تعالى: ((قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) [النساء: 78]، وكقوله: ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الرعد: 16]، يعني: الخير والشر. وإما بصيغة البناء للمفعول، كقوله تعالى عن الجن: ((وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ)) [الجن: 10]، وإما أن يضاف إلى خلقه سبحانه، كقوله تعالى: ((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)) [الفلق: 2]. (¬1) هذه الوجوه التي يعبر بها في إضافة الشر المخلوق. وعلى هذا فلا ينبغي أن تقول: الله خالق الشر، لكن قل: الله خالق كل شيء، وهذا معنى التعبير بالعموم، وقل: فلان أريد به السوء، ولا تقل: أراد الله به. وكذلك إذا أردت أن تخبر عن خلق الله للمخلوقات، قل: الله خالق كل شيء، الله خالق السماوات والأرض ومن فيهن، ولا تقل: الله خالق الحشرات وخالق الكلاب، أو: الله رب الكلاب، هذا منكر؛ بل قل: رب السماوات والأرض، رب كل شيء، هذا الذي فيه التعظيم، كما تَمَدَّح سبحانه وتعالى بذلك ((رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)) [المؤمنون: 86]. ¬

(¬1) منهاج السنة 5/ 410، ومجموع الفتاوى 14/ 266، وبدائع الفوائد 2/ 724.

وهكذا في النفع والضر فلا تقل: الله هو الضار؛ بل قل: الله هو النافع الضار، وهذا من جنس الأول في التعبير بالعموم. ومن هذا ما ذكر الله من قول إبراهيم عليه السلام: ((فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)) [الشعراء: 77 - 80] ولم يقل: وإذا أمرضني شفاني، وهذا من الأدب في الإخبار عن الله سبحانه وتعالى. ومما يتعلق بهذا الجمعُ بين آيتي سورة النساء، وهي قوله سبحانه وتعالى: ((وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) [النساء: 78] وقوله تعالى في الآية التي تليها: ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) [النساء: 79] فظاهر الآية الأولى أن الحسنة والسيئة كلها من عند الله، ومعنى أن الحسنة والسيئة من عند الله أنهما بمشيئته وتقديره وتدبيره، وليس في تقديره شر سبحانه وتعالى؛ بل حكمة وعدل. وأما قوله تعالى: ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) [النساء: 79] فالمعنى: بسبب نفسك، والحسنة والسيئة تطلق في القرآن إطلاقين: 1 - حسناتُ وسيئات الجزاء، وهي: النعم والمصائب، ومنه قوله تعالى: ((وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)) [الأعراف: 168]. 2 - حسناتُ وسيئات الأعمال، ومنه قوله تعالى: ((إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)) [هود: 114]. وأما الحسنة والسيئة في الآيتين: ففي الآية الأولى: النعمة والمصيبة. وفي الثانية: كذلك على الصحيح، وفسرت الحسنة بالنصر والخصب، والسيئة بالهزيمة أو بالمصيبة وبالجدب وما أشبه ذلك، فتكون الآية: ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) [النساء: 79] من جنس ((أَوَ لَمَّا

أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)) [آل عمران: 165] وقوله تعالى: ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)) [الشورى: 30]. وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1) وابن القيم (¬2) هذا المعنى تقريرا حسنا، ونقل بعضه الشارح ابن العز في شرحه (¬3) فجزاهم الله خيرا. وقوله: (من الله تعالى) أي: كله بخلق الله، وبقدرة الله، وبمشيئة الله، لا خروج لشيء عن ذلك. وقوله: (ونحن مؤمنون بذلك كله لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به). أي: بكل ما تقدم من مسائل الاعتقاد التي ذكرها مما يتعلق بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر. (لا نفرق بين أحد من رسله) بل نؤمن بهم جميعا، كما وصف الله المؤمنين بذلك: ((كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ)) [البقرة: 285]، فالكفار هم الذين فرقوا بينهم، وكفرهم الله بذلك: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلَاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقَّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابَاً مُهِينَاً)) [النساء: 150 - 151]. (ونصدقهم بكل ما جاءوا به) فكما نؤمن بجميع الرسل، نؤمن بكل ما جاءوا به، فمن آمن ببعض ¬

(¬1) منهاج السنة 5/ 410، ومجموع الفتاوى 14/ 266. (¬2) بدائع الفوائد 2/ 710، وشفاء العليل ص 159. (¬3) ص 515.

الرسل وكفر ببعض؛ فهو كافر لا ينفعه إيمانه، ومن كذَّب رسولا واحدا؛ فهو كالمكذِّبِ لجميعهم، وكذلك من آمن بالرسول الواحد ولكنه كفر ببعض ما جاء به؛ فهو كافر لا ينفعه إيمانه، فلو آمن أحد بكل ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا مسألة واحدة مع ثبوتها وقطعيتها، ولا يحمله على ذلك التوقف في ثبوتها؛ فإنه كافر، فلو قال: أنا أؤمن بالقرآن كله إلا هذه الآية؛ فهو كافر، أنا أؤمن بكل أحكام الإسلام إلا تحريم الخمر؛ فإنه كافر.

[حكم أهل الكبائر في الآخرة]

[حكم أهل الكبائر في الآخرة] وقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - في النار لا يخلدون). أصحاب الكبائر من المسلمين وهم الذين ارتكبوا بعض الذنوب الكبيرة، والذنوب فيها: كبائر وصغائر، على الصحيح، كما دل على ذلك الكتاب والسنة، قال سبحانه وتعالى: ((إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ)) [النساء: 31] وقال سبحانه وتعالى: ((الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)) [النجم: 32] واللمم هي: الصغائر، كالنظرة المحرمة، كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه)). (¬1) ومن قال: إن الذنوب كلها كبائر باعتبار أنه لا يستهان بشيء منها؛ إن أراد هذا المعنى فهو حق، ولو كانت مما يعد من الصغائر، أما إن أراد أن الذنوب كلها كبائر فليس بصحيح. وقد اختلف الناس في حد الكبيرة اختلافا كثيرا، وذكر ابن القيم في «الجواب الكافي»، (¬2) وفي «مدارج السالكين» (¬3) أكثر أو جميع أقوال الناس في ضابط الكبيرة، وضعف كثيرا منها. (¬4) ¬

(¬1) رواه البخاري (6243)، ومسلم (2657). (¬2) ص 144. (¬3) 1/ 321. (¬4) وكذا شيخ الإسلام في الفتاوى 11/ 656، وانظر: فتح الباري 10/ 409.

والذين عرفوا الكبيرة منهم من عرفها بالحد، ومنهم من عرفها بالعد، فقالوا: الكبائر سبع، أو تسع، أو سبعون. وأحسنُ حدٍ للكبيرة أنها: «كل ذنب رُتِّب عليه حد في الدنيا، أو تُوُعِد فاعله بلعن أو غضب أو نار، أو نُفي الإيمان عن صاحبه، أو تبرأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم -». ومثال ما رتب عليه الحد في الدنيا: السرقة، قال تعالى: ((وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا)) [المائدة: 38]. ومثال ما لعن فاعله: قذف المحصنة، قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [النور: 23]. ومثال ما تُوُعِد فاعله بالغضب: التولي يوم الزحف، قال تعالى: ((وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللهِ)) [الأنفال: 16] ومثال ما تُوُعِد فاعله بالنار: أكل مال اليتيم، قال تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)) [النساء: 10] ومثال ما نُفي عن صاحبه الإيمان: الزاني، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) (¬1) ومثال ما تبرأ منه النبي - صلى الله عليه وسلم -، قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مَن غشَّ فليس مني) (¬2) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ليس منا من ضرب الخدود، أو شق الجيوب، أو دعا بدعوى الجاهلية). (¬3) والكبائر نفسها متفاوتة، ليست على حد سواء، بل بعضها أكبر من ¬

(¬1) رواه البخاري (2475)، ومسلم (57) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (102) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (1297)، ومسلم (103) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -.

بعض، حتى تنتهي الذنوب إلى أكبر الكبائر، وهو الشرك، ومن الأدلة على هذا: حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ (ثلاثا): الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئا فجلس، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت). (¬1) وبهذا يتبين أن النهي المجرد يدل على التحريم؛ فإن ورد فيه تغليظ فهو كبيرة. فأما الذنوب الصغيرة فمثل ما ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - السابق (¬2)، ومثل سرقة الشيء الحقير الذي لا قطع فيه، ومثل كذبة الأم على طفلها إذا قالت: تعال أعطيك كذا، ثم لا تعطيه. فهذه الصغائر جاء في الأحاديث الصحيحة أنها تكفر بالأعمال الصالحة وباجتناب الكبائر، كما في قوله تعالى: ((إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلَاً كَرِيمَاً)) [النساء: 31] وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) (¬3) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما اجتنبت الكبائر) قيل: إن هذا شرط في تكفير الصغائر، فلا تكفر الصغائر إلا بشرط اجتناب الكبائر، ومنهم من قال: إنها تكفر ما بينها إلا الكبائر. (¬4) أما الكبائر فإنها لا تغفر إلا بالتوبة النصوح، أو بالحدود المقدرة؛ فإن الحدود كفارات لأهلها، أو برجحان الحسنات، فقد يكون للعبد حسنات عظيمة ترجح بما عليه من سيئات. هذا ما يتعلق بالكبائر. ¬

(¬1) رواه البخاري (2654)، ومسلم (87). (¬2) ص 252. (¬3) رواه مسلم (233) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) فتح الباري لابن رجب 4/ 223، وفتح الباري لابن حجر 2/ 12 و 372 و 8/ 357.

أما مرتكب الكبيرة فله حكم في الدنيا وحكم في الآخرة، فحكمه في الدنيا تقدمت الإشارة إليه (¬1)، وأن مرتكب الذنوب التي دون الشرك لا يكفر بذلك خلافا للخوارج؛ بل ولا يخرج من الإيمان خلافا للمعتزلة؛ بل هو مؤمن ناقص الإيمان. أما حكمه في الآخرة فأهل السنة والجماعة يقولون: إنه تحت مشيئة الله إن شاء غفر له ولم يدخله النار، وإن شاء عذبه ثم أخرجه من النار برحمته وبشفاعة الشافعين من أهل الطاعات. وقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -) (¬2) هذا القيد قد يكون له مفهوم، وأن حكم أهل الكبائر مختص بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ وأهل الكبائر من الأمم الماضية ليس عندنا في حكمهم دليل، إنما النصوص الصريحة جاءت في شأن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ففي الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة ـ إن شاء الله ـ من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا) (¬3) وكذلك أحاديث الشفاعة المصرحة بأنه - صلى الله عليه وسلم - يشفع أربع مرات وفي كل مرة: (يسجد - صلى الله عليه وسلم - لربه ويدعو ويستشفع فيقال له: ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، ثم أشفع: فيَحُدُّ لي حدًا فأخرجهم من النار) (¬4) وهذا ما عناه الطحاوي بقوله: (وأهل الكبائر ... في النار لا يخلدون) (في النار) متعلق بـ (يخلدون) أي: وأهل الكبائر لا يخلدون في النار إذا دخلوها، وليس مقصوده أنهم لا بد لهم من دخول النار ولكنهم لا يخلدون فيها. وقوله: (إذا ماتوا وهم موحدون، وإن كانوا غيرَ تائبين) ¬

(¬1) ص 214 وما بعدها. (¬2) قوله: «من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -» رأيت مخطوطتين ليست فيها هذه الجملة، كذا ذكر ابن أبي العز ص 525: أنها ليست في بعض النسخ. (¬3) تقدم في ص 155. (¬4) تقدم في ص 156.

هذا قيد لا بد منه، وهذا هو محل الخلاف بين طوائف المسلمين، أما التائب فقد اتفقوا أن من تاب تاب الله عليه، لكن الخلاف في من مات مصرا على ذنبه لم يتب منه، فهذا هو المُعَرَّضُ للوعيد؛ أما من تاب توبة نصوحا مستوفية للشروط إقلاعا وندما وعزما؛ فإنه مغفور له، وليس هو من أهل الوعيد. والطحاوي هنا بيَّن مذهب أهل السنة والجماعة في حكم أهل الكبائر في الآخرة: أنهم مستحقون للوعيد؛ ولكنهم تحت مشيئة الله، إن شاء غفر لهم، وإن شاء عذبهم، ومن عذبه منهم فلا بد أن يخرجه من النار؛ لأنه لا يخلد أحد من أهل التوحيد، إذ (من قال: لا إله إلا الله، وفي قلبه مثقال خردلة، أو شعيرة، أو بُرَّة أو ذرة من إيمان) لابد أن يخرج من النار، كما تقدم في أحاديث الشفاعة. (¬1) أما الخوارج والمعتزلة فقد اتفقوا على حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة، وهو: أنه لابد من دخول النار، وعندهم أن من دخل النار؛ فإنه لا يخرجون منها. وقوله: (بعد أن لقوا الله عارفين) أي: مؤمنين بربهم الإيمان الصحيح، وعلق الشارح ابن أبي العز على قوله: (عارفين) بأنه: «لو قال: (مؤمنين) لكن أولى؛ لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، ثم قال: وكأنه يريد المعرفة التامة المستلزمة للاهتداء التي يشير إليها أهل الطريقة، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر؛ بل هم سادة الناس وخاصتهم». (¬2) لأن أهل الكبائر ليسوا من أهل العلم التام بالله سبحانه وتعالى، وإنما يريد مطلق المعرفة، إذا ماتوا بعد أن لقوا الله عارفين موحدين. ¬

(¬1) ص 156. (¬2) ص 527.

قوله: (وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء: 48]، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته). أي: في الآخرة هم في مشيئة الله وحكمه، يحكم فيهم بما شاء، وهو الحكيم العدل الجواد المتفضل سبحانه وتعالى، وإذا كانوا تحت مشيئة الله فالأمر محتمَل؛ فإما أن يغفر الله لهم ويدخلهم الجنة بلا عذاب، وإما أن يعذبهم بالنار حسبما تقتضيه حكمته ومشيئته، ثم يخرجهم منها برحمته وبشفاعة الشافعين من أهل الطاعات، والدليل على هذا قوله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء: 48] ودلت هذه الآية على أن الذنوب قسمان: قسم لا يُغفر، وهو الشرك الأكبر، ((إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ)) [النساء: 48] خص الشرك بأنه لا يغفر. وقسم دون الشرك ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)) [النساء: 48] وقيَّد غفرانه بالمشيئة. ويشكل على ظاهر هذه الآية قوله تعالى: ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعَاً)) [الزمر: 53] فيها الإطلاق والتعميم، فعم حيث قال: ((جَمِيعَاً))، وأطلق حيث لم تقيد هذه المغفرة بالمشيئة. فالتعارض بين الآيتين ظاهر، في آية الزمر عم وأطلق، وفي آية النساء خص وقيد. والجمع بين الآيتين: أن آية النساء في شأن من لم يتب، وآية الزمر في التائب، فمن تاب تاب الله عليه، ومغفرة الذنوب بالتوبة جاءت مطلقة غير مقيدة، فلا نقيدها، ولا نقول: إن من تاب تاب الله عليه إذا شاء، فمن تاب توبة نصوحا تاب الله عليه، وعدا لا يخلف ((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمَاً حَكِيمَاً)) [النساء: 17]، فمن لم يتب إن كان ذنبه

الشرك؛ فإنه لا يغفر الله له، وإن كانت ذنوبه دون ذلك فإنها تحت المشيئة، هذا من لم يتب، أما من تاب فيتوب الله عليه مهما كانت ذنوبه كِبَرا وكثرة، كما في قصة الذي قتل تسعة وتسعين نفسا، ثم كمل المائة، ثم تاب توبة نصوحا؛ فقبل الله منه وغفر له. (¬1) فهذا هو الدليل على هذا التفصيل، وأن من مات من أهل الكبائر من غير توبة؛ فإنه تحت مشيئة الله إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه. والذين يخرجهم الله سبحانه من النار منهم من يخرجه بشفاعة الشافعين، وأعظم الناس حظا من أهل الشفاعة هو نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فالله يخرج بشفاعته من النار ما لا يخرجه بشفاعة غيره من الملائكة والنبيين والصالحين؛ فإن الملائكة يشفعون، والأنبياء يشفعون، والمؤمنون يشفعون، ويخرج سبحانه من شاء من النار بمحض رحمته لا بسببٍ من جهة بعض العباد، ومرد الأمر كله إلى الله، فالله هو الذي يأذن للشافع بالشفاعة، وهو الذي يقبلها منه، فمرد الأمر كله إليه. (¬2) وقوله: (ثم يبعثهم إلى جنته). بعدما يخرجهم من النار يبعثهم إلى الجنة، كما في الحديث: «وأنهم يخرجون من النار وقد صاروا حُمَمًا، فَيُلْقَون في نهر بأفواه الجنة يقال له: نهر الحياة، فَيَنْبُتُون كما تنبت الحِبَّة في حميل السيل ... فيدخلون الجنة» (¬3)، بفضله سبحانه وتعالى. وقوله: (وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته). هذا تعليل لقوله ـ في أهل الكبائرـ: (وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ... وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته) ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى ¬

(¬1) رواه البخاري (3470)، ومسلم (2766) وسيأتي بلفظه في ص 287. (¬2) انظر: ص 156. (¬3) تقدم في ص 156.

الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ)) [محمد: 11] فالله ولي المؤمنين، وكل عبد مؤمن له حظ ونصيب من ولاية الله سبحانه بقدر ما معه من إيمان وعمل صالح، قال تعالى: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) [يونس: 62 - 63]. والمعرفة هنا كالمعرفة في قوله السابق (¬1)، (عارفين) أي: مطلق المعرفة ومطلق الإيمان، لا المعرفة التامة التي هي كمال العلم بالله. وقوله: (ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته). الله سبحانه تولى أهل معرفته ولم يجعلهم في الدنيا والآخرة كأهل نكرته، فالفاسق في الدنيا أخ للمؤمنين، فقوله تعالى: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)) [الحجرات: 10] يشملُ جميعَ المؤمنين صالحهم وفاسقهم، وقال تعالى في شأن القاتل: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)) [البقرة: 178] فجعل القاتل أخا للمقتول، فالفاسق لا يجعله كالكفار المنكرين له، أوالمشركين به. وقوله: (الذين خابوا من هدايته) هم الكفار والمشركون، فليس لهم حظ أبدا من الهداية. وقوله: (ولم ينالوا من ولايته). عبارة المؤلف دقيقة، فلم يقل: (ولم ينالوا ولايته)، فيشعر بالكمال؛ بل قال: (ولم ينالوا من ولايته) فما نالوا حظا، وهذا منطبق على الكفار. وقوله: (اللهم يا ولي الإسلام وأهله، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به). ختم الكلام في حكم أهل الكبائر في الآخرة، وأنهم تحت مشيئة الله، وأن الله ميزهم فلم يجعلهم كالكفار الذين هم أهل النار، ¬

(¬1) ص 256.

بقوله: (اللهم يا ولي الإسلام وأهله، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به) وهذا يتضمن سؤال الله حسن الخاتمة، والثبات على الإسلام، قال الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) [آل عمران: 102] يعني: استقيموا على الإسلام حتى يأتيكم الموت وأنتم على ذلك، وهكذا ينبغي للمسلم أن يسأل ربه الثبات على الإسلام، والاستقامة عليه حتى الممات؛ فإن الأعمال بالخواتيم، ومن دعاء الأنبياء والصالحين: سؤال الثبات والوفاة على الإسلام كما قال يوسف عليه السلام: ((تَوَفَّنِي مُسْلِمَاً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) [يوسف: 101]، وقال السحرة بعد التوبة: ((أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرَاً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)) [الأعراف: 126]، وذكر الشارح ابن أبي العز أن بعضهم: «استدل بهاتين الآيتين على جواز تمني الموت، ولا دليل له فيه؛ فإن الدعاء إنما هو بالموت على الإسلام، لا بمطلق الموت، ولا بالموت الآن» (¬1) بل هو من سؤال الله حسن الخاتمة، والوفاة على الإسلام ((تَوَفَّنِي مُسْلِمَاً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) [يوسف: 101]، أما تمني الموت فلا يجوز لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه بقوله: «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي». (¬2) ¬

(¬1) ص 529. (¬2) رواه البخاري (6351)، ومسلم (2680) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

[مذهب أهل السنة في الصلاة خلف المسلمين، وعلى موتاهم]

[مذهب أهل السنة في الصلاة خلف المسلمين، وعلى موتاهم] وقوله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم). (ونرى) نحن أهل السنة؛ لأن العقيدة بها تقرير منهج أهل السنة (الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة) أي: من المسلمين، والبر: الصالح التقي. والفاجر: الفاسق الذي ظهر فسقه وفجوره بما ارتكب من ذنوب. أي: أننا لا نعطل الجمع والجماعات، وصلاة العيدين من أجل فجور أو فسق الإمام؛ فإن هذه شرائع وشعائر ظاهرة، والأصل أن صلاة الفاجر والفاسق صحيحة، ومن الأدلة العامة على هذا حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في الأئمة: (يصلون لكم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) (¬1)؛ لأن فسوق الفاسق وفجور الفاجر عليه ولا يضرك. ومن الدليل على هذا الأصل ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين، فقد كانوا يصلون خلف الولاة مع جورهم وظلمهم كما صلى ابن عمر رضي الله عنهما خلف الحجاج بن يوسف المعروف بظلمه، (¬2) وفي الصحيح عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كيف أنت إذا كانت ¬

(¬1) رقم (694). (¬2) رواه البخاري (1660)، وانظر: فتح الباري لابن رجب 6/ 186 - 195.

عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: صَلِّ الصلاة لوقتها؛ فإن أدركتها معهم فَصَلِّ؛ فإنها لك نافلة) (¬1) فهذا يدل على صحة الصلاة خلفهم؛ لأنها تصح نافلة. وترك إقامة الجمع والأعياد خلف الإمام لفجوره من منهج المبتدعة، ولهذا نص أهل العلم على هذه المسألة في هذا الباب، وإلا فالأصل أن هذه المسألة عملية من الأحكام الفقهية؛ لكن لما لم يكن الخلاف في هذا بين أهل السنة؛ بل أجمعوا على الصلاة خلف الأئمة أبرارا كانوا أم فجارا، نصوا عليه في بيان أصول ومنهج أهل السنة؛ لكن إذا كان هناك إمام عدل وفاسق، فالذي ينبغي الصلاة خلف العدل، وأما الصلاة خلف الفاسق؛ فإنها صحيحة كما قلنا؛ لكن ينبغي هجر وترك الصلاة خلفه إذا أمكن أن يُصلى خلف غيره؛ بل ينبغي السعي في عزله إذا أمكن ذلك بدون مفسدة؛ لأنه لا يجوز تولية الفاجر والفاسق في الإمامة، فمن له قدرة على عزله وإبداله بالعدل وجب عليه، وهذا من إنكار المنكر، لكن محل قولنا: (يُصلى خلفه) إذا لمن تمكن الصلاة خلف غيره، أما إذا أمكنت الصلاة خلف غيره فهي الأولى، وأولى من الصلاة خلف الفاجر الصلاة خلف المخالف في المذهب، فيجوز أن تصلي خلف من يخالفك في بعض أحكام الصلاة، فيجوز أن تصلي خلف من يرى أن أكل لحم الجزور غير ناقض، وأنت تعتقد أن أكل لحم الإبل ناقض، فأنت لو أكلت لحم الجزور لرأيت أن صلاتك لا تصح بدون وضوء، لكن هذا صاحب المذهب الآخر صلاته صحيحة؛ لأن هذا الذي أداه إليه علمه واجتهاده، فلا تُترك الصلاة للخلاف المذهبي في بعض شروط الصلاة؛ لأن في ترك الصلاة لذلك تفريق بين المسلمين، وهذه مفسدة كبرى، وفساد عريض، فلا تترك الصلاة خلف مخالفك في المذهب فيجوز للحنبلي أن يصلي خلف الحنفي أو المالكي أو الشافعي، وكذا العكس. ¬

(¬1) رواه مسلم (648).

وقوله: (من أهل القبلة) أي: من المسلمين. أما من ظهر ـ والعياذ بالله ـ منه ما يوجب ردته فلا يصلى خلفه، وإن كان ينتسب للإسلام، ومن هذا النوع: القبوريون الذين يدعون الأموات، كالرافضة فهم قبورية مشركون، يدعون عليًا والحسين ـ رضي الله عنهما ـ وغيرَهما، ويستغيثون بهم في الشدائد. وقوله: (وعلى من مات منهم). أي: ونرى صلاة الجنازة على من مات من المسلمين، فإن الصلاة على الميت فرض كفاية، وهي مستحبة لغير من تحصل بهم الكفاية، وقد رُوي حديثٌ ضعيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال: لا إله إلا الله) (¬1) لكن معناه صحيح دلت عليه نصوص أخرى. ويخص من هذا شهيد في المعركة على خلاف في ذلك؛ لأنه ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أمر بدفن قتلى أحد في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصلِّ عليهم» (¬2)، كما أنه ينبغي للإمام والعالم والرجل الصالح المشهور أن يترك الصلاة على الفجار والفساق زجرا عن حالهم وأعمالهم، ودليل هذا حديث جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: «أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قتل نفسه فلم يصلِّ عليه» (¬3)، بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يترك الصلاة على من مات وعليه دين لم يترك له وفاء (¬4)، زجرا عن تحمل الديون من غير أن يكون لها وفاء. ¬

(¬1) رواه الدارقطني في سننه (1761 - 1763) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وقال: ليس يثبت منها شيء، وضعفها البيهقي السنن الكبرى 4/ 19، وانظر: نصب الراية 2/ 27، والتلخيص الحبير 2/ 934. (¬2) رواه البخاري (1343) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما. (¬3) رواه مسلم (978). (¬4) رواه البخاري (6731)، ومسلم (1619) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[لا يشهد لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا بحجة]

[لا يشهد لمعين من أهل القبلة بجنة ولا نار إلا بحجة] وقوله: (ولا ننزل أحدا منهم جنة ولا نارا، ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى). أي: لا نشهد لأحد من أهل القبلة من المسلمين بأنه من أهل الجنة لصلاحه، ولا نشهد على أحد منهم بأنه من أهل النار لمعصية أو بدعة، بل نفوض علمهم إلى الله، فهو تعالى أعلم بمآلهم وبحالهم، ولا نشهد بالجنة إلا لمن شهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالعشرة المبشرين بالجنة، والحسن والحسين، وثابت بن قيس بن شمَّاس، ولجميع أهل بيعة الرضوان، وتقدمت الإشارة إلى هذه المسألة وأن فيها ثلاثة مذاهب، (¬1) والطحاوي يكرر المعنى الواحد في عدة مواضع. وقوله: (ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك) تقدم هذا المعنى في قوله: (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)، فلا نحكم على أحد بالكفر إلا أن يظهر منه ما يوجب الردة، فمتى ظهر منه ما يوجب الردة قلنا: إنه كافر، ونحكم عليه تعيينا إذا توفرت الشروط، وانتفت الموانع، فلو سمعنا إنسانا يتكلم بكلمة الكفر، فنتثبت أهو صاحٍ أم مجنون، أم سكران، فإن كان معه عقله؛ ¬

(¬1) ص 219، وهناك تخريج الأحاديث.

فننظر ماذا يريد بهذه الكلمة، فقد تكون محتملة، فإذا تحققنا أنه قالها عالما بمعناها، مختارا غير مكره، ذاكرا من غير سبق لسان حكمنا بكفره. (ونذر سرائرهم إلى الله تعالى). فلا ندخل في سرائر الناس، ولا نتهمهم ونقول: هذا مرائي، هذا منافق، فأحكام الدنيا تجري على الظواهر، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أعلم الخلق يقول: (إني لم أُومَرْ أن أُنَقِّبَ عن قلوب الناس، أو أشق بطونهم) (¬1)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (4351)، ومسلم (1063) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم في ص 23.

[عصمة دماء المسلمين]

[عصمة دماء المسلمين] وقوله: (ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - إلا من وجب عليه السيف). لا نرى القتل ولا القتال على أحد من المسلمين إلا أن يكون منه ما يوجب القتال أو القتل، قال - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة) (¬1) فمن زنى بعد إحصان، وثبت عليه ذلك بالبينة، وجب عليه الحد، وهو الرجم، ومن قتل معصوما وتوافرت فيه شروط القصاص وجب عليه القصاص، وكذلك من وجب عليه حد الردة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (من بدل دينه فاقتلوه). (¬2) وكذلك الطائفة الباغية التي أمر الله بقتالها في قوله: ((وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ)) [الحجرات: 9]، وكذلك إذا تواطأت جماعة على ترك شعيرة من شعائر الإسلام؛ فإنها تقاتل، فلو اجتمع أهل بلد على ترك الأذان؛ فإنهم يقاتلون لتعطيلهم شعيرة من شعائر الإسلام، وقد «كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغير إذا طلع الفجر، وكان يستمع الأذان؛ فإن سمع أذانا أمسك، وإلا أغار» (¬3) وكذا الطائفة الممتنعة المانعة للزكاة يجب قتالها حتى تؤدي الزكاة، ¬

(¬1) رواه البخاري (6878)، ومسلم (1676) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (3017) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬3) رواه مسلم (312) من حديث أنس - رضي الله عنه -.

فقد قال عمر - رضي الله عنه - للصديق - رضي الله عنه -: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها، قال عمر - رضي الله عنه -: فوالله ما هو إلا أن رأيت أن قد شرح الله صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق». (¬1) وكذلك أجمع الصحابة على قتال الخوارج بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، وترغيبه في ذلك لما اجتمعوا، وأظهروا بدعتهم. ¬

(¬1) رواه البخاري (6924)، ومسلم (20) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم تخريجه في ص 215.

[وجوب السمع والطاعة بالمعروف لولاة الأمر، وتحريم الخروج عليهم]

[وجوب السمع والطاعة بالمعروف لولاة الأمر، وتحريم الخروج عليهم] وقوله: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدًا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة). (ولا نرى) أي: نحن أهل السنة والجماعة. (الخروج) يعني: بالسلاح والقتال. (أئمتنا وولاة أمرنا) أئمة المسلمين. (وإن جاروا) وإن كان منهم ظلم على الرعية؛ فالواجب الصبر والمدافعة بالتي هي أحسن. وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة، وهو النصح لولاة الأمر، وهو محبة الخير لهم والدعاء لهم بالعافية وصلاح الحال والاستقامة، والتوفيق للقيام بحق الله وحقوق رعاياهم، ومن كمال النصح للأمة عدم الخروج عليهم بالسلاح وقتالهم لما يحصل منهم من ظلم أو معصية بحجة إنكار المنكر، أما من يخرج عليهم للمنازعة على السلطة فهذا لون آخر؛ فالذي نعنيه هنا أن أهل السنة والجماعة لا يرون الخروج على الأئمة بسبب ما يقع منهم من ظلم ومنكرات. والله تعالى قد أمر بطاعة ولاة الأمر في قوله سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء: 59]، وكذلك

الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصى أميري فقد عصاني) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة}، (¬2)، وقال - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: {إنما الطاعة في المعروف} (¬3) وقال - صلى الله عليه وسلم -: {من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات إلا مات ميتة جاهلية}. (¬4)، وفي الحديث الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، ويصلون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: يا رسول الله أفلا ننابذهم عند ذلك؟ فقال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة، أَلا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة) (¬5)، وفي حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: «بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان». (¬6) وفي رواية: «وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم». (¬7) والأحاديث في الأمر بطاعة ولاة الأمر بالمعروف، والنهي عن الخروج عليهم كثيرة مستفيضة. وخالف المعتزلةُ أهلَ السنة في هذا الأصل، فالمعتزلة من أصولهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخلون في مفهومه: الخروج على ¬

(¬1) رواه البخاري (7137)، ومسلم (1835) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (7144)، ومسلم (1839) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (7145)، ومسلم (1840) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬4) رواه البخاري (7054)، ومسلم (1849) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬5) رواه مسلم (1855) من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه -. (¬6) رواه البخاري (7056)، ومسلم (1709) من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -. (¬7) رواه البخاري (7200)، ومسلم (1709).

الولاة الظلمة، ويجعلون الخروج عليهم واجبا؛ لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا مخالف لما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، وهو مخالف لقاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه يقوم على قاعدة احتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، فإنكار المنكر المقصود منه هو إزالة المنكر أو تخفيفه، فإذا كان إنكار المنكر يؤدي إلى منكر أعظم لم يجز الإنكار، ولا شك أن الخروج على الأئمة يؤدي إلى إهلاك الحرث والنسل، وفساد دين الناس ودنياهم، فهذا التشريع هو مقتضى الحكمة، فليس تحريم الخروج على الأئمة رضًا بظلمهم وفجورهم؛ بل درءا لما هو أعظم من ذلك، والواقع شاهد بأن ما جاءت به الشريعة هو الغاية في الحكمة وتحقيق المصالح العادلة. وقوله: (ولا ندعو عليهم). الدعاء لهم بالصلاح، هذا موجب النصيحة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) (¬1) والنصيحة أن تدعو لهم بالصلاح، اللهم أصلحهم، اللهم أصلح بطانتهم، اللهم اهدهم صراطك المستقيم، ادعُ لهم لعل الله يصلح حالهم، لكن جرت عادة الناس أنهم لا يلتزمون بهذا المنهج، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث: «وشرار أئمتكم الذي تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم» (¬2) ليس هذا إقرارا، وإنما هذا من قبيل الإخبار بالواقع، ولم يُسَق على وجه التسويغ والتجويز له، فأهل العلم والإيمان، والصلاح والتجرد عن الهوى وإيثار الدنيا يحبون الخير لإخوانهم المسلمين، ولا سيما ولاة الأمر سواء أعطوهم من الدنيا أم لم يعطوهم، وفي الحديث الصحيح: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ¬

(¬1) رواه مسلم (55) من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم في ص 269.

ولهم عذاب أليم» ـ وذكر منهم ـ: « ... ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفى وإن لم يعطه منها لم يفِ» (¬1)، فهو دائر مع الدنيا، وهذا واقع، فأكثر الناس إنما ينكرون على الولاة أمر الدنيا لا أمر الدين، فلا ينقمون تقصيرهم في حقوق الله، إنما نقمتهم الأثرة، ويطلبون منافستهم في الدنيا، ولهذا أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه الأنصار فقال: (إنكم ستلقون بعدي أثرة؛ فاصبروا حتى تلقوني على الحوض). (¬2) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أثرة): استبداد بالولايات وبالمال. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فاصبروا) أي: لا تنازعوا ولاة الأمر من أجل ذلك. وكثير ما يكون الخروج على الولاة من أجل المنازعة على السلطة باسم الإصلاح الدنيوي أيضا؛ فينتج عنه شر مستطير على الناس، فتسفك الدماء وتنتهك الحرمات، وتذهب الأموال، وينتشر الفساد، خصوصا إذا لم يكن هناك استقرار في الأمر فتعم الفوضى، ويتمكن كل مجرم من بلوغ مرامه، واقتراف إجرامه. وقوله: (ولا ننزع يدا من طاعتهم). لا ننزع يدا من طاعتهم؛ بل ندين لله بطاعتهم بالمعروف، عملا بأمر الله تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة). نرى طاعتهم بالمعروف واجبة؛ لأنها من طاعة الله؛ فَكُلُ مَن أمر الله بطاعته فطاعتهم من طاعته، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - تجب طاعته مطلقا بلا قيد؛ لأن طاعته طاعة لله مطلقة، ومَن سواه ممن أمر الله بطاعته يطاع لكن بقيد، وهو ألا تكون في معصية، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الطاعة في المعروف) (¬3). فإذا الإنسان أطاع ولي الأمر بالمعروف إيمانا ¬

(¬1) رواه البخاري (7212)، ومسلم (108) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم في ص 152. (¬3) تقدم في ص 269.

واحتسابا أثيب على ذلك، أما إذا أطاعهم خوفا من عقوبتهم، فهذا ليس بمطيع لله؛ لأن هذه ليست طاعة اختيارية تعبدية؛ بل طاعة عَادِيَّة قهرية.

[وجوب إتباع الكتاب والسنة وتجنب الشذوذ والفرقة]

[وجوب إتباع الكتاب والسنة وتجنب الشذوذ والفرقة] وقول: (ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفُرقة). من منهج أهل السنة والجماعة اتباع سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال تعالى: ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ)) [الأحزاب: 21]، ((وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف: 158]، ((قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ)) [آل عمران: 31] والآيات التي فيها الأمر بطاعة الله تعالى، وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباعه والتأسي به كثيرة معلومة، وهكذا أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع سنته فقال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين). (¬1) وكذلك من منهج أهل السنة اتباع جماعة المسلمين، وذلك باتباع السلف الصالح من الصحابة والتابعين، وسمي أهل السنة والجماعة بأهل السنة والجماعة لاتباعهم سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجماعة المسلمين، والله تعالى يقول: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ)) [التوبة: 100] فأثنى على المهاجرين والأنصار وعلى من اتبعهم بإحسان ممن تأخر إسلامهم من الصحابة، وكذلك من جاء بعد الصحابة، وهكذا قوله تعالى بعد ذكر المهاجرين والأنصار: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا ¬

(¬1) رواه أحمد 4/ 126، وأبو داود (4607)، وصححه الترمذي (2676)، وابن حبان (5)، والحاكم 1/ 95 - 97 من حديث العرباض بن سارية - رضي الله عنه -.

بِالإِيمَانِ)) [الحشر: 10] فنتبع السنة ونلزمها، ونتبع الجماعة، ونلتزم بما أجمع عليه المسلمون، وما درج عليه السلف الصالح من الصحابة والتابعين. وقوله: (ونجتنب الشذوذ والفُرقة) بمخالفة ما أجمع عليه المسلمون وبمخالفة ما دلت عليه سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ونحذر من أسباب الفرقة، وقد أمر الله بهذا في قوله: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعَاً وَلا تَفَرَّقُوا)) [آل عمران: 103]، وقال تعالى: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)) [آل عمران: 105]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم، وأصحابي). (¬1) وفي لفظ (وهي الجماعة). (¬2) لهذا قال الطحاوي ـ رحمه الله ـ في بيان منهج أهل السنة: (ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ) فمن شذ عن جماعة المسلمين شذ عن الصراط المستقيم، قال تعالى: ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرَاً)) [النساء: 115]. وهذه الآية مما احتج بها الشافعي ـ رحمه الله ـ على حجية الإجماع (¬3). ¬

(¬1) رواه الترمذي (2641) ـ وقال: هذا حديث مفسر غريب لا نعرفه مثل هذا إلا من هذا الوجه ـ، والحاكم 1/ 128من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. ورواه الطبراني في الأوسط 8/ 22 من حديث أنس - رضي الله عنه -، وقال: لم يرو هذا الحديث عن يحيى بن سعيد إلا عبد الله بن سفيان المدني، وياسين الزيات. (¬2) رواه أحمد 4/ 102، وأبو داود (4597) من حديث معاوية - رضي الله عنه -. وأحمد 3/ 145وابن ماجه (3993) من حديث أنس - رضي الله عنه -. وابن ماجه (3992) من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه -. وصححه شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى 3/ 345 - 359، وعلق عليه بتعليق طويل، وذكره الكتاني في كتابه نظم المتناثر من الحديث المتواتر ص 57. (¬3) أحكام القرآن للشافعي 1/ 52.

[حب أهل العدل وبغض أهل الجور]

[حب أهل العدل وبغض أهل الجور] وقوله: (ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة) ذِكر هذا المعنى بعدما تقدم مناسب جدا، وفيه تنبيه على أن وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر وإن جاروا، وكوننا نرى الصلاة خلف الأئمة أبرارا كانوا أو فجارا؛ لا يقتضي التسوية بين الأبرار والفجار، وأئمة العدل وأئمة الجور، لا؛ بل نحب أهل العدل من الولاة والأئمة وسائر الناس، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل) (¬1)، وهذا من الحب في الله، فنحب من يحبه الله من المؤمنين والمقسطين، قال تعالى: ((وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) [الحجرات: 9] أي: العادلين، ونحب التوابين، ونحب الصالحين، وننزل كلا منزلته، وهذا هو الواجب على المؤمنين أن يتحابوا في الله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله} (¬2)، ومن شواهد ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: {والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم: أفشوا السلام بينكم} (¬3)، وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: {أوثق عُرَى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله} (¬4)، ولهذا قال الطحاوي ـ رحمه الله ـ: (ونبغض أهل ¬

(¬1) رواه البخاري (660)، ومسلم (1031) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) تقدم في ص 102. (¬3) رواه مسلم (54) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬4) رواه الطيالسي (376)، وابن أبي شيبة في المصنف 15/ 630، والحاكم 2/ 480 من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، وسأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا الحديث، فقال: ... الحديث منكر لا يشبه حديث أبي إسحاق. العلل (1977)، وانظر: الضعفاء الكبير3/ 408، والكامل في ضعفاء الرجال 7/ 100. ورواه الطيالسي (783)، وابن أبي شيبة في المصنف 19/ 74، وأحمد 4/ 286 من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما، وفيه ليث ابن أبي سليم وهو ضعيف ـ تهذيب التهذيب 3/ 484ـ، وله شواهد من حديث عدد من الصحابة، وانظر: السلسلة الصحيحة (998) و (1728).

الجور والخيانة) نبغضهم لجورهم، لا لأغراضنا وشهواتنا وأهوائنا وعدم حصولنا على ما نريد، لا؛ بل نبغضهم في الله ولله، ومن باب أولى نبغض الكفار، وأهل الفسق والعصيان، والله تعالى أخبر بأنه يمقت الكافرين: ((لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ)) [غافر: 10]، وأخبر أنه سبحانه وتعالى: ((لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ)) [الحج: 38]، و ((لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)) [القصص: 77] بل يبغضهم سبحانه وتعالى و: ((لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)) [التوبة: 96]. والناس في هذا الواجب ثلاثة أقسام: الأول: ولي لله تجب محبته مطلقا. والثاني: عدو لله يجب بغضه مطلقا. والثالث: المخلط؛ كالفاسق من المسلمين يحب بحسب ما معه من الإيمان والطاعة، ويبغض بحسب ما معه من الفسوق والمعصية. والوالي الظالم والجائر يُبغَض لما معه من الجور لظلمه وجوره وخيانته، ويحب بحسب ما معه من الإيمان، فالمسلم الفاجر والظالم لا يسوى بالكافر في بغضه، لا؛ فمطلق الأخوة الإيمانية موجودة كما تقدمت الإشارة (¬1) إلى قوله تعالى: ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ)) [البقرة: 178] فسمى المقتول أخا للقاتل، فكونه قتله هذا لا يبطل الأخوة الإسلامية التي بينهما؛ فإن من العدل في الحكم والمعاملة أن تفرق بين الناس، فلا تعط الناس حكما واحدا؛ بل تنزل الناس منازلهم بحسب حكم الله تعالى ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. ¬

(¬1) ص 259.

[تفويض العلم فيما خفي على العبد إلى الله]

[تفويض العلم فيما خفي على العبد إلى الله] وقوله: (ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه). من منهج أهل السنة: تفويض علم ما لا علم لهم به، هذا تفويض واجب، وليس مثل تفويض المعطلة الذين ينفون الصفات، ثم يفوضون معاني النصوص فذاك مذهب باطل، وهذا التفويض الذي ذكره الطحاوي هو الذي أمر الله به نبيه - صلى الله عليه وسلم - في مثل قوله تعالى: ((سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمَاً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) [الكهف: 22]، وقوله: ((وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعَاً * قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا)) [الكهف: 25 - 26]، ولما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين». (¬1) وهكذا الواجب على المسلم ألا يخوض فيما لا علم له به، قال تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولَاً)) [الإسراء: 36] بل فوض علم ما لا علم لك به، وما أشكل عليك إلى الله، وقل: الله أعلم، وهذا من وقوف الإنسان عند حده، فلا يتجاوزه فيدعي علم ما لا علم له به، وإن قال: لا أدري فقد أحسن، فإن الذي يدعي أو يخبر أو يجيب بما لا يعلم يكون كاذبا، فمن يخبر بالشيء قد يخبر بما يَعلم كذبه، وهذا المتعمد للكذب، ومن يخبر ¬

(¬1) رواه البخاري (6597)، ومسلم (2660) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

بما لا علم له به، لا يكون صادقا؛ بل فعله من جنس الكذب؛ لأن الصدق هو: الإخبار عن علم يطابق الواقع، هذا في الأمور العامة. أما فيما يتعلق بالغيب، وفي دين الله، وفي ذات الله وصفاته؛ فهذا هو الذي حذر الله منه في كتابه: وذكر أنه مما يأمر به الشيطان: ((إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 169]، وقال سبحانه وتعالى: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانَاً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف: 33].

[من مذهب أهل السنة المسح على الخفين]

[من مذهب أهل السنة المسح على الخفين] وقوله: (ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر). (ونرى) أي: نحن أهل السنة نرى (المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر) أي: كما جاءت به السنة المأثورة المتواترة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) خلافا للرافضة والخوارج؛ فإنهم لا يرون المسح على الخفين. والله تعالى قد أمر بغسل الرجلين في قوله: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ)) [المائدة: 6] واستدل العلماء بهذه الآية على وجوب غسل الرجلين، فحكم الرأس هو المسح، وحكم الرجلين الغسل؛ لأنه عَطَف الرجلين على الوجه واليدين المغسولتين، وأوضحت ذلك السنةُ، فكل من نقلَ صفةَ وضوئه - صلى الله عليه وسلم - ذكرَ أنه - صلى الله عليه وسلم - غسل رجليه (¬2)، فعُلم أن فرض الرجلين هو الغسل لا المسح، عليهما خلافا للرافضة. وفي القراءة الأخرى: ((وَأَرْجُلِكُمْ)) [المائدة: 6] بجر اللام (¬3) ¬

(¬1) قطف الأزهار ص 52، ونظم المتناثر ص 71. (¬2) كحديث عثمان (في البخاري (159)، ومسلم (226)، وحديث عبد الله بن زيد رضي الله عنهما عند البخاري (191)، ومسلم (235). (¬3) هي قراءة: ابن كثير، وأبي عمرو، وحمزة، وأبي جعفر، وخلف العاشر، وشعبة عن عاصم. التيسير ص 98، والنشر2/ 254.

واختلف المفسرون في توجيهها، فقيل: إنها عَطْف على الرأس؛ فتمسح مثله، وهذه من شبهات الرافضة (¬1)، لكن جمهور الأمة القائلون بغسل الرجلين قالوا: إنه خفض للمجاورة، كما قالوا: (جُحرُ ضبٍّ خربٍ)، وأصله (خربٌ)، (¬2) ومن أحسن ما قيل في قراءة الجر: إنها محمولة على حال لبس (¬3)، وقراءة النصب على حال خلوهما، فتكون الآية على القراءتين دالة على الحكمين الغسل والمسح كما دلت على ذلك السنة، والسنة تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه. وفرض الرجلين هو الغسل إذا كانتا مكشوفتين، أما إذا كانا في خفين لُبِسا على طهارة؛ ففرضهما المسح عليهما، ودلت على ذلك سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - القولية والفعلية، كما في حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - في الصحيحين، أنه كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: {فأهويت لأنزع خفيه، فقال: دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين، فمسح عليهما} (¬4)، وهكذا في حديث حذيفة - رضي الله عنه - في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بال فتوضأ ومسح على خفيه (¬5)، وسئل علي - رضي الله عنه - عن المسح على الخفين؟ فقال: (جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم) (¬6)، وغيرها. فأحاديث المسح على الخفين متواترة، ولهذا كان من مذهب أهل السنة والجماعة المسح على الخفين، وغسل الرجلين إذا لم يكونا في خفين، خلافا للرافضة؛ فإن الرافضة خالفوا السنة في الحالين، فقالوا: إن فرض الرجلين هو المسح على أعلى القدم من الأصابع إلى العظم ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن 7/ 343. (¬2) زاد المسير 2/ 179، والجامع لأحكام القرآن 7/ 347. (¬3) الخفين [الجامع لأحكام القرآن 7/ 345. (¬4) رواه البخاري (206)، ومسلم (274). (¬5) رواه مسلم (273). (¬6) رواه مسلم (276).

الناتئ في ظهر القدم، وإذا كانا في خفين فلا يمسحون عليهما (¬1)، فخالفوا السنة من الوجهين، حيث قالوا: إن فرض الرجلين هو المسح، ولا مسح على الخفين، ومذهبهم باطل مخالف للنصوص. والمسح على الخفين مشروع في السفر والحضر، فقد دلت السنة على التفريق في حكم المسح على الخفين بين المسافر والمقيم حيث رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - للمقيم أن يمسح يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها. وكما تقدم (¬2) أن بعض هذه المسائل هي من المسائل الفقهية العملية؛ لكن لما لم يخالف فيها إلا المبتدعة نص عليها فهي مما يتميز به أهل السنة من المبتدعة. ¬

(¬1) المبسوط في فقه الإمامية 1/ 22، وشرائع الإسلام 1/ 17. (¬2) ص 262.

[الحج والجهاد مع الأئمة برهم وفاجرهم]

[الحج والجهاد مع الأئمة برهم وفاجرهم] وقوله: (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين بَرِّهِم وفاجِرِهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما). الحج مشروع منذ فرضه الله إلى قيام الساعة والجهاد مشروع إلى قيام الساعة، مع الأمراء والائمة بَرِّهِم وفاجِرِهم لا يمنعهما فجور أو ظلم الأمير، بل يشرع الحج مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا. وكذا الجهاد والقتال إذا كان مشروعا فلا يمنع منه كون القائد فاجرا أو عاصيا أو ظالما. وذكر الحج؛ لأن الخلفاء في الدولة الإسلامية كانوا يعينون أميرًا على الحج؛ لأنه يُحتاج فيه إلى تنظيم القوافل؛ لأنهم خلق كثير؛ كالجيش، ويحتاجون إلى سياسية وقيادة تدبر أمر السير، وترتيب الحراسات؛ وما يحتاجون إليه من الأغذية وعلف الدواب، وغيرها؛ فلهذا ذكر العلماء الحج مع الجهاد. وذكر الطحاوي وغيره هذه المسألة للتنبيه على مخالفة الرافضة، فالرافضة عندهم أنه لا جهاد إلا مع إمام معصوم (¬1)، وهم يقولون بعصمة الأئمة الاثني عشر أولهم علي ثم الحسن ثم الحسين رضي الله عنهم ... وآخرهم محمد بن الحسن العسكري، وهو الذي يسمونه الإمام والمهدي المنتظر، ويقولون: إنه دخل في سرداب في سامراء، وهم ينتظرونه إلى الآن، ويرون أنه لا جهاد إلا معه، وهذا الإمام معدود لا حقيقة له؛ لأنهم ¬

(¬1) المبسوط في فقه الإمامية 2/ 8، وشرائع الإسلام 1/ 232.

زعموا أنه دخل السرداب سنة ستين ومائتين أو قريبا من ذلك، وهو دون التمييز ابن خمس سنين أو أقل (¬1)، ولا يزال حيا، وهذا الإمام كما يقول شيخ الإسلام: (لم ينفعهم في دين ولا دنيا) (¬2). فنُص على هذه المسألة للتنبيه على بطلان مذهب الرافضة، ثم إنهم لم ينتفعوا بهؤلاء الأئمة الاثني عشر، سوى علي - رضي الله عنه - فهو الذي تولى الخلافة، والحسن كانت له مدة قصيرة، أما بقية الأئمة الذين يدعون لهم العصمة وأنهم أحق بالإمامة من كل أحد؛ فلم ينتفعوا بهم ولم تكن لهم ولاية، وهؤلاء الأئمة حكمهم عند أهل السنة، كحكم غيرهم بحسب حالهم في دينهم وعلمهم، وهم متفاضلون، فمنهم العلماء؛ كعلي بن الحسين، وابنه محمد بن علي، وابنه جعفر بن محمد ـ رحمهم الله ـ فهؤلاء من العلماء الصالحين المعروفين (¬3)، وفوقهم من له فضل الصحبة وفضل القرابة كعلي، وولديه: الحسن والحسين رضي الله عنهم. ¬

(¬1) منهاج السنة 1/ 114. (¬2) منهاج السنة 1/ 80. (¬3) انظر تراجمهم على الترتيب في سير أعلام النبلاء: 4/ 386، و 401، و 6/ 255.

[الإيمان بالكرام الكاتبين]

[الإيمان بالكرام الكاتبين] وقوله: (ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين). أي: نحن أهل السنة نؤمن بالكرام الكاتبين وهم: الملائكة الموكلين بحفظ أعمال العباد وكتابتها، كما قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10 - 11] فالله سبحانه وتعالى أقدرهم على العلم بأحوال العبد، فهم يكتبون حتى الأعمال القلبية، فضلا عن الأعمال الظاهرة وأقوال اللسان. وفي الحديث القدسي الصحيح: {إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها؛ فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة، وإذا أراد أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة؛ فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف}. (¬1) وقد دل القرآن ودلت السنة على كتابة أعمال العباد، ومن أدلة ذلك قوله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17 - 18]، ومن شواهد ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: {إذا مرض العبدُ أو سافرَ كُتب له مثلُ ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا} (¬2) ¬

(¬1) رواه البخاري (7501) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (2996) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -.

فهم يكتبون الحسنات والسيئات؛ بل ويكتبون ما سوى ذلك، وقد قيل في قوله تعالى: ((يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ)) [الرعد: 39] أي: ما في صحف الملائكة، فيمحو ما لا ثواب فيه ولا عقاب، ويثبت ما يترتب عليه الثواب والعقاب، أو يمحو ما تاب منه العبد وتجاوز عنه سبحانه وتعالى. (¬1) والإيمان بالحفظة الكاتبين داخل في الإيمان بالملائكة كما تقدم (¬2)، فمن الإيمان بالملائكة الإيمان بأصنافهم وأعمالهم، ومنهم الكرام الكاتبون. ¬

(¬1) تفسير البغوي 4/ 325، وزاد المسير 4/ 259. (¬2) ص 202.

[الإيمان بملك الموت وأعوانه]

[الإيمان بملك الموت وأعوانه] وقوله: (ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين). كذلك من الإيمان بالملائكة الإيمان بملك الموت، قال سبحانه وتعالى: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)) [السجدة: 11] والإيمان بمن معه من ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، وقد ذكر الله ذلك في كتابه، قال سبحانه وتعالى: ((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)) [الأنعام: 93]، وقال سبحانه وتعالى: ((وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ)) [الأنفال: 50]، فأخبر أن الملائكة يتوفونهم، وقال سبحانه وتعالى: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ)) [النحل: 28]، وقال: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ)) [النحل: 32]. وكما دل القرآن على ذلك دلت السنة عليه، ففي الحديث الطويل حديث البراء بن عازب ـ رضي الله عنهما ـ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت عليه السلام، حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون يعني بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان

بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، ـ إلى أن قال ـ وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ... ) (¬1) الشاهد: أن السنة قد دلت على إثبات هذه الأصناف من الملائكة: ملك الموت وملائكة الرحمة وملائكة العذاب. وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب، فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا! فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس! فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نَصَفَ الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة ¬

(¬1) رواه أحمد 4/ 287ـ واللفظ له ـ، وأبو داود (4753)، وصححه ابن خزيمة في التوحيد ص 119، وابن جرير في تهذيب الآثار ـ مسند عمر - رضي الله عنه - ـ 2/ 491 - ، والحاكم 1/ 37، من حديث البراء (مطولا، وصححه ـ أيضا ـ ابن القيم في الروح ص 88، وإعلام الموقعين 1/ 178، وتهذيب السنن 7/ 139.

وملائكة العذاب، فقالت: ملائكة الرحمة جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه، فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد فقبضته ملائكة الرحمة». (¬1) ويلاحظ أن التوفي جاء في القرآن منسوبا إلى الله: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى)) [الزمر: 42]. ومنسوبا إلى ملك الموت: ((قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)) [السجدة: 11]. ومنسوبا إلى الملائكة: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ)) [النحل: 28] فمن المتوفي إذًا؟ والجواب: أن الله سبحانه وتعالى هو المتوفي؛ لأنه سبحانه هو الذي أمر به وبمشيئته يكون، ((وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا)) [الأنعام: 61] فالملائكة رسل من عند الله يرسلهم لقبض روح من شاء من عباده. وأضيف التوفي إلى ملك الموت؛ لأنه هو الذي يتولى قبضَ النفسِ وأخذها أول ما تخرج من الجسد. وأضيف إلى الملائكة باعتبار أنهم يقبضونها ويتولونها بعد ذلك. فكلها حق، فنُسب التوفي إلى كلٍّ لثبوت ذلك على الوجه الذي يناسبه. وإنها لآية عظيمة أنَّ هذه الأنفس الكثيرة التي تموت في اللحظة الواحدة يتوفاها ويتولاها ملك واحد، فهذا يفيدنا أن أمر الغيب لا تحيط ¬

(¬1) البخاري (3470)، ومسلم (2766) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

به العقول البشرية، ولا يقاس على المحسوس، فلا ينفع أن تقيس الغائب على الشاهد. وقد حدث في هذا العصر من المخترعات الباهرة ما يقرب بعض أمور الغيب؛ كالحاسوب، والشبكة المعلوماتية، وغيرها مما يرسل الصور والأصوات ويستقبلها مِن وإلى أمكان متباعدة.

[الكلام على الروح وبعض متعلقاتها]

[الكلام على الروح وبعض متعلقاتها] وقوله: (أرواح العالمين) يتعلق بهذه الجملة الكلام في الروح التي بها حياة الناس، وتسمى النفس. والروحُ موضوعُ حديثٍ طويلٍ للناس، فقد خاض فيه الناس كثيرا بالحق وبالباطل، والناس في شأن الروح وحقيقتها ثلاثة مذاهب: قوم قالوا: إنها جزء من البدن، أو صفة من صفاته: إما النَفَس الذي تتردد في البدن، ومنهم من قال: إنها الحياة، أو المزاج، أو نفس البدن، وهذه الأقوال منسوبة إلى كثير من المتكلمين. وقابلهم الفلاسفة فقالوا: إن الروح لا تقوم به أية صفة، فالروح ليست داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا عَرَض، وليس لها أية صفة، قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في التدمرية: (يصفونها بما يصفون به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود) (¬1) فهذان القولان على طرفي نقيض، وكل منهما باطل. والقول الوسط: إن الروح حقيقة موجودة قائمة بنفسها، ولها وجود مستقل عن البدن، فليست كالعرض الذي لا يقوم إلا بجسم؛ لكنها تتصل بالبدن وتنفصل عنه، وتسري فيه سريانا على وجه التقريب كسريان النار في الفحم، وسريان الدهن في الزيتون، وسريان الماء في العود، ¬

(¬1) ص 169.

المهم أن لها كيانا يخصها، وهي موصوفة بصفات ثبوتية وسلبية، مثل: أنها تذهب وتجيء، وتُقبض وترسل، وهذا بنص القرآن: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى)) [الزمر: 42] وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الذكر عند النوم: {باسمك ربِّ وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين} (¬1)، وهي مغايرة في حقيقتها للأجسام المشهودة. فهذا هو القول الوسط الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وهذا مذهب أهل السنة: أن الروح شيء موجود متميز، وهي حقيقة قائمة بنفسها، وموصوفة بصفات ثبوتية وسلبية، وهي مغايرة في ماهيتها وحقيقتها للأجسام المشهودة. ويتعلق بالروح مسائل كثيرة اعتنى بذكرها ابن القيم في كتابه «الروح»، وفصَّل القول فيها. منها: الكلام في خلق الروح فقد قيل: إنها قديمة، أي: ليست محدثة، فلا بداية لوجودها، وهذا باطل؛ بل هي محدثة ومخلوقة كسائر المخلوقات، فالإنسان مخلوق: روحه وبدنه. (¬2) ومنها: هل تموت الروح أو لا تموت؟ فيه خلاف، والذي رجحه ابن القيم (¬3)، وهو الصواب: أن موت الأرواح هو مفارقتها لأجسادها؛ فإن أريد هذا القدر فهي ذائقة الموت فـ: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ)) [آل عمران: 185] وإن أريد أنها تصير عدمًا بعد فراقها للبدن فلا؛ فالروح باقية؛ إما في نعيم أو عذاب. ومن المسائل التي طرقها ابن القيم كذلك: الفرق بين النفس ¬

(¬1) البخاري (6320)، ومسلم (2714) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) الروح ص 226. (¬3) الروح ص 70.

والروح (¬1)، وبيَّن أن النفس تطلق على معان متعددة، والروح تطلق على معان متعددة، وتتفقان في بعض المواضع، فإذا قيل ـ مثلاـ: خرجت نفسه أو خرجت روحه؛ فالمعنى واحد. ومنها: هل النفس واحدة أو ثلاث؟ (¬2) الصحيح: أنها واحدة؛ لكن ذكرها بلفظ: النفس الأمارة بالسوء، والنفس المطمئنة، والنفس اللوامة إنما هو باعتبار صفاتها، وإلا فهي نفس واحدة. ومن الناس من يقول: لم الخوض والكلام في الروح مع أن الله تعالى يقول: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)) [الإسراء: 85]؟ والجواب: أن هذه الآية ليس فيها النهي عن الكلام في الروح. ثم إن الروح في الآية قد اختلف فيه، فقيل: إنه الروح الأمين جبريل عليه السلام. وقيل: إنه ملك آخر. وقيل: المراد بالروح الوحي (¬3). وإذا كان المراد: الروح التي هي النفس، فإن الله قال: ((قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)) [الإسراء: 85] وليس في هذا النهي عن الكلام في الروح، والواجب هو الكلام فيها بعلم، أما الكلام فيها بغير علم؛ فهذا هو المحذور، وفي كل مقام أيضا، أما الكلام في الروح في حدود ما جاء في الكتاب والسنة؛ فهذا حق وبيان لكتاب الله تعالى، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. والكلام والبحث في الروح له فائدتان: الأولى: معرفة الحق من الباطل من أقوال الناس. والثانية: معرفة ما ورد في الكتاب والسنة في شأن الروح. ¬

(¬1) الروح ص 325. (¬2) الروح ص 330. (¬3) تفسير البغوي 5/ 125، وزاد المسير 5/ 60.

وضرب شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة التدمرية (¬1) بها المثل لبيان وتقرير أن قيام الصفات بالموصوف لا يلزم منه المشابهة لغيره، ليقرر بذلك أن إثبات صفات الله لا يستلزم معرفة كنهه ولا تشبيهه بخلقه، فالروح مع أنها موصوفة في النصوص بصفات ثبوتية وسلبية؛ فالعقول عاجزة عن تكييفها، وهي عن تكييف الرب أعجز، وهي مباينة للأجسام المشهودة، ومباينة الله لخلقه أعظم، وهو كلام ناصع بيِّنٌ متضمن لإفحام المبطلين المعطلين. ¬

(¬1) ص 169.

[وجوب الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه]

[وجوب الإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه] وقوله: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلا، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن الصحابة رضوان الله عليهم) ونؤمن بعذاب القبر وبفتنة القبر ـ أي ـ: سؤال الميت في قبره عن ربه ودينه ونبيه، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من رواية جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، كحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الميت إذا وضع في قبره أتاه ملكان فيقعدانه ويقولانه له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟) (¬1)، والأدلة على فتنة القبر وعذاب القبر متواترة. (¬2) وقد أشير إلى فتنة القبر في القرآن قال تعالى: ((يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ)) [إبراهيم: 27]، (¬3) وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا فرغ من دفن الميت، وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل). (¬4) ¬

(¬1) حديث البراء تقدم في ص، وجاء نحوه من حديث أنس - رضي الله عنه - في البخاري (1338)، ومسلم (2870). (¬2) انظر: إثبات عذاب القبر للبيهقي، والروح ص 97، وأهوال القبور لابن رجب ص 43، وقطف الأزهار ص 294. (¬3) روى البخاري (4699)، ومسلم (2871) عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها نزلت في عذاب القبر. (¬4) رواه أبو داود (3221)، والبزار (445)، ـ وقال: لا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا من حديث عثمان، ولا نعلم لهذا إسنادًا عن عثمان إلا هذا الأسناد. ـ والحاكم 1/ 370 ـ وصححه ـ من حديث عثمان بن عفان - رضي الله عنه -، وقال النووي في الخلاصة 2/ 1028: إسناده حسن.

ويظهر لي أنه ليس لنا أن نقول: (فإنه الآن يسأل) وإنما نقول: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فقط، أما أن نحكم على الميت بأنه الآن يسأل، فهذا لا علم لنا به على الخصوص. ومن أدلة عذاب القبر في القرآن قوله تعالى في آل فرعون: ((النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّاً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)) [غافر: 46]، ومن ذلك قوله تعالى: ((وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)) [الأنعام: 93]، ومن ذلك قوله تعالى: ((وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)) [السجدة: 21]، وكذلك قوله تعالى: ((وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ)) [التوبة: 101] وهو عذاب النار. ومن أدلة عذاب القبر ونعيمة ما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) (¬1) وفي حديث البراء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: (إن المؤمن يُفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، وأن الكافر يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه) (¬2) وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إنه أوحي إلى أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال: فيوتى أحدكم فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما ¬

(¬1) البخاري (1379)، ومسلم (2866) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) تقدم في ص 286.

المؤمن فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، فيقال: نم صالحا قد علمنا إنْ كنت لموقنا به، وأما المنافق فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا؛ فقلته) (¬1). ومن أدلة عذاب القبر ما ورد من الاستعاذة بالله منه، كما في الذكر بعد التشهد ففي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر؛ فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال) (¬2) وأحاديث كثيرة فيها الاستعاذة بالله من عذاب في النار وعذاب في القبر. (¬3) وأكثر الأحاديث فيها: (أنه يأتيه ملكان) (¬4)، وجاء عند الترمذي تسميتهما: (المنكر والنكير) (¬5)، وسئل الإمام أحمد عن ذلك فأثبت تسمية هذين الملكين. (¬6). وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله، والإيمان بفتنة القبر وعذابه ¬

(¬1) رواه البخاري (86)، ومسلم (905) من حديث أسماء بنت الصديق رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (1377)، ومسلم (588) ـ واللفظ له ـ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) كحديث عائشة - رضي الله عنها - في البخاري (1372)، ومسلم (586)، وحديث أنس - رضي الله عنه - في البخاري (2823)، ومسلم (2706)، وحديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في البخاري (6730)، وحديث ابن مسعود - رضي الله عنه - في مسلم (2723)، وحديث أم حبيبة - رضي الله عنها - في مسلم (2663)، وغيرها. (¬4) كحديث البراء - رضي الله عنه - وقد تقدم في ص 286، وحديث أنس - رضي الله عنه - وقد تقدم في ص 294. (¬5) تقدم في ص 203. (¬6) في طبقات الحنابلة 1/ 135: قال أحمد بن القاسم: يا أبا عبد الله تقر بمنكر ونكير، وما يروى من عذاب القبر؟ فقال: نعم، سبحان الله! نقر بذلك ونقوله، قلت: هذه اللفظة منكر ونكير تقول هذا، أو تقول ملكين؟ قال: نقول: منكرٌ ونكيرٌ، وهما ملكانِ، وعذابُ القبر.

ونعيمه من الإيمان باليوم الآخر؛ فإن الإيمان باليوم الآخر يدخل فيه ما يكون بعد الموت. والإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه من الإيمان بالغيب؛ لأن الله ستر عن الخلق أحوال أهل القبور، وربما كشف لمن شاء بعض ذلك، وقد أطلع الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وسلم - على حال صاحبي القبرين فقال لما مَرَّ بهما: {إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير} (¬1). فأطلعه تعالى على حالهما، وسبب عذابهما، ولما سمع - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم صوتا قال: (يهود تعذب في قبورها). (¬2) قد يُكشف لبعض العباد شيء من أحوال أهل القبور، وفي هذا أخبار كثيرة، يذكرها المعنيون بهذا من أهل العلم (¬3)، وفيها تصديق لما أخبر به - صلى الله عليه وسلم -، وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر ما أسمع) (¬4) لو كشف للناس أحوال أهل القبور لفروا وهاموا على وجوههم، ولما دفنوا موتاهم. وأنكر عذاب القبر ونعيمه وسؤاله وفتنته الملاحدة الزنادقة (¬5) ويلزم على قول من يقول: إن الروح عرض وليست شيئا قائما بنفسه؛ أنه ليس هناك عذاب ولا نعيم؛ لأنها معدومة، ولهذا قال ابن القيم في النونية (¬6) ـ لما ذكر أمر الأرواح وبقاءها ـ: وَكَذلِكَ الأروَاحُ لاَ تَبلَى كَمَا ... تَبلَى الجُسُومُ وَلاَ بِلَى اللُّحمَانِ ¬

(¬1) رواه البخاري (216)، ومسلم (292) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه البخاري (1375)، ومسلم (2869) عن أبي أيوب - رضي الله عنه -. (¬3) انظر: مجموع الفتاوى 4/ 296، و 24/ 376، وشرح حديث النزول ص 399، والروح ص 119، وأهوال القبور ص 61. (¬4) رواه مسلم (2868) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬5) الروح ص 105، ورَدَّ عليهم في ص 111. (¬6) ص 25.

وَلأجلِ ذَلِكَ لم يُقِرَّ الجَهمُ بالـ ... أروَاحِ خَارِجَةً عَنِ الأبدَانِ لَكِنَّهَا مِن بَعضِ أعرَاضٍ بِهَا ... قَامَت وَذَا في غَايَةِ البُطلاَنِ فالشَّأنُ للأرواحِ بَعدَ فراقِهَا ... أبدَانَنا وَاللهِ أعظَمُ شَانِ إمَّا عذَابٌ أو نَعِيمٌ دَائِمٌ ... قَد نُعِّمت بِالرَّوحِ والرَّيحَانِ وتصيرُ طيراً سَارِحاً مَع شكلِهَا ... تجني الثِّمارَ بِجَنَّةِ الحَيَوانِ وَتَظَلُّ وَاردَةً لأنهَارٍ بِها ... حَتَّى تَعُودَ لِذَلِكَ الجُثْمَانِ لَكِنَّ أرواحَ الذينَ استُشهِدُوا ... فِي جَوفِ طَيرٍ أخضَرٍ رَيَّانِ فلهُم بذَاكَ مزيَّةٌ في عَيشِهِم ... ونَعِيمِهِم لِلرُّوحِ والأبدَانِ بَذَلُوا الجُسُومَ لربِّهِم فأعَاضَهُم ... أجسَامَ تلكَ الطَّيرِ بالإحسَانِ وَلَهَا قَنَادِيلٌ إليهَا تَنتَهِي ... مَأوَىً لَهَا كَمَسَاكِنِ الإِنسَانِ فالرُّوحُ بَعدَ الموتِ أكمَلُ حَالَةٍ ... منهَا بِهَذِي الدَّارِ في جُثمَانِ وَعذَابُ أشقَاهَا أشدُّ مِنَ الذِي ... قد عَاينَت أبصَارُنا بِعِيَانِ والقَائِلُونَ بِأنَّهَا عَرَضٌ أبَوا ... ذَا كُلَّهُ تَبًّا لِذِي نُكرانِ وقوله: (لمن كان له أهلا) عذاب القبر ليس لكل واحد، وجاء التصريح بعذاب القبر ونعيمه للمؤمن والكافر، أما العاصي؛ فإن أكثر النصوص لم تتعرض له، كما هو ظاهر في أمر فتنة القبر، إنما ذكر المؤمن الذي ينعم بعد الفتنة، والكافر والمنافق الذي يعذب بعدها، لكن العاصي يُخاف عليه العذاب، فالذي سُكت عنه هذا على خطر، فالمعاصي سبب للعذاب في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة، والعاصي تحت المشيئة إن شاء الله غفر له وإن شاء عذبه، وأما المؤمن التقي فهو ناجٍ من العذاب، وهو من أهل النعيم والثواب. ومسائل القبر هذه، هي التي بنى عليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ رسالته المعروفة بـ «ثلاثة الأصول». وقد بلغ الأمر ببعض من يعظمون الوطن إلى درجة العبادة، أن يقول: بنو وطني سأذكرهم ... متى ما عشتُ في الدنيا وفي قبري أقول له ... إذا ما جاء يسألني

بنو وطني همُ ديني ... وديني همْ بنو وطني! (¬1) هل سيجيب بهذا الكفر؟! لن يجيب، بل سيقول: هاه هاه! لا أدري. نعوذ بالله من فتنة القبر وعذاب القبر. وقوله: (عن ربه ودينه ونبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن الصحابة رضوان الله عليهم). هذا هو المعتمد، فإنما إثبتنا هذه الأمور الغيبية لورود الأخبار الصحيحة بها، فنؤمن بذلك تصديقا لله تعالى، ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، واتباعا لسلف هذه الأمة. وقوله: (والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران) (¬2). هذا تكميل للموضوع، وفيه إشارة إلى النعيم؛ لأنه في العبارة السابقة لم يقل: بعذاب القبر ونعيمه، ففي هذه الجملة تنبيه على النعيم، (والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران)، هذه أحوال الناس في القبر، منهم: من هو في نعيم وفي سرور، في روضة من رياض الجنة يأتيه من روحها وطيبها، كما يشاء الله سبحانه وتعالى على ما يليق بحال البرزخ؛ لأن الدور ثلاثة: دار الدنيا، وهي: دار الابتلاء والعمل. ودار البرزخ، وهي: ما بين الموت إلى البعث، وهي: محل عذاب القبر ونعيمه. ¬

(¬1) هذه الأبيات للشاعر السوداني عبد الرحمن شوقي، ونشرت في جريدة القصيم، العدد الرابع، في جمادى الأولى عام 1379 هـ، كذا أفادني الشيخ، وهذه الجريدة توقفت منذ زمن بعيد، ولم أجد هذا العدد. (¬2) هذا لفظ حديث رواه الترمذي (2460) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وضعفه العراقي في المغني 1/ 468، والسخاوي في المقاصد الحسنة (758).

والدار الآخرة التي بعد البعث، وهي: دار القرار، وليس فيها نقلة ولا رحيل ولا تحول. أما القبر، فليس هو كما يجري على ألسن الناس إذا دفنوا الميت قالوا: انتقل إلى مثواه الأخير؛ فإن القبر ليس هو المثوى الأخير، بل بعده رحيل وانتقال من دار البرزخ إلى الدار الآخرة: إلى الجنة أو النار، واستنبط بعض أهل العلم هذا المعنى من قوله تعالى: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حتى زُرْتُمُ)) [التكاثر: 1 - 2] والزائر لا بد له من انصراف؛ لأنه غير مقيم (¬1)، فأهل القبور ليسوا بمقيمين أبدا في قبورهم؛ بل سينصرفون عندما يدعوهم الداعي: ((وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ)) [ق: 41 - 42]، ((وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)) [الزمر: 68]. ¬

(¬1) الجامع لأحكام القرآن 22/ 450، وتفسير ابن كثير 8/ 474.

[الإيمان بالبعث والجزاء]

[الإيمان بالبعث والجزاء] وقوله: (ونؤمن بالبعثِ وجزاءِ الأعمالِ يومَ القيامةِ). كل هذه المعاني والمسائل مندرجة في الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالبعث مما أجمع عليه أهلُ الملل الثلاث: المسلمون واليهود والنصارى، ومما اتفقت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وليس فيه اختلاف بين فرق الأمة. ولا ينكر بعث الأجساد إلا الفلاسفة الملاحدة (¬1)، ومنهم من دخل في الإسلام وادعى ذلك على الشريعة، كابن سينا (¬2)، يقول: إن البعث والجزاء روحاني لا جسماني، فأنكر معاد الأجساد، فجعلوا ما جاء في النصوص أمورا روحانية، وهذا إنكار مع تلبيس. ويوم القيامة اسمه يوم البعث؛ لأن فيه البعث، ويوم الجمع؛ لأن الله يجمع الأولين والآخرين للحساب. وسبق الكلام على أدلة البعث عند قول الطحاوي: (والإيمان: هو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر) (¬3). ومن الأقوال الباطلة المعروفة عن المتكلمين قولهم: إن البعث يكون بجمع تلك الأجزاء، وهذا يرجع إلى مقولة معروفة هي: إن ¬

(¬1) درء تعارض العقل والنقل 5/ 250، والجواب الصحيح 3/ 281، ومجموع الفتاوى 4/ 283 و 314، والصواعق المرسلة 4/ 1209. (¬2) درء تعارض العقل والنقل1/ 8 و 10/ 59، وسير أعلام النبلاء 17/ 531، والكافية الشافية ص 108. (¬3) ص 240.

الأجسام مركبة من جواهر مفردة، والجوهر الفرد هو الجزء الذي لا يتجزأ، وهم منازعون في دعوى وجود الجوهر الفرد. والتحقيق أنه ما من جزء إلا ويتجزأ حتى يبلغ إلى غاية صغيرة فيستحيل أو يعدم، كما قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ (¬1). فهؤلاء القائلون بنظرية الجوهر الفرد يقولون: إن البعث يكون بجمع تلك الجزيئات: فإذا مات الميت وتفرقت جزيئاته فيكون البعث بجمع تلك الجزيئات. وهذا باطل؛ فإن الأجسام تستحيل وتتغير وتتحول من طبيعة إلى طبيعة، ثم يقال: إنه لو كان البعث بجمع تلك الجزيئات على فرض صحة الدعوى؛ للزم أن يكون كل إنسان يبعث على هيئته التي كان عليها، الكبير الهرم على هيئته، والصغير كذلك، وهذا مخالف للنصوص التي بيَّن الله تعالى فيها أنه يعيد ما تفرق واستحال، ثم ينشئها سبحانه وتعالى كما يشاء نشأة أخرى: ((وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأُخْرَى)) [النجم: 42 - 47]، وقال تعالى: ((أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ)) [الواقعة: 58 - 61] ننشئكم نشأة لا تعلمونها ولا تتخيلونها. وقد ثبت في النصوص ذكر خلقة من يدخل الجنة ومن يدخل النار، وأن أجسامهم تكون ليست على هيئة أجسام الناس في هذه الدنيا؛ بل تختلف اختلافا كبيرا (¬2)، ينشئها الله نشأة أخرى تليق بالحياة الآخرة ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 16/ 270، و 17/ 246، ومنهاج السنة 1/ 212 و 2/ 139 و 210. (¬2) في صحيح البخاري (6551)، ومسلم (2852) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع»، وفي صحيح البخاري (3326)، ومسلم (2841) عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خلق الله آدم وطوله ستون ذراعا ... فكل من يدخل الجنة على صورة آدم».

عذابها ونعيمها، وليس البعث إيجادًا من عدم؛ بل البعث إعادة، وهذا هو الذي أنكره الكفار، فإنهم لا ينكرون أن الله يخلق مثلما خلق، فهم يشاهدون أن الله يخلق الأجيال، إنما ينكرون أن يعيد الله ما استحال من أبدانهم وتفرق من أجسادهم أن يعيده: ((أَإِذَا كُنَّا تُرَابَاً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)) [الرعد: 5]، ((وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامَاً وَرُفَاتَاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقَاً جَدِيدَاً * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدَاً * أَوْ خَلْقَاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الإسراء: 49 - 51] الآيات، ((بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) [ق: 15]، ولهذا أنكر العلماء على جهم بن صفوان ومن وافقه بأن المعاد هو أن يخلق الله الخلق خلقا جديدا ليس بإعادة، يقول ابن القيم ـ في فصل طويل في الشافية الكافية (¬1) عن جهم ومقالاته ـ: وَقَضَى بِأنَّ اللهَ يَجعَلُ خَلقَهُ ... عَدَماً ويقلِبُهُ وُجُوداً ثَاني العَرشُ والكُرسِيُّ والأرواحُ والـ ... أملاكُ والأفلاكُ والقَمَرَانِ والأرضُ والبَحرُ المحيطُ وسائِرُ الـ ... أكوَانِ مِن عَرَضٍ وَمِن جُثمَانِ كُلٌّ سَيُفنِيهِ الفنَاءَ المَحضَ لا ... يَبقَى لَهُ أثَرٌ كَظِلٍّ فَانِ ويُعِيدُ ذَا المَعدُومَ أيضاً ثانياً ... مَحضَ الوجودِ إعَادَةً بِزَمَانِ هذا المعادُ وَذلِكَ المَبدَا لَدَى ... جَهمٍ وقد نَسَبُوه للقرآنِ هَذا الذِي قَأدَ ابنَ سينَا والأُلَى ... قَالُوا مَقَالَتَه إلى الكُفرَانِ لَم تَقبَلِ الأذهانُ ذَا وتَوهَّمُوا ... أنَّ الرَّسُولَ عَنَاهُ بِالإِيمانِ هَذا كِتابُ اللهِ أنَّى قَالَ ذَا؟ ... أو عَبدُهُ المبعُوث بالبُرهَان؟ ولهذا جعل الله من حجته على المكذبين أن الإعادة في نظر الإنسان وبالنسبة لقدرة الإنسان أهون من الابتداء، ((أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)) [ق: 15]، ((وَضَرَبَ لَنَا مَثَلَاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ ¬

(¬1) ص 23.

يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)) [يس: 78 - 79] وهذا أحد أدلة البعث التي فيها الرد على المكذبين، وقد تقدم ذكرها. (¬1) وقوله: (وجزاء الأعمال يوم القيامة). مما يجب الإيمان به الجزاء، والجزاء هو الغاية من البعث والنشور، ليجد كل عامل عمله، قال تعالى: ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيدَاً)) [آل عمران: 30]، ((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى)) [النجم: 31]؛ بل هذا من حكمة الله في خلق السماوات والأرض، قال تعالى: ((وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) [الجاثية: 22]، وذكر الجزاء في القرآن كثير جدا، وجاء بلفظ الدين، قال تعالى: ((مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)) [الفاتحة: 3]، ((يَصلونها مَا يَوْمُ الدِّينِ)) [الانفطار: 16]، ((الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ)) [المطففين: 11]، {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6]. وهذا الجزاء ذكر الله تعالى تفصيله: ((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) [الأنعام: 160]، ((فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [الطور: 16]، ((فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يس: 54]، ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) [الأنبياء: 47]، ((يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتَاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ)) [الزلزلة: 6] أي: جزاء أعمالهم ثوابا وعقابا، ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ)) [الزلزلة: 7 - 8]. ¬

(¬1) ص 52، 240.

وهذا الجزاء يتضمن الثواب على الأعمال الصالحة، والعقاب على ضدها من الكفر والفسوق والعصيان، ومن الجزاء الاقتصاص للمظلوم من الظالم، وبهذا تتحقق حكمة الرب وعدله سبحانه وتعالى، فالناس في هذه الدنيا يقع من بعضهم عدوان وظلم على بعض، وكثير من المظلومين يموت وهو لم يستوف حقه، أو يموت الظالم ولم يؤخذ منه الحق، فجعل الله للخلق يوما يجمع فيه الأولين والآخرين. وجزاء الإيمان والحسنات مبني على الفضل والزيادة والمضاعفة، وجزاء السيئات مبني على العدل، قال تعالى: ((مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [القصص: 84]، وفي الآية الأخرى: ((مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)) [الأنعام: 160]، ولا يعذب أحد بذنب غيره يقول تعالى: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)) [الأنعام: 164] والله تعالى ينبه إلى أن دخول أهل الجنةِ الجنةَ بسبب أعمالهم ((جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [السجدة: 17] و (الباء) سببية، فالإيمان والعمل الصالح سبب دخول الجنة، والكفر والمعاصي سبب دخول النار ((جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [التوبة: 95]، وتفصيل هذا في القرآن كثير جدا.

[الإيمان بالعرض والحساب، والصراط والميزان]

[الإيمان بالعرض والحساب، والصراط والميزان] وقوله: (والعرضِ والحسابِ، وقراءةِ الكتابِ، والثوابِ والعقابِ، والصراطِ، والميزانِ). من أحوال يوم القيامة عرض العباد على ربهم، وعرض أعمالهم عليهم، قال تعالى: ((وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدَاً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [الكهف: 47 - 48] وكذلك عرض الأعمال على العاملين، قال تعالى: ((يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرَاً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)) [آل عمران: 30]، وفي حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -: (ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه؛ فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه؛ فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه؛ فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه -: أليس قد قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا)؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما ذلك العرض، وليس أحدٌ يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب). (¬2) وكذلك الحساب، والحساب في اللغة: العد، ويطلق بمعنى ¬

(¬1) رواه البخاري (7512)، ومسلم (1016). (¬2) رواه البخاري (6537) ـ واللفظ له ـ، ومسلم (2876).

المحاسبة، ومن أسماء يوم القيامة: يوم الحساب، قال تعالى: ((بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)) [ص: 26]، وهو اليوم الذي يحاسب الله فيه الخلائق، قال تعالى: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) [الأنبياء: 47] ومن المحاسبة السؤال عن الأعمال، قال تعالى: ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الحجر: 92 - 93]، وقال تعالى: ((وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ)) [الصافات: 24]، وقال تعالى: ((اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً)) [الإسراء: 14]، وقال تعالى: ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابَاً يَسِيرَاً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورَاً * وَيَصْلَى سَعِيرَاً * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورَاً)) [الانشقاق: 7 - 13]. ومن الحساب ما فيه مناقشة كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (من نوقش الحساب عُذِّب) (¬1). ومن المحاسبة ما جاء في الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: (يدنو أحدُكم من ربِّه حتى يضع كنَفَه عليه، فيقول: عملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، ويقول: عملتَ كذا وكذا؟ فيقول: نعم، فيقرره، ثم يقول: إني سترت عليك في الدنيا، فأنا أغفرها لك اليوم) (¬2)، حساب يسير وعرض للأعمال، ليس فيه مناقشة. هذا كله يدخل في إطار الحساب، وهناك سؤال يمكن أن يدخل في الحساب، قال تعالى: ((حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [النمل: 84]، ((وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ)) [القصص: 65]. ¬

(¬1) تقدم في ص 306. (¬2) رواه البخاري (6070) ـ واللفظ له ـ، ومسلم (2768) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

فأحوال القيامة وأهوالها عظيمة، فيا له من يوم ما أعظمه! ((أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ)) [المطففين: 4 - 5] وثقيل، قال تعالى: ((إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27] وعسير؛ لكن على الكافرين، أما على أهل الإيمان والتقى فهو عليهم يسير، ولهذا يقول تعالى: ((عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)) [المدثر: 10]، وفي الآية الأخرى: ((وَكَانَ يَوْمَاً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرَاً)) [الفرقان: 26]. وقوله: (وقراءة الكتاب). قراءة كتاب الأعمال، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله ومن وراء ظهره، كما في الآيات من سورة الانشقاق، وسورة الحاقة، قال تعالى: ((فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)) [الحاقة: 19]، ((وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ)) [الحاقة: 25 - 28]، وقوله تعالى: ((وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنشُورَاً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً)) [الإسراء: 13 - 14]، ((يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلَاً)) [الإسراء: 71] وغيرها من الآيات. وكل هذا مما يدخل في الإيمان باليوم الآخر، ويجب الإيمان به. وقوله: (والثواب والعقاب) تفصيل وبيان لنوعي الجزاء على الأعمال؛ فإذا كانت الأعمال حسنات وسيئات؛ فالحسنات جزاؤها الثواب، وهو: كل خير ونعيم وسرور، وجماع ذلك وأعظمه رحمة الله وكرامته ورضاه وجنته، {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 21 - 22] وقوله: (والصراط) الصراط جسر وطريق ومعبر ينصب على متن جهنم، فيعبر عليه

الناس بحسب أعمالهم، وجاء بيان ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن منهم من يمر (كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مُسَلَّم، ومخدوش مرسل، ومَكْدُوس في نار جهنم) (¬1). وهذا الصراط والسير عليه حسي، وهو في مقابل الصراط الذي في الدنيا، ففي الدنيا صراط معنوي، وهو دين الله الذي بعث به رسله، فالسير على ذاك الصراط بحسب السير على هذا الصراط، فمن كان على هذا الصراط ثابتا ومسرعا وقويا كان على ذاك كذلك، ومن كان بطيء السير في هذا الصراط كان سيره على ذاك ((جَزَاءً وِفَاقَاً)) [النبأ: 26]، و (الجزاء من جنس العمل). وقوله: (والميزان) أي: ميزان الأعمال، والآيات في هذا ظاهرة وكثيرة، قال تعالى: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ ليوم القيامة)) [الأنبياء: 47]، وقال تعالى: ((فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ)) [الأعراف: 8 - 9]، إلى غير ذلك من الآيات. فأهل السنة والجماعة يؤمنون بالميزان، وأنه ميزان حقيقي حسي، توزن به الأعمال، كما جاء في الأحاديث، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) (¬2) وفي الحديث الآخر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (والحمد لله تملأ الميزان) (¬3). فدل الكتاب والسنة على وزن الأعمالِ، والأعمالُ وإن كانت أعراضا، والأعراض في حِسنا ومداركنا لا تقبل الوزن؛ لكنا نسلم ¬

(¬1) رواه البخاري (7439)، ومسلم (183) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (6682)، ومسلم (2694) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه مسلم (223) من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -.

ونؤمن بما أخبر الله به من وزن الأعمال، والله تعالى على كل شيء قدير، وفي حديث صاحب البطاقة الذي يأتي يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعين سِجِّلا، كل سِجِّل مد البصر، وكلها سيئات، فيُبهت فتُخرج له بطاقة فيها الشهادتان، فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة، قال: (فطاشت السجلات وثقلت البطاقة). (¬1) دليل على أن صحائف الأعمال توزن، ويستدل به على فضل التوحيد الخالص، فهذا لمِا اقترن بهذه الكلمة من الصدق والإخلاص والصفاء وحسن النية؛ إذ الكلمات والعبادات وإن اشتركت في الصورة الظاهرة؛ فإنها تتفاوت بحسب أحوال القلوب تفاوتا عظيما، لأجل ذلك كفّرت سيئاته، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم كانوا يقولون: لا إله إلا الله، ولم يرجح قولهم على سيئاتهم كصاحب البطاقة. هذا ما وجَّه به شيخ الإسلام ابن تيمية، هذا الحديث (¬2) وأمثاله (¬3). وقد دلت النصوص على أن الأعمال توزن، وصحف الأعمال توزن؛ بل والعامل يوزن كما في الحديث (أنَّ عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - كان يجتني سواكا من الأراك ـ وكان دقيق الساقين ـ فجعلت الريح تَكْفَؤُهُ، فضحك القوم منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل ¬

(¬1) رواه أحمد 2/ 213، والترمذي (2639) ـ وقال: حسن غريب ـ، وصححه ابن حبان (225)، والحاكم 1/ 6 و 529 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما. (¬2) مجموع الفتاوى 7/ 488 و 10/ 735، ومنهاج السنة 6/ 219. (¬3) كحديث: أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينما رجل يمشي بطريق وجد غصن شوك على الطريق، فأخره فشكر الله له فغفر له) رواه البخاري (652)، ومسلم (1914)، وحديثه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (بينما كلب يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كاد يقتله العطش؛ إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل، فنزعت مُوقَهَا فسقته فغفر لها به). رواه البخاري (3467)، ومسلم (2245).

في الميزان من أحد). (¬1) وأنكر بعضُ أهلِ البدعِ الميزانَ (¬2) وقالوا: ليس المراد ميزانا حسيا توزن به الأعمال، إنما هو كناية عن عدل الرب سبحانه وتعالى، لكن النصوص ظاهرة بأنه ميزان حسي ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ)) [الأنبياء: 47]. وقيل: إن الميزان واحد، توزن به أعمال العباد، (والله على كل شيء قدير) وقيل: إنها موازين، وهو ظاهر القرآن، ومن قال: إنه ميزان واحد، قال: الموازين المراد بها الموزونات، فالتعدد في الموزونات والميزان واحد، والله أعلم. المهم الإيمان بوزن الأعمال. (¬3) وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في باب (فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب) من مسائل حديث أبي سعيد - رضي الله عنه -: (لو أن السماوات السبع والأرضين السبع في كفة، ولا إله إلا الله في كفة) (¬4): معرفة أن الميزان له كفتان. (¬5) لأن الميزان يتضمن المعادلة بين السيئات والحسنات، فمن رجحت حسناته على سيئاته نجا، ومن رجحت سيئاته على حسناته فقد يعذب، والكلام في المسلم الذي له حسنات، أما الكفار فليس لهم ¬

(¬1) رواه أبو داود الطيالسي (354)، وأحمد 1/ 420 من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -، ونحوه عند ابن أبي شيبة 17/ 194، وأحمد 1/ 114، والبخاري في الأدب المفرد (237). (¬2) كالمعتزلة، انظر: مقالات الإسلاميين ص 472، ودرء تعارض العقل 5/ 348 ـ وذكر أنه قول البغداديين من المعتزلة دون البصريين ـ، وفتح الباري 13/ 538. (¬3) التذكرة 2/ 734. (¬4) رواه النسائي في الكبرى (10670 و 10980)، وابن حبان (6218) والحاكم 1/ 528، وصححه ابن حجر في الفتح 11/ 208. (¬5) كتاب التوحيد 6/ 9.

حسنات، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: (وأما الكفار؛ فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته؛ فإنهم لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها، ويقررون بها، ويجزون بها). (¬1) ¬

(¬1) ص 216.

[خلق الجنة والنار وبقاؤهما]

[خلق الجنة والنار وبقاؤهما] وقوله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان). هذه الجملة فيها مسألتان: الأولى: قوله: (والجنة والنار مخلوقتان) مخلوقتان الآن وموجدتان الآن، خلافا للمعتزلة، فالمعتزلة يقولون: إن الجنة والنار لم تخلقا؛ لكن يخلقهما الله يوم القيامة. وما حجتهم؟ قالوا: إن خلقهما الآن عبث؛ لأنها تصير معطلة مددا متطاولة، ولم يدخلها سُكَّانها! (¬1) وهذا قول باطل مبني على جهل فاضح، ولهذا كان من مذهبهم إنكار عذاب القبر ونعيمه. والحق الذي لا ريب فيه: أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، والأدلة على هذا من الكتاب والسنة لا تحصى كثرة، فكل أدلة عذاب القبر ونعيمه، هي من أدلة وجود الجنة والنار؛ لأن عذاب القبر هو من النار، ونعيم القبر من الجنة، ومن أدلة ذلك قوله تعالى: ((وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى)) [النجم: 13 - 15]، وقال تعالى: ((النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّاً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)) [غافر: 46]، وقال تعالى: ((مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارَاً)) [نوح: 25]. وفي الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه ¬

(¬1) حادي الأرواح 1/ 24.

مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) (¬1)، وفي حديث البراء - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن المؤمن يُفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، وأن الكافر يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه) (¬2) وفي حديث صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاة الكسوف أنَّ الصحابة رضي الله عنهم قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا في مقامك هذا ثم رأيناك كففت؟ فقال: (إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أرَ كاليوم منظرا قط) (¬3) وهذا يقتضي أنها حقيقة. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فجاءها ونظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، قال: فرجع إليه قال: فوعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بها فحفت بالمكاره، فقال: ارجع إليها فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فرجع إليها فإذا هي قد حفت بالمكاره، فرجع إليه، فقال: وعزتك لقد خفت أن لا يدخلها أحد، قال: اذهب إلى النار فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها فإذا هي يركب بعضها بعضا، فرجع إليه، فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: ارجع إليها، فرجع إليها، فقال: وعزتك لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها} (¬4) ومثل ¬

(¬1) تقدم في ص 295. (¬2) تقدم في ص 286. (¬3) رواه البخاري (1052)، ومسلم (907) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬4) رواه أحمد 2/ 332، وأبو داود (4744)، والترمذي (2560) ـ وقال: حسن صحيح ـ والنسائي 7/ 3، وصححه ابن حبان (7394)، والحاكم 1/ 26من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وقال الحافظ في الفتح 6/ 320: إسناده قوي.

حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تحاجت النار والجنة، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: فما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس، وَسَقَطُهُمْ وَعَجَزُهُمْ؟ فقال الله للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما مِلْؤُهَا) (¬1). فهذا هو الحق الذي لا ريب فيه، والقول بأنهما لم تخلقا قول باطل مناقض لنصوص الكتاب والسنة. قال العلامة ابن القيم في النونية: يا سِلْعَةَ الرحمنِ لستِ رخيصةً ... بل أنتِ غاليةٌ على الكسلانِ يا سلعة الرحمن ليس ينالُها ... في الألف إلا واحدٌ لا اثنان يا سلعة الرحمن مَنْ ذا كفؤُها ... إلا أُولُو التقوى مع الإيمان يا سلعة الرحمن سُوقُك كاسِدٌ ... بين الأراذلِ سِفْلَةِ الحيَوان يا سلعة الرحمن أين المشتري ... فلقد عُرضتِ بأيسر الأثمان يا سلعة الرحمن هل مِن خاطِبٍ ... فالمهرُ قبل الموتِ ذو إمكان يا سلعة الرحمن كيف تَصَبَّرَ الْ ... خُطَّابُ عَنْكِ وَهُمْ ذَوُو إيمان يا سلعة الرحمن لولا أنَّها ... حُجِبَتْ بكلِّ مَكَارِهِ الإنسان ما كان عنها قطُّ مِن مُتَخَلِّفٍ ... وتعطلتْ دارُ الجزاءِ الثاني لكنها حُجِبَتْ بكلِّ كَرِيهَةٍ ... لِيُصَدَّ عنها المُبْطِلُ المُتَوَاني وتَنالَها الِهمَمُ التي تَسْمُو إلى ... رُتَبِ العُلَى بمشيئةِ الرحمن (¬2) والمسألة الثانية: مسألة فناء الجنة والنار، يقول الطحاوي: (لا تفنيان أبدا ولا تبيدان) بل هما باقيتان على الدوام. فالجنة لا تفنى ونعيمها دائم، قال تعالى: ((أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا)) ¬

(¬1) رواه البخاري (4850)، ومسلم (2846) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) الكافية الشافية 297.

[الرعد: 35]، وقال تعالى: ((إن هذا لرزقنا ما له من نفاد)) [ص: 54]، وقال تعالى: ((عطاء غير مجذوذ)) [هود: 108]، وقال تعالى: ((يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم * خالدين فيها أبدا إن الله عنده أجر عظيم)) [التوبة: 21 - 22]

[الرعد: 35]، وقال تعالى: ((إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ)) [ص: 54]، وقال تعالى: ((عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)) [هود: 108]، وقال تعالى: ((يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) [التوبة: 21 - 22] )) [التوبة: 21] وقال تعالى: ((وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ)) [الحجر: 48]. وكذلك النار جاء فيها ما يدل على الدوام، قال تعالى: ((يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ)) [المائدة: 37]، وقال تعالى: ((كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرَاً)) [الإسراء: 97]، ((كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا)) [الحج: 22]. وذهبت الجهم بن صفوان ومن تبعه إلى فناء الجنة والنار، فعندهم أن المخلوقات يمتنع دوامها في الماضي، وكذلك دوامها في المستقبل. وأجمع أهل السنة إجماعا قطعيا وسائر الفرق ما عدا الفرقة الضالة الجهمية إلى دوام الجنة، وأما النار فجمهور أهل السنة وسائر الطوائف على دوامها كذلك، وفيها قول آخر ذكره ابن القيم، فقد عُني ـ رحمه الله ـ بالكلام على هذه المسألة (¬1) كعادته في البحث إذا بحث مسألة أبدع فيها، وأتى بكل ما يمكن من الاستدلال والحوار، والجواب والمناقشات في سائر المسائل الخلافية التي يتعرض لها، يذكر كل ما للطائفتين من حجج واستدلالات وتوجيهات، ويقابل بينهما ويناقشهما، فتارة يرجح ترجيحا ظاهرا وبقوة، وتارة يعرض ويقف، وإذا عرض لأحد القولين يقول القائل: إنه يختار هذا، فإذا عرض القول الآخر قال: كأنه يختار الثاني، والذي يظهر أنه هكذا وقع له في ¬

(¬1) «حادي الأرواح» 2/ 730 - 792، و «شفاء العليل» ص 254 - 264، و «مختصر الصواعق» 2/ 637 - 685، وقبله شيخ الإسلام في كتابه «الرد على من قال بفناء الجنة والنار».

هذه المسألة، فلما ذكر حجج القولين يظن الظان إذا قرأ استدلالاته للقول الآخر يظن أنه قائل به (¬1). وأكثر ما نقوله هنا: إن القول بفناء النار قول مرجوع، ولكن لا يقال: إنه بدعة، ولا يُبدَّع من قال به، ومن الناس من بدَّع من قال به، ومنهم من رمى ابن تيمية بالقول به، وجزم بأنه قال: بفناء النار، وقالوا: إنه له اعتقادات فاسدة، وهذا يقوله المتجنون على شيخ الإسلام ابن تيمية من خصومه الذين خالفهم في كثير من مسائل الاعتقاد، وقد ذكر ابن القيم أنه سأل شيخ الإسلام عن مسألة فناء النار، فقال: هذه المسألة عظيمة كبيرة، ثم ذكر فيها القولين، (¬2) ولم يذكر عن شيخه أنه ذهب إلى القول بفناء النار خلافا لمن ينسب إليه ذلك. (¬3) وقال أفاض شيخنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير القول بدوام الجنة والنار والجواب عما استدل به للقول بفناء النار كقوله تعالى: ((إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)) [هود: 107]، وقوله تعالى: ((إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)) [الأنعام: 128] ذكر هذه المسألة عند هذه الآية في سورة الأنعام من كتابه «دفع إيهام الاضطراب ¬

(¬1) وقال في آخر البحث في حادي الأرواح 2/ 791: فإن قيل إلى أين انتهى قدمكم في هذه المسالة العظيمة الشأن؟ قيل: إلى قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107]، ونحوه في شفاء العليل ص 264، ومختصر الصواعق 2/ 663، وله كلمة مختصرة عابرة في «الوابل الصيب» ص 42، صرح فيها ببقاء النار وعدم فنائها. (¬2) السؤال في شفاء العليل ص 264، وجوابه: فقال شيخ الإسلام: هذه المسألة عظيمة كبيرة، ولم يجب فيها بشيء، فمضى على ذلك زمن حتى رأيت في تفسير عبد بن حميد الكشي بعض تلك الآثار التي ذكرتُ، فأرسلت إليه الكتاب وهو في محبسه الأخير، وعلَّمت على ذلك الموضع، وقلت للرسول: قل له هذا الموضع يشكل عليه ولا يدري ما هو؟ فكتب فيها مصنفه المشهور رحمة الله عليه. (¬3) كالحصني والسبكي، انظر: دعاوى المناوئين لشيخ الإسلام ص 608.

عن آي الكتاب» (¬1). وقد أجيب بأجوبة كثيرة عن قوله تعالى: ((إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)) [الأنعام: 128] وأن المراد بهذا الاستثناء: مكثهم في القبور، أو لبثهم في الدنيا، أو في مواقف القيامة، هذه كلها أقوال ليست بالظاهرة؛ لأن المراد بيان خلودهم بعد ذلك: ((خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ)) [هود: 107] وأحسن ما قيل: إن المراد بيان أن بقاءهم إنما هو بمشيئة الله، كما أن بقاء أهل الجنة في الجنة إنما هو بمشيئة الله، فبقاء الرب تعالى ودوام وجوده ذاتي، أما بقاء أهل الجنة أبد الآباد فبإبقائه سبحانه وتعالى ومشيئته. ¬

(¬1) ص 133، وانظر: «مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي» ص 51.

[سبق القدر فيمن يصير إلى الجنة، ومن يصير إلى النار]

[سبق القدر فيمن يصير إلى الجنة، ومن يصير إلى النار] وقوله: (وأن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلا، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلا منه، وكل يعمل لما قد فُرِغَ له وصائر إلى ما خُلِق له) هذا دخول في مسائل متعلقة بالقدر، وقد فرَّق الشيخ الكلام في القدر، كما فرق المسائل المتعلقة بأصول الإيمان؛ فيذكر مسائل تتعلق بالإيمان بالله، أو الملائكة، أو الرسل، أو باليوم الآخر، وهذه المسائل الآتية متعلقة بالقدر، وبالمسألة التي تقدمت وهي: خلق الجنة والنار يقول: (وأن الله خلق الجنة والنار قبل الخلق) هذا ظاهر، ولا يريد بالخلق جميع المخلوقات، الظاهر أنه يريد قبل خلق الناس؛ لأن الخلق تارة يطلق على جنس المخلوقات، وتارة يطلق على خصوص المكلفين، ولهذا قال: وخلق لهما أهلا، أي: خلق الجنة والنار، ثم خلق لهما خلقا من الجن والإنس، خلق آدم وحواء، ثم خلق ذريتهما إلى آخر من يشاء الله تعالى خلقه من هذا الجنس البشر، ومن الجن. ويحتمل أن يكون مراده من قوله: (وخلق لهما أهلا) أي: قدَّر لهما أهلا، فـ (خلق) يأتي بمعنى (أوجد) وبمعنى (قدَّر)، والأول أظهر. وقوله: (فمن شاء منهم إلى الجنة فضلا منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلا منه).

هذا شروع في تقسيم الخلق، وأن الله سبحانه وتعالى جعلهم فريقين: سعداء وأشقياء، فمن العباد من خلقه للجنة، وبعمل أهل الجنة يعمل، ومنهم من خلقه للنار، وبعمل أهل النار يعمل، نعوذ بالله من النار. فمن شاء الله له منهم أن يكون من أهل الجنة كان كذلك فضلا من الله سبحانه وتعالى، والله يؤتي فضله من يشاء، ومن شاء الله منهم إلى النار عدلا، فحكمه في عباده دائر بين الفضل والعدل، وهذا المعنى ثناه المؤلف ـ رحمه الله ـ فقد تقدم قوله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا) (¬1). والله تعالى أعلم بعباده ((رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلَاً)) [الإسراء: 54]، ((وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلَاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)) [الحجرات: 7 - 8]، ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقَاً * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمَاً)) [النساء: 69 - 70]، ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [إبراهيم: 4]، هذا كله يرجع إلى الإيمان بالقدر: الإيمان بعلم الله السابق لكل شيء، والإيمان بكتابته لمقادير الأشياء في أم الكتاب، والإيمان بعموم مشيئة الله، وأنه لا خروج لشيء عن مشيئته، وأنه تعالى خالق كل شيء، فبفضله تعالى اهتدى المهتدون، وبعدله تعالى ضل الضالون: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ * غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)) [الفاتحة: 5 - 7] هذا دعاء حقيق بأن نعرف معناه وقدره وضرورتنا إلى مضمونه، ((وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [يونس: 25]. ¬

(¬1) ص 77.

فيجب الإيمان بالقدر، والإيمان بالقدر يشمل الإيمان بأن الله قد علم أهل الجنة من أهل النار، وكتب ذلك، ولهذا لما أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأنه (ما من نفس إلا وقد علم مكانها من الجنة ومكانها من النار، قال رجل: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة، فييسرون لعمل أهل الشقاوة) (¬1)، وسئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم؟ فقال: لا؛ بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) [الشمس] (¬2). والنظر للقدر في أمر الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية من أعظم مداخل الشيطان؛ لأن الشيطان يوسوس ويقول: ما دام الأمر قد مضى وسبق به القدر؛ فإن كنت من أهل الجنة فستكون من أهل الجنة! لا لن تكون من أهل الجنة إلا إذا عملت بسبب دخول الجنة، فلن يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، فمن سبق علم الله وكتابه بأنه من أهل الجنة، فلا بد أن يقوم به سبب دخولها، وإن لم يقم به سبب دخولها فوالله لا يدخلها، وكل مكلف لا بد أن يقوم بأحد السببين: سبب دخول الجنة أو سبب دخول النار، كما تقدم: (والأعمال بالخواتيم). وقوله: (وكلٌ يعمل لما قد فُرِغَ له، وصائر إلى ما خُلِق له). وكلٌ من المكلفين يعمل لما قد فُرِغَ له منه، و (كُلٌ) التنوين فيها عِوضٌ عن (أحد)، (يعمل لما قد فُرِغَ له) منه (وصائر إلى ما خُلِق له) هذا شرح وتبسيط لما قبله، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: (فكل ميسر لما ¬

(¬1) تقدم في ص 163. (¬2) تقدم في ص 164.

خلق له) (كل يعمل لما قد فُرِغَ له) منه (وصائر إلى ما خُلِق له) فمن خلق للجنة فصائر إلى الجنة، ومن خلق للنار فصائر إلى النار، ولكن بالأسباب التي جعلها الله لذلك، فالنار أعدها الله للكافرين، ولن يخلد فيها إلا الكافرون، والجنة أعدت للمتقين، ولن يدخلها إلا نفس مؤمنة. والأخذ بالأسباب هو فطرة فطر الله عليها العباد؛ لكن هناك أشياء ما ينظر بعض الناس للقدر فيها: طلب الرزق فهو من جنس ما سبق به القدر من أمر السعادة والشقاوة، أفيقول عاقل: أنا أجلس ولا أطلب الرزق؛ لأنه سيأتيني؟! لا؛ بل إذا أصبح الناس نهضوا وانتشروا يطلبون الرزق. نعم! قد يقوله الكسول تبريرًا لكسله وخموله ودَعَتِه. وكما أنه موجَب العقل والفطرة، فهو أيضا موجَب الشرع، قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولَاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)) [الملك: 15]، ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)) [الجمعة: 10] فكيف يأتي هذا لأخطر الأشياء ويقول: إذا كنت من أهل الجنة فسأترك العمل! لا والله، من ترك الإيمان والطاعة اتكالا على القدر، علمنا أنه إن مات على ذلك فهو من أهل النار، وكذا من نام عن صلاة الفجر وقال: إن كان كُتب لي أجر فسيجيئني بدون أن أقوم وأصلي! فهل سيكتب له أجر؟! الله سبحانه رتب المسببات على الأسباب، فهناك مسببات لا تكون إلا بأسباب معينة، ولا يمكن تحصيلها إلا بهذا السبب المعين، كالولد، فلا يمكن لأحد أن يُولد له إلا بنكاح ووطء؟! أما الرزق فله أسباب متعددة، وطرق كسب كثيرة، بخلاف الولد؛ فلا يوجد إلا سبب واحد معين.

كذلك الجنة والنار، الجنة لا يمكن دخلوها إلا بالإيمان والعمل الصالح، فمن فقد هذا السبب فإلى الضد والنقيض. نعوذ بالله! فهذه مقامات عظيمة على المسلم أن يلجأ إلى ربه، ويسأله الثبات والتوفيق والهداية، ويُلِحَّ بهذا الدعاء: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) [الفاتحة: 5]، ويسأل الله حسن الخاتمة: ((تَوَفَّنِي مُسْلِمَاً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ)) [يوسف: 101].

[كل شيء بقدر]

[كل شيء بقدر] وقوله: (والخير والشر مقدران على العباد). هذا مضمونه تقدم (¬1) في قوله: (القدرُ خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وتؤمن بالقدر خيره وشره) (¬2) قال تعالى: ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) [النساء: 78]، كل ما يجري على العباد من خير ديني أو دنيوي، أو شر ديني أو دنيوي، فهو جار بقدر، ولا خروج لشيء عن القدر، هذا موجب كمالِ مُلك اللهِ وكمالِ قدرته، وعموم مشيئته، فهو سبحانه وتعالى الذي يعطي ويمنع، فكل ما لدى العباد من الخير بأنواعه فهو بمنه وبعطائه، وكل ما مُنِعوا فبعدله سبحانه، (لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت) (¬3) وتفصيل ذلك في مثل قوله: ((مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) [فاطر: 2]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له) (¬4)، وقال - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله ¬

(¬1) ص 245. (¬2) تقدم في ص 201. (¬3) رواه البخاري (844)، ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه -. (¬4) رواه مسلم (867) من حديث جابر - رضي الله عنه -.

عليك) (¬1) لكن كل هذا لا ينافي الأخذ بالأسباب، ولهذا الناس بسبب الجهل، وعدم الاعتصام بهدى الله، اضطربوا؛ فمنهم: من أنكر القدر، ونفى تعلق علم الرب وكتابه ومشيئته بأفعال العباد، وقالوا: إنه لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها. وآخرون أخرجوا أفعال العباد عن مشيئة الله وخلقه وقدرته. وآخرون أثبتوا القدر وأنكروا الأسباب. ومن عُوفي من هذه الضلالات فليحمد الله. فالذين ينكرون الأسباب يقولون: إذا شربت ورويت؛ فالماء لا له أثر في الري، وأكلك لا له أثر في الشبع، ولكن حين شربتَ وأكلتَ خلقَ اللهُ لك الشبع! والنار إذا أشعلتها في الحطب، فليست هي التي أحرقت الحطب؛ لكن لما جاءت النار عند الحطب خلق الله الإحراق فيها! فيكون قولك: (أحرقتِ النارُ الحطبَ) مجازا لا حقيقة! وإنكار الأسباب قول مشهور عن الأشاعرة (¬2). ¬

(¬1) تقدم في ص 182. (¬2) مجموع الفتاوى 8/ 128، والتدمرية ص 493، وشفاء العليل ص 188.

[أنواع الاستطاعة]

[أنواع الاستطاعة] وقوله: (والاستطاعة التي يجب بها الفعل، من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به فهي من الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الأدوات فهي قَبل الفعل، وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسَاً إِلَّا وُسْعَهَا)) [البقرة: 286]). الاستطاعة هي: القدرة، تقول: فلان يقدر على كذا أو لا يقدر، وجاءت النصوص فيها ذكر الاستطاعة، قال سبحانه وتعالى: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [التغابن: 16]، ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلَاً)) [آل عمران: 97]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمرتكم بأمر فَأْتُوا منه ما استطعتم) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن حصين - رضي الله عنه -: (صلِّ قائما؛ فإن لم تستطع فقاعدا؛ فإن لم تستطع فعلى جنب). (¬2) وقال سبحانه وتعالى في الكفار: ((مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ)) [هود: 20]. والاستطاعة نوعان (¬3): نوع قبل الفعل. ونوع مع الفعل. فالاستطاعة التي قبل الفعل هي مناط التكليف، فإذا لم توجد فلا تكليف، إذ لا واجب مع العجز. ¬

(¬1) رواه البخاري (7288)، ومسلم (1337). (¬2) رواه البخاري (1117). (¬3) درء تعارض العقل والنقل 1/ 60، ومنهاج السنة 3/ 47، ومجموع الفتاوى 8/ 290 و 371.

والقدرة والاستطاعة التي قبل الفعل، مثل: الصحة، وسلامة الآلات، وحصول الأسباب التي لا بد منها في الفعل، فهذه هي مناط التكليف، قال تعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلَاً)) [آل عمران: 97] السبيل: الزاد والراحلة، وكذلك القدرة البدنية لا بد منها، فلا يجب المضي للحج إلا على من توفرت له القدرة البدنية والمالية، فهذه الاستطاعة هي مناط التكليف، ويقر بها جميع الطوائف، ويستوي فيها جميع الناس: المطيع والعاصي كلهم مستطيع، فمن أمر بالصلاة ـ مثلا ـ وهو سليم العقل والحواس وقادر إن صلى أو ترك فهو مستطيع. والنوع الثاني: الاستطاعة التي تكون مع الفعل، ويكون بها الفعل، فهذه ليست مناطا للتكليف؛ بل يمنحها الله لمن يشاء، وهي التي تحصل بالتوفيق والهداية الخاصة، وهي المنفية عن الكفار في مثل قوله تعالى: ((مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ)) [هود: 20]، ((وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضَاً * الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعَاً)) [الكهف: 100 - 101]، وليس المعنى أنهم صم لا يسمعون، فالأصم معذور إذا لم يسمعْ ما يجب سماعه، والأعمى معذور إذا لم يبصرْ ما يجب إبصاره؛ لأنه غير مستطيع؛ لكن الاستطاعة المنفية عنهم هي الاستطاعة التي تكون مع الفعل، وهي ليست مناطا للتكليف، فهم مستطيعون لكن صرفهم الهوى والشهوات عن الانقياد. فمثلا: بعض الناس، يقال له: اترك شرب الدخان، فيقول: لا أستطيع! لا يستطيع بسبب غلبة شهوته، وهو في الحقيقة مستطيع. أو قيل له: حافظ على صلاة الفجر مع الجماعة، فيقول: لا أستطيع، أهو لا يستطيع؟! لا والله، مستطيع، ولو كان عنده أمر فيه مصلحة تهمه لنهض إليها، وظهرت استطاعته! وغلط في هذا المقام طائفتان: من لم يثبت إلا الاستطاعة التي قَبل الفعل، وهم المعتزلة. فقد نفوا الاستطاعة الثانية؛ لأن الله عندهم لا يقدر أن يهدي

أحدا ولا يضل أحدا؛ بل العبد هو الذي يتصرف في نفسه. والطائفة الثانية: حكى قولهم ابن أبي العز في الشرح فقال: إن طائفة من أهل السنة ـ ولم يعينهم (¬1) ـ قالوا: (الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل) (¬2)، وهذا غلط؛ فإن قولهم هذا يقتضي أن معنى قوله تعالى: ((فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)) [التغابن: 16] اتقوا الله إذا اتقيتم الله، فلا تجب التقوى إلا على من اتقى، ولا يجب الحج إلا على من حج، وهذا ظاهر الفساد. وقوله: (من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به). التوفيق هو صفة الله تعالى يوفق ويهدي من يشاء، أما الاستطاعة فهي أثر هذا التوفيق، أما قوله: (الذي لا يوصف المخلوق به فهي مع الفعل) أي: الاستطاعة هي صفة للمخلوق لكن بمنح الله له، يمنحها من يشاء. ¬

(¬1) قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من أطلق القول بأن الاستطاعة لا تكون إلا مع الفعل فإطلاقه مخالف لما ورد في الكتاب والسنة وما اتفق عليه وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها -كإطلاق القول بالجبر- وإن كان قد أطلق ذلك طوائف من المنتسبين إلى السنة في ردهم على القدرية من المنتسبين إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة: كأبي الحسن، وأبي بكر بن عبد العزيز، وأبي عبد الله بن حامد، والقاضي أبي بكر، والقاضي أبي يعلى، وأبي المعالي، وأبي الحسن بن الزغواني، وغيرهم، فقد منع من هذا الإطلاق جمهور أهل العلم كأبي العباس بن سريج وأبي العباس القلانسي، وغيرهما، ونقل ذلك عن أبي حنيفة نفسه، وهو مقتضى قول جميع الأئمة. مجموع الفتاوى 8/ 299. (¬2) 633.

[خلق الله لأفعل العباد]

[خلق الله لأفعل العباد] وقوله: (وأفعال العباد خَلْقُ الله، وكَسْبٌ من العباد، ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير (لا حول ولا قوة إلا بالله)، نقول: لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد، ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله) هذا الكلام كله تفصيل لمعانٍ مردها كلها إلى الإيمان بالقدر. وقوله: (وأفعال العباد خَلْقُ الله وكَسْبٌ من العباد) اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية حسب اختلافهم في القدر، فأهل السنة والجماعة يقولون: أفعال العباد هي أفعالهم حقيقة، وهم الموصوفون بها، فالعبد هو المصلي والصائم، والقائم والقاعد، وهو الصادق والكاذب، والمؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، هي أفعاله، والله تعالى خالقُ العبادِ وخالقُ أفعالِهم وقدرتهم وإرادتهم؛ لأنه خالق الأسباب والمسبَبَات. فهي مفعولة لله، و ((اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) [الزمر: 62] فلا خروج لشيء عن خلقه وقدرته ومشيئته. وقالت القدرية نفاة القدر: إن العباد هم الخالقون لأفعالهم، فأفعال العباد مخلوقة لهم، وليست بمشيئة الله ولا بقدرته ولا بخلقه. وقالت الجبرية: إن أفعال العباد مخلوقة لله، والعبد لا فعل له؛ بل أفعاله مجبور عليها كحركة المرتعش، وكالريشة في مهب الريح، وحركة الأشجار.

فأثبتوا القدر وعموم خلق الله، لكنهم سلبوا العبد قدرته واختياره وأفعاله، وقالوا: إن نسبة الأفعال إلى العباد مجاز، ومعناه: أنه ليس هو الراكع والساجد؛ لأنه ما فعل هذا بقدرته؛ إذ لا مشيئة له ولا قدرة. فهذان قولان على طرفي نقيض. وقد دل على إبطال المذهبين: مذهبِ القدرية والجبرية قولُ الله تعالى: ((لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ)) [التكوير: 28]، فأثبت المشيئة للعباد، ((وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) [التكوير: 29] فجعل مشيئة العبد موقوفة على مشيئة رب العالمين سبحانه وتعالى. وجاءت الأشاعرة فلفقوا كعادتهم وقالوا: أفعال العباد خلْقٌ لله، وكسب من العباد، لكن مفهوم الكسب عندهم هو: الفعل المقارن للقدرة المحدثة، وهذا بنوه على مذهبهم في نفي الأسباب. فيرون أن العلاقة بين الأسباب والمسبَبَات، وبين قدرة العبد وأفعاله مجرد الاقتران، فيقولون: إن الله يفعل عند الأسباب لا بها، فليس عندهم باء سببية؛ بل يرونها للمصاحبة. فهم يَقْرُبُون في هذا من قول الجبرية؛ لأن قولهم يتضمن: أنه لا أثر لقدرتهم في وجود أفعالهم، كما تقدم في ذكر ذلك في الأسباب (¬1) وقولهم: إن الماء لا أثر له في حصول الرِّي، ولا أثر للطعام في حصول الشِّبع، ولا أثر لقدرة العبد في حصول فعله. هذا قول الأشاعرة، وقد ذُكر كسبُ الأشعري من الأشياء التي لا حقيقة لها. (¬2) والله أعلم بمراد الطحاوي؛ لأن كلمة الكسب في اللغة والشرع تطلق على الفعل ((بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [الأنعام: 129]، ((بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الأنعام: 108] ¬

(¬1) ص 325. (¬2) قالوا: عجائب الكلام ثلاثة: طفرة النظام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري. مجموع الفتاوى 8/ 128، ومنهاج السنة 1/ 459 و 2/ 297، وشفاء العليل ص 50 و 122.

وقوله: (ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون) أي: ما يستطيعون، قال الله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] وقال سبحانه وتعالى ـ في الدعاء الذي علمه لعباده ـ: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286] قال الله تعالى: «قد فعلت» (¬1). وهذا من رحمة الله بعباده، وحكمته في شرعه، وهو من اليسر الذي أراده الله بعباده: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 135]، وبهذا اليسر رفع الحرج عن عباده، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] فله الحمد على ذلك كثيرا. وقوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) هذه العبارة فيها نظر، فالعباد يطيقون أكثر مما كلفهم الله؛ إذ لو كانوا لا يطيقون إلا ما كلفهم؛ فمعناه: أنه كلفهم غاية طاقتهم، فلا يقدرون على شيء بعدها؛ بل ما كلفهم الله هو أقل مما يستطيعونه، ولله الحمد، فقد كلفهم صيام شهر في السنة، أليسوا يطيقون أن يصوموا شهرين؟ بل يطيقون أن يصوموا ثلاثة لو كلفهم بذلك. وقوله: (وهو تفسير «لا حول ولا قوة إلا بالله») تفسير «لا حول ولا قوة إلا بالله»: لا تحول من حال إلى حال، ولا قوة على أي أمر إلا بالله. والإقرار بذلك واستحضاره وذكره يتضمن التوكل على الله والاستعانة به، ولهذا شُرع لمن يجيب المؤذن أن يقول عند قول المؤذن: «حي على الصلاة، حي على الفلاح»: «لا حول ولا قوة إلا بالله» (¬2)، استعانة بالله على الإجابة إلى ما دعي إليه. ¬

(¬1) رواه مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. (¬2) رواه مسلم (385) من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -.

وهذه الجملة «لا حول ولا قوة إلا بالله» من أنواع الذكر التي دلت السنة على عظم شأنها، كما جاء في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: «ألا أدلك على كَنْزٍ من كُنوز الجنة؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: قل: لا حول ولا قوة إلا بالله». (¬1) وذلك لأنها متضمنة لتوحيد الربوبية، ومتضمنة فقر العباد إلى الله فلا مشيئة لهم ولا قدرة لهم إلا أن يشاء الله، {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، وقد فسر الطحاوي ـ رحمه الله ـ هذه الجملة العظيمة بعبارة حسنة، وذلك في قوله: (نقول: لا حيلة لأحد، ولا حركة لأحد، ولا تحول لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله). ¬

(¬1) رواه البخاري (6409)، ومسلم (2704)، وتقدم ذكر أوله: «إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا».

[كل ما يجري في الكون بمشيئة الله]

[كل ما يجري في الكون بمشيئة الله] وقوله: (وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره، غلبت مشيئتُه المشيئاتِ كلَها، وغلب قضاؤه الحيلَ كلَها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدا، تقدس عن كل سوء وحَين، وتنزه عن كل عيب وشَين، قال تعالى: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء: 23]). هذا يتضمن المرتبة الثالثة من مراتب الإيمان بالقدر، والإمام الطحاوي ـ رحمه الله ـ في هذه العقيدة فرق الكلام في القدر وأبدا فيه وأعاد، فقد مضى كلام كثير، ونصوص كثيرة من عباراته تتضمن تقرير الإيمان بالقدر، وما يوجبه هذا الإيمان (¬1)، ولا شك أن الإيمان بالقدر ـ وهو الأصل السادس من أصول الإيمان ـ من الأهمية بمكان، وقد زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وتحير فيه المتحيرون، وهدى الله إلى الحقِ أهلَ السنة والجماعة أهل الهدى والفلاح، فهم أسعد الناس في كل حق، وهم أسعد الناس بإصابة الصواب في هذا الباب، فهم يؤمنون بأن مشيئة الله عامة، لا خروج لشيء عن مشيئته، فكل شيء من الحوادث والحركات والسكنات العلوية والسفلية، حركة الأفلاك والملائكة والجن والإنس والجمادات، وكل صغير وكبير؛ فهو يجري بمشيئته تعالى وقضائه وتقديره، يجب أن نؤمن بأنه قد سبق به علم الله القديم، وسبق به كتابه الأول، وجرت فيه مشيئته، وهذا تحقيق كمال ملكه، فله الملك كله، لا خروج لشيء عن ملكه، فله التدبير ¬

(¬1) ص 68 و 77 و 162 و 245 و 319 و 324 و 326 و 329.

والتقدير، سبحانه وتعالى: ((لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) [البقرة: 107] وتجد هذا المعنى يُثنى في القرآن كثيرا. وقوله: (وعلمه وقضائه وقدره). كل شيء يجري بمشيئته النافذة الشاملة (وعلمه) القديم (وقضائه) النافذ (وقدره) أي: تقديره، السابق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قدَّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة) (¬1). وقوله: (غلبت مشيئتُه المشيئاتِ كلَها، وغلب قضاؤه الحيلَ كلَها). مشيئة الله تعالى نافذة وإن خالفتها مشيئات الخلق، فما شاء الله كان وإن لم يشإ الخلق، وما شاءه العباد لا يكون إن لم يشإ الله، كما قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: ما شئتَ كان وإن لم أشأ ... وما شئتُ إنْ لم تشأ لم يكنْ خلقتَ العبادَ على ما علمتَ ... ففي العلمِ يجري الفتى والمسن على ذا مننتَ وهذا خذلتَ ... وهذا أعنتَ وذا لم تُعن فمنهم شقيٌ ومنهم سعيد ... ومنهم قبيحٌ ومنهم حسن (¬2) وقضاؤه وحكمه نافذ غالب لحيل الخلق، كما في الدعاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ماضٍ في حكمُك، عدلٌ في قضاؤك) (¬3) ومهما فعل الخلق ومهما دبروا؛ فلن يتم لهم شيء إنْ كان قضاء الله مخالفا له، ولن يمضي ولن يتم إلا حكم الله وقضاؤه؛ لكن الخلق يقدرون على فعل الأسباب، فالحيل من الأسباب، والإنسان مأمور بفعل الأسباب والحيل التي توصل إلى ما أمر الله به أو أباحه لعباده؛ ولكن هذه الأسباب محكومة بقضاء الله، ولن يتم بأي سبب وبأي حيلة أثر لأي سبب أوحيلة إلا ما قضاه الله سبحانه، وفي وصايا النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رضي الله عنهما: (واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله ¬

(¬1) تقدم في ص 71. (¬2) شرح أصول اعتقاد أهل السنة 4/ 777، والأسماء والصفات ص 171. (¬3) تقدم بلفظ: أسألك بكل اسم هو لك.

لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، جفت الأقلام وطويت الصحف) (¬1). وقوله: (يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبدًا). يفعل سبحانه ما يشاء، فيعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويهدي ويضل، ويحيي ويميت، ((يُدَبِّرُ الأَمْرَ)) [يونس: 3]، ((يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ)) [الرعد: 26]، و ((يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ)) [العنكبوت: 21]، كل ذلك جارٍ على وفق حكمته تعالى، فله الحكمة في كل تدبير، كما تقدم في قول الطحاوي: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلا، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلا) (¬2). فهو يهدي من يشاء بفضله وحكمته، ويضل ويخذل ويبتلي من يشاء بعدله وحكمته، فالحكمة ثابتة في كل تدبير، فهو يضع فضله في مواضعه؛ لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، والعدل: وضع الأشياء في مواضعها، فالله تعالى يضع فضله في مواضعه حيث شاء على وفق الحكمة، خلافا لقول الجهمية ومن تبعهم كالأشاعرة: إن كل ما يجري بمحض المشيئة دون أن تكون له تعالى حكمة في هذا التقدير والتدبير، وقد تقدم نحو هذا المعنى (¬3). المقصود: أنه يجب الإيمان بأن أفعالَه سبحانه وتعالى جاريةٌ على وفق العدل والحكمة، فأفعاله دائرة بين الفضل والعدل، والظلم مما يجب تنزيهه تعالى عنه ((وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) [فصلت: 46]، ((وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)) [ق: 29] (إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) [النساء: 40] والآيات في تنزيهه تعالى عن الظلم كثيرة. فلا يعذب أحدا بغير ذنب، ولا يعذب أحدا بذنب غيره، وجاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو أن الله تعالى عذّب أهل سماواته وأهل أرضه ¬

(¬1) تقدم في ص 182. (¬2) ص 77. (¬3) ص 77 - 81.

لعذبهم وهو غير ظالم لهم) (¬1) فلن يعذبهم إلا بما يقتضي تعذيبهم، وهو قادر أن يعذب من شاء بغير ذنب، أو يعذب من شاء بذنب غيره؛ لكنه لا يفعل ذلك لكمال عدله سبحانه، وقد حرم الظلم على نفسه كما في الحديث القدسي عن أبي ذر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قال: قال الله تعالى: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما؛ فلا تظالَموا) (¬2) فهو لا يظلم ولا يرضى الظلم من أحد من العباد، ولذا حرمه على عباده في شرائعه التي أنزلها على رسله. وإذا عرض للإنسان شيء من الحوادث فعليه أن لا يُحَكَّم عقله الناقص، فكثير من الخلق لقصور علمهم وضعف إيمانهم يعترضون في نفوسهم، أو يتكلمون بألسنتهم على تدبيره تعالى، فتسمع بعضهم يقول ـ إذا ابتلى الله عبدًا ببلاء ـ: (فلان والله ما يستاهل)، وهي عبارة مشهورة عند العامة، وهي تعني: أن الله ابتلى هذا العبد، وهو ليس أهلا لهذا، وهذا اعتراض على تدبير الرب؛ بل يجب الإيمان بحكمة الرب في تدبيره وكمال عدله سبحانه وتعالى، هذا أصل يجب العناية به علما وتفكيرا وتقريرا، وهو الإيمان بكمال عدل الرب سبحانه وتعالى في خلقه وأمره وجزائه، فلا تعارض قدر الله بقولك: لِمَ جرى كذا؟ ولِمَ كان كذا؟ فأي خاطر يتضمن الاعتراض على تدبير الله فيجب على المؤمن أن يدفعه بإيمانه بأن الله تعالى حكيم له الحكمة البالغة في كل تدبير وتقدير (¬3). وقوله: (تقدس عن كل سُوء وحَين، وتنزه عن كل عيب وشَين). تقدس وتنزه، عبارتان بمعنى واحد، والشيخ الطحاوي كثيرا ما ينوع ويتفنن في العبارات، وهذه المادة (تقدس) موجودة في القرآن كثيرا فاسمه تعالى: (الْقُدُّوسُ) [الحشر: 23]، وقالت الملائكة: ((وَنَحْنُ نُسَبِّحُ ¬

(¬1) تقدم تخريجه عند طرفه: واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك. (¬2) رواه مسلم (2577). (¬3) انظر: كلاما نفيسا في هذا المعنى لابن القيم في زاد المعاد 3/ 235.

بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)) [البقرة: 30] فالتسبيح والتقديس والتنزيه كلها تدل على نفي المعائب، فالقدوس: المنزه عن كل سوء وعيب، ومن عبارات السلف في تفسير القدوس: الطاهر (¬1). وقوله: (عن كل سُوء وحَين، وتنزه عن كل عيب وشَين). السوء والحَين والعيب والشَّين، عبارات كلها معناها: الأمور المذمومة، فهو تعالى منزه عن كل عيب وسوء ووصف قبيح، فهو منزه عن القبيح في أسمائه وصفاته وأفعاله، فله الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأفعاله كلها كمال، كما تقدم (¬2) في الحديث في دعاء الاستفتاح: (والشر ليس إليك) فهو لا يضاف إلى الله اسما ولا صفة ولا فعلا؛ لكن السوء والشر والزين والشين يوجد في مفعولات الله ـ أي: مخلوقاته ـ، أما أفعاله تعالى فكلها عدل وحكمة، فخلقه تعالى للأشياء المتضادة من الحسن والقبيح والنافع والضار، والملائكة والشياطين، والصحة والمرض، والموت والحياة، كل ذلك على وفق الحكمة، فله الحكمة البالغة في خلقه للأضداد. ومن حكمه ما بينه لنا تعالى، ومنها ما يظهر لنا بالتأمل والتدبر والتفكر، وما خفي علينا منها ـ وهو الأكثرـ فعلينا أن نفوض ذلك إلى علمه سبحانه، ونؤمن بأن له الحكمة البالغة، وتفاصيل ذلك لا تحيط به عقول العباد ((وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمَاً)) [طه: 110] سبحانه وتعالى، فلا نحيط بحكمته كما لا نحيط علما بمخلوقاته. وقوله: (قال تعالى: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء: 23]). ختم الشيخ هذه العبارات المتعلقة بالقدر بهذه الجملة المقتبسة من القرآن: ((لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء: 23]، هذا مما وصف الله به ¬

(¬1) تفسير الطبري 1/ 505. (¬2) ص 247.

نفسه، وتقدم (¬1) أن كل نفي يوصف الله به؛ فلا بد أن يتضمن إثبات كمال، فلا يوصف تعالى بالنفي المحض الذي لا يتضمن ثبوت كمال؛ لأن النفي المحض ليس فيه مدح ولا كمال، فمما وصف الله به نفسه من النفي: أنه لا يُسأل عما يفعل، لا يتوجه إليه السؤال، وذلك لكمال حكمته، وليس هذا لقوته وقدرته وسلطانه، فمن كان معروفا بكمال الحكمة لا يقال: لِمَ فعلتَ كذا؟ ولِمَ كان منك كذا؟ لأنه حكيم، وأما العباد فإن أقوالهم وأفعالهم عرضة للنقص والخلل والعيب والانحراف فهم يُسألون عن أفعالهم في الدنيا بحكم الشرع، ويُسألون في الآخرة، قال تعالى: ((فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [الحجر: 92 - 93]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه ما فَعلَ به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه) (¬2). فالعباد يُسألون، أما الله تعالى فلا يُسأل، فلا يُقال: لِمَ فعلتَ؟ على وجه الاعتراض، أما السؤال لمزيد المعرفة فلا مانع منه كأن يقول الإنسان: ما الحكمة في كذا؟ لِمَ شرع الله كذا؟ ليعرف الحكمة لا على وجه الاعتراض على التشريع والتدبير. والملائكة لم يكن سؤالهم لربهم عندما قال سبحانه وتعالى: ((إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 30] على وجه الاعتراض على تدبير الله، إنما تحيروا في معرفة الحكمة في خلق هذا المخلوق الذي يكون منه ما ذُكر من الإفساد وسفك الدماء. ¬

(¬1) ص 33. (¬2) رواه الدارمي (543)، وعنه الترمذي (2417) ـ وقال: حسن صحيح ـ من حديث أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه -، وانظر: السلسلة الصحيحة (946).

[انتفاع الأموات بعمل الأحياء]

[انتفاع الأموات بعمل الأحياء] وقوله: (وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات). أي: أن الأموات ينتفعون بدعاء الأحياء لهم بالمغفرة والرحمة ورفع الدرجات وتكفير السيئات، وكذلك ينتفعون بصدقات الأحياء عنهم، فإذا تصدق الولد عن والديه أو عن أحد من أقاربه؛ بل لو تصدق أجنبي عنه انتفع بذلك، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على عباده أن جعل لمن يموت من المسلمين سببا في وصول الثواب والأجر لهم؛ لأنهم ينتفعون به في زيادة الأجور ورفع الدرجات وفي النجاة من العذاب، وقد شرع الله الدعاء للأموات وجوبا واستحبابا، فشرع الدعاء للميت وجوبا بالصلاة عليه بعد موته، فالصلاة على الميت فرض كفاية، وكذلك شُرع الدعاء للأموات عند زيارة القبور وعند دفن الميت، هذه كلها مواضع شرع الله فيها الدعاء لأموات المسلمين، والدعاء والاستغفار للمؤمنين والمؤمنات مشروع، للأحياء والأموات، قال تعالى: ((وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) [محمد: 19]، وفي دعاء الأنبياء: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ)) [إبراهيم: 41] هذا دعاءُ إبراهيم، ونوح قال: ((رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنَاً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) [نوح: 28]. وكذلك الصدقة، فقد ثبت في الصحيح أن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - توفيت أمه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله إن أمي توفيت وأنا غائب عنها، أينفعها شيء إنْ تصدقت به عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أنَّ حائطي الْمِخْرَافَ صدقةٌ عليها) (¬1). ¬

(¬1) رواه البخاري (2762).

واتفق أهل السنة على أن الأموات ينتفعون بدعاء الأحياء وبالصدقة عنهم، (¬1) سواء كان المال المنفَق عنه صدقة على فقير، أو قضاء دين عن معسر، أو الإنفاق على أعمال الخير؛ كتعليم القرآن. واقتصر الطحاوي على (دعاء الأحياء وصدقاتهم)؛ لأنه مذهب أبي حنيفة، أو أنه قصد ما اتفق عليه أهل السنة اتفاقا تاما. وكذلك الحج ـ أيضا ـ مما اتفق أهل السنة على وصول ثوابه إلى الميت وانتفاعه به؛ بل والحج عن الحي الْمَعْضُوب (¬2) فقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «جاءت امرأة من خَثْعَمَ عام حجة الوداع، قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستوي على الراحلة، فهل يقضي عنه أن أحج عنه؟ قال: نعم) (¬3)، وفي الصحيح عنه ـ أيضا ـ - رضي الله عنه -: (أنَّ امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين، أكنتِ قاضيةً؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء» (¬4). وعنه ـ أيضا ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلا يقول: لبيك عن شبرمة، قال: مَن شبرمة؟ قال: أخ لي أو قريب لي، قال: حججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة) (¬5). ¬

(¬1) التمهيد 20/ 27، ومجموع الفتاوى 7/ 498 و 24/ 306 و 366، والروح ص 190. (¬2) العاجز عن الحج لكِبِرٍ أو زَمانةٍ أو مرضٍ لا يُرجى برؤه. الإقناع 1/ 543. (¬3) البخاري (1854)، ومسلم (1335). (¬4) البخاري (1852). (¬5) رواه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وصححه ابن خزيمة (3039)، وابن حبان (3988) والبيهقي في الكبرى 4/ 336، وانظر: تنقيح التحقيق 3/ 392، ونصب الراية 3/ 155، والتلخيص الحبير4/ 1511.

وقال محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة: إنما يصل للميت ثواب النفقة، أما ثواب الحج فهو للحاج (¬1). وهذا خلاف ظاهر الأدلة؛ لأن قوله - صلى الله عليه وسلم - للخثعمية حين قالت: فهل يقضي عنه أن أحج عنه، قال: «نعم»، وقوله - صلى الله عليه وسلم - للجهنية: «حجي عنها»، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «حج عن شبرمة» ظاهره الإطلاق، وصحة الحج عنه، وأن الثواب للمحجوج عنه. ثم بعد ذلك اختلف العلماء في سائر العبادات، كالصلاة والصيام وتلاوة القرآن والذكر، هل يصل ثوابها إلى الميت، إذا عملها الحي عنه؟ أكثر أهل العلم على أن هذه العبادات يصل ثوابها فينتفع بها الميت؛ بل توسع بعض أهل العلم، وقالوا: إن أي قربة يفعلها الإنسان عن الحي أو الميت؛ فإن ذلك يصل إليه، كما في نص زاد المستقنع: «وأيُّ قربةٍ فعلها وجعل ثوابها لميتٍ مسلم أو حي نفعه ذلك» (¬2). وهذا توسع كبير. والذي يعنينا في هذا المقام انتفاع الأموات بسعي الأحياء، فأكثر العلماء على أن الأموات ينتفعون بهذه العبادات، فإذا صام أو صلى عن الميت ولو تطوعا، أو قرأ قرآنا، أو سبَّح وهلَّل وكبَّر، يريد أن يكون ذلك عن الميت؛ فإنه ينفعه ذلك، قياسا لهذه العبادات على ما وردت به النصوص، وهؤلاء لا فرق عندهم بين فرض ونفل أو نذر، فينتفع الميت بها جميعا. وفي هذا تفصيل؛ فأما الصيام فقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه) (¬3). وهنا اختلف أهل العلم على مذاهب، فمنهم من قال: لا يُصام ¬

(¬1) بدائع الصنائع 2/ 455. (¬2) ص 72. (¬3) البخاري (1952)، ومسلم (1147) عائشة - رضي الله عنها -.

عن الميت مطلقا، وإنما يُطعم عنه عملا بما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مُدا من حنطة) (¬1). وهذه النصوص ربما أجابوا عنها بالنسخ، ولا شك أن هذا الأثر لا يقاوم النصوص الصحيحة الصريحة، والمشهور عن الإمام أحمد: أنه يُصام عن الميت النذر خاصة، أما الفرض؛ كقضاءِ رمضان، والكفاراتِ؛ ككفارة القتل فلا تصام عن الميت، وإنما يُطعم عنه (¬2) على ما جاء في أثر ابن عباس رضي الله عنهما، ولكن الحديث لفظه عام: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه». وإذا كان سبب الحديث هو السؤال عن صوم النذر؛ فـ «العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب». وأما الصلاة وتلاوة القرآن والذكر؛ فلم يرد فيها شيء، إنما عمدة من قال بوصول ثوابها وجواز فعلها عن الميت هو قياسها على ما ورد في النصوص من الحج والصيام. وأهل السنة في جملة هذه القضية طرفان ووسط؛ فمنهم من يرى جواز إهداء جميع القُرَبِ. والذي دلت عليه النصوص ليس إهداء الثواب؛ بل هو فعل العبادات عن الغير، وهذا لا بد فيه من نية فعل العبادة عن الغير عند ابتداء العمل؛ كالحج عن المغضوب والميت، كما نبه على ذلك ابن القيم (¬3)، فليس الوارد أن الإنسان بعدما يحج يقول: اللهم اجعل ثواب ¬

(¬1) رواه النسائي في الكبرى (2918) وصححه ابن حجر في التلخيص الحبير 3/ 1464، وانظر: نصب الراية 2/ 463. (¬2) سنن أبي داود (2400)، والمغني 4/ 398، وإعلام الموقعين 4/ 390 وتهذيب السنن 3/ 279. (¬3) الروح ص 212.

حجتي هذه لفلان، أو بعدما يتصدق يقول: اللهم اجعل ثواب هذه الصدقة لفلان، أو يصوم يوما ثم يقول: اللهم اجعل ثواب صومي هذا لفلان؛ بل من أصل العمل ينوي فعله عمَّن يريد الإحسان إليه. ثم إن العامل إذا عمل لا يعلم هل كُتِب له ثواب عند الله أو لا، فكيف يقول: اللهم اجعل ثواب هذا العمل لفلان؟! لكن الفقهاء لعلهم نظروا إلى أن المقصود من فعل العبادة عن الميت هو نفع الميت بما يترتب على ذلك من ثواب. ومنهم من قصر ذلك على الدعاء والصدقة والحج على خلاف. وأظهر هذه المذاهب هو الوقوف عند ما ورد، فنقول: ينتفع الميت بدعاء الحي، وهذا محل إجماع، وكذلك الصدقة والحج، ولاسيما الحج الواجب، هذا لا كلام في وصوله، وكذلك الصوم الواجب «من مات وعليه صيام صام عنه وليه»، وكذا إذا نذر الإنسان عبادةً ثم أدركه الموت ولم يوصِ بما نذر؛ فإن الأدلة تدل على فعلها عنه كالدين؛ فالنذر دين والتزام من المكلف، وما سوى ذلك؛ فإن إلحاقه بما وردت فيه النصوص محل نظر واجتهاد. وفي مقابل مذهب أهل السنة والجماعة الذي قصد المؤلف التنبيه عليه، قول المبتدعة: إن الميت لا ينتفع بشيء من سعي الأحياء، حتى قيل عن بعضهم: لا ينتفع بشيء من سعي الأحياء ولا الدعاء. ولا شك أن هذا باطل ومن شبهاتهم استدلالهم بقوله سبحانه وتعالى: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم: 39]، وقوله سبحانه وتعالى: ((وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يس: 54] ونظائرها في القرآن كثير: ((إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [الطور: 16] أي: ما تجزون إلا ما كنتم تعملون، ومن أدلتهم قول - صلى الله عليه وسلم -: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) (¬1). ¬

(¬1) رواه مسلم (1631) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

وأجيب عن استدلالات القائلين بعدم انتفاع الأموات بسعي الأحياء، أما الدعاء فمعلوم بالضرورة من دين الإسلام انتفاع الميت بالصلاة عليه، والمقصود من الصلاة على الميت هو الدعاء له، هذا ركنها الأعظم، وكذلك الدعاء لهم عند زيارة القبور (¬1)، وكذلك انتفاعهم بالصدقة كما تقدم (¬2)، فقولهم مردود بهذه النصوص. وأما الآية: ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم: 39] فأجيب عنها بأجوبة، قال شارح الطحاوية ابن أبي العز: إن أصحها جوابان: الأول: «أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير وتودد إلى الناس، فترحموا عليه، ودعوا له، وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه، في حياته وبعد مماته» (¬3). وأظهر من هذا هو الجواب الثاني: وهو أن المنفي في الآية هو ملك الإنسان لسعي غيره، فالإنسان لا يملك إلا عمله، ((وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى)) [النجم: 39]، ((لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسَاً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ)) [البقرة: 286] فليس للإنسان إلا عمله، وليس له عمل غيره، ونفي استحقاق الإنسان لعمل غيره لا يستلزم نفي انتفاعه بعمل غيره إذا فعله عنه أو أهدى ثوابه له، كما يقال: ليس للإنسان إلا ماله، أما أموال الناس فليست له، ولا يلزم من نفي ملكه لمال غيره نفي الانتفاع به، فيمكن أن يهديه، أو أن يتصدق عليه، أو ينتفع به بوجه من الوجوه، فالانتفاع أعم من الملك، فلا يلزم من نفي الملك نفي ¬

(¬1) رواه مسلم (975) من حديث بريدة - رضي الله عنه -، وتقدم في ص: استغفروا لأخيكم. (¬2) ص 339. (¬3) ص 669، ونقل ابن القيم في الروح ص 205 هذا الجواب عن ابن عقيل.

الانتفاع، وهذا جواب سديد قريب بيَّن (¬1)، كما دلت على ذلك هذه النصوص، الصدقة عن الميت، والصوم الواجب عن الميت، والحج عن الميت، والدعاء؛ بل وقضاء الدين، كما في حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - عندما ضمن الدين عن الميت؛ فبرئت ذمته، وصلى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وأما قوله تعالى: ((وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يس: 54] وأشباهها من القرآن فيقال فيها ما قيل في الآية التي قبلها: إن الإنسان لا يُجزى إلا بعمله، هذا الذي يستحقه بوعد الله، وهو لا ينفي أن ينتفع بعمل غيره إذا أهداه إليه، وتصدق به عليه. وأولى من هذا الجواب بالنسبة لهذه الآية: أن يقال: هذه الآيات إذا تأملنا القرآن نجد أن كل ما ورد فيه بهذا المعنى يختص بالجزاء على السيئات: ((فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [يس: 54]، ((فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [الطور: 16] وهذا المعنى في القرآن كثير، فيكون موافقا لقوله سبحانه: ((وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)) [الأنعام: 164]، فالإنسان لا يعاقب إلا بذنبه، لا يعاقب بذنب غيره. ومسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء ذكرها ابن القيم في كتابه «الروح» (¬3) وبسط القول فيها، وذكر أقوال الناس، وما ذكره ابن أبي العز في شرح الطحاوية هو ملخص من ذلك الكتاب، وذهب ابن القيم، فيه إلى القول بانتفاع الأموات بسعي الأحياء مطلقا، وعلى هذا فمن أخذ بهذا عن اجتهاد، أو تقليد لمن يذهب إلى ذلك؛ فلا شيء عليه. ¬

(¬1) ذكر ابن القيم معنى هذا الجواب في الروح ص 206 وقال: وكان شيخنا يختار هذه الطريقة ويرجحها، وانظر: مجموع الفتاوى 24/ 312. (¬2) رواه البخاري (2289) من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -. (¬3) ص 190 - 226.

[إجابة الله لدعاء عباده]

[إجابة الله لدعاء عباده] وقوله: (والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات). قوله: (ويقضي الحاجات) عطف هذا على ما قبله من عطف الخاص على العام، فاستجابة الدعوات أعم من قضاء الحاجات، قال الله تعالى: ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)) [البقرة: 186]، وقال سبحانه وتعالى: ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر: 60]، وقال تعالى: ((أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)) [النمل: 62]، وأخبر سبحانه وتعالى أنه أجاب دعاء الأنبياء؛ كأيوب، قال تعالى: ((فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ)) [الأنبياء: 84]، وذي النون، قال تعالى: ((فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ)) [الأنبياء: 88]، وزكريا، قال تعالى: ((فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى)) [الأنبياء: 90]، وهو يقضي الحاجات سبحانه وتعالى؛ لأن الخير كله بيده، فمن كانت له حاجة؛ كشفاء مريض، أو تيسير عسير، أو زوال فقر، أو رد غائب، أو غيرها؛ فلينزلها بربه ولا ينزلها بالخلق، فقد جاء في أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأل شِسْعَ نَعْله إذا انقطع» (¬1). فلا تحقر الأمور الصغيرة وتجعل دعاءك فقط في الأمور الكبيرة؛ ¬

(¬1) رواه الترمذي (3604 (م8)) ـ وقال: حديث غريب، وروى غير واحد هذا الحديث عن جعفر بن سليمان عن ثابت البناني عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكروا فيه عن أنس ـ ثم ذكره من رواية ثابت مرسلاـ وقال: هذا أصح ـ، وابن حبان (866) و (894)، والضياء في المختارة 5/ 9 و 10، وانظر: السلسلة الضعيفة (1362).

لكن قل: «اللهم أصلح لي شأني كله»، فينبغي على المسلم أن يدعو ربه بقلبه ولسانه، ويعتمد في قضاء حوائجه عليه، ولا يعتمد على الأسباب؛ بل يعتمد على ربه ويدعوه، فالدعاء أعظم الأسباب؛ لأنه التجاءٌ إلى الله في جلب المنافع ودفع المضار، فهو ينفع في رفع البلاء وفي دفعه، وهذا ديدن الخلق كلهم، حتى الكفار يدعون الله، كما أخبر سبحانه عنهم، لاسيما في الشدة: ((فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)) [العنكبوت: 65]، ومتى وقع المخلوق في ضرورة؛ فإنه لا بد أن يلجأ إلى الله، إلا من فسدت فطرته واستحكم فسادها؛ فإنه تنقطع صلته بربه. وذكر الشارح ابن أبي العز عن ابن عقيل: «أن الله نَدَبَ إلى الدعاء، وفي ذلك معانٍ: أحدها: الوجود، فإن من ليس بموجود لا يدعى. الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يدعى. الثالث: السمع؛ فإن الأصم لا يدعى. الرابع: الكرم؛ فإن البخيل لا يدعى. الخامس: الرحمة؛ فإن القاسي لا يدعى. السادس: القدرة؛ فإن العاجز لا يدعى» (¬1). فكلها تدخل في الإيمان بالله، فدعاء العبد لربه يتضمن الإيمان بأنه سميع قدير غني كريم رحيم، فينبغي للداعي أن يستحضر هذا. والدعاء كغيره من الأسباب لا بد لحصول أثره من توافر الشروط وانتفاء الموانع؛ فإن كل الأسباب الكونية والشرعية يتوقف أثرها على وجود الشروط وانتفاء الموانع. فلا بد في الدعاء من الإيمان بالله والإخلاص له، والتوكل عليه سبحانه وتعالى، بحيث يدعو الإنسان وهو موقن بالإجابة طامع في فضل الله. ¬

(¬1) ص 678.

ومن موانع الإجابة ما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء». (¬1)، وما جاء في مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه «ذكر الرجلَ يطيل السفر أشْعَثَ أغَبَرَ يمدُ يديه إلى السماء: يا ربُّ يا ربُّ، ومطعمه حرامٌ، ومشربه حرامٌ، وملبسه حرامٌ، وغُذِيَ بالحرام فأنى يستجاب لذلك» (¬2) ومن الموانع كذلك الاعتداء، قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55]، وفي الحديث: أن عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه - سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها، فقال: أيْ بُنَيَّ سلِ اللهَ الجنةَ، وتعوذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنه سيكون في هذه الأمة قوم يعتدون في الطهور والدعاء» (¬3). وفي الحديث الصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذًا نُكْثِر، قال: الله أكثر» (¬4). فإجابة الدعاء أعم من قضاء الحاجة، فلا يلزم من عدم حصول المطلوب أن الله لم يجب دعاءك، فتقول: إن الله لم يستجب لي! وما ¬

(¬1) رواه البخاري (6340)، ومسلم (2735) ـ واللفظ له ـ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) مسلم (1015). (¬3) رواه أحمد 4/ 87، وأبو داود (96) وابن حبان (6763 و 6764)، والحاكم 1/ 540. (¬4) رواه أحمد 3/ 18، والبخاري في الأدب المفرد (711) والحاكم 1/ 493 من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -.

يدريك؟ لعل الله أعطاك إحدى هذه الثلاث، ومن أجل ذلك قلتُ: إن قوله: (ويقضي الحاجات) أخصُ من قوله: (والله تعالى يجيب الدعوات). ومن المبتدعة من قال: إن الدعاء إنما شُرع تعبدا فقط، وليس له أثر في حصول المطلوب؛ لأن المطلوب إن كان مقدرا وسيحصل؛ فلا حاجة إلى الدعاء، وإن كان لم يقدر؛ فلا فائدة في الدعاء؛ لأنه لن يحصل سواءً دعوت أم لم تدعُ! فيقال لهم: هناك قسم ثالث، وهو: ما قدر الله حصوله بالدعاء، فما قدر الله حصوله بسبب لن يحصل إلا بهذا السبب، وهذه الشبهة طردها أن يقال لهم: قولوا مثل هذا في سائر الأسباب، فيقال لمن حرث وأراد الزرع والثمر: حرثك وزرعك هذا لا فائدة منه؛ فإن كان الثمر قد قدره الله فستحصل لك بدون عملك هذا، وإن لم يقدر لك فلا فائدة في عملك! وهكذا يقال في لمن سعى لطلب الرزق: الرزق الذي تسعى إليه إن كان مكتوبا لك فسيحصل ولو لم تسعَ، وإن كان غير مقدر؛ فلا فائدة في سعيك، ولا أثر له! وهذه الشبهة تقتضي تعطيل الأسباب الشرعية والكونية، وهذا معلوم الفساد؛ فإن الله قد فطر العباد على فعل الأسباب وعلى رجاء أثرها،، فالمذموم هو الاعتماد على الأسباب، كما قال بعضهم: «الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع» (¬1)، فالأسباب خلقها الله وقدرها وشرعها وجعلها مؤثرة في ¬

(¬1) نسبه شيخ الإسلام في منهاج السنة 5/ 336، وبغية المرتاد ص 262: إلى أبي حامد الغزالي وابن الجوزي، وهو بمعناه في إحياء علوم الدين 4/ 374، ولعل كلام ابن الجوزي في مختصر الإحياء «منهاج القاصدين» وهو غير موجود.

حصول أسبابها، ولكن كل ذلك مرده إلى قدرة الله ومشيئته سبحانه وتعالى وتقديره وتدبيره. والآيات والأحاديث في الترغيب في الدعاء كثيرة معلومة، فالله تعالى ندب عباده إلى الدعاء ورغبهم فيه؛ لأن حوائج العباد كلها لديه، فبيده الملك وبيده الخير، وهو المعطي المانع، فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وقد ضمن الله الإجابة لكل من دعا ((وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)) [غافر: 60] وعد والله لا يخلف الميعاد. وقوله: (ويملك كل شيء، ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين). هذا معطوف على ما قبله، والله عز وجل له الملك كله، فله ما في السموات وما في الأرض وما بينهما: ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ)) [آل عمران: 26] وكل العوالم في قبضته: ((تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)) [الملك: 1] فهو المتصرف في هذا الوجود، وهو خالق كل شيء، وهو المدبر لكل شيء، ومن أسمائه الملك، أي: الذي له الملك، فهو ملك الناس، وهو ملك الأملاك، وهذا كله داخل في توحيد الربوبية، فتوحيد الربوبية يتضمن أنه سبحانه وتعالى خالق كل شيء ومليكه: ((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) [يس: 82 - 83]، ((قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ)) [المؤمنون: 88 - 89]. وقوله: (ولا يملكه شيء) فهو المالك وغيره مملوك، وهو مالك الدنيا والآخرة: ((وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى)) [الليل: 13] وكلهم عبيده {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93] والعبد المملوك لا يكون مالكا لسيده، ولا شريكا له: ((ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ)) [الروم: 28] لكن يكون مالكا لما يُمَلِّكُه

سيده، والله تعالى يُمَلِّكُ من شاء ما شاء كما يُمَلِّك العباد ما يعطيهم من الأرزاق يقول سبحانه وتعالى: ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ)) [آل عمران: 26] وقوله: (ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين). لا غنى لأحد عن الله طرفة عين، فالخلق كلهم فقراء مفتقرون إلى الله افتقارا ذاتيا، فليس لشيء من ذاته إلا العدم، فالافتقار صفة ذاتية للمخلوق، فالخلق فقراء إلى الله في كل لحظة، ولا يستغني أحد عن الله طرفة عين، بل هم دائما وأبدا مفتقرون إلى الله في وجودهم، وفي كل شؤونهم ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)) [فاطر: 15] ومن تحقيق الإيمانِ بربوبيته سبحانه وتعالى الإيمانُ بغناه عن كل ما سواه، وبفقر كل ما سواه إليه، فهو تعالى الغني بذاته عن كل ما سواه وكل شيء فقير إليه، مفتقر إليه، فلا غنى لله طرفة عين. وقوله: (ومَن استغنى عن الله طرفة عين، فقد كفر وصار من أهل الحَين). في الواقع لا يمكن لأحد أن يستغني عن الله طرفة عين، لكن الاستغناء الذي يقع من بعض الخلق هو استغناء شعوري كما يحصل من أهل الكفر، فالكافر والغافل هو الذي يمكن أن يستشعر في ذهنه أنه مستغن عن الله، وهو في الواقع غير مستغن، لكن هذا الاستغناء هو بحسب ما يتخيله، وهذا من طغيان العبد وجهله واغتراره بنفسه ((كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)) [العلق: 6 - 7] إذا رأى نفسه غنيا بما أوتي أوجب له ذلك الطغيان والغرور، كما حصل من قارون، ولهذا من يصاب بهذا الداء لا يلجأ إلى الله ولا يتوجه إليه ولا يعترف بربوبيته؛ بل ينظر إلى ما هو عليه، وما أوتي من قوة وأسباب وحيلة. ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين، أي: من أهل الهلاك.

[إثبات الغضب والرضا لله تعالى]

[إثبات الغضب والرضا لله تعالى] وقوله: (والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى) يثبت المؤلف ـ رحمه الله ـ صفتي الغضب والرضى لله سبحانه كما أخبر تعالى عن نفسه، فقال سبحانه وتعالى: ((وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا)) [النساء: 93]، وقال سبحانه وتعالى: ((وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) [الفتح: 6]، قال سبحانه وتعالى في اليهود: ((فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ)) [البقرة: 90] وقال - صلى الله عليه وسلم -: (اشتد غضبُ الله على قومٌ فعلوا بنبيه ـ يشير إلى رَبَاعِيَتِه ـ اشتد غضبُ الله على رجلٍ يقتُله رسولُ الله في سبيلِ الله) (¬1)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف على يَمِينِ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بها مالَ امرئٍ مسلمٍ هو فيها فاجرٌ لقي الله وهو عليه غضبان) (¬2) في حديث الشفاعة في الصحيحين أنَّ آدمَ نوحًا وإبراهيمَ وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام قال كل واحد منهم: (إن ربي غضب اليوم غضبًا لم يغضبْ قبلَه مثلَه، ولنْ يغضبَ بعده مثلَه) (¬3). وكذلك وصف الله تعالى نفسه بالرضا في آيات كثيرة، فقال سبحانه وتعالى: ((رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)) [المائدة: 119]، وقال سبحانه وتعالى: ((وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ¬

(¬1) رواه البخاري (4073)، ومسلم (1793) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (4549)، ومسلم (138) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬3) البخاري (4712)، ومسلم (194) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)) [النساء: 114]، وقال: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)) [محمد: 28]، وقال: ((وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة: 72]، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: (أُحِلُ عليكم رِضْواني فلا أسْخَطُ عليكم بعده أبدًا) (¬1). فدلت هذه النصوص من الكتاب والسنة على أنه تعالى يغضب ويرضى، كيف شاء، ورضاه وغضبه ليس كرضا المخلوق وغضب المخلوق، كما هي القاعدة المطردة في صفاته فهو تعالى يحب ويرضى ويسخط ويغضب، والمخلوق يوصف بهذه الصفات وليست صفاته تعالى كصفات المخلوق، ولا صفات المخلوق كصفاته، وهذا معنى قول الطحاوي: (لا كأحد من الورى) أي: الخلق، على حد قوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) [الشورى: 11] فقوله: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى: 11] رد للتشبيه والتمثيل، وقوله: ((وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)) [الشورى: 11] رد للإلحاد والتعطيل، فليس سمعه كسمع المخلوق، ولا بصره كبصر المخلوق، ولا حبه كحبه، ولا سخطه كسخطه، ولا غضبه كغضبه، وأهل السنة والجماعة يثبتون الغضب والرضى لله تعالى، ويقولون: إنهما من صفاته الفعلية التابعة لمشيئته؛ فإنه سبحانه وتعالى يغضب إذا شاء على من شاء، ويرضى إذا شاء عمَّن شاء. وخالف في ذلك المعطلة كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة (¬2) فنفوا حقيقة الغضب والرضى عن الله، وقالوا: إن إثبات هذه الصفات لله يستلزم التشبيه؛ لأنهم يفسرون الغضب: بأنه غليان دم القلب طلبا للانتقام، أو نحوه، ومن أجل ذلك نفوا حقيقة المحبة وحقيقة الرضا، وحقيقة الغضب والسخط والكراهة. ¬

(¬1) البخاري (6549)، ومسلم (2829). (¬2) التدمرية ص 116، وشرح حديث النزول ص 112، ومجموع الفتاوى 5/ 249.

ثم منهم من فسر هذه الأمور بأشياء مخلوقة؛ ففسر المحبة والرضا بالنعم المخلوقة، وفسر الغضب والسخط والكراهة بالعقوبات التي ينزلها الله بالعصاة. ومنهم من فسرها بالإرادة مثل الأشاعرة فسروا المحبة والرضا بإرادة الإنعام، والغضب والسخط والكراهة بإرادة الانتقام؛ لأن الإرادة مما يثبتونه من الصفات السبع. أما أهل السنة والجماعة؛ فإنهم يثبتون هذه الصفات على حقيقتها لله تعالى على ما يليق به سبحانه، على الوجه الذي لا يماثل فيه صفات المخلوقين. ومن الطوائف من أثبت الغضب والرضى لله تعالى، لكن قال: إنها صفات ذاتية قديمة لا تتعلق بها المشيئة كما ذهب إلى ذلك الكلابية، فقالوا: إنه تعالى يغضب ويرضى، لكن غضبه ورضاه لازمان لذاته؛ كحياته وعلمه، ولا يتعلقان بمشيئته. وهذا باطل؛ بل هو تعالى يغضب ويرضى بمشيئته، ولغضبه ورضاه أسباب يحدثها سبحانه وتعالى. وفي الحديثين السابقين: حديث الشفاعة: (إنَّ ربي غَضِب اليوم غضبا) رد عليهم؛ فهذا الحديث نص على أن هذا الغضب إنما كان في ذلك اليوم. وحديث أبي سعيد - رضي الله عنه -، وقول الله تعالى لأهل الجنة: (أُحِلُ عليكم رِضْواني فلا أسْخَطُ عليكم بعده أبدًا) دليل على أنه تعالى يحل رضوانه في ذلك الوقت، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخط، كما أنه تعالى يسخط ثم يرضى على من شاء من عباده. وينبغي أن يعلم أنه لا تلازم بين محبته ورضاه، أو غضبه وسخطه تعالى وبين مشيئته، فليس كل ما شاءه الله يكون محبوبا له كما تزعم الجبرية؛ فعندهم: أن كل ما شاءه فقد أحبه، وكل شيء يجري بمشيئة الله؛ إذًا فكل شيء محبوب له!

وقابلهم القدريةُ نفاةُ القدر فقالوا: إن ما أحبه الله فقد شاءه، وما لا يحبه فلم يَشَأْهُ، فعندهم: أن كل ما أمر الله به من الإيمان والطاعة فقد شاءه، وكل ما نهى عنه وأبغضه من الكفر والمعاصي؛ فإنه لا يشاؤه. فسوت الطائفتين بين المشيئة والمحبة، فالجبرية أثبتوا المشيئة على حقيقتها وجعلوا المحبة لازمة له، والمعتزلة أثبتوا المحبة، وجعلوها بمعنى المشيئة. وأما أهل السنة والجماعة فقالوا: لا تلازم بين المحبة والمشيئة؛ فإن الله يشاء ما لا يحب، فما يقع في الوجود من الأمور المسخوطة كالكفر والمعاصي؛ فإنه واقع بمشيئته سبحانه وتعالى وليست محبوبة له، وقد يحب سبحانه ما لا يشاء كالإيمان والطاعة ممن لم يوفقه لذلك، ولم يشأْه منه. فتجتمع المحبة والمشيئة: في إيمان المؤمنِ وطاعة المطيعِ، فإيمانُ المؤمن وطاعةُ المطيع اجتمع فيهما المشيئة والإرادة، فهي واقعة بمشيئته سبحانه وتعالى، وهي محبوبة له. وتنفرد المشيئة في كفر الكافر ومعصية العاصي، فهي واقعة بالمشيئة وليس ذلك محبوبا له تعالى. وتفرد الإرادة الشرعية في ما لم يقع من الإيمان والطاعة، كما تقدم ذلك مفصلا (¬1). ¬

(¬1) ص 42.

[منهج أهل السنة في الصحابة]

[منهج أهل السنة في الصحابة] وقوله (ونحبُ أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نُفْرِطُ في حب أحد منهم، ولا نتبرأُ من أحد منهم، ونبغِضُ من يبغِضُهم، وبغيرِ الخيرِ يذكرُهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبُهم دينٌ وإيمان وإحسان، وبغضُهم كفرٌ ونفاق وطغيان). نحن أهل السنة نحب أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والصحابي هو: «من لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به، ومات على الإسلام» (¬1)، هذا هو أحسن ما ضبط به الصحابي. وعلى هذا فالصحابة متفاوتون في صحبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأعظمهم حظا من هذه الصحبة هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، وهو الذي جاء النص في القرآن على صحبته ((إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)) [التوبة: 40]. وهذا الحب للصحابة هو ثمرة الإيمان بفضلهم، وأنهم خير الناس، وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة في الدالة على فضلهم، يقول الله تعالى عنهم: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة: 100]، وقال سبحانه وتعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)) [الأنفال: 72] إلى قوله: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)) [الأنفال: 74]، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: ((لَقَدْ ¬

(¬1) نخبة الفكر ص 148، والإصابة 1/ 158، وفتح المغيث 4/ 8.

رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)) [الفتح: 18]، وقال تعالى: ((مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا)) [الفتح: 29] إلى آخر السورة، ومن السنة ما جاء في الحديث الصحيح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم) (¬1) وفي الحديث الآخر: (خيرُ أمتي القرن الذي بُعِثتُ فيه) (¬2) وهم أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) (¬3). ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) (¬4) ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في أهل بيعة الرضوان: (لا يدخلُ النارَ أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة) (¬5) وجاءت نصوص تدل على فضلِ أعيان منهم؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وبقية العشرة المبشرين بالجنة، والحسن والحسين، وثابت بن قيس بن شمَّاس (¬6)، وعكاشة بن محصن (¬7)، وغيرهم. فالأدلة على فضلهم منها ما هو عام في جنس الصحابة، ومنها ما هو أخص من ذلك، ومن الأدلة على فضلهم وتفاضلهم قوله سبحانه وتعالى: ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا)) [الحديد: 10]، والمراد بالفتح: صلح الحديبية الذي عقده ¬

(¬1) رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533) من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -. (¬2) رواه مسلم (2534) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (3673) ـ واللفظ له ـ، ومسلم (2541) من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -. (¬4) رواه البخاري (3007)، ومسلم (2494) من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -. (¬5) تقدم في ص 219. (¬6) تقدم في ص 219، تخريج الأحاديث الدالة على فضلهم. (¬7) رواه البخاري (5752)، ومسلم (220) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين بمكة في السنة السادسة من الهجرة، سماه الله فتحا؛ لأن هذا الصلح صارت عاقبته خيرا للإسلام وأهله (¬1). وفيها تصريح بنفي التساوي، ((لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)) ثم تصريح بالتفوق والفضل، ((أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا)) وهم من أسلم بعد صلح الحديبية، والذين أسلموا بعد الصلح وقبل فتح مكة أفضل ممن أسلم يوم فتح مكة، وهم المعروفون بالطلقاء. وأحسن ما قيل في بيان المراد بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، الذين ذكرهم بقوله تعالى: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ)) [التوبة: 100]: إنهم الذين أنفقوا وقاتلوا قبل صلح الحديبية، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم؛ وصلح الحديبية حد فاصل بين مرحلتين، ونوعين من المسلمين (¬2). وقيل: المراد بالسابقين هم من صلى إلى القبلتين (¬3)، وهذا قول ضعيف؛ لأنه لا دليل على تخصيص من صلى إلى القبلتين، ثم كل من صلى إلى القبلة المشروعة فقد أطاع الله، لكن من قال ذلك لاحظ أنَّ من صلى إلى القبلتين لابد أن يكون متقدم الإسلام. ولكن هذا يخرج من مات قبل نسخ القبلة الأولى، وهو من السابقين قطعا، ويخرج من أسلم بعد نسخ استقبال بيت المقدس، ونسخ الاستقبال كان في السنة الثانية، فإنه قد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما هاجر «صلى إلى بيتِ المقدسِ ستةَ عشر أو سبعةَ عشر شهرا» (¬4). فهذا لا يصلح ضابطا للسبق. وقد اختلف الناس في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى ثلاث طوائف ¬

(¬1) تفسير الطبري 22/ 393. (¬2) نسب شيخ الإسلام هذا القول إلى جمهور العلماء. منهاج السنة 2/ 26. (¬3) تفسير الطبري 11/ 638. (¬4) رواه البخاري (4486)، ومسلم (525) من حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما.

طرفان ووسط، فغلا فيهم أو في بعضهم قوم، وجفا فيهم آخرون، وتوسط فيهم أهل السنة والجماعة، فأهل السنة وسط في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الرافضة والخوارج؛ فالخوارج والنواصب مع الروافض على طرفي نقيض، فالروافض يبغضون أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويسبونهم ويخصون أبا بكر وعمر بمزيد من السب، ويغلظون فيه، فيبغضون الصحابة عموما، ولا يستثنون منهم إلا القليل، وفي المقابل يغلون في أهل البيت، ولاسيما في علي وذريته من فاطمة رضي الله عنهم، فمن الروافض من يكفر الصحابة، ومنهم من يفسقهم، فجمعوا بين ضلالتين: ظلاله العداوة والبغضاء لجمهور الصحابة، وظلاله التعصب والغلو في آل البيت. وأما الخوارج فضلالهم في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث كفروا عليًا وعثمان وأصحاب الجمل وأهل التحكيم، فنصبوا العداوة لأفضلَ أهلِ بيتِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - عليِّ - رضي الله عنه -، وكذلك من تبعهم من النواصب الذين يؤذون أهل البيت ويسبونهم بدوافع سياسية. وأهل السنة والجماعة بين ذلك يحبون أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ويتولونهم جميعا، وينزلونهم منازلهم، ويعرفون لكل فضله عموما وخصوصا، ويتبرؤون من ضلالة الروافض، والخوارج، والنواصب. فأهل السنة والجماعة وسط بين الفرق في جميع مسائل الدين، كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية، فقال: «هم الوسط في فِرَق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم. فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى، بين أهل التعطيل الجهمية، وبين أهل التمثيل المشبهة. وهم وسط في باب أفعال الله بين القدرية، والجبرية. وفي باب وعيد الله بين المرجئة وبين الوعيدية: من القدرية وغيرهم.

وفي باب الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية. وفي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الروافض وبين الخوارج» (¬1). والطحاوي ـ رحمه الله ـ أتى بالعبارات المتضمنة لمعتقد ومنهج أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: (ونحبُ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وحب الصحابة رضي الله عنهم، هو من الحب في الله، والحب في الله واجب لكل المسلمين؛ فكل من آمن بالله ورسوله تجب محبته على قدر ما يعرف به من الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وأحق الناس من ذلك الواجب هم أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ لما خصهم الله به من فضيلة صحبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم - التي لا يشركهم فيها أحد ممن جاء بعدهم. وقوله: (ولا نُفْرِطُ في حب أحد منهم) الإفراط: الغلو وتجاوز الحد، والواجبُ الاعتدال والتوسط، بعدم الإفراط والتفريط، فكل انحراف؛ فإنه يعود إلى أحد الأمرين: إما انحراف بإفراط وتجاوز وغلو، أو تفريط وتقصير وجفاء، وكلهما انحراف عن الصراط، والحق ما وافق الصراط المستقيم. وقوله: (ولا نتبرأُ من أحد منهم) ولا نتبرأ من أحد منهم كما تفعل الروافض أو الخوارج؛ بل نواليهم جميعا، وعند الرافضة مقولة: «لا ولاء إلا ببراء» فلا يكون الإنسان عندهم مواليا لأهل بيت الرسول إلا إذا تبرأ من أبي بكر وعمر، فعندهم أن من والى أبا بكر وعمر؛ فقد أبغض عليا، ومن أبغض عليا فهو ناصبي. نعم من أبغض عليا فهو ناصبي هذا صحيح، لكن زعمهم: أن من والى أبا بكر وعمر فقد أبغض عليا هذا عين الباطل؛ بل أهل السنة ¬

(¬1) ص 177.

يوالون الصحابة عموما، ويعرفون لهم فضلهم، وينزلونهم منازلهم، فلا يتبرؤون من أحد منهم. والتبري يتضمن: التخلي عنهم، وكراهتهم ومعاداتهم. وقوله: (ونبغِضُ من يبغِضُهم). هذا تأكيد لقوله: (نحب أصحاب رسول الله، ولا نفرط في حب أحد منهم)، فلا نُفْرِط في حب أحد منهم خلافا للرافضة، ولا نبغض أحدا منهم خلافا للخوارج والروافض والنواصب؛ بل لا بد أن نبغض من يبغضهم، فيجب بغض الرافضة والخوارج لضلالاتهم وبدعهم وبغضهم أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (وبغير الخير يذكرهم) كما تفعل الرافضة؛ فإنهم يذكرون الصحابةَ بالسبِ والذم واللعن والتنقص وأنواع الطعن، وكما تفعل الخوراج بتكفيرهم. لكن أشقى الناس في هذا هم الرافضة، فهم شر طوائف الأمة على الإطلاق، فجمعوا إلى أصولهم الكفرية البدعية بعض أصول الطوائف الأخرى، فدخل عليهم مذهب الاعتزال فصاروا رافضة ومعتزلة في آن واحد، وهم الأصل في نشوء الغلو في القبور في هذه الأمة، فهم أصحاب بناء المشاهد والقباب على القبور على معظميهم ممن يعدونهم في أئمتهم أو في عظمائهم، فدينهم يقوم على الشرك، والغلو. وقوله: (ولا نذكرهم إلا بخير). فنذكرهم بصحبتهم للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفضائلهم، وأعمالهم الصالحة، كالهجرة، والنصرة، ويدخل في ذلك الكف عن مساويهم، وما وقع بينهم مما هو من لوازم البشرية، سواء كان اختلافا جماعيا كما حصل في عهد علي - رضي الله عنه -، أو كان خلافا فرديا، كالذي حدث بين خالد بن الوليد - رضي الله عنه - وبين عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - فقد كان بينهم شيء؛ فسبَّ خالدٌ

عبدَ الرحمن، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لخالد: (لا تسبوا أصحابي) (¬1) يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - عبد الرحمن بن عوف، وأمثاله من السابقين الأولين، وخالد بن الوليد ممن أسلم بعد الفتح، أي: صلح الحديبية. فمن منهج أهل السنة والجماعة الإمساك عما جرى بين الصحابة، فلا يجعلونهم موضع كلام وقيل وقال، فإن هذا يوغر الصدور، ويسبب سوء ظن بالصحابة رضي الله عنهم، واقرأ العبارات الحكيمة الدقيقة لشيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية في قوله: «ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم، وألسنتهم لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - ـ إلى أن قال: ـ ويمسكون عمَّا شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها: ما هو كذب، ومنها: ما قد زيد فيه ونقص وغُيِّرَ عن وجهه، والصحيح منه: هم فيه معذورن؛ إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون. وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره؛ بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إنهم خير القرون» (1)، «وإن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهبًا ممن بعدهم» (1). ثم إذا كان قد صدر عن أحدهم ذنب، فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين هم أحق الناس بشفاعته، أو ابْتُلي ببلاء في الدنيا كُفِّر به عنه؛ فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين؛ فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا، فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور لهم» (¬2) وهذا رصين جدير بالحفظ. ¬

(¬1) تقدم في ص 357. (¬2) ص 259 و 372 - 273.

وقوله: (وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان). هذا تأكيد لما قاله أولا، فحب الصحابة من الدين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار» (¬1)، فإذا كان هذا في الأنصار فالمهاجرون من باب أولى؛ لأنهم في جملتهم أفضل من الأنصار. فإذا كان الحب في الله والبغض في الله أوثق عرى الإيمان، ومن أسباب ذوق طعم الإيمان وحلاوته، فمن أفضل وأكمل وأعظم ذلك هو حب الصحابة رضي الله عنهم. وقوله: (حب الصحابة دين وإيمان) يَرِدُ على ما تقدم (¬2) من تفسيره للإيمان؛ لأن الحب عمل قلبي، فمن قال: الإيمان هو: تصديق القلب وإقرار اللسان، أو قال: هو تصديق القلب، أو قال: هو المعرفة، فموجب قوله: أن أعمال القلوب فضلا عن أعمال الجوارح لا تدخل في مسمى الإيمان، فهذا الكلام يعارض تعريفه للإيمان؛ إلا أن تكون هذه العبارة على وجه المجاز؛ فإن المرجئة يقولون: إطلاق اسم الإيمان على الأعمال كما في النصوص المصرحة بذلك من باب المجاز، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (الإيمان بضع وستون شعبة) (¬3) وعلى كل حال فما قاله الطحاوي في شأن الصحابة كلام حق عظيم رصين، بيَّن فيه مذهب أهل السنة والجماعة في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - اعتقادا وعملا. ¬

(¬1) رواه البخاري (17)، ومسلم (74) عن أنس - رضي الله عنه -. (¬2) ص 227. (¬3) تقدم في ص 227.

[الأحق بالخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]

[الأحق بالخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -] وقوله: (ونثبت الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولا: لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم لعثمان - رضي الله عنه -، ثم لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وهم الخلفاء الراشدون، والأئمة المهتدون) من فروع ما يجب اعتقاده في أصحاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه المسائل التي أردفها المؤلف لما قبلها، فذكر أولا: ما يجب لعموم الصحابة رضي الله عنهم من المحبة والاحترام وذكر المحاسن والكف عن المساوي إلخ، ثم قال: (ونثبت الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولا: لأبي بكر الصديق - رضي الله عنه - تفضيلا له وتقديما على جميع الأمة، ثم لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، ثم لعثمان - رضي الله عنه -، ثم لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -) هذا أيضا مما يقرروه، ويدين لله به أهل السنة: أنَّ الأحق بالخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، فيثبتونها له تفضيلا له وتقديما له على سائر الصحابة؛ فولايته للخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت عن أهلية واستحقاق، وليس أثباتهم لها واقعا فقط، كما تقول الرافضة؛ فالرافضة يقولون: الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر واقعا، لكن عندهم أن خلافته بغير حق. فقول الطحاوي: (تفضيلا له) أي: هو الأحق بتولي الخلافة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه أفضل الأمة، كما دلت على ذلك الأحاديث في فضل أبي بكر - رضي الله عنه -. ثم اختلف الناس في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، هل ثبتت بالنص أو بالاختيار؟

فمن أهل السنة من قال: إنها ثبتت بالنص الجلي. ومنهم من قال: إنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة. ومنهم من قال: إنها ثبتت بالاختيارـ أي ـ: باتفاق الصحابة - رضي الله عنه - (¬1). وقد جاءت أدلة تدل على أن أبا بكر هو الأحق بالأمر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في مرض موته - صلى الله عليه وسلم -: «مُروا أبا بكر فليصلِ بالناس» (¬2) وكرره وأكده، وفعلا كان هو الإمام، ومات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يصلي بهم، فتقديمه في إمامة الصلاة فيه التنبيه على أحقيته بالأمر من بعده؛ لأن هذا هو الأصل، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان هو إمام المسلمين عموما وخصوصا؛ فهو إمامهم في الصلاة، وهو إمامهم في تدبير أمورهم وولاية شؤونهم. ومن ذلك أنه أراد في مرض موته أن يكتب لأبي بكر كتابا، فقال لعائشة - رضي الله عنه -: (لقد هممت أو أردت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه، فأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون) (¬3). وفي الحديث الصحيح: «أن امرأة أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فكلمته في شيء، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: يا رسول الله أرأيت إن جئت ولم أجدك؟ ـ كأنها تريد الموت ـ قال: إنْ لم تجديني فأتي أبا بكر» (¬4). وما ثبت في الصحيح: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلوٌ فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذَنُوبا أو ذَنُوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له ضعفه، ثم استحالت غَرْبا ¬

(¬1) منهاج السنة 1/ 486 - 526. (¬2) رواه البخاري (664)، ومسلم (418) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬3) رواه البخاري (5666)، ـ واللفظ له ـ ومسلم (2387) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬4) رواه البخاري (7220)، ومسلم (2386) من حديث جبير بن مطعم - رضي الله عنه -.

فأخذها ابن الخطاب فلم أر عبقريا من الناس يَنْزِع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعَطَنٍ) (¬1). أي: سقى للناس، وهذا ما وقع في خلافته من استقرار الأمر، وانتشار الإسلام، وكثرة الفتوح. فتأولها أهل العلم (¬2) على أمر الولاية والخلافة من بعده - صلى الله عليه وسلم -، فأبو بكر ولي الأمر بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - مدة قصيرة سنتين وأشهر، وحصل في ولايته خير كثير ومن أعظم ذلك تثبيت أمر الإسلام ودولته، وقتال المرتدين، ورد كثيرا منهم إلى الإسلام. وأظهر الأقوال عندي فيما ثبت به أمر الخلافة هو أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة؛ إذ ليس هناك نص جلي يقول: الخليفة من بعدي هو أبو بكر، لكن هذه النصوص بمجموعها تدل دلالة بينة على أن أبا بكر هو الأحق بالأمر، وأنه الخليفة من بعده - صلى الله عليه وسلم -، ثم وفق الله أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لاختياره عندما اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وقال قائل منهم للمهاجرين: «منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فبايِعوا عمر أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال: عمر بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذ عمر بيده فبايعه وبايعه الناس» (¬3). ولم يخالف في ذلك من يعتد بخلافه، فلا نزاع بين الصحابة في أن أبا بكر - رضي الله عنه - أفضلهم، كما في حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، قلت يا رسول الله: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم مَن؟ قال: عمر فَعَدَّ رجالا) (¬4). فهو أحب الناس إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأَمَنِّهم عليه في صحبته وماله، ¬

(¬1) رواه البخاري (3664)، ومسلم (2392) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) المنهاج 15/ 157، وفتح الباري 7/ 38. (¬3) رواه البخاري (3668) من حديث عائشة - رضي الله عنها -، وهذا اللفظ مختصر. (¬4) رواه البخاري (3662)، ومسلم (2384).

فهو أحق بالأمر من بعده؛ فلذلك كان من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الأحق بالأمر بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أبو بكر. ولشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في هذا الموضع جمع حسن، قال: «خلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - له بها، وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه، اختيارًا استندوا فيه إلى ما علموه من تفضيل الله ورسوله، وأنه أحقهم بهذا الأمر عند الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعا» (¬1). وأما قول عمر - رضي الله عنه -: «إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -» (¬2). فقد حمل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يستخلف بعهد مكتوب، ونص صريح كما تقدم. وأهل السنة يثبتون الخلافة بعد أبي بكر - رضي الله عنه - لعمر - رضي الله عنه -، وهذا موضع اتفاق، وكانت خلافته بعهد من أبي بكر، فانتقل أمر ولاية المسلمين إلى عمر - رضي الله عنه -، ولم يكن هناك أي اختلاف، ولا ريب أن عمر - رضي الله عنه - هو الأحق بالأمر من بعده، فهو قرينُه في النصوص الدالة على فضل أبي بكر - رضي الله عنه -، فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر» (¬3) وكذلك في حديث الرؤيا المتقدم (¬4). فأهل السنة يثبتون الخلافة لأبي بكر ثم عمر ولا ينازع في هذا إلا الرافضة، فالرافضة ينازعون في خلافة الخلفاء الثلاثة كلهم، وعندهم أن خلافتهم باطلة وظلم، واغتصاب للحق؛ لأنهم يزعمون أن الوصي ¬

(¬1) منهاج السنة 1/ 524. (¬2) رواه البخاري (7218)، ومسلم (1823) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (3677)، ومسلم (2389) من حديث ابن عباس عن علي رضي الله عنهم. (¬4) ص 365.

بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو علي - رضي الله عنه -، وأن الصحابة رضي الله عنهم ظلموه واغتصبوا حقه وجحدوا وصية الرسول - صلى الله عليه وسلم -! ولا نزاع بين أهل السنة في أن الأحق بالأمر بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة على مراتبهم: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان رضي الله عنهم، ثم علي - رضي الله عنه - هو الأحق بالأمر بعد عثمان، فإن عمر - رضي الله عنه - جعل الأمر شورى بين الستة الذين قال: «إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مات وهو عنهم راض» (¬1)، فبعدما تشاورا وشاور عبدُ الرحمن الناسَ قال: «لم أرهم يعدلون بعثمان، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس: المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون» (¬2)، فتم الأمر واستقرت الخلافة لعثمان من بعد عمر رضي الله عنهما، وبعد الفتنة ومقتل عثمان لا أحد ينافس عليا - رضي الله عنه - في الفضل، ولا أحد يدعي أنه أحق بالأمر منه. وأهل السنة والجماعة يرتبون الخلفاء في الفضل على ترتيبهم في الخلافة، فيقولون: أفضل هذه الأمة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال: «كنا نُخَيِّرُ بين الناس في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان رضي الله عنهم» (¬3). قال شيخ الإسلام رحمه الله: «بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي، بعد اتفاقهم على أبي بكر وعمر أيهما أفضل، فقدَّم قومٌ عثمانَ، وسكتوا، أو ربَّعُوا بعلي، وقدَّم قومٌ عليا، وقوم توقفوا. لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وإن كانت هذه المسألة ـ مسألة عثمان وعلي ـ ليست من الأصول التي يُضَلَّل المخالِف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يُضَلَّل المخالف فيها مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن ¬

(¬1) رواه البخاري (3700)، ومسلم (567). (¬2) رواه البخاري (7207) من حديث المِسْوَرِ بن مخرمة رضي الله عنهما. (¬3) رواه البخاري (3655) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة؛ فهو أضل من حمار أهله» (¬1). وجاء عن بعض السلف أنه قال: «من قدَّم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار» (¬2). أي: تنقصهم واستخف بعقولهم وسفه رأيهم؛ لأنهم أطبقوا على تولية عثمان، من طعن في خلافة عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، فهؤلاء الأربعة هم الخلفاء الراشدون، وإذا أطلق الخلفاء الراشدون؛ فإنه ينصرف إليهم، فخلافتهم خلافة نبوة، وهذا لا ينفي أن يقال في بعض من ولي أمر المسلمين إنه خليفة راشد، كما قيل ذلك في عمر بن عبد العزيز رحمه الله. وعلي - رضي الله عنه - وإن لم يتم له الأمر على جميع المسلمين فهذا لا ينفي اعتباره من الخلفاء الراشدين، ولا ينفي أن تكون خلافته خلافة نبوة، لكن لا ريب أن خلافته ليست كخلافة مَن قبله في أثرها على الإسلام والمسلمين، كما أن عثمان - رضي الله عنه - دون عمر - رضي الله عنه -. ولكن على كل حال هم الخلفاء الراشدون المهديون كما في الحديث المعروف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعَضَّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة) (¬3). واعتمد أهل العلم في اعتبار ما سنه الخلفاء على هذا الحديث. وقال - صلى الله عليه وسلم - في أبي بكر وعمر: (اقتدوا بالذَيْنِ من بعدي أبي بكر وعمر) (¬4). ¬

(¬1) الواسطية ص 260. (¬2) روي هذا عن أيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني رحمهم الله. السنة للخلال 2/ 392، ومجموع الفتاوى 4/ 426 و 435 ومنهاج السنة 2/ 73. (¬3) تقدم تخريجه في ص 273. (¬4) رواه أحمد 5/ 382، والترمذي (3662) ـ وقال: حسن ـ، وابن حبان (6902) والحاكم 3/ 75 من حديث حذيفة - رضي الله عنه -.

فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداء بهما، واتباع سنة الخلفاء الراشدين، فكل ما سنُّوه مما لا يخالف ما جاء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن على الأمة أن يتبعوهم في سنتهم، فهم أحرى بالصواب من غيرهم، حتى قال بعض أهل العلم: «إن إجماع الخلفاء الأربعة حجة» (¬1)؛ لأنهم لا يكادون يجمعون على خطأ، ولا أذكر أنهم أجمعوا في مسألة وكان الصواب في خلافها. ¬

(¬1) روضة الناظر 2/ 474، وأصول الفقه 2/ 412.

[العشرة المبشرون بالجنة]

[العشرة المبشرون بالجنة] قوله: (وأن العشرة الذين سماهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبشرهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقوله الحق، وهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة الزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين). بعدما ذكر الطحاوي ـ رحمه الله ـ اعتقاد أهل السنة والجماعة في الخلفاء الراشدين، وأنهم خير هذه الأمة وأفضلها، وهم في الفضل على مراتب على ترتيبهم في الخلافة، ويليهم في الفضل بقية العشرة؛ ولهذا أردف الطحاوي الكلام في الخلفاء الراشدين بذكر فضل بقية العشرة فيقول: إن العشرة المبشرين بالجنة الذين شهد لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة نشهد لهم بشهادته - صلى الله عليه وسلم - إيمانا وتصديقا له - صلى الله عليه وسلم -، وأن ما أخبر به هو الحق، فقد ثبت من حديث سعيد بن زيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (عشرة في الجنة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وعبد الرحمن وأبو عبيدة وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد) (¬1). وقد ورد لكل منهم فضيلة، بل فضائل، جاءت في الأحاديث كفضائل أبي بكر وعمر خاصة، وفضائل لعثمان ولعلي، والزبير، وهكذا، ومن ذلك ما أشار إليه الطحاوي من قوله: (أبو عبيدة أمين هذه الأمة) ففي حديث حذيفة - رضي الله عنه -: «جاء أهل نجران إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: ابعث لنا رجلا أمينا، فقال: لأبعثنَّ إليكم رجلا أمينا حَقُّ أمين، ¬

(¬1) تقدم في ص 219.

فاستشرف له الناس فبعث أبا عبيدة بن الجراح» (¬1). فهذا يدل على فضيلةٍ له، وأن له تميزا في هذا الشأن، وإلا فالأمانة صفة كل مؤمن. وقد ثبت تبشير أبي بكر وعمر وعثمان بالجنة في غير هذا الحديث ففي حديث أبي موسى - رضي الله عنه - في الصحيحين (كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: افتح له وبشره بالجنة، ففتحت له فإذا هو عمر فأخبرته بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله، ثم استفتح رجل، فقال لي: افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحمد الله ثم قال: الله المستعان) (¬2). وقد وقع كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - فقد ابتلي عثمان بأهل الفتنة الذين ثاروا عليه، وطعنوا في ولايته، وحاصروه في داره حتى انتهى أمرهم إلى قتله. فهؤلاء العشرة رضي الله عنهم لهم فضيلة على سائر الصحابة، وأفضلهم الخلفاء وترتيبهم في الفضل حسب ترتيبهم في الخلافة، وأما بالنسبة للستة فلا يفضل بعضهم على بعض، هذا هو ظاهر هذه الأحاديث؛ لأن التفضيل موقوف على الدليل. وقد تقدمت هذه المسألة (¬3)، لكن هنا بمناسبة ذكر الخلفاء الراشدين وبقية العشرة، فهم من جملة من يشهد له بالجنة، وليست هذه الفضيلة مختصة بهم، بل شهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - لثابت بن قيس، والحسن والحسين، وعكاشة بن محصن؛ بل نشهد بالجنة لكل من شهد بيعة الرضوان؛ لقوله تعالى: ((لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ¬

(¬1) رواه البخاري (4381)، ومسلم (2420). (¬2) رواه البخاري (3693)، ومسلم (2403). (¬3) تقدم في ص 219.

الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ)) [الفتح: 18]؛ ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخلُ النارَ أحدٌ ممن بايع تحت الشجرة) (¬1). والرافضة يبغضون العشرة إلا عليا - رضي الله عنه -، فهم يبغضون التسعة من العشرة، ومن حماقاتهم أنهم صاروا يكرهون رقم العشرة، ويتشاءمون به، ويتجنبونه مبالغة في بغض أولئك العشرة، مع أن العدد ليس متعلَقا لمدح ولا ذم، فقد يكون لمحمود ومذموم، وطرد هذا أن يبغض رقم تسعة بسبب التسعة الذين هم من قوم صالح ((وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ)) [النمل: 48] أفيصح في عقل عاقل أن يهجر عدد التسعة، وأن يتشاءم به؛ من أجل أنه عدد أولئك الرهط؟! هذه جهالة وحماقة، وهذه الحماقة من الرافضة ذكرها شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في أول منهاج أهل السنة، في معرض ذكر حماقات الرافضة وناقشها فقال: «بل اسم العشرة قد مدح الله مسماه في مواضع، كقوله تعالى في متعة الحج: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] وقال تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] وقال تعالى {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2]» (¬2) إلخ كلامه. ¬

(¬1) انظر تخريج هذه الأحاديث في ص 219 و 220 و 357. (¬2) 1/ 40.

[منهج أهل السنة في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته]

[منهج أهل السنة في أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته] وقوله ـ رحمه الله ـ: (ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرِّيَّاته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق). هذا تأكيد لما سبق من قوله: (ونحبُ أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نُفْرِطُ في حب أحد منهم، ولا نتبرأُ من أحد منهم، ونبغِضُ من يبغِضُهم، وبغيرِ الخيرِ يذكرُهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبُهم دينٌ وإيمان وإحسان، وبغضُهم كفرٌ ونفاق وطغيان) (¬1) فإحسان القول في الصحابة يكون بذكرهم بفضائلهم، وبالترضي عنهم، وبمعرفة أقدارهم، وإحسان القول فيهم. وقوله: (وأزواجه) عطف الأزواج على الأصحاب من عطف الخاص على العام، فإن أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهن من الصحبة ما ليس لغيرهن من نساء المؤمنين؛ للعلاقة الزوجية. وقوله: (الطاهرات) المنزهات البريئات من كل دنس يعيب شرفهن وفضلهن، وزوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشمل كل من مات عنهن وهن تسع، ومن ماتت وهي في عصمته - صلى الله عليه وسلم -، فهؤلاء كلهن أمهات المؤمنين، فمجموعهن إحدى عشرة: أولهن خديجة بنت خويلد وقد توفيت في حياته - صلى الله عليه وسلم - بمكة قبل الهجرة، وزينب بنت خزيمة أم ¬

(¬1) ص 356.

المساكين وقد توفيت في حياته - صلى الله عليه وسلم -، وبقية التسع (¬1) مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهنَّ في عصمته. ومما جاء في بيان فضلهن قوله سبحانه وتعالى: ((النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)) [الأحزاب: 6] ويحرم نكاحهن؛ لحق النبي - صلى الله عليه وسلم - ((وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا)) [الأحزاب: 53] فأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين في الحرمة والتحريم، ولسن أمهات المؤمنين في المحرمية (¬2). وقال تعالى: ((يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا)) [الأحزاب: 30 - 34]. فنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - لهن من الفضل ما ليس لغيرهن؛ لعظم صلتهن وصحبتهن للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأفضلهنَّ خديجة وعائشة فقد ثبت لهما من الفضائل ما ليس لسائر أمهات المؤمنين، فهن يشتركن في أنهن أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأنهن أمهات المؤمنين، ويشملهن هذا الثناء العطر: ((لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ)) [الأحزاب: 32] فمن العلماء من قال: خديجة أفضل (¬3)؛ لأنها أول المؤمنات، بل قيل: إنها أول من آمن به - صلى الله عليه وسلم - كما ¬

(¬1) وهن: عائشة وحفصة وأم سلمة وأم حبيبة وميمونة بنت الحارث وصفية بنت حيي وزينب بنت جحش وسودة بنت زمعة وجويرية بنت الحارث رضي الله عنهن. (¬2) منهاج السنة 4/ 369. (¬3) فتح الباري 7/ 139، ورجحه، وهو اختيار المؤلف في شرح الواسطية ص 271.

جاء في قصة بدء الوحي (¬1)، وثبت في الصحيح: «أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك فاقرأ عليها السلام من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قَصَبٍ لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ) (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد» (¬3). وفضَّل بعض أهل العلم عائشة؛ لأنها عاصرت الدعوة ونزول الشرائع، وتلقت وحفظت من العلم الذي جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم تدركه خديجة، وجاء في فضلها مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: (من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة) (¬4) وجاء فيها الحديث الصحيح: (فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام) (¬5). وجمع بعض أهل العلم بين القولين فقال: إن خديجة أفضل من وجه، فلها تأثير في أول الإسلام بنصر وتأييد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومواساته، ولها منه المنزلة العالية، وهي أم أكثر أولاده، وكان - صلى الله عليه وسلم - يذكرها وينوه بها، حتى قالت عائشة - رضي الله عنه -: «ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غرت على خديجة وما رأيتها، ولكن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة ثم يقطعها أعضاء، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلتُ له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة! فيقول: «إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد». (¬6) وعائشة أفضل من جهة حمل العلم وتبليغه إلى الأمة وإدراكها من العلم ما لم تشركها فيه خديجة (¬7). ¬

(¬1) رواه البخاري (3)، ومسلم (160) من حديث عائشة - رضي الله عنها -. (¬2) رواه البخاري (3820)، ومسلم (2432) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬3) رواه البخاري (3432)، ومسلم (2430) من حديث علي - رضي الله عنه -. (¬4) تقدم في ص 366. (¬5) رواه البخاري (3411) ومسلم (2431) من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -. (¬6) رواه البخاري (3818) ـ واللفظ له ـ ومسلم (2435). (¬7) هذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم. مجموع الفتاوى 4/ 393، وبدائع الفوائد 3/ 1104وجلاء الأفهام ص 263.

فهذا بعض ما يتعلق بزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهن مبرآت، وليس معنى ذلك أنهن معصومات، فليس أحد معصوم بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (وذرِّيَّاته المقدسين من كل رجس، فقد برئ من النفاق). ذرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - هم: أولاده من صلبه وكلهم ماتوا في حياته - صلى الله عليه وسلم - إلا فاطمة فُضْلى أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ولاشك أن ذريته - صلى الله عليه وسلم - يصدق عليهم هذا الوصف وأنهم مبرؤون من الأرجاس والعيوب التي تدنس الأخلاق، ويدخل في هذا الاسم من ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاد فاطمة - رضي الله عنه - وما تناسل منهم، فذرية الحسن والحسين كلهم من ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال الله تعالى في إبراهيم الخليل عليه السلام: ((وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 84 - 86] كل هؤلاء الأنبياء الذين جاءوا متأخرين عدهم الله من ذرية إبراهيم عليه السلام. فهكذا ما تناسل من أولاد الحسن والحسين رضي الله عنهما كلهم من ذرية النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبهذا نحتاج إلى احتراز؛ لأن قول الطحاوي: (وذرِّيَّاته المقدسين من كل رجس) ليس على إطلاقه؛ لأن فيهم المحسن والمسيء، كما قال تعالى سبحانه وتعالى في ذرية إبراهيم: ((وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ * وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ)) [الصافات: 112 - 113]. وقال سبحانه وتعالى: ((وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)) [البقرة: 124] فمن ذرية إبراهيم المؤمن والكافر، فبنو إسرائيل كلهم من ذرية إبراهيم وكذلك ذرية

إسماعيل هم من ذرية إبراهيم ومنهم المؤمن والكافر، والمحسن والمسيء. وهكذا ذرية محمد - صلى الله عليه وسلم - وهم من تناسل من ذرية الحسن والحسين فيهم العلماء والصالحون، وفيهم من هو خلاف ذلك، فليس كل من كان من ذرية الحسن والحسين ـ وهم الذين يُسمَون بالأشراف ـ يكون مبرأً، فهذه عبارة لا تُسَلَّم بهذا الإطلاق، فيجب قصرها على ذرية الرسول - صلى الله عليه وسلم - الأدنين ممن ثبت فضلهم، أما من بعدهم فهم كغيرهم من الناس معرضون، ومتنوعون. وقوله: (فقد بريء من النفاق). لأن بغض الصحابة والطعن فيهم، وفي أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما عائشة، ورميها بما برأها الله منه؛ هو من شأن المنافقين، وقد حمل عبء الإفك رأس المنافقين عبد الله بن أُبي ((إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [النور: 11]. وأشار الشارح ابن أبي العز (¬1) إلى أن أصل الرفض الذي هو بغض الصحابة وتكفيرهم والغلو في علي - رضي الله عنه - وذريته أسسه المنافقون، والمؤسس الأول لمذهب الرفض هو عبد الله بن سبأ اليهودي الذي بَذَرَ بذرت الفتنة بين الناس وألبهم على عثمان - رضي الله عنه - حتى قتل، ثم سعى في فتنة أخرى وهي الغلو في علي - رضي الله عنه -. سبحان الله العظيم! في ذلك العصر الزاهي وقرب عهد النبوة ظهر هذا المذهب الكفري، وهو تأليه علي - رضي الله عنه -، فحرق علي - رضي الله عنه - قوما أتوه فقالوا: أنت هو! فقال: من أنا؟ فقالوا: أنت ربنا! فأمر بنار فأججت فألقوا فيها. وفيهم قال علي - رضي الله عنه -: لما رأيت الأمر أمرا منكرا ... أججت ناري ودعوت قنبرا (¬2). ¬

(¬1) ص 738. (¬2) انظر: التنبيه والرد ص 29، والفصل 3/ 120، ومجموع الفتاوى 35/ 185، ومنهاج السنة 1/ 29، وأصل قصة التحريق في البخاري (3017) عن ابن عباس رضي الله عنهما، وانظر فتح الباري 6/ 151.

وبقي هذا المذهب الملعون مذهب الرفض والغلو في علي - رضي الله عنه - وأهل البيت، واسمهم الذي يتسمون به قديما وحديثا: الشيعة. والشيعة يقسمهم العلماء ثلاثة أقسام إجمالية (¬1)، وإلا فهم فرق كثيرة: الأولى: الغلاة، وهم طوائف منهم: السبأية والقرامطة، والإسماعيلية، والنصيرية. الثانية: الإمامية، ومنهم: الإثني عشرية، وهم كذلك طوائف. الثالثة: ويعرفون بالمفضلة. وهذه الأقسام الثلاثة كانت قد ظهرت في عهد علي - رضي الله عنه -، فالغلاة المؤلهون لعلي - رضي الله عنه -. والطائفة الثانية: السبابة الذين يسبون أبا بكر وعمر، وكان رأسهم عبد الله بن سبأ، فلما بلغ عليا ذلك طلب قتله فهرب منه. والثالثة: المفضلة الذين يفضلون عليا على أبي بكر وعمر لكنهم لا يسبونهما، وقد قال علي - رضي الله عنه -: (لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري) (¬2). وقد ذكر العلماء أن سبب تسمية الرافضة بهذا الاسم أن الشيعة الغلاة طلبوا من زيد بن علي بن الحسين أن يتبرأ من أبي بكر وعمر، فقال: كيف أتبرأ منهما وهما وزيرا جدي؟! فرفضوه فسموا: الرافضة (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 4/ 407، ومنهاج السنة 3/ 470. (¬2) رواه في السنة عبد الله بن أحمد 2/ 562، وابن أبي عاصم في السنة (1291)، والبيهقي في الاعتقاد ص 504. (¬3) مجموع الفتاوى 4/ 435، ومنهاج السنة 1/ 35 و 2/ 96، والبداية والنهاية 13/ 106.

وزيد بن علي بن الحسين هو الذي تنتسب إليه فرقة الزيدية. والرافضة الغلاة هم الذين تعرف طوائفهم بالباطنية؛ لأنهم يظهرون الإسلام، كما يقول بعض أهل العلم: (يظهرون الرفض ويبطنون الكفر المحض) (¬1) فحقيقة أمر الباطنية أنهم لا يؤمنون بالله، ولا بملائكته ولا رسله ولا يؤمنون بمبدأ ولا معاد، ولا يؤمنون بالأنبياء ولا يؤمنون بفضل أحد، حتى لا يؤمنون ولا يعترفون بفضل علي - رضي الله عنه -؛ فإذا جحدوا وكفروا بالرسالات فهل يبقى شيء؟ فما يدعونه من موالاة علي وتعظيمه والغلو فيه كل هذا تضليل للسذج من الناس، وإلا فليس عندهم شيء من ذلك. ولهذا نقل الشارح ابن أبي العز عن القاضي أبي بكر بن الطيب طريقة الباطنية في دعوتهم، أنهم «قالوا للداعي: يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلما أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك، واجعل المدخل من جهة ظلم السلف لعلي، وقتلهم الحسين والتبري من تَيْم وعدي وبني أمية وبني العباس، وأن عليا يعلم الغيب! يُفوض إليه خلق العالم! ... فإذا أنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشدا أوقفته على مثالب علي وولده» (¬2). لأن مهمة الباطنية هو إخراج المسلم عن ملة الإسلام، لكنهم يعمقون فيه مبدأ النفاق والتقية، ولهذا مذاهبهم وأقوالهم تكون أسرارا. وقد ذكر العلماء أقوالهم ومذاهبهم في كتب الملل والنحل، كـ «الملل والنحل» للشهرستاني (¬3)، وألف فيهم مؤلفون كالغزالي له كتاب: ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 9/ 134 و 11/ 581. (¬2) ص 740، وكذا نقله شيخ الإسلام في منهاج السنة 8/ 479. (¬3) 1/ 140.

«فضائح الباطنية» (¬1). وسموا بالباطنية؛ لأنهم يزعمون أن للنصوص وللشرائع معاني باطنة تخالف ظاهرها، فيجعلون للشرائع معاني باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، فيفسرون القرآن بمعاني باطنة، من ذلك قولهم: ((مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ)) [الرحمن: 19] أي: علي وفاطمة ((يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)) [الرحمن: 22] أي: الحسن والحسين. ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ)) [المسد: 1] أبو بكر وعمر! فهذه من تفسيرات الباطنية. ومن تأويلاتهم للشرائع قولهم: الصيام هو كتمان أسرار الباطنية، والصلاة هو معرفة تلك الأسرار، والحج هو السفر إلى طواغيتهم وشيوخهم (¬2). إذًا؛ الباطنية ملاحدة منافقون، وكفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى (¬3). ¬

(¬1) وهو مطبوع، وقد ذكر شيخ الإسلام جملة من الكتب التي ردت عليهم. مجموع الفتاوى 9/ 134 و 27/ 174، ودرء التعارض 5/ 8، والرد على المنطقيين ص 184. (¬2) حكاه عنهم شيخ الإسلام في: مقدمة في أصول التفسير ص 220، ورسالة في علم الظاهر والباطن 13/ 230، ومنهاج السنة 3/ 404، والصفدية ص 51. (¬3) التدمرية ص 160.

[احترام علماء الأمة من السلف ومن اقتفى أثرهم]

[احترام علماء الأمة من السلف ومن اقتفى أثرهم] وقوله: (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين ـ أهل الخير (¬1) والأثر، وأهل الفقه والنظر ـ لا يُذْكَرُون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل) أهل العلم من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أئمة الهدى يجب أن يعرف لهم قدرهم، ويجب أن يعاملوا بما تستوجبه منازلهم من العلم والدين، وذِكرُ الطحاوي حق العلماء في هذه الجملة مناسب جدا؛ فإنه ذكر ما يجب للصحابة رضي الله عنهم، وأهل بيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - ثم أردف ذلك بذكر ما يجب لعلماء هذه الأمة من السلف من الصحابة، ومن جاء بعدهم، ولهذا قال: (ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر). أهل الخير: العمل الصالح، وأهل الآثار: الذين يقتفون آثار النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقتفون آثار من سلف قبلهم من أهل العلم والدين، وأهل الفقه والنظر فهم العلماء الفقهاء العباد الصلحاء. والله تعالى قد نَوُّه بفضل العلماء في كتابه حيث قال: ((شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ)) [آل عمران: 18] أولوا العلم: أصحاب العلم الشرعي، وهم على مراتب، فيدخل فيهم الأنبياء، كما يدخل فيهم العلماء من أتباعهم، وقال سبحانه وتعالى: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ)) [المجادلة: 11]. فخص العلماء برفع الدرجات، وقال سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ ¬

(¬1) رأيت في مخطوطة للمتن: «والخبر» وهو محتمل، لكن الشيخ مال إلى ما أثبت.

عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر: 28] فخص وحصر خشيته بالعلماء ـ أي: العلماء بالله وشرعه ـ وكل دليل يدل على فضل العلم؛ هو دليل على فضل العلماء، وفي حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه الترمذي وغيره وفيه: «وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر» (¬1). فالصحابة فيهم علماء، وفي التابعين وتابعيهم علماء، وهم حملة هذا الدين فإنه (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين) (¬2) فهم المبلغون عن الله دينه، والقائمون بأمره على مراتبهم في العلم والدين. وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - المثل للعلم والعلماء، كما في الصحيحين من حديث أبي موسى - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا، فكان منها طائفة طيبة قبِلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادِب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة ¬

(¬1) رواه أحمد 5/ 196، وأبو داود (3641)، والترمذي (2682)، وابن ماجه (223) وابن حبان (88)، وقال الحافظ في الفتح 1/ 160: «أخرجه أبو داود والترمذي وابن حبان والحاكم مصححًا من حديث أبي الدرداء، وحسنه حمزة الكناني وضعفه غيرهم بالاضطراب في سنده لكن له شواهد يتقوى بها» وانظر: العلل للدارقطني 6/ 216، وتهذيب السنن للمنذري 5/ 243، والتلخيص الحبير 5/ 2300، والمقاصد الحسنة (703). (¬2) روي هذا مرفوعا عند العقيلي في الضعفاء 1/ 9 و 10، و 4/ 256 وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 2/ 17، والطبراني في مسند الشاميين 1/ 344، وابن عدي في الكامل 2/ 273، و 3/ 457، والبيهقي في السنن الكبرى 10/ 209، والخطيب في شرف أصحاب الحديث ص 28 و 29 من مرسل إبراهيم العذري، ومن حديث عدد من الصحابة رضي الله عنهم. ونقل الخطيب تصحيحه عن الإمام أحمد، ونقل السخاوي في فتح المغيث 2/ 169عن عدد من الأئمة تضعيفه.

أخرى إنما هي قِيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به؛ فعَلِم وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) (¬1). قال العلماء في شرح هذا الحديث: إن حملة العلم نوعان: علماء نقل ورواية، وعلماء فقهاء، وليس المراد بالفقهاء أولئك المعنيون بأقوال من يتبعونه من الأئمة؛ فإن الغالب على هؤلاء التقليد؛ بل المراد الفقهاء الذين جمعوا بين معرفة النصوص والفقه والفهم والاستنباط. فقوله - صلى الله عليه وسلم -: (فكان منها طائفة طيبة قبِلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير) هذا مثل للعلماء الفقهاء. وقوله: (وكان منها أجادب أمسكت الماء) هذا مثل حفاظ السنة. ولهذا قال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما خطب بمنى: (فَلْيُبَلِّغْ الشاهدُ الغائِبَ فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعى من سامِع) (¬2) ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: (فذلك مثل من فَقُهَ في دين الله ونفعه ما بعثني الله به). أما من أعرض فمثله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (طائفة أخرى إنما هي قِيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأ) فلم تنتفع بهذا الغيث، ولهذا قال: (ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به). فيجب على سائر الأمة أن يعرفوا لهؤلاء العلماء فضلهم؛ لأنهم حملة هذا الدين، والقائمون به، فتجب محبتهم لعلمهم ودينهم وإيمانهم، والحب في الله واجب لجميع المسلمين، لكن يجب إنزال كل أحد منزله، الصحابة لهم منزلة، وحبهم هو من الحب في الله، ولكن يجب لهم من المحبة والتقدير والذكر الجميل ما ليس لغيرهم، وهكذا العلماء يستوجبون من المحبة والإجلال والذكر الجميل والثناء العاطر ما لا يستحقه من دونهم، وأصل الحب في الله تابع لمحبة الله، فمن كان ¬

(¬1) رواه البخاري (79)، ومسلم (2282). (¬2) رواه البخاري (1741)، ـ واللفظ له ـ ومسلم (1679)، من حديث أبي بكرة - رضي الله عنه -.

أقرب إلى الله وأقوم بدين الله، وأتقى لله كان له من المحبة والإكرام ما يليق بمقامه. وقد انقسم الناس في العلماء ثلاث أقسام: طرفان ووسط، فطائفة تغلوا في من تعظمه من العلماء؛ لأن لكل طائفة من المقلدين إماما ينتمون إليه، وهذا الغلو يتمثل بالتعصب لأقوالهم، وتقديمها على أقوال غيرهم؛ فالمتعصبون من المتمذهبين لا يعتبرون أقوال الأئمة الآخرين إنما يتمسكون بأقوال إمامهم الذي يقلدونه؛ بل ويَعْرِض نصوص الشرعية على قول إمامه فما وافقها قبله، وما خالفها تأوله، وتلمس له أنواع التفسير والتأويل؛ ليدفع معارضتها لقول الإمام، وهؤلاء مذمومون، ولهم شبه بمن قال الله فيهم: ((اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ)) [التوبة: 31]. ولهذا عَقَدَ الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ بابا في كتاب «التوحيد» عنوانه: «باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله» (¬1). ويقابل هؤلاء: مَن لا يعرف للعلماء قدرهم، ولا يعتبر أقوالهم، ولا ينظر فيما استنبطوه من نصوص الكتاب والسنة؛ بل يجعل نفسه ندًا لهم؛ بل يتنقصهم فيما يخالف هواه ورأيه، ويطعن عليهم فيما اجتهدوا فيه واستنبطوه من النصوص، وهذا قد حُرِم من الانتفاع بهم؛ لأنه متبع لهواه متعصب لرأيه، وإنما يأخذ من أقوال العلماء ما وافق رأيه. مثلما يفعل الآخرون في النصوص حين يأخذون منها ما يوافق آراءهم ومذاهبهم، فتجد أحدهم يستدل بالآية أو الحديث حين يوافق المذهب الذي مشى عليه، وما جاء من النصوص معارضا لمذهبه ورأيه دَفَعَه بكل وسيلة؛ إما بالتكذيب أو الرد، وإما بالتحريف الذي يسمونه تأويلا، كما تفعل طوائف المبتدعة، فهذا منهجهم في النصوص، وهو ¬

(¬1) ص 72.

منهج المتعصبين من أهل المذاهب بالنسبة لما خالف مذهبهم. فهذان فريقان على طرفي نقيض: المتعصبون للأئمة المقدمون لأقوالهم على كتاب الله وسنة رسوله، والمتنقصون المستخفون بأهل العلم من السلف الصالح ومن سار على منهجهم وطريقتهم، وبين ذلك القول الوسط، وهو الذي عبَّر عنه الإمام الطحاوي وقصد إليه، وهو الاعتراف بفضل العلماء، وإنزال كل منزلته، والانتفاع بعلومهم وفهومهم، فمن كان قاصرا عن فهم الأدلة؛ فليس له إلا أن يقلد من يثق بعلمه ودينه من أهل العلم. لكن الشأن في من يقدر على فهم النصوص؛ فهذا عليه أن ينتفع بفهم العلماء، ويرجع إلى أقوالهم، ولا يقصر نفسه على معين يقلده ولا يخرج عن أقواله ولا يلتفت إلى أقوال غيره، لا؛ بل عليه أن يستفيد من كل الأئمة، ويأخذ من أقوالهم ما تشهد له الأدلة من الكتاب والسنة، فأقوال الأئمة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما دل عليه الدليل من الكتاب والسنة فهذا واجب الإتباع؛ لأنه يستند إلى الأصل الصحيح مهما كان قائله منهم. والثاني: ما خالف الدليل فيجب تركه، وهذا ما أوصى به الأئمةُ المتْبُوعُون تلاميذهم (¬1). والثالث: أقوال لم تظهر مخالفتها للأدلة، ولا موافقتها لها، فهذه يقول فيها المحققون: إنها سائغة الإتباع، لا واجبة الإتباع ولا ممنوعة الإتباع؛ لأنها موضع اجتهاد. ومما يجب اعتقاده أن هؤلاء العلماء ليسوا معصومين، فلهذا يصيبون تارة ويخطئون أخرى. ولكن الأئمة المعروفون يجب اعتقاد أنهم لا يتعمدون مخالفة ¬

(¬1) انظر: آداب الشافعي ومناقبه ص 93، ومختصر المؤمل ص 88، وإعلام الموقعين 2/ 200.

الدليل حاشاهم من ذلك، ومن ظن ذلك فهو متجن عليهم ومسيء للظن بهم، فإذا ثبت عن أحدهم أنه خالف دليلا من كتاب أو سنة، فيجب الاعتذار عنه بما يمكن. وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة صغيرة اسمها: «رفع الملام عن الأئمة الأعلام» (¬1)، وذكر أعذار العلماء في مخالفة بعضهم لبعض الأدلة، وأهمها: عدم بلوغ الدليل، فقد يخالف الدليل؛ لأنه لم يبلغه. أو بلغه من طريق ضعيف، فيعتقد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقله. أو بلغه وصح عنده لكنه لا يعتقد أن المراد به هذا الحكم؛ فيفهمه فهما قد يكون خلاف ما يقتضيه ظاهره، فيكون متأولا للحديث باجتهاد لا عن هوى. أو يعرض له ما يجعله يظن أنه منسوخ. فهذه أهم الأعذار التي يعتذر بها عن العلماء إذا خالف أحدهم دليلا من كتاب أو سنة. ومعروف أن مخالفة الآية لا تكون إلا بتأول؛ لأن القرآن قطعي الثبوت. وقوله: (ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل) قال تعالى: ((وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)) [النساء: 115]. فهذا وعيد لمن انحرف عن سبيل أهل العلم والدين، وهذه الآية قد استدل بها الشافعي على حجية الإجماع (¬2)، فمن عدل عن سبيل ما أجمع عليه المؤمنون؛ فإنه متوعد بهذا الوعيد. ¬

(¬1) مطبوعة مفردة مرارا، وضمن مجموع الفتاوى 20/ 231 - 290. (¬2) تقدم توثيقه في ص 274.

قال الشارح ابن أبي العز (¬1) في معرض ثنائه على العلماء وأن الله: «جعلهم بمنزلة النجوم يهدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم - علماؤها شرارها إلا المسلمين؛ فإن علماءهم خيارهم؛ فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته». وهذه المقولة ليست مستقيمة عندي؛ فالأمم الماضية كبني إسرائيل فيهم العلماء المهديون المهتدون، قال تعالى: ((وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ)) [السجدة: 24]، ((وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)) [الأعراف: 159]، وكذلك بالعكس فهذه الأمة فيهم العلماء المهديون المهتدون المقتدى بهم الذين يصدق عليهم ما جاء من الثناء على أهل العلم وأنهم ورثة الأنبياء، وفيهم علماء السوء؛ مثل أئمة أهل البدع؛ فإنهم ليس لهم حظ من الثناء الذي جاء في الكتاب والسنة للعلماء، فهذه الأمة فيها فرق ضالة، فلو خص هذا بعلماء أهل السنة فنعم، أما على الإطلاق أن علماء المسلمين هم خيارهم فلا يصح، ولاشك أن العلماء المعنيون الذين اقتفوا آثار نبيهم وآثار أصحابه هم خير هذه الأمة بعد الصحابة رضي الله عنهم. فينبغي أن نتواصى بتحصيل المزيد من علم الكتاب والسنة، ومهما بلغ الإنسان من التحصيل والعلم؛ فإنه لا يزال يطلب العلم والفائدة ويسأل العلماء، والعلماء يسأل بعضهم بعضا، ويرجع بعضهم لبعض كما كان يفعل الأئمة الكبار في صدر هذه الأمة. وينبغي للمسلم أن يكون متواضعا لا يأنف عن أن يستفيد ممن فوقه، أو مثله، أو دونه، فقد يجد الفائدة عند من هو دونه في العلم وفي ¬

(¬1) ص 741، وهو منقول من كلام شيخ الإسلام في أول رسالته "رفع الملام" ص 232، وذكر في الإيمان الكبير ص 284: أن أصل الكلمة للشعبي ثم بَين سبب ذلك.

السن، كما كان الأئمة يفعلون ذلك، فالحق والعلم ضالة المؤمن، فأين وجدها قبلها وأخذها. ويجب التعويل في تحصيل العلم على الكتب الموثوقة، ككتب السلف الصالح، والعلماء المعروفين الموثوقين، فإن الكتب والمؤلفات كثيرة ومتنوعة، ودخلتها أفكار ومذاهب بدعية، فيجب على طالب العلم أن يكون عنده أصل يميز به بين النافع والضار والحق والباطل، فإن المذاهب البدعية دخلت في كثير من كتب التفسير وشروح الحديث، وفي سائر المصنفات. فينبغي لطالب العلم أن يجتهد ويتحرى الكتب الموثوقة، كتب الأئمة المشهورين بالعلم والدين والتحقيق والأصالة والسلفية، كما أن عليه أيضا أن يستفيد ويرجع إلى من يثق بعلمه ودينه، وبتحريه للحق، وطريق السلف الصالح.

[مرتبة الولاية دون النبوة]

[مرتبة الولاية دون النبوة] قوله: (ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نَبِيٌ واحدٌ أفضل من جميع الأولياء). هذا رد على ملاحدة الصوفية، ومنهم الاتحادية أصحاب وحدة الوجود الذين شيخهم الضال الملحد ابن عربي صاحب المقالات الكفرية في كتبه المشهورة المعروفة كـ «الفتوحات المكية» و «فصوص الحِكم» (¬1)، فإن من ضلالاته التي تضمنتها كتبه قوله: إن الولي أفضل من النبي، وعنده أن المراتب ترتب هكذا: الولاية أعلاها، ودونها النبوة ودونها الرسالة، وذكروا عنه بيتا: مقام النبوة في برزخ * فويق الرسول ودون الولي (¬2). إذًا؛ أدنى هذا المراتب بزعمه الرسالة، وأعلاها الولاية، ومن أقواله الباطلة: إن النبوة ختمت ـ وهذا حق ـ والولاية لم تختم! صحيح أن الأولياء لا يزالون في هذه الأمة لكنه يزعم أنه هو خاتم الأولياء! وبناءً على ما تقدم من زعمه: أن الولي أفضل من النبي؛ فخاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء! ما أعظمها من فرية! وما أجرأ هذا الملحد على الأقوال الباطلة المناقضة للشرع والعقل! ¬

(¬1) طبعا مرارا حسبنا الله على من طبعها. (¬2) مجموع الفتاوى 2/ 221، ومنهاج السنة 5/ 336، وذكر محققه الدكتور محمد ر شاد سالم أنه لم يجد هذا البيت في كتب ابن عربي ووجد في كتابه «لطائف الأسرار»: سماء النبوة في برزخ ... دوين الولي وفوق الرسول.

يزعم أن للأولياء خاتما، وليس للأولياء خاتم معين يقال: فلان هو خاتم الأولياء كما نقول: خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -، لكن خاتم الأولياء هو آخر من يخلقه الله من أوليائه، لكنه ليس معروفا على وجه التعيين. ويزعم أنه تابع في الشرع الظاهر للنبي - صلى الله عليه وسلم - وغير تابع له في العلم الباطن؛ فإنه بزعمه يأخذ من المعدن الذي يأخذه منه الملَك! وهل هناك معدن يأخذ منه؟! فإن عنده الوجود كله شيء واحد وعين واحدة، فوجود كل موجود هو عين رب الوجود سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والملحدون علوا كبيرا. وذكر الشارح ابن أبي العز «وقال ابن عربي في فصوصه: ولما مثل النبي - صلى الله عليه وسلم - النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة فكان هو - صلى الله عليه وسلم - موضع اللبنة، وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية فيرى ما مثله النبي - صلى الله عليه وسلم - ويرى نفسه في الحائط في موضع لبنتين! ويرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكمل الحائط! والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين: أن الحائط لبنة من فضة ولبنة من ذهب، واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو أخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلا بد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن! فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملَك الذي يوحى إليه إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: فإن فهمت ما أشرنا إليه، فقد حصل لك العلم النافع! فمن أكفر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب، وللرسول المثل بلبنة فضة، فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسل؟! تلك أمانيهم: {إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] وكيف يخفى كفر من هذا كلامه؟» (¬1). ¬

(¬1) ص 744.

فلهذا يقول الطحاوي ـ رحمه الله ـ: (ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نَبِيٌ واحدٌ أفضل من جميع الأولياء). والنبي والولي والرسول بين هذه المراتب الثلاثة عموم وخصوص، فكلُ رسولٍ نبيٌ، وكلُ نبيٍ وليٌ، فالرسل هم أفضل الأنبياء، وهم جميعا أفضل الأولياء، وليس كل ولي نبيا، والله تعالى قد قال: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)) [يونس: 62 - 63] فهذا هو تعريف الولي: كل مؤمن تقي؛ فهو ولي ـ وأما تعريف النبي والرسول فقد تقدم (¬1) ـ، وهذا وصف ينطبق على الأنبياء بما فيهم الرسل، وينطبق على الصديقين والشهداء والصالحين، وهذه الآية لا نقول: إنها في خصوص الولي الذي ليس بنبي، لا؛ بل هي عامة ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [يونس: 62] وأولى الناس بهذا الوصف هم النبيون والمرسلون. فالنبوة والرسالة تستلزم الولاية، ومطلق الولاية لا تستلزم النبوة والرسالة؛ لأنه ليس كل من يكون وليا لله يكون نبيا، فإذا قلنا: الولي: كل مؤمن تقي؛ فإن ذلك يعم الأنبياء والمرسلين وغيرهم، لكن إذا قلنا: الرسول والنبي والولي؛ فإنا نريد بالولي: كل مؤمن تقي سوى النبيين والمرسلين. إذًا؛ فالولي في عبارة الطحاوي: (ولا نفضل أحدا من الأولياء على أحد من الأنبياء) من غير الأنبياء. وتقدم (¬2) أن أولياء الله طبقتان: مقتصدون وسابقون، أو نقول: مقربون وأصحاب يمين، كما ذكر الله ذلك في مواضع من القرآن: ((فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ ¬

(¬1) ص 87. (¬2) ص 237.

مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ)) [الواقعة: 88 - 91] وهكذا في أول السورة، وفي سورة الإنسان: ((إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا)) [الإنسان: 5 - 6]، وهكذا في سورة المطففين ذكر الله هذا التصنيف للأولياء: ((إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ ـ إلى قوله ـ: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ * وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ)) [المطففين: 22 - 28] (¬1). ¬

(¬1) انظر: طريق الهجرتين 1/ 420.

[منهج أهل السنة في كرامات الأولياء]

[منهج أهل السنة في كرامات الأولياء] وقوله: (ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم). أي: أن أهل السنة يؤمنون بما جاء في الكتاب والسنة والأخبار من كرامات الأولياء، وما صح عن الثقات في ذلك من رواياتهم. والكرامات: يراد بها الأمر الخارق للعادة، والله تعالى يكرم أولياؤه بأنواع الكرامات، ومن ذلك خوارق العادات، فيجري الله على يد من شاء من أوليائه بعض الأمور الخارقة للسنن الكونية، والعادة التي أجراها الله في هذا الوجود؛ فإن هذا الوجود يجري على السنن، وهذا بالنسبة لكرامات الأولياء، وكذلك بالنسبة لمعجزات الأنبياء حسب الاصطلاح المشهور. ومعنى المعجزة في اللغة يعم كل خارق سواء كان على يد نبيٍّ أو على يد وليٍّ، فكل خارق؛ فهو معجز لمن لم يجره الله على يده، مما لا يدخل في قدرة العبد بحكم العادة. ولكن خوارق الأنبياء وهي دلائل على نبوتهم ورسالاتهم اسمها الشرعي: البينات والآيات والبراهين، كما ذكر الله ذلك في كتابه في مواضع: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ)) [الحديد: 25]، ويقول تعالى في شأن موسى: ((فِي تِسْعِ آيَاتٍ)) [النمل: 12] ((فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ)) [القصص: 32]. ولكن في اصطلاح المتكلمين خوارق الأنبياء يسمونها معجزات، حتى إن المعتزلة يقولون: إن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة، فقصروا

ما تثبت به النبوة على المعجزة، وهي الأمر الخارق للعادات، ونتج عن قولهم ذلك ـ مع بطلانه وتقدم تفنيده (¬1) ـ نفي كرامات الأولياء، فقالوا: لا يجوز خرق العادة إلا لنبي؛ لأنه لو خرقت العادة لغير نبي لالتبس على الناس أمر النبي بالولي، فلا يحصل التمييز. وأجيب عن هذه الشبهة: بأن الولي الذي تحصل على يديه الكرامة، وهي: الأمر الخارق للعادات لا يدعي النبوة إذ لو ادعى النبوة لم يكن وليا، ولم يكن ما جرى على يده كرامة؛ بل هو مَخْرَقة وفتنة. فلهذا كان من المسائل التي ينبه عليها أنها من مذهب أهل السنة: إثبات كرامات الأولياء، والمقصود: إثبات جنس الكرامات؛ لأنه ليس كل ما يذكر يكون ثابتا، ويجب التسليم به. فما يروى ويذكر من كرامات الأولياء منها ما هو ثابت في القرآن أو في السنة أو في أخبار صحيحة، ومنه ما يروى ولم تحقق صحته ولا كذبه؛ فهذا لا يلزم التصديق به، كما لا يجوز نفيه بغير حجة. ومن كرامات الأولياء التي في القرآن ما في قصة مريم وولادتها لعيسى عليه السلام؛ فإن ولادتها لعيسى بلا أب خارق للعادات. ومن كرامات الأولياء التي في القرآن ما جاء في قصة أصحاب الكهف حيث بقوا في كهفهم مدة طويلة، قال تعالى: ((وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)) [الكهف: 25] بقوا في كهفهم يقلبهم ربهم: ((وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ)) [الكهف: 18] وعاشوا هذه المدة الطويلة، بلا طعام ولا شراب، وبعد ذلك يستيقظون ويتحدثون ولم يشعروا بما جرى لهم ((قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)) [الكهف: 19]. وجماع صفات الكمال: الغنى والعلم والقدرة، ويستشهد لهذا بأن الله تعالى أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - ألا يدعي شيئا منها إلا ما أعطاه الله: ¬

(¬1) ص 88.

((قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إلي)) [الأنعام: 50]، وهكذا قال نوح لقومه: ((وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ)) [هود: 31]. فأول الرسل وآخرهم تبرءوا من دعوى هذه الأمور إلا ما أعطاهم الله منها، والمقصود من ذكر هذا المعنى: بيان أن خوارق العادات مدارها على هذه الثلاث: إما أن ترجع إلى القدرة والتأثير، أو العلم، أو الغنى. وتسمى الخوارق العلمية المتعلقة بالعلم: الخوارق الكشفية؛ لأن خرق العادة بعِلْمِ أمرٍ مستورٍ هو كشف لغائب. وهذه المعاني ترجع إلى كل الخوارق سواء كانت على يد أنبياء أو أولياء فمثلا: عصا موسى ترجع إلى القدرة والتأثير، وكذلك فلق البحر يرجع للقدرة والتأثير. ما ذكر الله عن أصحاب الكهف يرجع إلى الغنى؛ لأن الله أغناهم عن الطعام والشراب تلك المدة الطويلة، وكلما يخبر به الأنبياء من أمور غائبة هو من الخوارق العلمية، وهكذا دلائل نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - راجعة إلى هذه، فقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - بأمور مستقبلة غائبة لا تزال تظهر بين حين وآخر، فهي من أعلام نبوته - صلى الله عليه وسلم -. وذكر شيخ الإسلام: أن «عدم الخوارق علما وقدرة لا تضر المسلم في دينه، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخر له شيء من الكونيات لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله؛ بل قد يكون عدم ذلك أنفع له في دينه» (¬1)، لذا لا يستدل بعدم حصول كرامة على عدم الولاية، كما لا يستدل بحصول خارق على الولاية؛ بل ضابطها: الإيمان والتقوى، كما قال تعالى: ((أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)) [يونس: 62]. ¬

(¬1) مجموع الفتاوى 11/ 323.

فإن الخوارق قد تجري في الظاهر على يدي الكهان والسحرة، وهي: مخاريق، وأكاذيب، ولهذا جاء عن بعض السلف أنه قال: «لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرفع في الهواء؛ فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود، وأداء الشريعة» (¬1). فلا تغتر بمن حصل له شيء من ذلك حتى تعرض حاله وعمله على الكتاب والسنة؛ فإن الشياطين قد تحمل أولياءهم حتى يظن أنه يسير في الماء أو يطير في الهوى، وإنما حمله الشيطان ووضع له ما يسير عليه في الماء. والكرامة قد تكون لحاجة العبد، فيخرق الله العادة لحاجته، وقد تكون لإقامة الحجة، وكل كرامة وخارق للعادة على يدي ولي؛ فإنه دليل على نبوة مَن هذا الولي تابع لشريعته. من خوارق العادات التي جرت على يد بعض الأنبياء ـ وتسمى: المعجزات ـ ما جرى لخليل الله إبراهيم عليه السلام عندما ألقي في النار فصارت عليه بردا وسلاما، حين قال الله لها: ((يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)) [الأنبياء: 69] فهل استحالت النار وصارت روضة بحيث لو دخلها غيره لم تضره؟ لا؛ بل هي على إبراهيم عليه السلام فقط. وهذا دليل على نبوته - صلى الله عليه وسلم -، فخرق العادة لإبراهيم هو للحاجة والحجة، للحاجة؛ لأنه ألقي فيها، فهو محتاج إلى أن ينجيه الله من النار، فنجاه الله منها، ((فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ)) [العنكبوت: 24] وللحجة؛ لأن هذا دليل على صدق نبوته حيث نجاه الله من النار. ¬

(¬1) قاله أبو يزيد البسطامي. حلية الأولياء 10/ 40، ونحوه عن الإمامين الليث بن سعد والشافعي كما في آداب الشافعي ومناقبه ص 184، وانظر: ومجموع الفتاوى 11/ 466، والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان 11/ 173.

وقد يدعي بعض الدجاجلة أنه يدخل النار ولا تحرقه! وحدث هذا في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية فتحداهم في مناظرة كبيرة بحضور الأمراء والعلماء والعامة وقال: «أنا أخاطب كل أحمدي من مشرق الأرض إلى مغربها: أي شيء فعلوه في النار؛ فأنا أصنع مثل ما تصنعون! ومَن احترق فهو مغلوب، وربما قلت: فعليه لعنة الله، ولكن بعد أن نغسل جسومنا بالخل والماء الحار، فسألني الأمراء والناس عن ذلك؟ فقلت: لأن لهم حيلا في الاتصال بالنار يصنعونها من أشياء: من دهن الضفادع، وقشر النارنج، وحجر الطلق» فبهتوا ولم يفعلوا، فقال الناس: «فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين» (¬1). ولعل هذا القدر مما يتعلق بالكرامات يكفي، وتقدم أنه: إنما يجب الإيمان بجنس الكرامات، ويجب الإيمان بما صح؛ مما جاء في القرآن أو جاء في السنة أو في أخبار صحيحة. وقد نقل الشارح ابن أبي العز في هذا الموضع (¬2) كلاما كثيرا، وكلامه قد غَرَفَه من بحر شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فإنه شرح غالب العقيدة الطحاوية بكلام الإمامين شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وشيء من كلام غيرهما ـ رحمهم الله جميعا ـ. ¬

(¬1) انظر أحداث القصة وتفصيلها في مجموع الفتاوى 11/ 445 - 475. (¬2) ص 742 - 754.

[أشراط الساعة الكبرى]

[أشراط الساعة الكبرى] وقوله: (ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها). أشراط الساعة: علاماتها، قال سبحانه وتعالى: ((فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا)) [محمد: 18] أي: جاءت علاماتها، ومجيء أشراطها مؤذن باقترابها، والله تعالى قد نبه إلى قرب الساعة في مواضع من القرآن: ((اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)) [القمر: 1] ((وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا)) [الأحزاب: 63] ((اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ)) [الأنبياء: 1]. وأشراط الساعة كثيرة، أولها: مبعث محمد - صلى الله عليه وسلم -، فإنه خاتم النبيين، وخَتْمُ النبوة مؤذن باقتراب نهاية الدنيا، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمور كثيرة مما يكون بعده، وأهل العلم يعدون كل ما أخبر به - صلى الله عليه وسلم - مما يكون بعده من أشراط الساعة. ومن ذلك ما جاء في حديث جبريل عليه السلام حيث قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: «أخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل! قال: فأخبرني عن أمارتها؟ قال: أنْ تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رِعاءَ الشاءِ يتطاولون في البنيان» (¬1). فهذه بعض العلامات، وعلامات الساعة وأشراطها كثيرة، جاءت ¬

(¬1) تقدم تخريجه في ص 201.

في عدد من الأحاديث من ذلك، حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: «أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال: اعدد ستا بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مَوْتان يأخذ فيكم كَقُعَاصِ الغنم، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطا، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا» (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (كقعاص الغنم) هو مرض يهلك الدواب، والمراد: موت عام يهلك به خلق كثير، و (بني الأصفر) أي: الروم. وهذه العلامات منها ما وقع؛ كموته - صلى الله عليه وسلم -، وفتح بيت المقدس، واستفاضة المال، ومنها ما لم يقع. وفي الصحيح عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها؛ فالأخرى على إثرها قريبا» (¬2). وفي حديث حذيفة بن أسيد - رضي الله عنه - قال: «اطلع النبي - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات؛ فذكر الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم - صلى الله عليه وسلم -، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك: نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم» (¬3). وهذه يسميها العلماء علامات الساعة الكبرى؛ لأن هذه الأحداث تكون قرب قيام الساعة، وقرب الساعة الذي ذكره الله ليس مقدرا بزمن، ¬

(¬1) رواه البخاري (3176). (¬2) رواه مسلم (2941). (¬3) رواه مسلم (2901).

ولا يمكن لأحد أن يتخيل قدره، فقد يخطر ببال الناس في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعده: إن الساعة بعد مائة أو مائتين أو ثلاثمائة سنة، ولكن مضى الآن أربعة عشر قرنا من الزمن، ولا ندري ماذا بقي؛ فإن موعد قيام الساعة من الخمس التي استأثر الله بعلمها، فلا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل: ((ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً)) [الأعراف: 187]. ونص الإمام الطحاوي على أربع من هذه العلامات العشر: الدجال، ونزول المسيح، طلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض، وهذه العلامات منها ما ذكر في القرآن نصا أو إشارة، فأما خروج الدابة، فقد قال تعالى: ((وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ)) [النمل: 82]. وأما طلوع الشمس من مغربها فقد أشير إليها في قوله سبحانه: ((يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)) [الأنعام: 158]. وثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا» (¬1). فهذا الحديث تفسير للبعض الذي في الآية وهو: طلوع الشمس من مغربها. وهكذا نزول المسيح فقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «والذي نفسي بيده ليوشكنَّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا؛ فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد» (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (4635)، ومسلم (157) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -. (¬2) رواه البخاري (2222)، ومسلم (155) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

ونزوله عيسى عليه السلام أشير إليه في القرآن، كما جاء في تفسير قوله تعالى: ((وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا)) [الزخرف: 61] ... (¬1) وقرئ: (وإنه لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا) (¬2). أما الدجال فلم يأت له ذكر في القرآن، وإنما تواترت بالإخبار عنه سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - (¬3). منها أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنذر أمته المسيح الدجال فقال - صلى الله عليه وسلم -: «ما بعث الله من نبيٍّ إلا أنذر قومه الأعور الكذاب، إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، مكتوب بين عينيه كافر» (¬4). ومنها الدعاء الذي أرشدنا - صلى الله عليه وسلم - لقوله في كل صلاة فقال: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر؛ فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال» (¬5). والإمام الطحاوي نص على هذه الأربعة؛ لأنها أمور عظيمة ومشتملة على خرق العادة. وبين نزول المسيح وخروج الدجال تناسب؛ لأنهما حدثان في زمن متقارب، والمسيحُ ابن مريم مسيحُ الهدى يقتلُ المسيحَ الدجال مسيحَ الضلالة. المقصود: أن أهل السنة يؤمنون بهذه الأمور الخارقة للعادة، فطلوع الشمس من مغربها أمر خارق للعادة، فمنذ خلق الله الشمس ¬

(¬1) تفسير الطبري 20/ 631، والجامع لأحكام القرآن 19/ 69، وابن كثير 7/ 236، وأضواء البيان 7/ 280. (¬2) هذه قراءة شاذة، رويت عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، وعن غيرهم كالأعمش. انظر: الجامع لأحكام القران 19/ 70، والبحر المحيط 8/ 26، وإتحاف فضلاء البشر ص 496. (¬3) نظم المتناثر ص 240. (¬4) رواه البخاري (7408)، ومسلم (2933) من حديث أنس - رضي الله عنه -. (¬5) تقدم تخريجه في ص 296.

وأجراها وهي تأتي من المشرق وتذهب للمغرب، وفي طلوعها من المغرب خرق لهذه العادة، وهكذا خروج دابة الأرض التي تكلم الناس حدث عظيم وهو خارق للعادة، وخروج الدجال بما معه من خوارق حقيقية يجريها الله على يده فتنة وابتلاءً، ولهذا كانت فتنته أعظم فتنة، فقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن الدجال إنه: «يأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت» وأنه «يمر بالخَرِبة فيقول لها: أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها» وأنه «يدعو رجلا ممتلئا شبابا، فيضربه بالسيف، فيقطعه جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَض، ثم يدعوه فيقبل، ويتهلل وجهه يضحك» (¬1). هذه كلها أحداث عظيمة، وأهل السنة يؤمنون بذلك كله تصديقا لخبر الصادق المَصْدُوق - صلى الله عليه وسلم -، أما الذين يحكمون عقولهم؛ فإنهم يستبعدون ذلك كله؛ فإما أن يكذبوا به، أو يتأولوه بأنواع التأويل، وليس هذا من أهل الضلال بغريب. والعلم بأن هذا من أشراط الساعة ينبني على العلم بما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والعلم بالواقع، فقد يكون الإنسان قد عرف أن من أشراط الساعة كذا وكذا، ولكنه لم يعلم بوقوعه، فكم من أشراط الساعة وعلاماتها وأحداث الزمان مما حدث وكثير من الناس غافل عنه؟! فأشراط الساعة منها ما حدث وانقضى، ومنها ما سيحدث، ومنها ما حدث ويتكرر، ومنها العلامات الكبرى المذكورة في حديث حذيفة بن أسيد الذي تقدم (¬2). ¬

(¬1) رواه مسلم (2137) من حديث النواس بن سَمعان رضي الله عنهما. (¬2) ص 400.

[وجوب الحذر من تصديق الكهان والعرافين ونحوهم من المخالفين]

[وجوب الحذر من تصديق الكهان والعرافين ونحوهم من المخالفين] وقوله: (ولا نصدق «كاهنا» ولا «عرافا» ولا من يدعي شيئا يخالف «الكتاب» و «السنة» و «إجماع الأمة»). أي: نحن أهل السنة المتبعون لمنهج السلف الصالح لا نصدق «كاهنا» ولا «عرافا» طاعة لله ورسوله؛ فإن الكهان والعرافين والمنجمين من أكذب الكذابين، قال تعالى: ((هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ)) [الشعراء: 221 - 223]. وجاء في السنة التحذير من تصديق الكاهن والعراف، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم -» (¬1). وعن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أتى عَرَّافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» (¬2). والعراف والكاهن معناهما متقارب، ومن العلماء من يفرق بين الكاهن والعراف، فيقول: «العراف: هو الذي يدعي معرفة الأمور ¬

(¬1) رواه أحمد 2/ 429، وصححه الحاكم 1/ 8 والذهبي في الكبائر ص 329، والعراقي في الأمالي على المستدرك ـ كما في فيض القدير 6/ 30 ـ من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، وله طرق وشواهد كثيرة، انظر: فتح الباري 10/ 217، وإرواء الغليل 7/ 68. (¬2) رواه مسلم (2230).

بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها كالمسروق ... ومعرفة مكان الضالة» (¬1). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والعراف قد قيل: إنه اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في تقدم المعرفة بهذه الطرق، ولو قيل: إنه في اللغة اسم لبعض هذه الأنواع؛ فسائرها يدخل فيه بطريق العموم المعنوي» (¬2). إذًا؛ العراف أعم من الكاهن، فالكاهن عراف، والمنجم عراف، والرمال الذي يضرب بالحصى ويخط بالأرض عراف؛ لأن عراف صيغة مبالغة من المعرفة، فيكون عطف العراف على الكاهن في كلام الطحاوي من عطف العام على الخاص. فهؤلاء الكذابون لا يجوز سؤالهم مطلقا؛ فإن سؤالهم ينبئ عن الاعتراف بهم، ويجر إلى تصديقهم، وكيف يسألون وهم يدَّعون العلم بمغيبات، والله تعالى قد تفرد بعلم الغيب كما قال تعالى: ((قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)) [النمل: 65]. فالكهانُ والمنجمون والرمَّالون من المفسدين في الأرض، ومن أشرار الخلق الذين يضلون الناس بما يدَّعون، فيجب على ولاة الأمر أن يمنعوهم من إظهار منكرهم، وأن يضربوا على أيديهم عملا بقوله تعالى: ((وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ)) [آل عمران: 104] فلا يجوز إقرارهم، ويجب على المسلمين أن يحذروا من سؤالهم. والمنجم هو الذي ينظر في النجوم ويستدل باجتماعها وافتراقها وبما يحدث عند طلوعها ويستدل بذلك على ما يحدث في الأرض؛ فمنهم من يفعل ذلك دجلا، ومنهم من يعتقد أن للنجوم تأثيرا فيما يحدث في الأرض من خير وشر، وما يحصل للأفراد من أحوال، فيضلون الناس ويوهمونهم، ¬

(¬1) قاله البغوي في شرح السنة 12/ 182. (¬2) مجموع الفتاوى 35/ 173.

بما عندهم من قواعد ومصطلحات: أنَّ من يولد في النجم الفلاني يحصل له كذا، من السعْد أوالنحس! وهذا تخرص وكذب؛ فالنجوم جعلها الله لثلاثة أشياء، كما قال قتادة ـ رحمه الله ـ: «خلق هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها؛ فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به» (¬1). والتنجيم ضرب من السحر، كما في حديث ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من اقتبسَ عِلمًا من النجومِ اقتبس شُعْبة من السحر زادَ ما زاد» (¬2). وأما الكاهن فهو الذي تخبره الشياطين بالأخبار، سواءً من أخبار الأرض التي يطلعون عليها، أو مما يسترقون من السمع، قال الله تعالى: ((وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)) [الملك: 5] وقال تعالى: ((وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ)) [الحجر: 16 - 18]. وفي الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خُضْعَانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا {فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا} للذي قال: {الحق وهو العلي الكبير} فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ـ ووصف سفيان بكفه فحرفها وبدَّد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة، فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهابُ قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: ¬

(¬1) رواه البخاري 4/ 107 مُعلقًا بصيغة الجزم، والطبري في تفسيره 14/ 193. (¬2) رواه أحمد 1/ 227، وأبو داود (3905)، وابن ماجه (3726)، وصححه النووي في رياض الصالحين (1671)، والعراقي في المغني 4/ 181.

أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فَيُصَدَّقُ بتلك الكلمة التي سُمِعَت من السماء» (¬1). والمقصود: أن مما يجب على المسلمين الحذر من تصديق هؤلاء ومن إقرارهم على ما يدعونه؛ بل يجب الإنكار عليهم، ومنعهم وكف شرهم، ومنع ذهاب الناس إليهم، وقد كثروا في هذا العصر، لكنهم إنما يكثرون في المواضع التي يغلب فيها الجهل وضعف الدين، فإذا غلب الجهل على الناس وضعف دينهم كثرت الشرور، وراج الباطل على الناس كما هو الواقع. أما إذا ظهر العلم الشرعي وقوي سلطان الحق؛ اختفت هذه الشرور؛ لأن العلم يكشفها ويفضحها، وسلطان الحق يقمعها. وقوله: (ولا من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة). أي: ونحن أهل السنة لا نصدق من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ بل كل من أدعى من يخالف كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجب الرد والإنكار عليه، وهذا يتناول ما يدعيه المتصوفة من الأحوال والقدرة والكشوف والدعاوى العريضة، كدعوى بعضهم أنه يسعه التدين بغير هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! والإيمان بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - يستلزم رد كلما خالف ذلك، فلهذا قال الطحاوي: (ولا نصدق كاهنا ولا عرافا، ولا من يدعي شيئا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة). ¬

(¬1) رواه البخاري (4800).

[من منهج أهل السنة لزوم الجماعة والحذر من الفرقة]

[من منهج أهل السنة لزوم الجماعة والحذر من الفرقة] وقوله: (ونرى الجماعة حقا وصوابا، والفُرقة زيغا وعذابا). من منهج أهل السنة والجماعة لزوم الجماعة، والحذر من التفرق في الدين؛ لأن الله تعالى أمر عباده بالاجتماع، ونهاهم عن الافتراق، قال تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}، وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}، وقال تعالى: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}. لهذا قال الطحاوي: (ونرى الجماعة حقا وصوابا) الجماعة؛ الاجتماع على الحق، نراه حقا وصوابا، ونرى أن الفُرقةَ شر وعذاب وزيغ عن الصراط؛ فإن الناس إذا تفرقوا تنافروا، وتعادَوا، وساءت أحوالهم الدينيةِ والدنيوية، وبغى بعضهم على بعض، وكما دل القرآن على ذلك، دلت سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد استفاضت الأحاديث في لزوم الجماعة، والتحذير من الفُرقة، ولكن قد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن هذه الأمة ستفترق، فالفرقة واقعة؛ وإخباره بوقوع الشيء لا يدل على أنه صواب؛ بل هو - صلى الله عليه وسلم - يخبر به إخبار المحذِّر، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا

عليه اليوم، وأصحابي» (¬1) وفي لفظ: «وهي الجماعة» (1). فنبه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن سائر الفِرق متعرضة للعذاب، وأن الناجي فرقةٌ واحدة، ولهذا عُرف أهل السنة بـ «الفِرقة الناجية» أخذا من هذا الحديث. فيجب على أهل السنة أن يحذروا من مشابهة أهل البدع الذين خالفوا الكتاب، وتفرقوا في دينهم، وابتدعوا ما لم يشرع الله من البدع الاعتقادية أو العملية. فالخير في الاجتماع على الحق، والشر في التفرق في الدين؛ لأن التفرق اتباع للهوى، ولهذا يعرف أهل البدع بأهل الأهواء؛ لأن كل فرقة متبعة لهواها الذي أصَّله شيوخها ومتبوعوها، فكل فرقة لها إمام تقلِّدُه دينَها. وذكر شيخ الإسلام ابن تيميَّة: «أن الاختلاف الواقع بين الناس نوعان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد؛ فاختلاف التنوع في الحقيقة ليس من الاختلاف، ولهذا اسمه تنوع. ولكن المختلفين اختلاف تنوع إنما يُؤتَوْن من بغي بعضهم على بعض، والواجب في المختلفين اختلاف التنوع، أن يُقِرَّ بعضهم بعضا؛ كالاختلاف في القراءات، وأنواع الأذان، والاستفتاحات والتشهدات، وما أشبه ذلك؛ لأنهم مصيبون جميعا. وأما اختلاف التضاد، فقد يكون الصواب في أحد الجانبين، وقد يكونون جميعا على الباطل، كاختلاف ملل الكفر، وأهل البدع، فكلهم مخطئ، كما قال سبحانه: {وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد}، فالمختلفون اختلاف تضاد قد يكونون مذمومين كلهم، كاختلاف أهل الباطل في باطلهم، وقد يكون أحد المختلفين محمودا ¬

(¬1) تقدم تخريجه في ص 274.

والآخر مذموما، كالاختلاف بين المخطئ والمصيب، كما قال سبحانه وتعالى: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا فمنهم من آمن، ومنهم من كفر}، فالاختلاف بين المؤمنين والكفار اختلاف تضاد، والحق والصواب في جانب المؤمنين. وأما اختلاف التضاد الذي يكون بين علماء الأمة؛ فالحق أن المصيب من المجتهدين واحد، لكن المخطئ مأجور على اجتهاده كما في الحديث المشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا حكم الحاكم فاجتهد، ثم أصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، ثم أخطأ فله أجر» (¬1)، فكلهم محمود؛ المصيب منهم والمخطئ؛ لأنهم مجتهدون، طالبون للحق، محمودون على اجتهادهم، ولكنَّ الله تعالى يوفق من شاء للصواب، كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن النبيين داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ فقال: {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين، ففهمناها سليمان، وكلاً آتينا حكماً وعلماً}، فشهد لهما جميعا، بالحكم والعلم» (¬2). ¬

(¬1) رواه البخاري (7352)، ومسلم (1716) من حديث عمرو بن العاص - رضي الله عنه -. (¬2) ملخص من كلام شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 149 - 155.

[وسطية دين الإسلام]

[وسطية دين الإسلام] وقوله: (ودين الله في الأرض والسماء واحد، وهو دين الإسلام، قال الله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}، وقال تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا}. وهو بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس). حقيقة دين الإسلام: عبادة الله وحده لا شريك له، وطاعته سبحانه وتعالى، وهذه الحقيقة يدين بها أهل السماوات من ملائكة الله، وهي: دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، فدين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم هو الإسلام، يدل لذلك قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} أي: الدين المرضيّ، المعتبر في حكمه سبحانه وتعالى هو الإسلام، ويوضح ذلك قوله تعالى: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه}، وهذه ليست خاصة بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ بل هذا عام في الأولين والآخرين؛ من ابتغى غير دين الإسلام فلن يقبل منه. وقال تعالى: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لِعَلَّات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد» (¬1). فنوح عليه السلام جاء بالإسلام؛ لأنه جاء يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وذكر الله عنه أنه قال لقومه: {ألا تعبدوا إلا الله} ¬

(¬1) رواه البخاري (3443)، ومسلم (2365) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.

[هود: 26]، {أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون} [نوح: 3]، {وأمرت أن أكون من المسلمين} [يونس: 72]، وهكذا من جاء بعده من الرسل، كإبراهيم ويعقوب قال الله تعالى عن إبراهيم: {إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، ويوسف عليه السلام قال: {توفني مسلما}، وموسى عليه السلام قال: {يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين}، والسحرة لما آمنوا {قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين}، وهكذا الحواريون أتباع المسيح {قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون}. فالإسلام دين الله، لكن يجب أن يعلم أنه بعد أن بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - صار الإسلام هو ما جاء به، وكل من لم يؤمن بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ويلتزم بمتابعته؛ فليس على الإسلام مهما تدين، حتى ولو لم يشرك. فاليهود، والنصارى وإن انتسبوا إلى الأنبياء، وإلى التوراة، والإنجيل، فليسو بمسلمين؛ لأنهم جمعوا بين أنواع من الكفر، والشرك؛ وانضاف إلى ذلك كفرهم برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فالنصارى يقوم دينهم الباطل على الشرك، قال تعالى: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة}. واليهود كفروا بما ارتكبوا من العظائم؛ كتحريف كتب الله، والتلاعب بدينه، وقتل الأنبياء، وقد ذكر الله بعض قبائحهم، قال تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا * وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما}. الآيات. ولهذا جاء في الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفس محمد بيده

لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» (¬1). ومن يقول: إن اليهود والنصارى على دين صحيح؛ فإنه كافر؛ لأن ذلك يناقض ما وصفهم الله به، وأخبر عنهم، وهذه قضية ينبغي التنبه لها؛ لأنه قد اشتهر في هذا العصر الدعوة إلى وحدة الأديان، واعتقاد أن اليهود والنصارى والمسلمين كلهم على دين صحيح! ودين الإسلام توسط واعتدال، بين الغلو والتقصير. والغلو: مجاوزة الحد. والتقصير: هو نقص فيما يجب القيام به. فهذان مدخلان للشيطان على الإنسان، فالشيطان؛ إما أن يحمل الإنسان على الغلو في الدين؛ فيقع في التجاوز؛ فيبتدع في الدين ما لم يأذن به الله. أو يحمله على التقصير بترك واجب، أو فعل محرم. والواجب الوقوف عند حدود الله، قال تعالى: {تلك حدود الله فلا تعتدوها} أي: بالتجاوز وهو الغلو. وقال سبحانه: {تلك حدود الله فلا تقربوها} وهي: المحرمات؛ فقربانها تقصير، وقد يجتمع في الشخص الغلو والإفراط في جانب والتفريط والتقصير في جانب آخر؛ فيجمع بين الغلو والتقصير. وهذا كثير في الأفراد والطوائف، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقِّ} [النساء: 171]، وقال سبحانه وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} فتحريم الحلال من الابتداع والتنطع والغلو في الدين، {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} وهذا تقصير. وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على الذين أرادوا أن يتبتلوا، وأن ينقطعوا للعبادة حين: «سألوا أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمله في السر، فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام ¬

(¬1) تقدم تخريجه في ص 92.

على فراش! فحمد الله وأثنى عليه، فقال: ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا، لكني أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» (¬1). والغلو يجري في مسائل الدين كلها: الاعتقادية والعملية. وقوله: (بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس) عطفُ هذه المتقابلات من قبيل عطف الخاص على العام؛ فإن التشبيه والتعطيل يندرجان في الغلو والتقصير؛ فالتشبيه غلو في إثبات الصفات، فالمشبهة يقول أحدهم: لله سمع كسمعي، وبصر كبصري، ويد كيدي! فيشبه الله بخلقه، ويشبه صفاته بصفات خلقه. ويقابل التشبيه التعطيل، والتعطيل نفي الصفات، ونفيها تقصير فيما يجب إثباته لله تعالى؛ فإنه تعالى أوجب على عباده الإيمان بما أخبر به عن نفسه من أسمائه وصفاته، قال تعالى: (فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير). والتشبيه والتعطيل كلاهما يتضمن الغلو والتقصير؛ فالتشبيه غلو في الإثبات وتقصير في التنزيه، والتعطيل غلو في التنزيه، وتقصير في الإثبات، فالمعطلة غلوا في التنزيه حتى نفوا صفات الرب تعالى زاعمين أنهم قالوا ذلك تنزيها لله عن مشابهة المخلوقات، فجمعوا بين التعطيل والتشبيه وبين الإفراط والتفريط. وأهل السنة وسط في باب أسماء الله وصفاته بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة، ومذهبهم هو دين الإسلام في هذا الباب. وقوله: (وبين الجبر والقدر) الجبر هو مذهب الجهمية، ومن وافقهم، وحقيقته: أن العبد ـ ¬

(¬1) رواه البخاري (745)، ومسلم (1401) ـ واللفظ له ـ من أنس - رضي الله عنه -.

عندهم ـ مجبور على أفعاله، وأنه يتصرف بغير مشيئة ولا اختيار ولا قدرة؛ كحركة الريش في مهب الريح، وحركة المرتعش، وحركة الأشجار. ويقابله القول بالقدر، وهو مذهب المعتزلة القدرية، ويسمون: القدرية، كما أن الجبرية يقال لهم: قدرية أيضا، لكن هذا الاسم أشهر في القدرية النفاة الذين ينفون عموم مشيئة الله، وعموم خلقه؛ فيخرجون أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة لله وواقعة بمشيئته وقدرته. والجبرية يسلبون العبد فاعليته وقدرته ومشيئته، والقدرية النفاة يقولون: إن العبد هو الذي يخلق فعله بمحض قدرته ومشيئته، ولا أثر ولا تأثير لمشيئة الله في أفعالهم. فالجبرية غلو في إثبات القدر وإثبات فاعلية الله، وقصروا في إثبات فعل العبد وفاعليته واختياره حيث سلبوا العبد قدرته ومشيئته واختياره وفاعليته. والقدرية غلو في إثبات فاعلية العبد حتى قالوا: إنه هو الذي يخلق فعله بمحض مشيئته وقدرته، وقصروا في إثبات ربوبيته تعالى حيث نفوا تعلق مشيئة الله وقدرته وخلقه بأفعال العباد، فأخرجوا كل أفعال العباد من أقوال وحركات سواء كانت محمودة أو مذمومة عن مشيئة الله وخلقه وقدرته وملكه! وقد تقدم ذكر بعض شبهات هذين المذهبين ومناقشتهما والرد عليهما، وهذه الكلمات جاءت أخيرا في كلام الطحاوي كالتلخيص لبعض ما تقدم (¬1). والقول بالجبر مغالطة وإنكار، وهنا بهذه المناسبة يسأل بعض الناس ويقول: هل الإنسان مخير أو مسير؟ فنقول: لا يصح إطلاق أحد الكلمتين؛ لأن كلا منهما يحتمل حقا وباطلا؛ فإن أردت أن الإنسان ¬

(¬1) في مواضع ص 77 و 325 و 329.

مخير، أي: له اختيار ومشيئة؛ فيقوم ويقعد ويتكلم بمشيئة، فهذا حق. وإن أردت أنه مخير، أي: أن له مشيئة وقدرة لا ترتبط بمشيئة الله، فهذا باطل، قال تعالى: (وما تشاءون إلا أن يشاء الله) أو أراد أن له الحرية المطلقة في أفعاله؛ فهو مخير بين الفعل والترك، كما يفهمه بعض الغالطين من قوله تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) فإن هذا ليس تخييرا؛ بل هذا أسلوب تهديد ووعيد شديد، ولذا قال تعالى بعدها: (إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها). وهكذا قول القائل هل العبد مسير؟ نقول: إذا كنت تريد أنه مسير، أي: أنه لا اختيار له ولا مشيئة فهذا باطل، وهذا هو الجبر. وإن أردت أنه مسير، أي: أن أفعاله تسير على وفق قدر الله ومشيئته، وأنه ميسر لما خلق له، كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اعملوا فكل ميسر» (¬1). فهذا حق. والخلاصة: أن الكلمتين لم تردا في النصوص ولا يصح إطلاقهما نفيا ولا إثباتا لما فيهما من احتمال الحق والباطل (¬2). وقوله: (وبين الأمن والإياس). دين الإسلام وسط في باب الوعد والوعيد، بين الأمن والإياس، والله قد وصف عباده وأولياءه بالخوف والرجاء، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90] وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء: 57]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة: 16] فالوسطية ما دلت عليه هذه ¬

(¬1) تقدم تخريجه في ص 163. (¬2) انظر ص 165.

الآيات، فلا أمن ولا إياس، والأمن واليأس من كبائر الذنوب، قال سبحانه وتعالى: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ} [الحجر: 56] وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87] وقال سبحانه وتعالى: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99] فالأمن هو سبيل المرجئة الغلاة، والإياس سبيل الوعيدية الذين يُقَنِّطُون مرتكب الكبيرة من دخول الجنة فيقولون: بوجوب إنفاذ الوعيد، وأنه لا يجوز أن يغفر الله لأهل الكبائر؛ بل لا بد أن يعذبهم، وإذا دخلوا النار فلن يخرجوا منها، وهذا يتضمن تيئيس الموحدين من أهل الكبائر. فدين الله (بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس) وهو صراط مستقيم لا اعوجاج فيه، أما سائر الطرق والسبل؛ فإنها منحرفة إلى الطرف، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]. ومذهب أهل السنة والجماعة وسط في كل مسائل الدين.

[براءة أهل السنة من المذاهب المبتدعة]

[براءة أهل السنة من المذاهب المبتدعة] وقوله: (فهذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا، ونحن براء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه. ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الردية، مثل: المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية، وغيرهم، من الذين خالفوا الجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء، وهم عندنا ضلال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق). ختم الطحاوي بهذه الكلمات ما أثبته من مسائل اعتقاد أهل السنة والجماعة، وقوله: (فهذا) إشارة إلى كل ما ذكره من المسائل المتعلقة بأصول الإيمان، من مسائل التوحيد والرسالة، والمسائل المتعلقة بالقرآن وبالإيمان وبالصحابة وغير ذلك. فهذا ديننا واعتقادنا الذي ندين لله به، ونخضع لله به، ونعبد الله به، كما قال في الأول: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له) إلخ. وقوله: (ظاهرا وباطنا) أي: نقر به بألسنتنا، ونصدقه بأفعالنا، ونعتقده بقلوبنا، وإنما ينفع الإيمان والدين إذا تطابق الظاهر والباطن، فدين الإسلام يتعلق بالباطن: اعتقادا وعملا؛ فالاعتقاد: التصديق واليقين. والعمل: الخوف والرجاء والتوكل والحب والبغض. ويتعلق بالجوارح؛ باللسانِ إقرارًا، وبالجوارحِ فعلا للمأمورات،

وتركا للمنهيات، مما يُصَدِّق ما يقوله العبد بلسانه، ولهذا قال: (هذا ديننا واعتقادنا ظاهرا وباطنا). وقوله: (ونحن براء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه) أي: ونحن نبرأ إلى الله ونعادي وننابذ ونباعد كل من خالف ما تقدم ذِكره وتقريره؛ لأنه مستمد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ويعني: البراءة من طوائف المبتدعين الذين خالفوا الكتاب والسنة، وقد أوضح ذلك ببيان البراءة من المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية، فهؤلاء هم الذين يعنيهم بقوله: (ونحن براء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه) لأنها مذاهب مبتدعة رديئة مفتراة، ومخالفة لما جاء في كتاب الله سبحانه، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وقوله: (ونسأل الله أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به) وهذا ختم للكلام بالدعاء بالثبات على الإسلام، وهو أمر مهم، فنسأل الله أن يثبتنا على الإسلام والإيمان والاعتقاد الحق، والعبد فقير إلى تثبيت ربه وهدايته وعصمته حتى يلقاه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] ومن دعاء الأنبياء والصالحين: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} [يوسف: 101] {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف: 126] ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك» (¬1). فالدعاء بالثبات على الإسلام حتى الممات من أنفع وأهم وأحوج ما يكون للعبد. وقوله: (ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الردية) الاستقامة على الصراط إنما تكون بعصمة الله وهدايته، ولذا أمرنا أن نقول في كل صلاة: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ ¬

(¬1) تقدم تخريجه في ص 166.

عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7] (¬1). فالعبد فقير إلى أن يعصمه ربه من هذه الضلالات، يقول ابن القيم ـ لما ذكر مذاهب المبتدعين ـ: لَو شَاءَ رَبُّكَ كُنتَ أيضاً مِثلَهُم ... فَالقَلبُ بَينَ أصابِعِ الرَّحمَنِ (¬2) فمن عافاه الله مما عليه أهل الضلال؛ كالمشركين والرافضة والجهمية والصوفية والقدرية؛ فليعلم أن ذلك بتوفيق من الله لا بحوله ولا بقوته، وعلى المسلم أن يلهج دائما بسؤال العصمة والوقاية من طرائق المضلين من أصحاب الأهواء والمناهج المنحرفة عن هدى الله؛ فإن هذه المذاهب الردية متناقضة مختلفة ومضطربة وأهلها متبعون لأهوائهم ومتفرقون، كل حزب بما لديهم فرحون. وقوله: (مثل المشبهة والمعتزلة والجهمية والجبرية والقدرية وغيرهم) هذه أسماء أبرز الطوائف المنحرفة في مسائل الاعتقاد؛ فالجهمية وإمامهم جهم بن صفوان، قد جمعوا بين ثلاث بدع كبرى: التعطيل في باب الأسماء الصفات، والجبر في باب أفعال العباد والقدر، والإرجاء في باب الإيمان (¬3). والمعتزلة على النقيض من الجهمية في باب القدر، وباب الإيمان، وهم قريبون منهم في باب الأسماء والصفات؛ فالمعتزلة يثبتون الأسماء وينفون ما تدل عليه من الصفات، ولهم أصول خمسة: 1 - التوحيد، ويقصدون به: نفي الصفات فعندهم إثبات الصفات تشبيه وتجسيم وشرك، ونفي الصفات هو التوحيد. ¬

(¬1) عن عبادة بن الصامت رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» رواه البخاري (756) ومسلم (394). (¬2) الكافية الشافية ص 31. (¬3) مقالات الإسلاميين ص 279 والملل والنحل 1/ 61.

2 - العدل، ويدخلون فيه نفي القدر؛ لأن عندهم أن الله تعالى لو شاء أفعال العباد، وكانت ذنوبهم بمشيئته كان تعذيبه لهم ظلما! فلهذا لم يجدوا مخرجا إلا بنفي تعلق مشيئة الله بها، فمذهبهم يتضمن أنه يكون في ملكه تعالى ما لا يشاء، فجميع ما يجري من حركات العباد وأفعالهم وتصرفاتهم وكلامهم كل ذلك بغير مشيئته، فعندهم أن الله تعالى لا يقدر على أن يجعل المؤمن كافرا أو الكافر مؤمنا، أو المطيع عاصيا أو العاصي مؤمنا؛ بل ولا يقدر أن يجعل القائم قاعدا والقاعد قائما، والمتكلم ساكتا والساكت متكلما؛ لأن هذه الأفعال لا تتعلق بها مشيئته ولا قدرته ولا خلقه. 3 - المنزلة بين المنزلتين، وهي: أن مرتكب الكبيرة في الدنيا في منزلة بين المنزلتين، وهي منزلة الفاسق، فليس بمؤمن ولا كافر، لكنه في الآخرة مع الكافرين. 4 - إنفاذ الوعيد، ويعنون به: أنه يجب على الله إنفاذ وتحقيق ما توعد به العاصين، فلا يجوز عندهم أن يعفو عن من مات مصرا على شيء من الذنوب. 5 - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخلون فيه الخروج على الأئمة الظلمة بحجة إنكار المنكر (¬1). وقد جاءت الشريعة بالنهي عن ذلك لما يفضي إليه من الفساد العريض، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم على قاعدة: «ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين لتحصيل أعلاهما» فإنكار المنكر إذا كان يفضي إلى زيادة المنكر، أو إلى منكر أعظم كان الإنكار منكرا. ¬

(¬1) مقالات الإسلاميين ص 155 - 278، والتنبيه والرد ص 49، ومجموع الفتاوى 13/ 386.

وقوله: (من الذين خالفوا الجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء، وهم عندنا ضلال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق) هذه هي الحقيقة، فهؤلاء قد خالفوا جماعة المسلمين، التي هي الفرقة الناجية، (وحالفوا الضلالة) أي: لزموا الضلالة، واتبعوا أهواءهم، فهم أصحاب الأهواء؛ لأنهم حكموا عقولهم وقدموها على المنقول. فأهل السنة منهم ومن بدعهم يتبرؤن، ويرون أنهم قد ضلوا وحادوا عن الصراط المستقيم بهذه المذاهب الباطلة. نسأله سبحانه وتعالى أن يعافينا من المحدثات واتباع الأهواء، ونسأله تعالى أن يعصمنا منها، وأن يهدينا إلى صراطه المستقيم، وقد أوجب الله على عباده هذا الدعاء في كل ركعة من الصلاة {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6 - 7] (¬1) وإن كان المراد بالمغضوب عليهم والضالين في الأصل اليهود والنصارى، فهذه الفرق منها ما يكون مشابها للمغضوب عليهم، ومنها من هو مشابه للضالين، كما قال بعض السلف: «من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى» (¬2). هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين. ¬

(¬1) تقدم في ص 420. (¬2) نسبه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير إلى سفيان بن عيينة ـ رحمه الله ـ. مجموع الفتاوى 16/ 567، وتفسير ابن كثير 4/ 138.

§1/1