شرح الطحاوية - يوسف الغفيص

يوسف الغفيص

شرح العقيدة الطحاوية [1]

شرح العقيدة الطحاوية [1] تعتبر العقيدة الطحاوية التي ألفها الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله، على منهج أهل السنة والجماعة, وإن كان فيها أحرف يسيرة مخالفة، ولذلك كان لها شيوع كبير بين علماء المسلمين وطلابهم، حتى أصبحت تدرس في كثير من الجامعات والمساجد ودور العلم.

مقدمة شرح العقيدة الطحاوية

مقدمة شرح العقيدة الطحاوية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فهذه هي العقيدة الطحاوية، للإمام أبي جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي الأزدي المصري الشافعي ثم الحنفي، المولود سنة (239هـ)، والمتوفى رحمه الله تعالى سنة (321هـ). وقد صنفها الإمام الطحاوي بياناً لمجمل عقيدة أهل السنة والجماعة، وبحسب مقدمة الإمام الطحاوي رحمه الله في رسالته نقف مع ثلاث مقدمات لهذا الشرح:

المقدمة الأولى: عقيدة الإمام أبي حنيفة

المقدمة الأولى: عقيدة الإمام أبي حنيفة الإمام أبو حنيفة هو أحد الأئمة الأربعة، وقد تكلم الناس في مذهبه في أصول الدين، وإذا نظرنا إلى بعض كتب الرجال أو السنة المسندة كالسنة لـ عبد الله بن أحمد، نجد بعض المسائل التي يُضاف القول فيها إلى أبي حنيفة وهي مخالفة لمعتقد السلف. ونجد أن كثيراً من الفقهاء والذين تكلموا في المقالات يترددون في شأن أبي حنيفة؛ وذلك بسبب أن أصحابه هم أكثر أصحاب الأئمة الأربعة اختلافاً وافتراقاً في أصول الدين، فـ أبو منصور الماتريدي الذي كان معاصراً لـ أبي الحسن الأشعري هو حنفي المذهب، ويعد من أعيان علماء الكلام، ومن المعروف أن ما قرره الماتريدي في كتبه كـ (التوحيد) و (التفسير) وغيرها ليس هو معتقد السلف، بل إن طريقة أبي الحسن الأشعري بإجماع أهل السنة والجماعة خير من طريقة أبي منصور الماتريدي. وكذلك الكرامية أتباع محمد بن كرام السجستاني، الذين مالوا إلى التشبيه، هم أيضاً أحناف في الجملة، وكذلك بعض الأشعرية أحناف، وكذا طائفة من المعتزلة -ولا سيما متأخريهم- كثر انتماؤهم لمذهب أبي حنيفة؛ بل إن المعتزلة المتمذهبين بأحد مذاهب الفقهاء عامتهم على مذهب الإمام أبي حنيفة في الفقه، وقد انتحلوا شيئاً من كلامه في أصول الدين وأضافوه إلى شيء مما قرروه، فضلاً عن طوائف من الصوفية التي انتحلت مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله. وكثير من هذا الانتحال لأصول أبي حنيفة كائن في الفقه ومسائله، ولكن كثيراً منهم يطردون ذلك في مسائل أصول الدين، ومن المعلوم أن أبا حنيفة لم يثبت له مصنف واحد في مسائل أصول الدين، وأشهر ما يذكر له كتاب (الفقه الأكبر)، ومن المتحقق أنه ليس لـ أبي حنيفة، وإنما كتبه أحد علماء الحنفية فيما بعد، وأضافه إلى أبي حنيفة. ومن المتحقق أيضاً أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله كان على طريقة أئمة السنة والجماعة، ولم يخالف شيئاً من أصول السلف إلا ما يتعلق بمسألة الإيمان، حيث ذهب إلى أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، وأن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان. ومذهب أبي حنيفة في الإيمان على ما ذكرنا هو المحقق عند عامة أهل العلم والمقالات، وجمهور أصحاب أبي حنيفة، ولم يتردد في نسبة ذلك إليه إلا طائفة من المتأخرين الذين يحققوا ذلك تحقيقاً دقيقاً. وهذا مذهب حماد بن أبي سليمان الفقيه الكوفي الذي كان من تلاميذ إبراهيم النخعي. أما مسائل الصفات والقدر فهو وإن أضيف إليه في بعض الكتب شيء من الغلط في ذلك، فإنما هذه بلاغات تحكى عنه، ولم ينضبط عن أبي حنيفة رحمه الله شيء من ذلك. أما إمامته في الفقه فمجمع عليها بين سائر علماء المسلمين من المتقدمين والمتأخرين، وكذلك أصوله رحمه الله هي أصول الأئمة، وإن كان بعض أئمة الحديث المتقدمين يأخذون على أبي حنيفة ومن هو على طريقته اعتبار الرأي وقلة الأخذ بالسنن والآثار، وهذه مسألة أخرى تتعلق بمسائل الاستدلال الفقهي. وعليه: فإن الإمام أبا حنيفة يضاف إلى أئمة السنة والجماعة. هذا محصل ما يتعلق بشأن الإمام أبي حنيفة، ولذا: فإن الأحناف في الجملة لا يمثلون مذهب الإمام أبي حنيفة؛ فإن منهم أهل تأويل كالماتريدية، وطوائف من الأشعرية، ومنهم مجسمة كالكرامية، ومنهم مفوضة إلى غير ذلك، وإن كان في الأحناف من المتقدمين والمتأخرين من هو على معتقد السلف والأئمة.

المقدمة الثانية: عقيدة الإمام الطحاوي

المقدمة الثانية: عقيدة الإمام الطحاوي يعتبر الإمام الطحاوي من أخص أصحاب الإمام أبي حنيفة، وإن كان نشأ شافعياً؛ لأنه ولد في بيت شافعي، إلا أنه تحول إلى مذهب الإمام أبي حنيفة. وإذا نظرنا إلى رسالته هذه وجدنا أنها تقرر مجمل عقيدة السلف أهل السنة والجماعة، لكن هناك بعض المسائل التي قد يُتردد في صحتها وانضباطها، وهذا معتبر بمسألة وهي: أن أصحاب الأئمة الأربعة الذين أخذوا عنهم مباشرة قد انضبط شأنهم -في الجملة- في كونهم على طريقة أئمتهم في مسائل أصول الدين. وأما من جاء بعدهم من أتباع الأئمة الأربعة، فهؤلاء في الجملة ينقسمون إلى ثلاثة أقسام في مسائل أصول الدين: القسم الأول: من حقق أصول إمامه تحقيقاً صحيحاً، فيكون موافقاً لمعتقد الأئمة انتحالاً وتحقيقاً. انتحالاً: أي أنه ينتحل مذهبهم، وتحقيقاً: أي أنه أصابه وعرفه وضبطه، وهذا هو شأن المحققين من الأحناف، والمالكية، والشافعية، والحنابلة. والانضباط في هذه الطوائف الأربع أكثره في الحنابلة، وأقله في الحنفية، ثم الشافعية، والمالكية أقرب إلى الحنابلة انضباطاً؛ وموجب ذلك ليس من جهة التعصب بتقديم الحنابلة، وإنما موجبه: أن كلام الإمام أحمد رحمه الله في مسائل أصول الدين شائع، وقد كان ينتحل مذهبه من هو من أعيان الشافعية، أو الحنفية، أو المالكية، بخلاف كلام الإمام أبي حنيفة، فإنه ليس شائعاً في هذه المسائل. وأما أصحاب مالك فيميلون إلى الحنابلة؛ لأنه لم ينتحل مذهب الإمام مالك إمام له شأن وأتباع من المخالفين لأصول السلف أو المائلين عنها، بخلاف الإمام الشافعي، فإنه وإن كان أصحابه أكثر انضباطاً من أصحاب أبي حنيفة، إلا أنه لما جاء أبو الحسن الأشعري -وهو شافعي المذهب- تقلد كثير من الشافعية مذهب أبي الحسن، ولا سيما أن أبا الحسن كان ينتحل مذهب الأئمة المتقدمين، ويصرح بأنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مع أنه من حيث الفقه ليس على مذهبه، وإنما يعتبره مذهباً له في أصول الدين؛ لما شاع من اختصاص الإمام أحمد بتقرير هذه المسائل. وبسبب ظهور أبي الحسن الأشعري كثر في الشافعية الغلط والمخالفة لأصول السلف. القسم الثاني: من انتحل مذهباً انضبطت مخالفته لمذهب السلف -أي: معروفاً بالمخالفة زمن الأئمة- سواء كان هذا مذهباً متقدماً، أو كان مذهباً طرأ بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وهذا يقع فيه خلق من الأحناف، والشافعية، والمالكية، وقليل من الحنابلة، ولا سيما في أصحاب أبي حنيفة؛ فإن طائفة منهم انتحلوا الاعتزال مذهباً في أصول الدين، وقد كانت المعتزلة طائفةً معروفةً بالمخالفة لمذهب الأئمة أنفسهم، وإن كان هذا القسم من أصحاب الأئمة كثير منهم يكون ميلهم عن طريقة إمامهم بانتحال مدرسة أو مذهب نشأ بعد القرون الثلاثة الفاضلة. وأخص مدرسة حصل بموجبها الغلط هي: مدرسة الإمام أبي الحسن الأشعري؛ فترى كثيراً من الشافعية، والمالكية، وطائفة من الأحناف، على مذهب أبي الحسن الأشعري في مسائل أصول الدين، ومذهبه فيه موافقة للسنة والجماعة وفيه مخالفة، ولكن أصحابه من بعده كالقاضي أبي بكر الباقلاني ومن بعده الجويني ابتعدوا عن طريقته إلى طريقة مقاربة لطريقة قوم من المعتزلة، ولذا فإن المتأخرين من الأشاعرة أبعد عن أصول السنة والجماعة ومقالاتهم من الأشعري نفسه، فإن طريقته مقاربة في كثير من مواردها لطريقة السلف، مع ما عنده من الغلط والمخالفة للإجماع. ثم جاء المتأخرون -كـ محمد بن عمر الرازي وأمثاله- الذين خلطوا مذهب الأشعري بأصول من الفلسفة، وكلام ابن سينا، وشيء من كلام المعتزلة، إلى غير ذلك، فصارت مدرسة الأشعري في طورها الأخير -ولاسيما بعد أبي المعالي الجويني - مباعدة لطريقة الأشعري نفسه، فضلاً عن مباعدتها لطريقة السلف. القسم الثالث: وهم خلق من أصحاب الأئمة الأربعة غير منضبطين على أصول الأئمة، ولا ينتحلون مذهباً من المذاهب الكلامية كمذهب الماتريدي أو مذهب الأشعري أو غير ذلك، وإنما هم قوم ينتحلون أصول الأئمة، ويعرفون جملهم، ويعظمون السنن والآثار، ويذمون البدع، ولكنهم إذا أخذوا في تفصيل هذه الجمل غلطوا في بعض مواردها. وموجب هذا الاختلاط: أنهم أخذوا بالأصول التي عرفت عن الأئمة، لكن لكون طائفة ممن يشاركهم في الانتماء للمذهب الفقهي لهم اتصال بمدرسة كلامية كالاعتزال، أو الماتريدية، أو الأشعرية، أو غيرها؛ صار عندهم تأثر بهؤلاء؛ فمثلاً: يوجد في الشافعية من هم على طريقة المتكلمين، فمن لم يحقق طريقة السلف من الشافعية أنفسهم فإنه يتأثر بهؤلاء الشافعية المتكلمين، فيدخل على طريقته شيء من المقولات والتأويلات الكلامية. وهؤلاء ما بين مستقل ومستكثر، وهذا الصنف يكثر في الحنابلة أكثر من غيرهم، فمثلاً: ابن عقيل وقبله القاضي أبو يعلى، وكذلك التميميون من الحنابلة كـ أبي الحسن التميمي، وأبي الفضل التميمي، وأمثالهم، هم من أهل هذه الطريقة، بمعنى أنهم متأثرون بشيء من الغلط في مسائل أصول الدين، لكنهم من حيث الجملة على أصول الأئمة.

المقدمة الثالثة: تقييم رسالة (العقيدة الطحاوية)

المقدمة الثالثة: تقييم رسالة (العقيدة الطحاوية) تعتبر رسالة الطحاوية -في الجملة- على منهج أهل السنة والجماعة، لكن مع هذا صار لها ذيوع وشيوع عند سائر الفرق، وموجب ذلك: أن الطحاوي رحمه الله أجمل بعض المسائل التي هي محل نزاع بين المتأخرين، ولربما عبر بأحرف هي من أحرف أبي الحسن الأشعري وغيره من المتكلمين في بعض المسائل، ولهذا نجد ابن السبكي -وهو من الأشاعرة المتعصبين- يقول: (إن أصحاب الأئمة الأربعة معتقدهم في الجملة واحد، وهو ما قرره أبو جعفر الطحاوي رحمه الله). فمثلاً: عندما ذكر الطحاوي مسألة القدر قال: (وأفعال العباد كسب لهم). ومعلوم أن لفظ (الكسب) مصطلح عرفت به مدرسة الأشاعرة، ولما ذكر مسألة العلو قال: (تعالى عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات)، وقال: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات)، وهذه من الأحرف التي يعبر بها المتكلمون. وكذلك في مسألة تكليف ما لا يطاق، عبر بنفس الأحرف التي يعبر بها علماء الأشاعرة. إذاً: هذه الرسالة لم تكن في بعض مواردها صريحة في إبطال مذهب الأشعرية على التفصيل؛ بل فيها جمل فيها إجمال مع المذهب الأشعري، ولهذا السبب فإن هذه الرسالة قد شرحها جملة من الأحناف على طريقة الأشعرية تارة، وعلى طريقة الماتريدية تارة أخرى، وقد شرحها ابن أبي العز الحنفي على ما هو معروف عن الأئمة والسلف. ولأجل هذا الإجمال أمكن لكثير من شراحها أن يصنفوا بعض جملها إلى مفصل معتقد الأشعرية، أو إلى مفصل معتقد الماتريدية، مع أن التحقيق أن هذا التصنيف أو التأويل ليس صريحاً في الرسالة، بمعنى أن الرسالة فيها جمل كثيرة صريحة في مخالفة مذهب الأشعرية والماتريدية. وأيضاً: من جهة تراتيبها العلمية -وهذه مسألة قد تخفى على كثير من الناظرين في الرسالة- فإن هذه الرسالة من حيث التراتيب العلمية مقاربة للتراتيب الأشعرية. فلهذه الأسباب صار لهذه الرسالة الشيوع والذيوع عند سائر الفرق، وإن كانت في الجملة على عقيدة السلف. وقد يكون من الفقه عند طالب العلم أن تكون هذه الرسالة من الرسائل التي يقرر مذهب السلف تحتها، وتكون محل قبول عند بعض أهل التعصب ضد بعض الرسائل التي عرفت بالصراحة في تقرير مذهب السلف؛ كرسائل شيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله، فإن هذه الرسائل قد لا يتلقاها كثير ممن عندهم مخالفة لأصول السلف أو مقالاتهم، بخلاف هذه الرسالة فإنها ذائعة شائعة منذ قرون. وعليه: فإن الاعتناء بها يكون اعتناءً فاضلاً من جهة تقرير معتقد السلف، ومن جهة الدعوة إليه، والمسائل التي فيها غلط ينبه عليها في موضعها.

سبب تسمية أهل السنة والجماعة بهذا الاسم

سبب تسمية أهل السنة والجماعة بهذا الاسم قال العلامة حجة الإسلام أبو جعفر الوراق الطحاوي رحمه الله: [هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين]. قوله: (هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة): أهل السنة والجماعة إنما اختصوا بهذا الاسم لأنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق)، وقد أخرج الشيخان وغيرهما في ذلك روايات متعددة من حديث جابر بن سمرة، وأبي هريرة، وعبادة بن الصامت، ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهم رضي الله عنهم. وهذه الطائفة بإجماع أهل العلم مقتدية برسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه العلمي والعملي، أي: فيما هو من محل الاعتقاد أو محل العمل؛ فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل. وجاء عنه صلى الله عليه وسلم كما في المسند والسنن من حديث أبي هريرة، وأنس، وعبد الله بن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ...) إلى آخر الحديث. ومما ينبه إليه: أن ذكر هذه الطائفة ليس معتبراً بهذا الحديث فقط، فإن هذا الحديث قد تكلم فيه طائفة من أهل العلم، وصححه أو قواه آخرون، فسواء صح هذا الحديث أو لم يصح؛ فإن ثبوت هذا الانتماء إلى أهل السنة والجماعة معتبر بالنصوص المتواترة التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم افتراق الأمة، وذكر أن طائفة لا تزال على الحق إلى قيام الساعة، وغير ذلك من النصوص الصحيحة، فعدم صحة هذا الحديث لا يؤخذ منه إلا أن التخصيص لهذا العدد -وإن كان حسناً في الجملة- وهو الثلاث والسبعون لم ينضبط من جهة السنة، فإذا قلنا بأن الحديث لم يصح فإنه يسقط بذلك التصريح بهذا العدد، وهو أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وأما أن الافتراق نفسه يرتفع إذا ضُعف هذا الحديث أورد فليس كذلك؛ وذلك لوجهين: الوجه الأول: ما تواتر من السنة بأنه لا تزال طائفة على الحق، وأن الأمة ستفترق. الوجه الثاني: اعتبار الحال، فإن الافتراق شائع في الأمة منذ قرون متقدمة.

ظهور البدع في تاريخ الإسلام

ظهور البدع في تاريخ الإسلام لم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم اختلاف في مسائل أصول الدين، وكذلك في زمن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، إلا في آخر خلافة الخلفاء لما ظهرت الخوارج. وكان أول غلط وقع هو الغلط في مسألة الإيمان، وما يتعلق بها من الأسماء والأحكام -أي: حكم أهل الكبائر- وكان ذلك في آخر خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين. ثم بعد انقراض عصر الخلفاء وفي آخر عصر الصحابة وبعد إمارة معاوية -أي: في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبني أمية- ظهر الخلاف في القدر، ثم بعد عصر الصحابة وفي قرن التابعين ظهر الخلاف في مسألة الصفات، وهلم جراً من التسلسل الذي ظهرت به البدع المخالفة لمعتقد السلف رحمهم الله، وهم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام ومن اتبعهم وسار على منهجهم. وإذا ذكر السلف فإن المراد بهم الصحابة ومن اقتدى بهم، على ما جاء في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]. وعليه: فإن تخصيصه لـ أبي حنيفة وصاحبيه على التحقيق المتقدم ليس له ذاك الاختصاص، وإنما هو نوع من البيان والذكر، وإلا فإن عقيدة أبي حنيفة وصاحبيه هي عقيدة سائر الأئمة.

منزلة توحيد الألوهية عند المتكلمين

منزلة توحيد الألوهية عند المتكلمين قال المصنف رحمه الله: [نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له، ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره]. قوله: (إن الله واحد لا شريك له) ابتدأ الطحاوي رسالته بذكر مسألة التوحيد، ولكنه ذكرها مجملة، والجمل التي بعد الجملة الأولى تتعلق بتوحيد الربوبية، وأما توحيد الألوهية فإنه ذكره مجملاً. وهذا يرتبط بمسألة: وهي أن كثيراً من المتأخرين -ولا سيما المتكلمين ومن تأثر بهم- إذا قرروا مسألة الاعتقاد وأصول الدين فإنهم يبتدئون بذكر توحيد الربوبية؛ لأنهم يعتبرون أن القول في الصفات يكون فرعاً عن هذا التقرير، وهذا الاعتبار من حيث الأصل لا إشكال فيه، لكن الغلط الذي وقع فيه المتكلمون هو من جهة أنهم لم يحققوا توحيد الربوبية إثباتاً إلا بنوع من الأدلة التي تستلزم تعطيل الصفات -كما هو مذهب المعتزلة- أو ما هو منها. وعليه: فإن نفي الصفات عند المعتزلة، أو نفي بعض الصفات -كما هو مذهب الأشاعرة والماتريدية- جاء نتيجة لتقرير مسألة الربوبية بأدلة تستلزم إما تعطيل الصفات، كما هو مذهب المعتزلة، أو تعطيل بعضها وهي الصفات الفعلية، كما هو عند الأشاعرة والماتريدية. مع أن مسألة توحيد الربوبية تعتبر أصلاً مقرراً في الأدلة الشرعية التي هي أدلة فطرية، وأدلة عقلية، وهناك مقاصد من الشريعة تدل على توحيد الربوبية الذي لم يكن محل خلاف بين المسلمين، ولا بين جمهور الأمم؛ فإن جمهور بني آدم يقرون بأصل الربوبية. وإنما الأصل الذي بُعِثَ الرسل عليهم الصلاة والسلام بتقريره وتفصيله، وكان الغلط فيه شائعاً في بني آدم، هو توحيد الألوهية، لكننا لا نجد هذا التوحيد مذكوراً في كتب المتكلمين كثيراً، ليس لأن المتكلمين يرون جواز الشرك في الألوهية، وإنما لأنهم يعتبرون أن مسائل الصفات وما يتعلق بها من المسائل يرتبط تقريره بمسألة الربوبية، فلابد من تقرير توحيد الربوبية، ثم بعد ذلك تقرير مسائل الصفات والأفعال وغير ذلك. وأما توحيد الألوهية فيرون أنه مسألة منفكة، وليس لها اتصال بهذا التقرير الذي اعتبروه، وهذا من أوجه غلطهم في هذا التوحيد.

السبب في إفراد توحيد الأسماء والصفات

السبب في إفراد توحيد الأسماء والصفات وقول الطحاوي رحمه الله: (إن الله واحد لا شريك الله)، هذا من أثر السنة على الطحاوي رحمه الله، فإنه ذكر توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. وقد كان الشائع في كلام المتقدمين من أهل العلم أن التوحيد على النوعين: توحيد علمي وتوحيد إرادي، أو: توحيد المعرفة وتوحيد الطلب والقصد، ويذكرون أن توحيد المعرفة أو التوحيد العلمي هو توحيد الربوبية، ويدخل في توحيد الربوبية مسألة الأسماء والصفات، ويكون التوحيد الطلبي أو الإرادي هو توحيد العبادة، الذي هو: إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة الظاهرة والباطنة. ولكن لما حصل التعطيل في الأسماء والصفات المخالف للتوحيد فيها؛ صار طائفةٌ من أهل السنة والجماعة يخصون الأسماء والصفات باسم مختص، فصاروا يقولون: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية، وهذه التقاسيم من باب الاختلاف اللفظي الذي ليس تحته اختلاف تضاد.

تفسير: (واحد لا شريك له) عند السلف وعند المتكلمين

تفسير: (واحد لا شريك له) عند السلف وعند المتكلمين وقوله: (إن الله واحد لا شريك له)، أي: إن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له في ربوبيته ولا في ألوهيته ولا في أسمائه وصفاته .. هذا هو تفسير هذه الجملة على معتقد أهل السنة، وهذه الجملة شائعة في كلام المتكلمين، ولكنهم يقولون: إن الله وحده لا شريك له في ذاته، ولا في أفعاله، ولا في صفاته، وذلك حسب تفسيرهم للصفات والأفعال. ويكون الغلط على هذا التقرير من جهتين: الجهة الأولى: أنهم لم يذكروا توحيد الألوهية، بل قالوا: واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله، وهذه كلها تدخل تحت توحيد الربوبية والأسماء والصفات. الجهة الثانية: أنهم حين يقولون: واحد في أفعاله، وواحد في صفاته، يقصدون مذهبهم المقرر في الصفات والأفعال المخالف للسلف.

التفصيل في الإثبات والإجمال في النفي

التفصيل في الإثبات والإجمال في النفي وقوله: (ولا شيء مثله). هذا معتبر بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهذا من النفي المجمل في القرآن، والله سبحانه وتعالى لما ذكر ما يتعلق بأسمائه وصفاته ذكرها مفصلةً مثبتة، وذكر النفي مجملاً إلا في مواضع، كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، وكقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]. ومن قواعد أهل السنة والجماعة في الصفات: أنهم يقولون: إن الله موصوف بالإثبات والنفي؛ والإثبات يقع مفصلاً ويقع مجملاً، ولكن الأصل فيه في القرآن هو التفصيل. والنفي يقع مفصلاً ومجملاً، ولكن الأصل فيه الإجمال. أما الإثبات المفصل: فهو ما ذكر في القرآن من ذكر أسماء الله سبحانه وتعالى؛ كقوله تعالى: {هُوَ الله الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} [الحشر:23] .. الآيات، وكذلك ما ذكر من الصفات، كقوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، {رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] .. إلى غير ذلك. ويقع الإثبات مجملاً، وهو في الأسماء في مثل قوله تعالى: {وَلله الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]، وفي الصفات في مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، وعند هذه الآية قرر أهل السنة والجماعة -ولا سيما من تأخر كـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - أن كل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو الكمال المطلق؛ فإن الخالق أولى به. وإنما تكلم المتأخرون بهذا التفصيل -كـ شيخ الإسلام - مع أنك إذا تتبعت هذه الأحرف قد لا تجدها في كلام السلف، لأن مصطلح القياس من حيث اللغة العربية يقتضي نوعاً من التشابه أو التماثل، وإلحاق شيء بشيء، فلم يكن معتبراً في مسائل الصفات، ولكن لما تكلم أهل الاصطلاح بمصطلح القياس على معنى قياس الشمول، وقياس التمثيل، وقياس الأولى، إلى غير ذلك؛ صار كثير من أهل الكلام يعتبرون مذهبهم بنوع هو عند التحقيق من قياس الشمول أو قياس التمثيل، مع أنهم لا يسلمون بذلك، لكن هذا هو حقيقة المذهب، فلما وردت مسائل في القياس، وهل يستعمل القياس في حق الله وصفاته؛ قال من قال من المتأخرين من أهل السنة والجماعة: إنه يستعمل في حقه سبحانه وتعالى قياس الأولى، وهو أن كل كمال مطلق لا نقص فيه بوجه من الوجوه، فإن الخالق أولى به. ومأخذهم في هذا القياس هو قوله تعالى: {ولله الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، مع أن تسميته (مثلاً) أصح، وينبغي ألاَّ يسمى قياساً إلا إذا قُصد بذلك البيان للمخاطب، أو إذا قيل: أيصح استعمال قياس الأولى في حق الله سبحانه؟ فيقال: نعم، ولكن يسمى (مثلاً أعلى) ولا يسمى قياساً اقتداءً بحرف القرآن؛ ولأن القياس لفظ حصل فيه اشتراك وإجمال، وجميع صور القياس لا تليق بالله سبحانه وتعالى، وإنما يستخدم في حقه قياس الأولى. ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية: (ويتحقق هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين)، ثم ذكر الروح ونعيم الجنة، فالمثلان المضروبان هنا هما من باب قياس الأولى، لكن سماهما (مثلاً) اقتداءً بحرف القرآن. وأما النفي المجمل في القرآن فهو المذكور في مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وأما النفي المفصل فهو المذكور في مثل قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] .. إلى غير ذلك. والنفي المجمل هو الأصل، وأما النفي المفصل فهو فرع عن الإثبات، بمعنى: أنه ليس في القرآن نفي مفصل يراد به النفي المحض، أي: النفي الذي لا يتضمن أمراً ثبوتياً، ومن هنا قيل: إن النفي المفصل في القرآن فرع عن الإثبات، فمثلاً: قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] أي: لكمال عدله، فتضمن النفي إثبات العدل، وهكذات .. وعليه: فكل نفي مفصل في القرآن فلابد من أن يتضمن أمراً ثبوتياً.

السبب في عدم تفصيل النفي في القرآن

السبب في عدم تفصيل النفي في القرآن فإن قيل: فلِمَ لَمْ يفصل النفي في القرآن؟ أي: لِم لم تنف صفات النقص بالتفصيل كالجهل والعجز وغير ذلك؟ فيقال: لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه الإثبات مفصلاً، ومعلوم أن المتقابلين تقابل التضاد أو التناقض يمتنع عند ثبوت أحدهما ثبوت الآخر، بمعنى: أن الله لما وصف نفسه بأنه سميع وبصير، وأنه موصوف بالكلام والقدرة: إلى غير ذلك؛ عُلم بضرورة العقل أنه منزه عن ضد ذلك؛ لأن الجمع بين الضدين ممتنع. وعليه: فإن كل نقص يُعلم أنه منفي بضرورة العقل وضرورة الشرع. أما ضرورة العقل: فلأن الله سبحانه وتعالى مستحق للكمال منزه عن النقص، وهذا معروف بدلائل عقلية. وأما ضرورة الشرع: فلأن الله ذكر في كتابه الإثبات مفصلاً، فكل ما ضاد هذا الإثبات يُعلم بضرورة الشرع أنه منفي.

طريقة المتكلمين في النفي والإثبات

طريقة المتكلمين في النفي والإثبات وطريقة المتكلمين هي التفصيل في النفي والإجمال في الإثبات، وهي طريقة مخالفة للقرآن وللعقل؛ أما مخالفتها للعقل: فلأن النفي الذي يستعملونه هو النفي المحض، الذي لا يدل على الكمال، ولا يتضمن أمراً ثبوتياً، فهو نوع من التعطيل؛ ولهذا فإن من فقه السلف رحمهم الله أنهم سموا أصحاب هذا المذهب بالمعطلة؛ لأن من استعمل النفي المحض فإنه ينتهي إلى التعطيل؛ لأن الأشياء المعدومة والممتنعة تشترك في هذا النفي، ومن أخص القواعد الشرعية والعقلية: أن كل موجود لابد أن يكون له صفات تليق به، والله سبحانه وتعالى هو الخالق البارئ، الذي خلق الخلق وأبدع الكائنات، فلابد أن يكون له من الصفات ما يحصل بها هذا الكمال.

نفي التمثيل عن الله تعالى من جميع الوجوه

نفي التمثيل عن الله تعالى من جميع الوجوه وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي: ليس كمثله شيء قائم في الوجود، وليس كمثله شيء متصور الوجود، فإن الله سبحانه لا يحاط به علماً؛ وعليه: فإن كل مُتَخيَل يتخيله الذهن أو العقل، وكل موجود علم وجوده أو لم يعلم وجوده، أي: اطلع المكلفون على ماهية وجوده أو لم يطلعوا؛ فإن الله سبحانه وتعالى منزه عن مماثلته. ولذلك فإن عقيدة أهل السنة والجماعة، وهو معتقد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أن الله سبحانه وتعالى يُعلم بما أخبر في الكتب المنزلة على أنبيائه ورسله، ويُعلم بما فطر الخلق عليه من صفاته وأفعاله، ولكن لا يحاط به علماً، وهذا هو المذكور في قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، فإذا كان هذا في صفة من صفاته ففيما يتعلق بتمام ذاته من باب أولى.

شرح العقيدة الطحاوية [2]

شرح العقيدة الطحاوية [2] الله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له، وهو الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، الذي لا يعجزه شيء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

عموم قدرة الله تعالى

عموم قدرة الله تعالى قال المصنف رحمه الله: [ولا شيء يعجزه؛ ولا إله معه]. قوله رحمه الله: (ولا شيء يعجزه). هذه الجملة من الجمل المجمع عليها بين المسلمين، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لا شيء يعجزه. ومن الملاحظ أن الجمل التي يذكرها الطحاوي رحمه الله تارةً تكون جملاً يحصل بها تخصيص لمعتقد أهل السنة والجماعة عن معتقد مخالفيهم من المتكلمين أو غيرهم من الطوائف، وتارةً يذكر جملاً لا يحصل بها التخصيص؛ حيث تكون الجملة من معاقد الاتفاق بين سائر طوائف المسلمين، فقوله: (ولا شيء يعجزه) هذه جملة مجمع عليها، فليس هناك طائفة من الطوائف تخالف هذه الجملة.

معنى شهادة أن لا إله إلا الله

معنى شهادة أن لا إله إلا الله وقوله: (ولا إله غيره). أي: لا معبود غيره، وتفسير توحيد الألوهية هو: أنه لا معبود بحق إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.

حكم إطلاق لفظ (القديم) على الله تعالى

حكم إطلاق لفظ (القديم) على الله تعالى قال المصنف رحمه الله: [قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء]. لفظ: (القديم) لم يرد في الكتاب ولا في السنة، وهو من الألفاظ التي استعملها المتكلمون، وكان ينبغي للمصنف رحمه الله أن لا يعبر بها، ولا سيما أن اللفظ القرآني المناسب لهذا المقام متحقق، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح في دعائه: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، وقوله: (وأنت الباطن فليس دونك شيء) معناه: لا يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى. فكان ينبغي أن يقول: (الأول بلا ابتداء)، أو: (الأول الذي ليس قبله شيء)، كما قال عليه الصلاة والسلام، وذلك لأن لفظ (القديم) لم يرد، وهو لفظ مجمل، والله سبحانه وتعالى يُوصف بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من الأحرف القرآنية، أو الأحرف والكلمات النبوية، فلابد من الاقتداء بالكلمات القرآنية والكلمات النبوية. وأما الأحرف الحادثة التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة، والمجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً؛ فإن مذهب السلف فيها التوقف في لفظها والتفصيل في معناها. وعليه: فكل لفظ مجمل حادث فإنه لا يُطلق إثباتاً ولا نفياً؛ بل يُستفصل عن معناه، فإن أريد به ما هو حق قُبل، وإن أُريد به ما هو باطل رُدّ، وأما اللفظ فيتوقف فيه؛ فإن كان المعنى حقاً عبر بالألفاظ والكلمات الشرعية. هذه هي القاعدة في الألفاظ المجملة الحادثة. والحدوث -كما ذكرنا- هو اللفظ الذي لم يذكر في الكتاب والسنة. والإجمال: هو أن يكون اللفظ محتملاً لأكثر من معنى بينها تضاد واختلاف. وينبه هنا إلى مسألة مهمة: وهي أن الإجمال تارةً يكون بأصل الوضع -أي: بأصل اللغة، فهو في لسان العرب لفظ مجمل- وتارة يكون موجبه الاستعمال وليس اللغة، فإذا كان اللفظ حادثاً ومجملاً من جهة لسان العرب، فإنه لا يطلق إثباتاص ولا نفياً في حق الله تعالى، وكذلك إذا كان لفظاً حادثاً ومجملاص من جهة الاستعمال، وإن كان من حيث اللغة ليس مجملاً. مثال ذلك: لفظ (الظاهر) أي: ظاهر الكلام، فهذا اللفظ من حيث اللغة العربية ليس مجملاً، لكن لما استعملته الطوائف صار مجملاً، حيث صارت طائفة منهم يفسرون الظاهر بالتشبيه، وطائفة أخرى يفسرون الظاهر بالتأويل .. وغير ذلك، ولهذا لما تكلم المتأخرون: هل ظاهر نصوص الصفات مراد أو ليس مراداً؟ كان جواب أهل السنة والجماعة كـ شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: أن لفظ الظاهر لفظ مجمل، لا من جهة اللغة، وإنما من جهة الاستعمال والقاعدة المقررة: أن كل لفظ مجمل حادث فإنه لا يطلق إثباتاً ولا نفياً؛ بل يستفصل في معناه، فإن أريد به ما هو حق قبل، وإن أريد به ما هو باطل رُد، والمعنى الحق يعبر عنه بالألفاظ الشرعية. فإذا عُبر عن عقيدة أهل السنة والجماعة بياناً لها، فلا يصح في هذا المقام استعمال الألفاظ المجملة، إنما تستعمل في مقام مخاطبة أهل الاصطلاح الذين لم يعرفوا إلا هذا الاصطلاح، قال شيخ الإسلام رحمه الله في درء التعارض: (والأصل في هذا المقام الاعتبار بالأحرف والكلمات المذكورة في الكتاب والسنة) ثم قال: (وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم فإن هذا مما تسوغه الشريعة إذا قام مقتضيه). وهذا إذا لم يمكن أن يخاطبوا إلا بهذا الاصطلاح؛ كالطوائف التي لم تعرف الألفاظ القرآنية والنبوية على التحقيق، وإنما استعملت ألفاظاً كلامية.

آخرية الله عز وجل

آخرية الله عز وجل وقوله: (دائم بلا انتهاء). هذا التعبير أجود من التعبير السابق، مع أنه لو عبر بأنه (الآخر الذي ليس بعده شيء) لكان أجود وأصوب؛ لأن هذا هو لفظ القرآن. والفرق بين قوله: (دائم بلا انتهاء) وقوله: (قديم بلا ابتداء) مع أن كليهما ليس موافقاً للحرف القرآني؛ أن لفظ (القديم) فيه إجمال من جهة الاصطلاح، ومن جهة اللغة، فإن القديم في اللغة لفظ إضافي، أي: المتقدم على غيره، وقد يتقدمه غيره.

تنزيه الله تعالى عن الفناء والعدم

تنزيه الله تعالى عن الفناء والعدم قال المصنف رحمه الله: [لا يفنى ولا يبيد، ولا يكون إلا ما يريد]. قوله: (لا يفنى ولا يبيد). هذه الألفاظ ليست مذكورةً في الكتاب ولا في السنة، ومراد المصنف بها التنزيه، أي: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن الفناء والعدم، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:26 - 27]، وكأن هذا هو معتبر الإمام الطحاوي في تعبيره عندما قال: (لا يفنى)، ولكنه ذكره على جهة الفعل.

مقام الإخبار عن الله أوسع من مقام الوصف والتسمية

مقام الإخبار عن الله أوسع من مقام الوصف والتسمية وكان الأولى بالمصنف في هذه الجمل المجملة أن يستعمل ما في القرآن، ولكن مع هذا فإن جملته ليس فيها تعقيد، فإنها مفصلة، ولفظها أصله معروف في الشرع، وحتى لو لم يكن كذلك فإنه ليس لفظاً مجملاً، فإن اللفظ إذا كان مفصلاً ساغ الإخبار به وإن لم يكن مستعملاً في القرآن، وهذا يتعلق بمسألة التفريق بين وصف الله بالصفة أو تسميته بالاسم وبين الإخبار عنه، فإذا قصد مقام ذكر أسماء الله وصفاته، فإن هذا معتبر بالألفاظ الشرعية، وأما إذا قصد الإخبار العام عن الله سبحانه وتعالى فإن هذا يعبر عنه بما هو صحيح بمقتضى الشرع واللغة؛ وإن لم يكن من جهة اللفظ مستعملاً؛ ولهذا فإن المسلمين في الدعاء يخاطبون الله سبحانه وتعالى بما هو من الإخبار عنه، ولربما تعذر انضباطه لاختلاف مسائل الناس وحاجاتهم. وباب الإخبار قد نص أئمة السنة والجماعة على أنه أوسع من باب الاسم والصفة، والمقصود به: ما لم يُذكر على جهة كونه اسماً أو صفةً، وإنما يأتي في سياق العموم، فهذا يسوغ وإن لم يرد لفظه إذا كان لفظه ومعناه مما لا يُعارض النصوص الشرعية.

أقسام إرادة الله تعالى

أقسام إرادة الله تعالى وقوله: (ولا يكون إلا ما يريد) إرادة الله سبحانه وتعالى جاءت في القرآن على نوعين: النوع الأول: إرادة التكوين، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدْ الله أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام:125]، وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. النوع الثاني: الإرادة الأمرية الشرعية، وهي أمره سبحانه وتعالى لعباده، ولا تلازم بين الإرادتين، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، فهذه الإرادة الأمرية الدينية الشرعية تقع مخالفتها من العصاة إما بالكفر أو ما دونه. بخلاف الإرادة الكونية الخلقية وهي إرادة التكوين والخلق والتدبير، فإن هذه لا يمكن أن يتخلف متعلقها، فإذا أراد الله شيئاً على هذا الوجه فإنه لابد أن يكون. فكل ما يقع وما سيقع وما لم يقع مما يمكن وقوعه فإن الله سبحانه وتعالى قد أراد وقوع ما وقع، وأراد وقوع ما سيقع، وأراد عدم وقوع ما لم يقع ولم يقدر وقوعه، فكل شيء بإرادته، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] وهذه إرادة التكوين والخلق. وخلق الله سبحانه وتعالى يقع بمحض الأمر والإرادة، ويقع بتوسط السبب، كخلقه لأفعال العباد، فإنها بتوسط السبب وهو العبد، وكخلقه للإنسان فإنه بتوسط السبب وهما الأب والأم، وما إلى ذلك، والله سبحانه وتعالى هو الخالق للسبب وللمسبب ويأتي تفصيل هذا في مسألة: أفعال العباد، وبيان معتقد السلف في ذلك.

تنزيه الله عن فروض الذهن وتصوراته

تنزيه الله عن فروض الذهن وتصوراته قال المصنف رحمه الله: [لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام]. قوله: (لا تبلغه الأوهام): (الوهم): هو ما يفرضه الذهن ويعرض له. و (الفهم): هو ما يتصوره الذهن، وهذا من الأوجه الممكنة في تفسير الفهم والوهم، وإلا لو أخذناها كمصطلحات كلامية أو فلسفية لطال القول فيها، والمعنى المقارب لمراد المصنف أنه أراد أن يقول: إن الله سبحانه وتعالى لا يبلغه تصور ولا فرض الذهن، والذهن -كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله -: يفرض المحال ولكنه لا يتصوره؛ فتصور الذهن أقرب إلى الإمكان من فرضه، والله سبحانه وتعالى منزه عن ما يفرضه الذهن. إذاً: الفرض هو المرحلة الأولى التي يعرض فيها الشيء في الذهن، وقد يكون في هذه المرحلة ممكناً وقد يكون محالاً، فإذا ما دخل مرحلة التصور، فرفض الذهن أن يتصور ذلك الشيء دل على أنه إما محال، وإما أن الذهن عجز عن تصوره مع أنه قد يكون في الحقيقة من الأشياء الممكنة. فمثلاً: قد يفرض الذهن مثلثاً له أربعة أضلاع! وهذا من المحالات التي لا يستطيع أن يتصورها؛ ولهذا كان من القواعد التي اعتمدها شيخ الإسلام في رده على المخالفين قوله: (إن ما ذكره الفلاسفة أو غلاة المتكلمين من الدلائل العقلية هي فروضات يفرضها الذهن، ولا اعتبار بما يفرضه الذهن؛ لأن الذهن قد يفرض المحال والممتنع، وأما ما يتصوره الذهن تصوراً تاماً فإنه يكون ممكن الوجود، فالله سبحانه وتعالى منزه عما يفرضه الذهن ويتصوره حتى ولو كان تصوراً كمالياً. وقوله: (لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام)، هو من عبارات السلف كقولهم: (أمروها كما جاءت بلا كيف)، أي: مع نفي الكيفية عن الله سبحانه وتعالى، لا نفي وجود وإنما نفي علم، كما قال الإمام مالك في قاعدته المتواترة والمتلقاة بالقبول عند سائر أهل العلم: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعه). فقوله: (الكيف مجهول) أي: أن صفات الله سبحانه وتعالى لابد لها من حقيقة وكيفية ولكنها مجهولة. أما كونها مجهولة فذلك بدلالة الشرع؛ لأن الله أخبرنا أنه استوى ولم يخبرنا كيف استوى، فالاستواء مجهول بدلالة العقل؛ لأن العلم بالكيفية ممتنع، فإن الكيف إنما يُعلم بالخبر المفصل أو بالمشاهدة أو بمشاهدة النظير، والله لم يخبرنا بالكيف مفصلاً، ولم نره، وهو متعال ومنزه سبحانه وتعالى عن المثيل والشبيه. وقوله: (والإيمان به واجب)، أي: أن الإيمان بالخبر ليس مبنياً على الإيمان بالعلم بالكيفية؛ فإن هذا منفك عن هذا، والناس يؤمنون بأشياء كثيرة مع أنهم لم يعرفوا كيفيتها.

نفي التمثيل أولى من نفي التشبيه

نفي التمثيل أولى من نفي التشبيه قال المصنف رحمه الله: [ولا يشبه الأنام]. قوله: (ولا يشبه الأنام) لفظ التشبيه جرى ذكره منفياً في كلام الأئمة رحمهم الله، لكن هذا اللفظ لم يستعمل في الكتاب ولا في السنة، ومن هنا فإن التعبير بنفي التمثيل يكون أصح من جهة أنه اللفظ الذي عُبر بنفيه في القرآن، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وتخصيص المصنف (الأنام) بالذكر ليس هو الأولى، بل كان الأولى أن ينفي ذلك مطلقاً، إلا إذا أريد أن هذا من باب قياس الأولى؛ فإن الله سبحانه وتعالى كرَّم بني آدم، وإذا كان الله سبحانه وتعالى منزهاً عن مشابهتهم فغيرهم ممن هو دونهم من باب أولى. أو يُفَسَّر كلام المصنف بأن المراد (بالأنام) سائر المخلوقين، فإنه بهذا الاعتبار يكون ممكناً. قال المصنف رحمه الله: [حي لا يموت، قيوم لا ينام]. قوله: (حي لا يموت): ذكر المصنف اسم الحي والصفة المتضمنة له، وذكر النفي، مع أن الأصل أن اللفظ المفصل إثباتاً في القرآن لا يلحق به نفي ما يضاده إلا في الموارد المذكورة في النصوص على هذا الوجه، فمثلاً: إذا ذكر السميع والبصير فإنه يذكر ولا يلحق به النفي؛ لأن العلم بالنفي علم قاطع، من باب أن المتقابلين يمتنع ثبوتهما معاً، فلما ثبت أنه سميع عُلِمَ أنه منزه عن ضد ذلك؛ لكن المصنف قال هنا: (حي لا يموت)، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {الله لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] فلما حصلت هذه المناسبة في هذا السياق جرى المصنف على هذا الاعتبار، وإلا فإن الأصل أن اللفظ المفصل لا يلحق به النفي الذي يعلم ثبوته معه.

التفصيل في معنى: (الحاجة) المنفية عن الله

التفصيل في معنى: (الحاجة) المنفية عن الله قال المصنف رحمه الله: [خالق بلا حاجة، رازق بلا مئونة]. قوله: (خالق بلا حاجة): (الحاجة) لفظ مجمل حادث، أما كونه حادثاً فلأنه لم يذكر في الكتاب ولا في السنة، وأما كونه مجملاً فهذا باعتبار الاستعمال. مثلاً: علماء الأشاعرة لما تكلموا في مسألة حكمة الله لم يصرح أحد منهم بنفي الحكمة عن الله، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في رده على ابن المطهر في منهاج السنة، لما قال ابن المطهر: إن بعض طوائف السنة ينفون عن الله الحكمة، قال شيخ الإسلام: (وأما قوله: إن بعض طوائف السنة ينفون عن الله الحكمة، فإنما يريد به مذهب الأشعرية، ومع هذا فإن الأشعري وسائر أصحابه لم ينطق أحد منهم بنفي لفظ الحكمة، بل هذا لا يعرف عن أحد من المسلمين)، فإنهم وإن كان حقيقة مذهبهم نفي الحكمة، لكنهم لا يعبرون بنفيها. لكن الأشاعرة سموا الحكمة غرضاً وحاجة، ولهذا نجد في كتب الأشاعرة كثيراً (فصل في أن الله منزه عن الأغراض والحاجات) ومرادهم بالحاجات والأغراض: هو معنى الحكمة المعروف في كلام السلف رحمهم الله، وإذا ذكر الأشعرية الحكمة فسروها بمحض الإرادة والمشيئة، وأما معناها فإنهم ينفونه تحت مسمى الغرض والحاجة. وعليه: فقول المصنف: (خالق بلا حاجة)، وهذا حرف فيه تردد، فإننا لو أخذنا اللفظ حسب وضع اللغة العربية فإن الجملة تكون مناسبة، حتى ولو لم يرد اللفظ في القرآن فإننا نقول: هذا من باب الإخبار، والخبر إذا كان صحيحاً، ولفظه في اللغة صحيح فلا يلزم التصريح به في الكتاب أو السنة، لكن هذه الجملة فيها نظر؛ لأن لفظ: (الحاجة) صار يراد به عند الأشاعرة وكثير من المتأخرين نفي الحكمة والتعليل لأفعال الله سبحانه وتعالى، وهذا هو الذي جعل بعض شراح الطحاوية يفسرون ذلك بأنه خلق الخلق ليس لحكمة ولا لعلة، إنما لمحض المشيئة، فالصحيح أن يقال: هو الخالق، وهو مستغن عن خلقه، ولكنه خلق الخلق لحكمة. وجميع حكمته سبحانه لا يعلمها الناس، قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وإذا كان أمره سبحانه وتعالى يخفى على كثير من الناس مراده به فكيف بحكمته -ويريد بذلك قوله تعالى: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة:101]- التي لا يعلمها على التمام ملك مقرب ولا نبي مرسل، وإنما يعرفون أصولها وجملها، كقوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، لكن سائر ما يقع في هذا الكون من الحركة والسكون والأفعال والتقدم والتأخر والمآلات وما إلى ذلك، فإن تفاصيل العلم بهذه الأشياء محض حق الله سبحانه وتعالى.

عموم رزق الله لخلقه

عموم رزق الله لخلقه قول المصنف رحمه الله: [رازق بلا مئونة] أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الرازق يرزق من يشاء، ومسألة الرزق تكلمت المعتزلة فيها من جهة أن رزقه سبحانه وتعالى هل هو سائر ما يقع لعباده حتى ولو كان العبد كافراً، أم أن الرزق لا يضاف إلا لمن آمن به؟ فذهب طائفة من المعتزلة إلى أن الرزق خاص بمن آمن به، قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهذا تخصيص مخالف لإجماع السلف، بل رزقه سبحانه وتعالى لسائر من خلق من بني آدم وغيرهم من آمن منهم ومن كفر. قال المصنف عليه رحمة الله: [مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة]. الجمل التي تقدم ذكرها إلى هذه الجملة كلها مجملة متفق عليها في الجملة بين سائر طوائف المسلمين، ولم يذكر المصنف جملةً مختصةً يقع بها التمييز لمذهب السلف عن غيرهم. وبعض الطوائف قد تفسر بعض هذه الجمل تفسيراً يختلف عن تفسير السلف لها، لاختلافهم في مناطاتها، مثلاً قاعدة: (أن الله سبحانه وتعالى مستحق للكمال منزه عن النقص)، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذه قاعدة متفق عليها بين سائر طوائف المسلمين، لا أحد ينازع في كون الباري سبحانه مستحقاً للكمال منزهاً عن النقص، وإنما اختلف المسلمون في تحقيق مناطها. أي: في تفسير الكمال: هل هو بإثبات الصفات أم بنفي الصفات كما ذهبت الجهمية والمعتزلة وكثير من الطوائف الكلامية، أم بإثبات بعض الصفات ونفي بعضها، أم بالتفويض؟

حقيقة الموت عند أهل السنة وغيرهم

حقيقة الموت عند أهل السنة وغيرهم قوله: (مميت بلا مخافة) أي: أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق المحيي المميت، والموت عند أهل السنة والجماعة مخلوق، كما نقل الإجماع عليه غير واحد منهم الإمام ابن تيمية رحمه الله، وكذلك عند جمهور الطوائف الكلامية. وهذا هو ظاهر القرآن والسنة؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك:1 - 2]، فجعل الموت أحد مخلوقاته، وكذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في الصحيحين أنه قال: (يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنا)، فالموت مخلوق خلافاً للفلاسفة الذين زعموا أن الموت عدم محض.

شرح العقيدة الطحاوية [3]

شرح العقيدة الطحاوية [3] الله سبحانه وتعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن؛ الذي فيه ذكره وذكر أسمائه وصفاته، فبلّغ صلى الله عليه وسلم ما أنزل عليه وبينه أتم البيان؛ لذا كان معتقد أهل السنة الإيمان بما وصف الله به نفسه وسمى، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وسماه، من غير تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف ولا تمثيل.

تقرير الأسماء والصفات لله جل وعلا

تقرير الأسماء والصفات لله جل وعلا قال المصنف رحمه الله: [ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه]. هذه الجملة من الجمل التي فيها تخصيص وتمييز للمذهب الذي يتقلده الطحاوي رحمه الله، فهي ليست مجملة كالجمل السالفة، ومع كونها مفصلةً من جهة إلا أنها مجملة من جهة أخرى، أما كونها مفصلة مميزة فلأنها أخرجت قول الجهمية والمعتزلة وأبطلته، لأن الجهمية والمعتزلة يقولون: إن الله تعالى حدث له الفعل بعد أن لم يكن، ولا يثبتون صفةً قائمةً بذاته سبحانه وتعالى. ولكنها مجملة من وجه آخر، لأنها لم تميز قول السلف عن قول الأشاعرة، ولا سيما المحققين منهم المقاربين لطريقة الأئمة. ومن جهة تقرير مسألة الصفات على جهة الإجمال نقول: إن الله سبحانه وتعالى بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن الذي فيه ذكر أسمائه سبحانه وتعالى وصفاته، وعلى هذا اتفق الأنبياء والرسل وأتباعهم؛ ولهذا فإن مذهب أهل السنة والجماعة كما هو مقرر ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى موصوف بما وصف وسمى به نفسه، وبما سماه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، لا في الأحرف ولا المعاني، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل أهل السنة والجماعة وسط بين المعطلة من الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الصفاتية الذين شاركوا في التعطيل، وبين المشبهة والمجسمة، فهم وسط في هذا الباب كما هم وسط في سائر أبواب أصول الدين بين طوائف المسلمين. وأول مخالفة ظهرت في باب الأسماء والصفات -وهو من أخص أصول الإيمان والربوبية- لما أظهر الجعد بن درهم مقالة التعطيل، فزعم أن الله لا يوصف بصفة ولا يسمى باسم، وتابعه على ذلك الجهم بن صفوان، وصارت هذه المقالة تسمى عند السلف مقالة الجهمية نسبة إلى الجهم بن صفوان؛ لأنه هو الذي أشاعها وأذاعها ونشرها، ثم تقلدتها المعتزلة كـ أبي الهذيل العلاف ومن بعده، فصاروا يقررون هذا المذهب.

من هم الجهمية؟

من هم الجهمية؟ وهنا يشار إلى مسألة وهي: أن (الجهمية) في كلام المتقدمين من أئمة الحديث لا يعنى به ضرورةً أتباع الجهم على سائر أصوله، وإنما يعنى به كل من نفى الصفات، سواء كان جهمياً من حيث الأصول أو لم يكن كذلك؛ ولهذا في فتنة خلق القرآن في زمن المأمون والمعتصم سمى السلف المخالفين لهم: (جهمية)، وسموا الرد عليهم: (الرد على الجهمية)، ومرادهم بالجهمية هنا: نفاة الصفات، سواء كانوا من أتباع الجهم أو من المعتزلة، ذلك أن المعتزلة تشارك الجهم في نفي الصفات، ولكن من المعلوم أن علماء المعتزلة يكفرون الجهم بن صفوان، ليس من جهة نفيه للصفات بل من جهة مسائل أخرى، فإن بين الجهم بن صفوان وأتباعه المختصين به وبين المعتزلة فروقاً في الأصول، وعلى سبيل المثال:

الفرق بين المعتزلة والجهمية

الفرق بين المعتزلة والجهمية 1 - المعتزلة وعيدية في مسائل الإيمان والأسماء والأحكام، والجهم بن صفوان على النقيض من ذلك، فهو على مذهب المرجئة الغلاة. 2 - المعتزلة تزعم أن مرتكب الكبيرة يفقد الإيمان، وأنه مخلد في النار، في حين أن الجهم بن صفوان يرى أن الإيمان هو محض المعرفة، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب. 3 - مسألة القدر: فإن الجهم من غلاة الجبرية -أي: أن العبد مجبور على فعله- في حين أن المعتزلة قدرية، يقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد، بل العبد مستقل بفعله. 4 - بينهم في مسألة الأسماء والصفات اشتراك وافتراق، فإن المعتزلة تقر بأصل الأسماء، في حين أن الجهم بن صفوان لا يقر بالأسماء ولا بالصفات؛ ولهذا فإن المعتزلة في الجملة دون الجهم بن صفوان من هذا الوجه، ولا نقول إنهم يثبتون الأسماء، لأنهم لا يلتزمون أن يسمى الرب سبحانه وتعالى بسائر ما سمى به نفسه أو سماه به رسوله، ولكن أصل الأسماء عندهم ثابت، والذي يتفقون عليه هو: أنه حي عليم قدير، وزاد بعض طوائفهم: أنه سميع بصير، فهذه الأسماء الخمسة هي مدار الإثبات عند المعتزلة.

ظهور المشبهة

ظهور المشبهة لقد ظهر في الزمن المتقدم قوم يشبهون صفات الباري بصفات خلقه، وأول من حفظ عنه مذهب التشبيه هم طائفة من غلاة الرافضة الإمامية كـ هشام بن الحكم الرافضي، وهشام بن سالم الجواليقي وأمثالهما. فلم يكن إذ ذاك في الناس إلا إحدى ثلاث مقالات: 1 - مقالة السلف: وهي الأصل المجمع عليه بين الصحابة وأئمة التابعين، أن الله له أسماء حسنى وصفات علا تليق بجلاله. 2 - مقالة المعطلة الجهمية نفاة الصفات. 3 - مقالة المشبهة.

ظهور الكلابية والأشعرية والماتريدية

ظهور الكلابية والأشعرية والماتريدية ثم حدث أن جاء رجلان بعد القرون الثلاثة الفاضلة، هما: أبو الحسن الأشعري، وأبو منصور الماتريدي، وقد ظهرا في آخر زمن الإمام أحمد، وقبل هذين الرجلين رجل اسمه عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهو من علماء الكلام، وكان من أشد الناس رداً على المعتزلة، وانتحل مذهباً ملفقاً من مذهب الأئمة ومذهب المعتزلة، ويزعم أنه توسط بجمعه بين ذلك، فكان يثبت أصول الصفات ويقول بقدمها ولكنه لا يثبت الصفات الفعلية، فمثلاً يقول: إن الله موصوف بصفة الكلام، وأنه معنى واحد أزلي لا يتعلق بالقدرة والمشيئة، وتبعاً لذلك لا يكون عنده بحرف ولا صوت مسموع. ويقول: إن الله موصوف بالغضب، ولكنه واحد أزلي، وموصوف بالرضا، ولكنه واحد أزلي، وهكذا. وقد انتحل رأيه أمثال الحارث بن أسد المحاسبي الصوفي، الناسك المعروف، صاحب كتاب (الرعاية)، وكتاب (فهم القرآن)، وقرر الحارث المحاسبي هذا المذهب الذي قاله ابن كلاب في كتابه (فهم القرآن)، وهو كتاب مطبوع. ومنذ ذلك الوقت صار ما قرره ابن كلاب يضاف إلى أهل السنة؛ ولهذا نجد أن الحارث المحاسبي في الصفات الفعلية يقول: إن لأهل السنة فيها قولين، فيجعل للأئمة قولاً، ويجعل ما قاله ابن كلاب هو القول الآخر، ثم يختار القول الذي قاله ابن كلاب، حتى ظهر الأشعري والماتريدي بعد الحارث بن أسد وابن كلاب.

عقيدة أبي الحسن الأشعري

عقيدة أبي الحسن الأشعري الأشعري أصله معتزلي، وهذا مجمع عليه بين الأشاعرة وسائر أهل المقالات والسير، وقد مضى في الاعتزال زمناً طويلاً، وصرح في كتبه بأنه كان معتزلياً، وأنه صنف للمعتزلة كتباً لم يصنف لهم مثلها. والأشبه أنه كان زمن الاعتزال على طريقة أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي؛ لأنه تتلمذ على يديه ونشأ في كنفه، ثم رجع الأشعري عن الاعتزال، وهذا لا خلاف فيه بين الناس، لا من الأشاعرة، ولا من أصحاب السنة المحضة، ولا من سائر أهل المقالات والسير. إنما الذي حصل فيه تردد وكلام هو: إلى أي شيء رجع الأشعري؟ هنا أحد مسلكين: المسلك الأول: أن الأشعري كان معتزلياً ثم رجع كلابياً، ثم رجع سنياً، أي أنه مرَّ بثلاثة أطوار. وهذا القول يعتمده كثير من الباحثين، وهو غلط محض لمن نظر كتب الأشعري وتأمل كلامه، ونظر كتب المحققين كـ شيخ الإسلام رحمه الله. المسلك التالي وهو الصواب: أن الأشعري ليس له إلا مذهبين: المذهب الأول هو الاعتزال، ثم لما ترك مذهب المعتزلة انتحل مذهب أهل السنة. أما من حيث الحقيقة العلمية فإن الأشعري كان معتزلياً، ثم لما ترك الاعتزال وانتحل مذهب أهل السنة كان -كما يقرر شيخ الإسلام في منهاج السنة وغيره- علمه بالكلام وأصوله ومقالات المتكلمين من المعتزلة وغيرهم علماً مفصلاً، وكان علمه بمقالات السلف والأئمة علماً مجملاً، لأنه اعتنق مذهب أهل السنة عن بعض حنبلية بغداد، فأخذه أخذاً مجملاً، فصار الأشعري يقصد إلى تحقيق مقالة الأئمة، لكن لكون علمه بها علماً مجملاً لم يحقق ذلك، وإن كان عنده نوع ترق إلى الأفضل، فكتبه الأخيرة -كالإبانة- هي أجود ما كتب، وإذا قارنت بين كتاب (الإبانة) وكتاب (اللمع) مثلاً وجدت بين الكتابين فرقاً، وأن كتاب (الإبانة) أجود بكثير من كتاب (اللمع). لكن مع هذا فإن الأشعري لم يخلص إلى السنة المحضة، بل بقي عليه مسائل كثيرة اختلطت عليه، وأخص ذلك مسألة الصفات والقدر والإيمان، فهو في الصفات على طريقة ابن كلاب، بل إن ابن كلاب أجود حالاً من الأشعري كما يصرح بذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله في مواضع كثيرة؛ لأن ابن كلاب يثبت الغضب والرضا ونحوها من الصفات، ويقول: إن الله موصوف بالغضب، ولكنه واحد أزلي، ولا يفسر الغضب والرضا بالإرادة، بل يثبتها صفةً أزلية، في حين أن الأشعري يفسر الغضب والرضا بصفة الإرادة. وكذلك في القدر: فإن الأشعري أبطل الجبر لفظاً، وأبطل مذهب القدرية المعتزلة، ولكنه قال بالكسب فوافق أهل السنة والجماعة لفظاً -حيث إن لفظ الكسب لفظ مستعمل في القرآن وقد أضيف إلى العباد كقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِيْنَة} [المدثر:38] إلى غير ذلك من الآيات، ولكنه فسر الكسب تفسيراً جبرياً، فقال: إن للعبد قدرةً ومشيئةً مسلوبة التأثير يقع الفعل عندها لا بها، فهو جبري، ولكنه دون الجبرية المحضة. ولهذا نجد علماء الأشاعرة كـ الشهرستاني والجويني والرازي يقولون: إن ما قرره أبو الحسن في هذا المقام جبر متوسط، وكذلك يقول الرازي: الكسب معناه: أن العبد مجبور في صورة مختار. وهذا المذهب هو أحد مذاهب الجبرية، لأن الأشاعرة مذهبهم معروف في مسألة القدر، ويتوهمون أنه لا يصح في هذا إلا قول القدرية أو الجبرية، ومن هنا اختاروا مذهب الجبر. كذلك في مسألة الإيمان: يقول الأشعري: إن الإيمان هو التصديق، وهو بهذا مقارب لقول غلاة المرجئة وإن كان ليس مثلهم. وأما في آخر كتبه فقد صار يتباعد عن المسائل المفصلة التي لم يحكمها، وينطق بالعبارات السلفية المجملة ويدعها على إجمالها، أي: أنه يذكر الآيات والأحاديث ولا يتكلم في تفصيلها أو تفسيرها، فمثلاً في كتاب الإبانة وهو من آخر ما كتب يقول: (ونؤمن بأن الله مستوٍ على العرش كما في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]) لكنه لا يفصل مقصوده بالاستواء؟ وفي كتبه الأخرى يقول: إن الاستواء فعل فعله بالعرش صار به مستوياً. أي أنه لا يثبت الاستواء الذي كان يثبته السلف. ومن هنا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وأما من قال منهم -أي: الأشعرية- بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالةً تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب إلى الأشعري بدعة! هذا نص كلام شيخ الإسلام. وقد توهم بعض الباحثين أن الإمام ابن تيمية رحمه الله يرى أن الأشعري مر بثلاثة أطوار، وأن الطور الأخير الذي كتبه في كتاب (الإبانة) هو طور السلفية المحضة، وهو ليس كذلك، إنما مراد الإمام ابن تيمية رحمه الله أن جمل كتاب (الإبانة) جمل سلفية، وإن كان الأشعري في كتاب (الإبانة) إذا أتى لمسألة فيها خلاف بين الأئمة والمعتزلة فإنه يفصلها ويقضي على مذهب المعتزلة ويبطله، كمسألة الرؤية مثلاً، فإنه أثبت الرؤية واستدل بدلائل فاضلة، منها استدلاله بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] قال: إن الإدراك هو الذي نُفي، وهو قدر زائد على الرؤية، ونفي القدر الزائد دليل على أن أصل الرؤية ثابت، وهذا استدلال فاضل اعتمده شيخ الإسلام في كتبه. وإذا جاء إلى الخلاف الذي بين ابن كلاب والأئمة فإنه لا يفصله، وإنما يقف على الإجمال.

أسباب التباس مذهب الأشعري

أسباب التباس مذهب الأشعري لقد صار مذهب أبي الحسن الأشعري مشكلاً من جهتين: الأولى: أنه ينتحل مذهب أهل السنة ويقول: إنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وهذا صرح به في كتاب (الإبانة) لما قال: فإن قيل: قد أبطلتم قول المعتزلة والخوارج والمرجئة، فما قولكم الذي تقولون به ودينكم الذي تدينون الله به؟ قال: هو ما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم أثنى على الصحابة خيراً، ثم قال: ونحن بكل ما يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون، ولما يعتقده معتقدون، فإنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل. فكان متشبثاً بالانتماء للإمام أحمد بن حنبل، حتى إن بعض الحنابلة كـ أبي بكر عبد العزيز كان يعده من متكلمة الحنابلة. الجهة الثانية: أنه في كتبه الأخيرة صار يجمل في المسائل التي فيها خلاف بين ابن كلاب والسلف، ويستعمل العبارات المجملة الصحيحة من حيث حروفها؛ ولهذا السبب انتحل مذهب الأشعري خلق كثير من الفقهاء وتأثروا به.

عقيدة الماتريدي والفرق بينه وبين الأشعري

عقيدة الماتريدي والفرق بينه وبين الأشعري أما الماتريدي فكان مشهوراً ومعروفاً بالرد على طائفة من المعتزلة، ولكنه وإن كان يسمي مذهبه مذهب أهل السنة، ويقول: (قال أهل السنة)، و (الذي عليه أهل السنة)، و (إجماع أهل السنة)؛ فإنه أكثر مباينةً لمذهب السلف من الأشعري، فـ الأشعري خير منه من جهتين: الجهة الأولى: من جهة الانتماء؛ فإن الأشعري لا ترى في كلامه استعمال لفظ (الحشوية) أو (النابتة) وأمثالها في وصف مقالة المتقدمين من الأئمة، في حين أن الماتريدي يستعمل هذا، وهو استعمال دخل عليه من كلام المعتزلة، فالمعتزلة كانوا يسمون مقالات السلف بمقالات الحشوية وأمثالها. الجهة الثانية: من حيث الحقائق العلمية؛ فإن الماتريدي أقرب ما يكون إلى طريقة أبي المعالي الجويني من الأشاعرة، مع أن الجويني جاء بعده، وأما الأشعري فهو أجود منه في الاستدلال والمسائل. ولكن مع هذا فهذان المذهبان -أعني مذهب الأشعري ومذهب أبي منصور الماتريدي - صار لهما تأثير واسع على الكثير من الفقهاء المتأخرين.

تحول الرافضة من التشبيه إلى الاعتزال

تحول الرافضة من التشبيه إلى الاعتزال وأما مقالة المشبهة الأولى فهي قول لغلاة الرافضة، ولم يثبتوا على هذا المذهب فقد حصل في مذهب المعتزلة نوع من الميل إلى التشيع، فحينما ظهرت المعتزلة البغدادية صار البغداديون من المعتزلة يطرون علي بن أبي طالب كثيراً، وصار طائفة من البغداديين يفضلون علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر؛ فلهذا بدأت الشيعة الإمامية تتأثر بأصول المعتزلة، وكما قال الذهبي: إنه بعد المائة الثالثة التقى الرفض والاعتزال. أي: حصل بينهما تداخل في الأصول؛ ولهذا فإن أئمة الإمامية من بعد المائة الثالثة يقررون في مسألة الصفات والقدر مذهب المعتزلة. وكاد مذهب التشبيه على هذا الاعتبار أن يندثر، حيث لم يكن له أنصار، وكان هذا المذهب ظاهر البطلان.

ظهور الكرامية المجسمة

ظهور الكرامية المجسمة جاء محمد بن كرام السجستاني فأظهر مقالة التجسيم، وقال: إن الله جسم -تعالى الله عن ذلك- وهو لفظ لم يطلقه السلف لا إثباتاً ولا نفياً، وصار له أتباع من الحنفية خاصة ومن غيرهم، ولكن بقي مذهب التجسيم الذي انتحله ابن كرام ضعيفاً ليس له رواج، بل حتى مذهب المعتزلة الأوائل ضعف وتأخر؛ لأنه استقر فيما بعد أن مذهب المعتزلة مباين لمذهب الأئمة، إنما الذي ظل ملتبساً ويسمى مذهب أهل السنة عند كثيرين هو مذهب الأشاعرة، خاصةً أن الأشاعرة صاروا يطلقون على المذهب المأثور عن الأئمة: (مذهب الحنابلة)، ولهذا فإن الرازي حين ذكر مسألة العلو قال: (ولم يقل بهذا إلا الحنبلية والكرامية)، مع أن هذا القول هو القول المجمع عليه بين السلف وإن كان الرازي يغلط في سياقه وتقريره. وقوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه). أي أن الله سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال ولم يزل سبحانه وتعالى متصفاً بها، وهذا مفارقة لمذهب المعتزلة، من جهة أن المصنف أثبت الصفات، والمعتزلة لا يثبتون الصفات.

قدم الصفات والأفعال

قدم الصفات والأفعال وفي قوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه) إشارة إلى مسألة حدث بموجبها تعطيل الصفات: ومنشؤها أن أول ما ظهر علم الكلام على يد الجهمية والمعتزلة كانت هناك مقالة اطلع عليها علماء الكلام إذ ذاك في كتب طائفة من الفلاسفة الإلهية، وهي أن الله موجب بالذات، بمعنى: أنه لا يتعلق الفعل بإرادته ومشيئته، بل بين الذات والفعل التلازم بين من جهة تلازم الفعل والمفعول. ومحصل النتيجة من هذه الجملة: القول بقدم العالم، وهذا مذهب إلحادي كفري كان يقول به طائفة من الفلاسفة كـ أرسطو وأمثاله. فأراد المتكلمون من الجهمية والمعتزلة الرد على ذلك، فقالوا: إن الله قادر، ولا يسمى موجباً بالذات، بمعنى: حدث الفعل له بعد أن لم يكن، وهذا الرد أبطل مسألة قدم العالم من وجه، لكنه عطل الباري سبحانه وتعالى عن صفة الكمال .. لأنه يلزم على قولهم أن يكون الله سبحانه وتعالى فيما قبل ذلك معطلاً عن صفات الكمال، وهذا التعطيل ليس له تناهٍ لأن الله لا أول له. ولهذا كان السلف يقولون: إن الله لم يزل متصفاً بصفات الكمال من الكلام والفعل والإرادة والعلم والخلق والتدبير إلى غير ذلك من الصفات، فهي صفات أزلية. فقوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه). هذا مباينة من المصنف لمذهب المعتزلة، لأن المعتزلة لا تثبت الصفات، لكن المصنف لم يباين مذهب أبي الحسن الأشعري صراحة؛ لأن الأشعري يقول بإثبات جملة من صفات الله، ولكنه يجعل هذه الصفات قديمةً، ويجعل الفعل حادثاً بعد أن لم يكن، وهذا من تناقض الأشعري. والمتحقق المجمع عليه بين أئمة السنة والجماعة: أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالصفات، وأن فعله سبحانه وتعالى لا أول له، بل لم يزل فاعلاً، ولا يصح بإجماع السلف أن يُقال: إن الفعل حدث له بعد أن لم يكن.

خلاصة المذاهب في قدم الأفعال والصفات

خلاصة المذاهب في قدم الأفعال والصفات فالحاصل أن المذاهب في أزلية الصفات ثلاثة: المذهب الأول: مذهب السلف الذين يقولون بأزلية الصفات وأزلية الأفعال، فلم يزل الرب فاعلاً كما أنه لم يزل متصفاً بصفات الكمال، وأفعاله من صفاته، ومسألة الفعل هي المميزة عن مذهب الأشاعرة. المذهب الثاني: مذهب الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات، ويقولون: إن الفعل حدث بعد أن لم يكن، فهذا تعطيل محض. المذهب الثالث: وهو مذهب الأشعرية الذين يقولون بأزلية الصفات، ويتفقون على إثبات سبع صفات هي: الحياة، والكلام، والبصر، والسمع والإرادة، والعلم، والقدرة. ويزيد بعض متقدميهم ومحققيهم غير هذه السبع، وكلها عندهم قديمة، وأما الفعل عندهم فحدث بعد أن لم يكن. واتفاق السلف مع الأشاعرة على أزلية الصفات اتفاق مجمل، ولا يعني أن مذهب السلف في الصفات موافق لمذهب الأشاعرة، بل بينهم فرق من جهة حقيقة ما يثبت من الصفات، ومن جهة ما تتضمنه الصفة من الفعل كصفة الكلام مثلاً، فإن السلف يقولون: إن الله لم يزل موصوفاً بصفة الكلام. والأشاعرة يقولون: إن الله لم يزل موصوفاً بصفة الكلام، لكن الكلام عند الأشاعرة معنىً واحد قائم في النفس ليس بحرف ولا صوت. وأما السلف فعندهم الكلام بحرف وصوت ويتعلق بالإرادة والمشيئة .. وينتبه لمثل هذا في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -ولا سيما في كتبه الكبار- فمثلاً لما أراد أن يرد على الأشاعرة في مسألة الحكمة والتعليل، قال: وهذا القول الذي ذكره الأشعري أصله قول جهم بن صفوان، وجمهور المسلمين من السلف والأئمة وأهل الحديث والمعتزلة وجمهور طوائف الشيعة يثبتون الحكمة. فجعل كل هؤلاء مثبتةً للحكمة والتعليل، ومعنى هذا: أنهم يتفقون على إثبات الحكمة والتعليل إجمالاً، وإلا فالمعتزلة تثبت الحكمة التي تعود إلى العبد فقط، وتتعلق بمصالح العباد، لكن لا يثبتون حكمة تتعلق أو تقوم بذات الله سبحانه وتعالى فعلاً له وإرادة له، وهذا خلاف قول السلف. فينبغي لطالب العلم إذا ذكر له موافقة طائفة من الطوائف الكلامية لأهل السنة أن يتبين، فإن جمهور هذه الموافقات تكون موافقات مجملة ليست مفصلة، وقد يقع شيء من التفصيل في هذا.

الكلام على تسلسل الحوادث

الكلام على تسلسل الحوادث والمصنف رحمه الله لم يتطرق لمسألة حدوث الفعل، ولربما يمكن أن يقال: إن ظاهر عبارة الإمام الطحاوي أنه يميل إلى أن الفعل حدث فيما بعد، وهذا يؤدي إلى الكلام عن مسألة تسلسل الحوادث. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تكلم على هذه المسألة بكلام طويل، وهي لا شك مشكلة، لكن الذي قرره شيخ الإسلام على جهة الإجمال هو: أن الحوادث لا أول لها، وليس معنى هذا الإقرار بمسألة قدم العالم، فإن الشيء الحادث هو المسبوق بالعدم، ويمتنع على هذا قدم العالم، لأنه لا بد من سبق العدم، ومراد شيخ الإسلام رحمه الله إبطال مذهب الجهمية والمعتزلة وجماهير الأشاعرة الذين قالوا: إن الفعل حدث بعد أن لم يكن، فيرى شيخ الإسلام رحمه الله أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بالفعل، وأن كل فعل فإنه من جهة آحاده مسبوق بفعل قبله، وأن الفعل من حيث آحاده لا أول له، ولا يلزم على هذا قدم شيء من المفعولات؛ لأن كل فعل مسبوق بفعل قبله. هذا المذهب هو الذي قرره شيخ الإسلام، وحكى أنه إجماع أئمة السنة المتقدمين.

تجدد الصفات والأفعال

تجدد الصفات والأفعال قال المصنف رحمه الله: [لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته]. هذه جملة مجملة، وبيان هذا: أن ابن كلاب والأشعرية تبعاً له لا يرون مسألة تجدد الصفة، ولهذا لما تكلم الحارث بن أسد على العلم في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:143] قال: إن العلم هنا هو علم الظهور، بمعنى أنه لم يتجدد علم له سبحانه وتعالى؛ ولهذا لما بلغ الإمام أحمد رحمه الله قول الحارث بن أسد هجره، واختلف الناس في تعليل هجر الإمام أحمد له، والذي رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لقوله هذا في مسألة الفعل المتجدد. ويبين شيخ الإسلام المقصود بالعلم فيقول: والعلم بالشيء موجوداً ليس هو العلم به مقدراً باتفاق العقلاء، ولا شك أن الله سبحانه علم ما كان وما سيكون، ولكن قوله تعالى: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة:143] هذا من إثبات العلم، والله موصوف بالعلم أزلاً، والعلم بالشيء موجوداً ليس هو العلم بالشيء مقدراً، وهذا لا يرجع إلى نقص في علم الله؛ إذ إن العلم هنا تعلق بالموجود، والعلم في الأول تعلق بالمقدر. وابن كلاب والأشعري وأتباعهم لا يثبتون هذا الفرق، وهذا فرع عن قولهم: إن العلم واحد أزلي، والكلام واحد أزلي، وكذا القدرة والإرادة، وهلم جراً. فقوله رحمه الله: (لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته) إن أراد أن الله سبحانه وتعالى على كل شيء قدير قبل خلقهم وبعد خلقهم، وأنه لم تحدث له صفة مختصة من جهة أصلها، بمعنى أن الصفات قديمة وأزلية فهذا صحيح، وإن أراد أن صفة الفعل لا أثر لها في ذاته سبحانه وتعالى، فلا شك أن هذا هو المذهب الذي كان يقول به الأشعري وابن كلاب، ويرون أنه لا فرق في أفعال الرب سبحانه بين حاله سبحانه قبل الفعل وبعده، فالجملة هنا ليست محكمة، ولهذا تأولها علماء الأشاعرة الذين شرحوا الكتاب على وفق مرادهم. قال المصنف رحمه الله: [وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً]. هذه جملة حسنة، فإنه يقرر أن الله سبحانه لم يزل ولا يزال متصفاً بصفات الكمال، وهذا متفق عليه بين أئمة السنة والجماعة، وهذه جملة لا إشكال فيها. ثم قال رحمه الله: [ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري]. إن أراد أن صفات الله سبحانه وتعالى أزلية، وأنه سبحانه وتعالى له الصفات ولم يكن شيء معه، وأنه الأول كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء) وصفاته ليست محصلةً من مفعولاته .. فهذا صحيح. وإن أراد أن الفعل حدث بعد أن لم يكن فلا شك أن هذا المذهب هو الذي اتفق السلف على إبطاله، ودخل على أبي الحسن الأشعري من جهة المعتزلة، وإن كان قد ترك مذهبهم. قال المصنف رحمه الله: [له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق]. هذا تأكيد لما تقدم في كلامه، وقوله: (له معنى الربوبية ولا مربوب) أي: قبل وجود المربوب، (ومعنى الخالق) أي: اسم الخالق، (ولا مخلوق) أي: قبل وجود المخلوق، وهذا كلام محتمل وإذا كان الكلام محتملاً فيجب أن يبين كونه محتملاً، ثم يفسر بما هو مناسب لمقاصد السلف، وأما التكلف في تأويل الكلام فليس منهجاً صحيحاً.

قدم أسماء الله وصفاته سبحانه

قدم أسماء الله وصفاته سبحانه قال المصنف رحمه الله: [وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم]. إن أراد المصنف رحمه الله بعباراته هذه أن الله سبحانه وتعالى لم يزل مسمّى بهذه الأسماء التي سمى بها نفسه، وهذه الصفات التي وصف بها نفسه؛ فهذا لا إشكال فيه، ولكن لا يفهم من هذا أنه فيما لم يزل سبحانه وتعالى ليس له من الاسم والصفة إلا اسمها فقط، فإن الاسم يتضمن صفةً وفعلاً، ومن أسمائه الرحمن والرحيم والعليم والقدير والسميع، وهذه تتضمن صفاتٍ وأفعالاً. فإن أراد بقوله: (وكما أنه محيي الموتى إلخ)، أن الأسماء والصفات أزلية فهذا صحيح، وإن أراد أن المقصود من أزليتها اسمها فقط، وأن حقائقها حدثت بعد أن لم تكن فلا شك أن هذا مذهب باطل، وقد كان هذا المذهب ينتحله الأشاعرة، وإن كانوا يجملون في حروفه، ولكن مذهبهم على التحقيق يصل إلى هذا المعنى.

شرح العقيدة الطحاوية [4]

شرح العقيدة الطحاوية [4] الإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، لكن طوائف من المسلمين خالفت في هذا الأصل العظيم، فانحرفوا فيه عما أوحاه الله لنبيه في كتابه، وما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته؛ لشبهات عرضت لهم، ونظريات عقلية -بزعمهم-.

عموم قدرة الله تعالى

عموم قدرة الله تعالى قال المصنف رحمه الله: [ذلك بأنه على كل شيء قدير]. قدرته سبحانه وتعالى على كل شيء مجمع عليها بين المسلمين، وقوله تعالى: {إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20] هذا الحرف من القرآن اتفق المسلمون عليه، لكن يورد المعتزلة وطوائف أخرى مسألة تعلق القدرة بما يسمونه المستحيلات. فقالت طائفة من المفسرين: قوله تعالى: {إِنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، عام مخصوص، خُصَّ منه الممتنع لذاته، فلا يدخل تحت القدرة، فجعلوا السياق عاماً مخصوصاً. وقالت طائفة: هذا سياق عام أريد به الخصوص -أي: الممكن- فلا يدخل فيه الممتنع لذاته. وقالت المعتزلة: إن الممتنع لذاته شيء ولكنه لا يدخل تحت القدرة. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (والصواب الذي عليه أهل السنة أن الله على كل شيء قدير، وأن هذا العموم محفوظ لم يدخله تخصيص ولا أريد به الخصوص، بل هو على عمومه، وأما الممتنع لذاته فإنه ليس بشيء، فلا يكون داخلاً في الآية أصلاً، إنما هو فرض يفرضه الذهن لا حقيقة له في الخارج، والقدرة تتعلق بما يمكن وجوده في الخارج). فممكن الوجود لم ينازع أحد من الطوائف في كونه داخلاً في قدرة الله، إلا ما كان من المعتزلة في مسألة أفعال العباد فإنهم قالوا: إنها ليست بمقدورة لله، لأن العبد عندهم يخلق فعل نفسه. قال المصنف رحمه الله: [وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]]. هذه الجمل محكمة مجمع عليها بين الطوائف، وليس فيها ما هو مشكل أومشتبه، أما قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فإنها من أخص الآيات التي يذكرها أئمة السلف رحمهم الله في توحيد الأسماء والصفات، لأن فيها جمعاً بين الرد على المعطلة والمشبهة، فإن قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على المشبهة والممثلة، وقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على معطلة الأسماء والصفات. وتتضمن الآية أن إثبات صفاته سبحانه وتعالى لا يلزم منه التشبيه والتمثيل، وهذا هو الإشكال الذي دخل على كثير من الطوائف المعطلة الذين زعموا أن إثبات الصفات مستلزم للتشبيه والتعطيل.

أصلان مهمان في باب الأسماء والصفات

أصلان مهمان في باب الأسماء والصفات وهنا أصلان مهمان من كلام شيخ الإسلام في باب الأسماء والصفات، ذكره في درء التعارض ولخصه في التدمرية، يقول رحمه الله: (وجمهور الغلط الذي حار فيه كثير من الأذكياء في مسألة الصفات هو ظنهم أن الاشتراك في الاسم المطلق يلزم منه المماثلة عند الإضافة والتخصيص). بيان هذا الكلام: أن الله سبحانه سمى نفسه فقال: {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] وقال عن عبده: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] وقال عن نفسه وعنهم: {رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54]، وقال: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ} [الحشر:23] فسمى نفسه الملك، وقال عن عبده: {وَقَالَ الْمَلِكُ} [يوسف:43]، وسمى نفسه العزيز وقال عن عبده {قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51]، وقال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} [الأنفال:30]، إلى غير ذلك. فالملك والرضا والمحبة .. هذه أسماء مطلقة، أي: لم تضف ولم تخصص ولم تقيد، لكن إذا أضيف اللفظ فقيل: رضا الله، صارت الصفة متعلقةً بموصوفها، وإذا قيل: رضا زيد صارت الصفة متعلقة بموصوفها، فيمتنع أن يكون الرضا اللائق بالله هو الرضا اللائق بزيد؛ لأن بين الموصوفين تبايناً، فيلزم أن تكون الصفة في الموصوف الأول مباينةً للصفة في الموصوف الثاني، وإن كان الاسم مشتركاً. يبين ذلك ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله حيث قال: (ويتبين هذا الأصل بأصلين شريفين ومثلين مضروبين: الأصل الأول أن القول في الصفات كالقول في الذات). لفظ الذات لم يستعمل في الكتاب ولا في السنة، وأصل الذات هو مؤنث (ذو) الذي هو من الأسماء الخمسة، التي تستعمل مضافةً، فتقول: ذو علم، وذو سمع، وذو بصر، فلفظ الذات في الأصل لفظ حادث، ولكنه استعمل في كلام طائفة من أهل العلم على مقصد صحيح. فالقول في صفات الله كالقول في ذاته، وإن شئت فقل: فرع عن القول في الذات، وهذا رد على المعتزلة والجهمية. قال: (الأصل الثاني: القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر)، فمن زعم في صفة الإرادة أو المحبة أو الغضب أنه يلزم منها التشبيه فيلزمه هذا في صفة العلم، وصفة السمع وغيرها مما يثبته. قال: (والمثل الأول: نعيم الجنة، فالله أخبرنا أن في الجنة خمراً وماءً وعسلاً، والدنيا فيها خمر وماء وعسل)، فالاسم واحد وفيه اشتراك، وأما الحقائق فبينها اختلاف، فإذا كان الاشتراك في الاسم الواحد بين المخلوقات لا يلزم منه تماثلها فبين الخالق والمخلوق من باب أولى. قال: (والمثل الثاني: الروح، وقد وصفت بصفات، اشتركت فيها مع الجسد في الاسم مع تباينها في الحقيقة، فكذلك الخالق والمخلوق من باب أولى).

أصول القدر عند أهل السنة والجماعة

أصول القدر عند أهل السنة والجماعة قال المؤلف عليه رحمة الله: [ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، خلق الخلق بعلمه، وقدر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، ولم يخفَ عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم، وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته، وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن، يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، وهو متعال عن الأضداد والأنداد، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلاً من عنده]. هذه الجمل التي ذكرها الطحاوي رحمه الله ظاهر سياقها أنه يشير بها إلى أصول أهل السنة في مسألة القدر، وهي مسألة عظيمة تعتبر من أخص مسائل الإيمان؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه قال: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ورسله، والبعث، والقدر خيره وشره). وقد اتفق المسلمون على أن من أصول الإيمان بالله: الإيمان بقضائه وقدره، وهذا الأصل مجمع عليه بين سائر طوائف المسلمين من حيث أنه أصل كلي؛ فإن من كذب بالقدر فهو كافر معاند لله سبحانه وتعالى. والمراد باتفاق المسلمين على هذا الأصل الإيمان المجمل، وإلا فإنه يعلم أن طوائف من هذه الأمة قد غلطت في هذه المسألة الشريفة، وأصول أهل السنة والجماعة في القدر سبعة، وهي متضمَّنَة في كلام المصنف في هذه الجمل.

الأصل الأول: عموم علم الرب تعالى

الأصل الأول: عموم علم الرب تعالى الأصل الأول هو: الإيمان بعموم علم الرب سبحانه وتعالى، فإنه قد علم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون. وهذا الأصل هو أشرف أصول القدر، وأخصها عند المسلمين، لأن سائر الأصول من بعده مبنية عليه، وكان السلف رحمهم الله يردون إلى هذا الأصل في مقام الرد على المخالفين، وقد دل على هذا الأصل العقل والفطرة والسمع، وهو المذكور في مثل قوله تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] وفي مثل قوله تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59] إلى غير ذلك من النصوص القرآنية، الدالة على أن الله سبحانه وتعالى بكل شيء عليم. وأما الفطرة: فإن الله فطر الخلق على الإقرار بأنه الخالق، ومن لازم كونه خالقاً أن يكون عليماً، فإنه سبحانه وتعالى قال: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ)، ولهذا قال المصنف: (خلق الخلق بعلمه)، أي: أنه خلقهم عالماً بهم، فما يكون من نجوى، وما يكون من هَمٍّ في نَفْسٍ، وما يكون من حركة إلى غير ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قد علمها قبل كونها. والإيمان بأصل علمه سبحانه وتعالى مستقر عند جمهور بني آدم، ولم ينازع فيه إلا من أنكر الخالق سبحانه وتعالى، ولهذا قيل: (الإيمان بعموم علم الرب) لتتقرر بهذا مسألة وهي: أنه دخل في عموم علمه سبحانه وتعالى علمه بأفعال العباد، وهذا هو المقصود من تقرير هذا الأصل في هذا الباب.

الأصل الثاني: الكتابة

الأصل الثاني: الكتابة الأصل الثاني: الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ كل شيء، كما قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث عمران، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكتب في الذكر كل شيء). فسائر أفعال العباد مكتوبة قبل خلقهم، ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، والكتابة جاءت مجملة ومفصلة. ويدخل في عموم الإيمان بهذا الأصل ما تكتبه الملائكة عن كون الإنسان المعين، من الرزق والأجل، والشقاوة والسعادة، وكونه ذكراً أو أنثى، كما جاء في الصحيحين من غير وجه عن عبد الله بن مسعود، وكما جاء في الصحيح من حديث حذيفة بن أسيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه .. إلخ) وهو حديث مشهور معلوم. وهذا الأصل دليله السمع، وهو الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة، بمعنى: أن الله لولا أنه أخبرنا في كتابه، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم حدثنا بهذا الأصل؛ لما كان من شرط العقل أو اقتضاء الفطرة إثبات الكتابة، بخلاف الأصل الأول (العلم) فإن الإيمان به سمعي، وفطري وعقلي. ولا يُفهم من هذا أن العقل أو الفطرة تنازع في هذا الأصل أو تنافيه؛ فإن عندنا قاعدة، وهي: أن كل ما أخبر به الله سبحانه وتعالى أو أخبر به رسله فإنه لا بد أن يكون موافقاً للعقل والفطرة، ولكن فرق بين كون هذا الخبر عُلم بالسمع، ثم العقل والفطرة لا تنافيه، وبين كونه معلوماً بأصل العقل أو الفطرة، ونزل الخبر به. ولهذا فإننا إذا ذكرنا الصفات مثلاً، فقلنا: إن صفة العلو دليلها العقل والشرع، فمعنى هذا: أن العقل والفطرة تدل على إثبات علو الرب سبحانه، وأما صفة الاستواء على العرش فهي صفة دل عليها الشرع؛ لأن الله أخبرنا أنه استوى على العرش، فالعقل قبل ورود الشرع لا يدركها ولا يقتضيها؛ لأنها غيب محض، ولكن كل ما أخبر به الشرع مما جاء في الكتاب أو السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإن العقل والفطرة يقتضيه حال كونه خبراً ثابتاً، وفرق بين دلالة العقل على الشيء حال كونه خبراً ثابتاً، وبين دلالة العقل على الشيء قبل ثبوته. وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله قاعدة وهي: (أن الرسل تخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول). ومراده بالمحارات: أي ما يتحير العقل في تصوره، لكن لا يمكن أن يحيل العقل شيئاً أخبرت به الرسل، فمن أحال عقله شيئاً من ذلك، فهذا دليل على فساد في عقله، وغلط في فهمه وإدراكه.

الأصل الثالث: عموم خلق الله تعالى

الأصل الثالث: عموم خلق الله تعالى الأصل الثالث: الإيمان بعموم خلقه سبحانه وتعالى، وإثبات خلق الله سبحانه وتعالى للخلق مستقر عند جماهير بني آدم، إلا من ألحد وأنكر الخالق سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان مشركو العرب يقرون بأن الله هو الخالق. وإنما قيل: الإيمان بعموم خلقه؛ ليدخل في هذا العموم أفعال العباد، وهذا هو المقصود عند أهل السنة من ذكر هذا الأصل، وعن هذا صنف الإمام البخاري رحمه الله كتاب (خلق أفعال العباد)، وهي مسألة النزاع فيها مشهور. ومن أخرج أفعال العباد عن هذا الأصل، فقد أخرج من هذا الأصل ما هو منه بغير حجة ودليل، إذ إن من المستقر عند سائر العقلاء أن أفعال العباد شيء؛ فتدخل في عموم قوله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]. وليس معنى كونه سبحانه وتعالى خالقاً لأفعال العباد أنه هو الفاعل لها، بل الفاعل للفعل هو العبد؛ ولهذا أخبر الله في كتابه أن العباد هم الصائمون، القائمون، المصلون، الساجدون، الراكعون، وأخبر أن منهم المؤمن ومنهم الكافر، فأضاف الأفعال إلى العباد.

الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئة الله تعالى

الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئة الله تعالى الأصل الرابع: الإيمان بعموم مشيئته سبحانه وتعالى، فإن كل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا ينازع أحد من المسلمين بل ولا من جماهير الكفار في كون الباري متصفاً بالمشيئة؛ على معنى أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأما معنى الاتصاف بالصفة التي هي قيام الصفة بموصفوها، فهذا باب آخر، ينازع فيه المعتزلة وطوائف. ولهذا نجد أن طرفة بن العبد -وهو جاهلي- يذكر هذا المعنى في شعره، فيقول: فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد وأصبحت ذا مال كثيرٍ وزارني ... بنون كرام سادة لمسود بل إن الله ذكر هذا في كتابه عن المشركين في قوله سبحانه: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148]، وإنما عاب الله عليهم ذلك، لأنهم احتجوا بالقدر على إسقاط الشرع الذي هو التوحيد، وإلا فإن شركهم بمشيئة الله. وإنما قيل: الإيمان بعموم مشيئته، ليدخل في ذلك أفعال العباد، فإن سائر أفعال العباد سواء كانت أفعالاً عادية أو من الطاعة، أو من المعاصي والفسوق والكفر، فهي بمشيئة الله سبحانه وتعالى، وإن كان سبحانه وتعالى قد يكره المعاصي والكفر ولا يرتضيه لعباده.

الأصل الخامس: أن للعباد مشيئة حقيقية

الأصل الخامس: أن للعباد مشيئة حقيقية الأصل الخامس: الإيمان بأن للعباد مشيئة على الحقيقة، وهي تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]. ولفظ الحقيقة استعمل في كلام طائفة من أهل السنة في بعض مسائل القدر والصفات والإيمان والأسماء والأحكام، مع أن هذا اللفظ لم يستعمل في النصوص، وإنما استعمله من استعمله؛ لأن طائفة من متكلمة الصفاتية المنتسبين إلى أهل السنة والجماعة، صاروا يستعملون ألفاظاً وجملاً لأهل السنة المتقدمين، وصاروا يتأولونها على المجاز عند تفصيلها. فمثلاً: الجبرية لا يثبتون مشيئة للعبد، فلما جاء متكلمة الصفاتية، كـ أبي الحسن الأشعري وأصحابه، قالوا: إن للعبد مشيئة، فخالفوا الجبرية بذلك، ولكنهم لم يجعلوا هذه المشيئة على الحقيقة، وإنما جعلوها مشيئة مجازية. ولهذا فإنك تجد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كثيراً ما يقول: وأنه سبحانه وتعالى فوق عرشه على الحقيقة، وأنه مستوٍ على عرشه على الحقيقة، لأن جملة: (مستوٍ على العرش)، يقر بها كثير من متكلمة الصفاتية، ومن تأثر بهم من الفقهاء، لكنهم لا يسلمون أن هذه الجملة على الحقيقة، بل يقولون: على المجاز، ثم يتأولون المجاز على أكثر من معنى، وقد يختلفون فيه. ومن حيث الأصل لا ينبغي أن يستعمل هذا التقييد لسببين: السبب الأول: أن الأصل في الكلام الشرعي وكلام الأئمة عدم التقييد. السبب الثاني: أن استعمال لفظ الحقيقة، يكون فيه إقرار بتقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز، والمشهور في تعريف الحقيقة أنها لفظ مستعمل فيما وضع له، والمجاز لفظ مستعمل في غير ما وضع له؛ وهذا التقسيم عليه إشكالات كثيرة منها: أنهم يقولون إن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، فأثبتوا معنيين: الوضع والاستعمال. والاستعمال هو استعمال العرب، وعليه فيكون الوضع سابقاً للاستعمال، وهنا يأتي السؤال: من هم الذين وضعوا اللغة؟ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في رده لهذه المسألة: (إن التعريف فيه تعذر من جهة العلم؛ فإنه يستلزم العلم بالوضع والعلم بالاستعمال، أما العلم بالاستعمال فإنه ممكن؛ لأنه استعمال العرب، وأما الوضع فإنه متقدم عليه ليس بمتحصل العلم)، قال: (وعن هذا تكلم من تكلم من المعتزلة في أصل وضع اللغة ومبدئها). ومن فقه الأئمة رحمهم الله أنه قد يُستعمل من الكلام في أبواب أصول الدين ما يكون مقتضى استعماله هو قول المخالفين، ولهذا لما ناظر الإمام أحمد أئمة الجهمية، كان من سؤال الإمام أحمد لأحد أعيانهم أن قال له: قولكم بأن القرآن مخلوق، هذا من الدين أو ليس من الدين؟ فقال الجهمي: إنه من الدين. قال: أهذا الدين علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟ فقال الجهمي: بل عرفوه. فقال الإمام أحمد: أين في كلام الرسول وأصحابه أن القرآن مخلوق؟ فانقطع. ولما كان مجلسٍ آخر، استعمل الجهمي نفس الحجة، فقال للإمام أحمد: القرآن ليس مخلوقاً، أهذا من الدين؟ فقال الإمام أحمد: نعم. فقال الجهمي: أعرفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟ قال أحمد: بل عرفوه. فقال للإمام أحمد: أين في كلام الرسول وأصحابه أن القرآن ليس مخلوقاً؟ قال الإمام أحمد: اسكتوا نسكت، أي: أن أئمة السنة قالوا: القرآن ليس مخلوقاً، من باب النفي لباطل طرأ على الدين، ولو لم تقل الجهمية: إن القرآن مخلوق، لكان تعبير الأئمة: إن القرآن كلام الله، ولا يحتاجون أن يقولوا: ليس بمخلوق، لأن ما كان كلاماً لله فإنه بالضرورة ليس مخلوقاً، لأن كلامه صفة من صفاته، ولهذا لا يوجد في كلام الأئمة أن يقولوا: سمع الله ليس مخلوقاً، أو علم الله ليس مخلوقاً، لأنه لم يقل أحد بخلقه. والقاعدة العقلية الشرعية: أن الباطل إذا طرأ يجب نفيه، ولهذا لما أشرك من أشرك، وزعم من زعم أن لله ولداً، قال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91].

الأصل السادس: إثبات الحكمة في أفعال الله

الأصل السادس: إثبات الحكمة في أفعال الله الأصل السادس: الإيمان بأن سائر أفعاله وخلقه وأمره سبحانه وتعالى لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى، وقال سبحانه: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، والحكمة التي أجمع عليها السلف رحمهم الله، ليست هي الحكمة التي يثبتها المتكلمون من المعتزلة وغيرهم، فإن إثباتهم فيها قاصر، فإن السلف كما قرر شيخ الإسلام، يؤمنون بحكمة الباري سبحانه وتعالى، المتعلقة بذاته صفة له، والمتعلقة بمفعولاته على ما تقتضيه هذه الحكمة، نعمةً، أو ابتلاءً، أو عقوبة، أو غير ذلك، ولهذا قد يكون الشيء الواحد لبعض العباد نعمة ولبعضهم عقوبة، ولبعضهم ابتلاءً ومحنة. مثال ذلك المال؛ فإن الله سبحانه وتعالى آتى داود مالاً عظيماً، فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10]. ولاشك أن هذا الملك والمال الواسع الذي أوتيه داود عليه الصلاة والسلام هو نعمة، ولذلك سماه الله سبحانه وتعالى فضلاً، وأضافه إليه فقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا). وقد يكون المال عقوبة، كقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44] قال طائفة من السلف: فتح الله عليهم الدنيا، وكما في قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الكهف:28]، والإغفال قد يكون بالدنيا، وقد يكون بغيرها، ولهذا قال الله تعالى لنبيه: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131]. وقد يكون المال ابتلاءً ومحنة كالولد، كما قال تعالى: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28]، وكل هذا يرجع إلى حكمته سبحانه وتعالى وقضائه وعدله، أو فضله وإحسانه.

الأصل السابع: عدم التعارض بين الشرع والقدر

الأصل السابع: عدم التعارض بين الشرع والقدر الأصل السابع: الإيمان بأن العباد مأمورون بما أمرهم الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، مع الإيمان بوعده ووعيده، وأنه لا حجة لأحد من الخلق على الله سبحانه وتعالى بل لله الحجة البالغة، وأن عموم قدره وقضائه ومشيئته وحكمه وإرادته لا يصح أن يكون معارضاً لشيءٍ من أمره وشرعه. ومحصل هذا الأصل أن السلف يؤمنون بالجمع بين مقام الشرع ومقام القدر.

أقوال الفرق الأخرى في الأصول السبعة للقدر

أقوال الفرق الأخرى في الأصول السبعة للقدر الطوائف التي نازعت في هذه الأصول: الأصل الأول: الإيمان بعموم علم الرب: لم ينازع أحد من المسلمين في كون أفعال العباد داخلة في هذا العموم، وإنما ظهر قوم من غلاة القدرية، يزعمون أن الله سبحانه وتعالى لا يعلم أفعال العباد إلا عند كونها، وهؤلاء الغلاة ليسوا من الإسلام في شيء، وقد أجمع السلف وجماهير طوائف المسلمين على تكفيرهم بأعيانهم، وقد صرح بتكفير هذا النوع من القدرية بعض أئمة الصحابة الذين أدركوا هذه البدعة. كما صرح بتكفيرهم من الأئمة: أحمد، ووكيع، وعبد الرحمن بن مهدي وغيرهم من متقدمي أئمة السنة والجماعة. بل إن المعتزلة -وهم قدرية- قد صرحوا في كتبهم بأن منكر العلم من الكفار ولا ينسبون إلى الإسلام، فهؤلاء لا يعدون في أهل القبلة. الأصل الثاني: الكتابة، وهذا الأصل عامة طوائف المسلمين يقرون به مجملاً، أما السلف من أهل السنة والجماعة وأتباعهم فهم يقرون به مفصلاً، على ما جاء في النصوص. وفرق بين من أقر بالأصل مجملاً وبين من أقر به مفصلاً، ولا سيما التفاصيل النبوية.

مذهب المعتزلة القدرية في خلق أفعال العباد

مذهب المعتزلة القدرية في خلق أفعال العباد الأصل الثالث: الخلق، وقد وقع فيه نزاع وغلط كثير، وصارت جماهير القدرية، يقولون بأن الله يعلم أفعال العباد قبل كونها، وأنه كتبها، ولكنها خلق للعباد، والتحرير لمذهب المعتزلة من القدرية: أنهم أجمعوا على أن الله لم يخلق أفعال العباد، ثم قالوا ثلاثة أقوال: القول الأول: إن الله لم يخلقها وخلقها العبد. القول الثاني: إن الله لم يخلقها وكذلك العبد لم يخلقها. القول الثالث: التوقف. وهذا النزاع هو في الجملة نزاع لفظي لا حقيقة له في المذهب؛ فإن عمدة المذهب هو إجماعهم على أن الله لم يخلق أفعال العباد، وهذا القول بدعة مخالفة لإجماع السلف، فهذا قول القدرية.

الفرق بين القدرية المتكلمة والقدرية الرواة

الفرق بين القدرية المتكلمة والقدرية الرواة والقدرية الذين قالوا إن الله لم يخلق أفعال العباد صنفان: الصنف الأول: متكلموهم، وأعيانهم في الأصل هم المعتزلة، ومن اقتدى بهم من متكلمة الشيعة وغيرهم، الذين قرروا هذا المذهب بالدلائل والطرق الكلامية. الصنف الثاني: وهم معشر من رجال الرواية والإسناد، وأكثرهم في البصرة، وبعض الأقاليم العراقية والشامية، قالوا بجملة المسألة، ولكنهم لم يقولوا هذه الجملة على الطريقة الكلامية التي كانت تستعملها القدرية المعتزلة المتكلمة. فيشترك الصنفان في أن أفعال العباد ليست خلقاً لله. ويفترقون من وجهين: الوجه الأول: الاستدلال، فمنهج الاستدلال على المسألة بين الصنفين مختلف. الوجه الثاني: أن المعتزلة المتكلمة رتبت على هذه المسألة مسائل أخرى تتعلق بالهداية والإضلال، وتتعلق بمسائل التكليف، ومسألة التحسين والتقبيح. ومسائل كثيرة ربطوها بهذه المسألة، وجعلوها من نتائج هذه المسألة. وهذا الربط لم يستعمله رجال الرواية، فيكون قولهم أخف من قول متكلمة القدرية، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: (لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة)، ومراده بذلك أن هذا الوهم شاع في طائفة من رجال الرواية، لكنه ليس على الطريقة الكلامية. والفرق بين المنهجين في الاستدلال: أن كل مسألة من مسائل الصفات أو القدر مرتبة على الطريقة الكلامية، فإنه لا بد أن يكون فيها مأخذ فلسفي هو الأساس، ودلائل عقلية ومقاصد من الشريعة، فمثلاً: مأخذ مسألة القدر عند المعتزلة أن الأثر لا يصدر عن مؤثرين، وهذه قاعدة فلسفية، وبالتالي أدخلوا عليها مقاصد من الشرع، كتنزيه الله عن الظلم والفسوق والعصيان .. إلى غير ذلك. فمن قال إن الله خلق القبائح فقد أضافها إليه. وهذه المقاصد عند التحقيق لا تلزم أبداً؛ لكن إشكالهم الأول الحقيقي هو الإشكال الفلسفي. وهذا هو الدليل الذي بنى عليه الجبرية مذهبهم، وهو الدليل الذي استعمله علماء الأشاعرة في كتبهم، وصرحوا باستعماله، كالقاضي أبي بكر بن الطيب، وأبي المعالي الجويني، ومحمد بن عمر الرازي، فالقاعدة واحدة تستعملها طوائف نتائجها متناقضة. وذلك يدل على أن هذه القاعدة غلط من الأصل، وهي من باب قياس الخالق على المخلوق، بل إنها عند التحقيق -كما يقول شيخ الإسلام - لا تصح في المخلوق نفسه، ولو فرض جدلاً أنها صحت في المخلوق فإنه يمتنع أن تكون صحيحة في حق الخالق سبحانه وتعالى.

المخالفون في مشيئة الله

المخالفون في مشيئة الله الأصل الرابع: المشيئة، والمخالف في هذا الأصل هم المخالفون في الأصل الثالث، فالمعتزلة تقول: إن الله لم يشأ أفعال العباد ولم يُرِدْها، ويجعلون العبد خالقاً لفعله مستقلاً بمشيئته، ولا شك أن هذا تعطيل لربوبية الله سبحانه وتعالى.

المخالفون في إثبات المشيئة للعبد

المخالفون في إثبات المشيئة للعبد الأصل الخامس: أن العباد لهم مشيئة على الحقيقة، وقد خالف في هذا الأصل الجبرية، وإمام الجبرية هو الجهم بن صفوان الذي يقول: إن العبد مجبورٌ على فعله، وقارب مذهب الجبرية مذهب أبي الحسن الأشعري، الذي يقول: إن للعبد مشيئةً مسلوبة التأثير، يقع الفعل مقارناً لها لا بها، ولهذا قال صاحب جوهرة التوحيد: ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة فينفون السببية والتعليل، وهذا جبر لكنه دون جبر الجبرية المحضة. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والفرق بين أبي الحسن وجهم بن صفوان في مسألة القدر غالبه فرق لفظي)، وبعض الفرق بينهم فرق لا يعقل عند العقلاء، وطائفة من الفرق بينهم فرق له معنى. فمن العدل أن يقال: إن قول أبي الحسن وعامة أصحابه ليس جبراً محضاً كجبر الجهم بن صفوان، ولكنه ينتهي إلى هذا المذهب في الجملة، وهو موافق لعبارات أهل السنة والجماعة في اللفظ، ولكنه في المعنى ينزع إلى قول الجبرية، وقد انغلق هذا الباب على علماء الأشاعرة، فلا يرون في الباب إلا قول القدرية أو قول الجبرية، فأتوا إلى قول الجبرية؛ لأن إمامهم رفض قول القدرية، ولكنه استعمل تحته ألفاظ السلف والشريعة. والذين صرحوا بأن قول الأشعرية جبر دون جبر الجهم بن صفوان ليس هو شيخ الإسلام أو نحوه من علماء السنة، بل الرازي وأبو الفتح الشهرستاني، وأبو المعالي الجويني صرحوا بذلك، ورجع الجويني عن هذا المذهب، وقال: إن هذا مذهب جبري لا معنى له، فانتحل في الرسالة النظامية مذهباً ملفقاً.

تنبيه حول رجوع الجويني عن مذهب الأشعرية في القدر

تنبيه حول رجوع الجويني عن مذهب الأشعرية في القدر بعض الباحثين من المعاصرين قال: الجويني رجع في آخر عمره عن مذهب الكسب الجبري إلى مذهب أهل السنة، ولا شك أن هذا غلط، بل ذكر الجويني في الرسالة النظامية قولاً ملفقاً من قول أهل السنة، ومقاصد من مقاصد المعتزلة، وجملاً من جمل الفلاسفة، فقوله مركب، وإذا قارنت بين هذا القول وقول أبي الوليد ابن رشد في (مناهج الأدلة)، وجدت أنه يشترك معه في بعض المنازع. وقد صرح طائفة من الأشعرية كـ الشهرستاني بأن إمام الحرمين قد نزع إلى قول الحكماء -أي: الفلاسفة- وإن كان يزعم أنه رجع إلى مذهب السلف في الصفات؛ ثم يفسر مذهب السلف في الرسالة النظامية بالتفويض، ولا شك أن مذهب التفويض كما قال شيخ الإسلام رحمه الله من شر مقالات أهل البدع والإلحاد.

المخالفون في إثبات الحكمة لله تعالى

المخالفون في إثبات الحكمة لله تعالى الأصل السادس: إثبات الحكمة لله، وقد نازع في هذا الأصل الجهم بن صفوان، فنفى حكمة الله سبحانه وتعالى في أفعاله، وتبعه على ذلك في الجملة أبو الحسن الأشعري؛ فإن مسألة الحكمة فرع عن أصل مسألة القدر، فجعل الجهم والأشعري أفعال الباري سبحانه مبنية على محض المشيئة. والأشاعرة يقولون في كتبهم: إن الله منزه عن الأغراض والحاجات، ويريدون بذلك أن أفعاله ليست لحكمة أو لعلة، وإذا ذكر لفظ الحكمة بالشريعة، فسرها جمهورهم بالإرادة والمشيئة. وجمهور طوائف المسلمين من أهل السنة والحديث وجماهير الصوفية، والشيعة والمعتزلة يقرون بهذا الأصل، وهو الحكمة، ولكن الفرق بين السلف وهذه الطوائف التي تشاركهم: أن السلف يجعلون الحكمة صفة تقوم بذات الباري، وهي متعدية إلى خلقه، في حين أن المعتزلة ومن وافقهم من الشيعة وغيرهم يجعلون الحكمة متعدية إلى الخلق، ولا يجعلونها صفة قائمةً بذات الباري.

المخالفون في الجمع بين الشرع والقدر

المخالفون في الجمع بين الشرع والقدر الأصل السابع: الجمع بين الشرع والقدر، وأهل السنة والجماعة وسط في هذا الأصل، فإنهم معظّمون لشرع الله وقدره، وهم وسط بين القدرية، وبين طرق الصوفية، فالقدرية من المعتزلة ومن وافقهم على أصلهم مقصرون في باب القدر، حيث يقولون: إن العبد يخلق فعله، وهو غالون في باب الشرع، حيث قالوا: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وأما طرق الصوفية فهم على العكس، فهم مقصرون في باب الأمر والنهي، غالون في باب القدر، حتى أسقط طوائف من غلاتهم مقام الشرع بمقام القدر، وهم يسمونه مقام الربوبية، وهذه حالٌ تعرض لغلاة الصوفية، ولا سيما المتصوفة المتفلسفة الذين فسروا الشريعة على هذا التفسير كـ ابن عربي وابن سبعين والتلمساني، وأمثال هؤلاء.

الكلام على حال أبي إسماعيل الهروي

الكلام على حال أبي إسماعيل الهروي ويقع نوع من ذلك في كلام من دونهم من الصوفية الذين عندهم قدر من الانحراف عن جادة السلف في باب السلوك والأحوال، كحال أبي إسماعيل الأنصاري الهروي الحنبلي، صاحب كتاب (ذم الكلام) وكتاب (منازل السائرين)، فهو في منازله يسقط بعض مقامات الشرع بمقام القدر، فلم يحقق هذا الأصل، بل غلط فيه غلطاً شديداً. بل إنه قال كلاماً ظاهره الموافقة لمذهب وحدة الوجود حيث قال: ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته ... عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحد لكن الهروي رحمه الله لا شك أنه بريء من مذهب ابن عربي والتلمساني وأمثالهم من الصوفية المتفلسفة القائلين بوحدة الوجود، وإن كان قد يستعمل بعض حروفهم، بل هو فاضل في إثبات صفات الله سبحانه، وله رد على الجهمية، وتقرير حسن للصفات، وإن كان يزيد ويبالغ في إثبات الصفات. كما أن منهجه في التكفير ليس معتبراً على جادة السلف، ولما تكلم عن الأشاعرة قال عن أبي الحسن الأشعري في كتابه (ذم الكلام): (وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن إسماعيل الأشعري، لا يصلي ولا يتوضأ، وأخبرني فلان -ثم ساق سنداً عنده- أنه مات متحيراً). وهذا ليس كذلك، بل الأشعري يعرف بكثير من الخير والإيمان، كما قال شيخ الإسلام عنه: (وقد استفاض في المسلمين ما له من الديانة والقصد إلى السنة)، وقال عن عبد الله بن سعيد بن كلاب: (وأبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب إمام له علم وفقه). والقصد أن الهروي شديد في هذا الباب، حتى قال شيخ الإسلام في (منهاج السنة): (إن أبا إسماعيل الأنصاري من المبالغين في ذم الجهمية وتكفيرهم). كما أن للهروي أغلاطاً شديدة في القدر، بل قال شيخ الإسلام: (إن قول أبي الحسن الأشعري في القدر خير من قول أبي إسماعيل الأنصاري). وعليه فإن أخص من نازع في مقام الجمع بين الشرع والقدر هم: الصوفية الذين أسقطوا بعض مقامات الشرع، بما هو من القدر، وأصل إسقاط مقام الشرع بالقدر هو مذهب المشركين، الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ الله مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] وليس في المسلمين من عطل سائر الشرع بالقدر، ومن أطلق هذا التعطيل كما أطلقه بعض غلاة الصوفية كـ التلمساني، فليعلم أنه من الكفر المحض الذي لا يُنظر في شأن صاحبه، ذلك أن المقالات الكفرية التي تخالف مذهب السلف تنقسم إلى قسمين:

حكم التكفير دون إقامة الحجة على من لا شبهة له

حكم التكفير دون إقامة الحجة على من لا شبهة له الأول: ما يكون قائلها كافراً ابتداءً، كمن نفى علم الله بما سيكون من أفعال العباد، فإنه يكفر ابتداءً ولا يقال: نقيم عليه الحجة، بل الحجة على مثل هذا لا بد أن تكون قائمة، لأنه مخالف للعقل والفطرة وأصول الأنبياء أجمعين. الثاني: مقالات هي في حكم السلف كفر، ولكن قائلها لا يكفر ابتداءً إلا إذا أقيمت عليه الحجة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: (والإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية، إلا أنه لم يكن هو وغيره من أئمة السلف مشتغلاً بتكفير أعيانهم). وكذلك شيخ الإسلام عندما ناظر علماء الأشاعرة المتأخرين في مسألة العلو كان يقول لهم: (أنا لو أقول بقولكم كفرت، لكنكم لستم كفاراً عندي)، فمثل هذه المسائل يدخل فيها نوع من الاشتباه والانغلاق على بعض الناس، لموجب من الموجبات، فلا يكفر بها ابتداءً. فقول المصنف: (خلق الخلق بعلمه): أي: عالماً بهم. (وقدر لهم أقدراً) أي: قدر ما سيكون لهم من الأحوال والأفعال والمآلات. (وضرب لهم آجالاً) أي: قدر آجالهم، فجعل لكلٍ أجلاً، ولا يستقدم أحد ولا يستأخر عن أجله كما هو صريح في القرآن: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34]. وقوله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم): هذا هو أصل العلم. (وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته) هذا الجمع بين مقام الشرع ومقام القدر. وقوله: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ): هذا طرد لعموم مشيئة الرب سبحانه، وأنه دخل في عموم مشيئته أفعال العباد. وقوله: (لا مشيئة للعباد إلا ما شاء لهم) أي: أن للعباد مشيئة على الحقيقة خلافاً للجبرية وللكسبية، ولكنها تابعة لمشيئة الله خلافاً للمعتزلة الذين جعلوا العبد مستقلاً بمشيئته.

منازعة المعتزلة في هداية التوفيق

منازعة المعتزلة في هداية التوفيق قوله: (يهدي من يشاء ويعصم ويعافي فضلاً، ويضل من يشاء ويخذل ويبتلي عدلاً): من أصول أهل السنة في هذا المقام، الإيمان بأن لله نعمة وفضلاً على المؤمنين، وأن كل من آمن فإنه إنما آمن بفضل الله ونعمته عليه، وكل من كفر فإنما كفر بما صرف نفسه، أو صرفه الشيطان عن الهدى، والله سبحانه وتعالى يهدي على معنى أنه يوفق، ويهدي على معنى أنه يبين بما ينزل في كتابه، أو يبعث به رسله عليهم الصلاة والسلام. وقد نازعت المعتزلة في هذه المسألة، فقالوا: إن الله -سبحانه وتعالى وتقدس عن قولهم- يهدي بمعنى: يبين، وأما الهدى الذي هو التوفيق فإنه يستوي فيه الناس. ولا شك أن هذا أصل باطل، فإن الله قال لنبيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، ولو كانت الهداية هي البيان لم يصح نفيها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم من حيث كونه هادياً مبيناً يهدي من يشاء، وقد هدى عمه بأن علمه وبين له، وإنما المراد هنا: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي: لا تستطيع التوفيق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بشر ليس بيده هذا الأمر، ولهذا قال: (وَلَكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) أي: يوفق من يشاء. وتوفيقه سبحانه لعباده المؤمنين للإيمان تابع لعلمه وحكمته، ولهذا قال سبحانه: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23]، ولما علم أن الأنبياء محل لاصطفائه اصطفاهم، ولهذا فإن الله تعالى إذا ذكر الضلال في القرآن فلا بد أن يقيده إما بجهة أو سبب من العبد، أو يذكره معه الهداية، كما في قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8]، فإذا علقه بمحض المشيئة ذكر معه الهداية، وإلا ذكره مقيداً بجهة وسبب من العبد، كقوله تعالى: {وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]. فقوله: (وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ) سياق كلمة (الظالمين) يدل على السبب، وأن الظلم جاء من جهتهم، ولهذا فإنه سبحانه وتعالى لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165] {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].

تقدير الآجال والزيادة فيها

تقدير الآجال والزيادة فيها قول المصنف: (وضرب لهم آجالاً) آجال العباد مقدرة، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه). وهذا الحديث أشكل على كثير من المتأخرين، إذ قالوا: إن الذي يغير فيه هو الأجل المكتوب في صحف الملائكة المذكور في مثل حديث ابن مسعود المتفق عليه في قوله صلى الله عليه وسلم: (ويكتب رزقه وأجله) وهذا قال به طوائف من أهل العلم، وأضافه طائفة من الشراح المتأخرين إلى طائفة من الصحابة، كـ عمر وغيره، وإن كان في ثبوته عنهم بعض التردد. ولكن الصحيح في هذا المقام أن يقال: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه) أن صلة الرحم سبب، والله سبحانه وتعالى قدر وعلم السبب والمسبب قبل خلق الخلق، والأجل والرزق مرتبط في علم الله وحكمته بأسباب. وقد يكون من هذه الأسباب ما هو معروف المناسبة كالتجارة لبسط الرزق مع أن اشتغاله بهذه التجارة مكتوب ومقدر، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يندب إلى سبب شرعي ليس معروف المناسبة عند بني آدم، فعلق زيادة العمر والرزق بصلة الرحم، التي لا يعرف عند بني آدم عادةً أنها مناسبة لبسط الرزق وطول العمر، فهذا هو أجود ما يقال في هذه المسألة. وطول العمر وسعة الرزق تارةً يكون نعمة وتارةً لا يكون نعمة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث عمار رضي الله عنه الذي أخرجه الإمام أحمد والحاكم في المستدرك: (اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيراً لي). إلا أنه هنا نعمة؛ لأنه جعل صلة الرحم سبباً شرعياً مطلوباً من العبد القيام به، وجعل بسط الرزق وطول العمر، نتيجة لذلك السبب أي أن العبد سيوفق في ماله وعمره إلى الخير. وأما قول من قال: إنه يمحى من صحف الملائكة فهذا ليس عليه دليل من الشرع، ولم يثبت في الكتاب ولا السنة أن شيئاً مما في صحف الملائكة يُمحى. وأما قوله تعالى: {يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39] فالصحيح في تفسيرها أن هذا في الشرائع وليس في القدر، وسياق الآيات يدل على ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ الله لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُو الله مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:38 - 39] والشرائع يدخلها النسخ والمحو كما هو معروف ومجمع عليه. وأما ما في (اللوح المحفوظ)، فبإجماع السلف أنه لا تغيير فيه، ومن زعم من المتأخرين أنه قد يدخله التغيير فهذا غلط بالإجماع.

شرح العقيدة الطحاوية [5]

شرح العقيدة الطحاوية [5] أرسل الله سبحانه الرسل مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس حجة بعد الرسل، وأيدهم بالمعجزات، بياناً لصدقهم، وجعل خاتمهم محمداً صلى الله عليه وسلم، وفضله عليهم.

مسائل النبوة وشهادة أن محمدا رسول الله

مسائل النبوة وشهادة أن محمداً رسول الله قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإن محمداً عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى، وإنه خاتم الأنبياء وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين، وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى، وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء]. بعد أن ذكر المصنف توحيد الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته وألوهيته وربوبيته عطف على ذكر التوحيد هذه المسألة، فقال: (وإن محمداً عبده المصطفى ... إلخ). فقوله: (وإن محمداً) عطف على قوله: (إن الله واحد لا شريك له)، ومسألة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو مستقر عند جماعة المسلمين من أخص أصول الإيمان بالله، وهي الركن الثاني في الإيمان بالله والاستسلام له، ولهذا لما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام كما في الصحيحين من حديث ابن عمر قال: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله ..) وقال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله ..) كما في المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، إلى غير ذلك.

الخلاف فيمن نطق إحدى الشهادتين دون الأخرى

الخلاف فيمن نطق إحدى الشهادتين دون الأخرى تنازع العلماء فيما لو قال عبد: أشهد أن لا إله إلا الله، هل تلتحق به أحكام الإسلام؟ أم أن أحكام الإسلام مقيدةٌ بذكره للشهادتين معاً؟ والخلاف هنا ليس لفظياً، وهذه مسألة تكلم فيها المتأخرون وحصل الغلط فيها، والصواب في هذه المسألة: أن الحكم هنا له ظاهر وباطن، فأما من جهة الأحكام الباطنة، التي بين العبد وبين ربه سبحانه وتعالى، فمن قال: لا إله إلا الله على مقصد الدخول في دين الإسلام، فإن هذا في الباطن يكون مسلماً، فلو أدركه الموت أو قتل ولم يقل: وأشهد أن محمداً رسول الله، فلا شك أنه في الباطن يكون قد مات على الإسلام؛ لأن تأخيره لذكر شهادة أن محمداً رسول الله؛ لم يكن عن تفريط. وأما من جهة الأحكام الدنيوية، فهذا محل نزاع بين الفقهاء، والصحيح من أقوالهم: أن من قال ذلك ولم يدرك الثانية لمانع فإن أحكام الإسلام تتعلق بالأولى، وهذا هو الذي دل عليه ما ثبت في الصحيحين من حديث سعيد بن المسيب عن أبيه، قال: (لما حضر أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أشهد لك بها عند الله). ودل عليه ما ثبت في الصحيحين أيضاً من حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله، أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: لا إله إلا الله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقتله، فقال: يا رسول الله، إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال). وكذلك ما جاء في حديث أسامة بن زيد لما قتل رجلاً وقد قال: لا إله إلا الله في المعركة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (فكيف تصنع بـ (لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة).

قول الفلاسفة في النبوة

قول الفلاسفة في النبوة لقد أجمع أهل القبلة على أن النبوة اصطفاء من الله سبحانه وتعالى يصطفي به عبداً من عباده، ولم يقل بكون النبوة مكتسبة إلا الفلاسفة الملاحدة، كما قرر ذلك ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة، ويجعلون لها ثلاث قوى: قوة التعبير، وقوة التصوير، وقوة التخييل، وهذا قول لا أصل له في دين المسلمين.

الخلاف بين أهل السنة والمتكلمين في دليل النبوة

الخلاف بين أهل السنة والمتكلمين في دليل النبوة وإنما المسألة التي تكلم أهل السنة فيها كثيراً وخالف فيها طوائف من المتكلمين، هي مسألة دليل النبوة؛ فإن جماهير طوائف المتكلمين يقولون: إن دليل النبوة هو المعجزة، ويفسرونها بما هو خارق للعادة على جهة التحدي، وقولهم هذا غلط من جهتين: الأولى: أنهم قصروا دليل النبوة على المعجزة. الثانية: أنهم فسروا معجزات الأنبياء بالخوارق التي تقع على جهة التحدي. والذي اتفق عليه السلف رحمهم الله أن النبوة لا يختص دليلها بالمعجزات، بل تثبت النبوة بالمعجزة التي تذكر في القرآن وتسمى (آية)، وتثبت بغير ذلك، وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من الأنبياء نبي إلا وأوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة). والدليل على فساد قول المتكلمين: أن الجماهير من المسلمين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولم يبلغهم عند إيمانهم معجزة له، وإنما آمنوا بما بعث به من الحق، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما لما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام، قال ابن عباس: (حدثني أبو سفيان من فيه إلى فيَّ، قال: انطلقت بالمدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشام)، وفيه أن هرقل قال: (هل هنا أحد -أي: بالشام- من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ قال أبو سفيان: فدعيت في نفر من قريش، فأجلسني بين يديه، وأجلس أصحابي خلفي، وقال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا -يعني: أبا سفيان - عن الرجل الذي يزعم فيكم أنه نبي، فإن صدقني فصدقوه، وإن كذبني فكذبوه، فكان في أسئلة هرقل: هل كان من أبيه ملك؟ فقال أبو سفيان: لا. فقال هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا. فقال هرقل: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقال أبو سفيان: لا. قال هرقل: من يتبعه؛ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ قال أبو سفيان: بل ضعفاؤهم. قال هرقل: يزيدون أم ينقصون؟ قال أبو سفيان: بل يزيدون. قال هرقل: أيرتد أحدهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟ قال أبو سفيان: لا. قال هرقل: هل يغدر؟ فقال أبو سفيان: لا يغدر، ونحن منه في مدة -أي: في صلح- لا ندري ما هو صانع فيها. ثم قال أبو سفيان: فوالله ما أمكنني أن أدخل كلمة إلا هذه -أي: تشكيكاً بالدعوة-. ثم قال: بم يأمركم؟ قال أبو سفيان: يأمرنا بالصلاة، والصدقة، والصلة، والعفاف). فهذه الأسئلة ليس فيها سؤال عن المعجزات، وبعدها قال هرقل: (إن يكن ما تقوله فيه حقاً فإنه نبي، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظنه منكم، ولو أني أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه). ثم بيّن هرقل معنى هذه السؤالات، فقال: (سألتك: هل كان من آبائه ملك؟ فلو كان من آبائه ملك، لقلت: رجلٌ يطلب ملك آبائه، وسألتك: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فلو قاله أحدٌ قبله فيكم، لقلت: رجلٌ ائتم بقول قيل قبله ..) إلى غير ذلك. فالمقصود: أن هرقل عرف نبوة النبي صلى الله عليه وسلم بدلائل ليس منها المعجزات، مما يدل على أن دليل النبوة ليس مقصوراً على المعجزة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه الوفود وتأتيه الأعراب، وآمن به من آمن من عبدة الأوثان، ومن اليهود والنصارى، مع أن جمهور من آمن به لم ينظروا معجزة وقت إيمانهم، وإنما صدقوه بما يقوله من الحق، ولهذا فإن أعظم ما بُعث به النبي صلى الله عليه وسلم وأخص دلائل النبوة هو القرآن. والقرآن من حيث الحقائق والنظم، فإن الله سبحانه وتعالى تحدى العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن.

إثبات كرامات الأولياء وحقيقة السحر

إثبات كرامات الأولياء وحقيقة السحر الوجه الثاني في المسألة: أن جماهير المتكلمين لما قصروا دليل النبوة على المعجزة، نفى طوائف منهم كرامات الأولياء، وكذا حقيقة السحر، لأنهم فسرو المعجزة بأنها الخارق للعادة على جهة التحدي، قالوا: ولو أثبتنا كرامات الأولياء، وخوارق السحرة والكهان، لكان هذا يمكن أن يكون مماثلاً لدليل النبوة. ولا شك أن كرامات الأولياء ثابتة بإجماع أهل السنة والجماعة، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه في قصة الفتية أهل الكهف؛ حيث آتاهم الله تلك الكرامة المذكورة في سورة الكهف، وقد ثبتت الكرامة لغير واحد من الأمة، وعلى هذا أجمع السلف. وكذلك ما يقع من خوارق الكهان والسحرة والعرافين والرمالين، فإن هذا ثابت، ولا يقال: إنه يختلط مع دليل النبوة، فإن ثمة فرقاً بين المقامين، من جهة القائم به، ومن جهة الفعل نفسه.

الفرق بين آيات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق المشعوذين

الفرق بين آيات الأنبياء وكرامات الأولياء وخوارق المشعوذين الفرق الأول: أما من جهة القائم به، فإن دليل النبوة إذا كان معجزةً فإن الذي يذكره نبي، وفرق بين النبي والولي، فضلاً عن الكاهن أو الساحر أو العراف، ولهذا قالت خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه الوحي: (أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق). ومن المعلوم قطعاً أن الولي لا يمكن أن يختلط بالنبي، إذ من شرط الولاية أن لا يكذب بالدعوى، فمن ادعى النبوة فإنه يعلم أنه ليس بولي، بل هو من أعظم الكفار كفراً، وأما الكهان والعرافون والسحرة والرمالون، فإن أحوالهم التي تكتنفهم من الشر والفجور والفسوق والعصيان، تكفي دليلاً على أنهم ليسوا بأنبياء ولا صادقين فيما يدعون، وإن اتصفوا بأحوال هي في نظر الناس تعد من الخوارق. والفرق الثاني: من جهة الفعل الخارق نفسه، ومن أخص دلائل هذا الفرق ما ذكره الله سبحانه وتعالى في قصة موسى وسحرة فرعون، فإن الله أمر موسى أن يلقي عصاه، قال: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [القصص:31] والسحرة ألقوا حبالهم وعصيهم، حتى أن الله سبحانه وتعالى قال: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه:66] ففي نظر الناس تحركت هذه العصي والحبال، وتحركت عصا موسى، ولكن بين الحقيقتين فرق بيِّن، فإن عصا موسى قد انقلبت حيةً على الحقيقة، وهذه قدرة الله سبحانه وتعالى، بخلاف حبال السحرة وعصيهم، فإنها في نفس الأمر لم تزل حبالاً ولم تزل عصياً. وقد قرر شيخ الإسلام رحمه الله أن كرامات الأولياء ليست كخوارق السحرة والكهنة والعرافين، وإذا كان بين كرامات الأولياء وخوارق السحرة والكهنة والعرافين فرق، فمن باب أولى الفرق بين معجزة النبي وخوارق السحرة. ولهذا فإن الخوارق التي يدعيها الكهان والعرافون والرمالون لا بد أن يصاحبها الكفر؛ فإنها نوع خضوع لشياطين الجن، ومعلوم أن الجن لهم من الاقتدار على الأشياء ما ليس لبني آدم، فيتحركون حركة هي في نظر الجن حركة معتادة، وتكون في نظر الإنس حركة خارقة، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ} [النمل:39]، وقال الله عنهم: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ:13]، وهذا بخلاف الخارق الذي يقع للولي، فإنه نعمة من الله، ليس تحريكاً من جهة الجن، فضلاً عما يقع لنبي أو رسول.

حكم السحر

حكم السحر ولقد اتفق السلف رحمهم الله على أن السحر كفر؛ لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، فإن الساحر إنما كفر لأنه خضع لغير الله بالطاعة والاستسلام والانقياد، وهكذا كفر بإجماع المسلمين، والذي تكلم به بعض أصحاب الإمام الشافعي ونسبوه قولاً له من التفصيل في مسألة السحر، هو خلاف لفظي؛ فإنه منذ زمن متقدم ترجمت العلوم، ومنها علوم الكيمياء والسيمياء ونحوها، وهذا يحدث نوعاً من الحركة الغير معتادة بفعل تركيب ومزج بعض المواد ونحو ذلك، وليس من تأثير الجن، فصار بعض الفقهاء يقولون: لا بد من معرفة صفة السحر، فإن كان مرتبطاً بالجن فهو كفر، لأنه يكون خضوعاً، وإن كان نوع حركة كخفة اليد مثلاً أو وضع بعض المواد على بعض فيتحول إلى مادة أخرى أو نحو ذلك، فهذا لا يعدونه كفراً وهو كذلك، لأنه ليس سحراً، وإن كان ينهى عنه سداً للذريعة وزجراً لهؤلاء حتى لا يفتتن الناس. وهذا التفصيل ليس مختصاً ببعض فقهاء الشافعية، بل بالإجماع أن مثل هذا لا يسمى كفراً، وكأن الغلط هو في تسميته سحراً.

الفرق بين النبي والرسول

الفرق بين النبي والرسول قول المصنف رحمه الله: (وإن محمداً عبده المصطفى) أي: عبد الله، ولفظ العبودية هنا لفظ تشريف كقوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} [الجن:19]. وقوله: (ونبيه المجتبى) أي: أن الله اجتبى نبيه، (ورسوله المرتضى) أي: أن الله سبحانه وتعالى رضيه رسولاً له ورضي عنه، والمصنف ذكر نبوته ورسالته، وهو عليه الصلاة والسلام يسمى نبياً ويسمى رسولاً بالإجماع، وهذا يقود إلى ذكر مسألة الفرق بين النبي والرسول، وهي مسألة تكلم فيها المتأخرون كثيراً، وذكر بعضهم أقوالاً يُعلم أنها من الغلط. والشائع في كلام أكثر الشراح أن النبي من أُوحي إليه بشرع ولم يُؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه، وهذا ليس عليه دليل. فإن الله سبحانه وتعالى قد أخذ الميثاق على أولي العلم الذين لم يأتهم وحي أن يبينوه للناس، فكيف بمن أوحى الله إليه وحياً، فلا معنى لهذا القول، وقد نُسب هذا القول إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكنه ليس كذلك، بل الصحيح الذي قرره شيخ الإسلام رحمه الله: أن النبي هو من أوحي إليه اتباع وتجديد شريعة نبي قبله، فهذا التكليف هو النبوة، ويكون الرسول على هذا التعريف هو: من بُعث إلى قوم بأصل التوحيد، وأما من كان المقصود من بعثته إما نسخ الشريعة السابقة، أو التثبيت لها، أو التجديد في بعض مسائلها مع كون القوم الذين بعث فيهم على أصل التوحيد، فإنه يُسمى نبياً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي). وقد قال بعض العلماء: إنه ليس من شرط الرسول على هذا الوجه أن يختص بشريعة، بل قد يبعث بأصل التوحيد، ويكون موافقاً لشريعة رسولٍ قبله، وهذا تحصيل محتمل، والله أعلم به. ومثلوا لذلك بيوسف عليه الصلاة والسلام؛ فإن الله قال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ الله مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34] فظاهر السياق أنه رسول، وكان على ملة إبراهيم، أي: على شريعته. وهذا تحصيل محتمل، لأن قوله: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي} [يوسف:38]، الظاهر أن المقصود به التوحيد.

ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم

ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم وقوله: (وإنه خاتم الأنبياء)؛ هذا صريح في الكتاب والسنة، قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأحسنه وأجمله إلا لبنة، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: ما أحسن هذا البنيان، قال: فأنا خاتم النبيين وأنا موضع هذه اللبنة). وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين، وهذا محل إجماع بين المسلمين، فكل من ادعى النبوة بعده فإنه يكون كافراً، سواء ادعى أنه نبي على الاختصاص، أي: أتى بشريعة جديدة، أو ادعى أنه نبي يوحى إليه فيما اختلف الناس فيه من أمر شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعليه: فدعوى بعض الطوائف الغالية الوحي، أو بعض مقامات الوحي لبعض الناس، كالقول بعصمة أئمة الشيعة، وأن صاحب هذا المقام لا يمكن أن يخطئ إذا تكلم في شرع الله؛ لا شك أنه كفر بإجماع المسلمين.

تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء

تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وقوله: (وإمام الأتقياء، وسيد المرسلين، وحبيب رب العالمين): لا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام أفضل بني آدم، كما ثبت عنه في الصحيح أنه قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وقال: (أنا سيد ولد آدم)، فلا شك أنه أفضل رسل الله وأنبيائه، وتفضيله صلى الله عليه وسلم مجمع عليه. وقد جاءت بعض النصوص مشكلة على هذه المسألة كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا موسى آخذ بساق العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور)، وغيره من الأحاديث التي ظاهرها معارضة ما تقدم من تفضيله صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء. فهذا الحديث وما في معناه ينبغي الوقوف على معانيها والمقصود منها، فيقال: هو في هذا المقام المختص حين يصعق الناس يوم القيامة أول من يفيق، لكن هل موسى عليه الصلاة والسلام يفيق قبله، أم يكون موسى ممن استثنى الله؟ الجواب: الله أعلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدث بالحديث قال: (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله)، فيجب في هذه المسألة الوقوف، ويحمل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين الأنبياء) على ما إذا كان التفضيل على جهة التعدي، أو استلزم التفضيل التنقيص أو الإسقاط لحق نبي من الأنبياء. ويدل لهذا مناسبة الحديث كما في الصحيح: (أن أحد اليهود قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فلطمه أحد الصحابة وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟! فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال: لا تفضلوا بين الأنبياء). وليس معنى الحديث منع المسلم أن يعتقد أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضل من غيره وأن موسى عليه السلام أفضل من كثير من الأنبياء، فإن الله قد قال في القرآن: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] وقال: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} [الإسراء:55]، ولكن من أصول أهل السنة، أنه لا يستطال على أحد من خلق الله لا بحق ولا بغير حق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو يذكر مذهب أهل السنة والجماعة في آخر الرسالة الواسطية قال: (ويرون ترك الاستطالة بحق أو بغير حق). أما الاستطالة بغير حق: فكالاستطالة بمحض الظلم والكذب أو الخطأ أو الغلط، وهذا بين. وأما الاستطالة بحق: فأن يكون الأصل الذي انطلق منه حقاً ولكنه زاد فيه، ومن أخوف ما يخاف على هذه الأمة، أن يتخذ العلم بغياً، وهو من أخلاق أهل الكتاب التي لما دخلت وشاعت فيهم، أفسدت ملتهم وجعلتهم شيعاً وأحزاباً. وهذا مع الأسف يقع كثيراً في الناس اليوم وقبل اليوم، فيستطال على بعض الأعيان، أو بعض الطوائف بما هو من العلم، ولهذا وقع أول الافتراق في هذه الأمة لما استطال الخوارج بالحق، أي: أنهم استدلوا بالقرآن، وقالوا: لا حكم إلا لله، كان من فقه الإمام علي رضي الله عنه أن قال: (كلمة حق أريد بها باطل). فينبغي لطالب العلم أن يفقه هذه المسألة وأن يعرف أدب أهل السنة، فإن العلم إنما بُعث هدىً ورحمة، ولم يكن العلم الذي أوحاه الله إلى أنبيائه ورسله ليتخذ بغياً واستطالة، فإن طلب العلو في الأرض غاية فرعون وأمثاله الذين ذمهم الله في كتابه. ولهذا لما ذكر الله سبحانه وتعالى العلو المناسب للمؤمنين جعله مطلقاً، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139]، ولما ذكر فرعون قال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ} [القصص:4] فالعلو المناسب للمؤمن هو العلو الإيماني، الذي يقوم على العدل والرحمة، ولهذا لما ذكر الله سبحانه الخضر قال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الرسل بعثوا بالعلم والرحمة، فالرحمة بلا علم جهل، والعلم بلا رحمة ظلم وبغي)، وموجب الخطأ في بني آدم إما الجهل وإما الظلم، قال الله تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].

ثبوت الخلة والمحبة للنبي صلى الله عليه وسلم

ثبوت الخلة والمحبة للنبي صلى الله عليه وسلم قوله: (وحبيب رب العالمين): لو أن المصنف رحمه الله قال: (وخليل رب العالمين) لكان أجود، لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، وإن كان اللفظ لا إشكال فيه، وإنما الكلام في الأولى. قوله: (وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى)، أقول: بل هي كفر مجمع عليه كما تقدم.

عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم للجن والإنس

عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم للجن والإنس قال: (وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء): من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الإنس والجن، قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة وجابر رضي الله عنهما: (فضلت على الأنبياء بست) وفي رواية: (فضلت على الأنبياء بخمس)، ومنها: (بعثت إلى الخلق كافة)، وهذا لكون رسالته ونبوته خاتمة. وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار). فكل من بلغته دعوته صلى الله عليه وسلم ولم يؤمن به، سواء كان ترك دعوته اتباعاً لنبوة نبي سابق كعيسى أو موسى عليهما السلام، أو كراهية أو لغير ذلك؛ فإنه من أهل النار وممن كفر بالله سبحانه وتعالى.

شرح العقيدة الطحاوية [6]

شرح العقيدة الطحاوية [6] من أصول الإيمان: الإيمان بالكتب المنزلة على أنبياء الله عليهم السلام، ومن أخص هذه الكتب: القرآن العظيم، فهو أفضلها وأحكمها والمحفوظ منها -بحفظ رب العالمين- إلى يوم الدين، وهو كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

عقيدة أهل السنة في القرآن

عقيدة أهل السنة في القرآن قال المصنف رحمه الله: [وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر، ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، فمن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أن الله تعالى بصفاته ليس كالبشر]. بعدما ذكر المصنف مسألة النبوة ذكر مسألة كلام الله سبحانه وتعالى، ومن المعلوم أن من أصول الإيمان: الإيمان بكتب الله سبحانه وتعالى، وهي الكتب المنزلة على الرسل عليهم الصلاة والسلام، وأخص هذه الكتب وأعظمها وأحكمها هو القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعظيمُ القرآن مجمع عليه بين المسلمين ولكن لما عطل الجهمية والمعتزلة الباري عن صفاته، ولم يصفوه بصفات الكمال، كان من تلك الصفات صفة الكلام، فقالوا: إن كلام الله مخلوق، ولما كان صريحاً في القرآن أن القرآن كلام الله قالوا: القرآن مخلوق. وقد أجمع السلف على أن هذه كلمة كفرية، وقد حكى الإجماع غير واحد كـ شيخ الإسلام وغيره، بل القرآن كلام الله سبحانه وتعالى، حروفه ومعانيه، وهذا التقرير هو فرع عن الأصل المقول في الصفات، وهو إثبات صفات الكمال لله سبحانه وتعالى، ومن أخص صفاته الثابتة في العقل والشرع: الكلام، فإن الله موصوف بالكلام.

خلاصة مذهب أهل السنة في كلام الله

خلاصة مذهب أهل السنة في كلام الله ومذهب أهل السنة والجماعة في مسألة الكلام، أن الله موصوف بهذه الصفة أزلاً وأن كلامه سبحانه وتعالى متعلق بقدرته ومشيئته، وأنه بحرف وصوت مسموع. وقد ذكر الله القرآن وسماه تنزيلاً، وذكر القرآن وسماه كلاماً له في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ولهذا قال المصنف: (وإن القرآن كلام الله، منه بدأ بلا كيفية قولاً) أي أن القرآن بدأ منه سبحانه وتعالى قولاً له، بحرف وصوت مسموع.

براءة الطحاوي من مذهب الأشعرية والكلابية في كلام الله

براءة الطحاوي من مذهب الأشعرية والكلابية في كلام الله قال رحمه الله: (وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة) لما استعمل لفظ الحقيقة، كان هذا درءاً لمذهب الأشعري وأمثاله الذين قالوا: إن القرآن عبارة أو حكاية عن كلام الله وليس كلام الله على الحقيقة. فهذه الجملة من أبي جعفر الطحاوي رحمه الله تبين أنه لم يكن على طريقة الأشعرية، وإن كان قد يغلط أو يتأثر أحياناً ببعض السياقات التي يستعملها بعض أئمة الأشعرية، ويكون تأثره بها تأثراً لفظياً.

مذهب الأشعري وابن كلاب في كلام الله

مذهب الأشعري وابن كلاب في كلام الله الأشعري وابن كلاب أثبتوا صفة الكلام لله إثباتاً غير متصور في العقل، فقالوا: إن الكلام معنى واحد يقوم في النفس، ليس بحرف ولا بصوت، ولا يتعلق بالقدرة والمشيئة، وهذا مذهب شاذ أحدثه عبد الله بن سعيد بن كلاب وتبعه عليه الأشعري وأمثاله، وليس هو قول أهل السنة ولا يعرف عن أحد من سلف الأمة، بل كما قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه قول مخالف للعقل فضلاً عن مخالفته للشرع. فلما قال ابن كلاب والأشعري: إن الكلام معنى واحد يقوم في النفس ليس بحرف ولا صوت، جعلوا القرآن الذي هو حرف حكايةً أو عبارةً عن كلام الله، وليس كلاماً له، ولا شك أن هذا تناقض؛ فإن من أثبت الكلام لله، لزمه أن يجعله بحرف وصوت؛ لأن الكلام كذلك. وهذا يقود إلى مسألة، وهي: حقيقة الكلام؛ فإن الذي أجمع عليه أهل السنة أن الكلام يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، ليس هو اللفظ وحده ولا المعنى وحده، والمشهور عند النحاة أن الكلام هو اللفظ، وإن كان من يطلق ذلك من النحاة، ليس بالضرورة أنه يلتزم بعض النتائج المقولة في أصول الدين، ومن هنا قال ابن مالك: كلامنا لفظ مفيد .... ... . وجعلوا المعنى مدلولاً لهذا اللفظ، ولم يجعلوا لفظ الكلام متناولاً له، وغلط ابن كلاب والأشعري، فقالوا: إن الكلام هو المعنى وحده، وقال طائفة: إنه مشترك بين اللفظ وبين المعنى على الانفكاك، فيكون اللفظ وحده كلاماً ويكون المعنى وحده كلاماً. والله سبحانه لم يذكر الكلام مطلقاً إلا وأراد به ما كان بحرف وصوت، وأما قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ} [المجادلة:8]، فمثل هذا السياق لا يدل على مذهب الأشعري، لأنه سياق مقيد، فضلاً عن كون طائفة من المفسرين قالوا في تفسيرها: أنهم يقولون فيما بينهم كلاماً لا يسمعه غيرهم.

حكم من قال مقالة كفرية

حكم من قال مقالة كفرية قال: (ليس بمخلوق ككلام البرية)، وفي هذه الجملة مفارقة لمذهب المعتزلة، فإن المعتزلة تقول: إنه مخلوق. قوله: (فمن سمعه فزعم أنه من كلام البشر فقد كفر ... إلخ). من قال: القرآن مخلوق فقوله كفر؛ لكن قائل ذلك لا يكفر ابتداءً إلا إذا علم أن الحجة قد قامت عليه، وقد كان في زمن السلف رحمهم الله أعيان كثيرون من الجهمية والمعتزلة وغيرهم يقولون: إن القرآن مخلوق، وما كان أحدٌ من السلف يطرد تكفير أعيانهم، وذلك أن ثمة أصلين عظيمين شريفين في مسألة: التكفير لمن غلط من أهل القبلة في مسائل أصول الدين، قررهما شيخ الإسلام: الأصل الأول: أن المقالة التي تكون في حكم الله ورسوله كفراً لا يلزم منها أن يكون كل من قالها من أهل القبلة كافراً، ومن ذلك قولهم: إن القرآن مخلوق. وتقدم أن شيخ الإسلام يقول: (والإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية الذين قالوا بخلق القرآن فإنه لم يشتغل بتكفير أعيانهم، بل قد صلى الإمام أحمد خلف بعض من يقول بخلق القرآن ودعا له واستغفر له)، ويعني بذلك الخليفة المعتصم، فإنه كان يقول بخلق القرآن تبعاً لأئمة المعتزلة، ومع ذلك فقد صلى الإمام أحمد خلفه ودعا له واستغفر له، ولو كان يرى كفره لما فعل ذلك. وأما من قال: إن الإمام أحمد إنما فعل ذلك خلفه -أي الصلاة والدعاء- لكونه سلطاناً، ولو لم يكن سلطاناً لكفره، فهذا جاهل لا يعرف ما يقول، ومعلوم أن هذه المسائل لا تكفها مسألة السلطنة، بل كان الإمام أحمد لا يرى كفر المعتصم، والمذهب عند متأخري الحنابلة أن الفاسق لا يصلى خلفه، ولو كان الإمام رحمه الله يرى أن المعتصم كافراً لما دعا له واستغفر له وصلى خلفه، مع أن المعتصم كان ثابتاً على القول بخلق القرآن، ومع أنه سمع المناظرة، وسمع انقطاع أئمة المعتزلة بين يدي الإمام أحمد. الأصل الثاني: أن يُعلم أن الواحد من أهل الصلاة والشعائر الظاهرة، لا يكون كافراً في نفس الأمر -أي في الحكم الباطن- إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة والشعائر الظاهرة نفاقاً. ومعلوم أنه لا يلزم من الحكم بكفر شخص ظاهراً أن يكون كافراً باطناً، ولا يلزم من الحكم بإسلامه ظاهراً أن يكون مسلماً باطناً، فالمنافقون عند كثير من المسلمين يحكم لهم بالإسلام مع أنهم عند الله كفار، وكان جماهير الصحابة زمن النبوة لا يعرفون عامتهم، بل إن ظاهر القرآن يدل على أن من المنافقين من كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفه، قال الله تعالى: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] وقد يُكّفر أحد أعيان أهل القبلة من بعض العلماء اجتهاداً، وقد يكون هذا الاجتهاد في نفس الأمر صواباً وقد يكون غلطاً، قد يكون له من العذر الذي لم يطلع عليه ما يدفع عنه الكفر عند الله. وهذا الأصل ليس مشكلاً كما ادعى بعض المعاصرين، فقال: إن كلام شيخ الإسلام فيه نظر، بل إن أحكم من قرر مسألة التكفير من المتأخرين هو الإمام ابن تيمية رحمه الله، وقد بناها بناءً شرعياً عقلياً؛ فإنه قال بعدما ذكر هذا الأصل: (وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بُعث بمكة كان الناس أحد رجلين، إما مؤمن ظاهراً وباطناً وإما كافر ظاهراً وباطناً، ولما هاجر إلى المدينة ظهر نوع ثالث، وهم من آمن ظاهراً وكفر باطناً. والمؤمنون ظاهراً وباطناً على ثلاثة أقسام: فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات. قال: فالذي يُظهِر الصلاة والصوم والحج ويعتمر ويؤذن ويقيم، لا يسمى كافراً ظاهراً وباطناً لأنه في الظاهر مسلم، قال: فدار بين كونه مؤمناً ظاهراً وباطناً وبين كونه مؤمناً ظاهراً كافراً في الباطن، قال: وإذا قلنا عن أهل البدع المخالفين لإجماع السلف: إنهم مؤمنون ظاهراً وباطناً، فإنما يعنى بهذا الإيمان: الأصل الذي يفارق الكفر، قال: وإلا فإن عامتهم ظالمون لأنفسهم، لأن مثل هذه البدع لا تكون إلا عن تقصير في متابعة أمر الله ورسوله، وهذا التقصير في العلم هو من أخص الكبائر والظلم). ولهذا قال رحمه الله -وهذا أصل ثالث-: (إن كل من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول فأخطأ فإن خطأه مغفور له). فذكر ثلاثة شروط: الأول: أن يكون أراد الحق، والثاني: أن يكون مجتهداً في طلبه، والثالث: أن يكون طلبه إياه من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم. قال: (فمن عدم الإرادة، أو عدم الاجتهاد، أو طلبه من غير جهة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يكون كافراً، وأما من أراده واجتهد فيه من جهة الرسول فأخطأه: فإنه في الأصول الشائعة بين المسلمين أنه لا يخطئه إلا مقصر إما في مقام الإرادة، أو مقام الاجتهاد، قال: فهذا هو الظالم لنفسه). قال: (وعامة أهل البدع، مقصرون في مقام الاجتهاد).

شرح العقيدة الطحاوية [7]

شرح العقيدة الطحاوية [7] يكرم الله سبحانه عباده برؤيته جل وعلا يوم القيامة وفي الجنة، فلا يجدون لذة تفوق لذة النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى، هذا ما يعتقده أهل السنة والجماعة، تصديقاً منهم لكتاب ربهم، وسنة نبيهم، وإن خالفهم في ذلك بعض فرق المسلمين فأنكروا الرؤية بالكلية، أو انحرفوا فيها فأبطلوا حقيقتها؛ اتباعاً لزبالات الأذهان، وأقوال فلاسفة اليونان.

عقيدة أهل السنة والجماعة في رؤية الله تعالى

عقيدة أهل السنة والجماعة في رؤية الله تعالى قال المصنف رحمه الله: [والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه]. الرؤية من أخص الصفات التي حصل فيها النزاع، وقد أجمع السلف على أن المؤمنين يرون ربهم عياناً بأبصارهم كما يرون القمر ليلة البدر، وكما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، في عرصات القيامة، وفي الجنة. والدليل على ذلك: الكتاب، والمتواتر من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والإجماع. وقد نفى الرؤية أئمة الجهمية والمعتزلة، وطوائف من الشيعة المقلدة للمعتزلة، وهذا المذهب بدعة بإجماع السلف، بل قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إن من بلغته نصوص الرؤية ولم يقل بها، فإنه يكون كافراً إذا قامت الحجة عليه بها)، وقد جاء عن غير واحدٍ من السلف كـ أحمد ومالك، أنهم سموا الخلاف في هذه المسألة كفراً. ولا شك أن الأمر كذلك، فإن من خالف صريح النصوص، ومتواتر السنة، وصريح الإجماع، فإن قوله يكون كفراً وإن كان قائله لا يكفر ابتداءً كالمسألة التي تقدمت في قول من قال: إن القرآن مخلوق، فلا فرق بين المسألتين في الحكم.

أدلة إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة

أدلة إثبات رؤية الله تعالى في الآخرة وأما دلائل الرؤية فمن القرآن قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فإن النظر أضيف إلى الوجوه وعدي بـ (إلى)، فدل ذلك على أن المراد به النظر بالأبصار. وتعلم أن النظر في لسان العرب يأتي بحسب سياقه على غير معناه كقولهم: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] وكقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، فهذه معان مختلفة، وهذه قاعدة من أهم القواعد لطالب العلم في فقهه لمذهب أهل السنة ودلائلهم: وهي أن تفسير الأئمة للآيات والأحاديث النبوية، ليس معتبراً بوضع الكلمة المفردة في اللغة، بل هو معتبر بسياق الكلام نفسه. وهذا يرد قول من قال: إن النظر في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، بمعنى الانتظار؛ لأن النظر يأتي في كلام العرب على معنى الانتظار، ومنه قوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13] أو قال: إنه التفكر، لأنه يأتي في كلام العرب كذلك ومنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ} [الأعراف:185] أي: نظر تفكر أو نحو ذلك. ومثله في الصفات الأخرى، كقول من قال إن اليد في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] المراد بها هنا النعمة؛ لأن العرب تذكر اليد وتريد بها النعمة. ومنه قول عروة بن مسعود لـ أبي بكر رضي الله عنه في الحديبية كما في الصحيح: (لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك). أي: لولا نعمة لك علي. فالسياق يوجب أن تفسر اليد بالصفة ويرد تأويلهم؛ فإن قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] ذكر لفظ اليد هنا مثنىً مضافاً، وإذا ذكر مثنىً مضافاً، فإنه لا بد أن يفسر بالصفة القائمة بموصوفها ولا يمكن أن يكون المراد به النعمة أو نحو ذلك. ومن دلائل الرؤية قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فلفظ الزيادة لفظ مجمل، لكنه صلى الله عليه وسلم في حديث صهيب الذي رواه مسلم فسر الزيادة بالنظر إلى وجه الله، ومن هنا كان هذا اللفظ مبيناً بالسنة. ومن دلائلها قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، فإن الله نفى الإدراك، والإدراك قدر زائد على أصل الرؤية، فلما خص القدر الزائد بالنفي دل على أن ما دونه ثابت، وإلا فلا معنى لتخصيص القدر الزائد بالنفي، بمعنى أنه لو كان أصل الرؤية ممتنعاً، فلن يكون لتخصيص القدر الزائد بالنفي معنى، ومعلوم في حس بني آدم أن بين الإدراك وأصل الرؤية فرقاً، فإنك إذا رأيت الشيء لا يلزم أن تكون قد أدركته. وقد قال رجل لـ ابن عباس رضي الله عنهما: يا ابن عباس إن الله يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] ويقول: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: ألست ترى السماء؟ قال الرجل: بلى؛ قال: أتدركها كلها؟ قال الرجل: لا. قال فالله أعظم. وأما قول من قال: إن تفسير قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) أي: لا تراه في الدنيا، فهذا قول قاله طائفة من أهل السنة ولكنه ليس براجح، بل الصحيح أن الآية على عمومها، وأن من خصائصه سبحانه أنه يُرى ولا يدرك، بخلاف غيره؛ فإنه إذا رئي يدرك أو يكون ممكن الإدراك، وهذا معنى قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] أي في صفاته الثابتة، فهو يرى ولا يدرك، كما أنه يُعْلَم من علمه شيء ولا يحاط به علماً. ومن دلائل الرؤية عند أهل السنة قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ووجه الدلالة أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه الرؤية، ولو كان -كما تزعم المعتزلة- من أصل التوحيد أن الله سبحانه تمتنع عنه الرؤية، للزم من ذلك أن يبعث الله رسولاً ويصطفيه برسالته وبتكليمه على الناس، ويكون جاهلاً بأصل من أصول الربوبية! وقد علق الله رؤيته بأمرٍ ممكن، وهو استقرار الجبل مكانه، فدل على أنها ممكنة. ومن دليل أهل السنة والجماعة على إثبات رؤية المؤمنين لربهم: متواتر الحديث؛ فإنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق نحو ثلاثين من الصحابة منهم العشرة المبشرون بالجنة، في الصحيحين والسنن والمسانيد، تصريحه صلى الله عليه وسلم بين يدي أصحابه مع اختلاف أحوالهم: أن المؤمنين يرون ربهم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، لا تضامون في رؤيته) متفق عليه. ومن ذلك حديث أبي موسى في الصحيحين، وحديث صهيب عند مسلم، وحديث جرير بن عبد الله البجلي إلى غير ذلك.

اعتراض القاضي عبد الجبار على أحاديث الرؤية والرد عليه

اعتراض القاضي عبد الجبار على أحاديث الرؤية والرد عليه ومن جهل علماء المعتزلة بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن أكبر قضاتهم في زمنه، وهو القاضي عبد الجبار بن أحمد صاحب (المغني) و (المحيط بالتكليف) وغيرها، قال: (وأما ما استدلت به العامة -يعني: أهل السنة- من الحديث فهو آحاد، لم يروه إلا جرير بن عبد الله البجلي). وهذا جهل من جهتين: الأولى: أن حديث الرؤية رواه نحو ثلاثين من الصحابة، فكيف يقول: إنه لم يروه إلا جرير بن عبد الله البجلي، خاصة أن اللفظ الذي ذكره جرير ذكره غيره من الصحابة. الثانية: وهي زعمه أن دليل الآحاد لا يُستدل به.

حكم الاحتجاج بالآحاد في العقائد

حكم الاحتجاج بالآحاد في العقائد شاع في كتب طائفة من الأصوليين وعلماء الكلام، وبعض علماء المصطلح؛ تقسيم الحديث إلى آحاد ومتواتر، وهذا التقسيم من حيث هو اصطلاح لا إشكال فيه، وإنما الغلط هو حد من قال: إن المتواتر هو ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس، ثم جعل كل ما خالف المتواتر آحاداً، ورتب المعتزلة وطوائف من الأشاعرة على ذلك نتيجة، وهي أن الآحاد لا يحتج بها في العقائد والأصول. فهذا الحد للمتواتر غلط على السنة، لأنهم قالوا: ما رواه جماعة عن جماعة، ثم ذكروا خلافاً في حد الجماعة، والذي يستقر عليه كثيرٌ منهم هو: العشرة أو ما يقاربهم فعلى طريقتهم، لا يصير الحديث متواتراً إلا إذا رواه عن الرسول عليه الصلاة والسلام من الصحابة عشرة، ورواه عن كل صحابي عشرة، فيكون العدد في التابعين مائة، ورواه عن كل واحد من هؤلاء المائة عشرة، فتكون الطبقة الثالثة ألفاً من الرواة، ومثل هذا لا ترى له مثالاً في السنة، وإن فرض له مثال فهو يسير جداً. وقد صرح بعض الحفاظ الذين ذكروا هذا الحد أنه لا مثال له على هذا الوجه، فلو صحح رأيهم في المتواتر على هذا الوجه لكان نتيجة ذلك: أن السنة لا يحتج بها في الاعتقاد، لأنه لا يوجد حديث متواتر على هذا الحد. وأما أن تقسم الرواية إلى متواتر وآحاد على حد يختلف عن ذلك فهذا لا بأس به، وقد ذكر الإمام الشافعي رحمه الله وطائفة من المتقدمين لفظ المتواتر في كلامهم، لكنهم لم يوردوا للمتواتر هذا الحد الذي زعمه المتكلمون ودخل على طائفة من الأصوليين وعلماء المصطلح المتأخرين.

دليل نفاة الرؤية

دليل نفاة الرؤية الجهمية والمعتزلة هم نفاة الرؤية، والقاعدة أنه لم ينف جهمي أو معتزلي صفة من الصفات لدليل من القرآن أو السنة، وغاية ما يستدلون به قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وهذا دليل مجمل لا دلالة فيه، إنما فيه تنزيه الله سبحانه وتعالى عن مماثلة غيره، وهذا مما استقر عند سائر المسلمين. وأما استدلالهم على نفي الرؤية بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فقالوا: (لن) تقتضي التأبيد. فلو سلم جدلاً أن الآيتين تدلان على مراد المعتزلة، فتكون نتيجة الدليل نفي الرؤية مع إمكانها؛ لكن المعتزلة والجهمية يقولون: إن الرؤية ممتنعة، ومعلوم أن المنفي قد يكون ممكناً وقد يكون ممتنعاً، فإذا قيل لك: هل لك ولد؟ فقلت: لا، فلا يعني هذا أن الولد في حقك ممتنع، بل هو ممكن، لكنه لم يوجد حتى الآن. فإذاً: الامتناع يستلزم النفي، ولكن النفي لا يستلزم الامتناع، فقد ينفى الشيء وهو ممكن، وقد يُنفى الشيء وهو ممتنع، فلو وقفت المعتزلة عند الدليل الذي زعمت أنها تستدل به، للزمهم أن يقولوا: إن الرؤية منفية ولكن لا نقول: إنها ممتنعة. لكن لما قرروا أنها ممتنعة بما يسمونه دليل المقابلة، وهو عندهم امتناع الرؤية لامتناع العلو على الله تعالى، ودليل الانطباع، وغيرها من الدلائل الكلامية الفلسفية، وحكموا عليها بالامتناع، ثبت أنهم ليس لهم دليل لا من الكتاب ولا من السنة.

مذهب الأشاعرة في الرؤية

مذهب الأشاعرة في الرؤية مذهب الأشاعرة في الرؤية، ملفق من مذهب أهل السنة ومذهب المعتزلة؛ فإنهم قالوا: إن الله يرى بلا جهة، وهذا الذي تقلده المتأخرة من الأشاعرة كـ أبي المعالي والرازي؛ لأنهم ينفون العلو، وأرادوا بنفي الجهة نفي العلو، وقد يوجد في كلام بعض شراح الحديث كالنووي عبارة: إن الله يرى بلا جهة، ولكن ليس مقصوده نفي العلو عن الله تعالى كما يقصد هؤلاء. وقد كان الأشعري وقدماء أصحابه يثبتون الرؤية إثباتاً حسناً. قول المصنف: (والرؤية حق لأهل الجنة) أراد بأهل الجنة هنا: المؤمنين، وإلا فإنهم يرونه في الجنة ويرونه قبل ذلك في عرصات القيامة. قوله: (بغير إحاطةٍ) أي: بغير إدراك، كما في قوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) [الأنعام:103]، وقوله: (ولا كيفية) هذه كلمة مجملة، لو لم يعبر بها لكان أجود؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الرؤية فقال: (كما ترون القمر ..) وقال: (وكما ترون الشمس صحواً ليس دونها سحاب). وهذا ليس من أحاديث التشبيه كما زعم بعض علماء المعتزلة، فإن التشبيه هنا تشبيه للرؤية بالرؤية وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، كقوله عليه الصلاة والسلام: (أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر)، ولم يلزم من ذلك أنهم مماثلون في الحقيقة للقمر، وهذا مستقر بأصل العقل، والعرب تارة تذكر التشبيه للصفة، وتارةً تذكر التشبيه للموصوف. قال: (وتفسيره على ما أراده الله تعالى وعلمه) هذا حرف مجمل ولا شك أن تفسير كلام الله هو على ما أراده الله وعلمه، كما قال الإمام الشافعي في الصفات: (نؤمن بما جاء في كتاب الله، وجاء في سنة رسول الله، على ما أراد الله)، وهذه جملة مجمع عليها بين السلف؛ ولكن هذا الحرف يستعمل لنوع من التفويض، وقد استعمل التفويض في الرؤية طائفة من علماء الأشاعرة الذين فسروا كلام متكلميهم في قولهم: يرى بلا جهة، فقالوا: هي رؤية علمية، وهذا رجوع لمذهب المعتزلة، حتى قال أبو حامد الغزالي: (إن الفرق بين مذهب أصحابنا ومذهب المعتزلة هو فرق لفظي). فقوله: (وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه) هذه جملة مجملة، فلا شك أن التفسير هو على مراد الله وعلمه، ولكنه معلوم بتعليم الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه وأمته. يذكر في كلام كثير من أهل العلم رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، وهذه المسألة ليست من المسائل الأصول، فليست من حيث القدر والشرف كمسألة رؤية المؤمنين لربهم الثابتة في الكتاب، ومتواتر الحديث، والإجماع التام. أما رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج فإن فيها طرفاً من النزاع على طريقة أهل السنة والمتكلمين، وإنما الغلط حصل في طريقة بعض المتأخرين من أهل العلم الذين جعلوا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج ببصره قولاً لأكثر أهل السنة، وربما قال من قال منهم بأنه قول أكثر الصحابة، ولم يخالف إلا عائشة وطائفة، وهذا غلط بيِّن؛ فإنه لم يصح هذا القول عن واحد من الصحابة، وإنما الذي صح عن جماعة من الصحابة، هو أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده، وهذا قاله ابن عباس كما في الصحيح، وطائفة من الصحابة. ومع هذا فما يستدل به ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، في هذه المسألة بعضه مما يصحح، وبعضه مما يخالف فيه، فإنه فسر بعض الآيات برؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بفؤاده، في حين أن عائشة روت مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد جبريل عليه السلام. إلا أن هذا القول المأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما هو القول الشائع عند طائفة من السلف، وقد كان الإمام أحمد وجماعة من أئمة السنة والحديث يقيدون فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده، وتارةً يقولون: إنه رآه، فيطلقون، وأُثر ذلك عن ابن عباس، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فما صح عن ابن عباس إما مطلقاً وإما مقيداً، فيحمل مطلق كلامه على مقيده، قال: ولم يصح عن ابن عباس ولا عن أحد من الصحابة أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره. قال: وكذلك الإمام أحمد وأمثاله من أئمة السنة والحديث، فإن قولهم على هذا الوجه، وإن كان طائفة من متأخري أصحابنا يحكون عن أحمد وغيره من متقدمي الأئمة، ما هو من التصريح برؤية البصر، قال: وهذا من فهم كلامهم، وليس هو ما أُثر عنهم على الوجه المحقق). فالحاصل أنه لم يصح عن صحابي من الصحابة أنه صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وعليه فيكون هذا القول كأنه محدث، وإن كان في الجزم بهذا بعض التردد، وقد حكى الدارمي رحمه الله وهو من متقدمي المحققين من أئمة السنة إجماع الصحابة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرَ ربه ببصره. وهذا الإجماع الذي حكاه الدارمي ليس هناك من الآثار المروية عن الصحابة ما يعارضه، وقد صح عن عائشة رضي الله عنها كما في الصحيحين أنها قالت لـ مسروق: (ومن حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب)، ولم يحفظ عن أحد من الصحابة أنه نازع عائشة رضي الله تعالى عنها في ذلك، وإذا اعتبر الاستدلال بغير دليل الإجماع فإن ظاهر القرآن وصريح السنة، تدل على نفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ببصره. أما القرآن فلأن الله تعالى لما ذكر معراج نبيه صلى الله عليه وآله وسلم قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] وقال سبحانه: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18]، فذكر في الموضعين امتنانه سبحانه وتعالى على نبيه برؤية الآيات، ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى ربه في معراجه ببصره لكان الإشادة والامتنان بذكر رؤيته لربه أظهر وأولى من الإشادة والامتنان بذكر رؤية الآيات. وأما السنة فقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث عبد الله بن شقيق أنه قال لـ أبي ذر رضي الله عنه: (لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته، فقال له أبو ذر: عمَ كنت تسأل؟ فقال: أسأله: هل رأيت ربك؟ فقال أبو ذر: أما إني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت نوراً) وفي الوجه الآخر من حديث عبد الله بن شقيق نفسه عن أبي ذر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله أبو ذر قال: (نورٌ أنى أراه). وقد كان الإمام أحمد وبعض متقدمي أئمة الحديث يتأخرون عن تصحيح هذا الوجه من الرواية، فإن صح هذا فالمعتبر وجه واحد، وإن استقام ما ذهب إليه الإمام مسلم ومن اعتبر رأيه في هذا، فإن كلا الوجهين يكون صحيحاً ولا يكون هناك تعارض، والحق: أن جهة التعارض ليست هي الموجبة للتردد في صحة كلا الوجهين، وإنما الموجب لذلك أن وجه الرواية من حيث السؤال واحد، فإما أن يكون النبي أجاب بهذا أو أجاب بهذا، وإن كان فرض الجمع بين الجوابين ممكن وليس متعذراً؛ فقوله: (رأيت نوراً) ليس مخالفاً من حيث المعنى لقوله: (نورٌ أنى أراه)، أي أن النور حال دون رؤيته، وهذا النور الذي رآه صلى الله عليه وسلم فإنه -والله أعلم- هو نور الحجاب، فإنه ثبت في صحيح مسلم رضي الله عنه من حديث أبي موسى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وعليه فإن المستقر عند متقدمي السلف من الصحابة ومن بعدهم، أن يُقال: إن النبي رأى ربه بفؤاده ولا يصرح برؤية البصر.

رؤية الكفار لربهم في عرصات القيامة

رؤية الكفار لربهم في عرصات القيامة المسألة الثالثة من مسائل الرؤية -وهي دون المسألة الثانية-: رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة، وهذه مسألة نزاع بين أهل السنة المتأخرين وغيرهم، قال شيخ الإسلام: (ولم يحفظ للصحابة فيها قول بيَّن)، والأقوال التي يذكرها أصحاب السنة والجماعة ثلاثة، وبعضهم يزيد فيها إلى أربعة، وبعضهم يجعلها خمسة، وهي: القول الأول: أنه لا يراه في عرصات القيامة سائر أجناس الكفار سواء كانوا من المشركين، أو من أهل الكتاب أو من المنافقين، فلا يراه في عرصات القيامة إلا أهل الإيمان. القول الثاني: أنه يراه سائر الكفار من أهل الكتاب وأهل الشرك وأهل النفاق، ثم يحتجب عنهم. القول الثالث: أنه لا يراه إلا المنافقون دون بقية الكفار. القول الرابع: أنه يراه المنافقون وغبرات من أهل الكتاب، أي: بقايا من أهل الكتاب. القول الخامس: وهو التوقف في المسألة والكف عنها. وإنما قيل: إن الأقوال ثلاثة؛ لأن من يقول بالقول الثالث لا يعارضون ما يقوله أصحاب القول الرابع، ويفسرون هذا النوع من أهل الكتاب بأنهم متحنفة أهل الكتاب، الذين لم يدركوا دين الإسلام. وأما مذهب التوقف ففي كلام الأصوليين حينما يحكون المذاهب في المسائل الأصولية أو غيرها، كثيراً ما يذكرون مذهب التوقف، وهم أكثر الأصناف ذكراً للتوقف قولاً. والصحيح أن التوقف الذي معتبره عدم العلم بالدليل لا يعد قولاً، وأما التوقف الذي يكون عن اشتباه في مورد الأدلة، فإنه يعد قولاً. وإذا سئل عن الراجح، فإن المسألة ليس فيها قول يجزم به، فبعض ظواهر الحديث المخرجة في الصحيح تدل على أن المنافقين وطوائف من أهل الكتاب يرون ربهم، وإذا اعتبرت ظاهر القرآن، وظاهر كلام المتقدمين من السلف، فإنه يدل على أنه لا أحد من الكفار يرى ربه، وقد كان الشافعي ومالك والإمام أحمد يحتجون بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] على رؤية المؤمنين لربهم، وهذا يعني أنهم يرون أن الكفار لا يرونه. وهكذا قال شيخ الإسلام: إن ظاهر مذهب المتقدمين من السلف أن الكفار لا يرون ربهم، وهذا هو ظاهر القرآن؛ فكأن هذا القول هو الأولى في المسألة، وإن كان الخلاف في المسألة واسعاً وليست هي -بإجماع أهل العلم- من المسائل الأصول.

شرح العقيدة الطحاوية [8]

شرح العقيدة الطحاوية [8] مذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم في أسماء الله سبحانه وصفاته هو إثبات المعنى، وتفويض الكيفية، وأن نصوص الشرع توافق العقل الصحيح ولا تعارضه، لا كما يزعم أهل التجهيل، ممن يزعمون أن السلف كانوا لا يفهمون معاني آيات الصفات، أو ما يزعمه أتباع فلاسفة اليونان من تعارض سفاهات عقولهم مع نصوص الكتاب المبين وسنة البشير النذير.

مذهب التفويض مذهب مخالف لطريقة السلف

مذهب التفويض مذهب مخالف لطريقة السلف قال المصنف رحمه الله: [وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا]. علق المصنف المراد في باب الأسماء والصفات على مراد الله ورسوله، وهو تعليق صحيح؛ فإن المعتقد الذي يجب على كل مسلم هو ما أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن الإجمال لهذا التعليق كأنه يُشعر بأن ثمة قدراً من التفويض في المعنى في بعض الموارد، وهذا لا يُقصد به أن أبا جعفر رحمه الله ينزع إلى مذهب التفويض، فإنه ليس كذلك فيما يظهر من كلامه، وإنما المراد أن نبين أن الكلام وإنك ان معتبراً بمراد الله ورسوله لكن ينبغي أن يكون بيناً في تفسير هذا المعنى. وتفصيل هذا أن يقال: إن مراد الله سبحانه وتعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم بين، سواء كان مراداً علمياً أو مراداً إرادياً، ولما نزل القرآن وتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين لم يبق شيء مما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم لا يُعرف معناه، وقد علم هذا المعنى أمته، وإن كانت الأمة قد تختلف في تحصيل علمه صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أنهم لا يجمعون على الغلط. وقد شاع في كلام كثير من المتأخرين من متكلمة الأشاعرة ومن تأثر بهم من الفقهاء وغيرهم، أن التفويض مذهب مأثور عن السلف، أي: تفويض المعنى، وتقدم أن المعنى بإجماع السلف في صفات الله معلوم، وأن القول الذي قاله مالك رحمه الله لا يختص بصفة الاستواء بل هو مطرد في سائر الصفات، وصفة الرؤية التي ذكر الطحاوي رحمه الله عندها هذا التعليق أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم إيضاحاً تاماً لا يمكن معه أن يقال: إنا لا نعلم المراد من هذا الحديث، وأما مقالة التفويض فهي من شر مقالات أهل البدع والإلحاد، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله. وطريقة التفويض: طريقة ملفقة استعملها قوم من الأشاعرة للتوفيق بين طريقتهم الكلامية وطريقة السلف، ولم يكن هذا المعنى مقصوداً عند أئمة الجهمية والمعتزلة، لأنه لم يكن من شأن الجهمية والمعتزلة انتحال مذهب السلف وأهل السنة، وهذا هو الفرق الموجب لظهور مسألة التفويض. بخلاف الأشاعرة فإنهم ينتحلون مذهب أهل السنة ويعظمون طريقة الأئمة ولكنهم يرونها تخالف طريقتهم في نفس الأمر، فإن السلف لم يستعملوا التأويل، فصاروا يجعلون السلف على التفويض. وصار الواحد من متكلميهم ربما استعمل طريق التأويل وصححه، فإذا بان له في آخر أمره بطلانه، صرح بأنه رجع إلى مذهب السلف وهو التفويض، كما صرح بذلك أبو المعالي الجويني، فإنه كتب (الإرشاد)، وكتب (الشامل) وغيرها من الكتب على طريقة التأويل، وعلى طريقة أبي هاشم الجبائي من المعتزلة، ثم في آخر أمره رجع عن طريق التأويل وغلطها، ونزع إلى مذهب التفويض.

حقيقة التفويض

حقيقة التفويض التفويض ليس له معنى، بل هو ممتنع في الحقيقة؛ فإن كل عاقل يعرف لسان العرب إذا قرأ قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، عرف من هذا أن الله سبحانه موصوف بالعلو، وإذا قرأ قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، عرف أن الله موصوف باليدين، وإذا قرأ قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، عرف أن الله متصف بالسمع والبصر، ولا يلزم من ذلك التشبيه، فإن الله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] كما هو متحقق في الشرع والعقل. فمذهب التفويض مذهب متعذر، ولهذا قال شيخ الإسلام: (ما وقف واقف على حقيقة مذهب التفويض إلا وهو في نفس الأمر يعتقد مذهب النفاة، قال: فإنه ما صرح بحرف التفويض إلا لما كان الظاهر عنده ممتنعاً، فصار هذا التفويض من الألفاظ التي لا معنى تحتها، فهذا قول متناقض في العقل، ولهذا ترى أن أساطين المعتزلة، ومتقدمي المتكلمين -وهم أدرى بالأصول العقلية ومسالكها- لم يستعملوا هذه الطريقة. وعليه فعبارات أبي جعفر الطحاوي رحمه الله لا بأس بها، فتُفسر على وجه صحيح، ولكن ينتبه لمثل هذا الإطلاق الذي يطلقه كثير من المتأخرين وينسبونه إلى السلف ويريدون به معنى باطلاً، وهو في نفس الأمر كلام مجمل يحتمل حقاً ويحتمل باطلاً.

أصل القانون الكلي

أصل القانون الكلي قال المصنف رحمه الله: [فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه]. التسليم أصل في الإيمان، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]، ولكن التسليم لا يفهم منه أن مذهب السلف -فضلاً عن الدلائل الشرعية النقلية- يقع فيه ما يكون معارضاً للعقل. وهذا يرد على القانون الكلي الذي ذكره المتكلمون، وأصله من كلام الجهمية وأساطين المعتزلة، فإن هؤلاء استعلموا طائفة من المقدمات الفلسفية المأثورة عن ملاحدة اليونان كـ أرسطو وأمثاله، في مسائل صفات الله، وتحصّل بما جعلوه من الدلائل الكلامية المولّدة من المقدمات الفلسفية نفي الصفات، وصار معتبرهم في نفي الصفات ما يسمى بدليل الأعراض، وهو دليل مركب من مقدمات فلسفية، ومبني على قياس الشمول أو قياس التمثيل، ومعلوم ببداهة العقل والشرع، أن الله سبحانه وتعالى منزه عن قياس الشمول، وقياس التمثيل، بل له المثل الأعلى، وهو معنى قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ومعنى قوله: {وَلله الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]. وجاء من بعدهم من أظهر الفلسفة على التصريح كـ ابن سينا فاستعمل دليل التركيب، وجاء طائفة بعد ذلك من مضطربة الأشعرية أبو المعالي الجويني، فإنه مضطرب الحال، فاستعمل دليل الاختصاص، وصارت هذه الأدلة الثلاثة -دليل الأعراض، ودليل التركيب ودليل الاختصاص- هي الدلائل التي عليها مدار القول عند نفاة الصفات من متكلمين وفلاسفة. وهي أدلة محدثة مبتدعة مخالفة للعقل والشرع، وأصولها أصول فلسفية، فعارضت هذه الأدلة ظاهر القرآن وظاهر الحديث، وعن هذا التأصيل البدعي المخالف لما بعث به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ظهر هذا القانون في كلام المتكلمين وقد ذكره متقدمو أئمة الجهمية والمعتزلة، ثم لما جاء الأشعري، ومع كثرة انتسابه للسنة والجماعة، صار يتباعد عن التصريح بهذا القانون، ويعظم النصوص والآثار، ويكثر من الرد إليها، ولكن لما جاء أصحابه من بعده صرحوا بما صرحت به المعتزلة. بل إن التصريح بهذا القانون، ليس مقصوراً على متأخري الأشاعرة، فقد استعمله طائفة من متقدميهم كالقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، ولكن عناية أبي المعالي ومحمد بن عمر الرازي وأمثالهما به أظهر.

معنى القانون الكلي

معنى القانون الكلي ومحصل هذا القانون أنهم يقولون: إذا تعارضت الأدلة العقلية والأدلة النقلية فإما أن نقدم العقل، وإما أن نقدم النقل، وإما أن نعملهما معاً، وإما أن نسقطهما معاً. وهذا ما يُسمى في الطرق الكلامية بطريقة السبر والتقسيم، وهي مستعملة في تحصيل الأقوال، وتحصيل المسائل عند كثير من الأصوليين، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في درء التعارض أنها من أضعف الطرق في العقل، وإن كان كثير من المتأخرين يجعلونها من يقين العقليات، فهذه الطريقة انتظمت هذا القانون، كما يذكره أبو حامد الغزالي، أو أبو المعالي الجويني، أو محمد بن عمر الرازي، كما في كتابه (تأسيس التقديس)، الذي نقده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (نقض التأسيس). قالوا: أما جمعهما فممتنع، لأنه جمع للنقيضين، وأما رفعهما فممتنع؛ لأنه رفع للنقيضين، فسقط الثالث والرابع، قالوا: فلم يبقَ إلا أن يقدم النقل على العقل أو يقدم العقل على النقل، قالوا: وتقديم النقل على العقل ممتنع، لأن أصل قبول النقل هو العقل، فلو قدمناه عليه لطعنَّا فيما ثبت به النقل، وهو العقل، فلما تعذرت الثلاثة لم يبقَ إلا أن يقدم العقل، والنقل إما أن يؤول وإما أن يفوض. قال الرازي حماقةً: (وإن اشتغلنا بتأويله فعلى سبيل التبرع). وصحيح أن الرجل قد أفضى إلى ما قدم، ولكن المشكلة في هذه الخرافات التي كتبها، فهو وأمثاله وإن كانوا كباراً في علوم أخرى، ولهم فضائل في أبواب من العلم، لكن أغلاطهم هذه التي قالوها في أصول الدين وفي دلائلها تستعمل من بعدهم، وتقرر من بعدهم، وكأنها أقوال أئمة كبار، ولهذا يسمى الواحد منهم بحجة الإسلام، أو بصدر الدين، إلى غير ذلك من الألقاب التي توحي بإمامتهم في مسائل أصول الدين، والأمر ليس كذلك، لا بشهادة غيرهم عليهم، بل بشهادتهم هم على أنفسهم، فإن الرازي صاحب هذا القانون، قد صنف في آخر حياته كتاباً سماه (أقسام اللذات)، وقال: (إن لذة العقل هي العلم، وهي أشرف اللذات، وإن العقل هو أشرف ماهية في الإنسان، وأشرف لذاته هي العلم، وأشرف العلم هو العلم بالله، ثم قال: والعلم بالله: علم بذاته، وعلم بصفاته، وعلم بأفعاله، ثم قال: وعلى كل واحدة منها عقدة لم تنحل، ثم أنشد أبياته المعروفة: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا ثم قال: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن)، فرجع إلى طريقة القرآن، لكن رجوعاً مجملاً وليس رجوعاً مفصلاً.

أوجه رد القانون الكلي وإبطاله

أوجه رد القانون الكلي وإبطاله وإبطال هذا القانون شأن واسع، لكن نشير إلى خمسة أوجه في رده. الوجه الأول: أن يُقال: إن هذا القانون مبني على إمكان تعارض العقل والنقل، فإن القانون يقول: إذا تعارض العقل والنقل. ومعلوم أن النقل حسب القانون يعد دليلاً، والدليل إذا وردت عليه المعارضة من كل وجه لم يصح أن يكون دليلاً في المقام الذي وردت عليه المعارضة فيه. وبعبارة أخرى: الدليل هو ما يستدل به على المدلول، فإذا قيل: إنه في هذا المقام ليس دليلاً حيث يقدم العقل عليه، دل على أنه ليس بدليل صحيح؛ لأن الدلائل الصحيحة في نفسها يمتنع أن تكون متعارضة. ولا شك أن هذا القول لا يلتزم حقيقته إلا خارج عن ملة الإسلام، فإن على هذا لا يكون النقل دليلاً ولا سيما أن النقل باتفاق الطوائف لم يسكت عن ذكر أصول الدين، وذكر الأسماء والصفات، وكتاب الله سبحانه وتعالى مليء بذكر أسماء الرب وصفاته، فيلزم من هذا أن ما ذكر في الكتاب يكون معارضاً للحق الذي فرضه العقل، ولهذا قال شيخ الإسلام في نقضه لهذا القانون: (فيلزم من هذا القانون أن يكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى؛ لأن الكتاب والسنة أتت بما يخالف الحقيقة العقلية التي يزعم هؤلاء أنها هي المعتبر في مسائل الأصول). الوجه الثاني: أن كل دليل له جهتان، الجهة الأولى: جهة الثبوت، والجهة الثانية: جهة الدلالة، ومن أراد تقديم دليل على آخر فلا بد أن ينظر في ثبوته وفي دلالته، فيقدم الأقوى ثبوتاً والأقوى دلالة، فيقال: إن الدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة يقدم على ما هو ظني الثبوت، أو ظني الدلالة، ومعلوم أن هذا تقديم صحيح عند سائر العقلاء، فيعاد السبر والتقسيم من وجه آخر فيقال: الدليل العقلي والدليل النقلي، إما أن يكونا قطعيين، وإما أن يكونا ظنيين وإما أن يكون أحدهما قطعياً والآخر ظنياً. أما كونهما قطعيين في الدلالة والثبوت، فهذا ممتنع إلا إذا فرض اتفاقهما، وأما على فرض تعارضهما فهذا ممتنع؛ لأنه يلزم عليه تعارض قطعي الثبوت والدلالة مع قطعي الثبوت والدلالة، وهذا مخالف لأصول الحقائق العقلية، فإن الجمع بين النقيضين ممتنع. وكون الدليل النقلي والدليل العقلي كل منهما ظني الثبوت ظني الدلالة؛ هذا أيضاً وإن فرض العقل جوازه ممتنع، لأنه يلزم عليه أن تكون المعرفة والتوحيد لا تتعدى ولا تتجاوز الظن، وأن لا يكون هناك علم في أصول الدين، ولا شك أن هذا ممتنع عقلاً وشرعاً، فلم يبقَ إلا أن يكون الدليل العقلي والنقلي أحدهما قطعي الثبوت والدلالة والآخر ظنياً، ومعلوم أن القرآن قطعي الثبوت بإجماع المسلمين، ومن نازع في قطعية ثبوته فقد كفر وخرج من ملة الإسلام، لا يقبل منه صرف ولا عدل. ومعلوم أن القرآن قطعي الدلالة، ووجه كونه قطعي الدلالة: لأنه لا أفصح عند العرب من الإسناد في ذكر الصفة أو ذكر الفعل، فإنك إذا أردت -ولله المثل الأعلى- أن تخبر بأنك قمت، أو بأن زيداً قد قام، فإنه ليس هناك أفصح في لسان العرب من أن تقول: إن زيداً قد قام، وإن زيداً يتكلم، وإن زيداً انصرف .. إلخ ذلك من إسناد الفعل أو إسناد الحال. ومعلوم أن أسماء الرب وصفاته جاءت مسندةً صريحة، وليس هناك موجب لدعوى أن الدلالة في اللسان ظنية، ويمكن أن يلخص هذا المعنى بطريقة أخرى فيقال: من زعم أن دلالة القرآن ظنية، فإنه يقال له: إذا أردنا الدلالة القطعية فبماذا يعبر عنها باللسان؟ فإذا كان قول الله تعالى: {رَضِيَ الله عَنْهُمْ} [المجادلة:22] ظني الدلالة على إثبات صفة الرضا، فما هو التعبير الذي يكون به قطعي الدلالة؟ لا يوجد في لسان العرب أفصح وأصرح في إثبات الصفة من إسنادها إلى موصوفها. فإذا ثبت أن القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة، فيلزم من ذلك أن غيره مما يسميه هؤلاء عقلاً ليس كذلك، وأحسن أحواله أن يكون ظناً، ولا شك أنه في نفس الأمر ليس ظناً بل هو وهم، وحقيقة الوهم كذب كما هو مجمع عليه، وكما نص عليه أئمة هؤلاء، كـ ابن سينا في (الإشارات)، فإنه قال: (أجمعت الحكماء على أن حقيقة الوهم كاذبة)، أي: لا حقيقة لها. الوجه الثالث: أن يقال: إن معارضة الدليل النقلي لما يسمى عقلياً يدل على أن النقل مجرد عن الحكم والدلالة العقلية، والأمر ليس كذلك، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وأئمة هؤلاء يلتزمون هذا المعنى فيقولون: إن الدليل النقلي دليل خبري مبني على صدق المخبر)، أي: ليس فيه ما يفيد الحكم العقلي، إنما هو مجرد تصديقات، وليس مخاطبةً للعقول، ولا شك أن هذا غلط، بل الدليل النقلي منه ما هو خبري محض، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وكقوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، وكقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف:59]. ومنه ما هو خبري باعتباره قرآناً منزلاً على الرسول عليه الصلاة والسلام، وعقلي باعتباره مخاطباً لأصل العقل، ولهذا يصححه من آمن بالقرآن ومن لم يؤمن، كقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] وكقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91]، وكقوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، فكان الجواب: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79]، وهذا رد عقلي، ولهذا قال شيخ الإسلام: (والقرآن مملوء بذكر الدلائل العقلية الموجبة لصحة الإيمان واستقامته). قال: (والدليل الذي تسميه الفلاسفة بالدليل البرهاني، وهو الذي يزعمون أن نتيجته يقينية؛ الصواب منه مذكور في القرآن، وهو ما يسمى في القرآن بالأمثال المضروبة، كقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً} [يس:78] وقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الروم:28] في تقرير التوحيد إلى غير ذلك. فالأمثال المضروبة في القرآن هي الدلائل العقلية اليقينية، مع أنه يعلم أنه ليس كل ما زعمه المتفلسفة دليلاً عقلياً يقينياً -وهو القياس البرهاني- يكون كذلك، لأن المتفلسفة كـ ابن سينا وابن رشد وأمثالهم ممن هم على طريقة أرسطو في منطقه، زعموا أن القياسات خمسة: القياس البرهاني، والقياس الجدلي، والقياس الخطابي، والقياس الشعري، والسفسطي. وزعموا أن الحكماء -أي: الفلاسفة- هم المختصون وحدهم بالدلائل البرهانية المفيدة لليقين. ولا شك أن المتكلمين خير منهم؛ فإن كل من كان إلى الكتاب والسنة أقرب كان قوله ودليله أقوم وأصدق. فكان الصواب أن يقال: الدليل النقلي إذا عارضه دليل بدعي؛ لأن النقل يراد به الشرع، ومعلوم أن الذي يعارض ذلك يسمى في حكم الله ورسوله دليلاً بدعياً. وأما أن يقال: الدليل النقلي إذا عارضه دليل عقلي، فهذا مبني على مقدمة كاذبة وهي: أن النقل بريء من الأحكام العقلية؛ وهذا لم يقله إلا أئمة الجهمية الغالية، ولا يلتزمه عارف بأدلة القرآن وبيانه وأحكامه، فإن الله ذكر من الحجج العقلية ما يصحح الإيمان ويهدي العقول. الجواب الرابع: أن يقال لهم: ماذا تقصدون بالدليل العقلي؟ إن زعموا أن المراد بالدليل العقلي هو نظر كل عاقل وحده -أي: نظر زيد وحده ونظر عمرو وحده- فهو على كل تقدير: الدليل الذي عارض عندهم نصوص الأسماء والصفات.

التعبير الأحكم أنه لا تعارض بين النقل والعقل

التعبير الأحكم أنه لا تعارض بين النقل والعقل وهذا قانون يطول البحث فيه، والصواب أن يقال: إن العقل ليس معارضاً للنقل، ولا يقال: إن مذهب السلف هو تقديم النقل على العقل، فهذه الجملة وإن أطلقها بعض أصحاب السنة والجماعة على مراد أن من خالف عقله شيئاً من الوحي فإنه يقدم الوحي على عقله، وهو تعبير لا بأس به على هذا التفسير، إلا أن التعبير الأحكم أن يقال: إنه ليس ثمة تعارض بين العقل والنقل، وكل من زعم أن العقل عارض شيئاً من النقل فإن العقل الذي زعمه وهمٌ ليس بصحيح، والله سبحانه وتعالى سمَّى مثل ذلك ظناً، وسماه خرصاً، إلى غير ذلك من الأسماء التي ذكرها الله في كتابه عن مثل ذلك، وإلا فالعقل ذُكر في الشرع على مقام شريف، وذكر موجباً للإيمان ومصححاً له، كما في قول الكفار في آخر أمرهم: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179].

التسليم لا يكون إلا بعلم ويقين

التسليم لا يكون إلا بعلم ويقين قول أبي جعفر رحمه الله: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام). لا يفهم منه أن طريقة السلف مبنية على التسليم الذي ليس تحته علم، وأنه تسليم بمعنى التفويض، بل التسليم لا يكون إلا عن علم، والتسليم الحق هو التسليم الذي يكون مبنياً على اليقين؛ ولهذا جمع الله سبحانه وتعالى بين ذلك وبين العلم في قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65] وهذا رد إلى العلم {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]. وبعبارة أخرى: فإنه يمتنع في الوجود أن يتحقق التسليم مع الجهل أو مع المعارضة؛ لأن المعرفة والعلم اليقين مقدمةٌ للتسليم، والتسليم نتيجة، ومعلوم أن عدم المقدمة الموجبة يستلزم عدم النتيجة، فعدم المعرفة والعلم اليقيني يستلزم عدم التسليم؛ ولهذا قال هرقل في سؤالاته عن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن يتبعه؛ أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟ ثم قال: هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطةً له؟ فقال أبو سفيان: لا. فقال هرقل فيما بعد: وسألتك هل يرتد أحد منهم فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب). ولهذا لا نجد مؤمناً ثبت على الإيمان والإسلام فيزيغ إلا بسبب من الضلال انتحله إلى نفسه، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ} [إبراهيم:27] بمعنى: أن الضلال الذي يعقب الهدى لا يكون إلا بجهة من العدل، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115].

اضطراب منهج المتكلمين وبعده عن السنة

اضطراب منهج المتكلمين وبعده عن السنة قال المصنف رحمه الله: [فمن رام علم ما حُظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة]. الأمر كذلك؛ فإن أهل السنة من الصحابة وأئمة السلف هم أصدق هذه الأمة علماً وإيماناً، وهم المحققون للتوحيد -توحيد المعرفة وتوحيد العبادة- بخلاف الذين كثر فيهم الخرص من المتكلمين ومن طاف على مذهبهم أو قاربه، أو طوائف من أرباب الأحوال المخالفة من المتصوفة، فهم في أمر مريج، وكما قال الله تعالى: {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:8 - 9]، وهذا شائع في كلامهم وتحصيلاتهم، فهم من أكثر الناس جهلاً بالسنن والآثار، ولا أدل على ذلك من أن بعض فضلائهم المقاربين والمعظمين لطريقة السلف كـ أبي حامد الغزالي يذكر هو عن نفسه أنه مزجي البضاعة في الحديث، وترى أنه في إحيائه -مع أن كتاب (الإحياء) بالنسبة لكتب أبي حامد يعد من أجودها- يستدل فيه بالموضوع، ويستدل بما في صحيح البخاري، ولا يفرق بين هذا الدليل وهذا الدليل. فهم قد ابتعدوا عن السنن والآثار، واشتغلوا بهذه العلوم التي زعموها علوماً عقلية، وكان من فقه السلف رحمهم الله أنهم كانوا لا يسمون علم الكلام علماً عقلياً، ولا يجعلون دليله دليلاً عقلياً، بل يسمونه علم الكلام، وتواتر عن السلف ذم هذا العلم ولم ينقل عنهم ذم العقل، فإن العقل لا يذم مطلقاً، وإن كان يصح أن يذم شيء منه إذا كان مقيداً، فإن المقيد يختلف حكمه عن المطلق، والله في كتابه لم يذم العقل. فأولى المذاهب بالجمع بين العقل والنقل هو مذهب السلف، ومن فقه شيخ الإسلام أن سمَّى كتابه: (درء تعارض العقل والنقل)، أي: أنه لا تعارض بين العقل والنقل، وكل عقل زعم صاحبه أنه عارض النقل فالشأن في عقله، إلا إذا فرض أن النقل ليس صحيحاً، كحديث يروى ولا يصح عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

الجمع بين النفي والإثبات في مذهب السلف

الجمع بين النفي والإثبات في مذهب السلف قال المؤلف عليه رحمة الله: [ومن لم يتوق النفي والتشبيه زلَّ ولم يصب التنزيه، فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية]. هذه الجملة التي ساقها الطحاوي رحمه الله هي استتمام لتعليقه على توحيد الأسماء والصفات. وقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه)، إشارة إلى أن مذهب سلف الأمة مبني على الجمع بين الإثبات والنفي، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الأسماء والصفات على جهة الإثبات المفصل والمجمل، وذكر سبحانه وتعالى تنزهه عن مشابهة غيره أياً كان هذا الغير. وإن كان المصنف رحمه الله استعمل لفظ النفي مقارباً للفظ التشبيه، إلا أن لفظ النفي أشرف من لفظ التشبيه؛ فإن لفظ التشبيه منفي على الإطلاق وإن لم يصرح بنفيه في القرآن، وإنما صرح في القرآن بنفي التمثيل، ولكن نفي لفظ التشبيه مستعمل في كلام السلف. وأما النفي فإنه معنىً يقابل الإثبات في العربية، ويراد به هنا نفي الصفة، ونفي الصفة مجملاً أو مفصلاً مستعمل في القرآن، فالمجمل كقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] والمفصل كقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]. ولا شك أن مراد أبي جعفر رحمه الله بالنفي هنا النفي الذي تستعمله الجهمية والمعتزلة ومن شاركهم في طريقتهم من متكلمة الصفاتية، فإن هذا النفي هو النفي المذموم عند السلف، والأولى ألا يعبر بالنفي مقابلاً للتشبيه، فإن السلف برآء من طريقة التعطيل والتشبيه والتمثيل، فيكون المقابل على التحقيق لطريقة المشبهة والممثلة هي طريقة المعطلة، إلا أن النفي لصفات النقص مجمع عليه بين السلف، وهم يستعملون في ذلك طريقة القرآن، فلا يفصلون في صفات النفي؛ لأن كل إثبات مفصل في القرآن فإنه يستلزم بضرورة العقل نفي ما يقابله. ولو أن الطحاوي رحمه الله لم يستعمل لفظ النفي واستعمل لفظ التعطيل أو ما يقاربه مما ذم السلف لكان أولى.

الكلام عن الفرق بين صفات الله تعالى وصفات مخلوقاته

الكلام عن الفرق بين صفات الله تعالى وصفات مخلوقاته قال: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية). هذه جمل مجملة يتفق المسلمون عليها، فليس أحد من المسلمين ينازع في جمل التوحيد الأولى، ومن نازع فيما هو من جمل التوحيد الكلية فإنه لا يكون مسلماً؛ لأنها من شرط عقد الإسلام، وإن كان لا يلزم من ذلك أن يكون مناط هذه الجمل محققاً عند سائر أهل القبلة، فمن هذه الجمل المتفق عليها: أن الله موصوف بالكمال منزه عن النقص، وعن مشاركة أحد له في كماله. ولكن لا يلزم من هذا الاتفاق المجمل أن يكون هناك تحقيق عند سائر الطوائف للمناط الصحيح لهذه الجملة، فالمعتزلة مثلاً سمت نفي الصفات توحيداً، وصار من أخص أصولهم ومقدمها التوحيد، ويريدون به نفي الصفات. وأيضاً: عدم مشاركة أحد له تعالى في صفات كماله، جملة يتفق المسلمون عليها، وإن كان غلط من غلط من طوائف المشبهة في بعض أحرف هذه المسألة، وقابلهم أهل التعطيل الذين بالغوا في التفريق بين صفاته وصفات خلقه إلى حد التعطيل، وإلا فإن التفريق ثابت بالإجماع.

الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم المماثلة

الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم المماثلة صار لفظ المشاركة بين الصفات اللائقة بالخالق واللائقة بالمخلوق لفظاً يقع فيه إجمال عند المتأخرين، حيث صار يستعمل فيما هو من المعاني الحقة التي صحت بالكتاب والسنة والإجماع، فيكون المعنى حقاً لكن لا يصح تسميته مشاركةً، والغلط الذي انتظم عند عامة طوائف المتكلمين من النفاة المحضة أو من يقاربهم وأخذه عنهم متكلمة الصفاتية، هو ظنهم أن الاشتراك في الاسم المطلق يستلزم التماثل عند الإضافة والتخصيص. وبعبارة أخرى: هو ظنهم أن الاشتراك في الاسم المطلق هو التشبيه الذي نفته النصوص، فيمتنع أن يوصف الله سبحانه وتعالى عندهم بصفة الرضا؛ لأن المخلوق يتصف بذلك، ويمتنع أن يوصف بالمحبة -على طريقة الأشعري وأصحابه- لأن المخلوق يتصف بذلك. إلا أن الأشعري لا يطرد هذا المذهب، بل يتناقض هو وأصحابه فيثبتون الإرادة والعلم والقدرة، إلى غير ذلك، وأما الذين ثبتوا على طريقة التعطيل فينفون سائر الصفات. ومعلوم بضرورة العقل فضلاً عن الشرع أن التشبيه الذي نفته النصوص ليس هو الاشتراك في الاسم المطلق؛ لأنه لو كان كذلك للزم تعطيل الباري سبحانه وتعالى حتى عن صفة العلم، فإن المخلوق موصوف بالعلم، بل للزم تعطيل الباري سبحانه وتعالى حتى عن الوجود، فإن المخلوق ببديهة العقل والشرع والحس والفطرة له وجود، فهذا يستلزم تعطيل الباري عن صفة الوجود.

سبب اعتناء شيخ الإسلام بتقرير مسألة وجود الله تعالى

سبب اعتناء شيخ الإسلام بتقرير مسألة وجود الله تعالى ومن هنا عُني شيخ الإسلام رحمه الله بتقرير مسألة الوجود، وتكلم بعض المعاصرين فقالوا: إن عناية شيخ الإسلام بمسألة الوجود كأنه أثر من أثر متكلمة الصفاتية عليه، وإن السلف ما كانوا ينتظمون التوحيد على تقرير مسألة الوجود؛ لأنها مسألة فطرية، ولم يكن من هدي السلف الاستدلال النظري على الفطريات، أي: الأشياء المعلومة بأصل الفطرة. ولا شك أن أقل أحوال هذا الكلام أنه عدم فقه لطريقة شيخ الإسلام رحمه الله، لأنه إنما عُني بمسألة الوجود؛ لأن مبنى تقرير هذا الباب عند سائر الطوائف هو على هذه الصفة، ولأن طريقتهم تستلزم تعطيل هذه الصفة.

الاشتراك في الاسم المطلق بين الخالق والمخلوق ليس اشتراكا لفظيا

الاشتراك في الاسم المطلق بين الخالق والمخلوق ليس اشتراكاً لفظياً وبهذا يعلم أن صفاته سبحانه وتعالى ليست مقولةً بالاشتراك اللفظي في الاسم المستعمل بين الخالق والمخلوق؛ لأن المشترك اللفظي لا يقع به جزء من الاشتراك في المدلول بوجهٍ من الوجوه، سواء كان هذا المدلول مدلولاً مطلقاً أو مدلولاً إضافياً مقيداً، مثال ذلك: أنك إذا قلت: سهيل بن عمرو، وسهيل النجم، فهذا اسم للنجم وهذا اسم لابن عمرو، فهذا يعده كثير من أهل المنطق مثالاً للمشترك اللفظي، بمعنى: أن يكون الاسم المطلق واحداً ولا يكون هناك اشتراك لا في الإطلاق ولا في التعيين من جهة المدلول. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (ويمتنع أن يكون باب الصفات من هذا الوجه؛ لأنه لو كان كذلك لامتنع فهم الخطاب، فالله سبحانه وتعالى قال في كتابه: {إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58]، فيفهم المسلمون وكل من يقرأ القرآن أو يسمعه أن الله موصوف بالسمع، فيفرقون بين معنى السمع ومعنى البصر، وبين معنى العلم ومعنى الكلام، وبين الرحمة وبين الغضب، وهذا مبني على قدر من التواطؤ، وليس هو التشبيه الذي نفته النصوص وأجمع على نفيه السلف؛ لأنه قدر كلي لا وجود له في الخارج مختصاً إلا مضافاً لموصوف، وإنما هذا قدر كلي يُفهم به الخطاب). ولهذا لما ناظر شيخ الإسلام رحمه الله في مسألة الوجود على هذا الوجه قال: (إن من عطَّل صفةً من الصفات لزمه التسلسل في التعطيل حتى يعطل الباري عن العلم، ومن التزم نفي صفة العلم -كما التزمه غلاة المعطلة- فإنه يلزمه أن يعطل الباري حتى عن الوجود؛ لأن المخلوق موجود، وقد لزم هذا السؤال سائر مذاهب التعطيل، فكان لهم جوابات متناقضة في العقل فضلاً عن بطلانها في الشرع. ومن إجاباتهم قول من يقول بأن لفظ الوجود بين الخالق والمخلوق مقول بالاشتراك اللفظي. وهذا الجواب الذي زعم الرازي في كتبه أنه منتهى الأجوبة العقلية الصحيحة على هذه المسألة، لا شك أنه أفسد الأجوبة، لهذا أعرض عنه حذاق المعتزلة المتقدمين، وأعرض عنه متقدمو الأشاعرة؛ لأنه إن قال: إن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي لزم من ذلك عدم العلم بوجوده سبحانه، وما من دليل يُذكر في الوجود إلا ويراد به الوجود المعروف عند العقلاء وهو قيام الشيء في الخارج. فإذا ما قيل: إن لفظ الوجود في حقه مقول بالاشتراك اللفظي صار هذا تعطيلاً للوجود من وجه أخص.

كل ممثل معطل وكل معطل ممثل

كل ممثل معطل وكل معطل ممثل فهذه المذاهب تستلزم التعطيل المطلق؛ وكذلك تستلزم التشبيه، وعن هذا قال من قال من أهل السنة: إن كل ممثل معطل، وكل معطل ممثل، وبهذه الطريقة قرر شيخ الإسلام رحمه الله بأن مذهب هؤلاء ينتهي إلى تعطيل الباري عن صفات الكمال وهو السلب المحض، والسلب المحض تشبيه له بالمعدومات، بل إن المعدوم منه ما يقبل الوجود، ومنه ما لا يقبل الوجود وهو الممتنع لذاته، وهم يلتزمون أن صفات الإثبات ممتنعة، فيلزم من ذلك تشبيهه سبحانه وتعالى بالممتنعات، وهذا الإلزام الذي استعمله حذَّاق أهل السنة في جوابهم وردهم لطرق المعطلة من الجهمية والمعتزلة ومن شاركهم من متكلمة الصفاتية كـ ابن كلاب وأتباعه، والأشعري وأتباعه، وأبي منصور الماتريدي وأتباعه، إلزام محكم في العقل.

تعطيل الصفات فرع عن مذهب الفلاسفة الملحدين

تعطيل الصفات فرع عن مذهب الفلاسفة الملحدين قد يقول قائل: إن هذا من باب لازم المذهب، وإن لازم المذهب ليس مذهباً. فيقال: أما من جهة الأحكام المعادية فإن هذا من لازم المذهب، بمعنى: أنه لا يُحكم على أحد حكماً معادياً من جهة لازم مذهبه، ولكن عند التحقيق العلمي فإن هذا المعنى هو حقيقة مذهب هؤلاء، فإن تعطيل الصفات لم يكن معروفاً حتى في مشركي العرب، فليس هو فرعاً عن سائر أنواع الكفر، وإنما هو فرع عن كفر ملاحدة الفلاسفة كـ أرسطو وأمثاله الذين ما كانوا يثبتون رباً خالقاً للعالم، وإنما كانوا يثبتون ما يسمونه علة غائية يقارنها معلولها، وتقدم العلة على المعلول عندهم إنما هو في الشرف والعلية وليس بالزمان، وهو مذهب إلحادي، ولم يكن أرسطو على دين سماوي بل ولا حتى على دين محرَّف، فإنه كان قبل المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام بثلاثمائة سنة، وكان رجلاً ملحداً كافراً متفلسفاً خرج عن طريقة أستاذه أفلاطون المثالية إلى طريقة زعم أنها طريقة عقلية تقوم على التجريد العقلي، وتقوم على تعطيل الباري سبحانه وتعالى عن خلقه ووجوده وصفاته.

الاعتراض على الطحاوي في استعماله ألفاظ المتكلمين

الاعتراض على الطحاوي في استعماله ألفاظ المتكلمين قال رحمه الله: [وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان الأعضاء والأدوات، ولا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات]. هذه العبارات التي استعملها أبو جعفر الطحاوي رحمه الله ليست جملاً حسنة، وإن كنت إذا نظرت فيها قلت: إنه سبحانه منزه عن الأعضاء على إرادة أن الأعضاء هي التركيب الذي يقع للمخلوق، وهو افتقار كل جزء منها للآخر وأنه لا قيام له من جهة نفسه، لكن ليته لم يعبِّر بها لوجهين: الأول: أن الله سبحانه وتعالى وإن كان متعالياً ومنزَّهاً عن سائر صفات النقص، ومتعالياً ومنزَّهاً عن الصفات التي تستلزم مشابهته أو مماثلته لخلقه، فإن هذه الأحرف ما كان أحد من السلف يعبر بنفيها، وإنما كانوا يستعملون طريقة القرآن في ذلك. الوجه الثاني: -وهو الأخص- أن كثيراً من أئمة التعطيل من المتفلسفة كـ ابن سينا في كتبه (كالإشارات والتنبيهات أو التعليقات)، وكذلك في كتب المعتزلة وكتب متأخري الأشاعرة كـ أبي المعالي في (الإرشاد والشامل)، والشهرستاني في (نهاية الإقدام)، ومحمد بن عمر الرازي في (المطالب العالية) وغيره من كتبه، إذا تكلموا في مسألة العلو وغيرها من الصفات، عبروا عنها بما عبر به الإمام الطحاوي رحمه الله. ومعنى الصفات الخبرية: هي الصفات التي اتصف الله سبحانه وتعالى بها. وقد قال بعض المتأخرين في تعريفها: ما هي بالنسبة للمخلوقين أجزاء وأبعاض كاليدين والوجه. وهذا التعريف فيما يظهر ليس مناسباً، ولا محتاجاً إليه، وإنما يُعبر عنها بأنها الصفات التي دل عليها الخبر، فإذا قيل: إن هذا التعريف ليس جامعاً مانعاً. قيل: أصل التقسيم للصفات إلى خبرية وغير خبرية تقسيم مُحدث، فإذا انغلق تعريفه رُدَّ التقسيم من أصله، فإنه يصح بإجماع السلف أن تقول: إن سائر صفات الله سبحانه وتعالى خبرية؛ لأن صفاته سبحانه وتعالى معلومة بالخبر, وإن كان منها ما يكون معلوماً مع ذلك بالعقل كالعلم والقدرة والعلو وغير ذلك. فمثل هذه التقاسيم -كما أشار شيخ الإسلام - لا تلزم من كل وجه، ولما ذكر شيخ الإسلام مصطلح الصفات الاختيارية قال: (إنه قد يُشكل عند بعض الناظرين فيه، فيرى أن بعض الصفات كأنه خبري أو نحو ذلك. قال: فكل لفظ وقع فيه إشكال فإنه لا يلزم طرده واستعماله). فالمعطلة إذا تكلموا عن هذه الصفات عبروا عن نفيها بما هو من جنس هذه الأحرف التي ذكرها أبو جعفر، ولا يعني هذا إثبات ما نفاه أبو جعفر من الألفاظ، فلا يقال: إن الله موصوف بالحد، أو بكونه في جهة، أو بأنه تحويه الجهات، بل الإثبات هنا أشد غلطاً من النفي، وإنما المقصود هنا أن ما كان من الحق فإنه يعبر عنه بما هو من الحق. فهذه الأحرف أحرف مجملة تحتمل حقاً وتحتمل باطلاً وهي محدثة.

قاعدة في الألفاظ المجملة في باب الأسماء والصفات

قاعدة في الألفاظ المجملة في باب الأسماء والصفات القاعدة: أن كل لفظ أو جملة تقع مجملة حادثة فإنها لا تطلق لا إثباتاً ولا نفياً. هذا إذا لم يكن يعبر بها في كلام أهل التعطيل عن مرادات تخالف عقيدة السلف، وأما إذا اقترن معها هذا المعنى فيكون التباعد عنها والنهي عن استعمالها من باب أولى، ومن المعلوم أن الطحاوي رحمه الله من مثبتي العلو، ومن مثبتي الصفات الخبرية كالوجه واليدين، ولكنه نقل تعبيراً معروفاً في كلام بعض الحنفية من الماتريدية والأشعرية، وفي كلام الأشعرية الشافعية، فكأن هذا دخل عليه من بعض كتب الحنفية، وخاصة أن جمهور كتب الحنفية المكتوبة في أصول الدين بعد أبي حنيفة يقع فيها أوجه من الغلط كثيرة. ومحصل المراد هنا عند الطحاوي رحمه الله: أنَّ الله سبحانه وتعالى مع إثبات صفات الكمال له منزه عن صفات المخلوقين، فليس معنى كونه متصفاً بصفة اليدين أن تكون كأيدي المخلوقين، وليس معنى كونه متصفاً بالعلو أن جهةً من الجهات تحويه، فإن الله منزَّه عن التحيُّز في مكان يحويه ويحيط به. ومن المعلوم أن لفظ التحيز والجهة وأمثالها هي من الألفاظ المجملة التي لا تطلق إثباتاً ولا نفياً، لكن نقول: إن السلف رحمهم الله في تقرير مسألة العلو أجمعوا على أن الله سبحانه وتعالى موصوف بالعلو، وأنه فوق سماواته، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، وهذا مجمع عليه بين الصحابة وأئمة التابعين ومن تبعهم بإحسان، وهذا هو قول سائر المرسلين وأتباعهم، ولهذا قال بعض الأئمة: (أول من عُرف عنه إنكار العلو فرعون)، وإن كان قد يكون سبقه غيره إلى إنكاره ولكن هذا يراد به العلم المعروف، فإنه قال: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36 - 37]، وهذا دليل على أن موسى عليه الصلاة والسلام كان يخاطب فرعون وقومه بأن الله في السماء. - صفة العلو ثابتة بالعقل والفطرة والشرع: صفة العلو معلومة بالعقل والفطرة والشرع. والفرق بين دليل العقل ودليل الفطرة: أن الفطرة هي ما فطر الله الخلق عليه، فلا يحتاج معها إلى نظر ولا إلى استدلال، كفطرته سبحانه وتعالى لخلقه على إثبات ربوبيته ووجوده وعلى أصل التوحيد، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]. وأما الدليل العقلي فيراد به هنا الدليل النظري، وهو المذكور في مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ الله مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185] فإذا تحصَّل بهذا النظر وصول إلى بعض الحقائق، فإن هذا يسمى استدلالاً عقلياً، وله صور أخرى ولكن هذا هو المثل الذي يذكر كثيراً في القرآن وهو: ربط الاستدلال العقلي بما خلق الله سبحانه وتعالى وبملكوت السماوات والأرض. وأما دلالة الشرع فمتواترة، حتى قال بعض أصحاب الإمام الشافعي: (إن في الكتاب والسنة على مسألة العلو أكثر من ألف دليل). وأيضاً: فإن جماهير المشركين ما كانوا معطلين لهذه الصفة وأمثالها، وترى في شعر الجاهليين أنهم يثبتون أن الله سبحانه وتعالى في السماء، ولذلك كان من الطرق التي يستعملها بعض أهل السنة أن يقول: أنه لو كان إثبات الصفات معارضاً للعقل لكان أولى بالاعتراض العقلي أهل الشرك، لأنهم لما عارضوا رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن عندهم دليل عقلي يطعن في الرسالة، وغاية ما استعملوه أن اتهموا النبي بأنه كاهن، وأنه ساحر، وأنه مجنون، وقالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103]، مع أنهم من أعلم الناس ببطلان هذه المقالات التي يقولونها، ولو كان إثبات هذه الصفات مخالفاً عندهم للعقل لكان أولى بأن يستخدموه في الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

إنكار المعطلة لصفة العلو

إنكار المعطلة لصفة العلو الذين عطلوا صفة العلو عن الله سبحانه وتعالى فإنهم يستعملون لتعطيلها طرقاً، فغلاتهم كالمتفلسفة ومن اقتدى بهم من المعتزلة ومتأخري الأشاعرة يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه، وبعض من ينتسب منهم للسنة والجماعة وهو ليس كذلك كمتأخري الأشاعرة يعبرون بنفي الجهة، وهذا تعبير عبَّر به طوائف من المعتزلة. وهذه المقالات ليس لها أثر في دين الرسل، وليس عليها مسحة الأنبياء، ولا يفقه العقل منها إلا الحكم على هذا الموصوف بالعدم، فإن ما لا يكون داخل العالم ولا يكون خارجه لا يكون إلا عدماً، فإذا قالوا: يمتنع أن يكون داخل العالم ويمتنع أن يكون خارجه فهذا هو الممتنع. ولهذا قال شيخ الإسلام وغيره: (إن طريقة هؤلاء أنهم يشبِّهون الباري بالممتنعات؛ لأنهم يقولون: يمتنع أن يكون داخل العالم ويمتنع أن يكون خارجه).

خلاصة أدلة منكري العلو

خلاصة أدلة منكري العلو كل دليل ذكره المتفلسفة الإسلاميون -أي: من ينتسبون للإسلام كـ ابن سينا وابن رشد وأمثالهم- أو ذكره أئمة الجهمية -كأئمة المعتزلة ونحوهم- أو ذكره المتأخرون من الأشاعرة كـ أبي المعالي ومحمد بن عمر الرازي وأبي الحسن الآمدي وأمثال هؤلاء، أو ذكره الماتريدية؛ كل دليل ذكره هؤلاء موجباً لنفي العلو من العقل فإنه يرجع إلى دليل واحد وهو: أن إثبات العلو يستلزم إثبات الجهة، والجهة تستلزم التحيُّز، أي: أن يكون الله في مكان معين يحوزه، سواء عبروا عنها بدليل المقابلة، أو استلزام المقابلة، أو استلزام الانطباع، أو كما زعم المعتزلة أن أخص صفات الباري القدم، ولو أثبتنا العلو أثبتنا الجهة، فيلزم أن نكون أثبتنا قديماً آخر مع الله، وهو ما يسميه بعض أئمتهم المتاخرين: دليل الغيرية.

معنى أن الله في السماء

معنى أن الله في السماء لا شك أن السلف مجمعون على أن الله سبحانه وتعالى بائن عن خلقه، حتى قال أبو حنيفة رحمه الله: (من زعم أن الله في السماء على معنى كون الكرسي في السماء فقد كفر)، ومعنى هذا: أن قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث معاوية بن الحكم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء) ليس المقصود منه أنه في إحدى السماوات السبع أو غيرها من المخلوقات، وقد قال عن كرسيه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] فكيف بعرشه. وقول المعطلة مبني على أنهم فسروا كلام السلف وظاهر القرآن: أن الله في السماء، بمعنى أنه داخل مخلوق من مخلوقاته سواء السماء السابعة أو غيرها، وليس معنى قول السلف: إن الله في السماء، مساوياً لقولك: إن الملائكة في السماء. بمعنى: أنهم في المكان المخلوق يحيط بهم ويحتاجون إليه، ولا كمعنى قولك: إن بني آدم في الأرض، أي أنهم مستقرون بها محتاجون إليها، فيكون وجودهم مرتبطاً بوجودها؛ لكن معنى كونه في السماء، أي: أنه فوق سماواته.

الرد على منكري علو الله تعالى

الرد على منكري علو الله تعالى لقد ذكر الله تعالى في سبعة مواضع من كتابه استواءه على عرشه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] والعرش هو سقف المخلوقات، والله فوق عرشه، ولهذا فسَّر السلف الاستواء بالعلو، وإذا كان علياً على عرشه فإن غير العرش من المخلوقات يكون من باب أولى؛ لأن العرش هو سقف المخلوقات وهو أعظمها، فقول السلف هو القول الذي لا يمكن لعاقل -حتى ولو لم يكن مسلماً- إذا استعمل عقله الذي آتاه الله إياه إلا أن يصححه. يقول شيخ الإسلام في (منهاج السنة) و (درء التعارض)، وغيرها: (وأما قولهم: لو كان متصفاً بالعلو لكان في جهة، فإنا نقول: إن لفظ (الجهة) لفظ مجمل حادث، فإن أريد بالجهة الجهة الوجودية -أي: الجهة المخلوقة- فإن الله منزه عن سائر مخلوقاته؛ لأنه بائن عن خلقه، وإن أريد بالجهة معنىً عدمياً، وهو أنه فوق العالم؛ فإن الله سبحانه وتعالى بائن عن خلقه، فوق سماواته، مستو على عرشه). ومن باب الاستطراد يقول رحمه الله: (ومن زعم أن سائر ما يكون موجوداً يلزم أن يكون في جهة مخلوقة فقد غلط، قال: فإن العالم متناهٍ من جهة كونه مخلوقاً، قال: ومعلوم أن سقف العالم ليس في جهة أخرى، وإلا لزم التسلسل، فإذا صح ذلك فيما هو مخلوق على جهة الإمكان العقلي ففي حق الخالق من باب أولى، بل يكون هذا في حقه واجباً، وهو لتنزيهه سبحانه وتعالى عن سائر مخلوقاته). وقد كان الجاهليون فضلاً عن أتباع الرسل إذا ذكروا كونه سبحانه وتعالى في السماء يقصدون أنه في العلو، أي: فوق السماوات. وقد استعمل بعض أئمة المثبتة للعلو كـ أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب؛ وأبي الحسن الأشعري دليل العقل على إثبات هذه الصفة، واستعمله أيضاً الإمام أحمد كما نص عليه شيخ الإسلام، قال: (فإن الإمام أحمد قال لبعض أئمة الجهمية في هذه المسألة: إن الله لما خلق العالم خلقه بائناً عن ذاته، أوحالاً في ذاته؟ ومعلوم أنه لا بد أن يكون بائناً عن ذاته، قال: فإما أن يكون الله فوقنا وإما أن يكون محايزاً لنا وإما أن يكون تحتنا، والله منزَّه عن السفل وعن المشاكلة والمحايزة، فلم يبق من ضرورة العقل إلا أن يقال: إن الله فوق العرش). ولهذا كان من فقهه وأدبه صلى الله عليه وآله وسلم مع ربه لما ذكر الدعاء: (اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، قال: وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي) ولم يقل: واحفظني من تحتي. قال شيخ الإسلام: (وهذا من أدب الأنبياء مع ربهم؛ لأن الله سبحانه وتعالى منزَّه عن السفل، وإن كان محيطاً بكل شيء ولا يخفى عليه شيء؛ فإنه الباطن الذي ليس دونه شيء).

إثبات العلو يلزم منه إثبات سائر الصفات

إثبات العلو يلزم منه إثبات سائر الصفات كل من أثبت صفة العلو فإنه يلزمه عند التحقيق أن يثبت سائر الصفات؛ ولهذا ترى أن أئمة المعطِّلة لما عطَّلوها رتبوا على تعطيلها التعطيل لعامة الصفات، بل يمكن أن يقال: إذا انغلق تعطيل صفة من الصفات على المعتزلة ردوا تعطيلها إلى كون إثباتها يستلزم إثبات العلو، وهو ما يسمونه في كتبهم بالجهة، والجهة عندهم منتفية. ومن مثال ذلك: صفة الرؤية؛ فإنه انغلق عليهم امتناعها من جهة العقل، فلم يجعلوا لمنعها من جهة العقل إلا أن إثباتها يستلزم إثبات الجهة الذي هو إثبات العلو، وهذا ما يسمى عندهم بدليل المقابلة.

السؤال عن الله تعالى بـ (أين)

السؤال عن الله تعالى بـ (أين) إن سائر المنكرين لهذه الصفة مجمعون على أنه لا يصح أن يسأل عنه سبحانه بالأين، ويقولون: إن من سأل عنه بأين لزم أن يقوم في عقل الجاهل ما هو من التشبيه. فيقال لهم: إنه صلى الله عليه وآله وسلم لما أراد إثبات إيمان الجارية قال لها في أول سؤال: (أين الله؟ فقالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها فإنها مؤمنة). وقد استوعب محمد بن عمر الرازي سائر الأدلة التي أوردها أئمة الجهمية والمعتزلة وابن سينا وأمثاله، وأوردها بعض أصحابه الذين شاركوه كـ أبي المعالي وغيره؛ استوعبها في كتبه المطولة كـ (المطالب العالية)، و (نهاية العقول)، و (أساس التقديس)، وزعم محمد بن عمر الرازي أنه لم يقل بإثبات هذه الصفة إلا الحشوية وأتباع محمد بن كرام المشبهة، وهذا جهل أو كذب، وأحسن أحواله الجهل، فإنه يعلم أن هذا ليس مذهباً مختصاً بهؤلاء وحدهم، وليس هناك طائفة معروفة يقال بأنها الحشوية. وإن كان مراده بذلك المثبتة للصفات، فهذا تشبيه أو استعمال دخل عليه من المعتزلة، بل إنه قال في (أساس التقديس): (ولم يثبت هذه الصفة إلا الحنبلية والكرامية). وأريد بالحنبلية أتباع الإمام أحمد؛ لأنه يزعم أن إثباتها مختص به، وهذه دعوى قالها الرازي وجماعة حين زعموا أن هذا المذهب الذي قرره شيخ الإسلام وأمثاله هو مذهب مختص بالإمام أحمد، وبعض هؤلاء يقول: هو مذهب للإمام أحمد وأهل الحديث، حتى لا يضيفوه إلى الشافعي وأبي حنيفة وأمثالهم من الفقهاء وغيرهم. وقد استعمل بعض المفكرين من المعاصرين مثل هذا الكلام، فصار يخصص ما ذكره شيخ الإسلام بطريقة أهل الحديث، ويعني بأهل الحديث: أحمد وأمثاله، ويجعلون الشافعي وأبا حنيفة من الفقهاء. وكل هذه طرق متكلفة، ولا شك أن السلف عُبَّادهم وفقهاؤهم ومحدثوهم، بل وعامة المسلمين على هذه الأصول، ولا يزيغ عنها إلا مخالف لأصولهم وطريقتهم، ومن يكون قد تلقى علمه ودينه عن الأصول الكلامية التي يعلم أنه من الممتنع في العقل فضلاً عن الشرع أن يعلق الإيمان والتوحيد بها. قال شيخ الإسلام في درء التعارض: (ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم إلى غير ما ذكره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وما نزل عليه، لما كان هذا القرآن بياناً وهدىً للناس).

شرح العقيدة الطحاوية [9]

شرح العقيدة الطحاوية [9] أكرم الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالإسراء إلى بيت المقدس، ثم بالمعراج إلى السماوات العلى، ليرى من آيات ربه الكبرى، فآمن أهل السنة بما جاءهم عنه في كتاب ربهم وسنة نبيهم، دون زيادة على ذلك أو نقصان.

ثبوت المعراج بشخص النبي صلى الله عليه وسلم يقظة

ثبوت المعراج بشخص النبي صلى الله عليه وسلم يقظة قال المصنف رحمه الله: [والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى (ما كذب الفؤاد ما رأى) فصلى الله عليه وسلم في الآخرة والأولى]. المعراج حق، وقد أجمع عليه السلف وعامة المسلمين، وإنما الذي حصل فيه الخلاف بين أهل القبلة هو: هل كان المعراج يقظةً أم مناماً؟ أما سائر أهل السنة والجماعة فإنهم مجمعون على أنه كان في اليقظة وليس رؤيا منامية، وقيل: إن المعراج كان رؤيا منامية ولم يكن يقظة، وهذا وإن قاله بعض الفقهاء المتأخرين، فإنما دخل عليهم من المتكلمين، وقد نسبه بعض المتأخرين إلى بعض المتقدمين، بل إلى بعض الصحابة، ولا يصح عن أحدٍ من الصحابة أنه جعل الإسراء والمعراج رؤيا منامية.

الفرق بين القول بأن المعراج رؤيا منامية وأنه عروج بالروح

الفرق بين القول بأن المعراج رؤيا منامية وأنه عروج بالروح نقل عن بعض المتقدمين أنهم قالوا: إنما عرج بروحه، إلا أن هناك فروقاً بين قول من يقول: إنها رؤيا منامية، وبين من يقول: إنه عرج بروحه، فإن المعراج بالروح يكون على التمام لها. والذي عليه عامة الصحابة والسلف، أن الإسراء والمعراج كان على الحقيقة بروحه وجسده، وهو الذي دلَّ عليه ظاهر القرآن وصريح السنة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما ذكر استفتاح جبريل للسماوات وأن معه محمداً صلى الله عليه وسلم، وأنه كان يقال له: (من؟ فيقول: جبريل، فيقال: ومن معك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم، إلخ). واستبعاد أن يعرج بشخصه وجسده جهل لا يكون إلا فرعاً عن عدم الفقه لمعنى كونه عرج به، فإن الذي قدَّر ذلك وشاءه وأحكمه هو الله سبحانه وتعالى، والله على كل شيء قدير، وإذا كان قد جاء في كتاب الله قول عفريت من الجن: {أَنَا آتِيكَ بِهِ} [النمل:39] أي: عرش بلقيس {قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِنْدَهُ} [النمل:39 - 40] مع أن هذا لم يتدخل فيه جبريل، فكيف إذا كان الله سبحانه وتعالى قد قدَّر أن جبريل عليه الصلاة والسلام هو الذي يقوم بهذا الأمر الذي أمره الله سبحانه وتعالى به؟! فلا شك أنه لا يوجد في مقتضى العقل ما يعارض ذلك، والذي يزعم مخالفة شيء من القرآن للعقل فإن زعمه مبني على القياس الحسي الذي يرتبط بقدرات بني آدم وخصائصهم الممكنة الناقصة المحتاجة.

وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة

وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء السابعة وقوله: (ثم إلى حيث شاء الله)؛ قد وصل عليه الصلاة والسلام إلى السماء السابعة، فإنه ذكر أنه لقي آدم في السماء الأولى، ثم عيسى ويحيى بن زكريا في السماء الثانية، ثم يوسف في السماء الثالثة، ثم إدريس في السماء الرابعة، ثم هارون في السماء الخامسة، ثم موسى في السماء السادسة، وتراجع مع موسى في فرض الصلاة، ثم ذكر أنه رأى إبراهيم عليه الصلاة والسلام في السماء السابعة، ثم ظهر لمستوىً مختص الله سبحانه وتعالى أعلم به، لكنه لم ير ربه ببصره. وقوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] صلى الله عليه وسلم مختلف في تفسيرها؛ هل المقصود رؤية الله بالفؤاد أم هي رؤية جبريل؟ والخلاف فيها شأنه يسير، وإن كان الظاهر أنه جبريل.

شرح العقيدة الطحاوية [10]

شرح العقيدة الطحاوية [10] أعطى الله سبحانه وتعالى نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام الحوض المورود ليشرب منه هو وأتباعه عليه الصلاة والسلام، ويذاد عنه من كفر به وارتد عن دينه.

إثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم

إثبات حوض النبي صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله: [والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته حق]. الأحاديث في الحوض متواترة، وفي الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه قال: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءةً، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟! قال: أنزلت علي آنفاً سورة، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ..) إلى آخر الحديث. وقد ذكر الكوثر في كتاب الله في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، وهذا يستدل به على إثبات حوضه صلى الله عليه وسلم من باب تفسير القرآن بالحديث، وإلا فإن النبي عليه الصلاة والسلام تواتر عنه من حديث ابن عمر وأنس وجابر بن سمرة وثوبان وغيرهم رضي الله عنهم ذكره صلى الله عليه وآله وسلم لحوضه، وكذلك ذكر النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي ذر: (أن آنيته كعدد نجوم السماء، وأن طوله شهر وعرضه شهر، وأنه ما بين صنعاء وأيلة)، وقال: (من مقامي إلى عمان، وكما بين جرباء وأذرح) كما في رواية ابن عمر رضي الله عنهما، إلى غير ذلك من الروايات المتواترة في الصحيحين وغيرهما، وقد أجمع أهل العلم بالحديث على تواترها، وهي مسألة خبرية.

من يذاد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم

من يذاد عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحوض ترده أمته صلى الله عليه وسلم، لكن قد حدَّث عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح، قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: وددت أنا قد رأينا إخواننا. فقلنا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد. قالوا: فكيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟! قال: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غر محجلة، بين ظهري خيل دهم بهم، ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض)، وجاء في حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه: (أنا الفرط لكم على الحوض)، قال: (وأنا فرطهم على الحوض. قال: ليذادنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلموا. فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً)، وجاء في بعض أحرف الصحيح: (فأقول: أصحابي أصحابي!)، ولهذا الحديث قال من قال من الرافضة: إن الصحابة ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن هذا جهل، فإن نصوص الروايات ليس على هذا الوجه، وهذا الوجه إذا ذكر فيمكن أن يوجه على أحد وجهين: الأول: أن المقصود بالصحبة المعنى المطلق، أي: المتبع أو المقتدي بوجه عام، أو الموافق في الظاهر، فإن الله لما ذكر المنافقين قال: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة:56] ولما ذكرهم في سورة الأحزاب قال: {قَدْ يَعْلَمُ الله الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:18] فالسياقات تختلف. الوجه الثاني: أن يقال: إنه قد ارتد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من ارتد ممن كان صحابياً وقت حياته صلى الله عليه وسلم.

شرح العقيدة الطحاوية [11]

شرح العقيدة الطحاوية [11] يكرم الله سبحانه وتعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بعدة شفاعات، يختص ببعضها، ويشاركه غيره من الملائكة والأنبياء والصالحين في غيرها، وأخص تلك الشفاعات: الشفاعة العظمى، التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين سائر بني آدم أجمعين، وهي المقام المحمود المشار إليه في الذكر الحكيم.

شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام

شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام قال المصنف رحمه الله: [والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار]. شفاعته صلى الله عليه وآله وسلم ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، وله في القيامة شفاعات منها ما هو محل إجماع، ومنها ما خالف فيه بعض أهل البدع. أما الشفاعة التي هي محل إجماع فهي الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود المشار إليه في قوله سبحانه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79]، وهي شفاعته لأهل الموقف أن يفصل بينهم. وهذه الشفاعة دل عليها القرآن والسنة، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُتي بلحم، فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه ..) وهو في سياق طويل ذكر فيه صلى الله عليه وآله وسلم أن أولي العزم من الرسل يترادون الشفاعة، حتى ينتهون إليه، قال: (فأنطلق فآتي تحت العرش، فأخر ساجداً لربي، ثم يفتح الله عليَّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتح لأحد قبلي، ثم يقول: يا محمد ارفع رأسك، واسأل تعط، واشفع تشفع ..) إلى آخر الرواية في الشفاعة العظمى.

اختلاف أهل القبلة في الشفاعة لأهل الكبائر

اختلاف أهل القبلة في الشفاعة لأهل الكبائر وأما الشفاعة التي حصل فيها نزاع بين أهل القبلة فهي شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر، فنفتها الوعيدية؛ لأن أهل الكبائر عند الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف الشيعة مخلدون في النار، فلا تصح الشفاعة لمن استوجب عندهم دخول النار فضلاً عمن هو مخلد فيها. وقد تواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر إخراج قوم من النار بالشفاعة، فإنه لا يخلد في النار إلا من كفر برب العالمين، وأما سائر الفسَّاق والعصاة مهما كان فسقهم وفجورهم وظلمهم فإنهم وإن عذبوا إلا أنهم لا يخلدون في النار؛ لأن سقوط العقوبة عن الذنب والكبيرة له أسباب متعددة يأتي ذكرها في أهل الكبائر. وقد احتجت الوعيدية لقولهم بنفي الشفاعة عن أهل الكبائر بقوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100] ولا شك أن هذه الآية في سياق الكلام عن الكفار، فلا تحل لهم الشفاعة، والله سبحانه وتعالى إنما يأذن في الشفاعة لمن يشاء من الشافعين، ويرضى من المشفوعين لهم.

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب لم يستثن من الكفار في عدم الشفاعة إلا ما جاء في حديث أبي سعيد وابن عباس والعباس رضي الله عنهم في شفاعته صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب، فإنه في ضحضاح من نار، قال: (ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار)، فهذه الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم لعمه مختصة به، وهي لا تعني خروجه من النار، بل يخفف عنه العذاب، وإلا فإنه مخلد في النار كغيره من الكفار الذين لم يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام وبما جاء به.

أدلة ثبوت الشفاعة

أدلة ثبوت الشفاعة ودليل الشفاعة هو القرآن من جهة العموم، ومن جهة التفصيل ما تواتر عن النبي عليه الصلاة والسلام من أوجه متعددة كحديث أبي سعيد وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما في الصحيحين وغيرهما، وقد نص جماعة من أهل العلم والحديث على أن أحاديث الشفاعة متواترة، وكذلك يدل على ثبوتها إجماع السلف من الصحابة والتابعين على أنها كائنة.

الخلاف في الشفاعة لمن استوجب دخول النار

الخلاف في الشفاعة لمن استوجب دخول النار مسألة: النصوص المفصلة صريحة في شفاعته صلى الله عليه وسلم لمن دخل النار من أهل الكبائر، وذكر طائفة من أعيان أهل السنة شفاعته صلى الله عليه وسلم في قوم استوجبوا دخول النار أن لا يدخلوها. قال بعض المتأخرين من أهل العلم: هذا النوع لا دليل عليه، والحق أنه وارد من باب أولى، وذلك من جهتين: الجهة الأولى: أنه إذا شفع النبي صلى الله عليه وسلم لمن دخل النار فإنه من باب أولى أن تقع شفاعته لمن استوجب دخول النار ولم يدخلها. الجهة الثانية: أن الدليل على ذلك هو العموم، ومن ذلك ما جاء عن سبعة من الصحابة ومنهم أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وهذا الحديث من حيث آحاد طرقه ليس بذاك لكنه بمجموع جهة طرقه وشواهده يكون حسناً وجيداً. وكذلك ما ثبت في صحيح البخاري أن أبا هريرة قال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، فإنه يدخل في ذلك من استوجب دخول النار، كما يدخل في ذلك من دخلها.

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة في دخولها ورفع درجاتهم فيها

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة في دخولها ورفع درجاتهم فيها من مقامات الشفاعة: شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة في دخولهم الجنة ورفع درجات بعضهم، وهذه الشفاعة دلت عليها السنة ودل عليها الإجماع، بل قال شيخ الإسلام: (إن عامة أهل القبلة يصححون هذه الشفاعة حتى المعتزلة)، وهي الشفاعة بالفضل وزيادته.

شرح العقيدة الطحاوية [12]

شرح العقيدة الطحاوية [12] فطر الله سبحانه وتعالى العباد على توحيده والإيمان به، وأقام عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم، فكان أول واجب عليهم هو الإقرار له بالعبودية، واتباع رسله المبعوثين بذلك، وذلك معنى شهادة أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله.

الميثاق الذي أخذه الله على عباده

الميثاق الذي أخذه الله على عباده قال المصنف رحمه الله: [والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق]. هذا الميثاق هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172].

الكلام على الفطرة

الكلام على الفطرة أما مسألة الفطرة فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كل مولود يولد على الفطرة)، وقد تنوع كلام السلف في الفطرة. فبعضهم قال: الفطرة هي التوحيد. وقال بعضهم: الفطرة هي الإسلام. وقال بعضهم: الفطرة هي الملة. إلى غير ذلك. وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله في تفسيره للفطرة، وهو اختلاف تنوع أو اختلاف لفظي. ولا يقول أحد من السلف إن المراد بالفطرة الإسلام المفصَّل، فإن الإسلام المفصَّل لا يمكن أن يعلم بالفطرة، بل لا يتلقى إلا من الوحي، وقد قال الله عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52]، قال أهل التفسير من أئمة السلف: (ولا الإيمان) أي: ولا تفاصيل الإيمان؛ وهو الشرائع، لأن الشرائع إنما تلقاها بالوحي، وكذلك تفصيل دلائل التوحيد، وإلا فإن أصول التوحيد كان النبي عليه الصلاة والسلام عليها قبل بعثته.

أول واجب على المكلف

أول واجب على المكلف من أصول المعتزلة: أن العباد لا يثابون إلا على ما يعملون، وأصل مبنى الثواب هو التوحيد، فإذاً أصله لا بد أن يؤخذ بالعلم النظري، ومن هنا قالت المعتزلة: إن أول واجب على المكلف هو النظر. وعلى هذا عامة المعتزلة، إلا الجاحظ وأمثاله فإنهم خالفوا في ذلك. وجاء الأشاعرة فقالوا: أول واجب على المكلف المعرفة، وبعض من سلك مسلك الاعتزال قال: هو النظر. وقال بعضهم: أول جزء من النظر. وقال بعضهم: القصد إلى النظر. والخلاف بين سائر هذه الأقوال الكلامية خلاف لفظي كما صرح به الرازي وأبو حامد الغزالي، وكما صرح به شيخ الإسلام رحمه الله. هذا مع أن الأشعري يخالف أصله في القدر أصل المعتزلة، فالأشاعرة يقاربون مذهب الجبر، والقول بأن أول واجب على المكلف هو النظر فرع عن كون العباد لا يثابون على ما يخلق فيهم من العلوم الضرورية، ولهذا قال أبو جعفر السمناني من علماء الأشاعرة ومن أصحاب القاضي أبي بكر ابن الطيب: (إن القول بإيجاب النظر بقي في مذهبنا من مذهب المعتزلة). أي: أن الأشعري لما رجع عن الاعتزال لم يتخلص من مسألة المعرفة التي مقدمتها النظر، فالمعرفة نتيجة والنظر مقدمة. وأشد إشكالاً من دخول المسألة على الأشعرية مع أن أصولهم تخالف أصول القدرية، دخول هذه المسألة على كثير من الأصوليين حتى من أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، كما فعل المقدسي في كتاب (التبصرة)، وهو كتاب حسن مصنف في الجملة على مذهب أهل السنة، بل وفيه ردود على الأشاعرة، لكنه غلط في هذه المسألة فقال: (اختلف أصحابنا في أول واجب على المكلف، فقال بعضهم: النظر، وقال بعضهم المعرفة ..) إلى آخره، ومقصوده بأصحابه هنا الحنابلة. مع أن القول بأن النظر أول واجب على المكلف لم يكن مذهباً لا لـ أحمد ولا لأئمة أصحابه، فإن السلف مجمعون على أن أول واجب على المكلف هو الشهادة، وبهذا خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم سائر الناس من كان منهم عارفاً أو جاهلاً أو وثنياً أو يهودياً أو نصرانياً، فقد جاء في حديث ابن عباس ومعاذ رضي الله عنهما لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أنه قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله)، وقد ثبت في الأخبار والسير أن أهل اليمن إذ ذاك كان فيهم يهود ونصارى وعبدة أوثان. إذاً .. هذه الأقوال الكلامية كلها ترجع إلى أصل قدري اعتزالي ليس عليه أثر السنة والجماعة لا من قريب ولا بعيد، بل قال الجاحظ كما في بعض كتبه -وهو من أعيان المعتزلة القدرية-: (لا يلزم هذا المذهب حتى على أصولنا المقولة في باب القدر كما زعم أصحابنا). وكثيراً ما يتكلم شيخ الإسلام رحمه الله في مسألة ثم يدخل في مسألة أخرى، وقد يظن الظان أن هذه المسألة منفكة عن هذه، والصحيح أنها مبنية عليها، ككلامه في مسألة أول واجب على المكلف، فهو يبنيها على كلامه في مسألة القدر، ويركب هذه على هذه، فهذا ليس من الاستطراد وإنما من باب الرد في المسألة. وقد تكلم كثير من أهل العلم في تفسير الفطرة، وذكروا مقالات السلف، ومن أجود ذلك ما ذكره أبو عمر ابن عبد البر الإمام المالكي رحمه الله في كتاب (التمهيد)، فإنه ذكر جملة أقوال السلف في تفسيرهم لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كل مولود يولد على الفطرة)، وفي الجملة فالمقصود بالفطرة هي: التوحيد، وذلك بالإقرار بوحدانية الله سبحانه وأصل استحقاقه للعبودية، وإلا فالتفاصيل تتلقى عن الأنبياء والرسل.

شرح العقيدة الطحاوية [13]

شرح العقيدة الطحاوية [13] من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة: أن الله سبحانه وتعالى هو العليم بكل شيء، وأنه يعلم ما كان وما سيكون، لا يخفى عليه شيء، وأنه قدر مقادير العباد، فلا يكون في خلقه وملكه إلا ما قدر سبحانه وقضى.

عموم علم الله تعالى بعباده وأفعالهم أزلا

عموم علم الله تعالى بعباده وأفعالهم أزلاً قال المصنف رحمة الله: [وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملةً واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه، وكل ميسر لما خلق له]. ذكر المصنف في هذه الجملة أخص أصول القدر، وهو: أن الله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما سيكون، وعلم عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار. وقوله: (جملةً واحدة) أي: أن هذا العلم أزلي وليس تحصل بعضه تبعاً لبعض، بل الله سبحانه وتعالى علم أزلاً مقادير الخلائق، والإيمان بعموم علمه هو إجماع للمسلمين، ومن نفاه أو أنكره فإنه كافر بإجماع السلف، بل وجمهور الطوائف؛ فقد نصوا على كفر من أنكر ذلك.

قول الفلاسفة في علم الله

قول الفلاسفة في علم الله وأما الفلاسفة فينكرون علم الله بالجزئيات، وهذا المذهب ذكره ابن سينا وأمثاله من الفلاسفة في كتبهم، ويزعمون أنهم يؤمنون بالعلم الكلي فقط، وهذا مبني على أصل تعطيلهم لصفات الباري سبحانه وتعالى.

أعمال العباد مقدرة عند الله تعالى

أعمال العباد مقدرة عند الله تعالى قول المصنف رحمه الله: [وكل ميسر لما خلق له]. هذا جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه المسألة، فقد ثبت في الصحيحين من رواية جماعة من الصحابة- أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل قالوا له: ففيم العمل؟ فكان جوابه صلى الله عليه وآله وسلم أن قال: (اعملوا فكل ميسر)، وفي حديث علي رضي الله عنه: (فكل ميسر لما خلق له). ومعنى هذا أن الفعل والعمل وإن كان من العبد، وأن العبد وإن كان له إرادة ومشيئة على الحقيقة، وأنه يفعل بإرادته ومشيئته واختياره، إلا أن الله سبحانه وتعالى هو الهادي، وهو الذي يضل من يشاء، وهذا هو معنى قوله: (فكل ميسر لما خلق له) أي: أن من كتبه الله من أهل السعادة لعمل أهل السعادة، ومن كتبه الله شقياً فإنه ييسر لعمل أهل الشقاوة. وهذا ليس مشكلاً من جهة العقل، بل كما قال شيخ الإسلام: (إن جوابه صلى الله عليه وسلم هو أتم الأجوبة من جهة الشرع ومن جهة العقل)، ووجه ذلك من جهة العقل: أن الله سبحانه وتعالى كتب مقادير الخلائق، وكتب السعيد والشقي، وإذا ثبت هذا المعنى المتفق عليه فإن الله كتب الأسباب وكتب المسببات، فإذا كتب عبداً من أهل النار، فلا بد أنه سبحانه وتعالى كتب أنه يعمل بعمل أهل النار وهو الكفر، وإذا كتب عبداً أنه من أهل الجنة فقد كتب له عملاً يناسب هذا المقام. فليس في قدر الله أن عبداً يعمل الصالحات والإيمان ويكون شقياً من أهل النار، فإن الله كما كتب المآلات -أي: أن هذا في الجنة وهذا في النار، وأن هذا شقي وهذا سعيد- فقد كتب الأعمال، وكل مآل له عمل يناسبه، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لا يعذب إلا من عصاه؛ إما عذاباً مطلقاً وهو الخلود في النار في حق من كفر به، وإما عذاباً دون عذاب في حق بعض أهل الكبائر. وهذا الإشكال لا يزينه الشيطان إلا في باب الشرع ليصد به عن ذكر الله وعن توحيده وعن اتباع رسله، وإلا فإن هذا الإشكال لو كان صحيحاً لكان مطرداً في سائر أحوال بني آدم، ولا يختص بحالهم من جهة الديانة، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إنه لم يذهب إلى الاحتجاج بالقدر على الإطلاق أحد من عقلاء بني آدم). ومراده بذلك أن القدر ليس مختصاً بباب الشرع، فكما أن الشقاوة والسعادة بقدر فكذلك الولد بقدر، وكذلك العدوان الذي يقع على الشخص بقدر، والبر الذي يلحقه بقدر وهلم جراً، فإن الله قدر كل شيء. قال شيخ الإسلام: (فلازم من احتج بالقدر على إسقاط الشرع أو معارضته أن لا يلوم من اعتدى عليه، فإن الذي اعتدى عليه إنما اعتدى عليه بقدر، وكذلك من قتل ولده فإنما قتله بقدر) وهكذا في الأكل والشرب، فإنه إن كتب على شخص أنه يموت في هذا اليوم فسيموت أكل أو لم يأكل، ومعلوم أن مثل هذه الأمور لا يصل إليها المجانين من بني آدم، فترى أن قدر الله سبحانه وتعالى على وفق العقل كما أنه على وفق الفطرة، وإن كان لا يخاض فيه خصومةً أو تفصيلاً لما لم يفصله الله سبحانه وتعالى أو رسوله.

الأعمال بخواتيمها

الأعمال بخواتيمها قال المصنف رحمه الله: [والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله]. أي: أن الله سبحانه وتعالى إنما يجازي العبد بخاتم عمله، وليس معنى هذا أن من مات على حال حسنة ولم يتب من كبائره أنه يجزم له بأنه لا يوافي ربه بالكبائر، وإنما مراد المصنف: أن من كان كافراً ثم آمن فإن الاعتبار بالثاني، وهكذا من آمن ثم كفر فإن الاعتبار بالثاني.

محبة الله للعبد وبغضه له متعلق بحاله لا بمآله

محبة الله للعبد وبغضه له متعلق بحاله لا بمآله ومما يتعلق بذلك: أن من أصول أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى يحب عبده المؤمن حال إيمانه، وإن علم سبحانه وتعالى أنه قد يرتد عن الإيمان، فهو حال إيمانه محبوب لله دون حال كفره، وإن علم سبحانه وتعالى أن الكافر سيؤمن، فإنه حال كفره يكون مبغضاً، وهذا هو قول السلف خلافاً لـ ابن كلاب ومن وافقه كـ أبي الحسن الأشعري وأصحابه الذين قالوا: إن محبته سبحانه وتعالى مبنية على الموافاة، فمن علم الله أنه سيؤمن فإنه لا يزال محبوباً عنده حتى حال عبادته الأصنام، ومن علم أنه سيكفر فإنه لا يزال مبغضاً حتى حال إسلامه الأول، ولا شك أن هذا مذهب مخالف لإجماع السلف، فإن كل من كان قائماً على الصدق والإيمان بعمل صالح، فإن الله سبحانه وتعالى يحب ذلك العمل منه.

مأخذ ابن كلاب والأشعري في الاستثناء في الإيمان

مأخذ ابن كلاب والأشعري في الاستثناء في الإيمان ومن هذا الوجه ذهب ابن كلاب والأشعري إلى الاستثناء في الإيمان، وإن كان الاستثناء في الإيمان موافق لقول جماهير من السلف، إلا أن هذا التعليل الذي قاله ابن كلاب محدث، والتعليل المأثور عن السلف: أنه يستثنى في الإيمان؛ لأن العبد لا يعلم ماذا يختم له.

إشكال وجوابه

إشكال وجوابه وتحت هذه الجملة التي ذكرها أبو جعفر رحمه الله ما جاء في الصحيحين من حديث سهل بن سعد وأبي هريرة رضي الله عنهما وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن العبد -وفي رواية: إن الرجل- ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب -أي: القدر الذي كتبه الله- فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). أما من جهة من يعمل بعمل أهل النار ثم يسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فليس فيه إشكال، فإنه بيِّن في حال المشركين وأمثالهم الذين كانوا على الشرك ثم هداهم الله للإسلام، فكثير منهم إنما هدي للإسلام في آخر عمره فختم له بالإسلام. ولكن المعنى الذي تكلم كثير من الشرَّاح فيه هو قوله: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، وبهذا احتج من احتج من الأشاعرة على أن الاعتبار بمحض القدر، وأن فعل العبد لا أثر له في المآل، أي: في الشقاوة والسعادة. وأما من جهة الثواب فإن سائر المسلمين أجمعوا على أن فعل العبد له أثر في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب). والصحيح في هذا الحديث أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة)، أي: فيما يظهر للناس ذلك، بل هذا هو جوابه صلى الله عليه وسلم في حديث سهل بن سعد رضي الله عنه حين قال: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس)، فهو صريح في المدلول. وكذلك سبب ورود الحديث؛ فإن رجلاً قاتل فقال الصحابة رضي الله عنهم: (ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما إنه من أهل النار، فقال رجل: أنا لكم به! فخرج معه، فجرح جرحاً شديداً، فاستعجل الموت فوضع نصل السيف على الأرض وذبابه بين ثدييه ثم اتكأ عليه حتى خرج السيف من ظهره، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشهد أني عبد الله ورسوله، إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة ..) إلى آخره. وعليه: فيكون قوله: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة) محمولاً على أحد حالين: الأول: أن يكون منافقاً يُظهر الإيمان ويبطن الكفر، ويختم له في آخر حاله بحال أهل النار كقتل النفس وأمثاله، ولا يعني هذا أن قتل النفس هو الموجب لكفره، بل هو كافر في الباطن، وإنما أظهر ما أظهر من أعمال الإسلام والشريعة نفاقاً. الثاني: أنه وإن لم يكن منافقاً النفاق الأكبر إلا أنه ممن يعبد الله على حرف، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} [الحج:11] قال شيخ الإسلام: (وكثير ممن يعبد الله على حرف يكون معه قبل هذه الفتنة جملة من الإيمان الصحيح، وإن كان معه مادة من النفاق، فينقلب بهذه الفتنة على وجهه). وأما من آمن وصدق في الإيمان، ولم يعبد الله على حرف، بل صار مؤمناً محققاً لأصول الإيمان وإن كان يعتريه ما يعتريه من المعاصي والكبائر، فإن هذا لا يعرض له هذه الحالة بمحض الإرادة القدرية؛ فإن الله بكل شيء عليم، ولهذا قال ابن رجب وغيره من المحققين: (إنه لم يعلم عن أحد استفاض إيمانه في الناس أنه ارتد على هذه الحال). وعليه: فإن كل من ارتد عن الإيمان لا بد أن شيئاً حدث من جهته هو، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: {يُثَبِّتُ الله الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27]، فدل على أن أهل الإيمان الصادق يثبتون على أصل الإيمان وإن كانوا قد ينقصون بعض ما هو منه، فإن الله يثبتهم على أصل الإيمان في الحياة الدنيا وفي الآخرة. ثم قال: {وَيُضِلُّ الله الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27] أي: أن من خُتم له بعمل أهل النار فدخل النار، فإن هذا لا بد أن يكون من جهة ظلمه لنفسه: إما لكونه في الأصل منافقاً، وإما لكونه ممن يعبد الله على حرف. وقول المصنف رحمه الله: (والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله)، أي: فقضاؤه سبحانه وتعالى عدل، وهو مبني على حكمته وعلمه بأحوال عباده وما يوافون به ربهم.

شرح العقيدة الطحاوية [14]

شرح العقيدة الطحاوية [14] يؤمن أهل السنة والجماعة بأن الله سبحانه وتعالى كتب مقادير كل شيء في اللوح المحفوظ، وأن ما كتبه كائن لا محالة، وأنه لو اجتمعت الأمة على تغيير شيء مما قدره الله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فعلى المسلم أن يلزم الطاعة ويؤمن بما قدره الله عليه؛ فإن ذلك خير له في عاجله وآجله.

مسائل في القدر

مسائل في القدر قال المصنف رحمه الله: [وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين]. لفظة: (وأصل القدر سر الله في خلقه)، فيها أثر عن علي، ويؤثر عن علي رضي الله تعالى عنه أحرف كثيرة في القدر، وجمهور هذه الأحرف لا تصح عنه، وقد تنسب إليه المعتزلة والشيعة وحتى كثير من الصوفية أحرفاً في أحوالهم ومسائلهم التي يقررونها. وهذه الكلمة ليس عليها أثر من أثر الرسل والأنبياء، وعليه: فهذه الجملة إذا أطلقت وفسرت بمراد صحيح كان الأمر فيها واسعاً، وأما أن تعد من عبارات أهل السنة ومقالاتهم أو من آثار الصحابة فلا. وجمهور من يستعمل هذه الجملة هم الصوفية في كتبهم، والشارح مع جودته وإتقانه إلا أنه غلط فنقل عن بعض الصوفية في ذلك نقولاً ليست حسنة، ومما نقل عن بعضهم: أن من وقف عن الكشف في ذات الله وأسمائه لزم الأدب، وأن الله يقول: من كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب. فنقل هذا مستحسناً له قابلاً له، ولا شك أن هذا كله من كلام الصوفية وأغلاطهم؛ بل وترهاتهم. وقوله: (لم يطلع على ذلك) أي: على تمام هذا الأصل؛ لأنه من علم الله سبحانه وتعالى، وعلمه لا يحاط به.

التحذير من التعمق في القدر

التحذير من التعمق في القدر وقوله: (والتعمق) يدل على قدر من الزيادة، وهو نوع من الغلو، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الصحيح: (هلك المتنطعون)، وقال: (إياكم والغلو في الدين)، إلى غير ذلك.

التفصيل في حكم النظر

التفصيل في حكم النظر وقوله: (والنظر)، أقول: النظر ليس مذموماً في الشرع، وهو حرف لا يدل على تعدٍ على أمر الله أو دليل الشارع، وإن كان النظر ليس هو أول الواجبات، بل ولا يجب على كل أحد، وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى النظر في حق من شاب توحيده أو معرفته شيء من الإشكال، فإنه يؤمر بالاعتبار والنظر حتى يصحح ما عرض له من الإشكال، كقوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا} [الأعراف:184] {أَوَلَمْ يَنظُرُوا} [الأعراف:185] إلى غير ذلك. فالنظر ليس مذموماً على الإطلاق، وليس واجباً على كل أحد فضلاً عن أن يقال: إنه أول الواجبات، ولهذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الأصل عدم الوجوب، ولكن من عرضت له حال لا تزول إلا بالنظر، فإنه يكون واجباً عليه من هذا الوجه، ويكون المشروع هنا هو النظر الشرعي. وفرق بين النظر الشرعي والنظر الذي يذكره علماء الكلام؛ فإنهم يذكرون النظر على مقدماتهم الكلامية، وأما النظر الشرعي فهو المذكور في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]، ومن ذلك ما كان لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في محاجته لقومه، فإنه أبطل ما هم فيه من الكفر والشرك بحجج من النظر، وهي المذكورة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]. وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً)؛ هذه الكلمة لو لم يعبر بها لكان أجود، فإن النظر في هذا الباب ليس مذموماً على الإطلاق، وإنما بالغ في ذم النظر بعض الصوفية الذين زعموا أن هذا باب لا يكشف إلا لبعض العارفين، والحق أن الله سبحانه وتعالى بيَّن أصول القدر وأصول العلم بهذا الباب في كتابه، وبيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بياناً شرعياً موافقاً للعقل، وهذه أجوبته صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولما خاصمت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر نزل قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه. وقد ثبت في السنن أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج ذات يوم وطائفة من أصحابه يختصمون في القدر فنهاهم عن ذلك، فقول من قال: إن الصحابة خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، غلط بالإجماع، بل إن الذين خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر هم المشركون، وإذا كان طائفة من الصحابة اختصموا فيما بينهم في بعض مسائل القدر، فلا يعني ذلك أنهم مخاصمون فيها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم إن مثل هذه الأحوال التي تعرض -كخصومة بعض الصحابة لبعض في القدر- لا تعرض لأئمة الصحابة كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وإنما هي حال تعرض لبعض من هو دونهم في الفقه والإمامة في العلم.

خفاء باب القدر مع العلم بأصوله

خفاء باب القدر مع العلم بأصوله وقوله: (فإن الله طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]). كلامه من هذا الوجه صحيح، لكن معلوم أن القدر ليس مقصوراً على مسألة السؤال، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، لكن ثمة أصول من القدر معلومة، ومعلوم أن أبا جعفر رحمه الله لا يريد أن يثبت أن هذا الباب مجهول على الإطلاق، ولكنه استعمل هذه التعبيرات التي يعبر بها على هذا الوجه من الإطلاق طوائف من الصوفية، وهذا ليس بحسن، لكنه يختلف عنهم في المقصود.

وجوب الوقوف عند ما أوقفنا الله عليه

وجوب الوقوف عند ما أوقفنا الله عليه قال المصنف رحمه الله: [فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم، لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود]. هذه الجملة فيها أثر من أثر الصوفية، فإن لفظ (الولاية) وإن كان لفظاً شرعياً بالإجماع، لكن يستعمله الصوفية كثيراً، فإنهم إذا ذكروا ذلك خصوا هذا المقام بالأولياء، ولا يذكرون أهل العلم كما يذكرون الأولياء، ويجعلون الولاية مقاماً من مقامات الأحوال وليست مقاماً من مقامات المعرفة. وقوله: (فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر). العلم الموجود هو ما علَّم الله سبحانه وتعالى رسوله إياه كما قال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:113]، فهذا العلم الذي بُعث به صلى الله عليه وسلم وعلمه أمته هو العلم الذي إنكاره كفر، وأما ما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه من أسمائه، وأفعاله، وقضائه، وقدره، وأحكامه، وحِكمه، فإن هذا علم من زعمه فقد كفر، فإنه لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، فهذا هو المقصود عند أبي جعفر، وهو حسن صحيح.

الإيمان باللوح المكتوب والقلم

الإيمان باللوح المكتوب والقلم قال المصنف رحمه الله: [ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن، إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه]. اللوح: هو ما كتب الله فيه الذكر، فقد ثبت في حديث عمران رضي الله عنه في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وكتب في الذكر كل شيء) واللوح المحفوظ مجمع على الإيمان به؛ فإن الله ذكره في كتابه. وكذلك القلم، فإنه مما أجمع السلف على الإيمان به.

حقيقة اللوح والقلم

حقيقة اللوح والقلم وأما تفاصيل ماهية اللوح والقلم فإن هذا لم تفصله النصوص، وإنما الذي جاء في النصوص: (أول ما خلق الله القلم. فقال له: اكتب. قال: ماذا أكتب. قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة)، كما في حديث عبادة في سنن أبي داود وغيره. وقد اشتغل طوائف من أهل الكلام والصوفية بتفاصيل ماهية اللوح والقلم كما في كلام أبي حامد الغزالي، فإنه تارة يأتي بكلام يأخذه عن المتكلمين الذين أخذوا عن الفلاسفة في هذه المسائل، وهو أنواع من التأويل والتحريف، وتارة يتكلم بطريقة الصوفية، ومعلوم أن أبا حامد الغزالي رحمه الله ليس له حال واحدة. ويخطئ من يخطئ فيقول: إنه رجع إلى مذهب معين، فإنه وإن كان له حال من الفضل في آخر عمره والإقبال على القرآن وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن أبا حامد له حال مستطيلة في معرفته ودراسته ونظره، فـ أبو حامد هو من أخص من قرر نزعة فلسفية لم تظهر إلا في القرن الرابع وما بعده، وهي: أن المذهب الشخصي ليس واحداً. ولهذا قال الغزالي في كتبه المتأخرة: (فإن قيل ما المذهب؟ قال: المذهب ليس واحداً، فأما الجدل فهو على طريقة المتكلمين، وأما مذهب العامة فهو بالزواجر والدواعي، وأما المذهب السر بين العبد وبين ربه فهو طريقة الصوفية)؛ ولهذا نجد كتب أبي حامد بعضها على طريقة المتكلمين كـ (الاقتصاد) مثلاً وكـ (قواعد العقائد) وغيرها، وهذه يجعلها للمجادلة والمناظرة والمنافحة، وكذلك (تهافت الفلاسفة)، فإنه كتبه على الطريقة الكلامية، ولهذا لما كتبه قال: (ونحن نحتج في هذا المقام على الفلاسفة بقول أصحابنا وقول المعتزلة لدفع صول هؤلاء على الإسلام). وهذه هي طريقة المتأخرين من الأشاعرة كـ أبي المعالي وأمثاله، ومعلوم أن أبا حامد ممن أخذ عن أبي المعالي وكان من أصحابه، وأما الحالة المختصة عند أبي حامد الغزالي، فهي الحالة الصوفية، وعليها كتب كتبه الأخرى كـ (كيمياء السعادة)، و (جواهر القرآن)، و (مشكاة الأنوار)، وأمثالها من الكتب التي غلا فيها، وقال فيها أقوالاً بالغةً في الخطأ والضلال، وإن كان طرفاً من هذه الكتب ولا سيما كتاب (المضنون به على غير أهله) يُتكلَّم في صحته عن أبي حامد، لكن مما هو متحقق أن طرفاً من هذه المقالات معروفة لـ أبي حامد وقد قررها في أكثر من كتاب، وهي طرق شديدة في الغلط والمبالغة في التصوف على طريقة متفلسفة الصوفية. وأما كتاب (إحياء علوم الدين) فهو من أجود كتب أبي حامد التي كتبها في هذا الباب؛ ولهذا قال شيخ الإسلام: (وأما الإحياء فغالبه جيد، لكن فيه ثلاث مواد فاسدة: مادة من ترهات الصوفية، ومادة فلسفية، ومادة من الأحاديث الموضوعة). والغزالي وإن كفَّر الفلاسفة في كتبه المتأخرة ولا سيما في (التهافت) إلا أنه قد تأثر بهم كثيراً، فعندما تكلَّم في مقامات العارفين تكلَّم فيها بنفس أحرف ابن سينا في (الإشارات والتنبيهات)، فهو متأثر تأثراً بالغاً بكلام ابن سينا وأصول الفلاسفة الإشراقية، وإن كان بعيداً عنهم في المسائل العقلانية النظرية كمسألة قدم العالم ومسألة العلم بالجزئيات إلى غيرها، مع أن أبا الوليد ابن رشد لما رد على أبي حامد قال: (إنك في كتبك لما ذكرت درجات المحسوبين ذكرت أن من أشرف الدرجات من جعل الوجود وجوداً مطلقاً، وأن واجب الوجود ليس داخل العالم ولا خارجه .. إلخ، قال: وهذا هو مذهب أرسطو وقد امتدحته في بعض كتبك). والحق: أن أبا حامد لم يمتدحه امتداحاً مطلقاً، ولكنه متأثر بهذه الأصول، فحاله منغلقة، وقد ذكر عن نفسه في كتابه (المنقذ من الضلال) أنه ظل متحيراً زماناً، وأن حيرته زالت بنور قذفه الله في قلبه، فله أحوال مختلطة كثيرة، مع أنه كان عظيم العبادة والصدق والإيمان، عظيم العلم بالفقه وأصوله، وله مقامات حسنة في الإسلام.

عجز البشر عن تغيير ما في القدر

عجز البشر عن تغيير ما في القدر قال المصنف رحمه الله: (فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جفَّ القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة). وهذا كلام جيد، وهو في الجملة وصية الرسول عليه الصلاة والسلام لـ ابن عباس رضي الله عنهما الثابتة في المسند والسنن في قوله: (احفظ الله يحفظك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف). قال: (وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه)، أي: فإن كل شيء بقدر الله سبحانه وتعالى. قال المصنف رحمه الله: [وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً، ليس فيه ناقض، ولا معقب، ولا مزيل، ولا مغير، ولا ناقص، ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38]، فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً]. أي: أن الله عز وجل علم ما سيكون، وهذا عام في أفعال العباد وغير أفعال العباد، وتقدم أن إنكار هذه الجملة كفر وإلحاد مبين. ومما ينبه إليه أن الشارح رحمه الله في كلامه عن بعض مسائل التكفير أراد أن يبيِّن أن السلف قد يقولون عن قول: إنه كفر ولا يلتزمون تكفير القائل إلا إذا علموا أن الحجة قد قامت عليه بعينه، وهذا المعنى من حيث الجملة حسن وصحيح، لكنه ضرب أمثلة في مقالات السلف، قال: (كقولهم: إن القول بخلق القرآن كفر، وإن إنكار الرؤية كفر، وإن إنكار علم الله بما سيكون كفر)، ولا شك أن هذه الأمثلة الثلاثة ليست حسنة على هذا الحال من الاجتماع. فأما القول بخلق القرآن فهو كذلك، فهو وإن كان كفراً إلا أن قائله لا يُكفَّر ابتداءً، وكذلك من أنكر الرؤية فإنه لا يكفر ابتداءً، وأما من أنكر علم الله بما سيكون، وقال: إنه لا يعلم الأشياء سواء كانت أفعال العباد أو غير أفعال العباد إلا بعد كونها، فهذا لا يُنظر فيه، ولا شك أنه كافر، بل كفره أعظم من كفر أبي جهل. وقوله: (فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً .. إلخ). فإن القدر كما قال ابن عباس رضي الله عنهما وهذا مما صح عنه: (القدر نظام التوحيد) فالقدر من أخص أصول الإيمان بالله سبحانه وتعالى كما ذكر ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في جوابه. وقدره سبحانه متعلق بخلقه ومتعلق بأمره، كما قال سبحانه {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]. وأول من خاصم ربه في القدر هو إبليس فإنه قال: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] فجعل ما حصل من القدر في حقه مخاصمة له سبحانه وتعالى.

شرح العقيدة الطحاوية [15]

شرح العقيدة الطحاوية [15] العرش والكرسي ثابتان بإجماع أهل السنة والجماعة، وقد تواتر ذكر العرش في الكتاب والسنة، وذكر الله في مواضع كثيرة من كتابه أنه استوى على العرش، والكرسي مذكور في الكتاب والسنة، وهو موضع القدمين، كما قال ابن عباس رضي الله عنه، وكعادة أهل البدع في تأويل صفات الله تعالى، فقد أولوا العرش والكرسي يما يتفق مع عقولهم القاصرة الجاهلة بما يليق بالله سبحانه وتعالى وما لا يليق به.

الإيمان بالعرش والكرسي

الإيمان بالعرش والكرسي قال المصنف رحمه الله: [والعرش والكرسي حق، وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه]. العرش والكرسي ثابتان بإجماع أهل السنة، وإن كان بعض الطوائف يتأولون ذلك، وقد تواتر ذكر العرش في الكتاب والسنة، وذكر الله في سبعة مواضع من كتابه أنه استوى على العرش، فقال سبحانه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فأهل السنة والجماعة يثبتون استواءه سبحانه وتعالى استواءً يليق بجلاله، وأن العرش هو أعلى المخلوقات وهو سقفها.

أقوال المتكلمين في العرش

أقوال المتكلمين في العرش قال طائفة من أهل الكلام: العرش هو الملك، وهذا غلط من جهة اللسان وغلط من جهة أدلة الشريعة نفسها؛ فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]، ولو كان المراد بالعرش الملك لما صح هذا، وكذلك قال سبحانه: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17] فلو كان هو الملك لما صح هذا السياق؛ مما يدل على أنه حقيقة ماهيته مخلوقة، وهو أعظم مخلوقاته سبحانه وتعالى. وقال طائفة من المتكلمين: إنه مستدير؛ لأنهم جعلوه فلكاً، وقد انعقد الإجماع على أن سائر الأفلاك مستديرة، وإنما النظر في كون العرش فلكاً، فظاهر كلام أهل السنة المتأخرين - وإن كان متقدموهم لم يفصحوا بتفصيل في ذلك - أن العرش هو كالقبة فوق العالم، وأنه ليس مستديراً من كل جهة.

معنى الكرسي

معنى الكرسي وقوله: (الكرسي حق): هو المذكور في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] وأجود ما جاء في تفسيره قول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (الكرسي موضع القدمين لله سبحانه وتعالى)، وهذا الجواب المأثور عن ابن عباس هو الذي عليه عامة أهل السنة والحديث؛ فإنهم يذكرون في تفسير الكرسي ما نقل عن ابن عباس وأصحابه، وهو المأثور عن جمهور السلف. وقوله: (محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه). أي: أنه سبحانه وتعالى محيط بكل شيء، وأنه فوق كل شيء كما جاء صريحاً في كتاب الله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]، وفي قوله سبحانه: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] وقد ذكر سبحانه استواءه على عرشه، ومن معاني استوائه: علوُّه عليه، فإذا كان عليَّاً على عرشه فإن غير العرش من المخلوقات من باب أولى.

أول المخلوقات

أول المخلوقات والعرش سابق في الخلق للقلم، وأما حديث عبادة رضي الله عنه: (أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب)، فإن المراد به: إنه عند أول خلقه أُمر بالكتابة وليس المقصود أن القلم هو أول المخلوقات، كقولك: أول ما دخل زيد قيل له: اجلس. أي: أنه عند أول دخوله أُمر بالجلوس. وإن كان بعض المعاصرين من أهل العلم يرجحون أن القلم هو أول المخلوقات على الإطلاق، وهو قول طائفة من أصحاب الأئمة من أهل السنة المتأخرين؛ لكن جماهير السلف وعامتهم على أن العرش متقدم عليه، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: والناس مختلفون في القلم الذي ... سبق القضاء به من الديَّان هل كان قبل العرش أو هو بعده ... قولان عند أبي العلا الهمداني والحق أن العرش قبل لأنه ... قبل الكتابة كان ذا أركان ثم أراد أن يبين معنى حديث عبادة فقال: وكتابة القلم الشريف تعاقب ... إيجاده من غير فصل زمان أي: أنه عند أول خلقه أمر بالكتابة.

شرح العقيدة الطحاوية [16]

شرح العقيدة الطحاوية [16] من صفات الله تعالى: صفة المحبة، وصفة الكلام، فقد ذكر الله تعالى في كتابه أنه اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم موسى تكليماً، وعلى هذا أجمع سلف الأمة، وقد أنكر أهل البدع من الجهمية ذلك فقالوا: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، وهذا فرع عن إنكارهم لصفة المحبة والكلام.

إثبات خلة الله لإبراهيم وكلامه لموسى

إثبات خلة الله لإبراهيم وكلامه لموسى قال المصنف رحمه الله: [ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلَّم الله موسى تكليماً، إيماناً وتصديقاً وتسليماً]. هذا صريح في القرآن كما قال تعالى: {وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125] .. وقال: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وعلى هذا أجمع السلف، بل إن هذه المسألة هي من أول مسائل الجهمية مخالفةً للسلف، وكان الجعد بن درهم والجهم بن صفوان يقولون: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلِّم موسى تكليماً. وهذا فرع عن تعطيلهم لصفة الكلام وصفة المحبة.

معنى مقام الخلة لإبراهيم

معنى مقام الخلة لإبراهيم ومعنى كون إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليلاً: أي أن له من المحبة مقاماً مختصاً، وإلا فإنه سبحانه وتعالى يحب سائر عباده المؤمنين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، فإبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام كلاهما خليل لله سبحانه وتعالى. وأما قول من يقول بأن الخلة لا تكون إلا لواحد، فهذا من جهة القياس على المخلوقين، وهو قياس فاسد، وأما قوله: إن العرب لا تعرف الخلة إلا لواحد فلا يكون للشخص إلا خليلٌ واحد، فإذا تعدد لم تسم خلة؛ فهذا كلام لا معنى له، فإنه إذا استقام ذلك في كلام العرب فإنما هو مبنيٌ على أحوال بني آدم، وإلا فإن نصوص القرآن صريحة في أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، والسنة الثابتة المحكمة صريحة ذكرت أن الله اتخذ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً.

أفضلية نبينا وإبراهيم عليهما السلام على غيرهما من الرسل

أفضلية نبينا وإبراهيم عليهما السلام على غيرهما من الرسل ومحمد وإبراهيم هما أفضل أنبياء الله ورسله بإجماع سلف الأمة، وأفضلهما هو نبينا محمد ثم إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، ولم يذكر نبياً على سبيل التعظيم والاختصاص بعد محمد صلى الله عليه وسلم كما ذكر إبراهيم، فإنه سبحانه ذكر له من مقامات التوحيد والإخلاص والإيمان عظيماً، ولهذا لما عرج بالنبي عليه الصلاة والسلام رأى إبراهيم في السماء السابعة، وهذا دليل على عظم منزلته عليه الصلاة والسلام عند الله، وقد جاء في الصحيح من حديث أبي موسى قال عليه الصلاة والسلام: (ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم)، فكان عليه الصلاة والسلام مقتدياً بإبراهيم معظِّماً له، فصلى الله وسلم عليه وعلى سائر أنبيائه ورسله.

الإيمان بالملائكة والكتب والنبيين

الإيمان بالملائكة والكتب والنبيين قال المصنف رحمه الله: [ونؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم على الحق المبين]. هذه المسائل تسمَّى في كلام كثير من المتأخرين بالسمعيات، أو الأصول السمعية، وهذه التسمية ليست معروفةً في كلام السلف، وإنما أحدثها طائفة من أصحاب الأئمة واستعملها أيضاً طوائف من المتكلمين، وإن كان الجزم بأن أول من استعملها هم علماء الكلام قد لا يكون جزماً بيِّناً، وهذه التسمية ليس فيها إشكال، لكن المتكلمين يذكرونها ويريدون بذلك أنها مسائل مقصورة على النقل، بينما يجعلون مسائل المعرفة الإلهية -كسائر الصفات والأفعال- مسائل معروفة بالعقل، ومن استعمل هذه التسمية من أهل السنة فإنهم يقولون عن غيرها بأنها مسائل سمعية أيضاً أو على أقل تقدير يرون أن غيرها من المسائل تثبت بالسمع وبالعقل، فإن أصولها وبعض أعيانها تثبت بالعقل كالصفات مثلاً. وعليه: فتخصيص مسائل اليوم الآخر، وأمثالها بأنها هي السمعيات فقط ليس مناسباً، بل سائر أصول الدين مسائل سمعية، وإن كان منها ما يعلم بالعقل إما إجمالاً وإما تفصيلاً، فهذا التخصيص ليس له ذاك المعنى الحسن، وإن كان لا يلزم أنه غلط على كل تقدير، بل قد يفسر بمراد صحيح. قوله: (ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين) أي: الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ونحن نؤمن بالملائكة والأنبياء إيماناً مجملاً وإيماناً مفصلاً: أما الإيمان المجمل فهو الإيمان المطلق بسائر أنبياء الله ورسله وملائكته، وأما الإيمان المفصل فبحسب من سمِّي منهم وذكر، فنؤمن بجبريل وميكائيل وإسرافيل، ونؤمن بمحمد وموسى وعيسى ونوح ولوط .. وغيرهم حسب التفصيل المذكور في كتاب الله وفي سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من أحوالهم.

شرح العقيدة الطحاوية [17]

شرح العقيدة الطحاوية [17] أجمع أهل السنة والجماعة -ووافقهم جمهور الطوائف- على أن الأصل في أهل الإسلام أن يسموا مسلمين، وإن ارتكب بعضهم كبائر الذنوب فإنه يسمى مسلماً، ولم يخالف في ذلك إلا الخوارج والمعتزلة. ويعتقد أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

أسماء أهل الكبائر عند أهل السنة

أسماء أهل الكبائر عند أهل السنة قال المصنف رحمه الله: [ونسمِّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين]. ذكر المصنف مسألة الأسماء، ونعني بها اسم أهل الكبائر والمخالفين من أهل الظلم والفسوق والعصيان والمخالفين للسنة والشريعة، هل يسمون مؤمنين أو مسلمين، أو كفاراً، أو فاسقين؟ والأحكام: أي حكم هؤلاء في الآخرة. فابتدأ المصنف بمسألة الأسماء، فقال: (ونسمِّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين)، ثم يذكر بعد ذلك الإيمان، فيقول: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان)، ثم يذكر بعد ذلك حكم أهل الكبائر في الآخرة، وهذا لا إشكال فيه، لكن كان الأصل في الترتيب أن يبدأ بمسألة الإيمان، ثم مسألة الأسماء والأحكام لأنها نتيجة لها. وقوله: (ونسمِّي أهل قبلتنا) مراده بأهل القبلة أهل الإسلام، وهم من يستقبل القبلة ويصلي إليها. وقوله: (مسلمين مؤمنين)، شرط لهذه التسمية أن يتحقق عندهم أصل الإيمان، ولهذا قال: (ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدِّقين). وهذه جملة مجملة، وتُفسَّر بأن أبا جعفر رحمه الله يقصد أنهم محققون لأصل الإيمان، ومن حقق أصل الإيمان فإنه يستحق عنده هذه التسمية، مع أنه قد يكون في هذا التفسير بعض التردد؛ لأن من المعلوم أن أبا جعفر وأمثاله لا يكفِّرون بالعمل المأمور به على الأعيان كمسألة الصلاة، بل لهم قول حتى في جنس العمل الظاهر كما سيأتي تفصيله. لكن إذا فسر مراده بقوله: (ما داموا) أي: محققين لأصل الإيمان، فهذا معنىً مناسب، ثم يرجع إلى تسميته، وهو قوله: (ونسمِّي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين) فإنه إذا كان كذلك، فإن هذه التسمية عنده تكون مستحقةً لكل مسلم، سواء كان براً أو فاجراً، وسواء كان من الظالمين لأنفسهم أم من المقتصدين أم من السابقين بالخيرات، ومعنى هذا أن أهل الكبائر عنده يُسمون مسلمين ويُسمون مؤمنين. أما أن سائر أهل الإسلام سواء كانوا أبراراً أو فجاراً، من أهل الكبائر أو غيرها، يُسمون مسلمين، فهذا بالإجماع، ولم يخالف فيه أحد إلا الخوارج والمعتزلة. وأما جمهور طوائف الأمة -فضلاً عن إجماع أهل السنة والجماعة المحكم- فهم على أن الأصل في أهل الإسلام أن يسموا مسلمين، وكل واحد بعينه مهما كانت كبائره فإنه يسمى مسلماً، فاسم الإسلام لا إشكال فيه بوجه، ولا يُنازع في إطلاقه على أهل الكبائر بأعيانهم إلا متأثر بالخوارج. فقول من يقول: نقول عنهم مسلمين على الإطلاق لكن لا نسمي أعيانهم مسلمين، فهذا من أثر الخوارج. وإذا قلنا: إنهم يُسمون مسلمين بالأعيان فلا يعني هذا أنه لا يصح فيهم إلا هذا الاسم. وأما قول أبي جعفر: (مؤمنين) فإن هذا فرع عن رأيه في مسمى الإيمان؛ فإنه لما كان العمل عنده ليس داخلاً في مسمى الإيمان، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، صار أهل الكبائر الذين يقصرون في العمل مؤمنين عنده بناءً على أصله. ولهذا نقول: هذه النتيجة -وهي قوله: (مؤمنين) - مناسبة لقوله في مسمى الإيمان. وإذا قلت على طريقة السلف: إن الإيمان قول وعمل، فإن اسم الإيمان لا يكون مقامه في أهل الكبائر كمقام اسم الإسلام، وهذا ليس معناه أن أهل الكبائر لا يسمون مؤمنين بحال، وإنما معناه أنه لا يطلق عليهم هذا الاسم في سائر الموارد، وهذه مسألة وقع فيها تنازع بين أهل السنة -وإن كان أصلها مجمعاً عليه بينهم-: هل يسمى أهل الكبائر مؤمنين أو لا يسمون؟ - فمنهم من قال: إنهم يسمون مسلمين ومؤمنين. - ومنهم من قال: إنهم يسمون مؤمنين على الإطلاق دون التعيين. وهذه أقوال يذكرها بعض أهل السنة والجماعة من أصحاب الأئمة. والذي تدل عليه آثار السلف وجواباتهم في هذه المسألة، بل الذي دل عليه القرآن والسنة، أن اسم الإيمان في حق أهل الكبائر تارة يذكر مطلقاً بدون قيد، وتارة يذكر مقيداً، وتارة لا يذكر. وإذا كان لا يذكر فإما أن يكون منتقلاً عنه وإما أن يكون منفياً.

إطلاق اسم الإيمان على أهل الكبائر وأحواله

إطلاق اسم الإيمان على أهل الكبائر وأحواله وعليه فيكون لإطلاق الإيمان في حق أهل الكبائر أربعة أحوال: الحال الأولى: أن يذكر مطلقاً، أي: بدون قيد، وهو المذكور في مثل قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] في الكفارة، فإن قوله: (مؤمنة) يدخل فيه الفاسق، بمعنى أنه لو أعتق فاسقاً فإن عتقه صحيح بالإجماع، وهو المذكور في مثل قوله صلى الله عليه وسلم للجارية في حديث معاوية بن الحكم: (أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة). الحال الثانية: ألا يذكر مطلقاً بل يذكر مقيداً، كما إذا سئل عن حكم الفاسق واسمه وقدره من الإيمان، فإنه يقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فيسمى مؤمناً بالتقييد. الحال الثالثة: ألا يذكر على الإطلاق، إما انتقالاً إلى غيره أونفياً له عنه، فانتقاله إلى غيره هو المذكور في حديث سعد رضي الله عنه، في الصحيحين قال: (قسم النبي صلى الله عليه وسلم قسماً، فقلت: يا رسول الله، أعط فلاناً فإنه مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم)، فانتقل النبي صلى الله عليه وسلم بحق هذا الرجل إلى اسم الإسلام، فهذا انتقال عن اسم الإيمان إلى اسم الإسلام، مع أن الرجل لا شك أنه ممن يؤمن بالله ورسوله، ولا شك أنه ممن يؤمن بأن الله في السماء وأن محمداً رسول الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجارية: إنها مؤمنة، لما أخبرت بهذين الأمرين، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يقر سعداً لما قال هذا عن الرجل، قيل: لأن المقام والحال مختلف، فـ سعد إنما ذكر ذلك على جهة المدح والثناء، وإذا قصد مقام المدح والثناء فإنه لا يسمى بالإيمان إلا من استفاض هذا الأمر فيه، وإنما يستعمل في الإطلاق وبين عامة المسلمين اسم الإسلام. وأما في حديث معاوية وفي قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] فإن المقام مقام عتق، وفي مقام الأحكام الدنيوية كالعتق والمواريث وغيرها فإن الفساق يسمون مؤمنين. فإذا قيل: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] فلو كان فاسقاً؟ قيل: الفاسق مؤمن في هذا المقام؛ لأن معه أصل الإيمان، وقد ينفى الإيمان عن شخص في مقام، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فحال الزنا لا يسمى مؤمناً، بل يسمى زانياً، أو يسمى فاسقاً، مع أنه في مقام العتق لو أعتق الزاني فإنه يقال: أعتق مؤمناً. فاسم الإيمان لا يقع على وجه واحد، ولهذا في الأحكام الدنيوية والمخاطبة بالشريعة فإن سائر أهل القبلة من العصاة والفساق وغيرهم يدخلون في اسم الإيمان، ولهذا جاءت في القرآن خطابات كثيرة: (يا أيها الذين آمنوا)، ولا شك أنه يُخاطب بها سائر أهل الإسلام، حتى الفاسق منهم فإنه داخل في هذا، وكذلك يسوغ للخطيب في الجمعة أن يقول: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، ولو كان من بين يديه من هو من أهل الفسق. ففي مقامات المخاطبة بأحكام الشريعة وفي مقامات أحكام الدنيا كالعتق والمواريث ونحوها فإنهم يسمون مؤمنين، ويدخلون في هذا الاسم، وعليه فأهل الكبائر المجاهرون بها والمظهرون لها يُسمون فساقاً، وهذا مجمع عليه بين السلف. فأصحاب الكبائر تارة يسمون مؤمنين، وتارة مسلمين، وتارة فساقاً. فإن قيل: ما الأصل في أهل الكبائر؟ هل هم فساق أم مؤمنون أم مسلمون؟ يقال: إن الأصل فيهم أنهم مسلمون، فلا يكون الاسم المطلق لهم في سائر الأحوال والموارد هو الفسق فإن هذا شبهٌ بالمعتزلة، وكونه شبهاً بالمعتزلة ليس من جهة كون مرتكب الكبيرة لا يسمى فاسقاً، فإنه يسمى فاسقاً بإجماع السلف وبصريح الكتاب والسنة، ولكن لا يلتزم معه هذا الاسم في سائر الموارد، بل يكون هذا الاسم مناسباً لبعض أحواله، كما أن اسم الإيمان قد يناسب بعض أحواله، ويكون الاسم المطلق له هو اسم الإسلام فإنه الأصل فيه. ومعلوم أن حسنة التوحيد والإيمان الذي عنده، أعظم مما معه من الكبائر، فهي أولى بالاختصاص به. هذا هو محصل قول أهل السنة والجماعة في مسألة الأسماء.

قول الخوارج والمعتزلة في أهل الكبائر

قول الخوارج والمعتزلة في أهل الكبائر جمهور الخوارج يقولون: إن أهل الكبائر كفار كفر ملة، وقال عبد الله بن إباض وأصحابه الأباضية: إنهم كفار كفر نعمة، ويقول: إنهم مخلدون في النار. وهذا تناقض، فإنهم إن كانوا مخلدين في النار لزم أن يكونوا كفاراً كفر ملة. وقالت المعتزلة: إنهم ليسوا كفاراً وليسوا مؤمنين أو مسلمين، بل هم فساق، ويريدون بالفسق هنا الفسق المطلق الذي لا يصاحبه من الإيمان شيء، وعن هذا قيل: إن من التزم في أهل الكبائر اسم الفسق في سائر الموارد ففيه شبه بالمعتزلة، والمراد بذلك من نفي اسم الإسلام أو اسم الإيمان في بعض موارده عنهم، فإنهم {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:102] .. {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة:106].

قول المرجئة في أهل الكبائر

قول المرجئة في أهل الكبائر والمرجئة تقول: إنهم مؤمنون، وجمهور المرجئة مع قولهم بأنهم مؤمنون يقولون: إنهم مؤمنون بإيمانهم فاسقون بكبائرهم، وهذه الجملة وإن كانت صحيحة إلا أنها لا تميز مذهب السلف عن مذهب أكثر المرجئة، فالأشعرية في كتبهم يقولون: إن مرتكب الكبيرة مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ويكون التحصيل للتمييز هو في الجملة الأخرى التي يستعملها من يستعملها من أهل السنة والجماعة، وهي قولهم: إنه مؤمن ناقص الإيمان، فجملة النقص في إيمانه هي المحصلة للتمييز بين قول السلف وقول جماهير المرجئة، وإلا فالقول بأنه مؤمن مع فسقه يقر به جماهير المرجئة.

النهي عن الكلام في الله بغير علم

النهي عن الكلام في الله بغير علم قال المصنف رحمه الله: [ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله، ولا نجادل في القرآن]. قوله: (ولا نخوض في الله) أي: لا نخوض في ذلك جهلاً، والجهل خلاف العلم، أي: فيما لم يعلم من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فالخوض إنما يطلق على القول بغير علم، وإما إذا تكلم الإنسان بعلم فإن كلامه لا يسمى خوضاً، إلا إذا كان في السياق تقييد، وأما إذا ذكر الخوض مطلقاً فإنه نوع من الذم لحال المتكلم أو حال القائل. ولهذا قال أبو جعفر: (ولا نخوض في الله) أي: لا نتكلم في هذا الباب بجهل، كالكلام في كيفية ذاته، أو في كيفية صفاته، وهي التي قال فيها مالك وأمثاله: الكيف مجهول، وقال بعض السلف كـ الزهري ومكحول: أمروها كما جاءت، وقال الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والثوري: أمروها كما جاءت بلا كيف، فهذا من ترك الخوض في الله، أي: فيما لم نعلمه، بل فيما لا يمكن أن نعلمه، فإنه سبحانه وتعالى لا يُحاط به علماً.

النهي عن المماراة والجدال

النهي عن المماراة والجدال وقوله: (ولا نماري في دين الله) اتفق أهل الإسلام على أن المماراة في الدين مما أُنكر في حكم الله سبحانه وتعالى وشرعه، ولكن مع هذا فإنه يقع بين أهل الإسلام إما في المقولات: سواء في الاعتقاد، أو في بعض مسائل الفقه والفروع، أو في بعض أحوالهم المتعلقة بأحوال الدعوة وغيرها، فتقع أنواع كثيرة من المراء في دين الله. وينبغي لكل طالب علم أو يتفقه في الدين، ومن معاني الفقه في الدين أن يكون على علم بالحكمة الشرعية التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا سمى الله ما آتى نبيه حكمة، فقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] قال بعض السلف: هي النبوة، وقال بعضهم: إنها السنة، وقيل: المعنيان صحيحان، فإن سنته مبنية على الحكمة، ومن أخص أوجه الحكمة فيها أنه لا يصح أن تكون هذه السنة سبباً للتفريق بين من صحت أصولهم واستقامت عقائدهم، فيفترقون لموجب من المقالات اليسيرة، وقد كان شيخ الإسلام رحمه الله مع أنه من أفقه الناس في هذا الباب من الأصول، يقول: (وإنه لما اختلفت الأشعرية والحنبلية كنت من أعظم الناس تأليفاً، قصداً لجمع قلوب المسلمين، وأن تفريقهم إنما يحصل به قوة لعدوهم)، هذا مع أنه كان يتكلم عن قوم يراهم من أهل البدع، ولا يرى أنهم من أصحاب السنة القائمين بها المحققين لها، ولما تكلم عن الأشعرية في بعض كتبه -مع أنه ذكر رداً واسعاً عليهم وألحق كثيراً من مقالاتهم بأصول الجهمية- قال: (ومع هذا كله فإذا كان الأشعرية في بلد ليس فيه إلا معتزلة، فهم القائمون بالسنة في هذا البلد). ولما تكلم عن المعتزلة ذكر أن أقوالهم كفر بإجماع السلف، ثم قال: (ومع هذا فإنهم يحمدون بما يدعون إلى الإسلام على مذهبهم، فإن من أسلم على طريقة المعتزلة خير ممن بقي على الكفر والشرك بالله سبحانه وتعالى). فهذه أمور من الفقه لا بد لطالب العلم أن يفقهها، وإذا كانت هذه المسألة التي بين يديك وعنها حصل النزاع والافتراق، واجبة في شرع الله سبحانه وتعالى، فإنه لا شك أن الاعتصام بحبل الله سبحانه وتعالى والاجتماع عليه أوجب منها في شرع الله سبحانه وتعالى، وهو المذكور في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. ولهذا كان من فقه شيخ الإسلام أن قال: وهذه المسألة -وذكر مسألة من المسائل- إنما تركت القول فيها مع إحكامه، لما استلزم القول فيها طرفاً من التفريق بين المسلمين، قال: وأوجب منها الاعتصام بحبل الله والاجتماع عليه، فتركنا ما كان دونه في الوجوب لما هو أوجب.

ضرورة معاملة الخطأ بقدره وعدم التجاوز

ضرورة معاملة الخطأ بقدره وعدم التجاوز فالفقه مطلوب لهذه المسائل؛ لأننا نجد نزاعاً، لا نقول بين أهل السنة وأهل البدع، فهذا شأن وسنة مضى عليها السلف، وهي سنة فاضلة شرعية- وإنما المقصود أننا نرى كثيراً من الاختلاف بين أهل السنة أنفسهم، وكثير من هذا الاختلاف لا يكون من باب اختلاف الأقوال، فإن اختلاف الأقوال حاصل، ولكن المشكلة هي اختلاف القلوب، ومن اختلاف القلوب الفرح بغلط من يغلط، فإذا غلط غالط تجد من التتبع لهذا الغلط والاستطالة والاستفاضة فيه شيئاً غريباً مع أن الخطأ إذا وجد من بعض العارفين ومن لهم مقام في السنة والجماعة والعلم والديانة فإنه ينبغي الترفق فيه، وأن يبين على قدر من الحكمة. ولا شك أن مثل هذا الذي يقع من الاستطالة هو في كثير من الأحوال فرع عن قلة الفقه، فإن من صريح الفقه عند علماء الإسلام أن الإنكار للخطأ من فروض الكفايات، فإذا تحقق الإنكار وزال الخطأ، فإن الازدياد من الإنكار لا يكون محكماً. ونجد أنه يستفاض في إنكار خطأ غاية إنكاره أن يكون من فروض الكفايات، مع أن ثمة فروضاً من الأعيان وفروضاً من الكفايات ما قام بها قائم، وبقيت معطلة، ومع ذلك لا يتحرك المتحرك إليها، وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله: وكثير من النفوس عند مقام الرد فيها قدر من القوة والعلو، أي: يحصل عندها نوع من الزيادة، لأن الزيادة أحياناً لا يملكها هو. وهذا الباب من أهم الأبواب التي ينبغي أن يتفقه فيها طلاب العلم خاصة والناس عامة، وقد كان علماء السلف رضي الله تعالى عنهم أصدق الأمة قلوباً وأكثرها ائتلافاً وبهم تجتمع الأمة، وأما أن يكون العلم موجباً للتفريق واختلاف القلوب وتنافر النفوس، فلا شك أن هذا من خلق أهل الكتاب دخل على قوم من هذه الأمة، وهذا هو الذي أفسد ملتهم وشغلهم عن عبادات ربهم. وقد تجد بعض طلاب العلم قد يشتغلون بأمور يصرفون فيها الأوقات الكثيرة، وليست هي من أصول التوحيد، فإن أعظم غلط تقع فيه الأمة اليوم هو الغلط في توحيد العبادة، فإن الشرك والبدع المخالفة لتوحيد العبادة ما أكثرها في بلاد الإسلام، فأين القيام بهذه الأصول المحكمة؟ وكثير من المسلمين مقصرون في الصلاة، ومقصرون في أصول الواجبات، بل حتى العبادة المختصة بالمتكلم نفسه، فلأن يشتغل بمحكم العبادات كذكر الله والصلاة والصيام والطواف بالبيت وغير ذلك من الشرائع المحكمة، خير له من أن يشتغل بكلام قد تزين له نفسه أنه من الانتصار لدين الله، ولا شك أن الرد وبيان الحق سنة مضى عليها السلف، لكن السلف كانوا يفعلونها على قدر من العلم والفقه والورع؛ بل وقدر من العقل، فمقام الرد لا ينتصب له إلا عاقل عالم ورع، فمن تحققت فيه هذه الشروط الثلاثة فليكن كذلك، ومن كان كذلك لم يقع منه غلط غالباً، فمثلاً: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كان من أكثر الناس تعقباً للأغلاط، فلا يسمع بغلط أو بمنكر إلا ويكتب في هذا المنكر، ومع ذلك ما سبق أن عرف عنه رحمه الله شيء من الاستطالة، ولا حصل برده فتنة وأذية للناس. ومن فقه شيخ الإسلام رحمه الله أنه يقول في قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86] قال: (من صدق الإيمان أن يتمنى العبد ألا يكون فتنة لقوم ظالمين، فضلاً عن أن يكون فتنة لقوم مؤمنين)، ومن الفتنة أن يقول قولاً لا معنى له أو لا أهمية له أو لا لزوم له، فيشتغل به كثير من العامة الذين يغلب عليهم الاشتغال بذلك، كالمبتدئين في طلب العلم من الشباب الذي هو في أول درجاته، فيصرف الأوقات التي لو صرفها في حفظ كتاب الله أو في حفظ شيء من السنة أو في حفظ كتاب في التوحيد وأصول العلم لكان أهدى وأنفع.

عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن

عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن قال المصنف رحمه الله: [ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين]. قال: (ولا نجادل في القرآن)، الجدل في القرآن يكون في مدلوله أو في حروفه، والواجب هو الإيمان والتسليم بأنه كلام الله سبحانه وتعالى حروفه ومعانيه، وأن الله أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن فيه بيان كل شيء، وأن الحق معتبر به، إلى غير ذلك من المعاني والمقاصد المعروفة.

القرآن كلام الله غير مخلوق

القرآن كلام الله غير مخلوق قال رحمه الله: [نزل به الروح الأمين، فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين]. قوله: (ولا نقول بخلقه)، أي: كما قالت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الشيعة والخوارج الذين قالوا بخلق القرآن، وهذه بدعة أجمع السلف على بطلانها، وصريح الكتاب والسنة يرد هذه البدعة. والأشعري وابن كلاب وأصحابهم يقولون: إن القرآن ليس مخلوقاً، ويقولون: إنه كلام الله، ولكن مرادهم بذلك أنه عبارة عن كلام الله، وإلا فإن الكلام عند ابن كلاب والأشعري معنى واحد قائم في النفس، والمقصود من هذا أن ما يقع في كتب الأشاعرة من أن القرآن كلام الله مرادهم بذلك أنه عبارة أو حكاية عن كلام الله، وليس معنى هذا أنهم يجعلون الحرف والصوت المسموع من كلامه سبحانه وتعالى، بل هم لا يجعلون كلامه بحرف وصوت مسموع.

مسألة اللفظ بالقرآن هل هو مخلوق أم لا

مسألة اللفظ بالقرآن هل هو مخلوق أم لا وأما مسألة اللفظ بالقرآن، هل يقال: إنه مخلوق أو ليس مخلوقاً؟ فإن هذه جملة أحدثتها الجهمية وتكلمت بها، وكان من طريقة المحققين من أعيان السلف كالإمام أحمد رحمه الله النهى عن هذه الجملة مطلقاً، وكان يقول كما في رواية أبي طالب: (من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع)، وهذه الرواية وإن تكلم فيها بعض المتأخرين إلا أنها صواب وثابتة عن الإمام أحمد، وكان متقدمو الحنابلة الكبار يصححونها، وانتصر لها وصححها من متأخريهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وليس فيها ما هو منكر بل هي على قاعدة الأئمة في هذا الباب. ومراد الإمام أحمد رحمه الله أن الإطلاق إثباتاً أو نفياً كله غلط، فلا يقال: إن اللفظ مخلوق، ولا غير مخلوق، بل يقول: إن القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود، وإنه ليس مخلوقاً، ويقول: وإن أفعال العباد مخلوقة. وقال بعض أئمة السنة المتقدمين: إن اللفظ بالقرآن مخلوق، وأرادوا بذلك: اللفظ الذي هو فعل العبد، ومعلوم بالإجماع أن فعل العبد مخلوق، وقد تردد شيخ الإسلام في ثبوت ذلك عن البخاري، مع أنه في ظاهر كتابه (خلق أفعال العباد) كأنه على هذا القول. وقال بعضهم: إن اللفظ بالقرآن ليس مخلوقاً، وأرادوا: القرآن نفسه، فمراد محمد بن يحيى الذهلي بقوله: (إن اللفظ بالقرآن ليس مخلوقاً)، مراد صحيح. وهذه المسألة ليس لها كبير قدر، سواء صح ما نقل عن البخاري أو لم يصح، وقد قاله بعض المتقدمين، ومرادهم بذلك أن أفعال العباد مخلوقة. فهذا مراد وهذا مراد، فليس من الفقه أن يقال عمن قال: إن اللفظ بالقرآن مخلوق، إنه مبتدع ابتداعاً مطلقاً، وإنما يقال: القول بدعة، وكذلك الذهلي لما قال: اللفظ بالقرآن ليس مخلوقاً، لا يقال كذلك: إن الذهلي مبتدع، بل يقال: القول بدعة، وإن كان ابن القيم رحمه الله ذكر كلام الإمام أحمد والذهلي والبخاري، وقال: وأحسنه قول أبي عبد الله البخاري، وهذا ليس كذلك، بل أحسنه قول الإمام أحمد رحمه الله، وهو أن يترك هذا الباب ويعبر بالعبارات الشرعية المحكمة.

قول جماعة المسلمين أن القرآن كلام الله

قول جماعة المسلمين أن القرآن كلام الله وقوله: (ولا نخالف جماعة المسلمين) فإن المسلمين قد استقر عندهم أن هذا القرآن كلام الله، ولهذا حتى المعتزلة تقول: إنه كلام الله، ولكن تقول: إن كلامه مخلوق، ولا شك أن هذا من التناقض، فإنه إن كان كلاماً له فهو صفة من صفاته، وأما قياسه على قولهم: ناقة الله وأرض الله وسماء الله وعبد الله، من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فهذا لا شك أنه جهل باللغة وجهل حتى على قياس العقل، فإنك إن قلت: أرض الله فإن الأرض ليست صفة له، بل هي مفعول له، وكذلك العبد والناقة فإنها مفعولات، وأما إذا قلت: علمه وكلامه وسمعه؛ فإن هذا من باب الصفات، ولهذا فإن الإمام أحمد في مناظراته قال لأئمة الجهمية: القرآن من علم الله، فهل علمه مخلوق؟ أي: أن الكلام تبع للعلم، فإنك إن تكلمت بكلام فإنما تكلمت بهذا الكلام لأنك تعلم ما تكلمت به، فإن قلتم: إن كلامه مخلوق لزم أن علمه مخلوق، فأراد ابن كلاب أن يدفع هذا الوجه، فقال: إن الكلام معنى واحد قائم بالنفس! وهذا جمع بين النقيضين.

شرح العقيدة الطحاوية [18]

شرح العقيدة الطحاوية [18] من عقيدة أهل السنة والجماعة: أنهم لا يكفرون أحداً بذنب -غير الكفر والشرك وما ورد فيه الدليل- إلا أن يستحله، فإذا استحل العبد ذنباً فإنه يكفر بذلك، ولا يرون أنه لا يضر مع الإيمان ذنب، كما هي عقيدة غلاة المرجئة. ومن عقيدتهم: الرجاء للمحسنين، والخوف على المذنبين، وعدم الشهادة لأحد من أهل القبلة بجنة ولا بنار إلا من شهد له الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم بذلك.

حكم التكفير بالذنوب التي دون الكفر

حكم التكفير بالذنوب التي دون الكفر قال المصنف رحمه الله: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله]. هذه الجملة يستعملها بعض أصحاب السنة والجماعة، وهي جملة مجملة، يمكن أن تفسرها فيكون تفسيرك لها صحيحاً بأن تقول: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب) أي: أن أهل السنة والجماعة لا يكفرون بآحاد الكبائر، ولا بالكبائر، ومراده بالذنب هنا ما دون الكفر، فإن أهل السنة والجماعة لا يكفرون بالكبيرة إلا إن استحل العبد ذلك. لكن هذه الجملة ليست محكمة على التمام، فإن العبد قد يكفر بالذنب وهو غير مستحل له، ولهذا جاء في حديث عبد الله بن مسعود كما في الصحيحين قال: (قلت: يا رسول الله! أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو لله نداً وهو خلقك) فسماه ذنباً، فهذا الإطلاق ليس حسناً على كل حال، لكن يعبر به بعض أصحاب السنة والجماعة، وإذا عبروا به فسر مرادهم بأن المقصود بذلك الذنوب التي دون الكفر بالله.

معنى الاستحلال الذي يكفر به صاحب الذنب

معنى الاستحلال الذي يكفر به صاحب الذنب والمقصود بالاستحلال مقام من القول وليس مقاماً من الحال، فإذا أقام شخص على ذنب أو كبيرة من الكبائر مهما كانت إقامته عليها والتزامه لها لا يصح أن يقال: إنه مستحل، إلا إذا أظهر المعتقد وصرح بأنه أحل ما حرم الله سبحانه وتعالى أو العكس، فإنه يسمى مستحلاً، وأما الملازمة للكبيرة وعدم الاستجابة لنصح الناصحين؛ فإنه حتى لو نصحه من نصحه واستفاض النصيحة له ولم يستجب بل بقي مصراً على الكبيرة، ولا حجة له في البقاء على هذه الكبيرة، فإنه مع هذا كله لا يجوز أن يسمى مستحلاً.

قول المرجئة بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب

قول المرجئة بأنه لا يضر مع الإيمان ذنب قال المصنف رحمه الله: [ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله]. هذه الجملة تؤثر عن بعض المرجئة، وإن كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: (وهذه الجملة تحكى عن غلاة المرجئة، ولا أعلم أحداً من الأعيان المعروفين صح عنه القول بهذه الجملة)، ولكن الأشعري في (مقالاته) وأبو محمد ابن حزم في (الفِصل) نسبا هذه الجملة إلى مقاتل بن سليمان، إلا أن هذا لا يصح عنه، فـ شيخ الإسلام رحمه الله لم يكن خفياً عليه ما قاله الأشعري وابن حزم أنها قول لـ مقاتل بن سليمان، ولهذا قال في منهاج السنة النبوية: (وينسب هذا لـ مقاتل بن سليمان عند بعض أهل المقالات ولكنها لا تصح عنه)، فهذه جملة يقال: إنها تنسب لغلاة المرجئة ولا يصح عن معين أنه التزم هذا المذهب.

من أصول العبادة: الخوف والرجاء

من أصول العبادة: الخوف والرجاء قال المصنف رحمه الله: [ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم ولا نقنِّطهم]. هذا من مقامات العبادة وهو: مقام الرجاء ومقام الخوف، وعبادته سبحانه وتعالى عند أهل السنة معتبرة بثلاثة أصول: الأصل الأول: الاستحقاق، ومن أخص مقاماته المحبة، ومعنى هذا أن الله سبحانه وتعالى يُعبد ويُسأل ويُدعى ويُتقرب إليه استحقاقاً، أي: لكونه مستحقاً للعبادة، وهذا هو أشرف أصول العبادة. الأصل الثاني: الرجاء، وهو أصل واسع. الأصل الثالث: الخوف، وهو أصل واسع أيضاً، أي: واسع المتعلق، وعليه: فإن من يفسر الرجاء برجاء الجنة ويكون مدار كلامه إذا ذكر الرجاء على مدار الجنة وثواب الآخرة، فلا شك أن تفسيره يكون قاصراً، فإن من أخص مقامات الرجاء رجاء محبته سبحانه وتعالى، ورجاء رضاه سبحانه وتعالى، إلى غير ذلك، ومن مقامات الرجاء رجاء الجنة. وكذلك الخوف، فكما أن الخوف من النار من الخوف الشرعي الذي شرعه الله ورسوله، إلا أن من مقامات الخوف أيضاً الخوف من سخطه وغضبه سبحانه وتعالى. فيكون فقه هذين الأصلين: (الخوف والرجاء) لا يختص بالنعيم أو بالعذاب المادي، بل بما يتعلق بما بين العبد وبين ربه من محبته ورضاه أو سخطه وغضبه ومقته، والعبد كما أنه يرجو النعيم في الجنة فإنه قبل ذلك وأهم من ذلك يرجو محبة الله سبحانه وتعالى ورضاه، ولهذا قال سبحانه وتعالى لما ذكر النعيم: {وَرِضْوَانٌ مِنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة:72]، فالرضا أعظم من هذا النعيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى، وإن كان طلب النعيم والخوف من العذاب مشروعاً. ومن هدي أهل السنة أنهم يرجون للمحسنين أي: من استقاموا على الإيمان ظاهراً وباطناً، ويخافون على المسيئين وهم من حقق أصل الإيمان ولكنهم اقترفوا ما اقترفوا من الكبائر، فهؤلاء المسيئون يُخاف عليهم، ولكن لا يعطلون من مقام الرجاء، وأهل الإحسان وإن كان يُرجى لهم إلا أنهم لا يعطلون من مقام الخوف، ولكن الأصل في أهل الإحسان هو الرجاء، والأصل في أهل الإساءة هو الخوف، وأما أن يقصر أهل الإساءة على مقام الخوف وحده فلا، بل يُخاف عليهم ويرجى لهم، ولهذا لما ذكر الله سبحانه وتعالى العصاة قال: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:102].

حكم الشهادة لمعين بالجنة أو النار

حكم الشهادة لمعين بالجنة أو النار قد يذكر عند هذه الجمل أنه لا يشهد لمعين بجنة أو نار من أهل القبلة، والأمر كذلك، أما النار فلا يصح أن يُشهد لواحد من أهل القبلة بعذاب في النار، وأما الجنة فإنه يُشهد لمن شهد له الرسول عليه الصلاة والسلام بالجنة، وهم من عينهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، كالعشرة المبشرين بالجنة وغيرهم، وهذا هو الذي عليه عامة السلف. وقالت طائفة من المتقدمين: إن من استفاض ذكره وإمامته وديانته في الأمة شهد له بعينه بالجنة، وهذا قاله بعض المتقدمين من السلف، والجماهير على خلافه، ويحتج أصحاب هذا القول بما ثبت في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم: (لما مُرَّ بجنازة وأثني عليها خيراً فقال: وجبت وجبت وجبت، ثم مُرَّ بجنازة فأثني عليها شراً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وجبت وجبت وجبت، ثم قال: أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وأثنيتم عليه شراً فوجبت له النار). وهذا الحديث ليس فيه دلالة على أن من استفاض الثناء عليه بالخير أنه يعين بالجنة، فإن قوله: (وجبت له الجنة) حكم مطلق، لا يلزم منه العلم المختص الذي يتعلق بغير من أوحي إليه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون هذا من الموجبات، وأما أن يكون الموجب معيناً فلا، فإن من آمن وصلى وجبت له الجنة، ومع ذلك إذا علمته مؤمناً مصلياً لا يجوز لك أن تشهد له بالجنة، مع أن الصلاة موجب للجنة أعظم من إيجاب ثناء الناس، وثناء الناس بخير من موجبات الجنة، فإنه نوع من الشهادة بالعدل، ولكن هذا شيء مرده إلى الله سبحانه وتعالى. وعليه فالاستدلال بالحديث ليس جيداً، ولهذا فإن عامة السلف لا يرون ذلك، وهناك خلاف لفظي بين الإمام أحمد ويحيى بن معين، وقد كان يحيى بن معين يقول: أنا أقول عمن قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم إنه في الجنة كـ أبي بكر: إنه في الجنة، ولا أشهد بذلك، وكان الإمام أحمد يقول له: إنك إن قلت: إنه في الجنة فقد شهدت، فهذا خلاف لفظي، وكأنه تحرز عن كلمة الشهادة بلفظها.

التحذير من الأمن من مكر الله، واليأس من روح الله

التحذير من الأمن من مكر الله، واليأس من روح الله قال المصنف رحمه الله: [والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة]. الأمن: هو الأمن من مكر الله، والإياس: هو الإياس من روح الله، ومراده بما ينقل عن ملة الإسلام هو: الأمن المطلق، فمن أمن مكر الله مطلقاً فهو كافر، وكذلك من قنط أو يئس من رحمة الله مطلقاً فهو كافر، وأما التقصير في هذا المقام بأن يعرض للعبد قدرٌ من الأمن الذي لا يكون مستحكماً عنده، ولا يعطِّل عنده مقام الرجاء ومقام الخوف والتعلق بالله، فهذا من كبائر الذنوب، ويكون من أعمال القلوب المخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان من فقه ابن مسعود أن قال: (إن أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، واليأس من روح الله). وكما أن الشرك فيه ما هو أكبر وما هو دون ذلك، فإن الأمن والإياس كذلك، فمن أمن مكر الله مطلقاً فهو كافر ومن يئس من روح الله مطلقاً فهو كافر، ولكن من عرضت له أحوال في هذا المقام أو هذا المقام لا تنازع أصول الإيمان من كل وجه، فإن هذا شيء من أعمال القلوب القاصرة التي يوافي العبد بها ربه على أصل التوحيد والإيمان، وقد يكون بعضها من مقامات المعصية، وبعضها من مقامات الكبائر. وقوله: (وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة) أي: الوسط بين مقام الأمن ومقام اليأس هو الأخذ بمقام الخوف والمحبة والرجاء.

العمل لا يقع به الكفر عند مرجئة الفقهاء

العمل لا يقع به الكفر عند مرجئة الفقهاء قال المصنف رحمه الله: [ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه]. ظاهر كلام أبي جعفر أن الكفر لا يكون إلا بالجحود، وهذه كلمة مجملة في معنى الجحود المراد هنا، وهي متضمنة لكون العمل لا يقع به الكفر، وهذا بناءً على أصل المؤلف في مسمى الإيمان من أن الإيمان هو: الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وهذا أحد أقوال المرجئة، وإن كان هو أحسن أقوال المرجئة وأقربها إلى السنة والجماعة، وهو القول الذي قاله حماد بن أبي سليمان، وتبعه عليه أبو حنيفة وطائفة من أصحابه، وبعض من مال عن مذهب الأشعري وجمهور أصحابه من الأشاعرة، فإنهم مالوا إلى مثل هذا المذهب، وكذلك طوائف من الماتريدية الذين مالوا عن مذهب أبي منصور الماتريدي.

شرح العقيدة الطحاوية [19]

شرح العقيدة الطحاوية [19] مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن العمل أصل في الإيمان، فمن ترك العمل جملة وتفصيلاً فإنه يكفر، وقد خالفهم في ذلك بعض الطوائف كالخوارج والمعتزلة والمرجئة، وكل طائفة قد خالفت في أصل من أصول الإيمان، وهم على درجات في مخالفتهم لمذهب السلف في هذه المسألة.

مذهب السلف في الإيمان والفرق المخالفة فيه

مذهب السلف في الإيمان والفرق المخالفة فيه قال المصنف رحمه الله: [والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد أهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى].

قول أبي حنيفة في الإيمان

قول أبي حنيفة في الإيمان في مقدمة هذه الرسالة التي كتبها الإمام الطحاوي رحمه الله ذكر أنه يقرر معتقد أبي حنيفة وصاحبيه، ومعلوم أن أخص ما اختص به أبو حنيفة من هذه المسائل هي مسألة الإيمان، فإن الذي عليه الجماهير من أهل العلم والمقالات أن أبا حنيفة يقول بأن الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان، ومعنى هذا أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وهذا القول ليس عليه أئمة السنة والحديث، وليس مأثوراً عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، بل المأثور عن الصحابة، وعليه عامة أئمة السلف أن الإيمان قول وعمل، والنزاع في مسألة مسمى الإيمان هو أول نزاع حصل في هذه الأمة في مسائل أصول الدين، وأول من خالف في ذلك الخوارج، ثم تبعهم من تبعهم من المعتزلة في الجملة، وحدث ما يقابل بدعة الخوارج وهي بدعة المرجئة.

مذهب السلف في الإيمان

مذهب السلف في الإيمان قول السلف الذي حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة أن الإيمان قول وعمل، وألفاظ السلف في هذا المقام مختلفة، ولكن اختلافها من باب اختلاف الألفاظ، فالذي عبر به الجماهير من أئمة السنة والحديث هو أن الإيمان قول وعمل، وعبر طائفة منهم بأن الإيمان قول وعمل واعتقاد، وعبر طائفة منهم البخاري في صحيحه بأن الإيمان: (قول وفعل)، وعبر بعضهم بأن الإيمان: (قول وعمل ونية واتباع للسنة)، إلى أمثال ذلك من الجمل المأثورة عن بعض أعيان السلف. وهذه الجمل ليس بينها اختلاف عند التحقيق، بل هي جمل متفقة من حيث المعنى، وإن كان المأثور عن جماهير من السلف هو أجود التعبيرات، وهو قولهم: الإيمان قول وعمل، ومرادهم بالقول هنا: قول القلب وقول اللسان، ومرادهم بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، فأما قول اللسان فبين، وأما عمل الجوارح فبين، وهي الشرائع الظاهرة كالصلاة والصوم والحج وأمثال ذلك، وأما قول القلب -وهو أصل الإيمان عند السلف ومبناه- فمرادهم به: تصديق القلب. وأما عمل القلب فهو: حركته بهذا التصديق في أعماله المناسبة له، كالمحبة والرضا والخوف والاستعانة إلى غير ذلك من أعمال القلوب، وعليه فأصول الإيمان على هذا الاعتبار تكون أربعة: تصديق القلب وعمل القلب وقول اللسان وعمل الجوارح. وأما ذكره الشافعي وأمثاله -وهو الشائع في كلام أكثر المتأخرين من أهل السنة- من أنه قول وعمل واعتقاد، فإنهم يريدون بالقول: قول اللسان، ويريدون بالعمل: الأعمال الظاهرة والباطنة، ويريدون بالاعتقاد: التصديق. فالقصد أن هذه الجمل المأثورة عن السلف لا خلاف بينها في نفس الأمر. وعلى هذا المعنى أجمع السلف رحمهم الله، وأجمعوا على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، وزيادته ونقصانه متعلقة بأصوله الأربعة، فليست مختصة بالعمل وحده، بل يزيد وينقص من جهة الأعمال الظاهرة، ومن جهة الأقوال إذا ما فسر قول اللسان بغير الشهادتين، ويزيد وينقص في أعمال القلوب، بل حتى التصديقات متفاضلة.

زيادة الإيمان ونقصانه

زيادة الإيمان ونقصانه ليس بين أهل السنة نزاع في كون الزيادة والنقصان متعلقة بالأركان الثلاثة الأولى، وإنما تكلم بعض أهل السنة والجماعة ممن أحسنوا تقرير هذا الأصل في التصديق، ومن ذلك ما ذكره ابن حزم، فإن كلامه في أصول الدين ليس على وجه واحد، فإنه لما قرر مسائل الصفات قال فيها قولاً مباعداً للقول المأثور عن أئمة السلف، وقوله في هذا من جنس قول طائفة من المعتزلة، وإن كان يذكر جمل الأئمة رحمهم الله، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله في شرح الأصفهانية يقول: (إن القول الذي قرره ابن حزم مقارب لقول طائفة من الفلاسفة)، فتقرير ابن حزم في مسائل الصفات ليس حسناً، ولكن كلامه في مسائل الإيمان جيد في الجملة، إلا أن من أغلاطه أنه قرر أن التصديق لا يتفاضل، وقد ثبت عن الإمام أحمد وغيره من أعيان المتقدمين من السلف أنهم ذكروا أن التصديق يتفاضل، وهذا معلوم بالشرع والعقل، فإن التصديق لا يختص بمسائل التصديقات الكلية، بل سائر أحكام الشريعة وإن كانت تكليفاً من جهة، لكنها من جهة أخرى تكون تصديقاً.

الخوارج والمعتزلة لا يرون زيادة الإيمان ونقصانه

الخوارج والمعتزلة لا يرون زيادة الإيمان ونقصانه قرر الخوارج والمعتزلة أن الإيمان قول وعمل، ولكنهم لم يروا زيادته ونقصانه، وهذا هو محصل الفرق بين مذهب السلف ومذهب الخوارج والمعتزلة، فقالت الخوارج: إن مرتكب الكبيرة يكون كافراً، وقالت المعتزلة: إنه يكون فاسقاً قد عدم الإيمان، وبنى الخوارج والمعتزلة قولهم في مسمى الإيمان على قولهم في أهل الكبائر، وهذا الترتيب خطأ في الاستدلال فإن مسألة حكم أهل الكبائر فرع عن مسمى الإيمان وليس العكس.

أقوال المرجئة في الإيمان والرد عليهم

أقوال المرجئة في الإيمان والرد عليهم وأما من قابلهم وهم سائر طوائف المرجئة، فإنهم أجمعوا على أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وهذه الجملة هي جامع أقوال المرجئة. ثم بعد ذلك اختلفت المرجئة على أقوال، وقد ذكر الأشعري في (المقالات): (أن مقالات المرجئة في مسمى الإيمان اثنتا عشرة مقالة)، وقد أجمعوا على أن أشد هذه المقالات غلطاً وبعداً عن السنة والجماعة هي مقالة الجهم بن صفوان؛ فإنه قال: الإيمان هو المعرفة، ويقاربه في الجملة قول أبي الحسين الصالحي، وأخف مقالات المرجئة هو قول حماد بن أبي سليمان. ولا يوجد أصل من أصول الدين قد خالف فيه بعض المعروفين بالإمامة والسنة والجماعة من المتقدمين إلا هذا الأصل، وإلا فإن كلام السلف في الصفات والقدر وأمثاله كلام متصل محكم، وإنما نازع في هذا الأصل حماد بن أبي سليمان، وهو إمام من أعيان أئمة الكوفة، ومن تلاميذ إبراهيم النخعي، وقد أجمع أهل العلم على أنه من المعروفين بالسنة والجماعة، ولكنه غلط حين أخرج العمل عن مسمى الإيمان، فهذه البدعة أول من ابتدعها من أهل السنة والجماعة هو حماد بن أبي سليمان، ومن جهته دخلت على أبي حنيفة وجماهير أصحابه. وسبب غلطهم في مسمى الإيمان لم يكن موجبه خارجاً عما يصح الاستدلال به الكتاب والسنة، ومعنى ذلك أن هذا القول لم يكن دخل على حماد من أصل خارج عن الاستدلال بالشرع، بل كان يستدل على مقالته هذه بنوع من الاستدلال الشرعي وإن كان استدلاله غلطاً، وذلك مثل استدلاله بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً} [الكهف:107]، فجعل ذكر العمل مع الإيمان دليلاً على أن العمل ليس داخلاً في مسماه، ولا شك أن هذا إشكال بين يُدفع به عن حماد وأمثاله أنهم كانوا ينتحلون هذا القول على أصول بدعية. ويتحقق التفريق إذا نظرت في أقوال القدرية أو معطلة الصفات، فإنهم لم يكونوا يبنون تعطيلهم على شيء من الاستدلال بالأصول الشرعية، وإنما مبنى أقوالهم على نوع من الشبهات التي دخلت عليهم من المقالات الفلسفية أو نحوها، وإن كان يستدل بعضهم بما هو من القرآن فهذا ليس هو مبنى أو موجب المقالة في مسائل الصفات والقدر وأمثالها. ولم يكن حماد بن أبي سليمان رحمه الله من المعروفين بشيء من أصول البدع كعلم الكلام ونحوه، ولكنه قال هذه المقالة التي أجمع الأئمة على أنه خالف فيها الإجماع عن غلط في الاستدلال، ويراد بالإجماع هنا الإجماع المتقدم، أي: أن السلف قبل حماد وهم طبقة الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن بعدهم، لم يكن أحد منهم يقول: إن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وعلى هذا قيل: إن قول حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة وأمثالهما مخالف للكتاب والسنة والإجماع، وليس من شرط كونه مخالفاً للإجماع أن لا يُضاف حماد وأمثاله ممن قال بذلك من أصحاب السنة إلى السنة والجماعة، بل الإجماع يتحقق من وجه متقدم. ولهذا نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تارة يقول: وقد أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وتارة يقول: والقول الذي عليه الجماهير من السلف أن الإيمان قول وعمل، وكلا الاستعمالين صحيح، فإنه إن قال: إن السلف أجمعوا فإنه يعني الإجماع المتقدم على حماد، ومخالفة حماد هنا لا تعتبر؛ لكونه خالف الإجماع المتقدم، وإذا قال: إنه قول جماهير السلف، فإنه يعني بذلك أن حماداً وأمثاله لا يخرجون عن السنة خروجاً مطلقاً، بل هم يعدون في أصحاب السنة والجماعة، وإن كان قولهم بدعة بالإجماع فضلاً عن كونه غلطاً.

الجواب على مرجئة الفقهاء في مسألة الإيمان

الجواب على مرجئة الفقهاء في مسألة الإيمان وأما دلائل قول السلف: إن الإيمان قول وعمل، فهي متواترة في الكتاب والسنة، فقد ذكر الآجري في الشريعة أن العمل ذكر في بضع وخمسين موضعاً وهو محصل أو داخل في مسمى الإيمان، وهذا استدل به الآجري في الشريعة على أن العمل داخل في مسمى الإيمان وإن كان قد ينازع في بعضه، ولكن الدلائل متواترة في كون العمل داخلاً في مسمى الإيمان. ويرد اسم الإيمان في الكتاب والسنة مطلقاً تارة ومقيداً تارة، ويرد به في مقام أصله وفي مقام آخر يراد به تمامه، فهو في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]، يراد به الأصل على الصحيح من التفسيرين اللذين أجاب بهما أهل السنة والجماعة عن استدلال المرجئة كما سيأتي، وهذه الآية وأمثالها هي أقوى ما استدل به المرجئة ولا سيما الفقهاء منهم، على أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، وعنها جوابان: الجواب الأول: أن هذا من باب عطف الخاص على العام، وهذه الطريقة وإن كانت صحيحة في الجملة إلا أنها ليست هي الطريقة الأجود. الجواب الثاني: وهو الذي رجحه شيخ الإسلام رحمه الله: أن الإيمان هنا هو الأصل، وإذا ذكر الأصل فإن العمل يكون لازماً له، ولزومه له في مقام لا يستلزم عدم دخوله في ماهيته في مقام آخر، فإن ما كان لازماً يكون تابعاً، ولا يمكن في العقل أن ينفك اللازم عن الملزوم، قال شيخ الإسلام: (وإذا كان العمل لازماً في مقام لأصل الإيمان أو لمسمى الإيمان لم يلزم أن يكون في سائر الموارد كذلك، ولم يمنع ذلك أن يكون داخلاً في ما هيته في نفس الأمر، لأنه قد جاء إدخاله في ماهيته صريحاً في مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} [الأنفال:2 - 3]، فجعل من أصل الإيمان إقام الصلاة وإيتاء الزكاة إلى غير ذلك من الأعمال الظاهرة، ومثله قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] فإن عامة السلف فسروها بصلاتهم إلى بيت المقدس، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كما ثبت عنه في صحيح مسلم، وإن كان أصله متفقاً عليه: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). فالآثار النبوية والكلمات القرآنية متضافرة على تسمية العمل إيماناً، وليس في الأدلة الشرعية ما يشكل إلا من هذا الوجه الذي ذكره بعض فقهاء المرجئة وغيرهم، وهو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277].

مناقشة متكلمة المرجئة في تفسيرهم الإيمان بالتصديق

مناقشة متكلمة المرجئة في تفسيرهم الإيمان بالتصديق وأما الاستدلال الذي احتج به جمهور متكلمة المرجئة، فهو استدلال من جهة اللغة، فإنهم قالوا: الإيمان في اللغة هو التصديق، وعلى هذا قالوا: الإيمان الشرعي هو التصديق، ثم رتبوا على ذلك أن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، وبنوا ذلك على مقدمتين: المقدمة الأولى: أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق. المقدمة الثانية: أنه إن كان في اللغة يراد به التصديق لزم أن يكون في الشرع كذلك ولا يتعداه إلى غيره. وكلا المقدمتين مما ينازعون فيه، فإن الإيمان وإن استعمل في كلام العرب مرادفاً للتصديق في بعض السياقات، إلا أنه يقع في بعض السياقات بخلاف ذلك، وبينه وبين التصديق فرق من جهة اللفظ والمعنى ذكره جماعة من أهل السنة. والجواب عن المقدمة الثانية من وجهين: الوجه الأول: أنه إذا سلم أن الإيمان في اللغة مرادف للتصديق فإنه لا يلزم أن يكون في سائر موارده في الشريعة كذلك، ومعلوم أن المرجئة يسمون العمل إسلاماً، مع أن هذا مما لا توجبه اللغة، فما كان مسوغاً أو موجباً عندهم لتسمية العمل إسلاماً من جهة اللغة فيمكن طرده على مسمى الإيمان، فإذا قالوا: إن الصلاة لا تسمى في اللغة إيماناً، بل الصلاة في اللغة هي الدعاء، والإيمان هو التصديق، قيل لهم: وهل الصلاة والزكاة والحج والأعمال الظاهرة تسمى في اللغة إسلاماً؟ فالجواب: لا. فيقال: فما الذي سوغ أن تسمى إسلاماً مع أن الإسلام اسم شرعي بالإجماع، كاسم الإيمان من جهة كونه اسماً شرعياً؟ فتبين أن هذا مما لا توجبه اللغة بذاتها، بل لا بد فيه من اعتبار تسمية الشارع، فلما كان الأمر كذلك تعلق اسم الإيمان بسائر الأعمال على هذا الوجه. الوجه الثاني: أن يقال: إن ما استعمله متكلمة المرجئة -لِمَا دخل في أصولهم الكلامية- من تجريد الماهيات إلى صور يفرضها الذهن لا حقيقة لها في الخارج، ومعنى هذا الكلام: أنهم إذا قالوا: الصلاة عمل، والعمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، إذ الإيمان هو التصديق. فإنا نقول: ليس في الأعمال الشرعية الظاهرة كلها عمل ينفك عن التصديق، أما العمل الظاهر من حيث هو عمل ظاهر مجرد عن التصديق فإنه لا يسمى إيماناً بالإجماع، وهذا مما لا ينازع فيه أحد، والعمل الذي قصد السلف أنه إيمان هو العمل الشرعي، وهو العمل الذي أوجبه الشارع أو ندب إليه، كالصلاة والصيام والطواف بالبيت، إلى غير ذلك، وإلا فالأعمال العادية كلعب بني آدم وحركتهم لا تسمى إيماناً. فالصلاة لا يمكن أن تكون شرعية وهي مجردة عن التصديق بالباطن، وهو التصديق بأن هذه الصلاة أوجبها الله، وأن الله أوجبها أربع ركعات مثلاً كصلاة الظهر، وأنه شرعها في هذا الوقت، وأنه يقال فيها كذا وأركانها كذا، ويتعبد بها إلى القبلة، وأن من شرطها الإخلاص والإيمان؛ فإن هذه وإن كانت أعمالاً ظاهرة كالركوع والسجود والقيام والقراءة إلى غير ذلك إلا أنها متعلقة بالتصديق، ولهذا لو أن أحداً صلى صلاة الظهر خمساً فإن عمله يسمى بدعة وضلالاً، ومن صلى صلاة وقال: إن الصلاة ما شرعها الله وإنما هي من أقوال الفقهاء، فهذا يكون كافراً، ولا تكون صلاته شرعية. فتحقق من هذا أن سائر الأعمال الظاهرة الشرعية ليست هي مجرد أعمال ظاهرة منفكة عن التصديق. وقد تفطن بعض أئمة المرجئة من المتكلمين لهذا، فقالوا: العمل من حيث هو ليس إيماناً. فيقال: العمل من حيث هو عمل إذا لم يكن له وجود في الخارج لا يمكن أن يسمى إيماناً عند أحدٍ من المسلمين، فهم يقولون: الصلاة من حيث هي صلاة -أي: كحقيقة مجردة وعمل ظاهر- ليست إيماناً. فيقال: الحقيقة المجردة عن التصديق لا يلتفت إليها، وليس هناك أحد من المسلمين يصلي هذه الصلاة. ولهذا لو أن الإنسان أثناء لعبه أو رياضته مثلاً أتى بحركة تشاكل حركة الركوع لم يُسمّ راكعاً في الشرع وعمله هذا لا يسمى إيماناً، لكن لو أدى ذلك داخل ركن من أركان الصلاة فإنه يكون ركوعاً شرعياً ويسمى إيماناً، فتحقق من هذا أن الأصول الشرعية والعقلية واللغوية إذا سلمنا أنها تدل على أن الإيمان مرادف للتصديق، فإن كل ما تضمن التصديق وتحقق به فإنه يسمى إيماناً. ولهذا فإن الصلاة وإن كانت عملاً ظاهراً من جهة، إلا أن فيها تصديقات وفيها أعمال قلوب. ويقال: إذا لم تكن الصلاة إيماناً امتنع أن تكون إسلاماً، وامتنع أن يكون الإيمان تصديقاً، وعليه فإن قولهم: إن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان لأن الإيمان هو التصديق، يعتبر مناقضاً للعقل فضلاً عن مخالفته للشرع، فإنه مبني على مقدمة مفروضة يفرضها الذهن، وهي: أن العمل الظاهر الذي سماه السلف إيماناً يمكن تجريده عن التصديق، وليس الأمر كذلك. فإن قالوا: إن التصديق الذي في الصلاة يسمى إيماناً، والحركة الظاهرة لا تسمى إيماناً؟ قيل: هذا فرض يفرضه الذهن ولا وجود له في الخارج، فإنه إذا تجرد هذا العمل عن التصديق لم يسمِّ صلاة ولا ركوعاً ولا سجوداً، ولا يوجد في الخارج إلا حركة يقصد بها التعبد أو حركة لا يقصد بها التعبد، أما وجود حركة في الخارج يقال إن تصديقها إيمان، وأما هي من حيث هي فليست إيماناً، فهذا، فإن من حنى ظهره إما أن يكون راكعاً لله سبحانه وتعالى في صلاة من الصلوات، وإما أن يكون فعل ذلك لغرض وموجب احتاجه من أجله. ومعلوم أن الأول يسمى عمله إيماناً، والثاني لا يسمى إيماناً ..

الدليل على أن العمل من الإيمان

الدليل على أن العمل من الإيمان ومن أخص ما يستدل به السلف على كون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، بل إن قلت: إنه أشرف حديث استدل به السلف على هذه المسألة من السنة، فإن الأمر كذلك؛ حديث ابن عباس رضي الله عنهما في حديث وفد عبد القيس فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمساً من المغنم ..) إلى آخر الحديث، وقد رواه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مفرداً، واتفق عليه الشيخان من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. فهذا الحديث المعروف عند أهل العلم بحديث وقد عبد القيس صريح في أن العمل داخل في مسمى الإيمان، بل صريح في أن العمل أصل في الإيمان كما جعله النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً في الإسلام، كما في حديث ابن عمر المتفق عليه: (بني الإسلام على خمس) وذكر المباني الأربعة بعد الشهادتين، وكذلك لما ذكر الإسلام في حديث جبريل المتفق عليه، وهنا لما ذكر الإيمان ذكر الشهادتين وذكر بعد ذلك العمل، ففسر الإيمان في حديث عبد القيس بما فسر به الإسلام في حديث ابن عمر وأمثاله. وأما فك هذا عن هذا في حال واحد، فهذا من فرضيات الذهن التي لا وجود لها في الخارج.

موافقة قول السلف للشرع والعقل واللغة

موافقة قول السلف للشرع والعقل واللغة قول السلف رحمهم الله إن الإيمان قول وعمل, هو الذي توجبه اللغة, حتى ولو فسر الإيمان بالتصديق, فإن اللغة توجب ذلك من هذا الوجه، فلا يتحقق التصديق الشرعي إلا بالعلم. وكذلك يوجبه العقل، فإن ما صح تسميته إسلاماً من الأعمال صح تسميته إيماناً. وقد غلط بعض المرجئة فظنوا أن السلف إنما سموا الأعمال إسلاماً لكون المنافق يأتي بها بخلاف الإيمان, ولا شك أن المنافق يسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً, ولكن ليس هذا هو الموجب للتسمية بالإسلام ومنع الإيمان, وإنما ذلك من جهة أن الإيمان أصله في القلب وأنه أخص بالأعمال الباطنة، وأن الإسلام أخص بالأعمال الظاهرة. فهذا هو محصل ما ذهب إليه أئمة السلف رحمهم الله, وتبين من هذا أن قولهم موافق للشرع وللعقل وللغة.

أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان عند أكثر المرجئة

أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان عند أكثر المرجئة ومقالات المرجئة المتقدمة والتي تبين أن أشدها بلاء هو قول جهم بن صفوان: أن الإيمان هو التصديق أو المعرفة، تشكل عليهم مسألة أعمال القلوب, وجماهير المرجئة يجعلون ما هو من أعمال القلوب داخلاً في مسمى الإيمان, ولهذا لما فسر الأشعري مقالة جهم بن صفوان ومقالة أبي الحسين الصالحي في مقصودهم بالمعرفة فسر ذلك بما هو من أعمال القلوب مع المعرفة القلبية. وإذا كان داخلاً في مسمى الإيمان؛ لزم من هذا أن يكون العمل الظاهر داخلاً في مسمى الإيمان, فإن ما كان موجباً لدخول الأعمال الباطنة عندهم في مسمى الإيمان، يكون موجباً لدخول الأعمال الظاهرة, فإن عمل القلب ليس هو التصديق, وإذا قالوا: الإيمان هو التصديق, وجعلوا ما هو من أعمال القلوب داخلاً في مسمى الإيمان، لزم من ذلك أن يجعلوا ما هو من أعمال الجوارح داخلاً في مسمى الإيمان, بل لزم من ذلك أن تكون أعمال الجوارح كلها داخلة في مسمى الإيمان.

حقيقة الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء في الإيمان

حقيقة الخلاف بين أهل السنة ومرجئة الفقهاء في الإيمان ومن مسائل هذا الباب وأصوله: أن القول الذي قاله حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة رحمهما الله جعل كثيراً من أهل العلم يتكلمون في نوعية الخلاف بينه وبين القول الذي عليه عامة السلف, فالشارح ابن أبي العز رحمه الله يقول: إن الخلاف صوري بين أبي حنيفة رحمه الله وجماهير السلف، وهذا باعتبار أن أبا حنيفة وحماد بن أبي سليمان يقولان: إن مرتكب الكبيرة ليس مخلداً في النار, ويجعلانه تحت المشيئة, ويقران بعذاب من يعذب من أهل الكبائر. ونقول: نعم. قال بعض الحنفية: إنه خلاف صوري, وقال بعضهم: إنه خلاف لفظي, أي: لا ثمرة له, ولهذا يذكر الأصوليون في كتبهم بعض مسائل النظر الخلافية فيقولون: والخلاف لفظي, أي: ليس له ثمرة. وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: (بأن الخلاف جمهوره لفظي) , وقال مرة: (إن أكثر الخلاف بين حماد والجمهور خلاف لفظي) , ومراده بأن أكثره لفظي أي: أن حماداً يقر بوجوب الواجبات وأصول الشرائع, ويعطيها أحكامها في الدنيا من جهة الحدود، وكذلك في الآخرة على ما قرره أئمة السلف أجمعين, وإنما لا يسمِّي هذه الأعمال الظاهرة إيماناً, ومن هنا كان أكثر الخلاف لفظياً، وبهذا يتبين للناظر في هذه المسألة ماذا يقصد بالقول إن الخلاف فيها لفظي. وأما من جهة الفرق فهو من وجوه: الأول: وهومن أخصها: أن عدم تسمية العمل الظاهر إيماناً مخالف للكتاب والسنة, فإن الله سماها إيماناً, ومنع تسميتها إيماناً مخالفة للكتاب والسنة من حيث التسمية, وعليه فثمرة الخلاف هي أن هذا القول مخالف للكتاب والسنة، ولا يلزم بالضرورة أن تكون الثمرة مسألة عملية من هذا الوجه. الوجه الثاني: أن حماداً وأمثاله يقولون: إن الإيمان واحد, فلا يجعلون العمل مما يحصل به الزيادة والنقصان, وهذا هو المقطوع به في قول حماد بن أبي سليمان وأبي حنيفة رحمهما الله. وبعض أهل العلم يعبرون فيقولون: إن حماداً وأبا حنيفة لا يقولون بأن الإيمان يتفاضل, وهذا مما يكرره شيخ الإسلام رحمه الله. وهناك مسألة دون الأولى في التحقق في كونها مذهباً لـ حماد بن أبي سليمان، وهي: هل حماد يقول: إن الإيمان واحد مطلقاً، لا يزيد ولا ينقص كما هو قول المرجئة؟ يجزم شيخ الإسلام رحمه الله بذلك ويقول: (ومن الفرق بين قول حماد وقول الجمهور: أن حماداً وأمثاله لا يجعلون الإيمان متفاضلاً, ويجعلون أهل الإيمان في إيمانهم على حال واحدة). وهذا ينبني على صحة النقل عنه, وإلا فإن هذا من لازم قول حماد؛ لكن من المعلوم أن لوازم المذاهب ليس بالضرورة أن تكون مذاهباً تضاف إلى أعيان القائلين بأصل المذهب, ولهذا يُتردد في هذا الإطلاق, فهو وإن كان يُجزم بكونه لا يجعل العمل موجباً لزيادة الإيمان, لكن هذه مسألة دون الإطلاق. الوجه الثالث: أنه على طريقة حماد وأبي حنيفة لا يكفر العبد بتركه للأعمال الظاهرة, سواء كان تركه لجنس الأعمال الظاهرة, أو كان تركه لبعض أعيانها. هذا مع أن الإجماع منعقد على أن من هجر جنس العمل الظاهر فإن هجره له كفر, وهذا مذهب مستقر عند متقدمي أئمة السلف المخالفين لـ حماد بن أبي سليمان، وقد ذكر هذا الفرق من متأخري المحققين الإمام ابن تيمية رحمه الله. وبعض من تكلَّم في هذه المسألة يذكر عن شيخ الإسلام ما هو مخالف لذلك, وليس الأمر كذلك، بل لا شك أنه يرى أن من قامت عنده القدرة والإرادة الموجبة لحصول المقدور والمراد, ومع هذا كله هجر جنس العمل فما ركع لله ركعة، ولا سجد له سجدة، ولا صام له يوماً، ولا أتى البيت الحرام، ولا أدى زكاة, فإن هذا لا يكون إلا كافراً. وقد قال إسحاق بن إبراهيم -وهو من أعيان المتقدمين- كما رواه الخلال وغيره بسند صحيح: (غلت المرجئة حتى كان من قولهم: أن من ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره, إذ هو مقر -أي: لا يكفر لأنه مقر عندهم- فهؤلاء الذين لا شك عندي أنهم مرجئة)، وكلمة إسحاق هذه هي أحسن كلمة أثرت عن المتقدمين في هذه المسألة التي تكلَّم فيها كثير من المتقدمين والمتأخرين. وبنحو هذه الكلمة جاء عن سفيان بن عيينة , وقد حكى الآجري وأبو عبد الله ابن بطة الإجماع على هذه المسألة.

مسائل في الإيمان ومنهج السلف

مسائل في الإيمان ومنهج السلف

طرق معرفة إجماع السلف على تكفير تارك جنس العمل

طرق معرفة إجماع السلف على تكفير تارك جنس العمل وإجماع السلف على هذه المسألة يعرف من عدة طرق: الطريق الأول: أن العمل عندهم أصل في الإيمان, ولما كان أصلاً فإن عدمه كفر. الطريق الثاني: أن هجر جنس العمل لا يكون إلا مع نوع من الكفر الباطن, وهذا ليس معناه أنه لا يُكفَّر بالأعمال الظاهرة ولكن لدلالتها على كفر باطن؛ لأنه بإجماع المسلمين وبصريح العقل أنه لا يمكن أن نقول: إن هذا كافر في نفس الأمر بعمل ظاهر، ويكون في نفس الأمر مؤمناً في الباطن, بل من ثبت كفره في نفس الأمر -أي: في الحكم الشرعي- ووافى ربه بالكفر الظاهر فلا بد أن يكون في الباطن كافراً, وما يبقى معه من العلم والمعرفة الباطنة، فهي من جنس العلم والمعرفة التي تقع لكثير من الكفار في بعض مسائل الربوبية، أو كحالهم إذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين, إلى غير ذلك. الطريق الثالث: أنه جاء عن الجماهير من أهل الحديث أنهم يكفرون تارك الصلاة، فدلّ ذلك من باب أولى على أنهم يذهبون إلى كفر تارك جنس العمل. وهذا الوجه وإن لم يلزم به تحقق الإجماع, إلا أنه يُعلم به معنىً مهماً في هذه المسألة وهو: أن من قال إن ترك جنس العمل ليس كفراً بإجماع السلف, فإن قوله غلط ولا بد؛ لأنه قد جاء عن كثير من أعيان المتقدمين -ولا سيما من أهل الحديث- التكفير بترك الصلاة, فكيف يقال مع هذا: إن إجماع السلف منعقد على أن ترك العمل مطلقاً ليس كفراً, مع أنهم كفروا تارك الصلاة؟ وإنما يتحقق هذا المعنى ولا يتحقق الإجماع به؛ لأنه مبني على مسألة تكفير تارك الصلاة: هل هي من معاقد الإجماع أم لا؟ والتحقيق أن بين جنس العمل وبين آحاده فرقاً, فأما جنس العمل وأركانه الأربعة: (الصلاة والزكاة والصيام والحج)، فمن عدم جنس العمل بأصوله الأربعة التي هي أصول الفرائض؛ فهذا لا يكون إلا كافراً.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة وأما من ترك ما دون الفرائض الأربع من الواجبات الظاهرة فإن هذا ليس بكافر, وإنما تنازع السلف رحمهم الله في الأركان الأربعة, ولم يحك الإجماع منضبطاً أو غير منضبط إلا في مسألة الصلاة وحدها, فإن إسحاق بن إبراهيم كما ذكر ذلك عنه محمد بن نصر المروزي بإسناد متصل إليه، وذكره عن أيوب السختياني؛ كان يحكيان الإجماع على أن ترك الصلاة كفر, وكان إسحاق يقول: (مضت سنة رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده إلى زماننا هذا أن من أدركته فريضة فما أداها إلى أن خرج وقتها فإنه يكون كافراً)، ويقول أيوب السختياني: (ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه)، ومن هنا قال طائفة من أصحاب الإمام أحمد وبعض أهل العلم: إن ترك الصلاة كفر بالإجماع, وزعموا أنه لم يخالف في ذلك إلا بعض المتأخرين. والصحيح أن الكفر بترك الصلاة ليس من معاقد الإجماع البين, فإن الإجماع إذا استعمل في مسائل أصول الدين أريد به الإجماع التام الذي تكون مخالفته بدعة وضلالة, كقولك: إن السلف أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل, وأجمعوا على إثبات الصفات, وأجمعوا على أن الله خلق أفعال العباد، إلى غير ذلك. فمن قال: إن ترك الصلاة كفر بالإجماع اللازم القطعي فإن الأمر ليس كذلك؛ لأنه جاء عن طائفة من المتقدمين كـ مكحول والزهري ومالك والشافعي أنهم ما كانوا يرون ترك الصلاة كفراً، وأما قول عبد الله بن شقيق: (كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة)، فهذا صحيح عن عبد الله بن شقيق , ولكن لا شك أن الزهري ومالكاً رحمهما الله أعلم بالسنن والآثار من عبد الله بن شقيق , وإن كان متقدماً عليهما, فهذا اجتهاد وتحصيل حصله عبد الله بن شقيق، وهذا الإجماع الذي يذكره عبد الله بن شقيق ويذكره غيره, إذا سمِّي إجماعاً سكوتياً كان ممكناً, ومعلوم أن الصحيح من مذاهب الأصوليين أن الإجماع السكوتي حجة, ولكنه ليس حجة قطعية. فالقول الراجح هو أن ترك الصلاة كفر، ودليل هذا القول ظاهر الكتاب وظاهر السنة, وإن كانت دلالة السنة أخص من دلالة الكتاب, ومن أخص دلائل السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة). وأيضاً من دلائل كون ترك الصلاة كفراً أنه ظاهر مذهب الصحابة, فلم يصح عن صحابي من الصحابة أنه صرَّح بأن ترك الصلاة ليس كفراً, ولكن تحقق أن جماعة من الصحابة صرَّحوا بكون ترك الصلاة كفراً, وذكر ابن شقيق أنه لم يخالف فيه أحد، فيكون هذا استدلالاً حسناً, ويسمى إجماعاً سكوتياً لا قطعياً؛ لأن الإجماع القطعي يكون حجة لازمة، ومن اجتهد بخلافه فقد قال بدعة, وإذا اجتهد مجتهد بخلافه سمي اجتهاده غلطاً وبدعة, ولا يجوز لأحدٍ من بعده أن يقلده فيه, وعلى هذا يلزم أن قول من يقول إن ترك الصلاة ليس كفراً؛ أن يكون قوله بدعة, وأنه قول مخالف لصريح الكتاب والسنة, ويلزم أن يكون هذا القول لا تجوز متابعته ولا اعتباره كسائر البدع. ولم يكن قدر هذه المسألة عند جماهير السلف كذلك, وإن كان إسحاق قد نقل الإجماع لكنه شاذ في تحصيل الإجماع, ولا سيما أنه قال: من زمان رسول الله إلى زماننا هذا، مع أنه يعلم أن مالكاً والزهري ومكحولاً قد خالفوا, ولا يصح قصر المخالفة على المتأخرين، ثم لو كانت المسألة من معاقد الإجماع لشاع ذلك في كلام أئمة السنة، كالإمام أحمد وغيره، فإنه لم ينطق بالإجماع أبداً، بل الرواية عنه مختلفة في تكفير تارك الصلاة. وقد غلط بعض المالكية والشافعية على الشافعي ومالك رحمهما الله في هذه المسألة في بعض مواردها, لكنهم لم يغلطوا في أصلها, فإن الأصل في مذهب الشافعي وأصح قوليه: أن ترك الصلاة ليس كفراً, وإذا قيل هذا فإن الجماهير من أهل الحديث على أنه كفر، وهو الراجح من جهة الاختيار, وعليه ظاهر الكتاب والسنة, وظاهر مذهب الصحابة.

الخلاف في تكفير تارك الزكاة

الخلاف في تكفير تارك الزكاة أما مسألة الزكاة فلم يذكر أحد من السلف أن فيها إجماعاً, ودعوى الإجماع فيها غلط، وقد دخل على بعض المتأخرين من أهل العلم من أصحاب أحمد وغيره, فقالوا: إن فيها إجماعاً, ومأخذهم في هذا الإجماع قتال أبي بكر رضي الله تعالى عنه لمانعي الزكاة, وما ذكره أبو عبيد وأمثاله من المتقدمين: أن الصحابة أجمعوا على قتال هؤلاء وأنهم كانوا يرونهم مرتدين، وهذا خلط في المسألة، فإن ترك الزكاة المجرد عن الجحد لها أو القتال عليها لم يجمع السلف على كونه كفراً, وذلك كترك آحاد الناس أن يؤدي زكاة ماله. وثمة فرق بين من ترك الزكاة، وبين من تركها وقاتل على تركها، ولهذا كان أئمة المدينة النبوية كالإمام مالك والزهري وأمثالهم, وأئمة العراق كـ الثوري والإمام أحمد وأمثالهم, وأئمة الشام كـ الأوزاعي وأمثاله, يذهبون إلى أن ترك الزكاة ليس كفراً, ولكنهم قرروا أن المقاتلين على منعها كفار. وقد حكى أبو عبيد وجماعة الإجماع على ذلك, وهذا الإجماع ليس في المأثور عن السلف ما يشكل عليه, وهو التفريق بين ترك الزكاة وبين تركها مع المقاتلة, فمن تركها مع المقاتلة فهو كافر. فإن قيل: هل كفر بالترك، أم كفر بالمقاتلة؟ فإن قلت: إنه كفر بالمقاتلة، لزم تكفير كل من قاتل من البغاة, وإن قلت: كفر بالترك, قيل: فالمقاتلة ليست شرطاً. فيقال: هذا فرض يفرضه الذهن, وهو إنما كفر بهما, أي: باجتماعهما, وإلا فإن المقاتلة وحدها لا تستلزم الكفر, والترك وحده كترك آحاد المسلمين الذين لم يقاتلوا لا يستلزم الكفر، نعم. هذا ذهب طائفة من السلف إلى كونه كفراً, وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد , وذهب جماهير السلف إلى أنه ليس كفراً، ويقول الإمام أحمد رحمه الله في الرواية الأخرى: (ليس شيء من العمل تركه كفر إلا الصلاة) , والمقصود من هذا: أنه لم يقل أحد من أهل العلم: إن ترك الزكاة تركاً مجرداً عن المقاتلة كفر بالإجماع, ولكن لا يُنتقد من جعله كفراً, فإن القول بكونه كفراً قاله طائفة من السلف وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد رحمه الله.

الخلاف في تكفير تارك الصوم والحج

الخلاف في تكفير تارك الصوم والحج وأما الصوم والحج فقد ذهب طائفة من السلف إلى أن ترك الصوم كفر, وذهب طائفة من السلف إلى أن ترك الحج كفر, والجماهير من السلف والخلف على أن ترك الصوم وحده أو ترك الحج وحده ليس كفراً. ولا شك أن مسألة الإيمان قد حصل فيها خفض ورفع عند كثير من المتأخرين، فصار بعضهم وإن سموا العمل إيماناً لكنهم لا يجعلونه أصلاً في الإيمان, فلا يكفرون تارك جنس العمل، فمن ترك الصلاة والصيام والزكاة والحج مجتمعة لا يجعلونه كافراً, وفوق ذلك يقع من بعضهم أنهم يجعلون هذا مذهباً لسائر السلف. ولا شك أن هذا من الغلط, إذ كيف يقال إن هذا مذهب لسائر السلف مع شهرة النزاع بين السلف في هذه المباني الأربعة كل على حدة؟! وهذا النزاع المأثور إنما هو في ترك الواحد منها, وأما من جمع تركها فلم ينقل عن أحد من السلف أنه لم ير كفره, ولو أن أصحاب هذا القول قالوا: إن هذا هو أحد القولين لأهل السنة أو لأئمة السلف لكان هذا مما يمكن أن يقع فيه بعض التأويل، لكن أن يقال: إن تركها مجتمعة ليس كفراً عند السلف، مع أنه قد صرَّح طوائف من السلف بأن ترك الواحد منها يكون كفراً, كقول جماهيرهم: إن ترك الصلاة كفر, وقول طائفة منهم: ترك الزكاة كفر، إلى غير ذلك؛ فهذا قول لا شك أن فيه شيئاً من الزيادة. وقابل هذا القول قول من يقول: ترك الصلاة كفر بالإجماع, وقول من يقول: ترك الزكاة كفر بالإجماع, أو من يقول: ترك الصوم أو الحج كفر بالإجماع.

طرق تحصيل مذهب السلف

طرق تحصيل مذهب السلف وهنا مسألة مهمة وهي: كيف يمكن تحصيل مذهب السلف؟ والجواب: أن الطريقة المعتبرة عند المحققين من أرباب السنة والجماعة هي أن مذهب السلف يُعرف بأحد وجهين, واستعمل بعض المتأخرين من متكلمة الصفاتية المعظمين للسنة والجماعة وبعض الفقهاء طريقاً ثالثاً هو الذي يستعمله المعاصرون. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإن قيل: بمَ يُعرف مذهب السلف، ليعلم أن مذهب السلف الذي يضاف إليهم يكون لازم الاتباع, وإذا قيل في مسألة: إنها مذهب للسلف, فإن معنى هذا أنها من معاقد إجماعهم, وأن هذا من الدين اللازم الذي لا تجوز مخالفته أو الاجتهاد بخلافه, ويكون سائر ما خالفه بدعة. ثم قال: ومذهبهم على هذا الوجه يُعرف بأحد طريقين: الطريق الأول: إما بالنقل المتواتر عن أعيانهم, ولا يُعلم عن أحد من الأعيان ما يخالف هذا النقل. بمعنى: أن يستفيض عن أعيان السلف التعبير بجملة, كقولهم مثلاً: الإيمان قول وعمل, وكقولهم: أفعال العباد مخلوقة, وكقولهم: القرآن ليس مخلوقاً, فهذه جمل مستفيضة عن السلف, ولم ينقل عن السلف في ذلك خلاف. الطريق الثاني: بذكر علماء الإسلام الكبار -أي: المعتبرين والمحققين- عن شيء من هذه المسائل أنه مذهب للسلف، ولا شك أن هذا الوجه إنما ينتظم إذا لم يُعرف عن أحد من السلف مخالفة لما ذكره بعض الكبار, وإلا صار هذا من التحصيل المظنون, كقول إسحاق: (أجمع الناس من زمان رسول الله إلى زماننا هذا)، ومعلوم أن إسحاق من الأكابر, لكن لم نقل: إن نقله للإجماع قطعي؛ لكون المخالفة قد ظهرت ممن هم أجل كـ الزهري وأمثاله). فهذان الطريقان بهما يُعرف مذهب السلف. ثم قال شيخ الإسلام رحمه الله: (واستعمل كثير من المنتسبين إلى السنة والجماعة من أصحاب الكلام, وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة طريقاً ثالثاً لتحصيل مذهب السلف, وهو أنهم يعتبرون دلائل الكتاب والسنة, فإذا انتظم عندهم مقام الاستدلال على قول ولزم, جعلوا ما انتظم عليه مقام الاستدلال ولزم مذهباً للسلف, لكون السلف لا يخرجون عما لزم من دلائل الكتاب والسنة، وهذا مما يمكن أن نعبِّر عنه بأنه تحصيل مذهب السلف بالفهم). وكتلخيص لهذه المسألة نقول: إما أن يكون مذهب السلف محصلاً بالنقل, وإما أن يكون محصلاً بالفهم. أما تحصيله بالنقل فمن وجهين: الوجه الأول: إما النقل المتواتر المستفيض عن أعيانهم, بأن يصرحوا بعبارات تدل على مذهبهم، كما جاء عنهم في مسألة القرآن أو الرؤية أو غيرها، ولا ينقل مع ذلك خلاف عن أحد من أعيانهم. الوجه الثاني: بتنصيص العلماء المحققين الكبار أن على هذه المسألة إجماع للسلف, أو أنها مذهب للسلف. أما تحصيل مذهب السلف بالفهم: فذلك بأن يجتهد في نصوص الكتاب والسنة، فيرى أن النصوص تحصل مذهباً واحداً لا ثاني له, فيرى أن هذا المذهب الذي تحصل باجتهاده هو وحده الممكن في المسألة ولا يمكن غيره فيجعله مذهباً للسلف؛ لأن الأدلة من الكتاب والسنة لا تدل إلا على هذا القول, والسلف لا يخرجون عن الكتاب والسنة. والتحصيل على هذا الوجه لا شك أنه غلط, ومعلوم أن القول إذا قيل: إنه مذهب للسلف، فمعناه: أن خلافه يكون بدعة.

خطأ نسبة المذهب المعين للسلف بمجرد الفهم

خطأ نسبة المذهب المعين للسلف بمجرد الفهم من فروع الوجه الثالث وهو تحصيل مذهب السلف بطريقة الفهم -وهي طريقة غير مناسبة كما ذكر شيخ الإسلام - أن بعض الناظرين في بعض مسائل فقه الشريعة إذا رجح عندهم قول بما استعملوه من الأدلة النبوية المفصلة قالوا: إن من هدي السلف ذلك، فجعلوا تلك المسألة من المسائل التي يحصل بها تمييز للسلفي من غيره، كمسألة وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع, فيجتهد بعض أهل العلم من السلفيين فيجعلون السنة في وضعها, طرداً لحديث سهل بن سعد , ويجتهد آخر فيرى أن السنة في عدم وضعها. فلا شك أن كلا الاجتهادين صحيح, ومعنى كونه صحيحاً مع أن الحق في نفس الأمر لا بد أن يكون واحداً، أن كلا القولين من الأقوال الفقهية الممكنة المعروفة عند الفقهاء, لكن الإشكال أن تُجعل السنة اللازمة السلفية هي أحد الوجهين, فمعناه: أن من ترك وضعهما يكون عند طائفة مخالف لهدي السلف, ومن وضعهما يكون عند الطائفة الأخرى مخالف لهدي السلف. ولا شك أن هذا منهج غلط؛ لأنه يلزم على ذلك أن كل من اجتهد في مسألة فقهية, فرجح قولاً هو الظاهر عنده من دلائل الكتاب والسنة؛ أن يجعله هو مذهب السلف, ولا تجد إماماً واحداً من أئمة السلف في مسائل النزاع التي كانوا يتنازعون فيها يطرد هذه الطريقة، أي: يجعل ما خالف قوله يكون بدعة؛ لأنك إن قلت: إن هذا القول هو قول السلف أو هو المذهب السلفي لزم أن يكون خلافه بدعة. فلن تجد أن أحمد كان يعد من خالفه من الفقهاء على بدعة, ولا الشافعي ولا مالكاً ولا أبا حنيفة ولا غيرهم، وإنما تستعمل عبارة: (مذهب السلف) و (الذي عليه أئمتنا) و (الإجماع) إلى غير ذلك في مسائل الأصول, وأما مسائل الفقه المفصلة التي تنازع فيها المتقدمون من السلف, فلا يصح لواحد إذا اختار قولاً من أقوالهم أن يجعله مذهباً للسلف, وهو يعلم أن بعض أئمة السلف يخالفونه في هذا، وإنما يقول: هو أحد قولي السلف, بل لكون مسائل الفقه المختلف فيها بعيدة عن هذه الإضافة السلفية، ترى أن أكثر تعبيرهم يقع باسم الفقه, فيقولون: اختلف الفقهاء, والذي عليه الفقهاء, وأحد قولي الفقهاء, إلى غير ذلك.

منزلة العمل من الإيمان

منزلة العمل من الإيمان قال المصنف عليه رحمه الله تبارك وتعالى: [والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وأن جميع ما أنزل الله في القرآن وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى]. هذا الموضع في رسالة الطحاوي رحمه الله هو أشد المواضع إشكالاً، وإلا فإن في هذه الرسالة بضعة عشر موضعاً مشكلاً، وليس بالضرورة أن تكون هذه المواضع مما يؤخذ على الطحاوي رحمه الله من جهة مقاصده، فإنه في كثير من هذه المواضع يكون مقصوده صحيحاً، وإن كانت عبارته غير مناسبة. وهذه المسائل تُعدُّ من مواضع النزاع في بعض مواردها حتى بين أهل السنة والجماعة، وإن كان عامة ما يتنازع فيه المتأخرون من أهل السنة والجماعة من المسائل هي في الجملة محكمة عند السلف. ولا يلزم من ذلك أن السلف أجمعوا على سائر هذه المسائل، وإنما المقصود أنهم عرفوا قدر المسألة وأحكموها إما من الإجماع وإما من الخلاف، ومعنى هذا: أنه قد يقول بعض المتأخرين من أهل السنة والجماعة عن مسألة إنها من مسائل الإجماع، ويكون الأمر على خلاف ذلك، وقد يقع العكس: كأن تكون المسألة هي من محل الإجماع عند السلف، فيتكلم بعض المتأخرين بما يقرر به أن هذه المسألة من مسائل النزاع، وهذا كله يرجع علاجه إلى حقيقة واحدة وهي: لزوم إحكام مذهب السلف في ذكر هذه المسائل وغيرها. الأعمال الظاهرة بإجماع أهل السنة هي أصل في الإيمان، وقول المتقدمين في هذا متواتر كما تقدم. وإذا قيل: إن العمل أصل في الإيمان، فإن المراد بذلك أن عدمه يلزم منه عدم الإيمان، ولا يلزم من ذلك أن يكون العمل نفسه ليس أصلاً، فإن المراد بذلك لزوم عدم العمل الظاهر لعدم الإيمان الباطن.

امتناع اجتماع الإيمان الباطن مع الكفر الأكبر

امتناع اجتماع الإيمان الباطن مع الكفر الأكبر وهذا مبني على مسألة، وهي أن كل من ثبت كفره ظاهراً في نفس الأمر، لزم أن يكون في الباطن كافراً؛ لامتناع اجتماع الكفر الأكبر مع شيء من الإيمان الصحيح. حتى ولو أريد بالإيمان الأصل، فإنه معلوم أن من كان كافراً عند الله سبحانه وتعالى كفراً أكبر، أنه يمتنع أن يكون معه شيء من الإيمان الصحيح، وهذه من بدائه المسائل المعروفة بأوائل الشرع وأوائل العقل، وهي حقيقة مجمع عليها. وهذا بخلاف العلم أو المعرفة القلبية، فإن العلم في سائر موارده لا يلزم أن يكون هو الإيمان الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس كل وجه من أوجه العلم والمعرفة هو الإيمان الذي يحصل به الاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. وعليه فإذا قيل: إن العمل أصل في الإيمان وأن تارك العمل مطلقاً يكون كافراً، لزم من هذا أن يكون كافراً ظاهراً وباطناً، ذلك أن من كان كافراً ظاهراً يمتنع أن يكون في الباطن مؤمناً، ويمتنع أنه يوافي ربه بكفر ظاهر يوجب الخلود في النار، وبإيمان باطن يوجب النجاة من النار، بخلاف من يكون في الباطن كافراً، فإنه قد يكون في الظاهر على الإسلام، كحال المنافقين الذين أظهروا الإسلام، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: اتفق العلماء على أن المنافقين يدخلون في اسم الإسلام، ولا يدخلون في اسم الإيمان.

التلازم بين الظاهر والباطن

التلازم بين الظاهر والباطن فإذا قيل: كيف يكفر بترك العمل، مع أنه في الباطن مؤمن بالله ورسوله؟ قيل: ما يقع في الباطن من المعرفة مع ترك العمل، هو من جنس المعرفة التي تعرض لجمهور بني آدم المخالفين للرسل، وليست هي المعرفة النبوية التي سماها الشارع إيماناً صحيحاً، فهذه الحقيقة التي سماها الإمام ابن تيمية رحمه الله بالتلازم بين الظاهر والباطن، لا بد من فقهها، وإن كان بعض الناظرين من أهل السنة في المسألة ينازعون في قدر هذا التلازم، ولكن من المحقق ببداهة الشرع والعقل، أن ثمة تلازماً باعتبار الأصل، فالكفر الظاهر الذي هو كفر في حكم الله ورسوله لا بد أن يصاحبه في الباطن كفر، ولا يمكن أن يكون شخص في الباطن مؤمناً إيماناً صحيحاً، ويكون في الظاهر كافراً كفراً على حكم الله ورسوله، فهذه صورة قد يفرضها العقل، وليس لها وجود في الخارج. وأما من كان في الباطن كافراً فقد يظهر ما يظهر من شرائع الإسلام ليحقن دمه وماله وولده، ومما يقرب هذا أنه بإجماع السلف وبصريح القرآن أن بني آدم -كما ذكرهم الله في أوائل سورة البقرة- ثلاثة أصناف، من كان مؤمناً ظاهراً وباطناً، ومن كان كافراً ظاهراً وباطناً، ومن كان في الظاهر مؤمناً أو مسلماً وفي الباطن كافراً. وليس ثمة صنف رابع، وهم المؤمنون باطناً الكفار ظاهراً إلا في حال واحدة تعرض وليست أصلاً مطرداً، وهي حال الإكراه المذكورة في مثل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] كما حدث لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكَسَبِّ بعضهم للرسول صلى الله عليه وسلم بين يدي بعض اليهود ليطمأن إليه اليهودي حتى يتمكن من قتله، كقول: عبد الله بن أنيس في الحديث الثابت في الصحيح: (يا رسول الله! ائذن لي فلأقل، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل) فذكر النبي صلى الله عليه وسلم بكلامٍ يفارق به الإيمان لو كان قاصداً له، فهذه حال تعرض كحال الإكراه.

هل يقع الإكراه بالفعل؟

هل يقع الإكراه بالفعل؟ وقد أجمع السلف على أن الإكراه قد يكون بالقول، وتنازعوا في كون الإكراه يقع بالفعل على قولين: فجماهيرهم على أن الإكراه يقع بالفعل كما يقع بالقول، وذهب ابن عباس وطائفة إلى أن الإكراه مختصٌ بالقول، والصحيح هو مذهب جماهيرهم، فهذه حال تعرض وليست حالاً مطردة.

النزاع في الكفر هل هو بالعمل نفسه أم بلزومه لكفر الباطن

النزاع في الكفر هل هو بالعمل نفسه أم بلزومه لكفر الباطن والمؤمن ظاهراً وباطناً قد يكون ظالماً لنفسه، وقد يكون مقتصداً، وقد يكون سابقاً بالخيرات، وعليه فمن ظن أنه قد يكون كافراً ظاهراً، ويحكم عليه بالكفر مع أنه في الباطن مؤمن، فإن هذا لا شك أنه من الغلط. ثم هنا طرفٌ من النزاع، قد يكون في نظر الكثيرين من النزاع اللفظي وهو: هل الكفر تحقق بالعمل من حيث هو أم تحقق بالعمل من حيث هو لازم لكفر الباطن؟ هذه مسألة من الجدل اللفظي أو من الفرض الذهني، ربما لا يتحقق بها كثير نتيجة.

حكم المجتهد بتكفير معين ليس حكما قطعيا

حكم المجتهد بتكفير معين ليس حكماً قطعياً من لم يجعل العمل أصلاً في الإيمان، أي: أن عدمه لا يكون كفراً، معتبرهم في الجملة هو أن هذا المعين يكون معه إيمانٌ في الباطن، ومعلوم أن من صح إيمانه باطناً امتنع كفره ظاهراً إلا على وجه من الاجتهاد، وما كان وجهاً من الاجتهاد قد يكون غلطاً كسائر أحكام المجتهدين، أي: أنه قد يحكم بعض المجتهدين من أهل العلم على معينٍ من أهل القبلة لبدعةٍ قالها أو نحو ذلك بالكفر، ويكون في نفس الأمر عند الله ليس بكافر، بل له شبهة أو تأويل أو غير ذلك من الموانع التي منعت كفره. ويذكر شيخ الإسلام تحت هذا ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: (إن رجلاً قال لبنيه: إذا أنا مت فأحرقوني، ثم ذروا نصفي في البر ونصفي في البحر، فوالله لئن قدر الله عليَّ ليعذبني عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين)، وفي أول الحديث قصة معروفة. فالشاهد من هذا أن هذا الرجل قال ما هو كفر بالإجماع، فإنه شك في المعاد، وأنكر عموم القدرة. قال شيخ الإسلام: والظاهر من حاله أنه كان مقراً بأصل المعاد وأصل القدرة، وإنما شك في عموم القدرة وفي المعاد نفسه على هذه الحال، قال: ومع هذا فإن قوله هذا في هاتين المسألتين كفرٌ بالإجماع، ومع ذلك غفر الله له، وهذه واقعة عين، وإنما يُعلم بها أنه قد يكون القول كفراً في الظاهر، ولا يلزم أن يكون صاحبه في الباطن كافراً، فمن كفره من المجتهدين إذا فرضنا أنهم قارنوه في عصره، لم يلزم بذلك أن يكون حكمهم هو الحكم الذي يوافي العبد به ربه يوم القيامة. فهذا من أخص فقه هذا الباب، وهو العلم بالتلازم بين الظاهر والباطن. فالمآل في الآخرة معتبر بما عليه المرء في الحقيقة وفي نفس الأمر، والمراد من ذلك أن أحكام الاجتهاد لا يلزم بالضرورة أن تكون أحكاماً موجبة، وعليه فإذا قيل عن مقالة من المقالات إنها كفر، فكفّر أحدٌ من الأعيان من أهل القبلة من قبل أحد المجتهدين، لم يلزم من ذلك أن نجزم بأن هذا العبد يوافي ربه بالكفر، بل قد يكون على خلاف ذلك، وقد يكون كافراً في نفس الأمر. فهذه مسألة ليس فيها اطراد، أي: ليس هناك تلازم بين الحكم الذي يقوله مجتهدٌ في أحد أعيان المخالفين من أهل البدع في الظاهر، وبين الحكم الذي يكون في الباطن، فإن أهل البدع الذين خالفوا أصول السنة والجماعة بأقوالٍ كفرية -كما يقول شيخ الإسلام - جمهورهم من أهل الإسلام، وفيهم من يكون منافقاً في نفس الأمر.

التعبير بـ (جنس العمل) في باب الإيمان

التعبير بـ (جنس العمل) في باب الإيمان وقد عبر كثير من المتأخرين في مقام العمل بلفظ الجنس، فقالوا: إن جنس العمل أصل في الإيمان، ومعلوم أن هذا اللفظ ليس لفظاً سلفياً، أي ليس مأثوراً عن أحدٍ من السلف، ومعلوم أن الجنس في كلام أهل الحد والمنطق ونحوهم يراد به سائر أفراد المعية على كل وجه، وكأنه يلزم من ذلك أنه لو فعل أدنى مستحب من المستحبات الظاهرة، لما سمي تاركاً للجنس، كمن أماط الأذى عن الطريق ولو مرة؛ لأنه داخل في جنس العمل، ولا شك أنه لا يراد بالعمل ذلك، فليس من أتى بواحدٍ من المستحبات صار مؤمناً، ومن ترك هذا المستحب صار كافراً، وإنما يراد بالعمل هنا: أصله، الذي هو أصول الشرائع، وأخصها المباني الأربعة، ولهذا فالمباني الأربعة وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج، باعتبار آحادها يوجد نزاع بين السلف في كفر تاركها، وهذا هو القول المحقق في هذه المسألة.

الخلاف في تكفير تارك الصلاة

الخلاف في تكفير تارك الصلاة الخلاف في مسألة الصلاة مشهور، وإن كان أيوب وإسحاق قد حكوا الإجماع على كفر تارك الصلاة، ولكن المحفوظ هو المخالفة، وكذلك قول عبد الله بن شقيق، فإنه ليس مما يُجزم به، وقد كان بعض أهل العلم قالوا: إن ثمة فرقاً بين قول إسحاق وعبد الله بن شقيق، فإن عبد الله بن شقيق كان يحكي إجماع الصحابة، ومكحول والزهري ومالك والشافعي جاءوا بعدهم فلا تكون مخالفتهم خارقة لإجماع الصحابة، كما لم تكن مخالفة حماد بن أبي سليمان خارقةً لإجماع الصحابة. والحق أن التسوية بين المسألتين يعوزها التحقيق، وذلك أن كون الإيمان قولاً وعملاً، أمرٌ مستقر في دلائل الكتاب والسنة، ولكن ليس من المستقر في دلائل الكتاب والسنة المتواترة أن ترك الصلاة كفر، بل إذا نظرت في دلائل القرآن لم تجد أن الله ذكر الصلاة وحدها وسمى تركها كفراً، وسائر ما يستدل به الحنابلة ومن استدل من المتقدمين من أهل الحديث على المسألة هو مثل قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11]، وفي السياق الآخر: {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5]، إلى أمثال ذلك، ومعلوم أن الاستدلال بهذا يقع على أحد وجهين: الأول: أن يراد بالتوبة هنا التوبة من أصل الكفر، مع الإتيان بالعمل، ولا شك أن هذا هو الذي يقع به الإسلام بالإجماع. الثاني: أن يراد أن كل ما ذكر في الآية فإنه يكون تركه كفراً، فيلزم من ذلك أن يكون تارك الزكاة كافراً، فمن جعل الآية دليلاً على أن ترك الصلاة وحدها كفرٌ لزمه أن يجعلَ ترك الزكاة وحدها كفراً. ولا يصح هنا أن يقال: إن الزكاة خرجت بدليل آخر، فإن الدليل هنا خاص، والخاص لا يمكن أن يعارضه خاصٌ مثله، فيلزم من هذا أن يكون الاستدلال بالآية ليس جازماً أو قاطعاً، ولا يعني أيضاً أن الاستدلال بالآية المذكورة في سورة براءة ونحوها من الآيات غلط، بل يُراد أنه ليس استدلالاً صريحاً بيناً جازماً يبعث على أن يقال: إن الصحابة كانوا آخذين بصريح القرآن وصريح السنة. وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، فهو أظهر في الاستدلال من الاستدلال بالقرآن، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر الكفر معرفاً، وجعل الصلاة هي الفاصل بين الشرك والكفر وبين الإيمان والإسلام، ولهذا فإن الأظهر في الاستدلال على كفر تارك الصلاة هي دلائل السنة. ولأجل هذا يقال: إن الراجح في مسألة تارك الصلاة أنه كافر بظاهر السنة، وبما يستدل به من القرآن، وبظاهر مذهب الصحابة، فإنه لم يصح عن صحابي من الصحابة أنه جعل ترك الصلاة ليس كفراً، وهذا قد يسمى إجماعاً سكوتياً، وجمهور ما يستدل به الفقهاء من الإجماعات في المسائل المفصلة هي من الإجماعات السكوتية، والإجماع السكوتي يكون حجةً ظنية، كما قرر المحققون كـ شيخ الإسلام وأمثاله. إذا تحقق أن ترك الصلاة كفر عند الجمهور من أهل الحديث، وأنه ظاهر الكتاب والسنة، وظاهر مذهب الصحابة، فيبقى أن القول الآخر قاله طائفة من أهل العلم المعتبرين ولا يصح أن يكون هذا القول بدعةً وضلالاً، ومعلوم أن الزهري أعلم بآثار الصحابة وبإجماع أهل الحديث من عبد الله بن شقيق، وإن كان ابن شقيق أقرب حالاً منه من جهة الزمن والتاريخ، ولكن لو كان في المسألة إجماع لما خفي على الزهري وأمثاله.

الفرق بين الجمهور وبين المرجئة في عدم تكفير تارك الصلاة من جهة الاستدلال

الفرق بين الجمهور وبين المرجئة في عدم تكفير تارك الصلاة من جهة الاستدلال وهنا مسألة: وهي أن من لم يكفر تارك الصلاة على قسمين: منهم من لم يكفر تارك الصلاة، لكون الدلائل عنده لم تقم على كفره، ومنهم من لم يكفر تارك الصلاة لكونه لا يرى أن العمل يدخل في مسمى الإيمان، كما هي طريقة مرجئة الفقهاء، وهذا فرق معتبر، فمن جعل تارك الصلاة غير كافر لعدم ثبوت الدلائل الموجبة لكفره عنده، فهذا قول مأثور ولا يجوز تسميته بدعة، وإن كان مرجوحاً. وأما من جعل تارك الصلاة ليس كافراً، وموجب ذلك عنده أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، والصلاة من آحاده، فلا شك أن هذا الموجب بدعة، بإجماع السلف، وبهذا كان يُعلِل طوائف من المرجئة أن ترك الصلاة ليس كفراً، ولكن لا يجوز بحال أن يقال: إن من لم يكفر تارك الصلاة، فقد دخل عليه قول المرجئة، أو أنه تأثر بهم، أو أخذ بلوازم أقوالهم، أو غير ذلك من الإطلاقات والأقوال التي ليس عليها تحقيق. وكيف يقال عن الزهري وأمثاله: إنه على مثل هذا الوجه، مع أن الزهري من أشد الناس كلاماً في الإرجاء وذمه، بل إنه لما ذكر أحاديث فضل التوحيد كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عثمان في الصحيح: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)، وأمثاله من الأدلة التي قال عليه الصلاة والسلام فيها: إن الكلمتين أو إن الشهادة توجب دخول الجنة كان جوابه عن هذه الأحاديث: إنها أحاديث قالها الرسول صلى الله عليه وسلم قبل نزول الفرائض. وكل هذا يريد به الزهري رحمه الله المباعدة عن مذهئ المرجئة، وإلا فلا شك أن التوجيه لهذه الأحاديث ليس كذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث بهذه الأحاديث في المدينة النبوية، بعد نزول الفرائض، فجوابه ليس محكماً، ولكنه يُذكر ليعرف به أن الزهري كان من أبعد الناس عن الإرجاء، ومن أكثرهم ذماً له، حتى قال في هذا النوع من الأحاديث والآثار ما قال بموجب المباعدة عن الإرجاء وأهله.

حكم تارك المباني الأربعة

حكم تارك المباني الأربعة المأثور عن الأئمة في المباني الأربعة من الخلاف في كون تركها كفراً أو ليس كفراً هو باعتبار آحادها، فمن لم يكفر تارك الصلاة، لم يلزم من ذلك أنه يرى أن من جمع ترك الصلاة مع الزكاة مع الصوم مع الحج، لا يكون عنده كافراً. فمن حكى عن الشافعي أو مالك أن من ترك المباني الأربعة مجتمعة لا يكون كافراً، ومعتبره في ذلك أن مالكاً والشافعي لا يكفرون تارك الصلاة؛ فقد غلط، فإن حكم الواحد يختلف عن حكم المجموع، وبإجماع العقلاء وأهل الحقيقة الشرعية، أن من ترك الصلاة وحدها في الإثم والغلط ليس كمن تركها وجمع مع ذلك ترك الزكاة والصوم والحج، فإن هذه حال مختلفة، ويعلم بهذا التنازع في آحاد المباني الأربعة غلط من يقول: بأن من ترك المباني الأربعة مجتمعة لا يكون كافراً بإجماع السلف، فإن هذا الإجماع ما قاله أحدٌ من السلف البتة. ومن كفر تارك الصلاة وهم الجماهير من أهل الحديث، فلا بد أنهم يكفرون تارك المباني الأربعة مجتمعة، ويكون القول بأن ترك المباني الأربعة مجتمعة كفر، هو قول الجماهير من أهل السنة والحديث على أقل تقدير، والقول الآخر لو صح -ولا أقول: إنه مأثور عن السلف- وهو أن ترك المباني الأربعة مجتمعة ليس كفراً؛ لكان أحد القولين للمتقدمين، ولكان قول الجماهير على خلافه. فعلى هذا: فقول من يقول بأن من ترك العمل كله، أو بما يعبر عنه بجنس العمل، فإنه في مذهب السلف لا يكون كافراً؛ هذا لا شك أنه ممتنع من حيث النقل المجرد، وإلا فلا شك أن الصواب أن ترك المباني الأربعة مجتمعة مع أصول الشرائع كفر بإجماع السلف. وقد كان السلف يعدون القول بعدم تكفير تارك المباني الأربعة مع أصول الشرائع من مقالات المرجئة، قال إسحاق كما ثبت عنه بسند صحيح عند الخلال وغيره: (غلت المرجئة حتى كان من قولهم: إن من ترك الصلاة والزكاة والصوم والحج وعامة الفرائض من غير جحود لها لا نكفره إذ هو مقر) ومن فقه إسحاق أنه ما ذكر مسألة المستحبات. والإشكال عندهم أنهم يقولون: كيف نكفره وهو مقر في الباطن مؤمن، والجواب: أنه إذا كفر ظاهراً في نفس الأمر، لزم أن يكون في الباطن كافراً. قال إسحاق: (فهؤلاء الذين لا شك عندي أنهم مرجئة)، ويقارب قوله قول لـ سفيان بن عيينة رحمه الله، وقد حكى الآجري وأبو عبد الله بن بطة، والإمام ابن تيمية الإجماع على هذا المعنى، وهو: أن من هجر أصول الشرائع فما ركع لله ركعة ولا سجد له سجدة، ولا صام يوماً ولا أتى البيت ولا طاف طوافاً، وهجر أصول الشرائع الواجبة مع وجود الإرادة والقدرة، أن هذا لا يكون إلا عن كفرٍ في الباطن، وهذا ما صرح به شيخ الإسلام رحمه الله. وأما المنازع في أحد المباني الأربعة فما كان السلف يعدونه مرجئاً، ولا عليه أثر الإرجاء كانت المنازعة معروفة، والصحيح من مذاهبهم، وهو المحقق في مذهب الإمام أحمد رحمه الله، أن العبد لا يكفر بترك واحد من المباني الأربعة إلا الصلاة، وأما غيرها كالزكاة والصوم والحج، فضلاً عما دونها من الواجبات والشرائع، فلا شك أن تركها ليس كفراً.

الحكم بغير ما أنزل الله وحكمه

الحكم بغير ما أنزل الله وحكمه ويذكر كثير من أهل العلم في هذا المقام مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، وهي مسألة طويلة، لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] فإن للسلف في هذا تفسيرين: الأول: أنه كفرٌ دون كفر، والثاني: بأنه الكفر المفارق للإيمان، فترى أن طوائف من السلف قالوا: هو كفرٌ دون كفر، وترى أن طوائف من السلف جعلوه كفر الملة المفارق للإيمان. وهذا أيضاً من الإشكالات التي يقع فيها بعض المعاصرين، فتجد من ينتصر انتصاراً مطلقاً للقول بأن هذه المسألة من باب الكفر دون كفر، ويدعي إجماع السلف على ذلك، وتجد من ينتصر للقول بأنها من الكفر الأكبر مطلقاً، وربما غلَّط سائر الروايات المأثورة عن ابن عباس وأصحابه من جهة إسنادها، أو أعلها، أو غير ذلك من الطرق التي يستعلمها من ينتصر لترجيح أن هذه المسألة من الكفر البين المخرج من الملة. والصواب: أن كلا التفسيرين مأثورٌ عن السلف، والإسناد الذي ذكره ابن جرير وغيره عن ابن عباس وإن كان فيه كلام، لكن هذا من الأقوال الشائعة المعروفة عن ابن عباس، وقد كان الإمام أحمد والبخاري يذكرون في تفسير هذه الآية في مسائلهم وكتبهم أنه كفرٌ دون كفر، ويسندون ذلك إلى ابن عباس، مما يدل على أنه قول شائع عند السلف ومنهم ابن عباس وأصحابه، وإذا ضعف إسناد أو تكلم في إسناد بعينه، لم يلزم أن يكون القول المأثور عن ابن عباس في سائر موارده كذلك. فالمحصل: أن كلا القولين مأثور عن السلف، وليس ذلك من اختلاف التناقض والتضاد، وإنّما من باب أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً دون كفر، وقد يكون كفراً أكبر، وذلك يرجع إلى حال المسألة وصورتها، بل ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن ما يسمى كذلك في كلام الفقهاء وغيرهم قد يكون معصيةً، وقد يكون كبيرةً، وقد يكون كفراً دون كفر، وقد يكون كفراً مخرجاً من الملة، مع أن سائر هذه الصور الأربع تسمى حكماً بغير ما أنزل الله. وبيان ذلك: أن القاضي لو قضى في رجل وجب عليه حد السرقة بقطع يده، فلم يَقطع يده وإنما اكتفى بجلده لموجب عرض له، فإن مثل هذا عند السلف ليس هو الكفر المخرج من الملة، بل يكون هذا من الكبائر ونحو ذلك، وبعض الصور قد تكون فوق ذلك. فهذه مسألة من الفقه لا يستعجل فيها، ولا ينبغي أن يخفض فيها ولا يرفع الناظر المبتدئ من طلبة العلم بحكمٍ قولي فضلاً عن حكم فعلي، بأن يتقحم شيئاً من الأفعال بناءً على قاعدةٍ أو نظرٍ رآه في كون هذا من الكفر المخرج من الملة، فإن الأصل في المسلمين هو الإسلام، ومن أظهر الإسلام وأظهر أصول الشرائع كالأذان والإِقامة والنّسك إلى بيت الله سبحانه وتعالى ونحو ذلك؛ فإن هؤلاء لا يزالون على الإسلام، ولا يصح أن يتقحّم عليهم بحال إلا إذا تحقق كفرهم بمقتضيات الشريعة ولوازمها على ما يعلمه من آتاه الله علماً وفقهاً في شرع الله سبحانه وتعالى.

أصل الإيمان في القلب

أصل الإيمان في القلب من المسائل أيضاً: مسألة قد يتردد فيها البعض من المتأخرين، وربما أطلق البعض أنها من أثر الإرجاء، وليست كذلك، وهي أن من أصول السلف أن أصل الإيمان في القلب، وهذا باتفاق السلف، وهو يرجع إلى مسألة التلازم بين الظاهر والباطن. وإذا قيل أصل الإيمان في القلب، فمعنى هذا أن العمل الظاهر من حيث هو ليس إيماناً، وإن كان إذا فعله العبد مجرداً عن التصديق في الباطن قد يحصل به نجاته في مسألة الأحكام الدنيوية، ولهذا كان المنافقون يصلون ويظهرون بعض الشرائع، فكان ذلك موجباً لحقن دمائهم ونحو ذلك. ولهذا قال شيخ الإسلام: (والمنافقون زمن النبوة مع أنهم كفارٌ في الباطن، كان الأصل فيهم تحريم الدماء، وكانوا يتوارثون مع المسلمين، إلى غير ذلك من الأحكام)؛ فالأعمال الظاهرة مبنية على الباطن، وعليه فيقال: إن الإيمان أصله في القلب. وهذا صريح في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، وللسلف في هذا قولان: فمنهم من قال: إنهم قالوا: (آمنا)، فنهاهم سبحانه وقال: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا): أي استسلمنا خوف القتل، وكان البخاري وطائفة يذهبون إلى أن هؤلاء الأعراب من أهل النفاق، وأنهم استسلموا خوف القتل، فمنع الله سبحانه وتعالى أن يقولوا: (آمنا) وقال: (قُولُوا أَسْلَمْنَا)؛ لأن لفظ الإسلام إذا أطلق يدخل فيه المنافق. ولكن الجماهير من السلف يقولون: إن هؤلاء الأعراب من أهل الإيمان، أي: أن معهم أصل الإيمان، وأنهم مسلمون ظاهراً وباطناً وليسوا منافقين، لكن الإيمان لا يضاف إلا لمن استقامت حاله ظاهراً وباطناً على الإطلاق، ولهذا قال النبي لـ سعد: (أو مسلم)، عندما كان يقول: (أعط فلاناً فإنه مؤمن)، مع أن معه أصل الإيمان.

الفرق بين الإيمان والإسلام

الفرق بين الإيمان والإسلام وعن التفسير الذي ذكره البخاري رحمه الله، قال بعض الشراح كـ ابن حجر وغيره بأن البخاري يذهب إلى أن الإيمان والإسلام سواء، وأنه لا فرق بين الإيمان والإسلام، وهي مسألة نزاعٍ بين أهل السنة، وجمهور النزاع فيها نزاعٌ لفظي أو من نزاع التنوع، ولكن نُسب إلى البخاري وسفيان الثوري أنهم يقولون: إن الإيمان والإسلام سواء، وهذا القول لم يثبت عن الإمام البخاري رحمه الله أنه صرح به، وإنما فُهم من تبويب ذكره في صحيحه، فإنه قال: (باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وكان على الاستسلام خوف القتل) وذكر قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} [الحجرات:14]، وذكر حديث سعد: (أعط فلاناً فإنه مؤمن، فقال النبي: أو مسلم)، قال: فإذا كان على الحقيقة فهو قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، ففهم من ترجمته رحمه الله، أنه يرى أن الإيمان والإسلام سواء، وكذلك فهم من تفسيره. ولا شك أن الأمر ليس كذلك، فلم يعرف عن أحدٍ من السلف أنه سوى بين الإيمان والإسلام، والدلالة الشرعية بينة في أن منزلة الإيمان أعظم من منزلة الإسلام، بل إن ابن كثير والسمعاني وجماعة ذكروا إجماع أهل السنة على أن الإيمان والإسلام ليسا على درجةٍ واحدة، بل درجة الإيمان أخص، بل ذكر ابن كثير أن التسوية بينهما هي من أقوال المعتزلة. وعلى كل حال فعامة السلف على أن الإيمان والإسلام ليسا على درجة واحدة، بل الإيمان أخص وأولى، وإن كان كل ما كان إسلاماً صحيحاً، فلا بد أنه معه إيمان، وأما إظهار الإسلام الذي يعرض لبعض المنافقين، فلا شك أنه متجردٌ عن الإيمان.

شرح العقيدة الطحاوية [20]

شرح العقيدة الطحاوية [20] من المسائل التي حصل فيها خلاف كبير بين الطوائف المنتسبة للإسلام: مسألة الإيمان، فقد تكلمت فيها كثير من الطوائف بكلام مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وهدى الله أهل السنة والجماعة إلى القول الحق في هذه المسألة، فقالوا: إن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأهله فيه متفاضلون. وأهل السنة مع ذلك لا يتسرعون في الحكم على المخالف لمجرد مخالفته؛ بل إن هناك أصولاً وقواعد يسيرون عليها عند حكمهم على أهل البدع والمقالات المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة.

قواعد الحكم على المقالات البدعية

قواعد الحكم على المقالات البدعية هناك قواعد في الحكم على المقالات البدعية التي ابتدعها من ابتدعها من المخالفين لإجماع السلف، فعند النظر في هذه المقالات وأربابها ينبغي أن تُعتبر بعض القواعد.

القاعدة الأولى: لا يلزم من كون المقالة كفرا أن يكفر قائلها

القاعدة الأولى: لا يلزم من كون المقالة كفراً أن يكفر قائلها فمن القواعد في ذلك: أن كون المقالة كفراً لا يلزم منه أن يكون القائل كافراً، وهذه الجملة قد حكى شيخ الإسلام رحمه الله الإجماع عليها، كما في بعض رسائله، ولكن يقع في فقهها بعض الغلط، حتى تجد بعض من يتكلم من طلاب العلم، فيقول: كان السلف لا يكفرون الأعيان. ولا شك أن هذا غلط، فإن القول إذا قيل: إنه كفر، فمعناه أن الأصل فيمن قاله أن يكون كافراً، وإنما امتنع كفره لمانع، وعليه فمن رتب على هذه الجملة المجمع عليها أن السلف كانوا لا يكفرون الأعيان فقد غلط، بل لا شك أن من ثبت كفره لزم أن يسمى كافراً، ومعلوم أن المسلمين يكفرون اليهود والنصارى وأمثالهم من أهل الشرك والكفر والإلحاد. وأما أهل القبلة الذين قالوا مقالات كفرية، كمقالات من قال في الصفات وغيرها؛ فإن هذا المقالات تسمى كفراً، ولكن القائل بها لما كان مظهراً للصلاة والشعائر الظاهرة لا يكفر إلا إذا علم أن الحجة قد قامت عليه؛ لأنه إذا أصر فإن كفره لا يكون إلا عن نفاق في الظاهر، ويكون في الباطن كافراً، وعليه: فإن الأقوال تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: من المقالات ما يعلم أنها كفر ابتداءً، كمن قال: إن الله لا يعلم ما سيكون، تعالى الله عن ذلك، فهذا قول لا يقوله إلا كافر، وكمن سب الله وسب رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا لا يكون إلا كافراً. القسم الثاني: كالقول بخلق القرآن، وإنكار الرؤية، فهي كفرٌ في نفس الأمر، لكن قائلها لا يكون كافراً إلا إذا علم أن الحجة قامت عليه.

القاعدة الثانية: الذي يكفر من أهل الشرائع الظاهرة لا يكون إلا منافقا

القاعدة الثانية: الذي يُكفَّر من أهل الشرائع الظاهرة لا يكون إلا منافقاً ومن القواعد التي وذكرها شيخ الإسلام أن قال: إن الواحد من أهل الصلاة لا يكون كافراً في نفس الأمر إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق، وهذا يرجع إلى التقسيم المذكور في القرآن، من أن الناس إما منافق، وإما مؤمن ظاهراً وباطناً، وإما كافر ظاهراً وباطناً، قال: (فإذا كُفّر أحد أعيان أهل البدع المظهرين للصلاة ونحوها، فإن هذا لا بد أن يكون منافقاً، قال: ولهذا كان بعض أئمة السنة المتقدمين، إذا كفروا واحداً من هؤلاء سموه زنديقاً، والزنديق هو المنافق في لسان الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإن كان اسم الزنديق استعمل فيما هو أوسع من ذلك، كمن صرح بالردة والإلحاد وأظهر ذلك، فإن مثل هذا يسمى في كلام الفقهاء زنديقاً، ولهذا اختلفوا في قبول توبته وعدمه).

القاعدة الثالثة: في بيان من هو المعذور بالخطأ

القاعدة الثالثة: في بيان من هو المعذور بالخطأ أما القاعدة الثالثة: فهي ما ذكره شيخ الإسلام في في أكثر من موضع، ومنها في درء التعارض: أن كل من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأخطأه فإن خطأه مغفورٌ له، وهذه لها ثلاثة شروط: الشرط الأول: أن يريد الحق: فمن لم يرد الحق في هذه الأبواب -كأبواب الصفات- وإنما أراد الباطل؛ فإنه يكون كافراً. الشرط الثاني: أن يجتهد في طلبه: أي في تحصيله، فمن عدم الاجتهاد وإنما قال بالخرص والظن فإنه لا يعذر. الشرط الثالث: أن يطلب الحق من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم: فمن طلب الحق من جهة غيره، كاليهود والنصارى وأمثالهم لم يعذر، فمن الأحبار والرهبان من يزعمون أنهم يطلبون الحق، ولكن طلبهم للحق واقع من غير جهته صلى الله عليه وسلم، فلا يعتبر طلبه وإرادته. قال شيخ الإسلام: (وأهل البدع من أهل القبلة في الجملة هم مريدون للحق مجتهدون في طلبه من جهة الرسول، ولكنهم في هذه المقامات الثلاثة مقصرون: فإنهم في مقام الإرادة يعرض لهم من الانتصار لأقوالهم وأقوال أئمتهم ما ينقص مقام الإرادة. وفي مقام الاجتهاد يعرض لهم من الاشتغال بالطرق العقلية وأمثالها ما ينقص مقام الاجتهاد. وفي مقام الاتباع للرسول صلى الله عليه وسلم يعرض لهم من الموجبات الكلامية وغيرها ما يؤخر مقام الاستدلال عندهم بكلام الله ورسوله. قال: فمن صاحبه حال من التقصير فهو من الظالمين لأنفسهم، وهذه حال عامة أهل البدع، وإن كان يقع فيهم من هو من الزنادقة الكفار، وإن كانوا في الظاهر مسلمين، وهذا يقع في بعض أهل البدع من الجهمية وغيرهم، قال: وقد كفّر السلف بعض أعيانهم، ولا يلزم أن من كان كافراً في نفس الأمر من أهل البدع أن يكون السلف قد علموه أو قد عينوا كفره، بل قد يكون ليس معلوماً كما كان طرف وأعيان من المنافقين زمن النبوة ليسوا معلومين لجماهير الصحابة، وربما لم يشتغلوا بتعيين كفره لأنهم مشتغلون عن هذه المجادلة وهذا الخوض بتقرير الحق وغير ذلك).

القاعدة الرابعة: لا بد من مراعاة درجة المخالفة وسببها

القاعدة الرابعة: لا بد من مراعاة درجة المخالفة وسببها وهي مما ينبغي الاعتناء به: وذلك أنه إذا نُظر في مقالة وقائلها فإنه يعتبر في هذه المقالة والقائل بعض المعتبرات: الأول: النظر في حال المقالة عند السلف، ودرجة مخالفة هذه المسألة لمذهب السلف. الثاني: أن ينظر في موجب هذه المقالة عند صاحبها. فمثلاً: من نفى صفة قد يشترك هو وبعض أهل البدع في نفيها، لكن موجب النفي أهل البدع شيء، وموجب النفي عنده شيء آخر، كالحال التي عرضت لـ ابن خزيمة وبعض أهل العلم في بعض مسائل الصفات كمسألة إثبات الصورة، فمثل هؤلاء لا يخرجون عن مسمى السنة والجماعة، وإن كان الإمام أحمد لما سُئل عن حديث: (خلق الله آدم على صورته) قالوا: يا أبا عبد الله: إن قوماً يقولون على صورة آدم أو على صورة المضروب .. إلخ، قال الإمام أحمد: هذا قول الجهمية. فمع قول الإمام أحمد فيمن منع تفسير حديث الصورة بما هو معروف عن السلف أنه قول الجهمية، فلا يلزم من هذا أن يكون ابن خزيمة جهمياً، ومثله قول الإمام أحمد: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ونسب للبخاري أنه يقول ذلك، وقصته مع الذهلي مشهورة، فلا يجوز بحال أن يقال: إن البخاري جهمي، فهذا كلامٌ لا يقوله إلا ساقط الفقه، وعليه أن ينفقه في هذا الباب موجبات المقالات. وإنما كان السلف يقصدون بالتجهم والكفر وأمثال ذلك من الإغلاظ، مَنْ كان موجب هذه المقالات عنده أصولاً من الغلط البين، وعلامته أن يطرد على أصوله الفاسدة، وأما من كانت حاله على السنة والجماعة في الجملة، فإنه قد يقع في كلامه من الأقوال البدعية التي تكون مخالفةً للإجماع، بل قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى في المجلد التاسع عشر: (وكثيرٌ من مجتهدي السلف والخلف قد قالوا وفعلوا ما هو بدعة، لكنهم لم يعلموا أنها من البدعة المخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بل كانوا يظنون أنهم موافقون للسنة، فمثل هؤلاء لا شك أنهم معذورون). وحتى في مقالات الجهمية الكُفرية، يقول: (ومع هذا فهذه المقالات الكفرية تعرض لبعض أهل الإيمان فيقولها، ويكون عند الله مؤمناً ظاهراً وباطناً، ويكون قوله هذا غلطاً قد يغفره الله له).

حكم سب الله ورسوله

حكم سب الله ورسوله أحياناً تقع الإشكالات عند بعض المعاصرين في مسائل بينة، كمسألة سب الله أو سب نبيه، يكثر بعضهم من الجدل والخوض الذي لا معنى له في مسألة شرط الاعتقاد أو عدم شرط الاعتقاد، وهذا كله قدرٌ من التكلف. ومعلوم أن سب الله أو سب رسوله عليه الصلاة والسلام كفرٌ بإجماع المسلمين، ولكن من الغلط أن يُقال: إن من لم يكفّر من سب الله أو سب نبيه فهو على قول المرجئة؛ لأن المرجئة كانوا يكفرون بذلك، وقد حكى أبو المعالي الجويني -وهو من المرجئة الأشعرية- والرازي وغيرهما إجماع المسلمين على أن هذا كفر، وليس هناك أحدٌ في المسلمين يخالف ذلك. وإنما قد يقع بعض الإشكال في بعض الصور التي يتردد فيها في مسألة ثبوت العلم عند القائل في كون الكلام من السب مثلاً، أو في كون هذا هو القرآن، أو نحو ذلك على صورٍ يفرضها من يفرضها في بعض أحوال الجدل أو المناظرة أو المباحثة؛ فهذه مسائل لا ينبغي كثرة شغل الناس بها؛ لأنها مسائل محكمة، ومعلومٌ أن من نطق عاقلاً فسب الله أو سب رسوله صلى الله عليه وسلم؛ أنه يكون كافراً ولا بد. وأما إذا كان في حالٍ من الإغماء أو في حال من فقد العقل، أو غير ذلك من الصور التي تعرض؛ فمن البدهي في العقل والشرع أن مثل هذه الأحوال لا يؤاخذ بها العبد، فإن الكفر لا يكون إلا على قدرٍ من التكليف المصاحب لحال العبد عند وقوعه، أو عند الحكم به عليه.

التعبير بأن العمل شرط صحة في الإيمان

التعبير بأن العمل شرط صحة في الإيمان يقول البعض: إن العمل شرط صحة في الإيمان. ولا شك أنها من التعبيرات المتأخرة، وأن الأولى تركها، لأن الشرط إذا اعتبر في الاصطلاح كان خارجاً عن ماهية المشروط وإن كان ملازماً له، كأن تقول: إن من شروط الصلاة الطهارة مثلاً، فإنه من صلى بغير طهارة فلا شك أن صلاته تكون باطلة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ)، فهذا من باب هل هذا داخل في الماهية أم أنه ملازمٌ للماهية. وشيخ الإسلام أشار إلى أن هذه مسألة فيها طرف من النزاع، والصواب أن بعض الدلائل تدل على أن العمل لازم وشرط، وبعض الدلائل تدل على أن العمل داخل في الماهية، والقول بأن التعبير بالركن أولى لأن الركن داخل في الماهية، قول حسن، والأولى إذا ذكر مذهب السلف، أن تستعمل التعبيرات المأثورة عن السلف، فعند الكلام على الإيمان نترك استعمال لفظ الجنس ولفظ الركن ولفظ الشرط.

الفرق بين مذهب المعتزلة ومذهب السلف في الإيمان

الفرق بين مذهب المعتزلة ومذهب السلف في الإيمان بعد أن تقرر أن العمل أصلٌ في الإيمان، استشكل بعض الشراح الفرق بين مذهب أهل السنة والمعتزلة عند من يقول بأن العمل أصلٌ في الإيمان، فنقول: الفرق بَيِّن، وذلك من جهة أن المعتزلة فضلاً عن الخوارج، يلتزمون أن الواحد من الواجبات يكون تركه موجباً لعدم الإيمان، إما بالكفر عند الخوارج، وإما بالفسق المطلق عند المعتزلة، أما السلف فإنهم يخالفونهم في ذلك، ويجعلون الأصل في الواجبات الظاهرة أن ترك الواحد منها ليس كفراً ولا يوجب عدم الإيمان، ولم يتنازعوا في الواجبات الظاهرة إلا في المباني الأربعة على الخلاف المتقدم، فهذا هو جهة الفرق. وأما من فرق بينهما فقال: إن المعتزلة يجعلون العمل أصلاً في الإيمان، وأهل السنة أو السلف يجعلون العمل ليس أصلاً، فلا شك أن هذا غلط، وإنما الفرق باعتبار الآحاد، وأما باعتبار الأصل فإن السلف مجمعون على أن من ترك سائر العمل مطلقاً مع وجود الإرادة والقدرة فإنه يكون كافراً. ولا يعترض على هذا بأن يقال: رجل قال: لا إله إلا الله ثم مات، فإن قلتم: إنه مات مسلماً لزم أن العمل ليس أصلاً في الإيمان. ولا شك أن هذا إذا نظرته نظراً عقلياً مجرداً وجدت أنه ليس له قوة، لأنك إذا قلت: إن العمل ليس أصلاً في الإيمان، قلنا: فما حكمه؟ فإن قلت: واجب، من تركه يكون آثماً يوافي ربه بالإثم، قيل لك: فهل من قال: لا إله إلا الله ومات -على قول من يقول: إن العمل ليس أصلاً في الإيمان- يوافي ربه بالإثم؟ فالجواب: أنه لا أحد يلتزم بهذا. ويقال: العمل أصل إذا تركه مع وجود الإرادة والقدرة، أي: أنه يشترط تحقق الاستطاعة وتحقق القدرة، وهذا هو الأصل في سائر أحكام التكليف الشرعية.

أصل مقالات المخالفين للسلف في الإيمان واحد

أصل مقالات المخالفين للسلف في الإيمان واحد قال: [والإيمان واحد]، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (البدعة التي تفرعت عنها سائر مقالات المخالفين للسلف في مسمى الإيمان هي بدعة واحدة، وهي اعتقادهم أن الإيمان واحدٍ لا يزيد ولا ينقص، قال: فالخوارج والمعتزلة يجعلونه القول والعمل، ويجعلونه واحداً، فترك الواحد من الواجبات يوجب عندهم بطلان سائر العمل والقول، والمرجئة يجعلون الإيمان هو التصديق، أو يقول بعضهم: التصديق مع القول، ثم يجعلونه واحداً، ويكون ما عداه من الإسلام أو التقوى أو البر أو غير ذلك).

أقوال المخالفين للسلف متحدة في الأصول مختلفة في النتائج

أقوال المخالفين للسلف متحدة في الأصول مختلفة في النتائج وهذا يجرنا إلى الكلام عن مسألة في موجبات البدع وأصولها، ففي مسائل الإيمان والقدر والصفات، تجد أن الطوائف المخالفة للسلف طوائف كثيرة، وتجد أنها أيضاً طوائف متضادة، كالمشبهة مع المعطلة، والقدرية مع الجبرية، والمرجئة مع الخوارج والمعتزلة، ومع هذا فإنك إذا اعتبرت التحقيق، فإن أصول هذه البدع مع تضاد نتائجها هي أصول واحدة، فمثلاً في مسألة الصفات: تجد أن المشبهة كـ هشام بن الحكم وداود الجواربي، وأئمة التجسيم كـ محمد بن كرام، وأئمة المعتزلة نفاة الصفات، ومتكلمة الصفاتية كـ ابن كلاب والأشعري والماتريدي، كل هؤلاء مع تضاد نتائجهم أو اختلافها يعتبرون مبنىً أساساً في قولهم في مسألة الصفات، وهو دليل الأعراض، فمذهب المعتزلة يعتبرونه نتيجة لدليل الأعراض، والمشبهة يعتبرون مذهبهم نتيجة لدليل الأعراض، والأشاعرة يجعلون مذهبهم نتيجة لدليل الأعراض، والماتريدية كذلك، وإذا نظرت في كتب هذه الطوائف، وجدت أنهم يستدلون بدليل الأعراض، فإن قيل: فكيف تحصل بدليل واحدٍ هذه النتائج المتضادة أو المختلفة على أقل تقدير؟ قيل: هذا يرجع إلى أحد موجبين: الموجب الأول: هو الخلاف في بعض المقدمات، مثلاً الصفات أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم .. إلخ. جاءت المعتزلة فجعلت العرض ما يقابل الجوهر، وعن هذا قالوا بنفي سائر الصفات، وجاء الأشعري وقبله ابن كلاب فقال: والعرض هو ما يعرض ويزول ولا يبقى زمانين، وعن هذا ترى أن ابن كلاب والأشعري والماتريدي التزموا نفي الصفات الفعلية التي سموها الحوادث، وأما أصول الصفات فهي عندهم ثابتة على خلاف بينهم؛ لكونها لا تسمى أعراضاً، لأن حد العرض عندهم ما يعرض ويزول. وهذا كله تكلف، إذ بأي عقل وبأي نظام وبأي منطق وبأي قانون لزم أن العرض هو ما يزول ولا يبقى زمنين، إنما هو نوع من الحد لا أقل ولا أكثر، وهو من التحكم على لغة المنطق، لأنه حدٌ على غير موجب. الموجب الثاني: من جهة اللوازم، فمثلاً: الإشكال القائم بين نظرية الجبر ونظرية القدر، كنظرية فلسفية هو إشكال واحد، وهو أن الأثر لا يصدر عن مؤثرين، وهذا ليس كلاماً فلسفياً يقوله ابن سينا أو غيره فقط، بل يقوله أيضاً الغزالي والرازي، وأبو المعالي الجويني، فضلاً عن أئمة المعتزلة. فقالت الجبرية: المؤثر هو الله، وشاركهم في هذا في الجملة الكسبية من الأشعرية ونحوهم، وقالت القدرية: المؤثر هو العبد. وقد تقدم في مسائل القدر التعليق على أن متكلمة القدرية يختلفون عمن قال بأن أفعال العباد ليست مخلوقة من بعض رجال الرواية والإسناد، فإن من قال ذلك من بعض رجال الرواية الذين قال الإمام أحمد فيهم: (لو تركنا الرواية عن القدرية تركناها عن أكثر أهل البصرة) لم يكن موجب المقالة عنده هو الموجب عند أبي الهذيل العلاف أو واصل بن عطاء من المعتزلة، بل الموجب مختلف، مع أن المقالة قد تكون في الجملة مقالة واحدة، وإذا التزمت تفصيل النتائج، وجدت أن النتائج يلحقها قدرٌ من الاختلاف. فالقانون الذي يعتمده المتكلمون قانون عقلي، والحقيقة أنه رأي فلسفي لا أقل ولا أكثر، وهو مبني على قياس الله بخلقه، وهو قياسٌ فاسد بإجماع المسلمين، أنه لا تكون للعبد إرادة ومشيئة على الحقيقة، لأن الله هو الخالق لفعل العبد، ولم يفقهوا الفرق بين كونه خالقاً وكونه فاعلاً، فلا أحد من السلف يقول: إن الله هو الفاعل لأفعال العباد بل الأفعال أفعال العبد، ولكن الله هو الخالق.

اعتماد المتكلمين على العقل دون السمع

اعتماد المتكلمين على العقل دون السمع ثم بعد هذا تأتي المعتزلة تبحث في دلائل القرآن فتجد قوله تعالى: {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، فيقولون: هذا دليل على خلق القرآن، ويأتون لمسألة الرؤية فيتمسكون بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، فيقولون: هذا دليل عدم رؤية الله، مع أن هاتين الآيتين ليستا هما الموجب للمذهب، ومثلهم الأشاعرة لما نفوا الصفات الفعلية، فإنه لم يكن الموجب لذلك دليلاً من القرآن، وقد صرح بذلك الرازي فقال: (اتفق أصحابنا أن نفي حلول الحوادث ليس معلوماً بالسمع، بل ظاهر السمع عليه، ولهذا اشتغل أصحابنا إما بتأويله أو تفويضه، واستدلوا بدلائل العقل، قال: والصواب، هو الدليل المركب من السمع والعقل). ثم أتى بدليل زعم أنه هو النهاية، واستعمله الأشاعرة إلى عصرنا هذا في مختصراتهم، ويرون أنه هو الدليل القاطع المحكم، وهو دليل من نظره بأدنى عقل، عرف أنه دليل ساقط في العقل، فضلاً عن كونه ساقطاً في الشرع، فإنه قال: إن هذا النوع من الصفات، إما أن يكون كمالاً وإما أن يكون نقصاً، فإن كان نقصاً فالله منزه عن النقص، فلزم أن يكون إذا أثبت كمالاً قال: وإذا كان كمالاً، فإنه حادث، فيلزم أن يكون هذا الكمال فات من قبل، وفوات الكمال نقصٌ والله منزه عن النقص بالإجماع. والإجماع هو مقصوده بالدليل السمعي. ولا شك أن هذا دليل ساقط حتى في العقل، فمثلاً: {وَكَلَّمَ الله مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، يقول: إذا كان كلام الله لموسى كمالاً، لزم أن يكون هذا الكمال فاته قبل خلق موسى، وفوات الكمال نقص، والله منزه عن النقص بالإجماع. ومن أخص أغلاط الرازي أنه يزعم أن تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقص علم بالإجماع، والصحيح أنه معلوم بالعقل ومعلوم بالشرع الذي هو والكتاب والسنة والإجماع، مع أن تنزيه الله سبحانه وتعالى عن النقص معلوم بالعقل قبل ورود الشرع. ثم استدلال الرازي عنه جوابات، ومن بدهي الجواب أن يعارض الرازي بنفس الحال فيقال له: الأرض محدثة بعد أن لم تكن، والله هو الخالق لها بإجماع المسلمين وجماهير بني آدم، فخلقه لها كمالٌ أو نقص؟ إن قال: نقص فقد كفر، وإذا قال: إنه كمال، لزم على قاعدته أن يكون الكمال فاته من قبل، وما يقوله في الأفعال اللازمة المتعلقة بقدرته ومشيئته، يقال في الأفعال المتعدية كخلق السماوات والأرض ونحو ذلك، ثم إن ما كان حادثاً وهو تكليمه لموسى امتنع أن يكون قديماً، وما كان ممتنعاً لم يكن عدمه نقصاً، لأن الكمال والنقص متعلق بمسائل الإمكان والوجود.

تفاوت أهل الإيمان في أصل الإيمان

تفاوت أهل الإيمان في أصل الإيمان قوله: [وأهله في أصله سواء]، يقال: بل أهله في أصله مختلفون، حتى لو سلمنا جدلاً أن الإيمان هو التصديق، فإن التصديق يتفاضل، وبهذا تعلم أن التفاضل عند أهل السنة والجماعة في الإيمان ليس مقصوراً على الأعمال الظاهرة، بل التفاضل بالأعمال الظاهرة، وبالأعمال الباطنة، وبالتصديق نفسه، كما صرح به الإمام أحمد، وهو إجماع للسلف خلافاً لـ ابن حزم.

التعبير بالتفاضل وبالزيادة والنقص في الإيمان عند السلف

التعبير بالتفاضل وبالزيادة والنقص في الإيمان عند السلف وقد عبر الجمهور من السلف بأن الإيمان يزيد وينقص، وعبر ابن المبارك وبعض المتقدمين بأن الإيمان يتفاضل، والإمام مالك رحمه الله يقول: الإيمان يزيد وينقص، وفي بعض جواباته يقول: الإيمان يزيد. ويسكت عن ذكر لفظ النقص، وقد ذكر بعض المالكية وبعض الشراح من المتأخرين أن لـ مالك في مسألة نقص الإيمان قولين: القول الأول: أنه ينقص. القول الثاني: أنه لا ينقص، وهذا غلط على مالك، بل مالك رحمه الله تارةً يقول: يزيد وينقص، وتارةً يقول: يزيد، ثم يسكت أو ويتوقف عن لفظ النقصان، ومعلوم أن من أقر بزيادة الإيمان، لزمه بضرورة العقل فضلاً عن الشرع أن يقر بنقصه، ولهذا ترى أن السلف أطبقوا على أن الإيمان يزيد وينقص مع أن النقص لم يذكر في القرآن، بل ليس في القرآن إلا لفظ الزيادة. وقد قيل للإمام أحمد: (يا أبا عبد الله، الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم. قيل: فأين هو في كتاب الله؟ قال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، قيل: وينقص. قال: إذا كان يزيد فإنه ينقص)، وعليه فمن حكى عن مالك أنه ينفي نقص الإيمان ولو في أحد قوليه، فحكايته غلط، بل سكت في مقام لحكمة أو لمعنىً مختص. قال شيخ الإسلام: (ولعله كان في بعض مناظراته أو جواباته للمرجئة، فترك اللفظ الذي لم يذكر في القرآن إغلاقاً لباب الجدل)، أي: فإن مالكاً رحمه الله كان من أكثر الأئمة بُعداً عن الجدل والخوض في ذلك، فتكلم بالألفاظ المحكمة التي لا يتمكن سائل من أن يقول له: ما دليلك على لفظ النقص. وأما في السنة فإن الأمر كذلك، فلم يرد لفظ النقص إلا في مثل قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أغلب للب الرجل منكن)، وإن كان النقص المذكور هنا ليس هو النقص المراد الذي هو بترك المأمور أو بفعل المحظور ونحوه، وإنما هو نقص من حيث الأصل في العقل وفي الدين على ما فسره صلى الله عليه وسلم بكونها تمكث الليالي لا تصلي إلى آخره، ولكن استدل به طوائف من أهل السنة على نقص الإيمان، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا جعل الدين ينقص بما قُدّر في حكم الله وقضائه الكوني وإسقاطه الشرعي، فلأن يكون من تفريط العبد من باب أولى، فهذا استدلال حسن وهذه المسألة مسألة محكمة عند السلف وهي: زيادة الإيمان ونقصانه في موارده الأربعة.

زيادة الإيمان عند المرجئة والمعتزلة

زيادة الإيمان عند المرجئة والمعتزلة قال: [والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى] نعم هم يتفاضلون من هذه الأوجه، لكنهم أيضاً يتفاضلون باعتبار الإيمان نفسه. وعامة الطوائف بزيادة الإيمان حتى المرجئة والمعتزلة، ولكنهم يقصدون بالزيادة صوراً هي في نفس الأمر من الزيادة الشرعية، ويقصرون الزيادة عليها، فيقولون يزيد الإيمان بكثرة الأدلة، فمن علم مسألة من الشريعة بدليل فليس إيمانه بها كمن عرفها بخمسة أدلة، ويقولون: ويزيد بالاستمرار فإن التعاقب من زيادة الإيمان. فنقول: هذا يسلم أنه من أوجه زيادة الإيمان، لكن قصر زيادة الإيمان على هذه الأوجه هو المخالف لإجماع السلف، وإلا فإن كثيراً من الصور التي يذكرها هؤلاء تكون صوراً صحيحة، وإن كانوا يذكرون صوراً هي مبنية على أصول باطلة.

بيان قول أبي الحسن الأشعري في الإيمان

بيان قول أبي الحسن الأشعري في الإيمان محصل قول أبي الحسن الأشعري في مسمى الإيمان، أن الإيمان عنده هو التصديق، وهذا الذي ذكره الأشعري في اللمع وذكره جماهير أصحابه وانتصروا له، كالقاضي أبي بكر بن الطيب في التمهيد، وكـ أبي المعالي ومحمد بن عمر الرازي وغيرهم، وهذا هو الذي عليه جماهير الأشعرية، يحكونه مذهباً لـ أبي الحسن، وقد نص عليه أبو الحسن في كثير من كتبه، وإن كان طائفة من الأشاعرة قد مالوا عن هذا القول إلى قول مرجئة الفقهاء. وقد صرح بعض الأشعرية كصاحب المواقف بأن مذهبهم أن الإيمان هو التصديق، وأن مذهب أهل الأثر أنه قول وعمل، فكان قول أئمة السلف معروفاً عند كثير من علماء الأشاعرة، وأبو الحسن نفسه في مقالات الإسلاميين لما ذكر أقوال الناس ذكر قول أهل السنة والحديث في مسائل أصول الدين على طريقة من الإجمال، وفي آخر ما ذكر من مذهب أهل السنة والحديث، قال: إنه بكل ما يقولون نقول، فذكر أنه يقول بسائر الجمل التي ذكرها عن أهل السنة والحديث، ولكن علم أبي الحسن الأشعري بمقالة السلف كان علماً مجملاً. ولا أدل على ذلك من أنه في كتابه (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) ذكر قول المعتزلة في مسائل الدين كالصفات والقدر، والأسماء والأحكام وغيرها، بطريقة مفصلة عن أعيان المعتزلة، فذكر الفرق بين أبي هاشم وأبي علي أبيه، وذكر الفرق بين النظام والعلاف، وذكر أقوال أئمة المعتزلة والفرق بين البصريين والبغداديين من المعتزلة، لكن لما جاء إلى قول أهل السنة والحديث جعله في سياق مجمل لا يتجاوز الصفحتين أو الثلاث، مع أن مذهب المعتزلة أخذ من كتاب المقالات حيزاً كبيراً؛ فهذا دليل على أن علمه بالاعتزال ومقالات المعتزلة كان علماً مفصلاً لأنه كان معتزلياً، بل كان علمه واسعاً في غير مذهب المعتزلة كمقالات المرجئة ومقالات الشيعة والخوارج، بخلاف علمه بمقالات أهل السنة والحديث. وذلك لأنه لما كان معتزلياً ما كان ملتفتاً إلى مذهب السلف، وكان على طريقة شيوخه كـ أبي علي الجبائي وغيره، يسمون مذهب السلف: الحشوية والنابتة، .. إلخ، ولا يلتفتون إلى تفصيله وحقائقه، فلما رجع أخذ هذا المذهب مجملاً عن بعض حنبلية بغداد، وصار يذكره في كتبه، ويقول: إنه يقول به، وإنه ينتمي إلى أهل السنة والحديث. ومن بين الجمل التي ذكر في المقالات أنه يقول بها: أن الإيمان قول وعمل، فهذا يخرج على أحد طريقين: الأول: أن يقال: إن الأشعري كان له في مسألة الإيمان قولان، القول الأول: أنه التصديق، والقول الثاني: أنه قول وعمل، وهو قول أهل السنة والحديث، وهذه طريقة يلجأ إليها كثير ممن تكلم في مذهب أبي الحسن. وربما قال بعضهم: إنه كان يقول بأنه التصديق، ثم رجع وقال بأنه قول وعمل، ويجعلون هذا رجوعاً، لكون الأشعري عندهم رجع إلى قول أهل السنة والحديث في آخر عمره. وهذه الطريقة غير صحيحة، فليس القول بأن الإيمان هو التصديق هو قوله القديم، بل قوله القديم هو قول الاعتزال، والمعتزلة يقولون: إن الإيمان قول وعمل، وكان يقول: إنه لا يزيد ولا ينقص على طريقة المعتزلة المعروفة، والمذهب الثاني: أن الأشعري يرى أن الإيمان هو التصديق. وأما طريقة السلف فهو يتأولها، كما أنه ذكر عبارات توافق مذهب السلف، ولما أراد التفصيل تأول كلامهم إلى ما لا يتعارض مع مذهبه، وهذا الذي جعل بعض الباحثين يقولون بأن الأشعري رجع في مسألة الصفات الفعلية، وليس الأمر كذلك، فإن الأشعري أحياناً يقول: ونؤمن بأن الله مستوٍ على العرش كما ذكره الله، ونؤمن بنزوله كما حدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو يؤمن بالنزول كحديث؛ لأنه يرى أن أئمة السنة والحديث ذكروا حديث النزول وصححوه، فهو يصحح هذا الحديث لكنه لو سئل عن تفصيل معناه لتأوله. ولما كان أبو الحسن معتزلياً لم يكن يقبل الحديث أصلاً، فلما تأثر بأهل السنة وانتسب إليهم، فرأى أنهم يصححون حديث النزول مثلاً، فصار يذكره ويصححه ويستعمله، لكنه إذا أراد تفسيره فسره بما لا يعارض قوله في مسائل الصفات الفعلية، فالقصد أن هذا الوجه هو الأقوى، وأعني أن الأشعري يتأول قول السلف، ولهذا فعامة الأشاعرة من بعده يطبقون على أن مذهب أبي الحسن هو أن الإيمان هو التصديق، وأما قول السلف فإنه يذكره ولكن يتأوله، وقد ذكر شيخ الإسلام أن طائفة المتكلمة الصفاتية يذكرون قول السلف في الإيمان ويتأولونه بما لا يعارض قولهم بأنه التصديق، وهذا هو محصل قول أبي الحسن، ولا يقال إنه قول الجهم بن صفوان كما فهم البعض، بل يقال: إنه قول ينزع إلى قول جهم بن صفوان؛ لأن جهماً يقول: إن الإيمان هو العلم والمعرفة، والأشعري يقول بأنه التصديق، فبين القولين فرق وإن كان بينهما نوع من التشابه.

ضبط الخلاف في مسائل الإيمان وعدم التجاوز فيها

ضبط الخلاف في مسائل الإيمان وعدم التجاوز فيها مما ينبغي التنبه له: أنه كما يجب الاعتناء بمعرفة مذهب السلف في باب الإيمان، ألا تتحول بعض الفروع الذي يقع الخلاف فيها بين السلفيين أنفسهم إلى نوع من الاختصاص الذي ما كان السلف يجعلونه اختصاصاً، ويُقصد بهذا أنه من غير السائغ شرعاً أن يقع الخلاف بين السلفيين أنفسهم في مسائل قد لا تكون عند السلف من الأصول الموجبة للمخالفة، بل يجب أن يكون هناك اتفاق، فإن المذهب السلفي قائم على أصل عظيم وهو الاجتماع، وهو من أخص أصول السلف رحمهم الله، ولهذا ينبغي حسم مادة الخلاف قدر المستطاع، إلا في المسائل التي هي خلاف بين السلف، ومع ذلك فإن مثل هذا الخلاف لا ينبغي أن يكون موجباً للتفريق، وأما الخلاف الذي يقع به التفريق والتضاد، فإنه غير موجود في مذهب السلف؛ لأن السلف في مثل هذه المسائل مجتمعون على قول واحد، فلا بد أن قولهم في مسمى الإيمان، مثلاً قول واحد. أما المسائل التي قد تكون من محال نزاعهم، ككفر تارك الصلاة، أو كفر تارك الزكاة، فهذه مسائل لا ينبغي التشديد فيها، سواء فرض أن السلف أجمعوا على كفر تارك الصلاة، أو أجمعوا على عدم كفره، وهذا التنبيه لا يقصد به بأي حال من الأحوال التعليق على مقالات بعض الأعيان من المعاصرين، إنما المقصود أن تقرر الحقائق العلمية، وهذا هو المنهج الذي ينبغي أن يكون عند طالب العلم، وهو أن يقرر الحقائق العلمية الشرعية، وألا يلتفت إلى مسألة الأعيان قدر المستطاع، وإلا فقد يقول ببعض الأقوال أناسٌ لهم قدر وإمامة وعلم، ولكن يقع في كلامهم ما هو من مورد الإشكال، وقد يقولون قولاً مجملاً لا بد فيه من التفصيل. وخصوصاً ما قد يقع فيه البعض من طلاب العلم، الذين يقررون مسألة الإيمان والعمل، وأنه أصل، وربما قرروا أن ترك الصلاة كفر بالإجماع، ثم اشتدوا في هذا التقرير، وأكثروا من التعليق أو الاعتراض على الأقوال التي قررها الشيخ الألباني رحمه الله، ولا شك أن مثل تلك المبالغات غير صحيحة، خاصة عندما يصف بعض المتعجلين إماماً كالشيخ الألباني بأنه مرجئ، فهذا غلط صريح، وما كان السلف رحمهم الله يعدون حماد بن أبي سليمان مبتدعاً على الإطلاق، مع أن الشيخ الألباني رحمه الله ما كان يقول بقول حماد بن أبي سليمان وأمثاله من الفقهاء، بل يجعل العمل داخلاً في مسمى الإيمان وله تقرير حسن في مسائل الإيمان معروف، ولكن بعض التفاصيل قد يكون فيها نوع من الخلاف بين الشيخ الألباني رحمه الله وغيره، وربما يقال في بعض المسائل: إن تقريره فيها ليس مناسباً على الإطلاق. ولكن مع هذا كله فإنه يجب أن يحفظ لهذا الإمام العالم قدره وأن تحفظ له إمامته، وأن يحفظ له أيضاً مقامه في السنة، وإمامته السلفية العالية، ودرجته في علم الحديث بوجه خاص، وسائر علوم الشريعة بوجه عام، وفقهه رحمه الله في هذا مشهور، فبعض الأقوال التي قالها إذا كانت محل تعقب أو منها ما هو محل تعقب، فإنه ينبغي أن يتعقب على طريقة الأدب وعلى طريقة التنبيه، وأن لا يُفتات على هذا الإمام وهذا العالم في كلام لا يناسب مقامه، فإنه بإجماع علماء عصره إمام من أئمة السلفية، بل هو أخص أئمة السلفية في كثيرٍ من الأقطار الإسلامية، فله مقام معروف ينبغي حفظه واعتباره. وكذلك من ينتصر لأقواله رحمه الله، ينبغي أن يكون مترفقاً وأن لا يشقق على أقواله ولوازم أقواله أقوالاً قد تضاف إليه أو قد يضيفها من يضيفها إليه، ولا يكون الشيخ رحمه الله رحمةً واسعة قد نطق بها وصرح بها، فمثل هذه المسائل لا ينبغي ربطها بواحدٍ من الأعيان، لا بسماحة الإمام الشيخ الألباني رحمه الله، ولا بغيره من أهل العلم المعاصرين، وإنما تُربط هذه المسائل الشرعية إذا ذكرت بأصولها من الدلائل المذكورة في كلام الله أو كلام رسوله أو كلام السلف رحمهم الله، وإذا وقع أحد من الأعيان الكبار في الغلط، فإنه لا ينبغي أن يكون ذلك موجباً أو مسوغاً للاستطالة أو التعنيف أو الإضافات البدعية أو نحو ذلك من الكلام الذي قد يقال. ولا يفهم من هذا التعليق أن الحقائق العلمية لا تقرر، فالحقائق العلمية الشرعية التي تظهر من كلام الأئمة رحمهم الله يجب أن تقرر حتى وإن خالفت الشيخ الألباني أو غيره من الشيوخ والعلماء، لكن مع هذا فإن مثل هذه المخالفة ينبغي أن تقرر على طريقة الأدب والاعتذار والاستدلال، وليس على طريقة الذم والتجريح، أو إطلاق الأقوال بالتبديع أو التضليل، أو الإخراج عن السنة والجماعة، فإذا كان الشيخ الألباني رحمه الله ليس على طريقة سنية، أو ليس سلفياً فمن يكون السلفيّ إذاً؟! فهذا كلام يجب تركه، ولا يجوز لأحد أن يستطيل على أحدٍ من آحاد خلق الله، فضلاً عن أئمة العلم والدين والتقوى والعبادة الذين ندر وجودهم في مثل هذا الزمن، كالشيخ رحمه الله وأمثاله، وكسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ونحن نعلم أنهما قد اختلفا في بعض هذه المسائل، ومن المسائل التي كانا يختلفان فيها مسألة مسمى الإيمان، ومع هذا فإنا نعلم أن هذين الإمامين العالمين عليهما رحمة الله أعظم أئمة السلفية في هذا العصر بلا إشكال، وما معهما من الإمامة والفقه والعلم يجب حفظه واعتباره، ويجب الاقتداء بما قرروه من العلم والتقوى والإيمان والورع الذي قل كثيراً في الناس اليوم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمهما رحمةً واسعة. والأئمة رحمهم الله، قرروا مسائل كانت تخالف قول كثير من الصحابة رضي الله عنهم، بل قرروا مسائل قد كانت تخالف قول أبي بكر، أو قول عمر، أو قول علي، أو قول ابن عباس وغيرهم، وما كان هذا مستنكراً، وينبغي لطالب العلم أن يكون لديه استعدادٌ لتقبل ما دل عليه الدليل مهما خالف من يحبه أو ينتصر له الألباني رحمه الله، أو لغيره فإن الحقائق الشرعية يجب أن تكون هي الأساس. فمثلاً: لو قام في المسجد رجل عامي يقول: من أكل لحم الإبل فإنه يجب عليه الوضوء، فقوله هذا على خلاف قول مالك وأبي حنيفة والشافعي، إلا أن الصحيح عند أحمد أنه ناقض، فيجب أن تقبل هذا القول وإن كان مخالفاً للأئمة الثلاثة، والمقصود أنه قد يقول قائل من آحاد الناس وربما من عامتهم أقوالاً ويقر عليها، مع أنها تخالف أئمة كباراً كـ مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة، وعلى طالب العلم ألا يكون ضيق الأفق، ولا يكون انتصاره لإمام أو لعالم ملزماً في سائر الفروع والمسائل، فإن هذا هو الاقتداء المذموم الذي كان المتقدمون من السلف ومن يقتدي بهم كسماحة الإمام الألباني رحمه الله وغيره يذمونه. ولا ينبغي لمن يذم التمذهب لـ مالك أو للشافعي أو لـ أحمد أن يقع فيما هو مثله أو أبعد منه في تعصبه لبعض الأعيان من المعاصرين، بل المقصود هو الانتصار لقول الله سبحانه وتعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه السلف.

شرح العقيدة الطحاوية [21]

شرح العقيدة الطحاوية [21] من عقيدة أهل السنة والجماعة: أنهم يوالون عباد الله المؤمنين، ويرون أن الناس في الولاية متفاضلون، فمن حقق الإيمان كاملاً كانت له الولاية الكاملة المطلقة، ومن ارتكب بعض الذنوب والمعاصي كانت له الولاية بحسب إيمانه وتقواه لربه سبحانه. ويعتقدون أن أركان الإيمان هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره.

ثبوت الولاية لجميع المؤمنين

ثبوت الولاية لجميع المؤمنين قال المصنف رحمه الله: [والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن، وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن]. بعد ما ذكر المصنف رحمه الله مسألة الإيمان ومسماه، وتبين ما في كلامه في هذا الموضع من الإشكال، ألحق بهذه المسألة بعض المسائل المتعلقة بهذا الباب، فقال: (والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن)، أما على إطلاق الإيمان فإن الأمر كذلك، فإنه إذا ذكر المؤمنون وأريد بهم أهل الإيمان المطلق الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فإن الأمر كذلك، سواء كان هذا متعلقاً بجملتهم أو متعلقاً بأعيانهم. وأما إذا أريد بالإيمان ما ذكره الطحاوي رحمه الله أنه الإقرار والتصديق، أو على قول العامة من السلف بأن أصل الإيمان لا يستلزم البراءة من الكبائر، خلافاً للخوارج، فإن مرتكب الكبيرة على هذا الوجه لا يسمى ولياً بإطلاق، وليس معنى هذا أنه بريء من الولاية، أو لا ولاية له ألبتة، بل محصل درجة الولاية أن يقال: إنها فرع عن إيمان العبد، فبقدر إيمانه تكون ولايته، وإذا صح بإجماع السلف أن مرتكب الكبيرة معه أصل الإيمان، فلا بد أن يكون معه قدر من ولاية الله سبحانه وتعالى، وتكون ولايته بحسب إيمانه، وقد تقرر أن مرتكب الكبيرة لا يسمى مؤمناً على الإطلاق، ولكن يسمى في بعض المقامات مسلماً، ويسمى في بعض المقامات فاسقاً، ويسمى في بعض المقامات مؤمناً، كالفاسق في مقام العتق فإنه يدخل في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92].

أهل الإيمان المطلق هم أهل الولاية المطلقة

أهل الإيمان المطلق هم أهل الولاية المطلقة وإذا كان مرتكب الكبيرة لا يسمى ولياً بإطلاق، لم يلزم من هذا نفي مقام الولاية عنه من كل وجه، وفي سائر الموارد، فتكون النتيجة أن مسألة الولاية تبع لمسألة الإيمان، فمن سمي مؤمناً على الإطلاق -وهم السابقون بالخيرات- فهم أولياء على الإطلاق في أي في عامة مقاماتهم وأحوالهم. فتقول مثلاً: إن أبا بكر مؤمن وإنه ولي من أولياء الله، سواء كان هذا في مقام الأحكام، أو في مقام الثناء، أو في أي مقام من المقامات، لأن حاله رضي الله تعالى عنه كانت كذلك، أي أنه من السابقين للخيرات، ومثل ذلك إذا قلت عن عمر أو عثمان أو علي ونحوهم من الصحابة، وأعيان الأئمة.

أهل الكبائر لهم قدر من الولاية بحسب إيمانهم

أهل الكبائر لهم قدر من الولاية بحسب إيمانهم وأما الآحاد من المسلمين فضلاً عن أهل الكبائر المظهرين لكبائرهم، فإنهم لا يسمون مؤمنين في سائر المقامات، ولا سيما المقامات التي لم يصوب عليه الصلاة والسلام التسمية فيها كمقام الشهادة والتزكية، وذلك لأنه يقع فيهم من الظلم لأنفسهم، أو الظلم لغيرهم، سواء وصل هذا إلى منزلة الفسق أو لم يصل، وليس من سمي ولياً في مقام يلزم أن يسمى ولياً في سائر المقامات. وعليه فإن الفساق وهم من أهل الملة أهل الكبائر، معهم من الولاية بقدر ما يثبت لهم من الإيمان، فمقام الولاية يزيد وينقص كما أن مقام الإيمان يزيد وينقص، ومنه ما هو مطلق ومنه ما هو مقيد.

أركان الإيمان والتقيد بالعد النبوي فيها

أركان الإيمان والتقيد بالعدِّ النبوي فيها قال: [والإيمان: هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله سبحانه وتعالى]. هنا مسألة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر الإيمان أو ذكر الإسلام أو غيرها من الأصول، فجعلها أركاناً بالعدد، كما في قوله عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر: (بني الإسلام على خمس ..)، فمن السنة اللازمة ألا يعبر بأن الإسلام بني على غير ذلك. وهذا يقع من بعض المتأخرين، كقول من قال: إن الإسلام بني على خمس، وزاد معها سادساً، وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم علل تعليلات كثيرة، ومنها أدلة من الشريعة، أن هذه الأمة هي أمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذا أصل في الإسلام، وأنه سياج الدين، إلى غير ذلك، وكل هذا الكلام لا إشكال فيه، لكن ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بني الإسلام على خمس)، فإن من عدم الأدب معه أن يقال: إن الإسلام بني على ست أو إن أركان الإسلام ستة، حتى ولو كان المزيد أصل بإجماع أهل العلم، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وعليه: فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الإيمان: هو أن تؤمن بالله وملائكته ...) الحديث، وذكر الإيمان في حديث عبد القيس وفسره بما فسر به الإسلام، فإن هذه من السنن المقتفاة، فإذا قيل: ما هو الإيمان؟ قيل: الإيمان هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه .. إلخ. وإذا قيل: ما الإسلام؟ قيل: هو: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة .. إلخ.

خطأ من تجاوز العد النبوي للأركان

خطأ من تجاوز العَد النبوي للأركان فالاقتفاء أصل في هذه الأحرف النبوية، ولذا فإن من يزيد شيئاً من ذلك، على جهة العدد الصريح المخالف لعدده أو لحده أو لذكره صلى الله عليه وسلم، يقع في غلط من وجهين، الأول: من جهة أنه خالف الاعتبار الشرعي، والثاني: من جهة أنه خالف اللفظ الشرعي أنه لم يفقه ذلك، وإلا فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل في شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهو داخل في إقام الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وإقام الصلاة)، وإقامتها يستلزم التواصي بها، وكذلك إيتاء الزكاة، إلى غير ذلك. فليس ركن من هذه الأركان إلا وهو يتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهذه مسألة مما ينبغي الوقوف عندها.

الفرق بين الإسلام والإيمان

الفرق بين الإسلام والإيمان وهذه الأركان التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام، وجعلها هي الإيمان، استدل بها المرجئة على أن الإيمان في القلب، وأنه لا يكون في الظاهر، وأن العمل ليس إيماناً، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الإيمان جعل مورده القلب، ولما ذكر الإسلام جعل مورده الأعمال الظاهرة. وهذه مسألة الفرق بين الإسلام والإيمان، وقد اختلف فيها السلف اختلافاً لفظياً أو اختلاف تنوع، وقد تقدم أن مذهب عامة السلف، إلا ما حكي عن البخاري والثوري: أن الإيمان أخص، والسند عن الثوري لا يصح كما ذكره ابن رجب، وكذلك البخاري إنما حُصِّل مذهبه بالفهم. ولهذا يقال: إن المستقر عند السلف وهو ظاهر الكتاب والسنة، أن الإيمان أخص، واستدل من المرجئة على كون الإسلام أفضل، بأن الأنبياء سألوا الإسلام، كقوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128] قالوا: فدل على أن الإسلام أفضل. واستدل من استدل على التسوية بينهما، بمثل قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36]، قالوا: هذا يدل على أن الإيمان والإسلام سواء. ولا شك أن سائر هذه الأدلة لا تدل على ذلك، فإن الإسلام الذي سأله إبراهيم وإسماعيل، لا شك أنه الاستسلام لله، والانقياد له ظاهراً وباطناً، وهو الدين الذي ذكره الله بقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وما قال أحد من السلف إن الإسلام ظاهر لا باطن له، فإن الظاهر الذي لا باطن معه هو النفاق، وإذا سمي إسلاماً في بعض المقامات، فإنه يراد به الاستسلام الذي يمنع القتل ويمنع عدم إجراء الأحكام الظاهرة على صاحبه، وإلا فإن الإسلام الشرعي الذي امتدح الله سبحانه وتعالى أهله، كقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} [الأحزاب:35]، إلى غير ذلك، لا بد له من باطن. ومعلوم أن الأعمال الظاهرة التي ذكرها صلى الله عليه وسلم بقوله: (الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..) الحديث، مبنية على الباطن، كما أن لها ظاهراً، فمن قال: لا إله إلا الله، ولم يرد بذلك التوحيد والبراءة من الشرك، فإن شهادته لا تنفعه عند الله بإجماع المسلمين، ومثله من قال: إن محمداً رسول الله، ولم يكن ذلك صدقاً من قلبه، فإنه شهادته لا تنفعه، ومثله من صلى أو أدى الزكاة نفاقاً، فإن مثل هذا العمل لا ينفعه بالإجماع وبصريح الكتاب والسنة، والمقصود من هذا أن الإسلام الذي هو دين الله سبحانه وتعالى، له ظاهر وباطن بالإجماع، وإذا كان الإسلام ظاهراً لا باطن معه، فإنه النفاق الأكبر الذي ذكر الله كفر أهله في كتابه. وعليه: فإن الإسلام المطلق يتضمن الإيمان، ولهذا دعا به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كمثل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128]. وأما قوله: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36] فإنه دليل على أن الإيمان أخص، وليس دليلاً على التسوية. ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] فلما ذكر الإيمان، ذكره في مقام المخرجين، أي أن الذين أخرجوا منها هم فقط أهل الإيمان، ولا شك أن الذين خرجوا جميعهم من أهل الإيمان ظاهراً وباطناً. ثم قال: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] لأن هذا البيت فيه امرأة لوط، وامرأة لوط مسلمة في الظاهر كافرة في الباطن، ولهذا قال: {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] فسماهم مسلمين لأن فيهم من هو منافق، وهي امرأة لوط عليه الصلاة والسلام. قال شيخ الإسلام: (وأقوى ما استدل به من سوى بين الإسلام والإيمان من المتأخرين، هذا السياق من القرآن، قال: وهو عند التحقيق يدل على التفريق، أو على أن مقام الإيمان أخص، فإن المخرجين لم يكن معهم امرأة لوط، كما قال تعالى: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ} [الأعراف:83]، ولهذا لما ذكرهم الله سماهم مؤمنين، وأهل البيت سماهم مسلمين؛ لأن المرأة فيهم وهي منافقة)، وهذا استدلال متين وتحقيق بيَّن. وهذه الأركان التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم كل ركن منها قد يتضمن غيره أو يستلزمه، فإذا قلت: إن الإيمان بالله يتضمن أو يستلزم الإيمان بالملائكة، وكتبه .. إلخ، كان هذا صحيحاً، ولهذا فإن سائر موارد الشريعة وأحكامها الظاهرة والباطنة تعود إلى هذا التفسير.

العلاقة بين الإسلام والإيمان

العلاقة بين الإسلام والإيمان من قال إن النبي فسر الإيمان بالأعمال الباطنة، وهذا يدل على أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان، قيل: هذا غلط من وجهين: الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا في مقام ذكر الإسلام معه، فإن هذا جاء في حديث جبريل، وإذا ذُكر الإيمان والإسلام، ذكر الإيمان بأخص مقاماته، وهو القلب، وتقدم أن من أصول السلف أن الإيمان أصله في القلب، ولما ذكر الإسلام معه جعل الإسلام في الأعمال الظاهرة، لأن المنافق يسمى مسلماً، ولهذا لما ذكر الإيمان وحده في حديث عبد القيس ولم يذكر معه الإسلام، فسر الإيمان بالأعمال الظاهرة، ولما ذكر الله سبحانه الإيمان وحده ولم يذكر معه الإسلام، ذكره سبحانه وتعالى بأعمال باطنة وأعمال ظاهرة، كقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، وهذه كلها مقامات قلبية، ثم قال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [الأنفال:3] فجعل سبحانه وتعالى الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة من الإيمان. الوجه الثاني: أن يقال: إن الإيمان المذكور في حديث جبريل وهو ما ذكره المصنف هنا، يستلزم الأعمال الظاهرة، فإن من الإيمان بالله إقام الصلاة، بإجماع المسلمين. وكل أصل من هذه الأصول الستة يتضمن أو يستلزم الأعمال الظاهرة، فإن من صلى فقيل له: لِمَ صليت؟ فقال: إيماناً بالله، فإن قوله صواب بالإجماع، وكذلك من صلى وقال: إنما صليت استجابة لكتاب الله؛ لأن الله أمر بإقام الصلاة، وكذلك من صام وقال: إنما صمت استجابة لكتاب الله؛ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]، ومن أماط الأذى عن الطريق وقال: إنما فعلته استجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يدخل في الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الاستجابة فرع عن الإيمان، وكذلك سائر الأعمال الظاهرة.

الإيمان ليس هو مجرد العلم

الإيمان ليس هو مجرد العلم ومما ينبه عليه، أن الإيمان عند التحقيق ليس هو مجرد العلم، بل لا بد أن يصحب الإيمان انقياد، فإنه لا يسمى مؤمناً إلا من عرف وانقاد، أما إذا عرف ولم يكن منقاداً فإنه لا يسمى مؤمناً، وإنما يسمى عالماً أو عارفاً، ولهذا فبعض أجناس الكفار أثبت الله لهم قدراً من العلم والمعرفة في بعض السياقات، كإتيانهم الكتاب، أو إتيانهم العلم، ولكن لم يثبت لهم مقام الإيمان، مما يدل على أن الإيمان ليس هو محض العلم والمعرفة. وكذلك أركان الإسلام المذكورة في حديث جبريل هي متضمنة أو مستلزمة للأعمال الباطنة، فإن إقام الصلاة مستلزم للإيمان بالله وملائكته .. الخ. ولهذا أجمع المسلمون على أن من أظهر الصلاة ولم يكن مؤمناً بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أن صلاته لا تنفعه. وعليه فيمكن أن يقال: إن سائر الأعمال الظاهرة المذكورة في تفسير الإسلام هي متضمنة أو مستلزمة لما فسر به الإيمان، وإن سائر الأعمال الباطنة المذكورة في تفسير الإيمان، متضمنة أو مستلزمة للأعمال الظاهرة التي تقع على جهة التعبد والانقياد لله سبحانه وتعالى. ولهذا إذا تجردت الأعمال الظاهرة عن هذه الأصول الإيمانية الستة المذكورة في تفسير الإيمان، أصبحت الأعمال الظاهرة من النفاق الذي لا يقبله الله سبحانه وتعالى، فليس في هذا المورد شيء من الإشكال لمن تتبعه وعرف فقهه.

شرح العقيدة الطحاوية [22]

شرح العقيدة الطحاوية [22] من أركان الإيمان: الإيمان بالرسل، وقد ذكر الله تعالى في كتابه عدداً منهم، ولم يذكر أكثرهم، وإنما ذكرهم إجمالاً، وأخبر أنه يجب الإيمان بهم جميعاً، وإنما يعلم بكون النبي نبياً والرسول رسولاً بإخبار الله سبحانه وتعالى بذلك، وبالأخبار الصحيحة الثابتة عن الأنبياء عليهم السلام.

من أصول الإيمان: الإيمان بالرسل

من أصول الإيمان: الإيمان بالرسل قال: [ونحن مؤمنون بذلك كله، لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به]. أي أن من أصول الإيمان: التصديق بالرسالات السماوية وقد تقدمت مسألة النبوة، وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله): هذا مذكور في القرآن ومعناه: أنه لا ينقص أحد من الأنبياء والرسل عن مقام النبوة والرسالة، بل يؤمن بهم على ما ذكره الله إما مجملاً وإما مفصلاً.

معرفة نبوة الأنبياء إنما تكون بالأخبار الصحيحة

معرفة نبوة الأنبياء إنما تكون بالأخبار الصحيحة وتحت هذا يشار إلى مسألة مهمة، وهي: أن العلم بكون النبي نبياً أو بكون الرسول رسولاً إنما يعلم بإخبار الله سبحانه وتعالى، والأخبار الثابتة الصحيحة عن الأنبياء، وقد وقع في كلام طائفة من المفسرين، وكذلك في كتب أهل الكتاب، سواء في التوراة المحرفة، أو الأسفار الموجودة عند اليهود أو الإصحاحات الموجودة عند النصارى، وقع فيها ذكر لأعيان من الأنبياء، وأقوال تضاف إليهم، مع أن هؤلاء لم تنضبط نبوتهم، حتى يمكن أن يقال: إن أقوالهم تصح أو لا تصح. بل قد يكون بعضهم من الأنبياء، وقد يكون بعضهم من الأحبار والرهبان الذين ذكرهم الله في كتابه، كمثل قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله} [التوبة:31] فإن التسمك بهذا المقام ومحاكاة النبوة كان شائعاً في أحبار اليهود ورهبان النصارى.

ضابط التحديث عن بني إسرائيل

ضابط التحديث عن بني إسرائيل الكتب الموجودة اليوم في اليهود والنصارى لا يصح اعتبارها في تقرير الحقائق الشرعية، أو الحقائق العلمية، فضلاً عن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وإذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين أنه قال: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) وقوله: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فإن المراد بذلك، ما كان موجوداً في كتبهم المأثورة. وأما الكتب التي انتحلوها من بعد وعلم انتحالها، فإن مثل هذه الكتب لا يصح اعتبارها ولا يُحدَّث بها، ولكن بما في التوراة أو في الإنجيل، فإن مثل هذا هو المراد في قوله صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، وأما ما كان متأخراً حادثاً، ويعلم أنه ليس عليه أثر الأنبياء، فإن هذا مما يلزم اطراحه ولا يجوز اعتباره بحال من الأحوال. وقوله صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) ليس المراد بذلك أن تبنى التفاسير لبعض كلام الله في القرآن، أو بعض الأخبار التي ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام، على أخبار بني إسرائيل التي عليها أثر التحريف، فضلاً عن الأخبار التي ليست من أخبار أنبيائهم وإنما كتبها فلاسفتهم، أو رهبانهم أو كفارهم، فهذا باب ينبغي تضييقه، وقد كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أبعد الناس عن الأخذ عن بني إسرائيل حتى حدث بعض التابعين، ثم صار من بعدهم يذكرون كثيراً من الروايات عنهم. وما يذكر عن عبد الله بن عمرو وغير من الصحابة أنهم أخذوا بعض الروايات عن بني إسرائيل فهي على الوجه المأذون فيه في الجملة، وإن كان ما ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن مجملاً كقصة آدم مثلاً مع زوجه، لا يجوز أن تفسر تفسيراً مفصلاً بآثار عن بني إسرائيل لا يعلم أهي صحيحة أو ليست صحيحة، ولا يصح إدخال ذلك في قوله: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)، فإن النبي نهى عن تصديقهم، ونهى عن تكذيبهم في مثل هذه المقامات، لأنه إما أن يصدق باطل، وإما أن يكذب حق؛ هذا في الأمور المحتملة للتصديق والتكذيب. أما ما ابتدعوه في دينهم، وقالوه إفكاً وافتراءً فإنه يرد ولا كرامة له، بل يرد ولا يعتبر بحال.

شرح العقيدة الطحاوية [23]

شرح العقيدة الطحاوية [23] اختلف أهل السنة والجماعة مع المرجئة والخوارج والمعتزلة في حكم أهل الكبائر، فذهب أهل السنة إلى أنهم تحت مشيئة الله من شاء عذبه ومن شاء غفر له، وأنه لا يخلد أحد منهم في النار، وأن طائفة منهم غير معينة يدخلون الجنة ولا يعذبون في النار، وطائفة يدخلون النار ثم يخرجون منها إما بمحض رحمة الله، أو برحمته مع سبب من الشفاعة ونحوها، أما من خالفهم من الفرق في ذلك فقد ذهبوا في ذلك إلى مذاهب شتى، معرضين عن الكتاب والسنة اللذين فيهما النور والهدى.

حكم أهل الكبائر في الآخرة

حكم أهل الكبائر في الآخرة قال: [وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار، لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته، وذلك بأن الله تعالى مولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا بالإسلام حتى نلقاك به]. ذكر المصنف أهل الكبائر من جهة حكمهم في الآخرة، وهي مسألة الفاسق الملي، وقد تقدم أن الخوارج والمعتزلة يجعلونهم برآء من الإيمان، فالخوارج تقول: إنهم كفار، والمعتزلة تقول: إنهم فساق قد عدموا الإيمان. وقد اتفقت الخوارج والمعتزلة على أن أهل الكبائر يخلدون في النار، وأنهم ليس لهم حظ من رحمة الله سبحانه وتعالى وثوابه وفضله، وهو مذهب واضح وبين الضلال، ولأجل هذا الأصل أنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الأولياء والصالحين لأهل الكبائر؛ لأنهم يرون أن أهل الكبائر مخلدون في النار.

مذاهب المرجئة في حكم أهل الكبائر

مذاهب المرجئة في حكم أهل الكبائر وأما المرجئة فإن أقوالهم في أهل الكبائر ليست مفصلةًَ كأقوالهم في الإيمان، ومذاهب المرجئة في حكم أهل الكبائر ثلاثة: القول الأول: وهو قول غاليتهم، أنهم لا يعرضون لشيء من العذاب البتة، فيجزمون ببراءة سائر أهل الكبائر من عذاب الله سبحانه وتعالى، وهذا القول كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله يذكر في كتب المقالات عن غالية المرجئة، ولم يحفظ عن أحد من الأعيان المعروفين منهم أنه كان ينص على هذا القول وينتصر له، ولكن جاء في كتب المقالات أن هذا هو قول غالية المرجئة، وقد نسبه ابن حزم وأبو الحسن الأشعري إلى مقاتل بن سليمان ولا يصح ذلك عنه، ولكن يطلق ويقال: هذا قول الغالية من المرجئة؛ لأن هذا شائع في كتب المقالات. القول الثاني: ويسمى قول الواقفة من المرجئة، وهم الذين قالوا: إن أهل الكبائر تحت المشيئة، ولما كانوا ينكرون حكمة الله سبحانه وتعالى في أفعاله، أو ما يسمونه التعليل، فإنهم قالوا: إن أهل الكبائر تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى. وهذه الجملة من حيث الإجمال لا إشكال فيها، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، ومن أصول أهل السنة والجماعة أن أهل الكبائر في الآخرة تحت مشيئة الله. ولكن جهة الغلط عند واقفة المرجئة، أنهم قالوا: تحت مشيئة الله، ووقفوا على هذا ثم قالوا: قد يعذب سائرهم بالنار، ثم يخرجون منها، وقد يغفر لسائرهم، فلا يدخل أحد من أهل الكبائر في النار، وقد يعذب الأكثر حسنات ويغفر للأكثر سيئات، وهذا معنى كونهم واقفة، أي أنهم يقولون: إنهم تحت المشيئة، ثم مع ذلك يفصلون تفصيلاً يقع على سائر الفروضات العقلية في المشيئة، ولم يراعوا في ذلك أخبار الشارع فضلاً عن حكمته. وهذا القول يقوله طوائف من المرجئة، وهو قول أبي الحسن الأشعري وجمهور أصحابه، وإن كان الأشعري يذكر في كتبه ما يوحي أنه يخالف هذا القول، لكن على أقل تقدير هو أحد قولي أبي الحسن وجمهور أصحابه، وإلا فـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجزم بأن الأشعري على هذا المذهب وأنه لا يذكر في كتبه إلا مسألة المشيئة. ويمكن أن يقال: إن للأشعري في هذا قولين: الأول: هو القول الموافق لقول مقتصدة المرجئة، والثاني: وهو المعروف عنه في الكتب الكلامية، هو هذا القول. القول الثالث: هو قول مقتصدة المرجئة، وهؤلاء يوافقون السلف في حكم أهل الكبائر، ومن هؤلاء الفضلاء من أصحاب أبي الحسن الأشعري، فيقال: إن هؤلاء، وهم المقتصدة من المرجئة يوافقون السلف في حكم أهل الكبائر.

أصول مذهب السلف في حكم أهل الكبائر في الآخرة

أصول مذهب السلف في حكم أهل الكبائر في الآخرة وقول السلف رحمهم الله في حكم أهل الكبائر مبني على ثلاثة أصول: الأصل الأول: أنهم تحت المشيئة. الأصل الثاني: أنه لا يخلد أحد منهم في النار، بل مآلهم إلى الجنة، إما ابتداءً قبل عذاب، وإما مآلاً بعد العذاب، وهذان الأصلان في الجملة لا يخالفان قول الواقفة من المرجئة، وإنما يتميز مذهب السلف، بالأصل الثالث. ومحصل الأصل الثالث: الإيمان والجزم بأن طائفة من أهل الكبائر غير معينين يدخلون الجنة ولا يعذبون في النار، وأن طائفة منهم يعذبون في النار ثم يخرجون منها، إما برحمته المحضة، أو برحمته مع سبب من الشفاعة أو نحوها. وهذا الأصل يميز قول السلف عن قول المرجئة الواقفة؛ لأن السلف يجزمون بأن قدراً من أهل الكبائر لا يدخلون النار، ويجزمون بأن قدراً آخر من أهل الكبائر يدخلون النار. وهذا القدر الذي لا يدخل النار، والقدر الذي يعذب في النار ثم يخرج منها، ليس مبنياً على محض المشيئة فقط، بل هو مبني على مشيئته مع حكمته سبحانه وتعالى وعدله، ولهذا ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه الموازين، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، فلا شك أن الذين يعذبون في النار هم أكثر إتياناً للكبائر وأكثر فسقاً وأكثر فجوراً ممن لا يعذبون في النار؛ لأن الله سبحانه وتعالى: {لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء:40]، والموازنة مجمع عليها بين السلف، وقد ذكرها الله في كتابه، وذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم إما مجملة وإما مفصلة. وخذ هذه الموازنة أن الله لا يظلم مثقال ذرة، وأن حكمه عدل، فلا يعذب الأكثر حسنة ويغفر للأكثر سيئة، هذا لا يكون في عدل الله سبحانه وتعالى وقضائه؛ فإنه سبحانه وتعالى حكم عدل. ولهذا وصفت الموازنة المطلقة في القرآن بكونها عدلاً ولم يميز لها أحداً، ولما ذكر الله سبحانه وتعالى الموازنة بين الإيمان والكفر قيدها بنوع من المقدار والحد، كقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون:102 - 105]. فصريح في سياق سورة المؤمنون وسورة الأعراف وسورة القارعة أن الموازنة المذكورة هي في حق أهل الإيمان وأهل الكفر. وأما إذا ذكر الله الموازنة المطلقة المتعلقة بسائر خلقه، فإنه يذكرها ذكراً مطلقاً ويقيدها بعموم عدله وقسطه سبحانه وتعالى، ففي قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] ما ذكر الله فيها إلا أنها قسط وأنه سبحانه {لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} [النساء:40] إلى غير ذلك من سياقات القرآن. ولهذا كان إعراب قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] القسط: صفة، والأصل أن الصفة تتبع الموصوف في الإفراد والجمع، وهنا لم تتبعه، فجاءت الصفة مفردة والموصوف جمع لأنها مصدر، ولهذا قال ابن مالك في الألفية: ونعتوا بمصدر كثيراً ... فلزموا الإفراد والتذكيرا

تفصيل ابن حزم في الموازنة ونقده

تفصيل ابن حزم في الموازنة ونقده وهنا تنبيه في هذه المسألة؛ وهو أن الإمام ابن القيم رحمه الله نقل عن ابن حزم أنه يقول: (إن الموازنة في حق أهل الكبائر في هذه الأمة تكون مفصلة، قال: فمن ثقلت: أي فمن زادت حسناته على سيئاته بواحدة فإنه لا يعذب في النار، بل يدخل الجنة، وإن من زادت سيئاته على حسناته واحدة فإنه لا بد أن يعذب في النار ثم يخرج منها، وأما من استوت حسناته مع سيئاته، فإنه يحبس عن دخول الجنة شيئاً ثم يؤذن له بدخول الجنة، قال ابن القيم: وهذا هو قول الصحابة والتابعين، وكثير من الناس لا يعرفونه، بل لا يعرفون إلا قول المرجئة). والصحيح: أن القول بهذا التفصيل، لا تصح إضافته إلى الصحابة والتابعين على هذا الإطلاق، فإنه لا دليل عليه، إنما دل الدليل على غلط قول المرجئة الواقفة، ودل على أن الله سبحانه وتعالى: (لا يظلم مثقال ذرة) وأما الجزم بأن من زادت سيئاته واحدةً أنه يدخل النار، أو أن الذين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد دخلوا النار في حديث الشفاعة من هذه الأمة، هم من زادت سيئاتهم على حسناتهم بواحدة فما فوق، فهذا ليس بلازم. فمن زادت سيئاته على حسناته بواحدة، يمكن أن يغفر له قبل دخول النار، وليس هناك دليل يمنع أن يغفر له؟ والمغفرة هي محض حقه سبحانه وتعالى، ولو غفر لسائر أهل الكبائر لكان ذلك ممكناً، لكن لما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن طائفة منهم يعذبون ويخرجون بالشفاعة أو بمحض رحمة الله، وجب أن يقال: إنه من الإيمان، الإيمان بأن طائفة منهم يدخلون النار، ثم يخرجون منها، وإلا فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لمن يشاء، ولولا أخبار الشفاعة لما صح لأحد أن يجزم بهذا. فهذا الجزم الذي جزم به الإمام ابن القيم رحمه الله ليس جزماً مناسباً، وليس عليه دليل.

الخلاف حول أهل الأعراف من هم

الخلاف حول أهل الأعراف من هم والقول بأن من استوت حسناتهم مع سيئاتهم فإنهم يوقفون عن دخول الجنة ثم يدخلونها، لم يجد الإمام ابن القيم رحمه الله والإمام ابن حزم مع جلالتهما دليلاً واضحاً عليه، ولم يستدلوا على هذا إلا بآية الأعراف في ذكر أصحاب الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46]، فظاهر القرآن أن أهل الأعراف ينتظرون ثم يدخلون، لكن يبقى أن أهل الأعراف ما فسرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وألفاظ السياق القرآني بحكم كلام العرب لا يفهم منها ذلك، وإنما هذا اجتهاد قاله بعض السلف. وقد نقل عن ابن عباس وابن مسعود وجابر أن أهل الأعراف: هم من تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، إلا أن هذه الآثار لا يصح منها شيء عن الصحابة. ومعلوم أن القاعدة: أنه إذا اختلف في تفسير آية، وللصحابة فيها قول، ولمن بعدهم قول، فإنه يؤخذ بمذهب الصحابة، وقاعدة ابن جرير في ذلك معروفة، إلا أنه لما ذكر تفسيرهم لأهل الأعراف، ذكر هذا عن ابن عباس وغيره، وذكر أقوالاً، ثم غلط قول من يقول بأنهم ملائكة، ورجح أنهم قوم من بني آدم، ولكنه ذهب إلى التوقف فيهم، فما جزم بأنهم من استوت حسناتهم مع سيئاتهم، مع أنه نقل هذا عن بعض الصحابة، وهذا موجبه أنه لم يصح عند ابن جرير شيء من هذه الروايات عن الصحابة. ثم إنه لو سلم جدلاً أن هذه الرواية صحيحة عن ابن عباس، فلا يلزم من هذا أن يقال: إن هذا مذهب سائر الصحابة والتابعين. ثم إذا وقف الله سبحانه وتعالى قوماًَ من هؤلاء، لم يلزم أن يوقف سائرهم، فهذه كلها لوازم وتحصيلات ليست دقيقة. وسائر الأدلة التي استدل بها ابن حزم وابن القيم رحمهما الله هي آيات الموازنة المذكورة في سورة الأعراف والمؤمنون وفي سورة القارعة، وهي في ذكر الكفر والإيمان كما هو صريح من سياقها، واستدلالهم بآية الأعراف استدلال مجمل، يحتاج إلى تفصيل من الشارع في حدهم، وعليه فنقول: هذا القول هو قول لطائفة من أهل السنة، وقد رد بعض أهل السنة والجماعة على الإمام ابن حزم رداً مشهوراً؛ لأن هذه المسألة أول من قررها بهذا الوجه هو أبو محمد ابن حزم في كتبه، وانتصر لها أبو عبد الله الحميدي صاحبه، وانتصر لها الإمام ابن القيم في طريق الهجرتين وغيره، فهؤلاء الثلاثة هم أشهر من قررها من أهل السنة من المتأخرين. ولا ترى في كتب السلف المتقدمة كالشريعة للآجري والتوحيد لـ ابن خزيمة، والإيمان لـ ابن منده وغيرها، لا ترى أن فيها ذكراً لهذا الكلام على وجه من الوجوه؛ فالسلف أجمعوا على الإيمان بالموازنة لكن ليس على هذا التفصيل، فعليه يقال: إن هذا التفصيل قول طائفة من أهل السنة والجماعة. وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قال: (وهذه المسألة فيها وجهان للمتأخرين من أهل السنة والجماعة من أصحابنا وغيرهم) ثم ذكر القول الذي ذكره ابن القيم، وذكر قولاً آخر، فهذه مسألة متأخرة لا ينبغي الجزم فيها، وأصول السلف مبنية على الأصول الثلاثة المتقدمة. وهذه الآية: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] صريحة في إبطال مذهب الخوارج، وإبطال مذهب المعتزلة، الذين قالوا: إن أهل الكبائر يخلدون في النار.

مسقطات العقوبة

مسقطات العقوبة وقال المصنف: (وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته، وشفاعة الشافعين)، أي: وإن كانت شفاعتهم من رحمته، كما هو صريح من النصوص أنه يخرج قوم من النار بمحض رحمته سبحانه وتعالى بغير شفاعة أحد. وقد ذكر أهل العلم ومنهم الإمام ابن تيمية رحمه الله: أن مسقطات العقوبة، بضعة عشر مسقطاً حسب الاستقراء الشرعي، الأول: التوبة، وقد أجمع المسلمون أن من تاب من الكبيرة، فإنه يغفر له. الثاني: الاستغفار، والاستغفار هنا مقامه أخص من مقام التوبة، والاستغفار تارةً يذكر ويراد به التوبة، وتارةً يذكر ويراد به ما هو أخص من ذلك. الثالث: الحسنات، فإن الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]. الرابع: دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب. الخامس: المصائب المكفرة. السادس: ما يقع في القبر من الهول. السابع: العذاب الذي يقع في القبر، فلا يوافي ربه بكبيرته، بل يزول أثرها بعذاب القبر. الثامن: مقامات الآخرة وعرصات القيامة، فهذه جملة من المسقطات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فإذا عدمت هذه الأسباب، المسقطة لعقوبة الكبيرة، قال: ولن تعدم إلا في حق من عتى وتمرد وشرد على الله شرود البعير الضال على أهله، فهنا يعذب في النار ثم يخرج منها). وهذا من سعة فقهه رحمه الله، فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لعباده المؤمنين؛ لأن معهم حسنة التوحيد، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعنى بهذه الحسنة، فقهاً ودعوةً وتعليماً، والمسلمون مهما كان فيهم من المعصية، ما دام أنهم محققون لأصل التوحيد، فإنهم على خير كثير، وهم قريبون من رحمته سبحانه وتعالى، وفضله وإحسانه.

إسقاط الكبائر بالمكفرات

إسقاط الكبائر بالمكفرات السبب الأخف، وهو المذكور في قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فيه بحث مهم، وهو أنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هو مشهور في السنة: أن من الأعمال الصالحة ما يكفر الذنوب، كقوله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن)، وكقوله: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه خمس مرات ..)، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة في الصحيح، إلى غير ذلك من النصوص، فهنا المشهور في كلام أهل السنة أن هذه الأعمال الصالحة، سواء كانت واجبة أو كانت مستحبة، إذا ذكر تكفيرها للذنوب، فإن المقصود بذلك أنها تكفر الصغائر. وقد حكى أبو عمر ابن عبد البر إجماع أهل السنة، على أنها تكفر الصغائر دون الكبائر. وهذا الإجماع الذي ذكره أبو عمر ابن عبد البر ينبغي فقهه، فإنه قد يفقه على أحد وجهين، الأول: أن يفقه أن السلف أجمعوا على أن الأعمال الصالحة، كالصلاة والحج وغيرها، لا يمكن أن تكفر أو أن تمحو ما هو كبيرة. ولا شك أن هذا الوجه من الفقه غلط، وإن أضافه من أضافه بعض المتأخرين للسلف، فهو إضافة غلط. الوجه الثاني من الفقه: أن يفهم منه أن هذه الأعمال الصالحة، قد تكفر ما هو من الكبائر، ولكن ذلك لا يطرد، إنما يطرد في الصغائر، وفقه الإجماع على هذا الوجه، هو الفقه الصحيح. وهو مذهب السلف ولا شك، وهذا هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تقريراً مفصلاً، وقرر أنه هو المذهب المعروف عن سلف الأمة. ويكون هذا الفهم وسطاً بين قول من يقول: إن هذه الأعمال الصالحة تكفر الكبائر باطراد كما تكفر الصغائر، فإن هذا خلاف كثير من النصوص وخلاف الإجماع، وبين قول من يقول: إنها لا تكفر إلا الصغائر ولا يمكن أن تكفر الكبائر، ويجزم بذلك، فهذا غلط أيضاً ولا يقوله أحد من السلف، وإن نقل بعض المتأخرين في هذا الإجماع فهو إجماع غلط كما يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

الدليل على تكفير الحسنات للكبائر

الدليل على تكفير الحسنات للكبائر والدلائل النبوية صريحة في هذا، ففي حديث عمرو بن العاص الذي أخرجه مسلم وغيره من طريق عبد الرحمن بن شماسة المهري المصري عن عبد الله بن عمرو عن أبيه عمرو بن العاص، وفيه قول عمرو لما أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه على الإسلام، قال: (فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده لأبايعه، قال: فقبضت يدي فقال: ما لك يا عمرو؟! قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت أشترط أن يغفر لي، أما علمت يا عمرو! أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبل) فتأمل قوله: (يهدم ما كان قبله) فإنه من سياق العموم، ولا شك أن هذا يمتنع معه أن يقال: إن الحج لا يمكن أن يكفر ما هو كبيرة. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم ..) وقوله: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ..)، ولا يمكن أن يجتمع السلف على أن من أتى هذا البيت فقام قيام السنة، واقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم فما رفث ولا فسق وتعبد لله، ووجل قلبه، وأدى الأركان على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع تمام الإخلاص وتمام المتابعة، ولكن عنده بعض الكبائر السالفة أن كبائره لا تغفر، فهذا تضييق لرحمة الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن فقه السلف يقف مع هذا، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه).

الجواب على إشكال المانعين من تكفير الحسنات للكبائر

الجواب على إشكال المانعين من تكفير الحسنات للكبائر والذي أشكل على أكثر المتأخرين هو الذي جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيره: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر)، قالوا: فهذا يدل على أن الكبائر لا تغفر، ولا شك أن هذا الاستدلال ليس استدلالاً صحيحاً، فإن الصلاة وسائر الأعمال الظاهرة، وحتى الأعمال الباطنة يقع فيها تفاضل، وليست صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، كصلاة أصحابه مع أنهم كانوا يصلون معه، وليست صلاة أبي بكر كصلاة آحاد الصحابة، وليست صلاة الصحابة كصلاة من بعدهم. فتكون الصلاة باعتبار أصل القيام بها مكفرة للصغائر إذا اجتنبت الكبائر؛ أما الكبائر فلا يتعلق تكفيرها بإقامة الصلاة حتى ولو لم تكن الإقامة التامة الموافقة لهدي النبوة من كل جهة، والتي ذكر الله عن أهلها أنهم في صلاتهم خاشعون، فلا يلزم أن كل عمل ذكره الشارع واجباً كان أو مستحباً يكفر الكبائر باطراد كما يكفر الصغائر. فإنه لو قيل إن التكفير يقع بمجرد إقامة الصلاة ولو غير تامة، لصح الاعتراض عليه بهذا الحديث، فإن الحديث معارض لهذا الفهم تماماً. ولكن إذا قيل إن الأعمال المكفرة يقع بها تكفير بعض الكبائر في بعض الأحوال، فإن هذا لا يكون معارضاً، ويمكن أن يقال: إن هذه الأعمال باعتبار أصولها، تكفر الصغائر، ولكن من حققها على وجه التمام، وكانت حالته في الجملة على قدر من الاستقامة والانقياد، ولكن كان معه يسير من الذنب والكبيرة، فإن هذه الأعمال تكون سبباً للتكفير. ومن إجماع السلف أن الله قد يغفر لأهل الكبائر بغير سبب من العبد، فمن باب أولى أن يكفر عنه وأن يغفر له بسبب منه وهو الحسنة، فإن الله قال: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها). وإذا كان الله يغفر لبعض أهل الكبائر بسبب من غيرهم وهو دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب، أو بشفاعة الشافعين، فيمكن أيضاً أن يغفر له بسبب من أعماله الصالحة، ومن عرف مقام الصلاة ومقام الحج، ومقام الجهاد، ومقام الصيام عند الله سبحانه وتعالى، عرف أنه يمكن أن يغفر بها ما هو من الكبائر، ألم يقل الله سبحانه كما في الحديث القدسي: (الصوم لي وأنا أجزي به). فتعليق هذه الأمور على التوبة لا شك أنه تعليق ضيق، بل يقال: إن هذه الأعمال كفارات للصغائر، وقد يقع في هذه الأعمال كأصول الواجبات من الحج والجهاد والصيام والصلاة، ما هو مكفر لبعض الكبائر، وهذه أحوال لا تطرد، وإنما يختص الله سبحانه وتعالى برحمته وتوفيقه من يشاء من عباده.

حكم الصلاة خلف البر والفاجر من أهل القبلة

حكم الصلاة خلف البر والفاجر من أهل القبلة قال المصنف رحمه الله: [ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم، ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً]. قوله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم): أما من مات منهم فقد أجمع السلف على أن من مات من الأبرار أو الفجار فإنه يصلى عليه، مهما كان فسقه، وإن كان الإمام ابن تيمية رحمه الله ذكر مقاماً -إنما أذكره ليفقه- قال: (ومن استفاض شره وظلمه وبغيه وعدوانه، فلو تخلف عن الصلاة عليه بعض الأعيان من الأئمة أو الأكابر حتى ينزجر الناس عن مثل هذا الظلم ويكفوا عنه، وحتى لا تكون حالته سنة لمن بعده، لكان هذا من الفقه الذي يقع في قدر من الاجتهاد المأذون فيه). وهذه العبارة بينة في أن هذا لا يفعله الآحاد من الناس، وإنما قد يجتهد في مثل هذا المقام واحدٌ من الأكابر من أهل العلم والفقه، ومع هذا فإن مقام الموت ينبغي ألا يعزر الناس أو يؤدبوا في مثله، بل ينبغي أن تكون هذه المقامات محلاً لاجتماع قلوب المسلمين، والظلم قد يكف بغير هذا الوجه، وإنما ذكرت ذلك لأن البعض قد ينقل عن شيخ الإسلام أنه يجوز ترك الصلاة على من استحكم فسقه، ولم يكن هذا من رأيه البتة، بل يرى أن ترك الصلاة عليه من آحاد الناس من الفسق والتكلف الذي لم يأذن به الله، وفيه شبه بطريقة الخوارج والوعيدية.

التفصيل في الصلاة خلف الفاجر

التفصيل في الصلاة خلف الفاجر وأما الصلاة خلفهم، والاقتداء بهم في الصلاة، فهذا له وجهان: أما إن كان هذا الفاجر ولياً للأمر: فإن الإجماع منعقد على أنه يصلى خلفه ولو كان فاسقاً، وأما إن كان من الآحاد فقد كره كثير من السلف الائتمام بالفاسق، وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد، والمشهور عند متأخرة الحنابلة، وهو الذي يقررونه في كتب المذهب أن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، وهذا لا يصح في مذهب أحمد، بل المحقق في مذهبه عند متقدمي أصحابه أنه كان يكره الصلاة خلف الفاسق، إلا إن كان ولياً للمسلمين. ولهذا صلى الإمام أحمد خلف المعتصم، مع أن المعتصم أقل أحواله أنه فاسق، فإنه كان مظهراً لنشر البدعة والانتصار لها، وإن كان مقتدياً بأخيه، فإن أخاه ليس صاحب سنة حتى يقتدى به، وتعليله: حتى لا تسقط هيبة الخلافة .. إلخ، ليس مسوغاً من جهة الشريعة، فمع فسق المعتصم إلا أن الإمام كان يرى الصلاة خلفه. وعليه فإن الصلاة خلف الفاسق: إن كان ولياً للأمر كأمير العامة ونحوه، فإن الصلاة خلفه تكون مشروعة، ومن الاقتداء الذي كان عليه السلف جمعاً للكلمة، وأما إن كان من آحاد الناس، فإن الصلاة خلفه صحيحة عند عامة السلف، ولكن كره بعض أئمة أهل الحديث الصلاة خلف الفاسق ولا سيما إذا كان إمام الحي، أي: إماماً راتباً، مع هذا كله فإنه إذا دخل المسجد، لا سيما بعد انقضاء جماعة الإمام الراتب، فوجد من عليه أمارة الفسق يصلي بقوم ممن لم تدركوا صلاة الإمام، فلا يجوز هنا بحال أن يتخلف عن الاقتداء به لما ظهر عليه من الفسق، بل يصلي خلفه، فإنه في هذه الحال ليس مختاراً لإمامته، ولا يصلي وحده، إلا إذا اجتهد على معنى آخر من الفقه، فإن الأئمة الثلاثة - مالكاً والشافعي وأبا حنيفة - لا يرون إعادة الصلاة في المسجد، بل المشهور في مذاهب الأئمة الثلاثة، أنه إذا صلى إمام الحي ودخل من دخل فإنهم يصلون فرادى. بل حتى الحنابلة مع أنهم يرون إعادة الجماعة في المسجد إلا أن متأخريهم يقولون: إن مذهب أحمد أن ذلك مأذون فيه إلا مسجد مكة والمدينة، أي المسجد الحرام والمسجد النبوي قالوا: فإن إعادة الصلاة فيه جماعة مكروهة، ولهذا قالوا في مختصراتهم: (ولا تكره إعادة الجماعة في غير مسجد مكة والمدينة)، ولا شك أن هذا مذهب مرجوح، وأن الراجح هو أن صلاة الجماعة تعاد في أي مكان وتشرع في أي مكان، ولو صلى إمام الحي، وإن كان حديث: (من يتصدق على هذا) فيه كلام، فإن الاعتبار في هذه المسألة ليس بهذا الحديث، وإنما الاعتبار بعموم الأدلة التي شرعت صلاة الجماعة، فإنها أدلة ليس لها مخصص، وقد تتفق المذاهب الأربعة على قول ليس هو قول الجمهور من فقهاء السلف وأئمتهم، وهنا في مسألتنا هذه ظاهر مذهب أكثر السلف أنهم يرون إعادة الصلاة، وقد كانوا يصلون في رحالهم، ويصلون حيث أدركتهم الصلاة، وصلاة الجماعة مشروعة، بإجماع المسلمين، فلا يخص منها حال.

عدم الشهادة لأحد من أهل القبلة بجنة ولا بنار إلا بنص

عدم الشهادة لأحد من أهل القبلة بجنة ولا بنار إلا بنص قال: (ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً). أي: لا نشهد لأحد من أهل القبلة بجنة أو نار، إلا لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وتقدم أن هذا إجماع، وقال بعض أهل العلم من المتقدمين: يشهد لمن استفاض ذكره، وهذا مرجوح، والراجح أن هذا مقصورٌ على شهادته صلى الله عليه وسلم.

الشرك الأكبر والشرك الأصغر

الشرك الأكبر والشرك الأصغر قال: [ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى]. الشرك والكفر والنفاق، مستعملة في النصوص ويراد بها الأكبر، ويستعمل الكفر أو الشرك أو النفاق ويراد به ما دون ذلك مما يجتمع مع أصل الإيمان، ولهذا فإن السلف أجمعوا على أنه يجتمع في العبد طاعة ومعصية، خلافاً للخوارج والمعتزلة، وأجمع السلف خلافاً لجماهير المخالفين من المرجئة وغيرهم أنه يجتمع في العبد كفر وإيمان، ومرادهم بالكفر هنا الكفر الذي سماه الشارع كفراً وليس هو الكفر المخرج من الملة، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة كما في الصحيح: (اثنتان بالناس هما بهم كفر: الطعن في النسب والنياحة على الميت)، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود: (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم) ومثل هذا ليس كفراً أكبر بإجماع أهل العلم. وأيضاً الشرك، كقوله صلى الله عليه وسلم مثلاً: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، فإن الحلف بغير الله لا يلزم أن يكون شركاً أكبر، فقد يكون شركاً أكبر، كحال الجاهليين عندما كانوا يحلفون باللات والعزى؛ لأنهم كانوا يعظمونها التعظيم الذي لا يجب إلا لله سبحانه وتعالى، وأما أهل القبلة والإسلام إذا حلف الواحد منهم بغير الله، فإنهم في الجملة يقعون في الشرك الأصغر، وأنهم لا يقصدون بذلك أن يعظموا غير الله كتعظيمهم لله.

هل يقال: الشرك الأصغر؟

هل يقال: الشرك الأصغر؟ والشرك الأصغر هكذا يسمى عند المتأخرين، والأولى أن يقال: الشرك الذي ليس هو الشرك بالله، والكفر الذين دون كفر، وهذه العبارات هي المأثورة عن السلف، ومثله النفاق الذي ليس هو النفاق المخرج من الملة، وقد سمى له الشارع أعمالاً كقوله في حديث عبد الله بن عمرو: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً)، وقوله في حديث أبي هريرة: (آية المنافق ثلاث) فما حدها؟

لا يطلق الشرك إلا على ما أطلق الشرع عليه ذلك

لا يطلق الشرك إلا على ما أطلق الشرع عليه ذلك توسع بعض المتأخرين من أهل العلم فصاروا يسمون كثيراً من الكبائر شركاً؛ لأن الكبيرة تنقص تمام التوحيد، ولا شك أن هذه التسمية فيها نظر، والصواب أنه لا يسمى عمل أو قول كفراً أو شركاً أو نفاقاً إلا إذا كان الشارع قد سماه كذلك؛ لأن هذه التسمية معتبرة بالقدر والصفة، فليست معتبرة بالقدر وحده؛ لأنها لو كانت معتبرة بالقدر وحده للزم من ذلك أن العمل الذي دلت الدلائل الشرعية على أنه أعظم من هذا العمل الذي سماه الشارع نفاقاً أنه من باب أولى أن يسمى نفاقاً. مثلاً: سمى الشارع الكذب نفاقاً: (إذا حدث كذب)، ولم يُسَمِّ قتل النفس نفاقاً، مع أن قتل النفس أعظم من الكذب، فلو اعتبرنا مسألة القدر، لقلنا من باب أولى أن يسمى قتل النفس نفاقاً، إلا أن الصفة قضاء شرعي لا يجوز الاجتهاد فيه، ولهذا لما ذكر صلى الله عليه وسلم النفاق، ذكر من الأعمال المخالفة ما هو مناسب لماهية النفاق، كالكذب والغدر والفجور في الخصومة، ونحو ذلك. وأيضاً سمى إباق العبد كفراً، لكن لو أن العبد قتل نفسه ما سماه الشارع كفراً، مع أنه سمى مقاتلة المسلمين بعضهم لبعض كفراً كما قال في حديث أبي بكر وعمر: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، ومن حديث ابن مسعود: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقتل النفس أعظم من قتل الغير، فقد قال عليه الصلاة والسلام فيمن قتل نفسه: (خالداً مخلداً فيها أبداً)، وإن كان هذا الحرف -أبداً- ليس محفوظاً كما ذكره الإمام الترمذي، وإن أخرجه الشيخان.

الشرك الأصغر أعظم من كبائر الذنوب بالجنس لا بالآحاد

الشرك الأصغر أعظم من كبائر الذنوب بالجنس لا بالآحاد يشكل على بعض طلاب العلم أحياناً أن يقع في كلام بعض أهل العلم من أهل السنة، أن يقولوا: إن الشرك الأصغر أعظم من كبائر الذنوب، وإنما سماه الشارع كفراً لكونه أعظم من غيره مما لم يسمه كفراً، وهذا باعتبار الجنس، وليس باعتبار الآحاد، فإنك لا تستطيع أن تقول: إن إباق العبد أعظم عند الله من قتل النفس، أو إن إباق العبد، أعظم من زنا هذا العبد بموليته، أو بحليلة جاره أو نحو ذلك، فإن غاية الإباق أنه فوات لشيء من المال وإن سعي كفراً، والقصد أنه لا يلزم أن الذنب إذا سماه الشارع كفراً أن يكون أعظم من سائر الذنوب، وإنما هذه الجملة إذا عبر بها بعض من أهل السنة فمرادهم الجنس، وقول ابن مسعود: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أحلف بغيره صادقاً)، صحيح، لكن لا يلزم أن يكون هذا مطرداً في كل ما سماه الشارع نفاقاً، فتقول: إن الكذب أعظم من الزنا، وإنما يعتبر الأمر إذا أمكن بالجنس وليس بسائر الآحاد على الإطلاق.

شرح العقيدة الطحاوية [24]

شرح العقيدة الطحاوية [24] من عقيدة أهل السنة والجماعة: أنهم لا يرون القتل والسيف على أحد من الأمة إلا من وجب عليه ذلك، كإقامة الحدود ونحوها. ومن عقيدتهم: عدم جواز الخروج على الأئمة والولاة وإن كانوا ظالمين. ومن عقيدتهم: اتباع السنة والجماعة، ونبذ الخلاف والشقاق والفرقة، ومحبة أهل العدل والدين والإيمان، وبغض أهل الفسوق والعصيان، ويرون الحج والجهاد مع ولاة الأمور برهم وفاجرهم، خلافاً للرافضة الذين لا يرون الجهاد إلا مع غائبهم المنتظر المزعوم.

السيف مرفوع عن أمة محمد إلا بحق

السيف مرفوع عن أمة محمد إلا بحق قال المصنف رحمه الله: [ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا من وجب عليه السيف]. من وجب عليه السيف قد يكون معيناً وقد يكون جماعةً، أما المعين فإنه يجب عليه السيف فيه أحوال: منها: من بدل دينه كما في حديث ابن عباس: (من بدل دينه فاقتلوه)، ومنها الثلاث المذكورة في حديث: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فهذه من موجبات السيف، وهي من الحدود الشرعية، أو يكون السيف موجبه الكفر.

لا يلزم من القتال التكفير

لا يلزم من القتال التكفير ولكن ينبه إلى مسألة أن القتل والمقاتلة لا يستلزمان الكفر، فقد يلزم السيف في حق جماعة أو فرد لا يكون كافراً، كقتال البغاة، فإن البغاة مسلمون، وكقتل القاتل، فإن القاتل مسلم كما قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] ومع ذلك يقتل. وقد يكون كافراً معيناً أو جماعة يحرم في حقها السيف، كأهل الكتاب إذا دفعوا الجزية، فإنهم حال قيامهم بالجزية وشروطها تحرم مقاتلتهم، وكالمعاهد وكالمستأمن ونحو ذلك، فلا تلازم بين السيف وبين الكفر.

عدم جواز الخروج على ولاة الأمور واجتناب الفرقة والشقاق

عدم جواز الخروج على ولاة الأمور واجتناب الفرقة والشقاق قال: [ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة]. قوله: (ولا نرى الخروج على أئمتنا)، أي: على أئمة المسلمين، وهم سلاطينهم الذين أقاموا أصل الإسلام. (وإن جاروا) أي: وإن ظلموا، فسواء كان هذا السلطان مؤمناً براً راشداً قائماً بالعدل والقسط، أو كان مسلماً ولكنه ظالم ومقصر، وسواء كان التقصير من جهة نفسه، أو من جهة رعيته، فإن تقصيره وظلمه لا يكون مسوغاً للخروج عليه، بل الأصل طاعته بالمعروف. وهذه جملة يعبر بها أهل السنة كثيراً وهي: أنه لا يجوز الخروج على أئمة الجور، ومن باب أولى على أئمة العدل، وهذه الفتنة تعرض للمسلمين في بعض أحوالهم، وقد سبق في التاريخ أن خرج البعض على نوع من الاجتهاد، لدفع ظلم فصار بهذا من الخروج من الشر والفساد ما هو أكثر من ذلك، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعظم هذه المسألة كثيراً ويجزم بأن من أصول أهل السنة والجماعة، أنهم يرون وجوب السمع والطاعة لأولي الأمر سواء كانوا أبراراً أو كانوا فجاراً. والطاعة كما هو معلوم مقيدة بالمعروف، وهذه المسألة ينبغي لطالب العلم أن يفقهها، وهي مقام من مقامات الديانة التي يجب على المسلم أن يتدين بها، فإنه إذا كان ولي الأمر مسلماً محققاً لأصل الإسلام قائماً به، لزم طاعته وحرم الخروج عليه بالسيف، أو حتى بالقول.

الدعاء لولاة الأمور

الدعاء لولاة الأمور قوله: (ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية). ونرى طاعتهم بالمعروف من طاعة الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من يطع أميري فقط أطاعني، ومن يعص أميري فقد عصاني) كما في حديث أبي هريرة في الصحيح. قوله: (وندعو لهم بالصلاح والمعافاة). أي: وندعو لهم بالصلاح والاستقامة والمعافاة والهداية، ونحو ذلك مما هو موجب لمصلحتهم ومصلحة الرعية.

اجتناب الفرقة والاختلاف من أصول السنة

اجتناب الفرقة والاختلاف من أصول السنة قال المصنف رحمه الله: [ونتبع السنة والجماعة ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة]. وهذا من أصول أهل السنة وأئمة السلف، وهو أصل ذكره الله في كتابه كثيراً، ومنه قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]، ولهذا يجب حسم مادة الافتراق والتنازع، ولاسيما إذا كان الافتراق على مسائل ما كان السلف يجعلونها أصلاً. هذا وقد شاع كثير من الافتراق بين أهل السنة والجماعة اليوم لمسائل ما كان السلف يعدونها أصلاً، ومن هدي السلف والاقتداء بهم أن يكون الإجماع إجماعاً، وأن يكون الخلاف خلافاً، وأن يبقى الاجتهاد اجتهاداً، وأما أن تحول مسألة هي محل نزاع بين السلف، إلى أصل يجب فيه اختيار أحد القولين، ويعد هذا هو مذهب السلف، فلا شك أن هذا من المخالفة لمذهب السلف. وعليه فلا يجوز بحال أن يقال: إن هذا لا يصلي الصلاة السلفية، لأنه إذا رفع من الركوع وضع يده على الصدر والسلفيون لا يفعلون ذلك؛ فهذا غلط، لإن كثيراً من أئمة السلف ومنهم الإمام أحمد كانوا يرون وضع اليدين على الصدر بعد الركوع، وأكثر الفقهاء وكثير من السلف لا يرون وضع اليدين على الصدر بعد الركوع، بل يرون الإسدال. وليس المقصود هنا الانتصار لهذا القول أو الانتصار لهذا القول، لكن مثل هذه المسألة لا يجوز أن يميز بها السلفي من غير السلفي، فهذا التمييز لا شك أنه غلط، وما كان الأئمة يميزون أهل السنة باجتهاداتهم واختياراتهم، مع أنهم أفقه للدليل من المتأخرين، وإن كان البعض قد يتأول فيقول: إن هذا مخالفة للسنة والسلفي لا يخالف السنة، فنقول: هذه كلمة مجملة، وتحقيق أن وضع اليدين على الصدر أو خلاف ذلك مخالفة للسنة؛ هذا دونه خرط القتاد.

دقة الاستدلال عند السلف

دقة الاستدلال عند السلف ومقام الاستدلال عند السلف مقام دقيق. نضرب مثلاً في مسألتين على الاختصار: العامة من أئمة السلف من الفقهاء والمحدثين يذهبون إلى أن طلاق الثلاث ثلاث، مع أنه جاء في صحيح مسلم من حديث طاوس عن ابن عباس أنه قال: (كان الطلاق على عهد رسول الله وأبي بكر، وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم). فحديث ابن عباس هذا الذي رواه مسلم من رواية طاوس، صحيح في أن طلاق الثلاث في زمن النبوة وأبي بكر وفي صدر من خلافة عمر واحدة، فإذا أردنا الأخذ بالمقدمات الذهنية المبدئية للسيرة قلنا: السنة صريحة بأن طلاق الثلاث واحدة، مع أن العامة من السلف يرون أن طلاق الثلاث ثلاث، حتى قال ابن رجب: (واعلم أنه لم يصح عن أحد من الصحابة أو التابعين أو الأئمة المتبوعين، أنه جعل طلاق الثلاث واحدة)، مع أن هذا الإجماع الذي ذكره ابن رجب يخالف فيه شيخ الإسلام ابن تيمية ويذكر أن هذا قول طائفة من السلف، وليس المقصود بسط المسألة هنا. وروى أبو داود وغيره عن ابن عباس في مسألة المناسك أنه قال: (من ترك نسكاً فليهرق دماً)، فهذه اللفظة مجملة في مراد ابن عباس بالنسك. استقر عند عامة السلف من الفقهاء وأهل الحديث، أنهم يرون أن من ترك واجباً في الحج وجب عليه دم، وهذا مستقر عند المذاهب الأربعة وغيرهم، وإن كان البعض يقول: خالف في ذلك عمر لأنه سُئل عن المبيت في المزدلفة قال: (افعله ولا حرج)، أو قال: (لا شيء عليك)، أو قال: (استغفر الله)، وهذا ليس تحصيلاً للمخالفة؛ لأن واجبات الحج فيها خلاف كثير، فالمبيت بمزدلفة فيه خلاف، منهم من قال: هو ركن، ومنهم من قال: هو واجب، ومنهم من قال: هو سنة، فمثل جوابات عمر وغيره لا يلزم أن تكون دليلاً على أن عمر كان يرى أن ترك الواجب لا شيء فيه. فالمقصود أن العامة من السلف استقر عندهم أن من ترك واجباً فعليه دم وإن اختلفوا في تعيين الواجبات، ودليلهم قول ابن عباس: (من ترك نسكاً فليهرق دماً). السؤال: لماذا يستدلون بهذا الأثر هنا وقد تركوا قوله الذي قاله في الطلاق، مع أن قوله في الطلاق أضافه إلى النبوة، فقال: (على عهد رسول الله)، وهذا كأنه قاله اجتهاداً؟ فيمكننا أن نقول: إنه هنا أضافه إلى السنة فنقتدي به، وهذا اجتهاد من ابن عباس، والأصل عدم الوجوب وبراءة الذمة، وابن عباس مأجور على اجتهاده، ولكن لا يجب اتباعه؛ لأنه ليس مشرعاً، والشرع قال الله قال رسوله، وننتهي من المسألتين بطريقة مختصرة. لكن يبقى السؤال: لماذا أئمة السلف، والجماهير من الفقهاء المتقدمين ما انتهوا بنفس النمط؟ والجواب: أن هذا يدل على أن مسألة الاستدلال، ومسألة فقه الدليل مسألة مطولة ولا يكفي أن تحسن إسناد قد حكم بشذوذه عامة أهل العلم، ثم تلزم الناس بما دل عليه، وتجعل ذلك هي الطريقة اللازمة، وأن من خالفها فقد ترك السنة وأعرض عنها. أيضاً مثلاً: من مذهب الحنابلة أن القود لا يكون إلا بالسيف، واستدلوا بحديث: (لا قود إلا بالسيف)، وذهب مالك إلى أنه يكون بغير السيف على تقييد مشهور في مذهب الإمام مالك، والراجح مذهب مالك؛ لأنه هو المعتبر بقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126]، وأما دليل الحنابلة فهو حديث ضعيف، فيقال: إن الإمام أحمد لما قال: القود بالسيف ليس هذا هو دليله فقط، فإن الإمام أحمد نفسه رد هذا الحديث.

موالاة المؤمنين والبراءة من الفاجرين

موالاة المؤمنين والبراءة من الفاجرين قال: [ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة]. ومن الإيمان محبة أهل الإيمان لحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وحديث: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا)، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، وقال سبحانه: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55] إلى غير ذلك، فهذا من أصول الإيمان، وهو الولاء للمؤمنين والبراءة من أهل الشرك والكفر والنفاق والإلحاد.

رد العلم إلى الله فيما اشتبه علينا علمه

ردُّ العلم إلى الله فيما اشتبه علينا علمه قال: [ونقول: الله أعلم فيما اشتبه علينا علمه]. وهذه كلمة يجمع عليها أهل الإسلام، ولكن الكثير منهم لا يفقهونها، فكم تكلم من تكلم فيما لم يحكم علمه، بل قال بالجهل، أو قال بالظن، وقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، ولاسيما إذا كان المقام مقام حكم على الأعيان، أو حكم على الطوائف أو الجماعات أو غيرها، فإنه يجب هنا القيام بالعدل، والقيام بالعلم.

الكلام على تقسيم الدين إلى أصول وفروع

الكلام على تقسيم الدين إلى أصول وفروع قال المؤلف عليه رحمة الله تبارك وتعالى: [ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر]. قوله: (ونرى المسح على الخفين) مسألة المسح على الخفين هي من مسائل الفروع في الأصل، وإن كان هذا التقسيم وهو تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وقد تكلم فيه غير واحد، ومن أخص من تكلم فيه الإمام ابن تيمية رحمه الله. ولكن ينبَّه إلى أنه إذا ذُكر هذا التقسيم على معنى أن الدين منه ما هو أصل ومنه ما هو دون ذلك، فإن هذا صحيح ومجمع عليه ولا خلاف فيه، حتى ولو سمي الذي دون ذلك فرعاً فإن هذا مما يسوغ، وقد كان شائعاً في كلام أهل العلم من المتأخرين، وإنما الذي ينتقده شيخ الإسلام رحمه الله الطريقة الكلامية التي دخلت على بعض الأصوليين والفقهاء حين يقسمون الدين إلى أصول وفروع، فيرتبون على ذلك كثيراً من النتائج، فيقول كثير منهم: إن الأصول هي المسائل العلمية، والفروع هي المسائل العملية، أو يقول بعضهم: إن الأصول هي ما يعلم بالسمع والعقل، والفروع هي ما يعلم بالسمع وحده. ثم يرتب على ذلك نتائج، منها: أن المخالف في الأصول يبدع، وربما يقول بعضهم: المخالف في الأصول يكفر، والمخالف في الفروع لا يكون كذلك .. إلخ. مع أن هذه الحدود ليست مناسبة وليست موافقة لهدي السلف رحمهم الله؛ بل ولا لآحاد النصوص وصريحها، فإن قلنا: إن الأصول هي العلميات، فهناك من المسائل العلمية مسائل لا تعد أصلاً، وقد تنازع أهل السنة في رؤية الكفار والمنافقين لربهم سبحانه وتعالى، وهذه المسألة بإجماع السلف وأهل العلم ليست من الأصول التي يبدع ويضلل فيها المخالف، وتنازع الصحابة رضي الله تعالى عنهم في سماع الميت صوت الحي، وتنازع الصحابة رضي الله عنهم كـ ابن عمر مع عائشة وعمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه، مع أن هذه المسائل تعد من العلميات. وبالمقابل فإن ثمة مسائل من العمليات هي بإجماع المسلمين من الأصول: كالصلوات الخمس، فإنها فعل وعمل ومع ذلك هي أصل في الإسلام بإجماع المسلمين. ومثله حين يقول بعضهم: الأصول هي ما علم بالسمع والعقل، والفروع ما علم بالسمع وحده، فهناك مسائل كثيرة، هي بإجماع السلف من الأصول، بل ربما بإجماع المسلمين، وهي مع ذلك لم تعلم إلا بالسمع وحده ولم تعلم بالعقل، فمثل هذه لا يجوز أن تسمى فرعاً. وهذا الحد وما يترتب عليه من النتائج مشكل، ولهذا قرر شيخ الإسلام الإعراض عن هذا التقسيم من أصله، ولا يفهم من هذا أن شيخ الإسلام يمنع أن تسمي مسألة القدر أو مسألة الشفاعة أو مسألة الصفات ونحوها مسائل أصول، فإن هذا لا شك أنه غلط في فهم كلامه، فهو في كتبه يسمي هذه المسائل أصولاً، ولا شك أن في الدين ما هو أصل وما هو دونه، وإنما الإشكال طرد هذا التقسيم وما يستعمل فيه من الحد. والقصد أن مثل هذه المسألة لم يكن محلها في الأصل مثل هذه المختصرات المقولة في الاعتقاد وأصول الدين، وإنما ذكرها من ذكرها من أهل السنة لكون الخوارج وطوائف من أهل البدع لا يرون المسح على الخفين، ولكونه حصل وانعقد إجماع السلف على أن المسح على الخفين سائغ بل سنة، أي مضت به السنة النبوية، وإن لم يكن مستحباً على الإطلاق، لهذا الموجب ذكروا هذه المسألة في كتبهم أو في بعض كتبهم. ومن هنا ذهب بعض الفقهاء إلى أن المسح على الخفين أولى من غسل القدمين، وهذا القول قاله طائفة ولكنه ليس راجحاً والذي عليه الجماهير من السلف والخلف أن هذا ليس مشروعاً على الإطلاق، بل المشروع هو الحال المناسبة للإنسان، فلا يتكلف لبس الخفين ولا يتكلف أن يكون بضد ذلك، بل تكون حاله على المناسبة.

الخلاف في جواز المسح على الجوارب

الخلاف في جواز المسح على الجوارب وهنا تنبيه إلى مسألة: وهي أن الذي أجمعوا عليه هو المسح على الخفين، وكما قال الإمام أحمد: (فيه أربعون حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم) وأما الجوارب التي تسمى عند الناس اليوم بالشراب ونحوها فإن الإجماع لم ينعقد عليها، بل إن الأئمة الثلاثة: الشافعي ومالكاً وأبا حنيفة، وهو رواية في مذهب الإمام أحمد، لا يرون المسح عليها، وإن كان الصحيح وهو المحفوظ في مذهب الإمام أحمد أنه يمسح على الجوارب كما يمسح على الخفين، لأن هذا جاء عن تسعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وفيه حديث متكلم فيه، والراجح ضعفه ولكن الحجة في ذلك هو عمل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولم يحفظ لهم مخالف كما قال الإمام أحمد في جواباته.

الحج والجهاد مع ولاة الأمور

الحج والجهاد مع ولاة الأمور قال: [والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم، إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما]. مراده بذلك الرد على الرافضة الذين يرون أن الحج والجهاد أو الجهاد بوجهٍ خاص يكون مع الإمام، وهذه من أصولهم وأغلاطهم المعروفة، ومعلوم أن هذا الإمام الذي يتكلمون عنه قد غاب أو لم يوجد، بل قد مات من سنوات وهو في حال صباه، ويزعمون أنه منتظر، ومثل هذه المسائل قد عفا الزمن والعقل على الوقوف عندها، وإنما هذا نوع من الجهل والجاهلية التي ابتلي من ابتلي بها من الجهال.

شرح العقيدة الطحاوية [25]

شرح العقيدة الطحاوية [25] من عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بالموت وبما بعده، فيؤمنون بملك الموت وأنه موكل بقبض الأرواح، ويؤمنون بعذاب القبر ونعيمه، وأن القبر إما روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، وأن العذاب في القبر يكون على الروح والجسد ... وغير ذلك مما بينه ربنا تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

الإيمان بما بعد الموت

الإيمان بما بعد الموت قال المؤلف عليه رحمة الله تبارك وتعالى: [ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين]. الكرام الكاتبون هم الملائكة الموكلون بكتابة أعمال العباد، وهم المذكورون في مثل قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]، وقوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] ومثل قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح عن أبي هريرة: (يتعاقبون عليكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار)، فهؤلاء الكرام الكاتبون، يكتبون أعمال العباد حسنها وسيئها.

النزاع في المباحات هل تكتبها الملائكة أم لا؟

النزاع في المباحات هل تكتبها الملائكة أم لا؟ وقد تنازع أهل العلم في المباحات من الأقوال هل تكتب أو لا تكتب، على قولين مأثورين عن طائفة من الصحابة والأئمة: فمنهم من قال: إن كل شيء يكتب؛ لعموم قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق:18]. ومنهم من قال: لا يكتب إلا ما كان من الحسنات والسيئات؛ لظاهر قوله تعالى: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49]، فهذان قولان مأثوران والمسألة فيها سعة.

الإيمان بملك الموت

الإيمان بملك الموت قال: [ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين]. الله أعلم بماهية قبضه للأرواح، وإنما يؤمن أهل السنة والجماعة والجماهير من المسلمين بأن الله سبحانه قد وكل بالموت ملكاً يقبض أرواح العباد، وقد ثبت ذكر ملك الموت في السنة المتواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

الإيمان بعذاب القبر وفتنته

الإيمان بعذاب القبر وفتنته قال: [وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكرٍ ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه، على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم]. قوله: (على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم): عذاب القبر مذكور في القرآن، ولكنه ذكر في القرآن مجملاً، وهو المذكور في مثل قوله تعالى إخباراً عن آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} [غافر:46]، وكأن مراد الطحاوي رحمه الله بقوله: (على ما جاء عن رسول الله) أي: مفصلاً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فصل عذاب القبر. والأحاديث في عذاب القبر متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، ومن ذلك حديث أنس المتفق عليه: (إن أحدكم إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، حتى إنه ليسمع قرع نعالهم، قال: فيأتيه ملكان ..). وجاء عند ابن حبان: (أن أحدهما منكر والآخر نكير ..) ولهذا ذكر المصنف ذلك بقوله: (وسؤال منكر ونكير) وهذان اسمان للملكين، ولم يخرج في الصحيح تسميتهما، ولكن الأئمة ذكروا ذلك، وممن ذكر ذلك الإمام أحمد رحمه الله، واحتج على هذه التسمية بهذا الحديث، فهذا الحديث مستعمل في كلام الأئمة رحمهم الله ومحتجٌ به. ومن ذلك أيضاً ما جاء في حديث زيد بن ثابت الثابت في الصحيح قال: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن بضعة نفر، وهو على بغلة إذ جالت به وكادت أن تلقيه، وإذا أقبر خمسة أو ستة أو أربعة فقال: من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟ فقال رجل: أنا، قال: من هؤلاء؟ قال: ماتوا في الإشراك، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع به). وأيضاً في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير)، وفي روايةٍ في الصحيح: (وإنه لكبير) .. إلخ. وأيضاً جاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيح: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة ومقعده بالعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار)، فأحاديث عذاب القبر وكذا نعيمه متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أجمع عليها السلف، وخالف في ذلك طوائف من المعتزلة، فأنكروا عذاب القبر أو أنكروا بعض تفاصيله.

عذاب القبر ونعيمه على الروح والجسد

عذاب القبر ونعيمه على الروح والجسد وعند أهل السنة والجماعة أن عذاب القبر ونعيمه يكون على الروح والجسد، وأما قول من يقول: بأنه على الروح فقط، فإن هذا قول منكر مخالف لإجماع السلف، بل تعذب الروح متصلة بالجسد، ويقع العذاب عليهما معاً. والروح لها أحوال مختلفة، ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تطير في الجنة، وأن أرواح الأنبياء في عليين .. ولكنها وإن كانت تنعم في الدرجات العليا فإنها تكون متصلة بالجسد نوع اتصال، وهذا هو المقصود من قولهم: إن العذاب يقع على الروح والجسد، فالمقصود بذلك ما يقع بالاتصال، وإن كانت الروح قد تفارق مفارقة ما، إما إلى نعيم وإما إلى عذاب. وقد يكون العذاب أو النعيم على الروح والجسد مع أنهما في القبر، أي أن الروح تكون في القبر، فهذه أحوالٌ تختلف بحسب حال العبد، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الإيمان: أنه يفسح لهم في قبورهم، وما إلى ذلك، ولهذا قال في دعائه للموتى: (اللهم افسح لهم في قبورهم، ونور لهم فيها)، فالقصد أن أهل السنة أجمعوا على أن العذاب يكون على الروح والجسد، وقول من يقول: بأن الجسد لا علاقة له البتة، وإنما النعيم أو العذاب على الروح فقط، قول مبتدع وإن ذكره بعض المتأخرين من أهل السنة.

القبر روضة من الجنة أو حفرة من النار

القبر روضة من الجنة أو حفرة من النار قال: [والقبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران]. القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة، وذلك في حق أهل الإيمان والإسلام، وإما أن يكون حفرة من حفر النار، وذلك في حق أهل الكفر، وأما فساق أهل الملة فقد يعرض لهم في قبورهم ما هو من العذاب، ولكن لا يلزم أن يستمر هذا العذاب أو التضييق، بل يكون مآلهم إلى خيرٍ ورحمة من الله سبحانه.

الإيمان بالسمعيات

الإيمان بالسمعيات قال: [ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان]. جمهور الأصول السمعية متفق عليها بين عامة طوائف المسلمين، وإن كانت هناك مخالفات عند المبالغين في التأويل كبعض الغلاة من المعتزلة، أو من تأثر بالفلسفة من الأشاعرة، أو دخل في شيء من ذلك، أو في التصوف الإشراقي كـ أبي حامد الغزالي، حيث يعرض له في كلامه ما هو من التأويل لبعض هذه المسائل كمسألة الميزان ونحوه، وإلا فإن الأصل عند جماهير أهل القبلة -فضلاً عن إجماع أهل السنة والجماعة- هو الإيمان بهذه المسائل وأنها حقائق وماهيات الله أعلم بكيفيتها وماهيتها.

شرح العقيدة الطحاوية [26]

شرح العقيدة الطحاوية [26] الإيمان باليوم الآخر من أصول الإيمان عند أهل السنة والجماعة، فهم يؤمنون به وبما يجري فيه من الأحوال والمشاهد والمواقف والحساب والعرض مما أخبر به الله سبحانه في كتابه، أو رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بالجنة والنار، وأنهما مخلوقتان، وأنهما لا تفنيان ولا تبيدان.

الإيمان بالبعث

الإيمان بالبعث قال المصنف رحمه الله: [ونؤمن بالبعث]. وهو بعث الناس من قبورهم، فإن الناس يبعثون من قبورهم، ويصيرون إلى الحساب يوم القيامة، وهذا أصلٌ من أصول الإيمان مجمع عليه بين المرسلين، وقد كان البعث مذكوراً في كلام الأنبياء وسائر المرسلين، وجميع أهل القبلة يقرون بهذا، فإن من أنكر هذا لا يكون إلا كافراً. وزعمت المتفلسفة الذين ينتسبون إلى الإسلام كـ ابن سينا وغيره، أن البعث إنما هو للأرواح دون الأبدان، وهذا من كلام الفلاسفة، وليس عليه أثر الأنبياء أو هديهم.

حساب الكفار يوم الحساب

حساب الكفار يوم الحساب وكذلك الحساب: فإن الناس يحاسبون، وقد تنازع المتأخرون من أهل السنة، في محاسبة الكفار، هل يحاسبون أو لا يحاسبون؟ والصواب التفصيل فإن أريد بمحاسبتهم الموازنة بين الحسنة والسيئة فإن الأمر لا يكون كذلك؛ لأن الكفار لا يوافون ربهم بحسنة، وإن أريد بالمحاسبة الإقرار والإشهاد وما إلى ذلك من المقاصد والمعاني، فإن هذا لا شك أنه يقع، وقد ذكره الله في كتابه وذكره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في سنته. والكافر قد يقع منه ما هو من عمل الخير، ولكنه إذا لم يبتغ به وجه الله سبحانه وتعالى، فإنه لا يوافي ربه به بحسنة، بل يجزى بها في الدنيا، ولهذا جاء قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] فسماه خيراً، ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]، وفي الصحيح عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا)، فسماها حسنات، وهي أعماله من الخير، كالصدقة أو العتق، أو صلة الرحم، أو نحو ذلك. قال: (وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنةٌ يُجزى بها)، فلا يوافي الكافر ربه بحسنة يثاب عليها، بل ما يقع له من الخير والحسنة فإنه يطعم بها في الدنيا، كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قراءة الكتاب

قراءة الكتاب وكذا قراءة الكتاب وتقرير المؤمن بذنوبه، كما جاء في حديث ابن عمر وغيره في الصحيحين، فإن العبد يقرر بذنوبه، ثم يضع الله سبحانه وتعالى على عبده المؤمن كنفه؛ أي: ستره، ويقرره بما عمل.

الإيمان بالثواب والعقاب

الإيمان بالثواب والعقاب قوله: (والثواب والعقاب) أي: ثواب أهل الإيمان، وأخص ثوابهم هو رؤيتهم لربهم سبحانه وتعالى في الجنة وفي عرصات القيامة قبل ذلك، فهذا من ومقدمات ثوابهم، ثم إذا دخلوا الجنة وصاروا فيما فيها من النعيم، أمكنهم الله سبحانه وتعالى من رؤيته وهو المذكور في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]. وكذلك العقاب فإن الكفار يعاقبون في قبورهم، وكذا يعاقبون يوم القيامة وبعدها، فيدخلون النار على ما ذكر في الكتاب والسنة، وهذا العقاب والثواب يقع للروح والجسد بإجماع أهل السنة وعامة المسلمين، ولم ينازع في ذلك أحدٌ من أهل القبلة المعتبرين.

الإيمان بالصراط

الإيمان بالصراط قوله: (والصراط)، أي: فإن الناس يمرون عليه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حال الناس ومرورهم على الصراط، وبين أنهم على أحوال فقال: (وأن الصراط مدحضة مزلة، وعليه كلاليب وحسك مثل شوك السعدان، ثم قال: هل رأيتم السعدان؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فإنها مثل شوك السعدان تخطف الناس بأعمالهم، فمنهم المؤمن بقي بعمله ومنهم المجاز حتى ينجى ..) إلخ. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن منهم من يمرون كالبرق، وذكر صلى الله عليه وسلم أن أول زمرة يحشرون إلى الجنة على صورة القمر، إلى غير ذلك من التفاصيل النبوية التي ذكر فيها صلى الله عليه وسلم مقام الصراط وما يقع عنده من الشفاعة، وأن الرحم والأمانة تقومان على جنبتي الصراط، فكل هذه أحوال يقر بها أهل السنة والجماعة على حقيقتها وعلى مراد الله سبحانه وتعالى على ما حدث بذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

الإيمان بالجنة والنار وأنهما مخلوقتان

الإيمان بالجنة والنار وأنهما مخلوقتان قال المصنف رحمه الله: [والجنة والنار مخلوقتان]. وهذا بإجماع أهل السنة، وقد عُرض ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ورأى صلى الله عليه وسلم بعض أحوال العصاة ثم ذكر بعض أحوال أهل النعيم، وصريح الكتاب والسنة يدلان على أن الجنة والنار مخلوقتان، والآثار بذلك مستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا أجمع السلف.

بقاء الجنة والنار وعدم فنائهما

بقاء الجنة والنار وعدم فنائهما قال المصنف رحمه الله: [لا تفنيان أبداً ولا تبيدان]. أي أنهما في دوامٍ مستمر، وهذا قد اتفق عليه السلف خلافاً للجهم بن صفوان وأمثاله ممن لم يثبتوا دوام الجنة، أو دوام النار، أو ممن بقول أبي الهذيل العلاف، بأن أهل الجنة وأهل النار تنقطع حركاتهم ويظلون في سكونٍ دائم؛ لأن التسلسل عندهم في المستقبل ممتنع، فهذه أصول باطلة في العقل فضلاً عن بطلانها في الشرع.

نسبة القول بفناء النار إلى ابن تيمية

نسبة القول بفناء النار إلى ابن تيمية نسب لـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله القول بفناء النار. فنقول: أولاً: يجب أن يفرق بين هذا القول -على ما فيه من التعقب -من حيث هو ومن حيث كونه قولاً لـ شيخ الإسلام، فيجب أن يفرق بين هذا القول، وبين قول جهم بن صفوان، فإن الجهم بن صفوان يقول بفناء العذاب مع بقاء النار، والذي نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، هو القول بأن النار تفنى، أي: تنتهي، وأما القول بأن النار تبقى وينقطع عذاب أهلها، فهذا قول لم يؤثر عن أحدٍ البتة. وهذه المسألة ذكرها ابن القيم في كتابه حادي الأرواح، وذكر أن طائفة من السلف، بل نسب لبعض الصحابة، أنهم كانوا يقولون بفناء النار، وذكر أن في المسألة قولين لأهل السنة، وكأنه يميل إلى القول بالفناء، ولكنه لم يجزم به جزماً صريحاً. وعلى كل حال فنسبة هذا القول للإمام ابن القيم، فيه نوع من المقاربة، وإن كان كلامه في بعض كتبه يوحي بأنه يخالف هذا القول، ولكن إضافة هذا القول لـ ابن القيم له حظٌ من النظر أو الاعتبار؛ لأن هذا هو ظاهر كلامه. أما الإمام ابن تيمية رحمه الله، فإن نسبة هذا القول إليه لا تصح، وهناك رسالة صرح فيها بهذا القول، وهي منسوبة لـ شيخ الإسلام وقد حققت، ولكن الظاهر أنها لا تصح عنه رحمه الله، بل ظاهر كلامه في أكثر من موضع من كتبه، أنه يقرر هذه الحقيقة المجملة التي ذكرها أهل السنة، وهي أن الجنة والنار لا تفنيان، ولا يستثني من ذلك العذاب في النار أو ما إلى ذلك من الاستثناءات التي أضيفت إليها، ولو صحت هذه الرسالة لكان هذا مما يُجزم به قولاً لـ شيخ الإسلام، لكن هذه الرسالة وإن حققت ونسبت إليه إلا أن الأظهر أنها لا تصح عنه.

دخول الجنة فضل ودخول النار عدل من الله

دخول الجنة فضل ودخول النار عدل من الله قال رحمه الله: [فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه]. من دخل الجنة فهو بفضل الله تعالى ورحمته، خلافاً للمعتزلة الذين قالوا بأن هذا على طريقة المجازاة المحضة، وأنه واجب على الله. وكذلك من دخل النار فإنه يدخلها بعدله سبحانه وتعالى، فإن العبد إنما كفر بعد ما جاءته البينات والهدى.

شرح العقيدة الطحاوية [27]

شرح العقيدة الطحاوية [27] قدّر الله سبحانه وتعالى كل شيء من الأحوال الكونية والأوامر الشرعية، فإن الكون كله بيد الله، والخلق كله لله، وكل شيء يجري بمشيئة الله سبحانه وعلمه وقضائه.

أعمال العباد مقدرة

أعمال العباد مقدرة قال رحمه الله: [وكل يعمل لما قد فُرغ له، وصائر إلى ما خلق له]. أي أن العبد يعمل ما يسره الله سبحانه وتعالى له، كما في الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، وقوله: (قد فرغ له) أي ما مضى به القدر.

الخير والشر من تقدير الله

الخير والشر من تقدير الله قال: [والخير والشر مقدران على العباد]. قدر الله سبحانه وتعالى متعلق بكل شيء من الأحوال الكونية والأوامر الشرعية، فإن الأمر كله لله، والخلق كله لله، كما في قوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، وقدره سبحانه متعلق بسائر أمره وخلقه.

التفصيل في الاستطاعة

التفصيل في الاستطاعة قال: [والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به، تكون مع الفعل، وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع التمكين وسلامة الآلات، فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]]. قول أبي جعفر في مسألة الاستطاعة قول محقق؛ فإن لأهل الكلام قولين مشهورين في مسألة الاستطاعة، فمنهم من يقول: إن الاستطاعة تكون مع الفعل، ومنهم من يقول: إن الاستطاعة تكون قبل الفعل، وهذان القولان هما المشهوران عند المعتزلة والأشاعرة؛ والقول المحفوظ عند أهل السنة هو هذا التفصيل، وبهذا التفصيل يعلم أن الطحاوي رحمه الله مجانبٌ لمذهب الأشعرية؛ فإن عامة الأشعرية لا يقررون هذا المذهب.

نقد تعبير الطحاوي بأن الأفعال كسب من العباد

نقد تعبير الطحاوي بأن الأفعال كسب من العباد قال: [وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد]. وهذه جملة متعقبة في كلام الطحاوي، فإنه قال: (وأفعال العباد هي خلق الله) وهذا لا إشكال فيه، ولكنه قال: (وكسبٍ من العباد)، وقوله: (وكسب) هو من باب العطف، أي: فهي بخلق وكسب، فهذا التعبير بالكسب تعبير أشعري، وإن كان لفظ الكسب من حيث هو مستعمل في الكتاب وفي السنة أيضاً مثل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [المدثر:38]، وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، فأفعال العباد سميت بالشرع أو في كلام الله سبحانه كسباً، لكن تسمية أفعال العباد كسباً على الاختصاص بهذا اللفظ وحده هو الطريقة التي استعملها أبو الحسن الأشعري، وعامة أصحابه، ولهذا فإن تعبير المصنف هنا ليس بحسن. ولو عبر المصنف بالعبارات المأثورة عن السلف لكان أولى، فلم يكن السلف يخصون هذا اللفظ بأفعال العباد، وإن كان أصله مستعملاً في كلام الله سبحانه وتعالى، ولكن الأشاعرة يطلقون أن أفعال العباد كسبٌ ويريدون بذلك أن العبد يفعل بإرادة مسلوبة التأثير، وبإرادة -كما يعبر بعضهم- يقع الفعل عندها لا بها. فالقصد أن هذا موضع يتعقب فيه أبو جعفر الطحاوي لأنه خص ذلك بالكسب، وهذا التخصيص هو من أحرف الأشعرية في الأصل.

نقد قول الطحاوي: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم)

نقد قول الطحاوي: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) قال: [ولا يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير: (لا حول ولا قوة إلا بالله) نقول: لا حيلة لأحد، ولا تحول لأحد، ولا حركة لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى]. - قوله: (ولا يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون): هذه جملة أشعرية صريحة، بل يقولها الغلاة من الأشاعرة، والحق أن الله سبحانه وتعالى كلف العباد ما يطيقون، وأما قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) فإن الأمر ليس كذلك، بل تفضل سبحانه وتعالى ورفق بهم وكلفهم، مع أنهم يطيقون فوق ما كلفوا به، فالصلاة فرضت خمسين صلاةً، ثم راجع النبي صلى الله عليه وسلم ربه إلى أن جعلها الله سبحانه وتعالى خمس صلوات، وهذا إنما أطلقه والتزمه بعض أئمة الأشاعرة المتكلمين الذين غلوا في تقرير مسألة تكليف ما لا يُطاق، وهذه المسألة ما كان السلف يذكرونها. بل إن تسمية أحكام الشريعة تكليفاً ليس مأثوراً عن أحدٍ من السلف، وهذا مما نص عليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: (صريح في القرآن أن الله سمى العمل تكليفاً، أو سمى التشريع تكليفاً، لكن أن تسمى سائر مسائل الشريعة الواجب منها والمستحب والمباح تكليفاً، وكذلك أن تكون المنهيات من باب التكليف فهذا الإطلاق إنما حدث في اصطلاح المتأخرين). هذا فضلاً عن تكليف ما لا يطاق، فإن هذه ما نطق بها السلف أصلاً، والعبد إنما يكلف ما يطيق، وهذا بالإجماع لقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286].

هل يطيق العبد فوق ما كلف؟

هل يطيق العبد فوق ما كلف؟ وأما هل يطيق العبد فوق ما كلف، فإنه بيّن بالضرورة العقلية والحسية أن العبد يطيق أكثر مما كلف؛ فإن العبد يصلي هذه الخمس الصلوات مع أنه يطيق أن يصلي ست صلوات وعشر صلوات في اليوم والليلة، وهذه مسائل معروفة بينة الوضوح. وهذه النتائج من مسائل تكليف ما لا يطاق، ومسائل التعديل والتجوير التي توجد في كتب الأصوليين، فضلاً عن كتب أصول الدين عند المتكلمين، هي في الغالب نتائج في مسألة القدر. وهنا تنبيه: وهو أن هذه المسائل إذا ذكرت في كتب أصول الدين، يقول علماء الأشاعرة: هذا قول أصحابنا -يعنون الأشعرية-، والمعتزلة يقولون بأن هذا قول أصحابنا -يعنون المعتزلة- فيكون بيناً أن هذا قولٌ للمعتزلة وهذا قولٌ للأشاعرة، ولكن إذا ذكرت في كتب الأصول الكلامية، فمعلوم أن جمهور المتكلمين من الأصولين على طريقة أبي الحسن الأشعري هم من الشافعية، ومتكلمة الحنفية كثير منهم أو بعضهم على الاعتزال، فإذا ما ذكر معتزلة الحنفية هذه المسائل في مسائل أصول الفقه وقالوا: وقول أصحابنا كذا، فُهِم أن هذا مذهب الحنفية، في حين أن الغزالي أو الآمدي أو الرازي من أشعرية الشافعية إذا ذكروا هذه المسائل فقالوا: وقول أصحابنا، فيفهم أن هذا مذهب للشافعية. فهذه المسألة التي حقيقتها خلاف بين المعتزلة والأشعرية قد تنصب في كتب أصول الفقه الكلامية خلافاً بين الحنفية والشافعية، والحقيقة أنها ليست كذلك، بل هي خلاف بين المعتزلة والأشاعرة، وليست خلافاً بين سائر الحنفية مع سائر الشافعية أو المالكية.

تفسير الطحاوي للحوقلة

تفسير الطحاوي للحوقلة قال: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم، فهو تفسير: لا حول ولا قوة إلا بالله). أما المسألة فمن أصلها غلط، وأما كونها تفسيراً لهذه الكلمة فكذلك هو غلط آخر، بل قوله صلى الله عليه وسلم لـ أبي موسى -كما في صحيح البخاري -: (ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة قال: بلى يا رسول الله! قال: لا حول ولا قوة إلا بالله)، أي: أنه لا يكون شيء ولا تقع قوة من العبد ولا قدرة من العبد ولا تمكين من العبد إلا بقوة الله سبحانه وتعالى وحوله وطوله وتمكينه، فهذا من الاستعانة، وهذه أحد جمل الاستعانة، وأحد جمل التوحيد المحكمة، ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم كنزاً من كنور الجنة. قال: (نقول: لا حيلة لأحد ولا تحول لأحد، ولا حركة لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحدٍ على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى). أما أن هذا بمعونته وتيسيره وتوفيقه فهذا صحيح، وهذا انفكاك عن كونها تفسيراً لمسألة تكليف ما لا يطاق.

تعلق الحوادث بمشيئة الله تعالى

تعلق الحوادث بمشيئة الله تعالى قال: [وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه، وقدره]. أي: سواء كان ذلك في أفعال العباد، أو غير أفعال العباد، فسائر ما يقع فإنه بمشيئة الله سبحانه وتعالى وحكمته. قال: [غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً]. هذه الجملة مرادها صحيح، لكن التعبير بها ليس له تمييز، إلا على توجيه أن مراده رحمه الله أن مشيئته سبحانه وتعالى هي النافذة، وأن مشيئة العباد تبع لها، فهذا صحيح، ولكن لو عبر بغير ذلك لكان أولى.

تنزيه الله تعالى عن كل نقص

تنزيه الله تعالى عن كل نقص قال: [تقدس عن كل سوء وحَيْن، وتنزه عن كل عيب وشين {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]]. وهذا من التنزيه المجمع عليه بين المسلمين.

انتفاع الأموات بدعاء الأحياء وصدقاتهم

انتفاع الأموات بدعاء الأحياء وصدقاتهم قال المصنف رحمه الله: [وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعةٌ للأموات]. ذكر هذه المسألة في مسائل أصول الدين والاعتقاد ليس محكماً، وإن كان أبو حنيفة رحمه الله يذهب هذا المذهب، وهذه المسألة فيها نزاع مأثورٌ عن السلف، إلا أن المصنف خصص فقال: (وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم)، وبهذا التخصيص يكون كلامه صحيحاً، فإن الإجماع عند السلف منعقد على أن الدعاء والصدقة تنفعان الميت؛ لما جاء في ذلك من الآثار الصريحة في سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما ما عدا ذلك من القرب كقراءة القرآن فهي موضع نزاع بين السلف. وذكر المصنف لهذه المسألة هنا ليس له مقصودٌ بين، فهو وإن لم يكن مما ينتقد لكنها ليست من مسائل العقيدة، ولهذا ترى أن كتب أصول الدين لا تذكرها، فلو قُررت في مسائل الإجماعات الفقهية لكان أولى، وإن كان قد يستثني أحياناً فيقال: إن طوائف من أهل البدع يخالفون في هذا الإجماع ولهذا تذكر هذه المسألة في أبواب العقيدة، ولكن لا يطرد هذا؛ لأن هذا يستلزم في إجماع فقهي عند السلف خالف فيه طوائف من أهل البدع؛ أن يدخل في هذه المسائل، والأمر ليس كذلك.

الدعاء سبب لحصول المقدور

الدعاء سبب لحصول المقدور قال: [والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات]. الدعاء من قدر الله، وهو سبب لحصول المقدور، وليس كما قال طوائف من الصوفية وبعض المتكلمين، إن الدعاء يقع على جهة التعبد المحض، أي أنه لا أثر له في حصول المقدور، وحجتهم في ذلك أنه قد سبقت الكتابة. والجواب: أن يقال: نعم قد سبقت الكتابة، ولكن كما أن الله كتب المقدر أو المسبب فقد كتب السبب، فالدعاء هو سبب من الأسباب، كما أن صلاة العبد قد قدرها الله وكتبها، فكذلك دعاؤه قد قدره الله وكتبه، فكما أن الصلاة سبب لدخول الجنة، فكذلك الدعاء سبب لحصول المقدور والمدعو به.

افتقار الخلق إلى الله

افتقار الخلق إلى الله قال: [ويملك كل شيء، ولا يملكه شيء]. أي: لأنه سبحانه وتعالى له الملك. قال: [ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين فقد كفر وصار من أهل الحين]. هذا مما ينبغي تأديب المسلمين بفقهه، ولاسيما في التعبيرات والألفاظ، كتعليق المشيئة على مشيئة العبد ومشيئة الرب، فمن شرك الألفاظ قول: (ما شاء الله وشئت) والحلف بغير الله، فإن الإنسان عند حلفه إنما يريد التعظيم، أو العزم ونحو ذلك من المقاصد، فيشيع في كثير من المسلمين الحلف بالنبي أو بالأمانة، أو بغير ذلك، فهذا مما ينبغي تأديب المسلمين في فقهه، وهذا من فقه التوحيد.

إثبات صفتي الغضب والرضا لله

إثبات صفتي الغضب والرضا لله قال: [والله يغضب ويرضى لا كأحدٍ من الورى]. وهذه جملةٌ حسنة في كلام أبي جعفر، وهي صريحة في مخالفة مذهب الأشعرية، فإن الأشاعرة لا يثبتون صفة الغضب والرضا، وإذا ذكروه فإنهم يتأولونه، فـ الأشعري في بعض كتبه يذكر الغضب والرضا ولكن يتأول ذلك بالإرادة. والإمام الطحاوي لما قال: (والله يغضب)؛ فإن الأصل في كلامه أنه يريد الحقيقة، ومن تأوله من الشراح الأشعرية بأن مراده إرادة الانتقام أو إرادة الإنعام فإن هذا يقال: إنه تأويل لكلام المصنف على خلاف ما أراد. وكان ابن كلاب يثبت لله غضباً ورضا، ومن هنا فإن ابن كلاب أجود حالاً من الأشعري في الصفات، لكنه مع هذا يجعل الغضب الذي يثبته واحداً أزلياً كما يجعل الكلام واحداً أزلياً، ومن هنا فارق ابن كلاب السلف في صفة الرضا والغضب، وأما الأشعري فإنه دونه؛ حيث يتأول الغضب وما في معناه من الصفات على الإرادة، وإن كان الأشعري في الجملة أحسن حالاً من متأخري أصحابه؛ لأن الأشعري هو والمحققون من الأشاعرة، كالقاضي أبي بكر ونحوه يفسرون ذلك بالإرادة، فيفسرونه بصفة، وأما المتأخرون ممن تأثر بالاعتزال كثيراً فإنهم يفسرون ذلك بالمفعولات على طريقة المعتزلة كـ أبي هاشم الجبائي ونحوه.

شرح العقيدة الطحاوية [28]

شرح العقيدة الطحاوية [28] أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم صفوة الخلق الذين اختارهم الله سبحانه لصحبة نبيه ونصرته واتباعه، ورفع راية الدين من بعده، فكان لزاماً على كل من يأتي بعدهم موالاتهم ومحبتهم واتباع آثارهم.

موالاة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومحبتهم

موالاة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومحبتهم قال المصنف رحمه الله: [ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]. هذا من أصول أهل السنة، ولهذا قال شيخ الإسلام في الواسطية: (ومن أصول أهل السنة والجماعة، سلامة قلوبهم وألسنتهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذه جملة جامعة، لأن الإيمان يتحقق بسلامة القلوب وسلامة الألسنة، وأما من أظهر سلامة اللسان مع ما في قلبه من الطعن والبغي أو الانتقاص، فإن هذا من النفاق الباطن، ومن مرض القلب، وهذا لا يختص بالشيعة، بل يقع فيه كثير من المنتسبين إلى التسنن العام في مقابل الشيعة، كما يقع في ذلك بعض الكتاب، أو بعض المفكرين أو نحوهم، ممن يتكلمون في بعض مقامات الصحابة وأحوالهم، ولاسيما موقف الصحابة من مسألة الخلافة كموقف أبي بكر وموقف عمر مع الأنصار، أو الخلاف الذي حصل بين علي ومعاوية، فترى أنهم يعرضون ويطعنون في بعض الصحابة الأكابر، مع أنهم ليسوا على مذهب من التشيع معروف، بل هم مباعدون لهذه المذاهب، فهؤلاء وإن أجملوا أو حسنوا بعض العبارات فإن ما يكون في القلب يعلمه الله سبحانه وتعالى. فالقصد أن عبارة شيخ الإسلام في الواسطية عبارة محكمة، فإنه قال: (ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم)، فلا بد أن يكون ذلك محققاً في القلب. والصحابة هم السادة الذين أثنى الله سبحانه وتعالى عليهم في كتابه، ومن الممتنع في العقل والشرع أن يكون هؤلاء السادة الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، قد انحرفوا أو ضلوا أو نافقوا في زمنه صلى الله عليه وسلم، أو ارتدوا من بعده، إلى غير ذلك من الأكاذيب التي يكذبها العقل قبل الشرع، ويقولها أهل البدع والضلال، ومقام الصحابة مقام مجمع عليه بين السلف، وقد رضي الله عنهم، ورضوا عنه، ولهم درجة الصحبة التي لا يبلغها أحد. قال: [ولا نفرط في حب أحدٍ منهم ولا نتبرأ من أحدٍ منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دينٌ وإيمانٌ وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان].

ترتيب الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم

ترتيب الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله: [ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولاً لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تفضيلاً له، وتقديماً على جميع الأمة، ثم لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ثم لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم لـ علي رضي الله عنه، وهم الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون]. هذا مجمع عليه، حتى آل البيت من أصحاب السنة والجماعة يجمعون على ذلك، وإن كان علي بن أبي طالب -كما هو معروف- قد تأخر عن بيعة أبي بكر زمناً، وبعض أهل التاريخ ينازعون في هذه المسألة، وهي مسألة طويلة.

موقف علي بن أبي طالب من بيعة أبي بكر

موقف علي بن أبي طالب من بيعة أبي بكر لكن الذي جاء في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها أن علياً رضي الله عنه لم يبايع أبا بكر رضي الله عنه إلا بعد ستة أشهر، وهذه على كل حال مسألة مختصة، فإنه ثبت في الصحيح وغيره أن علياً بايع بعد ذلك، وبيعة علي لـ أبي بكر متفق عليها. وبيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه مجمع عليها بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم حتى علي، فإنه قبل بيعته لـ أبي بكر ما كان خارجاً عليه، فلا يفهم من عدم مبايعة علي لـ أبي بكر رضي الله عنهما في بداية الأمر أنه كان خارجاً على أبي بكر، ومعلوم أنه لا يلزم سائر الأعيان من أهل الحل والعقد أن يأتوا بأعيانهم للمبايعة، فقد يكون هناك موجبات وأسباب، أو حتى تقصير في الإتيان، لكن مع هذا لا يسمى هذا رفضاً أو إبطالاً من علي لبيعة أبي بكر أو تحريضاً للناس على الخروج عليه. وإذا كان بعض المبتدعة قد سمى هذا رفضاً من علي رضي الله عنه، فكل هذا لم يكن، فضلاً عن كون علي رضي الله تعالى عنه جاء بعد ذلك وبايع أبا بكر رضي الله عنه، فهذه بيعة متفقٌ عليها. ثم إن الكثيرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ما بايعوا علياً بالتعيين مع أن بيعة علي رضي الله عنه وخلافته مجمع عليها بين أهل السنة والجماعة، فإذا كان فعل علي رضي الله عنه يعد طعناً في بيعة أبي بكر رضي الله عنه، لزم أن يكون فعل هؤلاء الصحابة طعناً في بيعة علي، فإن المتخلفين عن بيعة علي أكثر، ولم ينقل أن أحداً تخلف عن بيعة أبي بكر إلا علياً ثم جاء وبايع، وأما من عداه فإنهم بايعوه وأقروه، سواء جاءوا بالتعيين، أو أقروا إقراراً، أو اتخذوا طاعته وسمعوا له، ومعلوم أن من سمع وأطاع فإنه يعد مبايعاً ولا يلزم بالضرورة أن يأتي بعينه، والإلزام من تكلف أهل البدع في التشكيك بخلافة إمام الأمة وصديقها رضي الله تعالى عنه. ثم الخلافة من بعد أبي بكر في عمر رضي الله تعالى عنه، ثم الخلافة من بعده في عثمان رضي الله عنه، ثم الخلافة من بعده في علي رضي الله عنه، وخلافة الخلفاء الأربعة مجمع عليها بين السلف. والحقيقة أن المسألة الممكنة التي لو فرض جدلاً أن فيها مثاراً من الإشكال والسؤال -ولهذا كان السلف يدرءون القول فيها، ويحققون الجزم بها- هي خلافة علي رضي الله عنه، فإن الناس كانوا فيها متفرقين حتى الصحابة وحتى حصل القتال، وأما بيعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فإنها بإجماع أهل العلم كانت أحكم من بيعة علي رضي الله عنه، مع أن بيعة علي رضي الله تعالى عنه بيعة شرعية بإجماع السلف، وخلافته خلافة نبوية. وقد كان الإمام أحمد وأمثاله يقولون: (من لم يربع بـ علي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله)، مع أن طائفة من الصحابة كانوا مقاتلين لـ علي، ولهذا قيل للإمام أحمد: فكيف بمن قاتله؟ فقال: (أنا لست من حربهم في شيء)، وقيل له أيضاً: قد كان لا يربع به من لا يقال له: إنه أضل من حمار أهله، يعنون بذلك من قاتله من الصحابة، كـ معاوية وغيره، فقال الإمام رحمه الله: (أنا لست من حربهم في شيء). فالإمام أحمد رحمه الله وغيره من أئمة السنة جزموا بخلافة علي وأنها خلافة راشدة بالسنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الخلافة بعدي ثلاثون سنة)، كما في حديث سفينة رضي الله عنه المخرج في المسند وغيره، وهو حديث صحيح ذكره الإمام أحمد واحتج به وكذا غيره من أئمة السنة، فهذا هو الموجب عندهم. ومعنى قوله: (أنا لست من حربهم في شيء)، أي أنه إذا اجتهد مجتهدٌ ولو كان صحابياً فأخطأ في اجتهاده ولم يتبع علياً رضي الله تعالى عنه، فإن اجتهاده وخطأه لا يمكن أن يكون موجباً لترك ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من البيان في هذه المسألة.

حكم التخميس بعمر بن عبد العزيز في الخلافة

حكم التخميس بعمر بن عبد العزيز في الخلافة ذكر بعض المتأخرين من أهل السنة، ونسبوا هذا القول لبعض المتقدمين -وكأنه لا يصح عن أحد من المتقدمين- أن عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الخامس، ولما بلغ الإمام أحمد عن بعض أهل العراق أنه كان يقول بأن عمر بن عبد العزيز هو الخليفة الخامس، كان ينكر ذلك إنكاراً شديداً، وموجب ذلك: أن الخلافة الراشدة التي قال فيها عليه الصلاة والسلام في حديث العرباض في السنن والمسند: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) هي خلافة الخلفاء الأربعة الراشدين فحسب، وأما عمر بن عبد العزيز فهو مقتدٍ بهم، ولا يعد خليفةً راشداً على معنى الحديث النبوي، لأن الخليفة الراشد له سنة متبعة. وأما تسمية عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحمه خليفة راشداً، فمعنى ذلك أنه على منهاج الخلافة الراشدة، وهذا لا إشكال فيه، كما أنه يسوغ عند عامة أهل العلم أن يسمى السلاطين من المسلمين إذا جمعوا كلمة المسلمين خلفاء، وقد كان شائعاً تسمية بني أمية وسلاطين بني العباس بالخلفاء، فمن سمي خليفة على هذا الوجه فلا إشكال فيه، حتى عمر بن عبد العزيز، إذا قيل: إنه خليفة راشد، أي أنه مقتدٍ بهم، فنعم، أما إذا قيل: خليفة خامس، والخلفاء الراشدون خمسة، فهذا لا شك أنه غلط مخالف للسنة.

المفاضلة بين معاوية وعمر بن عبد العزيز

المفاضلة بين معاوية وعمر بن عبد العزيز وعمر بن عبد العزيز ليس له سنة متبعة، بل إن معاوية بإجماع أهل العلم أفضل منه، وعمر بن عبد العزيز حقيقته أنه ملك، قال شيخ الإسلام رحمه الله: (وكان الخلفاء الراشدون، خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمة، هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وما بقي من إمارة الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه، ثم جاء معاوية، فـ معاوية هو أول ملوك المسلمين وهو بإجماع أهل السنة والجماعة أفضل ملوكهم). أي: فهو أول ملوك المسلمين، وسائر من بعده يسمون ملوكاً، وإذا سموا خلفاء فعلى المعنى العام، الذي هو إمارة المسلمين والقيام على شئونهم، أما الخلفاء الراشدون، فإن المقصود بكونهم خلفاء ليس هو خلافة المسلمين والقيام على شئونهم فحسب، بل هذا المعنى حاصل لهم مع كونهم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمة، وهذه المنزلة خاصةٌ بـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ولا تكون لـ معاوية فضلاً عن كونها لـ عمر بن عبد العزيز، قال شيخ الإسلام: (وإن كان حصل في زمن عمر بن عبد العزيز من مقامات العدل ما لم يتحقق في زمن معاوية، ومع هذا فإن معاوية أفضل منه بالإجماع). وتفضيل عمر بن عبد العزيز على معاوية ليس محكماً من أوجه كثيرة، حتى في مسألة العدل، لأن عمر بن عبد العزيز جاء في زمن فيه قدر من الاستقرار، بخلاف الزمن الذي جاء فيه معاوية رضي الله تعالى عنه، فإنه ما كان زمناً مستقراً، بل كان فيه منازعة بعض آل البيت، وكان معاوية يقابله مجتهدون أكابر كـ عبد الله بن الزبير والحسين بن علي، بخلاف عمر بن عبد العزيز فلم يكن يعارضه إلا معارض لا قيمة له، ولهذا لا ينبغي الطعن على معاوية بأي مسألة من المسائل أبداً. وأما قتاله لـ علي فقد خالف فيه، والحق مع علي رضي الله تعالى عنه، وقد جاءت الدلائل من السنة على أن علياً أولى بالحق، وأن عماراً تقتله الفئة الباغية، كما في حديث أم سلمة رضي الله عنها، فدل هذا على أن اجتهاد معاوية رضي الله عنه كان خطأً، ولكنه خطأٌ مغفور من إمامٍ هو صاحب مقام في الاجتهاد.

حال يزيد بن معاوية

حال يزيد بن معاوية الطعن الذي يمكن أن يصح هو في شأن يزيد بن معاوية، ومعلوم أن يزيد بن معاوية ليس صحابياً ولا له درجة الصحبة، وله بعض المحاسن التي تذكر، إلا أن له بعض الأغلاط الكبار، وأشد أغلاطه وأخسها حاله مع الحسين بن علي رضي الله عنه، وحاله مع أهل المدينة، ومع هذا فقد كان فيه قدرٌ واسع من العدل، ولكنه كان حريصاً على تصفية خصوم الدولة الأموية إذا ذاك، ولم يكن مبالياً بمقام ابن الزبير ومقام الحسين بن علي وما حصل من أهل المدينة، مع أن الظاهر في أهل المدينة أنهم أخطئوا فيما فعلوه، ولكن مع ذلك فإن تصرفه معهم خطأ، فإنه أرسل مسلم بن عقبة المري وأمره إن لم يستجب له أهل المدينة أن يستبيح المدينة ثلاثة أيام، ففعل، فكان هذا من أكبر الأغلاط التي وقع فيها يزيد، وإن كان هو لم يفعل بنفسه، ولكنه أرسل قائداً يعرف حاله. وكذلك الحسين بن علي لما اضطره ابن زياد إلى القتل صبراً، مع أن الحسين بن علي تراجع مع جيش ابن زياد أن يذهب إلى يزيد بن معاوية في الشام، أو يذهب إلى أحد الثغور، أو يرجع إلى مكة، فرفض ابن زياد ومن معه فقتلوه ومن معه صبراً، ولما بلغ الأمر يزيد بن معاوية أظهر التأسف وأكرم النساء اللاتي وصلن إلى الشام من أهل البيت، لكن هذا كله حتى الكفار يفعلونه، ولا يمكن أن يعتذر عن يزيد بن معاوية بكونه لما جاءه نساء الحسين ومن معهن أكرمهم وقدرهم فهذا لا بد أن يفعله؛ إذ لا يمكن أن يقتل نساء الحسين بن علي ومن معهن. فالقصد أنه لا شك أن يزيد بن معاوية مؤاخذ، لا نقول عند الله، ولكن لا شك أنه غلط واستحق الطعن فيه بسبب ما تصرف به في مسألة المدينة ومسألة الحسين بن علي، فإنه صحابي من أشرف الصحابة، وابنٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل صبراً وفي أنواع من الظلم متوالية ومتواترة، فلا ينبغي أن يستحي أهل السنة من ذكر يزيد بن معاوية بهذا مع ما له من الحسنات والفضائل والعدل في مقامات متعددة، فأحسن ما يكون حال يزيد بن معاوية مع الحسين بن علي، ما قال أبو سفيان في يوم أحد: (ما أمرت بها ولم تسؤني)، مع أن الظاهر أنه أمر بها بشكل آخر، فإنه أرسل رجلاً يعرف حاله وهو ابن زياد، والدليل على هذا أنه ما قتل ابن زياد ولا عاقبه معاقبة بينة. وكانت طريقة بني أمية أن يجعلوا أكثر المشاكل في وجه القادة، مثل الحجاج بن يوسف لما قتل ابن الزبير، ومثل مسلم بن عقبة لما استباح المدينة، ومثل ابن زياد لما قتل الحسين، فيجعلون هذا في وجه القادة، ثم يظهرون الندم والتأسف، وهذه طريقة شائعة في سياسة بني أمية.

العشرة المبشرون بالجنة

العشرة المبشرون بالجنة قال: [[وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبشرهم بالجنة، نشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله الحق، وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة، رضي الله عنهم أجمعين]]. من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة ليس محصوراً في هؤلاء العشرة، بل هناك غيرهم. وسعد هنا هو ابن أبي وقاص، وسعيد هو ابن زيد.

بغض الصحابة من النفاق

بغض الصحابة من النفاق قال: [ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق]. أي: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث البراء: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق)، فحب الصحابة رضي الله عنهم أنصاراً كانوا أو مهاجرين إيمان، وبغضهم نفاق، والمهاجرون كما هو معلوم جنسهم أعظم وأفضل من جنس الأنصار؛ لأن الله قدمهم لما معهم من الهجرة والنصرة، وإن كان الأعيان لا يلزم أن يطرد فيهم هذا. أحياناًَ يستدل بعض الشيعة على نفاق بعض الصحابة بأنهم قاتلوا علياً، ويذكرون في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ علي -وهو حديث صحيح مخرج في صحيح مسلم وغيره- عن علي رضي الله عنه: (إنه لعهد النبي الأمي إلي، أنه لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق)، قالوا: ومن قاتله فقد أبغضه، وأي بغضٍ أشد من رفع السيف في وجهه .. إلى غير ذلك. فيقال: لا شك أن هذا ليس طريقاً للتحصيل، وإلا لو كان كذلك للزم أن من قاتل أنصارياً يكون متصفاً بذلك، وقد ذكر كثير من أهل الأخبار والسير أنه كان في جيش معاوية بعض الأنصار، فيلزم أن الحكم ينطبق على علي ومن معه، ولا شك أن هذه طريقة ليست من طرق الفقه المأثورة عن سلف الأمة، وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع اقتتالهم متوالين في قلوبهم، أي: بينهم قدرٌ من الموالاة والمحبة في قلوبهم، وإن اجتهدوا فيما اجتهدوا فيه فأخطئوا، وهذا بين في كلام علي رضي الله تعالى عنه.

الكلام على القتال بين علي ومعاوية

الكلام على القتال بين علي ومعاوية وقد تنازع أهل السنة والحديث في القتال بين علي وأهل الشام، أي: بين معاوية ومن معه، فمنهم من قال: إن الصواب كان مع علي، ومنهم من قال: إن الصواب كان في ترك القتال، وكلا القولين مأثور عن السلف رحمهم الله. وأما من صوب قتال معاوية فإن هذا قولٌ غلط لم يقله أحدٌ من السلف، وكذلك من قال: إن هذا الزمن ليس فيه إمام أو خليفة شرعي، وإنما هو زمنٌ فتن، فهذا قول لطائفة من المتكلمين وبعض الفقهاء؛ وإنما القولان المأثوران عن السلف إما تصويب القتال من جهة علي، وإما تصويب ترك القتال. وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (إن جمهور أهل السنة والحديث يذهبون إلى أن الصواب هو ترك القتال؛ لأن معاوية ومن معه غاية الأمر أن يكونوا بغاةً، ولم يؤمر لا في الكتاب ولا في السنة بقتال الطائفة الباغية ابتداءً، وأما قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي ..} [الحجرات:9]، فإن قتال الطائفة الباغية إنما شُرع بعد الصلح، قال: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، فالمشروع هو الصلح وليس البدء بالقتال. ويستدل لذلك أيضاً بما ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الحسن: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، قال شيخ الإسلام: (ولو كان القتال مشروعاً لما كان من امتنان الله وفضله على المسلمين أن يرفع عنهم ما هو مشروع)، أي: لكانت النعمة في بقاء هذا المشروع واستمراره، فهذان الدليلان هما أخص ما استدل به شيخ الإسلام، وقال: إن هذا هو القول الذي عليه جمهور أهل السنة والحديث، وذكر أنه الراجح في مذهب الإمام أحمد. والحقيقة أن المسألة فيها إشكال، ولا يلزم أن يجزم فيها عند طالب العلم بجزم؛ لأن الاستدلال بالآية مشكل من جهة، وهي أنه وإن كان القتال إنما يشرع بعد الصلح؛ لكن إذا كان الصلح متعذراً أو لم يكن ممكناً، فهل يبقى أن القتال لا يشرع بحال؟ وهل علي رضي الله تعالى عنه أمكنه الصلح وتركه؟ هذه مسألة لا يمكن الجزم بها، أو يجزم بأن علياً ما كان يمكنه الصلح، لكن على أقل تقدير نقول: لا يمكن لأحدٍ أن يقول: إن علياً كان يمكنه الصلح، ولكنه أعرض عنه. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد)، يقال: إن هذا كان في حق الحسن، ومعلوم أن الحسن ليس كأبيه، فلو كان القتال من أبيه مشروعاً لم يلزم أن تكون مواصلة القتال من قبل الحسن مشروعة، فإن مقام علي ليس هو مقام الحسن، فالمسألة ليس فيها شيء بين، وإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (تقتل عماراً الفئة البغية)، فهذه مسألة اجتهاد. ومما يدل على أن المسألة مسألة اجتهاد: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا مختلفين فيها، ومن ترك القتال لا يلزم أنه لم يكن مع علي، فإن أسامة بن زيد، كما ثبت عنه في الصحيح قال لـ علي: (يا أبا الحسن! لو كنت في شق الأسد، لأحببت أن أكون معك فيه) أي أنه كان موالياً تماماً لـ علي، قال: (ولكن هذا أمرٌ لا أراه) وحتى علي نفسه، فقد كان متبرماً من القتال، وكان يمتدح مقام سعد بن أبي وقاص، وامتداحه له مشهور معروف، فالقصد أن هذه المسألة ليست بينة، بل هي من مسائل الاجتهاد، ومن اجتهد من الصحابة فله أجران ومن أخطأ فله أجر.

شرح العقيدة الطحاوية [29]

شرح العقيدة الطحاوية [29] الأنبياء هم أفضل خلق الله سبحانه، اصطفاهم على خلقه وزكاهم، وأكرم كثيراً ممن اتبعهم بأنواع من الكرامات، فضلاً منه ومنة؛ فكان لزاماً اقتفاء آثارهم واتباع طريقتهم، وحفظ مقامهم والثناء عليهم.

حفظ مقام أئمة السلف والثناء عليهم

حفظ مقام أئمة السلف والثناء عليهم قال المصنف رحمه الله: [وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر؛ لا يُذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوءٍ فهو على غير السبيل]. بعد أن ذكر المصنف رحمه الله تعالى قول أهل السنة والجماعة في أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ذكر مقام أئمة السلف، وأن من الهدي المأثور حسن القول في هؤلاء الأئمة، والمصنف عبر هنا بعبارات فيها سعة، فقال: (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين)، فإما أن يعني بالسابقين: الصحابة ومن بعدهم ممن اتبع الصحابة، وإما أن يعني بالسابقين: من أخذ عن الصحابة من التابعين ومن بعدهم في طبقة القرون الثلاثة الفاضلة، ولا يعني الصحابة لأنه قد ذكر الصحابة من قبل، ويعني بالتابعين: من اقتدى بأئمة السلف من أهل السنة والجماعة من أصحاب الأئمة، فهذا وهذا كلاهما مما يمكن أن يفسر به كلام المصنف. إلا أن قوله: (ومن بعدهم من التابعين) إلخ، يدل على أن مراده من جاء بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وهم أتباع السلف من الفقهاء وأهل الحديث وغيرهم، وهذا التوجيه هو الأظهر في كلام المصنف؛ لأنه قد ذكر الصحابة من قبل.

أهل العلم فقهاء ومحدثون

أهل العلم فقهاء ومحدثون وقوله: (أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر): أما أهل الأثر: فيراد بهم أهل الحديث، الذين يعتبرون الرواية ويستدلون بها ويشتغلون بها علماً. وأما أهل الفقه والنظر فمراده بالفقهاء من يختص بهذا الاسم، وإن كانوا مقتدين مقتفين، إلا أنهم اشتغلوا بالفقه ولم يشتغلوا بالرواية على جهة العلم المختص، وهذا تقسيم شائع معروف، فإن من أهل العلم من غلب عليه الاشتغال بالرواية علماً، ومنهم من غلب عليه التفقه، وإن كان هؤلاء وهؤلاء يقال: إنهم من أهل الحديث باعتبار أنهم مقتفون متبعون، ولفظ الفقه تعبير شرعي مستعمل زمن الأئمة ومستعمل في كلام النبي صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة.

تسمية العلماء: (أهل النظر) اصطلاح حادث

تسمية العلماء: (أهل النظر) اصطلاح حادث وأما التعبير بلفظ النظر، فالنظر الذي ذكر في القرآن لم يوصف به أهل الإيمان في سائر الموارد، وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى النظر في مقام الإثبات لبعض مقامات الربوبية أو بعض مقامات الألوهية، ومنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185]. وكأن مراد المصنف بلفظ النظر، ليس اللفظ المذكور في القرآن، وإنما مراده بأهل النظر من اشتغل بهذا الوجه من التحصيل والاستدلال، وهذا المصطلح على هذا المعنى أضيف لكثير من علماء الكلام، والمتكلمون يسمون (أهل الكلام) ويسمون (النظار)، وإن كان مصطلح النظار أوسع من مصطلح المتكلمين، ولهذا يضاف إلى النظار كثيرٌ من الفقهاء، وكثيرٌ من الأصوليين إذ هم من اشتغلوا بالدلائل النظرية. بخلاف المتكلمين، فهم من اشتغلوا بالدلائل الكلامية، فسائر المتكلمين يسمون نظاراً ولا يلزم أن سائر النظار يسمون متكلمين، ومع هذا فإن الأصل أن هذا الإطلاق لم يكن معروفاً في كلام الأئمة إلا بعد حدوث الفرق والأهواء ولاسيما بعد ظهور علم الكلام، فإن هذه التسمية لم تكن مضافة لأئمة السنة والجماعة في مرحلةٍ من مراحل التاريخ، إنما كانوا يعرفون بأهل الحديث، أو يعرفون بالفقهاء أو نحو ذلك من الأسماء المأثورة. وأما (أهل النظر) فإنه من الأسماء المحدثة إذا أضيفت على هذا الوجه، ولو قال قائل: إن (أهل النظر) يفسر بما ذُكر على معنى النظر في القرآن، فيقال: حتى على هذا الوجه ليس مأثوراً، وما كان الصحابة يسمون أهل النظر ولا يسمون نظاراً، وإنما غلب هذا الاسم على من اشتغل بعلم الكلام أو انتحل شيئاً من طرقه.

عدم إشارة الطحاوي إلى ذم طريقة متكلمة الصفاتية

عدم إشارة الطحاوي إلى ذم طريقة متكلمة الصفاتية والمصنف في خاتم رسالته ذكر البراءة من الطرق البدعية، فذكر الطرق البدعية التي نص أئمة السلف على ذمها، كالجهمية والمعتزلة والقدرية والمشبهة كما سيأتي، لكنه لم يشر إلى ذم طريقة متكلمة الصفاتية كطريقة عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري، ومن وافقهم من النظار، وإن كان قد تحقق في جمهور الجمل التي ذكرها المصنف في رسالته أن المصنف ليس على جادة الكلابية أو جادة الأشعرية بل هو في الجملة على الاقتفاء والسنة، وإن كان غلط في بعض المسائل إما لفظاً وإما لفظاً ومعنى. وهذا يشير إلى مسألة نبَّه عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما ذكر أصحاب الأئمة؛ فقد بين أنهم من جهة الأخذ بعلم الكلام ينقسمون إلى أقسام؛ فأما من اشتغل بعلم الكلام فهذا قسم بيِّن، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ذكر أن بعض الفضلاء من أصحاب الأئمة أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة، كانوا يذمون البدع والأهواء وكانوا معرضين عن علم الكلام، فما كانوا يشتغلون به، وكانوا يرون أن طريق السلف والأئمة أهدى وأقوم، إلا أنهم يرون هذا الطريق الذي انتحله من انتسب إلى السنة والجماعة كـ ابن كلاب والأشعري طريقاً مصححاً في الجملة، وإن كان عندهم ليس راجحاً ولا فاضلاً. ومن هذا ما قرره بعض أصحاب الأئمة من أن السلف إنما ذموا علم الكلام لما فيه من الألفاظ المحدثة، كلفظ الجسم والجوهر والعرض ونحو ذلك، بل بعضهم يقول: ومثل هذا الذم معتبر بالمصلحة، قالوا: فإن المتأخرين لما كثر شقاق أهل البدع وكثر شرهم، كان لا بد لأهل السنة والجماعة من الاشتغال بهذه الطرق من باب دفع صول المخالفين، وعن هذا سوغ أبو حامد الغزالي مثلاً -مع أنه ليس من هذا الصنف بل هو منتحل لعلم الكلام مستعملٌ له- الاشتغال بعلم الكلام من هذا الوجه، قال أبو حامد في الإحياء: (وإن كان السلف ذموه إلا أن ذمهم له لحدوث ألفاظه، ومثل هذا الوجه من الذم قد يزول بالمصلحة)، وضرب مثلاً لذلك بما لو أن الكفار غزوا بلاد المسلمين فما تمكن المسلمون من ردهم إلا أن ينتحل بعض المسلمين ما هو من لباس الكفار أو ما هو من لغتهم إلى غير ذلك، فيرى أن هذا مما يتعلق بمسألة المصلحة. فـ أبو جعفر رحمه الله لم يعرف أنه اشتغل بعلم الكلام، ولكن فيما يظهر والله تعالى أعلم، أنه لم يكن ذاك المباين لسائر الطرق الكلامية، أعني أنه لم يكن له نزع بيّن في الرد أو إبطال طرق متكلمة الصفاتية، ولهذا لما ذكر من بعد القرون الثلاثة الفاضلة، قال: (أهل الفقه والنظر)، فجعل النظار يدخلون في هذا الاستعمال. وقد يقول قائل: إن مراده بالنظر هنا ما هو مستعمل في كلام بعض الأصوليين، أي: أهل الفقه وأهل الأصول، وهذا صحيح، فالأصوليون الذين اشتغلوا بعلم أصول الفقه يسمون نظاراً في الجملة، لكن مع هذا فظاهر أن أبا جعفر رحمه الله ما كان يقصد إلى إسقاط وإبطال مذهب متكلمة الصفاتية بالتصريح، وإنما يستعمل في ذلك الجمل المجملة غالباً.

تفضيل الأنبياء على الأولياء

تفضيل الأنبياء على الأولياء قال رحمه الله: [ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحدٍ من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبيٌ واحد أفضل من جميع الأولياء]. من فضل ولياً على نبي من الأنبياء فقد كفر؛ لأن هذا يخالف صريح القرآن وصريح السنة، ولم يقل ذلك أحدٌ من أهل الإسلام، إلا ما كان من شذاذ وغلاة بعض الصوفية، كبعض الاتحادية كـ ابن عربي مثلاً، فإنه في الفتوحات المكية -فضلاً عن كلامه في الفصوص- يذكر أن مقام الولاية أعظم من مقام النبوة، ولما ذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجلٍ بنى بنياناً ...) جعل النبي على لبنة فضة، وجعله هو على لبنة الذهب، وقال: (إن المراد بلبنة الفضة: من أخذ الأحكام الظاهرة، ومن أخذ العلم المكتوم وعلم السر، فهو لبنة الذهب)، وهلم جرا. فمثل ابن عربي وأتباعه كـ ابن سبعين والتلمساني وأمثال هؤلاء الاتحادية، يطلقون مثل هذا الكلام، وهؤلاء متفلسفة، وليسوا مجرد صوفية عباد انحرفوا في بعض أوجه العبادة، فزادوا أو نقصوا أو غلوا في بعض أوجه الذكر والعبادة أو الصوم وما إلى ذلك، كما يقع فيه كثيرٍ من الصوفية؛ بل هؤلاء متفلسفة، وهم أئمة الباطنية.

أصناف الباطنية

أصناف الباطنية والباطنية صنفان: إما باطنية الشيعة، وإما باطنية الصوفية، وهذه الطريقة الباطنية الغالية هي طريقةٌ مخالفة لأصل العلم الذي بُعث به الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقائقها مبنية على مفارقة دين الإسلام، وأرباب هذه الطرق الباطنية، انتحلوا في الظاهر أحد المذهبين، إما مذهب التشيع وإما مذهب التصوف، ومع ما في التشيع والتصوف من البدع والضلال إلا أن حالهم هذه هي الأخف، وأما حقيقة مذهبهم في نفس الأمر، فهو شر من ذلك كثيراً، فمن أئمة باطنية الصوفية من تقدم ذكرهم، كـ ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وابن الفارض والسهروردي وأمثال هؤلاء، وأما باطنية الشيعة، فجمهورهم من الإسماعيلية، كـ ابن سينا وأمثاله. ولـ ابن عربي كلام حسن في الفتوحات المكية، في ذكر بعض مقامات العبادة، أو ذكر بعض مقامات الإيمان، أو نحو ذلك، وكذلك ابن سينا له كلام حسن في بعض المقامات، ولكنه لا يكتفي به ولا يقف عليه، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وكنت -يعني بذلك أنه كان في أول عمره- مع إخوة لنا نقرأ في كلام ابن عربي في الفتوحات المكية، ونقرأ في كلامه شيئاً حسناً مما ينفع السالك، حتى نظرنا حقيقة كلامه وما ذكره في الفصوص فتبين مذهبه، وأنه يقول بقول الاتحادية).

أسس نظرية وحدة الوجود

أسس نظرية وحدة الوجود وأما حقيقة مذهب ابن عربي وأمثاله فهو القول بوحدة الوجود، وهذا مبناه ليس على نوع من العرفان المحض أو التعبد أو نحو ذلك، إنما هي نظريةٌ فلسفية بناها ابن عربي في كتبه على مقدمتين: الأولى: التفريق بين الوجود والثبوت. الثانية: مسألة العدم، وهل العدم شيء أو ليس بشيء؟ وهذه نظرية فلسفية معروفة قبل أرسطو، بل إن الإمام ابن تيمية رحمه الله قال: (وقد وقع لي في كلام لـ أرسطو ما هو من الرد على قوم من الفلاسفة قبله كانوا يقولون بوحدة الوجود).

الفرق بين قول ابن عربي وقول ابن سينا في وحدة الوجود

الفرق بين قول ابن عربي وقول ابن سينا في وحدة الوجود وكذلك ابن سينا لما قال بأن واجب الوجود، هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، أي أنه مجرد عن الأمور الثبوتية، ولا يوصف إلا بالسلوب والإضافات، أو ما ركب من السلب والإضافة، هذه نظرية فلسفية كان أرسطو طاليس يقررها، وابن عربي وأمثاله يقولون: هو الوجود المطلق لا بشرط، أي: أنه ليس متعيناً، فيجعلون الوجود واحداً، ولا يمكن أن نقول: إن ابن عربي إنما كان يسمي الأعيان باسم الله؛ لأنهم يجعلونه هو الوجود المطلق لا بشرط، أي أنه لا يقبل التعيين، وإن كان متوحداً في سائر الوجود، وقد كان أرسطو طاليس وأمثاله مع إلحاده ينكر هذه النظرية ويردها.

المقالات المبتدعة والفلسفية هي نظريات منقولة

المقالات المبتدعة والفلسفية هي نظريات منقولة وينبغي أن يفهم أن كثيراً من البدع المغلظة التي قالها بعض غلاة المتكلمين، فضلاً عن المقالات التي قالها المتفلسفة، إما متفلسفة النظار، وإما المتفلسفة الباطنية، سواء كانوا ممن ينتسبون للتشيع أو ينتسبون للتصوف؛ كثيرٌ من هذه المقالات التي ذكروها في مقام الوجود، أو في القدر، أو في الصفات، أو في أفعال الرب أو في حدوث العالم، ومسألة الصدور أو الفيض التي يذكرها ابن سينا، وأمثال هذه النظريات ينبغي أن يعلم أنها نظريات منقولة، وأنها ليست نتيجة اشتباه اشتبه عليهم في بعض النصوص، فأدى نظرهم في بعض النصوص إلى هذه المقالات. بل هناك موجبات أوجبت عندهم هذه الأقوال، إما من الفلسفة المنقولة، أو ما هو مركب منها ومولد منها، كما هو شأن الغالب من المتكلمين، وإن كان هؤلاء مع هذا يستعملون كلمات من كلمات الشريعة، وينتسبون إلى الإسلام، فنظرية الجبر بصورتها الجبرية الغالية التي كان يقولها الجهم بن صفوان، ونظرية القدر بصورتها الغالية التي كان يقولها غلاة القدرية الذين ينكرون علم الرب بما سيكون؛ هذه نظريات منقولة، وكانت نظريات فلسفية سابقة، والرازي وأمثاله من النظار الذين كتبوا في النظريات المتقدمة كانوا يذكرون هذا عن أقوام من الفلاسفة. بل إن الرازي يقول: (إن فلاسفة فارس كانوا يذهبون إلى مذهب القدرية، حتى إنهم جعلوا الألعاب التي وضعوها -وذكر منها: لعبة الشطرنج- مبنية على مذهب القدر، قال: والفلاسفة من الهند كانوا مشتغلين بنظرية الجبر، قال: حتى أنهم لما وضعوا لعبة النرد وضعوها على طريقة الجبر) ذكر الرازي هذا في بعض كتبه ومنها (المطالب العالية). ويجب أن يُعلم أن كل متشيع وكل متصوف يستعمل مثل هذا، فلا بد أنه متفلسف من وجه، وإن كان ظاهره التشيع أو التصوف، إلا أن ابن عربي لا يعرفه كثير من العامة، بل كثير من الناظرين لا يعرفون إلا أنه مجرد صوفي، كما أنهم يقولون -مثلاً- عن بعض العباد كـ الجنيد بن محمد، أو الفضيل بن عياض: إنه صوفي، فيجعلون مسالك الصوفية بها اشتملت عليه من أنواع من التعبد والعرفان قادتهم إلى مثل هذه الكلمات.

أقسام الفلاسفة قبل الإسلام

أقسام الفلاسفة قبل الإسلام ويمكن أن نلخص المسألة بطريقة أخرى فنقول: إن الفلاسفة قبل الإسلام كانوا على قسمين: الفلسفة النظرية، والفلسفة العرفانية، بمعنى أن الفلاسفة كانوا يتعاملون مع جهتين، إما جهة العقل، وهذه هي التي تمثلها الفلسفة النظرية العقلية، وإما جهة النفس، وهذه هي التي تمثلها الفلسفة العرفانية، القائمة على الغنوص والتجريد المقامات. فبعض الفلاسفة كـ أفلاطون، حاول أن يركب، بل بدأ هذا التركيب من زمن سقراط، ولهذا إذا قسموا الفلسفة قالوا: الفلسفة قبل السقراطية، والفلسفة بعد السقراطية، وكانت هناك محاولة للجمع أو التركيب بين العقل والنفس، والمقصود أن الفلسفة ليست مقصورة على النظريات العقلية، بل حتى كثير من النظريات العرفانية المقولة في الأحوال والتعبدات، وكيفية سلوك السالك ونحو ذلك، كثير منها إما أن يكون منقولاً وإما أن يكون متأثراً، وليس معنى هذا أن سائر الصوفية كذلك، بل يعلم أن جماهير الصوفية مع ما عندهم من البدع ليسوا على هذا الوجه الفلسفي، وإن كان يقع عندهم بدع وانحراف وغلط؛ لكن الذين يضافون إلى هذه المقامات هم فلاسفة الصوفية كمن ذكرت أسمائهم. فالمقصود أن المصنف قال: (ولا نفضل أحداً من الأولياء) لهذا الموجب.

الإيمان بكرامات الأولياء

الإيمان بكرامات الأولياء قال رحمه الله: [ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم]. قوله: (ونؤمن بما جاء من كراماتهم)؛ وهذا من أصول أهل السنة والجماعة، فإنهم يؤمنون بكرامات الأولياء، وجمهور المتكلمين لا يثبتون كرامات الأولياء، وموجب ذلك عندهم أنهم جعلوا دليل النبوة هو المعجزة، والمعجزة هي الآيات، ولا شك أنها دليل، بل قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ ..} [الإسراء:101]، فلا شك أن هذه دلائل، لكن دليل النبوة ليس مقصوراً عليها، فلما جعل جمهور المتكلمين دليل النبوة مقصوراً على المعجزات منعوا كرامات الأولياء حتى لا تختلط الكرامة بالمعجزة. ولا شك أن هذا مخالف حتى لنظام العقل؛ لأن الكرامة تكون لولي، ومعلوم أنه يمتنع على الولي أن يدعي النبوة، فلو ادعى النبوة، أو استعمل ما أوتي من الكرامة على نوع من الالتفات إلى شخصه، لكان هذا مسقطاً لولايته، إذ استعمل ما أوتيه من الكرامة على وجه من الغلط المخالف للسنة والشريعة، فمثل هذه الشبهة لا ينبغي الالتفات إليها.

الكرامة ليست من شرط الولاية

الكرامة ليست من شرط الولاية والكرامة كما هو متقرر ليست ملازمة لمقام الولاية، فليس من شرط الولي أن يؤتى كرامة، وليس من أوتي كرامة من الأولياء يكون أولى وأفضل ممن لم يؤتَ، بل قد تكون الكرامة فضلاً وقد تكون معالجةً، وقد تكون تثبيتاً من الله سبحانه وتعالى لهذا الولي، ويكون غيره من الأولياء لما معهم من مقامات الإيمان لا يحتاجون إلى مثل هذه الكرامة، وهذا مما نص عليه بعض أئمة السنة كـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال: (إن بعض الكرامات قد تكون فضلاً ورفعةً، وبعضها قد يكون تثبيتاً لنوع من النقص الذي اقترن بحال الولي، فيثبت بمثل هذا). فالقصد أن الولاية لا تستلزم الكرامة، فليس من شرط الولي أن يؤتى كرامة، بل الجماهير من الصحابة ما أوتوا كرامةً، ومن غلط كثير من أئمة الصوفية حتى بعض الفضلاء منهم، أنهم يلتفتون إلى طلب مقام الكرامة، وهذا الالتفات والتحري لا شك أنه لم يكن من هدي السلف الأول، ولم يكن من هدي الصحابة، وأئمة الإسلام من أهل العلم، بل هو مخالف للسنة والأثر. وهذه الخوارق التي تقع لغير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام توزن بميزان الشرع، فإن كانت لولي فإنها تسمى كرامةً، وإن كانت لغير ولي فهي من الخوارق الشيطانية.

شرح العقيدة الطحاوية [30]

شرح العقيدة الطحاوية [30] يؤمن أهل السنة والجماعة بما جاء في كتاب ربهم وسنة نبيهم من أشراط الساعة، ومن أصولهم التي يعتقدونها: القصد إلى الجماعة، واجتناب الفرقة والاختلاف؛ فهم يزنون كل شيء بميزان الكتاب والسنة، فهما الميزان العدل الذي لا حيف فيه ولا جور.

الإيمان بأشراط الساعة

الإيمان بأشراط الساعة قال المصنف رحمه الله: [ونؤمن بأشراط الساعة من خروج الدجال ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها]. أشراط الساعة: هي مقدماتها التي تقع قبل وقوعها، والمشهور في كلام المتأخرين من أهل العلم أنهم يقسمون هذه الأشراط إلى الكبرى والصغرى، وإن كان بينهم نزاع في تحديد الكبرى، وأكثرهم يقولون: إن الكبرى هي العشر التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة بن أسيد الذي رواه مسلم وغيره، قال: (اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نتذاكر، قال: فما تذاكرون؟ قلنا: الساعة. قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات فذكر: الدخان والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاث خسوف، خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نارٌ تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم)، فهذه الآيات العشر، وقد ذكر المصنف جملة منها، هي المشهورة عند كثير من أهل العلم بالآيات الكبرى، أو بالأشراط الكبرى، وإن كان هذا التقسيم لم يرد في النصوص أصلاً. وهذه الأمة المحمدية جاءت بين يدي الساعة، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح، أنه قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين) وجاء عند الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت أنا والساعة نستبق، كادت أن تسبقني فسبقتها)، فإذا كان كذلك، علم أن هذه الأمة بين يدي الساعة، وعليه؛ فما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم مقدمة لها فإنه يسمى آية لها، أو شرطاً من اشتراطها، وأما تسميتها بالكبرى والصغرى فهذه من الأسماء الإضافية، فيراد بالكبرى ما بين يدي الساعة قريب منها، وهذا مما لا إشكال فيه، وهذا استنبطه أهل العلم من دلالات النصوص، فالنبي صلى الله عليه وسلم مع أنه ذكر أنه بعث بين يدي الساعة، إلا أنه كان يخصص بعض الآيات بنوع من التخصيص، وهذا كمثل حديث حذيفة بن أسيد لما قال: (إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات)، فذكر آيات مقاربة لقيام الساعة. فهذا التقسيم، وهو أن أشراطها تنقسم إلى صغرى وكبرى، لا ينبغي إنكاره، كما فعل بعض الباحثين والمعاصرين، كما لا ينبغي الالتفات إليه كثيراً، فهو نوع من التقسيم العلمي إذا فسر بمراد صحيح فلا إشكال فيه، فمن تركه ولم يستعمله؛ فلأن النصوص لم تستعمله على هذا الوجه، ومن استعمله، فلكونه ظاهراً من طرفٍ من نصوص السنة أن هناك آيات لها اختصاص، كهذه الآيات العشر، ولا شك أن بعض الآيات كنزول عيسى بن مريم، لا يمكن أن يقارن ببعض الآيات التي وقعت من سنوات مضت، وعن هذا قيل بهذا التقسيم بالصغرى والكبرى.

عدم جواز تحديد وقت الساعة

عدم جواز تحديد وقت الساعة وقوله صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة نستبق)، الساعة تعرب على أنها: مفعول معه، وهذا دليل على المعية والمقارنة بين النبوة وبين الساعة، وقد تكلم بعض العلماء على أن الساعة لا يعلم وقتها إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا صريح في القرآن وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فإن بعض العلماء في القرن التاسع ونحوه تكلم عن قيام الساعة، ولم يحددوها، وإنما تكلموا في قربها، وأنها قد تكون في قرنهم، أو في آخر قرنهم .. إلخ، والحق أن التحديد للمسائل الخبرية، سواء كان تحديداً للساعة، أو ما هو دون ذلك، كبعض الملاحم، والقتال الذي يكون مع اليهود أو غير ذلك؛ تحديد هذه الأمور بوقت معين وزمن معين وسنة معينة، لا شك أنه لا يجوز. ولا شك أنه من الافتيات على الغيب، سواء استعمل لهذا التحديد بعض الاستقراءات من الآثار التي جاءت عن بعض أهل الكتاب أو غيرهم، أو ما يقع فيه بعض الناس -وهو أشد- من اعتبار هذه الأمور بالمنامات، فيفسرون بعض الرؤى بأنها هذه تدل على أنه سيقع القتال بين المسلمين واليهود في تاريخ كذا وكذا، وأن هذه هي الفتنة أو الملحمة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا بدعةٌ لا أصل لها، بل يجب في هذه الأمور أن يؤمن بما حدث به الرسول صلى الله عليه وسلم، فضلاً عما جاء في كتاب الله، وأما مرسى هذه الأمور ووقتها وزمنها، فإن ذلك إلى الله سبحانه وتعالى لا ينبغي التكلف بالبحث عنه.

تحريم تصديق من ادعى علم الغيب

تحريم تصديق من ادعى علم الغيب قال رحمه الله: [ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً]. الكاهن والعراف: هو من ادعى معرفة شيء من الغيب، وقد تكلم العلماء في الفرق بين العراف والكاهن، إلا أن هذه التقاسيم ليس بالضرورة أن تكون مطردة على كل حال، وقد يقال: إن مثل هذه الأسماء بينها عموم وخصوص، وإنها تقترن في مقام وتفترق في مقام، وأن العراف يسمى كاهناً وأن الكاهن يسمى عرافاً، وهذا هو أجود التحصيلات لها. ويشترك الكاهن والعراف في ادعاء علم الغيب، وقد يختلفون في بعض الطرق والأدوات والوسائل، ومن ذلك الرمال أيضاً. فالمقصود هنا: أن كل من ادعى علم الغيب من جهة نفسه، أو جهة غيره، سواء كان هذا الغير آدمياً أو كان جنياً، فهو كاهن أو عراف أو رمال.

حكم إتيان الكهان والعرافين

حكم إتيان الكهان والعرافين والنبي صلى الله عليه وسلم لما ذكرهم كما في حديث صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاةٌ أربعين يوماً). وجاء في مسند الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى كاهناً أو عرافاً، فسأله عن شيء فصدقه، فقد كفر بما أنزل على محمد)، وهذان الحديثان لا تعارض بينهما، فمن أتى كاهناً أو عرافاً فسأله ولم يصدقه، فإن إتيانه يعد محرماً، ووعيده قوله صلى الله عليه وسلم: (لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، وأما من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه، فقد كفر، والمراد بالكفر هنا: الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ لأن من صدق الكافر في كفره كان كافراً، فإن الكاهن إنما كفر بدعوى علم الغيب، فمن صدقه في كفره فقد شاركه في الكفر.

حكم إتيان الساحر

حكم إتيان الساحر وأما الساحر، فإنه يختلف عن الكاهن والعراف من وجه، ويشاركهم من وجه، أما مشاركته إياهم فبالكفر، والسحر الذي ذكر في القرآن -وهو المقصود عند العرب بالسحر- لا يكون إلا بنوع من الكفر، وهو أنه لا بد أن يصاحبه خضوع لشياطين الجن، ولهذا قال تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ ..} [البقرة:102]. والغالب على السحرة أنهم كهان وعرافون، ولكن من كان ساحراً فأخبر عن محل سحر المسحور، فإن من سأله وصدقه لا يكون كافراً، والفرق أن من أتى كاهناً أو عرافاً، أو حتى ساحراً فسأله عن شيء من الغيب فصدقه فإنه يكفر؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله، أما محل السحر، فليس هو من الغيب المطلق الذي لا يعلمه إلا الله، فالساحر الأول الذي سحر زيداً يعلم مكان السحر، فيمكن أن بعض بني آدم يعلمون هذا المكان، فهذه مسألة لا بد من التفريق فيها، فالذي يقع من كون السحرة قد يخبرون عن محل السحر، هو كما يقرر الإمام ابن تيمية رحمه الله أن الساحر لا بد أن يكون له معين وشيطان من الجن، وهذا الكبير من الجن الذي خضع له الساحر، يكون له جنودٌ وأعوان، ومعلوم أن الجن عندهم من سرعة الانتقال والمراقبة والحركة شيء كثير، ومن ذلك ما ذكر في قصة سليمان قال: {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ ..} [النمل:39]، فيقع في أعوان هذا الساحر من يراقب ويتابع، فقد يرى سحر أحد السحرة، فيعلم مكانه، فيحدث كبيره من الجن بذلك، وكبيره من الجن يحدث من خضع له من السحرة. فإذا سحر شخص وجاء إلى هذا الساحر يسأله عن مكان السحر لم يكفر؛ لأن السحر ليس من الغيب المطلق، إلا إن كان تصديق زيدٍ لهذا الساحر لاعتقاده أن علمه بهذا علم سرٍ مختص، وأن هذا الساحر يمكن أن يعلم الأشياء الخفية، وأن عنده القدرة على النفوذ والعلم بهذا السر، فإنه يكفر حينئذٍ؛ لأنه اعتقد فيه أنه يعلم الغيب.

حكم النشرة

حكم النشرة ولهذا فكثير من الفقهاء من الحنابلة وغيرهم رخصوا في مسألة النشرة، وهي فك السحر، ومعلوم أن هذا يتضمن سؤال الساحر عن محل السحر، ولو كان كفراً لما كان من مورد النزاع بين أهل العلم، ومعلوم أن مسألة النشرة فيها خلاف، وإن كان المنسوب إلى جماهير السلف هو النهي عنها. ولا شك أن الأولى والأقوى من قول العلماء هو تركها والبعد عنها؛ لما يقارنها من الفتن والشر إلى غير ذلك، فليس المقصود أن الراجح هو قول من يقول من الحنابلة أو غيرهم بجوازه، بل الراجح هو عدم ذلك، ولكن المقصود أن يعلم من هذا الخلاف أن سؤال الساحر عن محل السحر لا يلزم أن يكون كفراً، بل قد يكون كفراً مخرجاً من الملة، وقد لا يكون كذلك.

تحريم قراءة الكف

تحريم قراءة الكف ومما يجب إنكاره، ما ابتلي به كثير من المسلمين من سؤال بعض الكهان والعرافين عن بعض مستقبلهم وأحوالهم من جهة الرزق، أو الولد أو غير ذلك، ويقرءون لهم الطالع، فيقول ولدت في أي نجم وفي أي برج؟ فيقول: ولدت في برج الأسد مثلاً، وفي طالع كذا، وربما قال له: ارفع يدك، فيقرأ كفه، فمن سأله وصدقه فلا شك أن هذا من الكفر الأكبر، وإن كان كثير من المسلمين يجهلون ذلك، ولا شك أن من ادعى العلم الطالع، أو ادعى العلم بقراءة الكف، أنه كاهن عراف كافر، وهو المقصود بكلامه صلى الله عليه وآله وسلم، وإن سُمي باسمٍ معاصرٍ قد يزينه كثير من الناس.

وزن المقالات بالكتاب والسنة والإجماع

وزن المقالات بالكتاب والسنة والإجماع قال رحمه الله: [ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة، وإجماع الأمة]. يعني: ولا نصدق من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، فهذه الأصول الثلاثة هي أصول العلم، وبها توزن مقالات الناس. أما الكتاب فبينٌ، وأما السنة فهي كل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عند أئمة السنة والحديث، فما تلقاه أئمة السنة والحديث بالقبول، فإنه من اللازم اعتباره، واللازم هنا له جهتان: الجهة الأولى: التصديق، وهذه جهةٌ مطردة. والجهة الثانية: الاستدلال، وهذه بحسب حال الناظر. فقد يكون الحديث عنده صحيحاً لكن لا يستدل به على مسألة ما لكونه يرى أنه ليس دليلاً عليها.

الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد

الاحتجاج بأحاديث الآحاد في العقائد وينبه في هذه المسألة إلى مسألة تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد، وسبق الإشارة إلى ذلك، فإن التقسيم المستعمل عند علماء الكلام الذي قالوا به: أن الآحاد لا يستعمل في العقائد، وحقيقة هذا المذهب أن السنة كلها لا تستعمل في العقائد؛ لأنهم قالوا: إنما يستعمل المتواتر. وجمهورهم يعرفون المتواتر بأنه: ما رواه جماعة عن جماعة بإسناد متصل يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس، وصفة المتواتر على هذا الوجه: أن يرويه من الصحابة عشرة، وعن كل واحدٍ من العشرة عشرة، فيكون الرواة عن الصحابة مائة، وعن هؤلاء المائة، عن كل واحدٍ عشرة وهكذا، وهذا قد صرح كثير من الحفاظ كـ ابن الصلاح ونحوه بأنه لا مثال له، وبعضهم يقول: إنه لا ينضبط له إلا حديثٌ أو حديثان. فعلى هذه الطريقة لا يستدل بشيء من السنة إلا في محلٍ أو محلين، هذا إذا سلم هذا المحل أو ذاك، وعليه فحقيقة قول من يقول من المتكلمين وأهل البدع: إنه لا يستدل إلا بالمتواتر؛ أنه لا يستدل بالسنة في العقائد؛ إلا إذا فسر المتواتر بما هو معروف في كلام السلف، وهو ما تلقاه الأئمة بالقبول، فإن هذا إذا التزموا به لزم من ذلك بطلان عقائدهم وبدعهم، كأحاديث الرؤية والشفاعة وغيرها. ولهذا فأهل البدع يقولون عن أحاديث الرؤية: إنها آحاد، ويقولون عن أحاديث الشفاعة: إنها آحاد، مع أنها في الحقيقة متواترة على المعنى المعروف في كلام الشافعي وبعض المتقدمين من أهل العلم، فالقصد أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاه العلماء بالقبول، فإنه يجب التزامه. وأما الأحاديث التي تنازع فيها المتقدمون من السلف، من أئمة السنة والحديث، ككثير من الأحاديث المنقولة في الأحكام، فإن هذه مقامها على قدر من الاجتهاد باعتبار صحتها، فمن صححها فإنه يعتبرها، ومن لم يصححها لنوع من النظر والعلم رآه في هذه الرواية أو هذا الإسناد، فإنه لا يجوز أن يضاف إلى مخالفة السنة والجماعة. وكذلك الإجماع، يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: (والإجماع المنضبط هو إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم)، فإن الإجماع يُذكر في كلام أهل العلم، ويراد به إما الإجماع المنضبط، وهو الحجة اللازمة التي مخالفته بدعة وضلال، وإما أن يراد الإجماع السكوتي، وهو في الجملة حجة ظنية، وإن كان بين الأصوليين نزاع في حجية الإجماع السكوتي.

القصد إلى الجماعة من أصول السنة

القصد إلى الجماعة من أصول السنة قال: [ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً]. المراد بالجماعة هنا: الجماعة المقتفية أثر النبوة، وهم المهتدون بهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا من مقاصد الشريعة الكلية. ومن أصول السنة، القصد إلى الجماعة، والبعد عما يوجب افتراق القلوب، وهذا من الأدب الواجب، ومن أخلاق النبوة التي يجب على طالب العلم أن يعلمها وأن يفقهها، وأن يربي نفسه عليها. ومع كثير من الأسف، فإن كثيراً من النفوس عندها نوع من الاستعداد للافتراق، وأحياناً قد يكون بعض طلاب العلم عنده هذا الاستعداد أكثر مما عند العامة، أي: ترى في قلوب بعض العوام من الاستقرار أكثر مما في نفوس بعض طلبة العلم، وهذا مما يجب على طالب العلم أن ينظره في نفسه، وليس صحيحاً أن تفسر سائر الواردات التي ترد على النفس بكونها من تتبع الحق، فقد يكون هذا تتبعاً للحق، وقد يعرض لبعض الناس -ولو كان من أولي العلم- ما يفرق به ولا يكون موجب ذلك من الحق اللازم. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لما تكلم عن هذه المسألة، قال: (ومعلوم أنه يعرض لكثيرٍ من أهل العلم الكبار، بعض مقامات الغلط حتى ما هو من الهوى الخفي، فمثل هذا يقع لبعض الأكابر من أهل العلم، بل يقع لبعض الصحابة، وقد يعرض لبعض النفوس درجة من درجات الهوى الخفي، ولهذا كان من فقه السلف، أنهم كانوا يسمون من خرج عن السنة والجماعة: أهل الأهواء، مع أن بعضهم قد يكون خروجه في مسألة ما غير صادر عن هوى محض، ولكن لا بد أن يقارن من خالف المتواتر شيء من الهوى، قد يكون هذا الهوى بيناً وهذا يسلم منه طلاب العلم في الجملة؛ لما هم فيه من العلم والتقوى .. إلخ). ولكن الشأن في الهوى الخفي، والنفوس فيها إرادات كثيرة، وفيها متعلقات كثيرة، وليس من الصواب أن يكون طالب العلم ليس له حال إلا الاشتغال بإخوانه من أهل العلم الذين قد يخالفونه في بعض المسائل، مع أن إنكار المنكر -لو كان- فرض كفاية، فتكفي مرة أو مرتان أو ثلاث، بينما تجد أن البعض تمضي عليه سنوات لا يردد في مجالسه إلا قضية أو قضيتين، وهذه القضية قد لا تتعلق إلا بكتاب أو بشخص، أو تكون قضية نسبية أو اجتهاداً سائغاً. ومعلوم أن فروض الكفايات كثيرة، وهناك أيضاً فروض الأعيان التي تجب على المسلم وهي أولى، فينبغي لطالب العلم، أن يكون فقيهاً وأن يكون مهتدياً حقاً ومقتفياً أثر السلف رحمهم الله فيما كانوا عليه من السعي إلى اجتماع القلوب والنفوس والحرص على السنة، ويعلم أن الناظر لا بد أن يخطئ، وقد يغلط فيقول قولاً يخالف ظواهر الأدلة وإن كان من أهل السنة. ومثل هذا لا شك أنه يجب إنكاره، ويجب تحقيق السنة، وتحقيق سبيل السلف، لكن الإنكار على مثل هذا لا بد أن يكون على قدرٍ من الفقه والحكمة والاعتدال، وأما تخبيب النفوس وتقوية الإرادات النفسية التي تقوم على الانتصار، والاختصاص، والاصطفاء الذي ليس عليه أثر؛ هذا كله مما ينبغي لطالب العلم أن يبتعد عنه، وأن يدرك أن هذا العلم الذي بعث به رسول الله ص، متضمن للرحمة، وهكذا العلم الذي آتاه الله أولياءه، ومن كان علمه لا رحمة معه، فما أوتي العلم الذي رضيه الله ـ لعباده. ولهذا لما ذكر الله سبحانه وتعالى الخضر قال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، قال شيخ الإسلام: (وعلم الأنبياء والأولياء الذين اقتدوا بهم يجمع هذا المقام وهذا المقام؛ لأن العبد إذا تعطل عن مقام الرحمة قوي في نفسه بعض الإرادات التي تبعثه على الانتصار، فاتخذ العلم بغياً)، والذي يشكل حقيقة هو الاستطالة بالحق، وأول بدعة حدثت في الإسلام وهي بدعة الخوارج استطال أهلها بالحق؛ لأنهم ادعوا الحق دليلاً على بدعتهم -أي جعلوه شعاراً لبدعتهم- فقالوا لـ علي: (حكمت الرجال في دين الله، ولا حكم إلا لله)، فالكلمة حق، وعلي نفسه قال: (كلمة حق أُريد بها باطل)، فينبغي لطالب العلم أن ينتبه من كلمة حق أريد بها باطل، بل ينبغي لطالب العلم أن ينتبه من كلمة حق أريد بها حق لكن الكلمة ليست في محلها، فقد تكون الكلمة حقاً والشخص يريد حقاً، لكن المقام ليس هو المقام المشروع.

الإسلام هو دين الله

الإسلام هو دين الله قال رحمه الله: [فدين الله في الأرض والسماء واحد، وهو دين الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ} [آل عمران:19] وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ف} [المائدة:3]]. الإسلام يطلق ويراد به المعنى الخاص، وهو شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس ..) فالمراد بالإسلام في حديث ابن عمر هذا المتفق عليه الإسلام بمعناه الخاص، وهو شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر الإسلام مطلقاً ويراد به التوحيد، وهذا معنى قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الإِسْلامُ} [آل عمران:19]، وقوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78]، ولهذا نقول: إن نوحاً ولوطاً وموسى عليهم السلام كانوا على الإسلام، وعن هذا قال الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران:67]، أي: موحداً. فدين الله في الأرض والسماء هو الإسلام، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات وديننا واحد)، وأولاد العلات: هم الأخوة الذين أبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة، فشرائع المرسلين تختلف، ولكن توحيدهم واحد، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، وهذه هي أحكم كلمةٍ أرادها الله سبحانه وتعالى من عباده، أي: التوحيد. ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يوظف جهده لتقرير هذا الأصل، ولتقرير فقهه، والعناية بأصول الدين، وأخصها توحيد الله سبحانه وتعالى والدعوة إليه.

اعتدال دين الإسلام بين الغلو والتقصير

اعتدال دين الإسلام بين الغلو والتقصير قال المصنف رحمه الله: [وهو بين الغلو والتقصير]. الغلو: هو الزيادة، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح أنه قال: (هلك المتنطعون)، وهذا معنى الغلو، أي التكلف، ومن هدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أنهم كثيراً ما يقولون لأقوامهم: {وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]، ومن معنى هذه الآية، أنهم لم يأتوا بهذا من جهة أنفسهم، وهذا المعنى وإن كان بيناً إلا أنه ينبغي لطالب العلم أن يفقهه، وأن الأصل، أن الإنسان لا يتكلم ويخاطب غيره بأمرٍ ونهي شرعي، إلا إذا تحقق عنده أن هذا الأمر وهذا النهي قد جاءت به الشريعة. فالمسائل منها ما محل إجماع، وهي مسائل بينة، ومنها ما هو محل نزاع بين السلف، ومسائل النزاع تنقسم إلى قسمين: الأول: مسائل فيها آثار من السنة، ولكن خالف من خالف لموجب من الموجبات، إما لعدم بلوغ النص إليه أو لغير ذلك. الثاني: مسائل هي في أصلها ليس فيها آثار مختصة، وإنما مبناها على مقام من الاجتهاد والفقه ونحو ذلك. فينبغي لطالب العلم أن يعرف قدر كل مسألة، فالأصل يجب أن يكون أصلاً، والخلاف يبقى خلافاً، والاجتهاد يبقى اجتهاداً، وأما أن يتكلف بعض طلاب العلم في المسائل ليحسم في كل مسألة حسماً تاماً فهذا وجه من الغلط في دراسة الفقه، بخلاف مسائل الأصول. مثال ذلك: من يدرس مسألة الرؤية وهي من مسائل أصول الدين، ومن الطريقة السنية الصحيحة اللازمة النظر إلى أدلة المعتزلة، والرد على جميعها وإبطالها؛ لأن إثبات الرؤية هو قول السلف، وهو الحق المطلق، وما ضاد هذا القول أو ناقضه فهو باطل ولا بد، ولا يمكن أن يكون حقاً، بل يقضى بكونه باطلاً وضلالاً. لكن إذا كانت المسألة من مسائل النزاع بين الأئمة الأربعة، تجد أن البعض يذكر الأقوال وأدلتها، ويرى أن الترجيح غير ممكن إلا إذا استطاع أن يقضي قضاءً مبرماً وتاماً على كل دليل في الأقوال الأخرى التي لم يرجحها، فمثلاً: إذا قال: الراجح قول الحنابلة قال: الجواب عن أدلة المالكية، فما يدع دليلاً من أدلتهم إلا ويجعل الاستدلال به متعذراً، وهكذا .. وهذا لا شك أنه غلط؛ لأن هذه مسائل مقولة بالأحرى والأخلق والأظهر والأرجح، ومقام الاستدلال مقام دقيق عند الأئمة، كما قدتقدمت الإشارة لهذا. والمجتهدون ينقسمون إلى أقسام: فهناك المجتهد المطلق، وهناك المجتهد في المذهب، ويريدون بالمجتهد في المذهب من يستدل بأقوال الإمام، وكثير من أصحاب الأئمة الأربعة من هذا القبيل، كما أنهم قد أضافوا إلى مذاهب أئمتهم بعض الأقوال التي ما كانت محققة عن الأئمة الأربعة، وأيضاً فإنهم استدلوا لمذاهب أئمتهم، فالاستدلال الذي يستدل به حنبلي متأخر لقول الإمام أحمد، ليس بالضرورة أن يكون هو الدليل الذي كان الإمام أحمد يعتبره، ولا يقال على هذا: إن ما في كتب الحنابلة ليست هي دليل المذهب الحنبلي، بل لابد أن ما في كتب الحنابلة ينتهي إلى دليل المذهب الحنبلي، وهكذا بقية المذاهب. والذي ينبغي لطالب العلم هو أن يمحص وأن ينظر في كلام الأئمة وفي مسائلهم الأولى وفي كلام كبار أئمتهم ماأمكن، وأما التعجل بهذا الوجه، فليس طريقة مناسبة.

عدم التشديد في مسائل الخلاف والاعتدال فيها

عدم التشديد في مسائل الخلاف والاعتدال فيها المقصود: أن المسائل الخلافية ينبغي ألا يشدد فيها، فالصحابة كانوا يختلفون وما كان يضيق بعضهم على بعض في قوله، إلا إذا قال -ولو كان فقيهاً أو إماماً أو كان مجتهداً- قولاً ظاهر المخالفة للسنة والآثار، كإنكار الصحابة على ابن عباس في مسألة العول مع أن ابن عباس كان يقول: هاتوا دليلاً من كلام الله أو من كلام رسوله، لكن فقه جماهير الصحابة في مسألة العول هو الصواب. فإذا قال إمامٌ متقدم أو معاصر قولاً يخالف صريح الكتاب أو ظاهر الأدلة والمأثور عن عامة الصحابة، فهذا ينكر، وأحياناً بعض طلاب العلم ينكرون أقولاً ويقولون: إنها مخالفة للسنة، مع أن عليها العامة من السلف، مثلاً: الحائض إذا طهرت في وقت العصر، لا شك أنها تصلي العصر، لكن هل تصلي الظهر؟ المسألة فيها نزاع، فمن العدل أن يقال: المسألة فيها نزاع، وتبقى مسألة خلافية، لكن الإشكال أن ترى بعض طلاب العلم أحياناً يقرر أن القول بأنها تقضي الظهر قول لا دليل عليه، مع أن الإمام أحمد يقول: عامة التابعين على هذا القول إلا الحسن، أي أنها تصلي الظهر والعصر، فكيف يقال: بأن هذا القول لا دليل عليه وعامة التابعين على هذا القول؟ ولو كان القائل واحداً لقلنا: إنه اجتهد فأخطأ، ولكن هذا قول الجماهير. - وكذلك مسألة اعتبار طلاق الثلاث واحدة، فكونك تقول بأن الراجح أن طلاق الثلاث واحدة لحديث ابن عباس عند مسلم، هذا لا إشكال فيه، وقد أفتى به شيخ الإسلام، وأفتى به بعض الأكابر من المعاصرين، لكن الإشكال هو أن تقول: إن القول بأن طلاق الثلاث ثلاث لا دليل عليه، فهل يطبق عامة أهل العلم على مسألة ليس فيها دليل؟! وليس المقصود من هذا الكلام أن يقال: إنه ينبغي لطالب العلم أن يتبع الجمهور، بل يجب على طالب العلم أن يتبع الدليل، لكن يجب أن يتأدب، فإذا اختار قولاً فلا يقول عن القول الآخر إنه لا دليل عليه، فهذا إنما يقال في مسائل البدع، أو في مسائل ظاهرة الشذوذ عن السنة والفقه، وأما الأقوال التي عليها أكابر العلماء، فلا شك أنه من غير الممكن ذلك. يقول شيخ الإسلام: (وقد اعتبرت مسائل الشريعة في الجملة، فما وقع عليه النظر، فإن القول الذي يذهب إليه الجمهور من السلف يكون هو الصواب في الجملة)، وعلل ذلك بقوله: (لأنه من المتعذر أن السنة في المسألة تخفى على جمهور أئمة سلف الأمة، ولاسيما إذا اختلفت أمصارهم)، فإذا رأيت العراقيين والحجازيين والشاميين يقولون قولاً، فهنا ينبغي أن تنتبه. كذلك أيضاً إذا رأيت الليث بن سعد في مصر، ومالكاً في المدينة، والثوري في العراق، والأوزاعي في الشام -وهؤلاء الأربعة كما قال شيخ الإسلام وغيره: هم أعلم الأئمة في طبقة تابع التابعين- إذا رأيت مثل هؤلاء الأربعة أجمعوا على قول فيجب ألا تقول عن مثل هذا القول إنه لا دليل عليه.

وسطية أهل السنة في الأسماء والصفات والقدر

وسطية أهل السنة في الأسماء والصفات والقدر قال المصنف رحمه الله: [وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس]. التشبيه: هو تشبيه صفات الله، والذين أحدثوا هذه البدعة هم أئمة الرافضة كـ هشام بن الحكم وهشام بن سالم وداود الجواربي، ثم انتقل الرافضة من بعد ظهور المعتزلة البغدادية في الجملة إلى مذهب المعتزلة، والتعطيل هو تعطيل صفات الله بالتحريف الذي سموه تأويلاً على طريقة الجهمية والمعتزلة، ويدخل في ذلك ما استعمله طائفة من متكلمة الصفاتية في الصفات الفعلية وغيرها. قوله: (وبين الجبر والقدر)، الجبر: هو القول بأن العبد مجبور على فعله، والقدر: هو نفي القدر، والقدرية على قسمين: غلاةٌ، وغير غلاة، وقد تقدم الكلام عليهم. قوله: (وبين الأمن والإياس)، هذا في مسائل الأحوال، وتقدم التعليق على هذه المسألة.

الكلام عن مصطلح الظاهر والباطن

الكلام عن مصطلح الظاهر والباطن قال المصنف رحمه الله: [فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً باطناً]. قوله: (ظاهراً وباطناً) الدين لا ينقسم إلى ظاهر وباطن، باعتبار أن الشريعة الظاهرة تخالف الحقيقة الباطنة، وأما أن الأعمال منها ما هو ظاهر، ومنها ما هو باطن، فلا شك أن هذا صحيح، وقد قال الله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120]، فالذنوب منها ما هو باطن ومنها ما هو ظاهر، والأعمال الصالحة كذلك، فمنها ما هو ظاهر ومنها ما هو باطن، وإنما المنكر جَعْلُ الدين شريعة ظاهرة، وحقيقة باطنة، ثم التفريق بينهما، كقول من يقول: إن العامة يكلفون بالظواهر، وأما الخاصة فيكلفون بالباطن، ونحو ذلك من الطرق التي أحدثها الباطنية من الصوفية أو المتشيعة.

شرح العقيدة الطحاوية [31]

شرح العقيدة الطحاوية [31] يتبرأ أهل السنة والجماعة من جميع من خالف ما قطع بمجيء النبي صلى الله عليه وسلم به، وهو أصول الدين، كالجهمية والمعتزلة والمشبهة والقدرية، الذين نبذوا الكتاب، واتبعوا الأهواء، وفارقوا جماعة المسلمين، وأصروا على ما هم فيه من الزيغ والضلال.

براءة أهل السنة من المخالفين لهم في الأصول

براءة أهل السنة من المخالفين لهم في الأصول قال المصنف رحمه الله: [ونحن براءٌ إلى الله من كل من خالف الذي ذكرناه وبيناه، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الردية، مثل المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية، وغيرهم من الذين خالفوا السنة والجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء، وهم عندنا ضلال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق]. قوله: (ونحن براءَ)، البراءة من المخالف لا تكون إلا فيما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء به بالقطع فخالفه من خالفه، فهذا المخالف لما علم بالضرورة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به كأصول الدين؛ يتبرأ منه، وأما من خالف فيما هو دون ذلك، ولو كان مخالفاً لظاهر السنة أو لقول العامة من أهل السنة؛ ما دام أن قوله مأثور في كلام المتقدمين كالأقوال المرجوحة، فلا يطلق فيه لفظ البراءة، وإنما البراءة تكون في مسائل الأصول المعلومة من الدين بالضرورة عند أهل السنة.

التعريف بأصول المعتزلة

التعريف بأصول المعتزلة قول المصنف رحمه الله: (والمذاهب الردية مثل المشبهة والمعتزلة). تقدم التعريف بالمشبهة: تقدم، وأما المعتزلة: فهم أتباع واصل بن عطاء الغزال، وعمرو بن عبيد، وقد تكلموا في أول أمرهم في مسألة الكبائر، ثم صار للمعتزلة من بعد أصولٌ خمسة: الأصل الأول: التوحيد، وأرادوا به نفي الصفات. الأصل الثاني: العدل، وأرادوا به نفي القدر. الأصل الثالث: المنزلة بين المنزلتين، وهي أن مرتكب الكبيرة عديم الإيمان، وهو فاسق بين الكفر والإيمان، وهي منزلة الفسق المطلق. الأصل الرابع: إنفاذ الوعيد، ومعناه عندهم: أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار. الأصل الخامس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعناه عندهم: الخروج على أئمة الجور. والمعتزلة منهم بصرية، ومنهم بغدادية، ومن أخص أعيانهم وأئمة متكلميهم بعد عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء، بل هو منظر المذهب في مسائل الصفات: أبو الهذيل العلاف، ومن أصحابه: أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام، وإن كان بين العلاف والنظام خلاف واسع في بعض المسائل، ولكنهم يتفقون على جمهور هذه الأصول المعروفة، وقد ذكر الأشعري وغيره الخلاف في مقالات المعتزلة.

نسبة الجهمية والجبرية

نسبة الجهمية والجبرية قوله: (والجهمية والجبرية، والقدرية). الجهمية: إضافة إلى الجهم بن صفوان الترمذي، وكان من الجند والجيش، ولكنه تلقى بدعته عن بعض الفلاسفة، وقررها وأظهرها فنسبت إليه، وقيل: إنه أخذها عن جعد بن درهم، فالله أعلم بذلك. والجبرية: هم القائلون بالجبر، وهذه الألفاظ والمصطلحات التي يستعملها المصنف، بعضها عبارة عن مدارس، كالمعتزلة، فهي عبارة عن تنظيم مدرسي، وبعضها عبارة عن نظريات مضافة، إما إلى الحقيقة النظرية، وإما إلى معينٍ قال بها، كالجبرية، فالجبرية ليست عبارة عن مدرسة منتظمة، إنما هي عبارة عن نظرية الجبر. وكذلك الجهمية: فهي تسمى بهذا نسبة إلى أن الجهم بن صفوان هو المنظر لهذه البدعة، ومراد السلف بالجهمية: معطلة الصفات، مع أن جمهور من عطل الصفات ما كانوا موافقين للجهم في كثيرٍ من أصوله كالمعتزلة.

عدم تعرض المصنف للمتكلمة الصفاتية

عدم تعرض المصنف للمتكلمة الصفاتية والمصنف رحمه الله لم يذكر متكلمة الصفاتية من الكلابية والأشعرية والماتريدية، مع أنه متأخر، والغالب على المحققين من أهل السنة والجماعة أنهم يذكرون غلط متكلمة الصفاتية، وهذا لا يلزم منه أن أبا جعفر رحمه الله كان موافقاً لهم، لكن يفهم منه درجة من عدم الامتياز والمباينة التامة، ولهذا سبقت الإشارة إلى أنه استعمل بعض حروف الأشعرية في بعض المسائل، كمسألة الكسب ونحوها، ومع هذه التعقبات التي قيلت في رسالة أبي جعفر رحمه الله، سواء كانت تعقبات لفظية، أو لفظية ومعنوية كما في مسألة الإيمان، إلا أن هذه الرسالة رسالة فاضلة في أصول أهل السنة والجماعة، ذكر فيها المصنف رحمه الله أصول أهل السنة والجماعة، وقيد جملاً حسنة، وقال قولاً حسناً في مسائل أصول الدين، فينبغي الاعتناء بها، وتفصيلها على طريقة سلف الأمة رحمهم الله تعالى.

الحكم على أهل البدع والضلال

الحكم على أهل البدع والضلال قوله: [ونحن منهم براء، وهم عندنا ضلال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق]. أي: وهم عندنا ضلال؛ لأن أقوالهم بدع، كما قال صلى الله عليه وسلم: (وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة)، جاء في الصحيح من حديث جابر، وجاء في سنن أبي داود وغيره: (وكل ضلالة في النار)، وطائفة كـ شيخ الإسلام ابن تيمية يقولون بأن هذا الحرف ليس محفوظاً، ومعتبر شيخ الإسلام ومن يأخذ على طريقته أن الضلالة قد تكون مغفورةً، وأن البدعة قد تكون مغفورةً للعبد، أو قد تسقط عقوبتها بغير العذاب، ومن هنا قال شيخ الإسلام: إن هذا الحرف ليس محفوظاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني قوله: (وكل ضلالة في النار). وهذا المعنى الذي قرره شيخ الإسلام وجعل به هذا الحرف ليس محفوظاً ليس لازماً فيما يظهر، بمعنى أن هذا الحرف إذا لم يكن مشكلاً من جهة الرواية نفسها، فإنه من جهة المتن ليس مشكلاً، وإن كان المعنى الذي قرره شيخ الإسلام صحيحاً، لكن يقال: إن قوله: (كل ضلالة في النار)، يثبت كسائر النصوص التي جاءت في الوعيد، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا} [النساء:14] مع أنه لا يلزم أن سائر العصاة كذلك، وكقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء:10]. وقد يقال: إن معتبر شيخ الإسلام رحمه الله هو التصريح بالعموم، فإنه قال: (وكل ضلالة في النار)، لكن يقال: إن السياق في قوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ الله)، أيضاً هو من سياقات العموم، والسياق في مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، هو من سياقات القصر والحصر، فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن إعلال هذا الحرف بهذا الوجه ليس لازماً، وإن كان المعنى الذي قصده شيخ الإسلام من المعاني البينة المحكمة، والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

§1/1