شرح الطحاوية لناصر العقل

ناصر العقل

شرح العقيدة الطحاوية [1]

شرح العقيدة الطحاوية [1] عند تناول قضايا العقيدة لابد من مراعاة عدد من القواعد والأسس التي تعد منطلقاً في تقرير ذلك، ومن جملة تلك القواعد إدراك تأثير الأسباب في المسببات بإذن الله تعالى، وكون التحسين والتقبيح في الأفعال عقليين والثواب والعقاب شرعيين، والاعتداد بخبر الواحد المتلقى بالقبول، واعتبار موافقة صحيح النقل لصريح العقل، وغيرها من القواعد المهمة التي لا يستقيم إغفالها حال التعرض لتقرير قضايا الاعتقاد.

قواعد وأسس في تناول مسائل العقيدة

قواعد وأسس في تناول مسائل العقيدة

اعتقاد تأثير الأسباب في مسبباتها بإذن الله

اعتقاد تأثير الأسباب في مسبباتها بإذن الله بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فيقول محقق شرح العقيدة الطحاوية في مقدمته: [تأثير الأسباب الطبيعية في مسبباتها بإذن الله]: هذا النوع من الكلام يلحق بالكلام في القدر، فهو تبع للكلام في القدر، وكأن المقدم هنا اختار هذه المسألة لأنها من أبرز المسائل أو من أهمها عنده، وإلا فهناك بعض مسائل القدر المهمة، وإن كان سيذكر الحسن والقبح في الأفعال، وهو أيضاً موضوع اختياره جيد، لكن مسألة الأسباب ليست أهم قضايا القدر التي خالفت فيها الفرق، لكنها تصلح كنموذج، وقد ضرب مثلاً بعد العنوان، فقال: [إن الله يخلق السحاب بالرياح]، وكان الأولى أن يقول: مثل أن يقال: إن الله يخلق السحاب بالرياح، فهذا مثل للأسباب، وليس هو أهم الأسباب أو أبرز الأسباب. قال: [إن الله يخلق السحاب بالرياح، وينزل الماء بالسحاب، وينبت النبات بالماء، ونحو ذلك، والقول بأن الله يفعل عند الأسباب لا بها يفضي إلى إبطال حكمة الله في خلقه]. هذه المقولة لبعض أهل البدع، وهي أن الله يفعل عند الأسباب، وهي مقولة المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، ثم صارت مقولة بعد ذلك لها قواعد، وهي مقولة خاطئة، بل هي من مقولات العقلانيين الذين يقولون: إن فعل الله وإرادته تصاحب الفعل ولا تسبقه، وهذه المسألة ملحقة بمقولة سابقة سبق أن ذكرتها حينما تكلمت عن أول بدع القول في القدر، ومنشأ هذه البدعة: هو القول بإنكار القدر السابق والعلم السابق لله سبحانه وتعالى، الذي قال به غيلان ثم الجعد بن درهم، ونسب إلى معبد الجهني، وهو القول بأنه لا قدر، ومعنى: (لا قدر) أن الله لم يقدر الأمور قبل حدوثها، وإنما يقدرها عندما تحدث، وأن الله لا يعلم الأمور قبل حدوثها، وإنما يعلمها عندما تحدث، وهذا مبني على فلسفة عقلية موروثة عن الفلسفة اليونانية، فليست فلسفة حدثت في الإسلام، إنما هي موروثة عن طوائف متفلسفة من أهل الكتاب، وأهل الكتاب منهم طوائف وفرق كانت على الفلسفة اليونانية الخالصة، ومن هنا وسوسوا لبعض المسلمين بهذه المقولات، فنشأت عنها هذه المسائل. إذاً: فالقول بأن الله يفعل عند الأسباب يعني أنهم يقولون: إن فعل الله يصاحب الفعل ولا يسبقه، بمعنى: أن علمه تعالى بالشيء لا يسبقه، وأن إرادة الله -أيضاً- تصاحب الفعل ولا تسبقه، وهذا يعني إلغاء حكمة الله سبحانه وتعالى وعلمه السابق وتدبيره الذي هو عن علم وحكمة. قال: [وأنه لم يجعل في العين قوة تمتاز بها عن الخد تبصر بها، ولا في النار قوة تمتاز بها عن التراب تحرق بها، فضلاً عما في هذا القول من مخالفة للكتاب والسنة؛ فإن الله تعالى يقول: {فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:57]، ويقول: {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:164]، ويقول: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14]، ويقول: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52]، ويقول: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق:9]، ويقول: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:15 - 16] ومثل هذا في القرآن كثير. وكذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله: (لا يموتن أحد منكم إلا آذنتموني حتى أصلي عليه، فإن الله فإن الله جاعل بصلاتي عليه بركة ورحمة). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذه القبور مملوءة على أهلها ظلمة، وإن الله جاعل بصلاتي عليهم نوراً)]. يعني هنا أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم تكون سبباً في رحمة الله لمن يصلي عليه. قال: [فالله سبحانه خلق الأسباب والمسببات، وجعل هذا سبباً لهذا، فإذا قال القائل: إن كان مقدوراً حصل بدون السبب، وإلا لم يحصل] وجه الشبهة: أنه قد يسأل أمثال هؤلاء المتكلمين من الجهمية والمعتزلة ومن سار على نهجهم فيقول: لماذا جعل الله سبحانه وتعالى للأسباب تأثيراً، مع أن له قدرة مطلقة؟! قد ترد هذه الشبهة، فيقول قائل: لماذا جعل الله الأسباب هي المؤثرة، مع أن الله قادر على أن يستغني عنها؛ فإنه يقول للشيء: (كن) فيكون؟ وقد أجاب المحقق عن ذلك. قال: [فإذا قال القائل: إن كان مقدوراً حصل بدون السبب وإلا لم يحصل؟ جوابه أنه مقدور بالسبب وليس مقدوراً بدون السبب]. يعني: أن الله قدر أن تكون الأسباب هي الوسيلة لهذه الأمور، فهذه أمور داخلة في قدرة الله، ولا تعني أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الأسباب هي م

الحسن والقبح والثواب والعقاب

الحسن والقبح والثواب والعقاب قال: [الثالث عشر: الحسن والقبح في الأفعال عقليان، والثواب والعقاب شرعيان: وقد ذهبوا في هذه المسألة مذهباً وسطاً، وهو أن الأفعال في نفسها حسنة وقبيحة، كما أنها نافعة وضارة، وأن العقل يدرك الحسن والقبح في الأشياء، والله قد فطر عباده على استحسان الصدق والعدل والعفة والإحسان ومقابلة المنعم بالشكر، وفطرهم على استقباح أضدادها، لكن الثواب والعقاب شرعيان يتوقفان على أمر الشارع ونهيه، ولا يجبان عن طريق العقل]. مقصوده بذلك: أن الفلاسفة والمتكلمين من المعتزلة والجهمية ومن جاء بعدهم ممن اقتدى بهم يقولون: إن مسلك الحسن، يعني: حسن الأشياء أو استحسانها لدى البشر واستقباحها لدى البشر أمور تدرك بالعقل جملة وتفصيلاً، حتى لو لم يأت الشرع بذلك، وأهل السنة والجماعة لم ينكروا هذه القاعدة، لكنهم قالوا بأنه ليس الأصل في الأمور هو التحسين والتقبيح العقلي؛ لأن العقل لا يدرك كل شيء فيما يحسن وما يقبح، قد يدرك بعض الأشياء وتخفى عليه أشياء كثيرة، لاسيما أن كثيراً من الأمور معلقة بالغيب، إما الغيب الماضي وإما الغيب المستقبل، فلو استقبح العقل شيئاً فلربما كان في علم الله في الغيب أن يكون هذا الشيء المستقبح في العقل حسنا فيما يأتي، والعكس كذلك، فربما استحسن شيئاً وهو في علم الله فيما سيقع قبيح، هذا أمر. والأمر الآخر: أن التحسين والتقبيح العقليين مجملان ولا يدركان التفصيل، أي: تفصيل الشرائع وتفصيل ما يستحسن، فالواجب شرعاً والمستحب شرعاً أمور تفصيلية لا يدركها العقل مستقلاً، حتى وإن استحسنها كلها فإن استحسانه لها تبع للشرع؛ لأن الشرع لا يأتي إلا بما يوافق الفطرة، وكذلك العكس، فلو افترضنا أن الله لم ينزل الشرائع؛ فهل تدرك العقول لو اجتمعت كلها بجميع قواها تفصيلات ما يصلح للناس وما لا يصلح لهم في كل جزئيات السلوك وأمور الغيب والشهادة؟! لا يمكن. إذاً: فالشرع لابد منه، والعقل يستحسن المستحسنات في الجملة، لكن لا على وجه التفصيل، ويستقبح المستقبحات في الجملة، لكن لا على وجه التفصيل؛ لأن العقل آلة تعتريها المؤثرات من الهوى والشبهات والشهوات، وأهم ذلك كله الفناء، فالعقل يفنى، والشرع لا يفنى، إلا إذا انقضت الدنيا وانتهى وقت الاختبار والابتلاء وبقيت الأمور للحساب، فإن الناس يحاسبون على هذه الأمور بمقتضى الشرع لا بمقتضى العقل. فالمقصود أن أهل السنة والجماعة يوافقون على أن للعقل تحسيناً وتقبيحاً، لكن لا على وجه التفصيل، ولا يستغني البشر عن الشرع بالعقل، وليس كل ما يستحسنه العقل حسناً، وليس كل ما يستقبحه العقل قبيحاً؛ لأن العقل آلة تعتريها الأمور التي ذكرتها من الهوى والسهو والنسيان والخطأ والضعف والمحدودية وغير ذلك.

ثبوت فروع العقيدة بخبر الواحد المتلقى بالقبول

ثبوت فروع العقيدة بخبر الواحد المتلقى بالقبول قال: [الرابع عشر: إثبات فروع العقيدة بخبر الواحد المتلقى بالقبول عملاً وتصديقاً: فقد احتجوا بخبر الواحد المتلقى بالقبول في مسائل الصفات والقدر، وعذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين، وأشراط الساعة، والشفاعة لأهل الكبائر، والميزان، والصراط، والحوض، وكثير من المعجزات، وما جاء في صفة القيامة والحشر والنشر، والجزم بعدم خلود أهل الكبائر في النار].

توافق صحيح المنقول مع صريح المعقول

توافق صحيح المنقول مع صريح المعقول قال: [الخامس عشر: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول: فكل ما ثبت من مسائل العقيدة في الكتاب والسنة والوحي والنبوة يصدقها العقل الكامل الصحيح الذي يستخدم بدقة وإمعان؛ لأن العقل الصريح في دلالته على المراد لا يمكن أن يخالف المنقول الصحيح الثابت؛ لأن العقل والنقل وسيلتان لغاية واحدة: هي الوصول إلى الله، والوسائل التي تؤدي إلى غاية واحدة لا يمكن لها أن تتعارض]. أظن أن هذه المسألة واضحة، ولكن أحب أن أبين أمراً فيها قد لا يكون المتكلم عرج عليه هنا، وهو مسألة: المقصود بصحيح المنقول، والمقصود بصريح المعقول. فأما صحيح المنقول فأظنه واضحاً، وهو النص الصحيح الذي هو في كتاب الله تعالى، وما صح من السنة، سواء ما يتعلق بالعقيدة وبالأحكام، وسواء ما يتعلق بأمور الغيب والشهادة، وسواء ما يتعلق بالتكييفات وما يتعلق بعلل وحكم الشرع، كل ذلك إن ورد فيه قاطع في الشرع فلابد حتماً من أن يوافق العقل السليم، لكن تبقى المشكلة في تحديد معنى العقل السليم الذي يحكم في هذا الأمر، وهذه مسألة نسبية، فلا يستطيع أحد من البشر على الإطلاق أن يحدد لنا أن فلاناً من الناس عقله سليم مطلقاً، فالعقل سلامته نسبية، كسلوك الأفراد وصلاحهم، فلا توجد عصمة العقل إلا للأنبياء، وغير الأنبياء عقولهم تتفاوت وإدراكاتهم تتفاوت، ومهما بلغت العقول فإن سلامتها سلامة نسبية. إذاً: فسلامة العقل أمر مفترض في جملة العقول الصحيحة وليس في أفرادها، وهذا دفع لشبهة ظهرت في المتكلمين، وهي أن يدعي إنسان من المفكرين العباقرة بأنه يستطيع أن يضع موازين للدين يزن بها الشرع، كما فعل الرازي، فقد ذكر في كتابه: (تأسيس التأسيس) موازين عقلية، وجعلها هي الموازين التي توزن بها أمور الدين، وفي جملة ذلك نصوص الشرع، حتى إنه رد خبر الواحد ورد الأحاديث الصحيحة، وأول صفات الله وأول أخبار السمعيات؛ لأنه حينما حكم قواعده العقلية فيها تنافت معها بزعمه. إذاً: فالعقل السليم لا يملكه شخص، بل هو عند جملة أهل الحق بمجموعهم، وضابط العقل السليم ضابط واضح، وهو أنه إن وافق الشرع فهو سليم، وإن خالف الشرع فإن فيه قصوراً أو خللاً، فإذا كان صاحبه صاحب بدعة وهوى ففيه خلل، وإذا كان العقل لا يوافق عقول أصحاب الهدى والاستقامة فإن فيه قصوراً عن إدراك مراد الشرع، فمن هنا اعتبر العقل مؤيداً لا مصدراً، فهو يعتبر رافداً ولا يعتبر أساساً. قال: [يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المنقول الصحيح لا يعارضه معقول صريح قط، وقد تأملت ما تنازع فيه الناس، فوجدت ما خالف النصوص الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع، وهذا تأملته في مسائل الأصول الكبار، كمسائل التوحيد والصفات، ومسائل القدر، والنبوات، والمعاد وغير ذلك، ووجدت ما يعلم بصريح المعقول لم يخالفه السمع، الذي يقال: إنه يخالفه إما حديث موضوع أو دلالة ضعيفة، فلا يصلح أن يكون دليلاً لو تجرد عن معارضة العقل الصريح، فكيف إذا خالفه صريح المعقول؟! ونحن نعلم أن الرسل لا يخبرون بمحالات العقول، بل بمحارات العقول، فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه، بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته]. هذا صحيح؛ فإن الذين حكموا عقولهم في أمور الغيب لو أردنا منهم أن يثبتوا أن العقل استطاع أن يأتي بشيء تفصيلي غير ما جاء به الشرع لما استطاعوا، فالعقل لا يستطيع أن يدرك أمور الغيب، مهما بلغ من القوة والذكاء والحدة، فالمتكلمون الذين حكموا العقول وقعوا في معضلات لا يستطيعون التخلص منها، أول هذه المعضلات أن عقولهم لا تتفق، فعقل من نصدق، إنهم لم يتفقوا على أمر قطعي على الإطلاق، أي: أمر قطعي يثبت في أمر الغيب أنه كما هو في الغيب؛ لأنا لم نطلع على الغيب، هذا أمر. الأمر الآخر: أن ما نفوه ليس لديهم برهان على نفيه إلا في مدركات العقل العامة، مثل نفي النقائص عن الله سبحانه وتعالى، فهذا أمر قطعي على جهة الإجمال والتفصيل لا يحتاج إلى أن تعمل فيه العقول، لكن تبقى الدلالة على أن هذا اللفظ منفي معناه عن الله سبحانه وتعالى على مراد الله، كنفيهم الاستواء بالعقل، فهم نفوا ما في أذهانهم، ولم يستطيعوا نفي الاستواء الحقيقي؛ لأن الاستواء الحقيقي الذي يليق بجلال الله تعالى لا نعلمه، أليس كذلك؟! وهل يستطيع عاقل مهما أوتي من القوة والذكاء أن يبين لنا كيف يكون استواء الله؟! إذاً: الذي نفوه هو وهمٌ في أذهانهم، فهم لما سمعوا قول الرحمن سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] توهموا أن الاستواء كاستواء المخلوق على المخلوق، كاستواء الإنسان على الكرسي، فهل هذا الوهم حق؟! وهل هو قريب من الحق؟! وهل هو محتمل أن يكون حقاً؟! إذاً: هم نفوا ما في أذهانهم من الوهم؛ لأنهم حينما أثبتوا الأوهام التي في أذهانهم أثبتوها بغير دليل، وحينما نفوها نفوها بغير دليل، وأقحموا العقل المسكين في هذا، وهذه أعظم جناية على العقل، قالوا: إن العقل يحيل

حرمة تكفير المسلم بذنب أو خطأ

حرمة تكفير المسلم بذنب أو خطأ قال: [السادس عشر: عدم جواز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه. يقول شيخ الإسلام في مجموعة الرسائل والمسائل وهو بصدد الحديث عن قاعدة أهل السنة والجماعة في أهل الأهواء والبدع: ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه، كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة، فإن الله تعالى قال: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285]، وقد ثبت في الصحيح أن الله تعالى أجاب هذا الدعاء، وغفر للمؤمنين خطأهم، والخوارج المارقون الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتالهم قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أحد الخلفاء الراشدين، واتفق على قتالهم أئمة الدين من الصحابة والتابعين من بعدهم، ولم يكفرهم علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وغيرهما من الصحابة، بل جعلوهم مسلمين مع قتالهم، ولم يقاتلهم علي رضي الله عنه حتى سفكوا الدم الحرام، وأغاروا على أموال المسلمين، فقاتلهم لدفع ظلمهم وبغيهم لا لأنهم كفار، ولهذا لم يسب حريمهم ولم يغنم أموالهم. وإذا كان هؤلاء الذين ثبت ضلالهم بالنص والإجماع لم يكفروا مع أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بقتالهم؛ فكيف بالطوائف المختلفين الذين اشتبه عليهم الحق في مسائل غلط فيها من هو أعلم منهم؟! فلا يحل لإحدى هذه الطوائف أن تكفر الأخرى ولا تستحل دمها ومالها، وإن كانت فيها بدعة محققة، فيكف إذا كانت المكفرة لها مبتدعة أيضاً؟! وقد تكون بدعة هؤلاء أغلظ، والغالب أنهم جميعاً جهال بحقائق ما يختلفون فيه]. هنا ينبغي التنبيه على أمر، ولعله سيأتي -إن شاء الله- مستقبلاً بشكل واف في شرح الطحاوية إذا دخلنا فيه، لكن بالمناسبة أحب أن أنبه إليه؛ لأنه قد يعالج بعض المظاهر التي ظهرت لدى طائفة من طلاب العلم المستعجلين هداهم الله، وهذه المسألة هي مسألة التكفير باللوازم والتكفير بالبدعة المكفرة، أو التكفير بالقول المكفر أو التكفير بالأصل المكفر، وأقصد بذلك: أنَّه ليس كل من ارتكب مكفراً يكفر بشخصه، فضلاً عن الطوائف، وليست كل طائفة ارتكبت مكفراً نحكم بكفرها، وسأضرب لكم مثلاً بعدما ضرب المحقق هنا مثلاً بالخوارج، فهناك مثل آخر في المتكلمين من الأشاعرة والماتريدية، فغلاة المتكلمين منهم خالفوا السلف في قضايا كثيرة، ومع ذلك لم يقل أحد بكفرهم، إلا بعض المستعجلين من المتأخرين هداهم الله، فما قالوه -أي: الأشاعرة وغيرهم- لا يستدعي تكفيرهم، حتى ولو وصل الحال ببعضهم إلى أن يقول بمقولة كفر، فإن تكفيره بعينه أمر يجب أن يتثبت فيه. وأريد بهذا أن أصل إلى النتيجة الخطيرة التي أردت التنبيه عليها، وهي أن مسألة التكفير لمن لم يستحق الكفر أشد خطأً من ارتكاب صاحب الكفر لما كفر به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من هذا وقال: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما)، يعني: إذا خرج التكفير من شخص مع الاعتقاد؛ فلابد من أن يقع هذا التكفير على أحد الشخصين، فإن كان من أطلق عليه الكفر كافراً -وهذا في علم الله- وقعت عليه، وإذا لم يكن كافراً في علم الله رجعت إلى صاحبها فكفر نفسه من حيث لا يشعر، فيجب التنبه لهذا الأمر. وهناك أمر آخر متفرع عن هذا، وهو أننا لم نتعبد بالتكفير أصلاً، صحيح أن هناك ما يسمى بالولاء والبراء، لكن هذه قاعدة إجمالية، ليس كل من واليناه لابد فيه من أن يكون على الاستقامة الكاملة، وليس كل من عاديناه لابد فيه من أن يكون على الضلالة الكاملة، بل قد يجتمع الولاء والبراء في شخص واحد، قد يجتمع الولاء والبراء في غالب المسلمين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً. إذاً: فمسألة التكفير من أشد المسائل خطورة، وأرى الناس بدءوا يلوكونها وكأنها مجرد أحكام عادية ينتزعها الإنسان متى شاء ويلبسها من يشاء، مع أن هذه مسألة خطيرة لم يتعبد بها أولاً، إنما تعبدنا بالتكفير بالجملة لا بالتعيين، فالتكفير بالجملة معروف وأمر سهل ويعرفه أهل العلم، فاليهود كلهم كفار بالجملة، والنصارى كفار بالجملة، والمشركون كفار بالجملة، ومن خالف قطعياً من قطعيات الدين فهو كافر بالجملة، ومن أخل بركن من أركان الدين فهو كافر بالجملة، لكن تعيين أفراد أو جماعات أو فرق مسألة خطيرة لم نتعبد بها، وأهل العلم كانوا يتورعون فيها أشد التورع، ثم إن أكثر الناس يفهم التكفير دائماً على أنه التكفير المخرج من الملة، ومن هنا ينتزع أقوال أهل العلم في بعض المقولات أو في بعض الأشخاص فيكفر بها، مع أن أهل العلم قديماً إذا أطلقوا التكفير في مسائل أهل القبلة؛ فأغلب ما يطلقونه على التكفير الذي لا يخرج عن الملة، الذي هو كفر دون كفر، ويتورعون كل التورع عن التكفير الذي يخرج عن الملة. قال: [

تنبيه على إصدار أحكام التخطئة في فتن المسلمين

تنبيه على إصدار أحكام التخطئة في فتن المسلمين أحب أن أنبه على أمر من النوازل التي حدثت للمسلمين في الآونة الأخيرة، وهو ما يتعلق ببعض الفتن التي ظهرت في أرض الجهاد في أفغانستان، ولن أتكلم عن هذا الأمر بالتفصيل، وأرجو ألا يفهم كما يفعل كثير من المستعجلين، وألا ينتزع مني ما لم أقله، لكني أحب أن أعلق على هذه المسألة بمناسبة الكلام عن مسألة التكفير والتعادي والموالاة والمعاداة ونحو ذلك من أحكام الشرع. أقول: لقد بدرت من بعض الناس -هداهم الله- بعض الألفاظ والأحكام والمواقف تجاه ما حدث بين الأفغان تخالف منهج السلف، حتى من بعض الذين عقائدهم صحيحة ولديهم شيء من العلم بالسنة، فأرى أنهم تجاوزوا منهج السلف في علاج هذه الأمور، أي: في أثناء الفتن؛ لأن للفتن فقهاً يخالف فقه سائر الأيام والأحوال، ولأن للفتن أحكاماً تخصها، خاصة إذا حدثت الفتن بين فرقتين من المسلمين عملهم واحد في جبهة واحدة وفي مكان واحد كما هو حال المجاهدين، والخلل الذي حصل يتمثل في نظري فيما يتعلق بالمسألة التي ذكرتها في أمور: أولها: سرعة الحكم بالتكفير أو التفسيق أو التخطئة قبل التثبت. وثانيها: الخلل في مسألة التفريق بين ما تجوز الموالاة فيه والمعاداة وما لا تنبغي الموالاة فيه والمعاداة. والأمر الثالث: الحكم على الأشخاص باللوازم التي لا تلزم، فقد سمعنا حكماً على أشخاص من خلال تصرفات أتباعهم، وحكماً على الأتباع من خلال عقائد رءوسهم، وحكماً على الغائبين قبل اللقيا بهم والأخذ عنهم، وحكماً على المجاهدين من الأفغان -خاصة القيادات منهم- بمجرد أمور تخرج إما في جرائدهم وإما في كتب يعلمونها أتباعهم أو نحو ذلك، وهذا تكفير باللوازم. نعم التخطئة ترد، ووزن الأمور بالموازين الشرعية أمر مطلوب، بمعنى: من هو الأفضل والأقرب للسنة، ومن هو الأبعد والأكثر بدعة، فهذا أمر ليس على المسلم حرج في أن يقوله، لكن الإلزام بما لا يلزم أمر خطير قد ترتبت عليه مواقف خطيرة، هذا أمر. الأمر الآخر: إدراك المصالح العامة ودرء المفاسد، وهذا أمر غاب عن كثير ممن خاضوا في هذا الأمر، حتى بلغ الحد ببعضهم إلى أن يعتبر الجهاد في أفغانستان كله خطأ، وبعضهم ألغى راية الجهاد في سبيل الله وفسرها بتفسيرات بدعية أو بتفسيرات أهواء أو بتفسيرات شبهات أو شهوات عند أصحاب تلك الراية، وبعضهم -أيضاً- تكلم في المجاهدين بما يمنع دعم المسلمين عنهم، وهذه مسألة خطيرة، فأنا أقول: حتى لو اقتنع واحد منا بأنه ينبغي أو يحسن ألا يدفع التبرع لفلان من الناس من رءوس المجاهدين، فهل هذا من المصلحة العامة المترتبة على موقفه هذا فيما يتعلق بأحوال المسلمين عامة؟! يجب ألا نبخل على المسلمين عامة، ويجب ألا نبخل على الأفغان من حيث الخصوص، فهناك الشيوعية الملحدة تحارب الله ورسوله، وهناك أناس يجاهدون في سبيل الله على مختلف نزعاتهم وعلى مختلف اتجاهاتهم ومشاربهم، فلو أن المسلمين اضطروا يوماً من الأيام -كما حدث في فترات التاريخ- إلى أن يجتمعوا بفرقهم الضالة والمستقيمة ضد الكفار الخلص فهل يمنع هذا؟ أترك الجواب لكم، فتأملوا واسألوا أهل العلم وارجعوا إلى قواعد الشرع. وأعود فأقول: إن نصوص الوعيد الواردة في الكتاب والسنة لابد من أن تجمع مع سائر النصوص الأخرى، كتلك النصوص السابق ذكرها وغيرها، ومثال ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، فهذه الآية من نصوص الوعيد؛ إذ فيها إشارة إلى خلود القاتل عمداً في النار، ونصوص الوعيد ترد إلى نصوص الوعد، فيرد بعضها إلى بعض، ولا تؤخذ على ظاهرها، بمعنى: أنه لا نأخذ بنص واحد ونجعل الحكم القاطع مبنياً عليه، فالنصوص لابد من أن ننظر إليها بمجملها، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فهذا من النصوص التي تبين ما يغفر وما لا يغفر، وهذا من نصوص الوعد والوعيد في وقت واحد، فنصوص الوعيد -أي: نصوص التخويف والنصوص التي تتعلق بدخول النار وغيرها- ترد إلى نصوص الوعد بمجموعها، وهذا هو النظر المتكامل الذي ينظره أهل السنة والجماعة، لا يأخذون بنص دون آخر، لذلك قالوا: من أخذ بنصوص الوعد دون نصوص الوعيد فهو مرجئ، ومن أخذ بنصوص الوعيد دون نصوص الوعد فهو حروري، خارجي.

شرح العقيدة الطحاوية [2]

شرح العقيدة الطحاوية [2] لقد كانت مراحل القرون الثلاثة الأولى في جملتها مراحل غلبة لهدي السلف في الاعتقاد، مع حصول النزاع في القرن الثالث، ثم هيمنت أقاويل أهل الكلام بعد ذلك وانحسر منهج السلف إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فانبرى لإبراز منهج السلف بالنقل والعقل، وخط بذلك معلماً بارزاً وشيد مدرسة علمية كان من آثارها تلامذته النجباء كابن القيم رحمه الله تعالى وغيره.

المراحل التي مرت بها مناهج السلف في تقرير العقيدة إلى زمن ابن تيمية

المراحل التي مرت بها مناهج السلف في تقرير العقيدة إلى زمن ابن تيمية

مرحلة تنزل القرآن إلى نهاية القرن الأول

مرحلة تنزل القرآن إلى نهاية القرن الأول قال: [امتداد مدرسة ابن تيمية: لقد جمع الإمام ابن تيمية رحمه الله منهج أهل السنة والجماعة في العلم والاعتقاد والفهم والعمل والسلوك، وأحياه وحرره تحريراً بديعاً اتسم بسعة العلم وقوة الأمانة وحسن العرض ودقة الضبط، ولكن ابن تيمية سبق ولحق في هذا الميدان بجهاد علمي صادق ومتصل]. أحب أن أشير إلى مسألة أرى أنها مهمة فيما يتعلق بجهود شيخ الإسلام ابن تيمية في خدمة عقيدة السلف، وأقدم لهذا بالتنبيه على المراحل التي مرت بها مناهج السلف في تقرير العقيدة، بمعنى: تقريرها على شكل مؤلفات ومصنفات وتبيينها للناس. المرحلة الأولى: هي مرحلة تنزل القرآن وإلى نهاية القرن الأول، فهذه الأساس فيها ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يستمدون كل شيء في الدين من القرآن والسنة، ويرجعون فيما لم يدركوه إلى أهل العلم، حتى الصحابة كانوا يأخذون الدين مباشرة عن القرآن والسنة، هذا في الجملة، لكن عامتهم كانوا لا يستطيعون استنباط كل شيء في الدين، فكانوا يرجعون إلى أهل الاختصاص من الصحابة، لذلك برز من الصحابة من برز في اختصاصات شرعية تتعلق ببيان الدين للناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، كبروز علي في القضاء وزيد في الفرائض، وبروز غيرهما من الصحابة في بعض الجوانب، وهناك من كانوا مرجعاً علمياً شاملاً كـ ابن عباس وابن مسعود وأبي موسى الأشعري وغيرهم من أئمة الصحابة، فكانوا أئمة في الدين يرجع إليهم، وكان منهجهم في تقرير العقيدة لا يعدو إظهار النص والاستنباط من القرآن والسنة ثم التعليق على النص لإيضاحه دون بسط في الشرح أو تصنيف أو مؤلفات؛ لأن الناس كانوا أقرب إلى الفطرة وأفهم للغة وأبعد عن البدع والخرافات، ولم تتشعب بهم السبل ولم تظهر الفرق، فكان الناس على هدي واحد، العقيدة عقيدة الجميع والمنهج منهج الجميع والسنة عليها الجميع، ومن شذ برز شذوذه عند العامة والخاصة، هذا في القرن الأول، فلذلك لم توجد مؤلفات، وما كان الناس بحاجة إلى مؤلفات، إنما كانوا بحاجة إلى تعليم، وقام الصحابة بذلك حق القيام، وبرزت في عهدهم بعض الطوائف، وكان شذوذها ظاهراً كالخوارج والشيعة كما هو معلوم، وسبب بروزها هو أنها تركت تلقي الدين عن العلماء، هذا هو السبب الرئيس الأول، ولا ننسى جهود ابن سبأ، لكن ابن سبأ دخل على هذه الطائفة من الناس لأنهم لم يتلقوا دينهم عن الصحابة، والذين تلقوا دينهم عن الصحابة عصمهم الله. المهم أنه في القرن الأول كانت العقيدة هي السائدة، وما كانت تحتاج إلى مؤلفات ولا تحتاج إلى مصنفات ولا تحتاج إلى شيء من تقرير الأصول والمناهج الزائدة على ما في النصوص.

مرحلة القرن الثاني

مرحلة القرن الثاني المرحلة الثانية: مرحلة ما ظهر في القرن الثاني، وقد استجد فيها على أئمة المسلمين أمر، وهو الرد على أهل البدع، وصاحب هذا الرد ضرورة وضع الموازين والأصول الأولى في مهمات العقيدة، كالإيمان تعريفه ومسماه وزيادته ونقصانه، والقدر ومفهومه، والرؤية، وكلام الله وأسمائه وصفاته، فهذه الأمور كانت في القرن الأول تفهم جملة، وما كان الناس يتحدثون عن جزئياتها؛ لأنهم يفقهونها في الجملة. وأما في القرن الثاني فظهرت المرحلة الثانية، وهي ضرورة الدفاع عن هذه الأصول وإبرازها كأصول مستقلة لها حدود تعرف بها وتفهم عند الناس، ووضعت لها ضوابط معينة، وظهرت مسألة الاستدلال الشامل على هذه المسائل، بمعنى أنه اضطر أئمة الدين إلى أن يأخذوا الأدلة من الكتاب والسنة، ويبرزوها مستقلة إما على شكل كتب أو مصنفات، وإما على شكل مناظرات أو مجالس علمية في موضوع ما، كما في الرؤية، حيث استقيت نصوص الرؤية وظهرت في هذا الوقت جلية؛ لأنه ظهر من أنكر الرؤية وتكلم بذلك، وكذلك كلام الله، والقرآن، ومسألة أسماء الله وصفاته، فأبرزت النصوص المستقلة في هذا الأمر، وكذلك الوعد والوعيد، فاضطر السلف إلى أن يأخذوا نصوص الوعد ويبرزوها، ثم نصوص الوعيد ويبرزوها، وأخذوا منهجاً وسطاً -وهو منهج الحق- بين الوعد والوعيد، وهكذا بين منكري القدر والجبرية وغيرهم. وفي المرحلة الثانية أيضاً ظهرت المصنفات الصغيرة في جزئيات العقيدة، في الرد على فرق بعينها، وفي كتابة المسائل المحدودة المعينة، لكنها مصنفات قليلة.

مرحلة القرن الثالث

مرحلة القرن الثالث المرحلة الثالثة: القرن الثالث، وقد ظهر فيه اتجاه أشمل من الاتجاهات السابقة، وهو ضرورة، فحينما ظهرت البدع وظهرت لها أصول في الاعتقاد، وظهرت لها مصنفات وكتب شاملة؛ اضطر السلف إلى الكتابة في العقيدة في كتب الشاملة تجمع بين الأصول وبين النصوص المستدل بها، وبين الآثار المنقولة عن أئمة الدين الذين سبقوا في القرن الثاني والأول، وهذه المصنفات هي المصنفات الشاملة في أصول الدين في العقيدة، وهي المسماة بكتب السنن، أي: الآثار، وأغلبها في العقيدة، لا أقصد كتب الحديث، وإن كانت كتب الحديث اهتمت فعلاً بالعقيدة وبوبت لها، وهذا اتجاه جديد لم يكن يوجد في القرن الأول والثاني، والتبويب للعقائد في كتب الحديث هو -أيضاً- من سمات هذه المرحلة الثالثة، لكن من أبرز سماتها وجود المصنفات الشاملة التي تجمع بين النصوص والقواعد والمناهج والمفاهيم والتعريفات بمسائل أصول الدين والرد والمناقشة في وقت واحد، فكتب السنة الكبيرة بدأت في هذه المرحلة، مثل السنة للإمام أحمد، والسنة لـ عبد الله بن الإمام أحمد، وكذلك مؤلفات ابن سلام وابن أبي شيبة والدارمي وغيرهم من الأئمة الذين عاشوا في ذلك العصر.

مرحلة القرن الرابع وما بعده

مرحلة القرن الرابع وما بعده وبعد القرن الثالث جاءت المرحلة الرابعة، وهي مرحلة هيمنة كتب الكلام والمسائل الكلامية على الاتجاه العلمي في أغلب بلاد المسلمين، وهذا لا يعني أن عقيدة السلف اندثرت، بل كانت موجودة ولها رجالها ولها مصنفاتها ولها كتبها، لكن الذي ساد بين الناس في القرن الرابع وما بعده إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية هو الاتجاهات الكلامية، اتجاهات الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، حتى اتجاهات فرق الرافضة والباطنية ظهرت في تلك الفترة، وهيمنت جميعها على كثير من بلاد المسلمين، وسبب ظهور هذه الاتجاهات يرجع إلى أمور: منها ظهور دويلات الطوائف العقيدية، كدويلات العبيديين الفاطميين، ودويلات القرامطة والبويهية، ودويلات الخوارج كالرستمية، وما جاء بعدها فهذه الطوائف هيمنت على كثير من بلاد المسلمين، إذا لم نقل: إنه في هذه الفترة من القرن الرابع وما بعده كادت أن تهيمن على كل بلاد المسلمين، وهذه الهيمنة السياسية هي التي مكنت لهيمنة المذاهب الكلامية على المدارس والاتجاهات والصبغة العلمية العامة، حتى صار مذهب السلف لا يوجد إلا في رجاله، بمعنى أنه لا يتبنى سياسياً، وإلا فهو موجود في مدارسه واتجاهاته، وأهله ينافحون عنه وهم ظاهرون، بل هم المعتبرون عند الأمة في العموم، لكن مع ذلك هيمنت على أكثر المؤلفات والاتجاه العلمي المذاهب الكلامية إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية.

جهود شيخ الإسلام في إظهار مذهب السلف

جهود شيخ الإسلام في إظهار مذهب السلف لقد انبرى شيخ الإسلام ابن تيمية لإظهار مذهب السلف إظهاراً علمياً قوياً بما آتاه الله من مواهب، فكانت جهوده تتلخص في أمور: الأمر الأول: استقراء أقوال السلف وإظهارها بارزة نقية واضحة ليس فيها لبس وليس فيها غبش؛ لأن آثار السلف كانت موجودة في وقته، ولكن كل يستدل بها على منهجه، حتى المتكلمون كانوا يستدلون بأقوال السلف على مناهجهم بأسلوبهم في الاستدلال، فكان هناك شيء من الغبش عند كثير من الناس، فجاء شيخ الإسلام ابن تيمية، فكان من أعظم أعماله أنه أبرز مناهج السلف وأقوالهم وعقائدهم وما هم عليه في كل فروع الدين ومسائله وأصوله إبرازاً واضحاً جلياً. والأمر الثاني: أنه دافع دفاعاً لم يقم به أحد مثله، أعني: في العقيدة، فدافع دفاع المتمكن، واستعمل جميع وسائل الدفاع المباحة، ومن ذلك وسائل المتكلمين أنفسهم، والتزام مناهج السلف في اعتماد الاستدلال بالكتاب والسنة، والاستدلال بالآثار، واعتماد الإنصاف والعدل في القول، وتحري الحق، واعتماد استعمال البرهان العقلي وقلب الحجة على المنازع، وهذا مما برع فيه شيخ الإسلام ابن تيمية؛ حيث استعمل مناهج المنازعين لأهل السنة والجماعة ضدهم، كما في درء التعارض، وفي نقض التأسيس وفي غيرهما من كثير من الكتب؛ جعل وسائلهم في تأويل مسائل الدين وفي مجانبة أقوال السلف هي الحجة عليهم، لأنهم في الغالب قلبوا الاستدلالات، وسأضرب لكم مثالاً على قلب الاستدلال عند المتكلمين ليتضح منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في إبراز هذه المسألة، فقاعدة المتكلمين -خاصة المتأخرين منهم- في وضع أصولهم التي تقوم على التأويل والمجاز والتعطيل أنهم يعتبرون النص ظنياً والعقل قطعياً، فما رأيكم في هذه القاعدة؟! أليست مقلوبة؟! ومع ذلك انطلت على صغار طلاب العلم وعلى بعض المتكلمين مدة طويلة، أي أن الأصل في النصوص الشرعية الظني والأصل في العقل القطعي، وهذا مصادم للفطرة والعقل السليم، لكن مع ذلك ساد، حتى صار هو القاعدة الكبرى التي يعتمد عليها المتكلمون، فـ شيخ الإسلام قلب عليهم هذا الاستدلال وأقر فيه الحق، وقال: العكس هو الصحيح، فالأدلة الشرعية هي القطعية؛ لأنها معصومة ولأنها صادرة عن المعصوم، والصادر عن المعصوم معصوم، وهو القطعي، وأدلتكم العقلية ظنية؛ لأنها صادرة عن البشر، والبشر ناقص، والصادر عن ناقص ناقص. إذاً: أتقيسون الكامل -وهو وحي الله- بالناقص؟! بل ليس الأمر كذلك، أتجعلون الناقص هو الحاكم على الكامل؟! أيجوز هذا؟! فقلب عليهم مناهجهم. إذاً: فشيخ الإسلام ابن تيمية أبرز مناهج السلف وعقيدتهم على هذا الشكل، ولم يأت بجديد، ومدرسته ليست مدرسة مستقلة، ومذهبه ليس بمذهب مستقل، وقد حماه الله تعالى من أن يبتدع أتباعه له مذهباً ينسبونه إليه، وهذه كرامة له، مع أنه أتى بشيء عجيب، وقام بجهد لم يقم به مثله في وقته ولا بعده، مع ذلك لم يكن لأتباعه تعصب، ولم تكن لهم ميزة تميزهم عن أهل السنة والجماعة، بل أتباعه هم أهل السنة والجماعة، أما لمز الخصوم فهذا لا يعتد به. وأمر آخر أيضاً في عمل شيخ الإسلام ابن تيمية: هو أنه جمع بين التقرير والدفاع، بين تقرير العقيدة ببيانها وإيضاحها وشرحها وتفصيلها ولم يبتدع شيئاً، فكل ما قاله يستند فيه على الآثار بعد النصوص. والأمر الثاني: أنه دافع دفاعاً قوياً، بمعنى أنه جلَّى مذاهب السلف وبينها ونقحها مما دخلها بسبب عبث المتكلمين. وأمر آخر: هو أنه دافع عن كل اتهام لرجال السلف، وعن كل اتهام لرجال العقيدة، ثم فند أقوال الخصوم، فصار تراثه وعمله هو تراث أهل السنة والجماعة، ونسبته إليه إنما هي لأنه إمام من أئمة أهل السنة، لا لأنه انفرد بجهد أو جاء بجديد، أو نهج منهجاً غير منهج السلف، بل كل أصوله مبنية على مناهج السلف، لذلك لما خاصمه بعض المتكلمين في وقته فيما يتعلق ببعض التأويلات وبعض البدع تحداهم بتحد لم يجيبوا عليه إلى الآن، حيث قال: إن أصولكم لا يوجد ما يدل عليها عند السلف في القرون الثلاثة الفاضلة، وقال: أنا أمهلكم ثلاث سنين، فهاتوا لي إماماً واحداً من أئمة الدين المعتد بهم قال بقولكم الذي قلتم به في مسائل التأويل والإيمان ومسائل القدر وغيرها التي خالفتم فيها السلف، فوقفوا ثلاث سنين ولم يجيبوه، فبعد ذلك انتصرت السنة بحمد الله، ولا يزال منهج شيخ الإسلام ابن تيمية هو منهج السلف، ونسبته إليه ليست لأنه ابتدع شيئاً، إنما هي لأنه حرر مناهج السلف وبينها واستقرأها وكتب فيها ودافع عنها، فكان منهجه يتمثل في منهج أهل السنة والجماعة.

حقيقتان في منهج أهل السنة

حقيقتان في منهج أهل السنة

تقرير أهل السنة للاعتقاد العاصم في مسائل زلات الفرق

تقرير أهل السنة للاعتقاد العاصم في مسائل زلات الفرق قال: [وخليق بنا أن نذكر هنا حقيقتين كبيرتين: الأولى: أن أهل السنة والجماعة وهم يبينون العقيدة المنجية في توحيد الله تعالى وما يلحق بها من شعب الإيمان الأخرى، يُجْلُون في الوقت نفسه ووفق المنهج المعتمد وفي ذات السياق الاعتقاد العاصم في مسائل عدالة الصحابة وتفضيل الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وخيرية القرون الأولى، والإمامة، وعدم منازعة الأمر أهله، ومضي الجهاد، والكف عن تكفير المسلمين بالمعاصي والذنوب التي هي دون الشرك الأكبر وهي مما اختلف فيه، ووحدة الجماعة، والتزام المنهج الصحيح في فهم الدين. إن هذا الترابط الموضوعي والمنهجي بين التوحيد وبين هذه المسائل يدل على: أ- أن التوحيد هو المنهج الحاكم الذي يجب أن تفهم كل مسألة في هداه. ب- أن الانحراف في هذه المسائل ذريعة إلى جرح التوحيد وإمراضه. مثال ذلك: عدالة الصحابة، فإن القدح في هذه العدالة ذريعة إلى رد آيات قرآنية أخبرت بفضل الصحابة وعدالتهم، ورد القرآن إلحاد من الإلحاد. جـ- أن الذين جادلوا في الباطل في القديم والحديث في هذه المسائل لم يعرفوا بصحة العقيدة]. فيما يتعلق بعدالة الصحابة أحب أن أشير إلى ظاهرة ظهرت كثيراً في الكتاب المحدثين، وهي: التجرؤ على بعض الصحابة، على جملة منهم أو واحد أو اثنين أو أكثر باختلاف نزعات هؤلاء الكتاب، لكن أحب أن أشير إلى أمر مقرر عند السلف، وهو أن القدح في صحابي واحد -أياً كان- في دينه وعدالته هو ابتداع وعلامة نفاق، ومن قدح فهو مبتدع، بل من علامات أهل البدع القدح في بعض الصحابة، وهي من علامات الزيغ نسأل الله العافية، ولا يعني ذلك أن الصحابة معصومون، لكن الصحابة أجمعت الأمة على عدالتهم في الجملة، وعلى أن القدح في أحدهم إنما هو زيغ ونفاق، فإذا كان كذلك فهذا يعني أن هذه الظاهرة إنما هي علامة ابتداع في هذا العصر، وقد كثرت حتى بين كتاب ينتمون إلى الدعوات الإسلامية والفكر الإسلامي، ولا يتورعون عن القدح في صحابي ما أو نسبة بعض البدع إليه، كمن ينسبون بعض الأمور إلى عثمان رضي الله عنه، أو بعض الأمور إلى أبي ذر رضي الله عنه، أو إلى أبي الدرداء، أو إلى ابن مسعود أو إلى غيرهم، وبعضهم يتهم بعض الصحابة ببعض الأهواء، حتى لو لم ينسب إليه بدعة معينة، فربما قدح فيه ليطعن في قوله أو في روايته، حتى ظهر فيمن ينتسبون إلى المتكلمين في العصر الحديث من يقول بأن الأحاديث التي رواها متأخرو الصحابة في الصفات لا تؤخذ، وهذا قدح مبطن. أقول هذا لأن هذه المقولات كثرت في الكتب التي بين أيدينا، وأنا أقول: الذي أعرفه من منهج السلف وأئمة الدين أن القدح في الصحابي ابتداع، وهو علامة الزيغ نسأل الله العافية.

عقيدة أهل السنة عقيدة أئمة الدين

عقيدة أهل السنة عقيدة أئمة الدين قال: [الثانية: أن جمهور علماء أهل السنة والجماعة وأئمتهم من المذاهب الأربعة المشهورة وغيرها على عقيدة واحدة، وإن اختلفت في الفروع الاجتهادية، وقد كتب في ذلك علماء مشهورون من مختلف المذاهب، كالإمام الطحاوي الحنفي في عقيدته هذه، وكالإمام أحمد رحمه الله فيما نقل عنه من رسائل وإجابات في العقائد، وكالإمام البخاري، وكـ ابن زيد القيرواني المالكي في رسالته المشهورة، وكالإمام عبد القهار بن طاهر البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق) وغيرهم].

آثار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى

آثار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: [لقد بارك الله في جهاد ابن تيمية رحمه الله، فجعل له أثراً صالحاً باقياً ماثلاً في مدرسة علمية وفكرية متكاملة لها منهجها وأسلوبها وطابعها. فمن هذا الأثر تلاميذه وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: فالواجب على من تلبس بالعلم وكان له عقل أن يتأمل كلام الرجل من تصانيفه المشهورة، أو من ألسنة من يوثق به من أهل النقل، ولو لم يكن للشيخ تقي الدين إلا تلميذه الشيخ شمس الدين ابن قيم الجوزية صاحب التصانيف النافعة السائرة التي انتفع بها الموافق والمخالف؛ لكان غاية في الدلالة على عظم منزلته. وقال شيخ الإسلام التفهني الحنفي: والإنسان إذا لم يخالط ولم يعاشر يستدل على أحواله وأوصافه بآثاره، ولو لم يكن من آثاره -أي: ابن تيمية - إلا ما اتصف به تلميذه ابن قيم الجوزية من العلم لكفى ذلك دليلاً على ما قلناه. ومن هذا الأثر كتبه الكثيرة العدد النفيسة القيمة الواسعة الانتشار. ومن هذا الأثر ثناء المؤمنين عليه في كل زمان ومكان]. مما هو معروف عند أئمة السلف أن الطعن في أئمة الدين الكبار إنما هو من علامات أهل البدع، ولا يعني ذلك أن أئمة الدين الكبار معصومون كل العصمة، لكنهم يمثلون القدوة للأمة، والطعن فيهم على سبيل اللمز أو على سبيل الطعن فيما جاء عنهم أو التهكم إنما هو طعن في مذاهب السلف وفي سبيل الأمة أو الجماعة، فمثلاً: الطعن في الإمام أحمد رحمه الله من علامات أهل البدع أياً كان هذا الطعن، ولا يتصور أن يكون الطعن طعناً مباشراً، فأغلب الذين يتعرضون للأئمة الكبار يتعرضون لهم بتلبيس من الكلم، بمعنى أنا نجد أن أحدهم قد يثني على مثل الإمام أحمد فيقول: وهو إمام في الدين، وله كذا وكذا، لكنه في قوله بالصفات ذهب إلى مذهب الحشوية أو إلى مذهب كذا، فيثني ثم يلمز، وهذه من علامات أهل البدع، لا يجرئون على الطعن في الجملة في أئمة الدين أو في الإمام الواحد، إنما يثنون ثم يلمزون، ومثله الإمام البخاري والإمام مسلم أو ابن تيمية أو ابن القيم أو غيرهم من الأئمة الذين رضي أهل السنة والجماعة في الجملة هديهم وما جاءوا به وما هم عليه، وكونهم يخطئون في بعض الأمور أمر يجب أن نقول به، بمعنى أنهم قد يخطئون في بعض الأمور؛ لأنه لا يمكن أن يكونوا معصومين، إلا أن ما يقع منهم من خطأ لا يوصل إلى الطعن فيهم، هذا أمر. والأمر الآخر: أنهم بإمامتهم وجلالتهم قدوة المسلمين، واستهداف أشخاصهم إنما هو استهداف للقدوة، ثم هو استهداف للدين. والأمر الثالث: أن هناك فرقاً بين الطعن وبين النقاش، فيجوز لمن آتاه الله علماً أن يقول: أرى أن فلاناً من الأئمة لم يقصد كذا، أو: عذره في الأمر الفلاني كذا، أو: إن الدليل هو كذا، ولا يطعن في الشخص، أما إذا طعن في إمام من الأئمة فهذا علامة ابتداع، ولا يزال من أبرز علامات المبتدعة الطعن في مثل شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام أحمد وغيرهما، وكذلك اللمز والطعن غير المباشر، كما هو موجود في بعض الاتجاهات الحديثة عند المتكلمين.

مدرسة ابن تيمية في العصر الحديث

مدرسة ابن تيمية في العصر الحديث

جهود الملك عبد العزيز في نشر عقيدة أهل السنة

جهود الملك عبد العزيز في نشر عقيدة أهل السنة قال: [مدرسة ابن تيمية في العصر الحديث. مضى على عصر ابن تيمية أربعة قرون تقريباً، ولم تخل هذه القرون الأربعة من داعية للحق قائم بعقيدة أهل السنة والجماعة، ولكن حدثاً وقع في النصف الثاني من القرن الثاني عشر الهجري كان له الأثر الكبير في انتشار عقيدة أهل السنة والجماعة والالتزام بمنهجهم في الفهم والتطبيق، ذلكم هو قيام الدولة السعودية في جزيرة العرب مناصرة للدعوة الإصلاحية التي نادى بها الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، والتي تدعو الناس إلى العودة إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والالتزام بما كان عليه سلف الأمة الصالح وتطبيق شريعة الله جل وعلا. لقد تهيأ لهذه الدعوة من أسباب التمكين ما لم يتهيأ لدعوات كثيرة قبلها وبعدها، وهذا من فضل الله، تهيأ لها سبب الدولة أو السلطة، وبهذا السبب الذي هيأه الله تعالى قويت الدعوة وتمكنت وانتصرت في عهد مؤسس الدولة السعودية الأولى الإمام المجاهد محمد بن سعود رحمه الله، ومن جاء بعده من بنيه وأحفاده حتى مطلع القرن الرابع عشر الهجري، حيث قام الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله بما يجب القيام به تجاه عقيدة أهل السنة والجماعة وإلزام الناس بتطبيق شريعة الله والحكم بينهم بموجبها. يقول المشايخ محمد بن عبد اللطيف وسعد بن حمد بن عتيق وعبد الله بن عبد العزيز العنقري وعمر بن محمد بن سليم ومحمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف رحمهم الله: ثم لما وقع الخلل من كثير من الناس من عدم القيام بشكر هذه النعمة ورعايتها ابتلوا بوقوع التفرق والاختلاف وتسلط الأعداء والرجوع إلى كثير من عوائدهم، حتى مَنَّ الله في آخر هذا الزمان بظهور الإِمام عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل أيده الله ووفقه، وما مَنَّ الله به في ولايته من انتشار هذه الدعوة الإسلامية والملة الحنيفية، وقمع من خالفها وإقبال كثير من البادية والحاضرة على هذا الدين، وترك عوائدهم الباطلة، وكذلك ما حصل بسببه من هدم القباب ومحو معاهد الشرك والبدع وردع أهل المعاصي والمخالفات، وإقامة دين الله في الحرمين الشريفين زادهما الله تعالى تشريفاً وتكريماً].

ركائز قيام الدولة السعودية

ركائز قيام الدولة السعودية بمناسبة الكلام عن جهود الملك عبد العزيز رحمه الله أحب أن أشير إلى أمر هو معروف، لكن التذكير به من باب الأمانة والنصيحة. فنحن نعرف جميعاً أن الدولة السعودية منذ قيامها ونصرها لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب قامت على ركائز: الركيزة الأولى: نصر الدعوة في الجملة، بمعنى أنها قامت أساساً بعهد شرعي عليه البيعة على نصر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي هي دعوة أهل السنة والجماعة دعوة الحق، هذه الركيزة الأولى. الركيزة الثانية: قامت على نشر التوحيد، وهذا من أهم الركائز التي قامت عليها الدولة السعودية. الركيزة الثالثة: محاربة البدع المخالفة للدين أياً كان نوعها، كل ما يخل بالدين ويخل بعقيدة الأمة هو أمر مرفوض، فقامت الدولة على حماية عقيدة المسلمين وعباداتهم في هذا البلد من ذلك. الركيزة الرابعة: تطبيق شرع الله، والذي يتمثل في أمور: أولها: تحكيم شرع الله في كل شيء، وثانيها: إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وثالثها: نشر الدين بنشر العلم الشرعي الصحيح وحماية الأمة من أي علم يخل بعقيدتها ودينها. الركيزة الخامسة: المحافظة على الحرمين، يعني: العناية بالحرمين على مقتضى الدين الصحيح، وحمايتهما من البدع وحماية المناسك من كل ما يطرأ من جهالات المسلمين وغيرها. وهذه الركائز هي عهد بين الدولة السعودية وبين هذه الأمة التي رضيتها ورضيت بإمامتها وبايعتها على الكتاب والسنة، وهذا العهد باق إن شاء الله وسيبقى، وأي إخلال بهذا العهد إنما هو علامة إدبار وعلامة تفرق وعلامة شر وفتنة، نسأل الله أن يعصمنا ويعصم ولاة الأمر من ذلك.

تصنيف دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

تصنيف دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقد يقول سائل: هل الإمام محمد بن عبد الوهاب إمام المرحلة الثالثة؟ فنقول: السلف جماعة واحدة، لا يفرق بينهم الزمان، والمراحل أمور اصطلاحية فنية، فيجوز أن نقسم المراحل إلى المئات والآلاف والعشرات، ويجوز أن نلغي المراحل ونقول: مذهب أهل السنة والجماعة مرحلة واحدة من عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فهذه أمور اصطلاحية، أما أن يقال: إن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في أكثر وجوهها العلمية والاعتقادية هي امتداد لدعوة ابن تيمية فهذا صحيح، لكن لا يعني أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب انفرد بشيء، اللهم إلا بأمور تقتضيها ظروف الزمان والمكان، فـ محمد بن عبد الوهاب أتيح له بنصر الدولة السعودية وبنصر الجماعة من أهل التوحيد ما لم يتح لشيخ الإسلام ابن تيمية، هذا هو وجه الفرق، أما ما عدا ذلك فالاتجاه فيه واحد، وكل في اتجاه السلف، ولا ننسى أنه قامت دعوات إصلاحية على مذهب أهل السنة والجماعة في بلاد المسلمين الأخرى غير دعوة الشيخ، لكن لم يكن لها أثر كأثر دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. قال: [وكان أمر العقيدة جلياً لدى الملك عبد العزيز؛ إذ يقول رحمه الله: يسموننا بالوهابيين ويسمون مذهبنا بالوهابي باعتبار أنه مذهب خاص، وهذا خطأ فاحش نشأ عن الدعايات الكاذبة التي كان يبثها أهل الأغراض، نحن لسنا أهل مذهب جديد وعقيدة جديدة، فعقيدتنا هي عقيدة السلف الصالح، ونحن نحترم الأئمة الأربعة، ولا فرق عندنا بين مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وكلهم محترمون في نظرنا. هذه هي العقيدة التي قام شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب يدعو إليها، وهذه هي عقيدتنا، وهي عقيدة مبنية على توحيد الله عز وجل خالصة من كل شائبة منزهة عن كل بدعة]. ذكرني هذا ببعض الركائز، وقد نوه بها الملك عبد العزيز رحمه الله مرات عديدة، بل هي تعتبر من أعظم الأسس التي كان يعتمد عليها عملياً ويقول بها نظرياً، وقد التزمها في سائر حياته، وهي: اعتبار أهل العلم أئمة الدين، اعتبارهم بكل معاني الاعتبار، ليس اعتبار المجاملة ولا مجرد اعتبار التقدير والاحترام، إنما اعتبار العمل والتطبيق، فكانوا هم الشيوخ، وكان كل أمر ذي بال يتعلق بالأمة يصدر عنهم، وكانت المصالح الكبرى للأمة تصدر عنهم، وهذا هو العهد الذي كان بينهم وبين الملك عبد العزيز رحمه الله، وهو عهد قد التزمه وتعهد به وتوعد من يخالفه. ومن الركائز التي كان كثيراً ما يحرص عليها الملك عبد العزيز تطبيق الحدود، وهذه هي التي تعتمد عليها الدولة الإسلامية أياً كانت في ترسيخ أمرها وفي حماية دينها وفي مصداقية تطبيقها لشرع الله، فأعظم مصداقية لتطبيق الشرع هي تطبيق الحدود وحماية الدين من الردة ومن انتهاك الحرمات ونهب الأموال، وغير ذلك مما يستوجب الحدود. فهذه من الركائز المعلومة البدهية عند عامة أهل العلم، بل وعامة أهل البلاد، فكلهم يعلم أن هذه الدولة -بحمد الله- قامت عليها، ونرجو أن تستمر عليها بإذن الله.

جهود الملك عبد العزيز في نشر العقيدة خارج بلاده

جهود الملك عبد العزيز في نشر العقيدة خارج بلاده قال: [وإذ يستعمل الملك عبد العزيز سلطانه في التمكين للتوحيد والعقيدة المنجية في بلاده، فإنه ينشرها خارج بلاده بوسيلتين اثنتين: الأولى بعث الدعاة، والثانية نشر كتب التوحيد الخالص، وعقيدة أهل السنة والجماعة. ومما أمر بنشره من كتب العقائد: العقيدة الواسطية، والتوسل والوسيلة، ومنهاج السنة، والعبودية، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ومجموعة التوحيد، وهي مجموعة رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ سليمان آل الشيخ حفيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب والشيخ عبد الله العنقري والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن والشيخ سليمان بن سحمان، ولمعة الاعتقاد لـ ابن قدامة، وغير ذلك من الكتب المبينة لعقيدة أهل السنة والجماعة؛ ولهذا السبب -سبب تسخير سلطة الدولة في نصرة الإسلام- وجدت الدعوة من الانتشار والتمكن ما لم تجده دعوات أخرى كثيرة فردية وجماعية، وبرز هذا الانتشار في العالم الإسلامي كله في مدارس فكرية ونشاط دعوي وجهود متصلة لإحياء تراث أهل السنة والجماعة. إن لانتشار الدعوة الإسلامية في تاريخ المسلمين الحديث وحياتهم المعاصرة سبباً أو أسباباً، ويأتي في مقدمة هذه الأسباب دعوة الإحياء العامة لمنهج أهل السنة والجماعة التي نهض بها شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب والتي نصرها آل سعود دولة بعد دولة وإماماً بعد إمام، منذ محمد بن سعود إلى يوم الناس هذا، فلا يزال المنهج الإسلامي يحكم حياة المملكة العربية السعودية في الاعتقاد والاجتهاد والسلوك.

أسباب الاهتمام بالعقيدة

أسباب الاهتمام بالعقيدة

اجتماع الناس على أصول الحق

اجتماع الناس على أصول الحق قال: [العقيدة التوقيفية الجامعة. لماذا هذا الاهتمام بالعقيدة والبحث في مصادرها العلمية ومسارها التاريخي في القرون الأولى، ثم القرون: الرابع والخامس والسادس، ثم عصر ابن تيمية، ثم ما بعد ابن تيمية إلى يوم الناس هذا؟ والجواب عن ذلك: أولاً: أن أصول الحق هي التي تجمع الناس مهما تعددت أمكنتهم ومهما باعدت بينهم الأزمنة، ومهما اختلفوا في فروع الفقه. إن النصوص التي أشرنا إليها والتي تتكلم عن مفهوم العقيدة لدى الحنفية والحنبلية والمالكية والشافعية وعند ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب والملك عبد العزيز وغيرهم من أئمة الهدى، هذه النصوص لم تتطابق في المفهوم فحسب، وإنما تطابقت في اللفظ كذلك]. قبل أن نتجاوز الكلام عن المذاهب أحب أن أشير إلى أمر من الأمور التي قد تخفى على كثير من الذين لم يتأملوا مسار العقيدة في القرون الثلاثة الفاضلة، ويتضح هذا بخطأ ساد عند كثير من الباحثين وطلاب العلم، وهو اعتقادهم أن بعض المذاهب أو الفرق لها ارتباط بالمذاهب الأربعة على وجه ما من الارتباط. أقول: هذا أمر حادث بعد القرون الثلاثة الفاضلة، أما في القرون الثلاثة الفاضلة التي هي القدوة والتي زكاها النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكن للمذاهب أي ارتباط بالفرق، بل كانت المذاهب الأربعة كلها -مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - على السنة، وأئمتها جملتهم كانوا على السنة، وكانت هذه المذاهب بأتباعها -سواء العلماء وطلاب العلم والعامة- على السنة، وإن كان قد يوجد من أتباع الفرق من ينتمي إلى المذاهب، كبعض الشيعة قبل أن يكون لهم فقه مستقل، وكبعض المعتزلة والجهمية، لكن هذا أمر لا دخل له في صبغة المذاهب نفسها، فالصبغة الشرعية هي صبغة المذاهب، فكانت كلها على السنة، وهذا بإجماع، بل هو واضح جداً لا لبس فيه، فالإمام أبو حنيفة كان على السنة، وتلاميذه الأوائل كانوا على السنة، والإمام مالك كان من أئمة السنة المنافحين عنها المقررين لها، وتلاميذه الأوائل في القرون الثلاثة الفاضلة كانوا على السنة، والإمام الشافعي كذلك، والإمام أحمد لا نحتاج إلى أن نبين ذلك عنه، إذاً: اللبس إنما حدث بعد القرون الفاضلة، ففي القرن الرابع بدأ التمشعر على يد الأشاعرة، وكانوا من أتباع المذاهب، ثم في الآونة الأخيرة بعد القرن الرابع اقترنت تبعية المذاهب بتبعية الفرق بناء على حال الحكومات والسلاطين، فإذا كان السلطان -مثلاً- حنفياً وأشعرياً ربط الأحناف بالأشاعرة، وإذا كان حنفياً ماتريدياً ربط الأحناف بالماتريدية، وهكذا حتى صار الآن المفهوم عن كثير من المذاهب أنها مرتبطة بالفرق، وهذا ارتباط كله حادث، ولم يكن في العصور الأولى للمذاهب حينما كانت المذاهب مذاهب اجتهادية يقع فيها الخلاف ويرضاها المسلمون جميعاً، وبعدما تحولت إلى التعصب تحولت إلى الافتراق. قال: [وهذا برهان مبني على: أ - الصدور عن الأصلين المعصومين: الكتاب والسنة. ب - صحة المنهج العلمي في الاعتقاد والفهم. ت - دقة الالتزام بالمنهج. فالحق هو الحق في كل زمان ومكان، فإذا صح منهج التلقي ومنهج الفهم وحصل الصدق في الالتزام اجتمع الناس على الحق، وإن فصلت بينهم التخوم والقرون، فالأنبياء والمرسلون صلى الله عليهم وسلم اجتمعوا على أصل الديانة وإن لم ير بعضهم بعضاً، وإن ظهروا في عصور تطاولت بينها الآماد، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، والمسلمون مأمورون بالاقتداء بالأنبياء في الاجتماع على الأصول].

العقيدة ميزان توقيفي لا يضطرب

العقيدة ميزان توقيفي لا يضطرب قال: [الثاني: أن العقيدة ليست مذهباً اجتهادياً، بل هي الميزان الثابت الذي لا يضطرب ولا يطيش، إن العقيدة هي معرفة مراد الله تعالى من الديانة، ومن بعث الرسل وإنزال الكتب، وخلق الجن والإنس، ثم الاستقامة على هذا والعمل بمقتضاه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة في العلم بمراد الله وفي العمل بمقتضاه، ولقد اقتدى الصحابة ثم سائر القرون المشهود لها بالخيرية بالرسول صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد الحق، وندب الله الأئمة في كل عصر لتبيين الاعتقاد الصحيح الذي هو العقيدة التوقيفية الجامعة، ومن القول الفصل الدال على أن الاعتقاد الصحيح هو الفرقان بين الحق والباطل: أن الذين التزموا هذه العقيدة استقاموا على الطريقة وصلحوا وأصلحوا في العلم والدعوة والحكم والعمل والجهاد، وأن الذين شذوا عن هذه العقيدة تفرقت بهم السبل وعظم فهمهم واضطربت أقوالهم وأفعالهم، وفسدوا وأفسدوا، قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32]. يقول ابن تيمية رحمه الله: وطريقتهم - أي: أهل السنة والجماعة - هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم لكن لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)؛ صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولو المناقب المأثورة والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال الأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة). ويقول: ثم سأل نائب السلطان عن الاعتقاد، فقال - أي: ابن تيمية -: ليس الاعتقاد لي ولا لمن هو أكبر مني، بل الاعتقاد يؤخذ عن الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة، يؤخذ من كتاب الله ومن أحاديث البخاري ومسلم وغيرهما من الأحاديث المعروفة، وما ثبت عن سلف الأمة. ويقول: فقلت لا والله ليس لـ أحمد بن حنبل في هذا اختصاص، وإنما هذا اعتقاد سلف الأمة وأئمة الحديث، وقلت أيضاً: هذا اعتقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل لفظ ذكرته فأنا أذكر به آية أو حديثاً أو إجماعاً سلفياً، وأذكر من ينقل الإجماع عن السلف من جميع طوائف المسلمين والفقهاء الأربعة والمتكلمين، وأهل الحديث والصوفية].

الاستدلال بما وافق الحق من قول المخالف منهج سلفي

الاستدلال بما وافق الحق من قول المخالف منهج سلفي لعلنا نقف وقفة تأمل عند كلام شيخ الإسلام، وهذا الكلام الذي سأقوله كثيراً ما يردده هو وغيره من أئمة السلف الأقدمين، وذلك في مسألة الاستدلال بقول المخالف فيما يوافق فيه مما عنده من حق، وأقصد بذلك أن أئمة السلف لا يمنعون من الاستدلال بقول الصوفية فيما وافقوا فيه أهل الحق، أو تقوية الحق بأقوال المتكلمين فيما وافقوا فيه الحق، أو الاستدلال بالحق الذي عند أي فرقة أخرى إذا كان يعزز قول أهل السنة والجماعة ومنهجهم، بل هو من باب إقامة الحجة على المخالفين فيما خالفوا فيه إذا أيدناهم فيما وافقوا فيه، أقصد أن المخالف إذا أخذت عنه ما وافق فيه ألفت قلبه ليأخذ عنك فيما خالف فيه، هذا من ناحية، والناحية الأخرى هي قاعدة في الإنصاف والعدل، ليست مجرد سياسة أو مجرد منهج للتقريب والترغيب، إنما هي قاعدة شرعية تقوم على العدل والإنصاف، وأقصد بها أنه إذا كان مع الخصم أو المخالف ما يوافق الحق فيجب الاعتراف له به، سواء أكان دليلاً أم قولاً أم خلقاً أم فضيلة من الفضائل، فإذا كان مع المخالف لك والمخالف لأهل السنة والجماعة دليل صحيح أو قول صحيح أو سلوك صحيح أو فضيلة من الفضائل فلا بد من الاعتراف به إنصافاً وإحقاقاً للحق، وهذا هو الذي يقرب الناس إلى الخير ويؤلفهم. إذاً: هذا منهج لأئمة السلف، ولم يتفرد به شيخ الإسلام ابن تيمية وإن كان كثيراً ما يعول على هذا الأمر، حتى إن بعض طلاب العلم يعجب ويظن أن شيخ الإسلام إذا ذكر أقوال الصوفية وذكر أقوال المتكلمين فكأنه بهذا أقرهم على جملة مقولاتهم الأخرى، وأقول: هذا خلل في تصورنا وليس خللاً في منهج السلف، فـ شيخ الإسلام وغيره من الأئمة يأخذون ما يوافق الحق من الآخرين، وينصفونهم إذا تكلموا عنهم، ينصفونهم في القول عنهم وينصفونهم في الحكم لهم، والإنصاف لا يعد خضوعاً ولا يعد خنوعاً ولا يعد ترويجاً للمخالف، كما يظن كثير من صغار العقول، يظنون أنه إذا أنصف الخصم أو أنصف المبتدع أو اعترف بما لديه من فضيلة؛ فكأنه بذلك يهزم الحق أو أن في ذلك عليه أو على أهل الحق غضاضة، وهذا غلط مجانب للصواب وليس عليه أئمة السلف، إلا في حالات يقدرها أهل العلم إذا خشوا فتنة العامة بإنصاف المبتدع أو خشوا أموراً أخرى يقدرونها لا يقدرها الفرد ولا تكون ميزاناً ولا تكون قاعدة ولا تكون منهجاً، إنما هي أحكام شاذة قليلة قد يرد فيها أن يتغاضى صاحب الحق عما عند خصمه إذا تبين أن الفتنة بذلك تكبر وتكثر، وهذا نادر جداً ولا يصح أن نعول عليه ولا أن نجعله قاعدة. إذاً: أنبه على منهج أئمة الدين في هذا الأمر، ويتلخص في أمور آخذ منها ثلاثة: الأمر الأول: الاعتراف بما لدى الخصم من الحق، وإعلان ذلك. وبعض الناس يضيق، ولا تتحمل أعصابه أن يعترف بفضيلة الخصم، وهذا خلل، وهو أمر يجب أن نتجاوزه. الأمر الثاني: الإشادة بجوانب الفضل عند المخالف، من مبتدع أو متكلم أو متصوف أو جماعة من الجماعات في القول أو السلوك، لا كما يحصل الآن من التراشق والنبز بالألقاب بين الجماعات والدعاة مع الأسف، حيث نجدهم لا ينصفون، فإذا تكلم المخالف عن جماعة تخالفه تجده كأنه لا يعرف إلا السيئات، مع أنه يعرف حسناتهم ويعرف فضائلهم، بل بعضهم لبس عليه الشيطان إلى حد أن يقول: الفضائل هي الأصل، فأنا يهمني أن أنقد ويهمني أن أبين. ويدعي أن هذا هو النصح، وهذا منهج خطير، والمحكم في هذا الأمر هو الكتاب والسنة، فالله سبحانه وتعالى عندما ذكر اليهود والنصارى أنصفهم، وذكر أن منهم من يؤمن ومنهم من لا يؤمن، وذكر أن من اليهود الأمين ومنهم الخائن، وذكر أن في طوائف من النصارى رقة قلوب، وأخبر أن النصارى أقرب إلى الحق مع أنهم من المشركين، وكذلك منهج النبي صلى الله عليه وسلم، كان ينصف إذا تكلم، وإذا تكلم عن أهل الديانات أنصفهم وذكر ما عندهم من المحاسن ثم ذكر باطلهم، وكذلك أئمة السلف كانوا ينصفون الخصوم، بل إن الإنصاف أمر لا بد من التنويه به؛ لأن بعض الناس قد يقول: في ذهني هذه الفضائل ولا أنكرها، ونقول له: ليس المقصود أن الأمر في ذهنك، المقصود أنه إذا تكلمت فاعدل، إذا تكلمت فأنصف، وإذا قلت فاعدل، وإلا فاسكت فالسكوت خير لك، وأنا أقول: أن التنويه بأخطاء الآخرين الذين ينتسبون إلى الإسلام -حتى وإن كانوا من الضلال- دون الإشارة إلى ما فيهم من حسنات هو الظلم نفسه. الأمر الثالث: لا بد عند الكلام عن الخصوم -كما فعل السلف- من ذكر موافقة المخالف فيما هو حق لتقوية الحق بالاتفاق عليه، وأقصد بذلك أن أئمة الدين إذا ذكروا قولاً من الأقوال في الفقه أو في العقيدة قالوا مثلاً: وهذا هو قول أهل السنة والجماعة، وهو قول المعتزلة والجهمية، وهو قول الأشاعرة إلى آخره، ويذكرون أئمة الضلالة لأنهم وافقوا في هذا الحق، وليس في هذا على المسلم ضير؛ لأن الحق ثابت بهم وبغيرهم، لكن كونك تقيم الحجة على أتباعهم بمثل هذا فيه تقوية للحق، فأنا إذا قلت في أي مسألة من مسائل أصول الدين: أنها قول أهل ا

تأسيس التوجه الإسلامي المعاصر على العقيدة التوقيفية سبب من أسباب الاهتمام بها

تأسيس التوجه الإسلامي المعاصر على العقيدة التوقيفية سبب من أسباب الاهتمام بها قال: [ثالثاً: أن التوجه الإسلامي المعاصر نحو العودة إلى الدين يجب أن يؤسس على هذه العقيدة التوقيفية الجامعة، وأن يُرد رداً جميلاً إلى الأصول العاصمة من كل زيغ وضلال، فإن البنيان مهما علا فإنه سينهار، وإن الأفق مهما اتسع فإنه سيعتكر ويظلم، ما لم يؤسس البنيان على العقيدة المنجية، وما لم يستضئ الأفق المتسع بنورها. إن هذه العقيدة الحقة هي التي تُري الانبعاث الإسلامي الجديد كيف يؤمن؟ وكيف يفهم؟ وكيف يعمل؟ وهي التي تُريهم كيف يدعون إلى الإسلام وفق المنهج الصحيح، فيفتون بعلم، ويدعون برفق، ويوقرون من سبقهم من العلماء والأئمة، ويقتدون بهم ويترضون عنهم. وكيف يحافظون على وحدة الجماعة، فما أكثر ما كان الإمام الداعية ابن تيمية رحمه الله يقول في كل مجلس حوار ومناقشة تقريباً: إن الله تعالى أمرنا بالجماعة والائتلاف، ونهى عن الفرقة والاختلاف، وربنا واحد، ورسولنا واحد، وكتابنا واحد، وأصول الدين ليس بين السلف وأئمة الإسلام فيها خلاف، ولا يحل فيها الافتراق؛ لأن الله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. ويقول: فالواجب على كل مسلم إذا صار في مدينة من مدائن المسلمين أن يصلي معهم الجمعة والجماعة ولا يعاديهم، وإن رأى بعضهم ضالاً أو غاوياً وأمكن أن يهديه ويرشده فعل ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. والعلاقة وثيقة في منهج الإسلام بين توحيد الله ووحدة الجماعة، فقد تابع الرسول صلى الله عليه وسلم بين توحيد الله ووحدة الجماعة، فقال: (إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره لكم ثلاثاً: يرضى لكم أن تعبدوا الله ولا تُشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) الحديث].

شرح العقيدة الطحاوية [3]

شرح العقيدة الطحاوية [3] من جملة المسائل المتعلقة بالعقيدة مسألة تجديد الدين، فقد حدد العلماء معنى التجديد بإحياء معالمه المندثرة علماً وعملاً لا بالإحداث فيه، ومن جملة مسائل العقيدة ما يتصل بالإطلاقات الاصطلاحية التي أطلقت على علم العقيدة ومعرفة السلفي منها والبدعي، وصلة الفكر والتصور الإسلامي بمفاهيم العقيدة، كما أن من جملة مسائلها التسليم بعجز درك العقول لتفصيلات الدين استقلالاً، والإيمان بما جاءت به الرسل، واعتقاد أمور الدين على وجه الجملة وعلم ما يلزم علمه على وجه التفصيل.

ترجمة الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى

ترجمة الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فسنعرض بإيجاز ترجمة الإمام الطحاوي وسنقف عند بعض النقاط المتعلقة بشخصية الإمام الطحاوي متجاوزين التفصيلات. أما اسمه ونسبه فهو الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن سلمة بن عبد الملك الأزدي الحجري المصري الطحاوي، نسبة إلى (طحا) قرية من قرى الصعيد بمصر. ولد سنة 239هـ على الأرجح، وتوفي رحمه الله سنة 321هـ، فعلى هذا يعد من علماء القرن الثالث الهجري، وهو من أئمة القرون الفاضلة. قال المصنف رحمه الله تعالى: [نشأ الإمام الطحاوي في بيت علم وفضل؛ فأبوه كان من أهل العلم والبصر بالشعر وروايته، وأمه كذلك معدودة من أصحاب الشافعي الذين كانوا يحضرون مجلسه، وخاله هو الإمام المزني أفقه أصحاب الإمام الشافعي وناشر علمه. قال ابن يونس فيما نقله عنه ابن عساكر في تاريخه: كان ثقة ثبتاً فقيهاً عاقلاً، لم يخلِّف مثله. وقال مسلمة بن القاسم في الصلة: وكان ثقة ثبتاً جليل القدر فقيه البدن عالماً باختلاف العلماء، بصيراً بالتصنيف. وقال فيه ابن النديم: وكان أوحد زمانه علماً وزهداً. وقال فيه ابن عبد البر: كان من أعلم الناس بسير الكوفيين وأخبارهم وبفقههم، مع مشاركه في جميع مذاهب الفقهاء. وقال السمعاني: كان إماماً ثقة ثبتاً فقيهاً عالماً، لم يُخلِّف مثله]. عندي: (لم يُخلِّف مثله)، ويبدو أن فيها خطأ، ولعل (لم يُخلَّف مثله)؛ لأن (يُخلِّف) لا بد من أن يكون الضمير المستتر فيها راجعاً إلى مذكور أو معهود، ولا ندري ما المعهود ولا المذكور. قال رحمه الله تعالى: [وقال ابن الجوزي في المنتظم: كان ثبتاً فقيهاً عاقلاً فهيماً. وكذا قال سبطه. وقال ابن الأثير في اللباب: كان إماماً فقيهاً من الحنفيين، وكان ثقة ثبتاً. وقال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: الإمام العلامة الحافظ الكبير محدث الديار المصرية وفقيهها، ثم قال: ومن نظر في تآليف هذا الإمام علم محله من العلم وسعة معارفه].

ترجمة ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى

ترجمة ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [هو الإمام العلامة صدر الدين أبو الحسن علي بن علاء الدين علي بن شمس الدين أبي عبد الله محمد بن شرف الدين أبي البركات محمد بن عز الدين أبي العز صالح بن أبي العز بن وهيب بن عطاء بن جبير بن جابر بن وهب الأذرعي الأصل الدمشقي الصالحي الحنفي المعروف بـ ابن أبي العز]. [ولادته: تتفق كتب التراجم على أنه ولد في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة، ويغلب على الظن أنه ولد بدمشق].

المراد بالتجديد في الدين

المراد بالتجديد في الدين استوقفتني كلمة في الكلام عن محنته أحببت التعليق عليها مع أنها استطراد، لكن لعل في التعليق عليها فائدة، ففي الكلام عن محنته قال: [كان ينحو منحى التجديد والأصالة]، فهذه الكلمة قد تلفت النظر، فما معنى التجديد والأصالة؟ ربما يفهم بعض الناس أن هناك تناقضاً بين التجديد والأصالة، والحقيقة أن تجديد الدين ورد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر بأن الله سبحانه وتعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة من يجدد لها أمر دينها، ولذلك كثر الكلام في التجديد، لا سيما في الآونة الأخيرة عندما ظهرت المذاهب العصرانية العقلانية التجديدية التي تتبنى مذاهب وأفكاراً حديثة وتريد أن تصبغها بصبغة الإسلام، وكان الخطأ ناشئاً عن فهم التجديد وعن مفهوم التجديد، وباستقراء أقوال أهل العلم الذين تكلموا في مفهوم التجديد قديماً وحديثاً ممن يعتد بأقوالهم من أئمة السلف نجد أن التجديد يدور حول معنى متقارب عند جميع من عرفوه ممن يعتد بأقوالهم من المحققين، وهو أن التجديد استئناف الدين لا استبداله، استئناف الدين، أي: تجديده علماً وتأصيلاً، ثم تجديده عملاً وقدوة، وتجديد النهج الذي كان يسير عليه السلف الصالح، بمعنى: اعتقاده من جديد بعد ما اندثر، والعمل به من جديد بعدما اندثر، وليس المقصود بالتجديد استبدال العقيدة بعقيدة ولا الأصول بأصول ولا المناهج بمناهج ولا القواعد بقواعد جديدة، وأرى أن كثيراً ممن تكلموا عن التجديد -خاصة أصحاب الاتجاهات العصرانية من الإسلاميين إن صح التعبير- نكسوا هذا المفهوم وقلبوه، فزعموا أن التجديد هو استحداث مناهج جديدة، واستحداث أصول جديدة، واستحداث أفكار جديدة تتعلق بأصول الدين، وكذلك استحداث مظاهر للسلوك جديدة توائم العصر وتوائم المدنية والحضارة الغربية المعاصرة. وأقول: هذا فهم منكوس تماماً، بل أرى أن من المعلوم بالضرورة أن هذا الفهم معكوس؛ لأن تجديد الدين هو إحياؤه من جديد، إحياؤه بعدما طرأت عليه البدع والمحدثات، وإحياؤه بعدما تغير في سلوك الناس، وإحياؤه بعدما ترك في التطبيق، فالمقصود بتجديد الدين هو العمل به كما عمل به أئمة السلف عقيدة وعملاً، وليس المقصود بتجديد الدين استحداث قواعد جديدة ولا مناهج جديدة، لا في العلوم ولا في العقيدة ولا في الأعمال. إذاً: من معاني التجديد نفي ما طرأ وما حدث من البدع والمحدثات، سواء في الأفكار والقواعد أو في الأعمال.

حكم التجديد في الوسائل

حكم التجديد في الوسائل وأما تجديد الوسائل فليس ممنوعاً، فالوسائل من شئون الدنيا البحتة التي لكل أهل عصر أن يستحدثوا فيها ما شاءوا، بل من ضرورات الحياة أن تستحدث الوسائل بقدر ما يحدث للناس من مستجدات الحياة، والوسائل لا دخول لها في تجديد الدين، بل من تجديد الدين استخدام أحدث الوسائل لإحياء ما اندثر منه ولإماتة البدع ولإظهار السلوك الذي كان عليه السلف الصالح، فهذا من تجديد الدين، وأي منحى للتجديد لا يعتبر الوسائل ولا يعتد بها أو لا يستعملها لا ينجح في الغالب ولا يستقيم؛ لأن هذه سنة من سنن الحياة، فمن سنن الله في خلقه أن تكون الوسائل المعاصرة هي التي بها تقوم الأمم وتستقيم أحوالها، أي: الوسائل الدنيوية البحتة، ومن أراد أن ينقل الأمة في وسائلها إلى الصدر الأول فإنه سيقع في الحرج ويحرج الأمة، والأمة كانت تستحدث من الوسائل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة والقرون الثلاثة الفاضلة بقدر ما تحتاج إليه، حتى وسائل الجهاد، ووسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووسائل الدعوة، وقد كان الصحابة يستعملون ما لم يعرف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم فتحوا أقاليم جديدة، فدخل في الإسلام شعوب جديدة، وجاءت مفاهيم للناس في الأساليب وفي الأعمال والوسائل لا بد من تجديد فيها، فهذا أمر لا صلة له بالأصول والمناهج، فالدين يقوم على العقيدة والعمل، والعقيدة والعمل إنما يستقيمان بمنهج هو سبيل المؤمنين، والتجديد يشمل الأمور الثلاثة: العقائد، والأعمال، والمنهج الذي به تستقيم العقائد وتستقيم الأعمال، وهذا هو الذي يكون تجديده إحياءه من جديد، وهذه الأمور لا تختلف منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، فالدين في أصوله ومناهجه وفي السنن الظاهرة والأعمال التي تتعلق بسنن الدين لا يختلف أبداً، إنما الذي تختلف هو شئون الدنيا، وللناس أن يحدثوا في شئون دنياهم ما يشاءون مما يخدم الدين ويقيم الحجة، وينصر الدعوة. وليس المراد ارتكاب أي وسيلة، فالوسائل تحكم بالمصالح والمفاسد وتحكم بقواعد الشرع وبالفقه، أي أن الوسائل ليست بمعزل عن رأي الإسلام، بمعنى أنه ليس كل وسيلة يعمل بها البشر لا بد من أن تباح لمجرد أن تكون دنيوية، فهناك أصول في استعمال الوسائل، وهي أصول الاستدلال وأصول الشرع وأصول الاستنباط وقواعد الدين وأصول الفقه، فهذه أمور يحكم بها أهل العلم لمعرفة ما الوسائل المباحة؟ وما الوسائل المحرمة؟ لكن قصدي أن كون الوسيلة جديدة لا يعني أنها بدعة هذا ما أقصده، لا تدخل الوسائل في المبتدعات ولا في المحدثات، إنما الذي يدخل في المبتدعات والمحدثات هو ما يتعلق بالعقائد وما يتعلق بالسنن المنصوص عليها وما يتعلق بالعبادات، فهذه الأمور هي تشريعية توقيفية في أصولها، أو هي توقيفية في نصوصها ولو كانت اجتهادية في الاستنباط، وهي التي لا يجوز الابتداع فيها، وتبقى مسألة الوسائل وعرضها على الشرع وما يجوز فيها وما لا يجوز، هذا هو مجال أهل العلم وأهل الاجتهاد.

بيان شرف علم أصول الدين

بيان شرف علم أصول الدين قال رحمه الله تعالى: [بسم الله الرحمن الرحيم، حسبي الله ونعم الوكيل، الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم -إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع؛ ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين: الفقه الأكبر- وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة؛ لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه].

أسماء ومصطلحات علم العقيدة

أسماء ومصطلحات علم العقيدة

الأسماء الشرعية الواردة في علم العقيدة

الأسماء الشرعية الواردة في علم العقيدة نحتاج هنا إلى بيان بعض المقدمات الضرورية في أول الكلام عن العقيدة، فأول ذلك مناسبة إشارة الشارح إلى علم أصول الدين والفقه الأكبر، فهذا يقودنا إلى معرفة أسماء علم العقيدة، أعني الأسماء الشرعية التي وردت عن السلف في وصف هذا العلم أو في تسميته، ثم الأسماء المبتدعة التي سادت عند كثير من المسلمين وهي لا تصح، بل لا يصح إطلاقها على هذا العلم، بل إن إطلاقها يعتبر من الابتداع. أما الأسماء الشرعية الواردة على ألسنة السلف والتي اصطلحوا عليها، وهي أسماء تدل بمفهومها ومدلولها وألفاظها على عقيدة أهل السنة والجماعة؛ فهي كثيرة، لكن يمكن بالاستقراء أن نلخصها في سبعة أسماء لهذا العلم: أول هذه الأسماء وأهمها وأكثرها أصالة وأقربها إلى مفهومات النصوص وأكثرها استعمالاً على ألسنة السلف، وفي مصنفاتهم في القرون الثلاثة الفاضلة: كلمة (السنة)، بمعنى أنهم كانوا يطلقون على العقيدة: السنة، وعلى هذا غالب مصنفات أئمة الدين في القرون الثلاثة الفاضلة، بل لا نكاد نجد مصنفاً يخرج عن هذا الاسم إلا القليل النادر جداً، فأغلب ما صنفه أئمة الدين في العقيدة جعل تحت مسمى (السنة)، والسنة تعني العقيدة، وتعني الإيمان بمفهومه الشامل، وتعني أصول الدين، وتعني -أيضاً- هدي السلف الصالح، فالهدي الذي عليه أهل السنة والجماعة بعد الافتراق يسمى السنة؛ لذلك كان يطلق بإزاء البدعة وبإزاء الفرق، فيقال: هذا صاحب سنة، بمعنى أنه على عقيدة أهل السنة والجماعة ومقابل صاحب أهل البدعة، وإن كان هذا الاسم قد يطلق أحياناً في تسمية جزئية يدل عليها السياق، فقد تسمى رواية الحديث والدراية له، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم سنة، وقد تسمى النوافل سنة، لكن هذه تسمية جزئية مقيدة بالسياق، أما السنة إذا أطلقت عند السلف فإنها تعني العقيدة، فهذا الاسم الأول والأشهر، وهو الأولى بالإطلاق. والثاني: التوحيد، والتوحيد جزء من العقيدة، لكن سميت به العقيدة لأنه هو أشرف موضوعات العقيدة، وأهم موضوعات العقيدة هو توحيد الله سبحانه وتعالى، فمن هنا سميت العقيدة كلها توحيداً؛ لأن مسائل الاعتقاد كلها تندرج تحت التوحيد المبني على التسليم والتصديق. الاسم الثالث: العقيدة، وسميت عقيدة لأن المسلم يعقد قلبه بالجزم على أصول الدين، وعلى السنة، وعلى التوحيد. الاسم الرابع: أصول الدين، وهذا الاسم قد كرهه بعض السلف، لكنه أصبح اصطلاحاً واضحاً، وربما يزول الإشكال إذا وضح مفهومه عند من يطلقونه، فأصول الدين يقصد بها العقيدة والقطعيات والمسائل الكبرى التي تحكم قواعد شرع، والذين كرهوا هذا الاسم أو هذا الوصف من السلف كرهوه لأنه يقسم الدين إلى أصول وفروع، فمن هنا قد يفهم العامة أن الفروع أقل منزلة من الأصول في الاعتقاد والعمل، وأنه ربما يسع الإنسان إذا عرف الأصول واعتقدها الإخلال بالفروع أو ببعضها، وهذا فهم خاطئ؛ فلذلك يرى بعض السلف أن الدين واحد أصوله وفروعه سواء، ولا يجوز أن يقسم إلى أصول وفروع، لكن مع ذلك ساد هذا الاصطلاح عند بعض أئمة الدين المحققين، ورضوه لأنهم يقصدون به العقيدة. ومن الأسماء التي اشتهرت: الفقه الأكبر، لكن استعماله في أصول الدين أو في العقيدة قليل جداً، وهو -أيضاً- مثل كلمة (أصول الدين)، بمعنى أن الفقه بما يتعلق بالله سبحانه وتعالى وبعبادة الله، وبما يتعلق بمسائل أصول الدين الأخرى القطعية هو الفقه الحقيقي في الدين، فمن هنا سمي الفقه الأكبر، ولا يعنى به الفقه الاجتهادي، أي: فقه الأحكام، ففقه الأحكام يسمى بإزاء هذا الفقه الأصغر، وهذه التسمية يرد عليها تفصيلاً ما يرد على تسمية أصول الدين. ومن الأسماء المشهورة -وهو السادس-: الإيمان، فقد يسمي بعض السلف العقيدة بمسمى الإيمان، وإن كان الإيمان قد يطلق إطلاقاً خاص، لكنه إذا جاء مطلقاً من غير مفهوم يخصصه في السياق فالغالب أنه يقصد به العقيدة؛ لأنه إذا أطلق يشمل الإسلام ويشمل العقائد الباطنة، يشمل الأعمال الظاهرة ويشمل العقائد الباطنة، فالأصح أن من أسماء العقيدة وإطلاقاتها: الإيمان بمعناه الشامل. ومن أسماء هذا العلم وإطلاقاته: الشريعة، وهذا إطلاق نادر أيضاً، لكن رضيه أهل العلم، وإن كانت الشريعة في الاصطلاح الدقيق السائد المشهور تعني الأحكام، والعقيدة تعني أصول الدين، ومع ذلك قد يرد في بعض معاني العقيدة إطلاق الشريعة؛ لأن العقائد والأحكام من شرع الله، فهذه أشهر الإطلاقات التي عرفت عند السلف.

الأسماء البدعية الواردة في علم العقيدة

الأسماء البدعية الواردة في علم العقيدة هناك إطلاقات خاطئة بدعية لا ينبغي لطلاب العلم وأهل السنة أن يطلقوها أو أن ينساقوا مع من يطلقها فيصف بها أصول الدين، فمن هذه الإطلاقات: علم الكلام، فقد سمى كثير من المتكلمين وبعض الفرق العقيدة بعلم الكلام، ولا تزال في كثير من الجامعات في العالم الإسلامي والمراكز العلمية دراسة العقيدة تحت مسمى علم الكلام، وهذا خطأ؛ لأن علم الكلام هو فضول الكلام الذي قال به المبتدعة زائداً عن كلام السلف، وكلام السلف ليس بعلم كلام، وعقيدة السلف ليست علم كلام بإطلاق، بل لا يجوز أن نطلق على أي شيء من مسائل الاعتقاد أنه من علم الكلام. فعلم الكلام هو فضول الكلام الذي أطلقته الفرق في مسائل العقيدة وتلفظت به وتكلمت به، ولا يقول به السلف، وليس بتوقيفي. ومن الأسماء السائدة المبتدعة: الفلسفة، إطلاق الفلسفة على العقيدة، وهذا خطأ فادح؛ لأن الفلسفة حكمها حكم علم الكلام، بل هي أبعد عن الإسلام. ومن ذلك: التصوف، فبعض الناس -خاصة أهل التصوف والطرق- يسمون العقيدة أحياناً بالتصوف، وهذا الإطلاق كثير عند الغربيين، فالغربيون بحسب مفهومهم يطلقون على عقائد الإسلام: التصوف. ومن ذلك: الإلهيات، فإطلاق كلمة (إلهيات) على العقيدة الإسلامية الصحيحة خطأ؛ لأن الإلهيات هي الجانب الفلسفي الغيبي المتعلق بالإله عند الغربيين، وهذا اللفظ حكمه حكم الفلسفة وعلم الكلام؛ لأنهم يقصدون بالإلهيات كل كلام في غير عالم الشهادة يتعلق بالله سبحانه وتعالى، سواء في وجوده أو في وحدانيته، أو في أسمائه وصفاته، وأولئك لا يعرفون أي معنى من معاني الإثبات الشرعي فيما يتعلق بالأسماء والصفات، فلذلك يتكلمون فيها بالغيب وبالفلسفة، ويسمون هذا كله بالإلهيات، ومن هنا صنفوا موضوعات العقيدة وكتب العقيدة الإسلامية تحت مسمى (الإلهيات). ومن الأسماء التي اشتهرت عند الصوفية أنهم يطلقون على العقيدة (علم الحقيقة)، وعلم الحقيقة عندهم قد يكون أوسع من هذا أيضاً، فهو الأمور الباطنية التي يتذوقونها من أمورهم الباطلة التي تخالف ما جاء في الكتاب والسنة، وهو الذي يسمونه علم الظاهر، أو علم الشريعة، أو علم العوام. ومن الأسماء التي تعلق بها بعض المثقفين -وهي مستوردة- تسمية العقيدة بـ (ما وراء الغيب)، فـ (ما وراء الغيب) كثيراً ما تطلق عند كثير من المفكرين وبعض الكتاب المثقفين، حتى بعض الإسلاميين منهم، بل بعضهم ينقلها بحروفها أو بلفظها الأجنبي دون أن يعيها هو ولا القراء، مثل كلمة (الميتافيزيقا)، فهذه أيضاً من أكثر ما يطلقونه، ولو أردنا أن يفسروها لما فسروها، ككثير من الكلمات التي يحاكون بها الغرب. فهذه من أشهر الإطلاقات التي ابتلي بها الناس الآن في إطلاقها على العقيدة، وهي إطلاقات مبتدعة: علم الكلام، الفلسفة، التصوف، الإلهيات، علم الحقيقة، ما وراء الغيب، الميتافيزيقا.

الفكر والتصور الإسلامي في العقيدة والموقف منهما

الفكر والتصور الإسلامي في العقيدة والموقف منهما أما تسمية العقيدة فكراً وتصوراً فلا ينبغي، بل هما أيضاً من الأسماء المحدثة، فلا يجوز تسمية العقيدة فكراً إسلامياً، ولا تصوراً إسلامياً، إنما الفكر هو ما يفهمه المفكرون من مستلزمات العقيدة أو مستلزمات النصوص، بمعنى أنه يجوز أن نسمي ما يفهمه المفكر من العقيدة من مستلزمات جانبية أخرى فكراً، فعلى هذا لا تكون عقيدة، ولا تنسب إلى أئمة الدين، بل تنسب إلى صاحبها، مع أن هذا فيه نوع من الخطورة، فانتزاع مستلزمات معينة من قبل بعض المفكرين مما يفهمونه من أصول الدين، أو مما يفهمونه من نصوص، وتسميتها بفكر إسلامي -بمعنى أنها تكون مرجعاً ويبنى عليها فهم وتصور، أو يبنى عليها مناهج تربوية للشباب- أظنه مسلكاً خطيراً، وهو نزعة تشبه نزعة علم الكلام في بداية أمرها في القرن الأول، فقد كانت بهذا الشكل، عبارة عن استنتاجات المفكرين فيما يتعلق بالعقيدة، ثم اختلطت بأقوال أهل البدع، واجتمعت هذه الأمور كلها وتواصلت حتى أوجدت علماً يسمى بعلم الكلام يضاهي علم العقيدة، بل طغى عليه عند المبتدعة وأهل الفرق حتى نسوا العقيدة وتعلقوا بعلم الكلام على أنه هو مراد الله وهو ما يعتقد؛ فلذلك نجد في كتب علم الكلام التي يعتقدها المتكلمون كل شيء إلا العقيدة التي رسمها السلف بألفاظ الشرع، وإذا تكلموا عن شيء من أمور العقيدة تكلموا عليه بأسلوب ملفق، ويسمون هذا: التوفيق بين الشريعة ومناهج الكلام، أو بين الشرعيات والعقليات، وهذا المسلك الجديد هو تعلق بالفكر الإسلامي يشبه تعلق بعض الأولين من أتباع الفرق بالفكر الإسلامي القديم. ولذلك ينبغي أن تحرر هذه المسألة، وتبين بشكل جيد لطلاب العلم، حتى يعلم ما الذي يؤخذ من الفكر الإسلامي الحديث وما الذي يستغنى عنه؟ فلا بد من وضع ضوابط، أما أن نأخذ كل ما كتب وكل ما قيل فهذا خطأ، فأكثر ما قيل من الفكر الإسلامي يشتمل على حق، ويشتمل على فوائد تفيد هذا الجيل، لكن نخشى أن يكون بديلاً عن العقيدة، بل إني أرى أجيالاً نشأت في بعض البلاد الإسلامية على بعض الكتب الفكرية على أنها هي منبع التصور والاعتقاد، ونشأت على هذا دعوات كبرى تعلقت بمثل فكر سيد قطب رحمه الله وفكر محمد قطب وأفكار آخرين على أنها هي التي يعتمد عليها في التصور الإسلامي، واستغنوا بها عن كتب العقيدة، وهذه الكتب جيدة ومفيدة جداً، لكن بشرط أن نستقي العقائد أولاً من كتب العقيدة، ثم نستفيد من هذه المستلزمات الفكرية الجيدة المفيدة التي قال بها أمثال سيد قطب وغيره رحمهم الله، ووفق الأحياء منهم. أقول هذه المسألة ولا أعطي فيها رأياً، لكن أثير هذا الإشكال لضرورة الإجابة عليه، فمسألة الفكر الإسلامي والتعلق به تحتاج إلى نظر، والاستغناء بالفكر الإسلامي عن العقيدة، أو تربية الأجيال عليه في التصور والأحكام مسألة خطيرة، وأنا أكاد أجزم بأن بعض الحركات التي مالت إلى التنطع في الدين -كالتكفير والهجرة- كان منشأ ميلها هو تعلقها بفكر بعض المفكرين، ففهمته خطأ بمعزل عن أصول السلف وعقيدة السلف، فلما قرءوا عقائد السلف جعلوا الفكر الإسلامي الحديث هو الميزان، فبذلك انحرفوا، نسأل الله العافية. إذاً: المسألة تحتاج إلى شيء من التحقيق، وتحتاج إلى شيء من الدراسة. فالفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية إذا كان يقصد بهما أنهما بديلان عن العقيدة، أو يقصد الاعتماد عليهما في إعطاء التصور الإسلامي الأصيل فهذا خطأ ينبغي تصحيحه، وإذا كانا رافدين للعقيدة فلا مانع بشرط سلامتهما، بمعنى أن تكون هناك مادة عقيدة يدرسها الطالب، ويفهم أن هذا الفكر وهذا الاتجاه أو هذه الثقافة إنما هي رافدة وتعطي التصور الصحيح لما يتعلق بواقع المسلمين المعاصر أو الرد على الشبهات والتحديات المعاصرة، فهذا الجانب جيد ومفيد، لكن بشرط ألا يستغنى به عن العقيدة، وأن لا يكون هو منهج التربية الذي تبنى عليه تصورات الأجيال، وأنا أخشى من هذا الخلل، أي: أن يظهر جيل لا يعرف من العقيدة إلا كتب الفكر الإسلامي، أو لا يفهم من أصول الدين والأمور التي تنبثق منها تصوراته إلا هذا الجانب، أقول: هذا أمر يحتاج إلى تحرير، وفيه نوع من الخطورة جدير بالاهتمام.

شرح العقيدة الطحاوية [4]

شرح العقيدة الطحاوية [4] عامة من ضل في باب علم العقيدة كان سبب ضلالهم هو في تفريطهم في اتباع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقع هذا التفريط من الإنسان إما بالجهل، خاصة عند القادرين على التعلم، أو بالإعراض المتعمد، والذي يشمل إعراض القلوب وإعراض الأعمال، أو بالابتداع الذي لا ينتج إلا عن تفريط بالسنة، أو بالأهواء التي تمنع المرء من التسليم لله ورسوله.

بيان استحالة استقلال العقول بمعرفة أصول الدين على التفصيل

بيان استحالة استقلال العقول بمعرفة أصول الدين على التفصيل قال المصنف رحمه الله تعالى: [ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين، وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله؛ إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها إلى آخرها]. تكلم الشارح عن استحالة استقلال العقول بمعرفة أصول الدين على التفصيل، فالعقول لا تستقل بمعرفة العقيدة ولا بإدراكها على وجه التفصيل، وكأنه بذلك يشير إلى أن من أصول العقيدة ما تدركه العقول على وجه الإجمال، وهذا صحيح في الجملة، ومع ذلك لا تستغني العقول عمَّا يرد من الهداية ومن البيان ومن الأخبار في أمور الغيب عن الله سبحانه وتعالى كما بعث بذلك رسله؛ لأن العقول وإن أدركت بعض الإجماليات إلا أن هذا الإدراك لا ينفع، بمعنى أن تكليف البشر وحسابهم مبني على ما جاء به المرسلون في توحيد الله تعالى، وفي شرعه وأمره وخبره ووعده ووعيده. وإدراك العقول للأمور الإجمالية هو إدراك فطري يدركه الإنسان بفطرته وعقله السليم، لكن مع ذلك لا يمكن أن يدركه كل البشر، بمعنى أنه لو ترك البشر بلا رسالات ولا أنبياء لأدركت طائفة قليلة منهم قضايا إجمالية عامة من أمور الدين، وهذه القضايا الإجمالية لا ينتفع بها البشر، مثلاً: الفطرة والعقل السليم لا بد لهما من أن يدركا ضرورة وجود الخالق لهذا الخلق، ومع ذلك قد تعمى عقول كثير من البشر عن هذا الإدراك، والعقل السليم والفطرة قد يدركان ضرورة البعث، لكن أكثر البشر لا يدركون هذا؛ لأن هذا أمر خفي لا يدرك إلا بتأمل قوي وبعقول راجحة كبيرة وبذكاء، وهكذا، فالأمور الإجمالية التي تدرك بالعقول والفطرة لا تفيد البشر؛ لأن البشر يحتاجون إلى أمور تفصيلية، سواء ما يتعلق بتوحيد الله سبحانه وتعالى وبأسمائه وصفاته وحقوقه، وما يتعلق بتفصيلات الشرع، فمن المحال أن تستقل العقول بمعرفة حقوق الله تعالى وشرعه وما يرضيه على وجه التفصيل.

أصول بعثة الرسل

أصول بعثة الرسل قوله: (وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله). هذا -في الحقيقة- جزء من عمل المرسلين، وليس هو أول دعوتهم، وليس هو المفتاح وإن كان جزءاً من مفتاح الدعوة؛ لأنا إذا تأملنا آيات الله -كما قال أئمة السلف الذين قرروا التوحيد- وتأملنا الأحاديث وتأملنا سير المرسلين وما جاء به الرسل مما ذكره الله عنهم فسنجد أن أول ما يدعون إليه هو عبادة الله، وهي مفتاح الرسالات، ويتبع ذلك بالضرورة توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، لكن لم يكن أول ما جاءوا به هو التعريف بالله فقط؛ لأن معرفة الله يدركها أكثر الأمم حتى الأمم الكافرة والمشركة والأمم الضالة، والله سبحانه وتعالى أرسل المرسلين إلى أمم تعرف الله ولا تنكره، إلا أمماً شذت كفرعون وقومه فقط، فهم الذين ورد في القرآن أنهم جحدوا الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء يستثنون، أما بقية الأمم فلم يرد دليل قاطع ولا دليل ظني على أنها كانت لا تعرف الله، إنما كانت تعرف الله وتعبد غيره، فالتعريف بالله دخل ضمن الدعوة إلى توحيده، وإلا فالهدف والغاية الأولى ومفتاح الدعوة للمرسلين هي الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ونبذ الشرك. قال رحمه الله تعالى: [ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان: أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه. والثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم]. عندنا ثلاثة أصول جاء بها المرسلون، وهذه الأصول تندرج فيها أمور الدين كلها، فالأصل الأول -كما أشار إليه ولم يذكره نصاً- هو عبادة الله تعالى، وهو الاعتقاد؛ لأن قمة الاعتقاد هي عبادة الله بتوحيد الإلهية، أما توحيد الربوبية والأسماء والصفات فإنه من مستلزمات العبادة لله تعالى بحق، فأول الأصول التي جاء بها المرسلون وأعظمها، والذي ينبغي أن يكون أصلاً لكل دعوة ولكل داعية: عبادة الله تعالى وحده ونبذ الشرك، وما يتبع ذلك من ضرورة معرفة الله تعالى بذاته وأسمائه وصفاته، وما يتبع ذلك من ضرورة الاعتراف بالربوبية لله وحده، ونتيجة ذلك وأوله وخاتمه هو عبادة الله وحده بما شرعه الله، هذا هو الأصل الأول. الأصل الثاني: الشرائع التي تبين للناس ما يريده الله منهم على وجه التفصيل، فكل الأنبياء أتوا بشرائع، سواء منهم من أنزل عليه كتاب وشريعة مستقلة ومن كان تابعاً لشرع من سبقه كالكثير من النبيين، فالرسل أتوا بشرائع وكتب منزلة، والنبيون إنما جددوا شرائع من سبقهم من المرسلين وعملوا بها، وربما يكون بعض الأنبياء قد أنزلت عليهم شرائع، والله أعلم، وهذه مسألة خلافية كما هو معروف، والمهم أن الأصل الثاني الذي جاء به جميع المرسلين هو الشرائع الهادية للناس لأن يعبدوا الله على شرعه، وأن يطيعوا أمره ويجتنبوا نهيه، والأوامر والنواهي التي جاءت عن الله تعالى في الشرائع تفصيلية وليست إجمالية. الأصل الثالث: البشارة والنذارة، فكل النبيين جاءوا بهذا الأصل، كل نبي بشر قومه المطيعين بوعد الله تعالى لهم بالنصر والتمكين في الدنيا وبالجنة في الآخرة، وكل نبي توعد قومه الذين كفروا بما توعدهم الله به في الدنيا وبما توعدهم الله به في الآخرة. إذاً: فجميع الأنبياء جاءوا بهذه الأصول الثلاثة: بالتوحيد أولاً، وبالشرائع ثانياً، وبالوعد والوعيد ثالثاً. قال رحمه الله تعالى: [فأعرف الناس بالله عز وجل أتبعهم للطريق الموصل إليه وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه؛ ولهذا سمى الله ما أنزله على رسوله روحاً لتوقف الحياة الحقيقية عليه، ونوراً لتوقف الهداية عليه، فقال تعالى: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر:15]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} [الشورى:52 - 53]. فلا روح إلا فيما جاء به الرسول، ولا نور إلا في الاستضاءة به، وهو الشفاء كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] فهو -وإن كان هدى وشفاءً مطلقاً- لكن لما كان المنتفع بذلك هم المؤمنون خصوا بالذكر، والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق فلا هدى إلا فيما جاء به].

بيان ما يجب الإيمان به مما جاء به الرسول وعلى أي وجه

بيان ما يجب الإيمان به مما جاء به الرسول وعلى أي وجه قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيماناً عاماً مجملاً، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية؛ فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله، وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب والحكمة، وحفظ الذكر، والدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين، فهو واجب على الكفاية منهم]. يقول المحقق في الهامش مقتبساً من كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: [للإنسان ثلاثة أحوال: إما أن يعرف الحق ويعمل به، وإما أن يعرفه ولا يعمل به، وإما أن يجحده. فصاحب الحال الأول هو الذي يدعى بالحكمة، فإن الحكمة هي العلم بالحق والعمل به. والنوع الثاني: من يعرف الحق لكن يخالف نفسه، فهذا يوعظ بالموعظة الحسنة، وعامة الناس يحتاجون إلى هذا وهذا؛ فإن النفس لها أهواء تدعوها إلى خلاف الحق وإن عرفته، وأما الجدل فلا يدعى به، بل هو من باب دفع المعارض، فإذا عارض الحق معارض جودل بالتي هي أحسن، وقال تعالى: {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] ولم يقل: بالحسنة كما قال في الموعظة؛ لأن الجدال فيه مدافعة ومغاضبة، فيحتاج أن يكون بالتي هي أحسن حتى يصلح ما فيه من المخالفة والمدافعة، والمجادلة بعلم كما أن الحكمة بعلم، وقد ذم الله تعالى من يجادل بغير علم في غير موضع من كتابه]. قال رحمه الله تعالى: [وأما ما يجب على أعيانهم فهذا يتنوع بتنوع قدرهم وحاجاتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك، ويجب على من سمع النصوص وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي والمحدث والحاكم ما لا يجب على من ليس كذلك].

ضوابط في الفرق بين الإيمان الإجمالي والإيمان التفصيلي

ضوابط في الفرق بين الإيمان الإجمالي والإيمان التفصيلي قد يرد تساؤل: ما الفارق بين الإيمان الإجمالي والإيمان التفصيلي؟ وقد ذكر ابن أبي العز شيئاً من الفروق جيداً، وكذلك المحقق، لكن يحسن أن نذكر ضوابط كبرى للفارق بين الإيمان الإجمالي ومتى يجب وعلى من يجب، وبين الإيمان التفصيلي ومتى يجب وعلى من يجب؟ الضابط الأول في التفريق بين الإجمال والتفصيل: أن هناك من إجماليات الدين ما لا يعذر فيه أحد، كأركان الإيمان، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره. فهذه الأصول بإجمال دون دخول في تفصيلاتها لا يعذر أحد في جهلها، وكل يستطيع الإدراك لها ما دام عاقلاً مميزاً، فلا بد من أن يدرك هذه الأمور على وجه الإجمال. وفي الجوانب العملية هناك من الدين ما لا يسع جهله، كأركان الإسلام الخمسة، نعم بعضها مبني على الاستطاعة كالحج، لكن إدراكها والإيمان بأنها واجبة، وكذلك القيام بها حال الاستطاعة أمر لا يعذر فيه أحد. فهذا القدر من الإيمان الإجمالي لا يمكن أن يتخلف عند عاقل إدراكه والعمل بما يستطيع منه. الضابط الثاني: أن هناك ما تستطيع طائفة من المسلمين العلم به ويبلغهم علمه. فكل من استطاع أن يأخذ علماً من العلوم الشرعية الضرورية وجب عليه أن يحصله، وعلى هذا فإن طلب العلم على وجه الإجمال واجب، يعني: يجب على المسلم أن يتعلم ضروريات دينه حتى ما يزيد على الإجماليات التي ذكرتها؛ لأن هناك أموراً تفصيلية يجب على من يستطيع تحصيلها علماً أن يحصلها. إذاً: القاعدة الثانية: أنه يجب تحصيل العلم الشرعي على من يستطيعه بقدر استطاعته. فالعلم علمان: علم يتعلق بالتبحر في العلم لأجل استنباط الأحكام وتعليم العلم للمسلمين ونشره والدعوة إليه، فهذا ينبغي أن تنبري له طائفة من المسلمين، ولا يجب على الجميع، فمن قامت به الكفاية كفى عن البقية. وعلم يجب تحصيله على الجميع، وهو تحصيل الأمور الضرورية في العقيدة والأمور الضرورية في الشريعة. الضابط الثالث: الإدراك بقدر الاستطاعة، بمعنى أنه لا يجب على كل إنسان أن يفهم أو أن يستوعب كل ما بلغه، إنما استيعابه بقدر إدراكه، فبعض الناس قد يبلغه الدليل من الآية أو الحديث لكن لا يدرك فقهه، فمن هنا لا ينبغي له أن يخبط فيه أو يتكلم بغير علم، فالإدراك العلمي والتبحر فيه لا يمكن إلا لطائفة من البشر وهبهم الله مواهب زائدة، وهم أهل الذكر، وهم الذين يستطيعون الاستنباط، أهل الفقه في الدين الذين يملكون إدراك معاني النصوص واستنباط ما يفهم منها على ضوء قواعد الاستنباط الشرعي، وكل درجة لها طائفة من الناس، فالإيمان الإجمالي الذي ذكرته لا يعذر فيه أحد، والعلم بما يمكن تحصيله من ضرورات الدين لا يعذر فيه من يستطيع التحصيل. أما العلم التفصيلي؛ فهو الذي قد يعذر فيه بعض الناس إذا حصلت الكفاية بالآخرين، وهو التبحر في العلم بالدين.

خطر التفريط في اتباع ما جاء به الرسول وبيان ما يدخل تحته

خطر التفريط في اتباع ما جاء به الرسول وبيان ما يدخل تحته قال رحمه الله تعالى: [وينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته، فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا كما قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:123 - 126]].

الجهل

الجهل مسألة التفريط مسألة جامعة لأسباب ترك ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الكلمة الجامعة يدخل تحتها في نظري أمور، أعني: التفريط في اتباع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه يدخل فيها أمور يمكن أن نعرفها باستقراء ما حدث للفرق من تفريط في الدين جملة، فمن هذه الأمور: الجهل، فالجهل هو تفريط، بل هو أول وأكثر وأعظم أبواب التفريط في الدين. والجهل منشؤه تقصير الإنسان في طلب العلم؛ لأن الجهل جهلان: جهل القادر على التعلم، وهذا عليه أغلب الجاهلين، يعني: كل إنسان -مهما كان عنده من ضعف القدرة- لا بد له من أن يستطيع أن يعرف شيئاً من الفقه في الدين تسلم به عقيدته وتستقيم به أموره ويكون على السنة، فغالب الناس عندهم القدرة على أن يحصلوا شيئاً من الفقه في الدين ولو لم يكونوا من أهل العلم المتمكنين أو من أهل الذكر. إذاً: الجهل هو العلة الأولى للتفريط، وهو أعظم أبواب التفريط في دين الله سبحانه وتعالى، وأول ما أتي منه المسلمون وآخر ما أتوا منه باب الجهل، والجهل مصيبة.

الإعراض المتعمد

الإعراض المتعمد الثاني: الإعراض المتعمد، وهو سمة من سمات الفرق، وهو من أعظم أبواب التفريط بعد الجهل، بمعنى أن كثيراً من المسلمين الذين فرطوا في الدين كان سبب تفريطهم هو الإعراض عن دين الله، الإعراض الكائن عن هوى، وهذا الإعراض يشمل إعراض القلوب وإعراض الأعمال. أما إعراض القلوب فهو النفاق، نسأل الله العافية، وأما إعراض الأعمال فهو الفسق والفجور، فكثير من الناس يكره مظاهر الدين ويكره السنة؛ لأنه يحب الفجور والفسق، فيعرض عن دين الله إعراضاً مقصوداً متعمداً. والإعراض أيضاً كثير، سواء في الفرق وأهل الأهواء والابتداع أو في أهل الفسق والفجور، خاصة أولئك الذين يؤثر فسقهم في الأمة، فهؤلاء الغالب فيهم النزعة إلى الإعراض المتعمد عن دين الله، كما يحصل من بعض الولاة على مدار التاريخ؛ لأن هؤلاء فسقهم يؤثر في الغالب في الأمة، وقد يشرعون له، وقد يبثون فسقهم بوسائلهم التي يملكونها، وهؤلاء قد تكون منهم طائفة إعراضها عن دين الله تعالى -أي: عن العمل بالسنن- وإعراضها عن الهدى إعراض مقصود، بل الإعراض كله مقصود، ولا يسمى إعراضاً إلا إذا كان مقصوداً.

الابتداع

الابتداع الثالث من وجوه التفريط: الابتداع؛ لأن الابتداع لا يحدث إلا بتفريط في سنة، وهذه قاعدة قررها أهل العلم، بل هي مبنية على أحاديث صحيحة؛ لأن الناس لا يعملون بدعة إلا ويتركون سنة، ولا يتركون سنة إلا ويعملون بدعة، وهذه قاعدة مطردة؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل الشرع يناسب أحوال البشر، يناسب قلوبهم ويناسب جوارحهم ويناسب أوقاتهم ويناسب حياتهم كلها، بمعنى أن الشرع فصل لحياة البشر جميعاً بمختلف أشكالها وأنماطها، فإذا ترك الناس سنة احتاجوا إلى بدعة، وإذا ابتدعوا بدعة استغنوا عن سنة، وهذه قاعدة مطردة ولا بد؛ لأن هذه البدعة إما أن تشغل قلب الإنسان أو تشغل جوارحه أو تشغل القلب والجوارح، والله سبحانه وتعالى وضع من الهدى ما يشغل القلب بالخير ويسعده، ووضع من الهدى ما يشغل الجوارح بالخير ويسعدها، فإذا ابتدع الناس بدعة نزعت منهم سنة؛ لأن هدي الإسلام كالنسيج المحكم تماماً إذا رفعت منه خيطاً اختل بعض النسيج، وإذا أضفت له خيطاً زائداً اختل النسيج، فكذا البدع تفعل بالسنة وتفعل بالناس، فالناس إذا ابتدعوا بدعة فلا بد من أن تنتزع منهم سنة من وجه آخر، سواء أكانت البدعة قلبية أم كانت عملية، وكذلك إذا تركوا سنة فلا بد من أن ينشغلوا ببدعة بمجموعهم وليس بأفرادهم، فقد لا ينطبق ذلك على بعض الأفراد، أما المجموع فلا بد من أن يكون هذا هو حالهم.

الأهواء وعدم التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم

الأهواء وعدم التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم الرابع من وجوه التفريط: الأهواء. ومن وجوهه أيضاً: عدم التسليم لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم التسليم أحياناً يكون نظرياً وأحياناً يكون عملياً وأحياناً يجمع بين الأمرين، بمعنى أن عدم التسليم أحياناً يكون في القلب، فيفرط الإنسان فيما جاء عن الله؛ لأنه لم يسلم بذلك اعتقاداً، فيفرط الإنسان ببعض السنة لعدم تسليمه بذلك، كما نجد من الناس من يشكك في بعض السنن الثابتة، فهذا يختل تسليمه ولو كانت سنناً يسيرة، كالسواك مثلاً، حيث يأتي الإنسان يجادل في أن السواك لم يثبت في السنة، أو يتعلل بأي تعليلات فينفي سنة السواك، فمن فعل هذا فقد اختل تسليمه للرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يصدق. فاختلال التسليم قد يكون في القلب بعدم التصديق، وقد يكون في العمل، وقد يشمل الأمرين وكذلك من آمن بسنة ولم يعمل بها وهو قادر عليها اختل تسليمه، مثل إنسان قال: أنا مقر للرسول صلى الله عليه وسلم ومصدق له بأن الصلاة مفروضة. ولكنَّه لا يصلي ولا يؤدي الصلاة، فهل يصح تسليمه؟! هذا تسليمه نظري ولا ينفعه تسليمه هذا، فهذا مفرط؛ لأنه أخل بالتسليم، إذاً: الإخلال بالتسليم يشمل أمرين: يشمل الإخلال بالتلقي والاستدلال، ويشمل الإخلال بالعمل والاعتقاد، ومعنى الإخلال بالتلقي والاستدلال أن يتلقى الإنسان دينه من غير مصادره الشرعية، من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه السلف، يتلقى الدين بمشربه هو، فقد يكون -مثلاً- متصوفاً فيفرط في الدين بأن يتلقى الدين عن المنامات أو عن أقوال الرجال، أو عما يسمى بالكشف أو الذوق، فهذا فرط في دين الله. وقد يكون من خلل التلقي التعويل على العقل وعلى الأهواء، وهذا -مع الأسف- كثر في هذا الزمن بشكل مزعج، حيث نجد أناساً قد يكون بعضهم محسوباً من أهل الخير ومحسوباً من الدعاة والمثقفين والمفكرين، فإذا بدأ يتكلم في أمور الدين وأصوله وقضاياه بدأ يتكلم بنزعته هو، ولا يعول على النصوص ولا على أقوال السلف، بل ربما يتنكب لأقوال السلف، فهذا يعتبر مفرطاً في دين الله؛ لأنه اختل منهج التلقي عنده، حيث تلقى دينه من مزاجه.

النجاة في قراءة القرآن والعمل بما فيه

النجاة في قراءة القرآن والعمل بما فيه قال رحمه الله تعالى: [قال ابن عباس رضي الله عنه: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة. ثم قرأ هذه الآية، وكما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستكون فتن. قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا يشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على مثل هذا المعنى. ولا يقبل الله من الأولين والآخرين ديناً يدينونه إلا أن يكون موافقاً لدينه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم السلام].

بيان ما نزه الله تعالى عنه نفسه مما يصفه به العباد

بيان ما نزه الله تعالى عنه نفسه مما يصفه به العباد قال رحمه الله تعالى: [وقد نزه الله تعالى نفسه عما يصفه به العباد إلا ما وصفه به المرسلون بقوله سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182]]. تجري على ألسنة الناس ألفاظ في أسماء الله وصفاته لم ترد في الكتاب والسنة، وقوله: [وقد نزه الله تعالى نفسه عما يصفه به العباد] يعني: من الأقوال التي لا تصح، أو التي هي عبارة عن مقولات إما متوهمة وإما فيها قدح في أسماء الله وصفاته تعالى الله عما يصفه به المبطلون ذوي الأوصاف الخبيثة، فهناك من العباد من وصف الله بأوصاف قبيحة، كالمشركين، فالمشركون وصفوا الله بأوصاف قبيحة، وكذلك اليهود وصفوا الله بالعيوب تعالى الله عما يزعمون، فقد وصفوه باللغوب، وهو التعب، ووصفوه بالعجز ووصفوه بالبخل، بل إنهم يجسمون الله تعالى الله عما يزعمون، فالله نزه نفسه عما يصفه به هؤلاء العباد، وهناك نوع آخر من الوصف قد لا يكون قدحاً مباشراً، لكنه كلام عن الله بغير علم، وهو أخطر على الأمة من الأول؛ لأن النوع الأول لا يقول به إلا مبطل، وتنفر منه الطباع السليمة، ولا يمكن أن يقبله أحد من المؤمنين، لكن النوع الثاني -وهو الكلام عن أسماء الله وصفاته بما لم يرد في الكتاب والسنة بدعوى التنزيه- هو الذي أشكل وأوقع الأمة في الحرج، فأوقع طوائف من الأمة في الخروج عن السنة والابتداع والقول بعلم الكلام الذي شغل المسلمين عن الهدى والحق، وستأتي أمثلة لهذا وسنتكلم عنه على التفصيل، ولعلي هنا أورد ما يتبين به المراد، فأقول: إن قوله: [عما يصفه به العباد] على نوعين: الأول: الأوصاف القبيحة التي وصفه بها المشركون واليهود والمشبهة ونحوهم، وهذه معلومة والنفور منها عند جميع الخلق معلوم، وهناك نوع آخر، وهو الكلام في الله سبحانه وتعالى وفي أسمائه وصفاته بأمور قد يقصد بها التنزيه لكنها متخيلة وليست على الحقيقة، ثم إنها مبتدعة، كقول المتكلمين عن الله تعالى: إنه ليس بجسم ولا عرض ولا جوهر ولا مباين ولا محايث ولا فوق ولا تحت ولا بحد ولا يتكلم إلى آخر ذلك من المعاني التي هي أشبه بوصف المعدوم كما سيأتي، فهذا سوء أدب مع الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يوصف بما وصف نفسه، والله وصف به نفسه وله تعالى من الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة ما يتضمن كل كمال. وهذا هو قول الأئمة، وليس من عندي، ولكن أكرره ليتبين خطأ المتكلمين الذين قالوا على الله بغير علم. أقول: إن أهل العلم أجمعوا على أن ما في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء الكمال له تعالى ومن أوصاف الكمال له تعالى يغني عن كل ما يمكن أن يتلفظ به بشر بأي لغة، ويغني عما يمكن أن يتصوره البشر بأي خيال، فكل كمال يمكن أن يتصوره أحد ويتكلم فيه أحد ففي القرآن والسنة ما يغني عنه، فأسماء الله العظمى -الله، الحي، القيوم، الرحمن، الرحيم، العلي، العظيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر سبحانه- أسماؤه هذه أعظم من أن يأتي البشر بأكبر منها، بل لله من الأسماء والصفات ما لا يطيقه البشر في الدنيا، حجبه الله بعلم الغيب عنده، ولذلك يدعو النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ربه بمحامد من أسماء لله وصفاته؛ لأنه أفضل الخلق، فيعرف لله في ذلك الوقت من المحامد ما يلهمه الله إياه ولم يكن يعرفه في دنياه، وهذا يدل على أن الله له من العظمة والكمال والجلال ما لا يمكن أن يخطر بخيال بشر، وأن أسماء الله وصفاته التي وردت في الكتاب والسنة تجمع كل كمال يمكن أن يتخيله البشر، فمن هنا كان ما يصفه به العباد من غير ما ورد في الكتاب والسنة رجماً بالغيب؛ لأن الله ليس كمثله شيء سبحانه. قال رحمه الله تعالى: [وقد نزه الله تعالى نفسه عما يصفه به العباد إلا ما وصفه به المرسلون بقوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182] فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون، ثم سلم على المرسلين، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب، ثم حمد نفسه على تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد]. إذا أردنا أن نعرف مدى خطأ المتكلمين الذين تكلموا بتلك الصفات بغير حق على نحو يدركه الإنسان بعقله وفطرته؛ فإنا سنقارن بين أقوالهم وما أخبر الله تعالى به عن نفسه، فالمتكلمون قالوا بأن الله ليس بجسم ولا بعرض ولا بجوهر، فلو أنهم اكتفوا بقوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 3] ألا يكون هذا أكمل من كلامهم وأوفى وأسلم وأعظم وأسمى وأجل؟! هذه مقارنة يسيرة، فلم

حفظ الله لدينه بعد انقضاء قرون الخيرية والاتباع

حفظ الله لدينه بعد انقضاء قرون الخيرية والاتباع قال رحمه الله تعالى: [ومضى على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم خير القرون، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، يوصي به الأول الآخر، ويقتدي فيه اللاحق بالسابق، وهم في ذلك كله بنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، كما قال تعالى في كتابه العزيز: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فإن كان قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] معطوفاً على الضمير في (أدعو)؛ فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة إلى الله، وإن كان معطوفاً على الضمير المنفصل؛ فهو صريح أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون غيرهم، وكلا المعنيين حق. وقد بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين، وأوضح الحجة للمستبصرين، وسلك سبيله خير القرون، ثم خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم وافترقوا، فأقام الله لهذه الأمة من يحفظ عليها أصول دينها، كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم)]. حفظ الدين -كما هو معلوم- يقوم على ركيزتين من خلال استقراء النصوص وأقوال السلف: الركيزة الأولى: ما تكفل الله به من حفظ مصادره بحفظ الذكر وهو القرآن والوحي، وهذا ضمان من الله، فلذلك سخر الله من أهل العلم من حفظ الحديث إلى أن استقر وبان الصحيح من غير الصحيح، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى ما كانت تتهيأ لأمة من الأمم في الزمان الماضي. إذاً: فالحفظ الأول هو حفظ الذكر نفسه، حفظ القرآن، ومعلوم أن الله تكفل بحفظه حتى إنه لم يستطع أحد أن ينال منه ولو بحرف من الحروف، وهذه معجزة. ثم بحفظ السنة بالأسلوب العلمي الدقيق الرائع العجيب الذي اهتدى إليه السلف في ضبط الحديث درايته وروايته. والركيزة الثانية من حفظ الدين: بقاء طائفة على الحق ظاهرين، وهذه الطائفة فسرت بتفسيرات، فمنهم من فسر هذه الطائفة بأهل الحديث وأهل العلم وأهل الفقه في الدين، وهذا يعني أن من كان على نهجهم فهو منهم، ولا يعني أنهم المقصودون فحسب، لكن لأنهم هم القدوة وهم الأسوة وهم المثل فسر بهم الحديث، ومن كان من عامة المسلمين على سمتهم ونهجهم فهو منهم. ومنهم من فسره بأعم من هذا المعنى فقال: هم أهل العلم وعامة من كان على السنة. والمعنى واحد ولا فرق، لكن أهل العلم نوهوا في تفسير حديث الطائفة المنصورة على ذكر أهل العلم؛ لأنهم هم الجماعة، وهم الذين تقتدي بهم الأمة، وهم الذين يحفظ الله بهم الدين علماً وعملاً، وغيرهم من عامة المسلمين إذا كانوا على هديهم فهم تبع لهم. إذاً: حفظ الدين يقوم على الركيزتين: على حفظ مصادره وعلى وجود من يقوم به، فلا بد من أن يبقى من أهل العلم من هو حجة على الخلق إلى أن يأذن الله برفع العلم فيتخذ الناس رؤساء جهالاً فيفتوا بغير علم فيضلوا ويضلوا، وهذا في آخر الزمان. قال رحمه الله تعالى: [وممن قام بهذا الحق من علماء المسلمين: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي -تغمده الله برحمته- بعد المائتين؛ فإن مولده سنة تسع وثلاثين ومائتين، ووفاته سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. فأخبر رحمه الله عما كان عليه السلف، ونقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحبيه أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الحميري الأنصاري، ومحمد بن الحسن الشيباني رضي الله عنهم ما كانوا يعتقدونه من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين].

شرح العقيدة الطحاوية [5]

شرح العقيدة الطحاوية [5] التأويل هو صرف اللفظ عن معناه إلى معنى آخر، وهذا الصرف لا يتأتى في أمر العقيدة؛ لأن العقيدة غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، ومن هنا فلا يتأتى لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعي القدرة على أن يعطي لألفاظ الغيب معاني أخرى لم يسبق إليها.

بيان خطأ التأويل في العقيدة

بيان خطأ التأويل في العقيدة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكلما بعد العهد ظهرت البدع وكثر التحريف الذي سماه أهله تأويلا ليقبل، وقل من يهتدي إلى الفرق بين التحريف والتأويل؛ إذ قد سمي صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأويلا، وإن لم يكن ثم قرينة توجب ذلك، ومن هنا حصل الفساد، فإذا سموه تأويلا قبل وراج على من لا يهتدي إلى الفرق بينهما]. بالنسبة للحديث عن التأويل ينبغي التنبيه على أمر من الأمور التي اختلطت على كثير من الناس خاصة في هذا العصر، وهي دعوى أن التأويل قد يدخل في العقيدة بأي وجه من الوجوه، وهذه دعوى باطلة بإطلاق جزماً؛ لأن العقيدة لا يمكن أن يرد فيها التأويل بأي معنىً من معاني التأويل عند من عرف التأويل من الأصوليين، والذين قالوا: التأويل هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لقرينة أو لدليل، تعريفهم هذا -مع سلامته عند الأصوليين- لا يمكن أن يسلم به في أمور العقيدة بإطلاق أبداً؛ لأن التأويل هو صرف اللفظ عن معنىً إلى معنى آخر، وعن لفظ إلى لفظ آخر، واللفظ المغاير يقتضي المعنى المغاير، وهذا الصرف لا يتأتى في أمر العقيدة؛ لأن العقيدة غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، فمن هنا لا يتأتى بأي حال من الأحوال أن يدعي بشر بعد النبي صلى الله عليه وسلم أنه باستطاعته أن يعطي معنى آخر لألفاظ الغيب، ومنها ألفاظ العقيدة، فألفاظ العقيدة استقرت على ما هي عليه، فعلى هذا يجب أن نقف على ألفاظها، ومعاني الألفاظ هي التي تفهم بما يمكن أن يفهمه البشر، وما لا يفهم يفوض علمه إلى الله سبحانه وتعالى، وهو الكيفيات، فمن هنا لا يتأتى التأويل في العقيدة أبداً، وما يرد من النصوص التي تشبه التأويل في العقيدة فإنما هو تفسير نص بنص، لا دخول للعقل فيه ولا لاجتهاد البشر، ولا يمكن لبشر أن يصرف لفظاً من ألفاظ العقيدة عن معنى راجح إلى معنى مرجوح؛ لأن الانتقال من معنى إلى معنى آخر يخرج المعنى الأول من اليقين إلى الشك، ثم يكون المعنيان كلاهما مشكوكاً فيهما ومظنوناً، وهذا لا يتأتى في العقيدة، بل ما كان كذلك لا يكون عقيدة، فلذلك اضطربت عقيدة المؤولة، كل من أول في العقيدة بأي نوع من أنواع التأويل فإن عقيدته مضطربة فيما أول فيه؛ لأنه خرج من المعنى الذي يريده الله إلى معنى آخر ليس عنده عليه برهان ولا دليل، والعقيدة غيب، ولو لم تكن غيباً ما صارت عقيدة، فأي أمر ينتقل من الغيب إلى عالم الشهادة لا يصبح من عالم الغيب ولا يكون عقيدة. إذاً: فالتأويل في العقيدة لا يرد، إنما يرد التأويل في الأحكام؛ لأن أدلة الأحكام فيها الناسخ والمنسوخ، فيجوز صرف اللفظ من معنى إلى معنى آخر بقرينة النسخ، وكذلك ألفاظ الأحكام فيها المطلق والمقيد وفيها العام والخاص، وفيها ما يسوغ الخروج من لفظ إلى لفظ آخر، سواءٌ أكان هذا المسوغ دليلاً آخر أم قرينة أخرى أم قاعدة شرعية كبرى أم ضرورة أم خصوصية أم نحو ذلك. أما العقيدة فلا يمكن أن يرد فيها تأويل، ولا نعرف أحداً من السلف وأئمة الدين قديماً وحديثاً ادعى أن في العقيدة تأويلاً، إذاً: فينبغي أن يفهم هذا؛ لأن هذه المسألة ستتكرر كثيراً في دروس العقيدة الطحاوية، وسيفرد لها باب إن شاء الله، وسيأتي لها مناسبة، لكن نذكر بها الآن ليفهم هذا.

المحرفون ودعواهم الإحسان والتوفيق

المحرفون ودعواهم الإحسان والتوفيق قال رحمه الله تعالى: [فاحتاج المؤمنون بعد ذلك إلى إيضاح الأدلة ودفع الشبه الواردة عليها، وكثر الكلام والشغب، وسبب ذلك إصغاؤهم إلى شبه المبطلين، وخوضهم في الكلام المذموم الذي عابه السلف، ونهوا عن النظر فيه والاشتغال به والإصغاء إليه؛ امتثالاً لأمر ربهم حيث قال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68] فإن معنى الآية يشملهم. وكل من التحريف والانحراف على مراتب: فقد يكون كفراً، وقد يكون فسقا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ. فالواجب اتباع المرسلين، واتباع ما أنزل الله عليهم، وقد ختمهم الله بمحمد صلى الله عليه وسلم، فجعله آخر الأنبياء، وجعل كتابه مهيمناً على ما بين يديه من كتب السماء، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين: الجن والإنس، باقية إلى يوم القيامة، وانقطعت به حجة العباد على الله، وقد بين الله به كل شيء، وأكمل له ولأمته الدين خبراً وأمرا، وجعل طاعته طاعة له، ومعصيته معصية له، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره، وأنهم إذا دعوا إلى الله والرسول -وهو الدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله- صدوا صدودا، وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحساناً وتوفيقا، وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نحس الأشياء بحقيقتها -أي: ندركها ونعرفها- ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات -وهي في الحقيقة جهليات- وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو: نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة]. هذه الدعوى -وهي دعوى الإحسان أو دعوى الإصلاح ودعوى كل طائفة وكل صاحب منهج أن منهجه هو الأسلم وهو الأصلح- توجد في كل الطوائف التي خرجت عن السنة والجماعة، سواء الطوائف التي خرجت خروجاً اعتقادياً وهي الفرق، والطوائف التي خرجت خروجاً عملياً، وهم أهل الفسق والفجور، فهؤلاء كل منهم يدعي أنه أراد الإصلاح وأراد التوفيق، وهذا من التضليل والإيهام والتلبيس على الناس؛ فإن شرع الله تعالى لا يمكن أن يلفق بغيره، ولا يمكن أن يوفق بينه وبين غيره؛ لأن التوفيق هنا تلفيق، والتوفيق إنما هو بين الأمرين المختلفين على الحق، أما التوفيق بين الحق والباطل فهذا لا يمكن، وكل دعوى توفيق بين الحق والباطل إنما هي تلفيق، وكل الأصناف التي ذكرها الشارح -كالمتكلمة والمتفلسفة- يدعون التوفيق، وعملهم ليس بصحيح، ودعواهم ليست حقيقية؛ لأن دين الله تعالى كامل وشرعه شامل لمصالح العباد في الدنيا والآخرة، ودين الله -أيضاً- لا بد من أن يتضمن قطعاً ما يحقق سعادة البشر في الدنيا والآخرة، فدعوى أن الناس قد يحتاجون إلى شيء من العقليات تقرر لهم عقائدهم أو تقرر لهم الأصول الكبرى والأحكام القطعية الشرعية؛ دعوى باطلة؛ لأن الله سبحانه وتعالى أكمل الدين، والله سبحانه وتعالى هو المشرع وهو العليم بمصالح عباده، فلا يمكن أن يدعي أحد من الناس أن في دين الله نقصاً، ودعوى التوفيق إنما تعني اتهام دين الله بالنقص وأنه بحاجة إلى أن يسد، وأن فيه نوعاً من الخلل، ولا يمكن أن يكون ذلك في دين الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: [وكما يقوله كثير من المبتدعة من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن، والتوفيق بين الشريعة وبين ما يدعونه من الباطل الذي يسمونه حقائق، وهي جهل وضلال، وكما يقوله كثير من المتملكة والمتأمرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة، والتوفيق بينها وبين الشريعة، ونحو ذلك]. وهذه -أيضاً- دعوى عريضة باطلة، دعوى التوفيق بين الشريعة وبين ما يسميه المتصوفة: الحقائق، وهي الجهل والضلال، والمتضادان لا يتفقان أبداً، وعلى سبيل المثال نجد أنهم في حقيقة عقائدهم يعتقدون الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، أو يعتقدون أن من مصادر دينهم الكشف والفيض والذوق وتقديس الأولياء وعلم الغيب ونحو ذلك، وفي الوقت نفسه يدعون من جانب آخر أنهم على العقيدة الصحيحة وعلى السنة، بل يحرصون على إظهار الشعائر الإسلامية، فشعائر الدين هم من أحرص الناس على إظهارها وإظهار الزهد والتنسك، وهذا مما يَفتِن بهم العامة؛ فلذلك نجد في تقرير غلاة المتصوفة والذين جمعوا بين التصوف والفلسفة للاعتقاد أمراً عجيباً، فمثلاً: نجد أحدهم - كـ ابن عربي على سبيل المثال- يقرر مذهب السلف حتى يظن القارئ أن هذا القائل أو المتكلم من أئمة الدين، ثم لا يلبث أن يعرج على عقيدة غلاة الفلاسفة وغلاة المتصوفة حيث يعتقد أنهم يعلمون الغيب ويعتقد أنهم فوق درجة الأنبياء، ويقرر أن للدين مصادر غير الكتاب والسنة مما عليه المتصوفة ونحو ذلك من الأمور الكفرية الخالصة. فهذا التلفيق يعتقدون أنه محاولة للتوفيق بين السنة الظاهرة والشريعة وعقيدة المسلمين التي يسمونها الظاهر، وبين الحقيقة في عقائدهم، وهي الزندقة والكفر، ويزعمون أن هذا المنهج هو المنهج ال

أصناف العادلين عن شرع الله

أصناف العادلين عن شرع الله قال رحمه الله تعالى: [وكل من طلب أن يُحكِّم في شيء من أمر الدين غير ما جاء به الرسول، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمع بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه؛ فله نصيب من ذلك، بل ما جاء به الرسول كاف كامل، يدخل فيه كل حق، وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه، فلم يعلم ما جاء به الرسول في كثير من الأمور الكلامية والاعتقادية، ولا في كثير من الأحوال العبادية، ولا في كثير من الإمارة السياسية، أو نسبوا إلى شريعة الرسول -بظنهم وتقليدهم- ما ليس منها، وأخرجوا عنها كثيرا مما هو منها، فبسبب جهل هؤلاء وضلالهم وتفريطهم، وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم كثر النفاق ودرس كثير من علم الرسالة]. ذكر الشارح أصناف الذين يعدلون عن شرع الله وعن العقيدة من المتصوفة ومن الفلاسفة وغيرهم من الفئات الأخرى التي تعرض عن دين الله، ففي هذا الكلام إشارة إلى أصناف الذين يعدلون عن دين الله. فذكر الجهل، وهذا فيه إشارة إلى أن هناك فئة من الناس تعدل عن دين الله جهلاً، وذكر في العبارة الثانية الضلال، فالفئة الثانية من الذين يعدلون عن دين الله هم الذين تعمدوا الضلالة من أصحاب الأهواء والبدع، فهؤلاء ضلوا؛ لأنهم لم يكونوا جهلة، بل الغالب أن ضلالهم عن علم وعن عمل. والصنف الثالث هم الذين فرطوا، وهم الذين يتساهلون في دين الله، يعلمون أن دين الله حق، ويعترفون بذلك ويصدقون، ويعرفون أيضاً أحكام الشرع، لكنهم يفرطون من باب التساهل أو التقصير أو غلبة الشهوات أو غلبة الهوى، وهؤلاء كثر. والصنف الرابع: الذين يعرضون عن دين الله عدواناً، وهم أشبه بالصنف الثاني، لكن هؤلاء -في الغالب- يقعون في المخالفة لدين الله بنوع من التحدي للشرع وأهله. والصنف الخامس هم أهل النفاق، ذكرهم في قوله: [وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم] فأهل النفاق الذين يظهرون الإسلام ويدعون أنهم من أهله ومن أنصاره ويبطنون الكيد؛ هم أخطر الفئات كلها، وربما يوجدون في جميع الفئات الأخرى.

الخلل في التسليم وأثره على دين الله تعالى

الخلل في التسليم وأثره على دين الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [فبسبب جهل هؤلاء وضلالهم وتفريطهم، وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم كثر النفاق ودرس كثير من علم الرسالة، بل البحث التام والنظر القوي والاجتهاد الكامل فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ليعلم ويعتقد، ويعمل به ظاهراً وباطنا، فيكون قد تلي حق تلاوته، وأن لا يهمل منه شيء، وإن كان العبد عاجزاً عن معرفة بعض ذلك أو العمل به؛ فلا ينهى عما عجز عنه مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، بل حسبه أن يسقط عنه اللوم لعجزه، لكن عليه أن يفرح بقيام غيره به ويرضى بذلك، ويود أن يكون قائماً به، وأن لا يؤمن ببعضه ويترك بعضه، بل يؤمن بالكتاب كله وأن يصان عن أن يدخل فيه ما ليس منه من رواية أو رأي، أو يتبع ما ليس من عند الله اعتقادا أو عملا، كما قال تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]]. كأنه يشير إلى الذين يقعون في الإعراض عن دين الله بسبب الجهل أو التقصير، فهؤلاء جاء إعراضهم عن دين الله بسبب العجز عن المعرفة، والعجز عن القراءة، وقلة الفقه، وهذه إشارة إلى أن الذين يعرضون عن دين الله أو يلفقون في دين الله منهم من لا يتعمد الإعراض عن دين الله، لكنه أتي من قبل تقصيره في فهم الدين وفي إدراك مراد الله، أو عجزه عن العمل بالشرع لأي سبب من الأسباب، فالمسلم قد يعجز أو يضعف أو يجبن أحياناً لأي سبب من الأسباب عن العمل بشرع الله، ولا يسعى إلى أن يقوى الدين وأن يعتز بالإسلام، فهذا يعتبر من المقصرين أو العاجزين، وإلا فالأصل في المسلم إذا أسلم لله سبحانه وتعالى أن يسلم لدينه وشرعه، وألا يتعلل بالعجز وأن لا يتعلل بعلل أخرى؛ لأنه قد لا يدرك علل التشريع، بل الغالب أن البشر لا يدركون جميع العلل في التشريع؛ فلذلك قام الدين على التسليم لله تعالى والتسليم لرسوله صلى الله عليه وسلم ابتداءً. ثم بعد ذلك العمل، لا بد من أن ينتج عن التسليم العمل بشرع الله تعالى، فمن اختل عمله لا بد من أن ينقص تسليمه، ومن اختل تسليمه لا بد من أن يختل عمله، والأمران مترابطان، فلا فرق بين العقيدة والشريعة، العقيدة التي هي التسليم والشريعة التي هي العمل، ومن فرق بينهما تفريقاً اعتقادياً ربما يخرج من الملة. إذاً: سبب هذا العجز هو الخلل في التسليم ابتداءً، فليسلم لله تعالى وليثق بدين الله وبنصر الله، ومن كان هذا حاله لا يمكن أن يقع في الإخلال بدين الله تعالى بدعوى العجز؛ لأن من اتكل على الله فإن الله يسدده ويرشده ويهديه. فالتسليم لله تعالى هو المقصود، التسليم لله تعالى بالعبادة والطاعة والامتثال لأوامر الله واجتناب نواهيه، والتسليم للرسول صلى الله عليه وسلم بحبه وتصديقه واتباع هديه، هذا هو التسليم؛ لأن من مقتضى التسليم التصديق، ومن مقتضى التصديق الاتباع؛ لأن من سلم لله تعالى وسلم لرسوله صلى الله عليه وسلم سلم بالكتاب والسنة، ومن سلم بالكتاب والسنة علم أن الكتاب والسنة يتضمنان الأمر والنهي، فإذا ادعى إنسان أنه مسلم ولم يتبع الأمر اختل تسليمه، ومن ادعى أنه يسلم لله تعالى ولم ينته عما نهى الله عنه اختل تسليمه، ومن ادعى أنه مصدق لله تعالى ولرسوله وبكمال الدين ثم ابتدع انتقض تسليمه؛ إذ كيف تقول بأنك سلمت لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم ثم تأتي بدين لم ينزله الله، فمن مقتضى التسليم ترك الابتداع.

التحريف وأنواعه

التحريف وأنواعه كذلك التحريف في الاعتقاد والتحريف القولي والتحريف العملي، لكن تحريف الاعتقاد هو المقصود بالدرجة الأولى، ومنه ما هو كفر، مثل تحريف أصول الدين عن معانيها إلى معانٍ أخرى، كتحريف أسماء الله وصفاته بالتحريف الذي يؤدي إلى إنكارها إنكاراً تاماً، أو صرف معاني كلام الله تعالى إلى معان كفرية، وهذا يسمى تحريفاً كفرياً، كتفسير (الرحمن الرحيم)، بأنه المبدأ الأول والمبدأ الثاني، أو الإله الأول والإله الثاني كما يقول الزنادقة تبعاً للمجوس، أو تفسير (رب العالمين) بأنه علي بن أبي طالب كقول غلاة الرافضة، والدروز والعبيدية وغيرهم، هؤلاء يقولون: رب العالمين علي بن أبي طالب. وهذا تحريف مكفر، ومنه -أيضاً- إنكار صفات الله تعالى، فهذا تحريف مخرج عن الملة. ومن التحريف ما هو كفر لا يصل إلى الخروج عن الملة، وهذا راجع إلى عقيدة المحرف، فإذا وقع في أمر مكفر لم يقصده ولم يقصد مناقضة كتاب الله تعالى؛ فقد يكون كفره غير مخرج من الملة. ومنه ما هو فسق، كتحريف الأحكام، أي: تحريف أدلة الأحكام عن معانيها الحقيقية إلى معان أخرى. ومنه ما هو خطأ، وهو التحريف الذي يقع فيه المسلم دون قصد، كما وقع فيه بعض أئمة العلم، كتأويل بعض صفات الله، فهو لم يقصد أصل التأويل، إنما وقع فيه عن اجتهاد، فهذا يعتبر خطأً لا يقر عليه، لكنه لا يفسق به ولا يكفر.

موقف السلف والتابعين لهم وأئمة الدين من أهل الكلام

موقف السلف والتابعين لهم وأئمة الدين من أهل الكلام قال رحمه الله تعالى: [وهذه كانت طريقة السابقين الأولين، وهي طريقة التابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة، وأولهم السلف القديم من التابعين الأولين، ثم من بعدهم، ومن هؤلاء أئمة الدين المشهود لهم عند الأمة الوسط بالإمامة. فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال لـ بشر المريسي: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم، وإذا صار الرجل رأساً في الكلام قيل: زنديق، أو رمي بالزندقة. أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته، فإن ذلك علم نافع، أو أراد به الإعراض عنه وترك الالتفات إلى اعتباره؛ فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله، فيكون علماً بهذا الاعتبار، والله أعلم. وعنه أيضا أنه قال: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب]. يقصد بمن طلب المال بالكيمياء طائفة من الذين كانوا يحترفون الكيمياء قديماً، فالكيمياء علم من العلوم، لكن هناك طائفة من الدجالين ومن المحترفين قديماً كانوا يتعلمون الكيمياء من أجل أن يراهنوا به العامة، فيأتون للعامي الذي لا يدرك أسرار هذا العلم فيقولون له: نحن نستطيع أن نقلب هذا العنصر من نوع إلى نوع أو من لون إلى لون، فيراهن على ذلك ظناً منه أن هذا مستحيل، فيحولون له السائل إلى جامد والجامد إلى سائل، ويحولون له لون كذا إلى لون كذا وهو يرى ولا يدرك سر التحول من هذا العنصر إلى هذا العنصر، فيغلب ويدفع المال بغير حق، فكانوا -أي: أصحاب الكيمياء أو طائفة منهم- في ذلك الوقت يستعملونها فيما يشبه القمار، يقامرون بها مقامرة ويراهنون بها ويأكلون أموال الناس بالباطل، فكان هذا من الكسب الحرام، وصاحبه في الغالب أنه يفلج في النهاية. وكذلك طلب غريب الحديث، فبعض الناس لا ينظر من الحديث إلا إلى الغرائب والشواذ، أو إلى الحديث الضعيف أو الموضوع، ويقول: أريد أن أخدم الحديث من هذا الجانب، وهذا مسلك خطير؛ لأن من تعلق بالغريب أو تعلق بالموضوع والضعيف أو تعلق بأمور تضر قلبه فإنه في الغالب لا بد من أن يتأثر بهذا المسلك. وربما كان في عهد أبي يوسف طائفة من الوضاعين يهتمون بهذه الأمور يلبسون على الناس ويخلطون الأحاديث الصحيحة بالضعيفة وغيرها. قال رحمه الله تعالى: [وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام]. المصيبة أنه في الآونة الأخيرة -بل بعد القرن الثالث الهجري وبعد كلام أبي يوسف والشافعي هذا بمدة- انقلب الحال، فصارت أغلب الفرق التي تدعي السنة تبدأ في تعلم العقيدة بعلم الكلام، فأول ما يبدءون به في تعليم الناشئة والمتعلمين من العقيدة هو علم الكلام، فيقرءون أمثال كتاب الجوهرة، ومقدمات علم الكلام قبل أن يفهموا من العقيدة شيئاً، فمن هنا ظهرت أجيال من المسلمين كثيرة لا تعرف من العقيدة إلا ما كان على نهج أهل الكلام، حتى ظنوا أن هذا هو السنة، والتبس الأمر على كثير من المسلمين إلى يومنا هذا، كما سيأتي تفصيله -إن شاء الله تعالى- في درس قادم. قال رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً رحمه الله تعالى: كل العلوم سوى القرآن مشغلة إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين]. قد يفهم بعض الناس من مثل هذه الأبيات أن الشافعي وغيره من أئمة الدين لا يرون تعلم العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وغيرها التي تنفع المسلمين، وهذا فهم خاطئ؛ فإن كلام الشافعي هذا وكلام غيره من أهل العلم الذين قصروا العلم على (قال الله وقال رسوله) يقصدون به العلم الشرعي إذا تلقي وأخذ من غير الكتاب والسنة، فإن هذا مهلكة؛ نظراً لأن السلف كانوا يطلقون العلم على العلم الشرعي، فإذا وردت كلمة العلم في الكتاب والسنة وعلى ألسنة السلف فإنما يعنون بها العلم الشرعي، فكأن الشافعي وغيره يقولون: من طلب العلم الشرعي من غير الكتاب والسنة -كأن أخذه عن مجرد العقول أو عن الفلسفة أو عن علم الكلام أو عن آراء الرجال أو عن أهواء الأشخاص أو عن مصادر التلقي عند الآخرين، كتلقيه عمن يسمون بالأئمة المعصومين عند الشيعة، أو الأولياء عند المتصوفة، أو تلقيه عما يسمى بمصادر الكشف والذوق والأحلام وغيره- من طلبه من غيرهما فطلبه ليس بعلم، إنما هو مهلكة. إذاً: الكلام لا يندرج تحته ما يتعلق بالعلوم الإنسانية التي تنفع المسلمين أو العلوم التطبيقية؛ لأن تلك ليست علوماً إلا إذا قيدت، فلا يقال في الطب -مثلاً-: علم دون تقييد، بل يقال: علم الطب، علم الفلك، علم الكيمياء، علم الفيزياء، فيقيد. أما العلم المطلق الذي ورد ذكره في القرآن والسنة بالثناء على أهله والأمر بتحصيله، والأجر على تحصيله؛ فهو العلم الشرعي. أما غيره من العلوم فإن الإنسان يؤجر فيه بقدر نيته، كما يؤجر طالب التجارة، وكما يؤج

نصوص الحنفية في إخراج الكلام وأهله عن دائرة العلم

نصوص الحنفية في إخراج الكلام وأهله عن دائرة العلم قال رحمه الله تعالى: [وذكر الأصحاب في الفتاوى: أنه لو أوصى لعلماء بلده لا يدخل المتكلمون]. الأصحاب هنا هم الأحناف، فـ ابن أبي العز حنفي، وكذلك الطحاوي -رحمه الله- حنفي، فهنا يقصد الأحناف. قال رحمه الله تعالى: [وذكر الأصحاب في الفتاوى: أنه لو أوصى لعلماء بلده لا يدخل المتكلمون، ولو أوصى إنسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم، فأفتى السلف أن يباع ما فيها من كتب الكلام. ذكر ذلك بمعناه في الفتاوى الظهيرية]. كلام الشيخ واضح، وهو يعني أن أئمة السلف -وقد أشار إلى طائفة منهم، وهم علماء الأحناف في وقته- وقبل وقته كانوا لا يعدون علم الكلام من العلوم، بل يعدونه خارجاً عن معنى العلوم، ولذلك قالوا: إنه لو أوصى إنسان بأنه إذا مات فإن كتبه العلمية توقف على كذا؛ فإن ما يدخل من هذه الكتب في علم الكلام لا يعد من ضمن العلم الذي أوصى به، ولا من كتب العلم، ويخرج من مفهوم كتب العلم.

هدي السلف في تقرير الاعتقاد ومخالفة المتأخرين لهم

هدي السلف في تقرير الاعتقاد ومخالفة المتأخرين لهم قال رحمه الله تعالى: [فكيف يرام الوصول إلى علم الأصول بغير اتباع ما جاء به الرسول؟! ولقد أحسن القائل: أيها المغتدي ليطلب علما كل علم عبد لعلم الرسول تطلب الفرع كي تصحح أصلاً كيف أغفلت علم أصل الأصول ونبينا صلى الله عليه وسلم أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والآخرية على أتم الوجوه، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيراً قليل البركة، بخلاف كلام المتقدمين، فإنه قليل كثير البركة]. لعلنا نورد مثالاً على كلام المتقدمين وكلام المتأخرين، أقصد بالمتأخرين أولئك الذين سلكوا مسلك علم الكلام في تقرير العقيدة، الذين انتهجوا علم الكلام في تقرير العقيدة، فنجد أن الفرق بينهم وبين السلف في تقرير العقيدة واضح جداً، فنأخذ صفة من صفات الله وهي صفة الاستواء، فالسلف يقولون: (الرحمن على العرش استوى) ولا يزيدون، كلمة هي لفظ كلام الله تعالى لا يزيدون فيها ولا ينقصون، وكذلك أتباعهم إلى يومنا هذا، لكن المتكلمين الذين أولوا الاستواء خاضوا في تأويله بألفاظ لم ترد في الكتاب والسنة وتزيد المتكلم شكاً وريبة، بل تلبس على المعتقد وتجعله لا يستقر على عقيدة، فنجد في كتبهم في تقرير الاستواء أنهم يقولون: الاستواء بمعنى الاستيلاء، ثم يقولون: إن الاستواء يكون بغير مماسة ولا اعتماد، وبغير مكان وبغير زمان، ولا هو مباين ولا محايث، هذه كله في تقرير الاستواء، كلام لا طائل تحته إلا مرض القلب وإدخال الشبهات على الناس، وكل ذلك لم يرد في كلام الله تعالى ولا في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ولا على ألسنة السلف، فالسلف يقررون -كما قال الرازي في آخر حياته- أن الرحمن على العرش استوى فقط، بدون خوض؛ ولا يمكن أن يدرك أكثر من معاني الألفاظ الظاهرة، فالله ليس كمثله شيء، لكن نجد في تقرير الاستواء عند بعض المتكلمين أنه قد يكتب عشرين أو ثلاثين صفحة في تقرير معنى الاستواء، فتأتي في ذهنه هذه الشبهات، ويكون عنده الاعتقاد هو النفي وليس الإثبات، فكأنه يصف معدوماً ويزعم أنه ربه تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. قال رحمه الله تعالى: [لا كما يقوله ضلال المتكلمين وجهلتهم: إن طريقة القوم أسلم وإن طريقتنا أحكم وأعلم. وكما يقوله من لم يقدرهم قدرهم من المنتسبين إلى الفقه: إنهم لم يتفرغوا لاستنباطه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالاً منهم بغيره، والمتأخرون تفرغوا لذلك، فهم أفقه! فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف وعمق علومهم وقلة تكلفهم وكمال بصائرهم، وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والاشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها وضبط قواعدها وشد معاقدها وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء، فالمتأخرون في شأن والقوم في شأن آخر، وقد جعل الله لكل شيء قدرا]. ذكر الشارح أن ضُلاَّل المتكلمين يقولون بأن طريقة الصحابة والتابعين وأئمة السلف في القرون الثلاثة الفاضلة أسلم في الاعتقاد، لكن طريقة المتكلمين -زعموا- أعلم وأحكم، وهذه دعوى فيها تلبيس وفيها إيهام، فهم يقولون بأن السلف في صفات الله عندهم شيء من طيبة القلوب وسلامة الصدور وعدم القدرة على التعمق في العلوم، فقالوا: غاية ما يقال عن السلف أنهم سليمو القلوب، قلوبهم سليمة، لذلك ما استطاعوا أن يخوضوا في معاني صفات الله وأن يقولوا بذاك الكلام الذي قال به المتكلمون، وهذه شبهة من شبهات ودسائس الشيطان؛ لأن الصحيح الذي نعتقده جزماً أن دين السلف وطريقتهم أسلم وأعلم وأحكم، وأن دعوى المتكلمين بأن طريقتهم أعلم وأحكم دعوى باطلة؛ لأن هذا يعني أنه بقي علم لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه بقيت حكمة لم يظهرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا باطل في أمر الاعتقاد. قد يقال هذا في بعض مسائل الاجتهاد؛ لأن الاجتهاد متجدد، وقد يدرك الآخر ما لا يدركه الأول إذا آتاه الله علماً وقدرة، فهذا في أمور الاجتهاد قد يرد في بعض المسائل، أما في الجملة فلا شك في أن اجتهاد السلف من الصحابة والتابعين أعلم وأسلم وأحكم من جملة اجتهاد المتأخرين، لكن قد يرد في مفردات المسائل أنه يأتي المتأخر فيعي ما لا يعيه المتقدم في بعض الجزئيات، وهذا في الأمور الاجتهادية. أما في الأمور العقيدية فلا يمكن، ولا يتأتى أن تكون طريقة المتأخرين أعلم وأحكم؛ لأن الأسلم لا بد من أن يكون أعلم، والأسلم لا بد من أن يكون أحكم، لاسيما في الاعتقاد، وإذا فصلنا بين السلامة والعلم والحكمة فهذا يعني أنا جعلنا للدين ظاهراً وباطناً، فالظاهر هو ما عليه الصحابة والتابعون وسلف الأمة، والباطن هو ما أدركه المتأخرون، وهذا هو بعينه الباطل والضلال، نسأل الله العافية.

منهج السلف ومنهج المخالفين في التأليف

منهج السلف ومنهج المخالفين في التأليف قال رحمه الله تعالى: [وقد شرح هذه العقيدة غير واحد من العلماء، ولكن رأيت بعض الشارحين قد أصغى إلى أهل الكلام المذموم واستمد منهم وتكلم بعباراتهم]. الذين شرحوا الطحاوية أغلبهم من المتكلمين، ومن جملة أسباب ذلك أن أغلب شراح الطحاوية من الأحناف المتأخرين، وأغلب الأحناف المتأخرين من أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، مع أن متقدمي الأحناف ابتداءً من أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن والطحاوي كانوا من سلف الأمة وعلى هدي السلف. وزخم كتب المتكلمين وكثرتها ليس فيما يتعلق بشرح الطحاوية فقط، بل في سائر العلوم، حتى التبس ذلك على كثير من المسلمين وجعلهم يختلط عليهم الأمر، فقد ابتليت الأمة بأن تعرض كثير من المتكلمين لشروح الكتب والتأليف والتصنيف، بل كانوا أحرص من غيرهم من أئمة الدين على التأليف والتصنيف؛ لأن من منهج السلف أنهم لا يكتبون إلا ما يدينون بأنه حق وأن فيه فائدة. أما المتكلمون فإنهم يكتبون ما هب ودب، وقد يتكلم أحدهم عن الجزئية المتوهمة الخيالية في مجلدات على أنها حقيقة وأنها عقيدة، ككلامهم عن الأمور التي لم ترد في الكتاب والسنة، مثل كلامهم عن الجوهر والعرض والمباينة والمفاصلة والجسمانية والحركة والأعضاء والأدوات والجهات وغير ذلك من المعاني البدعية التي لم ترد في الكتاب والسنة، فنجد أنهم يكتبون في هذا مجلدات، وهذا جعل كتبهم أكثر من كتب السلف عدداً وزخماً، وابتلي بها المسلمون حتى ظن طائفة من الناشئين ومن شباب المسلمين أن هؤلاء هم على الحق وحدهم، وأنه لا يمكن أن يكون الحق مغموراً ومصنفات أهل السنة مغمورة، والعكس صحيح؛ فإن مؤلفات أهل السنة والجماعة قد تكون أقل نظراً لأنهم لا يكتبون إلا الحق، وأهل البدع كتبهم كثيرة، فلذلك كان أهل البدع أكثر تصنيفاً من أهل السنة وأقدم تصنيفاً، فلو نظرنا إلى أول من ألف في القرن الأول الهجري والثاني وأكثر من التأليف لوجدنا أنهم المعتزلة والجهمية والقدرية، وأما أهل السنة والجماعة فيقررون العقيدة بإيجاز ويقررون الدين بإيجاز ويقررون ما تحتاجه الأمة، ولا يكتبون الفلسفات، ولنعمل مقارنة واحدة بين كتب أهل البدع وكتب أهل السنة والجماعة، فأهل السنة والجماعة مع أنهم عنوا بجميع السنة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح منها وغير الصحيح؛ نجد أن كتب الصحاح عندهم تعد مجلدات محدودة، في حين أنه عند الرافضة كتاب واحد من الكتب اللي يعتبرونها مصدراً من مصادر الدين -وهو بحار الأنوار- في مائة وعشرة مجلدات؛ لأنه كذب، والكذب سهل. أما السلف فكانوا من المقلين، ولا يؤلفون إلا عند الحاجة، وإذا ألفوا كتبوا بالحق، والحق قليل؛ لأنه لو كثر الحق على الناس ما استوعبوه، فالله سبحانه وتعالى أنزل للبشر في نصوص الكتاب والسنة ما يكفي لمداركهم وما يصلح أحوالهم، وما زاد على ذلك من الفلسفات والخيالات والكذب والفجور فلا حاجة للناس إليه. فمن هنا نعود ونقول: إن كثرة مصنفات أهل الكلام وأهل البدع ليست ظاهرة صحية، بل هي ظاهرة مرضية، وكثرتها الآن والاهتمام بطباعتها دليل على نشاط أصحاب البدع، وأنهم يكادون أن يكونوا أنشط من أهل السنة -مع الأسف- في إخراج تراثهم. قال رحمه الله تعالى: [والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً على معان صحيحة، كالاصطلاح على ألفاظ لعلوم صحيحة، ولا كرهوا -أيضاً- الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك مخالفتها للكتاب والسنة، ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين فضلا عن علمائهم. ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل كثر المراء والجدال، وانتشر القيل والقال، وتولد لهم عنها من الأقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه). وقد أحببت أن أشرحها سالكاً طريق السلف في عباراتهم وأنسج على منوالهم متطفلاً عليهم لعلي أن أنظم في سلكهم وأدخل في عدادهم وأحشر في زمرتهم {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]، ولما رأيت النفوس مائلة إلى الاختصار آثرته على التطويل والإسهاب {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] وهو حسبنا ونعم الوكيل].

شرح العقيدة الطحاوية [6]

شرح العقيدة الطحاوية [6] أجمع أئمة الدين قديماً وحديثاً على أن أول ما يعنى به المسلمون جماعات وأفراداً هو توحيد الله جل وعلا، وهذا ما قطعت به أدلة الكتاب والسنة، وما أرسلت به الرسل؛ لأن العباد إذا صحت عقائدهم وتخلصوا من البدع والشركيات صلحت أحوالهم الأخلاقية والاقتصادية والسياسية وسائر شئونهم.

بيان أول ما يجب على المسلم اعتقاده والدعوة إليه

بيان أول ما يجب على المسلم اعتقاده والدعوة إليه قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله: إن الله واحد لا شريك له). ش: اعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] وقال هود عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [هود:50]، وقال شعيب عليه السلام لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]. وقال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله)]. هنا يقرر ابن أبي العز تبعاً للطحاوي رحمه الله ولسائر السلف أصلاً عظيماً أجمع عليه أئمة الدين المقتدى بهم قديماً وحديثاً من أئمة أهل السنة والجماعة، وهو أن أول الأمور التي يجب أن يعتقدها كل مسلم والتي ينبغي أن يعنى بها المسلمون جميعاً جماعات وأفراداً قضية توحيد الله، وهذا الأصل -كما أشار الشارح- لم يستنبط باجتهاد، بل هو قطعي من خلال استقراء نصوص الكتاب والسنة؛ فإنا نجد أن الله تعالى ذكر أن جميع الأنبياء أول ما يبدءون بدعوة أقوامهم إلى توحيد الله تعالى ونبذ الشرك، وليس بالمقصود بالتوحيد -كما يزعم المتكلمون، وكما يزعم بعض المُحدَثِين الذين لا فقه لهم في الدين- معرفة الله وإثبات وجوده؛ لأن هذا أمر فطري بدهي -كما سيأتي- لا يحتاج إلى تقرير عند عامة البشر، وإن وجد من البشر شذاذ يعمون عن الحقيقة، فلا ينبغي أن تخضع لهم أصول العلم وأصول الاعتقاد، بل من أصول الاعتقاد وأصول الدعوة الضرورية الأساسية القطعية المعلومة بالضرورة أن أول ما ينبغي أن يدعى إليه -كما هو منهج الرسل- هو توحيد الله تعالى بالعبادة، وليس هو توحيد المعرفة؛ لأنه لا يعرف على الإطلاق في تاريخ البشر أن أمة من الأمم التي بعث فيها أنبياء أنكرت وجود الله أو أنكرت توحيد الربوبية، لا يعرف هذا، وما حدث من فرعون فإنه من باب الجحود لا من باب الإنكار، والجحود لا يعد إنكاراً، ثم إن جحود فرعون لا يعني أن جميع الأمم في وقته -حتى الكفار المشركين- كانوا ينكرون وجود الله أو ينكرون توحيد الربوبية. فلا يصح القول بأن التوحيد إنما المقصود به إثبات وجود الله فقط أو توحيد الربوبية فقط، بل التوحيد إذا ورد في الكتاب والسنة هو توحيد الإلهية. فأول ما يدعو إليه الداعية تبعاً للمرسلين هو توحيد الله تعالى، وهذه المسألة حتمية قطعية، ولم يحدث الجهل بها إلا بعدما قل الفقه في الدين.

خطر التساهل في الدعوة إلى التوحيد

خطر التساهل في الدعوة إلى التوحيد ولعلي بهذه المناسبة أشير إلى بعض الأخطاء التي وقع فيها كثير من الجماعات الإسلامية المعاصرة، ومن أخطر هذه الأخطاء التساهل في الدعوة إلى التوحيد، والتساهل في النهي عن الشرك والبدع، حتى صار هذا التساهل أصلاً من أصول بعض الدعوات، وهذا خطر عظيم، بل هو بوادر انحراف، وسببه قلة الفقه في الدين عند هؤلاء الدعاة، وسببه -أيضاً- اللبس عندهم فيما ينبغي أن يبدأ به وما هو أجل شأناً في الدعوة إلى الله وما هو دون ذلك. وكثير من الدعوات المعاصرة تأخذ الواجبات في الدعوة بالعكس، فأخذت ما هو أدنى درجة مما ينبغي أن تعنى به الدعوات وجعلته هو الأول، وجعلت الهدف الأول هو الهدف الأدنى، حتى قالوا: لا ندعو إلى التوحيد وإلى نبذ الشرك، حتى نؤلف قلوب الناس ونجمعهم على الشعارات السياسية وعلى أمور أخرى. وهذا خطأ وخطر عظيم، بل هو انحراف في مفهوم الدعوة وفي غاياتها وفي مناهجها، فينبغي أن يسدى لمثل هؤلاء النصح؛ فإن أي دعوة لا ترتكز على الدعوة إلى التوحيد فإنها إما فاشلة أو ضالة، وأي دعوة لا يكون أهم أهدافها وأول أهدافها الدعوة إلى التوحيد فإن مصيرها إلى الفشل أو الضلال، ودعوى أن المسلمين ليس فيهم شرك وانحرافات وبدع دعوى ساذجة أو مغرضة، فإما أنها دعوى تدل على عدم الفقه في الدين وعدم التمييز بين الشرك والتوحيد وعدم التمييز بين البدعة والسنة وهو الغالب، وإما أنها مغرضة، وهذا قليل، فدعوى أن المسلمين ليسوا بحاجة إلى أن تصحح عقائدهم ولا أن ينهوا عن البدع التي هم فيها، وأن هذا يؤجل إلى حين فيها خطورة عظيمة، بل هي انحراف في مسالك الدعوة، وقد يقول قائل: إن دعوة الناس إلى التوحيد وترك الأمور الأخرى تعني أن الداعي سيهمل أمور المسلمين والمشكلات الكبرى التي يعانون منها، وأقول: العكس هو الصحيح؛ فإنه ينبغي للمسلم أن يدعو وأن يهتم بكل أمور المسلمين، لكن أول ما يهتم به ويدعو إليه هو ما يتعلق بتوحيد الله تعالى ونبذ الشرك ونبذ المبتدعات، وبعد ذلك يهتم بالأمور الأخرى، ويهتم بالأصول حتى بترتيبها، يهتم بأصول الإيمان وأركان الإسلام، وإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر شعائر الإسلام الظاهرة، كما يهتم في نفس الوقت بأصول الأخلاق، ويهتم بقضايا المسلمين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية والإعلامية، وهذا كله حق، لكن لن تصلح أحوال المسلمين ولن تستطيع الدعوات المعاصرة أن تصحح أمور المسلمين على نهج قويم إلا إذا جعلت أول أهدافها عملياً ونظرياً الدعوة إلى توحيد الله ونبذ الشرك والبدع، وما لم تفعل ذلك فإنها محكوم عليها إما بالفشل وإما بالانحراف، وأنا أظن أن من أعظم أسباب فشل كثير من الدعوات التي قامت منذ عشرات السنين وتخبطها في تيه التجارب الفاشلة أنها تساهلت في التوحيد وجعلته بدرجة أدنى، وإن ادعت نظرياً أنها تدعو إلى التوحيد، لكنها عملياً لا تتساهل فيه فقط، بل إنها تلمز الدعاة إلى التوحيد، تلمزهم وتجعل من أخطائهم ومما تنتقدهم به أنهم يدعون إلى توحيد الله وينبذون القبوريات والشركيات. وبناءً على هذا نعرف أن القاعدة القطعية عند سلف الأمة وعند أئمة الهدى إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة أن أول ما ينبغي أن تعنى به كل دعوة شاملة في المسلمين هو توحيد الله تعالى ونبذ الشرك والبدع، ثم بعد ذلك تهتم بالأولويات بحسب درجتها في الشرف، ولتساهل بعض هذه الدعوات في التوحيد نجدها تتساهل حتى في أركان الإسلام وحتى في أصول الإسلام الأخرى كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسبب هذا التساهل هو الإخلال بالأصل الأول. ثم إنا نعلم قطعاً أنه إذا صحت عقائد المسلمين بتوحيد الله تعالى، وإذا تخلصوا من البدع والشركيات صلحت أحوالهم الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإعلامية، وهذا لا شك فيه ولا ريب، فإذا صلحت أحوال المسلمين وصلحت قلوبهم وعباداتهم واستقامت على التوحيد الخالص ونبذ الشركيات والبدع والقبورية وغيرها، فإنه لا بد بالضرورة أن تصلح أحوالهم الأخرى، والله يهيئ لهم من أمرهم رشدا، وهذا أمر قطعي يجب أن يعلمه كل طالب علم وأن يفقه غيره فيه.

بيان مذهب السلف في أول واجب على المكلف وزلل أهل الكلام في ذلك

بيان مذهب السلف في أول واجب على المكلف وزلل أهل الكلام في ذلك قال رحمه الله تعالى: [ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهادة أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم]. في هذه الكلمات يشير الشارح إلى مذاهب الناس في أول واجب على المكلف، مع أن هذه المسألة محسومة شرعاً عند أهل السنة والجماعة، لكن مع ذلك تنازعت فيها الفرق، ولا شك في أن أول واجب على المكلف هو أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هذا أمر بدهي، وإنما النزاع: هل يلزمه إذا بلغ أن ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أم يكفيه إذا كان في بيئة مسلمة أن يكون مع المسلمين ويظهر الإسلام ويصلي ويصوم ويقيم الأركان؟ وهذا الثاني هو الصحيح؛ لأنه لا يلزم الإنسان في الدقيقة التي يبلغ بها سن الرشد أن ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إذا كان بين ظهراني المسلمين، هذا لا يلزم؛ لأنه مسلم في الأصل، ونشأ في المسلمين، فإذا صلى وصام وأقام شعائر الإسلام فهو مسلم، ولو لم يسمع نطقه بالشهادتين؛ لأنه عمل بالمقتضى الذي هو أقوى من النطق، عمل بمقتضى الشهادتين الذي هو أقوى من النطق، ومع ذلك قد يقال من باب التكلف: لو نطق لكان أفضل وإنما يلزم النطق بالشهادتين من دخل في الإسلام بعد الكفر، فهذا يلزمه النطق بهما؛ لأنهما مفتاح الدخول في الإسلام. فكون الشهادة بأنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله أول واجب على المكلف أصل لا يختلف فيه أهل العلم المحققين من أئمة الدين، إنما النزاع جاء بعدما ظهر علم الكلام وظهرت القدرية والمتكلمة من الجهمية والمعتزلة ثم الأشاعرة والماتريدية وغيرهم، فهؤلاء أتوا ببدع عظيمة في هذا الأمر، فقالوا: أول واجب على المكلف أن ينظر، فما معنى ينظر؟ يعني: يشك: من ربك؟ وما أدلة التوحيد؟ ثم كيف يعبد الله؟ ثم يشهد الشهادتين، وهذا إخراج للناس عن الفطرة وإدخال لهم في التيه والضلال والشك، بل هو دعوة إلى الإلحاد والانحراف؛ لأن الإنسان إذا شكك فقيل له: أين رأسك؟ فذهب ليلمسه؛ فإن تشكيكه في الله يؤدي لإثبات وجوده إلى طلبه بالحس! فلا ينبغي أن يكون النظر هو طريق الوصول إلى معرفة الله ووجوده وتوحيده ثم إلى عبادته ثم الخضوع والتسليم له، لا يجوز هذا؛ لأن مقتضى الفطرة أن الإنسان على التوحيد، ومقتضى الفطرة أنه مسلم لله تعالى، فإذا نشأ مسلماً بين المسلمين فهو -بالضرورة- عارف للإسلام وعارف لوجود الله ووحدانيته. ثم إن الدخول في إثبات الوحدانية والتوحيد بالأدلة العقلية لا يستوعبه كل الناس؛ لأنهم ينشئون على الفطرة التي هي الإيمان بالله، ومن حاول أن يزداد يقيناً عن طريق الشبهات العقلية فإنه لن يزداد إلا شكاً، إلا قلة من المتمكنين الذين يريدون أن يثبتوا لبعض الملاحدة أو من في قلوبهم شبهات هذه الأمور؛ أما أن يكون ذلك مسلكاً لكل مسلم يسلك فيه إلى الإسلام أو الإيمان؛ فهذا من الباطل قطعاً، بل يؤدي إلى الشك؛ ولذلك وردت قصة صحيحة رواها كثير من الكتاب في الملل والنحل وغيرهم للرازي المتكلم، وذكرتها أكثر من مرة، لكن لها في هذا الموطن مناسبة. يقولون: إن الرازي مر ذات مرة بعجوز كانت تتشمس أمام بابها ومعه حشد من طلاب علم الكلام وراءه يكتبون ما يقول، فعجبت من هذا الرجل فسألت سؤال الساذج، فقالت: من هذا؟! قالوا: أما تعرفينه يرحمك الله؟! قالت: لا، أهو الملك؟ أهو السلطان؟ قالوا: لا، قالت: أهو الوالي؟ أهو القائد؟ أهو فلان؟ قالوا: لا. ثم قالوا: هذا من يملك على وجود الله ألف دليل، قالت: تباً له، والله تعس، إن كان ذلك ففي قلبه ألف شك، أفي الله شك؟! وهذا نداء الفطرة، فهذه ما عندها شك في وجود الله، وكذلك غيرها من عامة المسلمين، بل إن المتعلمين وطلاب العلم إذا بقوا على فطرتهم فما جاءتهم الشبهات والأهواء فالأصل فيهم التسليم لله تعالى بالجملة، ويحتاجون إلى تفصيل الشرائع فقط وتفصل العقائد التي وردت، وهي غيب لا يعلمه إلا الله. أما مسألة وجود الله فالباحث عنها كمن يجلس في الشمس ثم يقول: اثبتوا لي أن الشمس طالعة، فماذا يقال عنه؟ أهو عاقل؟! بل غير عاقل، ففي عقله خلل.

بطلان اعتماد الشك قبل اليقين في التوحيد

بطلان اعتماد الشك قبل اليقين في التوحيد وهناك نظرية خطيرة عند الفلاسفة، وإن كانت قليلة في المتكلمين الذين يدعون الإسلام، لكنها توجد عند فلاسفة ممن يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، ووجدت أيضاً في العصر الحديث، جاءتنا عن طريق النظريات الغربية، وقال بها بعض الكتاب المحدثين من المسلمين، وهي قضية الشك قبل اليقين، فهذا مبدأ هدام، ويرتكز على القول بأنه لا ينبغي للمسلم أن يسلم بكل شيء، فإن قيل له: محمد رسول الله فينبغي أن يتثبت من كون محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن قيل له: لا إله إلا الله؛ فينبغي أن يتثبت، وإن قيل له: هناك شيء اسمه بعث فينبغي أن يتثبت، فيخضع القضية أولاً للبراهين العقلية والعلمية، فإن وصل إلى يقين آمن وإن لم يصل إلى يقين فهو في حل من الإيمان، وهذا هو الإلحاد بعينه وهو الزيغ والزندقة، وقد تبناها بعض الكتاب المحدثين حتى كتبوا كتباً مثل (الشك قبل اليقين) وغيرها من الكتب الهدامة التي دخلت على شباب المسلمين وأوجدت عندهم زعزعة في العقيدة وعدم الثقة بالإسلام. فالحاصل أن هؤلاء المتكلمين بعضهم يقول: يجب النظر على كل إنسان، سواء تمكن أو لم يتمكن، فلا بد من أن ينظر، بمعنى: أن يفكر في خالقه، فيفكر في توحيد الله، ولا بد من أن يصل إلى النتيجة بعقله، وبعضهم قال: لا يلزم ذلك كل الناس، وهذا المذهب الثاني هو مذهب القصد إلى النظر، وعليه من يسمون بمعتزلة المتكلمين، وليس بمتكلمي المعتزلة، فالمعتدلون من المتكلمين يقولون: لا يلزم أن نقول: يجب النظر، إنما يجب القصد إلى النظر، فما معنى القصد؟ معناه: محاولة النظر، يعني: أن العاقل إذا بلغ يختلف ذكاؤه، فإن كان ذكياً فعنده القدرة على النظر، فينبغي أن يقصد النظر، فإن توصل إليه فبها ونعمت، وإن لم يكن ذكياً فقد لا يستطيع، فالمهم أن يحاول، هذا معنى القصد، أن يحاول النظر، فيتفكر في أدلة وجود الله وفي وحدانيته، فإن تمكن وإلا كفاه ذلك، فالمهم أن يشرع ويقصد النظر، ويتعمد الشك، وهذا مؤدى الكلام، وهم ما قالوا كذا، لكن قالوا: لا بد من أن يقصد البحث عن أدلة وجود الله وتوحيده، فإن استطاع فبها ونعمت، وإن لم يستطع فهو معذور، والسلف يقولون: لا يجب عليه النظر، فإن كان عاقلاً ذكياً ملماً بدين الله وفقيهاً فله النظر في ذلك بعد اعتقاده توحيد الله ومعرفة ما جاء في الكتاب والسنة. وإن لم يملك هذه الأصول فلا نكلفه ما لا يستطيع، أما إذا أراد ذلك بعقله دون اهتداء بشرع الله فسيهلك؛ لأنه لن يصل إنسان إلى الغيب، ولا سبيل للعقل إلى الغيب أبداً، ولو كان العقل يستطيع أن يعلم الغيب ويصل إليه ما صار غيباً، لو استطاعت العقول أن تتمكن من معرفة الغيب على وجوهه التفصيلية ما سمي غيباً، بل يصير شهادة، حيث صار مدركاً، والمدرك ليس بغيب.

بيان محمل قول إبراهيم الخليل في النجم والقمر والشمس: هذا ربي

بيان محمل قول إبراهيم الخليل في النجم والقمر والشمس: هذا ربي وأما قصة إبراهيم عليه السلام حين نظر في ملكوت الله فلا تحمل على أنه كان يبحث عن وجود الله، وليس عنده شك في أن الله واحد وأنه وحده المعبود؛ إذ ربما كان في ذلك الوقت لم ينزل إليه الشرع، وقد كان موجوداً في بيئة وثنية، فهو رفض الأصنام، وكان يبحث عن طريق صحيح إلى عبادة الله، فبعقله بحث عن هذا الطريق فوصل إلى أن الله لا يعبد من خلال مظاهر ناقصة، إنما يعبد من خلال الكمال، ولا يعبد من خلال الوسائط، إنما يعبد سبحانه وتعالى بدون وسيط، بطريقة شرعية، فتوصل بفطرته إلى أن تلك الأشياء نظراً لنقصها -حيث أفل النجم والقمر والشمس- لا يمكن أن تكون هي الله أو الموصلة إلى الله، فعرف أن الله يعبد دون هذه الأشياء؛ لأنها ناقصة والناقص لا يستحق العبادة، فلم يكن عنده شك في توحيد الله تعالى ولا في وجوده، وإنما لم يكن عنده الشرع، والله أعلم بالذي به يعبد، فكانت هذه تهيئة له ليتنزل عليه شرع قويم، وهو دين الحنيفية، وقد ورد أيضاً أن ذلك كان من باب إقامة الحجة على الآخرين، لكن هذا تأويل قد يصح وقد لا يصح، والحاصل أن إبراهيم عليه السلام توصل إلى أن هذه مخلوقات ناقصة، وتوصل إلى توحيد الله الخالص، وهذا لا يقاس عليه؛ لأن إبراهيم في ذلك الوقت لم يكن عنده شرع منزل ولا رسالة، فلا يقاس عليه المسلمون الآن، فقد قامت عليهم الحجة بالقرآن والسنة وإقامة البراهين، بل جميع البشر قامت عليهم الحجة بالإسلام وبأدلة الإسلام المتمثلة في الكتاب والسنة والحجج العقلية التي رسمها القرآن.

مذهب أئمة السلف فيما يؤمر به الصبي حال البلوغ

مذهب أئمة السلف فيما يؤمر به الصبي حال البلوغ قال رحمه الله تعالى: [بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقيب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك، ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجباً باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك].

حكم من أتى بخصائص الإسلام دون النطق بالشهادتين

حكم من أتى بخصائص الإسلام دون النطق بالشهادتين قال رحمه الله تعالى: [وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء: فمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام ولم يتكلم بهما هل يصير مسلماً أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلماً بكل ما هو من خصائص الإسلام، فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة)، فهو أول واجب وآخر واجب].

شرح العقيدة الطحاوية [7]

شرح العقيدة الطحاوية [7] ينقسم التوحيد في التقسيم العلمي إلى: توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية وتوحيد الأسماء والصفات، والمراد به في باب الأسماء والصفات إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على الوجه اللائق بالله جل جلاله؛ وقد ظهر في هذا الباب من يقول بنفي الصفات واعتبار ذلك توحيداً، فأفضى بهم ذلك إلى اعتقاد لوازم كفرية وإن لم يعتقدها بعضهم، وأما توحيد الربوبية فإن تقرير القرآن الكريم له يراد به إثبات توحيد الإلهية، ودلائله متعددة بتعدد المخلوقات الشاهدة على وجود خالقها جل جلاله، وقد جانب الهدى فيه أهل الكلام وأتباعهم من الصوفية، حيث اعتبروه الغاية التي يفنى فيها الباحثون.

توحيد الأسماء والصفات وعقيدة النفاة فيه

توحيد الأسماء والصفات وعقيدة النفاة فيه قال المصنف رحمه الله تعالى: [فالتوحيد أول الأمر وآخره، أعني توحيد الإلهية، فإن التوحيد يتضمن ثلاثة أنواع: أحدها: الكلام في الصفات. والثاني: توحيد الربوبية، وبيان أن الله وحده خالق كل شيء. والثالث: توحيد الإلهية: وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له]. مما ينبغي التنبيه عليه في هذا التقسيم -وسيرد كثيراً في ثنايا الطحاوية، بل في كثير من كتب العقيدة المتأخرة- أن هذا التقسيم لا يعني تنوع التوحيد، ولا يعني أن التوحيد يتجزأ، فالتوحيد واحد لا يتجزأ، لا من حيث العمل ولا من حيث الاعتقاد، ولا يسع أي مسلم أن يعتقد نوعاً ويترك الآخر، أو أن يقول: هذا هو المعتقد والباقي يمكن أن يتساهل فيه، إذاً: فتقسيم التوحيد إلى توحيد أسماء وصفات وربوبية وإلهية، أو توحيد خبر وتوحيد طلب، ونحو هذا من التقسيمات؛ تقسيم علمي توضيحي تفسيري فقط من أجل تمييز مباحث التوحيد الذي اختل مفهومه عند الفرق؛ لأن منشأ هذا التقسيم العلمي هو أن الفرق المفترقة فرقت بين أنواع التوحيد، فوقفت عند قسم واحد وتركت الأقسام الأخرى، فغاية ما يهتم به أغلب أتباع الفرق هو توحيد الربوبية الذي يعترف به المشركون، فهؤلاء إذا فسروا ألفاظ التوحيد ومعاني التوحيد وحقائق التوحيد ومطالب التوحيد قصروها على توحيد الربوبية، فمن هنا اضطر السلف إلى تنويع معاني التوحيد العلمية الفنية كما يسمى في العصر الحديث، فهذا تقسيم فني تقريبي فقط وليس تقسيماً ذاتياً حقيقياً، لأن التوحيد واحد لا يتجزأ، وهو أيضاً من حيث الاعتقاد والعمل لا فرق فيه، فهذه الأنواع الثلاثة كلها لا يمكن أن يكتمل الإسلام والدين والتوحيد إلا بها جميعاً. قال رحمه الله تعالى: [أما الأول: فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، كـ الجهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب!]. الواجب هنا معناه: الموصوف، فقولهم: إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب يعني: تعدد الموصوف؛ لأنهم قسموا الوجود إلى واجب وجائز، أو واجب وممكن، وهذا تقسيم فلسفي عجيب. وسبب ذلك الفرار من أسماء الله وصفاته، لا يرغبون في أن يسمى الله الأول والآخر والصمد ونحو ذلك مما ثبتت في النصوص، بل يقولون: واجب الوجود، يعني: أن وجوده أمر أزلي قطعي ضروري من أجل أن يكون هو مصدر الموجودات، وكأن هذا التزام عقلي فقط. قال رحمه الله تعالى: [وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة؛ فإن إثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج، وإنما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله، وهذا غاية التعطيل]. هذه فلسفة تقوم عليها أكثر أصول الفرق المؤولة والمتكلمة، فلسفة تعدد الواجب، أو الكلام عن واجب الوجود وجائز الوجود، أو عن نفي أسماء الله وصفاته، وأنها لا بد من أن تنفى دفعاً لتعدد الموصوف إلى آخره، هذه كلها فلسفة قديمة قبل الإسلام موجودة إلى الآن في الأمم، وإلى الآن تدرس في المدارس الغربية على أنها فلسفة ثابتة مستقرة عندهم، فهذه الفلسفة تقوم على تصور وجود الله وجوداً خيالياً فقط، لأنهم ظنوا أن الذات لا بد من أن تشبه ذوات المخلوقات، فمن هنا نفوا ذات الله، ونفي الذات كاد يتفق عليه الفلاسفة وغلاة المتكلمين كالجهمية وغلاة المعتزلة، يكادون يتفقون على إنكار ذات الله، حتى المتكلمين من الأشاعرة تكلموا في الصفات بطريقة تؤدي إلى إنكار الذات، لكن ليس بطريق مباشر كما يقول الجهمية، فالجهمية لا يتورعون عن إنكار الذات، فلما أنكروا الذات تبعاً للفلسفة القديمة -حيث إنهم يتشبعون بالفلسفة قبل أن يأخذوا الكتاب والسنة- وردت عليهم ألفاظ الشرع التي فيها أسماء الله وصفاته، فألزمهم هذا بأن يكون لله ذات موصوفة ومسماة، فلما وجدوا هذا الإلزام قالوا: هذه الألفاظ ألفاظ مجردة لا تدل على موصوف فقيل لهم: لماذا لا تثبتون أسماء الله تعالى؟! فقالوا: لأنها متعددة، وتعدد الصفة يدل على تعدد الموصوف، والله لا يمكن أن يتعدد، مع أن هذه بدهية لا يصح أن تقال؛ فالمخلوق ألا تتعدد صفاته؟! أليس الإنسان فيه حلم وعلم وإرادة وحكمة وكلام وسمع وبصر وهو إنسان واحد؟! فهم قالوا: إذا تعددت الصفات دل هذا على تعدد الموصوف، فقيل لهم: ما دليلكم؟ فلم يكن لهم دليل، وليس عندهم من دليل إلا أنهم يعتمدون على الفلسفة التي تقول: إن تعدد الصفات يدل على تعدد وجوه الموصوف. وربما لا يجرءون على أن يقولوا بأن تعدد الصفات يدل على أن الموصوف لا بد من أن يكون موجوداً وجوداً ذاتياً مبايناً منفصلاً عن المخلوقات، وأن وجوده لا بد من أن يكون في العلو وفوق خلقه إلى آخره، فهذه المستلزمات كلها توصلهم إلى الإقرار بالاستواء والإقرار بالرؤية، فهروباً من هذه الأمور كلها قالوا: هذه الأسماء والصفات لا تدل على موصوف، وإنما هي ألفاظ افتراضية تقال من أجل ضبط سلوك الناس، ومن أجل تعلق الناس بشيء غيبي يضبط سلوكهم، لكن أن يكون هذا الموجود له وجود ذاتي مستقل وأسماء وصفات غير حاصل، هذا زعمهم، وهذه مقولة فلسفية قديمة اعتمدت عليها

لوازم القول بنفي الصفات

لوازم القول بنفي الصفات

القول بالحلول والاتحاد

القول بالحلول والاتحاد قال رحمه الله تعالى: [وهذا القول قد أفضى بقوم إلى القول بالحلول أو الاتحاد]. الحلول والاتحاد بينهما بعض الفرق، وبعض الناس -أيضاً- يفرق بين ثلاثة ألفاظ ستأتي، فبين هذه المعاني وجوه تشابه ووجوه اختلاف، وسنقف عند الحلول والاتحاد، فالحلول يقصد به عند كل الأمم التي تقول به وعند حلولية الباطنية وحلولية الفلاسفة والفرق التي ظهرت في الإسلام: أن الله حال في كل شيء، وأنه ممتزج بالأشياء كامتزاج الروح بالجسد، وكامتزاج الماء بالعجين، تعالى الله عما يقولون، وهذا يؤدي إلى القول بأن الله خلق الخلق في الله، فيؤدي إلى وحدة الوجود. أما كلمة الاتحاد فتعني ما هو أبلغ من ذلك، تعني: أن الخالق متحد بالمخلوق، فهو هو لا فرق بينهما، تعالى الله عما يزعمون. قال رحمه الله تعالى: [وهو أقبح من كفر النصارى؛ فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عموا جميع المخلوقات]. كفر الحلولية والاتحادية - كـ ابن عربي ومن نحا نحوه- أكبر من كفر النصارى؛ لأن النصارى زعموا أن واحداً من البشر حل فيه الله فقط، فالنصارى قالوا: عيسى هو الذي حلت فيه روح الله، أما هؤلاء الزنادقة فقالوا: الله حل في جميع المخلوقات حتى ما لا يليق ذكره، تعالى الله عما يزعمون. قال رحمه الله تعالى: [ومن فروع هذا التوحيد: أن فرعون وقومه كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة!]. يقصد بالفروع هنا اللوازم، فهو بدأ باللوازم، يعني: لوازم القول بأن إثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب، ومن هنا أنكروا الصفات، فقولهم بإثبات ذات مجردة عن جميع الصفات، أو قولهم بإثبات وجود غير وجود الذات أدى إلى لوازم: اللازم الأول: هو الذي ذكره بقوله: إنه يؤدي إلى الحلول والاتحاد؛ لأنه -كما قال السلف- من ادعى أن الله ليس له أسماء ولا صفات، أو قال ببعض الأسماء، أو أنكر الأسماء وأثبت الصفات أو العكس، أو قال بأن الله موصوف بالصفات لكن هذه الصفات ليس لها معان، كأن يقول بأن الاستواء لا يقصد به الاستواء، أو قال بأن الله سبحانه وتعالى لا يوصف بالفوق، ولا بأنه داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين ولا محايث، وليس له وجود ذاتي، ولا هو غير المخلوقات ولا هو هي، وليس بعرض ولا بجوهر؛ فإلى أي شيء تؤدي لآته هذه؟! و A إلى لا شيء، وهذا ما يريده الفلاسفة، فالجهمي لا يتورع عن أن يقول: إن الله لا شيء! بل قال الجهم بن صفوان: إن الله ليس بشيء! فهم لا يتورعون، وإنما الكلام فيما يلزمهم من لوازم. يقول: إن من لوازم هذا القول: أنهم إذا قالوا بأن الله ليس كذا ولا كذا ولا كذا؛ فهذا يعني أنهم إن اعترفوا بوجود الله فأين سيكون؟! فهذا يؤدي إلى الحلول والاتحاد ولا بد، فإنكارهم أن يكون الله القاهر فوق عباده، وأنه سبحانه العلي بذاته، وأنه مستو على عرشه مع قولهم بوجود الله يعني أنه لا مقر لهذا الوجود إلا المخلوقات، فيكون الله عندهم حل بالمخلوقات أو اتحد بها تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

اعتبار فرعون وقومه كاملي الإيمان

اعتبار فرعون وقومه كاملي الإيمان ومن اللوازم أن فرعون وقومه كاملو الإيمان؛ لأن فرعون حينما زعم أنه هو رب الناس ما قال إلا الحقيقة؛ فحينما ألزمناهم بالقول بالحلول والاتحاد كان مؤدى ذلك أن الله حل في فرعون وغيره، فحينما قال: أنا الله فقد قال الحقيقة، والعجيب أن هذه المقولة انتصر لها أبرز حلولية المتصوفة، وهو ابن عربي، يقول بأن فرعون مؤمن، وله كتاب في هذا اسمه: (إيمان فرعون)، وهذا الكتاب موجود مطبوع، وأرجو -إن شاء الله- ألا تروه ولا تقرءوه، وقد حصلت عليه، وفلسفته موجودة إلى اليوم في فلاسفة الصوفية، كـ مصطفى محمود ومن نحا نحوه، يقولون بأن فرعون والحلاج وأمثالهما الذين ظهروا في التاريخ هم عباد لله، لكنهم شطحوا وتهوروا حينما أعلنوا الحقيقة، فالحقيقة لا يدركها إلا الخلص من البشر الذين يعرفون أن الله هو كل شيء، وكل شيء هو الله، وأنهم هم الله والله هم! هذه الحقيقة لا تدركها العامة، فحينما أعلنها فرعون تهور فعاقبه الله بالغرق، وهذه عقوبة شكلية فقط، وإلا فهو مؤمن. والحلاج حينما قال: ما في الجبة إلا الله بزعمهم؛ قالوا: لأن الحلاج هو الله، لكنه أعلن الحقيقة أمام العامة، وسبب ذلك أنه ما استطاع أن يلغي الحقيقة حينما وصل إليها، فتهور وأعلنها أمام العامة، وهم لا يقصدون بالعامة العوام، فبعض الناس يظن أنهم إذا قالوا: العامة يقصدون العوام الجهلة عندنا، وليس كذلك؛ بل يقصدون بالعامة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، فهؤلاء هم العامة عندهم وليس العوام، بل بعض العوام هم وإياهم على حال واحدة؛ لأنهم قد يطيعونهم ويسلمون لهم بغير شعور، وارجعوا إلى كتبهم فستجدون هذا المفهوم عندهم، يقصدون بالعامة علماء الشريعة، لذلك يسمون علم الشرع علم العامة، وهذا اللفظ موجود في كتب الصوفية إلى يومنا هذا، ومن الذي جاء به؟! أليس الأنبياء؟! يسمونه علم العامة، وعلم المساكين يقصدون بهذا أن الحقائق لا يدركها إلا الخلص الذين هم من الملاحدة والزنادقة.

اعتبار صحة مذهب عباد الأصنام

اعتبار صحة مذهب عباد الأصنام قال رحمه الله تعالى: [ومن فروعه: أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله لا غيره! ومن فروعه: أنه لا فرق في التحريم والتحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر، والزنا والنكاح، الكل من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة]. ذلك لأن من لم يفرق بين الخالق والمخلوق فمن باب أولى أن لا يفرق بين المخلوقات، أليس كذلك؟! فالفاسد والصالح واحد، والحلال والحرام واحد؛ لأن الأعيان واحدة، فهذا يؤدي من باب الإلزام إلى هذه النتيجة.

اعتبار الرسالات تضييقا على الناس

اعتبار الرسالات تضييقاً على الناس قال رحمه الله تعالى: [ومن فروعه أن الأنبياء ضيقّوا على الناس، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً]؛ لأنهم حينما أحلوا أشياء وحرموا أشياء، وقالوا: هذه الأعيان فاسدة محرمة، وهذه الأعيان صالحة حلال، وهذا ما يتعلق بالله وأسمائه وصفاته، والله له حقوقه على عباده، فكأن الأنبياء ضيقوا على الناس حين جاءوا بأمور ليس لها أصل، كذا يزعمون، ويؤدي قولهم إلى هذه المزاعم؛ لأن من زعم أن الأعيان واحدة وأنه لا فرق بين الخالق والمخلوق فمعنى هذا: أن ما جاء به الأنبياء من أن الله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق، وله حق العبودية والطاعة والتسليم، وأن ما أحله الله هو الحلال، وما حرم الله هو الحرام، كل تلك الأحكام التي جاء بها الأنبياء -إذا قلنا بأنه لا فرق بين الخالق والمخلوق- تكون من باب اللغو والتكلف والتضييق على الناس، وهذا من باب الإلزام العقلي، وإلا فهم قد لا يدعون هذا؛ لأنهم يخافون على رقابهم، وقد لا يصرحون بالكفر، لكن يلبسون الحق بالباطل.

توحيد الربوبية

توحيد الربوبية قال رحمه الله تعالى: [وأما الثاني: وهو توحيد الربوبية]. يعني الثاني من أنواع التوحيد، فالأول: التوحيد في الصفات، والثاني: توحيد الربوبية. قال رحمه الله تعالى: [وأما الثاني: وهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالق كل شيء، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية. وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]، وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع: فرعون، وقد كان مستيقناً به في الباطن، كما قال موسى عليه السلام: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]، وقال تعالى عنه وعن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، ولهذا قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:23] على وجه الإنكار له تجاهل العارف، قال له موسى: {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:24 - 28]]. في هذه النصوص دلالة على أن فرعون لا يجهل في الحقيقة أن الله هو الخالق، وأنه هو الرب، وإنما يتجاهل، ولذلك قال موسى عليه السلام لفرعون: ((لقد علمت))، وهذا كلام الله حق، فهو علام الغيوب سبحانه، وهو أعلم بما في القلوب، فهذا الكلام لا يكون من موسى إلا لوصف الحقيقة؛ لأن موسى قال لفرعون: (لقد علمت) وكلام موسى حق؛ فهو نبي معصوم، وهذا -أيضاً- كلام الله مقرر في القرآن، فموسى حينما قال: (لقد علمت) يخاطب فرعون دل قوله على أنه عالم بالله، لكنه أنكر وجحد. وكذلك في الآية الأخرى -وهي صريحة- قال تعالى في وصف فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]، فهم في حقيقة الأمر من المستيقنين، لكنهم جحدوا وستروا وغطوا وكفروا ظلماً وعلواً. أحب أن أنبه على كلمة في عبارة الشارح، وقد ترد أيضاً في عبارات تالية، وهي إطلاق كلمة الصانع على الله تعالى، وهذا من التساهل في التعبير، وإلا فلا ينبغي أن تطلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الخالق، وربما أخذها بعض أهل العلم من قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88]، فلعله يقصد ذلك، فهذا على سبيل الوصف لا مانع من أن يقال، فـ (الصانع) على سبيل الوصف لا مانع منه، لكن أن يقصد بكلمة الصانع أن تكون اسماً لله تعالى؛ فليس من أسماء الله الصانع، إنما الله هو الخالق البارئ؛ لأن الصنع أقل وأضعف معنىً من الخلق؛ لأن الصناعة: هي إظهار المصنوع على مظهر يراه الناس وهو مظهر الإبداع في الخلق، وأما الخلق فهو الإيجاد من العدم، فالإنسان يصنع ولا يخلق. وقوله: [ولهذا قال -يعني: فرعون-: وما رب العالمين؟!] ولم يقل: ومن رب العالمين، وهذه لغة الفطرة التي نطق بها فرعون وهو لا يدركها، ففرعون لم يقل: من رب العالمين؛ لأنه يعرفه في حقيقة الأمر، إنما قال: وما رب العالمين من باب الاستهانة والاستهتار؛ وما قال: (من)؛ لأنه لو قال: (من) لورد احتمال أنه لا يعرف الله، لكن نظراً لأنه يعرف الله في الحقيقة نطقت فطرته بغير هذه الكلمة، فهو سؤال تجاهل وسؤال استخفاف، وأما قوله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49]، فسؤاله كان هنا عن الربوبية، بمعنى: من الذي تطيعون أمره ونهيه؟ ولكن ما سأل عن الله، بل قال: يا موسى! من تطيعونه ومن تعبدونه؟! كأنه بهذا يقصد الربوبية، لكن حينما جاء سؤال الإلحاد ما قال: من رب العالمين؟ بل قال: وما رب العالمين؟ وهذا دل على أنه مستهتر يتجاهل وليس بجاهل؛ لأن السؤال عن المعلوم يدل على التجاهل والاستهتار. قال رحمه الله تعالى: [وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهماً عن الماهية، وأن المسئول عنه لما لم يكن له ماهية، عجز موسى عن الجواب!]. هؤلاء يرون أن السؤال كان عن الماهية، أي أن فرعون سأل موسى: كيف هو ربك؟ مم يتكون؟ هذا ما افترضه الفلاسفة والمتكلمون الذين ينزعون إلى إنكار وجود الله تعالى وجوداً ذاتياً، والذين يقولون بعدم المباينة والمفاصلة بين الخالق والمخلوق، فإنهم قالوا بأن فرعون سأل موسى عن الكيفية التي عليها الله، وأن موس

الاعتقاد بوجود صانعين للعالم متماثلين في الصفات والأفعال

الاعتقاد بوجود صانعين للعالم متماثلين في الصفات والأفعال

انتفاء اعتقاد إلهين خالقين عند المجوس القائلين بإله الخير وإله الشر

انتفاء اعتقاد إلهين خالقين عند المجوس القائلين بإله الخير وإله الشر قال رحمه الله تعالى: [ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: إن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال. فإن الثنوية من المجوس، والمانوية القائلين بالأصلين النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما؛ متفقون على أن النور خير من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة: هل هي قديمة أو محدثة؟ فلم يثبتوا ربين متماثلين]. يقصد بهذا أن المجوس الذين اعتقدوا بوجود إلهين اثنين ما قالوا بأن الإلهين كلاهما خالق، بل قالوا: الخالق واحد، والأول واحد، وألهوا الشر نظراً لخطورة الشر، فألهوا الشيطان أو إله الشر كما زعموا؛ نظراً لخطورة الشر وخوفاً منه، فيعبدون إله الخير طمعاً في ثوابه بزعمهم، ويعبدون إله الشر خوفاً من عقابه بزعمهم، وهذه شبهة الشيطان إلى يومنا، فمن أعظم شبهات الشيطان أنه يأخذ البشر بالخوف والرجاء، فإذا رجوا أحداً من دون الله عبدوه، وإذا خافوا من أحد من دون الله عبدوه، وعلى ذلك أغلب أهل الأهواء الذين يصرفون شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، وينزعون في ذلك نزعة الرجاء الخالص لغير الله، أو الخوف من غير الله، ولا يزال الناس يتعبدون لغير الله رجاءً وخوفاً وهم لا يشعرون، وليس من شرط العبادة كونها كعبادة الصنم في التوجه بالطقوس، بل من العبادة الاستجابة فيما لا تجوز الاستجابة فيه لغير الله، أو الخوف من غير الله إلى حد الهلع الذي يضر بدين المسلم أو يضر بالمسلمين، فهو نوع من عبادة الخوف من غير الله، بل عبادة بالخوف. فالمجوس تقوم فلسفتهم في عبادة الإلهين الاثنين على أساس أن إله الخير هو الأصل، لكنه منزه عن أن يخلق الشر، فعلى هذا لا بد عندهم من أن يكون للشر خالق، فقالوا: خالق الشر هو إبليس، أو قوى شريرة أخرى، وخالق الشر لا بد من أن يعبد خوفاً منه، فعبدوا إلهين اثنين. فالشارح يقول: مع أنهم عبدوا إلهين اثنين وهم من المشركين ما قالوا بأن كلاً منهما خالق للكون ومبدئ ومصور، بل قالوا: الأول الخالق المبدئ الذي خلق الخلق ابتداء هو واحد، والآخر جاء بعد، فلذلك عندهم فلسفة أنه عندما تنتهي الدنيا ينتصر الخير على الشر، وتكون الإلهية لواحد، وعلى كل حال هذه فلسفة مشركين، ومن الخير ألا نخوض فيها، لكن نظراً لأنها وردت كان لا بد من الإشارة إليها وإلى معناها.

ضلال مسلك معتبري توحيد الربوبية غاية مقصودهم

ضلال مسلك معتبري توحيد الربوبية غاية مقصودهم كأن الشارح يرد على الذين قالوا بالمبالغة في إثبات توحيد الربوبية، هذا هو المقصود بهذا الكلام، فطوائف المتكلمين -ولا يزالون إلى اليوم- غاية ما عندهم في تقرير التوحيد أن يثبتوا أن الخالق موجود وأن الخالق واحد، وهذه بدهية، فالعوام كفوهم هذا، فكل إنسان يدرك أن الخالق واحد وأن الرب واحد، لكن المشكلة التي فيها النزاع بين البشر منذ أن بدأ الشرك إلى يومنا هذا هي أن الناس يعبدون مع الله غيره، هذه هي المشكلة، وليست المشكلة أنهم لا يعترفون بوجود الله، وليست المشكلة أنهم لا يعترفون بأن الله هو الخالق وحده، فالمشركون أخبر عنهم الله سبحانه وتعالى في القرآن بأنهم إذا سئلوا عمن خلق السماوات والأرض؛ يقولون: الله، وما ورد في القرآن أنهم أنكروا أن يكون الله هو الخالق، والله سبحانه وتعالى هو العليم بأحوال البشر، وهو الذي حكى لنا أحوالهم في القرآن، فالمشركون لم ينكروا توحيد الربوبية من أجل أن تتعب فيه عقول المتكلمين، ولا يزال المتكلمون إلى يومنا هذا غاية ما يريدون الوصول إليه إثبات الخالق، ومع ذلك عندهم شك في إثبات الخالق وهم لا يشعرون؛ لأنهم يثيرون من الشبهات ما يقتضي الشك، لكنهم ينسون التوحيد المهم الضروري الذي لتقريره ثمرة، وللقول به فائدة، ولنصح الأمة فيه فائدة، وهو توحيد الإلهية وتوحيد العبادة، فلذلك أغلب المتكلمين لا يعرفون توحيد الإلهية ولا توحيد العبادة، ويستنكرونه على أهل الحق إلى يومنا هذا، وهذا هو السبب في استنكار كثير من المسلمين الذين يذهبون مذاهب المتكلمين على الذين ينكرون على المسلمين الشركيات وينكرون البدع، سبب هذا أنهم يعرفون أن غاية التوحيد توحيد الربوبية، وأن هذه الشركيات إنما هي ممارسات سهلة يمكن حلها فيما بعد. فمنشأ التساهل -حتى عند كثير من الدعاة والدعوات المعاصرة- في توحيد الإلهية أنهم تربوا على أن التوحيد هو توحيد الربوبية، هكذا عرفوا، فلذلك يعدون الشركيات من الأمور اليسيرة التي يمكن أن يصبر عليها أو يسكت عنها حتى تحل مشكلات المسلمين السياسية وغيرها، وتحل مشكلة انحراف البشر في الربوبية، وهذا خطأ؛ لأنه خلل عظيم. وما ينبغي التنبيه عليه هنا أن الشارح ذكر أنه لا يقول أحد بأن للعالم صانعين، وإنما القول الذي ورد أن الثنوية من المجوس والمانوية وغيرهم قالوا بأن للخير إلهاً وهو الخالق الأول، وأن للشر إلهاً آخر وهو خالق الشر، وهذا المبدأ هو نفسه الذي قالت به المعتزلة، لكن بطريقة مهذبة، فهذا هو رأي القدرية، والقدرية نشأت في بيئة المجوس، القدرية في الإسلام نشأت في بيئة المجوسية، وتكونت من المجوس الذين اندسوا في المسلمين، وربما يكون كثير منهم أظهر الإسلام وأبطن الكفر، فدسوا على المسلمين هذه العقيدة، فلذلك قالت المعتزلة بأن الله هو خالق الخير، ولا يليق بالله أن يخلق الشر، فالشر من الإنسان، وهي نفس الفلسفة التي قال بها الثنوية وقامت عليها عقيدة القدرية الأولى ثم قدرية المعتزلة، قالوا بأن الله هو خالق الخير وهو مقدر الخير كله، لكن لا يليق بالله أن يخلق الشر ولا أن يقدره، إنما الإنسان هو الذي كسب الشر وفعله وخلقه، فقالوا: إن الإنسان هو خالق أفعاله، وظنوا بذلك أنهم ينزهون الله، وهذا غلو في التنزيه، بل بهذا قدح في علم الله وقدرته.

عدم إثبات النصارى القائلين بالتثليث لثلاثة أرباب منفصلين

عدم إثبات النصارى القائلين بالتثليث لثلاثة أرباب منفصلين قال رحمه الله تعالى: [وأما النصارى القائلون بالتثليث؛ فإنهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل هم متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد. وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه، وفي التعبير عنه، لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنى معقول، ولا يكاد اثنان يتفقان على معنى واحد، فإنهم يقولون: هو واحد بالذات، ثلاثة بالأقنوم! والأقانيم يفسرونها تارة بالخواص، وتارة بالصفات، وتارة بالأشخاص، وقد فطر الله العباد على فساد هذه الأقوال بعد التصور التام، وبالجملة فهم لا يقولون بإثبات خالقين متماثلين]. هذه العبارات في الكلام على عقيدة التثليث، والكلام عن التثليث لا يحتاج إلى مزيد بيان؛ لأن الشارح بينه، لكن هناك بعض العبارات هي مظنة الإشكال. وأما قول النصارى بأن الثلاثة واحد والواحد ثلاثة؛ فهذا أمر يصادم العقل، لذلك تقوم عقيدتهم على تنشئة النصراني على أن يطفئ سراج عقله، وهناك قاعدة ترجمتها: أطفئ سراج عقلك واعتقد، اعتقد ولا تستعمل عقلك؛ لأن الإنسان إذا استعمل عقله لا يمكن أن يعتقد الثلاثة واحداً والواحد ثلاثة مهما كان الحال، وهذا لا يتأتى بكل المعاني العقلية والحسابية، ولكنهم أحياناً يوهمون الآخرين بتفسيرات أخرى، فيقولون: هو واحد بالذات ثلاثة بالأقنوم، ويقصدون بهذا: أن الله يمكن أن يكون واحداً، لكن يظهر بثلاثة مظاهر، وهذه المظاهر قد تكون خصائص تركيبية، كأن يكون ينقسم الإله إلى الإنسانية وهي الناسوت، أي: الجانب الإنساني، والإلهية، وهي اللاهوت، أي: الجانب الإلهي، والمزج بينهما، وهو روح القدس، وهو الجمع بين الإنسانية والإلهية، وهذه فلسفة لا تعدو أن تكون تسويغاً للشرك.

نشأة قول النصارى بالتثليث

نشأة قول النصارى بالتثليث ومما ينبغي أن يشار إليه أن عقيدة التثليث ليست هي عقيدة النصارى ابتداءً، فالنصارى أخذوها عن غيرهم؛ إذ التثليث كان موجوداً في الوثنية اليونانية قبل ظهور النصرانية المحرفة بمئات السنين، ودخل التثليث على النصارى بالتدريج عن طريق بولص اليهودي المسمى شاول حينما اعتنق النصرانية بعد عيسى عليه السلام مباشرة؛ لأن بولص هذا كان من أشد المحاربين لعيسى عليه السلام، فهو يهودي حاقد متعصب، فلما مات عيسى استعمل طريقة اليهود، وهي نوع من الماسونية التي يستعملها اليهود إلى اليوم، أسلوب ماسوني، فادعى أنه صار نصرانياً ملهماً يوحى إليه، وأن عيسى يتصل به، وأنه يأخذ التشريع من لدنه، وأن عيسى أمره أن يبلغ رسالة الله من بعده، وفي ذلك الوقت كان النصارى يخفون دينهم، حتى الإنجيل يخفونه خوفاً من اليهود، فصار بولص زعيماً في النصارى؛ لأنه ادعى بين عشية وضحاها أنه صار نصرانياً، فأدخل فلسفة التعدد في الآلهة عليهم، وما قال بالتثليث الصريح، لكنه قال بالإنسانية والإلهية في عيسى عليه السلام بهذه الصيغة، قال: عيسى هو ابن الله وفيه إنسانية وفيه إلهية. ثم بعدما دخل الملك الروماني قسطنطين النصرانية فرحت به طائفة من فرق النصارى التي صنعها اليهود؛ لأن اليهود بثوا الافتراق في النصرانية، فالفرق النصرانية التي صنعها اليهود فرحوا بدخول قسطنطين النصرانية وجعلوه إماماً في الدين، فبمجرد أن دخل النصرانية جعلوه زعيماً يتحكم في الدين ويعقد المجامع ويحكم ويقول ويؤصل ويضع العقائد للنصارى؛ لأنه نصراني وهو ملك، ففرح به هؤلاء وقالوا: ليقرر من الديانة ما يشاء. فأخذ يقرر ما يشاء، مع أنه لا يفقه من الدين شيئاً، وإنما تحول من اليهودية إلى النصرانية فجأة فصار نصرانياً، لكن نظراً لأنه ملك قالوا: نستعطفه وليدخل في الديانة ما يريد، وبعد ذلك نناقش المسألة، فأدخل عقيدة التثليث، وتقديس الصليب الذي كان أول من أشار إليه بشكل صريح هو قسطنطين. وبولص أشار إلى الصلب والصليب، لكن ليس على نحو ما عند النصارى الآن، فعقيدة النصارى في الصلب الآن التي هم عليها هي عقيدة وثنية يونانية، وكذلك التثليث عقيدة وثنية يونانية. قال رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا: أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين، مع أن كثيراً من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في إثبات هذا المطلوب وتقريره، ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل، وزعم أنه يتلقى من السمع، والمشهور عند أهل النظر إثباته بدليل التمانع، وهو: أنه لو كان للعالم صانعان، فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما إحياءه والآخر إماتته، فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما. والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، وهو ممتنع، ويستلزم أيضاً عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلهاً، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزاً لا يصلح للإلهية، وتمام الكلام على هذا الأصل معروف في موضعه، وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]؛ لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن، ودعت إليه الرسل عليهم السلام، وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السماوات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون:84 - 85]، ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم إلى الله، وهذا كان أصل شرك العرب، قال تعالى حكاية عن قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:23] وقد ثبت في صحيح البخاري، وكتب التفسير، وقصص الأنبياء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من السلف، أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد ف

شرح العقيدة الطحاوية [8]

شرح العقيدة الطحاوية [8] لقد جاءت الأدلة النقلية من كتاب وسنة لإثبات توحيد الربوبية، وجاءت كذلك الأدلة العقلية مصدقة بما جاء به الكتاب والسنة، ودالة على وجود الله عز وجل وتوحيده بالفطرة السليمة وميلها إلى التصديق بوجود الخالق، واستعدادها للإقرار بتوحيد الألوهية تبعاً لتوحيد الربوبية، إذا سلمت مما يحجبها عن الحق، ولم يحصل لها المفسد الخارجي الذي ينحرف بها عن طريقتها السليمة.

الأدلة العقلية على صدق ما أخبر به رسول الله من توحيد الربوبية

الأدلة العقلية على صدق ما أخبر به رسول الله من توحيد الربوبية قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، منها: أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً].

الميل بالفطرة إلى التصديق بوجود الخالق المقتضي للانتفاع

الميل بالفطرة إلى التصديق بوجود الخالق المقتضي للانتفاع قوله: (وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد له الأدلة العقلية) يقصد به الإخبار عما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من توحيد الله وطاعته وصدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. ويبدو لي أن العنوان الذي وضعه المحقق هنا ليس بدقيق، حيث قال: (الأدلة العقلية على صدق ما أخبر به الرسول) صلى الله عليه وسلم؛ إذ ليس مراده الأدلة على صدق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما أراد الأدلة العقلية على توحيد الربوبية وأنه مستلزم لتوحيد الإلهية الذي هو ضرورة طاعة الله واتباع شرعه، بناءً على دلالة العقل السليم والفطرة السليمة على وجود الله وكماله وقدرته، كما سيأتي تفصيله. قال رحمه الله تعالى: [وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإرادة فلا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما]. هنا سيقرر الشارح ابن أبي العز أدلة وجود الله تعالى وتوحيده -أي: توحيد ربوبيته وإلهيته- من الفطرة السليمة والعقل السليم من وجوه متعددة كلها ترجع إلى أصل واحد في الاستدلال، وهو أن الفطرة السليمة والعقل السليم يدلان قطعاً على ضرورة توحيد الله تعالى في الربوبية والإلهية دون تفريق بين هذه الأمور. قال رحمه الله تعالى: [ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع، وأن يكذب ويتضرر؛ مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول]. بناءً على القول بأن فطرة أي إنسان تميل إلى الصدق والانتفاع بالصدق وإلى ما ينفع إطلاقاً، وتنفر من الكذب وتتضرر به؛ فإن الإنسان بفطرته إما أن يصدق ما ينفعه -وهو الإقرار بوجود الصانع- أو لا يصدق، وإذا كان الإنسان قد فطر على التصديق والانتفاع، والتصديق والانتفاع هو في الإقرار بوجود الله تعالى وبعبادته وإلهيته؛ فحتماً لا بد من أن يكون هذا هو الافتراض اللازم؛ لأن الثاني قطعاً فاسد، أي: الميل إلى الكذب وإلى التضرر، فإذا كان كذلك تحتم الأول، وهو الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى النافع الضار. قال رحمه الله تعالى: [فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك: إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو لا، والثاني فاسد قطعاً، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه].

الفطرة على جلب المنافع ودفع المضار حال قيام السبب عند حصول الشرط وانتفاء المانع

الفطرة على جلب المنافع ودفع المضار حال قيام السبب عند حصول الشرط وانتفاء المانع قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، وحينئذ وإن لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك]. الشرط هنا يعني: الشرط الذي يتوافر لإثارة الفطرة الكامنة التي هي فطرة التوحيد والفطرة على الخير، وتوافر الشرط يكون بالتعليم السليم وبالهدى وبما أنزله الله من الوحي ومن الخير على ألسنة الأنبياء، هذا هو الشرط. والمانع: هو ما يحجب فطرة الإنسان عن الخير من الهوى، والشهوات، والشبهات، والتعليم المنحرف وهو أخطرها، فأكثر هذه الأسباب إضلالاً للبشر هو التعليم المنحرف، كما جاء في الحديث السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الإنسان: (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). وقوله: (بحسبه) علق عليه المحقق فقال: إنها في جميع النسخ (بحسبه)، وكذلك في (درء تعارض العقل والنقل)، وفي بعض النسخ (بحسه)، وكله جائز، و (بحسه) كأنها أقرب، لكن نظراً لأن النسخ توافرت على (بحسبه) فهي جائزة، أي: تجوز في السياق، يعني: أن الإنسان مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسبه، أي: بحسب مداركه، فبعضهم يدرك المنافع إدراكاً بيناً إذا كان إدراكه جيداً، وبعض الناس يدرك المنافع إدراكاً ضعيفاً بحسب إدراكه.

القوة الكامنة في النفس لقبول الحق إذا لم يحصل ما يفسد الفطرة

القوة الكامنة في النفس لقبول الحق إذا لم يحصل ما يفسد الفطرة قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أن يقال: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علّم الجماد والبهائم وحضضا لم يقبلا. ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك، فإذا كان المقتضي قائماً في النفس وقدر عدم المعارض؛ فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها؛ كانت مقرة بالصانع عابدة له]. المقتضي السالم: هو الفطرة السليمة، والسالم عن المعارض يعني: عما يحجب هذه الفطرة عن الاستدلال على الخير، فالفطرة الأصل فيها أن تقتضي الدلالة على الخير والدلالة على الهدى والدلالة على الصلاح والإصلاح، هذا هو المقتضي للفطرة، فإذا سلمت هذه الفطرة من المعارض فإنها تبقى دالة على وجود الله تعالى وعلى طاعته وعبادته، ليس على الوجود فقط؛ لأن الوجود قل أن تنزع إلى إنكاره، لكن قد تنكر ما بعد ذلك من عبادة الله تعالى ومن طاعته واتباع أوامره، والمعارض: هو التربية السيئة أو الهوى أو الشهوة أو الشبهة أو وساوس الشيطان أو نحو ذلك، هذه كلها قد تحجب الفطرة عن الحق، فإذا سلمت الفطرة وبقيت على نقاوتها بقيت مستعدة للإقرار بتوحيد الإلهية تبعاً لتوحيد الربوبية.

اقتضاء الفطرة للصلاح بغير مؤثر خارجي

اقتضاء الفطرة للصلاح بغير مؤثر خارجي قال رحمه الله تعالى: [ومنها: أن يقال: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج؛ ولا المصلح الخارج، كانت الفطرة مقتضية للصلاح؛ لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم والمانع منتف]. الكلام على المفسد الخارج والمصلح الخارج ينطبق على ما سبق، ويقصد بذلك: أن الأصل في الفطرة الصلاح، والمفسد آت من الخارج، وكذلك المصلح الخارج الذي يضيف إلى الفطرة شيئاً من معرفة الهدى، بمعنى: أن الفطرة عبارة عن قوة كامنة مستعدة للحق، فإن جاءها مفسد خارج من تربية أو شهوة أو شبهة أو ضلال أو تقليد أو غير ذلك أو شبهات الشيطان ووساوسه؛ فإنها قد تنحرف، وإذا جاءها مصلح من الخارج -وهو الوحي الذي أنزله الله على رسله وما يتفرع عن هذا الوحي من أمور أخرى دالة على الخير- فإن الفطرة تستقيم. قال رحمه الله تعالى: [ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله: أن قوماً من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية، فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة تذهب فتمتلئ من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد، فقالوا: هذا محال لا يمكن أبداً! فقال لهم: إذا كان هذا محالاً في سفينة؛ فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله؟! وتحكى هذه الحكاية عن غير أبي حنيفة. فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه، كان مشركاً من جنس أمثاله من المشركين].

تقرير القرآن لتوحيد الربوبية وجعله ذلك مستلزما لتوحيد الإلهية

تقرير القرآن لتوحيد الربوبية وجعله ذلك مستلزماً لتوحيد الإلهية قال رحمه الله تعالى: [والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الأمثال له، ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلاً على الثاني؛ إذ كانوا يسلمون الأول، وينازعون في الثاني، فيبين لهم سبحانه أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، لا شريك له في ذلك؛ فلم تعبدون غيره وتجعلون معه آلهة أخرى؟! كقوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل:59 - 60]، يقول الله تعالى في آخر كل آية: ((أإله مع الله))، أي: أإله مع الله فعل هذا؟! وهذا استفهام إنكار يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله، فاحتج عليهم بذلك، وليس المعنى استفهام: هل مع الله إله؟ كما ظنه بعضهم؛ لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام]. يقصد بهذا الكلام أن الاستفهام هنا ليس لإنكار وجود إله آخر بمعنى: رب وخالق، إنما كان الاستنكار استنكار أن يكون هناك معبود مع الله: أإله مع الله؟ أي: أمعبود مع الله؟ ما دمتم تقولون بأن الله هو الخالق وحده. وهذا هو قول المشركين حينما قرر القرآن قولهم بأن الله هو خالق السموات والأرض وهو الذي خلقهم ورزقهم، فقال لهم: ((أإله مع الله))، إذا كنتم تقولون بأن الله هو الرب وهو الخالق وهو الرازق وهو المدبر، أتعبدون معه غيره؟! هذا هو وجه الاستفهام، وليس وجه الاستفهام: أرب مع الله؟ لأنه لا يمكن، فهم قالوا: كل شيء لله، وكل شيء من أفعال الله تعالى قالوا: الله هو الذي فعله، فبقي ما بعد ذلك، ولا يمكن أن يرد الاستفهام لأمر نفوه من قبل؛ لأنهم هم وكل الأمم التي أشركت وضلت قرر القرآن أنهم لم يقولوا بأن هناك خالقاً مع الله، ولا بأن مع الله رباً، ولا رازقاً، بل قالوا: هو رب السماوات والأرض، وهو الذي خلق كل شيء، وهو الذي خلقهم، فلا يمكن أن يرد السؤال مرة أخرى: أرب مع الله؟ لأنهم نفوا الربوبية لغير الله، فالمراد بالاستفهام الإنكاري: إذا كان الأمر كذلك أمعبود مع الله؟! وهذا يفهم من كلمة (إله) لغة؛ لأن الإله هو الذي تألهه القلوب وتقدسه وتعبده وحده، هذا معنى الإله، فقوله تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60] ليس معناه: أرب مع الله؟ أخالق مع الله؟ إنما معناه: أتعبدون غير الله؟! أتتألهون لغير الله؟! هذا هو معنى السؤال، وكثير من المتكلمين إلى يومنا هذا يقررون تفسير هذه الآيات على المعنى الذي يقول به الفلاسفة، وهو أن معنى (أإله مع الله) أي: أرب مع الله؟ أي توحيد الربوبية، وهذا خطأ فادح وبعيد عن معنى ألفاظ كلام الله تعالى. قال رحمه الله تعالى: [وليس المعنى استفهام: هل مع الله إله؟ كما ظنه بعضهم؛ لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام، والقوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى]. أي: يجعلون مع الله معبودين آخرين. قال رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} [الأنعام:19]، وكانوا يقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، لكنهم ما كانوا يقولون: إن معه إلهاً جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزاً، بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا، وهكذا سائر الآيات. وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، وكذلك قوله في سورة الأنعام: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} [الأنعام:46]، وأمثال ذلك].

الرد القرآني على أهل الكلام في اعتبار توحيد الربوبية غاية

الرد القرآني على أهل الكلام في اعتبار توحيد الربوبية غاية قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان توحيد الربوبية الذي يجعله هؤلاء النظار ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد]. يقصد بالنظار: الفلاسفة والمتكلمين الذين أخذوا بالقواعد العقلية الفلسفية في تقرير التوحيد، وكثيراً ما يطلق عليهم النظار؛ لأنهم ينظرون لهذه الأمور العقلية ولأمور العقيدة بمجرد هذه القواعد العقلانية البحتة. قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان توحيد الربوبية الذي يجعله هؤلاء النظار ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد داخلاً في التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم السلام، ونزلت به الكتب؛ فليعلم أن دلائله متعددة، كدلائل إثبات الصانع ودلائل صدق الرسول؛ فإن العلم كلما كان الناس إليه أحوج كانت أدلته أظهر رحمة من الله بخلقه. والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، لكن القرآن يبين الحق في الحكم والدليل، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها استدل بها، ولم يحتج إلى الاستدلال عليها. والطريقة الفصيحة في البيان أن تحذف، وهي طريقة القرآن، بخلاف ما يدعيه الجهال الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة برهانية، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع، فإنه يبينه ويدل عليه]. يقصد بقوله: [وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقاً عليها] أن هناك من البدهيات العقلية والفطرية ما لا يحتاج إلى استدلال، إنما تكون هي بنفسها أدلة، فمثلاً: من البدهيات أن الخلق لابد له من خالق، ومن البدهيات أن هذا الخالق سبحانه وتعالى هو المالك المتصرف وهو الرازق وهو الذي يحيي ويميت، فهذه البدهيات هي التي يستدل بها على الأمور الأخرى من مستلزماتها، كعبادة الله وحده وطاعته وطاعة رسله واتباع شرعه. فيستدل بكون الله سبحانه وتعالى هو خالق السموات والأرض وكونه هو الذي يحيي ويميت، وكونه هو الذي خلق البشر، يستدل بهذه الأمور على أنه هو وحده المعبود. إذاً: فالبدهيات الضرورية لا تحتاج إلى أدلة، إنما هي تكون أدلة على غيرها، وهذه هي قاعدة القرآن، لذلك نجد أن القرآن ليس فيه تكلف في الاستدلال على وجود الله تعالى، إنما نجد أكثر ما فيه من البراهين الاستدلال على ضرورة عبادة الله وحده، وأن الله هو وحده المستحق للعبادة، وقرر هذه الأدلة على أنها بدهية عند البشر حينما سألهم: من خلق السموات والأرض، ومن خلقهم؟ من يرزقهم؟ فقرر أنهم يقولون: إنه الله، ثم بعد ذلك استعمل هذه الأمور دليلاً على غيرها وعلى مستلزماتها، وهي عبادة الله وحده، وعدم الشرك، وأنه ما دام الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق المدبر المحيي والمميت، وهو خالق السموات والأرض؛ فإذاً: لا يجوز أن يعبد غيره، ومن عبد غيره فقد أشرك.

إبطال القرآن اعتقاد بعض المشركين وجود خالق آخر خلق بعض العالم

إبطال القرآن اعتقاد بعض المشركين وجود خالق آخر خلق بعض العالم

إبطال الشرك في الربوبية بقوله تعالى: (وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض)

إبطال الشرك في الربوبية بقوله تعالى: (وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض) قال رحمه الله تعالى: [ولما كان الشرك في الربوبية معلوم الامتناع عند الناس كلهم، باعتبار إثبات خالقين متماثلين في الصفات والأفعال، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقاً خلق بعض العالم، كما يقوله الثنوية في الظلمة، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفة الدهرية في حركة الأفلاك، أو حركات النفوس، أو الأجسام الطبيعية، فإن هؤلاء يثبتون أموراً محدثة بدون إحداث الله إياها، فهم مشركون في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئاً من نفع أو ضر بدون أن يخلق الله ذلك، فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجوداً في الناس بين القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91]، فتأمل هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحق لابد أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه، فلابد من أحد ثلاثة أمور: إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه، وإما أن يعلو بعضهم على بعض، وإما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه. وانتظام أمر العالم كله وإحكام أمره من أدل دليل على أن مدبره إله واحد، وملك واحد، ورب واحد، لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه. كما قد دل دليل التمانع على أن خالق العالم واحد لا رب غيره، فلا إله سواه، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان، كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان، فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين، فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية].

إبطال الشرك في الربوبية بقوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)

إبطال الشرك في الربوبية بقوله: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) قال رحمه الله تعالى: [وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كان للعالم صانعان إلى آخره، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل: أرباب]. أي: لو كان فيهما معبود، هذا معنى تقرير القول، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة، يعني: من يعبد غير الله أو يستحق العبادة غير الله، ولم يقل: أرباب؛ لأن مسألة الربوبية بدهية عند سائر العقلاء حتى الذين لا يقرون بالنبوات قد يقرون بضرورة وجود الرب الخالق، لكن المسألة التي هي محل نزاع، وهي التي خالف فيها البشر هي مسألة العبادة. فإذاً: معنى الآية: لو كان فيهما معبود يستحق العبادة غير الله لكان الأمر كذلك. قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا، وأيضاً: فإنه قال: {لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا. ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحداً، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله، وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره، فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السموات والأرض. وأظلم الظلم على الإطلاق الشرك، وأعدل العدل التوحيد، وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس؛ فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزاً، والعاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، قال تعالى: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف:191]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]].

إبطال الشرك في الربوبية بقوله تعالى: (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا)

إبطال الشرك في الربوبية بقوله تعالى: (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً) قال رحمه الله تعالى: [وكذا قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]. وفيها للمتأخرين قولان: أحدهما: لاتخذوا سبيلاً إلى مغالبته، والثاني -وهو الصحيح المنقول عن السلف كـ قتادة وغيره- وهو الذي ذكره ابن جرير لم يذكر غيره: لاتخذوا سبيلاً بالتقرب إليه، كقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل:19]، وذلك أنه قال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} [الإسراء:42]، وهم لم يقولوا: إن العالم له صانعان، بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]، بخلاف الآية الأولى]. القول بأن معنى: (لابتغوا إلى ذي العرش سبيلاً): لاتخذوا سبيلاً إلى مغالبته، هذا القول -في الحقيقة- بعيد كل البعد؛ لأنا نجد أن هذه الآية تقرر مسألة العبادة، {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42]، والإله هو المعبود المألوه الذي تألهه القلوب وتعبده وتتجه إليه. إذاً: لا يصح -بل يبعد كل البعد- أن يكون المقصود: سبيلاً إلى المغالبة؛ لأن ذا العرش هو ذو العظمة سبحانه، والقلوب إذا اتجهت إلى العظيم اتجهت إليه محتاجة لا مغالبة، ويبعد أن يقصد القرآن هذا؛ لأن البشر مهما بلغوا لا يمكن أن يغالبوا الله سبحانه وتعالى أو يغالبوا ذي العرش عقلاً ولا شرعاً، حتى وإن وصل الأمر ببعض الملاحدة إلى المغالبة كما فعل فرعون، فإن هذه المغالبة لم تكن حقيقة، إنما كانت من باب المراء والجدل للبشر ومن باب مغالبة الأنبياء لا مغالبة الله سبحانه. فمسألة المغالبة التي هي محاولة التغلب بعيدة كل البعد، إنما الصحيح: {لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء:42] إلى طاعته والتقرب إليه؛ لأنه ما دام هو الأولى والأجدر، وما دام هو الأعظم وهو الرب وهو الخالق سبحانه؛ فإنه هو الذي يتخذون إليه سبيلاً ليتقربوا إليه ويلجئوا إليه سبحانه، هذا هو المعنى الصحيح، وهو الذي قال به السلف.

شرح العقيدة الطحاوية [9]

شرح العقيدة الطحاوية [9] لقد جاءت الرسل بتوحيد الإثبات والمعرفة وتوحيد القصد والطلب، كما قرر ذلك القرآن في غير ما آية، حيث أخبر عن شهادة الله تعالى لنفسه بوحدانيته وشهادة الملائكة والأنبياء له بذلك، وأقام تعالى الدلائل على ذلك، وبينه بطريق السمع لآياته المتلوة في كتابه الكريم، والتي تبين السنة وتقرر المراد من هذه الآيات، وكذلك بطريق النظر لآياته العيانية الخلقية، ثم يأتي العقل فيجمع بين هذه وهذه، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة.

بيان نوعي التوحيد الذي دعت إليه الرسل

بيان نوعي التوحيد الذي دعت إليه الرسل قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد. فالأول: هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول الحديد وطه وآخر الحشر وأول (الم تَنزِيلُ) السجدة وأول آل عمران وسورة الإخلاص بكمالها، وغير ذلك]. هذا النوع الأول من التوحيد هو توحيد الإثبات والمعرفة، ويسمى التوحيد العلمي، ويسمى أيضاً التوحيد الخبري؛ لأنه الذي جاء به الخبر، وهو توحيد الإقرار بربوبية الله سبحانه وتعالى، وسمي معرفة؛ لأنه أتى بوسائل المعرفة التي تعرف بها الأمور، وأعرف المعارف معرفة الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أعرف شيء، وغيره يعرف به، فلذلك نجد أن طرق الإثبات والمعرفة في توحيد الله سبحانه وتعالى ليست مقصورة على الخبر، كما يظن بعض الناس أن الوحي هو الذي جاءنا بمعرفة الله، بل وسائل معرفة الله تعالى كثيرة جداً، منها: الفطرة، ومنها العقل السليم الذي عليه المعول؛ لأن العقل المنكوس لا يعول عليه، فالعقل السليم يعرف الله، والفطرة السليمة تعرف الله، وهناك أيضاً وسائل أخرى لمعرفة الله تعالى، مثل الآيات البينات، وهي وسيلة من وسائل إعلام الله لخلقه بمعرفته، فالله يعلم خلقه بآياته في الآفاق وفي الأنفس وبآياته المتعلقة بدلائل وجوده سبحانه وتعالى. إذاً: فوسائل المعرفة كلها تدل على توحيد الله تعالى الذي هو توحيد الربوبية وتوحيد الإثبات. قال رحمه الله تعالى: [والثاني -وهو توحيد الطلب والقصد- مثل ما تضمنته سورة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، و {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة يونس وأوسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام].

الفرق بين توحيد الإثبات والمعرفة وتوحيد القصد والطلب

الفرق بين توحيد الإثبات والمعرفة وتوحيد القصد والطلب قد يرد تساؤل: ما الفرق الدقيق بين التوحيدين: توحيد الطلب والقصد، والمعرفة والإثبات؟ وأقول: إن الفارق من خلال تعبير الشارح هنا وتعبير أئمة الدين أهل العلم في مفهوم كل واحد منهما، فتوحيد المعرفة والإثبات توحيد يرد على الإنسان من خارج ذاته، يرد بدلائل العقل ودلائل الفطرة وشواهد الكون، وآيات الله المنزلة، وكلام الله الوحي المنزل، وغير ذلك من الأمور، بمعنى: أن توحيد المعرفة هو ما يرد على الإنسان مما يدله على معرفة الله، فهو توحيد قصري فطري، لا ينفك عنه أحد من المخلوقات العاقل منها وغير العاقل، لكن قد ينكره بعض العقلاء الذين تنتكس فطرهم وعقولهم جحوداً، وإلا فالأدلة واردة بشتى وسائل الإثبات. وأما توحيد الطلب والقصد فهو التوحيد الصادر من العقل، فالأول وارد إليه، وهو المعرفة التي ترد، ومصادر المعرفة التي ترد إلى ذهنه وإلى سمعه وإلى بصره وإلى فطرته وإلى عقله، فذاك يسمى توحيد المعرفة والإثبات. وأما توحيد الطلب والقصد فهو ما يصدر من الإنسان ابتداء من التأله لله سبحانه وتعالى، والخوف والرجاء منه، والحب له سبحانه، وانجذاب القلب إليه انجذاب التأله، لذلك نجد أن أعظم أسماء الله تعالى وأجمعها كلمة الجلالة (الله)؛ لأنها تجذب القلب لله سبحانه وتعالى بكل معاني الجذب، وتجذب الإنسان المتأله لله تعالى بقلبه وأعماله وجوارحه بكل معاني الجذب. فلذلك نجد أن هذا اللفظ لا يشترك فيه الخالق والمخلوق، إنما هو لفظ خالص، فلا يسمى (الله) إلا الله سبحانه وتعالى، أما بقية الأسماء فمنها ما يكون مشتركاً، فإذا أطلقت على المخلوق فهي له بحسب ضعفه، وإذا أطلقت على الخالق فهي له سبحانه بحسب كماله، كالعلم، فالإنسان عنده علم، لكنه علم محدود، علم ضعيف تعتريه كل جوانب الضعف، وإذا أطلق على الله سبحانه وتعالى فهو العلم الكامل، لكن كلمة الجلالة (الله) لا يمكن أن تنطبق على غير الله أبداً، فلذلك نجد أنها تجمع معاني انجذاب الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا معنى توحيد القصد والطلب، بمعنى أن الإنسان ينجذب إلى الله تألهاً، ثم بعد ذلك بعمله وجوارحه، فالإنسان عندما يسعى في هذه الدنيا ويحتسب سعيه إلى الله فإنه يطلب المثوبة من الله تعالى. إذاً: فهو الطالب المؤله لله، وإذا قام بالفرائض وأمور الدين وقام بالجهاد وقام بما أمر الله به من الأعمال فإنما يقصد وجه الله سبحانه، إذاً: فتوحيد الإلهية توحيد القصد، أي: قصد العبد لله وانجذاب العبد إلى الله سبحانه وتعالى الانجذاب الحقيقي الذي يجعله يؤله الله في قلبه وفي عمله تأليه تسليم ورضا وتصديق واتباع.

تضمن سور القرآن لنوعي التوحيد

تضمن سور القرآن لنوعي التوحيد قال رحمه الله تعالى: [وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن؛ فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل توحيده، وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، فـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] توحيد، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] توحيد، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] توحيد، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] توحيد، {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين فارقوا التوحيد].

شهادة الله تعالى لنفسه بوحدانيته وشهادة الملائكة والأنبياء له بذلك

شهادة الله تعالى لنفسه بوحدانيته وشهادة الملائكة والأنبياء له بذلك قال رحمه الله تعالى: [وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:18 - 19]، فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها من أجل شاهد بأجل مشهود به، وعبارات السلف في شهد تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار].

دلائل شهادة الله لنفسه بوحدانيته

دلائل شهادة الله لنفسه بوحدانيته هنا يتكلم عن معنى قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18]، فهنا يقرر معنى (شهد الله) وماذا تعنى شهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وأيضاً مصادر هذه الشهادة ووسائل هذه الشهادة، وكيف يتبين للخلق أن الله شهد لنفسه، وما الوسائل والأمور التي تبين فيها الأمر للخلق بأن الله لا إله إلا هو، فسيذكر هذه الأمور تفصيلاً، وقبل أن يذكرها أحب أن أشير إليها إجمالاً لتكون في الأذهان، فأقول: الدلائل المعبرة عن شهادة الله لنفسه بأنه لا إله إلا هو سبحانه تتلخص -حسب ما قرره الشارح- في ست دلائل، وهي الطرق التي تبينت بها الشهادة: الأولى: دلالة الفطرة: وهي دلالة ضرورية يعبر عنها الإنسان إذا تجرد من الهوى والتقليد الأعمى والتربية السيئة والانحراف والشهوات، يعبر عنها بلسانه وقلبه وبأفعاله وتصرفاته. والدلالة الثانية: دلالة العقل السليم، وهي معنى زائد على الفطرة، فالعقل السليم يرتكز على الفطرة لكنه يزيد عليها؛ لأن العقل نتيجة تفكير الإنسان بعوامل أخرى ومؤثرات داخلية وخارجية، أما الفطرة فهي أمر كامن في الإنسان ركبه الله فيه، وقد تنطق الفطرة أحياناً من غير شعور الإنسان، مع أن الأصل أن يشعر بما يقول ويتكلم، فالفطرة هي طاقة كامنة قد يعبر عنها الإنسان وقد لا يعبر، أما العقل السليم فهو إرادي من قبل الإنسان، وهو دليل من الدلائل على شهادة الله لنفسه. والدليل الثالث: آيات خلق الله تعالى في الأنفس والآفاق، آيات الخلق في الإنسان نفسه، فإذا تفكر الإنسان في نفسه وجد دليلاً على شهادة الله بأنه لا إله إلا هو من خلال خلق الإنسان. وكذلك إذا نظر في آيات الكون من حوله، وهي المعبر عنها بالآفاق؛ لأن الآيات ليست محصورة في الإنسان المحدود، بل هناك ما هو أبعد من محيط الإنسان في الكون الواسع. الرابع: آيات الله المنزلة، وهي كلامه، والإنسان إذا سلمت أدواته الأولى -العقل السليم والفطرة السليمة- عرف الدلائل من آيات الله تعالى واستوعبها، لكن إذا غطيت الفطرة بالمؤثرات الخارجية وانتكس العقل فقد لا يستفيد الإنسان من كلام الله، فإذا توافرت العوامل الأولى فإن الإنسان يجد من كلام الله تعالى -وهو القرآن المنزل والوحي- آيات صريحات دالات على أن الله شهد أنه لا إله إلا هو سبحانه. الخامس: شهادة المخلوقين الناطقين لله تعالى بالشهادة، وشهادة المخلوقين من أقوى الشهادات، ذلك أن الإنسان يسمع من غيره من المؤمنين ما يقتضي الشهادة لله أنه لا إله إلا هو، وهذا السماع هو بإذن الله وقدرته وبإرادته وحكمته وبتوفيق الله وهدايته، فإذا كان كذلك فالله هو الذي وفق الناطقين المؤمنين بالشهادة، فعلى ذلك يكون نطقهم حجة على الخلق؛ لأن الله شهد أنه لا إله إلا هو وأشهد أولياءه، وهذه أقوى حجة ظاهرة على الإنسان؛ لأن البشر لابد من أن يكون فيهم من يشهد أن لا إله إلا الله، فأي مؤمن لابد من أن يكون شاهداً تقوم به الحجة على الآخرين. الدلالة السادسة: شهادة الواقع، وهي شهادة تشمل جميع الشهود على أن الله لا إله إلا هو في كل شيء، في الإنسان وفي الآفاق وفي الوحي المنزل وفي الدلائل والأحداث وفي المصائب وفي كل أمر من الأمور التي تحدث للبشر وفي المخلوقات الأخرى وما يحدث لها وما يحدث منها، كل ذلك -وهو الواقع الذي يعيشه الإنسان- فيه شهادة أنه لا إله إلا الله سبحانه، وهي شهادة من الله؛ لأن الله هو الذي ألهم وأنطق، وهو الذي أقام الحجة.

انطباق معاني الشهادة ومراتبها على شهادة الله عز وجل لنفسه بالوحدانية

انطباق معاني الشهادة ومراتبها على شهادة الله عز وجل لنفسه بالوحدانية قال رحمه الله تعالى: [وعبارات السلف في (شهد) تدور على الحكم والقضاء والإعلام والبيان والإخبار، وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها؛ فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه، فلها أربع مراتب: فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته. وثانيها: تكلمه بذلك وإن لم يعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها. وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره به ويبينه له. ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به. فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع: علمه سبحانه بذلك، وتكلمه به، وإعلامه، وإخباره لخلقه به، وأمرهم وإلزامهم به. فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهداً بما لا علم له به، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، وقال صلى الله عليه وسلم: (على مثلها فاشهد، وأشار إلى الشمس). وأما مرتبة التكلم والخبر؛ فقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19]، فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة، ولم يؤدوها عند غيرهم. وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل، وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر، تارة يعلمه به بقوله، وتارة بفعله، ولهذا كان من جعل داره مسجداً وفتح بابها، وأفرزها بطريقها، وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها معلماً أنه وقف، وإن لم يتلفظ به، وكذلك من وجد متقرباً إلى غيره بأنواع المسار، يكون معلماً له ولغيره أنه يحبه، وإن لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس. وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه يكون بقوله تارة وبفعله أخرى، فالقول: ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه، وأما بيانه وإعلامه بفعله؛ فكما قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب، وأموره المحكمة عند خلقه: أنه لا إله إلا هو. وقال آخر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [التوبة:17]، فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه. والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله. وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به، وأن مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه؛ فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به وقضى وأمر وألزم عباده به، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، وقال الله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ} [النحل:51]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التوبة:31]، وقال تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء:22]، وقال تعالى: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [القصص:88]، والقرآن كله شاهد بذلك. ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، وأن إلهية ما سواه باطلة، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلهاً، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلهاً، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلاً يستفتي رجلاً أو يستشهده أو يستطبه وهو ليس أهلاً لذلك، ويدع من هو أهل له، فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب، المفتي فلان، والشاهد فلان، والطبيب فلان، فإن هذا أمر منه ونهي. وأيضاً: فالآية دلت على أنه وحده المستحق للعبادة؛ فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة؛ تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحقه الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم. وأيضاً: فلفظ (الحكم) و (القضاء) يستعمل في الجملة الخبرية، ويقال للجملة الخبرية: قضية، وحكم، وقد حكم فيها بكذا، قال تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات:151 - 154]، فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكماً، وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36]، لكن هذا حكم لا إلزام معه، والحكم والقضاء بأ

الشهادة لله بالوحدانية بطريق السمع والبصر والعقل

الشهادة لله بالوحدانية بطريق السمع والبصر والعقل قال رحمه الله تعالى: [ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها، ولم تقم عليهم بها الحجة، بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها؛ لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة، وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها؛ فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع والبصر والعقل: أما السمع: فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرَّفنا إياه من صفات كماله كلها]. الحديث الآن يتعلق ببيان الطرق التي أقام الله بها الحجة وبين بها أنه تعالى شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو سبحانه، فذكر من هذه الطرق السمع. قال رحمه الله تعالى: [أما السمع فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرَّفنا إياه من صفات كماله كلها الوحدانية وغيرها غاية البيان، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات تُوقِع في الحيرة تنافي البيان الذي وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم، كما قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1 - 2]، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1]، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر:1]، {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138]، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [المائدة:92]، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44]. وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان، ولا إلى ذوق فلان ووجْدِهِ في أصول ديننا، ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين، بل قد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3]، فلا يحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة. وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله فيما يأتي من كلامه بقوله: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم)]. انتهى من طريق السمع، والآن انتقل إلى الطريق الثانية، وهي البصر. قال رحمه الله تعالى: [وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والاستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية]. وبعد هذه يذكر الطريق الثالثة، وهي دلالة العقل. قال رحمه الله تعالى: [والعقل يجمع بين هذه وهذه، فيجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة، فهو سبحانه -لكمال عدله ورحمته وإحسانه وحكمته ومحبته للعذر وإقامة الحجة- لم يبعث نبياً إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43 - 44]، وقال تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران:183]، وقال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} [آل عمران:184]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى:17]، حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} [هود:53]، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليها بقوله: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:54 - 56]. فهذا من أعظم الآيات: أن رجلاً واحداً يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب غير جزع ولا فزع ولا خوار، بل هو واثق بما قاله جازم به، فأشهد الله أولاً على براءته من دينهم وما هم عليه إشهاد واثق به معتمد عليه، معلم لقومه أنه وليه وناصره وغير مسلط لهم عليه، ثم أشهدهم إشهاد مجاهر له

دلالة اسمي الله (المؤمن) و (الشهيد) على وحدانية الله تعالى

دلالة اسمي الله (المؤمن) و (الشهيد) على وحدانية الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [ومن أسمائه تعالى (المؤمن)، وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فإنه لابد أن يري العباد من الآيات الأفقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغته رسله حق، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53]]. المقصود بالآيات الأفقية هي آيات الآفاق التي هي الآيات الكونية، آيات الله الظاهرة التي ترى وتسمع وتلمس الآيات أو البراهين والمخلوقات التي تدركها الحواس هي آيات الله الأفقية، أما الآيات النفسية فهي آيات الله في الإنسان نفسه، فينبغي أن يتأمل نفسه، سواء عقله وروحه وجسده، فالإنسان فيه من آيات الله الباهرات والدلائل القاطعة على عظمة الله سبحانه وتعالى وتدبيره وإلهيته وربوبيته ما يكفي الإنسان لو نظر في نفسه. قال رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] أي: القرآن، فإنه المتقدم في قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [فصلت:52]، ثم قال: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53]، فشهد سبحانه لرسوله بقوله: إن ما جاء به حق، ووعد أنه يري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضاً، ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجل، وهو شهادته سبحانه على كل شيء؛ فإن من أسمائه (الشهيد) الذي لا يغيب عنه شيء ولا يعزب عنه، بل هو مطلع على كل شيء، مشاهد له، عليم بتفاصيله، وهذا استدلال بأسمائه وصفاته]. أسماء الله تعالى كلها لها معاني الكمال، بمعنى أن أسماء الله تعالى لا يوقف عند ألفاظها، بل لألفاظها معان عظمى تستنبط منها، فمثلاً: من معاني (الشهيد): الشاهد الذي يشهد الأمور بعلمه سبحانه وتعالى، وبسمعه وبصره، فالله عالم سميع بصير، وهذه شهادة للأشياء بالعلم والسمع والبصر، كما أن الله شهيد أيضاً بإشهاده الخلق على ما يشهد به من الحق، كما أنه -أيضاً- شهيد بإقامة ما تقوم به الحجة وبإقامة ما تقوم به الشهادة، وشهيد بمعنى أن الله سبحانه وتعالى يشهد بالحق للحق. قال رحمه الله تعالى: [وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، واستدلال بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته]. الاستشهاد بمثل (المؤمن) و (الشهيد) استدلال بأسماء الله وصفاته، والاستدلال بالسمع والبصر والعقل والمخلوقات المنظورة وغير المنظورة وبالنفس كالاستدلال بقول الله وكلماته، فالاستدلال بقول الله كالاستدلال بالقرآن والوحي، وكذلك منه الكلمات، والاستدلال بالآيات الأفقية التي هي آيات الكون المخلوقة، والنفسية التي هي آيات الله في نفس الإنسان، كما قال الله تعالى: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21]، وكذلك بأفعال الله تعالى، أي: بما يحدث في هذا الكون من أفعال الله تعالى التي تدل على عظمته سبحانه.

دلالة أسماء الله وصفاته على وحدانيته وصدق ما أخبر به الرسول عنه

دلالة أسماء الله وصفاته على وحدانيته وصدق ما أخبر به الرسول عنه قال رحمه الله تعالى: [فإن قلت: كيف يستدل بأسمائه وصفاته؛ فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الاصطلاح؟! ف A أن الله تعالى قد أودع في الفطر التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل، أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما عرفوه منه]. هذا الكلام لـ ابن القيم، فهذه عدة مقاطع من كلام ابن القيم في مدارج السالكين، فهو ينقل أحياناً بإيجاز وأحياناً ينقل بعض المقاطع بكاملها، فالكلام هنا أراد أن يبين فيه معنى أن الله هو المؤمن والشهيد، وأن هذا المعنى لا يمكن أن ينصرف إلا إلى إثبات وحدانية الله تعالى من خلال ما ذكر؛ لأنا إذا قلنا بأن من أسماء الله المؤمن ومن أسماء الله الشهيد -مثلاً- فالله سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى أن يؤمن بغيره؛ لأن كل المخلوقات بحاجة إلى أن تؤمن بما هو أعظم منها، أليس كذلك؟ كل المخلوقات تميل وتنزع بفطرتها السليمة أو بغريزتها التي خلقها الله عليها إلى أن تؤمن بما هو أعظم وأكمل، فإذا كان الله هو المؤمن فلا يمكن أن يؤمن بما هو أعظم منه وأكمل؛ لأنه لا أعظم ولا أكمل من الله، فلابد من أن يكون معنى (المؤمن): الذي يجعل التصديق والإيمان في مخلوقاته لنفسه سبحانه، وكذلك الشهيد، وهذا ما أراد ابن القيم أن يقرره في هذه المقاطع. قال رحمه الله تعالى: [ومن كماله المقدس شهادته على كل شيء، واطلاعه عليه بحيث لا يغيب عنه ذرة في السموات ولا في الأرض باطناً وظاهراً، وَمنْ هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا غيره، ويجعلوا معه إلهاً آخر؟! وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده ويعلي شأنه، ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على يديه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب عليه مفتر؟! ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء وقدرته وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك، ومن جوز ذلك فهو من أبعد الناس عن معرفته، والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص]. الخواص دائماً يطلقها ابن القيم رحمه الله وبعض الأئمة المتأخرين ويقصدون بها خواص المؤمنين الذين كمل إيمانهم مع فقه في الدين وعلم، أو الذين عندهم رسوخ في العلم مع قوة في الإيمان وقوة في اليقين، فهؤلاء هم الذين يدركون من مسائل الدين وفقه الإسلام ما لا يدركه عامة الناس ولا كثير من طلاب العلم، فالخواص هم الذين تجتمع فيهم صفات الإيمان مع صفات الفقه في الدين، وليس المقصود به مفهوم الخواص عند الصوفية أو الخواص عند أصحاب الأهواء أو المصطلحات الأخرى التي تنزع إلى أن تعطي الخصوصية لطائفة لا يستحقون هذه الصفة من أهل البدع. إذاً: الخواص هم عباد الله المخلصون الذين اجتمع عندهم الفقه والعمل والإخلاص والتقوى والاستقامة. قال رحمه الله تعالى: [والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص، يستدلون بالله على أفعاله، وما يليق به أن يفعله ولا يفعله. قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة:44 - 47]، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى. ويُستَدل أيضاً بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك، كما في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23]، وأضعاف ذلك في القرآن، وهذه الطريق قليل سالكها]. يقصد بالطريق هنا: الاستدلال على الله تعالى بأسمائه وصفاته، فهذه طريق لا يدركها إلا الخاصة من أهل التقوى والاستقامة والفقه. قال رحمه الله تعالى: [وهذه الطريق قليل سالكها، لا يهتدي إليها إلا الخواص، وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهدة؛ لأنها أسهل تناولاً وأوسع، والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض. فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره؛ فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له، قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]].

شرح العقيدة الطحاوية [10]

شرح العقيدة الطحاوية [10] لقد صنف بعض الصوفية والفلاسفة التوحيد إلى ثلاثة أنواع: توحيد العامة الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، وتوحيد الخاصة الذي يثبت بالحقائق، وتوحيد خاصة الخاصة وهو توحيد الفناء أو الوحدة أو الحلول والاتحاد، وهذا النوع من التوحيد عندهم يؤدي إلى الإلحاد؛ لأنهم به يزعمون أن أئمة الكفر على مر العصور هم أشد الناس توحيداً، وهذا مزبور في سائر كتبهم ومصنفاتهم.

بيان ضلال الصوفية في تقسيمهم للتوحيد باعتبار الموحدين

بيان ضلال الصوفية في تقسيمهم للتوحيد باعتبار الموحدين قال المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا عرف أن توحيد الإلهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب -كما تقدمت إليه الإشارة- فلا يلتفت إلى قول من قسم التوحيد إلى ثلاثة أنواع، وجعل هذا النوع توحيد العامة، والنوع الثاني: توحيد الخاصة، وهو الذي يثبت بالحقائق، والنوع الثالث: توحيد قائم بالقدم، وهو توحيد خاصة الخاصة]. هذا كله من توهيمات الصوفية وألغازهم ودجلهم وتلبيسهم على الناس، فتقسيم التوحيد إلى ثلاثة أقسام على هذا النحو من تلبيس المتصوفة والفلاسفة الذين ورثوا الفلسفات الهندية واليونانية وغيرها وأرادوا أن يلبسوها لباس الإسلام، فلو نظرنا إلى أنواع هذا التوحيد عند الصوفية في كتبهم لوجدناها تؤدي إلى الإلحاد، فتوحيد العوام عندهم وتوحيد السذج الذي لا يأبهون به هو توحيد الأنبياء والصالحين وعباد الله الذين هم في قمة العبودية، فهؤلاء عند الصوفية عوام، وكل ما جاء عن الله تعالى عن طريق الأنبياء من الوحي والشرائع والكتب والأوامر والنواهي والتوحيد يعتبرونه من توحيد العوام، وهذا مسطور في كتبهم، بمعنى أنهم قلبوا المفاهيم تماماً، فجعلوا الإلحاد هو قمة التوحيد وجعلوا التوحيد، هو قمة الشرك. والتوحيد الثاني عندهم توحيد الخاصة، ويقصدون به توحيد المعرفة والإثبات الذي هو توحيد الربوبية، أي: إثبات توحيد الله تعالى بالحقائق الكونية أو بالحقائق النفسية أو بالأدلة العقلية. والتوحيد الثالث عندهم -أي: عند الصوفية- توحيد خاصة الخاصة، وهو توحيد الفناء أو الفيض أو الإشراق أو الوحدة أو الحلول أو الاتحاد، وكلها تؤدي إلى الإلحاد؛ لذلك يزعمون أن أئمة الكفر في قمة التوحيد، وهذا موجود في كتب الصوفية، ومن أراد أن نطلعه على ذلك أطلعناه، ولكن العافية له في ترك ذلك، فهم يقولون: إبليس في قمة التوحيد؛ لأنه أبى أن يسجد لغير الله، ويقولون: فرعون في قمة التوحيد، لكنه تهور وأظهر الحقيقة، فأخطأ بتهوره حينما قال: أنا ربكم. لكنه في قمة التوحيد، حتى إن ابن عربي بث هذا في كتبه، وله رسالة موجودة اسمها (إيمان فرعون)، يقول: فرعون في قمة الإيمان، لكنه تهور حينما أظهر هذه الحقيقة للعوام، يعني: موسى وأتباعه، نسأل الله العافية، ولذلك فعند الصوفية من وصل إلى توحيد خاصة الخاصة لابد من أن يهلوس، كـ الحلاج مثلاً، لما وصل إلى هذه المنزلة قال: أنا الله، ونوقش، وقام له طائفة من السلف يقنعونه ويقيمون عليه الحجة ويتثبتون من عقله هل هو عاقل أم لا، حتى ثبت أنه عاقل؛ لأنه مصر، فحكموا عليه، وأمهلوه مدة طويلة فأبى إلا أن يقول: أنا الله، إلى أن جاءوا إليه وهو أمام الخشبة ليقتل يقولون: تب إلى ربك، تب إلى الله، فيقول: ما في الجبة إلا الله، كأنه كان لابساً الجبة، وكان أتباعه حوله يظنون أن السيف لن يناله ولن يموت، فلما سال دمه في الأرض وتلطخت ثياب بعضهم به صعقوا، واستغربوا كيف انفكت رقبته عن جسمه؟! إذ ما كانوا يظنون أن هذا يحدث. إذاً: فالصوفية بلية من البلايا، وهي خط من خطوط الزندقة، بل أصبحت زبالة كل فكرة فاسدة وكل إلحاد؛ لأنها انصبت فيها جميع المذاهب الموروثة عن الأمم الضالة، فنجد مظاهر الديانة الهندوسية موجودة في بعض طرق الصوفية، ونجد مظاهر الديانة المجوسية موجودة في طرق أخرى، ونجد الديانة الباطنية الشيعية الرافضية الموروثة عن المجوس موجودة في بعض الطرق الصوفية، ونجد الفلسفات الإغريقية والفلسفات اليونانية موجودة في الصوفية. فما من فلسفة وكفر وإلحاد إلا ويوجد له في الصوفية طرق ومذاهب واتجاهات، والصوفية اتجاهات كثيرة.

الحداثة قسيم للصوفية المتزندقة

الحداثة قسيم للصوفية المتزندقة لما نفقت سوق الصوفية في العصر الحديث ظهر اتجاه جديد قام بدور الصوفية، لكن على شكل آخر وبمؤثرات وأسباب أخرى وتحت شعارات أخرى، وهو اتجاه الحداثة، فالحداثة حينما نتأملها نجدها وجهاً آخر للصوفية وإن لم يكن هذا مقصوداً، لكن هذه أساليب الشيطان في العبث بالأمم. فالحداثة الآن مصب للزندقة، فلذلك لا نرى مذهباً شاذاً في الغرب الآن أو في الشرق -سواء أكان منهجاً فكرياً شاذاً أم أخلاقياً شاذاً أم عقدياً شاذاً أم إلحادياً- إلا وقد وجد له في مدارس الحداثة من يتبناه، فأصبحت الحداثة معلماً جديداً من معالم الصوفية، فلذلك نجد أن أغلب الحداثيين يشيدون برموز الصوفية ورموز الباطنية أعظم إشادة. إذاً: فالصوفية وإن قلنا: إنها بدأت تتبين للناس ويتبين أمرها إلا أننا بلينا بعدها ببلية أخرى، وهي الحداثة التي الآن دخلت فينا إلى العظم وتمكنت وتوغلت عندنا في وسائل الإعلام وفي الاتجاهات الأدبية والفكرية حتى صارت الآن شوكة نحتاج في نزعها إلى جهود عظيمة.

الأنبياء أكمل الناس توحيدا

الأنبياء أكمل الناس توحيداً قال رحمه الله تعالى: [فإن أكمل الناس توحيداً الأنبياء صلوات الله عليهم، والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيداً، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين]. لا شك في أن الرسل يتفاوتون، وإن كانوا في حقوقهم، لا فرق بينهم، فكلهم سواء في الحب والإيمان بأنهم رسل وأنبياء، والإيمان بعصمتهم وأنهم بلغوا رسالة الله إلى آخره، لكن من حيث درجتهم عند الله سبحانه وتعالى وفضلهم يتفاوتون. وكون بعضهم أكمل في التوحيد لا يعني أن بعضهم أكثر توحيداً، لكن في جانب العبودية لله سبحانه وتعالى، ففي عبوديتهم لله تعالى قد يكون بعضهم أفضل من بعض. قال رحمه الله تعالى: [وأكملهم توحيداً الخليلان محمد وإبراهيم صلوات الله عليهما وسلامه؛ فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علماً ومعرفة، وحالاً ودعوة للخلق وجهاداً، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسول ودعوا إليه وجاهدوا الأمم عليه، ولهذا أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم فيه، كما قال تعالى بعد ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك، وصحة التوحيد وذكر الأنبياء من ذريته: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90]، فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهم، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: (أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين)، فملة إبراهيم: التوحيد، ودين محمد صلى الله عليه وسلم: ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا، وكلمة الإخلاص: هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفطرة الإسلام: هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والاستسلام له عبودية وذلاً وانقياداً وإنابة. فهذا توحيد خاصة الخاصة، الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء، قال تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:130 - 131]. وكل من له حس سليم وعقل يميز به لا يحتاج في الاستدلال إلى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم البتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به. ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة ينتهي إلى الفناء الذي يشمر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر يفضي إلى الاتحاد، انظر إلى ما أنشده شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول: ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد].

الكلام في أبيات الهروي في التوحيد

الكلام في أبيات الهروي في التوحيد هذه الأبيات -في الحقيقة- من الأمور المعضلة؛ لأن ظاهر الأبيات ينزع إلى مقولة الصوفية، فلذلك نحتاج إلى أن نتكلف لنحسن الظن بالقائل، وهو الهروي رحمه الله، وهذه قد تحدث من بعض الأئمة، فيحصل منهم بعض المخالفات في المسائل الاعتقادية، بمعنى أنه قد يشذ إمام له قدره في الدين في مسألة من المسائل عمَّا عليه جمهور السلف، فهذا لا يضيره في صلاحه واستقامته، لكن مع ذلك لا نقر الخطأ حتى ولو كان من عالم كبير إذا لم نجد لكلامه المتأول إلا أن نحسن الظن به هو، أما كلامه وقوله فنعرضه على موازين الشرع، فمن هنا نقول إن هذه الأبيات في ظاهرها هي تأييد لمقالات الصوفية الخطيرة، لكنا إذا نظرنا إلى القائل فإنا نجد أن له في ذلك متأولاً، ونستطيع أن نفسرها بتفسير نحمله محملاً حسناً وإن تكلفنا، وتفسير آخر يؤيد الصوفية، وهو التفسير الظاهر، فلذلك حاول ابن القيم رحمه الله أن يعتذر في هذه الأبيات للهروي وأن يفسرها بالتفسير الحسن، وبعد ذلك سلم ابن القيم بأن فيها معاني إلحادية، فقال كلمته المشهورة في مدارج السالكين: لكن ذكر لفظاً مجملاً محتملاً جذبه إليه الاتحادي، وأشار في المدارج أيضاً إلى أن في هذه الأبيات معنى إلحادياً، لكن الهروي بريء منه.

المحمل الحسن المتكلف لبيان معناها

المحمل الحسن المتكلف لبيان معناها نرجع إلى تفسير الأبيات، على المحمل الحسن، وسنتكلف وأمرنا إلى الله. فقوله: (ما وحد الواحد من واحد) على التفسير الحسن يقصد بذلك: أنه لا يوجد أحد من المخلوقات وصل إلى حقيقة توحيد الله تعالى الكاملة، أي: ما وحد الله أحد من خلقه التوحيد الكامل الحقيقي الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، فتوحيد البشر مهما بلغ أقل من أن يصل إلى كمال الله تعالى، فلم يوحد الله على الحقيقة سوى الله، أي: التوحيد الكامل الذي لا يمكن أن ترتقي إليه مدارك البشر. (إذ كل من وحده جاحد) يقصد أن من حاول أن يقول بالتوحيد الكامل؛ فإنه لا يزال يخفى عليه جوانب أخرى من توحيد الله، فهذه الجوانب هو جاحد لها لم يصل إلى حقيقتها. ثم قال: (توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد) يقصد بذلك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أعارهم الوسائل التي عرفوا بها التوحيد، فعرف الإنسان توحيد الله بفطرته وعرف توحيد الله بعقله، وعرف توحيد الله بآياته، وهذه الأمور كلها من مخلوقات الله ومن مواهب الله التي وهبها للخلق، فهو استعارها من الله ليتعرف على الله. إذاً: فهي عادية موقوتة تزول، وتبقى شهادة الله لنفسه بالتوحيد هي الشهادة العظمى. وقوله: (توحيده إياه توحيده) يعني: أن التوحيد الحقيقي لله تعالى هو شهادة لله لنفسه، فهي التوحيد الحقيقي الذي يوقف عنده، أما توحيد المخلوقات فهو توحيد لا يمكن أن يبلغ كمال الله تعالى، فكمال الله تعالى لا يتناهي ولا يرتقي إليه ولا إلى إدراكه مخلوق على وجه التفصيل. وقوله: (ونعت من ينعته لاحد) يعني بذلك أن من تطلع إلى وصف الله تعالى بالنعوت الكاملة؛ فإنه لا يستطيع، ويلحد بذلك، إنما يستطيع البشر أن يصفوا الله تعالى ببعض نعوته، لذلك ذكر الله سبحانه وتعالى لنا أن من أسمائه وصفاته ما لا يخطر على بال بشر. إذاً: فمن ادعى أنه يستطيع أن ينعت الله بجميع كمالاته؛ فهو بذلك لاحد، أي: خارج ومائل عن الحق. هذا هو التفسير المتكلف؛ لئلا نتهم إماماً من أئمة المسلمين -وهو الهروي - بالإلحاد، وقد تنطوي بعض المعاني على بعض البشر -وإن كان إماماً في الدين- ليثبت للبشر أنه لا عصمة إلا للأنبياء.

محمل الأبيات على طريقة الصوفية

محمل الأبيات على طريقة الصوفية أما معناها على منطق الصوفية، فإن قوله: (ما وحد الواحد من واحد)، أي: ما وحد الله أحد، (إذ كل من وحده جاحد) أي: إذ كل من سعى إلى توحيده على طريقة الشرع والعبادة فهو عندهم جاحد لله؛ لأنه لا يصل إلى توحيد الله إلا بأن يتحد مع الله أو يحل أو يفنى في الله تعالى أو نحو ذلك من المعاني. وقوله: (وتوحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد) أي أن من عبد الله تعالى بصفاته، أو تعبد الله بأسمائه وصفاته؛ فإنه بذلك واقف على ألفاظ الشرع، وألفاظ الشرع عندهم هي دين العامة أو توحيد العامة، وهم يزعمون أنهم وصولوا إلى أسماء الله وصفاته باتحادهم مع الله، فلذلك مثلوا أسماء الله وصفاته بصفات بشر من البشر من أوليائهم. وقوله: (توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد) هو على نفس ما مر، أي: أنهم يقصدون بذلك أن من حاول أن يوحد الله بصفاته أو بنعته بصفات الكمال على نحو ما جاء به الأنبياء؛ فإنه بذلك لاحد عن توحيد الخاصة، أو خاصة الخاصة، الذي هو الاستغناء عن النص على أن صفات الله وأسمائه غير خلقه، فهم يرون أن الله هو الخلق والخلق هو الله، وعلى الإنسان أن يصف نفسه بصفات الكمال ليوحد التوحيد الكامل، لذلك قال أحدهم كلمة شنيعة، قال: سبحاني ما أجل شأني. يقصد نفسه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وجود الخيرية في بعض المتصوفة لا يمنع من فضح المناهج الصوفية المتزندقة

وجود الخيرية في بعض المتصوفة لا يمنع من فضح المناهج الصوفية المتزندقة وحكاية الكفر أحياناً تكون ضرورية للتنبيه على مزالق هؤلاء؛ لأنا نرى الآن أعناق الصوفية بدأت تظهر، وكثر المتعاطفون مع المتصوفة جهلاً بهذه الأمور. نعم نحن ندرك أن هناك عدداً كبيراً ممن ينتسبون للتصوف من العامة قد لا يعتقدون هذه الاعتقادات، وأمرهم إلى الله سبحانه وتعالى، لكن الصوفية بطرقها وبمدارسها، وبأقطابها كلها إلحاد وزندقة، وخروج عن مقتضى الدين، فيجب أن نتنبه، ويجب أن لا يغرنا المغفلون بمسألة التعاطف مع المتصوفة، بدعوى أن المتصوفة أخيار، نعم فيهم أخيار، لكن هل يعني هذا أن ننجذب إلى أناس فيهم الكفر والزندقة لمجرد وجود أخيار بينهم ينتسبون إليهم؟! إن كل طائفة من طوائف المسلمين قد يوجد فيها من السذج والمغفلين أخيار، لكن الكلام على حقيقة المذاهب والاتجاهات، وبيان ما هي عليه من كفر، وأنا بجهدي المحدود استقرأت كل ما حاولت أن أتوصل إليه من كتب الطرق الصوفية القديمة والجديدة، فما وجدت طريقة نزيهة ولا قريبة من التوحيد، ومن وجد فليعطني جزاه الله خيراً، وقد قرأت عن أكثر من أربعين طريقة من طرق الصوفية المعاصرة، فوجدتها تتفق على كثير من هذه الأصول الكفرية مع تفاوت في الاتجاهات العقدية، فلذلك من وجد طريقة على مذهب أهل السنة والجماعة فليخبرنا لئلا نظلم أحداً، وأحمل المسئولية كل من له اطلاع. أما أن يوجد من عوام المسلمين أو من طلاب العلم أو من المشايخ من ينتصر للصوفية وهو سليم المعتقد؛ فنعم قد يوجد هذا، لكن هل سلامة البعض تعني سلامة المذاهب وتعني سلامة الكل؟! هذا أمر لا يصح أن ننخدع به، وهذا هو مصدر اللبس الآن عند كثير من طلاب العلم، ومصدر اللبس عند كثير ممن حاروا في الأمر؛ لأنهم قد يجدون من الثقات والصالحين والعباد والزهاد من ينتسب إلى الصوفية ويقول: أنا صوفي، لكن هل تتمثل فيه الصوفية في مذاهبها وعقائدها؟! لا، فما عليه الصوفية من أوراد ومن أحوال ومن سلوك ومن شطحات كائن في كتب ومؤلفات، وهي موجودة، وهي محل الحكم. إذاً: فيجب أن لا ننخدع بدعاوى الصوفية أو دعاوى المتعاطفين مع الصوفية، ومن لديه برهان على أن طرق الصوفية -أو بعضها- فيها خير؛ فأرجو أن يسعفني بذلك وأنا أحمله المسؤولية؛ لأني ما وجدت إلى حد الآن طريقة سليمة تخلو من الكفريات فضلاً عن البدعيات والشركيات.

آثار غلو الصوفية في الدين

آثار غلو الصوفية في الدين قال رحمه الله تعالى: [وإن كان قائله رحمه الله لم يرد به الاتحاد، لكن ذكر لفظا مجملا محتملا جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا إجمال فيها كان أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوباً منا لنبه الشارع عليه، ودعا الناس إليه وبينه، فإن على الرسول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة، أو ما يقرب من هذا المعنى، أو أشار إليه؟ ‍! هذه النقول، والعقول حاضرة، فهذا كلام الله المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذه سنة الرسول، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول، وسادات العارفين من الأئمة، هل جاء ذكر الفناء فيها وهذا التقسيم عن أحد منهم؟! وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين المشبه لغلو الخوارج، بل لغلو النصارى في دينهم، وقد ذم الله تعالى الغلو في الدين ونهى عنه]. بذور الصوفية بدأت تحت شعار التعبد والزهد، والمبالغة في التعبد والزهد، فالغلو في الدين أوجد بيئة مناسبة لنشر المذاهب الباطلة تحت مسمى الزهد والورع والتصوف فلذلك إذا استعرضنا تاريخ التصوف نجد أنه بدأ في القرن الثاني على شكل نزعات، ولم يكن على طرق الصوفية، إنما كان نزعات مبالغة في العبادة على غير السوية، وأغلبها من أناس من الصالحين لا يتهمون في عقيدتهم وليسوا أصحاب بدع، لكنهم تعبدوا على غير فقه، فمنهم من نزع إلى تغليب الخوف على الرجاء، ومنهم من نزع إلى تغليب العبادة والانقطاع عن الدنيا، ومنهم من نزع إلى البكاء مثل البكائين، ومنهم من نزع إلى تغليب جانب الحب وترك جوانب العبادة الأخرى، ومنهم من نزع إلى العزوف عن كل شيء، ومنهم من نزع إلى الهيام في البراري والمشي في الأرض على غير قصد، ومنهم من نزع نزعات أخرى. فهذه النزعات في التعبد المغالي أوجدت بيئة مناسبة لدخول الباطنية ودخول المتصوفة في القرن الثالث الهجري، فلذلك اعتمدت الصوفية على هذا الاتجاه، اتجاه الغلو في العبادة، فزعمت أنها امتداد للزهاد الأوائل، وزعمت أنها امتداد لأهل الورع والتقى والصلاح، وهذا هو التلبيس والكذب والدجل بعينه، فالمتصوفة استغلوا هذه البيئات، وأوجدوا فيها ما يسمى بالشطحات أولاً والتعلق بالسماع ونحو ذلك من الألفاظ الموهمة التي تشبه ألفاظ الحداثيين الآن، ثم بعد القرن الثالث خرجت عن سمتها، وبدأت تقول بالكفر الصراح بدون مداهنة. قال رحمه الله تعالى: [وقد ذم الله الغلو في الدين ونهى عنه، فقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا تشددوا فيشدد الله عليكم؛ فإن من كان قبلكم شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) رواه أبو داود.

شرح العقيدة الطحاوية [11]

شرح العقيدة الطحاوية [11] لقد اعتمد السلف في باب الأسماء والصفات قاعدة القرآن الكريم الحاكمة بإثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه سبحانه وتعالى عن نفسه، وقد خالف في ذلك سالكو مسلك التأويل أو التعطيل فيما يخص الإثبات؛ إذ توهموا أن الاشتراك اللفظي في صفات الخالق وصفات المخلوق يقتضي المشابهة، وذلك غير مسلم؛ فإن المشترك اللفظي ليس له إطلاق كلي على الأعيان الخارجة ليشملها في آن واحد حال الخطاب، بل هو في الخارج لا يوجد إلا معيناً مختصاً، فإذا وصف به الخالق اختص به على ما يليق بجلاله وكماله، وإذا وصف به المخلوق اختص به على ما يليق بنقصه.

بيان ما ينفى عن الله عز وجل من الصفات وما لا يجوز نفيه منها

بيان ما ينفى عن الله عز وجل من الصفات وما لا يجوز نفيه منها قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا شيء مثله): اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظاً مجملاً يراد به المعنى الصحيح، وهو ما نفاه القرآن، ودل عليه العقل من أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على الممثلة المشبهة، {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، رد على النفاة المعطلة، فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق، فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق، فهو نظير النصارى في كفرهم]. من جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق فهو المشبه المبطل المذموم، وهو نظير اليهود -كذلك- في كفرهم وفي تشبيههم لله بخلقه؛ لأن اليهود حينما حرفوا التوراة وضعوا فيها اعتقادهم في تشبيه الله تعالى بخلقه، فزعموا أن الله سبحانه وتعالى له أعضاء كأعضاء المخلوقات، وأنه ينزل إلى الأرض ويصارع ويتحداهم ويتحدونه، تعالى الله عما يزعمون. فلذلك نجد التشبيه حينما ظهر في الأمة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري ظهر على أيدي الرافضة الذين هم ورثة اليهود، فالرافضة ورثوا كثيراً من عقائد اليهود كما هو معروف عند المحققين، ومن ذلك التشبيه، فالمشبهة الأوائل المجسمة كـ هشام بن الحكم وداود الجواربي وهشام بن سالم الجواليقي وغيرهم كلهم رافضة، بل التشبيه الشنيع الذي كفر أهل السنة من قال به أغلبه في فرق الرافضة الأولى. قال رحمه الله تعالى: [ويراد به أنه لا يثبت لله شيء من الصفات، فلا يقال: له قدرة، ولا علم، ولا حياة؛ لأن العبد موصوف بهذه الصفات! ولازم هذا القول أنه لا يقال له: حي، عليم، قدير؛ لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذا كلامه وسمعه وبصره ورؤيته وغير ذلك]. هو بهذا يريد أن يقرب مسألة بناها على قاعدة نفي التشبيه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فهو أولاً أراد أن يبين معنى نفي التشبيه هنا، وما حدث عند المتكلمين والنفاة من اللبس والتلبيس في معنى التشبيه، فقاعدة: (ليس كمثله شيء) تعني أن الله سبحانه وتعالى تثبت له الصفات، لكن على غير صفات المخلوقين؛ لأن الله قال في الآية نفسها: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فالآية تضمنت قاعدتين متوازنتين ترد كل واحدة إلى الأخرى، ولا بد من رد كل واحدة إلى الأخرى. لكن أصحاب الأهواء انقسموا في هذا الأمر إلى قسمين، وأهل السنة وسط بين الفريقين، فأخذوا بالحق، حيث أخذوا بقاعدة: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وقاعدة: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)، قاعدة نفي المشابهة وقاعدة الإثبات، والله سبحانه وتعالى بدأ بنفي المشابهة قبل الإثبات لئلا يستقر في ذهن السامع لصفات الله تعالى ما يتخيله من المعاني التي لا يعرفها إلا في عالم الشهادة، فنظراً لأن الإنسان إذا سمع: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) ينطبع في ذهنه ما يشهده وما يعلمه من السمع والبصر؛ فكأن الله أراد أن ينفي المشابهة قبل الانطباع في الذهن، فما ينطبع في الذهن منفي عن الله؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فحقيقة صفات الله تعالى تثبت والمشابهة منفية قطعاً، فلذلك بدأ بنفي التشبيه لئلا يستقر في الذهن ما يتخيله الإنسان عندما يسمع اللفظ، فلذلك أهل السنة سلمت عقيدتهم، أما أهل الأهواء فانقسموا إلى قسمين: قسم وقف عند الشق الأول، فقال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) فظن أن إثبات الصفات مماثلة، فنفى الصفات، وطائفة أخرى وقفت عند: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) وقالوا: لا نعرف إلا السمع بالأذن والبصر بالعين، إذاً: فالله جسم كالأجسام. تعالى الله عما يزعمون علواً كبيراً.

مناقشة المؤولة والمعطلة في بيان أن الإثبات لا يستلزم التشبيه

مناقشة المؤولة والمعطلة في بيان أن الإثبات لا يستلزم التشبيه وأراد هنا أن يناقش المؤولة والمعطلة؛ لأن تلبيسهم أشد من تلبيس المشبهة، التشبيه تنفر منه النفوس والفطر، ولا يحتاج التشبيه إلى تقعيد فلسفي ولا إلى قواعد عقلية ولا إلى قواعد كلامية، وتنفر منه جميع النفوس، فلا يحتاج إلى تكلف في رده؛ لأن تشبيه الخالق بالخلق تنفر منه فطرة كل إنسان، فلذلك لا يحتاج إلى مزيد كلام، لكن المشكلة في تلبيس المؤولة والمعطلة الذين نفوا أسماء الله وصفاته بدعوى أنها توهم المشابهة، أو الذين نفوا الصفات بدعوى أنها توهم المشابهة، أو الذين أولوا بعض الصفات بدعوى أنها توهم المشابهة، كل هؤلاء يناقشون على قاعدة واحدة، لكن كل واحد منهم نناقشه بقدر ما نتفق وإياه على الأمور الأولية التي يسلم بها، فكلهم لا بد من أن يسلموا بشيء كما سيأتي، فلذلك سنعرف من خلال الكلام أن الشارح سيتدرج في مناقشة المؤولة والمعطلة تدرجاً يأخذهم فيه دفعة دفعة، فيبدأ بالمؤولة الذين تأويلهم خفيف، ثم يثني بمنكري الصفات، ثم يثلث بمنكري الصفات والأسماء جميعاً، فيأخذهم بأسلوب واحد على قاعدة واحدة. قال رحمه الله تعالى: [وهم يوافقون أهل السنة على أنه موجود، عليم، قدير، حي، والمخلوق يقال له: موجود، حي، عليم، قدير، ولا يقال: هذا تشبيه يجب نفيه]. هنا يناقش الأشاعرة والماتريدية، يعني: بدأ بالفرق التي هي أقل خروجاً عن السنة في التأويل، أو الذين يمكن أن يكون بيننا وبينهم شيء من الالتزام بالنصوص وظاهرها وبعض القواعد التي تستنبط من النصوص، وهم الأشاعرة والماتريدية، فهو هنا يناقش المؤولة المتكلمين من الأشاعرة ومن نحا نحوهم. قال رحمه الله تعالى: [وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل، ولا يخالف فيه عاقل، فإن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بها، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى ببعضها صفات خلقه، وليس المسمى كالمسمى، فسمى نفسه حياً، عليماً، قديراً، رءوفاً، رحيماً، عزيزاً، حكيماً، سميعاً، بصيراً، ملكاً، مؤمناً، جباراً، متكبراً، وقد سمى بعض عباده بهذه الأسماء فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام:95]، {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28]، {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيم} [الصافات:101]، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128]، ((فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا)) [الإِنسَان:2]، {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [يوسف:51]، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف:79]، {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً} [السجدة:18]، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]، ومعلوم أنه لا يماثل الحي الحي، ولا العليم العليم، ولا العزيز العزيز، وكذلك سائر الأسماء. وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِه} [البقرة:255]، {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166]، {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر:11]، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [السجدة:15]. وعن جابر رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم؛ فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: عاجل أمري وآجله- فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري -أو قال: عاجل أمري وآجله- فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به. قال: ويسمي حاجته) رواه البخاري. وفي حديث عمار بن ياسر الذي رواه النسائي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو بهذا الدعاء: (اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)]. الخلاصة في هذا الكلام كله أن الشارح قرر طريقة السلف في إلزام المؤولة أو منكري الأسماء والص

مناقشة الأشاعرة ونحوهم

مناقشة الأشاعرة ونحوهم قال رحمه الله تعالى: [فقد سمى الله ورسوله صفات الله علماً وقدرة وقوة، وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54]، {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف:68]]. هذا في وصف المخلوقين، يعني بذلك أن الله كما سمى صفات نفسه سبحانه وتعالى وكما سماها رسوله صلى الله عليه وسلم بالعلم والقدرة والقوة؛ كذلك سمى الله المخلوقين ووصفهم بهذه الصفات. قال رحمه الله تعالى: [ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثيرة، وهذا لازم لجميع العقلاء؛ فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه]. هنا بدأ يرد على المؤولة قبل أن يرد على المعطلة، فبدأ بالرد على أقل الفرق انحرافاً في صفات الله تعالى، فهو يرد على المؤولة وعلى أهل الكلام الذين يمثلهم الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم. قال رحمه الله تعالى: [فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه -كالرضا والغضب، والمحبة والبغض ونحو ذلك- وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم؛ قيل له: فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر! مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثْبتَهَ الله ورسوله مثل قولك فيما أثْبَتَّه؛ إذ لا فرق بينهما]. خلاصة قوله أنه يقول لمن أول بعض صفات الله تعالى وأثبت البعض الآخر، وهم المؤولة الذين يثبتون لله تعالى صفات العلم والإرادة والقدرة والحياة والسمع والبصر ولا يؤلونها، لكنهم في الوقت نفسه لا يثبتون صفة الرضا والنزول والمجيء والمحبة والبغض ونحوها من الصفات الفعلية، يقول لهم: الشبهة التي بها نفيتم الصفات هي موجودة فيما أثبتموه، وأيضاً: السبب الذي به أثبتم الصفات التي ذكرتموها هو موجود في تلك الصفات التي نفيتموها، فإذا قلتم في صفة الإرادة والكلام والسمع والبصر بأنكم تثبتونها لله تعالى وليست كصفات المخلوقين، فكذلك المحبة والغضب واليد والوجه قد أثبتها الله لنفسه، وليست كصفات المخلوقين، فلم نفيتم هذا وأثبتم هذا؟! ليس عندهم جواب.

مناقشة المعتزلة

مناقشة المعتزلة قال رحمه الله تعالى: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً من الصفات، قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى، مثل: حي، عليم، قدير، والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلاً لما يثبت للعبد، فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه]. هنا بدأ يرد على المعتزلة، فالمعتزلة يثبتون لله الأسماء مثل: عليم، قدير، حي، لكنهم ينفون عن الله الصفات مثل الحياة والعلم والقدرة، فيقولون: حي بلا حياة، وعليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وهذه فلسفة، لكن الشارح يقول لهم -وهذا مبدأ عند أهل السنة والجماعة-: إن السبب الذي أثبتم به الأسماء موجود في الصفات، والسبب الذي نفيتم به الصفات موجود في الأسماء، فلا داعي للتفريق بينهما، فهم يقولون -مثلاً- في نفي الحياة والعلم والقدرة: لأنها من صفات المخلوقين، فيقال لهم: أيضاً المخلوق يقال له: حي، ويقال له: عليم، ويقال له: خبير بحدود ما أعطاه الله سبحانه وتعالى من هذه الأسماء والصفات، فالتفريق بين أسماء الله وصفاته كالتفريق بين الصفات بعضها مع بعض، والقاعدة عند النفاة وعند المؤولة قاعدة واحدة، وإذ رد عليهم بقواعدهم نفسها، فما أثبتوه لا حجة لهم في نفي ما عداه، وما نفوه لا حجة لهم في إثبات ما عداه. إذاً: لا بد في القاعدة الشرعية أن تطرد، فإذا قال الأشاعرة -مثلاً- بأن لله صفات -كالسمع والبصر- ليست كصفات المخلوقين، فيقال لهم: كذلك تثبت لله المحبة والرضا والنزول والمجيء على غير ما عليه المخلوق، إنما تثبت على ما يليق بجلال الله تعالى، لا لأننا استنتجنا ذلك بخيالاتنا وعقولنا، لكن لأنها ثبتت في النصوص، فصفات الرضا والعَجَب والغضب واليد والوجه ثابتة بنصوص الشرع، وهي تثبت لله تعالى على ما يليق بجلاله، ودعوى المشابهة أو دعوى الالتباس بصفات المخلوقين دعوى باطلة؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وكما أنه ليس كمثله شيء في بعض صفاته التي أثبتوها؛ فكذلك ليس كمثله شيء في الصفات التي نفوها، وكما أن الله تعالى ليس كمثله شيء في أسمائه؛ فكذلك ليس كمثله شيء في صفاته، فلا داعي للتفريق بين الصفات، ولا للتفريق بين الأسماء والصفات.

مناقشة الجهمية والباطنية والمتفلسفة

مناقشة الجهمية والباطنية والمتفلسفة قال رحمه الله تعالى: [فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول: هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة]. هنا يرد على الباطنية والمتفلسفة والجهمية، فانتقل من المعتزلة والمتكلمين إلى فئة ثالثة أشد غلواً، وهي الجهمية والباطنية والمتفلسفة. قال رحمه الله تعالى: [قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه موجود حق قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلاً له]. هذا رد على الدهرية الملاحدة، ثم انتقل من الرد على الجهمية الذين ينكرون الأسماء والصفات جميعاً إلى الرد على الملاحدة الدهرية الذين ينكرون وجود الله، فرد عليهم بنفس القاعدة.

مناقشة الملاحدة

مناقشة الملاحدة فقال رحمه الله تعالى: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الواجب. قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه]. كلمة واجب وغير واجب فلسفة اضطر أهل العلم للتعبير بها لإلزام الخصوم من الملاحدة، وإلا فهي من العبارات المبتدعة التي لا يجوز أن تطلق على الله سبحانه وتعالى، لا باسم ولا بوصف، لكن قد يعبر للخصم الذي لا يؤمن بالكتاب والسنة، أو ألحد في كتاب الله وفيما ورد فيه من النصوص الثابتة بمفاهيمه ومصطلحاته لإلزامه بالحجة، فلذلك قد يحاج هؤلاء الذين ينكرون الأسماء والصفات، أو ينكرون وجود الله بمثل هذه الألفاظ من باب الإلزام العقلي. إذاً: لا بد من فهم كلمة واجب الوجود وممكن الوجود، والقائم بنفسه والقائم بغيره، فواجب الوجود معناه: الذي يلزم وجوده ويضطر العقل لإثباته، وتفتقر إليه الموجودات، اللازم عقلاً بالضرورة، فيسمى واجب الوجود بنفسه؛ لأن الوجود خلاف العدم، فلذلك الله سبحانه وتعالى موجود، بمعنى أنه سبحانه وتعالى له وجود ذاتي، وكذلك المخلوقات موجودة، لكن المخلوق مفتقر إلى موجد، فيقال له: ممكن الوجود، أو: جائز الوجود، أو قائم بغيره؛ لأنه لا بد في وجوده من موجد، وهذا الموجد -وهو الله سبحانه وتعالى الخالق- واجب الوجود، بمعنى: لا يمكن أن نتصور أنه يحتاج إلى موجد ثان، فلا يمكن أن يتصور عاقل أن الموجد الذي أوجد المخلوقات القائم بنفسه الواجب الوجود -في تعبيرات الفلاسفة- محتاج إلى موجد ثان؛ لأنه لو قيل بموجود ثالث موجب لغيره لاحتاج الموجود الثالث إلى موجود رابع، والرابع إلى الخامس، وهذا يؤدي إلى التسلسل الذي لا يتناهي أبداً، فلا ننتهي إلى نتيجة، إذاً: لا بد عقلاً من الإقرار بواجب الوجود، أي: لازم الوجود الذي لا بد من أن يكون وجوده أزلياً لا بداية له، كما قال تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ} [الحديد:3]، والأول -كما فسره النبي صلى الله عليه وسلم- الذي ليس قبله شيء، فإذا كان ليس قبله شيء فليس له موجد، ولا بد من أن يكون هو الموجد، فالفلاسفة تعبر بواجب الوجود الذي يضطر العقل للقول بوجوده أزلاً، وليس قبله شيء. قال رحمه الله تعالى: [فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الواجب. قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه، وإما غني عما سواه، وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه]. يعني أن الذي لا يوجد نفسه لا بد له من موجد، فالمخلوقات نعلم قطعاً أنها لا تستطيع أن توجد نفسها، فلا بد لها من موجد، والموجد هو اللازم وجوده بالضرورة أزلاً، وليس قبله شيء. قال رحمه الله تعالى: [وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك، وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن]. يعني أن المخلوقات التي نراها ونحسها علم بالحس والضرورة أنها موجودة وكائنة وحادثة بعد أن لم تكن. قال رحمه الله تعالى: [والحادث لا يكون واجباً بنفسه، ولا قديماً أزلياً، ولا خالقاً لما سواه، ولا غنياً عما سواه، فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب والآخر ممكن، أحدهما قديم والآخر حادث، أحدهما غني والآخر فقير، أحدهما خالق والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئاً موجوداً ثابتاً. ومن المعلوم أيضاً أن أحدهما ليس مماثلاً للآخر في حقيقته؛ إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قِدمه وهو موجود بنفسه، والآخر لا يجب قِدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما خالق، والآخر ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه، والآخر فقير]. هذا القاعدة العقلية المعلومة بالضرورة تسري على كل من خالف النصوص الشرعية فيما يتعلق بصفات الله تعالى، ليست فقط في المنكرين لأسماء الله وصفاته أو الملاحدة الذين لا يؤمنون بوجود الله، إنما هي سارية على كل من خالف النصوص الشرعية، فالمؤولة الذين أولوا صفات الله فأثبتوا بعضها وأولوا بعضها، والمعطلة الذين أنكروا الصفات وأثبتوا الأسماء، أو الذين أنكروا الأسماء والصفات، هؤلاء كلهم يجمعون على أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد الغني عما سواه، وهو القيوم القائم بنفسه القائم على خلقه، وهو سبحانه وتعالى مغاير للمخلوقات في كل شيء، -وهذه بدهية يعترفون بها، لكنهم نسوها عند الإثبات، فكان الأولى حينما أخبروا بصفات الله جل جلاله كصفة العين واليد والغضب والرضا والضحك والنزول- أن تستمر القاعدة معهم بأن يقولوا: هذه الصفات تليق بالله سبحانه وتعالى على خلاف صفات المخلوقين، بل هي مغايرة حتماً؛ لأن الله تعالى له الكمال المطلق وليس كمثله شيء، وكل صفة لله تعالى فهي كمال مطلق مغايرة

الاشتراك اللفظي لا يعني تشبيه الخالق بالمخلوق

الاشتراك اللفظي لا يعني تشبيه الخالق بالمخلوق قال رحمه الله تعالى: [فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه، واختلافهما من وجه، فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلاً قائلاً للباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً للباطل، والله أعلم]. يقصد بهذا ما يسمى بالاشتراك اللفظي، والاشتراك اللفظي هو الذي خفي أمره على كثير ممن خالفوا أهل السنة والجماعة، فخالفوا هدي الأئمة في إثبات صفات الله تعالى وإثبات أمور الغيب، والاشتراك اللفظي هو أن هناك ألفاظاً معلقة في الأذهان لا يمكن أن نفهم معانيها على الحقيقة إلا إذا أطلقت على الموصوف أو المسمى، فهذه الألفاظ المشتركة تطلق على الله تعالى على وجه الكمال، وتطلق على المخلوقات على وجه النقص، وهذا معلوم بالضرورة، فمثلاً: اسم (الحي) لفظ مشترك، فكلمة (حي) قبل أن نصف بها أحداً كلمة معلقة في الأذهان وفي الخيالات، لكن إذا قلنا عن الله تعالى: إنه الحي القيوم؛ فهم السامع بفطرته وعقله السليم أن لله الحياة الكاملة، فالله سبحانه وتعالى له البقاء، وإذا أطلقت كلمة (حي) على مخلوق فهم منها الحياة المقيدة التي يعتريها النقص والفناء، وكذلك كلمة (عالم) مثلاً، فهي كلمة مجردة تبقى في الخيال وفي الذهن عالقة، فإذا قيل للإنسان: عالم عرف أنها كلمة تطلق على هذا الإنسان بحسب معلوماته، أي: ليس عالماً بما كان وما يكون وما وراء الأرض، إنما هو عالم بمعلوماته التي في ذهنه، وإذا قيل في حق الله سبحانه وتعالى: عالم، فالله هو العالم على وجه الكمال، وهذا الأمر يجري على كل الصفات والأسماء، والذين نفوا الأسماء أو أولوها بدعوى أنها تشبه أسماء المخلوقات وصفاتهم يقال لهم: كما أنكم تقولون: إن الله موجود والمخلوق موجود، وتقولون بأن وجود الله يليق بجلاله، ووجود المخلوق يليق بنقصه؛ فكذلك الصفات الأخرى -اليد والعين والقدرة والضحك والرضا- تطلق على الله تعالى على ما يليق بجلاله على وجه الكمال، وتطلق على المخلوق على ما يليق بنقصه، فاتفاق الألفاظ من وجه واختلافها من وجه هو الذي التبس على كثير ممن حادوا عن الحق، سواء المشبهة الذين ما فهموا من صفات الله إلا أن تكون مثل صفات المخلوقين، وهو فهم خاطئ أدى بهم إلى الضلالة والكفر، وكذلك المؤولة الذين فهموا من هذه الألفاظ مثلما فهم المشبهة، لكنهم فروا من التشبيه فعطلوا وأولوا، فوقعوا في الضلالة وحادوا عن الحق حيث أردوا الإحسان، فلذلك قال بعض أهل العلم: إن هذه الفرق أرادت الإحسان أولاً لكنها لم تهتد إلى الحق في النهاية، فالمشبهة أردوا الإحسان بالإثبات، لكنهم ما اهتدوا بهدي السنة في معنى الإثبات، فوقعوا في التشبيه، والمؤولة والمعطلة أردوا الإحسان بالنفي، بأنهم أرادوا تنزيه الله، لكنهم زادوا على الحد فعطلوا -أي: أنكروا أسماء الله وصفاته، أو صفات الله أو بعض صفات الله-فحادوا عن الحق حينما أرادوا الإحسان، وسبب ذلك تقصيرهم في العلم وعدم اهتدائهم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة، وإلا فلو اهتدوا لما ضلوا. قال رحمه الله تعالى: [وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه؛ فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه. وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة]. أي: اتفق الخالق والمخلوق في المسمى المجرد، وهو الوجود والعلم والقدرة. قال رحمه الله تعالى: [فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه]. يعني أن هذه الأسماء -الوجود والعلم والقدرة- كلمات مجردة لا تعدو أن تكون في الذهن ومفهومها غير مرتبط بعين معينة، أو بشخص معين، أو بموصوف معين، فإذا أطلقت على أحد أطلقت على من أطلقت عليه بحسب ما يليق به، فالوجود والعلم والقدرة إذا أطلقت على المخلوق عرف أنه وجود وعلم وقدرة محدودة، وإذا أطلقت على الخالق سبحانه عرفنا أنه علم وقدرة ووجود كامل يليق بجلال الله سبحانه وتعالى. قال رحمه الله تعالى: [وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار؛ حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد].

مدلول الاشتراك اللفظي وصلته بالأعيان الخارجية

مدلول الاشتراك اللفظي وصلته بالأعيان الخارجية قال رحمه الله تعالى: [وطائفة ظنت أن لفظ (الوجود) يقال بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم، فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث. ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ (المشتري) الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ (المشتري) يقال: على كذا أو على كذا، ومثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه. وأصل الخطأ والغلط: توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كلياً، بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها مختصاً به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به. فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيها غيره، فكيف بوجود الخالق؟ ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين. وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحق فضلوا، وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا، وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه. فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساءوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر، والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساءوا بزيادة التشبيه. واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفردة، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له بلفظ المفرد له ويشار له إلى معناه إن كان مشهودا بالإحساس الظاهر أو الباطن، فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة إلى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر أول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل. فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه، ولا يعرف باللفظ ابتداء، ولكن لا يعرف المعنى بغير اللفظ حتى يعلم أولا أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعنى به، فإذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه، وإن كانت الإشارة إلى ما يحس بالباطن، مثل الجوع والشبع والري والعطش والحزن والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده استنزله إليه، وعرف أن اسمه كذا، والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال جوعه وإدراكه بنظرها أو نحوه أنها تعني جوعه، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره. وإذا عرف ذلك فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلو إما أن يكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله، وإما أن لا يكون كذلك. فإن كانت من القسمين الأولين لم تحتج إلا إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة ومعنى التركيب، فإذا قيل له بعد ذلك: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8 - 9]، أو قيل له: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78]، ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه. وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لا يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلا بد في تعريفه من طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى، كان البيان أحسن، والفهم أكمل. فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماء لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر، وكذلك لما خبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله واليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من

بيان وجه الإحسان ووجه الخطأ عند المعطلة والمؤولة

بيان وجه الإحسان ووجه الخطأ عند المعطلة والمؤولة القضية الثانية: ذكر الشارح وجه الإحسان والخطأ عند كل من المؤولة والمعطلة، وأن مرادهم الإحسان أولاً لكن على غير هدى، فوقعوا في الضلالة، وسبق أن أشرت إلى هذا. يعني بذلك أن المعطلة حينما عطلوا ونفوا الأسماء والصفات عن الله تعالى أو أولوا بعضها، أرادوا بذلك ابتداء الخروج مما يتوهمونه من تشبيه لله بمخلوقاته، لكنهم لم يهتدوا للحق الذي جاء عن أئمة الهدى، وهو الإثبات على ما يليق بجلال الله تعالى، فلم يهتدوا إلى الصواب، فإحسانهم حينما لم يكن على صواب ولم يكن على دليل ولا على هدى أدى بهم إلى الإساءة والضلال.

حكمة التعبير عن الغيب بالألفاظ المشتركة

حكمة التعبير عن الغيب بالألفاظ المشتركة القضية الثالثة التي تكلم عنها الشارح: وجوه فهم المخاطب للألفاظ الشرعية، ولماذا عبر الشارع بالألفاظ المشتركة؟ إذ ربما ترد هذه الشبهة على المعطلة والمؤولة والمشبهة، فيقولون إذا كان الله سبحانه وتعالى لصفاته وأسمائه كيفيات غير ما للمخلوقين، فلماذا عبر بهذه الأسماء والصفات؟ فيقال لهم: هذا على وجه التقريب؛ لأنه ليس عند المخاطب قدرة على الفهم أكثر مما يدركه في الموجودات، فالأمور الغيبية لا يمكن أن يصل إليها، ولو وصل إليها ما صارت غيباً، فالله تعالى عندما أخبرنا عن نعيم الجنة عبر بألفاظ عن هذا النعيم تشبه الألفاظ التي تطلق على أنواع النعيم في الدنيا، لكن الحقيقة غير الحقيقة، فلذلك قد يعبر عن بعض أمور الغيب بأقرب لفظ يقرب إلى الذهن فهمها، وإن كانت في الكيفيات على غير ما يعهده السامع؛ نظراً لأنه لا يمكن أن يطلع على الغيب. فلذلك جاءت النصوص الشرعية في ذكر أسماء الله وصفاته وغير ذلك من أمور الغيب بما يمكن أن يفهمه المخاطب من خلال مشاهداته وحسه، وضبطت هذه النصوص بقواعد أخرى تنفي التشبيه وتنفي التعطيل، وهي مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. فالله وصف نفسه بأنه العلي العظيم، وأنه حليم وأنه حي قيوم، وفي نفس الوقت قال الله لنا عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]؛ لئلا ترتبط الصفات التي نسمع الألفاظ عنها بالمحسوسات المتخيلة في أذهاننا، حتى لا نشبه أسماء الله وصفاته بما نعرفه مما يشبه الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، فعلى هذا تثبت الحقائق الواردة في النصوص، أي: حقائق الألفاظ، لكن لا يمكن أن تثبت الكيفيات، والحقائق غير الكيفيات، فلذلك أسماء الله وصفاته الواردة في الكتاب والسنة هي حقائق، لكن الكيفيات التي هي عليها كيفيات كاملة تليق بجلال الله تعالى، ولا يمكن أن يدركها بشر؛ لأن الله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وهذا أيضاً في سائر أمور الغيب التي أخبرنا الله بها، فشبهها بما عندنا من المحسوسات شبه لفظي، وهي حقائق، لكن الكيفيات غيبية، ولو كانت معلومة أو تشبه المشاهدات عندنا لما كانت غيباً. وما أخبر الله به من أمور الغيب على نوعين: نوع يمكن أن يرتسم له في الذهن ما يقرب من الحقيقة والكيفية، وهو ما أخبر الله به مما يوجد مثله، كإخبار الله تعالى عن الطوفان، أو عن غرق فرعون أو عن قصص النبيين، فهذه الأمور تفهم مما يقرب من كيفياتها، وربما نرى بعض أثارها وأعيانها، فهي غيب من حيث أحداثها، لكن ليست غيباً من حيث كيفياتها التي هي عليها. والنوع الآخر من الغيب هو الغيب الآخر الذي لا يوجد مثله في الدنيا، فهذا كيفياته في نطاق الغيب، ويستحيل لأحد من البشر أن يصل إلى هذه الكيفية؛ لأنه لو أمكن لأحد من البشر أن يصل إلى هذه الكيفية لما صارت غيباً، ولما سماها الله لنا غيباً، والغيب ما غاب عن الذهن والعقل والحس على السواء. هذه أهم القضايا التي وردت في بقية النص.

شرح العقيدة الطحاوية [12]

شرح العقيدة الطحاوية [12] من جملة القواعد المقررة عند السلف الصالح رضوان الله عليهم الإثبات التفصيلي لكل صفات الكمال لله تعالى، فيما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، والنفي الإجمالي لصفات النقص نفياً يتضمن إثبات كمال ضده لله تبارك وتعالى، واطراح النفي الصرف الذي لا يتضمن ثبوت كمال ضده، وقد اتبعوا في ذلك منهج القرآن الكريم، مخالفين بذلك طريقة أهل الكلام المذموم الذين يعتمدون تقرير العقائد بالسلوب، ويجملون الإثبات ويفصلون النفي الصرف.

بيان كمال قدرة الله عز وجل

بيان كمال قدرة الله عز وجل قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا شيء يعجزه)]. في هذه العبارة تقرير عقيدة السلف؛ إذ عندما كثر الخوض في أمر الاعتقاد وظهرت الفرق، وظهر أهل الأهواء والبدع، ودخلت على الناس المسائل الفلسفية، وكثر الكلام والخوض في العقيدة، خاصة فيما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته؛ اضطر السلف إلى تقرير البدهيات، ومنها ما ذكره الطحاوي هنا، فقوله: (ولا شيء يعجزه) أي: لا شيء يعجز الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر بدهي تقتضيه جميع العقول السليمة، حتى عقول الكفار الذي يعترفون بالله، كاليهود والنصارى وسائر أهل الملل الذين يؤمنون بالله إذا لم تخالطهم فلسفات، فإنهم بالبداهة مقتنعون عقلاً وفطرة بأن الله لا يعجزه شيء، فضلاً عن المسلمين عامتهم وخاصتهم، فإنه من البدهي أن يقال: إن الله لا يعجزه شيء سبحانه؛ لأن هذا مقتضى كونه إلهاً ورباً وخالقاً، ولا تنفك عن ذلك العقول السليمة، ولا الفطر المستقيمة، لكن اضطر السلف لتقرير هذه البدهيات؛ لأن أهل البدع تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته بقواعد عقلانية فلسفية هي أقرب إلى الترهات والخيالات التي هي شبهات من الشيطان. فالجهمية مثلاً -وهم أول من تجرأ على الكلام في ذات الله- طعنوا في حكمة الله تعالى وفي قدرته، ورسموا لله -تعالى عما يقولون وعما يزعمون- صلاحيات، فقالوا: إن الله يقدر على أن يفعل كذا ولا يقدر أن يفعل كذا، وإذا قرر الله بعدله أن يعذب الكافر فلا يقدر على أن يخرجه من النار! عياذاً بالله من ضلالهم. ومن هنا قالوا بعدم خروج أهل الكبائر من النار؛ لأن هذا طعن في قدرة الله، وكأن الله يعجز عن أن يخرج أحداً من النار بعد أن يعذب، وهكذا في سائر القضايا التي هي من سنن الله تعالى أو أحكامه، أو مما حكم الله به وقضاه، فإنهم يزعمون أن الله إذا قضى قضاءً لا يقدر على أن يتخلى عنه. ولم يفرقوا -بل أقول: إنهم ما أدركت عقولهم التفريق- بين قدرة الله تعالى وبين إرادته، فنحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى أراد هذه الأمور، لكنه قادر على غيرها، فلم يفرقوا بين هذا وذاك، فلذلك اضطر السلف -ومنهم الإمام الطحاوي رحمه الله في هذه العقيدة- إلى قول هذا الكلام، وسيأتي مزيد شرح لذلك.

النفي في الكتاب والسنة يتضمن ثبوت كمال ضده

النفي في الكتاب والسنة يتضمن ثبوت كمال ضده قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا شيء يعجزه)؛ لكمال قدرته، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:20]، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف:45]، {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44]، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، {لا يَئُودُهُ} [البقرة:255] أي: لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه، فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده، كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]؛ لكمال عدله، {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ:3]، لكمال علمه، وقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38]، لكمال قدرته، {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، لكمال حياته وقيوميته، {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]؛ لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلا فالنفي الصرف لا مدح فيه].

النفي الصرف لا يقال في حق الله عز وجل

النفي الصرف لا يقال في حق الله عز وجل النفي الصرف هو النفي الذي لا يتضمن ما يقابله، النفي الذي لا يتضمن الضد، أو ضده المعدوم، فهذا النفي لا يعد كمالاً، كنفي الوجود، فغلاة الفلاسفة ينفون عن الله الوجود، والذي لا يوجد هو العدم، فنفي الوجود ليس صفة كمال، بل صفة نقص؛ لأنه نفي صرف لا يتضمن الكمال الذي ضده، لذلك نجد في الأمثلة السابقة أن الله سبحانه وتعالى نفى عن ذاته المقدسة نقصاً لابد من أن يتضمن نفيه ويستلزم إثبات كمال، ولذلك يجتنب النفي الصرف، ككونه لا يرى، وليس في جهة، ونحو ذلك من العبارات التي سيوردها الشارح عن المتكلمين والفلاسفة، فإنهم نفوا نفياً سلبياً لا يتضمن شيئاً من الإثبات، وهذا النفي السلبي لا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى. فالنفي الذي لا يتضمن ضده كنفي الوجود، أو نفي ما يمكن أن يوصف به الكامل؛ فإن هذا النفي الصرف لا مدح فيه. فإذا قلت: هذا الشيء لا يوجد؛ فهذا يعني المعدوم، أو: هذا الشيء لا يرى؛ فالذي لا يرى هو إما الصغير المتناهي في الصغر، أو الذي لا يوجد أصلاً، فالمعدوم لا يرى والصغير المتناهي في الصغر لا يرى. أما الله سبحانه وتعالى فهو يرى، لكن الناس في الدنيا لا يمكن أن يروه؛ لأنهم غير قادرين على الرؤية، فلذلك ثبتت رؤية المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة، أما الذي لا يرى فهو المعدوم، وذلك -أي: نفي الرؤية عن الله جل جلاله- هو مذهب المعتزلة وبعض المتكلمين. وكذلك قولهم: إن الله ليس في جهة، وهذه كلمة تحتاج إلى شيء من التفصيل، لكن الذي ليس في جهة بإطلاق هو المعدوم، أما ما يوجد فلابد من أن يكون في جهة، لكن الجهة يفصل فيها في حق الله تعالى، فإن أريد بالجهة في حق الله العلو والفوقية؛ فالله تعالى هو العلي: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وإن أريد بالجهة المخلوق -أي أن الله يحويه مخلوق- فهذا ليس وارد في حق الله تعالى. وقد سألني أحد الإخوان سؤالاً يتعلق بهذا الموضوع، فقال: إنه سمع أحد الذين كانوا يفسرون بعض آيات القرآن من أهل التأويل يقول بأن الله لا يقال: إنه فوق ولا عالٍ ولا يشار إليه لا بالفوقية ولا بالعلو؛ لأن العلو -بزعمه- ذاتي، وعلو الله معنوي. وأقول: هذا هو مذهب المتكلمين نفاة الصفات أو مؤولة الصفات. أما مذهب السلف -وهو مقتضى الآيات والأحاديث الصريحة الصحيحة- فهو أن الله سبحانه وتعالى في العلو، فإن سميناه جهة فهو جهة، وإذا لم نسمه جهة بالمعنى المخلوق؛ فهذا حق، فلا يسمى العلو جهة بالمعنى المخلوق، فالله سبحانه وتعالى موصوف بالعلو والفوقية، وعلوه وفوقيته ذاتيان، بمعنى أن الله بذاته فوق مخلوقاته، وأن الله مباين ومنفصل عن مخلوقاته بحد، لكن الكيفيات لا نعلمها، ويشار إلى ذلك بالإشارة عند التفهيم، فإذا قيل: قال طفل أو إنسان جاهل: أين الله؟ فلا مانع أن يشار له إلى الفوق، والإشارة تعني الإشارة إلى العلو والفوقية لا الإشارة إلى الذات بمعنى إشارة الرؤية، لكن يشار إلى الذات وإلى العلو بالإشارة العامة التي لا تعني الكيفية، فلا مانع من الإشارة؛ لأن الله فوق، والفوق جهة واحدة لا تتعدد. فالله سبحانه وتعالى لا تحكمه الجهات الست أو الأربع، فهذه الجهات محكومة بها المخلوقات، بل الأرجح -والله أعلم- أن هذه الجهات تحكم بها الأرض فقط. أما ما فوق الأرض؛ فلن يجد الإنسان إلا العلو، ولو ارتفع إنسان عن الأرض مئات الكيلو مترات لما وجد إلا العلو، ولو طار من هذه الأرض وهي تحته فإنه بعد برهة من الوقت سيجد الأرض وكأنها الشمس والقمر فوق، فلا يجد إلا الفوق؛ لأن الأفلاك مستديرة كلها، فعلى هذا عندما يتحرر الإنسان والمخلوق من وجوده في هذه الأرض لا يبقى أمامه إلا العلو. فالله سبحانه وتعالى بكل شيء محيط، {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وهو العليم، ولا حرج على الإنسان في أن يقول هذا، بل يقرره كما قرره السلف، وكما هو مقتضى النصوص الشرعية. أقول هذا لأن بعض الشباب يتلقون أحياناً عن بعض من نشئوا في بيئات مؤولة، فيسمعون منهم ما يشكك في هذه القضية، فأحببت التنبيه عليها بمناسبة الكلام عن صفات الله. قال رحمه الله تعالى: [ألا ترى أن قول الشاعر: قُبَيِّلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله: (قُبَيِّلة)، علم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم]. لأن وجه الكمال في أي مخلوق هو قدرته على الشيء، فإن كان هذا الشيء حسناً ففعله له كمال، وإن كان هذا الشيء سيئاً فتركه له كمال. فلذلك الإنسان قد يمدح بأنه قادر على الظلم ولكنه لم يظلم، فيمدح بذلك. أما إذا كان لا يقدر على الظلم أصلاً فلا يمدح بذلك؛ لأنه عاجز. فالقادر على فعل الشيء يمدح بتركه إذا كان هذا الشيء مذموماً، كما أن القادر على الشيء الممدوح إذا فعله يمدح به. إذاً: فالنفي أحياناً قد يقتضي نقصاً، وإن أراد النافي بذلك التنزيه كما سيأتي في ذكر الصفات التي ذكرها المتكلمون نفياً عن الله

تفصيل الإثبات وإجمال النفي قاعدة قرآنية خالفها أهل الكلام

تفصيل الإثبات وإجمال النفي قاعدة قرآنية خالفها أهل الكلام قال رحمه الله تعالى: [ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً، والنفي مجملاً، عكس طريقة أهل الكلام المذموم، فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل]. طريقة السلف -كما هو معروف- إثبات صفات الله تعالى كما وردت في القرآن والسنة على جهة التفصيل، بمعنى: أن عدد مفردات صفات الله تعالى وأسمائه الواردة في الكتاب والسنة كثيرة جداً، فمثلاً: ورد لأسماء الله تعالى أكثر من تسعة وتسعين، وورد في صفات الله ما هو أكثر من ذلك. إذاً: فإثبات الصفات لله تعالى ورد على جهة التفصيل في الكتاب السنة، فالإشارة إلى العلم والقدرة والقوة والحياة والقيومية وغير ذلك جاءت تفصيلاً. لكن النفي -أي: نفي النقائص- جاء مجملاً؛ لأن الإجمال في نفي المعايب يدخل فيه جميع المعايب. وذكر المعايب بنفيها عن الله تعالى تفصيلاً يعتبر إساءة أدب مع الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يليق في معرض نفي النقائص عن الله تعالى أن نعدد النقائص، إنما تنفى إجمالاً، وهذا هو مقتضى الأدب كما سيأتي في المثال الذي سيضربه الشارح. إذاً: فأهل السنة والجماعة هم على ما جاء في الكتاب والسنة، يثبتون ما أثبته الله تعالى وما أثبته رسوله صلى الله عليه وسلم لله من أسماء وصفات تفصيلاً؛ لأنها وردت مفصلة، لكنهم ينفون نفياً مجملاً، لذلك لو قارنا بين عدد مفردات الأسماء والصفات مع عدد العبارات التي ورد فيها نفي النقائص لوجدنا أن نفي النقائص قليل؛ لأنه إجمالي، كنفي السنة والنوم، ونفي اللغوب، ونفي الولد والوالد ونحو ذلك؛ لأن الكلمة الواحدة في النفي تكفي في نفي جميع النقائص، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلاً والنفي مجملاً، عكس طريقة أهل الكلام المذموم فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل]. يعني بالإثبات المجمل أنهم عندما يتكلمون عن صفات الله تعالى يزعمون أنهم يتورعون عن وصف الله تعالى باليد والوجه والفوقية والعلو والنزول والاستواء، ويصفون الله بصفات مجملة للكمال والتنزيه والتقديس، وهذا حق، لكنهم تورعوا عن الحق أيضاً فوقعوا في النفي والتعطيل أو التأويل. فلذلك لم يثبتوا ما أثبته الله، إنما كان إثباتهم في صفات الله تعالى مجملاً، وعند التفصيل ينكرون أو يؤولون، في حين أنا نجد أنهم إذا نفوا عن الله تعالى النقائص ينفون على جهة التفصيل على وجه تشمئز منه النفس، كما سيأتي.

أمثلة للنفي التفصيلي عند أهل الكلام المذموم

أمثلة للنفي التفصيلي عند أهل الكلام المذموم قال رحمه الله تعالى: [يقولون: ليس بجسم، ولا شبح، ولا جثة، ولا صورة، ولا لحم، ولا دم، ولا شخص، ولا جوهر، ولا عرض، ولا بذي لون، ولا طعم، ولا رائحة، ولا مِجَسَّة، ولا بذي حرارة، ولا برودة، ولا رطوبة، ولا يبوسة، ولا طول، ولا عرض، ولا عمق، ولا اجتماع، ولا افتراق، ولا يتحرك، ولا يسكن، ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان، ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة، ولا ذهاب في الجهات، وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار، ولا تحجبه الأستار إلى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة. وفي هذه الجملة حق وباطل، ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة]. يقصد بالجملة جملة المفردات، ففي جملة هذه الألفاظ حق وباطل، فهم قد ينفون عن الله تعالى النقائص، لكنهم عن طريق ذلك ينفون عن الله تعالى الصفات الثابتة له، فمثلاً: قولهم بنفي الحركة، وهذا حق في الحركة التي تشبه حركة المخلوقات، لكنهم يدخلون فيها ما يتعلق بأفعال الله تعالى وصفاته التي ثبتت، كالنزول والاستواء. فحينما زعموا أنه لا يتحرك أدخلوا في هذا الحق والباطل، أما الحق فنفي الحركة التي تشبه حركة المخلوق، وأما الباطل فنفي ما أثبته الله تعالى لنفسه على ما يليق بجلاله، والله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. وكذلك أدخلوا تحت كلمة (جوارح وأعضاء) حينما نفوا عن الله الجوارح والأعضاء ما ثبت عن الله تعالى في كتابه، كاليد والوجه، وزعموا أنهما أعضاء وجوارح، فمن هنا نوهما عن الله تعالى بسبب قياسهم العقلي الفاسد؛ لأنهم قاسوا الله على الخلق وقاسوا الخلق على الله، وهذا قياس فاسد، فالأولى لهم أن يثبتوا ما أثبته الله لنفسه، لكن على ما يليق بجلاله. فهم حينما نفوا الجوارح والأعضاء أحسنوا من ناحية، وأساءوا من ناحية أخرى، فأحسنوا حينما نفوا عن الله تعالى الجوارح التي كجوارح المخلوقين، والأعضاء التي كأعضاء المخلوقين، لكن في النهاية انتهى أمرهم إلى الإساءة حينما أدخلوا في ذلك نفي ما أثبته الله لنفسه على ما يليق بجلاله، فأنكروا قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، وأنكروا الوجه، وأنكروا غير ذلك من الصفات التي ثبتت لله. وكذلك قولهم: (وليس بذي جهة، ولا يمين ولا شمال ولا أمام ولا خلف ولا فوق ولا تحت). فنفي الجهة اشتمل على حق وعلى باطل، فإن قُصِد بنفي الجهة نفي أن الله سبحانه وتعالى يحويه مكان، بمعنى أن الله غير موجود في مكان من مخلوقاته فهم محقون في نفيه، لكن هذا معنى تنفيه الفطر والعقول السليمة، لكنهم أيضاً زادوا وانتهى أمرهم إلى نفي الفوقية والعلو لله تعالى بذاته. فهم هربوا من التشبيه ووقعوا في التعطيل، مع أنه بإمكانهم أن يثبتوا لله ما أثبته لنفسه من غير تشبيه، والله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وكأنهم نسوا، أو عاقبهم الله بخضوعهم للعقليات والفلسفات بأن أنساهم هذه القاعدة: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ومقتضاها، ومع ذلك هو مستو على عرشه على ما يليق بجلاله، وكذلك قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] على ما يليق بجلاله، وقوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا) على ما يليق بجلاله؛ لأنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. والنزول ليس كنزول المخلوقين، مع أنهم نفوا النزول؛ لأنهم يقولون: لا نعرف من النزول إلا الحركة وتخلية مكان وإشغال مكان آخر. وهذه من لوازم المخلوقين، والله ليس كالمخلوقين، تعالى الله عما يظنون. إذاً: فهم خضعوا لخيالاتهم، ووقعوا في شر مما هربوا منه.

موقف أهل السنة تجاه الألفاظ الشرعية وألفاظ أهل الكلام فيما يوصف الله تعالى به

موقف أهل السنة تجاه الألفاظ الشرعية وألفاظ أهل الكلام فيما يوصف الله تعالى به قال رحمه الله تعالى: [وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه فيه إساءة أدب؛ فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك؛ لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقاً، وإنما تكون مادحاً إذا أجملت النفي فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل، فإذا أجملت في النفي أجملت في الأدب. والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الإلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة، والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات، ولا يتدبرون معانيها، ويجعلون ما ابتدعوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده. وأما أهل الحق والسنة والإيمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق الذي يجب اعتقاده واعتماده، والذي قاله هؤلاء إما أن يعرضوا عنه إعراضاً جملياً، أو يبينوا حاله تفصيلاً، ويحكم عليه بالكتاب والسنة، لا يحكم به على الكتاب والسنة]. يشير بهذا إلى أن ما ذكره الله تعالى، وما ذكره رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته وأفعاله مشتمل على كل كمال وتقديس وتنزيه لله تعالى. ولذلك فإن كل لفظ يطلق على الله تعالى لم يرد لابد من التفصيل فيه؛ لأنه لا يمكن عقلاً وشرعاً أن يتصور أن يأتي الناس بألفاظ كمال لله تعالى أعظم مما جاء في القرآن والسنة، بل يستحيل أن يأتي الناس -بأي لغة نطقوا وبأي خيال تخيلوا، وبأي عقول فكروا- بكمال أعظم مما ذكره الله عن نفسه. بل لله تعالى من الأسماء التي ذكرها والصفات التي ذكرها ما يشمل كل كمال متخيل أو متصور، فضلاً عن أن ينطق به. فإذا كان الأمر كذلك فعلام الخوض في ذات الله وأسمائه وصفاته؟ هل سيأتي الناس بصفات أعظم مما أخبر الله به عن نفسه، أو بأسماء أعظم مما أخبر به الله عن نفسه؟! يستحيل هذا. وهل الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى أن يعظم ويقدس بأعظم مما قدس وعظم به نفسه وعظمته به رسله؟! وبناءً على هذه القاعدة وعلى هذا التصور السليم لأهل السنة والجماعة الذين وقفوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ بناءً على هذا فكل لفظ يرد على ألسنة البشر أو يتوهمونه في خيالاتهم في الصفات والأسماء لابد من التفصيل فيه، فلا يمكن أن يقبل بإطلاق، ولا يرفض بإطلاق؛ لأنه قد يشتمل على بعض كمال يثبت لله تعالى بعد التفصيل، لكنه لن يخلو من النقص. فلذلك توقف السلف في كلمات هي حق في أسماء الله وصفاته، لكنها قد توهم، توقفوا فيها لأنها لم ترد في الكتاب والسنة، مثل كلمة (القديم)؛ لأن كلمة (القديم) أطلقها السلف في معرض الرد وصفاً لاسم الله تعالى الأول، فقالوا في وصف اسم الله تعالى الأول: قديم بلا ابتداء، لكنهم لا يفردون كلمة (قديم) نظراً لأنها تتضمن معنيين: أحدهما يعني الكمال، والآخر يعني النقص. أما الكمال فالقديم هو الأول الذي ليس قبله شيء. وأما النقص فقد يكون القديم معناه: المتهالك الذي مضى عليه الزمن فأصبح بالياً، فهذه الكلمة التي يعتز بها الفلاسفة والمتكلمون هي كلمة ناقصة، لا يمكن أن ترقى إلى درجة ما تكلم الله به أو تكلم به رسوله صلى الله عليه وسلم من أسماء الله وصفاته. وعليها تقاس جميع الألفاظ التي ترد على ألسنة المتكلمين، فلذلك ينبغي على كل مسلم وكل طالب علم أن يحرص على أن يتشبع بعقيدة السلف قبل أن يقرأ كتب المتكلمين إذا قُدِّر أن يبتلى بحكم التخصص أو حاجة المسلمين، فعليه أن يتشبع بمذهب السلف في العقيدة قبل أن يقرأ أو يتعرض لقراءة كتب المتكلمين وأهل الافتراق، خاصة في الجوانب التي خالفوا فيها السلف، سواءٌ المعطلة كالجهمية والمعتزلة، والمؤولة كالأشاعرة والماتريدية فيما أولوا فيه وخالفوا فيه السلف؛ فإن عقائدهم -أي: المؤولة من الماتريدية والأشاعرة- تشتمل على نوعين: نوع يوافقون فيه السلف، ومن ذلك ما يتعلق بالصحابة وكثير من مسائل الإمامة، وبعض مسائل القدر، والكفر، والفسق، وأهل الكبائر، والشفاعة، والحوض، والميزان، والصراط، والرؤية ونحو ذلك، يوافقون السلف فيه، وهم في هذا من أهل السنة والجماعة. لكنهم يخالفون في جوانب أخرى، مثل بعض مسائل صفات الله وأسمائه، أو بعض مسائل القدر، أو بعض السمعيات، فعلى المسلم ألا يتلقى عنهم ذلك وإن كانوا يعدون من الأئمة، فلا يتلقى عنهم ما خالفوا فيه السلف في التأويل.

السلب والنفي منهج بارز في عقائد المتكلمين

السلب والنفي منهج بارز في عقائد المتكلمين قال رحمه الله تعالى: [والمقصود: أن غالب عقائدهم السلوب: ليس بكذا، ليس بكذا، وأما الإثبات فهو قليل، وهو أنه عالم قادر حي، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات؛ فإن الله تعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي، ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله مما أخبرنا به من صفاته، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه، كما قال رسوله الصادق صلى الله عليه وسلم في دعاء الكرب: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي)، وسيأتي التنبيه على فساد طريقتهم في الصفات إن شاء الله تعالى].

توجيه النفي في قول الطحاوي: (ولا شيء يعجزه)

توجيه النفي في قول الطحاوي: (ولا شيء يعجزه) قال رحمه الله تعالى: [وليس قول الشيخ رحمه الله تعالى: (ولا شيء يعجزه) من النفي المذموم؛ فإن الله تعالى قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44]. فنبه سبحانه وتعالى في آخر الآية على دليل انتفاء العجز، وهو كمال العلم والقدرة؛ فإن العجز إنما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل، وإما من عدم علمه به، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهو على كل شيء قدير. وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه، فانتفى العجز لما بينه وبين القدرة من التضاد؛ ولأن العاجز لا يصلح أن يكون إلهاً، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً].

شرح العقيدة الطحاوية [13]

شرح العقيدة الطحاوية [13] لا يعلم كيفية الله وصفاته إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وما خاض الناس فيه بغير ما ورد في الكتاب والسنة الصحيحة فإنما هو أوهام وتخرصات، وإثبات الصفات لله هو منهج أهل السنة والجماعة، لكنه إثبات لها بما لا يشابه صفات المخلوقين، فهو سبحانه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وصفاته جل وعلا صفات كمال لا يلابسه نقص، وكما أنه سبحانه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته فكذلك لا يشبهه شيء من مخلوقاته.

بيان معنى كلمة التوحيد

بيان معنى كلمة التوحيد قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا إله غيره): هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلها، كما تقدم ذكره. وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر؛ فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الاحتمال؛ ولهذا -والله أعلم- لما قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة:163]، قال بعده: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة:163]؛ فإنه قد يخطر ببال أحد خاطر شيطاني: هب أن إلهنا واحد، فلغيرنا إله غيره، فقال تعالى: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:163]].

ذكر ما قيل في تقدير الخبر في كلمة التوحيد

ذكر ما قيل في تقدير الخبر في كلمة التوحيد قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر في: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:163]، فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفياً لوجود الإله، ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى. وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في (ري الظمآن)، فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن (إله) في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلابد من خبر للمبتدأ، وإلا فما قاله من الاستغناء عن الإضمار فاسد، وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفياً للماهية؛ فليس بشيء؛ لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية ولا وجود، وهذا مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية من الوجود، و (إلا الله) مرفوع بدلاً من (لا إله)، لا يكون خبراً لـ (لا)، ولا للمبتدأ. وذكر الدليل على ذلك].

سبب الخلاف في تقدير الخبر في كلمة التوحيد

سبب الخلاف في تقدير الخبر في كلمة التوحيد هناك كلام لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أورده المحقق في الهامش، وأحب أن أشير قبل ذكره إلى السبب في الخلاف في تقدير المضمر أو في تقدير الخبر في مسألة لا إله إلا الله، أو: لا إله غيره. فسبب الخلاف في هذه التقديرات ناشئ عن مذاهب الناس في التوحيد. فالباطنية والفلاسفة وغلاة المتكلمين يقدرون العبارة هكذا: لا إله موجود، وهذا تقدير ناشئ عن تصورهم أن غاية ما يمكن أن يثبت لله من التوحيد هو إثبات الوجود، وما يستلزمه من لوازم أخرى عند المتكلمين. وطائفة أخرى -ومنهم أغلب المتكلمين، وبعض من ينتسب للسنة- قدروا التقدير الثاني، ولم يذكره هنا ولكنه أشار إليه، فقالوا بأن المقصود تقدير الخالق، أي: لا إله خالق وموجد أو رب غير الله. وهناك تقدير ثالث أيضاً قال به بعض المتكلمين، وهو: (لا إله إلا الله) بلا تقدير، فقالوا: لا داعي للتقدير، فنفوا الإلهية عن غير الله تعالى مطلقاً، وهذا قريب من الحق، لكن لا يتم به المعنى اللغوي؛ لأنه لا يتم المعنى اللغوي إلا بتقدير. فلذلك الذي عليه جمهور أهل السنة والجماعة أن تقدير الكلام: لا إله بحق، أو لا إله حق، أو معبود بحق، فكلها عبارات متقاربة صحيحة، لا إله معبود بحق، أو لا إله حق، أو لا إله بحق إلا الله؛ لأنه ليس المقصود مجرد نفي الآلهة؛ لأنه يوجد في البشر من يعبد آلهة غير الله، وإن كانت آلهة لا تستحق العبادة، لكنها موجودة، إذاً: فنفي الوجود لآلهة غير الله ينافي الواقع؛ لأن هناك من يعبد غير الله ويزعم أنه إله. وكذلك نفي الماهية، وهو نفي الإلهية مطلقاً دون أن تقيد لا معنى له ولا يتم به المعنى اللغوي. وكذلك تقدير المتكلمين بأنه لا إله خالق أو رازق أو مدبر، أو لا إله يستحق الربوبية غير الله، فهذا تقدير ناقص؛ لأنه ليس المقصود نفي الربوبية؛ لأن نفي الربوبية عن غير الله مما يعترف به المشركون، يعترفون بأنه لا رب -أي: لا رزاق ولا خالق- إلا الله، إنما جاء النفي في الرد على المشركين، أي: نفي المعبودين من دون الله سبحانه، وهذا هو الذي نزل من أجله القرآن؛ لأن الله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأول ركائز الهدى: الدعوة إلى توحيد الله في العبادة، وهو الذي نازع فيه المشركون، بل نازعت فيه جميع الأمم التي خالفت الأنبياء، نازعت في طاعة غير الله وفي عبادة غير الله، وجعلت غير الله معبوداً من دون الله، وجعلت غير الله مطاعاً من دون الله، فلذلك جاء القرآن للرد عليهم، ولتقرير الإلهية بمعنى العبودية لله سبحانه وتعالى. إذاً: إذا قيل: لا إله غيره. فالمعنى: لا إله يعبد ويستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى.

تعليق ابن باز على ما قيل في تقدير الخبر في كلمة التوحيد

تعليق ابن باز على ما قيل في تقدير الخبر في كلمة التوحيد وقبل أن نستكمل بقية الشرح يناسب أن نقرأ ما نقل هنا من تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى. قال الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله تعليقاً على هذا الكلام من شرح الطحاوية: [ما قاله صاحب المنتخب ليس بجيد، وهكذا ما قاله النحاة وأيده الشيخ أبو عبد الله المرسي من تقدير الخبر بكلمة (في الوجود)، ليس بصحيح؛ لأن الآلهة المعبودة من دون الله كثيرة وموجودة، وتقدير الخبر بلفظ (في الوجود) لا يحصل به المقصود من بيان أحقية ألوهية الله سبحانه وبطلان ما سواها؛ لأن لقائل أن يقول: كيف تقولون: لا إله في الوجود إلا الله، وقد أخبر الله سبحانه عن وجود آلهة كثيرة للمشركين، كما في قوله سبحانه: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [هود:101]، وقوله سبحانه: {فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف:28] الآية؟! فلا سبيل إلى التخلص من هذا الاعتراض، وبيان عظمة هذه الكلمة، وأنها كلمة التوحيد المبطلة لآلهة المشركين وعبادتهم من دون الله إلا بتقدير الخبر بغير ما ذكره النحاة، وهو كلمة (حق)؛ لأنها هي التي توضح بطلان جميع الآلهة وتبين أن الإله الحق والمعبود الحق هو الله وحده، كما نبه على ذلك جمع من أهل العلم، منهم: أبو العباس ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم وآخرون رحمهم الله. ومن أدلة ذلك قوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62]، فأوضح سبحانه في هذه الآية أنه هو الحق، وأن ما دعاه الناس من دونه هو الباطل، فشمل ذلك جميع الآلهة المعبودة من دون الله من البشر والملائكة والجن وسائر المخلوقات. واتضح بذلك أنه المعبود الحق وحده، ولهذا أنكر المشركون هذه الكلمة وامتنعوا من الإقرار بها؛ لعلمهم بأنها تبطل آلهتهم؛ لأنهم فهموا أن المراد بها نفي الألوهية بحق عن غير الله سبحانه؛ ولهذا قالوا جواباً لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لما قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله): {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5]، وقالوا أيضاً: {أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات:36]. وما في معنى ذلك من الآيات، وبهذا التقرير يزول جميع الإشكال ويتضح الحق المطلوب. والله ولي التوفيق]. قال رحمه الله تعالى: [وليس المراد هنا ذكر الإعراب، بل المراد دفع الإشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة، وهو فاسد؛ فإن قولهم: في الوجود ليس تقييداً؛ لأن العدم ليس بشيء، قال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9]، ولا يقال: ليس قوله: (غيره)، كقوله: (إلا الله)؛ لأن (غير) تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد (إلا)، فيكون التقدير للخبر فيهما واحداً، فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا].

بيان أن الله عز وجل هو الأول والآخر

بيان أن الله عز وجل هو الأول والآخر قال رحمه الله تعالى: [قوله: (قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء): قال الله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد:3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)، فقول الشيخ رحمه الله: (قديم بلا ابتداء دائم بلا انتهاء) هو معنى اسمه الأول والآخر]. يقصد بذلك أنها شرح للفظتي (الأول) و (الآخر)، لا يقصد أن المعنى يثبت به اسم، إنما هو شرح لمعنى (الأول) ولمعنى (الآخر).

الدليل العقلي على ثبوت اتصاف الله تعالى بالأول والآخر

الدليل العقلي على ثبوت اتصاف الله تعالى بالأول والآخر قال رحمه الله تعالى: [والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لابد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته قطعاً للتسلسل]. قوله: [واجب الوجود لذاته] مجاراة للمتكلمين في التعبير؛ لأنه يقصد الرد عليهم، وبعض الأئمة يتسامح في مجاراة المتكلمين في ألفاظهم إذا كان المقصود الرد عليهم، أو بيان باطلهم، أو إزالة الشبه التي يثيرونها، وإلا فكلمة (واجب الوجود) كلمة فلسفية، وهي تعني: الإقرار بوجود الله ضرورة، بمعنى: أن العقل السليم والفطرة لابد من أن ينتهيا إلى ضرورة الإقرار بالموجود الأول الذي أوجد غيره، فمعنى الوجوب هنا: الضرورة العقلية التي تستلزم وتلزم بأنه لابد من وجود خالق لا يسبق بوجود آخر قطعاً للتسلسل. ومعنى التسلسل هنا تسلسل الموجب؛ لأنَّا لو افترضنا أن إنساناً توهم باطلاً فقال: لابد للخالق الأول من خالق، ثم تقرر في وهمه ذلك؛ فإنه ينشأ وهم آخر بناءً على هذه الشبهة، وهو لابد للخالق أيضاً من خالق، ثم لابد للخالق من خالق، وهكذا، وهذا ممنوع عقلاً، أي أن العقل يقضي بضرورة نفيه ومنعه، إذاً: فلابد من الإقرار بأن الله سبحانه وتعالى الخالق الأول الذي ليس قبله شيء، وهذا الإقرار عقلي يقتضيه العقل، أي أن الله تعالى أول لا بداية له ولا نهاية له، ولا يمكن توهم أو تصور أن للخالق خالقاً، وإن توهم فمن باب ما يدخله الشيطان من شبهات على الناس، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سيأتي إلى: أن الإنسان قد يأتيه الشيطان ويقول له: من خلق الله، فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأن هذا أمر تنفيه الفطرة السليمة وينفيه العقل، فإنه لا يمكن أن يرد هذا السؤال؛ لأنه لو ورد لورد مثله في الخالق الأول، ثم هكذا إلى ما لا نهاية، وهذا يمتنع؛ لأنه لا يقطع التصور بهذا. قال رحمه الله تعالى: [فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة؛ فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها؛ فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلاً للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]]. هذا السؤال الذي ورد في القرآن الكريم هو سؤال الفطرة والعقل السليم، وجوابه بدهي لا يحتاج إلى تكلف، والقرآن نزل لجميع الناس بجميع أفهامهم ودرجات فهمهم، وهو -أي: كتاب الله- منزه عن التعقيد وعن التطويل وعن الغموض، ففيه كامل الوضوح، فمثل هذا السؤال يغني عن جميع فلسفات المتفلسفة وكلام المتكلمين وتكلف المتكلفين في إثبات وجود الله؛ لأنه يخاطب الفطرة والعقل السليم، فكل إنسان يورد هذه السؤال بجد ويتمعن فيه يجد أن الجواب واضح، حيث يقول تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35] ولابد من أن يكون خلقوا من شيء، ولابد أن يكون هذا الشيء له موجد وهو الله سبحانه وتعالى، فالمخلوق لابد له من خالق. وفي الشق الثاني يقول تعالى: {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]، وكل عقل وفطرة سليمين يدركان أنهم ليسوا هم الخالقين، ولا يمكن أن يتأتى ولا أن يتصور أن يكون المخلوق هو الذي خلق نفسه؛ يدرك ذلك المخلوق العاقل، فكيف بغير العاقل؟! فالمخلوق العاقل يجد ضرورة في نفسه أنه بحاجة إلى غيره، وأن وجوده متوقف على موجد له، وهذا الإنسان قبل أن يعقل نشأ وترعرع بخلق الله ورعايته وقدرته، ثم لما عقل عرف أنه قبل أن يعقل لم يوجد نفسه؛ لأنه لا قدرة له في أمور أقل من الوجود، لا قدرة له في أن يبقى على الحياة، ولا في أن يدفع عن نفسه المرض ولا الفناء، ولا قدرة له في أن يتحكم في أي أمر من الأمور اللاإرادية التي أوجدها الله فيه. إذاً: فمن باب أولى ألا يتصور أنه خلق نفسه. فمثل هذه الأسئلة أسئلة مباشرة تمس الفطرة والعقل السليم مباشرة، ولا تحتاج إلى تكلف، لا في الفهم ولا في الجواب. وجوابها بدهي لا يحتاج إلى كثير تفكير، بخلاف ما يسميه المتكلمون أدلة، أو يسمونه براهين ودلائل على وجود الله، ففيه التكلف كل التكلف، لأنها أدلة تنشأ من شبهات ثم ترد على الشبهات، وفي الغالب أن أي شبهة تنشأ في أمر غيبي لا يمكن أن يكون الجواب عليها إلا بالوحي أو بعقل يسترشد بالوحي، أما بمجرد قوة العقل فيستحيل لعاقل أن يدرك أسرار الغيب. قال رحمه الله تعالى: [يقول سبحانه: أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم؟ ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجوداً بنفسه، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوماً، وكل ما أمكن وجوده بدلاً عن عدمه وعدمه بدلاً عن وجوده؛ فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له].

بيان حصول الغنية بطريقة القرآن عن طريقة المتكلمين في إثبات انتهاء المخلوقات إلى موجدها جل جلاله

بيان حصول الغنية بطريقة القرآن عن طريقة المتكلمين في إثبات انتهاء المخلوقات إلى موجدها جل جلاله قال رحمه الله تعالى: [وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية؛ وجد الصواب منها يعود إلى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان:33]. ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والأدلة الطويلة؛ فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره، ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى]. الملحد الذي ينكر وجود الخالق أو ينكر أمراً من الأمور القطعية التي جاء بها الوحي قد يحتاج إلى المقدمات المنطقية والعقلية من أجل أن يقر إذا أراد الله له الهداية، أما المسلم فلا يتأتى منه أن يحتاج إلى المقدمات؛ لأنه مسلم ابتداء، والإسلام معناه الخضوع والتسليم لله سبحانه وتعالى بالتصديق أولاً، ثم بالالتزام والامتثال ثانياً، فإذا كان كذلك فلا يتأتى لمسلم أن يظن أنه يحتاج إلى مقدمات طويلة منطقية تقوي ثقته بوجود الله، أما في الأمور الأخرى فقد يحتاج المسلم إلى أن يعرف بعض العلل وبعض الحكم ليزيد إيماناً. أما فيما يتعلق بوجود الله فالمسلم مُسلِّم بفطرته وعقله بوجود الله، ولا يحتاج إلى الأدلة المنطقية المعقدة، وإن لجأ إليها فلا بد من أن يكون في قلبه من الشك بقدر ما لديه مما يسميه أدلة، كل مسلم يلجأ إلى الأدلة العقلية والمنطقية المعقدة في إثبات وجود الله فإنه لا بد من أن يكون في قلبه من الشك بقدر ما لجأ إليه من الأدلة والبراهين، وكلما سَلَّم بفطرته وعقله سلم إيمانه ووقر في قلبه الإيمان. أما غير المسلم أو الشاك أو المضطرب فقد يحتاج إلى الأدلة المعقدة بقدر مستوى تفكيره، وقد يهتدي وقد لا يهتدي، فإنما الهداية بيد الله؛ فإن البراهين لا تغني عمن ختم الله على قلبه. قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فالمقدمات وإن كانت خفية فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته بالبحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة، ولا شك أن العلم بإثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية]. استعمال كلمة (الصانع) -كما أسلفنا في درس سابق- إنما هو مجاراة المتكلمين من باب الرد عليهم أو إلزامهم بألفاظهم وقواعدهم، وإلا فالأولى أن يقال: الخالق؛ لأن كلمة (الخالق) أصدق وأقرب، فهي من ألفاظ الشرف وهي أقرب إلى الفطرة والعقل السليم، فالخالق هو المبدع الموجد، وأما الصانع فلفظ مشترك بين الخالق والمخلوق، وإن كانت في حق الخالق إذا أطلقت عليه تليق بجلاله سبحانه، لكنها من الألفاظ التي لم ترد في الشرع، بمعنى أن من أسماء الله الصانع، وإن وردت بمعنى فعل الله سبحانه وتعالى، لكنها ليست من أسماء الله، فالأولى أن يقال: الخالق؛ لأنها من الألفاظ الخاصة بالله سبحانه وتعالى.

خطأ المتكلمين في إدخال: (القديم) في أسماء الله جل جلاله

خطأ المتكلمين في إدخال: (القديم) في أسماء الله جل جلاله قال رحمه الله تعالى: [وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى: القديم، وليس هو من أسماء الله تعالى الحسنى؛ فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن: هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم للعتيق، وهذا حديث للجديد، ولم يستعمل هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الحديث قيل للأول: قديم، وقال تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11] أي: متقدم في الزمان، وقال تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء:57 - 56] فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه: القول القديم والجديد للشافعي رحمه الله تعالى، وقال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ} [هود:98] أي: يتقدمهم، ويستعمل منه الفعل لازماً ومتعديا، كما يقال: أخذني ما قدم وما حدث، ويقال: هذا قدم هذا وهو يقدمه. ومنه سميت القدم قدماً؛ لأنها تقدم بقية بدن الإنسان. وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام، وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف، منهم ابن حزم، ولا ريب أنه إذا كان مستعملاً في نفس التقدم؛ فإن ما تقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره، لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى. وجاء الشرع باسمه الأول، وهو أحسن من القديم؛ لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له، بخلاف القديم. والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة. قوله: (لا يفنى ولا يبيد): إقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]. والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضاً مقرر ومؤكد لقوله: (دائم بلا انتهاء)]. سنترك الكلام عما ذكره المؤلف في القدر؛ لأن البحث فيه صعب ومتكرر، وسننتقل إلى قوله: (لا تبلغه الأوهام).

تنزه الله جل جلاله عن أن تبلغه أوهام المتوهمين وأفهامهم

تنزه الله جل جلاله عن أن تبلغه أوهام المتوهمين وأفهامهم قال رحمه الله تعالى: [قوله: (لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام): قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، قال الجوهري في الصحاح: توهمت الشيء: ظننته، وفهمت الشيء: علمته. فمراد الشيخ رحمه الله: أنه لا ينتهي إليه وهم، ولا يحيط به علم. قيل: الوهم ما يرجى كونه، أي: يظن أنه على صفة كذا، والفهم: هو ما يحصله العقل ويحيط به. والله تعالى لا يعلم كيف هو سبحانه إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وهو أنه أحد، صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [البقرة:255]، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:23 - 24]]. هذه الإشارة التي أشار إليها الإمام الطحاوي رحمه الله ثم شرحها الشارح، وهي قوله: (لا تبلغه الأوهام) فيها تصريح بأن كل ما خاض فيه الناس من أسماء الله وصفاته بغير ما ورد في الكتاب والسنة والآثار الصحيحة إنما هو أوهام، وهذا هو الحق. فكل خوض في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي سائر أمور الغيب بما لم يرد في الكتاب والسنة، ولا فيما فهمه أئمة السلف من المفاهيم القطعية لهذه النصوص؛ إنما هو أوهام، والأوهام لا تعتقد، بل هي رجم بالغيب، وهي إساءة أدب في حق الله سبحانه وتعالى، بل هي اتباع للمتشابه وإلحاد في كلام الله وأسمائه وصفاته. فما تكلم به المتكلمة من الجهمية والمعتزلة، ثم من متكلمي الأشاعرة والماتريدية والكلابية، ومن نحا نحوهم من الذين تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير ما قاله السلف بناءً على النصوص الشرعية، كل ذلك إنما هو خوض بالأوهام، حيث توهموا أموراً في أذهانهم فجعلوها عقيدة، ولذلك نجد أنهم يسمون أوهامهم علم التوحيد، وهذا هو السائد عند أغلب هؤلاء، تجدهم إذا عرفوا علم التوحيد قالوا: هو الكلام. ويقصدون بالكلام أوهامهم التي توهموها وقالوها بغير حق في الله سبحانه وتعالى. إذاً: الإشارة إلى الأوهام هنا فيها تأكيد على أن ما قاله الناس في الله تعالى وأسمائه وصفاته من غير ما ورد في النصوص إنما هو توهمات، والتعويل عليه إنما هو تعويل على الوهم الذي لا أصل له، بل هو الباطل.

تنزه الله جل جلاله عن مشابهة خلقه

تنزه الله جل جلاله عن مشابهة خلقه قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا يشبه الأنام) هذا رد لقول المشبهة الذين يشبهون الخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى، قال عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع، فمن كلام أبي حنيفة -رحمه الله- في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئاً من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه. ثم قال بعد ذلك: وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا. انتهى. وقال نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه. وقال إسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم. وقال: علامة جهم وأصحابه دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب أنهم مشبهة، بل هم المعطلة. وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة؛ فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبهاً، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة القرامطة والفلاسفة، وقال: إن الله لا يقال له: عالم ولا قادر؛ يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه؛ لأن الاشتراك في الاسم يوجب الاشتباه في معناه، ومن أثبت الاسم وقال: هو مجاز -كغالية الجهمية- يزعم أن من قال: إن الله عالم حقيقة، قادر حقيقة؛ فهو مشبه، ومن أنكر الصفات وقال: إن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام ولا محبة ولا إرادة؛ قال لمن أثبت الصفات: إنه مشبه، وإنه مجسم. ولهذا كتب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم كلها مشحونة بتسمية مثبتي الصفات مشبهة ومجسمة]. الرافضة -كما هو معلوم- هم أول من قال بالتشبيه والتجسيم كما قالت اليهود، فأول من أعلن التشبيه والتجسيد الكفري الذي استعاذ منه السلف وكفروا أصحابه هم طوائف من الرافضة، كـ هشام بن سالم الجواليقي وهشام بن الحكم وداود الجواربي ومن نحا نحوهم، هؤلاء كلهم رافضة، بل كان التشبيه في آخر القرن الثاني الهجري وما بعده لا يعرف إلا في الرافضة، ثم بعد ذلك - أي: في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع - تحولت الرافضة إلى جهمية معطلة وانقسمت فيما بينها، فلما تحولت إلى جهمية معطلة سمت أهل السنة بالحشوية والمشبهة؛ لأنهم أخذوا بمذهب المعتزلة والجهمية، أي: صاروا معتزلة في أصول الاعتقاد.

رمي الجهمية لأهل السنة بالتجسيم

رمي الجهمية لأهل السنة بالتجسيم قال رحمه الله تعالى: [ويقولون في كتبهم: إن من جملة المجسمة قوماً يقال لهم: المالكية، ينسبون إلى رجل يقال له: مالك بن أنس، وقوماً يقال لهم الشافعية، ينسبون إلى رجل يقال له: محمد بن إدريس. حتى الذين يفسرون القرآن منهم -كـ عبد الجبار والزمخشري وغيرهما- يسمون كل من أثبت شيئاً من الصفات وقال بالرؤية مشبهاً، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف]. يشير بهذا إلى أن المؤولة -كمؤولة الأشاعرة ومؤولة الماتريدية والكلابية- يسمون أهل السنة والجماعة بالمشبهة والمجسمة، وقد نبتت نابتة من غلاة الأشاعرة المتأخرين ما فتئت تطلق على أهل السنة لفظ (الحشوية) بأسلوب فيه سخرية ولمز، حتى لأئمة السنة الكبار أهل الحديث المشهورين، بل منهم من تجرأ على متأخري الصحابة وقال: بأن هؤلاء رووا للناس أحاديث الحشوية، ويقصد أحاديث الصفات. إذاً: ليس الجهمية والمعتزلة الذين يلمزون أهل السنة بذلك فقط، بل المتكلمون من الأشاعرة يقولون لأهل السنة إلى اليوم بأنهم حشوية، ويقولون بأنهم مشبهة ومجسمة، وهذا أيضاً كثر أخيراً عندما بدأت تظهر مؤلفاتهم وبدءوا يقررون مذهبهم مقابل مذهب أهل السنة والجماعة في الآونة الأخيرة. والخلاصة أن مسألة التشبيه من الألفاظ التي أصبحت تلعب بها الفرق، فالغلاة جداً في التعطيل -كغلاة الجهمية وكالقرامطة والباطنية- يسمون كل من أثبت شيئاً من الأسماء والصفات مشبهاً، حتى إن غلاة الجهمية يسمون المعتزلة مشبهة؛ لأنهم أثبتوا الأسماء. ثم بعد ذلك تأتي في الدرجة الثانية المعتزلة نفسها، فالمعتزلة تثبت الأسماء وتنكر الصفات، وتخالف المعطلة، بمعنى: أنها تثبت شيئاً، فالمعتزلة يقولون لأهل السنة والجماعة وللماتريدية وللأشاعرة وللكلابية بأنهم مشبهة ومجسمة وحشوية. وفي الدرجة الثالثة من دون المعتزلة، وهم الذين تأثروا بالمقولات الجهمية في مسألة التأويل، أخذوا جانب التأويل من الجهمية والمعتزلة، وهم المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية والكلابية ومن نحا نحوهم، فهؤلاء -نظراً لأنهم يؤولون بعض الصفات- يقولون لأهل السنة -لأنهم يثبتونها كما أثبتها الله لنفسه وكما أثبتها الرسول صلى الله عليه وسلم له- بأنهم مشبهة وحشوية ومجسمة.

مراد علماء السنة بنفي التشبيه

مراد علماء السنة بنفي التشبيه قال رحمه الله تعالى: [ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين: أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات، بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما تقدم من كلام أبي حنيفة أنه تعالى يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، وهذا معنى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] فنفى المثل وأثبت الوصف. وسيأتي في كلام الشيخ إثبات الصفات؛ تنبيهاً على أنه ليس نفي التشبيه مستلزماً لنفي الصفات]. يعني بذلك أنا إذا قولنا بقول الله تعالى عن نفسه: أنه ليس كمثله شيء؛ فهذا لا يعني أننا ننفي صفاته، بل نثبتها كما أثبتها الله لنفسه، وإذا أثبتنا صفات الله سبحانه وتعالى فلا يعني أنا نقول: إنها تشبه صفات المخلوقات، بل القاعدة هي التي دلت عليها الآية الكريمة: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ))؛ فيقاس على هذا بقية الصفات التي وردت في الكتاب والسنة.

الاستدلال بقياس الأولى في إثبات كل كمال لله ونفي كل نقص عنه سبحانه

الاستدلال بقياس الأولى في إثبات كل كمال لله ونفي كل نقص عنه سبحانه قال رحمه الله تعالى: [ومما يوضح هذا: أن العلم الإلهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده]. قياس التمثيل هو إلحاق الشيء بنظائره التي هي مثله تماماً، وقياس الشمول هو إدخال الشيء الواحد في حكم عام تدخل فيه أشياء أخرى مشتركة، كالحيوانية بين البهائم والإنسان. قال رحمه الله تعالى: [فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها، ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الإلهية لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والاضطراب؛ لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافؤها، ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلاً أو شمولاً، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60]، مثل أن يعلم أن كل كمال ثبت للمكن أو للمحدث، ولا نقص فيه بوجه من الوجوه -وهو ما كان كمالاً للوجود غير مستلزم للعدم بوجه- فالواجب القديم أولى به]. الأولى أن يقال: فالله سبحانه وتعالى أولى به. يعني: أنَّ كل كمال تقرر الفطر السليمة والعقول السليمة أنه كمال؛ فالله أولى به، لكن هذا يندرج تحت ألفاظ كتاب الله وألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا مما ينبغي أن يعلم؛ لئلا يأتينا جاهل ويقول: أنا أثبت كمالات لله تعالى لم ترد في الكتاب والسنة، فنقول له: لا. فكل كمال تعترف العقول السليمة والفطر المستقيمة بأنه كمال مما اشتملت عليه ألفاظ القرآن وألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالله تعالى؛ فالله أولى به. قال رحمه الله تعالى: [وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه ثبت نوعه للمخلوق المربوب المدبر؛ فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، فهو أحق به منه، وأن كل نقص وعيب في نفسه -وهو ما تضمن سلب هذا الكمال- إذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات؛ فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الأولى].

تناقض غلاة نفاة الصفات في نفيهم ما ثبت من صفات الله ودعوتهم للتشبه بالإله على قدر الوسع

تناقض غلاة نفاة الصفات في نفيهم ما ثبت من صفات الله ودعوتهم للتشبه بالإله على قدر الوسع قال رحمه الله تعالى: [ومن أعجب العجب: أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات أو الأسماء، ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا ولا يكون كذا، ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله) فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيءٍ يتخلق العبد على زعمهم؟!]. يظهر لي -والله أعلم- أن أصل العبارة: (ويروي)، يقصد أن هذه الطائفة تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تخلقوا بأخلاق الله)؛ لأن هؤلاء زعموا أن الإنسان قد يرتقي بالارتقاء الكمالي، ويسمون ذلك: الإنسان الكامل تبعاً للفلاسفة اليونانيين وغيرهم الذين زعموا أن الإنسان قد يرتقي إلى درجة توصله إلى الوحدة والحلول والاتحاد بالله تعالى، وهذا ما أشار إليه المؤلف، فهؤلاء جاءوا متأخرين في آخر القرن الثالث الهجري، وكانوا أيضاً لا يعرفون الحديث ولا الآثار، بل هم من أجهل الناس مع شهرتهم عند الناس، من أجهل الناس بالآثار، فكانوا يتلقفون الأحاديث الموضوعة، بل أحياناً يضعون أحاديث من عند أنفسهم كما فعل ابن عربي، فـ ابن عربي يسرد بلا سند -بزعمه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحال أنه عن الشيطان، ثم يقول ما شاء، وأحياناً يصل الحديث إلى ثلاثين صفحة أو أربعين، أحاديث لم نعرف مثلها في السنة، بل هناك كتب كاملة، مثل كتاب الوصايا الذي قال عنه ابن عربي الهالك -نسأل الله العافية- بأن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه في المنام وقال له: أخرج هذا للناس. وقد جعل فيه نوعاً من التلبيس، حيث يبدأ الكتاب بتقرير عقيدة أهل السنة والجماعة، حتى إنَّ من يقرأه من الناشئة أو الجهلة أو المثقفين والمفكرين الذين لا يفقهون العقيدة يقول: هذا بقية الصالحين. حيث يقرر مذهب السلف أكثر مما قرره كثير منهم، ثم يتدرج بالقارئ إلى الكفر الصريح، ويزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بأن يخرج هذا الكتاب للناس. فهذه الفئة هي التي قالت بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وهي التي نزعت إلى هذه النزعة التي تزعم بأن الإنسان بإمكانه أن يرتقي إلى صفات الإلهية ويتخلق بأخلاق الله تعالى، لا بمعنى الفضائل، لكن بمعنى الوصول إلى القداسة. وهذا كلام الباطنية والفلاسفة المتأخرين الذين يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، وقد نكب بهم الإسلام، وكذلك غلاة الصوفية المتأخرين، فهذا الكلام كثر بعد القرن الثالث في الصوفية وفي الفلاسفة وفي الباطنية على مختلف أشكالهم، كباطنية القرامطة والدروز والإسماعيلية وباطنية إخوان الصفا وغيرهم من فرق الباطنية التي تعددت وكثرت، فكلها فيها نزعات دعوى الارتقاء إلى درجة الكمال الإلهي، أو ارتقاء الإنسان إلى درجة التخلق بصفات الله تعالى، ليس بمعنى أن يأخذ بالصفات الفاضلة، لكن أن يكون على درجة القداسة. وأول من صرح بمثل هذه المقولات الحلاج حتى زعم أنه هو الله! وأصر على هذا واستحوذ عليه الشيطان، وختم على قلبه حتى أصر على هذه المقولة وهو أمام السيف، وفي آخر لحظة كان يقال له: تب إلى الله، ويلقنه العلماء والقضاة التوبة، ويقول -نسأل الله العافية-: ما في الجبة إلا الله، وكان لابساً جبة. حتى قتل بهذا وتفرق دمه على المقربين إليه؛ لأنهم جاءوا على سبيل التحدي يظنون أنه لن يأتيه الموت، فأتباعه كانوا يزعمون أنه لن يموت، فلما انقطعت رقبته وتلطخوا بدمه أصيبوا بصدمة، وبعضهم رجع، وبعضهم ارتد، وحصلت لهم أمور عجيبة.

بيان أن الله تعالى لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يشبهه شيء من مخلوقاته

بيان أن الله تعالى لا يشبه شيئاً من مخلوقاته ولا يشبهه شيء من مخلوقاته قال رحمه الله تعالى: [وكما أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته تعالى لا يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله]. النصارى تبعتهم الباطنية والرافضة ونحوهم، واليهود أيضاً تبعتهم المشبهة، فاليهود شبهوا الله بخلقه وزعموا أن الله كالخلق، والنصارى أشركوا من جانب آخر، وهو أنهم شبهوا المخلوق بالله، فنفوا عن الله الأسماء والصفات، لكنهم شبهوا المخلوق بالله، فلذلك عبدوا عيسى على أنه روح الله، وزعموا أنه ابن الله! تعالى الله عما يزعمون. إذاً: فاليهود تشبه الله بالمخلوقين، والنصارى تشبه المخلوقين بالله، والطوائف التي وقعت في الكفر والضلال إما تبع لليهود وإما تبع للنصارى، وبعضها يجمع بين الأمرين، كغلاة المتصوفة وغلاة الباطنية وغلاة الفلاسفة، يجمعون بين التشبيه من جانب وبين التعطيل من جانب آخر، فيعطلون الله من أسمائه وصفاته التي ثبتت في القرآن والسنة، لكنهم يشبهون الله بخلقه بصفات ابتدعوها من عند أنفسهم. قال رحمه الله تعالى: [ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته، فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا يشبه الأنام). والأنام: الناس، وقيل: الخلق كلهم، وقيل: كل ذي روح، وقيل: الثقلان. وظاهر قوله تعالى: {وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} [الرحمن:10] يشهد للأول أكثر من الباقي، والله أعلم].

كمال حياة الله جل جلاله وكمال قيوميته

كمال حياة الله جل جلاله وكمال قيوميته قال رحمه الله تعالى: [قوله: (حي لا يموت، قيوم لا ينام): قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، فنفي السنة والنوم دليل على كمال حياته وقيوميته. وقال تعالى: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران:1 - 3]، وقال تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:111]، وقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58]، وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر:65]. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام) الحديث. لما نفى الشيخ رحمه الله التشبيه أشار إلى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه بما يتصف به تعالى دون خلقه، فمن ذلك: أنه حي لا يموت؛ لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى دون خلقه؛ فإنهم يموتون. ومنه: أنه قيوم لا ينام؛ إذ هو مختص بعدم النوم والسنة دون خلقه، فإنهم ينامون، وفي ذلك إشارة إلى أن نفي التشبيه ليس المراد به نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف بصفات الكمال لكمال ذاته، فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعاً ولهواً ولعباً، {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64]. فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقال: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق؛ لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمة لها هو الذي وهب المخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لازم لها لذاتها، بخلاف حياة الرب تعالى، وكذلك سائر صفاته، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به. واعلم أن هذين الاسمين -أعني: الحي القيوم- مذكوران في القرآن معاً في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: إنهما الاسم الأعظم؛ فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم، ويدل أيضاً على كونه موجوداً بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود، والقيوم أبلغ من القَيَّام؛ لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة. وهل يفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان، أصحهما: أنه يفيد ذلك. وهو يفيد دوام قيامه وكمال قيامه؛ لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل، فإن الآفل قد زال قطعاً، أي: لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل -ولا يزال- موصوفاً بصفات الكمال. واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على بقائها ودوامها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلاً وأبداً؛ ولهذا كان قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم. فعلى هذين الاسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما يرجع معانيها؛ فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة. وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته؛ فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه، المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته، فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام]. الحي القيوم من أعظم أسماء الله سبحانه، وقيل: إنهما اسم الله الأعظم، كما يشملان كل كمال يعلمه البشر أو لا يعلمونه، وهذا يستلزم بالضرورة أن أي كمال يتخيله المتخيلون أو ينطق به الناطقون أو يتصوره المتصورون لا يمكن أن يزيد عما في هذين الاسمين. وهذا فيه إشارة إلى أن الذين خاضوا بمجرد عقولهم وأفكارهم ليزعموا أنهم أتوا بأسماء وصفات من الكمال لله تعالى بأعظم مما جاء في القرآن أو مثله؛ إنما رجموا بالغيب، وأعظم منهم إثماً من زعم أنه يمكن أن يأتي في نفي النقائص بأكثر مما نفى الله عن نفسه من النقائص؛ لأن (الحي القيوم) جاء بعدهما قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] فجاء النفي بعد الإثبات، والإثبات مفصل والنفي مجمل في عموم كتاب الله تعالى. ومن أسماء الله الجامعة التي يدخل فيها كل كمال يتوهمه المتوهمون ويتكلم به المتكلمون، أو ما استأثر الله بعلمه في علم الغيب عنده؛ اسم الجلالة (الله)، فهو متضمن كل كمال على الإطلاق، وكذلك (العلي العظيم) يتضمنان كل كمال. وأسماء الله تعالى كلها كمال، لكن بعضها يستلزم جميع الكمال المتصور وغير المتصور، وبعضها قد يفهم له معنىً

تفرد الله بالخلق والرزق وبيان كمال غناه جل جلاله

تفرد الله بالخلق والرزق وبيان كمال غناه جل جلاله قال رحمه الله تعالى: [قوله: (خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤونة): قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد:38]، وقال تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام:14]. وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر) الحديث. رواه مسلم.

شرح العقيدة الطحاوية [14]

شرح العقيدة الطحاوية [14] إن تصور وجود الله تعالى وجوداً ذهنياً عقلياً هو تصور نشأ عند الصابئة والمجوس واليهود والنصارى، ومن المتكلمين من قال بهذا التصور عن قصد؛ وذلك ليكيدوا للإسلام ويطعنوا في ثوابته، ومنهم من قال به عن غير قصد بسبب تأثرهم بمنهج تلك الأمم نتيجة لمجادلتهم للمعاصرين لهم منهم وردهم عليهم بكلامهم وأصولهم.

تفرد الله تعالى بالإماتة والبعث وكمال قدرته على ذلك

تفرد الله تعالى بالإماتة والبعث وكمال قدرته على ذلك قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة): الموت صفة وجودية، خلافاً للفلاسفة ومن وافقهم، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2] والعدم لا يوصف بكونه مخلوقاً. وفي الحديث: (إنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار)، وهو وإن كان عرضاًَ فالله تعالى يقلبه عيناً، كما ورد في العمل الصالح (أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة)، وورد في القرآن (أنه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون)، الحديث. أي: قراءة القرآن. وورد في الأعمال: أنها توضع في الميزان، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الأعراض. وورد في سورة البقرة وآل عمران أنهما يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، وفي الصحيح أن أعمال العباد تصعد إلى السماء، وسيأتي الكلام على البعث والنشور إن شاء الله تعالى].

أزلية صفات الله تعالى الذاتية والفعلية

أزلية صفات الله تعالى الذاتية والفعلية قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه؛ لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزلياً كذلك لا يزال عليها أبدياً). أي: أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفاً بصفات الكمال: صفات الذات وصفات الفعل، ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها؛ لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده. ولا يرد على هذا صفات الفعل والصفات الاختيارية ونحوها، كالخلق والتصوير، والإحياء والإماتة، والقبض والبسط والطي، والاستواء والإتيان والمجيء والنزول، والغضب والرضا، ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، ولكن أصل معناه معلوم لنا كما قال الإمام مالك رضي الله عنه لما سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]: كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وإن كانت هذه الأحوال تحدث في وقت دون وقت، كما في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثل)؛ لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلماً بالأمس لا يقال: إنه حدث له الكلام، ولو كان غير متكلم لآفة -كالصغر والخرس- ثم تكلم يقال: حدث له الكلام، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة، بمعنى أنه يتكلم إذا شاء، وفي حال تكلمه يسمى متكلماً بالفعل، وكذلك الكاتب في حال الكتابة هو كاتب بالفعل، ولا يخرج عن كونه كاتباً في حال عدم مباشرته للكتابة].

تصور وجود الإله الذهني عند الفلاسفة وأثره على عقيدة أهل الكلام

تصور وجود الإله الذهني عند الفلاسفة وأثره على عقيدة أهل الكلام في هذا المقطع نجد أن الشارح ركز على الرد على تصور خاطئ عند أكثر أهل الكلام، بل عند جميعهم، وهذا التصور هو الذي انبنى عليه التعطيل وانبنى عليه التأويل، وانبنى عليه الكلام في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير علم، بل بمجرد الأقيسة العقلية وبمجرد الأوهام، وبقياس الخالق على المخلوق، أو بمجرد التحكم وافتراض ما لا يجوز في حق الله سبحانه وتعالى. أقول: منشأ هذا التصور هو أن المتكلمين قالوا في الله سبحانه وتعالى بقول الفلاسفة عن قصد وعن غير قصد. أما ما كان عن قصد فكثير ممن دخلوا في الإسلام وكادوا له أدخلوا هذه الأفكار عن قصد، وأما ما كان عن غير قصد فإن الذي جرَّ أكثر المتكلمين إلى هذه التصورات الباطلة عن الله تعالى مجادلتهم لأهل الأهواء والأمم المعاصرة لهم في ذلك الوقت، كالسمنية والمجوس والصابئة واليهود والنصارى، وتلك الأمم كلها تنظر في تصورها إلى الله سبحانه وتعالى على أن وجوده وجود ذهني أو عقلي، أي: ليس لله ذات تقبل الاتصاف بالصفات. فهذه فكرة الفلاسفة اليونانيين ومن جاء بعدهم، وانبنت عليها كثير من التحريفات في الأديان، وانبنت عليها كثير من الفلسفات، وانبنى عليها الحوار الأساسي الذي قام بين جهم ومن جاء بعده وبين الفرق والأمم الضالة التي نشأت بين المسلمين أو كانت مجاورة للمسلمين، كالديانات الهندية. فالذين جادلوا أولئك لم تكن إحاطتهم بالعقيدة والسنة كافية، وجرأتهم على الجدل في ذات الله وأسمائه وصفاته جعلتهم يسلمون لبعض أوهام تلك الأمم، فمن هنا تصوروا أن وجود الله -تعالى الله عما يزعمون وما يتوهمون ويظنون- وجود ذهني، ووجود كلي عام، وقد يسمونه العقل الفعال، وقد يسمونه المحيط، وقد يسمونه بأسماء أخرى، فهذا التصور أوجد عندهم هذا الخلل في جميع قضايا العقيدة وأصولها، فحينما تصوروا أن وجود الله وجود ذهني لم يتواءم هذا التصور عندهم مع الصفات التي ثبتت لله تعالى. فإذا قيل: إن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، بدليل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؛ تنافى ذلك مع تصورهم عن الله؛ لأنه كيف يستوي ووجوده عقلي ذهني؟! وكيف يستوي عندهم -كما يزعمون- وهو مجرد تصور كلي؟! فقالوا: إذاً: الاستواء له معنىً آخر، ثم سحبوا ذلك على بقية الصفات، حتى إن بعضهم لا يقر إلا بصفة الوجود لله، وبقية الصفات كلها ينكرها، ومع ذلك يخاصم حتى في هذه الصفة. فيقال له: الوجود إذا كان في الأذهان فقط هل يكون وجوداً حقيقياً؟ إذاً: الوجود لا بد من أن يكون وجوداً فعلياً، والوجود الفعلي لا بد من أن تلزم منه صفات أخرى لهذا الموجود، فإن كان الموجود هو الخالق سبحانه وتعالى فلا بد من أن يتصف بالصفات اللازمة، ومنها: أن يكون خالقاً، وأن يكون عالماً قديراً سميعاً بصيراً، إلى آخر ذلك من اللوازم التي تلزم الوجود الكامل، وإن كان هذا الموجود هو المخلوق -وهذا ما نراه ونحسه ونشاهده- فله صفات تخصه. المهم أنهم تصوروا هذا التصور التجريدي الذي هو في الأذهان والأوهام، وخضعوا له وقرب من أذهانهم بحسب درجاتهم، أو رضوا ببعض لوازمه، كالأشاعرة والماتريدية؛ لأنهم لا يرضون بهذا القول، فهم يعتقدون أن لله ذاتاً، لكن بعضهم يفلسف معنى ذات الله سبحانه وتعالى بما يميل إلى قول الفلاسفة، وبعضهم يفلسفه بمعنى آخر. فهذا التصور هو الذي جعل هؤلاء يعطلون أو يؤولون؛ لأنهم تأثروا تأثراً سلبياً بالأمم التي جادلوها، وكان المفروض أن يجادلوا بالقرآن فقط، وإذا لم يكن المتكلم خاضعاً للقرآن جودل ببراهين القرآن، حتى لو لم نسمها آيات أو نسمها قرآناً، فينبغي أن يكون الجدال في الله سبحانه وتعالى ببراهين القرآن؛ لأننا لا نملك أبداً -ويستحيل أن يملك أحد من الناس- دليلاً من الأدلة على ذات الله وأسمائه وصفاته غير ما ورد في الكتاب والسنة، ولا يملك أن يضع تصوراً يلزم به الآخرين غير ما ورد في الكتاب والسنة. إذاً: فليس هناك براهين نستطيع أن نقنع بها أو نجادل بها فيما يتعلق بالله سبحانه وتعالى -سواءٌ وجوده وأسماؤه وصفاته، أو عبادته وطاعته- إلا ما له أصل في القرآن، وما عدا ذلك فإنما هو خبط ورجم بالغيب، ومن شاء فليراجع أقوالهم، ولكن عافية الله أوسع له.

الموقف من قول أهل الكلام بنفي حلول الحوادث بالرب جل جلاله

الموقف من قول أهل الكلام بنفي حلول الحوادث بالرب جل جلاله قال رحمه الله تعالى: [وحلول الحوادث بالرب تعالى المنفي في علم الكلام المذموم لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال]. حلول الحوادث أيضاً هو من اللوازم الباطلة التي التزم بها المتكلمون تأثراً بمن خاصموهم من أهل الأهواء من الأمم الأخرى، ويقصد الفلاسفة بحلول الحوادث: ما يطرأ من أفعال الله تعالى مما له صلة بأسماء الله وصفاته، كقولهم: إن الله -سبحانه وتعالى- صار خالقاً بعد أن لم يكن خالقاً؛ لأنه خلق الخلق بـ (كن) سبحانه وتعالى، فيعتبرون هذا من حلول الحوادث. وأما المتكلمون فيعبرون عن الحوادث بمثل الاستواء وبمثل المجيء والنزول والغضب والرضا، يقولون: هذه حوادث. وهذه كلمة مجملة، فهي حوادث بتعبيرنا، والله سبحانه وتعالى ما عبر عنها بـ (حوادث)، فهم عبروا عنها بأنها حوادث حسب تصورهم، فنظراً لأنهم يتصورون أن وجود الله سبحانه وتعالى وجود ذهني فقط؛ فإنه من الطبيعي أن من يُتصَور بهذا الشكل لا يتوقع منه أن تحدث منه تلك الأفعال. فهذه الأفعال -كالمجيء والنزول والرضا والغضب- لا يتصور أن تحدث إلا من الكامل الذي له وجود ذاتي، وهو مستو على عرشه سبحانه، فهذا هو الذي يتصور منه المجيء والنزول، فنظراً لأنهم أنكروا الوجود الذاتي بمعناه وخصائصه اللائقة بالله سبحانه وتعالى أنكروا لوازمه من الاستواء والعلو والفوقية، ثم أنكروا لوازمه الأخرى، وبعد ذلك أنكروا الصفات الفعلية؛ لأنهم قالوا: إنها حوادث، حتى القرآن قالوا بأنه أزلي بحروفه، وأن الله لم يتكلم بالقرآن؛ لأنه إذا تكلم فهذا يعني أنه حدث منه شيء، تعالى الله عمَّا يزعمون. ولولا أني أخشى أن يلتبس الأمر بعد طول الكلام لذكرت الأصل الثاني الذي نشأ عنه ضلال أكثر الفرق التي ضلت عن أهل السنة، خاصة الفرق التي تأخذ بالسنة في بعض الأصول، كالماتريدية والأشاعرة ومن نحا نحوهم، ولعله تأتي له مناسبة في درس قادم إن شاء الله، لكن من فهم هذه الأصول التي هي منشأ الانحراف عند المؤولة فإنه بذلك تطرد عنده القاعدة، ويستطيع أن يفسر كل خلاف خالف فيه بعض المؤولة أهل السنة، فيفسره بهذا التفسير ويكون مرتاح الضمير مطمئناً بعقيدته عقيدة السلف، وكلنا -إن شاء الله- مطمئنون، لكن يطمئن بالبرهان، لأنه إذا عرف منشأ الخطأ وأصله فسر كثيراً مما يحدث، فلا يبقى الإشكال الوارد في الذهن، وهو: كيف يقول إمام كـ الأشعري رحمه الله، أو كـ الباقلاني رحمه الله، أو كـ الجويني أو الغزالي رحمهما الله في هذه المسألة بغير الحق وهو عالم يدرك ويعرف؟! أقول: لو عرفنا منشأ الانحراف من أصله لاستطاع كثير من طلاب العلم بناءً على هذا أن يفسروا هذه الأمور بتفسيرات واضحة. فهم يقصدون بمسألة حلول الحوادث الأفعال التي تطرأ، فمثلاً: الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن بعد أن لم يكن تكلم به، والله سبحانه وتعالى -كما ورد في النصوص الصريحة أيضاً- يتكلم يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، فهذا أمر سيحدث فيما بعد، وهم يقولون: لا، هذا كله ليس كلاماً، إنما هو صفة أزلية في ذات الله تعالى، والله يصنع من خلقه ما يعبر عنه بأنه كلام. فيقولون مثلاً: الله كلم موسى، لكنه كلمه بحروف وأصوات صنعها في مخلوقاته، ولازم قولهم أن كلامه من مخلوقاته وإن لم يلتزموا به، فلذلك قالت المعتزلة بخلق القرآن؛ لأنهم زعموا أنهم لو قالوا بأن الله تكلم بالقرآن لصار حادثاً في الله، تعالى الله عما يزعمون. وهذا كله فلسفة عقلية، وكله خوض ورجم بالغيب، فالمسلم عليه أن يسلم بما جاء عن الله تعالى، فإن فهم فهذا طيب، وإذا لم يفهم لم يطالب بالفهم الذي يعني ضرورة التخلص مما يظهر من الإشكالات، فهذا ليس بضروري، لأن المسلم عليه أن يثق بأن كلام الله حق على حقيقته، وأن ما جاء من أسماء الله وصفاته وأفعاله حق على حقيقته، لكننا لا نفهم الكيفية؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وما دام الله ليس كمثله شيء فلا سبيل إلى فهم الكيفيات، بل لا سبيل إلى الكلام في هذه الأمور بغير علم أصلاً. إذاً: فكل ما يرد من هذه العبارات -مثل حلول الحوادث أو مثل المباينة والمفاصلة والجهة ونحوها- خبط ورجم بالغيب، وإذا كانت في حق الله تعالى فهي بدعة شنيعة لا يجوز الكلام بها، لكن قد يضطر طالب العلم المتمكن والمتخصص إلى أن يتكلم بها حينما يظهر الإشكال ويوجد في الكتب ويتكلم به المتكلمون ويظهر على ألسنة الناس، فيتكلم لإيضاح الحق وتقريره، لا للانجرار والاستجابة لفلسفة المتفلسفين.

صحة حمل نفي حلول الحوادث على نفي حلول مخلوق أو حدوث وصف لذات الله المقدسة

صحة حمل نفي حلول الحوادث على نفي حلول مخلوق أو حدوث وصف لذات الله المقدسة قال رحمه الله تعالى: [فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن؛ فهذا نفي صحيح]. أهل السنة والجماعة الذين يثبتون لله تعالى الصفات الفعلية والصفات الاختيارية -كالخلق والتصوير، والإحياء والإماتة، والقبض، والنزول، والمجيء إلى آخره- لا يقولون بأن الله يحدث في ذاته شيء، تعالى الله عما يظنه الظانون وعما يلزم به الملزمون أهل السنة في ذلك، فأهل السنة برآء من أن يقولوا هذا القول، أي أن الله تحدث في ذاته أشياء، بل أهل السنة لا يتكلمون في هذه الأمور، وهم أعظم إجلالاً وتعظيماً لله سبحانه وتعالى، فالله تعالى هو العلي العظيم، والله تعالى هو الحي القيوم، والله تعالى هو الذي لا تدركه الأبصار، وهو بكل شيء محيط، فكيف يتأتى لبشر يعرف الحق ويعرف السنة أن يتكلم في هذه الأمور ويزعم أنه يقول فيها قولاً فاصلاً بنفي أو إثبات؟! لكن ننفي اللوازم الباطلة.

بطلان اعتماد نفي حلول الحوادث لنفي الصفات الاختيارية

بطلان اعتماد نفي حلول الحوادث لنفي الصفات الاختيارية قال رحمه الله تعالى: [وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته؛ فهذا نفي باطل. وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله]. المراد السني الجاهل؛ لأن عامة أهل السنة والجماعة الذين هم على الحق والاستقامة لا يخوضون في هذه الأمور، فهم على الفطرة، والله سبحانه وتعالى سلم أفكارهم وعقولهم من الخوض في هذه الأمور، فلذلك قد يستغفل السني وإن كان مثقفاً وإن كان مفكراً وإن كان عالماً إذا لم يكن له إلمام بمثل هذه المسائل، قد يستدرجه المتكلمون بمثل هذه الأمور، فيأتي المتكلم للسني فيقول: الكلام حادث، فيسلم بأنه حادث، ثم يقول: الله سبحانه وتعالى منزه عن الحوادث. فيقول: نعم، الله منزه عن الحوادث، فيقول: إذاً: الله ليس بمتكلم. فقد يجر السني إلى هذه الأمور دون أن يشعر، كما قالت المعتزلة وغيرهم في مسألة الرؤية، حيث قالوا: لا ترى الشيء إلا وهو أمامك، فقال لهم بعض الجهلة: نعم. فقالوا: ولا ترى الشيء إلا وله صورة ولون وشكل، فينطبع في ذهنك عنه صورة ولون وشكل. فقال لهم بعض الجهلة: نعم. فقالوا: إذاً: فإذا قلنا: إن الله تعالى يرى فهذا يعني أن له لوناً وصورة وشكلاً، فهو -إذاً- لا يرى. فرتبوا مقدمات فاسدة وبنوا عليها؛ لأنهم قاسوا الله على الخلق، صحيح أنهم فروا من التشبيه، ولكنهم فروا منه حينما تصوروه، فتصوروه أولاً ثم أرادوا أن يفروا منه، فهم كالإنسان الذي وقع في الشراك ثم أراد أن يخرج، مع أن الأصل أن الله ليس كمثله شيء. فإذا قال لك قائل: لا نرى الشيء إلا وهو أمامنا فتنطبع في أذهاننا منه صورة، فقل له: هذا في حق المخلوقات، أما الله سبحانه وتعالى فلا؛ إذ ليس هو كالخلق. وإذا قال: لا يستوي الشيء على الشيء إلا وهو معتمد عليه، فقل له: هذا بالنسبة للمخلوق، أما بالنسبة للخالق فلا، فالله مستو على عرشه على ما يليق بجلاله من غير حاجة إلى العرش، لأنه قد يقول لك قائل من الأشاعرة وغيرهم الذين يؤولون الاستواء: إذا استوى المخلوق على شيء فهو معتمد عليه محتاج إليه، فهل تسلم له على الإطلاق؟! والجواب أنه بالنسبة للمخلوق قد يرد هذا، لكن الخالق سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء تعالى الله عما يتوهمون. إذاً: هم فروا من التشبيه حينما تصوروه، وأهل السنة والجماعة لم يتصوروا التشبيه أصلاً، بل أخذوا بالقاعدة كما ورد في الآية، إذ فيها أولاً: أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وثانياً: أنه هو السميع البصير. فهذه قاعدة الاعتقاد؛ لأن اعتقاد الكمال لله سبحانه وتعالى مفطورة عليه الخلائق، فلا يمكن أن يتصور أن عاقلاً من العقلاء يظن أن الله سبحانه الخالق لهذه المخلوقات مثلها؛ لأنه لا بد من أن يكون سبحانه وتعالى أعظم وأجل وأكمل؛ لأننا نرى في المخلوقات كل معاني النقص، فإذا كان كذلك فإن تقرير النفي -أي: نفي المشابهة- لا بد من أن يكون أصلاً متأصلاً في ذهن كل شخص.

خطر استقرار التصور الذهني لصفات الله تعالى

خطر استقرار التصور الذهني لصفات الله تعالى وبهذه المناسبة أحب أن أنبه على أمر سبق أن تكلمت عنه في أول الدروس، ومن المناسب أن أكرره؛ لأنه قد يختلط على كثير من ضعاف العلم، أو الذين ليس لهم إلمام بالعقيدة أو ليسوا متخصصين، فيحدث عندهم شيء من الإشكال، وهو التصور في الأذهان الذي لا ينبني عليه اعتقاد، فهذا أمر لا ينفك منه عاقل، فأنت إذا سمعت بكلمة (نزول) (مجيء) (استواء)؛ فإنك لا تفهم الكلمة حتى ينطبع في ذهنك تصور، فإن استقر هذا التصور وجعلته صفة لله صار هذا تشبيهاً، نسأل الله العافية. فلذلك يجب ألا يستقر التصور، بل يجب أن تعتقد أن هذه الصفة التي تصورتها لله ما هو أعظم منها، وأن الله منزه عن التصورات والأوهام، وأن الله ليس كمثله شيء، وأن الله أعظم وأجل من أن تستقر صفاته بأذهان المخلوقين؛ لأنه لو استقرت عرفنا الكيفيات، ولا سبيل إلى معرفة كيفيات صفات الله وأفعاله، فلذلك أقول: يجب أن نفصل ما نتصوره في الأذهان عن الاعتقاد، فما نتصوره في الأذهان إنما يقرب إلى الحقائق فقط في بعض أمور الغيب، فعندما يقال لك: (جبريل) تتصور شيئاً ما عليه جبريل، أليس كذلك؟! فهذا التصور أعطاك انطباعاً بأن هذا الملك له وجود، لكن هل وجوده هو ما في ذهنك؟! و A لا. وكذلك في المشاهدات، فلو أن إنساناً -مثلاً- قيل له: هناك مدينة اسمها: نيويورك أو موسكو أو نحو ذلك من المدن الشهيرة، فلابد من أن ينطبع في ذهنه عمارات وشوارع وأعلام وأشخاص ومؤسسات وأشكال، فهل هي الحقيقة؟ فإذا كان هذا في المخلوقات -ولله المثل الأعلى- فالله أعظم وأجل من أن تنطبع في أذهان الناس عنه صفة. قلت هذا لأن الذين تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته ونفوا وخبطوا وخلطوا وأحرجوا المسلمين وأوقعوا الأمة في الإشكال؛ إنما وقعوا في ذلك لأنهم استجابوا لأوهامهم وتصوراتهم التي في أذهانهم، والتصورات التي في الأذهان إنما هي أوهام وليست هي الحقيقة في أمور الغيب، فالحقيقة أمر آخر لا يمكن أن يطلع عليه إنسان، ولو اطلع عليه أحد ما صار غيباً. فالتسليم بأن الله ليس كمثله شيء سبحانه، وأن الله تعالى له الكمال المطلق، وأن الله متصف بهذه الصفة على ما يليق بجلاله به تسلم العقيدة، وإلا فلا يمكن لأحد أن ينفك من التصور، والذين خاضوا في ذات الله وفي أسمائه وصفاته هم أشنع تصوراً من الذين لم يخوضوا. إذاً: فالعبرة بما ينتهي إليه الاعتقاد لا بمجرد التصور، فأنت إذا تصورت شيئاً في أمر الغيب وجب عليك أن تعتقد أن حقيقة الغيب غيره، بمعنى: أن ما تصورته من أمور الغيب وهم في ذهنك، لكن هذا الأمر الذي ورد في النص هو حقيقة، والحقيقة تعني أنه حق موجود، لكن هذه الحقيقة نجهل كيفيتها وصورتها، وهذا هو الفارق، أما الحقيقة فلابد من اعتقادها دفعاً لقول الذين يقولون بأن هذه الألفاظ ألفاظ ليس وراءها معانٍ؛ لأنه لا يعقل أن الله سبحانه وتعالى يخاطبنا بألفاظ ليس لها معانٍ، فذلك لا يليق بالله سبحانه وتعالى. إذاً: فلابد من الاعتقاد، لكن تعتقد الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى، وأن الله ليس كمثله شيء، وما ينطبع في ذهنك من صورة إنما هو للفظ فقط لا لحقيقة اللفظ، بمعنى: أن اللفظ فقط هو الذي تستطيع أن تقربه إلى ذهنك، وإلا فالحقيقة غيره قطعاً؛ لذلك جاءت الآية بالمبالغة في نفي المشابه لله تعالى؛ لأن الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، مبالغة في البعد عما يمكن أن يتوهم الإنسان ويتصوره في ذهنه. فتصورات الخواطر قد تتعلق بالغيب، وكذلك في أمور الحلال والحرام، كما ورد في الحديث أن الإنسان قد يهم بالشيء ولا يؤاخذ عليه إلا إذا فعله أو تكلم به، فالإنسان إذا تخيل معصية من المعاصي ومالت إليها نفسه، فإن فعلها أو سعى إلى فعلها أثم، وإن تركها ولم يسع إلى فعلها فهو مأجور على طرد هذا الطارئ على ذهنه، وكذلك بالنسبة لما يتعلق بتصورات الغيب، فالإنسان لا ينفك عن أن يضع تصوراً للغيب، بل أحياناً يرد السؤال عن بعض الخصائص المتعلقة بذات الله سبحانه وتعالى، كما ورد في الحديث الصحيح. فالإنسان عليه ألا يتمادى في هذه الأوهام، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وليعلم ابتداء وانتهاء أن ما في ذهنه من أمور الغيب إنما هو أوهام ومجرد تصور للألفاظ، والحقيقة لا يعلم كيف هي في أمور الغيب إلا الله سبحانه وتعالى.

الموقف من الألفاظ المجملة في وصف الله

الموقف من الألفاظ المجملة في وصف الله قال رحمه الله تعالى: [وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الاختيارية وصفات الفعل، وهو لازم له، وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه]. وكذا مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير فيه إجمال: فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له. ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره ولا أنه ليس غيره؛ لأن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو؛ إذ كان لفظ (الغير) فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل، فإن أريد به أن هناك ذاتاً مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها فهذا غير صحيح، وإن أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتاً وصفة كلاً وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال. ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الوجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتاً ووجوداً يتصور هذا وحده وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج، وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره، وهذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة، بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد. والتحقيق أن يفرق بين قول القائل: الصفات غير الذات، وبين قوله: صفات الله غير الله، فإن الثاني باطل؛ لأن مسمى الله يدخل فيه صفاته، بخلاف مسمى الذات فإنه لا يدخل فيه الصفات؛ لأن المراد أن الصفات زائدة على ما أثبته المثبتون من الذات، والله تعالى هو الذات الموصوفة بصفاته اللازمة، ولهذا قال الشيخ رحمه الله: (لا زال بصفاته)، ولم يقل: لا زال وصفاته؛ لأن العطف يؤذن بالمغايرة، وكذلك قال الإمام أحمد رضي الله عنه في مناظرته الجهمية: لا نقول: الله وعلمه، الله وقدرته، الله ونوره، ولكن نقول الله بعلمه وقدرته ونوره، هو إله واحد سبحانه وتعالى، فإن قلت: (أعوذ بالله) فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدس الثابتة التي لا تقبل الانفصال بوجه من الوجوه، وإذا قلت: (أعوذ بعزة الله) فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى ولم أعذ بغير الله، وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن (ذات) في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم إلى غير ذلك من الصفات، فذات كذا بمعنى: صاحبة كذا، تأنيث (ذو)، هذا أصل معنى الكلمة، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كان الذهن قد يفرض ذاتاً مجردة عن الصفات كما يفرض المحال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، ولا يعوذ صلى الله عليه وسلم بغير الله. وكذا قال صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا)، وقال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات). وكذلك قولهم: الاسم عين المسمى أو غيره، وطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلوا الصواب فيه، فالاسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو: سمع الله لمن حمده ونحو ذلك؛ فهذا المراد به المسمى نفسه، وإن قلت: الله اسم عربي، والرحمن اسم عربي، والرحمن من أسماء الله ونحو ذلك؛ فالاسم هاهنا لمسمى، ولا يقال: غيره؛ لما في لفظ الغير من الإجمال، فإن أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد به أن الله سبحانه كان ولا اسم له حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم؛ فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى]. قوله: [فالاسم هاهنا لمسمى؛ ولا يقال: غيره] هذه عبارة صحيحة، لكن العبارة الموجودة في طبعة أخرى أسلم، والسياق يؤيد هذه العبارة، وهي قوله: [فالاسم هاهنا للمسمى]، وهو قول السلف، يقولون: لله الأسماء الحسنى، فالاسم للمسمى، الاسم الذي أطلقه الله على نفسه هو اسم لله، يقال: اسم لله، فالأفضل ألا يقال: هو غيره، ولا: هو هو، وإن كان قول: (هو هو) يطلق على ذات الله تعالى، لكنه ملبس؛ لأنه يشتبه بقول القائلين بأنه لا فرق بين أسماء الله وذاته وصفاته، وإنما هي ألفاظ لا معنى لها تدل على مسمى واحد وهو الوجود المجرد في الأذهان، تعالى الله عما يزعمون.

شرح العقيدة الطحاوية [15]

شرح العقيدة الطحاوية [15] ربنا تبارك وتعالى متصف بصفات الكمال ونعوت الجلال، وصفات كماله تبارك وتعالى أزلية، سواء الذاتي منها أو الفعلي، فكما أن صفاته الذاتية أزلية، فكذلك صفاته الفعلية، ولا يجوز وصف الله تعالى بقدرته على الفعل بعد أن لم يكن ممكناً له، فهو خالق قبل وجود المخلوق، ورب قبل حدوث المربوب، قادر على كل شيء، فعال لما يريد جل جلاله وعز ثناؤه وتقدست صفاته وأسماؤه.

أزلية صفات الله تعالى وضلال من قال بقدرة الله على الفعل بعد امتناعها

أزلية صفات الله تعالى وضلال من قال بقدرة الله على الفعل بعد امتناعها قال المصنف رحمه الله تعالى: [والشيخ رحمه الله أشار بقوله: (ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه) إلى آخر كلامه إلى الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة، فإنهم قالوا: إنه تعالى صار قادراً على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادراً عليه؛ لكونه صار الفعل والكلام ممكناً بعد أن كان ممتنعاً، وأنه انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي! وعَلَى ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما، فإنهم قالوا: إن الفعل صار ممكناً له بعد أن كان ممتنعاً منه]. كل هذه لوازم التزمها هؤلاء؛ بسبب خضوعهم للجهمية والفلاسفة، فحينما ذهبوا لبعض مقولات الفلاسفة والجهمية وقعوا في هذه البلية، وإلا فلو أخذوا بما أخذ به السلف من الوقوف في أمور الغيب على كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم الخوض في هذه الأمور بغير علم؛ لما وقعوا في هذه اللوازم. أقول: منشأ هذا الكلام الذي قالوه -وهو قولهم بأن الله تعالى تكلم بعد أن لم يكن متكلماً وأنه فعل بعد أن لم يكن فاعلاً، وأن الفعل صار ممكناً بعد أن كان ممتنعاً- كل ذلك منشؤه مسألة واحدة، وهي أن هؤلاء المتكلمين صدقوا أسلافهم في أن تجدد القدرة لله تعالى يعتبر من الحوادث، والله منزه عن الحوادث، وهذا كله وهم في أصله وفي فرعه، فالمعتزلة ومن قبلهم من الفلاسفة قالوا بأن تجدد القدرة يدل على وقوع الحوادث في الله تعالى أو به تعالى، وهو منزه عن الحوادث، فإذا كان منزهاً عن الحوادث فكل شيء من أفعال الله تعالى يعتبر مستأنفاً، فهو حادث، وعلى هذا ينفى عن الله. فلذلك أنكروا أن يكون الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن فقالوا -بالمعنى الذي فهموه هم ووقع في أذهانهم تشبيهاً-: إن الكلام يعني حدوث أشياء في الله تعالى لم تكن، وهي الكلام والحروف والأصوات. وهذه كلها لوازم لا تلزم أولاً، وإخضاع ذلك إلى قاعدة عقلية إنما هو وهم، والله سبحانه وتعالى منزه عما توهموه، فالله تعالى ليس كمثله شيء، فكل هذه الأوهام لا اعتبار لها. وسيأتي الكلام عن هذا التفصيل في مسألة الحوادث ووقوعها في الله تعالى أو به أو منه إلى آخره، وهذه الأمور إن أمكن طالب العلم أن يكف عنها فهو الأولى، لكن إذا اضطر للرد على مثل هؤلاء فلابد من أن يلتزم الحق ويحترز كثيراً، يجب الاحتراز عندما نتكلم في مثل هذه الأمور، ولا نتكلم في الله تعالى ابتداء، إنما نتكلم فيما يقع بعباراتهم لردها لا لتقريرها.

تعليق على نسبة ابن كلاب إلى متكلمي أهل السنة

تعليق على نسبة ابن كلاب إلى متكلمي أهل السنة وللمحقق تعليق على ابن كلاب، حيث قال: [هو رأس المتكلمين بالبصرة في زمانه، وقد عده الشهرستاني والأشعري وابن طاهر البغدادي من متكلمي أهل السنة]. وهذه مسألة فيها تلبيس، فالأشاعرة يعدون أصحابهم من متكلمي أهل السنة، بل يعدون الماتريدية والكلابية والأشاعرة كلهم من متكلمي أهل السنة، والحق أن أهل السنة ليس فيهم متكلم، وهذا يجب أن يفهم، ومن تكلم ممن ينسب إلى أهل السنة والجماعة فأخذ بأصول الكلامي جزئية أو عامة؛ فإنه فيما أخذ به ليس من أهل السنة، فمنهجه فيما أخذ به ليس محسوباً على أهل السنة. فهذه الكلمة في رأيي أنها شنيعة في حق السلف، فلا يجوز قولنا مثلاً: فلان من متصوفة أهل السنة، أو: فلان من متكلمي أهل السنة، أو: فلان من فلاسفة أهل السنة، فهذا كله خلط لا يجوز، وإن كان قد يرد على ألسنة بعض أهل العلم، لكنه يفسر بتفسير آخر غير المفهوم الذي يقوله هؤلاء الذين يبجلون متكلمي الأشاعرة والماتريدية والكلابية ونحوه. إذاً: فلا يصح أن يقال: إن ابن كلاب من متكلمي أهل السنة، وإن كان في أمور من أصول الدين وافق أهل السنة والجماعة ولاشك، وله من المقولات المحمودة شيء كثير، لكنَّه مع ذلك خالف أهل السنة في جوانب، ومنها علم الكلام، فنسبته ونسبة كلامه لأهل السنة فيه خطر، فيجب التنبه. وهناك تعليق آخر يقول عن ابن كلاب: هو عبد الله بن سعيد بن كلاب، كان إمام أهل السنة في عصره وإليه مرجعها. ولا أدري هل المعلق تبع غيره أم أنه يعتقد هذا؟! ونحن نقول: هو إمام المتكلمين، وليس بإمام أهل السنة لا في وقته ولا بعد وقته، وأهل السنة قدحوا في جانب التكلم فيه وبدعوه في هذا وخطئوه واعتبروا كلامه من كلام الفرق، وعُدَّ من المفارقين للسنة في المقولات التي انفرد بها، وهي المقولات الكلامية، كقوله في كلام الله، وهو من أشهر مقولاته، وسيأتي.

بيان ضلال القائلين بامتناع كون الله لم يزل فاعلا متكلما بمشيئة

بيان ضلال القائلين بامتناع كون الله لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئة قال رحمه الله تعالى: [وأما الكلام عندهم فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة، بل هو شيء واحد لازم لذاته، وأصل هذا الكلام من الجهمية، فإنهم قالوا: إن دوام الحوادث ممتنع، وإنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ؛ لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئة، بل يمتنع أن يكون قادراً على ذلك؛ لأن القدرة على الممتنع ممتنعة!]. كل هذه الفلسفة لا طائل وراءها، وهي لوازم لا تلزم عقلاً وكلها أوهام وما رتب عليها أوهام، والأوهام خطر في أمور الغيب، بل هي خطأ وانحراف، وقبل أن يبدأ بالرد أحب أن أشير إلى ضعف عقول هؤلاء وإن كان منهم من يشار إليهم بالبنان، خاصة فيما خالفوا فيه السلف. فأقول: إن منشأ هذه الضلالة -كما أسلفت- أنهم عولوا على عقولهم في أمر الغيب، والعقول مخلوقة وقاصرة وضعيفة، فما عرفت نفسها وما عرفت كيف هي وكيف تعمل، فكيف تعرف ما يتعلق بذات الله تعالى وأفعاله وأسمائه وصفاته؟! وما أشبه هؤلاء بالأطفال الصغار، وإن كان الأطفال الصغار أطهر منهم فطرة، لكن الأطفال الصغار أحياناً يتكلمون بخيال ويصدقون خيالهم، فالطفل إذا تحدى أحداً من الناس فربما قال: سآخذ هذا البيت وأضربك به، أو: سأحمل هذا الجبل وأرميه عليك، بل بعض الأطفال قد يقول: سأنزل عليك السماء، وبعد أن يكبر ويرشد يعلم أن هذه أوهام، أليس كذلك؟! فالمتكلمون على صنفين: منهم من يستمر في أوهامه، فيقول: هذا ممتنع في حق الله، والله يقدر أو لا يقدر، وهذا لا يتعلق بالمشيئة إلى آخره، فيتكلم بكلام هو رجم بالغيب، وكل ذلك لا أصل له في الكتاب والسنة، وما لا أصل له في الكتاب والسنة فهو رجم بالغيب، وإذا كان رجماً بالغيب فليس بحق. فبعضهم يستمر -نسأل الله العافية- على اعتقاداته حتى يموت على ذلك. وبعضهم يرشد كما يرشد الطفل، وهذا ثبت عن كثير منهم، بل ثبت عن مثل الغزالي وعن مثل الرازي ونحوهما ممن دخلوا في علم الكلام وكان عندهم شيء من التقوى والصلاح وقصد الخير، لكنهم فتنوا بالكلام في أول أعمارهم، فهؤلاء ثبت أنهم وصلوا إلى حد الاعتراف بأنهم ما استفادوا من الكلام إلا ضياع الوقت والجهد وضياع الدين، حتى قال الجويني: ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور، وحتى إن الرازي أيضاً تكلم عن علم الكلام بكلام رائع يكتب بماء الذهب، وحتى إن الغزالي انصرف وصرف نفسه وتناسى ما كتبه وما قاله وأكب على كتب السنة يريد أن يصرف ذهنه عما وقع فيه من الكلاميات وغيرها، وغيرهم كثير يعدون بالمئات من الذين رجعوا. فإذاً كان هؤلاء من أصحاب علم الكلام قد رجعوا عنه وتابوا إلى الله وحذَّروا كل التحذير، كما ثبت عن الجويني وعن الرازي، وحذروا تحذير المشفق على الأمة من الوقوع في علم الكلام دقيقه وجليله؛ فكيف تبقى طائفة من الأمة تتبع هذا النهج وتدين به؟! فنسأل الله العافية.

الرد على القائلين بامتناع كون الله لم يزل فاعلا متكلما بمشيئة

الرد على القائلين بامتناع كون الله لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئة ٍقال رحمه الله تعالى: [وهذا فاسد؛ فإنه يدل على امتناع حدوث العالم وهو حادث، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثاً فلا بد أن يكون ممكناً، والإمكان ليس له وقت محدود، وما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت فيه، فليس لإمكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكناً جائزاً صحيحاً، فيلزم أنه لم يزل الرب قادرا عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها. قالت الجهمية ومن وافقهم: نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول: إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له، وذلك؛ لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع، بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له، بخلاف جنس الحوادث]. هذا الكلام متناقض لا يدخل العقل، فسليم العقل لا يستطيع أن يجمع بين هذا القول وبين قول الجهمية من جانب آخر بامتناع حوادث لا بداية لها ولا نهاية، وهذه المقولة هي التي أوقعت الجهمية في إنكار كثير من أصول الدين، فإنكارهم لأسماء الله وصفاته مبني على هذا، وإنكارهم للرؤية مبني على هذا، بل قولهم بفناء الجنة والنار، وإنكارهم للحسيات أو للسمعيات الثابتة مثل الصراط والميزان ونعيم الجنة المادي -لأنهم يقولون: النعيم نعيم روحي- كل ذلك مبني على هذه المقولة في مسألة الحوادث. والذين تأثروا بهم وقعوا في بعض ما وقعوا فيه، فالمعتزلة وقعوا في إنكار صفات الله وإنكار بعض السمعيات؛ لأنهم قالوا ببعض مقولات الجهمية، ثم جاء بعدهم المتكلمون وأولوا الصفات وأولوا بعض السمعيات، وقالوا بعض المقولات التي قال بها الجهمية والمعتزلة؛ نظراً لأنهم أخذوا بعض قاعدة الفلسفة حول الحوادث التي سيأتي الكلام عنها بشكل أكثر تفصيلاً. قال رحمه الله تعالى: [فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقال: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكناً بعد أن لم يكن ممكناً، وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان وإلا لزم انقلاب الجنس من الامتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء، ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث أو جنس الحوادث أو جنس الفعل أو جنس الأحداث أو ما أشبه هذا من العبارات من الامتناع إلى الإمكان هو مصير ذلك ممكناً جائزاً بعد أن كان ممتنعاً من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل. وهو أيضاً انقلاب الجنس من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي؛ فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الانقلاب لا يختص بوقت معين؛ فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الانقلاب ممكناً، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكناً، وهذا أبلغ في الامتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكناً، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه؛ فإنه يعقل كون الحادث ممكناً ويعقل أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكناً فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه].

ذكر الأقوال في دوام الحوادث في الماضي والمستقبل

ذكر الأقوال في دوام الحوادث في الماضي والمستقبل قال رحمه الله تعالى: [فالحاصل: أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا؟ أو في المستقبل فقط؟ أو الماضي فقط؟ فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من المسلمين وغيرهم، أضعفها: قول من يقول: لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل. كقول جهم بن صفوان وأبي الهذيل العلاف]. هؤلاء المعطلة الذين يعطلون الله عن الأسماء والصفات والأفعال، وبناء على قولهم هذا بنفي دوام الحوادث في المستقبل والماضي نفوا أفعال الله تعالى والأسماء التي هي أسماء له سبحانه وتعالى وأثبتها لنفسه، وكذلك صفاته؛ ولهم في ذلك مأخذان: الأول: يقولون بأنها تشبه صفات المخلوقين ولو لفظاً، وأي اشتباه ولو كان لفظياً بالله تعالى فيلزم تنزيه الله منه لوجود الاشتباه. والمأخذ الثاني أنهم ظنوا أن الأسماء والصفات والأفعال تشعر بحدوث شيء من الله سبحانه وتعالى، وهم ينفون أن يكون حدث من الله شيء. وهنا فيه لبس؛ فصفات الله نوعان: صفات ذاتية أزلية، فهذه لازمة له سبحانه وتعالى ولا يتجدد بها شيء؛ كالحي القيوم وغيرهما؛ لأنها من الصفات الذاتية اللازمة. وصفات تتعلق بأفعاله، مثل: صفة الكلام، فالله سبحانه وتعالى متصف بصفة الكلام منذ الأزل وإلى الأبد، وصفته سبحانه وتعالى لازمة له من حيث هي نوع من أنواع الصفات، فالله متكلم منذ الأزل، والله سبحانه وتعالى لا يزال متكلماً متى شاء كما شاء، ويتكلم في المستقبل كما يشاء سبحانه. فالله سبحانه وتعالى تكلم بكلمة (كن)، ويتكلم بها متى شاء، والله سبحانه وتعالى كلم موسى، وهذا كلام متجدد، لكنه لازم من لوازم صفة الله اللازمة الثابتة، وتكلم الله سبحانه وتعالى بالقرآن، وفي المستقبل يتكلم سبحانه وتعالى يوم القيامة ويكلم عباده المؤمنين ويكلمونه، بل يكلم جميع الخلائق كما ورد في النصوص، فهذا كله ليس من عقول الناس، إنما هو قول السلف من النصوص، فالله سبحانه وتعالى ثبت أنه يكلم عباده بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، والله على كل شيء قدير. إذاً: فمنشأ المسألة اعتقاد قول الفلاسفة بأن الخالق سبحانه صفاته لابد من أن تكون لازمة له ولا يتجدد في أفرادها شيء؛ لأن الحوادث ينزه الله عنها؛ وهذا كلام مجمل، فقد يكون قصدهم بالحوادث الباطل، وقد يكون قصدهم بالحوادث الحق، فصفات الله الفعلية -مثل صفة النزول- من المعلوم أنها حوادث، وأن معناها المتبادر إلى الأذهان منفي عن الله. لكن الجهمية والمعتزلة عطلوا بعضها وأولوا بعضها، والأشاعرة ورثوا ذلك عن الجهمية والمعتزلة، فقالوا: ما يدل على وقوع الحوادث -كالاستواء والنزول- لابد أن يؤول. فالاستواء عندهم: هو الملك، والنزول: هو نزول رحمة الله، في حين أنه صرح الصحابة والتابعون وسلف الأمة بأن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه كما يليق بجلاله، وأن الله سبحانه وتعالى ينزل كل ليلة كما يليق بجلاله، وأنه تعالى يعجب ويضحك كما يليق بجلاله، فهذه الصفات تكلم فيها المتكلمون وزعموا أنها حوادث، وهذا كله من عبث الشيطان، وإلا فأصل مبدأ الإيمان بالصفات مبني على الغيب، وإذا كان مبنياً على الغيب فلم ينفون صفات الله تعالى وهو رجم بالغيب؟! قال رحمه الله تعالى: [وثانيها: قول من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي كقول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم، والثالث: قول من يقول: يمكن دوامها في الماضي والمستقبل، كما يقوله أئمة الحديث، وهي من المسائل الكبار، ولم يقل أحد: يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل. ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون: إن كل ما سوى الله تعالى مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم، ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع محال، ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فإن الرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال يفعل ما يشاء ويتكلم إذا يشاء، قال تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران:40]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، وقال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15 - 16]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان:27]، وقال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]]. يريد بهذا أن يثبت أن صفة الكلام لله تعالى أفرادها باقية، والله سبحا

شرح العقيدة الطحاوية [16]

شرح العقيدة الطحاوية [16] إرادة الله عز وجل لا حدود لها، فالله يفعل ما يريد، وكل ما تكلم به المتكلمون من القدرية وغيرهم في مسألة فعل الله تعالى وقدرته إنما هو أوهام في أذهانهم لا تتعدى أن تكون وساوس، أما إرادة الله المتعلقة بفعل العبد فكان خطأ القدر فيها أنهم لم يستطيعوا أن يفرقوا بين إرادة الله الكونية وإرادته الشرعية، فاعتبرت الجبرية أن إرادة الله كلها كونية وليس فيها إرادة شرعية، بينما اعتبرت القدرية أن إرادة الله كلها شرعية وليس فيها إرادة كونية.

أزلية أفعال الله وحدوث المخلوقات

أزلية أفعال الله وحدوث المخلوقات قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري: ظاهر كلام الشيخ رحمه الله تعالى: أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، ويأتي في كلامه ما يدل على أنه لا يمنعه في المستقبل، وهو قوله: (والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان)، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم، ولاشك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل كما ذهب إليه الجهم وأتباعه، وقال بفناء الجنة والنار؛ لما يأتي من الأدلة إن شاء الله تعالى. وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها من القائلين بحوادث لا آخر لها؛ فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما؛ فإنه سبحانه لم يزل حياً، والفعل من لوازم الحياة، فلم يزل فاعلاً لما يريد كما وصف بذلك نفسه حيث يقول: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:15 - 16]]. ملخص هذا الكلام أنه يجب أن نفرق في التسلسل بين أمرين: بين التسلسل في أفعال الله تعالى وبين التسلسل في الأسباب والمؤثرات، فالتسلسل في أفعال الله تعالى واقع، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أفعاله لا تنتهي، كما أنها في الأزل، ولا يمكن أن نقول: إنها حدثت استئنافاً، خاصة فيما يتعلق بقدرة الله على الأفعال، فالله سبحانه وتعالى خالق قبل أن يوجد الخلق، وحينما وجدت المخلوقات علم أن قدرة الله على الخلق متجددة، وهذا في الأزل وإلى الأبد؛ لأن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وأوليته أولية مطلقة في أفعاله وأسمائه وصفاته. وكذلك التسلسل في أفعال الله الأخرى غير مسألة الخلق، كمثل مسألة الكلام، فالله سبحانه وتعالى متكلم على ما يليق بجلاله، حتى قبل أن يحدث الكلام منه سبحانه فيما يخص الخلق؛ لأن الله سبحانه وتعالى أعلمنا بأنه تكلم فيما يتعلق بمصالح العباد، كتكلمه بالقرآن، وندائه لخلقه يوم القيامة ونحو ذلك، فهذا ما نعلمه، وما لا نعلمه لا ينتهي، فالله قدرته مطلقة، وهو متصف بصفة الكلام منذ الأزل وإلى ما لا نهاية، وهذا يعني: أن الله يتكلم متى شاء، فهذا معنى التسلسل في أفعال الله تعالى، فأفعال الله تعالى ليس لها بداية وليس لها نهاية، وهذا يعني الكمال المطلق. لكن الممنوع هو التسلسل في المؤثرات، أي: في المخلوقات، في تأثر المخلوقات، أو تأثير بعض المخلوقات في بعض، فالمخلوقات قد يكون بعضها علة لآخر، فالإنسان مخلوق من طين ثم يعود إلى طين ثم يبعث يوم القيامة، وهكذا تتسلسل أحواله، فهذا التسلسل في المخلوقات لابد من أن ينتهي، بمعنى: أن علة الشيء لا تبقى علة إلى الأبد. إذاً: فالتسلسل في الأسباب والمؤثرات ممتنع، أما التسلسل في أفعال الله تعالى فلا نهاية له، وهذا أمر لا يمكن أن يدرك على وجه التفصيل والإحاطة، فأفعال الله لا يمكن أن تدرك على وجه التفصيل والإحاطة، وكل ما تكلم به المتكلمون في أفعال الله تعالى إنما هو رجم بالغيب وتوهم لا حقيقة له، فالله أعظم وأجل من أن تحيط عقول البشر بما يتعلق بذاته وأفعاله سبحانه. فالتسلسل في المخلوقات وربط بعضها ببعض أو انبثاق بعضها عن بعض أمر لابد من أن يكون له نهاية، وإلا وقعنا في الدور؛ لأن كل سبب له سبب إلى ما لا نهاية، وهذا لا يمكن، من أجل أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى هو الخالق وهو الفعال لما يريد. أما أفعال الله تعالى فلا يجوز أن نتصور أن لها نهاية ولا بداية بمفهومنا المحدود بالبداية الزمنية، والأولى ألا نخوض بمثل ما خاض به الخائضون، لكن دفعاً لشبهاتهم التي لا تندفع إلا بمثل هذا الكلام الضروري كان لابد من الكلام، والسلف اضطروا للكلام في هذه المسائل لمقاومة تيار المتكلمين الذي ساد في الأمة، حتى إنا نجد الآن ومنذ زمن بعد القرون الثلاثة الماضية أن أغلب من ينسبون إلى العلم مبتلون بعلم الكلام، فإذا كان كذلك فلابد من البيان. فالقول بمنع تسلسل الحوادث في الماضي معناه: أنه يمتنع أن تكون المخلوقات بعضها سبباً لبعض إلى ما لا نهاية له في الماضي، فلابد من أن تكون المخلوقات قد بدأت بخلق الله تعالى بكلمة (كن) أو بما قدره الله سبحانه وتعالى في خلقه وفعله. وأما في المستقبل فالله أخبرنا بأن هناك أبدية لا تنتهي، وهي أبدية الجنة والنار، فهذا يعني أن الله سبحانه وتعالى هو الذي أخبرنا بأن هناك من مخلوقاته ما لا ينتهي، فيبقى احتمال التسلسل في المفعولات في المستقبل وارداً بقدرة الله سبحانه وتعالى، وهذا رأي بعض أهل العلم، ومع ذلك فإن أمر المستقبل اللامتناهي أمر لا يمكن أن تحيط به العقول. لكن نظراً لأن جهماً زعم أنه لا يمكن أن تتسلسل الحوادث مستقبلاً، ومن هنا قرر بزعمه أن الجنة والنار تنتهيان وتبيدان؛ تكلم بعض أهل العلم في هذه المسألة وقالوا: إن التسلسل في المستقبل ليس له نهاية بقدرة الله سبحانه وتعالى في بعض المخلوقات. وهذه المسألة لولا أنها في الكتاب والتزمنا أن نقرأ الكتاب لما جئنا بها أبداً، فأنتم -بحمد الله- كلكم عل

دلالات قوله تعالى: (فعال لما يريد)

دلالات قوله تعالى: (فعال لما يريد) قال رحمه الله تعالى: [والآية تدل على أمور: أحدها: أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته. الثاني: أنه لم يزل كذلك؛ لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه، وأن ذلك من كماله سبحانه، ولا يجوز أن يكون عادماً لهذا الكمال في وقت من الأوقات، وقد قال تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17]، ولما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله لم يكن حادثاً بعد أن لم يكن. الثالث: أنه إذا أراد شيئاً فعله، فإن (ما) موصولة عامة، أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، أما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر، فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً لم يوجد الفعل، وإن أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلاً، وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية وخبطوا في مسألة القدر لغفلتهم عنها، وفرق بين إرادته أن يفعل العبد وإرادة أن يجعله فاعلاً، وسيأتي الكلام على مسألة القدر في موضعه إن شاء الله تعالى]. ملخص هذه المسألة: أن إرادة الله -كما هو معلوم- لا حدود لها، فالله يفعل ما يريد، وكل ما تكلم به المتكلمون من القدرية وغيرهم في مسألة فعل الله تعالى وقدرته إنما هو أوهام في أذهانهم لا تتعدى أن تكون مجرد وساوس. أما كلامه في هذه المسألة ففيما يتعلق بفعل العبد وإرادة الله أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً، أراد بهذا التفريق بين الإرادة الكونية العامة وبين إرادة خلقه. فالله سبحانه وتعالى أراد كل شيء إرادة كونية عامة، وكل ما أراده الله كوناً لابد من أن يقع، لكن هناك إرادة أخرى وهي الإرادة الشرعية الدينية، فهذه الإرادة الشرعية الدينية يريدها الله من العبد، ولكن قد لا يفعلها العبد لأسباب الضلالة التي تسلط على العباد، فالله سبحانه وتعالى جعل من أسباب الضلالة الهوى ووساوس الشيطان. ومثال ذلك: أن الله سبحانه وتعالى يريد من العباد الإسلام، والكافر لم يفعل ما يريده الله، فكون الكافر لم يفعل ما يريد الله يعني: أنه تخلف عن إرادة أرادها الله شرعاً، والله سبحانه وتعالى جعل الابتلاء على العباد، ومن الابتلاء أن أعطى الناس القدرة على تمييز الخير من الشر، ثم القدرة على فعل الخير باختيار وعلى فعل الشر باختيار، وإرادته الدينية متعلقة بما يرضاه ويحبه. وقد لا يفعل كثير من العباد ما يريده الله ويحبه مما أمر الله به، وهذا هو الفرق بين الإرادتين، فلم يستطع القدرية أن يفرقوا بينهما؛ لأنهم حكموا عقولهم كما هو معروف. فالشارح يقول: [الثالث: أنه إذا أراد شيئاً فعله؛ فإن (ما) موصولة عامة، أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله]. فالله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً إرادة كونية فعله، وهي المشيئة، فإذا شاء شيئاً فعله، هذا معنى الإرادة هنا. قال رحمه الله تعالى: [وهذا في إرادته المتعلقة بفعله، وأما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر]. فإرادة الله تعالى المتعلقة بفعل العبد على نوعين. قال رحمه الله تعالى: [فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه] أي: أراد إرادة دينية أن يطيعه العبد -كأن يصلي- ولكن لم يرد سبحانه وتعالى أن يهدي هذا العبد؛ فإن هذه الإرادة تتخلف؛ لأنها أنيطت بفعل المكلف، وهو العبد الذي أمر أن يفعل ما يريده الله أو ما يرضاه الله ويحبه، فلما لم يفعل تخلفت الإرادة، فالله لم يرد في نفسه أن يعينه ويجعله فاعلاً ولم يوجد الفعل، فلو أوجد المعصية في العبد العاصي بغير اختياره صار مجبوراً، والمجبور لا يكلف، فلو أن الله سبحانه وتعالى جعل العباد يصلون قصراً دون إرادة التغت إرادتهم، فصاروا كالأنعام. فالشارح رحمه الله تعالى يقول: [فإن أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلاً لم يوجد الفعل وإن أراده، حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلاً، وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية] فالجبرية يزعمون أن كل شيء بإرادة الله، ولا يقرون بإرادته الدينية، فيزعمون أن العاصي قسره الله وأجبره على المعصية. وهذا خطأ يدركه كل إنسان عاقل؛ لأن العاقل يدرك أنه يميز بين الخير والشر، وإذا لم يميز فإنه يجد الهادي إلى الخير والمحذر من الشر وهو الوحي، حتى ولو لم يدركه عقله، فكل عبد عاقل يجد من نفسه الميل إلى فعل الطاعات التي هي بمقدوره، كما أنه يجد من نفسه الميل إلى الهوى والشهوات، فإذا كان كذلك فإن الإرادة الدينية متعلقة بفعل العبد، فإن فعلها وقعت، فإن لم يفعلها لم تقع، لا لأن الله عاجز كما يزعم القدرية، بل لأن الله أناطها بفعل العبد، وهذا هو سر التكليف وهو سر الابتلاء، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. قال رحمه الله تعالى: [الرابع: أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعله فعله، وما فعله فقد أراده، بخلاف المخلوق، فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريد، فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده. الخامس: إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعا

بيان اتصاف الله بكونه ربا وخالقا قبل وجود المربوب المخلوق

بيان اتصاف الله بكونه رباً وخالقاً قبل وجود المربوب المخلوق قال رحمه الله تعالى: [قوله: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق). يعني: أن الله تعالى موصوف بأنه (الرب) قبل أن يوجد مربوب، وموصوف بأنه (خالق) قبل أن يوجد مخلوق، قال بعض المشايخ الشارحين: وإنما قال: له معنى الربوبية ومعنى الخالق دون (الخالقية)؛ لأن (الخالق) هو المخرج للشيء من العدم إلى الوجود لا غير، و (الرب) يقتضي معاني كثيرة، وهي: الملك والحفظ والتدبير والتربية، وهي تبليغ الشيء كماله بالتدريج، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني، وهو الربوبية. انتهى. وفيه نظر؛ لأن الخلق يكون بمعنى التقدير أيضاً]. التفريق بين العبارتين فيه شيء من التكلف، وإن كان الإمام الطحاوي رحمه الله قد يكون راعى أموراً في تعبيره عن الربوبية بالمصدر وعن الخالق باسم الفاعل، ولعل من هذه الأمور: أن الربوبية أشمل معنى، لا على نحو ما ذكره الشارح لكنها (أشمل)؛ لأنها تشمل الخلق وزيادة. وهناك معنى آخر، وهو أن مسألة الربوبية قد يختلط مفهومها عند الناس، بمعنى أنهم قد يزعمون الربوبية أو شيئاً من بعض خصائص الربوبية لغير الله. فلذلك جاء بلفظ المصدر ليعم، أما مسألة الخلق فليس هناك من يزعم من الأمم الضالة أن الخالق غير الله، وإن نسبوا بعض الخلق إلى غير الله فإنهم مع ذلك يعترفون بأن الخالق الأول والخالق القادر الباقي سبحانه وتعالى هو الله سبحانه وتعالى. فعبر بلفظ (الربوبية) ولم يقل: الرب؛ ليزيل ما في ذلك من مفهوم كثير من الذين ضلوا بأن أعطوا بعض الخلق شيئاً من خصائص الربوبية، فحصر الربوبية كلها لله سبحانه وتعالى، أما الخلق فالناس معترفون بأنه وحده الخالق. قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وكما أنه محيي الموتى بعدما أحيا، استحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم): يعني: أنه سبحانه وتعالى موصوف بأنه (محيي الموتى) قبل إحيائهم، فكذلك يوصف بأنه (خالق) قبل خلقهم، إلزاماً للمعتزلة ومن قال بقولهم، كما حكينا عنهم فيما تقدم، وتقدم تقرير أنه تعالى لم يزل يفعل ما يشاء].

بيان عموم قدرة الله تعالى

بيان عموم قدرة الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ذلك بأنه على كل شيء قدير، وكل شيء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]): (ذلك) إشارة إلى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه، والكلام على (كل) وشمولها وشمول (كل) في كل مقام بحسب ما يحتف به من القرائن يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى. وقد حرفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:284] فقالوا: إنه قادر على كل ما هو مقدور له، وأما نفس أفعال العباد فلا يقدر عليها عندهم! وتنازعوا: هل يقدر على مثلها أم لا؟! ولو كان المعنى على ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقال: هو عالم بكل ما يعلمه، وخالق لكل ما يخلقه، ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها، فسلبوا صفة كمال قدرته على كل شيء! وأما أهل السنة فعندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا، وأما المحال لذاته -مثل كون الشيء الواحد موجوداً معدوماً في حال واحدة-؛ فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئاً باتفاق العقلاء. ومن هذا الباب: خلق مثل نفسه، وإعدام نفسه، وأمثال ذلك من المحال. وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة؛ فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر على تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه على كل شيء قدير، وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن: هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج]. هذا كله من باب السفسطة والجدال العقيم الذي لا ناتج وراءه، بل مما هو يمرض القلوب، فالذين تكلموا بهذه الأمور الكلامية تأثروا بكلام الفلاسفة الملاحدة المشركين الذين لا يؤمنون بالوحي أصلاً ولا يهتدون بهدي الله، فهؤلاء خاضوا في أمور الغيب بغير علم فتأثر بهم أصحاب هذه الاتجاهات من المتكلمين المعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم. لذلك تنازعوا في أمورٍ الكلامُ كله فيها تحصيل حاصل، بل هو تضييع للوقت والجهد وإماتة للقلوب، كتنازعهم في المعدوم الممكن هل هو شيء أم لا، فهذا كله من الفلسفة التي لا تثمر؛ لأن المعدوم الممكن في الذهن وليس في الواقع، مثاله: أن يفترض إنسان أن الله سبحانه وتعالى قادر على خلق جنة أخرى غير الجنة التي ذكرها، فهذا ممكن، ويقولون: هذه الجنة المفترضة معدومة؛ لأنها لم توجد، ولم يذكر الله سبحانه وتعالى أنها ستوجد. إذاً: ما الذي يترتب على تصورها أو تصور أنها شيء أو غير شيء؟! كل ذلك إنما هو من السفسطة التي لا داعي للكلام فيها أبداً، بل الكلام في مثل هذه الأمور لغير ضرورة ملحة -كالبيان والرد على الشبهات- هو من الإثم، ويجب على المسلم أن يتجنب مثل هذه الافتراضات. قال رحمه الله تعالى: [والتحقيق أن المعدوم ليس بشيء في الخارج]. يقصد بالخارج خارج الذهن، وهذه -أيضاً- من مشاكل المتكلمين وعباراتهم التي تموه على الناس، فإذا تصورت معدوماً -كجنة غير الجنة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى- فهذا أمر ممكن، لكن تصوره لا يخرج عن الوهم الذي هو في خواطر الإنسان وذهنه، ومعنى (لا وجود لها في الخارج) كونها غير مخلوقة، أو فيما هو خارج الذهن من الموجودات، أو الحيز الذي فيه الموجودات. قال رحمه الله تعالى: [ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به، كقوله تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1]، فيكون شيئاً في العلم والذكر والكتاب لا في الخارج، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وقال تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9] أي: لم تكن شيئاً في الخارج، وإن كان شيئاً في علمه تعالى. وقال تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]].

شرح العقيدة الطحاوية [17]

شرح العقيدة الطحاوية [17] العلم صفة من صفات الكمال الثابتة لله سبحانه وتعالى، وقد نفى أهل التعطيل هذه الصفة، ويرد عليهم في ذلك بأن الله سبحانه هو موجد الأشياء وخالقها، ويستحيل إيجاد الأشياء وخلقها دون العلم بها، كما أن من مخلوقاته من هو عالم، والعلم صفة كمال، ويستحيل أن تكون هذه الصفة في المخلوق دون خالقه، فلا يصح عقلاً أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه.

الرد على المشبهة بنفي المماثلة والمعطلة بإثبات صفات الكمال

الرد على المشبهة بنفي المماثلة والمعطلة بإثبات صفات الكمال قال المصنف المؤلف رحمه الله تعالى: [وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] رد على المشبهة، وقوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] رد على المعطلة، فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، وليس له فيها شبيه. فالمخلوق وإن كان يوصف بأنه سميع بصير؛ فليس سمعه وبصره كسمع الرب وبصره، ولا يلزم من إثبات الصفة تشبيه؛ إذ صفات المخلوق كما يليق به، وصفات الخالق كما يليق به، ولا تنف عن الله ما وصف به نفسه، وما وصفه به أعرف الخلق بربه وما يجب له وما يمتنع عليه، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم وأقدرهم على البيان؛ فإنك إن نفيت شيئاً من ذلك كنت كافراً بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا وصفته بما وصف به نفسه فلا تشبهه بخلقه، فليس كمثله شيء، فإذا شبهته بخلقه كنت كافراً به. قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً. وسيأتي في كلام الشيخ الطحاوي رحمه الله: ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه].

ثبوت المثل الأعلى لله جل جلاله

ثبوت المثل الأعلى لله جل جلاله قال رحمه الله تعالى: [وقد وصف الله تعالى نفسه بأن له المثل الأعلى، فقال تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل:60]، وقال تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم:27]، فجعل سبحانه مثل السوء المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال لأعدائه المشركين وأوثانهم، وأخبر أن المثل الأعلى المتضمن لإثبات الكمال كله لله وحده، فمن سلب صفات الكمال عن الله تعالى فقد جعل له مثل السوء، ونفى عنه ما وصف به نفسه من المثل الأعلى، وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية، والمعاني الثبوتية، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان بها أكمل وأعلى من غيره، ولما كانت صفات الرب تعالى أكثر وأكمل كان له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى المطلق اثنان؛ لأنهما إن تكافآ من كل وجه لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ فالموصوف به أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير. واختلفت عبارات المفسرين في المثل الأعلى ووفق بين أقوالهم بعض من وفقه الله وهداه، فقال: المثل الأعلى يتضمن الصفة العليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب تعالى بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه. فهاهنا أمور أربعة: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه وتعالى، سواء علمها العباد أو لا، وهذا معنى قول من فسرها بالصفة، الثاني: وجودها في العلم والشعور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره، ومحبته وجلاله، وتعظيمه، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه، وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشركه فيه غيره أصلاً، بل يختص به في قلوبهم، كما اختص به في ذاته. وهذا معنى قول من قال من المفسرين: إن معناه: أهل السماوات يعظمونه ويحبونه ويعبدونه وأهل الأرض كذلك، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فأهل الأرض معظمون له، مجلون، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته وجبروته، قال تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم:26]. الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل. الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده، والإخلاص له، والتوكل عليه، والإنابة إليه، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى. فعبارات السلف كلها تدور على هذه المعاني الأربعة، فمن أضل ممن يعارض بين قوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [الروم:27]، وبين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، ويستدل بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] على نفي الصفات، ويعمى عن تمام الآية، وهو قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، حتى أفضى هذا الضلال ببعضهم -وهو أحمد بن أبي داؤد القاضي - إلى أن أشار على الخليفة المأمون أن يكتب على ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم! حرف كلام الله لينفي وصفه تعالى بأنه السميع البصير، كما قال الضال الآخر جهم بن صفوان: وددت أني أحك من المصحف قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، فنسأل الله العظيم السميع البصير أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة بمنه وكرمه].

ذكر ما قيل في إعراب (كمثله)

ذكر ما قيل في إعراب (كمثله) قال رحمه الله تعالى: [وفي إعراب (كمثله) وجوه: أحدها: أن الكاف صلة زيدت للتأكيد، قال أوس بن حجر: ليس كمثل الفتى زهير خلق يوازيه في الفضائل وقال الآخر: ما إن كمثلهم في الناس من بشر. وقال آخر: وقتلى كمثل جذوع النخيل فيكون (مثله) خبر (ليس)، واسمها (شيء)، وهذا وجه قوي حسن، تعرف العرب معناه في لغتها، ولا يخفى عنها إذا خوطبت به، وقد جاء عن العرب أيضاً زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم: وصاليات ككما يؤثفين. وقول الآخر: فأصبحت مثل كعصف مأكول. الوجه الثاني: أن الزائد (مثل)، أي: ليس كهو شيء، وهذا القول بعيد؛ لأن (مثل) اسم، والقول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم. الوجه الثالث: أنَّه ليس ثم زيادة أصلاً، بل هو من باب قولهم: مثلك لا يفعل كذا. أي: أنت لا تفعله. وأتى بـ (مثل) للمبالغة، وقالوا في معنى المبالغة هنا: أي: ليس لمثله مثل لو فرض المثل، فكيف ولا مثل له، وقيل غير ذلك، والأول أظهر].

إثبات صفة العلم الكامل لله جل جلاله

إثبات صفة العلم الكامل لله جل جلاله قال رحمه الله تعالى: [قوله: (خلق الخلق بعلمه): (خلق) أي: أوجد وأنشأ وأبدع، ويأتي (خلق) أيضاً بمعنى: قدر. والخلق: مصدر، وهو هنا بمعنى المخلوق. وقوله: (بعلمه) في محل نصب على الحال، أي: خلقهم عالماً بهم، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60]، وفي ذلك رد على المعتزلة. قال الإمام عبد العزيز المكي صاحب الإمام الشافعي رحمه الله وجليسه في كتاب (الحيدة) الذي حكى فيه مناظرته بشراً المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى: فقال بشر: أقول: لا يجهل، فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم تقريراً له، وبشر يقول: لا يجهل، ولا يعترف له أنه عالم بعلم، فقال الإمام عبد العزيز: نفي الجهل لا يكون صفة مدح؛ فإن قولي: هذه الأسطوانة لا تجهل ليس هو إثبات العلم لها، وقد مدح الله تعالى الأنبياء والملائكة والمؤمنين بالعلم لا بنفي الجهل، فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه]. هذه الفلسفة عند المعتزلة ناتجة عن قولهم بأن الله تعالى عليم بلا علم، فلذلك يهربون من إثبات صفة العلم بكل وسيلة، حتى ولو بتكلف وتمحل، كما في مثل هذه المناظرة التي جرت بين الكناني وبشر المريسي، وكتاب الحيدة قد أورد بعض المتأخرين حوله إشكالاً في ثبوته بنصه عن الكناني، فالكتاب الموجود المطبوع الآن قد لا يكون بنصه هو كتاب الكناني، لكن المناظرة جرت وفحواها موجودة في الكتاب، وإنما صياغة الكتاب قد تكون دخلتها الصناعة؛ لأنه في بعض القضايا التي وردت في الكتاب ما لم يكن معهوداً في ذلك الزمن، أي: في زمن الكناني، وهذه هي الشبهة التي أوردت على الحيدة، ومع ذلك فإن المناظرة واردة فعلاً والحيدة صحيحة، أي: حيدة المريسي، بمعنى: نكوصه عن الجواب ووقوفه وانقطاعه. ثم إن أكثر قضايا المناظرة نقلت عن الأئمة العلماء، سواء عن طريق كتاب الحيدة أو عن غيره، وإنما يبقى الإشكال في الصياغة، بمعنى أنه قد يكون دخل في صياغة الكتاب بعض الاجتهادات من النساخ أو غيرهم.

الدليل العقلي على إثبات صفة العلم الكامل لله تعالى

الدليل العقلي على إثبات صفة العلم الكامل لله تعالى قال رحمه الله تعالى: [والدليل العقلي على علمه تعالى: أنه يستحيل إيجاده الأشياء مع الجهل، ولأن إيجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد هو العلم بالمراد، فكان الإيجاد مستلزماً للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، فالإيجاد مستلزم للعلم، ولأن المخلوقات فيها من الإحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها؛ لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير عالم، ولأن من المخلوقات ما هو عالم، والعلم صفة كمال، ويمتنع ألا يكون الخالق عالماً. وهذا له طريقان: أحدهما: أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين أحدهما عالم والآخر غير عالم؛ كان العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالماً لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع. الثاني: أن يقال: كل علم في الممكنات التي هي المخلوقات فهو منه، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عارياً منه، بل هو أحق به، والله تعالى له المثل الأعلى، لا يستوي هو والمخلوقات، لا في قياس تمثيل ولا في قياس شمول، بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق به أحق، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزيه الخالق عنه أولى]. هذا الأمر فطري بالطبع، لا يكاد يغالط فيه أي عاقل، وهو أن الله سبحانه وتعالى الذي علم الإنسان ما لم يعلم لابد من أن يكون هو العالم، ولا يمكن أن يكتب المخلوق -وهو الإنسان أو غير الإنسان- علماً من دون الله، فالله سبحانه وتعالى إذا كان هو الذي وهب العباد العلم؛ فمن باب الضرورة العقلية والفطرية أنه سبحانه هو العالم، وأن ما عند المخلوقين إنما هو من علم الله، ولا يساوي مع علم الله شيئاً. قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وقدر لهم أقداراً): قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2 - 3]. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)].

شرح العقيدة الطحاوية [18]

شرح العقيدة الطحاوية [18]

بيان المراد بواجب الوجود عند المتكلمين

بيان المراد بواجب الوجود عند المتكلمين Q ما المراد بقولهم: واجب الوجود؟ A هذا تعبير عن مصطلح المتكلمين والفلاسفة الذين يسمون الله سبحانه وتعالى بواجب الوجود، بمعنى الذي وجوده معلوم بالضرورة، وليس الواجب هنا بمعنى الواجب الشرعي المكلف به، إنما الواجب الذي يسلم العقل به ضرورة. وبمعنى آخر: الواجب بمعنى اللازم الأزلي الذي لا يفتقر وجوده إلى موجد، بل وجود الموجودات يفتقر إليه، وعكسه المخلوق المحدث، فيسمونه الممكن، وهذا تعبير فلسفي الأولى في الحقيقة تفاديه، فالتعبير بأنه جل جلاله هو الأول الذي ليس قبله شيء -كما عبر النبي صلى الله عليه وسلم- هو الأولى.

بيان ما يوصف به المخلوق من الكمال

بيان ما يوصف به المخلوق من الكمال Q هل يصح إطلاق الكمال على المخلوق؟ A الكمال للمخلوق كمال نسبي بحسبه، وليس للمخلوق كمال مطلق، بل كماله كمال نسبي محدود، فقد يقال: هذا الإنسان كامل في أخلاقه أو كامل في علمه، وهذا من باب التساهل في التعبير، وهو تعبير صحيح، بمعنى أنه أدرك أو بلغ الكمال الإنساني اللائق بالمخلوق، وليس المقصود الكمال المطلق الكمال الذي هو كمال الله سبحانه وتعالى.

حكم استيقان ما يذكر في كتب الاعتقاد

حكم استيقان ما يذكر في كتب الاعتقاد Q ما هو حكم استيقان ما يذكر من أمور الغيب في كتب الاعتقاد؟ A الأمور التي ورد فيها، النص تتيقن ولا شك، لكن الأمور الغيبية التي لم يرد فيها، فكلام المتكلمين عن التأويل والتعطيل أمر لم يرد به النص، ولا يمكن أن نتيقن معنى من المعاني التي وردت بإملاء العقل إذا كانت على طريق التأويل أو التعطيل.

حكم التعويل على العقل في تأكيد البدهيات في حق الله تعالى

حكم التعويل على العقل في تأكيد البدهيات في حق الله تعالى Q هل يعول على العقل في تأكيد البدهيات؟ A ما يتعلق بالله تعالى يجب أن نأخذه من الشرع؛ حتى لا نصفه تعالى بما قد يظن أنه كمال في حقه بالنظر إلى المخلوقين وهو ليس كمالاً بالنسبة له سبحانه، فما سكت عنه الشرع نفياً أو إثباتاً لم يكن للعقل أن يثبته أو ينفيه، وأما الكمال المطلق أو النقص الذي تدركه العقول بداهة فإنه يعول عليها فيه، فالعدم ينفيه العقل قطعاً، فهنا يجوز التعويل على العقل في هذا الأمر العام المطلق. وكذلك النقص والعيب ينفيه العقل مطلقاً عن الله سبحانه وتعالى على وجه الإجمال، فالعقل يعول على تأكيده في البدهيات التي لا يسع العقل أن ينفك عن إثباتها أو عن نفيها.

علاقة العقل بالأدلة الشرعية وحدوده معها

علاقة العقل بالأدلة الشرعية وحدوده معها Q ما هي حدود العقل مع الأدلة الشرعية؟ وكيف نقول: إننا نكتفي بالدليل والعقل تابع له، ونحن لا يمكن أن نفهم الدليل أو نعرف معناه إلا باستخدام العقل، ولو نظرنا إلى الدليل بدون عقل فإن نظرنا لا فائدة منه؟ A هذا سؤال مهم، وجدير بالعناية، وسيأتي في الطحاوية في دروس قادمة بإذن الله، ولكن نقول في هذا: إن العقل هو وسيلة الفهم، وهو وسيلة الإدراك، وهو مناط التكليف، فلا يكلف إلا عاقل، فمن هنا كان العقل هو الوسيلة لفهم الشرع، بل هو وسيلة لفهم العقيدة بمعنى الإيمان بها، لكن كونه وسيلة لا يعني أنه هو الأصل؛ لأن العقل هو الدليل، لكن المدلول أكبر من الدليل، فنظرك يدلك على الشمس، فهل النظر أكبر من الشمس؟ الشمس موجودة، سواء وجد نظرك أو لم يوجد، وسواء ملكت الوسيلة أو لم تملكها، والخلق دال على الخالق، والخالق سبحانه وتعالى موجود سواء وجد الخلق أو لم يوجد. فالخلق هو وسيلة لمعرفة الخالق، لكن ليس وجود الخالق متوقفاً على وجود الخلق، والإيمان بالخالق لا يتوقف على النظر في المخلوقات، إنما هو من وسائل الإيمان بالخالق، والعقل كذلك، فالعقل وسيلة إلى معرفة الثوابت واليقينيات بقدر ما يستطيعه. وقد أورد الشارح مثلاً جيداً للعقل مع النقل يبين أن العقل دليل على الحقائق، لكن الدليل لا يكون أكبر من المدلول، حيث يقول: لو أنا افترضنا أن هناك ثلاثة أشخاص، أحدهم عالم، وهو الذي يملك العلم اليقيني، والثاني: جاهل يحتاج إلى من يرشده، والثالث: دليل يدل على العالم، فلو أن إنساناً من العامة سأل الدليل فقال: في نفسي سؤال أريد أن ترشدني إلى من يدلني. فهذا المرشد سيدل السائل على العالم، فلو أنه وصل إلى العالم فسأله فأجابه على المسألة بدليلها، فهل يملك الدليل أن يقول: أنا أفتيك بغير فتوى العالم؛ لأني أرشدتك إليه؟! فهذا لا يمكن؛ إذ كونه دليلاً لا يدل على أنه أقوى من المدلول عليه. إذاً: فالعقل إنما هو وسيلة، والوسيلة ليست هي كل شيء.

حكم التماس الحكمة في التشريع

حكم التماس الحكمة في التشريع Q هل للعقل السؤال عن حكمة الأمور التعبدية، كالسؤال عن الحكمة من الصلوات؟ A التماس الحكمة جائز شرعاً في كل أمر، وإذا التمس الإنسان الحكمة فهذا أحياناً يعينه على قوة اليقين والإيمان، لكن يجب ألا يتوقف تصديقه ولا عمله على معرفة الحكمة، فلو توقف تصديق الإنسان وعمله على معرفة الحكمة لترك كثيراً من أمور الدين، كما روي عن علي بن أبي طالب: (لو كان الدين بالرأي لكان مسح أسفل الخف أولى من مسح أعلاه)، لكن الدين ليس بالرأي، فلا مانع من أن يلتمس الحكمة؛ لأن هذا يقوي إيمانه ويقينه، فتؤيد الأدلة النقلية بالبراهين العقلية، لكن بشرط ألا يتوقف الإيمان ولا العمل على النظر في الحكمة.

بيان معنى قواعد النظر العقلي

بيان معنى قواعد النظر العقلي Q قال المحقق: (وقد استنبطوا من آياته قواعد النظر العقلي)، فما قواعد النظر العقلي؟ A قواعد النظر العقلي هي قواعد الاستدلال العقلي على الأمور الحسية أو على الأمور الغيبية التي تؤيد النصوص الشرعية، والمتكلمون يستدلون بقواعد النظر العقلي حتى على الأمور الغيبية التي لا يمكن أن يدركها العقل.

العقل وإقحامه في معرفة كيفيات البعث والنشور ونحو ذلك

العقل وإقحامه في معرفة كيفيات البعث والنشور ونحو ذلك Q ذكر ابن خلدون في مقدمته منع أن يدخل العقل ويحكم في العقيدة والقيامة والبعث والنشور وغيرها كما فهمنا، فهل هذا على إطلاقه في جميع نواحي العقيدة، فيعطل العقل ويكتفى بما جاءنا بالنقل؟ A هذه الأشياء لا يستقل العقل بإدراكها على التفصيل، فلا يمكن أن العقل يدرك ما يتعلق بالقيامة والبعث والنشور على التفصيل، فلا مجال للعقل في إدراك هذه القضايا السمعية على جهة التفصيل أبداً، وهذا أمر يدركه كل عاقل، ويمكن أن أقول على سبيل الجزم: إني أتحدى أن يكون عقل من عقول البشر من أول الدنيا إلى آخرها قد أدرك مستقلاً شيئاً مفصلاً عن يوم القيامة والبعث والنشور، إنما يظن، والظن لا يغني من الحق شيئاً، فكلام ابن خلدون صحيح في هذا المجال، ولا يسمى هذا تعطيلاً للعقل؛ لأنك إذا استعملت الشيء في غير ما يطيقه فهذا إرهاق له، إذا استعملت أي شيء فيك بأكثر مما يطيق فهذا لا يسمى تعطيلاً، بل يسمى إرهاقاً. إذاً: العقل إذا استخدم فيما يستطيع فهذه وظيفته، والعقل إنما مجاله عالم الشهادة وليس عالم الغيب، وهذا أمر مدرك بالعقل نفسه، فإذا كان العقل نفسه يعرف أنه لا يعقل الغيبيات؛ فترك إقحامه في الغيبيات هو إكرام له وإشفاق عليه، وأنت إذا رحمت إنساناً فمنعته من أن يحمل أكثر مما يطيق كان هذا إشفاقاً عليه، لكن لو أنك حملته ما لا يطيق كان هذا عنتاً عليه، وهذا هو مثل العقل، فالعقل إذا كلفناه البحث في أمور الغيب حملناه ما لا يطيق، وإذا أعفيناه من البحث في أمور الغيب فإنما نكون أشفقنا عليه وكرمناه، فإكرام العقل استخدامه فيما يستطيع.

معنى الواحد عند المتكلمين

معنى الواحد عند المتكلمين Q ما معنى قوله: (الواحد عند المتكلمين ما لا صفة له، ولا يعلم منه شيء دون شيء ولا يعرف)؟ A الفلاسفة والمتكلمون الذين ظهروا في الإسلام -خاصة الغلاة منهم- يقولون: الواحد فكرة مجردة لا حقيقة لها، بمعنى أنه لا أداة له، فالواحد هو جميع الموجودات، فلذلك اعتقدوا وحدة الوجود؛ لأنهم يقيسون الأمور بمقاييس عقلية، فقالوا: إذا قلنا بأن الله له ذات موصوفة ما صار واحداً، بل يصير هو والمخلوقات اثنين، وهذه فلسفة متهافتة؛ لأن المراد بالواحد الأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، لا مقارنته بالمخلوقات أو مشابهته أو مساواته بالمخلوقات، فالحق الذي عليه أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى واحد في ربوبيته وأسمائه وصفاته، وله الكمال المطلق، وكل ما سواه ناقص فانٍ. وأولئك إذا قالوا هذه الكلمة قصدوا بها وحدة الوجود، فمن هنا زعموا أن الله لا يقبل من الصفات غير صفات المخلوقين، فلذلك ينفون الأسماء والصفات عن الله تعالى ويطلقون على الله صفات النقص التي في المخلوقين، كما في أشعارهم وفي كلماتهم وفي كتبهم، ومن الخير لكم ألا تروا ولا تسمعوا من ذلك شيئاً.

الكفر بين إرادته كونا وعدم الرضا به شرعا

الكفر بين إرادته كوناً وعدم الرضا به شرعاً Q إذا قيل: إن الله يريد الكفر من الكافر ويشاؤه ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه ديناً، فما المراد بذلك؟ A الإرادة ليست هي المشيئة بإطلاق، فالمشيئة كلها متعلقة بالأمور الكونية العامة، متعلقة بالربوبية، أما الإرادة فنوعان: إرادة كونية -وهي المشيئة-، وإرادة دينية وهي ما يريده الله شرعاً، وما يرضاه وما يحبه، وإذا مثلنا بكفر الكافر انطبقت عليه هذه الدرجات من المشيئة ثم الإرادة الكونية والإرادة الدينية، فالكافر حينما كفر فإنما كفره بمشيئة الله، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء وهو المقدر لكل شيء، ولا يخرج شيء عن قدر الله ومشيئته، لكن لا يعني ذلك أن الله يرضى ذلك ويحبه، بل الله سبحانه وتعالى لا يرضى لعباده الكفر ولا يحب ذلك لهم ويكره ذلك منهم، وهذا الأمر الفاصل بين الإرادة الكونية العامة والإرادة الشرعية. كما أن الله سبحانه وتعالى جعل للعبد إرادة، وإرادته هي حريته في أن يختار الخير أو يختار الشر، وذلك متعلق بأوامر الله ونواهيه وببيانه الذي بين للعباد، أعني بذلك أن الله سبحانه وتعالى بين للعباد طريق الخير وأرشدهم إليه وفطرهم عليه، وبين لهم طريق الشر وحذرهم منه ونفر فطرهم منهم، وجعل لهم الإرادة والاختيار، وأرشدهم إلى أن من سلك الخير فإنه يقدره على ذلك ويهديه ويسدده ويرشده ويثيبه، وأن من أراد الشر فإنه سبحانه وتعالى يقدره عليه، لكنه يتوعده ويعذبه، وهذا أمر واضح يدركه كل عاقل، ولو أن الإنسان قسر قسراً على الشر لما حوسب، فلو تصورنا أن إنساناً قسر على الشر قسراً بدون إرادة ولا إدراك؛ فهذا فاقد لعقله وفاقد للتمييز الذي يميز به بين الحق والباطل، ومن هنا لا يكلف. إذاً: التكليف على حرية الإنسان وقدرته ورغبته، ثم على البيان الذي بينه الله له، فقد بين له طريق الخير وبين له طريق الشر، فهذا داخل فيما يتعلق بإرادة الله الشرعية.

الفرق بين الأشاعرة وأهل السنة في إثبات صفة السمع

الفرق بين الأشاعرة وأهل السنة في إثبات صفة السمع Q ما الفرق بين إثبات الأشاعرة لصفة السمع وإثبات أهل السنة لها؟ A هناك بعض الفرق، وكلهم مثبتة فيما يتعلق بصفة السمع، ولكن إثبات الأشاعرة لصفة السمع فيه نوع فلسفة، بمعنى أنه فيه زيادة على ألفاظ الشرع، حيث عبروا عن تعلقها بذات الله سبحانه وتعالى أو بتعبيرات فلسفية، أما السلف فأثبتوها كما جاءت بدون زيادة، ولا يخوضون في كيفية تعلقها بالله سبحانه وتعالى؛ لأن تعلق الصفات بالموصوف -وهو الله سبحانه وتعالى الذي ليس كمثله شيء- لا يمكن أن يدرك على جهة التفصيل.

تربية النفس بأسماء الله وصفاته ما يصح منه وما لا يصح

تربية النفس بأسماء الله وصفاته ما يصح منه وما لا يصح Q نسمع كثيراً أنه ينبغي للمسلم أن يربي نفسه بأسماء الله وصفاته؟ A التخلق بصفات الكمال التي تليق بالبشر ممكن، بمعنى أنَّ هناك من صفات الكمال ما ألفاظه مشتركة، فهي في حق الله تعالى صفات كمال مطلق تليق بالله ولا تشبه صفات المخلوقين، وهي في حق المخلوق كمال مقيد، بمعنى أنها ليست كمالاً مطلقاً، كصفة الرحمة، فهي من صفات الله سبحانه وتعالى، وهي لله على الكمال المطلق، والعبد المؤمن المخلص يسعى لأن يكون في منتهى الرحمة التي يقدر عليها العباد، فإذا كان من هذا الوجه فنعم، أما إذا كان كما يقول بعض المبتدعة: إن صفات الله قد يتصف بها بعض من يقدسهم أتباعهم، كالأولياء عند الصوفية والأئمة عند الرافضة، فيجعلون لهم من صفات الله تعالى ما لا يجوز إلا لله من صفات الإلهية والربوبية، فهذا باطل. وأما التعبد بأسماء الله فهو وارد، بمعنى أن الإنسان إذا استشعر صفة العظمة لله سبحانه وتعالى فهم منها المعاني التي تعينه على عبادته، فذكر أسماء الله وصفاته في كتاب الله وفي السنة لا شك في أن له ثمرة وفائدة، ومن ثمراته أن المسلم يتخلق بما يستطيعه من الأخلاق الفاضلة وأخلاق الكمال وصفات الكمال، لكن هذا بقدر مقيد، والدخول فيه يكون على هذا النحو، والله سبحانه وتعالى أمرنا بالأخلاق الفاضلة والإحسان بأوامر مستقلة عن مسألة الأسماء والصفات.

الموقف من الإفراط والتفريط في التكفير

الموقف من الإفراط والتفريط في التكفير Q ذكرت أن الشرك سيقع في هذه الأمة، وأنه يجب ألا يكون العطف والشفقة سبباً في عدم وصف من اتصف بصفات شركية بما هو عليه، لكن المرء يحار حين يرى الناس بين مُفرِّط في التكفير ومُفرِّط فيه، فما هو الحل لهذه المشكلة؟ A هذا أمر واقع فعلاً، وهذه المسألة الآن واقعة بين الناس، وقليل منهم من يتوسط، وأكثرهم ما بين مغال في الاتهامات والتكفيرات حتى باللوازم وبما لا يكفر أو بمجرد الظواهر والحكم على القلوب، وآخر لا يرى التكفير حتى للكافرين، وهذه مسألة لابد من التوسط فيها، والتوسط هو من منهج السلف، فمنهج السلف أمامنا في الكتب، وفي عمل أئمة ومشايخ أهل السنة الموجودين بحمد الله، وهم الذين يرجع لهم في هذه الأمور، وأرى أن من أمثل ما تقوم به الحجة على الناس من أساليب علمائنا المعاصرين أسلوب الشيخ: عبد العزيز بن باز حفظه الله، فهو بحق يأخذ بمنهج أهل السنة والجماعة، وهو جدير بذلك، وأراه القدوة الذي ينبغي أن يوجه الشباب إلى مثل منهجه، ولذلك نجد تلك الطوائف قد تقول في أقوال الشيخ أشياء ولا تتورع. فالمنهج الوسط -بحمد الله- بين بأقوال مشايخنا وبين بمنهج السلف، لكن يبقى كيف نعالج هذه الظواهر، هذا هو السؤال الذي طرح، وفي رأيي أن المعالجة تكون بأمور: أولها: أن نسعى لارتباط الشباب بالعلم الشرعي الأصيل المتعلق بعلاج هذه الأمور المتمثل في كتب العقيدة وأقوال السلف، ونعالج من خلاله هذه الظواهر معالجة عقدية. الأمر الثاني: لابد من بيان هذا في قواعد واضحة وبالأمثلة الواضحة، ومن خلال المحاضرات والدروس والندوات، فينبغي لهذه الطائفة من طلاب العلم والمشايخ أن يعالجوا هذه المشكلة: مشكلة التكفير، ومشكلة التساهل إلى حد الإرجاء. والأمر الثالث: أنه لابد من تأليف كتب إضافة إلى نشر المحاضرات في هذا الموضوع بشتى الوسائل، فلابد من تأليف كتب ورسائل صغيرة تعالج هذه القضايا بدقة وبوضوح وبالأمثلة، وإلا فالمسألة بدأت تستفحل، ومما يؤلم أن ظاهرة التكفير أكثر من تصدر عنهم أناس ينتسبون للسلفية، ووجه الفتنة بهم أن عقائدهم سليمة من حيث الجملة، لكن سلوكهم وأعمالهم غير سليمة، فوقعت الفتنة في الشباب، حيث أخذوا بسلامة اعتقادهم وجعلوه مبرراً لسلامة المنهج، حتى وقع كثير من الشباب في تلك المشكلة وجاءوا يسألوننا عن هذه المسائل، فوقع كثير منهم في اضطراب وحيرة، حيث كانوا يعرفون فلاناً من الذين يعنون بعقيدة السلف، وكان مرجعاً في عقيدة أهل السنة والجماعة، فلما وقعت الفتن ولغ في أعراض الناس، ووقع في التكفير، وأحرج الأمة بأحكام ملزمة، وتكلم في طلاب العلم والمشايخ، وتجرأ على الدعاة وألزم بما لم يلزم، ونبز بالألقاب، ووقع في الأسلوب الذي كان يحذر منه، نسأل الله العافية. ونحن لا نشمت، لكن هذا أمر واقع، ومصدر الفتنة -كما قلت- أن أكثر أحكام التشدد والتكفير والنبز بالألقاب واتهام الدعاة واتهام النيات والصلف -وهذا أمر مؤلم، ولكن أقول ما عندي، وأرجو أن أكون مخطئاً- مصدرها من يعرفون بسلامة العقيدة، وهذه مصيبة، والعكس كذلك، فهناك طائفة كثيرة في المثقفين بالثقافة الأفقية التي هي ثقافة أكثر شباب المسلمين اليوم، الثقافة التي لم تؤخذ عن أصل الشرع، لا يريدون أن يكفروا من المسلمين أحداً، فكل المسلمين عندهم داخلون تحت إطار الإسلام العام، ويتجاهلون أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، ويتجاهلون الواقع، وكأن إشفاقهم هذا صار إشفاقاً على الناس أكثر من أن يكون إشفاقاً على الإسلام. وهذا يتزعمه الآن مفكرون كبار، ويؤلفون كتباً تتجه للإرجاء، حتى إنهم يتكلمون في رد حديث الافتراق خشية أن يقع في الأمة المفترقة افتراق.

العمل بالعلم حكمة

العمل بالعلم حكمة Q ذكر المعلق أن من يعرف الحق ويعمل به يدعى بالحكمة، فكيف ذلك؟ A الحكمة: هي وضع الشيء في موضعه، ومن وضع الشيء في موضعه العمل بما يعلمه الإنسان، يعني: أن الأصل في المسلم إذا علم علماً يستطيع العمل به أن يعمل به، بل هو أمر مطلوب، وهذا عين الحكمة، وليس من الحكمة أن يعلم الإنسان العلم الشرعي ثم لا يعمل به.

بطلان زعم القائلين بتفصيل الأنبياء الشرائع بعد نزولها مجملة عليهم

بطلان زعم القائلين بتفصيل الأنبياء الشرائع بعد نزولها مجملة عليهم Q ما صحة قول بعض القائلين: إن الشرائع التي تنزل من الله سبحانه وتعالى على الأنبياء تكون مجملة، ثم الأنبياء يفصلون فيها؟ A هذا غير صحيح؛ لأن الأنبياء في عملهم إنما يسترشدون بالوحي، فلذلك الشرائع مفصلة كما أنزلت من الله سبحانه وتعالى، وعمل الأنبياء هو التطبيق في الأمور العملية والأحكام العملية، وكل ذلك بأمر الله، أما أن يقال: إن الشرائع تنزل إجمالاً ثم الأنبياء يفصلونها؛ فهذا مبني على القول بخلق القرآن، والقول بأن القرآن هو معنى نفسي قائم بذات الله، أو نحو هذا من المعاني التي يقول بها المتكلمون، فمؤدى قولهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي فصل، وإلا فالقرآن نزل مجملاً، وهذه كلمة خطيرة، وبدأت تظهر، فأنا قرأت ما يشعر بها عند بعض الكتاب المحدثين، وهذا يراد به أننا نستغني عن تفصيلات الدين التي عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم في وقته؛ لأنها تناسب وقته، ونرجع إلى جملة الدين -أي: جملة الوحي- كما يقول من يسمون بالقرآنيين ومن يسمون بالعصرانيين ومن يسمون بالعقلانيين الآن. والدين كله مطلوب، ليس فيه فرق بين تفصيلات وإجماليات، والتفصيلات هي المطلوبة، أما الإجماليات فيدركها حتى الكفار، وينبغي أن يعلم هذا، لكن الكلام على التفصيلات.

الموقف من تأويل الحافظ ابن حجر لبعض الصفات

الموقف من تأويل الحافظ ابن حجر لبعض الصفات Q ما قولكم في الحافظ ابن حجر رحمه الله في تأويله لبعض الصفات؟ A أولاً: ينبغي أن يعلم أن ابن حجر رحمه الله إمام من أئمة المسلمين، إمام وقدوة، يجب أن نترحم عليه وأن نواليه وأن نحبه، ولا يجوز لأحد من المسلمين أن يجعل في نفسه أي غل لمثل هذا الإمام، أما كونه أول بعض الصفات فذلك صحيح، وخطؤه في ذلك من الخطأ الذي يغتفر؛ لأننا نعرف أنه على نهج السنة والجماعة، ما أول بطريقة المتكلمين ولا بتعسف المؤولين، إنما حكى أقوال المؤولة أحياناً دون أن يوجهها لا بتأييد ولا باعتراض، وأغلب تأويله من هذا النوع، فهو يأتي بالأقوال وكأنه يحكيها أو كأنه يوافقها، ومع ذلك قد يؤول بعض الصفات، لكن في الأمور الأخرى نهجه نهج أهل السنة والجماعة في سائر أصول الدين.

حكم التعميم بتبديع كل مؤول وحكم التأويل أو التشبيه الناشئ عن الجهل

حكم التعميم بتبديع كل مؤول وحكم التأويل أو التشبيه الناشئ عن الجهل Q هل كل من أول في الصفات من أهل البدع، وما الضابط في ذلك، وهل الجاهل الذي يخطئ في أسماء الله وصفاته بتأويل أو تشبيه أو تمثيل يأثم في ذلك؟ A من المعروف أنه ليس كل من ارتكب بدعة يوصف بالابتداع، ولا كل من ارتكب كفراً يوصف بالكفر، ولا كل من ارتكب معصية يوصف بالعصيان، إلا بعد ترتيب أحكام أخرى عليه، بمعنى: بعد أن نتأكد من عوارض الجهل وعوارض الإكراه وعوارض التأويل الذي له مسوغ عند من تأول، فمثلاً: من أول الصفات على نحو يشعر بأنه لا يقصد التأويل عند المؤولة الذين منهجهم التأويل؛ فهذا يغتفر له حتى يتبين أنه يقصد التأويل عند المؤولة الذين تعمدوا التأويل ابتداء، فالمؤولة على صنفين: أولهم: الذين جعلوا التأويل قاعدة من قواعد اعتقادهم، كالأشاعرة والماتريدية، وقبلهم الفرق الكلامية الأخرى، فهؤلاء جعلوا التأويل قاعدة من قواعد الاعتقاد فما جاء التأويل عندهم عرضاً أو عن اجتهاد عارض أو عن لبس أو عن اشتباه، فهؤلاء مؤولة وحكمهم حكم المؤولة، ولا يقال أيضاً: إنهم كفار؛ فأهل العلم لم يكفروهم. الصنف الثاني: من يؤول عن اشتباه أو التباس أو عن اجتهاد، ولا يقصد الأخذ بقاعدة التأويل ابتداء، فهذا يعذر بفعله وإن خالف غيره، فلا يعد من أهل البدع. أما الجاهل الذي يخطئ في أسماء الله وصفاته بتأويل أو تشبيه أو تمثيل؛ فالأصل فيه ألا يخوض في أسماء الله وصفاته، فإن خاض بغير علم وأدى خوضه إلى أن يقول ما لا يجوز فهو آثم بفعله، لكن لا يكفر إذا كان جاهلاً ولم يقصد المبدأ الكفري الذي عليه الفرق، فهذا غاية ما يقال فيه: إنه لا يكفر، أما الإثم فإنه إذا تكلم في العقيدة وهو جاهل ثم أدى كلامه إلى الخوض أو إلى التلفظ بما هو ممنوع؛ فإنه آثم؛ لأنه خاض فيما لا يعلم، والمسلم محاسب في مثل هذا الأمر؛ فيجب ألا يقول على الله إلا بعلم.

الفرق بين البدعة المكفرة والبدعة المخرجة من الملة

الفرق بين البدعة المكفرة والبدعة المخرجة من الملة Q ذكرت أن من أنواع البدع المكفرة، والمكفرة منها ما هو مخرج من الملة، فما الفرق بين البدعة المكفرة وبين البدعة المكفرة المخرجة من الملة؟ A البدعة المكفرة المخرجة من الملة هي التي تناقض أصلاً من الأصول القطعية، أو تؤدي إلى الشرك في العبادة، فالبدعة إذا أدت إلى الشرك الصريح فهي بدعة مكفرة مخرجة من الملة، وكذلك البدعة التي تناقض أصلاً ضرورياً معلوماً من الدين بالضرورة، كإنكار اليوم الآخر -مثلاً- أو إنكار أسماء الله، فهذه بدعة مكفرة مخرجة من الملة، وهناك بدع مكفرة لا تخرج من الملة، كبدع بعض الخوارج، كاعتقاد تكفير شخص، بدعوى أنه ارتكب مكفراً، فتكفيره -وإن كان لا يستحق الكفر- قد يكون بدعة مكفرة، لكن لا تخرج من الملة.

حكم قول: (بصمة الله على خلقه)

حكم قول: (بصمة الله على خلقه) Q ما رأيك في قول: (بصمة الله على خلقه)؟ A هذا كلام لا يجوز، يقصد بالبصمة العلامة، ففي كل ما يتعلق بالتعبير عن أسماء الله وصفاته أو أفعال الله لا ينبغي أن تترك الألفاظ الشرعية، بل يحسن أن يتقيد المسلم بالألفاظ الشرعية ويتفادى الألفاظ الموهمة التي ربما يكون في إطلاقها سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى.

أنواع المعاصي بالنسبة إلى البدع

أنواع المعاصي بالنسبة إلى البدع Q هل يعتبر صاحب المعصية من أهل البدع؟ A المعصية معصيتان: فهناك معصية هي من الفجور، وأغلب المعاصي من هذا النوع، وهناك معصية يصاحبها اعتقاد، فمثلاً: إنسان يأكل الربا ويستحله، أي: يرى أنه حلال، يقول: الربا ما فيه شيء، والربا كالبيع لا فرق، كما قال أهل الجاهلية، فنقول: قائل هذا القول صاحب بدعة مغلظة، كمن يسجد للقبر أو يدعو غير الله، أما إذا لم يستحل فهو فاجر وعاص مهما كانت ذنوبه، فإن استحل الذنب فقد جمع بين البدعة والمعصية.

الموقف من دعوى تقديم الاهتمام بتوحيد كلمة المسلمين على الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك

الموقف من دعوى تقديم الاهتمام بتوحيد كلمة المسلمين على الدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك Q إن أول واجب هو توحيد الله وحده ونبذ الشرك والبدعة، لكن هناك من ينادي بأعلى صوته -خاصة ممن ينتسبون للدين والعلم- بأن نجعل هذه المسائل في المرتبة الثانية بعد اجتماع الكلمة، وحجتهم في ذلك: أننا إذا ما اهتممنا بتوحيد الصف الإسلامي جاءت الفرقة والنزاع بين المسلمين كما هو الحال في أفغانستان وغيرها، فنرجو توضيح الأمر؟ A الحقيقة أن هذه المسألة فيها لبس، فيجب أن نفرق بين الدعوة إلى توحيد الله تعالى وبين ما يفعله بعض من يدعون إلى توحيد الله، يجب أن نفرق بين الأمرين، فالدعوة إلى توحيد الله هي أساس الدعوة في كل مكان وكل زمان، ولا يمكن أن نفرط فيها علماً وعملاً، ولا أن نخل بها ولا أن تؤجل، لكن يبقى ما بعد ذلك من مستلزمات هذه الدعوة والأمور التي تأتي بعدها أيضاً، هذا أمر. الأمر الآخر: أنه إذا وجد ممن يدعون إلى السنة من في طريقته شيء من قسوة الأسلوب التي تنفر المسلمين عن جمع الكلمة؛ فهذا ليس بحجة على أصل المبدأ. وأيضاً يجب أن يفهم أن المسلمين الذين يتلبسون بالبدع والشركيات سيستجيبون للنداء العام لجمع كلمة المسلمين على ما هم فيه من انحراف، وتصعب استجابتهم للدعوة إلى توحيد الله، فهذه حقيقة ولابد من أن نتعامل معها، بمعنى أن نجمع بين الأمرين: بين الدعوة إلى توحيد الله تعالى ونبذ الشرك بالحكمة وباللين والشفقة، وبين ضرورة جمع كلمة المسلمين، فلا تعني الدعوة إلى التوحيد التفريق، وإن وجد شيء مما يؤدي إلى التفريق فسببه ممارسة بعض الدعاة الذين يقل فقههم في الدين وفي الدعوة إلى التوحيد، فأسلوبهم في الدعوة إلى التوحيد هو الأسلوب المنفر، أسلوب التفريق، وعدم الشفقة، وعدم التدرج، وعدم الحكمة إلى آخر ذلك من الأمور التي يقع فيها أفراد، فتصرف بعض هؤلاء لا يكون ناقضاً للأصل. الأمر الثالث: نحن نعلم أن الدعوة إلى توحيد الله تعالى هي وسيلة جمع كلمة المسلمين، ولا شك في أنها الوسيلة الأولى، وإذا تجاهلناها أو غفلنا عنها؛ فإن أي اجتماع للمسلمين من دونها سيكون اجتماع هشاً وسيتمزق عند كل فتنة تحدث، لكن إذا كان على التوحيد فإنه اجتماع صلب وقوي. الأمر الرابع: أنا أعتقد أنه ليس بالضرورة أن يكون هدفنا جمع كل المسلمين على غير الحق، فليس بالضرورة أن يجمعوا ما داموا على غير الحق، بل يكفينا أن يجتمع أهل الحق على الحق ولو قلوا، فلو فرضنا أن الناس نفروا من دعوة التوحيد، ولا سبيل لجمعهم إلا أن نترك هذه الدعوة ليجتمعوا؛ فعندنا خياران: أن ندعو الناس إلى التوحيد، وهذا سيؤدي إلى نفور بعضهم، أو أن نترك الدعوة إلى التوحيد وسيجتمعون على شعار دون التوحيد، فأيهما أولى؟

حكم التفكر في ذات الله والتفكر في آلائه

حكم التفكر في ذات الله والتفكر في آلائه Q ما حكم التفكر في ذات الله والتفكر في آلائه؟ A التفكر في خلق الله تعالى وفي آلائه، والتفكر في نعمة الله تعالى، ومحاولة معرفة بعض حكم التشريع وغيرها من الأمور التي هي مجال التفكر أمر مشروع، لكن ليس سبيل التوحيد والطاعة والإيمان بالله تعالى هو النظر والتفكر، فالتفكر في خلق الله وفي آلاء الله وفي نعم الله، وفي أسرار خلق الله تعالى لاستشعار عظمة الله هذا مطلوب، والله سبحانه وتعالى أمرنا بالسير في الأرض لننظر ولنعتبر، لكن هذا لا ينسحب على التفكر في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير ما ورد في الشرع، ولا على التفكر في توحيده ووجوده؛ لأن هذا يؤدي إلى الشرك وزعزعة الإيمان، فالمسلم ينبغي أن يربي نفسه وأن يربي أجيال المسلمين الذين تحت ولايته على ألا يقعوا في هذه المشكلات والفلسفات، فلا يفكر في الله تعالى، ويكتفي بالإيمان بأسمائه وصفاته وذاته، ثم بعد ذلك مجال التفكير واسع، بل عند العقل من مجالات التفكير والتفكر ما يكده ويتعبه، وعقول البشر تفكر منذ زمن آدم عليه السلام إلى يومنا هذا وإلى قيام الساعة، ومع ذلك لم تكتشف أنفسها، فالإنسان لم يعرف نفسه إلى الآن، ولا يعرف أين النفس ولا أين الروح، ولا كيف يفكر ولا كيف يعقل، فهذا الفكر الذي تفكر به لا تدري كيف تفكر به، فكيف تتفكر في الله وتتكلم في التفكير في الله تعالى؟! هذا أمر بعيد المنال ولا يمكن الوصول إليه، ومن حاول أن يصل إليه وقع في الشبهة ومرض القلب، نسأل الله العافية.

بيان ضرورة سبق الإيمان بالله وتوحيده لما يجب فعله من أمور الشريعة

بيان ضرورة سبق الإيمان بالله وتوحيده لما يجب فعله من أمور الشريعة Q ما معنى قوله: (وجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك)؟ A يعني: أن وجوب الإيمان بالله تعالى وبتوحيده لا شك في أنه قبل الصلاة؛ لأن الإنسان لا يصلي إلا وقد آمن بالله تعالى وسلم له بشرعه ودينه وآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم امتثل الأمر بالصلاة الذي هو أمر الله، فلا يمكن أن يأتمر بأمر إلا وقد عرف الآمر وقدر الآمر، والآمر هو الله، وهذا أمر معلوم من حيث تسلسل الواجبات، فلا شك في أن أول واجب على العبد هو توحيد الله بالتسليم والطاعة والامتثال، فإذا سلم وأطاع وامتثل جاءت الواجبات الأخرى التي منها أركان الإسلام، ومنها الصلاة.

شرح العقيدة الطحاوية [19]

شرح العقيدة الطحاوية [19]

بيان حكم الخواطر والوساوس المتعلقة بالله التي يلقيها الشيطان في قلب العبد

بيان حكم الخواطر والوساوس المتعلقة بالله التي يلقيها الشيطان في قلب العبد Q يرد أحياناً إلى قلب المؤمن ما يلقيه الشيطان من وساوس، ومن ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم -فيما معناه- قوله: (إن الشيطان يوسوس في قلب الرجل، فيقول له: من خلق هذا إلى أن يقول: من خلق الله؟)، فهل هذا من الشك في الله عز وجل؟ A الحديث حسم الأمر وبين أن هذا إذا لم يستقر في القلب فلا يصل إلى حد الشك ولا نقص الإيمان إن شاء الله، وأن هذا من وساوس الشيطان التي تنتهي، وهذه قاعدة في كل أمور الدين، بمعنى أن الشيطان قد يوسوس بعارض يعرض في الفكر، فهذا العارض إذا ما استقر وصار أصلاً أو صار مساراً للشك والوسواس فهو لا يضر، وعلى الإنسان إذا تعرض لمثل هذه الأمور أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فالشيطان بعد ذلك يخنس، فالإنسان لا تضيره الخواطر ما لم تكن اعتقاداً، أو ما لم يتماد في الخواطر ويقف عندها وقوف الشاك أو المستريب، أما أن ترد فلا يمكن أن يسلم الإنسان من ورود الخواطر، وليدفعها بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم وقراءة القرآن واستحضار أسرار معاني الإيمان، وبذلك إن شاء الله تزول ولا تستقر. إذاً: الخاطر الذي يخطر ولا يستقر لا إثم فيه إن شاء الله ولا يؤثر في الإيمان، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب الصحابة وهم أكمل الناس إيماناً، وبين لهم أنه يأتيهم الشيطان ويقول لهم كذا وكذا إلى أن يقول: من خلق الله، فإذا وصل الأمر إلى هذا الحد فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، وبذلك -إن شاء الله- لا يضره.

بيان أن أسماء الله وصفاته توقيفية وبيان حكم اشتقاق الأسماء والصفات من صفات الأفعال

بيان أن أسماء الله وصفاته توقيفية وبيان حكم اشتقاق الأسماء والصفات من صفات الأفعال Q ما هو الضابط والفارق بين الاسم والصفة والإخبار عن الله عز وجل، وهل نثبت صفة الهرولة والسكوت؟ A أسماء الله وصفاته توقيفية، والأسماء التي وردت في الكتاب والسنة هي التي تثبت، وما عداها لا يثبت، إلا الكمال المطلق لله سبحانه وتعالى؛ لأن أسماء الله التي وردت في الكتاب والسنة تتضمن كل كمال، وما يرد على أذهان البشر أو على ألسنتهم أو خواطرهم من أي معنى من معاني الكمال بأي لغة وبأي لهجة أو بأي لفظ، فإن في الكتاب والسنة ما هو أوفى منه، وكل معنى من معاني الكمال يرد في أذهان البشر، فلابد من أن يكون في مفردات أسماء الله تعالى ما يفي به وزيادة. إذاً: لا حاجة إلى ابتداع أسماء جديدة، وإن كان بعض أهل العلم استنبط من بعض أفعال الله تعالى ومن بعض صفاته أسماء، فهذا محل خلاف قد يسع الكلام فيه، لكن ما عدا ذلك لا يجوز. ومسألة الصفات كذلك، فالصفات هي ما قرر السلف أنه صفات، ويبدو لي أن الخلط عند السائل جاء من بعض أفعال الله تعالى التي وردت، فهل كل أفعال الله تثبت منها الصفات؟ لا، فليس كل فعل يرد عن الله تعالى يثبت منه صفة؛ لأن هناك من الأفعال ما يدل على مظاهر قدرة الله تعالى في خلقه، فلا يعني بالضرورة إثبات صفة، إلا الصفات العامة مثل القدرة والخلق والإيجاد وغير ذلك، فهذه صفات عامة، وترجع إليها كل معاني أفعال الله تعالى، أما أن نثبت من أي فعل صفة -كالهرولة مثلاً-؛ فالصحيح والراجح عند أهل العلم أنه لا يلزم أن نثبت صفة الهرولة صفة مستقلة، وإن كانت هذه محل نزاع لأنها وردت، لكن إن أثبتت فتثبت لله تعالى على ما يليق بجلاله، لكن الأولى ألا نثبت من كل فعل صفة، فبعض الأفعال تثبت منها صفات وأسماء، وبعضها لا يلزم أن نثبت منها صفات وأسماء، كالسكوت، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال عن الله تعالى: (وسكت عن أشياء رحمة بكم)، فهذا فعل من أفعال الله، والسكوت هنا بمعنى أن الله لم ينزل فيها تشريعاً، فلا يثبت من هذه اللفظة صفة.

بيان سبب سؤال موسى ربه أن يراه

بيان سبب سؤال موسى ربه أن يراه Q عندما سأل موسى عليه السلام الله سبحانه وتعالى أن ينظر إليه، كما قال تعالى: {رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] ألم يكن عليه السلام مؤمناً بأن الله موجود؟ A موسى عليه السلام ما طلب النظر لإثبات وجود الله، فموسى عليه السلام يعرف أن الله يرى يوم القيامة، وأنه يكلم عباده، ويعرف أن هذا من نعيم الله لخلقه، يعرف أن من أعظم النعيم الذي وعد الله به أهل الجنة -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- من أن يروا ربهم، وهذا نعيم عظيم لا يعدله أي نعيم، بل هو أعظم من نعيم الجنة، فموسى عليه السلام يعرف أنه يرى ربه يوم القيامة، ويعرف أنه يكلمه ربه يوم القيامة، فلما كلمه ربه طمع في الرؤية، وموسى طماع في الخير فقط، ليس الأمر أكثر من ذلك، ولا يشك في وجود الله، فكيف يشك والله يكلمه؟! فإنه طلب النظر والرؤية عند التكليم، فلما كلمه ربه طلب الرؤية، فلا يمكن أن يرد بحال من الأحوال أن المسألة نتجت عن شك.

بيان أن إطلاق (الصانع) على الله من باب وصف فعل الله

بيان أن إطلاق (الصانع) على الله من باب وصف فعل الله Q إذا كان يجوز إطلاق الصانع على الله من باب الصفات، فكيف يجوز ذلك والصفات توقيفية؟ A أنا ما قلت: من باب الصفات، قلت: من باب وصف فعل الله، فما قلت: إن الصانع صفة لله، ما قلت هذا، أنا قلت: قد جوز بعض أهل العلم إطلاق الصانع من باب وصف فعل الله تعالى، من باب الوصف لا الصفة، ففرق بين الوصف والصفة، الوصف يندرج بألفاظ كثيرة، والصفة لفظة محددة، والأصح أنه لا يطلق على الله من الصفات إلا ما ثبت، ولا من الأسماء إلا ما ثبت، أما الوصف وتقرير وصف الاسم ووصف الصفة، أو شرح الصفة وشرح الاسم؛ فهذا قال به بعض أهل العلم، كشرح الأول بالقديم الذي ليس له ابتداء، فبعض أهل السنة والجماعة شرح كلمة (الأول) من أسماء الله تعالى بأن معناها القديم الذي ليس له ابتداء، فهذا من باب شرح الاسم، وكذلك الصانع لعلها من باب شرح معنى الخالق، أو لمقابلة الكلمة عند المتكلمين.

أحاديث الآحاد قطعية الدلالة في العقائد

أحاديث الآحاد قطعية الدلالة في العقائد Q نرى في كثير من كتب الأصول أن أحاديث الآحاد ظنية في الأحكام والعقائد؟ A هذا خلاف منهج أهل السنة والجماعة، فأحاديث الآحاد قد تكون ظنية أحياناً في الأحكام وقد لا تكون، لكن في العقائد لا يمكن أن تكون ظنية؛ لأن أحاديث الآحاد إذا ثبتت واعتقدنا صحتها فلابد من أن نعتقد ما جاء فيها، والتفريق بين حديث الآحاد وغيره في العقائد بأنه ظني أو غير ظني تفريق حادث، وهو وسيلة من وسائل المتكلمين ومن معاولهم التي استعملوها.

الشك في وجود الله قليل في الناس

الشك في وجود الله قليل في الناس Q قلت: إن الشك لا يكون إلا في أفراد من الناس، ولا يكون في أمة أو جماعة، فكثرة العصاة والفسقة من المسلمين أليست دليلاً على شك كثير من المسلمين، أي أن إيمانهم بالبعث واليوم الآخر إيمان ظني ليس إيماناً جازماً؟ A أنا ما تكلمت عن الشك في اليوم الآخر، إنما قصدي الشك في وجود الله وربوبيته، وأما ارتكاب المعاصي والآثام والجرائم فلا يعني الشك في الله، إنما قد يكون ضعف إيمان، وقد يكون معصية، وقد يكون رفضاً لدين الله حتى ممن يؤمن بوجود الله، فهناك من يرفضون الدين لهوى، أو لشبهات، أو يرفضون الدين لأغراض شخصية أو غير شخصية، أو لمذاهب يعتنقونها أو لأفكار، فقضية رفض الدين موجودة -ولا شك- عند الكثير، حتى في المسلمين لا تزال فئات ترفض الدين، وممن يرفض الدين العلمانيون الذين يهيمنون على السلطات في أكثر العالم الإسلامي، فهؤلاء يرفضون الدين ويؤمنون بوجود الله.

أهمية تقوية الإيمان بالله ووسيلة ذلك

أهمية تقوية الإيمان بالله ووسيلة ذلك Q ألا ترى أن الدعاة يركزون على تقوية الإيمان بالله واليوم الآخر ويزاد التأثر بالنظرية الغربية؟ A بعض الناس يريد أن يقوي إيمانه، وهذا أمر جيد، لكن لا يكون بمسألة تقرير وجود الله، وتقرير أن الله هو الرب، فهذا أمر بدهي، أفي الله شك؟! لكن يكون الوعظ في مسألة تقوية هذا الإيمان وما يزيده وما يوقظه في القلوب، هذا هو المطلوب.

حماية قبر النبي صلى الله عليه وسلم

حماية قبر النبي صلى الله عليه وسلم Q سمعت أن قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مرفوع وأن عليه قبة حديد، فإذا كان ما سمعته صحيحاً، فهل يجوز هذا؟ A القبر ليس بمرفوع، قبر النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال في الأرض ولم يرفع منه شيء، إنما بنيت حوله أبنية، والأبنية أنواع، منها ما بني حماية للقبر بعدما همت طائفة من الرافضة في القرون السالفة أن تنبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فحفرت خندقاً حتى كادت تصل إلى القبر، فأوقظ بعض الصالحين من المسلمين برؤيا، وتبينت المكيدة، فبعد ذلك حمي القبر بسياج من أسفله من نواحيه البعيدة عنه، ولا تزال هذه الحماية، أما البناء فوقه فلا يعني أن القبر مرفوع، فهذه القبة بنيت فيما بعد.

الموقف من دخول قبر رسول الله وصاحبيه في المسجد ومن قبة الحديد فوقه

الموقف من دخول قبر رسول الله وصاحبيه في المسجد ومن قبة الحديد فوقه Q ذكرت أن وجود قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فيه شبهة، فما الحل لهذه المشكلة، هل يهدم المسجد أم ينبش القبر؟ A هذه مشكلة واجهها المسلمون منذ زمن، وواجهها أيضاً أهل السنة والجماعة، خاصة بعد دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولهم فيها موقف معروف، والقبة من حيث وجودها ليست شرعية، لكن مسألة هدمها ربما ينبني عليها مفسدة أكبر، والله أعلم، وعلى أي حال فالمشكلة كبيرة وتحتاج إلى عرض على أهل العلم.

إمكان حصول الضلال بعد الهداية

إمكان حصول الضلال بعد الهداية Q هل يضل الإنسان بعد الهداية، حيث إن الله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد:17]؟ A نسأل الله العافية، فقد يضل الإنسان، والمضلات كثيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ من المضلات، وكان يقول صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن قلب العبد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، فمسألة الانتكاس بعد الهداية واردة، فلذلك يسأل المسلم ربه دائماً الاعتصام بالحق.

تنبيهات في إنكار المنكر

تنبيهات في إنكار المنكر Q متى يجوز الإنكار بشكل علني في الخطابة؟ A مسألة الإنكار مقيدة بقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقواعد الإنكار التي تراعى فيها بالدرجة الأولى القواعد العامة للشرع، وليس جزئيات النصوص، وهي درء المفسدة وجلب المصلحة، وأيضاً ارتكاب أخف الضررين، وترجيح جلب المصلحة أو ترجيح درء المفسدة إلى غير ذلك من القواعد، فالإنسان ينبغي له إذا أراد أن ينكر أن يراعي القواعد العامة ويستشير أهل العلم، لابد أن يستشير أهل العلم، ولا يأخذ بجزئيات النصوص؛ لأن هناك نصوصاً تأمر بالصبر وعدم الإنكار، وهناك نصوصاً تأمر بالإنكار إلى حد أنه لو أخذ بها الإنسان بدون فقه لوصل إلى حد التهور، فلابد من الجمع بين الأمرين، فالمسلم لا يترك الإنكار، لكن ينبغي أن يعرف ما يترتب على إنكاره.

حكم قراءة الفاتحة على روح الميت

حكم قراءة الفاتحة على روح الميت Q ناقشت أحد الشيعة حول قراءة الفاتحة على روح الميت، فكانت حجتهم أنه ترد روحه فيسمع ويستبشر بذلك، فما الرد عليهم؟ A هذه بدعة، وليست عند الشيعة فقط، بل عند أكثر أهل البدع من القبورية وغيرهم.

نصيحة تجاه أفعال أصحاب محلات الدعايات والتصوير

نصيحة تجاه أفعال أصحاب محلات الدعايات والتصوير Q ما هي نصيحتكم لنا تجاه أصحاب محلات التصوير والدعايات؟ A ينبغي أن ينصح أصحاب الدعايات، خاصة أصحاب المؤسسات الذين يتوسم فيهم الخير، وحتى الذين لا يتوسم فيهم الخير، فينبغي إقامة الحجة عليهم، ويوضح لهم أن هذا باطل، فالفكرة هي من باب الإنكار الذي يجب على الناس.

حكم اقتناء التلفاز

حكم اقتناء التلفاز Q التلفاز صنم هذا العصر، فما حكم اقتنائه؟ A جملة ما قيل فيه أنه جهاز من الأجهزة، وهو بحسب استعماله وما يرد فيه.

بيان وجه الرد على المتكلمين في استدلالهم بقوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)

بيان وجه الرد على المتكلمين في استدلالهم بقوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) Q يذكر في الرد على المتكلمين في استدلالهم بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] أن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما بعد وجودهما آلهة إلا الله لفسدتا، فأرجو بيان هذا الرد؟ A يقول الشارح: إن قوله تعالى: {لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22] دليل على أن الفساد بعد الوجود، وأن الموجد واحد، ولم يرد في الآية أن الموجد أكثر من واحد، إنما افترض فيها ما جادل فيه المشركون من أن المعبود أكثر من واحد، وهذا ما أراد أن يصل إليه، فقوله: (لفسدتا) يعني: السماوات والأرض، فالآية: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]، دليل على أنهما موجودتان من قبل، وأن وجود الإله الثاني طارئ، والإله الأول هو الخالق وهو الذي أوجد، فكأنه يقول: الفساد لابد من أن يكون بعد وجود، ولا يكون الفساد في العدم؛ لأن العدم غير قابل للفساد، فكأنه يقرر بذلك أن الوجود متقرر عقلاً وليس فيه جدال، إنما الجدال في وجود إلهين فقط، والإلهين يراد بهما المعبودان. فالآية تقرر أمراً بعد الوجود؛ بدليل قوله: {لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22]؛ لأن الفساد لا يكون إلا للموجود، ولو كانت الآية تقرر الوجود ابتداء من العدم؛ فإن المعدوم لا يقبل أن يوصف بالفساد ولا بغير الفساد؛ لأن الفاسد هو الموجود الذي يقبل الفساد بعد الصلاح، فكأن قوله: (لفسدتا) يعني أن وجودهما من خالق واحد ليس محل نقاش ولا جدال، إنما الجدال والنقاش في أن يكون للمخلوقات مدبران أو إلهان، وهذا لا يتأتى بعد الوجود، فإن الموجد الأول لابد من أن يكون هو المدبر، ولو كان هناك من يدبر غير الله سبحانه وتعالى لاختلفا في التدبير وفسدت السماوات والأرض، والفساد لا يكون إلا بعد الوجود، والوجود لا يكون إلا بموجد واحد، ومادام الموجد واحداً فالمتصرف واحد؛ لأنه لو كان معه متصرف آخر لفسدت السماوات والأرض، ومادام أن الموجد واحد والمتصرف واحد؛ فالمستحق للعبادة واحد، وهو الواحد سبحانه.

محبة العاصي لله وما له منها

محبة العاصي لله وما له منها Q هل يمكن أن يكون من أهل المعصية حب لله ولرسوله؟ A نعم يمكن أن يكون من أهل المعاصي حب لله ولرسوله، ولم لا؟! فالعاصي قد يحب الله ورسوله، والأدلة في هذا متضافرة، والمفروض أن يبحث عن العكس، فإن ورد في ذهن أحد أن العاصي لا يحب الله فليورد الدليل، فالمعصية لا تخرج الإيمان من المؤمن، وكذلك لا تعني إلغاء الحب لله بإطلاق، لكن لا يكون كمال الحب إلا بكمال الطاعة، وهذا صحيح، فكمال الحب لله تعالى لا يكون إلا بكمال الطاعة، ومن أخل بكمال الطاعة نقص حبه لله سبحانه وتعالى بقدر ارتكابه للمعاصي والهوى.

حكم إطلاق كلمة (تخليق) على فعل الآدمي

حكم إطلاق كلمة (تخليق) على فعل الآدمي Q ترد كلمة (تخليق) على ألسنة بعض أساتذة الجامعة بقولهم: نستطيع تخليق مادة في مادة. فما حكم ذلك؟ A هذا خطأ لا يجوز، فكلمة (تخليق) و (خلق) لا يجوز أن تطلق على غير الله سبحانه وتعالى؛ لأنه مهما فعل البشر فأفعالهم لا تتعدى الاستفادة من عناصر الخلق التي خلقها الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن تتعدى ذلك، ولا يوجدون شيئاً من عدم بإطلاق، وهذا باعترافهم، لكن تساهل الناس في هذه الكلمة، فكلمة (خلق) لا ينبغي أن تطلق على غير فعل الله.

مرور الكفار على الصراط

مرور الكفار على الصراط Q ما صحة القول بأن الكفار لا يمرون على الصراط، بل يدخلون النار مباشرة؟ A ليس هذا بصحيح، الكفار يسقطون من الصراط في جهنم، هذا الذي يظهر، لكن إن كان هناك نصوص أخرى تدل على أن طوائف من الكفار يدخلون النار بدون المرور بالصراط فهذا ليس عندي منها علم الآن.

بيان معنى أن صفات الله قديمة النوع حادثة الآحاد

بيان معنى أن صفات الله قديمة النوع حادثة الآحاد Q ما المقصود بأن صفة الله قديمة النوع حادثة الآحاد؟ A المقصود به: أن بعض صفات الله تعالى -وهي الصفات الفعلية- قديمة النوع، بمعنى: أنها صفات لله لازمة منذ القدم وإلى الأبد، مثل صفة الكلام، فهي قديمة النوع حادثة الآحاد، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى متصف بالكلام، والكلام كمال، والقدرة على الكلام كمال، فالله متصف بصفة الكلام منذ الأزل وإلى الأبد، لكن آحاد الكلام حادثة، بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى كلم موسى، فهذا كلام حدث في وقت معين، ثم كلام الله بالتوراة وكلام الله بالقرآن أيضاً حادث الآحاد، بمعنى: أنه كان من الله سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، ثم إن الله يتكلم متى شاء وكيف شاء، وسيتكلم يوم القيامة كما ورد في الأحاديث الصحيحة أنه ينادي عباده نداء عاماً ونداء خاصاً، فالنداء العام نداء لجميع الخلائق يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، ونداء خاص لكل عبد يناديه ربه ويناجيه للحساب. إذاً: فالله سبحانه وتعالى يتكلم، وهذا معنى قدم النوع وحدوث الآحاد.

بيان سبب طرد بعض أمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الحوض

بيان سبب طرد بعض أمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الحوض Q هناك من يذاد عن الحوض، لكن لا ندري لماذا؟ A بل ندري؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين هذا، حيث ذكر أن هناك ناساً من أمته يذادون عن الحوض، فيقول صلى الله عليه وسلم: (أصحابي أصحابي، فيقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك!).

الموقف من تكفير الشيعة

الموقف من تكفير الشيعة Q هل الشيعة الموجودون الآن كفار جميعاً؟ A لا نستطيع أن نكفرهم، لكن الشيعة أصولهم أصول كفر، ولا شك في ذلك، وخذ أي أصل من الأصول ابتداء من قضايا الإيمان، ثم مصادر التلقي، ثم الصحابة وغير ذلك فستجد أنهم قالوا فيه بما يلزم منه الكفر، لكن هل كل شيعي كافر؟ هذه المسألة لا يجوز أن نقولها حتى نتثبت.

مدى صحة القول بوزن البطاقات والصحف في الميزان يوم القيامة

مدى صحة القول بوزن البطاقات والصحف في الميزان يوم القيامة Q ألا يدل حديث البطاقة على أن البطاقات والصحف توزن أيضاً في الميزان؟ A هذا صحيح، فالبطاقة تعني البطاقة التي فيها الشهادتان أو غيرهما من الأعمال الصالحة.

حكم الشهادة للمسلم بالجنة

حكم الشهادة للمسلم بالجنَّة Q ما معنى قولكم: نشهد للمسلم بالجنة شهادة مطلقة؟ A يعني: شهادة غير منطبقة على الأفراد، فنشهد للمسلمين بالعموم، بل نشهد لكل مسلم شهادة مطلقة، وهي التي لا تقيد بالجزم أو بالحلف أو بالاعتقاد، فكل مسلم بمفرده نشهد له بالجنة إذا كان من أهل الخير والاستقامة، لكن شهادة عامة؛ لأن الله أشهدنا، وجعل العباد من شهود الله في أرضه، فالشهادة العامة غير الجزم، فلا يجوز أن نجزم بأن فلاناً الذي مات من أهل الجنة، إلا إذا كان ورد ذكره في الكتاب أو السنة باسمه أو وصفه الذي يدل على شخصه.

كيفية البعث عند ابن سينا

كيفية البعث عند ابن سينا Q ما هي تقريرات ابن سينا في اليوم الآخر؟ A ابن سينا فيلسوف أراد أن يقرب بين الفلسفة الإلحادية اليونانية وبين الإسلام، وأن يصوغ الإسلام بصيغة فلسفية، فكان مما تعرض له اليوم الآخر، والفلاسفة لا يؤمنون باليوم الآخر، فأراد أن يقرب المسألة فقرر كلاماً مؤداه أن البعث لا يكون للأجساد، ولا يكون للحسيات وجود يوم القيامة، فكل الأمور في يوم القيامة معنوية والبعث للأرواح، هذا مؤدى قوله.

الموقف من القول بأن الحديث في أسماء الله وصفاته مظهر من مظاهر التنطع في الدين

الموقف من القول بأن الحديث في أسماء الله وصفاته مظهر من مظاهر التنطع في الدين Q من الكتاب المحدثين من يرى أن الحديث في أسماء الله وصفاته وفي القول بأن القرآن منزل أو مخلوق من مظاهر التنطع والغلو في الدين؛ لأنها ظهرت في مناسبات خاصة، ويجب أن تنتهي بزوال مناسباتها الخاصة، فما صحة هذا الرأي؟ A المبالغة في تقرير الصفات في كل مجلس وعند العوام وعند من يفهمون ومن لا يفهمون، وامتحان الناس بهذه المسألة؛ هذا أمر فيه نوع من التنطع إذا كان القصد المبالغة في الكلام في أسماء الله وصفاته وفي امتحان العامة وغير العامة، وجعله مقياساً لعقائد المسلمين الذين لا يحيطون بهذه العلوم ولا يدركونها على جهة التفصيل، والحديث عن ذلك على المنابر عند من يفهم ومن لا يفهم، فإذا كان القصد هذا فهذا صحيح أن فيه نوعاً من التنطع والغلو في الدين، وقد روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه حينما تحدث الناس عن بعض هذه الأمور في صفات الله تعالى بأكثر مما تدركه عقول العامة نهى عن ذلك وقال: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟! فتحميل الناس ما لا تدرك عقولهم، والحديث في أسماء الله وصفاته تفصيلاً عند العوام وأشباه العوام من الأحداث والشباب الذين لم تكتمل مداركهم وعلومهم في الدين، وكذلك الذين ثقافتهم الشرعية ضحلة، حتى وإن كانوا من المفكرين والكبار، كل ذلك لا ينبغي، فهؤلاء لا ينبغي أن يخاض عندهم في أمور لا تستوعبها عقولهم، إنما يعلمون الدين تدريجاً. وإذا كان يقصد أننا لسنا بحاجة إلى تقرير أسماء الله وصفاته كعقيدة فهذا باطل، فلابد من تقريرها ولابد من تقريرها في الدروس العلمية وفي الجامعات وفي المدارس، وأن يعلم ذلك من يريد أن يتعلم، وأن يبين للجاهل ويخطأ المخطئ، وأن يرد على أصحاب الابتداع والفرق الذين أخلوا بعقيدة الأسماء والصفات وبمسائل العقيدة، كقولهم: القرآن مخلوق، فرد ذلك لابد منه، ودعوى أن هذه مسألة لا تثار ليست صحيحة، فهذه المسائل الآن تثار من قبل أصحاب البدع، وهي مثار تضليل للمسلمين، أما الاستهزاء فهناك من طوائف الحداثيين والعلمانيين وغيرهم من يستهزئون بأسماء الله وصفاته من خلال ما يدور وما يقال وما يعتقد وما يدرس لأبناء المسلمين، وهناك أيضاً من يثير عقائد الفرق في أسماء الله وصفاته بين تأويل وتعطيل، ونحو ذلك من الأمور الأخرى، وهناك أيضاً من يثير قضايا القرآن والرؤية، وقد ألفت في هذا كتب، وظهرت البدع من جديد وأخرجت أعناقها، فلابد من تقرير هذه الأمور عند طلاب العلم، ولابد من تفقيه المسلمين في دينهم في هذه المسائل؛ إذا كانوا ممن يدرك هذه الأمور ويستطيع أن يستوعب أنها أصول الدين، أما من لا يدرك فيعفى من الحديث عنها، وتبين له العقيدة إجمالاً، ويعود التسليم بهذه الأمور تسليماً فطرياً نقياً لا حاجة إلى التفلسف فيه أو الزيادة على مداركه.

بيان ما يحمل عليه كلام الإمام أحمد في الثبات على نفي خلق القرآن في حين اشتداد المحنة على الناس

بيان ما يحمل عليه كلام الإمام أحمد في الثبات على نفي خلق القرآن في حين اشتداد المحنة على الناس Q في الظرف الذي مر به المسلمون في عهد المأمون ألم يجز لعامة الناس القول بخلق القرآن للضرورة؟ وهل قول الإمام أحمد: (ولا تضعف عن قول: القرآن ليس مخلوق) إلى آخره. أمر للعامة بعدم القول بخلق القرآن؟ A مرت ظروف صعبة على العامة وعلى غير العامة، وامتحن في ذلك العلماء وطلاب العلم، ووضع السيف على رقابهم، فكثير من أهل العلم تأول لأجل أن تسلم حياته، وهذه ضرورة هم معذورون فيها، فالعامة من باب أولى، وهذه فتنة عظيمة مرت -بحمد الله- بانتصار السنة، لكنها عظمت في وقتها وفتن بها الناس، أما كلام الإمام أحمد فربما كلم به طلاب العلم، وربما كان قبل أن تصل الفتنة إلى أوجها، والله أعلم.

حكم ضرب الأمثال في بعض أمور الغيب لتفهيم السامع

حكم ضرب الأمثال في بعض أمور الغيب لتفهيم السامع Q نسمع بعض الأمثلة التي تضرب في بعض أمور الغيب من أجل تفهيم المستمع، كمن يضرب المثل لمن أطاع الله بالعبد المطيع لوليه، فما حكم ذلك؟ A لا مانع من ضرب الأمثلة لطاعة الله، ولا مانع من تقريب الأمور بالأمثال، ما لم يكن في المثل إساءة أدب مع الله سبحانه وتعالى أو استنقاص للأمر المضروب له المثل، فإذا كان المثل مطابقاً جيداً مفهماً، فيه البيان وليس فيه ما يخل، ولا فيه سوء أدب أو استنقاص لأسماء الله وصفاته فلا مانع منه، لكن الأمثال في أسماء الله وصفاته لا تضرب، فلا تضرب مثلاً لله، بل تضرب الأمثال في الخلق وفي خصائص الخلق، أما في ذات الله وأسمائه وصفاته فلا تضرب الأمثال أبداً.

القول بخلو القرآن من أدلة كونه كلام الله مرض وشك

القول بخلو القرآن من أدلة كونه كلام الله مرض وشك Q ما رأيك فيمن يقول: إنه لا يوجد لديه أدلة على أن القرآن كلام الله وليس بمخلوق، وهو يدرس مادة علوم القرآن؟ A هذا عنده شيء من الشك، وإذا كان بهذا المستوى فهو مريض يحتاج إلى علاج، فأرجو من السائل أن يدلنا على هذا الشخص لنصحه -إن شاء الله- والبيان له، فكونه لا يجد دليلاً على أن القرآن منزل وهو يقرأ القرآن مصيبة، وكذلك إذا لم يجد ما يدل على أن القرآن ليس بمخلوق! فعلى كل حال ربما هذا اشتبهت عليه أدلة المخالفين، فبعض الناس قد يقرأ في استدلالات المعتزلة وبعض أهل الكلام القائلين بأن القرآن مخلوق، واستدلالاتهم -في الحقيقة- فيها تلبيس عظيم، وفيها فتنة، وقد ظهرت أخيراً على ألسنة بعض الكتاب والمشاهير من أتباع الفرق، وقد قرأنا كتباً متأخرة في هذا، ولا أحب أن أذكر اسم الكتاب لأني أخشى أن أروج له، لكن مثل هذا الكتاب لو قرأه طالب علم غير متخصص في العقيدة لم يسلم من الفتنة؛ لأن فيه تلبيساً عجيباً، وفيه إغفال وإهمال لأدلة الحق، وإبراز وتلميع لأدلة الباطل بشكل عجيب ومؤثر وجذاب، وبأسلوب فيه رقة وفيه إشفاق وفيه نصح، فمثل هذا الشخص أخشى أن يكون قرأ مثل هذا الكتاب، وكتب المعتزلة طافحة بهذه الأمور، فينبغي للسائل -جزاه الله خيراً- أن يبين لنا من هذا الشخص لعلنا إن شاء الله نبين له الحق بقدر ما نستطيع.

حكاية كلام الأولين لا تعني نسبة كلام الله إليهم

حكاية كلام الأولين لا تعني نسبة كلام الله إليهم Q مما لا شك فيه ولا يتنازع فيه عاقلان أن القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود، لكن كيف نرد على من يقول: ما تفسيرك لقوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} [يوسف:4] إلى آخر الآية، أليس أصل هذا الكلام كلام يوسف؟ A حكاية كلام يوسف هي الواردة في الآية، وليس كلامه بنفسه، فهل يوسف عليه السلام هو الذي نطق بآية في القرآن، أم أن الله حكى عنه كلامه؟! إن الله سبحانه وتعالى هو الذي حكى عنه كلامه، فما الإشكال؟! وعلى كل حال أرجو ألا يكون عند السائل إشكال، ولعله أراد المزيد استدلالاً على القول الحق.

نصيحة لمتعمق في البحث في مسائل القدر وعلله

نصيحة لمتعمق في البحث في مسائل القدر وعلله Q لقد أكثرتُ من البحث فترة من الزمن في القدر وعلله، وأقلقني البحث، وكلما اتضح لي إشكال تولد عنه عدد من الإشكالات، وقد تعلقت ببعض المباحث في كتاب طريق الهجرتين، فأغرق بي في المباحث الكلامية، فأريد منك أن تدلني على كتاب بحث في القضية بشكل مرض ميسر؟ A أنصح الأخ أن يكف عن القراءة في هذا الموضوع إطلاقاً، وإذا كف فوجوه العلاج لما يجد في نفسه كثيرة جداً، أهمها الانصراف إلى أمور أهم في حياته، والانصراف إلى كتب العقيدة التي تقرر الأصول إجمالاً دون خوض في أمور القدر. والأمر الآخر: أنه يجب أن يقر بالقواعد الأصلية ولا يتجاوزها، يجب أن يستحضرها مرة أخرى، وهي الإيمان بالقدر من الله سبحانه وتعالى خيره وشره، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن القدر سر الله في خلقه، لا يمكن أن يفسر ولا أن تفسر ألغازه، وكلما تمادى الإنسان في البحث عن مشكلات القدر ازداد إشكالاً. فأنا أنصحه بأن يأخذ بقواعد التسليم الأولى في القدر التي كتبت عند أهل العلم وسطرت، وهي مقتضى حديث أصول الإيمان، وليصرف النظر عن التمادي في هذا، وبإذن الله ستنحل هذه المشكلات، أما أن يتمادى في البحث عن الكتب في القدر فأنا لا أرى هذا. وكتاب (شفاء العليل) للشيخ ابن القيم من أحسن الكتب التي تبين هذا الأمر.

الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن

الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن Q ما هي الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن؟ A الفرق بين قول أهل السنة والجماعة: القرآن منزل وهو كلام الله تعالى، وبين القول بأن القرآن مخلوق يترتب عليه أمور كثيرة: أولها: إذا قلنا: إن القرآن مخلوق؛ فالمخلوق ناقص، ودلالاته ناقصة، وقداسته أقل، فيكون القرآن والإنسان شيئاً واحداً، بل ثبت أن الإنسان أكرم المخلوقات، فعلى هذا يكون القرآن دون الإنسان في الكرامة، فإذا كان كذلك فهذا يعني أن قداسة القرآن أقل، وأن دلالاته أقل، وأنه يجوز للإنسان أن يتكلم فيه، وإهانته ليست بالقدر الذي يكون لو كان كلام الله، وكل ما يترتب على إكرام القرآن وقداسته وقداسة الاستدلال به واحترام المسلمين له؛ كل ذلك يسقط؛ إذ المخلوق ليس له هذه المكانة والقداسة، هذا أمر. الأمر الآخر: الدلالة نفسها، فإذا قلنا بأن القرآن مخلوق؛ فهذا يعني أنه كلام البشر، وإذا قلنا: إنه كلام البشر؛ فهو ترجمة لمعاني ما يريده الله، والترجمة لمعاني ما يريده الله ليست هي ما يريد الله، إنما هي تعبير البشر الناقص، والبشر يعتريه السهو والنقص والخلل إلى آخره، وليس بكامل كمالاً مطلقاً مهما كان، فإذا قيل: إنه ليس بكلام الله؛ فهذا يعني أنه كلام الناس، ومن هؤلاء الناس؟ الله أعلم، أو أنه كلام المخلوقين، ومن هؤلاء المخلوقون؟ الله أعلم، فإذا كان كذلك فهذا يعني أن الاستدلال به أقل، وقوته في الدلالة أقل. وهناك أمر آخر نتج عن القول بخلق القرآن، وهو اعتبار دلالات كلام الله تعالى أقل من دلالات العقل؛ لأن العقل هو آلة التمييز بين الضار والنافع، وبين الحق والباطل التي يستعملها الإنسان بنفسه، وهي عند المتكلمين أقوى من دلالة القرآن؛ لأن القرآن مخلوق والعقل مخلوق، والقرآن أمر زائد خارج عن الإنسان، وهو مخلوق، والعقل هو عقل الإنسان الذي يستخدمه، فعقله مقدم ومحكم، فنتيجة لذلك قالت المعتزلة: دلالة القرآن ليست قطعية، بل ظنية؛ لأنه مخلوق! بل الذين قالوا بأن العقل أقوى من النقل من غير المعتزلة كانت جرأتهم على القرآن بعد القول بأن القرآن كلام الله، فلذلك قالوا: العقل هو المحكم والعقل هو المقدم والعقل هو الميزان والعقل هو المرجع، وإذا تعارض العقل مع كلام الله تعالى؛ فالعقل هو المقدم؛ لأن كلام الله مخلوق عندهم. ثم ترتب على هذا أيضاً أن قالوا بأن دلالة القرآن ظنية، فلما جاءت آيات الله في الرؤية قالوا: هذا أمر ظني؛ لأن القرآن مخلوق واعتبار دلالاته كاعتبار المخلوق، فردوا آيات الله الصريحة في الرؤية؛ لأن منزلة القرآن عندهم أقل مما ينبغي، وهكذا؛ كل ذلك إضافة إلى أنه رد صريح لألفاظ كلام الله تعالى، فالله سبحانه وتعالى نزل القرآن، وآيات الإنزال والتنزيل في القرآن كثيرة جداً، وأيضاً التصريح بأنه كلام الله، كقوله تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فالقول بأنه مخلوق معارضة صريحة لما ورد من أنه كلام الله في كلام الله نفسه، ولم ترد آية ولا دليل في أن القرآن مخلوق أبداً، إنما هي استدلالات في غير محلها. فالمشكلة أنهم فسروا كلام الله بتفسيرات من عقولهم، فلهذا ينبغي أن نتعفف عن أقوالهم في كلام الله تعالى، ولا نتكلم عنهم بغير حاجة، لكن المهم أن القول بأن القرآن مخلوق أدى إلى تقليل منزلة القرآن والحط منها تقديساً ومنهجاً واستدلالاً، وحصل ما حصل من تخطي القرآن إلى الاستدلال بالعقل.

بيان المقصود بشهادة الواقع على وحدانية الله جل جلاله

بيان المقصود بشهادة الواقع على وحدانية الله جل جلاله Q ماذا تقصد بشهادة الواقع على توحيد الله، هل هي السنن الكونية والتغيرات؟ A أردت بذلك حياة الإنسان كلها وما حوله، فالواقع أشمل من أن يكون وقوفاً عند آيات بينات معينات، فالواقع كله ناطق بالشهادة لله سبحانه وتعالى، حتى ما يجري للإنسان وما يجري للكون وما يجري للمخلوقات من أحداث ومن تغيرات ومن موت ومن حياة، كل ذلك شاهد على أن الله شهد لنفسه بأنه لا إله إلا هو، وكلمة (الواقع) جامعة لبعض الدلائل التي ذكرت من قبل.

تكليم الله لعباده وعلاقة ذلك برؤيتهم له

تكليم الله لعباده وعلاقة ذلك برؤيتهم له Q قلت في معرض الكلام عن الرؤية: إنها مصاحبة للكلام، فهل هذا يكون دائماً؟ A الله أعلم، لكن أنواع الرؤية التي وردت في الشرع مقرونة بالكلام، ولذلك لما كلم الله موسى طمع موسى في الرؤية، والأنبياء يعرفون العقيدة جملة وتفصيلاً، لا كما يظن بعض الهلكى من المتصوفة والمفكرين؛ فالأنبياء يعرفون العقيدة جملة وتفصيلاً، وهم أعرف الناس بربهم، فلذلك لما كلم الله موسى طمع موسى عليه السلام في أمر كان يعرف أنه يصاحب التكليم، وهو الرؤية، وإلا لما كان لموسى أن يسأل أمراً لا يجوز السؤال عنه، فموسى عليه السلام كان يعرف أن الكلام قد يصاحبه رؤية، وأن من كلمه الله فيمكن أن يرى ربه، فلذلك طمع فطلب رؤية الله تعالى، فقال الله له: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] إلى آخر الآية، بمعنى: أنك لا تقدر على ذلك في هذه الدنيا. والنصوص التي ورد فيها التكليم في المحشر ورد فيها ما يدل على الرؤية، وكذلك ورد أن المؤمنين حينما يرون ربهم في الجنة يوم القيامة -نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم، وأن نرى ربنا ونتنعم بهذه الرؤية- يكلمونه ويكلمهم سبحانه وتعالى على ما يليق بجلاله، أما أن يكون ذلك أمراً مطرداً فالله أعلم، بل ورد -التكليم كما في قصة موسى- في الدنيا بلا رؤية، ولذلك فالذين نفوا الرؤية العينية من السلف استدلوا بمثل هذا الدليل، فقالوا: لو جازت الرؤية لجازت لكليم الله تعالى وقد كلمه ربه في الدنيا، أما ولم يكن ذلك مع وجود التكليم؛ فهذا دليل على أن الرؤية بالعين مستحيلة، أما الرؤية القلبية فهي رؤية بمعنى آخر الله أعلم بها.

الجمع بين نص رؤية الناس ربهم في المحشر ونص حجب الفجار عن الرؤية

الجمع بين نص رؤية الناس ربهم في المحشر ونص حجب الفجار عن الرؤية Q كيف يجمع بين ما ذكر من رؤية جميع البشر مؤمنهم وكافرهم ربهم في المحشر، وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]؟ A السلف أجابوا عن مثل هذه الآية، وقالوا: إن الاحتجاب لا يكون إلا بعد رؤية، والاحتجاب يكون حينما يفصل الله بين الخلائق، ويذهب أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار، فهنا يحتجب الله عن الكافرين فلا يرون ربهم، وتكون الرؤية خاصة للمؤمنين، وهي رؤية التنعم، فلذلك قال الشافعي ما معناه: إنه إذا احتجب عن الكافرين في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه تعالى في حال الرضا. فالسلف قالوا: بأن الاحتجاب لا يكون إلا بعد رؤية أو إمكان رؤية، وإلا فلماذا يكون الاحتجاب؟! فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يره الكفار في المحشر لما كان لمعنى الاحتجاب مفهوم، ولو كانت الرؤية مستحيلة بإطلاق لما كان لمعنى الاحتجاب مفهوم. فهذه الآية يجمع بينها وبين الأحاديث الصحيحة التي وردت في الكتب الصحيحة وفي غيرها بأن الناس يرون ربهم في المحشر، فلابد من الجمع بينها وبين الآية، والجمع يعني: أن الناس يرون ربهم أولاً جميعاً، ثم بعد ذلك يراه المؤمنون ويحتجب عن الكافرين، هذا الجمع بين الأدلة.

الجمع بين كون الدجال في جزيرة في البحر وكونه سيولد من أم

الجمع بين كون الدجال في جزيرة في البحر وكونه سيولد من أم Q في حديث تميم الداري: أن الدجال مكبل في البحر في جزيرة، وذكر في حديث آخر أنه يولد من أم ذكرت صفاتها، فهل في هذا تعارض؟ A مسألة الدجال من المسائل الغيبية، والدجال لا شك في أن أمره أمر خارق للعادات، ولا يخضع لمقاييس البشر وموازينهم في أمور الدنيا؛ لأنه ورد من صفاته أنه يأتي بأمور خارقة ليفتن الله به الناس، وكونه موجوداً في البحر لا يتعارض مع كونه يخرج في آخر الزمان، ولا يتعارض مع الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ذكر أنه لا يبقى بعد مائة سنة أحد على الحياة، فهذه محصورة بمكان معين وعلى فئة معينة من الناس، فذلك أمر مستثنى، فلا يمنع من كونه وجد في جزيرة أن يخرج على الناس في آخر الزمان في طور آخر من أطواره، ولا يمنع ذلك -والله أعلم- أن يكون للدجال صور أخرى بين البشر، لا على أنه هو الدجال الذي يخرج في آخر الزمان، فلذلك تنازع الصحابة والمحققون من أهل العلم في مسألة ابن صياد: هل هو الدجال أو هو غيره؟ وهذه مسألة مشهورة لا تزال من المشكلات، فأئمة الدين الأعلام يعدونها من المشكلات التي تحتاج إلى نظر، ومع ذلك لم يصلوا فيها إلى نتيجة؛ لأن أمرها أمر غيبي، وابن صياد ظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وانطبقت عليه صفات الدجال، فإذا قيل: إنه هو الدجال فهذا يعني أنه تشكل بشكل آخر أراد الله أن يختبر به جمهور الصحابة فنجحوا في الاختبار؛ لأنهم عرفوا أنه دجال وهجروه، لكن هل هو الدجال المشهور أو دجال من الدجالين؟ فبعض الصحابة يرى أنه هو الدجال بعينه ظهر بصورة من الصور، والله قادر على ذلك، ومن هؤلاء ابن عمر وحفصة أخته، وأبو هريرة وغيرهم من أئمة الصحابة؛ يرون أنه هو الدجال بعينه، لكن ليس هو الذي سيظهر في آخر الزمان بالصورة الأخرى، إنما هو شخصه ظهر في ذلك الزمان كدجال من الدجالين، فلذلك لما حصل بينه وبين ابن عمر مشاجرة وضربه ابن عمر حصل منه أمر مرعب؛ حيث انتفخ حتى كاد أن يسد السكة، وارتعب منه الناس، فلما علمت حفصة أنَّبَت أخاها، وقالت: أتريد أن تخرجه علينا؟! أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج الدجال في غضبة يغضبها)؟! أتريد أن تغضبه فتخرجه علينا؟! فما أنكر ذلك ابن عمر ولا أنكره الصحابة الذين سمعوا كلامها. ولما علم الصحابة بأمره كادوا أن يقتلوه، حتى قال عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعني أقتله، وكذلك غير عمر، طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقتلوه، فقال لـ عمر: (إن يكن هو فلن تسلط عليه)، وفعلاً ما سلط عليه. ولما بقي بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبذه الصحابة وكانوا يكرهونه، ولذلك لما قيل: إنه تزوج؛ قال بعض العلماء: لا يعرف أنه تزوج زواجاً شرعياً، ولما قيل: إنه جاءه ولد، قالوا: إنه ولد ليس بشرعي، ولما قيل: إنه مات ودفن، مع أن الدجال لا يموت ويدفن في المدينة؛ قالوا: إنه لم يعرف مصيره، ولم يمت ولم يدفن، ولما حج أظهر الإسلام، وكأنه بذلك يريد أن يستريح من أذى المسلمين وهجرهم له، فذهب إلى مكة، ولما قرب من مكة خلا بـ أبي سعيد الخدري فشكا عليه حاله، وقال: إني أكاد أقتل نفسي، حتى رق له أبو سعيد، وقال: إن الناس يتهمونني وأنا بعيد عما يقولون؛ لأنهم زعموا أني الدجال، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الدجال لا يدخل المدينة ولا مكة، وهأنذا جئت من المدينة وأدخل مكة، أما تعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الدجال لا يولد له ولد، وها قد ولد لي ولد، والدجال ليس بمسلم، وأنا مسلم، يقول أبو سعيد: فرققت لحاله. ولكن بعدما انتهى من هذا الحديث نكص على عقبيه، فقال: ومع ذلك -يا أبا سعيد - والله إني أدري من هو الدجال وأين هو. والخلاصة: أن موضوع الدجال موضوع غيبي الله أعلم به، ويمكن أن يكون مكبلاً في الجزيرة، وفي الوقت نفسه يظهر للناس بصور أخرى؛ لأنه من أعوان الشيطان، لكن الدجال المعهود الذي يكون في آخر الزمان بصفات معينة وعلى وضع معين لم يظهر إلى الآن.

الدليل على رؤية جميع الناس ربهم في أرض المحشر

الدليل على رؤية جميع الناس ربهم في أرض المحشر Q ما الدليل على أن جميع الناس -المؤمن منهم والكافر- يرون الله تعالى في المحشر؟ A حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم، وهو حديث طويل ورد عن أبي هريرة وعن أبي سعيد وعن غيرهما، والحديث صحيح لا غبار عليه، ومعروف عند أهل العلم، فيرجع إلى الصحيح ففيه نص الحديث ظاهراً، وللعلماء في شرحه كلام طويل، وهناك من قال بأن الرؤية العامة في المحشر ليست رؤية حقيقية كرؤية المؤمنين ربهم في الجنة، ومع ذلك هناك رؤية، وكونها حقيقية أو غير حقيقية أمر غيبي، وهذا كله مما لا فائدة في البحث فيه.

الجمع بين كون الحياة في القبر بالجسد والروح وما علم من كون الجسد يبلى ويفنى

الجمع بين كون الحياة في القبر بالجسد والروح وما علم من كون الجسد يبلى ويفنى Q كيف تكون الحياة في القبر بالجسد والروح، والمعروف أن الجسد يبلى ولا يكون له أثر بعد سنوات من الدفن؟ A نعم الجسد يبلى، ومع ذلك يجعل الله سبحانه وتعالى للميت جسداً وروحاً، وربما يخلق جسده بخلق آخر، فالله أعلم، وهذه مسألة غيبية لا نعلم بها، وكوننا نرى آثار الرفات لا يدل على أنه ليس للميت حياة جسدية وروحية؛ لأن الأدلة في هذا قطعية، وأمور البرزخ لا تقاس بمقاييس الدنيا أبداً، وإلا لقيل: كيف نقول بأن الميت يضرب حتى كذا يكون عليه، وأن الميت إذا كان من أهل الجنة يفسح له مد بصره مع أن المقبرة كلها بأمواتها أقل من مد البصر؟! فهذه أمور لا تقال؛ فحياة البرزخ لا تخضع لمقاييس الدنيا أبداً، إنما هي خاضعة لقدرة الله تعالى، وقدرة الله لا حدود لها، ويجب علينا أن نصدق ونؤمن، وهذا معنى الإيمان بالغيب، ولو لم تكن هذه الأمور الغيبية مما لا يطيقه البشر ولا يدركونه لما صارت غيباً، ولما مدح المؤمن بها، فلو كانت مما يدرك بالعلم والمقاييس العلمية ما صار للإيمان بها أي أهمية، ولكان المؤمن وغير المؤمن فيها سواء، لكنها لا تخضع للمقاييس العلمية ولا لمقاييس الدنيا، ولا لأحكامنا نحن ولما نراه من آثار.

شرح العقيدة الطحاوية [20]

شرح العقيدة الطحاوية [20]

اسم الله الشهيد وما تضمنه

اسم الله الشهيد وما تضمنه Q هل إطلاق اسم (الشهيد) على الله سبحانه وتعالى من باب وصف الفعل؟ A هذا اسم من أسماء الله تعالى، لكن يتضمن وصف الفعل.

بيان حقيقة رؤية الله في المنام

بيان حقيقة رؤية الله في المنام Q هل من الممكن أن يرى الله تعالى في المنام في الدنيا، وهل صحت رؤية الإمام أحمد كذلك؟ A رؤية الله في المنام ليست رؤية حقيقية، لا هي من مثل رؤية المؤمنين ربهم في الجنة، ولا هي من مثل رؤية الناس لربهم في المحشر، ولا هي من مثل رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المعراج، ولا هي رؤية قلبية ولا رؤية عينية، إنما هي أضغاث أحلام، فإذا رأى الإنسان ربه في المنام، أو ادعى أنه رأى ربه فلا يصدق ولا يكذب، فربما تضرب له الأمثال، فالله سبحانه وتعالى قد يضرب لعبده مثلاً من باب الموعظة أو الرؤيا الصالحة، وأحياناً من باب الفتنة، فيبدو له في منامه أنه رأى ربه، وهذا مثل يضرب وليس رؤية حقيقية كبقية الأحلام، فالإنسان قد يحلم بأنه رأى يوم القيامة والمحشر وأنه رأى الجنة، لكن هذه أمثال تضرب، فهو لم ير الجنة على حقيقتها ولا على قريب من حقيقتها، وقلبه لم يقرب من الحقيقة، فكذلك رؤية الله في المنام أمر لا يقرر على أنه رؤيا حقيقية. إذاً: فالخلاف فيها لا ثمرة له؛ لأنها أحلام، والأحلام لا حجر عليها، ومع ذلك ينبغي أن يتنبه إلى أنه قد يبدو الشيطان للإنسان في منامه على أنه هو الله، وهذا مما يفتن به أهل البدع، يتدرج بهم الشيطان فيزعم أنه ربهم، ونظراً لعدم فقههم في الدين، ولتأسيسهم دينهم على البدع؛ قد يشرع لهم الشيطان ويأمر وينهى على أنه هو ربهم، وقد يرون عرشاً على الماء، كما رأى ابن صياد، فيظنون أنه عرش الرحمن، وقد يرون جالساً على العرش وهو الشيطان، ويظنون أنه الرحمن، فهذه أمور كلها من باب الدجل، وهي فتنة لضعاف الدين ولأهل البدع، ومسألة أن الإمام أحمد رأى ربه وردت، لكنها محمولة على أنه رآه في الحلم، وليست رؤية حقيقية، لا قلبية ولا عينية.

لزوم اعتقاد رؤية النبي ربه ليلة المعراج

لزوم اعتقاد رؤية النبي ربه ليلة المعراج Q أليس القول والجدل في رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه من الترف العلمي الذي لا فائدة فيه؟ A لا، ليس من الترف العلمي، فكون النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المعراج حق ولابد من الإيمان به، وتبقى مسألة الخلاف في هل هي رؤية عينية أو قلبية، فهذه من المسائل التي يسع الناس الاختلاف فيها، لكن هل لها ثمرة في الاعتقاد؟ A لا، فلا فرق بين أن نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده -وهذا هو الراجح- وبين أن نقول: إنه رآه بعينه، والله سبحانه وتعالى قادر على ذلك، وإن كان هذا القول ضعيفاً وشاذاً فالرسول صلى الله عليه وسلم في ليلة المعراج رأى ربه في حالة خرق الله بها نواميس الكون، وليست على قواعد سنن الله في الكون، فلذلك صارت معجزة، ولولا هذا ما صارت من المعجزات الكبرى للنبي صلى الله عليه وسلم.

الجمع بين قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) ونصوص إخراج قوم من النار لم يعملوا خيرا قط

الجمع بين قوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به) ونصوص إخراج قوم من النار لم يعملوا خيراً قط Q كيف نجمع بين قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]، وما روي من أن الله يخرج من النار برحمته أقواماً لم يعملوا خيراً قط؟ A أولاً: قاعدة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] سليمة ليس عليها مأخذ، وكون الله سبحانه وتعالى يأخذ قبضة من أهل النار فيخرج منهم من لم يعمل خيراً قط بعد أن تنتهي شفاعة الشافعين ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين مسألة توقيفية لا تخرق القاعدة الأولى، بمعنى أنه قد يكون هؤلاء ممن لم يعملوا خيراً قط، لكنهم ليسوا بمشركين، أو أن هؤلاء ما خرجوا باستحقاق يستحقونه، إنما برحمة الله سبحانه وتعالى وليس بالمغفرة، والرحمة غير المغفرة، وهناك توجيهات أخرى، وقد قال بعض أهل العلم: إنه يحتمل أن الذين يخرجون من النار أناس من ذريات المشركين، أو ممن تابوا في آخر لحظة ولم يعملوا خيراً قط، وماتوا على أمر هو أقرب إلى الكفر، لكنهم استأنفوا حياة جديدة في حال الغرغرة، وغير ذلك من المعاني التي استنبطوها، وعلى أي حال فهذا بأمر الله وبقدرة الله، ولا تعارض بين هذا وذاك.

الحكم على المعين بأنه من أهل النار

الحكم على المعين بأنه من أهل النار Q الحكم على المعين بالنار يقع فيه الكثير، فمثلاً يقولون: فلان كافر أو هو في النار، فهل هذا جائز؟ A إذا كانوا قصدوا معيناً، فالمعين إذا كان كافراً خالصاً كاليهودي والنصراني والمشرك يقال: إنه من أهل النار، لكن ليس على سبيل الجزم، وهناك فرق بين الحكم وبين الجزم، فنحن نحكم بأن الكافر من أهل النار، فإذا مات يهودي نقول: هذا اليهودي مات كافراً وهو من أهل النار، لكن لا نجزم، لا نشهد شهادة قطع، أما الحكم العام على جملة الكفار وأفرادهم دون الجزم واليقين فهذا جائز، والحكم على جملة الكفار والمشركين بأنهم في النار أمر قاطع، لكن على أعيانهم لا يجوز القطع وإن جاز الحكم العام دون جزم، فهذا أمر معلوم؛ لأن الكافر ورد أنه من أهل النار، فنقول هذا القول، فإذا مات فلان من الناس على الكفر فنقول: إنه من أهل النار، لكن لا نجزم بذلك، ففرق بين الجزم وبين الحكم، وهذا فيمن مات، أما من كان حياً فربما يتوب ويسلم.

حكم وصف العلمانيين جملة بالنفاق والكفر

حكم وصف العلمانيين جملة بالنفاق والكفر Q هل يوصف العلمانيون بأنهم منافقون وكفار؟ A العلمانية مصطلح جديد، وهو يجمع بين صفات الكفر والنفاق، فمن العلمانيين من هو كافر يعلن كفره، كرموز العلمانيين المشاهير الذين يعلنون كفرهم، وليس في هذا تردد، ولو وصفناهم بغير الكفر لما رضوا هم، بل إنهم يمقتون الانتماء للإسلام، فكيف يرضون بأن ينتموا للدين؟! وهناك طائفة من العلمانيين والحداثيين وغيرهم دون ذلك، فالعلمنة حالة من رفض الدين أو جزء من الدين، فالرفض الكلي للدين كفر، والرفض الجزئي للدين حالة من حالات العلمنة قد تكون خصلة من خصال النفاق، وقد تكون نفاقاً خالصاً، لكن لا نستطيع أن نحكم به. إذاً: فالعلمانيون درجات، وأقرب الصفات للعلمانيين هي صفات النفاق، لكن العلماني المعلن للكفر كافر، لا يقال: إنه منافق خالص؛ لأن المنافق لا يحكم بكفر بعينه إلا بدليل قاطع.

مصير من مات مصرا على الشرك الأصغر

مصير من مات مصراً على الشرك الأصغر Q من مات مصراً على الشرك الأصغر هل يدخل الجنة؟ A الشرك الأصغر كبيرة، وهناك من أنواع الشرك الأصغر ما يلحقه بعض أهل العلم بالكفر، لكنه كفر غير مخرج من الملة، فإذا كان مخرجاً من الملة فهو شرك أكبر، فالكفر الأصغر أو الشرك الأصغر إذا قصد به الكبيرة التي لا تصل إلى التكفير فحكم صاحبه حكم أهل الكبائر.

حكم إقامة الأفراد الحدود

حكم إقامة الأفراد الحدود Q قلتم: ليس للأفراد إقامة الحدود، فكيف نجيب عن إقامة بعض الصحابة حد السحر في بعض السحرة، كما ذكر ذلك الشيخ سليمان بن عبد الله في تيسير العزيز الحميد؟ A الحدود لا تقام إلا من قبل سلطة تقيمها، والسلطة أنواع، فمنها سلطة يملكها إنسان مفوض من قبل ولاة الأمر أو من قبل أهل الحل والعقد، كإنسان محتسب أو مسئول عن بلد أو عن إقليم، أو هو أمير جيش مفوض في أن يقيم الحد نيابة عن الإمام الأكبر أو عن ولي الأمر أو عن السلطة العظمى، أما من عداه ممن لم يفوض من قبل ولي الأمر أو من قبل أهل الحل والعقد الذين لهم حق الطاعة على الأمة؛ فإنه لا يجوز له أن يقيم الحد الشرعي بنفسه، أما ما دون ذلك من التعزيرات فهذه مسائل فيها خلاف كبير، وفيها كلام مفصل، فالفرد قد يملك أن يعزر بعض التعزيرات في أبنائه أو من يعوله، أو في الذين تحت إدارته وسلطته، والتعزيرات درجات، منها ما يتعلق بالحق العام، ومنها ما يتعلق بالحق الخاص، ومنها ما يتعلق بالذنوب والأخطاء الشخصية، ومنها ما يتعلق بالأموال والأعراض وغير ذلك. المهم أن إقامة الحد الأكبر الذي هو حد من حدود الله لا يملكه إلا السلطان، كحد الزنا وحد السرقة وحد الحرابة ونحو ذلك، فهذه الحدود لا يقيمها إلا السلطان أو من ينوب عنه أو من فوض من قبل أهل الحل والعقد.

حكم التماس علل التوقيفيات وافتراض بدائلها

حكم التماس علل التوقيفيات وافتراض بدائلها Q قلت: إن (لِمَ) و (كيف) إذا كانت للاستزادة من العلم فلا بأس، فهل من ذلك قول بعض الناس في القرآن: لو كان بدل هذه الكلمة هذه الكلمة الأخرى لكان كذا؛ لأن ذلك منتشر عند المفسرين المهتمين بالناحية اللغوية؟ A Q بـ (لِمَ) و (كيف) عن الأحكام، والتماس علل التشريع، وعمَّا يمكن أن تدركه أفهام البشر من النصوص جائز، وأما إذا كان السؤال عن أمر يتعلق بالأمور التوقيفية، مثل كلام الله تعالى وترتيب سوره وآياته وغير ذلك؛ فهذا أمر توقيفي لا يجوز السؤال عنه، بحيث يقال: لم كانت الآية الفلانية في موضع كذا؟ إلا على سبيل التماس العلة، وتبقى القناعة والتسليم على كمالهما، أما إذا اختلت القناعة والتسليم فلا يجوز هذا السؤال. كما أن السؤال بـ (لِمَ) و (كيف) إذا كان فيما يتعلق بأمور الغيب، أو في النصوص المتعلقة بأمور الغيب أو القدر؛ لا يجوز كذلك. إذاً: (لم) و (كيف) لا يجوز الاستفهام بهما إلا في حالة واحدة، وهي الاستفصال عما يمكن أن تدركه أفهام المخاطبين أو أفهام الذين يطلعون على النصوص، وهم درجات، منهم الراسخون في العلم، ومنهم أهل الذكر، ومنهم دون ذلك، فالسؤال لمن يستطيع الجواب جائز بـ (لم) و (كيف)، أما على سبيل التشكيك أو سبيل الاعتراض أو على سبيل التعجيز فهذا لا يجوز.

تعدد فرق الباطنية

تعدد فرق الباطنية Q المعلوم من مذهب الباطنية أنهم يؤلهون علياً، فما هو التوجيه السليم لتخصيص الغلو ببعض الباطنية؟ A الباطنية ليست فرقة واحدة ولا مذهباً واحداً، والباطنية تطلق في الدرجة الأولى على باطنية الرافضة وما تفرع عنها فيما بعد، كالإسماعيلية والدروز والعلويين والنصيرية والقرامطة والصفوية وغيرهم.

حكم إطلاق الفعل على الخلق

حكم إطلاق الفعل على الخلق Q ما حكم إطلاق كلمة الفعل على الخلق؟ A إطلاق كلمة (الفعل) على الخلق مسألة قد تجوز أحياناً، لكنها فيما يتعلق بأفعال العباد فيها تفصيل، أما فيما يتعلق بالمخلوقات الأخرى فلا مانع من أن نقول بأنها من فعل الله، بمعنى أنها من خلقه؛ لأن الخلق هو فعل من أفعال الله تعالى، وأفعال الله كثيرة منها الخلق وغيره، فأفعال الله كثيرة أوسع من مجرد الخلق، لكن قد ترد هذه الكلمة في نفي نسبة أفعال العباد إليهم، فالمسألة فيها اشتباه، فأفعال العباد كلها مخلوقة لله سبحانه وتعالى، ولا يلزم أن نقول: هي من فعل الله؛ لأن الله هو الذي خلق، وفاعلها هو العبد، لا استقلالاً بفعلها، إنما لأن الله أقدره على ذلك، فأفعال العباد مخلوقة لله تعالى، لكن العباد هم الذين فعلوها، وفعلهم لها لا يعني أن لهم استقلالاً في الخلق والإيجاد، أو خروجاً عن مشيئة الله وقدره، إنما يعني ذلك أن الله سبحانه وتعالى أقدرهم على فعلها اختياراً، فمن هنا لا يقال فيها: إنها فعل الله؛ لئلا يلتبس الأمر فيقال بمقولة الجبرية، الذين يقولون بأن الإنسان مجبور على أفعاله، وأفعاله هي أفعال الله! فالأولى اجتنابها فيما يتعلق بأفعال العباد، أما ما يتعلق بخلق الله الآخر الكوني أو بأفعال العباد التي لا إرادة لهم فيها؛ فكل ذلك من فعل الله تعالى.

الفرق بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود

الفرق بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود Q هل هناك فرق بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود؟ A الفروق في ذلك ناتجة عن فلسفة المثلثة في الوثنية اليونانية ومثلثة المجوس، ومثلثة الهندوس، ثم مثلثة النصارى الذين يزعمون بأن الله ثلاثة، وهناك بعض الفروق اليسيرة بين الحلول والاتحاد ووحدة الوجود. فالحلول: هو -بزعمهم- حلول الله في المخلوقات كحلول الروح في الجسد. والاتحاد: هو اتحاد الله تعالى -بزعمهم- مع المخلوقات كاتحاد الجسم مع الجسم. ووحدة الوجود تعني: أنه ليس هناك خالق ولا مخلوق، فالكل واحد، والتمييز بين الخالق والمخلوق عندهم إنما هو تعبيرات عن الشيء الواحد، وهي وحدة الوجود التي قال بها ابن عربي. فالحلول والاتحاد بينهما بعض الفرق، ووحدة الوجود بينها وبين الاثنين فرق كبير، فالذين يقولون بالحلول والاتحاد قد يقولون: لله وجود، لكن وجوده -على نحو ما قالوا- إما أن يكون حل بالمخلوقات كحلول الروح في الجسد، أو اتحد بالمخلوقات كاتحاد الأجساد بعضها مع بعض، كاتحاد الماء مع العجين بزعمهم، وأما الذين يقولون بوحدة الوجود فليس عندهم خالق ولا مخلوق، فالله هو الخلق والخلق هو الله! تعالى الله عما يزعمون. وكلها أوهام وشرك من عبث الشيطان ببني آدم.

القائلون بخلق القرآن في الوقت الحاضر

القائلون بخلق القرآن في الوقت الحاضر Q هل يوجد في وقتنا الحاضر من يقول بخلق القرآن؟ A من حسن الحظ أن هذه المسألة لم تثر، وأرجو ألا تثار، ولولا أنا عرفنا من نهج السلف الصالح ضرورة تقرير هذه المسألة لئلا يقع فيها المسلمون مرة أخرى؛ لما تكلم بها طلاب العلم، لكن لو تحدث عنها بعض الناس الذين لا يفقهون العقيدة -ونرجو ألا يتحدثوا- فربما يظهر شيء آخر، ولكن أرجو أن تبقى الأمور مستورة. وكثير من المثقفين والمفكرين والمتعلمين والمتفلسفين والمتفيهقين الذين يخوضون في قضايا الفكر والثقافة ولا يعون هذه المسألة قالوا بمقولة المعتزلة، وقد بقيت طوائف من الأمة التي افترقت عن السنة والجماعة تقول بخلق القرآن حتى الآن، ومنهم جزء من الإباضية وليس كل الإباضية، فالإباضية منقسمون في هذه المقولة، فبعضهم يقول بقول المعتزلة والجهمية، وبعضهم يقول بقول أهل السنة والجماعة، ومنهم -أيضاً- أكثر طوائف الرافضة الإمامية والإسماعيلية والجعفرية وغيرهم، أكثرهم يقولون بخلق القرآن.

حكم قول: مادة القرآن الكريم

حكم قول: مادة القرآن الكريم Q ما حكم قول: مادة القرآن الكريم، وهل القرآن مادة؟ A كأن في هذا إشارة إلى الإطلاق في المدارس، كما يقال: مادة التوحيد، ومادة الحديث، ومادة القرآن الكريم، وهذه الكلمة فيها اشتباه، والأولى اجتنابها، لكن المتكلم بها قد يقصد حصة القرآن الكريم، أو يقصد مقرر المنهج الذي يدرس فيه القرآن الكريم، ونحن لا نبدع من قالها، لكن الأولى اجتنابها دفعاً للشبهة، والأولى ألا يقال: مادة القرآن الكريم، بل يقال: درس القرآن الكريم، أو: حلقة القرآن، أو: الحصة المخصصة للقرآن الكريم، أو نحو ذلك.

حكم تكفير الشيعة

حكم تكفير الشيعة Qجاء في اعتقاد أبي زرعة وأهل السنة والجماعة من قبله عدم تكفير أهل القبلة، والشيعة -كما نعلم- من أهل القبلة، فكيف ذهب بعض أهل السنة والجماعة إلى تكفير الشيعة؟ A كلمة (أهل القبلة) كلمة مشروطة بقواعدها وأصولها، ومشروطة بأصول الإسلام نفسه، فالرافضة يتوجهون إلى القبلة لكن بقلوب مشركة، فلا ينفعهم توجههم، وكانت طوائف من المشركين تتوجه إلى القبلة ولم ينفعهم ذلك، فليس المقصود بأهل القبلة من توجه إلى القبلة ليصلي، بل المقصود الذين تجمعهم القبلة على الإسلام، أما الرافضة فنظراً لأصولهم التي قالوا بها يخرجون من الإسلام ويبقى لهم الشعار، فهم يدعون الإسلام، ودعواهم بالنسبة لهم لا نستطيع أن نلغيها، لكن بالنسبة لنا نحكم بحكم الله، بالحكم الشرعي الذي أجمع عليه سلف الأمة، وهو أنهم ليسوا على الإسلام ما داموا يقولون بأصول الشيعة التي اتفقوا عليها، وهي قولهم بتكفير الصحابة وردتهم، ثم رفضهم للسنة التي رواها الصحابة رضي الله عنهم إلا ما يهوونه، حيث يأخذون بضعة أحاديث تناسبهم، مثل حديث غدير خم، والأحاديث المتعلقة بحقوق آل البيت، وحديث العترة ونحو ذلك، حتى لو رويت عمن يكفرونهم، وأكثرهم لا يأخذ حتى الروايات التي تناسبهم ما دامت عن الصحابة الذين كفروهم، وكذلك يقال: إنهم ليسوا على الإسلام ما داموا يقولون بعصمة الأئمة، فهذا كفر صراح، وما داموا يقولون بالتقية التي هي النفاق، وما داموا يقولون في أصول الدين التي أشرنا إليها بهذه المقولات الكفرية التي أقل ما فيها إنكار الرؤية، وإن كان بعضهم لا ينكر الرؤية، لكن يكفر بالأصول الأخرى، كقولهم بخلق القرآن ونحو ذلك. وما داموا أيضاً يعتقدون المهدية على نحو ما يزعمون، وما دام إيمانهم بأشراط الساعة على نحو ما يزعمون، وكذلك سائر الأصول الأخرى التي لا يمكن تعدادها الآن، فكل واحد من أصولهم الكبرى التي خالفوا فيها السنة يقتضي التكفير، فكيف بمجملها وهي تزيد على اثني عشر أصلاً من الأصول الكبرى التي خالفوا فيها الإسلام؟! ناهيك عن قولهم في القرآن القول الشنيع، وناهيك عن قولهم في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه عائشة رضي الله عنها، وناهيك عن قولهم في أهل السنة والجماعة وأئمة الهدى، وغير ذلك مما هو معروف عنهم. وهم أكثر الطوائف جهلاً وأكثرهم كذباً وأكثرهم زندقة، وأضرهم على الإسلام في التاريخ، وأخطرهم على الأمة إلى قيام الساعة بإجماع أهل العلم المعتبرين، وهم أبعد الناس عن الحق وأكثرهم ضلالاً وأكثرهم اعتماداً على الكذب، وأكثرهم تكذيباً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم تمادياً في التأويل الفاسد للقرآن الكريم، والباطنية ما دخلت إلا من خلالهم، وغلاة المتصوفة ما دخلوا إلا من خلالهم، وغلاة الفلاسفة ما دخلوا إلا من خلالهم، والزنادقة ما دخلوا إلا من خلالهم، بل النكبات الأخرى التي حدثت في تاريخ الإسلام كانت على أيديهم، فما دخل الصليبيون بلاد الإسلام إلا عندما حكم الرافضة العبيدية الفاطمية ديار المسلمين، وما دخل التتار بغداد إلا على أيديهم، وكانوا دائماً مع الكفار ضد المسلمين، ولا يعرف أن لهم معركة ضد الكفار حتى في الوقت الذي قامت لهم فيه دول، ولا معركة مع أهل البدع، بل معاركهم مع أهل السنة. إذاً: فحكم أئمة الهدى على الرافضة لم يكن جزافاً، حتى وإن قالوا بأن أهل القبلة كلهم من المسلمين، فأهل القبلة يقصد بهم من ادعى الإسلام واتجه إلى القبلة وهو مستور الحال، أما من لم يكن مستور الحال -كالرافضة- فأعلن كفره فقد خرج من أهل القبلة. وهم في ظاهرهم ما داموا لم يدعوا إلى بدعة ولم يعلنوا كفرهم يعاملون معاملة المنافقين، وإن كانوا بدءوا يرفعون رءوسهم، لكنهم إلى الآن يشعرون بالذلة ويتظاهرون للمسلمين بالمظهر العام، ويتأدبون ويتكلمون بكلام حسن، ويتوددون إلى الناس، ولا يدعون إلى بدعهم علناً، ولا يملكون الوسائل للدعوة إلى بدعهم في الغالب، وإن كانوا في مواطنهم الآن قد بدأت تظهر رائحتهم، وهذا شر، لكن مع ذلك أرى أنهم يعاملون معاملة المنافقين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعاملون المنافقين، حتى إن بعضهم كان يعاملهم بهذه المعاملة ولا يعرف أنهم من المنافقين. وقد رفعوا الآذان على طريقتهم، وهذه بدعة يجب أن ينبه لها المسئولون، وأن ينكر هذا المنكر، وقد أظهروها في بلادهم، ويجب على من حولهم من أهل السنة والجماعة أن يحاولوا أن يقمعوا هذه البدعة، ويناصحوا ويبلغوا المسئولين ويبلغوا المشايخ وطلاب العلم؛ لئلا يتمادوا في إظهار البدعة؛ لأنهم لن يقفوا عند مجرد إظهار الشعائر، فهم -كما قال السلف- شر من وطئ الحصى، هم شر الفرق على المسلمين، ولا يمكن أن يستريح الرافضي إذا وجد فرصة حتى يفسد بأي نوع من الفساد، هذه عقيدة عندهم، ولا نقول ذلك بمجرد توهماتنا أو بمجرد أحكام ظنية، أو بمجرد كلامهم، بل نتكلم عن أفعالهم وعقيدتهم التي يعتقدونها، وقد لا يفقه هذا كثير من عوامهم، وهذا أمر ينبغي أن يفهم، فعوامهم قد ل

بدعية القول بفناء النار

بدعية القول بفناء النار Q هل القول بفناء النار من أقوال السلف؟ وهل القائل به يبدع؟ وما صحة نسبته لـ ابن القيم في حادي الأرواح أو لشيخ الإسلام ابن تيمية؟ A يجب أن نفرق بين مسألة فناء النار وبين مسألة انقطاع العذاب، فلم يقل أحد ممن يعتد بهم من أئمة الدين بأن الجنة والنار تفنيان، بل عقيدتهم أنهما باقيتان ولا تفنيان بناءً على النصوص الثابتة في ذلك، إنما نسب إلى بعض أهل العلم أنه يقول: يحتمل أن ينقطع عذاب النار والله أعلم، وهذا أيضاً ليس هو قول الجمهور، فجمهور السلف على غيره. حتى شيخ الإسلام ابن تيمية له قول يناقض ما قاله في بعض كتبه وأشار إليه، وكذلك ابن القيم له قول يناقض ما كان ذهب إليه، فلعل هذا هو القول الذي استقر عليه، ومع ذلك فالمسألة داخلة في باب الاجتهاديات؛ لأنها لا تعارض النصوص الصريحة، فهم لم يقولوا بفناء الجنة والنار كما يقول به بعض أهل البدع، فمسألة نفي الفناء من أصول العقيدة، وأما مسألة انقطاع العذاب فالله أعلم بها.

حكم التعمق في بحث مسائل القدر

حكم التعمق في بحث مسائل القدر Q ما رأيكم في التعمق في مسائل القدر؟ وبماذا تنصح في هذا الموضوع؟ وما فائدته وضرره على كل طالب علم؟ A الله سبحانه وتعالى نهانا عن الخوض في القدر، والرسول صلى الله عليه وسلم ورد عنه في أحاديث صحيحة صريحة كثيرة النهي عن الخوض في القدر، وقصة زجر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة ونهيهم عن ذلك ثابتة؛ فإن الصحابة أخذوا يتجادلون في بعض آيات القدر عند حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، (فخرج إليهم وقد اشتد غضبه حتى احمر وجهه وكأنما فقئ في وجهه حب الرمان عليه الصلاة والسلام، فأخذ يحثوهم بالتراب ويقول: أبهذا بعثتم؟! أبهذا أمرتم؟! تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟!) فأمرهم أن يسلموا بما جاء، وأرشدهم إلى ما فهموه من النصوص يعملون به، وما لم يفهموه يكلونه إلى عالمه، فهذا التوجيه قاعدة شرعية درج عليها سلف الأمة، وهي التي ينبغي أن تسود في حياة المسلم، فلا يخوض في القدر لغير ضرورة تلجئه، كالبيان عند بعض المستشكلين أو الذين عندهم شيء من الوساوس، مع أن سلف الأمة -أيضاً- يفرقون بين من عنده وساوس أصلية ومن عنده وساوس عارضة، فالذي عنده وسواس أصلي ليس له إلا درة عمر أو الهجر وما يملكه العالم من الزجر والتبديع، أما الذي عنده وسواس عارض فإنه يجاب في مسائل القدر على ضوء النصوص الشرعية.

الحكيم الترمذي وقوله بختم الولاية

الحكيم الترمذي وقوله بختم الولاية Q هل الحكيم الترمذي من أهل الحديث المنسوبين إلى أهل السنة؟ A الحكيم الترمذي ينسب إلى أهل الحديث، لكنه في العقيدة يخالف أهل الحديث، وأشنع ما ثبت عنه قوله بختم الولاية، وقد سبق ابن عربي الهالك، فهو يزعم أن هناك خاتماً للأولياء، وعنده نزعة صوفية شديدة في هذا الجانب، هذا الذي يعرف عن الحكيم الترمذي، وبدعته هذه شنيعة، أما فيما عدا ذلك من الأمور الأخرى فلا نعرف عنه شيئاً. والحكيم الترمذي غير الإمام الترمذي صاحب السنن، فـ الحكيم الترمذي متأخر عن الترمذي صاحب السنن، والأمر الآخر أنه يختلف عنه، فالإمام الترمذي صاحب السنن من أئمة السنة لا يتهم ببدعة أبداً، أما الحكيم الترمذي -وإن كان له تعلق بالحديث، وخدم الحديث كثيراً في كتبه- فقد قال بهذه البدعة، وعنده نزعة تصوف، وهو الذي مهد بالقول بختم الولاية للصوفية الباطنية.

حكم منع الدعاة عن الدعوة

حكم منع الدعاة عن الدعوة Q هل يعد فصل الدعاة من نواقض الإسلام؟ A أحياناً يكون فصل بعض الدعاة من الحكمة، وأحياناً يكون خطأ وظلماً، ولا نفترض دائماً أن كل شيء يحصل على الدعاة لا بد من أن يكونوا هم المصيبين فيه؛ فقد يخطئ بعض الدعاة وقد يتجاوز بعض الأشياء التي لا تنبغي شرعاً، وقد يكون مظلوماً، والأصل في الدعاة الخيرية، والأصل فيهم أنهم على استقامة، وإذا حدث من خصومهم أو من حسادهم أو ممن يظن بهم ظناً سيئاً شيء تجاههم فلا يعني أنهم يكفرون بذلك، فهذه مسألة صعبة؛ حتى لو كان ظالماً، كما حدث من الحجاج وغيره.

حكم الأسابيع والأيام التي تقام فيها الاحتفالات وتسمى أعيادا

حكم الأسابيع والأيام التي تقام فيها الاحتفالات وتسمى أعياداً Q ما حكم الأسابيع والأيام التي تقام فيها الاحتفالات أو ما يسمى أعياداً ونحو ذلك؟ A سبق أن تكلمت عن هذا كثيراً، وخلاصة القول أن كل ما يتكرر في حياة الأمة والمجتمع ويحتفى به بشكل سنوي أو شهري أو دوري وهو لم يرد في الشرع فهو بدعة، لكن مع ذلك يجب أن نفرق بين الأمور التي هي تعبدية، أو تصل إلى حد التعبد بها، أو لها علاقة بالأمور العبادية، وبين الأمور الأخرى، فقد تكون أخف حكماً إذا كانت ليست لها صلة بالعبادة أو بالأعياد الحقيقية، فالأيام الوطنية هذه أعياد، والعبرة ليست بالألفاظ، العبرة بالحقائق، فحقيقتها أعياد، إذاً: فهي محرمة قطعاً وشرعاً، وهذا ما عليه أهل العلم، وما عليه مشايخنا المعاصرون ومن سلفهم، لكن هناك إشكال في الأسابيع، ما يسمى بأسبوع كذا وأسبوع كذا، فالذي يظهر لي -والله أعلم، والمسألة لا بد من أن تناقش على مستوى أهل العلم- أن الأسابيع إذا تعلقت بأمر ديني أو بشعائر دينية أو بأماكن دينية فهي لا تجوز، مثل أسبوع المساجد، وهذا -فيما يترجح لي- بدعة مغلظة، لكن أما إذا كانت لا تتعلق بهذه الأمور -مثل أسبوع الصحة، وأسبوع الشجرة، وأسبوع المرور- فهذه أقرب إلى البدعة، لكن الحكم بالتغليظ فيها أمر أتوقف فيه، ويجب أن نرجع فيه إلى علمائنا ومشايخنا الذين يعايشون هذه المسائل ويعرفون خلفيتها.

صلة خطبة الجمعة بالأمور الدنيوية

صلة خطبة الجمعة بالأمور الدنيوية Q هناك من يقول بأن خطبة الجمعة يجب أن يقتصر فيها على الأمور الدينية، وأن لا تبحث فيها الأمور الأخرى من حياة الناس؟ A فصل الأمور الدنيوية عن الدينية فيه نظر، وخطبة الجمعة لها شروط -لا شك- معروفة عند أهل العلم، ولها أركان، ولا بد من الإتيان بشروطها وأركانها، لكن مقولة أن الخطبة لا تعرض فيها للدنيا مسألة موهمة؛ إذ ما هو مفهوم الدنيا؟! أو ما هو مفهوم غير الأمور الدينية؟ هذه مسألة أخشى أن تختلط بمفاهيم العلمانيين والحداثيين والمرجفين والمنافقين، فلذلك أقول: يجب ألا نقول هذا الكلام، بل على الخطيب أن يتحرى ما يفيد الناس في دينهم ودنياهم، والدين لا ينفصل عن الدنيا، والدنيا لا تنفصل عن الدين في الإسلام، فالخطيب عليه أن يعالج ما يهم الناس ويصلح حالهم على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه أن يعالج أمور الناس بالكتاب والسنة وهدي السلف الصالح في خطبة الجمعة، لكن لو اتخذت الجمعة وسيلة لعرض الدنيا والإعلانات عنها فهذا لا يصح، لكن هذا أمر آخر ليس هو الواقع، فيجب أن يفهم أنه لا فرق بين أمور الدنيا والدين فيما يهم الأمة ويهم المجتمع، كل ما كان للناس فيه مصلحة قدرت شرعاً بأنها مصلحة؛ فلا حرج على أي خطيب أن يتكلم فيه ويستوفي ذلك على ضوء الكتاب والسنة.

الهوى الذي لا يشعر به صاحبه

الهوى الذي لا يشعر به صاحبه Q ذكرت فيما سبق أن الإنسان قد يكون عنده هوى وهو لا يشعر، فما حقيقة ذلك؟ A الإنسان ليس بمعصوم، وأغلب أصحاب الأهواء لا يعرفون أنهم أصحاب أهواء، بل قد لا يتعمدون الهوى، فأغلب أصحاب الأهواء لا يشعرون بأنهم على هوى، بل يظنون أنهم على الاستقامة، فلذلك الإنسان قد يقع في الهوى وهو لا يشعر، لكن الميزان هو الكتاب والسنة، فإذا سار على نهج السلف الصالح وحكم الكتاب والسنة ونصوص الشرع ولم يتعصب ورجع إلى أهل العلم وأهل الذكر دون تمييز أو تحيز لشخص أو طائفة؛ فإنه -إن شاء الله- يسلم من الهوى، أما إذا تحيز لشخص أو طائفة فقد لا يسلم حتى وإن كان من أهل الاستقامة، والله أعلم.

الموقف من الفلاسفة الإسلاميين الحائزين قصب السبق في علوم الطبيعة

الموقف من الفلاسفة الإسلاميين الحائزين قصب السبق في علوم الطبيعة Q نرى في مجتمعنا أسماء أعلام حازوا قصب السبق في مجالات شتى في العلوم الطبيعية وغيرها، ونظرة الكفار بأن للمسلمين السبق في مجالات العلوم الطبيعية كائنة، وعند البحث والقراءة في أحوال بعض أولئك نجد أنهم من الفلاسفة الهالكين، فهلا كان هناك بيان لتلك الأسماء وأحوال أصحابها؟ A سيأتي الكلام عن مثل هؤلاء كـ ابن سينا وابن رشد والفارابي وابن الفارض والحلاج وغيرهم، وهؤلاء ملاحدة في الأصل، وهم ينتمون إلى أسر تنتمي للإسلام، وأكثرهم من الفرق الهالكة، كـ ابن سينا، فهو باطني الأصل، وهو من أسرة إسماعيلية باطنية قال فيها أهل السنة والجماعة وأهل الحق: إنها أكفر من اليهود والنصارى، وهذا أمر معروف، وهؤلاء من الهلكى في العقيدة، وقد يكون لهم إسهام في الطب وإسهام في الهندسة وإسهام في بعض العلوم الطيبة وكذلك الخبيثة كالموسيقى وغيرها، فبعضهم برع في الموسيقى، لكن هذا لا يعني أنا نضع لهم اعتباراً في الشرع وفي الدين، فاعتبارهم في العلم كاعتبار كثير من الكفار فيما أتوا به من علوم دنيوية، فيؤخذ عنهم ما جاء من الطب وما جاء من الهندسة وما جاء في علم الفلك، كل ذلك يؤخذ، لكن في الدين يجب ألا ننازع في أنهم على غير الحق، فهؤلاء هلكى، وعقائدهم تالفة، ولا داعي لأن نتناقش في أمرهم، وأرى أن من العيب واستهلاك الوقت وتضييعه أن يتناقش طلاب العلم مع الآخرين في هؤلاء، لا سيما أنهم ليسوا أئمة في الدين، فلا داعي للوقوف عند مثل هؤلاء، أما ما أفادوا فيه من علم بسبب اعتزاز بعض المسلمين بأنهم ينتمون للإسلام؛ فهذا فيه نوع من العصبية، لا سيما أننا نعتز بعلم ليس له علاقة بالهدى ولا تفضل فيه أمة على أمة، فالعلوم الإنسانية والعلوم التطبيقية مشاعة بين البشر والأمم، وحجرها على أمة من الأمم لا يجوز، إنما قد تستثمر هذا العلم أمة من الأمم في يوم من الأيام، والدليل على هذا أن المسلمين أبدعوا في العلوم التطبيقية والإنسانية في ظل الإسلام، ثم بعد ذلك تخلوا عن الإسلام فأبدع غيرهم، ولا شك أن المحدثين خطوا في العلوم التطبيقية والإنسانية خطوات ما وصل إليها المسلمون، ولا ينبغي للمسلمين أن يعتزوا بمثل هذه الأمور، بل يعتزوا بالهدى الذي فضلهم الله به، وما عداه فهو مشاع لا فضل فيه لأحد على أحد، وكل سابق عنده من الفضل على من لحقه في مثل هذه الأمور، وكل لاحق أبدع في شيء فإنه ينوه به، لكن في أمور الدنيا، وينبغي ألا يقع اللبس بحيث نجر فضائل هؤلاء في العلوم إلى تفضيلهم في الدين، فهذا منهج خطير.

شرح العقيدة الطحاوية [21]

شرح العقيدة الطحاوية [21]

الدعوة والابتلاء

الدعوة والابتلاء Q يشكو بعض الإخوة مما يعترض الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في سائر بلاد المسلمين من عقبات ومضايقات للدعاة، وغير ذلك مما هو معروف، ومن ذلك ما يحدث من إيقاف لبعض الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى عن ممارسة الدعوة في بلاد المسلمين عموماً، وفي بعض البلاد على وجه الخصوص، وما يستتبع ذلك من التضييق على القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ما يسميه بعضهم محاولة إغلاق بعض سبل الخير، فما قولكم في ذلك؟ A هذا أمر معلوم، لكن ما ينبغي أن نفهمه جميعاً أن هذا كله من الابتلاء الذي جعله الله سبحانه وتعالى من لوازم الدعوة إلى الله، بل من لوازم الإيمان بالله سبحانه وتعالى الابتلاء في عمومه، مع العلم بأن الابتلاء في الدعوة إلى الله والابتلاء للدعاة آكد وأكثر، بل هو أمر محتم، فلا يعرف في الدنيا أن دعوة من الدعوات تمكنت وأدت رسالتها دون أن يتعرض أصحابها لشيء من الأذى والبلوى، هذا أمر لا يعرف أبداً، بل هو خلاف سنن الله في خلقه، فدعوات النبيين ورد فيها من الابتلاء والمحن شيء عظيم، ودعوة نبينا صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص ما قامت إلا بعد شيء من الابتلاء، فلذلك أوصى الله بالصبر، والله تعالى يقول: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3]، ولذلك يرد الأمر بالصبر كثيراً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، وفي هذه الآية نجد أن الله سبحانه وتعالى أمر بالصبر والمصابرة، وبالمرابطة بعد الصبر، ثم بعد ذلك علق الفلاح على هذا الصبر. فالذين يتعرضون لشيء من الأذى أو يوقفون عن الدعوة لا يضرهم ذلك، ويجب أن نتواصى ونوصيهم بالصبر، وألا نجزعهم أو ندخل عليهم اليأس والجزع والتذمر، حتى لو كان إيقافهم بغير حق، أو بأمور يلتبس فيها الحق بالباطل، أو كان بظلم صريح؛ فإن ذلك أعظم لأجرهم، وعلى أقل الأحوال برئت ذمتهم، فإنهم بذلوا ما يستطيعون، وعلى كل من يرى هذه المضايقات التي يتعرض لها الدعاة في ديار المسلمين ألا ييأس، بل يجب أن يناصح ويبين جميع السبل المشروعة، ويدرأ السيئة بالحسنة. ثم بعد ذلك وقبله يجب على كل مسلم ألا يتوقف عن الدعوة؛ لأن سبل الدعوة كثيرة، ومهما بلغ الأمر في إغلاق سبل الدعوة فلن تنتهي أبداً، فالمسلم يجب عليه أن يصبر ويصابر ويرابط ولا يفتر عن عمل الخير، ذلك أن وجوه الخير والنفع ووجوه البر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح لا حصر لها، فإن أوقف داعية أو سدت سبيل من سبل الخير، فإن المسلم يجب عليه ألا يعجز وألا يتخاذل ولا يفتر ولا يقعد عن فعل الخير، وإذا لم يتمكن فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. إذاً: فالتحسر والجزع والتصرفات المتشنجة التي يفعلها بعض المتعجلين والمواقف الاستفزازية التي تحدث لسبب ما ذكر ليست مما يخدم الدعوة، وليست من الوسائل المشروعة، إنما المشروع هو الصبر والحكمة والحلم مع العزيمة والمضي في الدعوة إلى الله سبحانه، ومع بذل الجهد والاجتهاد وبذل الوسع.

كيفية التخلص من الحرج في الإلقاء

كيفية التخلص من الحرج في الإلقاء Q هناك من يحرجه الوقوف أمام الناس إذا أراد أن يدعو إلى الله أو يتكلم ويأمر بما أوجبه الله عليه، فما نصيحتكم له؟ A كل أحد لا بد من أن يهاب أي موقف جديد عليه، خاصة الموقف الذي يعرضه لنقد الآخرين ولنظراتهم، كالموقف للكلام والخطابة، لكن على من يشعر بذلك أن يبدأ بالتدرج، فيبدأ -مثلاً- بنصح أهله وذويه الذين ليس بينهم وبينه شيء من الكلفة، ثم مع زملائه الأقربين، ثم يتدرج فيقصد الأرياف ويتكلم في المساجد التي يكون الناس فيها قلة، وهكذا، وأهم من ذلك كله أن يعلم أن ما يشعر به يشعر به غيره، وإنما ينتهي هذا الشعور بالجرأة.

حكم التحذير من بعض الأخطاء التي تقع فيها الجماعات الإسلامية العاملة في الساحة

حكم التحذير من بعض الأخطاء التي تقع فيها الجماعات الإسلامية العاملة في الساحة Q إحدى الجماعات الإسلامية العاملة لها جهد ملحوظ، وفيها بعض الأخطاء في المنهج الذي تسير عليه، وخطر هذه الجماعة على أهل البلاد لا يكاد يذكر، فهل لي أن أحذر منها المجتمع وأشهر بدعاتها أم لا؟ وإذا اهتدى رجل على أيديهم فهل لي أن أحذره منهم حتى ولو أدى ذلك إلى انحرافه مرة أخرى؟ A السؤال يتضمن الجواب، والسؤال عام ويعرض بجماعة معينة من الجماعات، لكن أقول: إذا كنت تعرف من حال المدعو أن ذهابه وتأثره بهذه الجماعة أصلح في دينه فلا مانع من تركه ليستفيد، لا سيما إذا كانت هذه الجماعة لا تكاد بدعها توجد في البلاد التي هي فيها، فأقول: إذا كانت حالة الشخص حالة رديئة -كأن يكون من أصحاب الفجور والفسق المعلن وترك الفرائض وترك شعائر الإسلام- ورأيت أن دينه وإيمانه يزيد مع هذه الجماعة؛ فالأولى أن تتركه، أما إذا كان العكس -بمعنى أنك تجد عنده من الصلاح والتقوى واستقامة العقيدة ما يغنيه عن مثل هذا الاتجاه- فلا بأس أن تنصحه، ولكن تعدل في الكلام في الجماعة، بأن تذكر ما فيها وتذكر ما لها من حسنات وما يوجد في أهلها من خير. وهذه المسألة تتعلق بجميع الجماعات ليس بجماعة بعينها؛ فإني لا أعرف أن جماعة من الجماعات يمكن أن يحكم عليها حكماً قاطعاً، أي: على جميع الأشخاص، بل لا بد من التفصيل عند الكلام عن هذه الجماعة، نعم قد يوجد من الجماعات جماعات في أصولها انحراف، لكن ليس هذا انحرافاً شاملاً لجميع من ينتمي إليها، فلذلك لا بد عندما نتكلم في الجماعات أن نفصل.

حال السنة وأهلها في عمان

حال السنة وأهلها في عمان Q ما هو حال أهل السنة في عُمان، وما الذي يواجهه علماء السنة وشبابها من الإباضية؟ A ليس عندي في ذلك معلومات مفصلة، لكن المعروف أن أهل السنة والجماعة في عُمان كثيرون، وليسوا أقلية في عرف الدول، وكونهم بين الأباضية وعاشوا زمناً طويلاً بينهم يعني أن كلاً منهم يعرف الآخر على الجملة وليس على التفصيل، وربما يكون هناك من العوام من لا يعرف حقائق الأمور، فالإباضية لا شك في أنها فرقة من فرق الخوارج، لكنها من أكثر فرق الخوارج اعتدالاً، وأصولها معروفة، فعندها أصول كلامية تشبه أصول المعتزلة، بل تأخذ بكثير من أصول المعتزلة، وعندها ما عند الخوارج من التكفير بالذنوب، والخروج بالسيف عند المقدرة، ومع ذلك فإن الذي نعرفه أن الدولة في عمان دولة إباضية، لكنها -فيما أعلم- لم يصل الأمر بها إلى أن تعلن وتشهر محاربة السنة حرباً صريحة، فلذلك الذي أراه وينبغي اعتباره أن أهل السنة والجماعة هناك أحوج إلى التعقل والهدوء، وعلى كل داعية أن يوصيهم بذلك؛ نظراً لأنهم بحاجة إلى ألا يقفوا مع تلك الفرقة موقفاً معادياً صريحاً يؤدي إلى فتنة ربما يكون ضررها على أهل السنة أكثر من غيرهم.

تعلق قدرة الله وعلمه بالمستحيلات

تعلق قدرة الله وعلمه بالمستحيلات Q ما معنى أن قدرة الله تعالى عز وجل لا تتعلق بالمستحيلات بخلاف علمه سبحانه وتعالى؟ A هذه كلمة لا أدري بمدى صحتها، غير أني أرى أن نقتصد في التفصيل في الكلاميات، ولولا أنها وردت في الكتاب لمناقشة قضايا أساسية عند المتكلمين للرد عليهم لتجاوزناها، ومع ذلك كنا نتجاوز بعض المقاطع المعضلة. وحاصل ما أعلق به على ما فهمته من ظاهر السؤال أن المستحيل كالعدم المحض، لا يتصور عقلاً ولا يفترض أن له حكماً، فالعدم ليس له أحكام، وكذلك المستحيل الذي يحيل العقل وجوده ليس له أحكام، وأما ما يتعلق بالقدرة فقدرة الله سبحانه وتعالى ليس لها حدود، لكن تعلقها بالمستحيل أمر وهمي، أما العلم فيشمل ما حدث وما لم يحدث، وعلم الله تعالى -كقدرته- علم كامل.

الباطنية وما يدخل في معناها

الباطنية وما يدخل في معناها Q هل القرامطة والصفوية هم الباطنية؟ A القرامطة والصفوية وغيرهم باطنيون، وهناك فرق أخرى هي باطنية من وجوه أخرى، فمثلاً أغلب المتصوفة باطنية؛ لأنهم يقولون بأن علم الحقائق غير علم الشرائع، ويجعلون علم الحقائق الذي هو أوهامهم وخرافاتهم فوق علم الشرائع، ويزعمون أن للنصوص ظاهراً وباطناً كما تزعم الباطنية، فهؤلاء باطنية من وجه، والباطنية فيهم غلاة وفيهم معتدلة، والمعتدل منهم كافر كما أن المغالي كافر، لكن قد توجد نزعة باطنية عند إنسان ليس هو على الكفر، وهذه النزعة تكون لها أسباب أخرى ولا تشمل الاعتقاد، فلذلك الباطنية ليست فرقة واحدة، ولا مذهباً واحداً، ولا اتجاهاً واحداً، بل هي تعبير عن كل من أبطن شيئاً يخالف الشرع، سواء أكان هذا الإبطان تفسيراً للنصوص أم اعتقادات أخرى فيما يتعلق بالعقائد، ومن ذلك النفاق نفسه، فالنفاق باطني، ولذلك قامت الرافضة على النفاق الذي يسمونه التقية، فهي باطنية من هذا الوجه، وباطنية أيضاً من حيث تفسيرها للنصوص، وباطنية من حيث اعتقادها العقائد الباطلة التي يتوهمونها.

الموقف من القول بالمجاز في القرآن الكريم

الموقف من القول بالمجاز في القرآن الكريم Q أشكل علينا موضوع المجاز في القرآن، فهل هناك آراء تقول بجواز المجاز وآراء تقول بمنع المجاز؟ A مسألة المجاز مسألة طارئة لم تكن تعرف في القرون الثلاثة الفاضلة، وهي مصطلح أدبي اصطلح عليه أهل اللغة، ويجوز أن يعبر به عن بعض كلام البشر؛ لأنه قد يكون مجازاً على اصطلاح اللغويين في مفهوم المجاز، أما فيما يتعلق بكلام الله تعالى وهو القرآن، أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وحي؛ فالمجاز غير وارد، لا بمفهوم اللغويين ولا بمفهوم المتكلمين، ولا بمفهوم المؤولة لصفات الله تعالى، فالمجاز إن ورد لغوياً في بعض كلام البشر؛ فإنه لا يمكن أن يرد في كلام الله تعالى؛ لأنه يؤدي إلى الاضطراب في فهم كلام الله تعالى والتفريق بين المعاني الظاهرة والمعاني الباطنة، ويؤدي إلى التأويل الباطل، فكلام الله كله حقيقة، وينبغي أن يعبر عما يفهم بأنه مجاز بتعبير آخر غير كلمة (مجاز)؛ لأن كلمة (مجاز) هي من معاول المؤولة والمعطلة في تأويلهم لبعض الأمور الغيبية من صفات الله تعالى أو غيرها، ويكفي أنها كلمة طارئة لم يكن يعرفها السلف ولا يستعملونها، والذين استعملوها استعملوها في تأويل صفات الله ولم يستعملوها في نصرة الحق، فهي -وإن جازت في كلام الناس- لا تجوز في كلام الله تعالى؛ لما تؤدي إليه من اختلال في العقيدة.

توجيه شفاعة رسول الله لعمه على شرطي الشفاعة

توجيه شفاعة رسول الله لعمه على شرطي الشفاعة Q في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه كيف يتحقق الشرط الثاني من شروط الشفاعة، وهو أن يكون المشفوع له من أهل التوحيد ممن رضي الله عنه؟ A هذه مسألة توقيفية، فشروط الشفاعة صحيحة، ولا بد من رضا الله تعالى عن المشفوع له وإذنه للشافع، لكن شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب ليست مخرجة له من النار، فهو -نسأل الله العافية- من أهل النار، وإنما يخفف عنه من عذابها، فليست كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر، هذا أمر. الأمر الآخر: أنه قد يرد في الأمور التي فيها شروط أمر يخالف هذه الشروط شرعاً، فيكون هذا الأمر مسلماً به وتبقى الشروط لغيره، وهذا يرد في كثير من الأمور الغيبية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا بخبره الصادق بشفاعته لعمه، فهذه الشفاعة نؤمن بها بعينها ولا يقاس عليها غيرها، ولا يقال: إنها تشمل أحداً من الناس غير هذا الشخص، ثم إنها ليست شفاعة كاملة إنما هي شفاعة ناقصة، ولا يخرج بها من العذاب، والشفاعة التي وردت شروطها هي الشفاعة التي تنجي من النار وتدخل الجنة.

أنواع الغيب من حيث الشبه الوجودي

أنواع الغيب من حيث الشبه الوجودي Q ذكرت أن الغيب نوعان: النوع الأول: غيب يمكن قياسه بالموجودات كالطوفان وأخبار النبيين، النوع الثاني: غيب لا يمكن قياسه لعدم وجود مثله في الدنيا، وعللت بأنه لو كان كذلك لما سمي غيباً، مع أنك في النوع الأول ذكرت أنه يمكن معرفة كيفيته، ومع ذلك يسمى غيباً؟ A النوع الأول لا يمكن معرفة كيفيته، إنما كيفية ما يشبهه، أو يقرب من أذهاننا بعينه، أما الثاني فلا يمكن أن يقرب من أذهاننا بعينه، وهذا هو وجه الفرق، وذاك غيب لأنه سبق لا لأنه غيب لذاته تغيب أمثاله عن أذهاننا، إنما لأنه غاب بأحداثه عنا؛ لأنه حدث قبلنا. فأقول: إن الغيب على نوعين: فهناك من أخبار الغيب ما نعرف كيفياته من خلال ما يشبهه من الموجودات، كالطوفان، وهو ماء يغرق به الناس، أو غرق فرعون، أو غير ذلك من الأحداث والقصص التي تشبه أفعال الموجودين الآن، فهذه عرفنا كيفيتها لا بأعيانها، لكن بأعيان ما يشابهها. أما النوع الآخر فلا يمكن الوصول إلى كيفياته لا بذاته ولا بشبيهه ولا بمثيله ولا بنظيره، وهو ما يتعلق بأمور الغيب الأخرى، كأمور القيامة وصفات الله وأسمائه ونحو ذلك.

الموقف من التعبير بالقديم ونحوه

الموقف من التعبير بالقديم ونحوه Q هل التعبير بقدم الله صحيح، أم أنا نقول: قديم أزلي؟ A كلمة (قدم) و (قديم) ليست واردة في الشرع إلا على سبيل شرح الاسم لله تعالى، فالله سبحانه وتعالى من أسمائه الأول وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الأول بالذي ليس قبله شيء، وهذا هو الذي يجب أن نقف عليه عندما نعبر عن أسماء الله وصفاته، لكن عندما نشرح معاني هذه الأسماء والصفات، أو عندما نجادل من يعبرون عن هذه المعاني بألفاظ أخرى، نشرح لهم هذه المعاني بألفاظ أخرى، أما على سبيل الإثبات للعقيدة وتقريبها وبيانها وتفهيمها للناس فلا يجوز أن نستعمل كلمة (قديم) ولا (القدم)، ولا (واجب الوجود) ولا نحوها، إنما يجب أن نعبر بألفاظ الشرع، وفرق بين التقرير والبيان والشرح وتعليم العقيدة، وبين المجادلة وإقامة الحجة على من يستعمل تلك الألفاظ، ففي المجادلة تستعمل الألفاظ التي يعرفها الخصم مع تقييدها بمعاني النصوص الواردة.

الموقف من اعتبار ألفاظ أسماء الله وصفاته من قبيل المتواطئ لا المشترك اللفظي

الموقف من اعتبار ألفاظ أسماء الله وصفاته من قبيل المتواطئ لا المشترك اللفظي Q ما قولكم فيمن قال بأن أسماء الله وصفاته ليست من قبيل المشترك اللفظي، ولكنها من قبيل المتواطئ ونحو هذا؟ A عبارة (المشترك اللفظي) أو (المتواطئ) عبارة لا يمكن أن نطلقها على سبيل الجزم إلا على ما نعرف كيفياته، أما ما يتعلق بأسماء الله وصفاته فألفاظها التي تشبه ألفاظ صفات المخلوقين وأسمائهم يقال لتلك الألفاظ قبل أن تطلق على المخلوق أو على الخالق: ألفاظ مشتركة، والاشتراك اللفظي يعني أن اللفظ قبل أن يطلق يمكن أن يطلق على هذا ويطلق على هذا، فهذا معنى الاشتراك اللفظي، أما إذا أطلق على عين فينتفي الاشتراك في الكيفية ويبقى الاشتراك اللفظي في العبارة المطلقة في الذهن فقط، فعند إطلاق الكلمة على الموصوف أو المسمى ينتهي الاشتراك الحقيقي ويبقى الاشتراك اللفظي، أما مسألة التواطؤ فهذه مسألة ليست واضحة عندي الآن.

وصف الله بالرحمة حقيقة لا مجاز

وصف الله بالرحمة حقيقة لا مجاز السؤال: للمحقق تعليق منقول عن ابن عابدين رحمه الله تعالى يتعلق بوصف الله تعالى بالرحمة هل هو مجاز عن الإنعام أم حقيقة، فنرجو توضيح ذلك؟ A يقول المحقق: [قال العلامة الفقيه ابن عابدين صاحب الحاشية رحمه الله في رد المحتار (1/ 7): وهل وصفه تعالى بالرحمة حقيقة أو مجاز عن الإنعام أو عن إرادته؛ لأنها من الأعراض النفسانية المستحيلة عليه تعالى، فيراد غايتها؟ المشهور الثاني، والتحقيق الأول؛ لأن الرحمة التي هي من الأعراض القائمة بنا ولا يلزم كونها في حقه تعالى كذلك حتى تكون مجازاً، كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات معانيها القائمة بنا من الأعراض، ولم يقل أحد: إنها في حقه تعالى مجاز. انتهى كلامه. فجعلها على احتمالين: الاحتمال الأول أن تكون حقيقة، والثاني أن تكون مجازاً عن الإنعام أو عن إرادته تعالى؛ لأنها من الأعراض النفسية، ثم قال: المشهور الثاني، والتحقيق الأول. أي: المشهور عند أهل الكلام والمفسرين من المؤولة؛ لأن أغلب من تعرض للتفسير هم أهل التأويل الذين يؤولون صفات الله تعالى، فالمشهور عند أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية -وربما كان المراد الأكثرية من أصحاب ابن عابدين رحمه الله- هو تأويل رحمة الله تعالى بأنها مجاز عن الإنعام، هذا هو المشهور عند المتكلمين أو عند أصحاب ابن عابدين، وهم أغلب الأحناف المتأخرين، والتحقيق الأول، يعني: والصحيح الأول، وكأنه بذلك رحمه الله يثبت مذهب السلف، وهو أن صفة الرحمة حقيقة على ما يليق بجلال الله تعالى، وليست مجازاً.

بيان معنى كون العلم أعم من القدرة وكون القدرة أعم من المشيئة

بيان معنى كون العلم أعم من القدرة وكون القدرة أعم من المشيئة Q ما معنى: العلم أعم من القدرة، والقدرة أعم من المشيئة؟ A هذا صحيح في الجملة؛ لأن القدرة غير العلم، فإذا كان المقصود بها ما يتعلق بمراتب القدر فالعلم أعم؛ لأن العلم سابق وشامل للموجود والمعدوم، فالله عالم بكل شيء، والقدرة متعلقة بالمقدورات بالنسبة لأثرها، ومتعلقة بصفة من صفات الله تعالى، فالله على كل شيء قدير، ومن آثار قدرة الله تعالى وجود هذه المقدورات المحدثات، إذاً: فالقدرة أخص من العلم من جانب، وكذلك المشيئة، فالله سبحانه وتعالى مشيئته متعلقة بما شاءه من الأشياء التي أوجدها أو قدرها، أما قدرة الله تعالى فهي أعم من ذلك، وإن كانت المشيئة لا تحد بحد، لكن المشيئة متعلقة بما أراده الله سبحانه وتعالى إرادة كونية، أي بما هو كائن بمشيئته سبحانه.

حكم التسمي بعبد الأول

حكم التسمي بعبد الأول Q ما حكم التسمي بعبد الأول؟ A يظهر لي أنه لا مانع من هذه التسمية.

الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن

الآثار المترتبة على القول بخلق القرآن Q ما هي الآثار المترتبة على بدعة القول بخلق القرآن بالتفصيل؟ A أول ذلك أن القول بخلق القرآن خلاف النصوص الصحيحة الصريحة بأن القرآن كلام الله، فأول ما يترتب على القول بهذه البدعة هو مصادمة كلام الله تعالى وإنكاره، والقول بخلاف مقتضى الكتاب والسنة. الأمر الثاني: أنه خروج عن إجماع السلف. الأمر الثالث: أنه يؤدي إلى تنزيل قدر القرآن؛ لأنه إذا قيل بأن القرآن مخلوق؛ فهذا يعني أنه تعتريه صفات المخلوق من العدم والفناء، والضعف والسهو، واحتمال الخطأ واحتمال القصور؛ لأنه مخلوق، ولذا كان أكثر من تجرأ على كتاب الله تعالى هم الذين قالوا بأنه مخلوق من المعتزلة والجهمية، والرافضة حينما تقمصوا هذه المقولة؛ لأن الرافضة صارت هذه مقولتهم فيما بعد، وإن كانوا لا يزالون مختلفين، لكن هذا القول هو الذي يعتمدون عليه عملياً. ويترتب على القول بخلق القرآن اعتقاد أن كلام الله -وهو صفته- مخلوق، والقول بأن صفة الله مخلوقة يجعل صفات الله في مصاف صفات المخلوقين تشبيهاً وتمثيلاً، والله منزه عن ذلك.

تقييم كتاب تهذيب شرح الطحاوية

تقييم كتاب تهذيب شرح الطحاوية Q ما رأيكم في تهذيب شرح الطحاوية لـ محمد بن صلاح الصاوي، وهل تصلح المراجعة فيه؟ A ما قرأت هذا التهذيب، وأحسبه جيداً إن شاء الله؛ لأن الصاوي -بحسب ما قرأت له من كتابات- طالب علم متمكن.

بيان ما يصنع حال ورود الوساوس المتعلقة بالعقيدة

بيان ما يصنع حال ورود الوساوس المتعلقة بالعقيدة Q تراود الإنسان أحياناً الشكوك القهرية في السؤال عمن خلق الله تعالى، وعن نهاية الحياة الآخرة، فهل يأثم بذلك؟ A الخواطر التي تخطر للإنسان لا يأثم عليها، ولا يسلم إنسان من خواطر، إنما العبرة بما بعد الخواطر، فيجب أن يبقى في المسلم أصل التسليم لله سبحانه وتعالى ابتداءً وانتهاءً، وإذا تواردت عليه الخواطر فإنه يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، فإن اندفعت وإلا فليلجأ إلى الذكر والصلاة والاستعانة بالله سبحانه وتعالى، فإن اندفعت وإلا فليلجأ إلى أهل العلم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فإذا بقيت بعد ذلك فإن النية الصادقة والإخلاص واليقين والثقة بالله تعالى تطرد هذه الأوهام، المهم أن الإنسان يحرص على طردها، أي: على التخلص منها، ويشغل نفسه بمشاغل أخرى هي أهم، وكلما ورد هذا الخاطر يجب ألا يقف عنده لكن قد ينسيه الشيطان فيقف معه، فإذا وقف فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم.

الموقف من زيادة (في الوجود) في كلمة التوحيد

الموقف من زيادة (في الوجود) في كلمة التوحيد Q هل هناك من بأس إن قلت: لا إله بحق في الوجود إلا الله؟ A كلمة (الوجود) ليس لها معنى ولا فائدة؛ لأنه لا يمكن أن ننفي أو نثبت بشكل عملي إلا ما هو موجود، خاصة ما يتعلق بالأعمال الثبوتية، والتأله من الأعمال الثبوتية التي لا بد من أن تقع في عمل القلب وعمل الجوارح، فإذا قلنا: لا إله إلا الله؛ فالمعنى: (لا إله) أي: تألهه القلوب وتتوجه إليه المخلوقات (بحق) أي: يعبد بحق (إلا الله)، فهذا كاف، أما كلمة (الوجود) فهي كلمة زائدة لا تزيد إلا الوسواس والتيه، فالأولى في نظري اجتنابها.

حكم ترك الصلاة

حكم ترك الصلاة Q جاء في الحديث: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر)، فهل يمكن أن يكون الكفر من باب الوعيد، أي: هو كفر دون كفر؟ A هذه مسألة كثر فيها كلام أهل العلم، وخلاصتها أن ترك الصلاة على نوعين: فإن كان ترك الصلاة من باب جحد وجوبها وجحد أن تكون ركناً من أركان الإسلام عن علم؛ فهذا كفر مخرج من الملة باتفاق الأئمة، فإذا كان تارك الصلاة قد جحد أن تكون من الإسلام أو من أركان الدين فإنه -ولو عملها كما يفعل المنافقون- كافر كفراً مخرجاً من الملة. من تركها ولم يجحدها، أو ظن أنها ليست بواجبة جهلاً، أو تركها كسلاً؛ فالخلاف فيه مشهور، وأئمة السنة فيه على قولين: منهم من يكفر فاعل هذا الأمر، أي: المصر على ترك الصلاة بعد بيان الحجة وبعد أن يؤمر بها، ويرى أن كفره كفر أكبر، وبعضهم يقول: كفره دون الكفر الأكبر. والذي يترك الصلاة غير جاحد، وإنما يتركها كسلاً أحياناً ويصليها أحياناً؛ فهذا عمله كفر دون كفر على قول أكثر أهل العلم.

معرفة المشركين الأولين حقيقة كلمة التوحيد وجهل بعض المسلمين المعاصرين لحقيقتها

معرفة المشركين الأولين حقيقة كلمة التوحيد وجهل بعض المسلمين المعاصرين لحقيقتها Q ما صحة هذه العبارة: المشركون عرفوا حقيقة لا إله إلا الله فلم يقولوها، وكثير من المسلمين جهلوا حقيقة لا إله إلا الله فقالوها؟ A إذا كان المقصود بذلك المشركين الذين تنزل عليهم القرآن، فهذا صحيح؛ فالمشركون الذين تنزل عليهم القرآن عرفوا حقيقة لا إله إلا الله فلم يقولوها عناداً واستكباراً، والله ذكر ذلك عنهم، وكثير من المسلمين اليوم جهلوا حقيقة لا إله إلا الله، فقالوها دون أن يعملوا بلوازمها، وهذا صحيح.

رد النصوص إلى بعضها ليس تأويلا

رد النصوص إلى بعضها ليس تأويلاً Q كيف نرد على من قال: إنكم إذا فسرتم الكفر أو النفاق الوارد في بعض النصوص بأنه كفر غير مخرج عن الملة، وإنما هو كفر دون كفر؛ فقد أصبحتم مؤولين، ولم تمروها كما جاءت؟ A ليس هذا بتفسير تأويل، بل هو إرجاع لنصوص الشرع بعضها إلى بعض؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أشد النهي عن أن نضرب آيات الله بعضها ببعض، فالنصوص لا بد من أن يرد بعضها إلى بعض ويفسر بعضها ببعض، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مفسرة للقرآن، وعمل النبي صلى الله عليه وسلم مفسر لقوله، وعمل الصحابة مفسر لعمل النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل أهل القرون الثلاثة الفاضلة أئمة الهدى مفسر لأعمال الصحابة، فنحن لا نخرج عن هذه الأطر أبداً، فلذلك لا بد من أن يقال: ذلك كفر دون كفر من باب اللزوم الشرعي لا العقلي.

حكم الاحتفال باليوم الوطني

حكم الاحتفال باليوم الوطني Q ما رأيكم في مقال نشر في مجلة الدعوة حول اليوم الوطني، فحواه أنه ليس من المبتدعات، والاحتفال به جائز شرعاً؛ لأنه من الاحتفال بالأيام الدنيوية لا الدينية؟ A القول بأن اليوم الوطني ليس من المبتدعات قول غريب شاذ جداً، وأرجو أن يكون من قاله جاهلاً أو لا يعرف معنى اليوم الوطني، وإلا فالاحتفال باليوم الوطني بدعة مغلظة، وهو عيد من الأعياد التي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله أبدلنا خيراً منها، ولو سمي يوماً وطنياً أو بأي اسم آخر، فهو عيد من الأعياد التي تضاهي أعياد الشرع، وهو تشريع لغير ما أنزل الله، وإقراره لا يجوز، فيجب على أهل العلم أن يبينوا لولاة الأمور أن اليوم الوطني مخالفة لدين الله وشرعه، وحكومتنا وفقها الله التزمت في النظام الصادر في العام الماضي بأنه لا عيد لهذه الدولة إلا عيد الفطر والأضحى، ونرجو -إن شاء الله- أن يتبع القول بالعمل، وعلى أي حال قد يرد الجهل عند بعض المسئولين في حكم هذا اليوم، فينبغي لطلاب العلم أن يبينوا وأن يقيموا شرع الله تعالى بالبيان للناس وأن ينصحوا للمسئولين، وأنا واثق -إن شاء الله- من أن المسئولين في هذه الدولة إذا عرفوا أن اليوم الوطني عيد بدعي مغلظ فسيكفون عنه إن شاء الله.

معنى إقامة الأسبوع الخاص بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

معنى إقامة الأسبوع الخاص بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب Q ما رأيكم في الاحتفال الأسبوعي الذي يقام كل سنة ويسمى بأسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب؟ A هذا لا وجود له، وأنت واهم، وأرجو أن ترجع عن وهمك، فأسبوع الشيخ أقيم مرة واحدة في مؤتمر سمي أسبوعاً؛ لأنه أقيم في سبعة أيام فقط، فلم يكن قصد القائمين عليه أن يكون أسبوعاً متكرراً، ولم يتكرر، ولن يتكرر بهذه الصيغة بمعنى الأسبوع إن شاء الله، إنما قد تعقد مؤتمرات في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو ندوات أو مناسبات علمية تشرح فيها الدعوة، وهذا أمر حق، لكن لم يتكرر ولن يتكرر بالمعنى الذي ذكره الشخص إن شاء الله، ما دام أن القائمين على مثل هذا المؤتمر من أهل الخير، والمؤتمر قامت به جامعة الإمام، ونحسبها إن شاء الله ممن يدري بهذه المخاطر.

دلالة القيومية على الأزلية

دلالة القيومية على الأزلية Q ما معنى قول الشارح: (ويدل القيوم على معنى الأزلي)؟ A يقصد بذلك أن كلمة (القيوم) بتفسيرها الشرعي واللغوي المعروف، والذي اتفق عليه السلف أنه تعالى القائم بنفسه، يعني: الذي لا يحتاج إلى ما يقوم به، ولا يحتاج في وجوده سبحانه وتعالى إلى شيء آخر، بل هو القائم بنفسه القائم على غيره، فهو رب المخلوقات ومدبرها وبيده كل شيء سبحانه. وهو دليل على الأزلية، بمعنى أنه تعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فالقيومية التي تعني القيام بالنفس والقيام على الغير يلزم منها الأولية المطلقة؛ لأن الأولية المطلقة ضرورة للقيومية، وإلا فسيحتاج الموجد إلى موجد وهكذا، وذلك يؤدي إلى التسلسل. إذاً: فالقيومية التي هي قيام الله بنفسه وقيامه على خلقه تعني أنه تعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، وهذا معنى (الأزلي).

المآخذ العقدية على ابن حزم رحمه الله تعالى

المآخذ العقدية على ابن حزم رحمه الله تعالى Q ما صحة القول بأن ابن حزم جهمي جبري؟ A ابن حزم رحمه الله له مقولة تشبه مقولة الجهمية في الأسماء والصفات، وذلك أنه يرى أن الأسماء أعيان لا تدل على صفة، ولا يشتق منها صفة، وهذا هو مؤدى قول الجهمية، وهو يؤدي بالإلزام -لا بالالتزام- إلى التعطيل؛ لأن الأسماء التي لا يفهم منها صفات إنما هي مجرد أسماء في الأذهان، وهذه لا يمكن أن تؤدي إلى وصف الكمال لله سبحانه وتعالى منطقياً، وإن كان ابن حزم يفلسف الأمر ويزعم بأنها أسماء لله تعالى، لكنه يقول بأن الأسماء والصفات لا نتعدى ألفاظها ولا نستمد منها معاني أبداً، فنقف عند الاسم ولا نستمد منه صفة، ونقف عند لفظة الصفة ولا نستمد منها معنى، فهو يرى الوقوف على الألفاظ بما يؤدي إلى إلغاء المفهوم الضروري عند العقول السليمة والفطر المستقيمة. وقوله قريب من قول المفوضة، لكنه لا يقول بلوازم قول المفوضة، بمعنى أنه لا يلغي معاني الألفاظ، بل يثبت معاني الألفاظ لكنه يجمدها ولا يخرجها عن حروف النص، حتى اللوازم التي تلزم عقلاً وتفهم من أسماء الله تعالى أو من صفاته لا يقول بها، فلذلك قيل بأنه جهمي، بل قال بعضهم: إن قوله أشد من قول الجهمية. ومع ذلك لا يمكن أن يقال بأنه جهمي لجلالة علمه وعظيم قدره وحرصه على السنة.

مدى صحة تفسير الأزلي بالذي لا أول له

مدى صحة تفسير الأزلي بالذي لا أول له Q ما صحة تفسير الأزلي بالذي لا أول له؟ A إذا كان عند من يفهم الأزلية فصحيح؛ إذ ليس كل من أطلق الأزلية من المتكلمين والفلاسفة يقصد الأزلية التي لا أول لها؛ لأنهم أحياناً يجعلون التقادم في القدم إلى حد بعيد جداً في الأذهان شبيهاً بالأزلية، أو يعطونه وصف الأزلية، ومع ذلك فمفهوم الأزلية الذي تقتضيه العقول هو الشيء الذي لا أول له، فلذلك الذين قالوا بأزلية المخلوقات من الفلاسفة وغلاة الصوفية وغلاة الباطنية هم الذين قالوا بوحدة الوجود؛ لأنها مؤدى قولهم بأن الوجود أزلي، بمعنى: لا أول له، وإذا كان لا أول له؛ فالموجد والموجد واحد، والخالق والمخلوق واحد، بل إنهم لا يرون أن هناك مخلوقاً، ويرون كلمة (مخلوق) كلمة مجازية تعني مظهراً من مظاهر الخالق، وأحياناً يصل الحد بهم إلى أن يقولوا بأن مسألة التفريق بين المخلوق والخالق ومشاهدة حركات المخلوقات تخيلية، فهي في الأذهان وليست في الأعيان، وهؤلاء يلغون عقولهم، وهذا القول تدرك العقول والبديهة أنه باطل حتماً.

بيان ما يحمل عليه تبديع الإمام أحمد للكرابيسي رحمهما الله تعالى

بيان ما يحمل عليه تبديع الإمام أحمد للكرابيسي رحمهما الله تعالى Qكيف يبدع الإمام أحمد الكرابيسي ونترحم عليه؟ A هذه المعضلة قد ترد كثيراً عندما نتأمل أمور السلف، وعلى أي حال فنحن عندنا موازين شرعية عن السلف أنفسهم، هذه الموازين هي أن نزن الرجال بمجموع أعمالهم وأقوالهم، وبما مات عليه الشخص منهم، فالمعاصرون للشخص الذي تكلم ببدعة قد يكون لهم منه موقف شديد وصعب، كموقف الإمام أحمد من بعض السلف الذين قالوا ببدع جزئية، وكذلك غير الإمام أحمد من الأئمة الذين وقفوا موقفاً فيه نوع من الهجر أو السب أو التحذير من الشخص، فهذا المقصود بذلك سد الذرائع، والمقصود به محاصرة البدعة لئلا تنتشر، خاصة إذا خرجت من شخص ينسب للسنة، فكانوا يشددون عليه ويهجرونه إذا أصر على قوله، لكن لا يعني هذا بالضرورة أنهم يكفرونه أو أنهم يحجرون على الآخرين أن يكون لهم رأي آخر فيه، فلو قرأتم -مثلاً- أقوال المترجمين للرجال -كـ الذهبي وغيره- لوجدتم أنهم يحكمون على مثل هؤلاء الذين تكلم عنهم السلف وهم ليسوا من أصحاب البدع الأصليين بتوازن، فينقلون ما قال فيهم النقاد وما قال فيهم المزكون، ثم يخرجون بنتيجة، فنحن لا نلغي موقف الإمام أحمد رحمه الله، لكننا نفسره، ولا شك في أن الكرابيسي ليس بصاحب بدعة مغلظة في غير هذه المسألة التي جرت بينه وبين الإمام أحمد، وهي قوله: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو في بقية أمور السنة يعتبر من أنصار السنة ومن الذين نافحوا عن السنة ودافعوا عنها وقرروها وكتبوا فيها، إلا في هذه المسألة، فالإمام أحمد معذور في وقفته ضده فيها خشية أن تنتشر فتفضي إلى القول بأن القرآن مخلوق إذا تساهل الإمام أحمد فيها وفيمن قالها. فهذه المواقف مواقف فردية جزئية، لا تلغي اعتبار الشخص في الجوانب الأخرى، وأمثالها في التاريخ كثير عند أئمة السلف ورواة الحديث وأئمة الهدى، خاصة في المتعاصرين والأقران، حيث يحدث بينهم من الكلام ما يكون لهم عذر فيه لكونه لحماية الدين وسد الذريعة، وهذا يحدث في كل زمان، فوطنوا أنفسكم على حدوث مثله في زمانكم.

أهل السنة أعلم بظواهر النصوص ومفهوماتها

أهل السنة أعلم بظواهر النصوص ومفهوماتها Q يقال: إن أهل السنة أعلم الناس بظواهر النصوص وبواطنها، فما صحة ذلك؟ A هذا صحيح، فهم أعلم الناس بظواهر النصوص وبواطنها، لا أقصد بـ (بواطنها) التفسير الباطني، لكن النصوص دائماً يكون لها معنى متبادر، ومعنى آخر يفسر به النص لنص آخر أو قاعدة أخرى، فهذا قد يسمى معنى باطناً من حيث المفهوم، فالنص له مفهوم ومنطوق: فالمنطوق هو الظاهر، والمفهوم هو الذي يستنبطه العلماء. ولا أعني بالبواطن التفسير الباطني الذي يبعد عن معاني النصوص الحقيقية ويفسرها بتفسير على الأهواء والقواعد العقلية أو الباطنية، فهذا لا يقصد في هذا المقام؛ فنحن نقول ذلك لأنه إذا لم نقل بأن السلف أعلم الناس بظواهر النصوص وبواطنها جاء من يدعي أن السلف سطحيون، وأنهم أهل ظاهر لا يفهمون معاني النصوص ومفهوماتها ومحاملها على القواعد، وحمل الخاص على العام والعام على الخاص، والمطلق على المقيد ونحو ذلك؛ إذ هذا كله قد يدخل في معنى الباطن.

بيان ما تعنى به أقسام العقيدة في الجامعات الإسلامية السعودية

بيان ما تعنى به أقسام العقيدة في الجامعات الإسلامية السعودية Q علماء السلف يحذرون من تعلم علم الكلام ومن كتبه، وفي قسم العقيدة تطرح أقوالهم وشبهاتهم للتوسع، وفي بعض الأحيان يكون الرد عليهم هزيلاً يثير بعض الشكوك عند بعض الشباب، ألا يكون الأولى أن تعرض عرضاً ليس بهذا التوسع؟ A هذا كلام مجمل قد لا أوافق عليه، فأقسام العقيدة عندنا في المملكة في جامعة أم القرى والجامعة الإسلامية وفي جامعة الإمام كلها تقوم على منهج ثابت واضح، وهو تقريب مذاهب السلف وتقويم المذاهب التي تجمع بين السلفية وغير السلفية، والرد على المذاهب الكلامية والبدعية بشكل واحد، لكن مع ذلك قد توجد بعض جوانب الضعف عند بعض الباحثين، وليس الذنب فيها ذنب الأقسام، لكن هذه المسألة ينبغي ألا تؤثر في الأصل، فأقسام العقيدة كلها تقوم على تقرير العقيدة أولاً، وتقويم إنتاج الناس في هذا الموضوع ثانياً، والرد على أهل الكلام ومن نحا نحوهم قديماً وحديثاً، وهذه مهمات القسم، وحسبها أنها تناقش وتعالج في الأقسام نفسها، ولا يخرج منها إلا ما يصلح، أما مناقشة قضايا الكلام وعلم الكلام والفلسفة والمنطق ومناقشة أهل الأهواء والبدع القديمة والحديثة وشبهات الملحدين فذلك من أهم واجبات الأقسام، لكن الكلام فيما يخرج للناس وما يخرج للعامة، فهذا هو مسئولية الباحثين والمؤلفين الذين يخرجون إنتاجهم.

خلق الله للعباد وأفعالهم

خلق الله للعباد وأفعالهم Q كيف نقول: إن الله خلق أعمال العباد، ولا نقول: إن الله خلق العباد، وأعمال العباد كائنة باختيارهم؟ A الله خالق كل شيء سبحانه، وكل شيء بقدره، فالله سبحانه وتعالى لا يخرج عن خلقه وعن قدرته وعن تدبيره شيء، لا من أفعال العباد ولا من أفعال سائر المخلوقات، لكن مثار الخلاف عند الفرق الذين خالفوا أهل السنة والجماعة هو أفعال الإنسان المكلف المختار القادر على التمييز، فهل أفعاله مستقلة ليس لله فيها علم سابق ولا قدر ولا خلق -وهذا قول باطل- أم هي داخلة في علم الله وقدره؟ وهذا هو القول الحق، فلا يخرج عن علم الله وقدرته شيء، لكن الإنسان هو الذي يفعل ما هو في مقدوره، وأفعاله داخلة في خلق الله، بمعنى أن ما يفعله الإنسان بقدرته واختياره الله هو خالقه وهو مقدره وهو العالم به سبحانه.

أبو الحسن الأشعري وعلم الكلام

أبو الحسن الأشعري وعلم الكلام Q هل كان ميل أبي الحسن الأشعري إلى علم الكلام أم إلى مناظرة أهل الكلام؟ A هذا مفرق في الفهم، فـ أبو الحسن رحمه الله حينما رجع إلى السنة قرر مذهب أهل السنة والجماعة بأصول السنة جملة وتفصيلاً، ولكن نُمي إلى بعض أئمة السنة أنه لا يزال عنده قناعة ببعض علم الكلام، فنوقش في هذا وطلب منه أن يتراجع، وأن يعلن أنه بريء من علم الكلام، وأنه لا يقول به، فأصر على أن من علم الكلام ما هو مفيد، وحبذ دراسته وتحصيله على أنه علم من العلوم التي يفاد منها، وكان السلف يخالفونه في ذلك؛ لأن علم الكلام كلمة تعني القواعد العقلية التي يعتمد عليها المتكلمون، ولا تعني مجرد استعمال العقليات البدهية في نصر الحق على ضوء القواعد الشرعية وفي مصب النصوص، فهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، وقامت عليه السنة، بل هو نهج القرآن، فالقرآن يثير عقول البشر والبدهيات عندهم وما استقر في الفطرة ليقرر به الحق، وهذا أمر وسيلته العقل لا شك في ذلك، لكن إذا قلنا: علم الكلام؛ فعلم الكلام المقصود به الخوض في أسماء الله وصفاته، وفي مسائل القدر وأمور الغيب الأخرى بمجرد القواعد العقلية مع التلفيق بينها أو التوفيق بينها وبين النصوص، وهذا هو أساس علم الكلام، ولو لم يكن هذا أساسه لما اختلفنا مع الذين يقولون باستخدام العقول في نصرة الحق، فنحن لا نختلف معهم في ذلك، بل نرى أن الأصل عند أهل السنة والجماعة استخدام العقول في نصرة الحق، وهذا أمر بدهي، إنما إذا أرادوا الأمر الآخر -وهو التلفيق بين النصوص والقواعد العقلية، أو استخدام القواعد العقلية البحتة في تقرير قضايا الغيب-؛ فهذا هو مكمن الخطورة، وهو المقصود عند المتكلمين، وإذا كان هذا هو المقصود عند المتكلمين فنحن نقول بقول السلف، ولذلك استنكر الأئمة على الأشعري هذه المسألة، وبقيت مما عابه عليه الأئمة.

حكم تعليم العامة العقيدة بنحو سؤال: (أين الله)

حكم تعليم العامة العقيدة بنحو سؤال: (أين الله) Q هل يجوز سؤال العامة بقول: (أين الله) لتعليمهم العقيدة؟ A لا يجوز تعليم العامة العقيدة في مثل هذا السؤال، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟)، فهذا السؤال إنما جاء لمناسبة، وهي التأكد من أن هذه الجارية مؤمنة فقط، ليس على سبيل تقرير العقيدة، إنما على سبيل التأكد من إيمانها، فمن تعرض لمثل هذه الحالة فإنه يستعمل معه هذا الأسلوب، أما أن يكون السؤال بـ (أين الله) من أمور التربية التي يربى عليها الناس فلا، بل يكفي عرض العقيدة على ما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعوام لا يتمادون في الكلاميات، ولو أخذوا العقيدة بأسلوب المتكلمين لضلوا كغيرهم، ولعل من حظهم أنهم لا يفهمون أساليب المتكلمين، وإلا فلو فهموها لفتنوا بها، فلذلك لا نجد متكلماً إلا وهو ذكي وعبقري، أما الذي هم أقل في الذكاء وأقل في العبقرية فهم إما مقلدون وإما من السالمين من عقائد المتكلمين، بمعنى أنه ليس في رءوس أهل الكلام عوام، بعكس البدع العملية، فالبدع العملية يكون فيها عوام ويكونون دعاة ضلالة، أما البدع الاعتقادية التي تخضع لمناهج المتكلمين والعقليات والفلسفات فليس فيها عوام ولا من دعاتها عوام.

شرح العقيدة الطحاوية [22]

شرح العقيدة الطحاوية [22] جميع العقلاء يفرقون بين مدعي النبوة كذباً، وبين النبي الصادق بأنواع من القرائن، حتى لو لم تأتهم معجزات، أو لم يدركوا معناها، والنبي صلى الله عليه وسلم جاء بأدلة وبراهين عقلية تدل على نبوته، كإخباره بما سيحدث من أحداث، ووقوع هذه الأحداث بعد إخباره بها على ما قال، وكحاله صلى الله عليه وسلم وحال أمته ودينه مما لا يرده إنسان إذا استعمل عقله مجرداً من الهوى والمكابرة.

الدلائل على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم

الدلائل على صدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر خبر سؤال هرقل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

ذكر خبر سؤال هرقل أبا سفيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى في ذكر الدلائل الدالة على صدق نبوة رسولنا صلى الله عليه وسلم: [وكذلك هرقل ملك الروم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى الإسلام؛ طلب من كان هناك من العرب، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، وسألهم عن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل أبا سفيان وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الإخبار، سألهم: هل كان في آبائه من ملك؟ فقالوا: لا، قال: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا: لا، وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا: نعم، وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا: لا، ما جربنا عليه كذباً، وسألهم: هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه، وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون، وسألهم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا: لا، وسألهم: هل قاتلتموه؟ قالوا: نعم، وسألهم عن الحرب بينهم وبينه، فقالوا: يدال علينا مرة وندال عليه أخرى، وسألهم: هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر، وسألهم: بماذا يأمركم؟ فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. وهذه أكثر من عشر مسائل، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة، فقال: سألتكم هل كان في آبائه من ملك؟ فقلتم: لا، قلت: لو كان في آبائه ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتكم: هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ فقلتم: لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل ائتم بقول قيل قبله، وسألتكم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم: لا، فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله، وسألتكم: أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم: ضعفاؤهم. وهم أتباع الرسل، يعني: في أول أمرهم، ثم قال: وسألتكم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم: بل يزيدون. وكذلك الإيمان حتى يتم]. يعني بذلك أن الإيمان بدين الأنبياء -وهو دين الفطرة ودين التوحيد- لا يدخله في الغالب إلا من هو مقتنع به، ثم إنه ينسجم مع الفطرة ومع العقل السليم ومع حاجة البشر، فالإنسان إذا استجاب وهداه الله للإيمان وذاق حلاوة الإيمان؛ فإنه لا يمكن أن يخرج منه أبداً، فمن هنا لم يعهد أن أحداً ممن دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام عن قناعة وعن يقين وإيمان ارتد، خاصة في أول الإسلام، أما بعد ذلك حينما دخل الناس رغبة ورهبة فقد وجد من ارتد؛ لأن من أسباب دخول كثير منهم إما التقليد واتباع الكبار، وإما الرغبة حينما بدأت الأطماع في الغنائم والمصالح، وإما الرهبة من السيف، وهذا كان بعد أن أثخن النبي صلى الله عليه وسلم في الأرض، أما قبل ذلك فلا أحد كان يدخل في الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على تلك الحال إلا عن قناعة، فمن دخل عن قناعة وذاق حلاوة الإيمان لا يمكن أن يعدل عنها إلى غيرها. قال: [وسألتكم: هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقلتم: لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشتة القلوب لا يسخطه أحد. وهذا من أعظم علامات الصدق والحق؛ فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلاً ثم ينكشف. وسألتكم: كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها، قال: وسألتكم: هل يغدر؟ فقلتم: لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون؛ علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء، لينالوا درجة الشكر والصبر، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده! لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له). ] قال رحمه الله تعالى: [والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة، فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، الآيات، وقال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1 - 2]، الآيات. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول]. هذا فيه إشارة إلى أن من سنن الله تعالى في النبيين وأتباعهم أنهم لا بد من أن يبتلوا على قدر إيمانهم، والابتلاء أنواع، وأشده أن يواجهوا من أقوامهم وممن حولهم الصدود والإعراض، وربما يصل الأمر إلى القتال، كما حصل لجمع من الأنبياء الذين ما انتشرت دعوتهم إلا بقتال. إذاً: فال

توارد ما يقطع بصدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم

توارد ما يقطع بصدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [ومما ينبغي أن يعرف: أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان من شبع وري وشكر وفرح وغم بأمور مجتمعة لا يحصل ببعضها، لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر]. السياق يدل على أن مقصود الشارح رحمه الله الاستدلال على أن النبوة تعرف بالقرائن، وأن أي نبي يعرف صدقه بالقرائن، وأن أي مدع للنبوة يعرف كذبه بالقرائن، يقول: إن من علامات ذلك أن الإنسان فيما دون النبوة من الحالات العادية الكائنة في سلوك البشر ترد عليه أمور تتوارد واحداً بعد الآخر -يعني: قرينة بعد قرينة- حتى تجعله يجزم بالأمر بمجرد خواطر وقرائن، فكيف بأدلة تدل على أن النبي صادق؟! فالإنسان إذا كان جائعاً وأكل طعاماً قليلاً يشعر بسد بعض حاجته، فإذا انضاف إلى هذا الطعام طعام آخر شعر بشيء من سد الحاجة أكثر، فإذا أكل طعاماً يسد جميع حاجته شعر بالشبع، أليس كذلك؟! هذا في حالة الإنسان العادية، فكذلك مسألة التصديق، فالعقل مثل حاجات الإنسان الأخرى، فإذا توارد عليه من القرائن ما يدل على صدق خبر من الأخبار صدق، كأن يأتي إنسان من الناس يظهر عليه أنه ثقة فيخبر بخبر، فيترجح عندنا أن هذا الخبر صدق، فيأتي آخر يظهر عليه أنه ثقة فيقول الخبر، فيترجح عندنا بشكل أقوى أنه صدق، فيأتي ثالث نعرفه يقيناً أنه صادق وأنه من الثقات بنفس الخبر ويقول: إنه شاهد عيان. فمن هنا يحصل الجزم بأن الخبر صادق، فإذا توارد الخبر من مجموعة أشخاص فمئات فآلاف صار جزماً، وهذا في أحوال الناس العادية، فكيف بأخبار الأنبياء التي تتوارد على الناس من كل وجه فتصدقها قلوبهم وعيونهم ومسامعهم، فالأنبياء يحدث لهم من الأحوال والأقوال والتصرفات والأوامر والنواهي والتشريعات والعقود والعهود والتعامل مع الآخرين والأخبار التي يخبرون بها ثم تقع بمجموعها ما يوجب اليقين بأن النبي صادق، فالرسول صلى الله عليه وسلم تحقق له الوحي الذي نزل عليه -وهو القرآن والسنة-، ثم إخباره عما يحدث، ثم ارتفاع شأنه بين الأمة وكثرة أتباعه، واستقرار دينه وتمكنه في الأرض، كل هذا الأمور توجب عند كل عاقل لو تجرد من الهوى أن النبي صلى الله عليه وسلم صادق، لكن إذا حجب الهوى قلبه -نسأل الله العافية- فقد لا يهتدي، فالمشركون الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه بالصدق ويسمونه الأمين، ولما جاءهم بالوحي من عند الله ما استطاعوا أن يكذبوه لذاته، إنما بحثوا عن عوامل أخرى، ومع ذلك بقي عندهم صادقاً وكانوا يشهدون له بالصدق بعد أن جاءهم بالوحي، ومع ذلك لم تنفعهم هذه القرائن، لكن نفعت المؤمنين وزادتهم إيماناً. إذاً: فمسألة الاستدلال على النبوة لا يلزم أن تكون بمعجزة فقط، بل أدلة النبوة وأدلة صدق النبي تتضافر عليها عوامل وقرائن كثيرة توجب اليقين لكل عاقل منصف. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك العلم بخبر من الأخبار؛ فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثم الآخر يقويه، إلى أن ينتهي إلى العلم، حتى يتزايد ويقوى، وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك].

الآثار الدالة على ما فعل بالأنبياء وأتباعهم وما فعل بالمكذبين

الآثار الدالة على ما فعل بالأنبياء وأتباعهم وما فعل بالمكذبين قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة: كتواتر الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبياً بعد نبي في سورة الشعراء: كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده، يقول في آخر كل قصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء:8 - 9]]. القصص المشهورة للنبيين معروفة عند الأمم إلى يومنا هذا، فمثلاً: قصة الطوفان نجدها عند كل أمة من الأمم، فكل أمة من الأمم تتحدث عن الطوفان، يعني: أصل الطوفان ومبدؤه وحدوثه معترف به عند جميع الأمم، وأنه عقوبة لأمة كذبت رسولها، هذا هو أصل القصة وإن نسجت حوله خيالات وحكايات كاذبة، لكن أصل القصة معروف، وكذلك قصة فرعون وغرقه معروفة عند جميع الأمم، فكل أمة ذات حضارة نجد أن قصة فرعون مسطورة في كتبها، فما من أمة حدث لها أمر هائل أو عقوبة شاملة إلا ونجد قصتها عند أكثر الأمم أو عند كل الأمم، وهذا مما تقوم به الحجة على الأمم، حيث تجعل تلك القصص كل إنسان يعرفها يقول: لماذا حدث هذا؟ وكيف حدث؟ وما نتيجته؟ إلى آخر ذلك، فإذا كان هذا في القصص السابقة؛ فكيف بقصص النبي صلى الله عليه وسلم التي هي الآن مدار حديث الأمم جميعاً، وهي مسطورة ومكتوبة، ولا يستطيع أن ينكرها إلا مكابر؟! قال رحمه الله تعالى: [وبالجملة: فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول: إنه رسول الله، وأن أقواماً اتبعوهم، وأن أقواماً خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين وجعل العاقبة لهم وعاقب أعداءهم؛ هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها، ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب، كـ أبو قراط وجالينوس وبطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأتباعه. ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم علمنا يقيناً أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة: منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم. ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه -كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم- عرف صدق الرسل. ومنها: أن من عرف ما جاء به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاءوا به من الرحمة والمصلحة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم بر يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق. ولذكر دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها الناس بمصنفات، كـ البيهقي وغيره].

بيان مذهب المعتزلة فيما تثبت به النبوة

بيان مذهب المعتزلة فيما تثبت به النبوة فدلائل نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم كثيرة، وكلها تثبت صدق نبوته، وليست هي المعجزات فحسب كما قال المعتزلة وبعض أهل الكلام الذين قالوا بأن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة، وأهل السنة قالوا: النبوة تثبت بالقرائن والمعجزات، وثمرة هذا الخلاف تظهر على جزئيات بعض المباحث في العقيدة فقط، فالإيمان بالنبوات والرسالات واحد عند الجميع، سواءٌ الذين اعترفوا بأن القرائن دالة على النبوة والذين لم يعترفوا، كلهم قولهم في النبيين في الجملة واحد، لكن انعكس الخلاف في بعض المسائل الأخرى، فمثلاً: المعتزلة أنكروا كرامات الأولياء، بناءً على قاعدتهم في أن الخارق لا يحدث إلا لنبي، فأنكروا أن يكون للأولياء كرامات، وإنكار الكرامات قدح في الشرع وقدح في العقل وقدح أيضاً في الناس أنفسهم، فالناس يدركون الكرامات ويدركون ما يحدث لأولياء الله تعالى من خوارق هي من باب الكرامات. فالمعتزلة -بناءً على قولهم لأجل أن تسلم قاعدتهم أنه لا يكون خارق إلا لنبي- ادعوا أنه ليس هناك شيء اسمه كرامات الأولياء، وينبني على هذا قيمة الوحي عندهم، فإذا عولوا على أنه لا يتم الإيمان بالرسل إلا بالمعجزة انعكس هذا على مسألة في القرآن، فإن المعتزلة قالوا بأن القرآن مخلوق، وإذا كان مخلوقاً فهذا يعني أنه ضعيف؛ إذ لا يتم الإعجاز من خلال مخلوق، فيبطل إعجاز القرآن بقولهم: إنه مخلوق، فإذا بطل إعجاز القرآن بطلت دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يوجد بعده منها شيء. فالذين يولدون بعد انقضاء حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا يجدون من معجزاته إلا القرآن، فمن قال بخلق القرآن ألغى إعجاز القرآن، ومن ألغى إعجاز القرآن فقد ألغى المعجزة، وإذا التغت المعجزة كان الناس في حل من أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أو لا يؤمنوا. وهكذا نجد للمسألة فروعاً كثيرة خطيرة لا يتسع الوقت لإحصائها.

إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم طعن في الذات الإلهية

إنكار رسالة محمد صلى الله عليه وسلم طعن في الذات الإلهية قال رحمه الله تعالى: [بل إنكار رسالته صلى الله عليه وسلم طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبته إلى الظلم والسفه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، بل جحد للرب بالكلية وإنكار]. وهذا من باب الإلزام، وليس هو قول الخصم، فالذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم قد ينكرونها مكابرة وجحداً، ومع ذلك يعترفون بهذه اللوازم، لكن هذا من باب الإلزام العقلي، وتقرير الحق بالإلزام من الوسائل التي استعملها السلف. قال رحمه الله تعالى: [وبيان ذلك: أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق بل ملك ظالم؛ فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم]. هذا القول -أي: الزعم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ملك ظالم- قال به طوائف من أهل الكتاب، طوائف من اليهود وطوائف من النصارى، ولا يزال هذا القول موجوداً في طائفة كبيرة من الغربيين من المستشرقين وغيرهم، يزعمون أن محمداً صلى الله عليه وسلم ملك ظالم، وأنه من ملوك العرب، وأنه مدع للنبوة، ويستدلون على ظلمه -بزعمهم- بأنه أشرع السيف في الأمم. قال رحمه الله تعالى: [وبيان ذلك أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق بل ملك ظالم؛ فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع، وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم ويغنم أموالهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله له به ومحبته له، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عليه ثلاثاً وعشرين سنة، وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره ويعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر، وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والافتراء والظلم؛ فإنه لا أظلم ممن كذب على الله وأبطل شرائع أنبيائه وبدلها وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائماً، والله تعالى يقره على ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع منه الوتين!]. فالله تعالى قد توعد على ما هو أقل من ذلك، فكيف بهذه الأمور كلها يفعلها ثم الله تعالى ينصره ويؤيده ويرفع ذكره ويعلي أمته في الدنيا ويمكنها من جميع الأمم؟! فالله سبحانه وتعالى توعده على ما هو أقل من ذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46]، فإذا كان الله يتوعده في بعض الأقاويل؛ فكيف في أمر أكبر من مجرد الأقاويل؟! أمر هيمن فيه على الأمم، ورفع شعار لا إله إلا الله، وقاتل عليه، وجاء بشرع من عند الله، ووعد بأن الله سينصره، ثم نصره الله ومكن له وأظهر أمته، فلو كان هذا كذباً لما تمكن هذا التمكن وصار له ولدينه هذا الشأن. قال رحمه الله تعالى: [فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كان له مدبر قدير حكيم لأخذ على يديه ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالاً للصالحين؛ إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟!]

هلاك مدعي النبوة دليل صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم

هلاك مدعي النبوة دليل صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن الله تعالى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رءوس الأشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيراً من الكذابين قام في الوجود، وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره، ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم، فقطعوا دابره واستأصلوه، هذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك، قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:30 - 31]. ] من المعروف أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن لمتنبئ كذاب في الأمة، وهذا ما حصل فعلاً، فإنه في تاريخ الإسلام ظهر مدعون كثر يدعون النبوة، لكن أمرهم كان ينتهي بالفشل، والناس الذين يغترون بهم ينقمون عليهم في نهاية المطاف ويحقدون عليهم، هذا أمر. والأمر الآخر: أن كل الذين ادعوا النبوة في تاريخ الإسلام كانوا ينتهون بنهاية مؤلمة تدل على كذبهم، إما بقتل غيلة أو نحوه، ثم إن الذين ادعوا النبوة في التاريخ الإسلامي لم يبق لهم دين محترم، فالدين الحق هو الدين الظاهر، والذين كذبوا على الله تعالى انتقم منهم بأي نوع من أنواع الانتقام، بالفشل وبالنهاية المؤلمة وبعدم التمكين في الأرض وإن تمكنوا زمناً، فإنهم ينتهون في النهاية إلى أمر يدل على الفشل الذريع، والناس لا يستجيبون للمتنبئ الكذاب ولو اغتر به بعض الغوغاء بعض الوقت لعصبية أو لغيرها؛ لأنه قد يبيح لهم بعض الشهوات أو يخفف عنهم بعض الأعباء أو بعض العبادات ونحوها، فما من متنبئ كذاب إلا وانتهى أمره -بحمد الله- بما يدل على فشله وكذبه، فهذا من تمكين الله لهذا الدين، ودليل على صدق النبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء الكفار لو نظروا هذه النظرة لوجدوا في ذلك ما يدل على صدقه عليه الصلاة والسلام، فقد ظهر المتنبئ الكذاب من هذه الأمة، ومن الأمم الأخرى، فقد ادعى النبوة أناس من النصارى وفشلوا، وادعى النبوة أناس من اليهود وفشلوا، وادعاها أناس في هذه الأمة فلم يفلحوا، بل انتهى أمرهم إلى ما هو معروف. قال رحمه الله تعالى: [أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقول عليه بعض الأقاويل، بل لا بد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه. وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]، وهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبراً جازماً غير معلق أنه يمحو الباطل ويحق الحق. وقال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91]، فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره]. انتهى الشارح إلى خلاصة، وهي: أن جميع العقلاء في الأرض يفرّقون بين مدعي النبوة كذباً، وبين النبي الصادق بأنواع من القرائن، حتى لو لم تأتهم معجزات أو لم يدركوا معنى المعجزة، مع أن الله تعالى حفظ لهذه الأمة ولنبينا صلى الله عليه وسلم معجزة القرآن ومعجزات أخرى، وهي نبوءاته صلى الله عليه وسلم الباقية إلى قيام الساعة، التي هي إخباره بما سيحدث، فمنها ما حدث وكان دليلاً قاطعاً على صدقه عليه الصلاة والسلام، ومنها ما ينتظر، ولا تزال الأمة ترى ما يصدق أخباره صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، وهذا مما تقوم به الحجة، وهو من القرائن. ومن القرائن ما ذكره، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم توافر له من الأدلة ما يدل على صدقه، أي: الأدلة العقلية والبرهانية والأدلة التاريخية التي هي واقع هذه الأمة ودينها المحفوظ، فلا يسع أحداً من الكفار الذين يسمعون عن النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعون عن الإسلام ويسمعون عن هذه الأمة إلا أن يصدقوا إن استعملوا عقولهم مجردة من الهوى، لكن الناس تحجبهم عن الحق أهواؤهم، وتحجبهم عن الحق رغباتهم وشهواتهم وأمور أخرى من نوازع البشر التي تحجبهم عن الهدى، ومن لم يهده الله فلا هادي له.

شرح العقيدة الطحاوية [23]

شرح العقيدة الطحاوية [23] الفرق بين النبي والرسول ناشئ عن القول بأن النبي غير الرسول، وإن كان الرسل يصطفون من الأنبياء، وكل رسول نبي ولا عكس، وهذا هو قول جمهور السلف، ولكنهم اختلفوا في سبب التفريق، فمنهم من أرجع ذلك إلى وجود شريعة جديدة يبعث بها الرسول، بينما النبي يكون متبعاً لمن قبله، ومنهم من جعل الفرق في الكتاب، فمن نزل عليه كتاب فهو رسول، ومن لم ينزل عليه كتاب فهو نبي، وغير ذلك من التفريقات.

الفرق بين النبي والرسول

الفرق بين النبي والرسول قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد ذكروا فروقاً بين النبي والرسول، وأحسنها: أن من نبأه الله بخبر السماء إن أمره أن يبلغ غيره فهو نبي رسول، وإن لم يأمره أن يبلغ غيره فهو نبي وليس برسول]. التفريق بين النبي والرسول ناشئ عن القول بأن النبي غير الرسول، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه جمهور السلف، فالأنبياء غير الرسل وإن كان الرسل يصطفون من الأنبياء، وكل رسول نبي، لكن ليس كل نبي رسولاً، فالقول بالتفريق بين النبي والرسول هو الراجح، وهو الذي تقتضيه ظواهر الآيات والنصوص، بل ورد من الأحاديث ما يدل على التفريق، وإن كانت أحاديث قد لا تصل إلى درجة الصحة، لكن ما ورد من ظواهر النصوص يوصلنا إلى الجزم بأن هناك فرقاً بين النبي والرسول، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو ذر وأبو أمامة أيضاً، وأخرجه أحمد في المسند والحاكم وغيرهما -وهو حسن، وصححه كثير من أهل العلم- (أن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كم عدد النبيين؟ فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً. ثم سأله: كم عدد المرسلين؟ فقال: ثلاثمائة وبضعة عشر). إذاً: فالتفريق يدل قطعاً على الفرق؛ لأنه حينما سأل أبو ذر رضي الله عنه عن عدد النبيين أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بعدد معين، ثم لما سأله عن عدد المرسلين أجابه بذكر عدد معين، فتنويع السؤال دليل على التفريق، ثم لما أجابه عن عدد المرسلين دل ذلك قطعاً على أن الرسل غير النبيين، فالمرسلون يصطفون من النبيين، لكن ليس كل نبي يصل إلى الرسالة. فأقول: إذا صح الحديث فهو دليل قاطع، لكن لم يصل إلى درجة الصحة عند بعض أهل العلم، وإن كان روي بطرق حسنة، وقد اختلف الناس في التفريق بين النبي والرسول على أقوال كثيرة: فمنهم من نظر إلى الشرائع فقال: الفرق بين النبي والرسول: أن الرسول يأتيه شرع، والنبي لا يأتيه شرع، وإنما يكون متبعاً لشرع من قبله. ومنهم من قال: الفرق هو الكتاب، فمن نزل عليه كتاب فهو رسول، ومن لم ينزل عليه كتاب فهو نبي. ومنهم من نظر إلى مسألة المعجزة فقال: من حصلت له معجزة كبرى فهو رسول، ومن لم تحصل له معجزة كبرى فهو نبي. ومنهم من نظر إلى فعل الأنبياء، فمن دعا إلى الدين بالقوة واستعمل القتال والسيف ضد خصومه فهو رسول، ومن لم يفعل ذلك فهو نبي. ومنهم من نظر إلى كيفية الوحي فقال: من نزل عليه جبريل بالوحي فهو رسول، ومن لم ينزل إليه جبريل فليس برسول، بل هو نبي، كمن يلهم إلهاماً أو يوحى إليه بأنواع الوحي الأخرى. ومنهم من نظر إلى نوع الوحي فقال: من أوحي إليه يقظة ومناماً فهو رسول، ومن أوحي إليه مناماً فقط فهو نبي. وكل هذه الأقوال لا تصمد أمام النظر والاستقراء لأحوال الأنبياء والمرسلين ولمن سماهم الله أنبياء وسماهم الله مرسلين. وهناك تفريق مشهور عند أهل العلم، وهو أن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، والرسول من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، وهذا أبعد من الفروق الأخرى، لكن هناك تفريق أحسن من هذه التفريقات كلها، وهو أن يقال: إن النبي من أوحي إليه بشرع تابع لشرع من سبقه من المرسلين وأمر بتبليغه؛ لأنه لا يتأتى أن يوحى إليه بشرع ولا يؤمر بالتبليغ، بل الله سبحانه وتعالى كلف بالتبليغ أتباع الرسل، وأتباع الأنبياء من المصلحين والدعاة، فكيف لا يؤمر بالتبليغ من هو أعلم منهم؟! إذاً: فيقال: إن النبي هو من أوحي إليه بشرع تابع لشرع من سبقه من الرسل لأقرب رسول إليه وأمر بالتبليغ، والرسول: هو من أوحي إليه بشرع جديد وأمر بتبليغه، سواء أكان هذا الشرع الجديد شرعاً كاملاً كما أوحي إلى موسى، أم شرعاً مكملاً كما أوحي إلى عيسى عليه السلام، فهذا أسلم تعريف، وهو الذي استقر عليه كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال بأن النبي: هو من أوحي إليه بشرع تابع لشرع من سبقه وأمر بتبليغه، والرسول: هو من أوحي إليه بشرع جديد وأمر بتبليغه. قال رحمه الله تعالى: [فالرسول أخص من النبي، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولاً، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها، فالنبوة جزء من الرسالة؛ إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف الرسل فإنهم لا يتناولون الأنبياء وغيرهم، بل الأمر بالعكس، فالرسالة أعم من جهة نفسها، وأخص من جهة أهلها]. يقصد بذلك: أن الرسالة من حيث قدرها أخص؛ لأنها أعظم قدراً، وكذلك من حيث عدد المرسلين تعتبر الرسالة أخص؛ لأن عدد المرسلين أقل، لكنها أعم؛ لأنها أرفع درجة، فالرسالة أعم من النبوة من هذا الجانب، فهي تشمل النبوة وزيادة، والعكس بالنسبة للنبوة، فالنبوة أعم من جهة أهلها، أي: أن عدد النبيين أكثر، وأخص من جهة نفسها؛ فإنها جزء من الرسالة، فالنبوة مرحلة سابقة للرسالة، فهي أخص، يعني: أقل رتبة وأدنى درجة من الرسالة؛ فلذلك كل رسول نبي؛ لأن كل رسول ينبأ أولاً، ثم يصطفي الله من النبيين رسلاً، فيكون كل رسول نبياً، ولكن ليس

عظيم نعمة الله على عباده بإرسال الرسل

عظيم نعمة الله على عباده بإرسال الرسل قال رحمه الله تعالى: [وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه، وخصوصاً محمداً صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]]. يشير بهذا إلى أن إرسال الرسل من نعم الله تعالى؛ لأن البشر لو لم يأتهم رسل لما اهتدوا إلى ما يريده الله سبحانه وتعالى وما يرضاه، وهذا معلوم قطعاً بالضرورة؛ فإن الشرائع تشتمل على ما لا يحيط به البشر من الحكم والمقاصد الشرعية والغايات التي لا تتعلق بجيل دون جيل، ولا تتعلق بشخص دون شخص، فلو فرضنا أن إنساناً أدرك مصالح نفسه فلن يدرك مصالح الآخرين، ولو فرضنا أن جيلاً أدرك مصالحه فلن يدرك مصالح من سبقه ومن يلحقه، إذاً: فالبشر بحاجة إلى شرع من الله تعالى، هذا أمر. والأمر الآخر: أن الأديان تنبني بالدرجة الأولى على العقائد ثم على الأحكام، والعقائد بجملتها لا يدركها البشر، فكان لا بد من بعث المرسلين؛ ليبينوا للناس التوحيد أولاً ثم الأحكام ثانياً. والأمر الآخر: أن الرسالات جاءت لإنقاذ طائفة من البشر ممن كتب الله لهم الهداية وليس لجميع البشر؛ لئلا يظن أن من مقتضى الرسالة أن يؤمن الناس جميعاً، فإن الله كتب على الخلق الابتلاء، ومن مقتضيات الابتلاء أن تهلك طوائف من البشر وأن تنجو طوائف، فعلى هذه قد يحرم من هذه النعمة طائفة من خلق الله تعالى، وهم الذين يتنكبون الصراط المستقيم، ويعصون الأنبياء ولا يطيعونهم، مع أنه لا يمكن أن يتأتى من عاقل من البشر أن يعصي الرسول إلا بعد إقامة الحجة عليه، وهذا أمر ضروري يجب أن يفهمه كل إنسان، لا يمكن أن يتأتى عصيان الرسل عصياناً مباشراً إلا بعد إقامة الحجة على العصاة، بمختلف أنواع الأدلة التي تكون لكل أمة بحسب ما يصلح لها، وحجة النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة ظاهرة لجميع البشر الذين يبلغهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم، ظاهرة بوجود دينه وبوجود المسلمين وبوجود السنة، وظاهرة بوجود القرآن أيضاً، والتمكين لهذا الدين، ووجود المسلم في أي بقعة من الأرض حجة على البشر؛ لأنه يمثل دين الرسول صلى الله عليه وسلم، إذاً: فلا يلزم من إقامة الحجة وجود شخص النبي صلى الله عليه وسلم أو حتى إدراك تفصيل سيرته، بل مجرد وجود مسلم تابع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض يعتبر حجة، ويعتبر من النعمة التي أسداها الله إلى الخلق تبعاً لما أنعم الله به من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وكما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15]، أي: أن من لم تبلغه الرسالة لا يعذب حتى تقام عليه الحجة، فلذلك اختلف أهل العلم فيمن مات من البشر ولم يسمع برسول ولم تبلغه رسالة، وهذا وارد في طوائف من البشر في كل زمان، فقد يوجد الآن في الأرض على كثرة وسائل انتشار الأخبار والتبليغ من لم يسمع برسول، فهذا -كما قال أهل العلم- حكمه إلى الله سبحانه وتعالى، وأرجح ما قيل -وقد ورد في ذلك أحاديث وآثار صحيحة- أن الله يبتلي هؤلاء بابتلاء في الآخرة على نحو ما ابتلى الناس في هذا الدنيا، فيختبرهم فيشقى من شقي ويحيا من حي عن بينه، والله أعلم.

شرح العقيدة الطحاوية [24]

شرح العقيدة الطحاوية [24] جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تمنع من التفضيل بين الأنبياء، بينما هناك نصوص أخرى وردت بإثبات التمايز بينهم في الفضل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضلهم، والجمع بين ذلك بأن يقال: إن النهي عن التفضيل بين الأنبياء يكون إذا جاء في مقام العصبية والحمية والتفاخر على الآخرين، وإذا جاء ذلك في معرض التنقص والحط من قدر بعض الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً.

ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم

ختم النبوة بمحمد صلى الله عليه وسلم قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وأنه خاتم الأنبياء): قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40]، وقال صلى الله عليه وسلم: (مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه، وترك منه موضع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل)، خرجاه في الصحيحين. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي). وفي صحيح مسلم عن ثوبان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي)، الحديث].

المراد بظهور ثلاثين كذابا يدعون النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

المراد بظهور ثلاثين كذاباً يدعون النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ذكر عدد المتنبئين الكذابين الذين سيخرجون في هذه الأمة، وقد يرد في ذكر العدد بعض الإشكالات عند من لم يتأمل معنى الحديث، أو لم يتأمل أيضاً قصص التاريخ التي ذكر فيها أحاديث وقصص المتنبئين الكذابين، فالإشارة إلى الثلاثين مقيدة بأمور، منها: أن هذا العدد المقصود به بعض الذين يتنبئون وليس كلهم، فالبعض هم الذين تتوافر فيهم صفات المتنبئ الكذاب؛ لأنا لو نظرنا إلى عدد من خرجوا في التاريخ فنجدهم بالآلاف، ولا يخلو شهر أو سنة من سنين هذه الدنيا إلا ويخرج فيها متنبئ كذاب، لكنه قد لا تتوافر فيه الشروط التي بها يسمى متنبئاً، فالذين تتوافر فيهم الشروط قلة، وربما لم يبلغ عددهم إلى الثلاثين، والله أعلم. والذين ظهروا في تاريخ المسلمين من المتنبئين الكذابين الذين كانت لهم شوكة ولهم أثر وبقي ذكرهم؛ لا يصلون في الحقيقة إلى هذا العدد، وهذا يعني -والله أعلم- أنه لا يزال المجال مفتوحاً لخروج كذابين، لا سيّما أنه وردت أحاديث أخرى -أظنها بأسانيد حسنة- عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من المتنبئين الكذابين أربع نسوة، ولا يعرف في التاريخ من النساء من كان لها أثر وشوكة إلا سجاح التغلبية، وهذه ظهرت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وبعدها لم نعرف أن متنبئة كذابة ظهرت، فبقي منهن -إذا صح الحديث- ثلاث، وعصر المرأة الآن يمهد لظهور كذابات، والله أعلم؛ لأن نفخ المرأة بأكثر مما تستحق يجرئها على أن تدعي النبوة، وأظن أن الأمور الآن من خلال ما يحدث في العالم الآن من إعطاء المرأة أكبر من قدرها تهيئ لظهور متنبئات كذابات، وعلى أي حال لا نتنبأ بالغيب، لكن إرهاصات ذلك واضحة، ومع ذلك يبقى الأمر معلقاً على صحة الحديث، وأنا لم أتثبت من صحة الحديث، إلا أني أعرف أنه رواه الإمام أحمد، وأنه -أيضاً- بإسناد حسن، لكن يحتاج لمتخصصين يرجعون إلى الحديث، والحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (في أمتي كذابون ودجالون، سبعة وعشرون، منهم أربع نسوة)، وأرجوا من الإخوة المهتمين بالحديث أن يفيدونا بصحة حديث السبعة وعشرين متنبأ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك بعدما ظهر في آخر عهده ثلاثة من المتنبئين الكذابين، وهم: الأسود العنسي ومسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي، هؤلاء كلهم تنبئوا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم. فالثلاثون هنا المقصود بهم: الذين لهم شوكة ولهم أثر، أما المجانين وأشباه المجانين والمهلوسون الذين عندهم نوع من حب الشهرة؛ فهؤلاء لا يحسب لهم حساب، وإلا فهم كثرة كاثرة لا يكادون يحصون، لكن ما ثبت من هؤلاء وأصر وصار له أتباع إلا عدد قليل، وأولهم أو الأربعة الذين ظهروا قبل حروب الردة ثم قضي على دعواتهم مع حروب الردة ما عدا العنسي؛ فقد اغتيل بأمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بليالٍ، وقد بشر بقتله قبل وفاته عليه الصلاة والسلام. فالذين تنبئوا في التاريخ وكان لهم أثر وكان لهم أتباع وبقي لهم ذكر وصارت لهم مبادئ وعقائد نقلت عنهم ورويت عنهم هؤلاء قلة في التاريخ.

مزاعم أهل الضلال في معنى ختم النبوة

مزاعم أهل الضلال في معنى ختم النبوة قال رحمه الله تعالى: [ولـ مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً، وأرسلت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون)]. في هذا الحديث أشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه ختم به النبيون، بمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم خص بهذه الخصيصة، وهذا دليل قاطع على أنه لا نبي بعده، والذين ظهروا في التاريخ منهم من يجهل هذه الأمور أصلاً، ومنهم من يدري لكن يتأول، فيقول بأن المقصود بالختم الأفضلية، ومنهم من زعم بأن المقصود ختم النبوة فقط وليس ختم الرسالة، ومنهم من زعم أنه في مستوى فوق الرسول كما قال ابن عربي، وفوق النبي أيضاً، فدعواه لا تتعارض مع ختم النبوة والرسالة؛ لأنه قال: إنه خاتم الأولياء، وزعم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء ومن خاتم المرسلين. فالمبطلون الذين يجرون وراءهم غوغاء أهل الباطل يتأولون مثل هذا النصوص إن علموا بها، وبعضهم لا يعلم بها أصلاً، وبعضهم يدعي أن هذا للعرب وليس للعجم، وبعضهم من عجمته وجهله يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا نبي بعدي)، ثم يقول: إن (لا) اسم شخص أو وصف، فقال: أنا (لا)، إذاً: فأنا النبي من بعده! وهذا لا يفقه العربية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال: (لا) نبيٌ. إنما قال: (لا نبيَّ بعدي)، وعلى كلٍ فطرائف المتنبئين الكذابين ومضحكاتهم كثيرة.

إمامة رسول الله للمتقين وكونه سيدا للمرسلين

إمامة رسول الله للمتقين وكونه سيداً للمرسلين قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وإمام الأتقياء). الإمام: الذي يؤتم به، أي: يقتدون به؛ والنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث للاقتداء به، لقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وكل من اتبعه واقتدى به فهو من الأتقياء. قوله: (وسيد المرسلين): قال صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع). رواه مسلم، وفي أول حديث الشفاعة: (أنا سيد الناس يوم القيامة)، وروى مسلم والترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم)].

الجمع بين إخباره صلى الله عليه وسلم بكونه سيد المرسلين ونهيه عن تفضيله على بعض الأنبياء

الجمع بين إخباره صلى الله عليه وسلم بكونه سيد المرسلين ونهيه عن تفضيله على بعض الأنبياء قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: يشكل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله؟) خرجاه في الصحيحين]. يقصد بذلك: أنه قد يشكل الأمر عند بعض الناس: كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر أمته بأن لا يفضلوه على غيره من الأنبياء الآخرين كما ورد في عدة أحاديث، ثم هو بعد ذلك يذكر أنه أفضل من غيره، ويذكر أنَّه سيد الناس جميعاً حتى الأنبياء، فكيف نجمع بين هذا وهذا؟ هذا ما سيجيب عنه الشارح. قال رحمه الله تعالى: [فكيف يجمع بين هذا وبين قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)؟! ف A أن هذا كان له سبب؛ فإنه كان قد قال يهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فلطمه مسلم وقال: أتقول هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟! فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا؛ لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموماً، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموماً؛ فإن الله حرم الفخر، وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55]، وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة:253]، فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على وجه الانتقاص بالمفضول. وعلى هذا يحمل أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوا بين الأنبياء) إن كان ثابتاً، فإن هذا قد روي في نفس حديث موسى، وهو في البخاري وغيره، لكن بعض الناس يقول: إن فيه علة، بخلاف حديث موسى فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم. وقد أجاب بعضهم بجواب آخر، وهو: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى)، وقوله: (لا تفضلوا بين الأنبياء) نهي عن التفضيل الخاص، أي: لا يفضل بعض الرسل على بعض بعينه، بخلاف قوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه، وهذا كما لو قيل: فلان أفضل أهل البلد، لا يصعب على أفرادهم، بخلاف ما لو قيل لأحدهم: فلان أفضل منك. ثم إني رأيت الطحاوي رحمه الله قد أجاب بهذا الجواب في شرح معاني الآثار. وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفضلوني على يونس)، وأن بعض الشيوخ قال: لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج. وعدوا هذا تفسيراً عظيماً، وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى)، وفي رواية: (من قال: إني خير من يونس بن متى فقد كذب)، وهذا اللفظ يدل على العموم، أي: لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى، ليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا محمداً على يونس، وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي: فاعل ما يلام عليه، وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فقد يقع في نفس بعض الناس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إلى هذا المقام؛ إذ لا يفعل ما يلام عليه، ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، كما قال أول الأنبياء وآخرهم، فأولهم آدم قد قال: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23]، وآخرهم وأفضلهم وخاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، قال في الحديث الصحيح حديث الاستفتاح من رواية علي بن أبي طالب وغيره بعد قوله: (وجهت وجهي)، إلى آخره: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت)، إلى آخر الحديث. وكذا قال موسى عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [القصص:16]. وأيضاً: فيونس صلى الله عليه وسلم لما قيل فيه: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [ا

ثبوت أعلى مراتب المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم

ثبوت أعلى مراتب المحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وحبيب رب العالمين): ثبت له صلى الله عليه وسلم أعلى مراتب المحبة، وهي الخلة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، وقال: (ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، والحديثان في الصحيح، وهما يبطلان قول من قال: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد، فإبراهيم خليل الله ومحمد حبيبه. وفي الصحيح أيضاً: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته)، والمحبة قد ثبتت لغيره، قال تعالى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134]، {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران:76]، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد، بل الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه الترمذي الذي فيه: (إن إبراهيم خليل الله، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر) لم يثبت].

مراتب المحبة

مراتب المحبة قال رحمه الله تعالى: [والمحبة مراتب: أولها: العلاقة، وهي تعلق القلب بالمحبوب]. هذه المراتب التي سيذكرها الشارح هنا ذكرها ابن القيم، وهذه المراتب اجتهادية ليست توقيفية، وابن القيم رحمه الله له في المسائل التعبدية طرق وأمور جيدة ومفيدة، لكن ذكره للمراتب لا يعني أنها توقيفية، بمعنى أن هذه المراتب تقرر على أنها مراتب شرعية يوقف عندها ولا يتعداها أو أنها لا تناقش، بل هي توسع من ابن القيم رحمه الله واستقراء لمعاني المحبة الشرعية واللغوية، فصنفها على هذا النحو، فترتيبها ليس بلازم، وتعدادها ليس بلازم، إنما هي نوع توسع أشبه بالموعظة. قال رحمه الله تعالى: [والمحبة مراتب: أولها: العلاقة: وهي تعلق القلب بالمحبوب. والثانية: الإرادة: وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له. الثالثة: الصبابة: وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في الحدور. الرابعة: الغرام: وهي الحب اللازم للقلب، ومنه الغريم لملازمته، ومنه: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65]. الخامسة: المودة والود: وهي صفو المحبة وخالصها ولبها، قال تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم:96]. السادسة: الشغف: وهي وصول المحبة إلى شغاف القلب. السابعة: العشق: وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه، ولكن لا يوصف به الرب تعالى ولا العبد في محبة ربه، وإن كان قد أطلقه بعضهم. واختلف في سبب المنع فقيل: عدم التوقيف. وقيل غير ذلك، ولعل امتناع إطلاقه أن العشق محبة مع شهوة. الثامنة: التتيم: وهو بمعنى التعبد. التاسعة: التعبد. العاشرة: الخلة: وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه. وقيل في ترتيبها غير ذلك، وهذا الترتيب تقريب حسن، يعرف حسنه بالتأمل في معانيه. واعلم أن وصف الله تعالى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته كسائر صفاته تعالى، وإنما يوصف الله تعالى من هذه الأنواع بالإرادة والود والمحبة والخلة حسبما ورد النص. وقد اختلف في تحديد المحبة على أقوال نحو ثلاثين قولاً، ولا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاءً وجفاءً، وهذه الأشياء الواضحة لا تحتاج إلى تحديد: كالماء والهواء والتراب والجوع والشبع ونحو ذلك].

بطلان دعوى النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم

بطلان دعوى النبوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وكل دعوة نبوة بعده فغي وهوى): لما ثبت أنه خاتم النبيين علم أن من ادعى بعده النبوة فهو كاذب. ولا يقال: فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة كيف يقال بتكذيبه؟ لأنا نقول: هذا لا يتصور أن يوجد، وهو من باب فرض المحال؛ لأن الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين؛ فمن المحال أن يأتي مدع يدعي النبوة ولا تظهر إمارة كذبه في دعواه. والغي: ضد الرشاد. والهوى: عبارة عن شهوة النفس، أي: أن تلك الدعوة بسبب هوى النفس لا عن دليل، فتكون باطلة]. هنا يشير إلى أن دعاوى النبوة التي تأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى ولو جاءت بما يشبه المعجزات من بعض الخوارق؛ فإنها لا بد من أن تكون كاذبة؛ لأنه لا بد من أن يتبين لعقلاء الناس ما يدل على كذب الكاذب، ومن هنا فإنه قد تظهر دعوى نبوة كاذبة ويظهر معها بعض الخوارق، أو بعض الأمور التي يراها بعض الناس وكأنها معجزة، فإن عند البشر من الوسائل -كالسحر والاستعانة بالشياطين والاستعانة بعفاريت الجن ونحو ذلك- ما يظهر للآخرين، فيتصورون أنهم يأتون بأنواع من المعجزات، وقد حدث شيء من هذا كثير، فليس المعول على مجرد جنس المعجزة؛ لأن المعجزات الكبرى والكونية لا يمكن أن تأتي لكذاب غير من جاء الخبر عنه، وهو الدجال، فـ الدجال له معجزات كبرى، لكن ورد التحذير منه وورد بيان ذلك للأمة، فكل من كان صاحب أثر من هذه الأمة فإنه لا بد من أن يعرف الدجال من الآثار والأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: فـ الدجال مستثنىً، فهو الوحيد الذي يأتي بمعجزات كبرى تشبه معجزات الأنبياء، والله سبحانه وتعالى هو الذي سلطه بهذا التسليط على البشرية؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة، وهذا أمر معلوم. أما من عدا الدجال فلا يمكن أن يأتي بمعجزات كبرى، لكنه يأتي بخوارق وبأمور هي أشبه بالمعجزات عند كثير من البشر، لكنها مما يقدر عليه الشياطين ومما يقدر عليه الجن، وما يقدر عليه الشياطين والجن أكثر مما يقدر عليه البشر، فقد يطلع على أمر من الغيب الذي يسترق، ويطلع على أمر من عالم الشهادة الذي لا يعلمه الناس، لكن يعلمه الجن والشياطين، فكأنه غيب عند الناس. وقد يتمادى الكذاب بعض الشيء في مسألة الخوارق فيدعي النبوة، ولكن لا بد من أن يظهر من سلوكه ومن أقواله ومن أفعاله ومن عهوده ومواثيقه ووعوده للناس ما يدل العقلاء -ولو لم يكونوا مسلمين- على أنه كاذب حتماً، فكل مدع للنبوة وإن جاءك بخوارق فلا بد من أن يظهر من تصرفاته ما يدل على كذبه، والتاريخ يشهد بذلك، فما من مدع للنبوة إلا ويظهر الله من عيوبه ومن تناقضاته ومن علامات كذبه الشيء الكثير، فيدل ذلك قطعاً على كذبه عند العقلاء، فضلاً عن المؤمنين.

شرح العقيدة الطحاوية [25]

شرح العقيدة الطحاوية [25] من فضائل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وخصائصه التي اختصه الله بها على سائر الأنبياء أن بعثه بالرسالة الخاتمة، التي هيمنت على كل ما سبقها من رسالات، وبالكتاب الذي نسخ كل ما سبقه من الكتب، ثم ميز هذه الرسالة بأن جعل المخاطبين بها كافة الإنس والجن، وتولى الله حفظ كتابه واستمرارية رسالته حتى تقوم الساعة.

إشارة إلى ما تضمنه كلام الشارح في النبوة من إثبات العلو

إشارة إلى ما تضمنه كلام الشارح في النبوة من إثبات العلو وقبل الشروع فيما بقي من كلام المؤلف فيما يتعلق بنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم أشير إلى مراد الشارح بقوله: [وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى على خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله تعالى على خلقه]. فهذا الكلام متصل بالحديث الذي أخرجه البخاري، وقد سبق له ذكره، حيث قال: [وأما ما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تفضلوني على يونس)، وأن بعض الشيوخ قال: لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله تعالى وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج، وعدوا هذا تفسيراً عظيماً]. فكأنه هنا قصد الإشارة إلى أن المعراج ثابت، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرج إلى ربه حتى وصل إلى سدرة المنتهى، وأنه قرب من ربه، فكل ذلك ثابت بصرف النظر عن كلام هذا المبطل من شيوخ الصوفية، فثبوت المعراج وأن النبي صلى الله عليه وسلم عرج -بمعنى: صعد إلى فوق-، وأنه قرب من ربه سبحانه وتعالى؛ هذا فيه إثبات العلو. إذاً: فالعلو لله تعالى علو حقيقي، وليس مجرد علو القدر، وهو كمال لله سبحانه وتعالى، فله علو القدر وعلو الذات، فأراد بهذا أن يستدل على نفاة العلو بالمعراج؛ فإنه دليل قاطع على إثبات العلو، ولا يمكن تفسيره ولا تأويله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرج بروح وجسمه إلى أن وصل إلى سدرة المنتهى فكان قاب قوسين أو أدنى.

عموم بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن

عموم بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإنس والجن قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء): أما كونه مبعوثاً إلى عامة الجن فقد قال تعالى حكاية عن قول الجن: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31]، وكذا سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضاً].

ذكر ما قيل في حصول الرسالة في الجن

ذكر ما قيل في حصول الرسالة في الجن قال رحمه الله تعالى: [قال مقاتل: لم يبعث الله رسولاً إلى الإنس والجن قبله، وهذا قول بعيد؛ فقد قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسول، كذا قال مجاهد وغيره من السلف والخلف]. كلام مقاتل له احتمال آخر غير ما فهم من كلام الشارح، فكلام مقاتل له احتمالان: احتمال أن يقصد أن الله سبحانه وتعالى لم يرسل إلى الجن رسولاً أبداً إلا محمداً صلى الله عليه وسلم. واحتمال أنه يقصد أن الله تعالى لم يرسل إلى الجن رسلاً من الإنس إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يبلغون بطرق أخرى، فإذا كان هذا قصده فهو وارد، وهو قول بعض أهل العلم كما يأتي فيما بعد؛ لأن الكلام هنا مبهم. فالحاصل أن مقاتلاً ربما لا ينفي الرسالة إطلاقاً، إنما ينفي الرسالة المشتركة بين الجن والإنسان قبل النبي صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر]. هذا القول لا يختلف مع القول الذي قبله، إلا أنه أكثر تفصيلاً وأرجح، فقول مجاهد ما أشار فيه إلى النذر، إنما أشار إلى أن الرسل من الإنس، وعلى هذا فإن الجن تبع للإنس، بمعنى: أن الجن مكلفون بأن يسمعوا رسل الإنس ويطيعوهم ويأخذوا تعاليمهم ويأخذوا الدين الذي جاءوا به كما أرسلوا إلى الإنس. هذا مفهوم قول مجاهد. وأما ابن عباس فقد ذكر زيادة هي مقتضى النصوص، وهي أنه ليس الجن مكلفين باتباع رسل الإنس فحسب، بل إن الله جعل منهم نذراً بمثابة المصلحين، يسمعون كلام رسل الإنس ثم يبلغون أقوامهم، كما أشارت إليه آيات الأحقاف. قال رحمه الله تعالى: [وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف:30] يدل على أن موسى مرسل إليهم أيضاً. والله أعلم. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتج بهذه الآية الكريمة، وفي الاستدلال بها على ذلك نظر؛ لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] والمراد: من أحدهما]. قول الضحاك بن مزاحم -إن ثبت- ليس عليه دليل، والآية تشير إلى أن الرسل بعثوا للجميع، والآية لها مفهوم قاطع ومفهوم محتمل: أما المفهوم القاطع فهو أن الرسل أرسلوا إلى الثقلين، وأن الثقلين مكلفون جميعاً باتباع الرسل، وأن الجن أيضاً محاسبون على ما يأتي به الرسل كالإنس، هذا المفهوم القاطع من النصوص، فظاهر قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] يفهم منه أن الجميع جاءهم الرسل، لكن هل يفهم من الآية على وجه القطع أن قوله تعالى: (منكم) يعني: من كل صنف منكم بعث الله رسلاً؟ أو أن المقصود: منكم جميعاً، أي: من أحدكم، كما قال تعالى في ذكر البحرين: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] واللؤلؤ إنما يخرج من البحر المالح؟ وهذا تفسير ظني أيضاً؛ لأنه ثبت في العصور المتأخرة أن اللؤلؤ والمرجان وجدا حتى في البحر العذب، فيكون التفسير هذا غير قاطع، فيبقى الاحتمال وارداً في أن قوله تعالى: {مِنْكُمْ} [الأنعام:130] يعني: من جنسكم جميعاً، أو من جنس كل صنف منكم. والظاهر -والله أعلم- أن المقصود بها: من جنسكم جميعاً؛ لأنه خاطبهم بخطاب العموم ثم قال: {مِنْكُمْ} [الأنعام:130]، ولا نعرف في نص قاطع أن الجن فيهم رسل يخصونهم، بل الظاهر عكسه، حيث يفهم من خبر الجن الذين جاءوا للرسول صلى الله عليه وسلم وشرع لهم، وإشارتهم إلى السابقين قبل، وإشارتهم إلى موسى عليه السلام، وأنهم سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يشبه الكلام الذي جاء به موسى، كل ذلك يفهم منه بقرائن قوية أن الرسل في الإنس، وأن الجن تبع ويسمعون رسالات الرسل، وأن الجن فيهم نذر، ويؤخذ من ظاهر قوله تعالى: {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] أن هذه الطائفة من الذين سمعوا أنذروا، وهذا الإنذار بمثابة عمل المصلحين الذين ينوبون عن الأنبياء وهم ورثة الأنبياء.

أدلة عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعا

أدلة عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى الناس جميعاً قال رحمه الله تعالى: [وأما كونه مبعوثاً إلى كافة الورى؛ فقد قال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28]، وقال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19] أي: وأنذر من بلغه. وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [النساء:79]، وقال تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان:1]، وقال تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ} [آل عمران:20]. وقال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) أخرجاه في الصحيحين. وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار) رواه مسلم. وكونه صلى الله عليه وسلم مبعوثاً إلى الناس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة]. يعني بذلك أن هذا أمر قطعي بتواتر النصوص، فالنصوص في كتاب الله تعالى وفيما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إجماع السلف قاطعة بأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث للناس جميعاً، هذا أمر. الأمر الآخر: أنه معلوم بالضرورة من خلال واقع البشرية أن الله سبحانه وتعالى -وهذا ما يلزم كل عقل سليم- لا يمكن أن يترك البشر بلا إقامة الحجة، فلو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثاً لجميع البشر لبعث في الأمم الأخرى أنبياء، ولو لم يبعث النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً إلى قيام الساعة لما بقي الناس بلا رسالة إلى يومنا هذا، خاصة الأمم التي ضلت وانحرفت، أو الأمم التي لم تدخل في الإسلام أصلاً ولا تزال تحتاج إلى إقامة الحجة لو لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد أقام الحجة على الجميع. ثم إن بقاء القرآن وكونه معجزاً إلى قيام الساعة دليل قاطع على بقاء الرسالة إلى أن تقوم الساعة، وغير ذلك من الأمور التي تدل بالضرورة على أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث للناس جميعاً. هذا أمر.

أقوال الأمم في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم

أقوال الأمم في نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر الآخر: أن الناس كثر كلامهم قديماً وحديثاً في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وأشهر الأقوال التي قالت بها الأمم ولا يزال يقول بها طوائف من الكفار يمكن أن نلخصها في أربعة: القول الأول: الذي عليه أكثر الأمم المشركة والكافرة، وهم الذين يقولون بإنكار نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إطلاقاً، ولا يلتفتون إلى هذا الأمر، مع أنه يأتيهم من البينات والدلائل ما تقوم به الحجة عليهم، كوجود الإسلام والمسلمين والقرآن، ولكن مع ذلك لا تزال أمم كثيرة من هذه الأمم في الدنيا تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وإن سمعت به. القول الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مصلح من المصلحين، وبه قالت طائفة في الآونة الأخيرة من المستشرقين ومن نحا نحوهم، يقولون بأن محمداً صلى الله عليه وسلم إنما هو رجل مصلح من المصلحين. وهذا يكثر في المستشرقين الذين درسوا تاريخ الإسلام ودرسوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنهم وجدوا في شخصه ما بهرهم، فلذلك عزوا هذا الدين إلى عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا رجل عبقري مصلح داهية توصل بعبقريته ودهائه وذكائه وحسن خلقه ونهجه في الإصلاح إلى هذا الدين الذي زعموا أنه وضعه، وهذا عليه كثير من الغربيين الذين يطلعون على الإسلام اطلاعاً مجرداً من الحقد والعصبية. وهذا ما تأثر به كثير من الكتاب المحدثين مع الأسف، فأبرزوا جانب العبقرية في النبي صلى الله عليه وسلم زعماً منهم أن هذا انتصار للإسلام، وأنه -أيضاً- تعظيم للرسول عليه الصلاة والسلام، وأغفلوا جانب النبوة، كما فعل العقاد في (عبقرية محمد)، وكما فعل أمثال أحمد أمين وغيره في كتبهم، فإنهم ينزعون إلى هذه النزعة، ويزعمون أنهم بذلك يعظمون النبي صلى الله عليه وسلم حينما يعزون هذا الدين إلى عبقريته وإلى خلقه القوي. والقول الثالث: قول الذين زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم هو وصحابته ما هم إلا مجموعة من هواة التسلط والملوك الظالمين الذين تسلطوا على رقاب الأمة، وهذا يوجد في طوائف من اليهود وبعض متعصبة النصارى وبعض المشركين في الأمم الأخرى الذين يحقدون على الإسلام، فلا يعترفون بأنه دين، ويزعمون بأنه ما هو إلا وثبة عربية تزعمها هذا الرجل، فهو عندهم ظالم تسلط على البشر وهيمن دينه على البشرية بهذا الأسلوب. وهناك قول رابع يقول به طوائف من النصارى، خاصة نصارى العرب، ولا يزالون يقولون به، وهم الذين زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي لكنه للعرب خاصة، ولا يزال هناك من الغربيين طوائف كثيرة من النصارى وبعض اليهود يقولون بهذا القول، خاصة دعاة تقريب الأديان ينزعون إلى هذا القول ويدعون إليه، ويزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي لكنه للعرب خاصة. والعجيب أن هذه النظرة يقول بها بعض نصارى العرب من نصارى لبنان ونصارى مصر، يقولون بهذا القول، وهو حجة قاصمة ترتد عليهم؛ لأنه إذا كان النبي أرسل إلى العرب وهم عرب فلم لا يؤمنون؟! وهذه مقولة يلغيها العقل ولا تعتبر من الناحية الموضوعية. وهذه المقولات كلها يناقشها الشارح ضمناً، لكن سيناقش قضيتين على التفصيل، سيناقش النصارى، وسيناقش الذين قالوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ليس برسول، بل هو ملك ظالم غشوم، سيناقشهم ويقف عندهم طويلاً فيما بعد. قال رحمه الله تعالى: [وأما قول بعض النصارى: إنه رسول إلى العرب خاصة فظاهر البطلان، فإنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال: إنه رسول الله إلى الناس عامة، والرسول لا يكذب، فلزم تصديقه حتماً، فقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الأطراف يدعو إلى الإسلام].

الأقوال في إعراب (كافة) في قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس)

الأقوال في إعراب (كافة) في قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وكافة الورى): في جر (كافة) نظر، فإنهم قالوا: لم تستعمل (كافة) في كلام العرب إلا حالاً، واختلفوا في إعرابها في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ:28] على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها حال من الكاف في (أرسلناك)]. معنى أنها حال من الكاف أنها راجعة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الكاف ضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه يقول: أنت كافة للناس على سبيل المبالغة، كما يقال: داعية، ويقال: داهية، ويقال: راوية، بمعنى داع وراو. قال رحمه الله تعالى: [أحدها: أنها حال من الكاف في (أرسلناك)، وهي اسم فاعل، والتاء فيها للمبالغة، أي: إلا كافاً للناس عن الباطل. وقيل: هي مصدر كف، فهي بمعنى (كفاً)، أي: إلا أن تكف الناس كفاً، ووقوع المصدر حالاً كثير]. على التقديرين المعنى واحد، يعني: أن تكف الناس، وهذا التقدير مرجوح، والراجح سيأتي. قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أنها حال من الناس. واعترض بأن حال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور، وأجيب بأنه قد جاء عن العرب كثيراً فوجب قبوله، وهو اختيار ابن مالك رحمه الله، أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة]. هذا هو الراجح، وهو مقتضى ظاهر النص، والخروج عنه تكلف، أعني: الظاهر أن المعنى: وما أرسلناك إلا للناس كافة، أي: للناس جميعاً، وإنما قدم وأخر زيادة في التأكيد، ولو تأملنا تأملاً طويلاً في الآية لوجدنا أن تقديم (كافة) فيه مزيد تأكيد للعموم، لكن يحتاج إلى شيء من التأمل. إذاً: فتقديم (كافة) وإن كان غير معهود عند جمهور اللغويين لكنه معهود عند العرب، ثم إنه هو الوصف الذي يناسب سياق الآية، لأن المقصود بيان عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، بدليل قوله تعالى: {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28] يعني: للجميع، والبشارة والنذارة هما من غايات الرسالة بعد تحقيق التوحيد. قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أنها صفة لمصدر محذوف، أي: إرسالة كافة. واعترض بما تقدم أنها لم تستعمل إلا حالاً. وقوله: (بالحق والهدى وبالنور والضياء) هذه أوصاف ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الدين والشرع المؤيد بالبراهين الباهرة من القرآن وسائر الأدلة. والضياء: أكمل من النور، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا} [يونس:5]].

شرح العقيدة الطحاوية [26]

شرح العقيدة الطحاوية [26] اختلفت الناس في إثبات صفة الكلام لله تعالى إلى تسعة أقوال، مردها إلى أربعة رئيسية: أولها: منها أنه مخلوق منفصل عن الله، والثاني: أنه معنى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، والثالث: أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، والرابع: أنه تعالى ما زال متكلماً بصوت وحرف يسمع متى شاء وكيف شاء وبما شاء، وهذا هو القول الصحيح الذي يقول به أهل السنة والجماعة.

كون القرآن كلام الله تعالى على الحقيقة وليس بمخلوق

كون القرآن كلام الله تعالى على الحقيقة وليس بمخلوق قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر:26] فلما أوعد الله بسقر لمن قال: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر]. قبل أن نبدأ بالشرح أحب أن أشير إلى المقصود ببعض العبارات التي بدأ بها، وإن كان سيشرحها شرحاً عاماً ثم سيشرع في ذكر أقوال الفرق على وجه التفصيل. فقوله: (إن القرآن كلام الله) هذا معروف، لكن قوله: (منه بدا) معناه أن الله سبحانه وتعالى تكلم به، ومنه بدا القرآن، أي: الكلام، وهذا رد لقول من قال بأن القرآن إنما خرج من مخلوق، أو بدا من مخلوق. فبعضهم يقول بأن القرآن بدا من جبريل ثم سمعه النبي صلى الله عليه وسلم. وبعضهم يقول: إن القرآن بدا من مخلوقات أخرى خلقها الله، وبعضهم يقول بأن الله خلق الحروف والأصوات، فكانت بداية القرآن من تلك الحروف وتلك الأصوات. وبعضهم يقول بأن الله سبحانه وتعالى خلقه على لسان مخلوق آخر، سواء أكان هو جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم أم غيرهما، أي: نطق به ناطق من العقلاء الناطقين ونحو ذلك. فالذين زعموا هذه المزاعم ادعوا أن القرآن بدأ من المخلوقين أو من المخلوقات على اختلافات بينهم كثيرة. وقوله: (بلا كيفية) يرد التوهم الذي يحصل والذي خاض به الخائضون فقالوا: إننا إذا قلنا بأن القرآن بدأ من عند الله تعالى فهذا يعني أنه نطق به كما ينطق المخلوق. فهذا مردود بأن الله ليس كمثله شيء، وبأننا لا نعرف كيف تكلم الله، لكن الله تكلم به ومنه بدأ. وقوله: (بلا كيفية قولاً) المعنى: أن الله قاله، ما بدأ منه خلقاً كما يزعمون، ولا بدأ منه معاني ثم ترجمت هذه المعاني على ألسنة بشر، ولا بدأ منه كلاماً نفسياً، إنما بدأ قولاً، ولذلك يسمى قول الله، فيقال: قال الله تعالى، فالقرآن قول الله، وليس بفعل مستقل عن ذات الله سبحانه وتعالى، وليس بخلق، وليس بمعان نفسية، وليس أموراً معقولة حولها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ألفاظ كما يزعمون، أو نحو ذلك مما قالوه. وقوله: (وأنزله على رسوله وحياً) بمعنى: أنه حينما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينزل على قلبه بمجرد العلم اللدني كما يزعم كثير من أهل التصوف وأهل الفلسفة، فهم يزعمون أن قلب النبي صلى الله عليه وسلم مشتمل على القرآن، وأنه نطق به من معان موجودة في قلبه، وأهل السنة يقولون: المنصوص أن الله أنزله، ولم يشتمل عليه قلب النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، إنما وعاه قلب النبي صلى الله عليه وسلم وأدركه، لكن أيضاً سمعه منزلاً عليه صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أن الله أوحى به إليه بأنواع الوحي المعروفة شرعاً، ولم يكن ذلك بمعان انصبت ولا بفيض ولا بنتيجة العقل الفعال ولا باشتمال قلب النبي صلى الله عليه وسلم على العلم اللدني ولا بنحو ذلك من الأمور التي قال بها المبطلون، إنما كان منزلاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنواع الوحي الشرعية. وقوله: (وصدقه المؤمنون حقاً) بمعنى: على الحقيقة، والحقيقة نوعان: منها ما يعلم ومنها ما لا يعلم، فما يعلم هو حقيقة الصفة وحقيقة الكلام وحقيقة التنزيل وأن الله سبحانه وتعالى أوحى إليه، وما لا يعلم هو كيفية الوحي، وكيفية كلام الله تعالى به، أما كيفية الوحي فهي معلومة عند النبي صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: [هذه قاعدة شريفة، وأصل كبير من أصول الدين، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس، وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة].

أقوال الناس في مسألة الكلام

أقوال الناس في مسألة الكلام

قول الفلاسفة والصابئة بأن الكلام ما يفيض على النفوس من المعاني

قول الفلاسفة والصابئة بأن الكلام ما يفيض على النفوس من المعاني قال رحمه الله تعالى: [وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال]. هذه التسعة تعود إلى أربعة أقوال رئيسة، سأذكرها بعدما ينتهي من سرد الأقوال التسعة. قال رحمه الله تعالى: [أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من المعاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم أو من غيره. وهذا قول الصابئة والمتفلسفة]. هذا القول قالت به طوائف من الفلاسفة الإسلاميين الذين ظهروا في الإسلام، وكلمة الإسلاميين أدق في وصفهم من (المسلمين)، فكلمة (الفلاسفة المسلمون) لا تصح، إما (إسلاميون) فتصح، وإن كان الناس استعملوا هذه العبارة الآن على غير وجهها الصحيح، فالإسلامي من ينتسب للأمة الإسلامية أو الحضارة الإسلامية أو التاريخ الإسلامي أو إلى زمن فيه مسلمون أو إلى دولة إسلامية وإن كان كافراً، فيسمى إسلامياً بمعنى أنه عاش في عصر الإسلام، كما يقال: جاهلي حتى لو كان من النصارى أو اليهود أو من الذين على الحنيفية، يقال: هذا رجل جاهلي، أو شاعر جاهلي، بمعنى أنه منتسب لفترة الجاهلية. وكذلك كلمة (إسلامي) أرى أنها لا تدل على الإسلام، إنما تدل على الانتساب للتاريخ الإسلامي أو للحقبة الإسلامية، فكذلك الوصف بالنسبة للفلاسفة، فالفلاسفة الذين ظهروا في الإسلام أغلبهم ما دخل الإسلام، والذين دخلوا الإسلام أغلبهم اعتقد اعتقادات توجب إخراجه من الإسلام، فلذلك ينبغي أن نقول: الإسلاميون. فالفلاسفة الإسلاميون هم على هذا القول، أي: القول بأن الكلام من العقل الفعال أو نحو ذلك، ويعبرون عن هذا أحياناً بالفيض، ويعبرون عنه أحياناً بتعبيرات أخرى، فقول الصابئة المتفلسفة أظهره الفلاسفة الإسلاميون الذين ظهروا بعد القرن الثالث في تاريخ الإسلام.

قول المعتزلة بأن كلام الله مخلوق منفصل عنه

قول المعتزلة بأن كلام الله مخلوق منفصل عنه قال رحمه الله تعالى: [وثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه، وهذا قول المعتزلة].

قول الكلابية وأغلب الأشاعرة بأن الكلام معنى واحد قائم بذات الله تعالى

قول الكلابية وأغلب الأشاعرة بأن الكلام معنى واحد قائم بذات الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [وثالثها: أنه معنىً واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة. وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كـ الأشعري وغيره]. أغلب الأشاعرة المتكلمين على هذا القول، ولا يشذ عنهم إلا بعض الأشاعرة من أهل الحديث وبعض الفقهاء وبعض الأصوليين؛ فإنهم قد يقولون بقول أهل السنة، لكنهم قليل، أما غالبية الأشاعرة فإنهم على هذا القول، أنه معنى واحد قائم بذات الله تعالى، يقصدون به نفي أن يكون الله تعالى تكلم به بحرف وصوت على ما يليق بجلال الله تعالى، هذا المقصود به، فكأنهم يقولون: إن القرآن أشبه بقوالب أو معان عامة إذا ترجمت إلى اللغات تتحول إلى الألفاظ التي يتكلم بها الناس، فهي أشبه بالمعاني العامة التي تنقسم إلى: أمر ونهي، وخبر واستخبار، فإذا جاءت إلى قلوب الأنبياء ثم تكلموا بها تحولت إلى حروف وأصوات. هذه فلسفتهم، وما ذلك إلا انهزام أمام الجهمية والمعتزلة، هذه انهزامية أمام الجهمية والمعتزلة؛ لأن جميع المعتزلة يقولون: إنكم إذا قلتم بأن الله تكلم بحرف وصوت لزمكم أن تثبوا بقية الصفات؛ لأن هذا يعني قيام الأفعال به، وأنتم تنكرون قيام الأفعال به، فلذلك اضطروا إلى القول بأن القرآن معنى واحد قائم بذات الله، ومعنى أنه قائم بذات الله أن الله متصف به، وهذا المعنى إذا عبر عنه البشر بلغاتهم تحول إلى الكتب التي نزلت، فإذا عبر النبي صلى الله عليه وسلم باللغة العربية عن المعاني التي أرادها الله صارت قرآناً، وحينما عبر عنها موسى عليه السلام صارت توراة، وحينما عبر عنها عيسى صارت إنجيلاً، وهذا هروب من الإثبات. وفي الحقيقة لو تأملناه لوجدنا أنه يؤول إلى القول بأن القرآن مخلوق وليس منزلاً، لكنهم ما جرءوا على أن يصادموا السلف؛ لأن السلف كان لهم قوة وهيمنة، وكانت كلمتهم في هذه المسألة واضحة جداً، ولا يستطيع أحد أن يقاومهم، وإلا فلو تأملنا هذا القول لوجدنا أن مؤداه إنكار أن يكون الله تكلم بالقرآن، وإثبات أن القرآن مخلوق غير منزل. فإذا قلنا: إن القرآن ما صار قرآناً إلا حينما تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا يعني أنه مخلوق، وإذا قلنا بأن التوراة ما صارت توراة إلا حينما نطق بها أو كتبها موسى عليه السلام فهذا يعني أن الله لم يتكلم بها.

قول طائفة من أهل الكلام بأن الكلام حروف وأصوات مجتمعة في الأزل

قول طائفة من أهل الكلام بأن الكلام حروف وأصوات مجتمعة في الأزل قال رحمه الله تعالى: [ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث]. وهذا أيضاً قول عجيب، وهو أيضاً هروب من الإثبات وانهزام أمام هجوم المعتزلة والجهمية في مسألة كلام الله تعالى؛ فإن الأزلي هو الأول الذي ليس قبله شيء، هذا معنى الأزلي، فالأزلي يعني: الذي ليس له بداية، ونحن نعلم أنه ليس هناك شيء ليس له بداية إلا الله سبحانه وتعالى، فهم حينما قالوا بأنها حروف أزلية كأنهم ألحقوها بخصائص الله، فإذا ألحقوها بخصائص الله فإنهم بذلك يلزمهم أحد أمرين: إما أن تكون كلام الله تعالى، وعليه فلا داعي لمثل هذا الكلام، ولمثل هذا اللجوء إلى التعبير الموهم، وإما أن يقولوا: إنها غير كلام الله تعالى، وبذلك يثبتون أزلياً غير الله، فيلزمهم أحد الإلزامين بالضرورة، فإذا قالوا: هو حروف وأصوات أزلية ليست هي كلام الله فهذا يعني أن هناك مع الله أزلياً غيره. وإذا قالوا بأنها حروف أزلية تكلم الله بها في الأزل فلماذا لا يتكلم بها الآن كما يليق بجلاله؟! فالأمر فيه إعضال، وما ألجأهم إلى ذلك إلا الاستجابة لهجوم المعتزلة الفكري أو لهجومهم الفلسفي، وكذلك هجوم الجهمية.

قول الكرامية بأن الكلام حروف وأصوات تكلم بها الله بعد أن لم يكن متكلما

قول الكرامية بأن الكلام حروف وأصوات تكلم بها الله بعد أن لم يكن متكلماً قال رحمه الله تعالى: [وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، وهذا قول الكرامية وغيرهم]. هذا قول ناقص، فهو يشمل بعض قول السلف، لكنه ناقص وفيه انحراف أو حيدة عن إثبات الحق، فإنه إذا كان تكلم الله بعد أن لم يكن متكلماً فما الذي يمنع أن يكون الله قد تكلم؟! أليس الأكمل أن يكون الله تكلم من قبل ويتكلم من بعد ويتكلم متى شاء على ما يليق بجلاله؟! إن هذا أكمل من أن يقال بأن الله تكلم بعد أن لم يكن متكلماً. فهذا القول يعتبر إخلالاً بالكمال، فكلام الكرامية إخلال بالكمال، فإن من كان قادراً على الكلام في الأزل إلى الأبد أكمل ممن قدر على الكلام بعد مدة.

القول بأن الكلام يرجع إلى ما يحدثه تعالى من علمه وإرادته القائم بذاته

القول بأن الكلام يرجع إلى ما يحدثه تعالى من علمه وإرادته القائم بذاته قال رحمه الله تعالى: [وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل إليه الرازي في المطالب العالية]. هذا تعبير عن القول الثاني تماماً كما سيأتي، فالسادس ما هو إلا تعبير آخر عن القول الثاني.

قول الماتريدي بأن الكلام يتضمن معنى قائما بذاته خلقه في غيره

قول الماتريدي بأن الكلام يتضمن معنى قائماً بذاته خلقه في غيره قال رحمه الله تعالى: [وسابعها: أن كلامه يتضمن معنىً قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي]. هذا تلفيق بين القول الثاني والقول السادس.

قول أبي المعالي الجويني بأن الكلام مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه تعالى في غيره من الأصوات

قول أبي المعالي الجويني بأن الكلام مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه تعالى في غيره من الأصوات قال رحمه الله تعالى: [وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الأصوات، وهذا قول أبي المعالي ومن تبعه]. أيضاً هذا تلفيق آخر للقول الثاني.

قول أهل السنة والجماعة

قول أهل السنة والجماعة قال رحمه الله تعالى: [وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة]. هذا هو الحق، وهذا الذي تقتضيه النصوص، فإن الله تعالى لم يزل متكلماً، بمعنى: أنه يتكلم كما يشاء إذا شاء، فمشيئة الله لا راد لها، وعموم المشيئة ثابت بالنصوص القطعية، وعموم المشيئة أيضاً يشمل جميع ما يتعلق بأفعال الله تعالى، فالله تعالى يفعل ما يشاء، ومن أفعال الله تعالى الكلام. و (متى شاء) بمعنى: في أي زمن، بدليل أن الله سبحانه وتعالى يخلق بكلمة (كن)، وخلق الله لا ينتهي، وبدليل أن الله سبحانه وتعالى كلم أنبياءه السابقين، وبدليل أن الله سبحانه وتعالى يكلم عباده يوم القيامة، كما ورد في النصوص الصحيحة أن الله سبحانه وتعالى ينادي عباده يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد. وهذا ثابت في النصوص، وهذا في المستقبل، والكلام في الماضي ثبت من خلال تكليم الأنبياء وغيرهم، ومن خلال كلمة (كن)، فإن كلمة (كن) خلق الله بها الخلق ولا يزال يخلق بها، فإذا أراد شيئاً قال له: كن. و (كيف شاء) معناه أن الكيفية التي يتكلم الله بها راجعة إلى مشيئته، فلا يقال: كيف يتكلم؟ فما دام أن مشيئته عامة فالله يتكلم كيف يشاء، وهذا يعني أننا لا نخوض في الكيفية. وقول أهل السنة: (يتكلم بصوت يسمع) ليس من عندهم، بل ورد في الحديث الصحيح أن الله تعالى ينادي يوم القيامة بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، فالقريب والبعيد يسمعون كلام الله تعالى على نحو واحد. فالسلف في تقرير العقيدة يستندون على النصوص الشرعية ولم يأتوا من عند أنفسهم بشيء. ومعنى (أن نوع الكلام قديم) أنه صفة من صفات الله تعالى في الأزل، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً، فكون الله سبحانه وتعالى تكلم بالقرآن لا يعني أن القرآن قديم من حيث الكلام به، لا يلزم ذلك لئلا يقال بأن الكلام أزلي مع الله سبحانه وتعالى، بمعنى: أنه منفصل عن الله أو عن أفعال الله، وهذا القول هو المأثور عن أئمة السلف. قال رحمه الله تعالى: [وقول الشيخ رحمه الله: (وإن القرآن كلام الله): (إن) بكسر الهمزة، عطف على قوله: (إن الله واحد لا شريك له)، ثم قال: (وإن محمداً عبده المصطفى)، وكسر همزة (إن) في هذه المواضع الثلاثة؛ لأنها معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: نقول في توحيد الله].

مرد الأقوال في مسألة الكلام إلى أربعة أقوال

مرد الأقوال في مسألة الكلام إلى أربعة أقوال نرجع إلى تصنيف تلك الأقوال، فتلك الأقوال التسعة ترجع إلى أربعة أقوال: فالقول الأول: أنه مخلوق -بزعمهم- خلقه الله منفصلاً عنه. وهذا قول الجهمية والمعتزلة، ثم تابعهم عليه متأخرة الخوارج ومتأخرة الرافضة وكذلك الزيدية، والزيدية معتزلة وشيعة، وتابعهم على ذلك أفراد من المتكلمين وبعض الفلاسفة ومن نحا نحوهم. وقد تركنا قول الفلاسفة لأنه قول خامس، لكن لا يرجع إليه غيره، فهو قول منفرد، فإذا أفردنا أقوال أهل الأهواء فهي أربعة، وإذا جمعنا معها قول أهل السنة والجماعة تكون خمسة. والقول الثاني: أنه معنى واحد قائم بذات الله تعالى هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار. وهذا قول الكلابية، وهو قول بعض الأشاعرة وبعض الماتريدية وكثير من المتكلمين، وهو القول الثالث بترتيب المؤلف. وهذا القول يرجع إليه القول السادس، فهو تعبير آخر عنه، ويرجع إليه القول السابع والقول الثامن، فالسابع والثامن ما هما إلا جمع ومحاولة توفيق بين القول الثاني والقول الثالث والقول الرابع كذلك. والقول الرابع يرجع أيضاً إلى الأول، فما هو إلا تعبير آخر عن القول الأول بترتيبنا، وهو الثاني بترتيب المؤلف، فالرابع يرجع إلى ما سماه ثانياً، وهو القول الأول بالنسبة لاعتباره عند أهل الأهواء. وما سماه خامساً هو القول الثالث، وما سماه تاسعاً هو القول الرابع، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو القول الحق. والخامس الأخير هو قول من زعم أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس، وهذا القول ما ظهر إلا متأخراً جداً، يعني: ظهر في آخر القرن الرابع وما بعده. أما الأقوال الأربعة السابقة فالقول الأول منها هو القول الحق، وبقية الأقوال قيلت في القرن الثاني والقرن الثالث. فالقول بأنه مخلوق ظهر في القرن الثاني، والقول بأنه معنى واحد قائم بالذات لم يظهر إلا في القرن الثالث، وكذلك القول بأنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل ما ظهر إلا في القرن الثالث وما بعده، وإن كان بعض الجهمية قد قال بنحوه، لكن لم يكن على هذا النحو. والقول السادس إنما قال به الرازي وقال به أبو البركات بن ملكا الطبيب الفيلسوف.

شرح العقيدة الطحاوية [27]

شرح العقيدة الطحاوية [27] أجمع أهل السنة والجماعة على أن كلام الله غير مخلوق، وأن الله لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن كلامه بصوت يسمع، وقد خالف المعتزلة منهج أهل السنة في ذلك، فقالوا بخلق القرآن، واستدلوا على ذلك بنصوص من كتاب الله؛ لكنها استدلالات واهية، لا تقوم في نظر أقل الناس علماً في هذا الشأن.

إثبات أن كلام الله بدا منه والرد على المعتزلة في ذلك

إثبات أن كلام الله بدا منه والرد على المعتزلة في ذلك قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: (كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً) رد على المعتزلة وغيرهم، فإن المعتزلة تزعم أن القرآن لم يبد منه، كما تقدم حكاية قولهم، قالوا: وإضافته إليه إضافة تشريف كبيت الله، وناقة الله، يحرفون الكلم عن مواضعه، وقولهم باطل؛ فإن المضاف إلى الله تعالى معان وأعيان، فإضافة الأعيان إلى الله للتشريف، وهي مخلوقة له كبيت الله، وناقة الله، بخلاف إضافة المعاني، كعلم الله، وقدرته، وعزته، وجلاله، وكبريائه، وكلامه، وحياته، وعلوه، وقهره؛ فإن هذا كله من صفاته، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقاً. والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص، قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} [الأعراف:148]، فكان عباد العجل -مع كفرهم- أعرف بالله من المعتزلة؛ فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم أيضاً. وقال تعالى عن العجل أيضاً: {أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} [طه:89] فعلم أن نفي رجع القول ونفي التكليم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل. وغاية شبهتهم أنهم يقولون: يلزم منه التشبيه والتجسيم، فيقال لهم: إذا قلنا: إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم، ألا ترى أنه تعالى يقول: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} [يس:65]، فنحن نؤمن أنها تتكلم، ولا نعلم كيف تتكلم، وكذا قوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21]، وكذلك تسبيح الحصا والطعام وسلام الحجر، كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من الرئة المعتمد على مقاطع الحروف]. يقصد بذلك أن هؤلاء الذين اشتبهت عليهم الصفات -مع أنها محكمة بكلام الله تعالى- جاءتهم الشبهة من حيث إنهم قاسوا الله على خلقه وشبهوا الله بخلقه، فحينما وردت إليهم ألفاظ الصفات لم يوفقوا إلى الأخذ بالقاعدة الشرعية التي بدأ الله بها حينما تقررت قاعدة الإثبات والنفي، فالله سبحانه وتعالى قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ثم قال بعد ذلك: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فقوله تعالى: (ليس كمثله شيء) ينفي ابتداءً توهم التشابه، فمجرد التوهم والخيال منفي؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، وبعد نفي التوهم والخيال وما يمكن أن ينقدح في الذهن في حق الله تعالى يأتي الإثبات، وهذا إذا عمله الإنسان بهذا التدرج لا يمكن أن ترد إليه أوهام المتكلمين وشبههم، فإن شبهتهم أنهم يقولون: لا نفهم من هذه الصفات إلا ما نعرفه في المخلوقات، ويرد عليهم بما ذكره الله سبحانه وتعالى في المخلوقات نفسها، فإنهم يقولون: لا نفهم الكلام إلا بالجارحة، والجارحة: الفم واللسان ووسائل وأدوات الكلام، فيرد عليهم بأن هناك من يتكلم من مخلوقات الله تعالى بغير الوسائل والأدوات التي مع الإنسان، كالحصى والجمادات كلها، فكلها تسبح ولكن لا نفقه تسبيحها، فإذا كانت كلها تسبح ونحن لا نرى لها ألسنة ولا حناجراً ولا رئات ولا نفساً يخرج ويدخل ولا نرى شفاهاً؛ فمعنى هذا أنها تتكلم كما أقدرها الله سبحانه وتعالى على الكلام من غير أن نعرف الكيفية، فالله وصفها بصفات تشبه صفاتنا من حيث اللفظ، ومع ذلك لا نرى وجه التشابه أبداً، بل نرى التباين كل التباين بين صفات مخلوق ومخلوق، ولله المثل الأعلى، فالله سبحانه وتعالى يتكلم كما يليق بجلاله، وليس كلامه ككلام المخلوقين؛ لأنه ليس كمثله شيء، وإذا تكلم سبحانه وتعالى تكلم بما يليق بكماله وعظمته، وليس بما يتوهمون من أوهامهم التي ركزوها في أذهانهم ثم بنوا عليها أحكاماً. إذاً: يقال لهم: ما دمتم توهمتم التشبيه فارجعوا إلى ما هو في عالم الشهادة؛ لتعرفوا أن توهم التشبيه لا حقيقة له، فإن هناك من المخلوقات ما هو موصوف بالكلام ومع ذلك لا يوجد الشبه بيننا وبينه، ولا توجد فيه الوسائل التي يتكلم بها المخلوق ككلام المخلوقين.

بيان معنى قول الطحاوي: (منه بدا بلا كيفية قولا)

بيان معنى قول الطحاوي: (منه بدا بلا كيفية قولاً) قال رحمه الله تعالى: [وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله: (منه بدا بلا كيفية قولاً)، أي: ظهر منه]. أي: أن الله تكلم به، هذا معنى (منه بدا)؛ لئلا يقال: إنه بدا الكلام على لسان جبريل، أو بدا الكلام على لسان محمد صلى الله عليه وسلم أو لسان موسى بالنسبة للتوراة أو عيسى بالنسبة للإنجيل أو نحو ذلك، أو: إن الله سبحانه وتعالى عبر عن كلام مخلوقاته بأنه كلامه، أو أنه خلق أصواتاً فصارت كلاماً، كل ذلك يتنافى مع القول بأنه منه بدا، يعني: أن الله سبحانه وتعالى قاله وتكلم به على ما يليق بجلاله، وليس هذا من عند هؤلاء من أهل العلم، بل هو من النصوص الشرعية. قال رحمه الله تعالى: [أي: ظهر منه، ولا يدرى كيفية تكلمه به. وأكد هذا المعنى بقوله: (قولاً)، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت النافي للمجاز في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!]. يقصد بذلك أن الله سبحانه وتعالى فسر وبين الكلام هنا، فما قال: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى) ثم انقطع الكلام، بل أكد الأمر فقال: {تَكْلِيمًا} [النساء:164] لأنه قد ينشأ في الذهن: هل الله كلم الله موسى وحياً أو إلهاماً أو مناماً أو خيالاً؟! وتحتمل هذه الاحتمالات عند من لا يفقه الأمور الشرعية أو لا يفقه حقائق النصوص المتعلقة بصفات الله، فلذلك جاء التأكيد في الآية نفسها بما يرد التعطيل ويرد التأويل؛ فإن قوله تعالى: {تَكْلِيمًا} [النساء:164] يعني: على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى.

عجز المؤولة للصفات عن تأويل الصفة الواردة في نصوص معينة بنفس التأويل في كل مرة

عجز المؤولة للصفات عن تأويل الصفة الواردة في نصوص معينة بنفس التأويل في كل مرة قال رحمه الله تعالى: [ولقد قال بعضهم لـ أبي عمرو بن العلاء -أحد القراء السبعة-: أريد أن تقرأ: (وكلم الله موسى)، بنصب اسم الله ليكون موسى هو المتكلم لا الله! فقال أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]؟! فبهت المعتزلي]. وهذا يرد في كثير من الصفات، حيث نجد أن الصفات ترد على أوجه عديدة، فلو أولوا وجهاً من الوجوه ما أولوا الآخر، وإذا أولوا الجميع تناقضت تأويلاتهم، فمثلاً: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كثير من المؤولة يقولون: (على العرش) بمعنى: على الملك، أي: استولى على الملك، لكن تأتيهم آية أخرى، مثل قوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] فلو أولوها بتأويل فإنه يناقض التأويل الآخر، وهكذا، وقد ورد لفظ الاستواء في القرآن في أكثر من ست آيات، وفي المفهوم في آيات كثيرة، وكذلك في الأحاديث الثابتة. وكذلك بقية الصفات، فإنا نجد أن كل صفة يؤولونها في نص تنقضها آية أخرى أو حديث آخر، مثل قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64]، فهذا من الصعب تأويله، فإن أولوه أتاهم مثل قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]. فما من صفة يؤولونها إلا وينقضها تأويلهم الآخر للصفة الأخرى، ولو أولوا الصفة في موضع فإنا نجد النص الآخر ينقض تأويلهم فلا يستقيم عليه، وهكذا.

أدلة تكليم الله لأهل الجنة وغيرهم

أدلة تكليم الله لأهل الجنة وغيرهم قال رحمه الله تعالى: [وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم. قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أهل الجنة في نعيم إذ سطع لهم نور فرفعوا أبصارهم، فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وهو قول الله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58] فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، وتبقى بركته ونوره عليهم في ديارهم) رواه ابن ماجه وغيره]. هذا الحديث ضعفه المحقق في الهامش، لكن معانيه ثابتة في أحاديث أخرى، منها ما في صحيح البخاري، وقد أشار إليه إجمالاً أيضاً، فقد ورد في صحيح البخاري أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة كذا فيقولون كذا، فنسب إلى الله صفة القول، وصفة القول تثبت صفة الكلام، فصفة القول مرادفة لصفة الكلام، فإن الكلام لا يكون إلا بقول، والقول لا يكون إلا بكلام. قال رحمه الله تعالى: [ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، وإثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً؟! وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} [آل عمران:77] فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم، وهو الصحيح؛ إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108]، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً]. أي: إذا كان الله لا يكلم هذه الفئة، وهم الذين توعدهم الله بحرمانهم من كلامه؛ فيقتضي هذا بالضرورة أنه يكلم غيرهم من المؤمنين المنعمين المستحقين للكلام، وهذا أمر مفهوم بالضرورة، كما أننا نقول مثل ذلك في الرؤية، وهو ما قاله الشافعي، وهو أنه لو لم يكن المؤمنون يرونه ما كان للاحتجاب عن الكافرين معنى، فلما حرم الله سبحانه وتعالى الكفار من أن يروه واحتجب عنهم دل هذا بالضرورة العقلية والشرعية وبالمفهوم والمقطوع به أن المؤمنين يرونه، وكذلك الكلام، فإذا كان الله سبحانه وتعالى لا يكلم هؤلاء عقوبة لهم فإنه في المقابل يكلم غيرهم، ولو كان سبحانه وتعالى لا يتكلم أبداً ما كان لحرمان هؤلاء الذين عوقبوا من الكلام فائدة، فالله سبحانه وتعالى لا يتكلم إلا بالحق. ثم إن ذكر الكلام والنظر في سياق واحد يدل على أن كل واحد منهما يثبت الآخر، فلو أولوا الكلام هنا دحضوا بالنظر، ولو أولوا النظر دحضوا بالكلام، فكلام الله محكم، ومهما أتوا من باب فإن الأبواب الأخرى تسد عليهم باب التأويل والتعطيل. قال رحمه الله تعالى: [وقال البخاري في صحيحه: باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة. وساق فيه عدة أحاديث]. ساق فيه حديثين، وفي هذين الحديثين ما أشرت إليه سابقاً من أنه ذكر في البخاري أن الله سبحانه وتعالى يقول لأهل الجنة، ثم يقولون ثم يقول، كما ورد في الحديث، فالقصد بالسياق هنا أن البخاري أورد في الصحيح أن الله تعالى يقول، والقول كلام. قال رحمه الله تعالى: [فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى وتكليمه لهم، فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به].

الرد على استدلالات المعتزلة على قولهم بخلق القرآن

الرد على استدلالات المعتزلة على قولهم بخلق القرآن

الرد على الاستدلال بقوله تعالى: (الله خالق كل شيء)

الرد على الاستدلال بقوله تعالى: (الله خالق كل شيء) قال رحمه الله تعالى: [وأما استدلالهم بقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، والقرآن شيء، فيكون داخلاً في عموم كل فيكون مخلوقاً! فمن أعجب العجب. وذلك: أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها، لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم كل، وأدخلوا كلام الله في عمومها، مع أنه صفة من صفاته، به تكون الأشياء المخلوقة، إذ بأمره تكون المخلوقات، قال تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} [الأعراف:54]، ففرق بين الخلق والأمر، فلو كان الأمر مخلوقاً لزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر، إلى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل، وهو باطل، وطرد باطلهم: أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرهما، وذلك صريح الكفر، فإن علمه شيء، وقدرته شيء، وحياته شيء، فيدخل ذلك في عموم كل، فيكون مخلوقا بعد أن لم يكن، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. وكيف يصح أن يكون متكلماً بكلام يقوم بغيره؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه! وكذلك أيضا ما خلقه في الحيوانات، لا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق. وإنما قالت الجلود: {أَنطَقَنَا اللَّهُ} [فصلت:21]، ولم تقل: نطق الله، بل يلزم أن يكون متكلما بكل كلام خلقه في غيره، زورا كان أو كذبا أو كفرا أو هذيانا!! تعالى الله عن ذلك. وقد طرد ذلك الاتحادية، فقال ابن عربي: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه! ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره، لصح أن يقال للبصير: أعمى، وللأعمى: بصير! لأن البصير قد قام وصف العمى بغيره، والأعمى قد قام وصف البصر بغيره! ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره، من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك. وبمثل ذلك ألزم الإمام عبد العزيز المكي بشراً المريسي بين يدي المأمون، بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل، وألزمه الحجة، فقال بشر: يا أمير المؤمنين، ليدع مطالبتي بنص التنزيل، ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه، ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال. قال عبد العزيز: تسألني أم أسألك؟ فقال بشر: اسأل أنت، وطمع في فقلت له: يلزمك واحدة من ثلاث لا بد منها: إما أن تقول: إن الله خلق القرآن، وهو عندي أنا كلامه - في نفسه، أو خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره؟ قال: أقول: خلقه كما خلق الأشياء كلها. وحاد عن الجواب. فقال المأمون: اشرح أنت هذه المسألة، ودع بشراً فقد انقطع. فقال عبد العزيز: إن قال خلق كلامه في نفسه، فهذا محال؛ لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة، ولا يكون فيه شيء مخلوق، وإن قال خلقه في غيره فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلامه، فهو محال أيضاً، لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره -هو كلام الله! وإن قال خلقه قائماً بنفسه وذاته، فهذا محال: لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا يعقل كلام قائم بنفسه متكلم. فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً، علم أنه صفة لله. هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في (الحيدة). وعموم كل في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن. ألا ترى إلى قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25]، ومساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح؟ وذلك لأن المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير. وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل:23]، المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام. إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك، غير محتاجة إلى ما يكمل به أمر ملكها، ولهذا نظائر كثيرة. والمراد من قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:102]، أي: كل شيء مخلوق، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتما، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة، لا يتصور انفصال صفاته عنه، كما تقدم الإشارة إلى هذا المعنى عند قوله: (ما زال قديما بصفاته قبل خلقه). بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم. فإذا كان قوله تعالى: (خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مخلوقاً، لا يصح أن يكون دليلاً.

الرد على الاستدلال بقوله تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا)

الرد على الاستدلال بقوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً) قال رحمه الله تعالى: [وأما استدلالهم بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3] فما أفسده من استدلال]. يقصد هنا استدلال الذين قالوا بخلق القرآن وعلى رأسهم المعتزلة والجهمية، وكل من تكلم في خلق القرآن ممن جاءوا بعد هاتين الفرقتين عالة عليهما، حتى المحدثين إلى يومنا هذا، وقد انبرى أحد رءوس البدعة في العصر الحاضر وألف كتاباً قال فيه بخلق القرآن وأنكر الرؤية والشفاعة، وكفر فيه أهل الكبائر، وهذا الكتاب متداول بين طلاب العلم، أسماه الحق الدامغ، وقد حشاه صاحبه بشبهات المعتزلة في خلق القرآن، بل نقل أقوالهم ومصطلحاتهم بحروفها وجعلها مستنداً له في القول بخلق القرآن. فالشاهد: أن الذين قالوا بخلق القرآن بعد المعتزلة هم عالة على المعتزلة، ولم يأتوا بجديد، وكل أقوالهم وشبهاتهم وردهم للأدلة واستدلالهم الباطل كله مبني على أصول المعتزلة الباطلة من كتبهم ومما قالوه وناظروا به، فالذين أنكروا نزول القرآن وأنه منزل من الله عز وجل وأن الله تكلم به وقالوا بخلق القرآن هؤلاء هم المعتزلة والجهمية، وكل من جاء بعد المعتزلة والجهمية في مسألة القول بخلق القرآن عالة على الجهمية والمعتزلة فيما قالوه، حتى صاحب الكتاب الذي ألف كتاب (الحق الدامغ) وزعم أن القرآن مخلوق وأنكر أن يكون كلام الله، فقد جاء بأدلة المعتزلة على نحو ما قلته في مسألة الرؤية. فالمسألة واحدة، فكما أنه أنكر الرؤية في كتابه، كذلك زعم أن القرآن مخلوق، وحشد أقوال المعتزلة، ولم يكن يخرج عنها في استدلالاتهم العقلانية ولا في ردهم للنصوص وإيرادهم للشبهات. وهذه المسألة أعطاها من حجم هذا الكتاب أكثر من حجم الكلام على الرؤية والكلام عن مسألة الشفاعة والقول بأن مرتكبي الكبائر كفار. قال رحمه الله تعالى: [فإن (جعل) إذا كان بمعنى (خلق) يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:30 - 31] وإذا تعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى (خلق)، قال تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91]، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة:224]، وقال تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91]، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء:29]، وقال تعالى: {وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الإسراء:39]، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزخرف:19] ونظائره كثيرة. فكذا قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزخرف:3]]. (جعل) تأتي على معنيين، فإذا جاءت متعدية إلى مفعولين فهي بمعنى صير وحكم، وإذا جاءت متعدية إلى مفعول واحد فإنها تعني الخلق، وكل ما ورد في شأن القرآن بلفظ (جعل) فهو بمعنى (صير)، لا بمعنى (خلق).

الرد على استدلالهم في مناداة الله موسى بقوله: (من الشجرة)

الرد على استدلالهم في مناداة الله موسى بقوله: (من الشجرة) قال رحمه الله تعالى: [وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:30] على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة فسمعه موسى منها، وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها، فإن الله تعالى قال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ} [القصص:30] والنداء هو الكلام من بعد، فسمع موسى عليه السلام النداء من حافة الوادي، ثم قال: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:30] أي: أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة، كما تقول: سمعت كلام زيد من البيت، يكون من البيت لابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم، ولو كان الكلام مخلوقاً في الشجرة لكانت الشجرة هي القائلة: {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] وهل قال: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] غير رب العالمين؟! ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24] صدقاً؛ إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله! وقد فرقوا بين الكلامين على أصلهم الفاسد: أن ذاك كلام خلقه الله في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون، فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقا غير الله، وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد إن شاء الله تعالى].

نسبة القرآن إلى الرسول الكريم إنما هو نسبة تبليغ لا نسبة إنشاء

نسبة القرآن إلى الرسول الكريم إنما هو نسبة تبليغ لا نسبة إنشاء قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فقد قال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة:40] وهذا يدل على أن الرسول أحدثه إما جبرائيل أو محمد صلى الله عليه وسلم؛ قيل: ذكر الرسول معرف أنه مبلغ عن مرسله، لأنه لم يقل: إنه قول ملك أو نبي، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به، لا أنه أنشأه من جهة نفسه. وأيضاً: فالرسول في إحدى الآيتين جبريل، وفي الأخرى محمد، فإضافته إلى كل منهما تبين أن الإضافة للتبليغ؛ إذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر. وأيضاً: فقوله: (رسول أمين) دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسله بتبليغه ولا ينقص منه، بل هو أمين على ما أرسل به، يبلغه عن مرسله. وأيضاً: فإن الله قد كفر من جعله قول البشر، ومحمد صلى الله عليه وسلم بشر، فمن جعله قول محمد - بمعنى أنه أنشأه - فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول: إنه قول بشر أو جني أو ملك، والكلام كلام من قاله مبتدئاً، لا من قاله مبلغاً، ومن سمع قائلا يقول: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل قال: هذا شعر امرئ القيس، ومن سمعه يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) قال: هذا كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن سمعه يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:2 - 5] قال: هذا كلام الله، إن كان عنده خبر ذلك، وإلا قال: لا أدري كلام من هذا؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذبه. ولهذا من سمع من غيره نظماً أو نثراً يقول له: هذا كلام من؟ هذا كلامك أو كلام غيرك؟]. هناك فرق بين مسألة القول ومسألة الكلام، فإن الكلام لا ينسب إلا إلى المتكلم به الذي صدر عنه، لكن في القول قد يقول الإنسان بقول غيره، كما ذكر في بيت الشعر والحديث والآيات، فإن من نطق بهذا الحديث أو أتى بذكر هذا الشعر نقول: ما قلته كلام من؟ فيقول: هذا البيت لـ امرئ القيس، وهذا الحديث كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه أسند الكلام إلى المتكلم، أما القول فقد يقول الإنسان بقول غيره، وأحياناً ترادف كلمة قول كلمة كلام، لكن السياق هو الذي يحكم بذلك.

اتفاق أهل السنة على أن كلام الله غير مخلوق وبيان ما تنازع فيه المتأخرون

اتفاق أهل السنة على أن كلام الله غير مخلوق وبيان ما تنازع فيه المتأخرون قال رحمه الله تعالى: [وبالجملة: فأهل السنة كلهم من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف متفقون على أن كلام الله غير مخلوق، ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات]. وهذا كلام الكلابية وكثير من المتكلمين الذين جاءوا بعد. قال رحمه الله تعالى: [أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً]. هذا أيضاً قول بعض المتكلمين من أهل الحديث، فهو قول لطائفة من أهل الكلام، وليس قول أكثرهم، فأكثرهم يقولون بالقول الأول أو بنحوه، أي أنه معنىً قائم بالذات، أو هو حديث النفس، أو هو معنىً قائم بالنفس، أو نحو ذلك مما يدور حول أن الكلام عندهم معان وليس حروفاً وأصواتاً، إنما تكلم به جبريل أو محمد صلى الله عليه وسلم. أما كونه صدر عن الله فهم يزعمون أنه صدر عن الله معاني ترجمت، فلما تكلم بها موسى صارت توراة، ولما تكلم بها محمد صلى الله عليه وسلم بالعربية صارت قرآناً، ولما تكلم بها عيسى صارت إنجيلاً، كذا زعموا، وهذا نوع من الانجذاب إلى قول الفلاسفة والمتكلمين، وإن كان بعض من قال بها يدعي أنه يثبت كلام الله، لكن على تأويل فاسد. إذاً: القول الأول قول أكثر الكلابية ومن تابعهم من المتكلمين، والقول الثاني قول متكلمة أهل الحديث أو محدثة أهل الكلام. قال رحمه الله تعالى: [أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم]. هذا كلام السلف، وهو أن الله عز وجل متكلم إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء سبحانه، وأن كلامه من صفاته، وهذا معنى أنه قديم، فكلامه من صفاته، وصفات الله عز وجل كذاته أزلية، لكن صفات الله عز وجل على نوعين: منها صفات ذاتية، ومنها صفات فعلية، ومنها ذاتية وفعلية، فبعض أهل العلم قال: إنها ثلاثة أنواع، وبعضهم جعل الذاتية الفعلية داخلة في الفعلية، وبعضهم جعلها داخلة في الذاتية. أما الصفات الفعلية فهي كالنزول والمجيء، وأما الصفات الذاتية فهي كالحياة والعلم والقدرة، أما الصفات التي قد تكون ذاتية فعلية فهي كالكلام، فمن حيث إن الله عز وجل متكلم تكون صفة ذاتية، لكن من حيث حدوث الكلام تكون صفة فعلية، فالله عز وجل يتكلم إذا شاء ومتى شاء، كما كلم موسى وكما كلم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم، وكما يكلم الناس يوم القيامة، يكلم الخلائق جميعاً بصوت يسمعه من قرب كما يسمعه من بعد، كما أنه يكلم كل عبد ويحاسبه على أعماله ليس بينه وبينه ترجمان، فيحاسب العباد جميعاً حساب رجل واحد ويكلمهم جميعاً وكأنه يكلم رجلاً واحداً، على ما يليق بجلاله، وهذا أمر غير مفسر بالنسبة لقدرة عقول البشر. فهذا دليل على أن الله يتكلم متى شاء، فهذا النوع داخل في أفعال الله، فالله يفعل الكلام متى شاء، لكن صفة الكلام -وهي أن الله عز وجل قادر على الكلام متى شاء وأنه متكلم- صفة لازمة، بمعنى: أنها أزلية، وهذا معنى القديم. والسلف كانوا يكرهون كلمة (قديم)، لكن أحياناً يعبرون بها بناءً على أنها عمت بها البلوى، خاصة بعد القرن الرابع إلى وقت قريب، فصار الناس يتكلمون بها لإيضاح العقيدة اضطراراً.

تقريرات المعتزلة ونحوهم من أغاليط الشيطان

تقريرات المعتزلة ونحوهم من أغاليط الشيطان قال رحمه الله تعالى: [وقد يطلق بعض المعتزلة على القرآن أنه غير مخلوق، ومرادهم أنه غير مختلق مفترى مكذوب، بل هو حق وصدق، ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين. والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقاً خلقه الله، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته، وأهل السنة إنما سئلوا عن هذا، وإلا فكونه مكذوباً مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه. ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما يزعمون أن العقل دلهم عليه، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع. ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة لم يكن بينهم نزاع، ولكن ألقى الشيطان إلى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه فرق بها بينهم، {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176]]. الأغلوطة هي الأمر العقلاني المحير، فكل أمر ينبني على التعجيز والتعقيد العقلي والتحيير فإنه يسمى أغلوطة يغالط بها الإنسان من غير أن يفقه، فكل ما غالط به أهل الكلام والفرق أمور الشرع يعتبر أغلوطات، ولهذا نجدهم لا يتفقون على شيء منها، فكل واحد يتكلم بفهمه، وكل واحد له فهم غير فهم الآخر، وكل واحد يعتقد ما لا يعتقده الآخر، فهم يتجادلون على لا شيء، وهذا أمر بدهي، كلما تجادلوا في أمر الغيب تجادلوا على أوهام، فهذا خصمه يتوهم شيئاً وهو يتوهم شيئاً آخر، فيتنازعون على أوهام، وكل واحد ينازع في غير محل النزاع عند الآخر، فلذلك إذا قيل للمتكلمين أو أهل الأهواء في أمر خالفوا فيه الدين: حرروا مسألة النزاع أو موطن النزاع لا يمكن أن يحرروه. أما الاجتهادات في الأحكام فيستطيع الناس بسهولة أن يحرروا موضع النزاع فيها ويتفقوا على شيء وينطلقوا من هذا الاتفاق، أما أصحاب الأغلوطات فلا يمكن أن يتفقوا إلا على أوهام.

شرح العقيدة الطحاوية [28]

شرح العقيدة الطحاوية [28] كلام الله تعالى صفة من صفاته المتعلقة بمشيئته وإرادته؛ إذ هو تعالى فعال لما يريد، ومن نفى ذلك واعتقد خلافه فقد افترى على الله تعالى فيما أخبر به عن نفسه عز وجل، كمن قال بأن كلام الله تعالى معنى قائم بنفسه والمتلو منه عبارات مخلوقة، وفساد هذا القول لا يخفى على ذي بصيرة، فكلام الله تعالى صفة من صفاته لا يشابهه فيها البشر، ومن زعم أنه قول البشر فقد كفر بنص الخبر.

موقف الأحناف المتقدمين والمتأخرين من صفة الكلام

موقف الأحناف المتقدمين والمتأخرين من صفة الكلام قال المصنف رحمه الله تعالى: [والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمه الله: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم، وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر؛ فإنه قال: والقرآن في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، والقرآن غير مخلوق، وما ذكره الله في القرآن عن موسى عليه السلام وغيره وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كلام الله إخباراً عنهم، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويتكلم لا ككلامنا. انتهى. فقوله: (ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته) يعلم منه أنه حين جاء كلمه، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول: يا موسى، كما يفهم ذلك من قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] ففهم منه الرد على من يقول من أصحابه: إنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره]. كثير من الأحناف قالوا بهذا القول، حتى قبل أن يقول به الأشاعرة، ثم قال به الماتريدية تبعاً للماتريدي، والماتريدي كان في القرن الرابع، أما هذا القول فقد ظهر في منتصف القرن الثالث الهجري، وكأنه تلفيق بين قول الجهمية وبين قول أهل السنة، تلفيق قصد به إثبات الكلام لله عز وجل لكن مع إنكار الأفعال لله، كفعل الكلام أو الصوت المسموع أو نحو ذلك مما يرى هؤلاء أنه منفي عن الله بزعمهم، فكأنهم أرادوا أن يثبتوا أصل الكلام وينفوا الفعل لله، فهو يقول: إن هؤلاء يرد عليهم أبو حنيفة بقوله الذي سبق، والذي يفهم منه أن الكلام لا يمكن أن يكون معنى دون أن يكون بصوت مسموع؛ لأنه لو كان معنى لكان كلام الله تعالى لموسى كأنه ما حدث في وقت، إنما هو قائم إلى يومنا هذا؛ لأن المعاني إذا لم تترجم إلى حروف وأصوات تبقى دائمة، فكون الله عز وجل كلم موسى تكليماً دل على أنه كلمه في زمن معين محدد، وأن هذا الكلام انتهى بوقته، ولا يعني أن كلامه تعالى ينتهي، إنما هذه الكلمات المعدودات جاءت من الله عز وجل في وقت، كما أن القرآن جاء من الله عز وجل في وقت، وكما أن الله عز وجل يتكلم يوم القيامة ويكلم عباده بصوت في وقت، فهذه دلالات قاطعة على أن الله يتكلم متى شاء كيف شاء، وأن الله عز وجل متصف بصفة الكلام على ما يليق بجلاله، وهي صفة دائمة لا تنقطع، ولم تستأنف كما يزعم بعضهم أن الله تكلم بعد أن لم يكن متكلماً، وأنه تكلم ولا يتكلم بعد ذلك، كذا زعموا، وهذا استنقاص لله عز وجل، بل الله عز وجل يتكلم كما يشاء، وكلامه لعباده -سواء لموسى أو لمن سبقه من المرسلين أو لمن لحق أو للعباد يوم القيامة- جزء من كلامه سبحانه، وليس هو كل كلامه، فكلمات الله لا حد لها أبداً، فمن هنا يقرر أبو حنيفة ما يرد به على ما يعتقده كثير من الأحناف منذ أن اعتقدوا هذا الاعتقاد إلى يومنا هذا من أن كلام الله معنى قائم بالنفس؛ لأن المعنى القائم بالنفس فقط لا يترجم إلى فعل، فلا يكون كلاماً محدداً كالقرآن والتوراة والإنجيل وككلام الله لموسى.

تعلق كلام الله تعالى وسائر أفعاله بمشيئته والرد على من خالف ذلك

تعلق كلام الله تعالى وسائر أفعاله بمشيئته والرد على من خالف ذلك قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (الذي هو من صفاته لم يزل) رد عَلَى من يقول: إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً]. هذا كلام موهم، وكأنه يفهم منه أن المعتزلة يقولون بأن الله يتكلم إذا شاء شيئاً بعد شيء، والمعتزلة لا يقولون هذا اعتقاداً، بل يقولون هذا على سبيل الرد، يقولون: إنكم إذا قلتم بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وإذا قلتم بأن التوراة المنزلة على موسى قبل تبديلها كلام الله غير مخلوقة، وإذا قلتم: إن ما كلم الله به موسى وغيره غير مخلوق؛ لزمكم أن الله يتكلم بالمشيئة والقدرة، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فيزعمون أن هذا باطل لأنهم يقولون: إن هذا يعني أن الله تقوم به الحوادث، تعالى الله عما يظنون، فهم يزعمون أنه إذا قيل: إن الله يتكلم متى شاء؛ لزم من ذلك بزعمهم وظنهم الفاسد أن الله حدث له شيء، والله منزه عن الحوادث. وكلامهم الذي ذكره الشارح كلام مجمل، قد يقصدون به حقاً وقد يقصدون به باطلاً، ولا نرده لمجرد أنهم قالوه، بل نفصل فيه على نحو ما يأتي، لكن لكي يتضح الكلام الآتي ولا يلتبس نقول إجمالاً: مسألة أفعال الله تعالى مسألة متعلقة بمشيئته وقدرته عز وجل، فالسلف والذي عليه أهل الحق جميعاً أن جميع أفعال الله تعالى متعلقة بمشيئته، ومنها الكلام، ومعنى (متعلقة بمشيئته) أنه عز وجل فعال لما يريد، فإذا شاء تكلم متى شاء وكيف شاء، كما أنه ينزل عز وجل إلى السماء الدنيا متى شاء، ويجيء متى شاء سبحانه، فهذه الأفعال يسميها المعتزلة قيام الحوادث به، وهو تعبير فلسفي جاء به فلاسفة اليونان والصابئة الذين يرون أن ربهم فكرة مجردة، وهذه شبهة المعتزلة التي دخلت عليهم، حيث اقتنعوا بقناعة الفلاسفة الوثنيين الذين يقولون بأن الله فكرة مجردة، والفكرة المجردة لا يمكن أن يكون لها وجود ولا أن تكون في العلو ولا في الفوقية ولا أن تنزل ولا تجيء ولا تفعل، فجاءت هذه الأفكار إلى المعتزلة والجهمية فسحبوها على الغيب فقالوا: الله متصف بالأسماء الحسنى، لكن الصفات الفعلية التي تدل على الأفعال لا تمكن؛ لأن الله عندهم فكرة، والفكرة لا تفعل، وعبر بعضهم بأن الله مجرد عقل، وبعضهم عبر عنه بأنه روح، فهذه المعاني الباطلة حينما تشربوها ثم سمعوا النصوص الواردة في الصفات اصطدمت مع قناعاتهم ومع اعتقاداتهم، فزعموا أنهم يلزمهم أن ينزهوا الله عن الأفعال؛ لأن الله لا يقبل أن يفعل، فجعلوا الكلام على هذه القاعدة، فالكلام عندهم كلام معنوي نفسي قائم بالنفس؛ لأن فكرة وجود الله عز وجل أيضاً معنوية نفسية عقلية، فسحبوا هذه على هذه. فمن هنا إذا أقروا بأن الكلام يتجدد أقروا بأفعال الله تعالى المتجددة على ما يليق بجلال الله تعالى، يعني أن الله يفعل متى شاء، وأن هذا الفعل يرى ويسمع، فالفعل الذي يرى ويسمع لا يمكن إلا أن يكون ممن تمكن رؤيته وسمعه على ما يليق بجلاله عز وجل، فمن هنا وصل الأمر عندهم إلى إنكار أفعال الله تعالى من أجل أن تسلم قاعدتهم الأولى في الاعتقاد في الله عز وجل وأسمائه وصفاته. وليس الأمر في الكلام فقط، بل كل أفعال الله تعالى كذلك، فالكلام والاستواء والنزول والمجيء والعجب والضحك والرضا والسخط، كل هذه الأمور قالوا: لا تتعلق بالمشيئة، لأنه لا يمكن أن نقول: إن الله إذا شاء غضب، وإذا شاء لم يغضب، بل الغضب يعبرون عنه بإرادة الانتقام، أو يعبرون عنه بالعذاب الذي توعد الله به، والرضا هو الرحمة والجنة؛ فليس هناك صفة لله اسمها الرضا أو الغضب، كل هذا من أجل أن تسلم أصولهم. وعلى أي حال الموضوع جاء في مناسبة الكلام عن كلام الله تعالى؛ نظراً لأن أول باب دخلوا فيه في التأويل هو مسألة كلام الله تعالى، فأول ما دخل التأويل على الفرق المتكلمة التي تابعت الفلاسفة وجميع المعتزلة في مسألة كلام الله تعالى، وأول من شق هذا الكلام وفتقه الكلابية، ثم تبعهم عليه الأشعرية والماتريدية وسائر أهل الكلام إلى يومنا هذا، فزعموا أن كلام الله تعالى معنى، فمن هنا لم يقولوا بالصوت ولم يؤمنوا بتعلق الكلام بمشيئة الله تعالى.

دليل تعلق كلام الله بمشيئته ولزوم قبول ما وافق الحق من قول المخالف

دليل تعلق كلام الله بمشيئته ولزوم قبول ما وافق الحق من قول المخالف قال رحمه الله تعالى: [وبالجملة فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل عَلَى أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء؛ فهو حق يجب قبوله، وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وإنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فهو حق يجب قبوله والقول به، فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما]. الصحيح ألا نقول: قائم به ولا: غير قائم به؛ لأن هذا كلام فيه ابتداع من ناحية، وفيه إيهام من ناحية أخرى، لكن نظراً لأنهم اتخذوا كلمة (قائم به) ذريعة لإنكار الصفات؛ ألزمهم بها ليقول بأنه لا يمتنع أن الله سبحانه وتعالى تكون صفته متعلقة بمشيئته وقدرته، ومعنى (متعلقة بمشيئته وقدرته)، أن الله فعال لما يريد، وأن الله إذا شاء فعل، وأن الله قادر على أن يفعل هذه الأفعال، قادر على أن يتكلم متى شاء، وأن ينزل متى شاء، وأن يجيء متى شاء سبحانه، والنصوص جاءتنا بذلك، ولسنا نتكلم من عقولنا، وهذا هو الذي يميز أهل السنة عن غيرهم حينما يقولون: إن أفعال الله بقدرته ومشيئته، فليس هذا مجرد تقرير عقلي، صحيح أن العقل يصدقه، لكن ليس مجرد تقرير عقلي، بل هو مقتضى النصوص، فقد ثبت في النصوص أن الله ينزل، وثبت في النصوص أن الله يعجب ويضحك عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى يرضى، وأنه يتكلم، ونحو ذلك من الأفعال، وإذا ثبت في النصوص قررناه، أما قولنا: متعلق بالمشيئة والقدرة؛ فإنه مأخوذ من مثل قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، ولذلك لم يتورع بعض المعتزلة حتى عن نفي القدرة، فقالوا: إن الله تعالى لا يقدر على أن يتكلم بصوت وحرف، وقولهم: (لا يقدر) يتفلسفون فيه، فيقولون: ليس معنى هذا العجز، بل إن معنى (غير قادر) أنه غير قابل لأن يتكلم بصوت وحرف، وهذا كله رجم بالغيب، وافتراء على الله بغير علم، وكله إثم، فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يحترز من مثل هذه الكلمات حتى على سبيل التقرير والتدريس، إلا إذا جاءت في عرض تقرير العقيدة في مثل هذا الكتاب أو غيره مما قرره السلف والأئمة، وردوا به بدع الأهواء التي انتشرت وخيف على الناس منها، وتكلم فيها طلاب العلم المأمونون الذين لا يخشى عليهم من الالتباس، أما إذا ظن الإنسان أن يلتبس الأمر على السامع؛ فالأولى أن لا تقرر هذه الصفات، لذلك أرى من الضرورة أن ننبه إخواننا الذين يتكلمون في المساجد وفي المحاضرات أن لا يتعرضوا لتفاصيل الرد على الفرق بمثل هذه الأمور أبداً، حتى لو جاء سؤال، ما لم يكن هناك درس متخصص فيه طائفة من طلاب العلم والمقبلين على درس العقيدة ويستوعبونها، فلا مانع، أما ما عدا ذلك فلا ينبغي في المجالس أن تثار هذه القضايا، أقول هذا لأني سمعت ونمي إلى علمي من أكثر من مصدر أن هناك من طلاب العلم من بدأ يمتحن الناس في هذه الأمور، ويمتحن العوام وأشباه العوام، ويتكلم في كلام الله تعالى وهو القرآن، ويسأل -كما ورد إلى- عن القرآن هل هو محدث أو مخلوق؟! وهذا كلام خطير في الحقيقة لا ينبغي أن يثار بين أهل العلم بغير ضرورة وحاجة، فكيف بغير أهل العلم؟! فمن هنا أقول: ينبغي أن نعود أنفسنا على أن لا نتكلم في تفاصيل الرد على الفرق في أسماء الله وصفاته، ولا نتكلم بأكثر مما ورد في الشرع في أسماء الله وصفاته، ولا نتكلم في الأسماء والصفات إلا على سبيل الفائدة والتقرير العام الذي لا يخرج عن ألفاظ النصوص، ولا مانع من أن يتكلم الإنسان عن الأسماء والصفات لاستنباط المعاني التي تقوي الإيمان ويبين فيها آثار الأسماء والصفات في أفعال العباد، وفي أفعال المؤمنين، أما ما عدا ذلك فلا ينبغي، ولولا أن هذا الكلام ورد في مثل هذا الكتاب، وكان السلف قد اضطروا إليه اضطراراً لما لجأنا إليه في مثل هذا الدرس، لكن لا بد مما ليس منه بد في درس متخصص.

الرد على دعوى قيام الحوادث بالله عز وجل حال إثبات صفة الكلام

الرد على دعوى قيام الحوادث بالله عز وجل حال إثبات صفة الكلام قال رحمه الله تعالى: [فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به, قلنا: هذا القول مجمل، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تعالى من الأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك، ونصوص الأئمة أيضاً، مع صريح العقل. ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه، بل الذي أفهموهم إياه أن الله نفسه هو الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، وأنه هو الذي تكلم به وقاله، وكما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: (ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى) ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه؛ إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، ولا يعرف في لغة ولا عقل قائلٌ متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإنما قام الكلام بغيره، وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه فلا يثبتوا صفة غيره، فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا، وكذلك سائر الصفات]. قوله: [ولا يعرف في لغة ولا عقل قائم متكلم لا يقوم به القول والكلام، وإنما قام الكلام بغيره]، هذا قول طائفة من المعتزلة وبعض المتكلمين، يقولون: إن كلام الله تعالى المقصود به ما سمعه موسى من الشجرة، وهذا قول الجهمية والمعتزلة، يقولون: المقصود بكلام الله تعالى ما سمعه موسى من الشجرة، وما سمعه محمد صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السلام، أو ما سمعه الناس من محمد صلى الله عليه وسلم، يزعمون بذلك أن الله لا يتكلم، فهو يقول لهم: إذا قلتم: إن كلام الله تعالى هو ما سمعه موسى في الشجرة؛ فأنتم بهذا تزعمون أن كلام الشجرة صار هو كلام الله، فهذا رد عليهم من ناحيتين: من ناحية أنهم نسبوا الكلام إلى الله تعالى حينما كان في غيره، وهذا ليس هو المقصود هنا، والناحية الثانية أنهم زعموا أن كلام غير الله تعالى كلام له، وهذا لا يجوز عقلاً؛ فإنك -ولله المثل الأعلى- لو سمعت كلاماً لإنسان في الشارع، ثم ذهبت إلى آخر في البيت وقلت له: أنت الذي تكلم في الشارع قبل قليل؛ لم يصح هذا منك؛ إذ لا يصح أن تنسب الكلام لغير قائله، فقولهم بأن كلام الله تعالى المقصود به ما خلقه في غيره -ككلام الشجرة أو كلام محمد صلى الله عليه وسلم أو كلام جبريل- قول باطل من ناحية النسبة، فكيف نثبت لله صفة الكلام، ثم نقول: المقصود بكلامه ما تكلم به غيره؟! فلا يصح هذا عقلاً، هذا هو المقصود. قال رحمه الله تعالى: [وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أوحي لا تقوم به الحياة؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) فهل يقول عاقل: إنه صلى الله عليه وسلم عاذ بمخلوق؟! بل هذا كقوله: (أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك)، وكقوله: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)، وكقوله: (وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا)، كل هذه من صفات الله تعالى. وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها، وإنما أشير إليها هنا إشارة]. الاستعاذة بالرضا من السخط، وبالمعافاة من العقوبة فيها رد على فئتين من الناس، وليس الذي تكلموا في الصفات فحسب، بل فيها رد على المبتدعة الذين يعوذون بغير الله، والذين يتعوذون أو يلجئون أو يدعون غير الله، ثم إن فيها رداً على الذين زعموا أن هذه الصفات ما هي إلا تعبير عن مخلوقات الله تعالى الأخرى، فهو يقول للذين ينكرون الرضا والسخط -وهم جميع المعتزلة-، والذين يؤولونهما -وهم الأشاعرة والماتريدية-: إذا زعمتم أن الرضا والسخط ليسا من صفات الله تعالى، وإنما هما تعبير عن الإنعام والعقوبة -وهذا كلام الأشاعرة والماتريدية، حيث يقولون: السخط هو عقوبات الله المادية التي نراها، والرضا هو نعم الله التي نراها، والعقوبات والنعم مخلوقة- إذا زعمتم ذلك فإنه لو كان قولكم صحيحاً ما صح أن نستعيذ برضا الله من سخطه؛ إذ لا تجوز الاستعاذة بالمخلوق، إذاً: استعذنا من صفة الله بصفة الله، فهذا يؤكد جزماً أن هذه صفات لله عز وجل، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك) فدل على أن الرضا صفة لله؛ لأنه لا تجوز الاستعاذة إلا بالله وأسمائه وصفاته. إذاً: هذا دليل قطعي على أنهما صفتان لله عز وجل على ما يليق بجلال الله، وإلا لما جازت الاستعاذة بها؛ لأنه لا يستعاذ إلا بالله سبحانه وتعالى.

شرح العقيدة الطحاوية [29]

شرح العقيدة الطحاوية [29] للناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال: الأول: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، وهذا هو قول السلف أصحاب المنهج الحق، ومن عداهم قولهم إما باطل محض أو لا يخلو من باطل، ومن هؤلاء القائلون بأن الكلام اسم للفظ فقط، والمعنى ليس جزءَ مسماه، بل هو مدلول مسماه، ومنهم القائلون بأنه اسم للمعنى فقط، وإطلاقه على اللفظ مجاز، ومنهم القائلون بأنه مشترك بين اللفظ والمعنى، ويعنون بذلك أن كلمة (كلام) قد تطلق على اللفظ فقط أو على المعنى فقط.

ما عليه أكثر متأخري الحنفية من كون الكلام معنى واحدا والعبارات مخلوقة

ما عليه أكثر متأخري الحنفية من كون الكلام معنى واحداً والعبارات مخلوقة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد]. الضمير يرجع إلى كلام الله عز وجل، ولا يزال الشارح في سياق الحديث عن كلام الله عز وجل، والرد على الذين أنكروا الكلام، ومن أجل أن نربط اللاحق بالسابق أذكر بهذه المسألة بإيجاز، فالشارح هنا يقرر مذهب السلف في الإنكار على الذين تكلموا في كلام الله تعالى بغير الحق، وهم صنفان: الصنف الأول: الذين أنكروا كلام الله مطلقاً وقالوا بأن القرآن مخلوق، وهم المعتزلة والجهمية ومن سلك سبيلهم من بعض أهل الكلام. الصنف الثاني: الذين قالوا بأن كلام الله تعالى معنى قائم بالنفس، وفصلوا كلام الله تعالى عن مشيئته، وقالوا بأن الكلام لا علاقة له بالمشيئة، وهذا فرع عن قول الكلابية، أي: قول الأحناف، وهو قول الماتريدية، عبر عنهم بالحنفية هنا؛ لأن الماتريدية أغلبهم أحناف، والأحناف أغلبهم ماتريدية، والأشاعرة وطوائف من المتكلمين قولهم يتشابه وإن اختلف تعبيرهم، فكل قولهم امتداد لقول الكلابية الذين قالوا في كلام الله تعالى بأنه معنى قائم بالنفس، وأنكروا أن يكون لله كلام يتجدد أو أن الله تعالى يتكلم متى شاء، فأنكروا تعلق الكلام بالمشيئة، وبناء على ذلك أيضاً أنكروا أفعال الله الاختيارية مطلقاً، أو تعلق أفعال الله تعالى الاختيارية بالمشيئة، وهو قول لزم إنكار المشيئة، حيث قالوا بأن الله لا يفعل الكلام متى شاء، إنما كلامه معنى واحد، تعالى الله عما يزعمون، فإن عبر عنه بالعبرية صار توراة، وإن عبر عنه بالعربية صار قرآناً إلى آخره. فالشارح يرد على هذه الفئة، يرد على الذين أنكروا أن يكون الله عز وجل يتكلم متى شاء، وأن الكلام متعلق بالمشيئة، وأنكروا أفعال الله الاختيارية تبعاً لذلك. قال رحمه الله تعالى: [وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد، والتعدد والتكثر والتجزي والتبعض في الحاصل في الدلالات، لا في المدلول، وهذه العبارات مخلوقة، وسميت (كلام الله) لدلالتها عليه وتأديه بها، فإن عبر بالعربية فهو قرآن، وإن عبر بالعبرية فهو توراة، فاختلفت العبارات لا الكلام، قالوا: وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً]. على هذا يكون قولهم في كلام الله تعالى مبنياً على خمس قواعد كلها تفرعت عن الأصل الأول، وهو إنكار أفعال الله الاختيارية. فالقاعدة الأولى عندهم -وقد وافقوا فيها الجهمية والمعتزلة- قولهم: إنه معنى واحد. والثانية: أن التعدد والتكثر والتجزؤ والتبعض في الدلالات لا في المدلول. والثالثة: أن هذه العبارات مخلوقة. أي: عبارات القرآن، وهذا مؤداه قول الجهمية، لا يختلفون فيه عن قول الجهمية. والرابعة: قولهم: إن كلام الله سمي بذلك لدلالته على كلام الله، وليس لأنه كلامه بذاته، بل لتأديه به، وفرعوا عن هذا أنه إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن، وإن عبر عنه بالعبرية فهو توراة، ثم اختلفت العبارات لا الكلام، أي: أن الكلام أصله واحد. وقولهم: (اختلفت العبارات) دليل على أنهم يرون العبارة مخلوقة وأن الكلام هو صفة الله، فهم وافقوا الجهمية والمعتزلة في المبدأ ووافقوهم في النهاية. الخامسة: قولهم: (وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً) وهذا كلام خطير؛ لأن المجاز غير الحقيقة، والمجاز يمكن أن يفسر بأكثر من تفسير، أما الحقيقة فلا تفسير لها إلا تفسير واحد، ومن هنا وقعوا فيما وقع فيه الجهمية من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

فساد القول بأن كلام الله تعالى معنى واحد وأن ما أنزله إنما هو تعبير عنه

فساد القول بأن كلام الله تعالى معنى واحد وأن ما أنزله إنما هو تعبير عنه قال رحمه الله تعالى: [وهذا الكلام فاسد؛ فإن لازِمَه أن معنى قوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] هو معنى قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]]. لأنهم حينما زعموا أن كلام الله معنى واحد، وأن التعبيرات عنه مخلوقة؛ يكون معنى ذلك أن الأمر والنهي قبل التعبير شيء واحد، والواجب والمحرم شيء واحد لا فرق بينهما؛ لأن التفريق إنما جاء في التعبير فيما بعد على ألسنة الأنبياء، وليس من كلام الله عز وجل، وهذا يؤدي إلى القول الباطل. قال رحمه الله تعالى: [ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين، ومعنى سورة الإخلاص هو معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]، وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده وعلم أنه مخالف لكلام السلف. والحق أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام الله حقيقة، وكلام الله تعالى لا يتناهى، فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يزال كذلك، {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [الكهف:109]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27]. ولو كان ما في المصحف عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث مسه، ولو كان ما يقرؤه القارئ ليس كلام الله لما حرم على الجنب قراءة القرآن. بل كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف كما قال أبو حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر، وهو في هذه المواضع كلها حقيقة، وإذا قيل: المكتوب في المصحف كلام الله؛ فهم منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته؛ فهم منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به؛ فهم منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: المداد في المصحف كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل: فيه السماوات والأرض، وفيه محمد وعيسى، ونحو ذلك. وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه خط فلان الكاتب، وهذه المعاني الثلاثة مغايرة لمعنى قول القائل: فيه كلام الله. ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب. وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارئ، والمقروء الذي هو قول الباري، من لم يهتد له فهو ضال أيضاً، ولو أن إنساناً وجد في ورقة مكتوباً: (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) من خط كاتب معروف؛ لقال: هذا من كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا (كل شيء) حقيقة، وهذا حبر حقيقة، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى. والقرآن في الأصل: مصدر، فتارة يذكر ويراد به القراءة، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ َ مَشْهُوداً} [الإسراء:78]، وقال صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن بأصواتكم)، وتارة يذكر ويراد به المقروء: {فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98]، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ القُرْآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كل من المعنيين المذكورين، فالحقائق لها وجود عيني، وذهني، ولفظي، ورسمي، ولكن الأعيان تعلم، ثم تذكر، ثم تكتب، فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة، وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة، بل هو الذي يكتب بلا واسطة ذهن ولا لسان. والفرق بين كونه في زبر الأولين وبين كونه في رق منشور أو لوح محفوظ أو في كتاب مكنون واضح: فقوله عن القرآن: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء:196] أي: ذكره ووصفه والإخبار عنه، كما أن محمداً مكتوب عندهم، إذ القرآن أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم، لم ينزله على غيره أصلاً، ولهذا قال: في الزبر، ولم يقل في الصحف، ولا في الرق؛ لأن (الزبر) جمع (زبور)، والزبر هو الكتابة والجمع. فقوله: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) أي: مزبور الأولين، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد ويبين كمال بيان القُرْآن وخلوصه من اللبس، وهذا مثل قوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ} [الأعراف:157] أي: ذكره، بخلاف قوله: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:3] أو: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:22] أو: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:78]؛ لأن العامل في الظرف إما أن يكون من الأفعال العامة مثل الكون والاستقرار والح

ذكر الأقوال فيما يتناوله مسمى الكلام عند الإطلاق

ذكر الأقوال فيما يتناوله مسمى الكلام عند الإطلاق قال رحمه الله تعالى: [وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق أربعة أقوال: أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعاً، كما يتناول لفظ الإنسان للروح والبدن معاً، وهذا قول السلف. الثاني: أنه اسم للفظ فقط، والمعنى ليس جزء مسماه، بل هو مدلول مسماه، وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم. الثالث: أنه اسم للمعنى فقط، وإطلاقه على اللفظ مجاز؛ لأنه دالٌ عليه، وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه. الرابع: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى، وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية]. هذه الأقوال الثلاثة كلها أقوال المتكلمين، أعني الثاني والثالث والرابع، وربما يشتبه الرابع مع الأول، فكأنهما بمعنى واحد، لكن بينهما شيء من الفروق، وهذه الفروق لا تتبين إلا من خلال اللوازم التي تلزم على كل قول. فالقول الأول هو قول أهل السنة، بل قول جمهور أهل العلم وغالب أهل اللغة من غير المتكلمين، وهو أن كلمة الكلام إذا أطلقت تشمل اللفظ والمعنى جميعاً، وهذا أمر بدهي عند العقلاء قبل أن يأتي تشقيق العلوم والتفلسف فيها، ولو ترك الناس على بديهاتهم دون أن تدخل عليهم شبهات لما فهموا إلا ذلك، وهو أن الكلام يشمل اللفظ والمعنى، وأنه ما من كلام مفيد إلا وله معنى، وما من معنى مفيد يعبر عنه الناطق والمتكلم إلا ويكون التعبير عنه بلفظ. والإشارة قد يعبر بها، لكن الإشارة تنوب عن الكلام إذا عدم الكلام أو عدمت آلته، وهذا أمر شاذ، وإلا فالأصل في الكلام أنه يشمل اللفظ والمعنى. والقول الرابع الذي أشار إليه يختلف قليلاً عن القول الأول؛ لأن الذين قالوا به قالوا: إن الكلام مشترك بين اللفظ والمعنى، فقولهم: (مشترك) يعنون به أن كلمة (كلام) قد تطلق على اللفظ فقط وقد تطلق على المعنى فقط، وقد تطلق عليهما. وهذا القول لجئوا إليه ليخرجوا عن إثبات الكلام لله عز وجل بحرف وصوت، فقالوا: نعم قد يطلق الكلام على اللفظ والمعنى، ولكنَّه أيضاً قد يطلق على اللفظ فقط، وقد يطلق على المعنى فقط. وأهل السنة والجمهور من أهل العلم وأهل اللغة يقولون: الكلام إذا أطلق فلا بد أن يشمل اللفظ والمعنى، إلا إذا كان هناك ما يقيد، أو كان هناك قرينة، كأن يكون المعبر أخرص، فإنا نعرف أن إشارته ليست كلاماً إنما أراد معنى معيناً، فهذه قرينة، أو كان اللفظ يدل على إطلاق الكلام على أحد الأمرين: اللفظ أو المعنى، أما إذا أطلقت كلمة كلام فإنها تشمل اللفظ والمعنى، ولا يجوز أن تكون مشتركة بمعنى أنها قد تخص بأحد الأمرين بغير قرينة وبغير شاهد. قال رحمه الله تعالى: [ولهم قول ثالث يروى عن أبي الحسن]. يقصد أبا الحسن الأشعري، وربما يكون هناك في الاسم تصحيف وتحريف، والله أعلم؛ لأنه نقل مثل هذا القول عن أبي الحسين الطبري، لكن روي عن الأشعري وليس هو المشهور عنه، فربما قاله في بعض مراحل حياته، أما المشهور عنه في الكتب الأخيرة فهو أنه ينفي هذا القول، بل إنه ساق في (المقالات) قول من قالوا بأن صفات الله مجازية -ومنها الكلام- بما يشبه الإنكار له ولم يؤيده، مع أنه إذا كان يؤيد الرأي فهو يقول به. فعلى كل حال يمكن أن يكون هذا قولاً للأشعري، لكنَّه قول مغمور وليس هو المشهور عنه. قال رحمه الله تعالى: [ولهم قول ثالث يروى عن أبي الحسن أنه مجاز في كلام الله، حقيقة في كلام الآدميين؛ لأن حروف الآدميين تقوم بهم فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم، بخلاف كلام الله، فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أن يكون كلامه، وهذا مبسوط في موضعه].

موافقة أبي الحسن الأشعري لابن كلاب في مسألة كلام الله وغيرها

موافقة أبي الحسن الأشعري لابن كلاب في مسألة كلام الله وغيرها القول بأن الكلام قائم بالمتكلم بخلاف كلام الله تعالى فإنه لا يقوم به من المسائل التي بقيت عند الأشعري بعد رجوعه إلى السنة، وخالف فيها أهل السنة وتابع فيها ابن كلاب الذي تأول الصفات وأنكر ما يسمونه قيام الأفعال بالله، فهو ومن نحا نحوه يزعمون بأن اعتبار الكلام من الله عز وجل بحرف وصوت يعني قيام الأفعال به، كما أن النزول من قيام الأفعال به، ونحو ذلك، فهم يؤولون هذه الصفات أو ينكرونها، فعلى هذا تكون أقوال الكلابية ثلاثة، وهي أقوال أهل الكلام؛ لأن الكلابية هي أصل أهل الكلام، لكنهم توسعوا بعدها توسعاً عظيماً، حتى أدخلوا على مذهبهم بعض أصول الجهمية والمعتزلة، فأقوال الكلابية ثلاثة: الثالث والرابع بترتيب المؤلف، وثالثها هذا القول المروي عن أبي الحسن، وأبو الحسن كلابي، وهذا أيضاً مما ينبغي أن يفهم؛ كما سيأتي في مسائل كثيرة في بقية مباحث الطحاوية، فـ أبو الحسن رحمه الله كلابي يوافق ابن كلاب في مسألة كلام الله تعالى على الخصوص، وفي إنكار قيام الأفعال أو تأويل أفعال الله عز وجل أو الصفات الفعلية، وهذا ما انحرفت به الكلابية عن مذهب أهل الحديث، هذه المسألة بالذات هي التي انحرفت بها الكلابية عن مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة، وصارت بذلك فرقة متكلمة، وأبو الحسن الأشعري في هذه المسألة كلابي، وإن كان يوافق سائر أصول أهل السنة والجماعة كـ ابن كلاب نفسه، فـ ابن كلاب -وهو عبد الله بن سعيد القطان - يوافق أهل السنة في سائر الأصول، لكن يخالفهم في هذه المسألة فقط، ليس في غيرها، وكذلك أبو الحسن الأشعري يوافق أهل السنة في سائر الأصول، لكن يخالفهم في هذه المسألة، وهذا الباب والمنفذ هو الذي دخل من خلاله المتكلمون فيما بعد، كـ الجويني في مرحلته الأولى في حياته، والرازي في مرحلة حياته الأولى ومن جاء بعدهما.

ضلال المتكلمين في انتهاج رد خبر الآحاد في الاعتقاد واستدلالهم بشعر للأخطل النصراني

ضلال المتكلمين في انتهاج رد خبر الآحاد في الاعتقاد واستدلالهم بشعر للأخطل النصراني قال رحمه الله تعالى: [وأما من قال: إنه معنى واحد، واستدل عليه بقول الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا فاستدلال فاسد]. الذين قالوا: إنه معنى واحد هم من ورثة الكلابية، وهم أهل الكلام. قال رحمه الله تعالى: [ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا: هذا خبر واحد، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به. فكيف وهذا البيت قد قيل: إنه موضوع منسوب إلى الأخطل وليس هو في ديوانه؟! وقيل: إنما قال: (إن البيان لفي الفؤاد)، وهذا أقرب إلى الصحة]. مسألة متعلقة بمنهج الاستدلال عند المتكلمين، وأشار إليها هنا الشارح إشارة طيبة وجيدة تحتاج إلى وقفة يسيرة. فهؤلاء المتكلمون لا يستدلون بحديث الآحاد في مسائل العقيدة، وإن كانت أحاديث الآحاد أصلاً في كثير من مسائل الدين، بل أصل كثير من مسائل الدين القطعية التي عمل بها المسلمون إلى يومنا هذا، سواء كانت اعتقادية أو عملية، كثير منها ثبت بأحاديث الآحاد، بل من ذلك ما هو من قواعد الدين الكبرى، مثل حديث: (إنما الأعمال بالنيات) هذا حديث آحاد، ومع ذلك أجمعت الأمة على العمل به وأنه قاعدة من قواعد الشرع، وهكذا كثير من مسائل الاعتقاد ومسائل الأحكام القطعية، وأهل الكلام يقولون: لا نستدل في العقيدة بحديث الآحاد، والشارح يقول: سبحان الله! إذا جئناكم بحديث صحيح في الصحيحين في أمر العقيدة نستدل به على ما يقوله أهل السنة والجماعة ويخالف أصولكم؛ قلتم: هذا حديث آحاد لا نأخذ به، ثم تأتون لنا ببيت لشاعر نصراني عبر عن عقيدته بكلام لا يفهم، أو يفهم منه غير ما يطابق قول أهل السنة والجماعة، ثم إنه كلام لم يثبت، وهو قول آحاد، لم ينسبه إلى نبي معصوم ولم ينسبه إلى إمام ثقة، فكيف تقولون بأن هذا دليل على قولكم بأن الكلام هو ما في الفؤاد، وهو معنى واحد، وتأتون لنا بكلام شاعر ليس بحجة في الدين؟! فحينما تركوا السنة الثابتة بطريق الآحاد جاءوا ليستدلوا بأمثال هذا، بل استدلوا لكثير من أصولهم بالشعر، مثل نفيهم للاستواء، فقد استدلوا له بقول القائل: استوى بشر على العراق، وهذا كلام لا ندري لمن نسب، وسواء كان لمجهول أو لمعلوم؛ فهو ليس بكلام إمام هدى فضلاً عن أن يكون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم في الوقت الذي يردون فيه حديث الآحاد الصحيح يأخذون بأشعار وأقوال لا أصل لها، أو أن أصلها لا يعتمد عليه، فهو هنا يريد أن يستدل على فساد منهجهم في هذه الأمور.

خطأ استدلال المتكلمين ببيت الأخطل في مسألة الكلام

خطأ استدلال المتكلمين ببيت الأخطل في مسألة الكلام قال رحمه الله تعالى: [وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به؛ فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله، واتحد اللاهوت بالناسوت، أي: شيء من الإله بشيء من الناس! أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب؟! وأيضا: فمعناه غير صحيح؛ إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً؛ لقيام الكلام بقلبه، وإن لم ينطق به ولم يسمع منه، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه، وإنما أشير إليه إشارة. وهنا معنى عجيب، وهو أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت، فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وإنما النظم المسموع مخلوق، فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه السلام، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه!]. على أي حال هذا وجه من وجوه الشبه بين المتكلمين وأهل الكتاب أو الأمم الأخرى، وإلا فسيأتي من خلال درس الفرق والأهواء ربط كثير من أصول المتكلمين -سواء الفرق الأولى كالرافضة، والذين جاءوا فيما بعد كالقدرية والمعتزلة والجهمية، والذين ورثوهم كالكلابية والأشاعرة والماتريدية- التي خالفوا فيها السنة بالديانات والملل والمذاهب الأخرى بقرائن ودلائل قوية، فمنها ما يوجد له أصل عند اليهود، ومنها ما يوجد له أصل عند النصارى، ومنها ما يوجد له أصل عند الفلاسفة من اليونان والصابئة، وهذا كثير جداً، بل أحياناً تجد كلمات المتكلمين بمصطلحاتها عند الفلاسفة بمصطلحاتها، فأحياناً لا يترجمون الكلمة، بل يأتون بها كما هي عند فلاسفة اليونان، وكما هي عند فلاسفة الصابئة، إضافة إلى شَبَهٍ لبعض أصول المجوس وبعض أصول الديانات الهندية، هذا كله -إن شاء الله- سيأتي من خلال درس الفرق، أي: ربط أصول الفرق المنحرفة بأصول الأمم الضالة، وليس ذلك على سبيل التكلف، إنما هو مصداق لقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة -وفي رواية: شبراً بشبر وذراعاً بذراع- حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم) وفي رواية: (لدخلتموه). إذاً: كوننا نربط أصول المخالفين لأهل السنة والجماعة بالديانات الأخرى ليس ذلك على سبيل التكلف والتمحل، إنما على سبيل تحقيق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وبقرائن واضحة، وسيأتي لهذا إن شاء الله مزيد تفصيل.

ردود على من اعتقد أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس

ردود على من اعتقد أن الكلام هو المعنى القائم بالنفس قال رحمه الله تعالى: [ويرد قول من قال بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس قوله صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) وقال: (إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة)، واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته، واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب من تصديق بأمور دنيوية وطلب لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك، فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام]. هنا يناقش القائلين بأن كلام الله تعالى معنى قائم في النفس، وأن هذه الحروف والأصوات التي هي القرآن الكريم الذي بين أيدينا تعبير عن كلام الله عبر به مخلوق، وأحياناً يقولون: هذا المخلوق أصوات وحروف خلقها الله في الكون، فتمثلت أصواتاً سمعها النبي صلى الله عليه وسلم أو جبريل، وأحياناً يقولون: هو معنى ألقاه الله إلى جبريل فعبر عنه وألقاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وأحياناً يقولون بأنه معنى ألقي في قلب النبي صلى الله عليه وسلم فعبر عنه، وكل هذه المعاني باطلة، بل القرآن هو كلام الله عز وجل أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنزله بالوحي المباشر للنبي صلى الله عليه وسلم، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً من جبريل. قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به) فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان باتفاق العلماء، فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة؛ لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب]. هذا المفهوم لم يكن محل نقاش عند السلف في القرون الثلاثة الفاضلة إطلاقاً، بل كان من المسلمات؛ لأنهم يفقهون معاني الألفاظ بالعربية، وقد تلقى هذا المعنى وهذا المفهوم عن النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة، وتلقاه التابعون عن الصحابة، إلى أن جاء المتكلمون الذين تأثروا بالفلسفة، فالفلاسفة مذاهبهم في كلام الله عز وجل كثيرة، لكن منها اعتقاد أن كل ما يصدر عن الله عز وجل معان، ومن ذلك كلامه أو ما يعبر عنه بكلامه، وأكثر الفلاسفة لا يؤمنون بالكتب المنزلة، لكن هناك من أتباع الأنبياء من تأثر بالفلاسفة فأخذ بمفهوماتهم حول تفسير الظواهر من حولهم، تفسير ظواهر الحياة، ومن ذلك تفسير الكتب المنزلة على أنها معان أو معقولات تصدر عن مخلوقات، هذا غاية ما عند الفلاسفة، وهذا التصور انتقل إلى المتكلمين من الجهمية والمعتزلة، فقالوا بأن كلام الله معنى وليس بكلام حقيقي بحرف وصوت، وفرعوا على هذه الفلسفة أشياء كثيرة، ثم انتقلت في منتصف القرن الثالث إلى الكلابية، فأخذوا بها وقالوا بأن كلام الله معنى قائم بالنفس، أو نحو هذا، لما قامت الفرق الكلامية التي توسعت في الكلام -وهي الماتريدية ومتكلمة الأشاعرة وسائر المتكلمين الآخرين الذي قد لا ينتسبون إلى فرقة- قال أغلبهم بهذه المقولة، وما ذلك إلا استجابة لشبهات الفلاسفة ومن تأثر بهم، وهو الآن يرد عليهم بمقتضى اللغة وبمقتضى فهم السلف، وبمقتضى الأحاديث والنصوص الصريحة في تحديد معنى الكلام، وببيان مفهوم الكلام عند السلف، سواء الكلام مطلقاً، أو الكلام المخصص من الأفراد، أو كلام الله عز وجل عموماً، أو كلام الله بالقرآن على وجه الخصوص. قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً في السنن أن معاذاً رضي الله عنه قال: (يا رسول الله! وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! فقال: وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!). فبين أن الكلام إنما هو باللسان، فلفظ القول والكلام وما تصرف منهما من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنى، ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع ثم انتشر. ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر؛ فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة، وعرفوا معناه كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك].

اعتقاد أن كلام الله معنى قائم بنفسه تعالى لازمه القول بخلق القرآن

اعتقاد أن كلام الله معنى قائم بنفسه تعالى لازمه القول بخلق القرآن قال رحمه الله تعالى: [ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى، وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله وهو مخلوق، فقد قال بخلق القرآن في المعنى وهو لا يشعر؛ فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] أفتراه سبحانه وتعالى يشير إلى ما في نفسه أو هذا إلى المتلو المسموع؟! ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع، إذ ما في ذات الله غير مشار إليه، ولا منزل ولا متلو ولا مسموع]. القرآن -كما هو معروف وكما جاء في النصوص- تكلم به الله عز وجل كما يليق بجلاله، ثم سمعه جبريل عليه السلام من الله عز وجل وأسمعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سمع القرآن من جبريل بطريقة الوحي المعروفة، فالقرآن ليس منه شيء بإلهام، وليس منه شيء مسموع من غير معرفة المسموع منه، أي: لا يسمع من مجهول، وليس في القرآن شيء جاء عن طريق المنام أو عن طريق التخيل، ولا عن طريق الخرافة، فطرق الوحي الكثيرة كلها لم يرد فيها القرآن إلا بالطريقة التي هي عن جبريل عليه السلام، وسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم منه كما سمعه جبريل من الله عز وجل. إذاً: فالقرآن بمراحله الثلاث هو كلام الله، لكن المتكلمين خالفوا المعتزلة في بعض المراحل، فالمتكلمون يعترفون بأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالقرآن بحرف وصوت، وبعضهم يقول بأن النبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل بحرف وصوت، لكن ينكرون أن يكون تكلم الله به، ومن هنا يوافقون الجهمية والمعتزلة في المنهاج، لكن يخالفونهم في الطريق الأخيرة وما قبل الأخيرة، ومع ذلك يتردد بعضهم في أن يكون جبريل تكلم به أو نطق به لرسول الله صلى الله عليه وسلم بحرف وصوت، فهم مضطربون في ذلك أشد الاضطراب، بل إن بعض المتكلمين يميل إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمعه بحرف وصوت، إنما عبر عنه، وهذه الفئة توافق المعتزلة والجهمية موافقة مطلقة إلا في الألفاظ، وعادة المتكلمين أنهم يحاولون أن يلطفوا ألفاظهم، فلا يأتون بأمور ترد النصوص رداً صريحاً كما يفعل الجهمية والمعتزلة، إنما يحاولون التلفيق، ويقولون: إن أردنا إلا التوفيق بين السنة وبين المعقولات، وهذه دعوى المنافقين. قال رحمه الله تعالى: [وقوله: {لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] أفتراه سبحانه يقول: لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه؟! وما في نفس الباري عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه ولا إلى الوقوف عليه. فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو المتلو المكتوب المسموع، فأما أن يشير إلى ذاته فلا؛ فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة؛ فإن حكاية الشيء مثله وشبهه، وهذا تصريح بأن صفات الله تعالى محكية، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله، فأين عجزهم؟! ويكون التالي -في زعمهم- قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف، وليس القرآن إلا سوراً مسورة وآيات مسطرة في صحف مطهرة، قال تعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات} [هود:13]، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:49]، {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:13 - 14]. ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات، قال صلى الله عليه وسلم: (أما إني لا أقول: (آلم) حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف)، وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين. قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله في المنار: إن القرآن اسم للنظم والمعنى. وكذا قال غيره من أهل الأصول، وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه فقد رجع عنه، وقال: لا تجوز القراءة مع القدرة بغير العربية. وقالوا: لو قرأ بغير العربية فإما أن يكون مجنوناً فيداوى، أو زنديقاً فيقتل؛ لأن الله تكلم به بهذه اللغة، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه].

أدلة عقلية على بطلان القول بأن كلام الله معنى قائم بنفسه تعالى

أدلة عقلية على بطلان القول بأن كلام الله معنى قائم بنفسه تعالى هذا معلوم حتى في بديهات العوام، أعني مسألة التفريق بين الكلام والمعنى القائم بالنفس، فلو كان القرآن مجرد معنى لكلام الله تعالى وليس هو كلامه لما صح عند الناس وفي عرفهم أن يقال مثلاً: تعال -يا فلان- أقرأ عليك كلام الله، أو: اقرأ كلام الله؛ لأنه لو كان معنى لقيل: تعال لأقرأ عليك معنى كلام الله، هذه ناحية. الناحية الأخرى فيما يتعلق بترجمات معاني كتاب الله، فلو كان القرآن ليس بحرف وصوت من كلام الله عز وجل لصح أن نترجم القرآن، لكن عند أهل العلم لا يصح إطلاقاً أن نترجم القرآن بذاته، إنما تترجم معاني القرآن؛ لأن القرآن بذاته هو هذا الذي بين أيدينا بحروفه وأصواته، فلو كان كلاماً مخلوقاً ككلام المخلوقين لصح أن نترجم القرآن، فيجوز لأي إنسان من الناس أن يتكلم بالقرآن بأي لغة، ويقال: هذا هو القرآن، فيقرأ بالانجليزية ويقال: هذا هو القرآن، ويقرأ بالأردية ويقال: هذا هو القرآن، لكن عند جميع أهل العلم لا يصح أن يتلو أحد معنى آية بالأردية ثم يقول: هذه آية من كتاب الله، بل العجم كلهم المسلمون اليوم يقرءون كتاب الله بلفظه العربي، وإذا عبروا عن معانيه بغير العربية قالوا: معاني القرآن، ولا يقولون: هذا القرآن، حتى هؤلاء المبتدعة الذين يقولون هذا القول لا يجرؤ أحد منهم على أن يقول إذا عبر عن معنى بغير العربية من معاني آيات الله: هذا هو القرآن، أو: هذا كلام الله، أو: هذه آية، إنما يقول: هذا معنى آية، أو ترجمة معنى آية، أو ترجمة معنى القرآن ونحو ذلك. إذاً: هذا أمر معلوم بالضرورة، لكن الأمور قد تشتبه على مثل هؤلاء لتعلقهم بشبهات المتكلمين والفلاسفة.

كلام الله ليس كلام البشر ولا يشبه كلامهم

كلام الله ليس كلام البشر ولا يشبه كلامهم قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ومن سمعه وقال: إنه كلام البشر فقد كفر)، لا شك في تكفير من أنكر أن القرآن كلام الله، بل قال: إنه كلام محمد أو غيره من الخلق، ملكاً كان أو بشراً. وأما إذا أقر أنه كلام الله ثم أوَّل وحَرَّف فقد وافق قول من قال: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25] في بعض ما به كفر، وأولئك الذين استزلهم الشيطان، وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) إن شاء الله تعالى]. قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولا يشبه قول البشر)]. المقصود هنا قول الله عز وجل، أي: لا يشبه قول الله تعالى قول البشر، أو لا يشبه كلامه قول البشر. قال رحمه الله تعالى: [يعني: أنه أشرف وأفصح وأصدق، قال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنْ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87]، وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88]، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} [هود:13]، وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38]، فلما عجزوا -وهم فصحاء العرب مع شدة العداوة- عن الإتيان بسورة مثله؛ تبين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من عند الله. وإعجازه من جهة نظمه ومعناه لا من جهة أحدهما فقط، هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج بلسان عربي مبين، أي: باللغة العربية. فنفي المشابهة من حيث التكلم ومن حيث النظم والمعنى لا من حيث الكلمات والحروف، وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يتخاطبون بها، ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن، كما في قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2]، {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقَِّ} [آل عمران:1 - 3] الآية، {المص} [الأعراف:1] ((كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ)) [الأعراف: 2]، قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس:1]، وكذلك الباقي، ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه، بل خاطبكم بلسانكم].

ما تذرع به أهل الكلام من إثبات الإعجاز في معنى القرآن دون لفظه لنفي تكلم الله به

ما تذرع به أهل الكلام من إثبات الإعجاز في معنى القرآن دون لفظه لنفي تكلم الله به قال رحمه الله تعالى: [ولكن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بمثل هذا إلى نفي تكلم الله به وسماع جبرائيل منه]. يشير إلى أن كثيراً من أهل الكلام يزعمون أن القرآن إنما هو معجز من حيث معناه، من حيث إنه معنى قائم بنفس الله عز وجل، لا من حيث إنه هذا الكلام الذي هو بلسان عربي مبين؛ لأنهم يقولون: لو كان التحدي لمجرد كونه بالعربية لما أعجز العرب ذلك، إنما أعجزهم لأن التحدي متعلق بالمعنى القائم بنفس الله عز وجل كما يعبرون هم، فلذلك يجعلون الإعجاز فيما يتعلق بأصل الكلام عندهم، وهو أنه المعنى القائم بالنفس، أي: بنفس الله عز وجل، وهذا باطل؛ فإن الإعجاز ينصرف إلى القرآن كله بمعانيه وحروفه وكلماته، وليس إلى جزء من هذا فقط، كأن يقال بأنه معجز بحروفه وكلماته دون معانيه، أو بمعانيه دون حروفه وكلماته، فإن هذا باطل؛ فالقرآن معجز من حيث هو كلام الله، ومن حيث كونه بلسان عربي مبين، ومن حيث حروفه ومعانيه، فهو معجز من جميع هذه الوجوه. قال رحمه الله تعالى: [كما يتذرعون بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] إلى نفي الصفات، وفي الآية ما يرد عليهم قولهم، وهو قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، كما أن في قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس:38] ما يرد على من ينفي الحرف؛ فإنه قال: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) ولم يقل: (فأتوا بحرف أو بكلمة) وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات]. هذا دليل على أن القرآن معجز بحروفه ومعانيه. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: إن أدنى ما يجزئ في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة؛ لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك. والله أعلم].

ما يثبت لله من الصفات لا يعني وصف الله بمعنى من معاني البشر

ما يثبت لله من الصفات لا يعني وصف الله بمعنى من معاني البشر قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر فقد كفر، ومن أبصر هذا اعتبر، وعن مثل قول الكفار انزجر، وعلم أن الله بصفاته ليس كالبشر): لما ذكر فيما تقدم أن القرآن كلام الله حقيقة منه بدا نبه بعد ذلك على أنه تعالى بصفاته ليس كالبشر، نفياً للتشبيه عقيب الإثبات. يعني: أنه تعالى وإن وصف بأنه متكلم، لكن لا يوصف بمعنى من معاني البشر التي يكون الإنسان بها متكلماً؛ فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وما أحسن المثل المضروب للمثبت للصفات من غير تشبيه ولا تعطيل باللبن الخالص السائغ للشاربين يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه، والمعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً].

معنى التعطيل والتشبيه وذكر مواقف الفرق من صفات الله تعالى

معنى التعطيل والتشبيه وذكر مواقف الفرق من صفات الله تعالى هنا يحسن الوقوف عند مسألة مفهوم التعطيل، وكذلك مفهوم التشبيه؛ لأن الكلام في هذه المسألة بعد تفصيل الرد على الذين أنكروا كلام الله عز وجل وقفة جيدة من الشارح ومن صاحب الأصل الطحاوي؛ لأنه بعد الكلام في إثبات كلام الله عز وجل، وأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وتقرير مذهب السلف ثم الرد على المنكرين؛ يحسن أن ينبه على ما يمكن أن يخطر ببال بعض الناس، أو ما يمكن أن يثيره أهل الشبهات من المؤولة والمعطلة في مسألة الإثبات، وهو قولهم بأنه إذا أثبتنا أن لله كلاماً أثبتنا مشابهته -بزعمهم- للخلق، والله عز وجل ليس كمثله شيء، إذاً: هذا تشبيه. ومن أجل أن تتجلى هذه المسألة ويوضح الأمر فيها عرج الشارح على مسألة التعطيل والتشبيه ليبين المقارنة بينهما، ويبين أن المنهج الوسط والمنهج الحق هو الإثبات مع نفي التشبيه من غير تعطيل. فالإثبات: إثبات صفات الله تعالى، ومنها صفة الكلام التي كثر الكلام فيها من قبل. ثم أيضاً نفي التشبيه من غير تعطيل، ولذلك يحسن أن نبين هنا معنى التعطيل بإيجاز، ومعنى التشبيه والتمثيل بإيجاز: فمواقف الناس تجاه الصفات عموماً تنقسم إلى أربعة مواقف رئيسة إلى يومنا هذا، وكل مواقف الفرق في الصفات لا تعدو هذه المواقف الأربعة:

موقف السلف وأتباعهم من صفات الله تعالى

موقف السلف وأتباعهم من صفات الله تعالى الأول: الإثبات من غير تمثيل ومن غير تعطيل. وهذا هو المذهب الحق مذهب السلف، على قاعدة قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]، فقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) نفي للمشابهة والمماثلة، وقوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) إثبات لصفات الله عز وجل. هذا هو الموقف الحق الذي عليه سلف الأمة وتابعوهم بإحسان إلى يومنا هذا.

موقف المعطلة

موقف المعطلة الموقف الثاني: التعطيل. والتعطيل يقصد به نفي أسماء الله وصفاته، أو نفي صفاته فقط، أو نفي أفعال الله تعالى وهي من الصفات، فهذا كله تعطيل، فمن نفى أسماء الله عز وجل وصفاته فهو معطل، ومن نفى الصفات فهو معطل، ومن نفى الأفعال فهو معطل. أما الأسماء فمعلومة، وأما الصفات فكالسمع والبصر والنزول والمجيء وغيرها، وأما الأفعال فتدخل في الصفات الفعلية، كالنزول والمجيء. فمن نفى هذه الصفات أو بعضها فهو معطل لما نفاه، ومعنى التعطيل: تفريغ الموصوف من الصفات، وتفريغ الموصوف من الصفات يؤدي إلى إنكاره هو؛ لأن كل موجود موصوف، ولو لم يكن من معاني الموجود إلا أن يكون موجوداً -إذ الوجود صفة- لكانت هذه الصفة كافية لإثبات الصفة للموصوف. فإذا قال قائل بنفي الصفات؛ فإن هذا يؤدي إلى أن يقول بوجود موجود غير موصوف، وهذا يستحيل عقلاً وشرعاً. وهل يتصور موجود لا يوصف؟! هل يتصور ذلك عقلاً؟! وهل يتصور موجود بلا اسم، لو لم يكن من اسم الموجود إلا كلمة (موجود) لكفى، وهذا ما رد به السلف على الجهمية لما قالوا: لا نعرف من أسماء الله وصفاته ولا نقر إلا بأنه موجود فقط، فقالوا لهم: كلمة (موجود) اسم، والوجود صفة، إذاًَ: سميتموه ووصفتموه، فما دمتم قد قلتم بالتسمية والصفة؛ فأطلقوا جميع الأسماء والصفات التي وصف الله بها نفسه، وأطلقها على نفسه، ولذلك وقعوا في حيرة؛ إذ مؤدى قولهم نفي وجود الله تعالى بالضرورة، وهذا يسمى تعطيلاً، والتعطيل جزئي وكلي، فالتعطيل الكلي هو نفي الأسماء والصفات والأفعال، والتعطيل الجزئي هو نفي بعض هذه الأمور.

موقف المؤولة

موقف المؤولة الموقف الثالث: التأويل، وهو فرع عن التعطيل، لكنه أخف، لا من حيث النتيجة، بل أخف من حيث الإجراء والاستدلال والاستنتاج والتلقي فقط، فالمؤول يقر بالنصوص، والمعطل لا يقر بالنصوص، ولو أقر بألفاظها فإنه لا يقر بدلالاتها، فالمعطل حتى ولو أقر بألفاظ أسماء الله عز وجل؛ فهو لا يقر بدلالاتها، فمن هنا يسمى معطلاً، أما المؤول فهو يقر بالنصوص، لكنه يحرف دلالاتها عن معانيها المفهومة أو المتبادرة أو عن معانيها الحقيقية المطلقة على الموصوف، فالتأويل فرع عن التعطيل، لكنه أخف منه من حيث البداية ومن حيث الاستدلال، ومن حيث الاعتراف بالأدلة والنصوص، لكن من حيث المؤدى يؤدي إلى ما يؤدي إليه التعطيل في النهاية.

موقف المشبهة

موقف المشبهة الموقف الرابع: التشبيه، والوصف الحقيقي الشرعي له: التمثيل؛ لأن الله عز وجل قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فبعض أهل العلم يسمي التمثيل التشبيه؛ لأن أهل الأهواء أطلقوا هذه الكلمة فاشتهرت، والتشبيه هو اعتقاد أن الله عز وجل مثل خلقه، أو اعتقاد أن بعض الخلق مثل الله، تعالى الله عما يزعمون، كل هذا تمثيل، وكله موجود في الفرق، فالتمثيل والتشبيه في الغالب هو اعتقاد أن الله عز وجل مثل خلقه في جميع الخصائص أو في بعض الخصائص، سواء أكانت صفات أم أسماء أم ذاتاً أم أفعالاً، فاعتقاد أن الله عز وجل مثل خلقه هذا تشبيه وتجسيم، وهو كفر، سواء في جميع الخصائص وفي بعض الخصائص، من اعتقد أن الله عز وجل مثل خلقه -سواء فصل أو لم يفصل، وسواء جعل ذلك في جميع الخصائص والصفات أو في بعضها- فإنه بذلك يكون كافراً، وهذا التشبيه انقرض -تقريباً- إلا في حالات نادرة، كما انقرض التشيع الأول إلا في حالات نادرة، فالتشبيه وجد في فرق من الروافض الأوائل كالجواليقية والهشامية والداودية والبيانية والمغيرية وغيرها، كل هؤلاء كانوا مشبهة وكلهم روافض، لكن الروافض بعد عراكهم مع الفرق تحولوا إلى معطلة، فتركوا التجسيم وانقلبوا إلى التعطيل، فما وفقوا وسددوا إلى الاعتدال والوسط، فلما تجادلوا هم وخصومهم الذين يعتقدون التعطيل رجعوا إلى التعطيل ولم يوفقوا للسنة، فتركوا التشبيه والتجسيم وصاروا معطلة. الرافضة وجميع الفرق المجسمة الأولى، ينسب التجسيم إلى الكرامية، لكنَّه الآن لا يوجد، كما لا توجد أيضاً لبعض الفرق التي انقرضت، فالآن لا يوجد إلا نزعات فردية، فلا نعرف التجسيم إلا في نزعات فردية.

معنى أن المعطل يعبد عدما والمشبه يعبد صنما

معنى أن المعطل يعبد عدماً والمشبه يعبد صنماً أما قوله بأن المعطل يعبد عدماً؛ فكما أشرت إليه سابقاً؛ لأن التعطيل يؤدي للنفي، أي نفي أسماء الله وصفاته وأفعاله أو بعضها، ومن نفى هذه الأمور فقد عطل النصوص عن معانيها، وجعل نصوص الكتاب والسنة ليس لها معان، وهذا يسمى تعطيلاً، ومن جرد الذات الإلهية من الصفات أو من الأسماء أو من الأفعال أو من بعضها؛ فكأنه في تجريده عطل الموصوف عن صفته، وعطل المسمى عن اسمه، أو عطل فعل الله عز وجل عن فاعله، والله عز وجل فعال لما يريد. إذاً: فالتعطيل معناه النفي، ومعناه التجريد، ومعناه رفع المعنى، ومعناه اعتقاد أن الألفاظ والنصوص ليس لها معان، أي: تعطيلها من معانيها، وتعطيل الموصوف من صفاته، والمسمى من أسمائه، والفاعل من فعله. إذاً: المعطل يعبد عدماً؛ لأنه إذا زعم أنه يعبد الله، ثم قال بنفي الأسماء والصفات فكأنه يعبد غير موجود؛ لأنه يقال له: إذا كنت تعبد الله عز وجل وتقول: إن الله موجود، فالموجود مسمى وموصوف، وهذا مقتضى الكمال، وإذا قلت: لا؛ فإنك تعبد عدماً، لذلك لما سئل الجهم بن صفوان رأس المعطلة عن ربه تحير وبقي أربعين يوماً لا يدري ماذا يفعل؛ لأنه تشرب أقوال الفلاسفة من قبل حينما حاورهم، فوقعت في قلبه، فلما سألوه ما اهتدى للفقه في الدين وما عرف العلم الشرعي كما قال السلف فيه، فقد قالوا في وصفه بأنه لم يطلب العلم، فنظراً لأنه ليس عنده علم شرعي يعصمه كانت عنده الخلفيات الفلسفية، فأراد أن يطبقها، فما وجد معنى لمعاني النصوص على أساس القواعد الفلسفية، فما خرج من عزلته بعد أربعين يوماً إلا وهو حائر، حتى قيل: أنه لا يصلي، ولما قيل له: لماذا لا تصلي؟ قال: لم أدن بدين حتى أصلي، فإذا دنت بدين صليت، فلما خرج قال: هذا هو في الهواء، هو في كل شيء! بمعنى أنه جرد الله عز وجل من وجوده الذاتي، وجرد الله من أسمائه وصفاته، وزعم أن هذا الكون هو الله. إذاً: فهذا يعبد عدماً أو يعبد صنماً، بمعنى أنه قلب المسألة، فحينما عطل جعل هذه المخلوقات هي الله أو حل فيها الله، فمن هنا جعل صفة المخلوقات هي صفة الله، وهذا هو التشبيه بعينه. أما قوله بأن المشبه يعبد صنماً؛ فنظراً لأن التشبيه يؤدي إلى عبادة غير الله عز وجل حينما يتوهم الممثل أن ربه الذي يعبده مثل المخلوق، والله عز وجل ليس كذلك، فهو حين زعم أن الله مثل الخلق تصور لربه صورة مثل صورة المخلوق، فلما تصورها صار يعبد هذه الصورة، فهو يعبد صنماً من حيث يشعر أو لا يشعر.

وجه كون التعطيل شرا من التشبيه

وجه كون التعطيل شراً من التشبيه قال رحمه الله تعالى: [ويأتي في كلام الشيخ: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه). وكذا قوله: (وهو بين التشبيه والتعطيل)، أي: دين الإسلام، ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه لما سأذكره إن شاء الله تعالى]. قوله: [ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه] هذا من وجوه: الوجه الأول: أن التعطيل مصادمة صريحة للنصوص، ومصادمة صريحة للعقول، فمن زعم أن ربه ليس له ذات ولا أسماء ولا صفات؛ فقد صادم نصوص القرآن والسنة مصادمة مباشرة، ورد الوحي رداً صريحاً لا تأول فيه ولا شبهة. والوجه الثاني أن التعطيل موهم ملبس؛ لأن المعطل يأتي إلى سذج الناس وقليلي العلم ويقول لهم: إني لا أفهم من هذه الصفة أو هذا الاسم إلا ما أعرفه في المخلوقات، وهذا لا يليق بالله عز وجل، وإذا حكمت بأني لا أفهم من ذلك إلا ما أعرفه في المخلوق فسأقع قطعاً في التشبيه، ودفعاً للتشبيه ننفي المعنى إطلاقاً ونقول: هذه الألفاظ ليس لها معان، إنما هي مجرد ضبط لمفاهيم الناس أو مخاطبتهم بظاهر غير الباطن، أو بمعنى غير المعنى الحقيقي إلى آخره، فالتعطيل موهم، بمعنى أنه تنطلي شبهاته على بعض الناس، خاصة الأذكياء الذين ليس عندهم علم شرعي، أما العوام فالغالب أنهم في هذه الأمور على الفطرة ويسلمون من التعمق في هذه الأمور ولا يدركونها، ومن الخير لهم أن لا يدركوها، لكن بعض الأذكياء تنطلي عليهم هذه الشبهات إذا لم يكن عندهم فقه في الدين، فيأتي المعطل ويلبس، فإذا لبس وقعت شبهاته في قلوب الناس، فوقعوا في التعطيل أو التأويل، ومن هنا تكون الفتنة بالتعطيل أكثر، وهذا هو السبب الذي جعل التعطيل والتأويل يبقى إلى يومنا هذا والتشبيه ينقطع؛ لأن التشبيه لا يصادم النصوص مصادمة، إنما هو خطأ في فهم النصوص، فالمشبه لا ينكر أن الله عز وجل له أسماء وصفات، بل يثبتها، لكن يثبتها على وجه مغلوط مبالغة في الإثبات، وذلك عدم فقه لنصوص التنزيه لله عز وجل، وعدم فهم لما في قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، فهذا فهم ناتج عن قصور وليس ناتجاً عن إلحاد قلب وعن سوء نية أو عن تلبيس، فلذلك التشبيه لم يستمر، لأنه يصطدم بالعقول اصطداماً مباشراً، لكنه لا يصطدم بالنصوص، إنما بعد بيان النصوص يتبين لأدنى من عنده علم أن التشبيه مرفوض بالبداهة وبالفطرة بعكس التعطيل، فإنه وإن كان مرفوضاً بالبداهة وبالفطرة، لكن فيه شبهات تنطوي على ضعاف الفقه وضعاف العلم. قال رحمه الله تعالى: [وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً، بل صفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به. وقوله: (فمن أبصر هذا اعتبر). أي: من نظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات الوصف ونفي التشبيه ووعيد المشبه اعتبر وانزجر عن مثل قول الكفار].

شرح العقيدة الطحاوية [30]

شرح العقيدة الطحاوية [30] إن رؤية المؤمنين لربهم في الجنة ثابتة مقطوع بها بنص التنزيل، حيث صرحت بها آيات قرآنية وفسرت بها أخرى، ونطقت بها الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أعظم نعيم أهل الجنة، ولم ينازع في إثباتها إلا عميان البصائر من الجهمية والمعتزلة وأتباعهم، معتمدين في ذلك على زبالات العقول وتوهم دلالات النصوص، وكفاهم دحضاً لقولهم أن معول دليلهم المتكئ على آيتين من كتاب الله تعالى قد قطعت به يد استدلالهم، ولا غرو؛ فالسالك مثل مناهجهم لابد من أن تزل به قدم التسليم.

إثبات الرؤية لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية

إثبات الرؤية لأهل الجنة بغير إحاطة ولا كيفية قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كما قال، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه): المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية]. يقصد المخالفين الذين نفوا الرؤية إطلاقاً، الذين كذبوا ما جاء في كتاب الله تعالى وما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم. أما الآيات فكذبوها تكذيب تأويل وتعطيل، وأما الأحاديث فردوها رداً صريحاً، ولم يتورعوا عن ردها.

منكرو الرؤية

منكرو الرؤية وأول من أنكر الرؤية من الفرق الجهمية، أما الأشخاص فإن أول من اشتهر عنه إنكار الرؤية الجعد بن درهم ثم الجهم بن صفوان. وقد نسب إنكار الرؤية إلى غيلان بن مسلم، لكن لم يثبت عنه أنه أنكر الرؤية صراحة كما أنكرها الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، وإنكار الرؤية ناتج عن تعلق هؤلاء بالقواعد الفلسفية التي عليها فلاسفة اليونان وفلاسفة الصابئة الذين نهجوا نهج تقرير أمور الغيب وغيرها بالعقليات وجانبوا سبيل الأنبياء، فالفلاسفة في العموم الأصل فيهم عداوة الأنبياء وما جاءوا به من الحق والشرائع. والجهمية أتباع الجهم بن صفوان أبرز ما عندهم من الأصول إنكار الأسماء والصفات، وإنكار الرؤية، وإنكار كلام الله عز وجل، والقول بأن القرآن مخلوق، والمعتزلة تبع لهم في هذه الأصول، إلا أنهم يختلفون عنهم في التفصيلات، فالمعتزلة تنكر الصفات ولا تنكر الأسماء، لكنها تقول بنفي الرؤية وبخلق القرآن ونحو ذلك من أصول الجهمية. وقوله: [ومن تبعهم من الخوارج] يقصد بذلك أن كل الفرق التي أنكرت الرؤية أنكرتها اتباعاً للجهمية والمعتزلة، والإمامية يقصد بها الرافضة الإثني عشرية، وعموم الرافضة ينكرون الرؤية، لكن أشهرهم الإمامية، فهؤلاء في إنكارهم للرؤية تبع للجهمية والمعتزلة، ولم يأتوا بجديد حتى في أدلتهم العقلية، فما سموه بالأدلة العقلية من شبهاتهم، والأسلوب الذي ردوا به النصوص أو أولوها لا يخرجون في ذلك عن الجهمية والمعتزلة بشيء من الأشياء، والخوارج الذين أنكروا الرؤية ووقعوا فيما وقعت فيه الجهمية في سائر الأصول هم الخوارج المتأخرون الذين ظهروا في القرن الثاني وما بعده. أما الخوارج الأولون فلم يكن هذا مشهوراً عنهم، كما أنه لم يكن مشهوراً عن غيرهم، بمعنى أن أصول الخوارج الأولى ليس فيها إنكار الرؤية، لكن -كما هو معروف- تتجارى بجميع أهل الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنهم تستهويهم الأصول الفاسدة بسبب جدالهم للفرق الأخرى من الجهمية والمعتزلة، فيلزمونهم بأمور عقلية لا ينفكون عنها، وبسبب ما اتسموا به من المخالفة لأهل السنة، كان من عادتهم أن كل شيء يخالف أهل السنة يعتنقونه لوجود أصل المخالفة عندهم وتبييت هذا الأصل واستصحابه في كل حال. إذاً: فالخوارج اعتنقوا القول بعدما اشتهر عن الجهمية والمعتزلة أثناء الحوار معهم، وعلى هذا فإن الخوارج من القرن الثاني وما بعده يقولون بإنكار الرؤية، ومن أشهرهم الإباضية، فالإباضية ينكرون الرؤية، والإباضية فرقة من فرق الخوارج الكبرى الأربع التي تشعبت عن الخوارج بعد سنة أربع وستين للهجرة، فالخوارج كانوا فرقة واحدة إلى سنة أربع وستين، فافترقوا إلى أربع فرق: الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والإباضية، فالذين بقوا منهم في القرن الثاني من هذه الفرق الأربع كلهم قالوا بإنكار الرؤية ما عدا فئات قليلة منهم، وكذلك الإباضية، وإلى اليوم والإباضية تنكر الرؤية أو أكثرهم، ومنهم من يدعي الآن من مثقفيهم وبعض طلاب العلم فيهم أنهم لا ينكرون الرؤية، ويظهر لي أن هذا منطق جديد قال به بعضهم حينما رأوا قوة أهل السنة وقوة حجتهم، وإلا فالأصل في الإباضية إلى يومنا هذا أنهم ينكرون الرؤية وآخر ما قرأنا عنهم وسمعنا ما كتبه شيخهم أحمد الخليلي في كتاب له يقال له: (حق الدهر) أنكر فيه الرؤية، وساق أدلة الجهمية والمعتزلة في إنكار الرؤية. أما الإمامية فكذلك ما كانوا يعتقدون هذه الأمور -كإنكار الرؤية- إلا في القرن الثاني وما بعده في أثناء نقاشهم للجهمية والمعتزلة، وعلى هذا أخذوا بمبدأ إنكار الرؤية إلى اليوم، فأغلب الإمامية يقولون بإنكار الرؤية على نحو ما تقول به الجهمية.

الفرق بين السلف وأتباعهم وبين المتكلمين المنسوبين إلى السنة والجماعة في إثبات الرؤية

الفرق بين السلف وأتباعهم وبين المتكلمين المنسوبين إلى السنة والجماعة في إثبات الرؤية قال رحمه الله تعالى: [وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة]. يقصد بطوائف الكلام المنتسبة لأهل السنة والجماعة الأشاعرة والماتريدية والكرامية والكلابية والسالمية ومن نحى نحوهم، فهؤلاء كلهم يقولون بإثبات الرؤية وكلهم من المتكلمين الذين ينتسبون للسنة والجماعة، لكن إثباتهم الرؤية فيه اضطراب شديد جداً يتمثل في أنهم أثبتوها بشروط زائدة على ما ورد في الكتاب والسنة، ومن هنا وقعوا في اضطراب شديد، حيث قالوا بأن الله يرى يوم القيامة أو يراه المؤمنون بأبصارهم لكن بلا جهة، فيقولون: نثبت الرؤية بلا جهة، أو لا إلى جهة، أو إلى غير جهة، ونحو ذلك من العبارات الفلسفية، فعلى هذا يعدون ممن لا يثبتون الإثبات التام الشرعي، فإثباتهم في المبدأ لكن عند التفصيل لا يثبتون كما يثبت السلف، بل لا يثبتون كما تثبت النصوص الشرعية، فيضعون للرؤية استثناء، وهذا الاستثناء أوقعهم في إشكال، فلا هم الذين قالوا بقول أهل السنة وسلموا، ولا هم الذين قالوا بقول المعتزلة واتضح رأيهم، فوقعوا في اضطراب كما سيأتي تفصيله. وممن وقع في الكلام في الرؤية الصوفية، وهذا لم يذكر، لكن ينبغي التنويه به في هذا المقام، فالصوفية قولهم بالرؤية على نحو قول أهل السنة في مبدأ الإثبات، لكنهم في النهاية يلحدون في الرؤية كما يلحدون في كثير من أمور التوحيد، بمعنى أنهم يقولون بالرؤية حتى بالعين الباصرة في الدنيا، فغلاة الصوفية يقولون: إن الرؤية تثبت في الدنيا قلبية أو بصرية، وإن الولي إذا وصل إلى درجة الفناء أو الحلول أو الاتحاد أو الوحدة؛ فقد يرى ربه بعينه، وهذا ما صرح به ابن عربي صاحب وحدة الوجود، فيرى أن المرئي هو الله، وأن الإنسان لا يرى إلا ربه في هذا الكون، وحينما يرى نفسه فإنه يرى ربه، وحينما يرى ربه فإنما يرى نفسه، وهذه فلسفة، لكنه أراد بها الخروج عن مقتضى الشرع والقول بقول غلاة الصوفية وغلاة الفلاسفة الذين يزعمون أنهم يرون ربهم عياناً كما يرونه بقلوبهم، فعلى هذا نتحصل في أصل مبدأ الرؤية على أربعة أقوال: الأول: الإثبات كما ورد في الشرع، وعليه أهل السنة والجماعة. والثاني: الإثبات لكن بشروط زائدة بدعية، وعليه أهل الكلام، يقولون: نثبت الرؤية لكن بلا جهة. والقول الثالث: قول الذين يثبتون الرؤية لكنهم يزعمون حصول الرؤية لبعضهم في الدنيا بالعين الباصرة وبالقلب، وهذا ضلال مبين وكفر. والقول الرابع: هو قول الذين أنكروا الرؤية إطلاقاً بدون تفصيل، وهم الجهمية والمعتزلة ومتأخرة الخوارج والرافضة ومن نحا نحوهم من الفرق التي غلت وسلكت طريق الجهمية.

فساد طريقة مؤولي نصوص الرؤية

فساد طريقة مؤولي نصوص الرؤية قال رحمه الله تعالى: [وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مردودون. وقد ذكر الشيخ رحمه الله من الأدلة قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وهي من أظهر الأدلة. وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلاً فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل من تأويلها على أرباب التأويل، ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص]. يقصد بذلك أن الذين أنكروا الرؤية وقفوا من نصوص الرؤية، مثل قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، ومثل قوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، ومثل قوله عز وجل: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، ونحو ذلك من الآيات الصريحة في الرؤية، وقفوا منها موقف المؤولة، فأولوها وردوا النصوص الأخرى التي في الأحاديث. ونقف عند مسألة التأويل، فهو يقصد بالتأويل أن الجهمية والمعتزلة لا يجرءون على إنكار آيات القرآن ولا على ردها؛ لأنها لم تأت بإسناد، إنما هي وحي، والله عز وجل قد تكفل بحفظ كتابه، فلم يجرءوا على الإنكار الصريح للآيات، وإن كان بعضهم قال قولاً يؤدي إلى ذلك، مثل قول بعضهم: إني أود أن أحك الآية الفلانية من المصحف، فهذه مجرد عواطف، لكنهم لم يجرءوا على الإنكار، وإنما جرءوا على التأويل، فهذه الآيات قالوا: ليس المقصود بها النظر إلى الله عز وجل. وأتوا بأقوال كثيرة في المقصود بها ولم يتفقوا في المقصود، إنما فتحوا باب التأويل. فهنا يقول لهم: إذا فتحتم باب التأويل في هذه المسائل المتعلقة بالله عز وجل والتي لا سبيل إلى القول بتأويلها؛ فتأويل غيرها مما يتعلق بالغيبيات الأخرى والسمعيات الأخرى أهون وأسهل، وإذا قلتم بتأويل الرؤية سهل على الناس أن يؤولوا حتى ما يتعلق بالجنة والنار والبعث واليوم الآخر والحساب ونحو ذلك من أمور السمعيات كالصراط والميزان، فيقول: إذا فتحنا باب التأويل فتحنا لكل مبطل -بل ولكل كافر- أن يتأول هذه النصوص على مزاجه ويقول: المقصود بالآية الفلانية كذا؛ لأن باب التأويل هو فتح لباب الظنون في الغيب، وإذا فتحت باب الظنون في الغيب لم تنغلق؛ لأن كل إنسان له ظنه، وكل إنسان يظن ويتوهم ويخطر على باله من الأوهام ومن الأشياء الظنية أشياء كثيرة، فلذلك لا يمكن أن يقال بتأويل هذه النصوص؛ لأن التأويل باطل أصلاً، وقول بالظنون والأوهام في أمور الغيب، وأمور الغيب لا مجال للظنون والأوهام فيها، ولا مجال للتخرص ولا للعقليات ولا للاجتهاد والرأي فيها؛ لأنها غيب، ولو علمها الناس وظنوا فيها ظنوناً لما كانت غيباً. الأمر الثاني: أن من أول في أمر غيبي لزمه أن يؤول في الأمور الأخرى، ولو لم يلتزم احتج بتأويله غيره، فلذلك لما أولت المؤولة أفعال الله تعالى قال لهم الذين أولوا الصفات: إذا أولتم في الأفعال جاز لنا نؤول في الصفات، ولما أولوا الصفات قال لهم الجهمية: ما دمتم أولتم الصفات فمن حقنا أن نؤول الأسماء، فلما وصلوا إلى هذا الحد جاءت الباطنية فقالوا: ما دمتم فتحتم باب التأويل فنحن نؤول الدين كله، فالدين له ظاهر وباطن، حتى ما يتعلق بأركان الإسلام وأركان الإيمان! وهكذا انفتح باب التأويل، وهذا ما أراده الشيخ. يقول: فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب أسهل؛ لأن من تأول ما يتعلق بأفعال الله وأسمائه وصفاته ورؤيته ونحو ذلك فقد جرؤ على الله وتأول ما يتعلق بالله، فجرأته على ما يتعلق بالمخلوقات من باب أولى حتى الغيبية منها. فهذا الرد يرد به أهل السنة على كل من تأول حتى ولو في مسألة صغيرة، يقال له: إذا فتحت التأويل فما الذي يمنع غيرك من أن يزيغ، ثم الثالث يوسع التأويل، ثم الرابع يجعل الدين كله له تأويل، فلا ينغلق باب التأويل، وليس هناك ضابط شرعي ولا عقلي قاطع يوقف الناس عند حد في التأويل، فإذا فتحوا الباب أول كلٌ على مزاجه، كالحال في أدلة الرؤية.

التأويل الفاسد وضرره على الدين والدنيا

التأويل الفاسد وضرره على الدين والدنيا قال رحمه الله تعالى: [وهذا الذي أفسد الدنيا والدين، وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية! فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟! وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفين، ومقتل الحسين، والحرة، وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، إلا بالتأويل الفاسد؟!]. توسع الشارح في مفهوم التأويل الفاسد، ويحق له ذلك، ويقصد أن التأويل إذا بدأ انفتح الباب لأهل الأهواء لتأويل كل شيء من الدين ومن مناهج السنة ومن سبيل المؤمنين، وضرب أمثلة تبدو وكأنها بعيدة في المعنى، ولكنها في الحقيقة أمثلة واقعية لمعنى التأويل على بابه الواسع، ليس في الصفات وفي العقائد فحسب، بل حتى فيما يتعلق بمناهج السنة، فضرب مثالاً بقتل عثمان رضي الله عنه، فالذين قتلوا عثمان حججهم الظاهرة لا تستهدف عثمان رضي الله عنه بشخصه، فليسوا ممن قصدوا العدوان أو التشفي الشخصي من عثمان، إنما تأولوا، وتأولهم أنهم زعموا أنه أخل بما كان عليه أبو بكر وعمر، وأنه أخل بمبدأ توزيع الأموال شرعاً، وأنه أخل بمبدأ توزيع المناصب والولايات، ثم بدءوا يعمقون هذه النقمة في القلوب حتى أغاظوا قلوب الناس على أمير المؤمنين من باب التأول وقالوا: إن أردنا إلا الإحسان وإن أردنا الخير وإن أردنا إلا الإصلاح، وكانت نهاية هذا التأول قتل عثمان رضي الله عنه وإباحة دمه على أن هذا دفع للمنكر. ثم بعده ما جرى يوم الجمل وصفين، وهي الفتنة التي حصل فيها خلاف بين المسلمين، فكل ما حدث فيها من إراقة دماء ونحو ذلك كان بتأول، فالذين قتلوا الزبير بن العوام أو الذين قتلوا طلحة أو الذين قتلوا علي بن أبي طالب بعد ذلك متأولة يقولون: أردنا أن نريح الأمة من هؤلاء؛ لأن اختلافهم أدى لافتراق الأمة واختلافها، وهكذا الفتن أصحابها دائماً يتأولون. ثم مقتل الحسين، ومقتل الحسين حدث فيه تأول من جهتين: الأولى: جهة أن الرافضة الذين خذلوه تأولوا أنهم يجوز لهم أن يخرجوا به على السلطان زعماً منهم أنهم بذلك يقرون الحق في الإمامة له، وأنهم بذلك يدفعون الشرور والمظالم التي كان عليها بنو أمية. والثانية: أن الحسين رضي الله عنه بنفسه تأول في جواز خروجه بأنه يستجيز ذلك لمصلحة المسلمين، لكن هذا التأول أدى إلى غير المصلحة كما هو معلوم. كذلك قصة الحرة، والحرة المقصود بها ما حدث من قيام أحداث وشباب أهل المدينة ضد يزيد بن معاوية مع أن شيوخهم وكبارهم نهوهم، وبعضهم كان معهم؛ لأن الفتنة إذا حدثت عمت الصالح وغير الصالح والكبير والصغير، لكن في أول أمرها لم يشارك فيها إلا بعض حدثاء الأسنان وبعض الغيورين وبعض أصحاب العواطف دون العلماء، فالعلماء نهوهم، فلما واجهوا جيش الدولة الأموية وحدث أن انهزموا انتهكت المدينة ووقع من الشر والفساد في دين الناس ودنياهم وفي أعراضهم وفي أموالهم وفي عقائدهم ووقع من الفتن والافتراق والأهواء بعد هذه الوقعة ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، حتى قال بعض السلف: إن المدينة منذ وقعة الحرة لم تعد هي المثال الذي يقتدى به في السنة، كان الناس يقولون في ذلك الوقت: إذا اختلف أهل العلم في شيء فانظروا ماذا يفعل أهل المدينة. إلى أن وقعت الحرة، وبعد وقعة الحرة ذهبت ريحهم وأعمت الصالح والطالح ومن شارك فيها ومن لم يشارك، وقتل الأبرياء وانتهكت الأعراض ونهبت الأموال وفسد دين الناس ودنياهم، وما ذلك إلا بالتأول الفاسد من قبل الذين كانوا يقولون: إن يزيد بن معاوية فاجر وظالم، ويحدث منه كذا، ويبذر بالأموال ويفعل ويفعل، ولا يسعنا إلا أن نقوم ضده وأن نزيل المنكر، فالذي حصل ما حصل إلا بالتأويل الفاسد. وكذلك الخوارج استحلوا دماء المسلمين جميعاً بتأويل فاسد، حيث أخذوا النصوص وطبقوها على غير وجهها واحتسبوا بذلك عند الله عز وجل، فكانوا يقتلون الصحابة تديناً، وكذلك المعتزلة ما فعلوا ما فعلوه إلا من باب التأول؛ لأنهم قالوا: علماء المسلمين لم يكن عندهم من العلم وإدراك الحقائق العقلية والفلسفية، ولم يكن عندهم من إدراك ما عليه أصحاب الملل والنحل ما يجعلهم يدفعون عن الإسلام، فقاموا بمنهج كلامي زعموا أنهم ينصرون به الدين وينصرون الحق، وكذلك الرافضة وبقية الفرق.

الآيات القرآنية الدالة على الرؤية

الآيات القرآنية الدالة على الرؤية قال رحمه الله تعالى: [وإضافة النظر إلى الوجه الذي هو محله في هذه الآية وتعديته بأداة (إلى) الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلاف حقيقته وموضوعه صريح في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله، فإن النظر له عدة استعمالات بحسب صلاته وتعديه بنفسه، فإن عدي بنفسه فمعناه التوقف والانتظار، كقوله: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد:13]، وإن عدي بـ (في) فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] وإن عدي بـ (إلى) فمعناه: المعاينة بالأبصار، كقوله تعالى: {انظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام:99]، فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر؟! وروى ابن مردويه بسنده إلى ابن عمر قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] قال: من البهاء والحسن {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، قال: في وجه الله عز وجل). عن الحسن قال: نظرت إلى ربها فُنُضِّرت بنوره. وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23]، قال: تنظر إلى وجه ربها عز وجل. وقال عكرمة: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة:22] قال: من النعيم، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] قال: تنظر إلى ربها نظراً. ثم حكى عن ابن عباس رضي الله عنهما مثله، وهذا قول كل مفسر من أهل السنة والحديث. وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] قال الطبري: قال علي بن أبي طالب وأنس بن مالك رضي الله عنهما: هو النظر إلى وجه الله عز وجل. وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجهه الكريم، فسرها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعدا يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟! فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه، وهي الزيادة). ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أخر معناها أن الزيادة: النظر إلى وجه الله عز وجل، وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم، روى ابن جرير عن جماعة منهم: أبو بكر الصديق وحذيفة، وأبو موسى الاشعري، وابن عباس رضي الله عنهم. وقال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي. وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]؟ فقال الشافعي: لما أن حجب هؤلاء في السخط كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضا].

الرد على المعتزلة بإثبات الرؤية فيما استدلوا به على نفيها من النصوص

الرد على المعتزلة بإثبات الرؤية فيما استدلوا به على نفيها من النصوص قال رحمه الله تعالى: [وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، وبقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فالآيتان دليل عليهم، أما الآية الأولى: فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه: أحدها: أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال]. المتكلمون يقولون: لا يجوز عليه كذا ويجوز منه كذا، ويقصدون بالجواز هنا الإمكان أو الوجود الذي هو الوقوع، فقولهم: (لا يجوز) يعني: لا يقع أو لا يليق ولا يحصل، فالمؤلف هنا أراد أن يقول: إنه لو كانت الرؤية مستحيلة كما يزعم المعتزلة والجهمية ومن نحا نحوهم فإنه لا يعقل ولا يقع من موسى عليه الصلاة والسلام -وهو أعرف الناس بربه في وقته- أن يسأل ما لا يقع ولا يمكن، أو ما يكون مستحيلاً؛ لأن الأنبياء معصومون فيما هو دون ذلك، فكيف بهذا الأمر؟ فلا يظن بكليم الله -وهو موسى عليه السلام- أن يسأل ما لا يمكن أو أن يسأل المستحيل، لاسيما أنه متعلق بالله عز وجل، وهو من أعرف الناس بالله، فلو كانت الرؤية مستحيلة لما سأل موسى هذا السؤال، ولعصمه الله عز وجل من أن يسأل سؤالاً غير لائق بالله عز وجل؛ لأنه سأل سؤالاً متعلقاً بذات الله. قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح عليه السلام ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله، وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]]. هذا معناه أن الله عز وجل أنكر على نوح عندما سأل نجاة ابنه، مع أن هذه المسألة لا تتعلق بذات الله ولا بصفاته، ومع ذلك أنبه الله عز وجل ووبخه، كيف يسأل نجاة ابنه وهو يعلم أنه كافر بالله؟! بمعنى أن نبياً من الأنبياء وعظه الله أن يسأل مثل هذا السؤال ونهاه، فلو كان موسى عليه السلام سأل أمراً لا يليق بالله وهو الرؤية، وكانت الرؤية مستحيلة ولا تصح لنبهه الله عز وجل على أن هذا لا يجوز، كما نبه نوحاً على ألا يسأل ما هو دون ذلك. قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أنه تعالى قال: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، ولم يقل: إني لا أرى، أو: لا تجوز رؤيتي، أو: لست بمرئي. والفرق بين الجوابين ظاهر، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاماً فقال: أطعمنيه فالجواب الصحيح: إنه لا يؤكل. وأما إذا كان طعاماً صح أن يقال: إنك لن تأكله، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى عليه السلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار؛ لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى. يوضحه الوجه الرابع: وهو قوله: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف؟!]. معنى هذا أن الجواب الذي أجاب الله به سؤال موسى يدل على الإمكان، بمعنى أنه يمكن في الآخرة، لكنه في الدنيا غير وارد، فالجواب يدل على إمكان الرؤية في الآخرة، بدليل أن الله عز وجل حينما سأله موسى الرؤية ما قال: إني لا أرى، أو: لا تمكن رؤيتي، أو: لا تصح ونحو ذلك، إنما قال: (لن تراني)، ومعنى هذا أنه لن يراه بطاقته الموجودة؛ إذ ليس عنده القدرة والاستعداد في الدنيا للرؤية، ولم يقل: إني لا أرى، ولو قال: لا أرى لتحقق هذا في الدنيا والآخرة؛ ولأن (لن) تأتي مؤقتة بحسب الحال، فإذا تغير الحال تغير الجواب. وضرب الشارح لذلك مثلاً في الفرق بين (لن) و (لا)، فلو أن إنساناً في كمه تفاحة ولقيه إنسان جائع فقال: أطعمني مما معك، وليس في نيته أن يطعمه أبداًَ؛ فالجواب على أحد احتمالين: إما أن يقول: لن تأكله. بمعنى أنه ما جاء الجواب على أنه لا يؤكل، إنما جاء الجواب على أنه منعه لعارض آخر، إما لحاجة وإما لغيرها. لكن لو قال: الذي معي لا يؤكل فالجواب غير صريح وغير جيد وغير مناسب؛ لأنه يكون كذب عليه، فإذا قال: لن تأكله فربما أطمعه، فلو كان فيه القوة لاغتصبه وأخذ الذي معه؛ لكن إذا قال: لا يؤكل فربما يتصور أنه حجر أو نحو ذلك. فالمقصود أن الفرق بين (لن) و (لا) في مثل هذا الجواب أن (لن) يعني الامتناع لأي عارض، و (لا) في مثل هذه الحالة لا تعني الامتناع لعارض، فلذلك لم يأت الجواب بـ (إني لا أرى) أو نحو ذلك، إنما جاء بلفظ (لن تراني). قال رحمه الله تعالى: [الخامس: أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام، والكل عندهم سواء]. هذه الجملة فيها غموض، وكل كلام المتكلمين فيه غموض ومحارات وألغاز وأوهام، لكن أحياناً قد يضطر بعض أهل العلم إلى أن يخوضوا بمصطلحات المتكلمين للرد عليهم بها، أو رد شبهاتهم، وإلا فمن غير اللائق أن تكون مثل هذا العبارات ومثل هذه الأمثال في كتب أهل السنة والجماعة. فالشارح في الوجه الخامس

وجه إثبات الرؤية في قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار)

وجه إثبات الرؤية في قوله تعالى: (لا تدركه الأبصار) ثم جاء المعتزلة والجهمية بشبهة أخرى حول آية أخرى لبسوا بمعناها على الناس، وهي قوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} [الأنعام:103]، فقالوا: (لا تدركه) بمعنى: لا تراه، وهذا يشمل الدنيا والآخرة، وفي معرض الرد على استدلالهم بهذه الآية ذكر الشارح جملة من الردود الجيدة التي نقلها عن أهل العلم. قال رحمه الله تعالى: [وأما الآية الثانية: فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف وهو: أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية]. المقصود بالصفات الثبوتية الصفات التي تتضمن إثبات كمال، سواء كانت في سياق الإثبات أو في سياق النفي، فالنصوص التي وردت في تنزه الله عز وجل كلها تدل على صفات ثبوتية، مثل قوله عز وجل: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4]، وقوله عز وجل: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]، ونحوها من الآيات التي تنفي عن الله النقص، فإنها لا بد من أن تدل على صفات ثبوتية في المقابل، كما سيبين الشارح، فالمقصود بالصفات الثبوتية الصفات التي تدل على ثبوت الكمال، سواء كانت بلفظ الإثبات أو بلفظ النفي. قال رحمه الله تعالى: [وأما العدم المحض فليس بكمال، فلا يمدح به، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً]. يريد بهذا أن يمهد للرد عليهم في قولهم بأن قول الله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] معناه: لا تراه. يريد أن يمهد بهذه القواعد ليثبت أن هذه الآية دليل على إثبات الرؤية لا على نفيها؛ لأن قولهم: لا يرى تشبيه له بالعدم، تعالى الله عما يزعمون؛ فقولهم بأن الله لا يرى تشبيه له بالمعدوم؛ لأن الذي لا تمكن رؤيته هو المعدوم، أما المخلوق فتمكن رؤيته على أي وجه من الوجوه التي يقدر الله بها عباده على الرؤية، فكأنه يريد أن يقول لنفاة الرؤية: قولكم: إن معنى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]: (لا تراه) تشبيه له بالمعدوم؛ لأن الشيء الذي لا يرى أو لا تمكن رؤيته ولو بما يقدر الله به عباده على الرؤية هو المعدوم، وهو الذي يقبل الوصف السلبي المحض؛ لأنك إن نفيت عنه النفي المطلق قبل، وإن نفيت عنه الإيجاب قبل؛ لأنه لا يقبل الوصف، ومن هنا لا يقبل الرؤية، أما ما يقبل الوصف ويقبل التسمية ويقبل الكمال فلا بد من أن يقبل الرؤية. قال رحمه الله تعالى: [وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلهيته وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته. ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً؛ فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فإذاً: المعنى: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، فقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، يدل على كمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا} [الشعراء:61 - 62] فلم ينف موسى الرؤية، وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يرى ولا يدرك، كما يعلم ولا يحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية، كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه]. يعني: لا يتمكن الرائي لأي مخلوق عظيم وكبير من أن يحيط بحدوده، فإذا كان هذا في المخلوقات -ولله المثل الأعلى- فالله عز وجل أعلى وأعظم وأجل من أن تدركه الأبصار، أي: تحيط به على جهة الإدراك، كما قال أهل العلم وكما قال أهل اللغة: إن الإدراك معنىً زائد على الرؤية؛ لأنك قد ترى الشيء لكن لا تدركه، فقوله عز وجل: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] لا يعني: لا تراه، إنما تراه ولكن لا تدركه، بل ربما يوحي معنى الآية -كما قال بعض أهل العلم- بأن قوله: (لا تدركه الأبصار) يعني: أنها تراه، وإلا فلماذا نفى الإدراك؟! فلو تأملتم بحس لغوي لأدركتم فعلاً أن معنى الآية يُفهِم أن المؤمنين يرونه لكن لا يدركونه تعالى، فالله عز وجل تراه الأبصار ولكن لا تدركه، ول

شرح العقيدة الطحاوية [31]

شرح العقيدة الطحاوية [31] لقد تواترت أحاديث إثبات الرؤية عن النبي صلى الله عليه وسلم بما لا يدع مجالاً للشك في إثباتها، فقد رواها نحو من ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قالها، ومع هذا فهناك من أنكر الرؤية من الفرق الضالة كالمعتزلة والجهمية وهناك من أول نصوصها، وفسرها بغير ما وردت به النصوص، كالأشاعرة والماتريدية، وكلهم قد جانبوا الصواب، وركبوا البدعة واتبعوا الهوى والشيطان.

بعض الأحاديث المتواترة الدالة على ثبوت رؤية المؤمنين ربهم في الجنة

بعض الأحاديث المتواترة الدالة على ثبوت رؤية المؤمنين ربهم في الجنة

حديث أبي هريرة رضي الله عنه

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم الدالة على الرؤية فمتواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن. فمنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن ناساً قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا يا رسول الله. قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترونه كذلك). الحديث، أخرجاه في الصحيحين بطوله]. مثل هذا الحديث صريح في إثبات الرؤية، بل إنه محكم، وكثير من أحاديث الرؤية محكمة في إثبات الرؤية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يتحدث عن عظمة الله عز وجل وعن نعيم الجنة، فسأله بعض الصحابة سؤالاً صريحاً في الرؤية موجهاً إليه صلى الله عليه وسلم، وهو المبلغ عن ربه، فقالوا: (هل نرى ربنا يوم القيامة؟)، وهم عرب، والنبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم ويتكلم بلسان عربي مبين، وليس في سياق الحديث -وكذلك الأحاديث الأخرى- ما يدل على أن المقصود بالرؤية غير رؤية البصر، بل الحديث يشهد آخره لأوله: (هل نرى ربنا؟)، فإذا تكلم المتكلم عن الرؤية في مثل هذا السياق فهل تنصرف لغير الرؤية البصرية؟! و A لا، ثم بعد ذلك تأكيد ذلك بتشبيه رؤية الله عز وجل ووضوحها وتحققها برؤية الناس للشمس والقمر ليس دونهما سحاب، والشمس والقمر بأي شيء يريان سوى البصر؟! وهل يستطيع الأعمى الكفيف أن يدعي أنه رأى الشمس وهو لا يملك الآلة للرؤية؟! وكذلك الإشارة إلى السحاب، فالسحاب شيء مادي يحجب العيون عن الرؤية، ولا يحجب القلوب، ولو كان الأمر كما قالت المعتزلة: إن الرؤية قلبية، لما كان لذكر السحاب فائدة؛ لأن السحاب هو الذي يحجب رؤية العين، لكنه لا يحجب رؤية القلب؛ لأن الرؤية القلبية أمر ليس بمادي ولا يمكن أن يخضع للعوائق المادية المنظورة. إذاً: فالإشارة إلى السحاب دليل على أن الرؤية بصرية فعلاً؛ لأن السحاب إنما يحجب أبصارنا عن رؤية الشمس والقمر، ومن هنا صار الحديث محكماً ودليلاً قاطعاً على أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم في الجنة على ما يليق بجلاله.

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه

حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال رحمه الله تعالى: [وحديث أبي سعيد الخدري أيضاً في الصحيحين نظيره، وحديث جرير بن عبد الله البجلي قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: إنكم سترون ربكم عياناً كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته) الحديث أخرجاه في الصحيحين. وحديث صهيب رضي الله عنه المتقدم رواه مسلم وغيره]. في هذا الحديث زيادة فائدة، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرؤية في معرض نظره بعينه إلى القمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة عنده جلوساً، فنظر إلى القمر، فلما نظر إلى القمر تذكر الرؤية في الآخرة فقال: (إنكم سترون ربكم)، وليس المقصود تشبيه القمر بالله عز وجل، إنما المقصود تشبيه رؤية الله عز وجل في الجزم بها ووضوحها وتأكيدها برؤية القمر ليس دونه سحاب ليلة أربع عشرة، إذ هو أوضح ما يكون، ثم في نفس النص قال: (إنكم سترون ربكم عياناً) وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، ومعنى (عياناً): بالعين الباصرة، فهذا تصريح بالعيان الذي هو فعل العين الباصرة.

حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه

حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال رحمه الله تعالى: [وحديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) أخرجاه في الصحيحين]. هذا أيضاً فيه تصريح بإمكان الرؤية، وقد أورد هذا الحديث بعض المعاصرين الذين أنكروا الرؤية تبعاً لمن سبقوه، لكنه ذنب، فزعم أن الرؤية غير ممكنة؛ لأن الله عز وجل جعل بيننا وبينها رداء الكبرياء! مع أنه دليل على إمكان الرؤية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما نفى رؤية الله عز وجل من قبل عباده، إنما ذكر الحاجب الذي يحجبهم عن الرب، فما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء، وهذا أمر متعلق بقدرة الله عز وجل، فإذا رفع الله عز وجل عنهم هذا المانع رأوه، فهو دليل على أن الرؤية ممكنة لكنها دونها حاجز، وهذا الحاجز خاضع لقدرة الله. إذاً: الرؤية ممكنة، لكن الله عز وجل حجبهم برداء الكبرياء، والله عز وجل الذي حجبهم برداء الكبرياء قادر على أن يرفع هذا الحجاب إذا شاء، وقد ثبت أنهم يرونه تبارك وتعالى.

حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه

حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال رحمه الله تعالى: [ومن حديث عدي بن حاتم: (وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فليقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى يا رب) أخرجه البخاري في صحيحه]. هنا أشار إلى أمرين: إلى مسألة الرؤية والتكليم، فقوله: (ليس بينه وبينه حجاب) يعني: عن الرؤية، (ولا ترجمان) يعني: عن التكليم، وهذا متعلق بلقاء الله عز وجل يوم القيامة في المحشر قبل الرؤية التي تثبت للمؤمنين، متعلق بما يسميه أهل العلم الرؤية العامة، وهي أن جميع الخلائق يوم القيامة يرون ربهم، لكن الرؤية تختلف من شخص إلى آخر، فالمؤمن يرى ربه رؤية المسرور، والكافر يرى ربه وهو حسير البصر نادم كئيب خجل من ربه عز وجل، فلا يتمتع بالرؤية كما يتمتع بها المؤمن، فلذلك قال: (وليلقين الله أحدكم يوم القيامة)، فليس المقصود به مجرد اللقاء العام؛ لأن هذا لقاء خاص لكل فرد، (وليس بينه وبينه حجاب) عن الرؤية (ولا ترجمان) في مسألة سماع كلام الله عز وجل، فيرى الله عز وجل ويسمع كلامه، وهذا على القول بالرؤية العامة، وهل هي بصرية خالصة أو قلبية أو بعضها بصري وبعضها قلبي، أو هي بصرية للمؤمنين ولغيرهم، أو أن الكفار والمنافقين يدركون أن هذا ربهم لكن لا يستطيعون رؤيته مما لقوا الله به من أعمال غير صالحة، هذا مسألة خلافية.

دلالة الأحاديث النبوية على إثبات الرؤية والتكليم والمناداة والتجلي وغير ذلك من صفات الله

دلالة الأحاديث النبوية على إثبات الرؤية والتكليم والمناداة والتجلي وغير ذلك من صفات الله قال رحمه الله تعالى: [وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابياً، ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول قالها، ولولا أني التزمت الاختصار لسقت ما في الباب من الأحاديث، ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية؛ فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء إذا شاء، وأنه يأتي الخلق لفصل القضاء يوم القيامة، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك، إلى غير ذلك من الصفات التي سماعها على الجهمية بمنزلة الصواعق].

ذكر ما روي في إثبات الصوت وما قيل في ذلك

ذكر ما روي في إثبات الصوت وما قيل في ذلك أشار المحقق في الهامش إلى أن حديث: (يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) ضعيف، وخلص إلى أنه ليس هناك ضرورة لإثباته، وليس من منهج السلف هذا الأسلوب، فالسلف رحمهم الله إذا ثبت عندهم الحديث قالوا به وقالوا بمقتضاه. وإثبات الصوت لله عز وجل اختلف في أحاديثه، أما مسألة النداء أن الله ينادي عباده، وأنه عز وجل يكلمهم؛ فهي ثابتة بنصوص قطعية، فمسألة الصوت وردت فيها أحاديث صححها الكثير من أهل العلم، وبعضهم حسنها، وبعضهم ضعفها، والضعيف إذا لم يرتق إلى درجة القبول لا يثبت به صفة. لكن الراجح -والله أعلم- أن أحاديث إثبات الصوت مرتبطة بأحاديث إثبات النداء، وأحاديث إثبات التكليم والنداء ثابتة بأسانيد صحيحة، ولذلك قال كثير من السلف: إنه لا يعقل أن الله عز وجل ينادي عباده ويكلمهم بمجموعهم وبأفرادهم بغير صوت؛ لأنه ورد في النصوص أن العباد يسمعون كلام ربهم، والسماع لا يكون إلا لصوت، هذا قول السلف، فلذلك رجحوا إثبات صفة الصوت بناءً على أن الأحاديث التي وردت فيها حسنة، وبعضهم صححها، وقد أشار الألباني في أحاديث إثبات الصوت إلى هذا الحديث نفسه، أشار إليه في سلسلة الأحاديث الصحيحة وحسنه وصححه، وأيضاً ذكره في صحيح الجامع الصغير. إذاً: فمسألة الصوت -كما قال السلف- مرتبطة بمسألة إثبات النداء وإثبات الكلام لله عز وجل على ما يليق بجلال الله، بغير تكييف ولا تشبيه، فإذا عقل أن يثبت في النصوص النداء والتكليم فكذلك يثبت الصوت إذا ورد بأسانيد صحيحة، فما أدري لماذا جنح المحقق -عفا الله عنه- إلى التنصل من إثبات هذه الصفة، وليته أشار إلى أن الخلاف فيها وارد؛ لئلا يشعر كلامه بالجزم بنفيها، أما أن الخلاف فيها وارد فصحيح؛ لأن بعض أهل العلم قالوا: لا يلزم من إثبات النداء وإثبات التكليم إثبات الصوت، فهؤلاء لم يثبت عندهم حديث الصوت، أما الذين ثبت عندهم فلا إشكال عندهم على الإطلاق.

موقف منكري الرؤية تجاه نصوصها

موقف منكري الرؤية تجاه نصوصها ومما ينبغي علمه أن الذين أنكروا الرؤية صنفان: صنف ينكر الأحاديث إطلاقاً، ويؤول الآيات مثل قوله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، وكقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26]، وقوله عز وجل: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35]، ونحو ذلك من الآيات الصريحة في إثبات الرؤية، والنبي صلى الله عليه وسلم فسرها في أحاديث صحيحة بإثبات الرؤية، فهذه الآيات يؤولونها، والأحاديث يردونها حتى وإن كانت صحيحة. وصنف آخر يؤول الآيات ويؤول الأحاديث التي لا يمكن ردها، لكنَّه تأويل متعسف، فهم يفسرون الرؤية بأنها قلبية أحياناً، وأحياناً يقولون: يرى إلى غير جهة مع نفي الفوقية والاستواء والعلو، وهذا مذهب متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فإنهم يقولون بالرؤية لا في جهة، مع أنهم في الجملة لا يعدون من نفاة الرؤية، لكن تفصيلاتهم حول الرؤية تشبه قول المعتزلة، بل يكاد بعض أهل العلم يقول: إنهم يقولون بنفي الرؤية، حتى إن المعتزلة قالوا لهم: أنتم تنفون الرؤية بهذا، فإذا قلتم: يرى إلى غير جهة فهذا نفي للرؤية، لأنه لا تعقل رؤية إلى غير جهة، وإذا قلتم يرى فأثبتوا الاستواء والفوقية والعلو.

أصول دين الإسلام لا تعلم من غير كتاب الله وسنة رسوله

أصول دين الإسلام لا تعلم من غير كتاب الله وسنة رسوله قال رحمه الله تعالى: [وكيف تعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله؟!]. يشير بذلك إلى أن الذين أنكروا الرؤية لم يكن إنكارهم يعتمد على أدلة من الكتاب والسنة، بل كانت أصولهم معارضة للكتاب والسنة، والذين تولوا كبرهم في ذلك هم الجهمية والمعتزلة، فالجهمية والمعتزلة مصادر التلقي عندهم تتميز بما يأتي: أولاً: لا تنحصر في الكتاب والسنة. ثانياً: لا يقدمون فيها الكتاب والسنة على المصادر الأخرى، بمعنى أنهم حينما ضلوا فأشربوا قواعد عقلانية قرروا بها العقيدة ووقعوا أيضاً في تقديم هذه القواعد على الكتاب والسنة وتحكيمها. فالجهمية وكذلك المعتزلة وكل من أنكر الرؤية شبهتهم عقلية فلسفية وليست من الوحي في شيء، فلذلك لما قيل لهم: هذا كلام الله ورسوله جاءوا بداهية أخرى وقالوا: كلام الله ورسوله نعود به إلى العقل، فما صدقه العقل أخذنا به وما كذبه كذبناه أو رددناه أو أولناه، وهكذا الأهواء يجر بعضها إلى ما هو أشد إلى أن يقع صاحب الهوى في كفر صريح وهو يدعي أنه ينصر الحق. إذاً: هم على أصول غير الكتاب والسنة، بل أخذوها عن آراء وقواعد الفلاسفة المبنية على الأوهام والتخرصات. قال رحمه الله تعالى: [وكيف تعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! وكيف يفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحاب رسوله الذين نزل القرآن بلغتهم؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)، وفي رواية: (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)، وسئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن قوله تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس:31]: ما الأب؟ فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟!]. المقصود هنا أن أمور العقيدة لا تؤخذ إلا من الكتاب والسنة، وأن نصوص الكتاب والسنة لا تفسر إلا عن علم، وأتى بكلام أبي بكر رضي الله عنه، حيث توقف في تفسير أمر من عالم الشهادة، فالأب ليس من أمور الغيب، إنما هو من النعم التي أنعم الله بها على عباده، لكن نظراً إلى أن أبا بكر رضي الله عنه وقتها لم يكن يجزم بمعنى الأب -لأن العرب تفسر الأب بأكثر من تفسير- توقف عن أن يفسرها؛ نظراً لأنها من كلام الله، وهو لا يجزم بمراد الله عز وجل، وهذا في أمور تتناولها عقول الناس، وهو من عالم الشهادة، فكيف بالأمور التي لا تدركها العقول وهي أمور العقيدة كالرؤية وكلام الله عز وجل؟!

شرح العقيدة الطحاوية [32]

شرح العقيدة الطحاوية [32] الرؤية ثابتة بثبوت أدلتها وتواترها تواتراً لا يدع مجالاً للشك في إثباتها، ومع ذلك فقد أنكرها طوائف من أهل الكلام والمعتزلة، فبعضهم أنكروها إنكاراً صريحاً، وبعضهم أثبتوها بما يوافق أصولهم العقدية الباطلة، ولازم قولهم هو إنكارها، فإنهم قالوا: يرى لا في جهة، وهذا قول باطل يرده العقل والفطرة السليمة فضلاً عن الأدلة الشرعية، وهؤلاء هم الأشاعرة ومن حذا حذوهم من المتكلمة، وإنكار الرؤية تماماً هو قول الجهمية والمعتزلة ومن حذا حذوهم.

خطأ طريقة المتكلمين في إثبات الرؤية ولازم قولهم

خطأ طريقة المتكلمين في إثبات الرؤية ولازم قولهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيهاً لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه، وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة؟! ومن قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله، فإما أن يكون مكابراً لعقله، أو في عقله شيء، وإلا فإذا قال: يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة]. في هذه المسألة يرد على المتكلمين من الأشاعرة ونحوهم الذين أثبتوا الرؤية بكلام لم يعهد عن السلف ولم يرد في النصوص، بل يناقض النصوص، وسبب ذلك جدالهم للجهمية والمعتزلة الذي ألجأهم إلى مثل هذه المقولات، وأي إنسان يصاب بالجدل لا بد من أن يتأثر بأقوال خصومه؛ لأن الجدل -خاصة في أمور الغيب وأمور الدين التي لا تؤخذ إلا من النصوص- لابد من أن يؤدي بصاحبه إلى أن يسلك مسالك عقلية لا يتخلص منها ويأخذ من خصومه ما لم يكن له على بال، بل يلزم نفسه في الخصام والجدل والتمحل بأمور قد تخرج عن أصول العقيدة الصحيحة، فهؤلاء المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية أثبتوا الرؤية؛ لأنهم ليسوا ممن ينكر ما ثبت بنص الشرع، بل يثبتون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن من حيث تقرير العقيدة يقررون العقيدة بالعقول، فأصول العقيدة يقررونها بالعقول، فلما لجئوا إلى تقرير الرؤية بالعقل مع الشرع، والعقل لا طاقة له بمثل هذه الأمور، ولا يمكن أن يطلع الغيب؛ اضطروا إلى أن ينفوا أشياء لم تنف بالنصوص وأن يثبتوا أشياء لم تثبت في النصوص، فمما نفوه مما لم يرد في النصوص أن قالوا: إن الله يرى لا إلى جهة أو إلى غير جهة، وسبب ذلك أنهم تأثروا بالمعتزلة في نفي العلو بالذات لله عز وجل، ونفوا الاستواء كما يقره السلف، ونفوا الفوقية كما تفهم من الشرع، فلما نفوا العلو أو أولوه ونفوا الفوقية أو أولوها، وكذلك الاستواء اضطروا حين أثبتوا الرؤية إلى أن يقولوا: يرى إلى غير جهة؛ لأنهم لو قالوا: إن الله عز وجل يراه المؤمنون ولم ينفوا الجهة للزم من إثبات الرؤية إثبات العلو وإثبات الفوقية؛ لأن كل ما يرى لابد من أن يرى إلى جهة مقابل الرائي، وليس المقصود بالجهة الجهة المخلوقة، إنما الجهة التوجه، توجه البصر، فالبصر لا بد من أن يتوجه إلى شيء، والله عز وجل شيء، وله وجود ذاتي سبحانه، فإذا رأته أبصار المؤمنين يوم القيامة في الجنة فإنما يرونه فوقهم، تعالى الله عما يزعم الذين نفوا العلو، فالله عز وجل يراه المؤمنون من فوقهم، والفوق كمال، والعلو كمال، لكن لا يلزم من إثبات الفوقية والعلو أن نلتزم لفظ (جهة) إلا على سبيل قصد العلو بذاته أو الفوقية بذاتها. أما الجهة التي هي من المخلوقات فلا تليق بالله عز وجل؛ لأن الله عز وجل لا يحويه شيء من مخلوقاته، فهو فوق جميع الخلق، ومن هنا تلازم إثبات الرؤية مع إثبات الفوقية والعلو، كما أنه أيضاً يجتمع في الرؤية تعلق القلب وتعلق البصر بالله عز وجل. فالأشاعرة والماتريدية من أهل الكلام -لا المحدثون والفقهاء- الذين قالوا: يرى إلى غير جهة. رد عليهم فقال: هل تعقل الرؤية بلا مقابلة؟! وليس المقصود أن نشبه مقابلة رؤية المخلوق للخالق بمقابلة رؤية المخلوق للمخلوق، بل من المقصود هنا أن هناك أمراً يفهم من النص بالضرورة، وهو أن المؤمنين إذا رأوا ربهم -والله عز وجل فوق سماواته- فإنهم يرونهم من فوقهم. ومن قال: يرى لا في جهة فليراجع عقله، ويقصد الشارح بقوله: (لا في جهة) إلى غير جهة، ولا يقصد بـ (في) هنا الظرفية، وإلا فالله عز وجل ليس في جهة بمعنى أن هناك جهة تحويه، تعالى الله، إنما جهة العلو، فالعلو جهة والفوقية جهة، فمن هنا لا يصح أن يقال: يرى لا في جهة؛ لأن هذا نفي للعلو والفوقية، وكل هذا الكلام لا يليق بالمسلم أن يقوله في حق الله عز وجل، لكن السلف تكلموا به اضطراراً لنفي شبهات قال بها طائفة من المتكلمين حتى فتن بها العامة، فكان لا بد من الرد من قبل طلاب العلم. فيقول: إذا قالوا: يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته؛ فهذا افتراض جدلي يرده كل من سمعه بفطرته السليمة، أي: يرد بالفطرة بعيداً عن التقعيدات والتفلسف، ويحكى أن الجويني كان يقرر على المنبر تأويل الاستواء لله عز وجل وتأويل الفوقية الذاتية والعلو، فأراد أحد الطلبة أن يرد عليه بأيسر أسلوب، فقال له: أخبرني عن هذه الضرورة التي يجدها الداعي في قلبه إذا دعا الله عز وجل، يعني ضرورة التوجه إلى الله سبحانه، فالإنسان إذا دعا الله مستحضراً ما يقول يشعر بالتوجه إلى فوق، أليس كذلك؟ على أي وضع كان قائماً أو مضطجعاً، فإذا دعا الإنسان ربه دعاءً بقلبه مستحضراً شعر بجميع مشاعره أنه يتوجه إلى فوق، بل هذا في الحيوان، فالحيوان إذا مسته ضرورة شخص بصره إلى السماء. فالتوجه إلى الفوق فطرة فطر الله الناس عليها حين يلجئون إلى الله عز وجل. فإثبات فوقية الله عز وجل واستوائه على عرشه إثبات

سبب امتناع رؤية الله في الدنيا وسبب حصولها في الجنة

سبب امتناع رؤية الله في الدنيا وسبب حصولها في الجنة قال رحمه الله تعالى: [وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤية، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها، لا لامتناع في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكملَ الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته، ولهذا لما تجلى الله للجبل {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] بأنه لا يراك حي إلا مات، ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته، إلا من أيده الله كما أيد نبينا، قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأَمْرُ} [الأنعام:8]، قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته، فلو أنزلنا عليهم ملكاً لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ يشتبه عليهم: هل هو بشر أو ملك؟ ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولاً منا]. في هذا المقطع بين أن الرؤية يفرق فيها بين الدنيا والآخرة، فرؤية الله عز وجل في الدنيا غير ممكنة، ولما طلبها موسى حينما كلمه ربه، وطمع بعد الكلام في الرؤية بين له أنه لا يستطيع أن يرى ربه في هذه الدنيا؛ لأن الله لم يقدره، وليس بإمكانه وطاقته المحدودة في هذه الدنيا أن يرى ربه. فمن هنا لما تجلى الله عز وجل للجبل لم يطق الجبل رؤية الله، فالإنسان من باب أولى ألا يطيق؛ لأن قلبه مضغة ضعيفة، هذا في الدنيا. أما في الآخرة فإن الله عز وجل يقدر المؤمنين على الرؤية على نحو لا يكون إلا يوم القيامة، ولذلك فأحوال يوم القيامة كلها تخالف أحوال الدنيا في أمور كثيرة، فالشمس تدنو من الخلائق، ومع ذلك لا تحرقهم كما تحرقهم في الدنيا لو نزلت، وعلى هذا فإن الإنسان في هذه الدنيا غير قادر على رؤية الله؛ لأنه لم يقدره الله عليها، أما في يوم القيامة فالله عز وجل يحدث له من القدرة والتحمل ما لم يكن في الدنيا، والإنسان لا يطيق رؤية بعض المخلوقات التي خلقها الله تعالى فكيف يطيق رؤية الله؟! فهذه الشمس إذا حدق بعينه فيها مدة طويلة عجز وربما يعمى، وهي مخلوقة من مخلوقات الله عز وجل، فكيف يطمع في أن يرى الله؟! وهذا فيه رد على الذين يزعمون أنهم يرون ربهم بأعينهم، وأظن أن الشيطان يتبدى لهم، وهم طائفة من المتصوفة وأهل الضلال، فلا يمكن لأحد أن يرى ربه في الدنيا، بل يستحيل ذلك كل الاستحالة، فالنصوص التي وردت في نفي الرؤية تعني نفي الرؤية في الدنيا، والنصوص التي وردت في إثبات الرؤية تعني إثبات الرؤية يوم القيامة من قبل عباد الله عز وجل الذين ينعمهم الله عز وجل وينعم عليهم بالرؤية، نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً منهم.

مدخل المعتزلة لإلزام المتكلمين بنفي الرؤية

مدخل المعتزلة لإلزام المتكلمين بنفي الرؤية قال رحمه الله تعالى: [وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يرى لا في جهة أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يرى ولا في جهة]. هذه مسايرة اضطرارية لأهل الكلام، والسلف قاعدتهم: أنهم يحرمون مثل هذا الكلام إلا لضرورة، ومن الضرورات التي ألجأتهم إلى هذا الكلام: أن الناس ابتلوا بمثل هذه الشبهات في أيام طفرة المعتزلة وانتشار أفكارهم، ثم بعد ذلك حينما كثر علم الكلام وكثرت كتبه، وصار يدرس ويعلم في حلق التعليم في كثير من البلاد الإسلامية؛ صار الأمر يوجب ويلزم بيان خطأ هؤلاء في هذه المسائل العقدية الحساسة الخطيرة. وكلامه هنا بقوله: [وما ألزمهم المعتزلة]: يشير إلى متكلمة الأشاعرة والماتريدية الذين يقولون: إن الله عز وجل يرى لا إلى جهة أو إلى غير جهة، والعبارة واحدة. يقول بأن هذه فلسفة أصل منشئها كلام المعتزلة وشبهاتهم وقواعدهم العقلية، والمعتزلة -مع أنهم يعتمدون على القواعد العقلية- يردون هذا الكلام. وقوله: [وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام] يعني بالإلزام أنهم قالوا: حينما قلتم: يرى إلى غير جهة جانبتم العقل والمنطق والقواعد وأصول الاستدلال. وقالوا لهم: إن أخذتم بالقواعد العقلية التي أخذنا بها، وأخذت بها الجهمية، وسائر الفلاسفة؛ فيلزمكم أن تقولوا: لا يرى. وإذا أخذتم بالنصوص الشرعية التي أخذ بها أهل الحديث فيلزمكم أن تقولوا: يرى، وكلمة: (لا إلى جهة) لا معنى لها؛ لأنه لا يعقل أن يرى إلى غير جهة، فإن أثبتم الرؤية فأثبتوا العلو كما أثبته أهل السنة، وإن نفيتم الرؤية نفيتم العلو، وإن نفيتم العلو نفيتم الرؤية، فهما متلازمان، وهذا صحيح من الناحية المنطقية بالنسبة لقواعدهم التي يتحاكمون إليها. ثم قال: [لم يلزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه]، يعني: وافقوهم في نفي الفوقية لله عز وجل، ونفي العلو، وقالوا كلاماً ممرضاً للقلوب، ولولا أن المؤلف ساقه ما أجزت لنفسي أن أنطق بكلمة منه. لكن أقول: ما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه عز وجل لا داخل العالم ولا خارجه، وهذه فلسفة ليس لها معنى. ولا يجوز في حق الله عز وجل مثل هذا الكلام، لا يقال: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا أنه داخل العالم أو خارجه بالمعنى المفهوم في عالم الشهادة؛ لأن مسألة داخل وخارج، ولا داخل ولا خارج، هذه تصورات مبنية على تخيل الإنسان للمخلوقات، فما هو داخل وخارج إنما هو علم الشهادة، والله عز وجل أعظم وأجل، وهو سبحانه ليس كمثله شيء، وهو سبحانه بكل شيء محيط، وهو الحي القيوم. فلذا لا يجوز مثل هذا الكلام نفياً ولا إثباتاً، بل يثبت ما أثبته الله لنفسه، وينفى ما نفاه الله عن نفسه، ولا يجوز للناس أن يزيدوا على ذلك؛ لأن كل كلام عن الله عز وجل بنفي أو إثبات أكثر مما في النصوص إنما هو قول على الله بغير علم، وتحكم في أمر الغيب، وتشبيه لله بخلقه؛ لأن الإنسان إذا نفى أو أثبت فلا ينفي أو يثبت إلا بناءً على معلومة مستقرة في ذهنه، والإنسان ليس لديه في النفي والإثبات معلومة إلا من خلال علم الشهادة، وما عدا ذلك غيب لا يستطيع أن ينفي فيه أو يثبت إلا ما نفاه الشرع أو أثبته، وإذا كان هذا في سائر أمور الغيب فكيف بالله عز وجل؟!

وجه كون قول المتكلمين في الرؤية أقرب من قول المعتزلة

وجه كون قول المتكلمين في الرؤية أقرب من قول المعتزلة إن الله عز وجل أجل وأعظم من أن يقال فيه: لا داخل العالم ولا خارجه، لكن قول من أثبت موجوداً يرى لا في جهة أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يرى ولا في جهة. ويقصد بذلك: أن قول الأشاعرة الذي ينفون الجهة ويثبتون الرؤية أقرب إلى الحق من قول المعتزلة والجهمية الذين ينفون الرؤية نفياً مطلقاً. فهم يثبتون أن الله عز وجل موجود وقائم بنفسه حسب تعبيرهم، لكن يقولون بأنه لا يرى ولا في جهة. وكلمة (الجهة) ينبغي أن نستبعدها، لكن قد يطلقها السلف اضطراراً للتعبير عن العلو والفوقية؛ لأن الذين ينفون العلو والفوقية يقولون للسلف: إذا قلتم بأن الله عز وجل فوق عباده، وأنه العلي؛ فقد قالوا: إذاً أنتم أثبتم الجهة؛ لأن العلو جهة. والسلف يقولون: لا مانع من أن نأخذ من معنى الجهة المعنى الصحيح، وننفي المعنى الباطل، فالجهة لها معنيان: معنى العلو والفوقية لله عز وجل، فهذا حق. ومعنى المكان، أو الحيز، كما تقول: الجهة الشمالية من هذا المسجد، أو: الجهة الجنوبية، فهذا المعنى لا يجوز أن يطلق على الله عز وجل؛ لأن المكان وصف من أوصاف المخلوقات، والجهة على هذا الاعتبار وصف من أوصاف المخلوقات، والله عز وجل لا يوصف إلا بما وصف به نفسه. إذاً: نقول: الله هو العلي سبحانه، وهو القاهر فوق عباده، فإن قال المعتزلة والجهمية: هذه جهة قلنا: سموها ما تشاءون، إنما نحن نثبت العلو والفوقية كما جاءا في النص.

مناقشة القائلين بنفي الرؤية لانتفاء الجهة اللازمة لها

مناقشة القائلين بنفي الرؤية لانتفاء الجهة اللازمة لها قال رحمه الله تعالى: [ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها -وهو الجهة- أتريد بالجهة أمراً وجودياً أو أمراً عدمياً؟! فإن أردت بها أمراً وجودياً كان التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى، وهذه المقدمة ممنوعة، ولا دليل على إثباتها، بل هي باطلة، فإن سطح العالم يمكن أن يرى، وليس العالم في عالم آخر. وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً، فالمقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار]. مثل هذا الكلام من الكلام الممرض للقلوب، لكن لما بليت به الأمة وصار في المصنفات والكتب والمؤلفات التي تدرس كان لابد من الدفاع عن الحق. فقوله: [ويقال لمن قال بنفي الرؤية] وهم: الجهمية والمعتزلة الذين يقولون بنفي رؤية المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة، يقول: نقول لهم: ماذا تريدون بالجهة التي من أجلها نفيتم الرؤية؟! والمعتزلة وأتباعهم إلى اليوم ليس عندهم حجة شرعية، فقد ثبت تواتراً بالقرآن والسنة رؤية المؤمنين لربهم في الجنة يوم القيامة، لكن عندهم شبهات يسمونها حججاً عقلية، يقولون بزعمهم: لا يعقل أن تكون هناك رؤية إلا بجهة، وعلى هذا ينفون الجهة حتى العلو والفوقية بالمعنى المفهوم عند السلف، فمن هنا قالوا: إذاً: لا تعقل الرؤية؛ لأنه يلزم منها الجهة، فلا أحد يرى، ولا شيء يرى إلا ويكون في جهة، إما أن تراه فوق أو تحت أو يمين أو شمال، فعندهم أن الله عز وجل إذا كان يرى فلابد من أن يكون في جهة، وعندهم ممنوع أن يكون الله في جهة؛ لأنهم ينفون العلو الحقيقي، والفوقية الحقيقية. وأهل الباطل إذا جاءوا بقاعدة فاسدة جرتهم إلى قاعدة فاسدة أخرى، وهكذا، وتكون النتائج فاسدة، وكل مشكلة ينشأ عنها مشكلة، حتى كادوا ينكرون البدهيات، وهذا ما حصل. فهو يقول: [يقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها: أتريد بالجهة أمراً وجودياً، أو أمراً عدمياً؟!]. ومعنى كلامه: أننا نناقش من نفى الرؤية لأنها تلزم الجهة، فيقال له: تعال لنتفق وإياك على معنى الجهة، فإن كنت تريد بالجهة شيئاً مخلوقاً، فالله عز وجل لا يحتاج إلى مخلوق، هذا معنى الأمر الوجودي، وإن كنت تريد بالجهة مجرد الوجهة حتى خارج المخلوقات؛ فهذا أمر عدمي، فالوجهة في الذهن، وليست في الواقع، فمجرد تصور الوجهة تصور ذهني، فإن وجد شيء في الوجهة صار في الجهة، وإن لم يوجد شيء في الوجهة صارت الوجهة مجرد تصور في الذهن، والذهن ليس له ما يقيده؛ لأنه يتصور العدم، وأما الوجود فإنه إذا رآه علمه، أو إذا اطلع عليه بأي وسائل من وسائل العلم علمه. أما ما عدا ذلك من الألفاظ المجردة -مثل كلمة جهة أو جنوب أو شمال- فهذا إذا كان مجرداً في الذهن لا ينتهي إلى نهاية، فالإنسان قد يتخيل كلمة شمال إلى ما لا نهاية، حتى ما وراء الوجود. إذاً: فإذا كان تصورهم للجهة التي نفوا بها الرؤية تصوراً وجودياً؛ فنحن لا نقول بأن الله عز وجل يوجد في مكان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. لكن نثبت له الرؤية، ولا يلزم أنه يحويه شيء من مخلوقاته. وإن أرادوا بالجهة أمراً عدمياً، بمعنى: مجرد التصور الذهني؛ فلا داعي لأن نجادل في أمر مجرد في الذهن ليس له وجود، إنما هو خيالات. ثم قال بعد ذلك: [فإن أردت بها أمراً وجودياً كان التقدير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى]، وهذا عند المعتزلة والجهمية، ولا يصح. ومقصودهم: أنه لا يمكن أن يرى الشيء إلا إذا كان موجوداً في شيء غيره، وكل هذه فلسفات خيالية جاء بها الفلاسفة قبلهم ثم نقلوها عنهم. يقولون: كل شيء لا يوجد في غيره لا يرى، هذا معنى هذا الكلام، وأرادوا أن يطردوا هذه القاعدة، فقالوا: ما دمنا نقول: كل شيء ليس في شيء موجود لا يرى؛ والله عز وجل ليس في شيء موجود؛ فالله عز وجل لا يرى! وهذا غير صحيح، وقد يصح جدلاً، وإلا فسينقضه الشارح بعد قليل، فهذه القاعدة لا تصح؛ لأن المخلوقات أحكامها أحكام معلومة عند الناس من خلال المشاهدة، لكن الله عز وجل ليس كمثله شيء، فلا يقاس بخلقه، ولا يقاس به خلقه. وقد افترض الشارح افتراضاً صحيحاً فقال: ما دمتم تقولون هذا؛ فإن هناك ما ينقضه من الواقع، وهو: أن هذا العالم المخلوق له نهاية، ونهايته ليست في مخلوق آخر، وإلا فسيلزم التسلسل الممنوع عقلاً، فالمخلوقات تنتهي إلى نهاية، هذه النهاية يجب ألا تكون في مخلوق آخر، وإلا لزم التسلسل. إذاً: لابد للعالم من نهاية، فالمخلوقات لابد لها من نهاية، إذا كان لابد لها من نهاية ألا يتصور عقلاً أن الإنسان لو أقدره الله عز وجل على مشاهدة نهاية الخلق فإنه يمكن أن يشاهد نهاية الخلق؟! إذاً: قولهم بأنه لا تجوز رؤية الله؛ لأنه لو جاز أن يرى فلابد من أن يكون في مكان يحويه، أو في مخلوق يحصره، هذا غير صحيح، فالقاعدة وهمية من وساوس الشيطان لا أصل لها في العقل السليم والفطرة، إنما هي من خطوات الفلاسفة التي لا تستند على أي أصل علمي صحيح. يقول: [وهذه المقدمة ممنوعة، ولا دليل على إثباتها، بل هي باطلة؛ فإن سطح العالم يمكن أن يرى وليس العالم في عالم آخر

قواعد سلفية في التلقي

قواعد سلفية في التلقي قال رحمه الله تعالى: [وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان؟! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، المنقول إلينا عن الثقات النقلة، الذين تخيرهم النقاد، فإنهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان، بل يتعلمونه بمعانيه، ومن لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب والسنة فهو مأثوم وإن أصاب، ومن أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ، لكن إن أصاب يضاعف أجره]. هذه الجملة قواعد عند السلف يمكن أن نلخصها هنا على النحو الآتي: أولاً: أن الدين لا يتلقى إلا من الكتاب والسنة، وأنه لا يتلقى عن الأشخاص وعن الناس. ثانياً: تفسير معاني النصوص إنما يتلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين لهم بإحسان. ثالثاً: أنه لا يعتمد في الدين من المنقول إلا ما نقل عن الثقات. رابعاً: أن السلف لم ينقلوا نص القرآن واحده، إنما نقلوا نصه وتفسيره نظمه ومعناه، وجعلوه مصدراً من مصادر تلقي الدين في نظمه ومعناه. خامساً: أن من لم يسلك في هذه الأصول سبيل السلف فإنما يتكلم في الدين برأيه. سادساً: من تكلم برأيه في الدين فإنه آثم وإن أصاب، ومن أخذ بالكتاب والسنة -يعني: عن اجتهاد سائغ- فهو مأجور وإن أخطأ.

الخلاف في رؤية أهل المحشر لله تعالى

الخلاف في رؤية أهل المحشر لله تعالى قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (والرؤية حق لأهل الجنة)، تخصيص أهل الجنة بالذكر يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم، ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل عليه قوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44]، واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يراه إلا المؤمنون. الثاني: يراه أهل الموقف، مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك. الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار. وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف]. والقول الرابع لعله يجمع بين هذه الأقوال، فهناك قول رابع قال به بعض أهل العلم، وهو أن الرؤية في المحشر تأتي بثلاث مراحل: المرحلة الأولى: يراه فيها جميع الخلائق على ما يليق بجلال الله عز وجل، وهذه الرؤية لكل إنسان بحسبه، فالمؤمن يرى ربه عز وجل رؤية تنعم وتلذذ وسرور، والكافر والمنافق يرى ربه رؤية حسرة، فلا يتمتع برؤية ربه عز وجل. والمرحلة الثانية: يتبدى الله عز وجل فيها للخلائق فيراه المؤمنون والمنافقون، ولا يراه الكفار، وقالوا: سبب ذلك أن الله عز وجل أطمع المنافقين في الرؤية ليظنوا أنهم نجوا، فيكون ذلك أنكى في العقوبة لهم؛ لأنهم كانوا يمكرون في الدنيا ويخادعون، فأراد الله عز وجل أن يمكر بهم ويخادعهم في الآخرة. فإذا رأى المنافقون ربهم مع المؤمنين وعلموا أن الكفار لم يروه في هذه المرحلة زاد طمعهم؛ ليكون ذلك أشد لحسرتهم إذا حجبوا في المرحلة الثالثة. وفي المرحلة الثالثة: يراه المؤمنون دون المنافقين والكفار، قالوا: لأن هذا تقتضيه عمومات النصوص الكثيرة والتي تواردت في سياق الرؤية في المحشر. ولعل هذا هو الذي يجمع بين ما ورد في النصوص، وعلى أي حال فالرؤية يوم القيامة على نوعين: النوع الأول: الرؤية في المحشر التي ذكرناها هنا، وهذه اختلف فيها أهل العلم: هل هي من نوع الرؤية التي تكون في الجنة أو تكون رؤية بحسب الحال، أو على وجه آخر يختلف؟ وهل هي رؤية حقيقية بصرية أو رؤية قلبية؟ فهذا كله محل خلاف، وإن كان جمهور السلف يقولون: ظاهر النصوص أنها رؤية عينية، لكنها تختلف بحسب حال الشخص وإيمانه. وهذا النوع أيضاً صح في الأدلة، ولا يجوز لأحد إنكاره، لكن لا يكفر من أنكره؛ لأن النصوص ليست صريحة في رؤية المحشر العينية كما في رؤية الجنة. أما النوع الثاني -وهو رؤية المؤمنين لربهم في الجنة بأبصارهم- فهي رؤية بصرية عينية حقيقية أدلتها يقينية قطعية ومتواترة، ولا يسع أحداً بعد العلم بها أن ينكرها، ومن أنكرها فقد اتفق السلف على تكفيره، خاصة إذا كان ممن تقوم عليه الحجة، وعرف معنى الرؤية وأدلتها؛ إذ قد يحدث من الجهلة إنكار الرؤية؛ لأنهم لا يعرفون معناها ولا يفقهون نصوصها، فقد يرد من عامي أو شبه عامي لم يفهم معاني نصوص الرؤية إنكار الرؤية على سبيل الجهل، أما من علم وأقيمت عليه الحجة وأنكر بعد بيان الأدلة فإنه لا شك في كفره. أما من أنكر الرؤية في المحشر فإن كان إنكاره إنكار تأول؛ فلا يكفر وإن ابتدع وخالف منهج السلف.

الاتفاق على عدم رؤية أحد ربه في الدنيا وذكر الخلاف في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم

الاتفاق على عدم رؤية أحد ربه في الدنيا وذكر الخلاف في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [واتفقت الأمة على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه]. هذا هو قول جمهور السلف لم يخالف فيه أحد منهم، لكن في القرن الرابع وما بعده ظهرت طوائف من ضلال المتصوفة، وضلال الفلاسفة والباطنية يزعمون لبعض شيوخهم أنهم يرون ربهم رؤية عينية، وهذا باطل، فالسلف قد اتفقوا بإجماع على أنه لا أحد يرى ربه في الدنيا بعينه، وما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم في المعراج على تقدير أنه رآه بعينه على الرأي المرجوح؛ فإن هذا يعد استثناءً، وهو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز لأحد غيره بعده ولا قبله. إذاً: فهذا الإجماع شذ عنه طائفة من المتصوفة، وطائفة من الفلاسفة، وطائفة من الباطنية. قال رحمه الله تعالى: [ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة: منهم من نفى رؤيته بالعين، ومنهم من أثبتها له صلى الله عليه وسلم. وحكى القاضي عياض في كتابه الشفا اختلاف الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في رؤيته صلى الله عليه وسلم]. يعني: في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج. قال رحمه الله تعالى: [وإنكار عائشة رضي الله عنها أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، وأنها قالت لـ مسروق حين سألها: هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب. ثم قال: وقال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها، وهو المشهور عن ابن مسعود، وأبي هريرة واختلف عنه، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه)، وروى عطاء عنه: أنه رآه بقلبه. ثم ذكر أقوالاً وفوائد، ثم قال: وأما وجوبه لنبينا صلى الله عليه وسلم والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص، والمعول فيه على آية النجم، والتنازع فيها مأثور، والاحتمال لها ممكن]. آية النجم ليس فيها جزم قاطع بأنه رأى ربه بعينه، بل آية النجم تؤيد الرؤية القلبية، لقوله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، وقوله عز وجل قبل ذلك: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، فيفسر أحد النصين الآخر، فإذا قيل في الأولى: إن المقصود بها: أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه؛ فإنه يكون رأه بقلبه؛ لأن الله عز وجل قال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]. وإن كان بعض المفسرين يقول: ما كذب الفؤاد ما رآه بعينه، لكن ظاهر النص عند بعض المفسرين يدل على أن الرؤية رؤية قلبية: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] يعني: ما رأى الفؤاد. وكذلك يدفع احتمال الرؤية العينية: أن قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12] قيل: إنه في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بقلبه، وأن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل بعينه؛ لأن قوله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] يدل على أن الرؤية حدثت مرتين، وهذه إنما تنطبق على رؤية جبريل. فالنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل على صورته الحقيقية مرتين: المرة الأولى: حينما جاءه بالوحي في غار حراء، فقد سد عليه الأفق حتى أصيب بالرعب من منظره، ثم رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى على صورته الحقيقة. فنظراً لهذه الاحتمالات في تفسير النصوص لا يوجد في آيات النجم ما يدل على أن الرؤية بصرية إلا دلالة بعيدة، في حين أن سياق الآيات يدل على أن الرؤية قلبية، خاصة قوله عز وجل: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11].

إمكان رؤية الله في الدنيا عقلا بإقداره عباده على ذلك

إمكان رؤية الله في الدنيا عقلاً بإقداره عباده على ذلك قال رحمه الله تعالى: [وهذا القول الذي قاله القاضي عياض رحمه الله هو الحق؛ فإن الرؤية في الدنيا ممكنة، إذ لو لم تكن ممكنة لما سألها موسى عليه السلام، لكن لم يرد نص بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه]. الإشارة إلى الإمكان كثيراً ما تأتي في المسائل التي جرى فيها الخلاف، خاصة المسائل التي جر المتكلمون أهل السنة إلى الكلام فيها، أي: المسائل التي دخل فيها النظر العقلي. وبعض الناس يظن أن الإمكان معناه: جوازه أو وقوعه، فإذا قال أحد العلماء: إن رؤية الله عز وجل في الدنيا ممكنة، فقد يفهم بعض الناس أنها واقعة. وليس هذا هو المقصود، بل المقصود الإمكان عقلاً، أي يتصور عقلاً أن الله عز وجل يقدر عباده على أن يروه، لكنه ما أقدرهم، هذا معنى: ممكن، وليس معنى (ممكن) أنه محتمل أن تقع، فلا يمكن أن تقع؛ لأن الله عز وجل قدر ألا تقع الرؤية جزماً، وليس عند السلف في هذا شك، وهو اتفاق بين السلف، فالإجماع قائم على أنه لا أحد يرى ربه بعين رأسه في الدنيا، إنما الرؤية بالعين في الآخرة، لكن عندما يقولون: (ممكن) كما قالوا في الرؤية، وكما قالوا في غيرها؛ فإنهم يقصدون بالإمكان: التقدير العقلي، أي: ليس هناك ما يمنع أن يرى الناس ربهم في الدنيا لو أن الله أقدرهم على ذلك. وهذه المسألة ما دامت معلقة بقدرة الله عز وجل فهي ليست محل جدال، ولا ينبغي أن تكون محل جدال، لكن السلف ابتلوا باستعمال عبارات المتكلمين، مثل: الممكن والجائز، والواجب إلى آخره، والتي يقصد بها مفاهيم غير مفاهيمها الشرعية، فاضطروا إلى استعمالها دفعاً لشبهات المتكلمين.

ما روي مما يدل على نفي رؤية رسول الله ربه بعينه ليلة المعراج

ما روي مما يدل على نفي رؤية رسول الله ربه بعينه ليلة المعراج قال رحمه الله تعالى: [لكن لم يرد نص بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، بل ورد ما يدل على نفي الرؤية، وهو ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: (نور أنى أراه؟!)، وفي رواية: (رأيت نورا). وقد روى مسلم أيضاً عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور -وفي رواية: النار- لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). فيكون -والله أعلم- معنى قوله لـ أبي ذر: (رأيت نورا) أنه رأى الحجاب، ومعنى قوله: (نور أنى أراه؟): النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته، فأنى أراه؟! أي: فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته؟! فهذا صريح في نفي الرؤية. والله أعلم. وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك].

أهمية التسليم للنصوص وترك الخوض فيما يتعلق بالله عز وجل لغير ضرورة

أهمية التسليم للنصوص وترك الخوض فيما يتعلق بالله عز وجل لغير ضرورة قال رحمه الله تعالى: [ونحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب تعالى أعظم وأعلى؛ فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها البتة]. هذا الكلام جيد من وجه، يعني: قوله: [نحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه]، بمعنى: لأن نتكلم ونجتهد في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل -يعني: هل رآه على حقيقته أو لا، وإن كان هذا أمراً غيبياً- خير لنا من أن نخوض في أمر يتعلق برؤيته لربه عز وجل بغير دليل قاطع، ومعنى هذا: أنه ينبغي أن نسلم بالنصوص التي وردت دون أن نتعدى المعاني المفهومة منها، ولا نخوض في أمر ليس عليه دليل شرعي، وهذا حق، والسلف كانوا عليه، لكن اضطروا لزيادة التفصيل والقول بما لم يرد به الشرع دفعاً لتوهمات وشبهات المتكلمين، فإذا كان لابد للمتكلم من أن يتكلم في أمر غيبي فلأن يتكلم في الأمور الغيبية المتعلقة بالمخلوقات -كجبريل عليه السلام- خير له من أن يتكلم في الأمور الغيبية المتعلقة بذات الله عز وجل. وهذا أصل ينبغي أن يحرص عليه طالب العلم، فلا يلجأ إلى الكلام عن الله عز وجل وصفاته وأسمائه وأفعاله إلا اضطراراً حينما تلجئه الضرورة العلمية إلى الدفاع عن العقيدة، أو دفع شبهات الناس وما يقولونه. أما لمجرد العلم، أو لمجرد افتراض الشبهات، أو الترف العلمي فهذا مما لا ينبغي أن يكون، وألا يعني هذا الاتهام لمخافة الله عز وجل، لكن يعني التورع عن الكلام فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته وأفعاله، وإن لم نفهم النصوص التي وردت -كنصوص رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه- فإنه ينبغي لنا أن نسلم ولا نخوض بأكثر مما نفهمه من ظواهر النصوص، وعلى هذا فإن المتأمل لمجموع نصوص رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في ليلة المعراج يجد أنها تتجه من خلال مجموعها إلى أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه رؤية قلبية، وأنه رآه بفوائده، ولذلك لما سئلت عائشة: هل رأى ربه؟ استنكرت السؤال؛ لأنها فهمت أن السؤال عن الرؤية العينية، ولا يشكل على هذا إلا الرواية التي ثبتت عن ابن عباس في البخاري وغيره أنه رآه بعينه، ولولا هذه الرواية لما وجد إشكال والله أعلم، ولربما اتفق السلف على أن الرؤية رؤية قلبية. ومع ذلك فإن الرواية عن ابن عباس مضطربة، فـ ابن عباس ثبت عنه أيضاً عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه مرتين، ففسرها بأنها بقلبه، وقد تحمل تلك على هذه، وربما كان مراده -والله أعلم- أنه رأى ذات ربه عز وجل، لا شيئاً آخر فعبر عن الذات بالعين؛ إذ قد يعبر عن الذات بالعين، كما يعبر عن الذات بالوجه. وفي كلام الشارح وجه آخر لا أحب أن أذكره؛ لتعلقه بأساليب المتكلمين في تقرير الدين، خاصة في تقرير النبوة، وتقرير الوحي.

إثبات الرؤية بغير إحاطة ولا كيفية

إثبات الرؤية بغير إحاطة ولا كيفية قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (بغير إحاطة ولا كيفية)، هذا لكمال عظمته وبهائه سبحانه وتعالى، لا تدركه الأبصار ولا تحيط به، كما يعلم ولا يحاط به علماً، قال تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103]، وقال تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]].

فساد التأويل بغير دليل أو قرينة

فساد التأويل بغير دليل أو قرينة قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وتفسيره على ما أراد الله وعلمه) إلى أن قال: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا) أي: كما فعلت المعتزلة بنصوص الكتاب والسنة في الرؤية، وذلك تحريف لكلام الله وكلام رسوله عن مواضعه. فالتأويل الصحيح: هو الذي يوافق ما جاءت به السنة، والفاسد: المخالف له، فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق، ولا معه قرينة تقتضيه؛ فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ، فإن الله أنزل كلامه بيانا وهدى، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد؛ لم يكن بياناً ولا هدى، فالتأويل إخبار بمراد المتكلم لا إنشاء]. يقصد بذلك أن نصوص الغيب التي وردت في كلام الله عز وجل -خاصة ما يتعلق بصفات الله- جاءت محكمة، وهذا معلوم بالضرورة؛ لأنها ليست قابلة للاجتهاد، ومعنى كونها جاءت محكمة: أنها جاءت على ظاهرها على ما يليق بجلال الله عز وجل، وعلى ما يليق بالأمور الغيبية التي لا تقاس بعالم الشهادة. إذاً: فالذين أولوا خرجوا عن مقتضى مراد الله عز وجل، ودليل ذلك: أنهم حينما أولوا أولوا لشبهات خارجة عن منطوق النصوص، بل وحتى عن مفهوماتها، أي: لم يكن التأويل بسبب قرائن ودلالات توجد في النص نفسه، إنما التأويل لشبهات في أذهان المؤولين، فحينما قيل للجهمية: لم أنكرتم الأسماء والصفات؟ ما قالوا: لأنَّا ما فهمنا من النص كذا، بل قالوا: لأننا لا نفهم موجوداً يقبل التسمية والصفة إلا مخلوق محدث، أو نحو ذلك، ولأننا لا نفهم من هذه الأسماء والصفات إلا ما نفهمه في عالم الشهادة، فخوفاً من أن نقع في التشبيه نعتبر هذه الأسماء والصفات مجرد ألفاظ ليس لها معان، وأن الله لا يوصف ولا يسمى، تعالى الله عما يدعون. وكذلك إذا قيل للمعتزلة: لم أولتم الصفات أو أنكرتموها؟ لا يقولون: لأن النصوص دلت على ذلك، أو: أولنا لقرائن تحف بنصوص الغيب تدل على تأويلها، بل يقولون: أولنا؛ لأننا لا نفهم من هذه الصفات إلا ما في المخلوقات، فمن أجل أن ننزه الله عن صفات المخلوقات نؤولها. إذاً: جاءوا بأمور هي أوهام في أذهانهم وليست حقائق، ولا تدل عليها النصوص. قال رحمه الله تعالى: [وفي هذا الموضع يغلط كثير من الناس؛ فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا وكذا؛ كان إخباراً بالذي عناه المتكلم، فإن لم يكن الخبر مطابقا كان كذبا على المتكلم. ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة: منها: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى، ومنها: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له، كقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]]. المقصود: أن القرينة التي جاءت تدل على إثبات الصفة لله عز وجل، يعني: حف بكلام الله عز وجل ما يدل على أنه أراد حقيقة الصفة على ما يليق بالله عز وجل. فقوله عز وجل: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فيه تأكيد لصفة الكلام، فقوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ) يدل على وجود الكلام، وقوله تعالى: (تَكْلِيمًا) يدل على تأكيد الكلام حقيقة لله عز وجل على ما يليق بجلاله. قال رحمه الله تعالى: [و (إنكم ترون ربكم عياناً كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب)]. هنا دلت القرينة على أن الرؤية رؤية عينية، وهي قوله: (عياناً)، هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث في الصحيحين وغيرهما متواتر بمجموع أسانيده وألفاظه، والرؤية لا تفهم إلا برؤية بالعين، لكن جاءت قرينة مؤكدة على أن الرؤية عينية، وهي قوله: (عياناً)، يعني: بالعيون، فالله عز وجل ينعم على عباده في الجنة بأن يروه بأعينهم. قال رحمه الله تعالى: [فهذا مما يقطع به السامع له بمراد المتكلم، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة؛ كان صادقا في إخباره، وأما إذا تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه؛ فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه، وهو تأويل بالرأي، وتوهم بالهوى. وحقيقة الأمر: أن قول القائل: نحمله على كذا، أو: نتأوله بكذا، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده دفع معناه، وقال: أحمله على خلاف ظاهره. فإن قيل: بل للحمل معنى آخر لم تذكروه، وهو: أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره، ولا يمكن تعطيله؛ استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالة لا ابتداء. قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده، وهو إما صدق وإما كذب، كما تقدم، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده، بل يقرن بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة، ونحن

لزوم اعتقاد حقائق ألفاظ الغيب السمعية

لزوم اعتقاد حقائق ألفاظ الغيب السمعية خلاصة هذا الحوار: أن النصوص التي جاءت بأخبار الغيب -سواءٌ ما يتعلق بصفات الله عز وجل، والرؤية، وسائر السمعيات التي وردت في القرآن الكريم، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غيبية- لابد بالضرورة من أن نعتقد أن ألفاظها حق على حقيقتها؛ لأن الله عز وجل خاطبنا بلسان عربي مبين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الدين وبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ولم يبق في الدين شيء يحتاج إلى مزيد بيان لا في اللفظ، ولا في المعاني. فأصول الدين كلها بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك فروعه، ومعلوم أن ألفاظ العقيدة غير قابلة للاجتهاد، ولو كانت قابلة للاجتهاد ما صارت عقيدة. فالذين أولوا لابد من أن يلزم من تأويلهم الاستدراك على الله عز وجل، والاستدراك على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ما جاءونا بأدلة تثبت صحة التأويل، بل جاءوا بشبهات، قالوا: لا يعقل كذا إلا كذا، إذاً: لابد من أن نقول فيه كذا. ثم إنهم حينما عدلوا عن ألفاظ الشرع، وعن حقائق ألفاظ الشرع؛ ما سلموا مما فروا منه، بل قالوا على الله بغير علم، وتحكموا في ألفاظ الشرع بغير علم، واختلفوا في المراد، فصار الناس الذين تابعوهم لا تستقر لهم عقيدة، ولا يدرون ماذا يعتقدون، في حين أنهم لو أبقوا -كما فعل السلف- نصوص الشرع على ما جاءت، وأثبتوا لله ما أثبته لنفسه حقيقة على ما يليق بجلال الله عز وجل مع نفي المماثلة والتشبيه؛ لما حصل الإشكال إطلاقاً، ولما وقعوا فيما وقعوا فيه، وكل شبهة أثاروها بسبب التأويل رد عليها السلف بما يكفي ويشفي، وسيأتي نماذج في ذلك مستقبلاً.

شرح العقيدة الطحاوية [33]

شرح العقيدة الطحاوية [33] لقد ضل أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم حين أصلوا لأنفسهم أصولاً فاسدة وقدموها على النص الشرعي، ومن ذلك تقديم العقل على النقل عند التعارض، هذا الأصل الذي ردوا به كثيراً من النصوص الشرعية بحجة معارضتها للعقل، والذي أصل لهم هذا الأصل هو الفخر الرازي، وقد رد عليه شيخ الإسلام في درء التعارض وغيره، مبيناً أنه لا تعارض أصلاً بين العقل الصريح والنقل الصحيح إلا في عقول هؤلاء المتكلمة الذين لم يسلموا للنصوص الشرعية التسليم الذي أراده الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أهمية التسليم لله ولرسوله وفساد معارضة النقل بالعقل

أهمية التسليم لله ولرسوله وفساد معارضة النقل بالعقل قال رحمه الله تعالى: [(فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه): أي: سلم لنصوص الكتاب والسنة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، أو بقوله: العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل، والعقل أصل النقل، فإذا عارضه قدمنا العقل! وهذا لا يكون قط. لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك؛ فإن كان النقل صحيحاً فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك، وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً. ويُعارَض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل؛ لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الأشياء، فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه. وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل؛ لزم أن لا يكون العقل دليلاً صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل]. هذا الكلام الذي أورده الشارح ينقسم إلى نوعين: نوع في تقرير الشبهة أي: شبهة المتكلمين الذين قدموا العقل على الشرع، ونوع آخر هو رد هذه الشبهة، وكل ذلك لخصه الشارح من كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية: درء التعارض. وهذه القاعدة هي الفارق بين نهج السلف ونهج المتكلمين من متأخرة الأشاعرة والماتريدية في القرن السادس وما بعده، حينما استقر عندهم علم الكلام بأصول عقلانية مقعدة جعلتهم يأخذون بأصول الجهمية والمعتزلة، وأصول الفلاسفة في الموقف من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقيدة، أما في الأحكام فقد لا يختلفون كثيراً مع السلف. ولعله من المناسب أن نأخذ هذه القضايا التي أشار إليها الشارح قضية قضية حتى لو استغرقت أكثر من درس، فهذا المقطع مهم في نظري وخطير؛ نظراً لأنه يتعلق بأصول مذاهب موجودة، وبقواعد يمكن أن يسلكها كثير من العقلانيين، بل سلكها كثير من العقلانيين المعاصرين، ثم إنها بدأت الآن تخرج أعناقها حينما اهتم خلف هؤلاء المتكلمين من المعاصرين بكتبهم وأخرجوها. وأرى في السنتين الأخيرتين بالذات حشداً هائلاً من كتب المتكلمين التي خرجت مطبوعة بعناية وبدعاية تفوق دعاية كتب السلف. وقد انبرى لهذا الاتجاه طائفة من المتكلمين المعاصرين صغاراً وكباراً، فأصبحوا يدافعون عن هذا التوجه العقلاني ويدعون إليه من جديد، وبدأ يتجذر في عقول كثير من شباب الأمة في الآونة الأخيرة. فمن هنا لعلنا نخرج عن القاعدة التي درجنا عليها، وهي أن الأمور الفلسفية لا نتعمق فيها، فنستثني مثل هذه الأمور للضرورة.

قاعدة الرازي العقلية التي اعتمدها المتكلمون

قاعدة الرازي العقلية التي اعتمدها المتكلمون الشبهة العقلية هي قاعدة المتكلمين الأوائل التي استقرت عند الرازي قبل أن يرجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، فهو رجع وسلم لمذهب السلف، لكن بعد فوات الأوان؛ إذ ما استطاع أن يلغي ما قاله، ولا أن يقنع الناس بأن يعدلوا عما كتب، وإن كان نصح أصحابه، لكنهم لم يأخذوا بنصيحة الناصحين. وشأن الرازي وأمثاله ممن وضعوا هذه القواعد ثم تابوا منها أن مثلهم ومثل أتباعهم اليوم كمثل رائد قوم صار في طريق وفجأة رأى أمامه هوة سحيقة، فأدرك الخطر هو فرجع، وأنذر أصحابه، لكن الذين تبعوه أبوا إلا أن يسقطوا في الهوة، وهذا هو شأن المتكلمين الذين يتبعون هؤلاء الكبار الذين رجعوا عن علم الكلام. والعجيب: أن أغلب كبار المتكلمين رجعوا عن علم الكلام، الأمر الذي يقيم الحجة على أتباعهم إلى اليوم، فيقال لهم: كيف تسلكون مسالك تاب أصحابها منها، وتبرءوا إلى الله منها في حياتهم بحرية كاملة، فلم يكرهوا على ذلك، ونهوا عنها بإشفاق ونصيحة. وهذه مسألة عارضة، لكن أحببت التنبيه حتى يتبين عوار هذه القواعد من مؤسسيها، وإن كان لها أتباع، فمسألة الأتباع ليست دليلاً، بل الشيطان له من يعبده الآن. وقاعدة الرازي ذكرها شيخ الإسلام وأجاب عليها في كتب مطولة كما سأشير إليه بعد قليل، وذكرها الرازي في كتابه: (تأسيس التقديس)، وهو مطبوع الآن ومنشور بعناية. في هذا الكتاب أراد الرازي أن يقرر مسألة مجرد تصورها يصادم الفطرة والعقل السليم، وملخصها أنه يقول: إن دلالة العقل قطعية، ودلالة الشرع ظنية، كذا بإطلاقه! فإذا تعارض النقل مع العقل أخذنا بالقطعي وهو العقل. وظاهر هذه العبارة ينطلي على من لم يفقه في الدين، وهذا ملخص القاعدة الذي انتهت إليه، وإلا فقد صاغها بأكثر من هذا، ثم أيدها من خلال كتابه: تأسيس التقديس. والعجيب أنه لما أراد أن يثبت أن دلالة الشرع ظنية أوقع الأمة في شبهات خطيرة، فصارت قاعدته مذهباً أوجد تشكيكاً عند كثير من مفكري الأمة من وقته إلى يومنا هذا، حتى إنهم وقعوا في الشكوك ولم يخرجوا منها، حتى الرازي نفسه اعترف نظراً لمجاراته لهذه القاعدة بأنه كثيراً ما يثير الشبهة ولا يستطيع أن يجيب عليها.

القوادح التي اعتبرها الرازي لامتناع قطعية دلالة الشرع

القوادح التي اعتبرها الرازي لامتناع قطعية دلالة الشرع فالمهم: أنه لما أراد أن يثبت أن دلالة الشرع ظنية زعم أن الشرع يتعرض لقوادح تمنع من أن يكون قطعياً، وهو يعترف في الأصل بأن الشرع مقدس، وأن الشرع دين الله، وهذا القدر من الاعتراف يوجد حتى عند طائفة من الكفار الخلص، لكن بعد الاعتراف يأتي بالاعتراض، وهذا منهج المنافقين، ومنهج الكفار، وإن لم يكن الرازي كافراً، لكنّه وقع في منهج الكافرين، ومنهجه منهج الفلاسفة، وإلا فلا نستطيع بمجرد هذه الشبهات تكفيره، إنما نقول: إنه ضل بهذه القواعد. فالخلاصة: أنه أورد على الشرع قوادح، لعلي أذكر شيئاً منها من أجل أن نتصور القواعد التي سأقولها بعد قليل، فمن هذه القوادح زعمه أن دلالة الشرع متوقفة على الجزم بفهم ألفاظه، ولا سبيل إلى الجزم. وهذه مغالطة ترد على الرازي نفسه، فيقال له: إذا كنا لا نجزم بصحة ألفاظ الشرع؛ فكيف تجزم بصحة ألفاظك أنت، وصحة ألفاظ الفلاسفة والمتكلمين؟ وكيف تقول: إن العقل قطعي مع أن العقل لا يعبر عن مراده ونتائجه إلا بلسان العاقل، وهل يكون لسان العاقل أصدق من كلام الله عز وجل؟! ثم قال بعد ذلك: إن نصوص الشرع نقلت إلينا -ويقصد بذلك الأحاديث- عبر الرجال، والرجال يعتريهم السهو والخطأ والنسيان إلى آخره، ثم أورد شبهة خاصة بأحاديث الصفات، فقال: إن أحاديث الصفات أغلبها ما رواه الصحابة إلا بعد سنين من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ألمح إلى أن الصحابة رووها بسبب أهواء الفرق، فكأنه يشير إلى أن الصحابة تكلفوا في وضعها، أو فهموها من النبي صلى الله عليه وسلم فهماً ولم ينقلوها نقلاً. فجعل من القوادح أن أكثر الدين جاء عن طريق الآحاد، والآحاد كله ظني إلى آخره. سيأتي إن شاء الله الكلام على القوادح في الجملة.

ذكر ما كتبه شيخ الإسلام في الرد على قاعدة الرازي

ذكر ما كتبه شيخ الإسلام في الرد على قاعدة الرازي وقد رد شيخ الإسلام ابن تيمية على هذه القاعدة وما يشبهها بكتابين عظيمين من قرأهما سيتصور فعلاً عظمة منهج أهل السنة في رد شبهات المتكلمين، وسيقتنع فعلاً أن هذه الشبهات لا تعدو أن تكون من وساوس الشيطان. الكتاب الأول: درء التعارض، ويقع الآن في أحد عشر مجلداً. وكتاب آخر اسمه: بيان تلبيس الجهمية، هذا طبع منه جزء قليل، جمعه الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله وابنه محمد الموجود وفقنا الله وإياه، لكنه لا يشمل إلا جزءاً قليلاً من كتاب بيان تلبيس الجهمية الذي هو رد على هذه القاعدة وأمثالها من قواعد المتكلمين، حقق في جامعة الإمام قسم العقيدة، ويقع في ستة عشر مجلداً. ونرجو -إن شاء الله- أن يطبع في وقت قريب في ستة عشر مجلداً في الرد على تأسيس التقديس الذي هو في قرابة مائة وثمانين صفحة أو مائتي صفحة، بل ما رد عليه كله، إنما رد على ثلثيه، والثلث الأخير لا يدرى هل هو مفقود، أم أن الشيخ اكتفى بالرد على ثلثي الكتاب تقريباً.

القواعد التي تضمنها كلام الشارح في التسليم لله ولرسوله وعدم معارضة النصوص بالعقول

القواعد التي تضمنها كلام الشارح في التسليم لله ولرسوله وعدم معارضة النصوص بالعقول والكلام الذي ذكره الشارح يحتاج إلى أن نحوله إلى قواعد من أجل أن نخرج بنتيجة من خلال ذكر قواعد السلف وبيان قواعد المتكلمين بإزائها، ثم الخروج بنتيجة في مقابلة قاعدة السلف بقاعدة المتكلمين.

قيام صحة الإسلام على كمال التسليم

قيام صحة الإسلام على كمال التسليم القاعدة السلفية الأولى: قوله: [فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم]. هذه قاعدة الإسلام الأولى التي ينبني عليها صحة الإسلام من المسلم، أو كمال الإسلام من المسلم، وذلك أنه لا يسلم أي إنسان حتى يسلم لله عز وجل بالعبودية والتصديق والإذعان للخبر والنهي والأمر، وحتى يسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالحب والاتباع والتصديق من كل وجه.

رد ما أشكل من أخبار الغيب إلى العليم بها جل جلاله

رد ما أشكل من أخبار الغيب إلى العليم بها جل جلاله ويتفرع عن هذه القاعدة الثانية التي تعتبر من لوازم القاعدة الأولى، وهي: أنه إذا اشتبه على المسلم شيء مما جاء عن الله تعالى، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم -سواءٌ كان من باب الأخبار كالعقيدة، أو من باب الأوامر كالشريعة- فإنه يرده إلى عالمه، يرده إلى الله عز وجل. وبالنسبة لما يتعلق بنصوص العقيدة هذه القاعدة لا تحتاج إلى مزيد تفصيل، فبمجرد أن يشتبه عليه الأمر ولا يجد جواباً، أو لا يجد في ذهنه ولا عند أهل العلم ما يجيب على إشكاله؛ فليسلم بأن خبر الله صدق وحق، وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صدق وحق، ثم يقف عند هذا الحد ويقول: آمنا بالله. وإذا كان الإشكال يتعلق بالأوامر والنواهي فعلى المسلم أن يرجع إلى أهل العلم، فإن أجابوه وإلا فليبق أيضاً على نفس القاعدة، فيسلم بالأمر، وبأنه حق من الله عز وجل، سواءٌ فقهه أو لم يفقهه.

تحريم إثارة الشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة في أمور الدين

تحريم إثارة الشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة في أمور الدين القاعدة الثالثة: أنه يحرم -بل يتنافى مع الدين- إثارة الشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة لأي أمر من أمور الدين. فالأصل في الدين: التسليم والقناعة التامة والتصديق، وهذا هو معنى الإيمان، ومن سلم بأمر فلا يجوز له أن يثير الشك فيه حتى بمجرد الترف العلمي، فهذا أمر محرم، خاصة في قضايا العقيدة، فلا يجوز للمسلم أن يستبيح أن يثير الإشكال أو التساؤل في أمر عقدي، إلا إذا كان الإشكال ينبني عليه فهم أصل من أصول العقيدة، وليس مجرد الإثارة أو الترف العلمي، بمعنى: أن إثارة الشكوك أحياناً تأتي للإنسان من قبل وساوس ترد إليه في ذهنه، فإذا استطاع أن يدفع هذه الوساوس بأن يسلم لله عز وجل ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فهذا هو المطلوب شرعاً، ولا يعرضه هذه الوساوس والشكوك لمجرد انقداحها في الذهن، بل يحاول دفعها بكل وسيلة من الوسائل الشرعية، فيستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويستغفر الله ويتوب إليه ويتلو القرآن، ويكثر من ذكر الله، ويشغل ذهنه عن هذا الشك أو الشبهة، فإذا استقرت الشبهة ولم يستطع دفعها فلا مانع من أن يثيرها بشرط ألا يثير الشك عند عامة الناس، بل يفضي بسره إلى أحد أهل العلم الذين يثق بهم. أما إثارة الشكوك والشبه بمجرد الترف العلمي، أو لمجرد الاستعراض الذهني، أو لمجرد إثبات القدرة العقلية كما يفعل بعض الناس، أو لمجرد أن يسمع الشبهة، ويتكلف في هذا؛ فهذا أمر محرم قطعاً، بل ربما يؤدي بالإنسان إلى الكفر وهو لا يشعر، ومثل الشكوك والشبه: التأويلات الفاسدة التي عليها أهل التأويل.

الأسئلة

الأسئلة

بيان حقيقة تأويل أهل السنة لنصوص المعية

بيان حقيقة تأويل أهل السنة لنصوص المعية Q جرى مرة كلام بين الصابوني المعاصر وبين بعض طلاب العلم، فقال له طالب العلم: إن الصفات تمر كما جاءت، والقول في السبع الصفات كالقول في سائر الصفات، فرد عليه: أنتم تؤولون المعية ولا تمرونها كما جاءت، بل تفسرونها وتؤولونها، فمن الذي يحل لكم تأويل هذه الصفة ويحرم عليكم تأويل السبع الصفات؟! فحار الشاب ولم يجد جواباً، فما الرد عليه؟ A هذه مشكلة إذا كان الشباب من طلبة العلم تصدوا للحوار، ثم يحارون في هذه المسألة اليسيرة، فمعنى هذا: أنهم أخطئوا حينما دخلوا في حوار يعرفون أنهم قد يصلون فيه إلى طريق مسدود، وهذه الشبهة تذكرني بشبه ظاهرة الآن بدأت تكثر في الحوار، خاصة مع الرافضة، فترى شاباً يأخذه الحماس فيدخل في الحوار مع صاحب هوى بدون استعداد علمي، أو بدون رجوع إلى أهل الاختصاص، وهذا خطأ، فهذا سيترتب عليه إضرار بالسنة وأهلها. فلا ينبغي لأحد أن يحاور أحداً من أهل الأهواء إلا بعد الاستعداد العلمي الكامل، أو يحيل على المتخصصين، أو يترك، أو يشير إلى الأمور إجمالاً بدون دخول في التفاصيل، أما الدخول في التفاصيل فهو خطر. أما هذه المسألة فالرد عليها واضح، وقد أثيرت الشبهة من قديم الزمان، وليس الصابوني هو الذي أثارها، وهذا دليل على أن هؤلاء لم يقفوا على أقوال أهل العلم، فأهل العلم قالوا: إن مسألة المعية لا تقاس بالصفات؛ لأمور كثيرة نلخصها في أمرين: الأمر الأول: أننا حينما قلنا بأن معية الله لخلقه معية بعلمه، وهي المعية العامة، أو معية برعايته وحفظه، وهي المعية الخاصة؛ فهذا لا يعني أننا عدلنا عن ظاهر اللفظ إلى معنى آخر لمجرد عقولنا أو بقرائن، بل عدلنا عن ظاهر اللفظ بمقتضى نصوص أخرى، وهي نصوص الفوقية، كقوله عز وجل: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]، وقوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وغير ذلك من نصوص الفوقية والعلو والاستواء. فهذه النصوص تدل على أن الله عز وجل ليس مخالطاً لعباده، ولا مماساً لهم، فكان تفسير النص بناءً على نص آخر، أما الذين أولوا فما أولوا نصاً بنص، بل أولوا النص بعقولهم. الأمر الثاني: أن المعية ليست صفة مستقلة بذاتها، فالمعية لا تتعلق بذات الله عز وجل مباشرة، وإنما تتعلق بما يمكن أن نسميه الحال بين الخالق والمخلوق، فمعنى أن الله عز وجل مع خلقه أنه معهم بتدبيره وعلمه، وليس هذا من باب التكلف في تفسير النص كما يفعلون هم، إنما من باب تفسير النص بالنص؛ لأنه لو تركت نصوص المعية بدون ردها إلى نصوص أخرى لأدت إلى القول بالحلول والممازجة، وأدت إلى ما يقول به الصوفية من أنهم يجلسون مع الله عز وجل، أو يجالسونه، أو أنهم يكلمونه! أو ما يقوله اليهود من أنهم يعاملون ربهم كما يُعامَل الواحد منهم! فهذا خطأ ينبني عليه انحراف -بل كفر- في الاعتقاد. ثم إن نصوص المعية عندما فسرها السلف لم يخرجوا عن مقتضى ظاهر النص في إثبات المعية؛ لأن قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:5] ونحوه من ألفاظ المعية فسروها بما لا يؤدي إلى المعنى الذي أدى إلى القول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود. ثم إن مسألة إثبات معية الله عز وجل لخلقه لولا أن الناس تكلموا فيها وجاءوا بمعانٍ باطلة في معنى المعية فقالوا بالممازجة والمخالطة؛ لما تكلم أهل السنة بردها إلى نصوص العلو على النحو الذي صار الآن؛ لأن الناس كانوا مسلمين بمعنى المعية على ما يليق بجلال الله عز وجل، وأنها معية حقيقية. فأهل السنة ما قالوا في المعية على نحو ما قالوا وردوها إلى نصوص العلو إلا عندما ظهرت شبهات أهل الأهواء، وإلا فالأصل أن تبقى على ظاهرها دون ردها إلى النصوص الأخرى، وذلك أن المعية ما دامت متعلقة بذات الله عز وجل وبعلمه وإحاطته وتدبيره؛ فلابد من أن يفهم العاقل أنها معية حقيقية على ما يليق بجلال الله، وأن الله مع خلقه حقيقة ولو لم يكن بذاته. وذلك أن عظمة الله عز وجل لا تقاس بالمخلوقات حتى يتصور بعض المتوهمين مسألة المسافات أو القرب الزمني أو القرب المكاني في المعية بين الله وخلقه، فالله عز وجل أعظم من كل شيء، والمخلوقات أمام عظمة الله عز وجل لا تكاد تساوي شيئاً، فالحقير أمام العظيم لا يمكن أن يقارن بالمسافات ولا بتقديرات المخلوقين. ولكي نقرب مفهوم السلف القديم للمعية نضرب مثلاً بالمخلوقات، ولله المثل الأعلى، وليس كمثله شيء، فالمخلوقات نفسها تتفاوت المعية بينها تفاوتاً عظيماً، فلو تصورنا أصغر الشيء من المخلوقات التي يشاهدها المخلوق، كذرات من التراب جعل الإنسان أمامه ذرة منها في أقصى طاولة من جهة، وذرة أخرى في أقصى الطاولة من الجهة الأخرى؛ فنجد أن بينهما بعداً شاسعاً، لكن بالنسبة لك أنت لا يعتبر البعد شاسعاً؛ فبإمكانك أن تمد يدك إلى هذه وهذه وتجمع بينهما. فمسألة المعية بين العظيم والحقير لا يتكلم فيها، ولا ينبغي للناس أن يخوضوا فيها، ولذلك ينبغي أن نقول: معي

شرح العقيدة الطحاوية [34]

شرح العقيدة الطحاوية [34] من أصول المتكلمين التي ردوا بها النصوص الشرعية: أنهم قدموا العقل على النقل، بعد أن تخيلوا وجود تعارض بينهما، ومن القواعد التي يرد عليهم بها: أنه يستحيل أن يتعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح، وأن الشرع هو الأصل والعقل تابع له، فليس العقل حاكماً وقاضياً على النقل والنص، وأنه لا يتوهم التعارض إلا لمن كان عنده خلل في عقله، أو كان النص المنقول ضعيفاً لا يصح، وبذلك تبطل حجته ومعارضته.

استحالة تعارض العقل الصريح والنقل الصحيح

استحالة تعارض العقل الصريح والنقل الصحيح القاعدة الرابعة: أنه لا يمكن ولا يتصور عقلاً ولا شرعاً أن تأتي دلالة العقل مصادمة لدلالة الشرع، فهذا مستحيل، وقد يرد إشكال عند كثير من الناس، وهو الإشكال الذي أورده الفلاسفة لقصور فهمهم للشرع ولقضايا البدهيات الشرعية، بل حتى العقلية، وهذا الإشكال هو أن يقال: إذاً: ما معنى أن ترد بعض النصوص التي لا يعقلها بعض الناس؟! فنقول: هذا يرد بالنسبة لأفراد الناس، فأفراد الناس قد يرد عند أحدهم نص من نصوص الكتاب والسنة فلا يعقله، أو يشتبه عليه، أو يظنه لا يمكن عقلاً، لكن إذا تأملنا وجدنا أنه ليس العيب في النص، ولا يمكن أن يكون العيب في الوحي، ولا يمكن أن يكون العيب في كلام الله تعالى ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يجب ويتعين أن نرجع إلى العقل نفسه؛ لأن العقل هو تفكير هذا الإنسان العاقل، وليس العقل شخصية مستقلة مجردة مقدسة أو منزهة عن الخطأ، بل العقل ما هو إلا نتاج التفكير عند هذا الإنسان، والتفكير راجع إلى المفكر نفسه، والمفكر إنسان ضعيف محدود الطاقة، محدود العلم، محدود التصور، محدود الخيال، يعتريه الخطأ والسهو والنسيان والخلل والهوى والوسواس وشبهات الشيطان ونزعات النفس الأمارة بالسوء، كل هذه تعتري العقل. إذاً: فكيف يقال: إنه عارض النص أو: إنه لا يعقل النص؟! فمسألة تقديس العقل وإعطائه اعتباراً فوق الشرع مغالطة؛ لأنه ليس هناك عقل مجرد بين السماء والأرض يرجع إليه ويقال: إنه معصوم، فالعقل هو نتيجة تفكير العاقل، والعاقل هو هذا الإنسان المحدود الفاني الضعيف المحكوم بعوارض الحياة وعوارض الموت. إذاً: فلا يتأتى عقلاً ولا شرعاً أن نتوهم أن يعارض العقل الشرع معارضة حقيقية، فلا يصح أن يقال: العقل يشهد بصحة ما دل عليه النقل، فهو الحاكم، كما ذكر عن الرازي وأمثاله.

الشرع هو الأصل والعقل تابع له

الشرع هو الأصل والعقل تابع له القاعدة الخامسة: أن الشرع هو الأصل وأن العقل تابع، وهذا رد على عبارتهم: العقل أصل النقل. وهذه عبارة باطلة، وسبب ذلك أيضاً انتكاس المفاهيم، فـ الرازي والفلاسفة والمتكلمون من قبله يقولون: العقل أصل النقل، يعني: العقل هو الأصل في فهم الشرع، فقيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأننا لا نفهم أوامر الله عز وجل ولا نواهيه ولا نفهم أمور الغيب الواردة في الكتاب والسنة إلا من خلال العقل، إذاً: فما دام العقل هو الوسيلة فهو أصل النقل! وهذه مغالطة انطلت على كثير من صغار المتكلمين وأتباع هؤلاء الفلاسفة، والإنسان قد يغتر بهذه المقولة ويقول: نحن لا ندرك كثيراً من خطاب الله عز وجل وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر والنهي والخبر إلا بعقولنا، إذاً: العقل هو الأصل. وهذه مغالطة بمقدمة خاطئة بنيت عليها نتائج خاطئة، فالعقل ليس أصلاً، إنما هو وسيلة، والوسيلة لا يمكن أن تكون أكبر من الغاية، هذه ناحية. الناحية الأخرى: أن العقل مرشد إلى ما هو أعظم منه، أو دليل على مدلول أعظم، ولا يمكن أن يكون الدليل أكبر من المدلول، فدليل المبصر على طلوع الشمس عينه وبصره، فالعين دلت على طلوع الشمس، فهل هي أكبر من الشمس؟! وهل هي أعظم من الشمس؟! بل لا يمكنها أن تتصدى للشمس دقائق معدودات، فإذا كانت العين دلت على الشمس فصارت دليلاً؛ فهذا لا يدل على أنها أكبر من الشمس، فكذلك إذا كان العقل قد دلنا على صحة الشرع؛ فلا يعني ذلك أنه أكبر من الشرع؛ لأن الشرع كلام الله عز وجل ووحيه، فلا يمكن أن يكون العقل المخلوق الضعيف أكبر من كلام الله وأعظم، أو حاكماً على كلام الله عز وجل وكلام رسوله. وهناك مثل واضح ضربه شيخ الإسلام ابن تيمية وأورده ابن القيم وأورده الشارح في مقام آخر، وهو مثال على أن العقل إن دلنا على معاني الشرع فلا يعني هذا أنه أكبر، وذلك أن الشرع بمثابة العالم المرجع للأمة، والعقل بمثابة العامي الذي يعرف مكان هذا العالم، فلو افترضنا أن إنساناً سأل هذا العامي فقال له: من أسأل في أمر ديني؟ فعندي مسألة في الدين. فمن البديهي أن العاقل يقول: اسأل العالم وأنا أدلك عليه، فذهب هذا العامي بهذا السائل إلى العالم، فتبين لنا أن هناك دليلاً ومدلولاً عليه، فالدليل هو العامي الذي يعرف بيت العالم ومسكنه، والمدلول عليه هو العالم، فالسائل عندما وصل إلى العالم سأله عن أمر دينه فأخذ العالم يفتي، فلو افترضنا أن العامي قال للسائل: لماذا تسأل العالم، اسألني أنا، فقال: لماذا أسألك؟ فقال: لأني أنا الذي دللتك عليه. فهل يصح هذا؟! و A لا. إذاً: فكون العقل دل على النقل لا يعني أنه أعظم منه، بل هو وسيلة جعلها الله عز وجل لمعرفة الشرع. إذاً: فلا يتأتى أبداً أن يكون العقل أعلم، والمتكلمون قالوا: إذا عارض النقل العقل قدمنا العقل. فينبني على هذا القاعدة السادسة، وهي أنه إذا توهم أحد من الناس التعارض بين العقل والنقل؛ فإنا نقدم النقل بالضرورة، وكذلك إذا لم نفهم نص الشرع، وبعض الناس يقول: كيف نقدم الشرع في مسألة احتار فيها العقل ولم يصل إلى نتيجة؟! ونقول: إذا احتار العقل في فهم الشرع؛ فالشرع هو المقدم من باب التسليم، بمعنى أن نقول: آمنا بما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم وأنه حق وصدق ولو ما فهمناه، ولا ننكص -نسأل الله السلامة- كما نكصوا، فنقول: نأخذ بالعقل وندع الشرع.

توهم التعارض ناشئ عن خلل في العقل أو ضعف في النقل

توهم التعارض ناشئ عن خلل في العقل أو ضعف في النقل القاعدة السابعة: أنه إذا توهم التعارض بين النقل والشرع؛ فهذا يعني بالضرورة أن في فهم العقل وإدراكه خللاً أو ضعفاً. فالشارح يقول: [لكن إذا جاء ما يوهم من ذلك] أي: ما يوهم التعارض بين الشرع والعقل؛ [فإن كان النقل صحيحاً فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول]. وهنا مسألة ما تطرقت لها، وهي أننا حينما نقول: الشرع نقصد الشرع الثابت، ولا نقصد الأحاديث الضعيفة أو الأحاديث الموضوعة أو نحوها مما لا يعتقد، لكن الشارح هنا احترز، فهو يقول: [فإن كان النقل صحيحاً] أي: إن كان آية أو حديثاً صحيحاً [فذلك الذي يدعى أنه معقول] أي: يدعي أنه معارضة من العقل، [إنما هو مجهول] أي: أنه جهل من العقل وعدم إدراك [ولو حقق النظر لظهر ذلك، وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة]، وهذا كلام سليم، فإذا كان الحديث ضعيفاً أو موضوعاً فلا يصلح أن نأتي به في هذه القضية ونقول هو يعارض العقل، فهنا ستكون دلالة العقل السليم هي الصحيحة. فلا يتصور أن يتعارض عقل سليم ونقل صحيح أبداً، وليس هناك عقل في الدنيا سليم من العوارض؛ فلا يوجد العقل إلا مربوطاً بالبشر، والبشر ضعيف مهما كان. إذاً: الفلاسفة الذين قالوا بتقديم العقل كانوا يتصورون للعقل وجوداً مطلقاً، وأحياناً يعبرون به عن الله عز وجل، ويعتبرون الشرائع من فعل الكهنة، فإذا حصل عندهم تعارض بين العقل وشرائع الكهنة قالوا بتقديم العقل؛ لأنهم يقصدون به شيئاً مقدساً لا يأتيه الباطل، وكأنهم يعبرون بذلك عن قدرة الله عز وجل، لكنهم أخطئوا الطريق، فالفلاسفة الذين جاءوا في الإسلام قلدوهم بدون بصيرة ولا روية، وأولئك أبخر منهم، فالذين قعدوا هذه القواعد لا يقصدون عقل الإنسان المحدود في هذا البشر، إنما يقصدون عقلاً مجرداً ليس له وجود إلا في أذهانهم ويفترضونه افتراضاً، وأحياناً يعبرون عن الملائكة بالعقول، وأحياناً يعبرون عن قدرة الله بالعقول، ففرق بين فهم العقل عند الفلاسفة وبين ما يجب أن يفهم في الإسلام، وبين فهم المتكلمين الذين قلدوا الفلاسفة.

تقديم العقل على النقل قدح في دلالة العقل

تقديم العقل على النقل قدح في دلالة العقل قال رحمه الله تعالى: [فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونص صحيح أبداً، ويعارض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيقال: إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل]، وهذه هي القاعدة الصحيحة، فقلب القاعدة عليهم فقال: [إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل؛ لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع]، وهذا الكلام مبني على مصطلحات الفلاسفة، وبعضها قد يكون مصطلحاً عقلياً صحيحاً يقول به الفلاسفة وغيرهم، يعني: من الأمور المنطقية التي يقول بها كل عاقل، فالجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، وقصده أنا إذا جاءنا خبر يثبت وخبر ينفي في قضية معينة، مثلاً: جاء واحد فقال: فلان مات وآخر قال: فلان لا يزال حياً، فعندنا خبران لهما مدلولان، خبر يفيد الحياة وخبر يفيد الموت، والمدلولان متناقضان؛ إذ الموت ضد الحياة. فإذا جاء خبر بهذا وخبر بهذا؛ فلابد من الخروج من أحدهما إلى الآخر، ولا يمكن الجمع بينهما؛ إذ لا يمكن الجمع بين الموت والحياة، فنقول: هذا الرجل إما ميت وإما حي، إذاً: اجتمع عندنا مدلولان هما نقيضان، فهذان المدلولان لا يمكن أن نجمع بينهما ولا يمكن أن ننفيهما، فلا نقول: لا يمكن أن يكون حياً ولا ميتاً في وقت واحد، فرفعهما أيضاً مستحيل، وجمعهما مستحيل، إذاً: لابد من أن نرجح الحياة أو الموت، وهذا بتحقيق الخبر. ومثال ذلك: مسألة شرعية واضحة، فالله عز وجل أخبرنا في كتابه وأخبرنا رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة الصحيحة أن الله رفع عيسى إليه، فقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] فرفع عيسى عليه السلام ثابت قطعاً بالكتاب والسنة، فهذا الخبر كثير من الناس يعرضه على عقله فيقول: لا يمكن أن يبقى إنسان حياً منذ آلاف السنين، فهنا اجتمع عندنا مدلولان: مدلول عقول هؤلاء البشر المنكرة الملحدة التي تقول: لا يمكن أن يكون عيسى حياً بزعمهم، ومدلول الخبر الذي جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم بأن عيسى حي يرزق في السماء وسينزل في آخر الزمان، فهل يمكن الجمع بين المدلولين؟ إنه -بناء على ما سبق- لا يمكن أن يكون حياً وميتاً في وقت واحد، وهل يمكن أن يقال: لا حي ولا ميت؟! لا يمكن، إذاً: لابد من أحدهما، فجاء الخبر عن الله تعالى عن طريق السمع والنقل يقول بأنه حي في السماء رفعه الله إليه، وعقول هؤلاء التافهة تقول بأنه لا يمكن أن يبقى حياً، فنأخذ بدلالة الشرع، وتقديم العقل هنا ممتنع؛ لأن العقل دل على صحة السمع، وإذا كانت عقول الناس المهتدية السليمة المستقيمة أثبتت أن ما جاء عن الله تعالى حق وصدق؛ فقد سلمت ابتداء، وهذه أيضاً مسألة مهمة كان المفروض أن نضعها قاعدة، ولا مانع من أن نضعها قاعدة، وهي أن العقل السليم هو الذي دلنا على صحة السمع، أي: صحة دلالة الكتاب والسنة، وإذا كان العقل السليم هو الذي دل على صحة الكتاب والسنة؛ فهذا يعني: أنه لابد من أن يسلم لهما بالبداهة، لاسيما أن العقل السليم يثبت عصمة الكتاب وعصمة ما صح من السمع، وإذا أثبت العصمة وجب عليه ألا يناقض هذا، ولذلك قد نأتي إلى بعض المتكلمين، ونقول له: أنت الآن استعملت عقلك في تأمل كتاب الله عز وجل. فيقول: نعم، فنقول: ألم تدرك بعقلك أن كتاب الله حق؟ فيقول: بلى والله، أدركت هذا. كما يقول الرازي وأمثاله، يقول: أدركت أن كلام الله حق وصدق لا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. إذاً: ما دمت تقول: كلام الله حق وصدق، فكيف تقول: إذا تعارضا قدمت العقل؟! فإنك تكون بذلك قد نقضت قاعدتك وتسليمك، فالعقل السليم الذي سلم بأن الحق هو ما جاء عن الله وعن الرسول لو اعترض في جزئية من جزئيات الدين اعتراضاً عقلياً على الشرع يكون بذلك قد انتقض تسليمه كله على طول الخط؛ لأنه أولاً سلم ثم نقض تسليمه، فكذلك المتكلمون الذين قالوا بأن القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم حق، ثم جاءوا يقولون: ما تعارض مع العقل من الكتاب والسنة ندفعه أو نؤوله! فهؤلاء تناقضوا ونقضوا قاعدتهم؛ لأن العقل قد دل على صحة السمع، أي: قبول ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، وإذا أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضاً للنقل. فالشارح قلب الدليل عليهم، فنقول لهم: عقولكم التي سلمت بصحة دلالة النص ثم عارضت صارت مجروحة؛ لأنها شهدت بصحة الكتاب والسنة ثم بعد ذلك قدحت في دلالتهما، فرجع الجرح عليها، إذاً: فالعقل الذي تزعمون أنه معصوم أصبح مجروحاً بعملكم هذا، ولا يصلح أن يكون معارضاً للنص؛ فكان تقديم العقل موجباً عدم تقديمه، أي: فكان تقديم العقل على الشرع في الاعتبار موجباً عدم تقديم العقل على الشرع في الدلالة، وكان تقديم العقل على الشرع في الدلالة موجباً عدم تقديمه في الاعتبار. يقول: إذا أردت أن تكرم العقل وتضع له منزلة فيجب ألا تقدمه على الشرع، فقوله: [فكان تقديم العقل] أي: تكريم العقل [موجباً عدم تقديمه]، أي: عدم تفضيل

شرح العقيدة الطحاوية [35]

شرح العقيدة الطحاوية [35] من أصول الدين وأساسياته التسليم بكل ما جاء عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم معارضة شيء من ذلك بعقل أو رأي أو خيال أو شبهة، كما يجب الاعتقاد بأن ما جاء به الرسول هو الحق والصدق المطلق، وما عداه مما يعارضه فهو باطل، فيجب قبوله والتسليم له، وما جهل منه أو أشكل فهمه رد علمه إلى الله تعالى وحرم الخوض فيه، والتقول على الله تعالى بغير علم؛ فإن ذلك هو الهلاك بعينه، وهو ما وقعت فيه الفرق الضالة التي سلكت مسالك أهل الكلام، فلم تفلح ولم تنجح.

توحيد المرسل ومتابعة الرسول أصلان لا نجاة بدونهما

توحيد المرسل ومتابعة الرسول أصلان لا نجاة بدونهما قال رحمه الله تعالى: [فالواجب كمال التسليم للرسول صلى الله عليه وسلم، والانقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن يعارضه بخيال باطل يسميه معقولاً، أو يحمله شبهة أو شكاً، أو يقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فيوحده بالتحكيم والتسليم والانقياد والإذعان، كما وحد المرسل بالعبادة والخضوع والذل والإنابة والتوكل، فهما توحيدان لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول]. تسمية هذين الأصلين بأنهما توحيدان فيها نوع غموض أو لبس، مع أن المقصود واضح، فهو يقصد وجوب توحيد الله عز وجل بالعبادة، كما أنه لا يطاع غير الرسول صلى الله عليه وسلم في الدين، لكن تسميتهما بالتوحيدين فيها لبس، فالأولى أن يقال: هما أصلان: توحيد المرسل، يعني: توحيد الله عز وجل الذي أرسل الرسل وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا التوحيد هو الأصل، أما الثاني فهو توحيد المتابعة، بمعنى توحيد مصدر الدين، فلا يؤخذ الدين إلا عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله. إذاً: فالأولى أن نسميهما أصلين، ولا نقول: توحيدان.

خطر الانحراف في التلقي لأمور الدين

خطر الانحراف في التلقي لأمور الدين قال رحمه الله تعالى: [فلا يحاكم إلى غيره، ولا يرضى بحكم غيره، ولا يقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره، وإلا حرفه عن مواضعه وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً، فقال: نؤوله ونحمله]. هذا الانحراف في التلقي نجده واضحاً في كثير من الأمة، والانحراف في التلقي هو أخذ الدين عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم والتسليم لغيره عليه الصلاة والسلام، أو الرجوع عند التنازع إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا نجده واضحاً في عدة طوائف من الأمة، أولها: الفرق عموماً ابتداء من الخوارج والرافضة الشيعة، والشيعة الأوائل انقرضوا، وما بقي إلا الرافضة ومن تفرع عنهم، وكذلك القدرية والمرجئة والمعتزلة والجهمية والمشبهة والجبرية وأهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية ثم الفلاسفة والباطنية، كل هؤلاء وإن سلم بعضهم بالمبدأ بأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله إلا أنهم عند التنفيذ وعند تلقي الدين أو الأخذ به أو العمل به نجدهم يتلقونه ممن هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم بغير هدى ولا بصيرة، وفي الآونة الأخيرة ظهرت نزعات جديدة تميل إلى هذا الاتجاه، وهي رجوع أصحاب الشعارات إلى شيوخهم وإلى رءوسهم وقاداتهم. وأقصد بالشعارات الشعارات التي ينضوي تحت لوائها جماعة من الناس، تضع لنفسها مناهج وتضع لنفسها أصولاً تعقد عليها الولاء والبراء وتحكمها عند الخلاف وترجع إليها في بعض أمور دينها أو في أمور الدعوة ونحو ذلك، فهذه الشعارات واللواءات أيضاً وقعت فيما وقع فيه الأولون، فإذا جاء الخبر عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم أرجعوه إلى أصولهم، فإن وافق أصولهم أخذوا به وإن خالف أصولهم سوغوا لمخالفته بتأول أو بتفسير شاذ أو باحتجاج بواقع أو بقول شيخ أو نحو ذلك. كما أن هناك طائفة ثالثة وقعت، لكنها أخف من غيرها، وهي متعصبة المذاهب، فمتعصبة المذاهب وقعوا في التلقي عمن دون الرسول صلى الله عليه وسلم والتحاكم إليه مع تسليمهم للمبدأ، فمتعصبة المذاهب أحياناً يأتيهم الدليل الذي يخالف مذهبهم ويثبت أنه صحيح وأنه غير منسوخ إلى آخر ذلك من القواعد المعروفة في ثبوت الدليل وثبوت دلالته، ثم يعرضون عنه، ويقولون: هذا لا يمشي مع القاعدة التي قال بها فلان، وأحياناً ينسبون القاعدة إلى إمام من أئمة الدين الذين لا يرضون هذا الأسلوب، كالإمام أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد. ولذلك وجد في شواذ المذاهب ما يخالف الإسلام أصلاً، وسبب ذلك أن طائفة من متأخري أتباع المذاهب حكموا القواعد ولم يحكموا النصوص أحياناً، وعلى سبيل المثال وليس على سبيل القدح أذكر مثالاً لطائفة وهو مثال واضح من أوضح الأمثلة، وقد يوجد نحوه في كل مذهب، لكن أجده في أحد المذاهب واضحاً جداً، خاصة من بعض المنتسبين إلى هذا المذهب المتعصبين له، وهو مذهب الأحناف، والمذهب الحنفي من مذاهب أهل السنة وفي أتباعه وفي شيوخه خير كثير، وكثير منهم من أئمة الإسلام، لكن وجد عند المتأخرين تعصب شديد، فالمثال هو وجود طائفة منهم الآن نراهم في الحرم وفي غيره لا يتمون الركوع أبداً، بل ركوعهم كبعض الرافضة إذا رفع رأسه من الركوع لا يكاد يتم الرفع، مجرد إشارة إلى فوق ثم يهوي ويسجد، فلا يقول: سمع الله لمن حمده، ولا يستكمل الدعاء ولا يعتدل كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا رجعنا إلى أصل هذا العمل وجدناه يرجع إلى قواعد في المذهب الحنفي، ولا يرجع إلى نص شرعي صحيح؛ والصلاة من أعظم شعائر الدين التي تواتر نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث لا يمكن لأحد أن يخفى عليه شيء من واجباتها وأركانها، فالصلاة من أعظم شعائر الإسلام التي بقيت كما كانت في المسلمين إلى اليوم إلا من حرف وبدل، فهذا مثال لمتعصبي المذاهب.

وجوب المبادرة بقبول خبر رسول الله والعمل به واجتناب الخوض فيما جهل علمه

وجوب المبادرة بقبول خبر رسول الله والعمل به واجتناب الخوض فيما جهل علمه قال رحمه الله تعالى: [فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب -ما خلا الإشراك بالله- خير له من أن يلقاه بهذه الحال، بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه كأنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل يسوغ له أن يؤخر قبوله والعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وكلامه ومذهبه؟! بل كان الفرض المبادرة إلى امتثاله من غير التفات إلى سواه، ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان، بل تستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل تهدر الأقيسة وتلغى لنصوصه، ولا يحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول، ولا يوقف قبول قوله على موافقة فلان دون فلان كائناً من كان. قال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حَجْرة، إذ ذكروا آية من القرآن، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مغضباً قد احمر وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: مهلاً يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، وإنما يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه)]. هذا فيه إشارة إلى قاعدة في التعامل مع النصوص أرى كثيراً من الناس -بل حتى بعض طلاب العلم في هذا الزمان- لا يتأدبون بأدبها، وهي في المراء والخوض في المسائل العلمية غير البينة أو التي تحتاج إلى الاجتهاد بشروطه والكلام فيها بغير علم مع ضرب النصوص بعضها ببعض، أقول: كثير من الناس اليوم يتساهل، فقد تذكر أحياناً أحاديث أو مسائل علمية في بعض المجالس فتجد كل واحد من الحاضرين ينتزع دليلاً من القرآن أو دليلاً من السنة ويضربون الأدلة بعضها ببعض بدون أدب مع كتاب الله تعالى ومع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدون اعتبار لأصول الاجتهاد وأصول الأخذ بالنصوص، ودون تورع عن القول على الله بغير علم، مع أن مثل هذه المسائل كثيراً ما تؤدي إلى الخصومات والمراء والجدل والنزاع، وأحياناً تؤدي إلى التشاحن، فابتداء الأمر بهذه الصورة خطأ فضلاً عن أن نهايته تؤدي إلى الإثم، فعلى هذا ينبغي أن يناصح الناس وتثار هذه المسألة كثيراً بين طلاب العلم، فيتواصون بعدم التساهل في أخذ المسائل العلمية بغير نهج سليم وفي ضرب الأدلة بعضها ببعض، فتجد أن كثيراً من الناس من السهولة عنده بمكان أن يأخذ آية ويستدل بها على أمر يراه هو مجرد رأي دون أن يعرف هل وجه الاستدلال صحيح وهل الآية تدل على المراد أم لا، وهل هي ناسخة أو منسوخة، ثم هل هو ممن يملك الاجتهاد ويعرف المسائل والأدلة وكيف يجمع بينها إلى آخره، كل ذلك لا يراعى في كثير من أحاديث الناس اليوم. فينبغي أن تتواصوا بهذا الأمر؛ لأنه بدأ يستفحل ويكثر في الناس، حتى إنه تجرأ على ذلك العوام والشباب الصغار والنساء؛ لكثرة تعلم الناس وكثرة القراء فيهم وقلة الفهم، فأخذوا يضربون الآيات بعضهما ببعض والنصوص بعضها ببعض، وكل يأتي وينتزع الدليل على هواه، وأحياناً يستدلون بطرق غريبة جداً لا تتناسب مع فهم العربية فضلاً عن أصول الاستدلال. وتجدهم يفسرون الآيات على أهوائهم، وينقلون الحديث ثم يفسرونه على أهوائهم، وهذا مشهور وواقع، تتبناه بعض الصحف وتنشره علانية، وهذا نوع من انتشار هذه الظاهرة عند الصحافة والصحفيين، حيث ظهرت الجرأة على أحكام الله تعالى وعلى أحكام الشرع، وعلى قضايا الأمة الخطيرة وما هو من أمور العلم الشرعي، وما الصحافة إلا مظهر من مظاهر ما يحدث في المجتمع، وإن كانت الصحافة في الغالب مجروحة العدالة أصلاً وابتداء، لكن الناس الأصل فيهم العدالة، ونحن ننصح الناس، وأما الصحافة فينبغي أن تردع الصحافة ينبغي أن تردع من قبل الولاة عن الجرأة على دين الله تعالى وعلى أحكامه.

قواعد من الفقه في الدين

قواعد من الفقه في الدين

تحريم القول على الله بغير علم

تحريم القول على الله بغير علم قال رحمه الله تعالى: [ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36]، فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم هل خالفه أو وافقه لكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده لكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو بتكذيبه؛ فإنه يمسك عنه، ولا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول. وقد يكون علم عن غير الرسول، لكن في الأمور الدنيوية، مثل الطب والحساب والفلاحة، وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية؛ فهذه العلم فيها ما أخذ عن الرسول لا غير]. في هذا المقطع قرر قاعدة من قواعد الفقه في الدين، وهي قاعدة عظيمة، وتشمل عدة مسائل: المسألة الأولى: تحريم القول على الله بغير علم، وهذا يعني: أن من تكلم في أصول الدين وفي مسائل الحلال والحرام وفي الأمور الشرعية فإنه قائل على الله، فإن كان كلامه عن علم وعن دليل وافق الحق وأصاب، وإن كان كلامه عن غير علم ولا دليل فقد أخطأ في قوله وإن أصاب أو وافق الحق، فحينما يوافق الحق تخرصاً لا ينفعه ذلك، فهو قول على الله بغير علم، ولا يجوز القول على الله بغير في مسائل الدين ولا في غيرها، لكن مسائل الدين هي مقصوده هنا، فلا يجوز القول بأن هذا حق أو باطل، أو بأن هذا حلال أو حرام، أو بأن هذه هي العقيدة أو بأن هذا مراد الله إلا بعلم. ومن وسائل العلم بالنسبة للمسلم: أن يعرف الدليل ووجه الاستدلال. ومن ذلك: أن يكون الأمر مما هو معلوم من الدين بالضرورة، كتحريم الكذب مثلاً وتحريم الزنا وتحريم الربا ونحو ذلك، فهذا كله معلوم من الدين بالضرورة، حتى لو لم يستحضر الإنسان الدليل؛ لأنه نقل بالإجماع والتواتر. ومن ذلك نقله عن إمام هدى وعالم يقتدى به، فلا مانع من أن يقول: قال العالم أو قال الشيخ، فمن هنا تبرأ الذمة ويسلم الإنسان من القول على الله بغير علم. أما بغير هذا فإنه إذا قال في مسألة من الأمور الشرعية: إن الله أراد كذا أو حرم كذا أو أحل كذا، أو هذا هو الحق دون أن يكون صادراً عن الدليل مع فهم الدليل، أو عما هو معلوم بالضرورة، أو عن قدوة؛ فإنه بذلك يخطئ.

وجوب اعتقاد أن ما جاء به الرسول هو الحق والصدق المطلق

وجوب اعتقاد أن ما جاء به الرسول هو الحق والصدق المطلق المسألة الثانية: أنَّه يجب على الإنسان المسلم أن يعتقد أن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق مطلقاً، وما عداه من سائر كلام الناس يعرض على هذا الحق والصدق، فإن وافقه فهو كذلك حق وإن لم يوافقه فليس بحق.

وجوب التوقف فيما لم يتبين الحق فيه من الباطل

وجوب التوقف فيما لم يتبين الحق فيه من الباطل المسألة الثالثة: أن المسلم إذا أشكلت عليه مسألة من المسائل فلم يعرف هل هي حق وتوافق الحق أم هي باطل؛ وبذل وسعه وتكلف في البحث عن الدليل وسأل أهل العلم، فلم يتبين له وجه الحق؛ فإنه يتوقف، ويسعه التوقف والإمساك، فلا يثبت ولا ينفي ولا يحلل ولا يحرم، ولا يقول: هذا حق ولا باطل؛ بل يقول: الله أعلم، أو: لم يتبين لي وجه الحق. وهذا منهج السلامة الذي عليه أهل الحق، إذاً: لا يتكلم إلا بعلم، والعلم لا يكون علماً إلا إذا قام على الدليل، وهذه قاعدة عامة.

علم الرسول هو العلم النافع الذي تضبط به علوم الدنيا

علم الرسول هو العلم النافع الذي تضبط به علوم الدنيا المسألة الرابعة: أن النافع من العلوم الشرعية هو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، أما العلوم الدنيوية فإنها تضبط في عموماتها بالشرع في كونها غايات أو وسائل، وكونها -مثلاً- تفيد أو لا تفيد إلى آخره، فهذه تضبط بضوابط الشرع، لكنها أمور علمية مبنية على عالم الشهادة، وليست من الأمور التي وردت فيها نصوص الشرع تفصيلاً، وإنما وردت فيها نصوص الشرع على وجه الإجمال، فالعلوم الطبيعية والعلوم المادية ليست محكومة بنصوص جزئية، إنما تحكم بغايات الشرع وقواعد الشرع ونصوص الشرع العامة. ثم إن هناك من العلوم الدنيوية ما يكون فيه نوع اشتباه بالعلوم الشرعية، تختلط مسائله وأصوله وقواعده وجزئياته بالعلوم الشرعية، وهذا لابد أن يكون للشرع فيه رأي حتى في بعض تفصيلاته، وهو ما يسمى بالعلوم الإنسانية، وبعض المفكرين أو بعض المثقفين حتى من المسلمين يزعم أن العلوم الإنسانية لا دخل للشرع فيها، كعلوم الاجتماع وعلوم السياسة وعلوم الاقتصاد وعلوم التاريخ والحضارة وسائر العلوم الإنسانية، وأنها إنما تحكم بقواعدها عند المتخصصين، وهذا خطأ فادح انبنى عليه في العصر الحاضر أخطاء كثيرة في مفاهيم المسلمين وأعمالهم دولاً وشعوباً وترتب عليه أخطاء قد يصعب علاجها إلا بعد سنين، وسبب ذلك عزل العلوم الإنسانية عن علوم الشرع، فالعلوم الإنسانية ليست كالعلوم الطبيعية والمادية، بل لابد من أن تحكم بالشرع جملة وتفصيلاً، ولابد من أن تنطلق من منطلقاته الأساسية في قواعدها وفي أصولها وفي أهدافها وفي مسائلها الجزئية وفي أحكامها وفي تطبيقاتها، لابد أن تنظم بأصول الشرع والفقه الإسلامي، والفقه ثري بهذه الأمور، بل أغلب الفقه الإسلامي -إذا استثنينا منه العبادات- وجله في العلوم الإنسانية، كعلوم الاجتماع وأحكام الأسرة وعلوم الاقتصاد والبيع وعلوم السياسة، والأحكام السلطانية وغيرها، فالعلوم الاجتماعية في عصرنا الآن مفصولة عن أحكام الشرع التفصيلية، وعزلها عن الفقه يعتبر كارثة أوقعت المسلمين في كثير من الأخطاء والمفاهيم الخطيرة التي أدت إلى الوقوع في انحرافات يصعب علاجها إلا بعد حين.

موقف العقل من الشرع هو التسليم والاستسلام

موقف العقل من الشرع هو التسليم والاستسلام قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام): هذا من باب الاستعارة؛ إذ القدم الحسي لا تثبت إلا على ظهر شيء. أي: لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه. روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. وهذا كلام جامع نافع. وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير؛ فإن العامي يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن للعالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً فدل عليه عامياً آخر، ثم اختلف المفتي والدال؛ فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي؛ لأني أنا الأصل في علمك بأنه مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرفت أنه مفت، فلزم القدح في فرعه! فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت له بأنه مفت ودللت عليه؛ شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين لا يستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطئ]. أظن أن المثل -إن شاء الله- واضح، وخلاصته: أن العقل مع الشرع كالعامي مع العالم، وذلك أمر في نظري أنه بدهي، فإن الشرع هو الذي يسمى علماً، والعقل لا يعدو أن يكون وسيلة للعلم، وليس هناك إنسان يشتمل على العلم دون تعلم ودون تعقل. إذاً: فالعقل لا يتصور إلا أن يكون وسيلة للعلم، بدليل أن غير العاقل لا يعلم شيئاً، وأن الناس علومهم بقدر عقولهم، ثم إن العقل ليس بذاته يشتمل على العلم، إنما هو -كما قلت- وسيلة إلى العلم، وهذا أمر يدركه كل عاقل، فالعقل نفسه يقول ذلك، فالعاقل لا يولد عالماً، إنما يولد بعقله مستعداً للعلم، وهذا الاستعداد يعتبر وسيلة، فإذا وجد علماً حصله، وإذا لم يجد علماً فلا يمكن لعقله أن يكون عالماً، فالعقل لو لم يجد معلومات ما صار عالماً، ولو لم يجد أيضاً وسائل تعينه -من تفكير وبصر وسمع ولمس وغير ذلك من أنواع الإدراكات- ما استطاع أن يعلم شيئاً. فالله عز وجل جعل العقل آلة ووسيلة، فإذا كان العقل وسيلة، والشرع والوحي من كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يتأتى أن يجهل أحد من الناس هذا الأمر، وهو أن الشرع هو العلم وأن العقل وسيلة، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يتأتى أن تكون الوسيلة أقوى وأقدم وأهم من الأصل نفسه، فتقديم العقل على الشرع عند المتكلمين إنما هو انتكاس في الفطرة ووهم جرهم إليه الفلاسفة، والفلاسفة دائماً إنما يعيشون أوهاماً، فالفلاسفة لا يعيشون عالم الواقع، فالكلام في الواقع لا يعد فلسفة، وإن تجاوز بعض الناس وسماه فلسفة، بل الفلسفة أوهام وخيالات، فلذلك لما خضعوا لهذه الأوهام والخيالات خالفوا البدهيات وقالوا: إن العقل مقدم على الشرع، فلما قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأنا لا نعرف الشرع إلا بالعقل. فيقال لهم: الشرع شرع، وهو علم، سواء وجد العقل أم لم يوجد، لكن العقل لا يستطيع أن يدرك بدون الشرع علماً حقيقياً يتوصل به إلى عالم الغيب وإلى أصول الدين وإلى الحق الذي يريده الله عز وجل ويرضاه، فالعقل قد يدرك المدركات في أمور الدنيا ومع ذلك يخطئ فيها ويقع في أخطاء شنيعة قد تهلك البشر، فكيف بأمور الغيب والدين؟! إذاً: فتقديم العقل على الشرع في أمور الدين أمر يعد مناقضاً للعقل السليم ولمقتضي الفطرة، وما هو إلا من خبالات وخيالات الفلاسفة التي تأثر بها المتكلمون. قال رحمه الله تعالى: [والعقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والانقياد لأمره]. يقصد هنا العقل السليم، وإلا فهناك عقول منكوسة قد لا تسلم بالوحي، لكن العقل السليم إذا رزقه الإنسان أدرك بالضرورة أنه يجب التسليم لخبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.

مثال لمقدمي دلالة العقل على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم

مثال لمقدمي دلالة العقل على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول]. هنا سيضرب مثالاً بحال المتكلمين الذين زعموا أنهم يسلمون للوحي وللقرآن، ثم بعد ذلك وضعوا قواعد يردون بها القرآن ومعاني الوحي. قال رحمه الله تعالى: [وقد علمنا بالاضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول صلى الله عليه وسلم: هذا القرآن الذي تلقيه علينا، والحكمة التي جئتنا بها، قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان ذلك قدحاً فيما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب الأقوال المناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه، لا نتلقى منه هدى ولا علماً، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يرض منه الرسول بهذا، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد ألا يؤمن بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ العقول متفاوتة، والشبهات كثيرة، والشياطين لا تزال تلقي الوساوس في النفوس، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به، وقد قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، وقال: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [إبراهيم:4]، {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15]، {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:1 - 2]، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [يوسف:1]، {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111]، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89]، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر: إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق أم لا؟ والثاني باطل، وإن كان قد تكلم على الحق بألفاظ مجملة محتملة؛ فما بلغ البلاغ المبين! وقد شهد له خير القرون بالبلاغ، وأشهد الله عليهم في الموقف الأعظم، فمن يدعي أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين؛ فقد افترى عليه صلى الله عليه وسلم].

الاتجاهات العقلية الحديثة وريث للاتجاه الكلامي

الاتجاهات العقلية الحديثة وريث للاتجاه الكلامي هذا إلزام واضح لأصحاب الاتجاهات الكلامية التي نسميها الآن في العصر الحديث الاتجاهات العقلانية، فالاتجاهات العقلية على مذهب المتكلمين تماماً في موقفهم الإجمالي من الدين، ولا أقصد بهم أولئك الذين تزندقوا وخرجوا عن الإسلام إلى تيارات وأفكار لا تنتسب للإسلام، إنما أقصد كثيراً ممن يسمون بالمفكرين الذين يحسبون على المفكرين الإسلاميين، وربما كان بعضهم من رواد الحركات الإسلامية الحديثة، فأصحاب هذا الاتجاه العقلاني هم على مذهب المتكلمين الذين يرد عليهم الشيخ هنا، ورد عليهم أهل السنة في مسألة الموقف من الدين ثم تحكيم العقل والتسليم له حينما يظهر عندهم التعارض بينه وبين الشرع، فهناك الآن مواقف واضحة من أمثال هؤلاء تجاه كثير من قضايا الدين، سواء النصوص أو الأصول الشرعية أو مناهج السلف في العقيدة والولاء والبراء وغير ذلك، فأكثرهم إذا جاء ما يصادم تفكيره أو معلوماته من أمور الشرع -سواء كان في الآيات أو الأحاديث- قال: هذا لا يعقل، ومن ثم يذهب بعضهم إلى التأويل المتكلف، وبعضهم ربما يرد النص ولا يبالي، ومن هنا نادى بعض الذين يسمون بالمفكرين الإسلاميين المعاصرين بوضع موازين جديدة للنظر إلى النصوص الشرعية غير الموازين التي عمل بها السلف، خاصة في الأحاديث، وقالوا: ينبغي أن نعيد النظر في تصحيح الأحاديث وتقويمها، ومن الضوابط التي يقترحونها لتقويم الأحاديث أنهم قالوا: إن ما لا يوافق العقل ولا يستقيم عند أهل الفكر من الأحاديث يرد، وضربوا لذلك أمثلة من الأحاديث الصحيحة المقطوع بها في البخاري ومسلم وغيرهما. فجعلوا العقل هو المحكم، ولربما كان المتكلمون الأوائل أتقى وأورع وأكثر أدباً مع النصوص الشرعية من المعاصرين؛ لأن الأوائل تكلموا في معارضة العقل فيما يخفى على بعض من تنطمس فطرهم أو يتأثرون بالفلسفة، ولم يخوضوا في معارضة الواضح الجلي من نصوص الشرع. أما المعاصرون فقد عارضوا الواضح الجلي من نصوص الشرع، واخترعوا أساليب ووسائل للأخذ بالدين غير الأساليب والوسائل التي ارتضاها النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته ثم نقلت عن الصحابة جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا. إذاً: فالعقلانيون الذين رفعوا لواء تقديم العقل في العصر الحاضر هم امتداد للمتكلمة التي تقدم العقل على الشرع، لكن وسعوا الهوة وجروا هذه الاعتراضات حتى على الأحكام، أما الأوائل فلم يكن عندهم اعتراض على الأحكام، وإنما تكثر مسائلهم في الأمور العقلية. أما هؤلاء الذين يعيشون الآن بين ظهراني المسلمين فقد ردوا كثيراً من الأحكام المتعلقة، خاصة ما يتعلق بالمرأة وما يتعلق بالولاء والبراء مع الكفار والفساق وأهل البدع وما يتعلق ببعض الأخلاقيات، فاعترضوا على ذلك بدعوى أن هذا لا يستقيم مع أحوال البشرية اليوم، أو لا يساير المدنية الحديثة أو نحو ذلك، وكل ذلك اعتراض عقلي على نصوص الشرع وأمور الدين. والخلاصة: أن هذا الاتجاه لا يزال في الأمة، إلا أنه الآن أكثر ضرراً وأوسع في تخطيه لأصول الدين من المذاهب القديمة، وربما تأتي المناسبة -إن شاء الله- للحديث عن بعض هذه الاتجاهات في مقام آخر.

شرح العقيدة الطحاوية [36]

شرح العقيدة الطحاوية [36] الكلام في دين الله تعالى بغير علم خطره عظيم، وقد جاء التحذير من ذلك في آيات وأحاديث كثيرة، تدل بمجموعها على تحريم هذا الأمر، وبيان شناعته وعظيم خطره على الدين، ومما ينتج عن ذلك معارضة الشريعة بالأهواء الفاسدة والسياسات الجائرة، والأذواق والأقيسة الباطلة، وكلها تصب في قالب رد النصوص اتباعاً للهوى والضلالة.

خطر التكلم في الدين بغير علم

خطر التكلم في الدين بغير علم قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه؛ حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان): هذا تقرير للكلام الأول، وزيادة تحذير أن يتكلم في أصول الدين -بل وفي غيرها- بغير علم، قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3 - 4]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:8 - 9]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50]، وقال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى. وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف:58]) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم)، خرجاه في الصحيحين].

حصول الفساد بمعارضة الشريعة بالسياسات والأذواق والأقيسة الفاسدة

حصول الفساد بمعارضة الشريعة بالسياسات والأذواق والأقيسة الفاسدة قال رحمه الله تعالى: [ولا شك أن من لم يسلم للرسول صلى الله عليه وسلم نقص توحيده، فإنه يقول برأيه وهواه، أو يقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جاء به الرسول، فإنه قد اتخذ في ذلك إلهاً غير الله، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] أي: عبد ما تهواه نفسه، وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق، كما قال عبد الله بن المبارك رحمة الله تعالى عليه: رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله ورسوله. وأحبار السوء -وهم العلماء الخارجون عن الشريعة- بآرائهم وأقيستهم الفاسدة المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده وتقييد ما أطلقه ونحو ذلك. والرهبان -وهم جهال المتصوفة، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع- بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس]. هذا الكلام تفسير لقوله: إنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق، وهذا لا يعني أن الفساد لا يحدث إلا من هذه الثلاث، لكن ابتداء الفساد في الأمم في الغالب أنه يبدأ من هذه الأصناف الثلاثة.

الفساد الحاصل من معارضة الملوك للشريعة بسياساتهم الجائرة

الفساد الحاصل من معارضة الملوك للشريعة بسياساتهم الجائرة الصنف الأول: الملوك والسلاطين أصحاب الجور والظلم، فهؤلاء يشرعون ما لم يشرعه الله، فيفتنون الناس عن دينهم ويحدث منهم ما يحدث من السياسات الجائرة كما ذكر.

الفساد الحاصل من أحبار السوء

الفساد الحاصل من أحبار السوء والصنف الثاني: أحبار السوء الذين هم علماء السوء، العلماء الذين يسيرون في علمهم على أهواء السلاطين وغيرهم، أو يسيرون على أصول فاسدة كأصول الكلام وأصول الفلسفة وغيرها، فأحبار السوء هم علماء السوء، ولفظ (علماء السوء) يشمل أصنافاً: الصنف الأول: العلماء الذين يفتون بغير علم أو يفتون عن هوى، فإما أن يتابعوا الظلمة في ظلمهم أو يسايروا الناس فيما يريدونه من الشهوات والملذات، أو يطاوعوا أنفسهم، فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون. والصنف الثاني: الذين يتلقون العلم من غير مصادره الشرعية، ويزعمون أن ذلك علماً شرعياً وينسبونه للإسلام، وهؤلاء في هذه الأمة طوائف: أولها: الذين أخذوا علم الفلاسفة وزعموا أنه علم يفوق علم الكتاب والسنة، أو يحكم فيما يرد من الكتاب والسنة، وأحياناً يجعلونه هو العلم الفاضل الذي يتطلع إليه العقلاء، ومن هذا الصنف من يضعون القواعد العقلية من عند أنفسهم أو ما يسمى بالرأي أو المعقولات ويجعلونها أصولاً يُرجِعون إليها نصوص الكتاب والسنة ويجعلونها هي المحكمة فيهم.

الفساد الحاصل من جهة العباد الجهلة

الفساد الحاصل من جهة العباد الجهلة والصنف الثالث: الرهبان، والمقصود بهم العباد الجهلة، وإنما عبر بالرهبان؛ لأن أفسد العباد الذين ظهروا في الأمم هم عباد النصارى، فقد أفسدوا الدين والدنيا، كما أنه عبر عن الفرقة الثانية بالأحبار؛ لأن أحبار اليهود هم أفسد من ينتسب للعلم من أتباع الأنبياء. فالرهبان المقصود بهم العباد المتنسكة الذين يعبدون الله على غير هدى، يعبدونه بشرائع وضعوها لأنفسهم وتعبدوا بما لم يتعبدهم الله به، بترك أشياء لم يأمر الله بتركها، أو بفعل أشياء لم يأمر الله بفعلها، فلذلك تركوا ما لا يستقيم بدونه دين الناس ولا دنياهم، سواء رهبان النصارى وغيرهم من رهبان الهندوس والمجوس وغيرهم، وكذلك عباد هذه الأمة الأوائل الذين انبثق منهم المتصوفة، فإن هؤلاء وضعوا لأنفسهم من العبادات ما لم يشرعه الله من الصيام والصلاة والأذكار وغيرها، ثم إنهم أيضاً تركوا ما شرع الله فحرموا على أنفسهم وعلى غيرهم الحلال، بل تركوا ما لا تستقيم الحياة إلا به، وأعرضوا عن العلم الشرعي، بل عن العلوم كلها، وتعبدوا الله بالجهل، وظنوا أن هذا هو الصراط المستقيم، فبذلك ضلوا وأضلوا، فتعبدوا الله بترك الزواج مثلاً، وهذا مما تفسد به الحياة، ولو أن الناس كلهم تركوا الزواج لانقطعت الحياة، وتركوا مخالطة الناس بدعوى الانفراد لعبادة الله عز وجل؛ مع أن مخالطة الناس وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل والصبر على الأذى في هذه الدعوة هو الحق الذي أراده الله، فاعتزلوا الناس بدعوى أن ذلك للعبادة، فكان في اعتزالهم شر عليهم وعلى الأمة، فتركوا الجهاد وتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتركوا تعليم الناس والتعلم من الناس، وغير ذلك من الأمور التي أدخلها الرهبان والتي أوجدتها الطرق الصوفية التي هيمنت اليوم على أكثر الأمة الإسلامية وأوقعتها في الذل والهوان والانتكاس والجهل والبدع والخرافات، والمتصوفة قرينة الرافضة، تجتمعان على أصول كثيرة من الجهل والحمق والتعبد بغير ما شرعه الله وترك ما شرعه الله وغير ذلك مما هو معروف. إذاً: هذه الأصناف الثلاثة تشمل جميع فرق الأهواء، وهي الأسباب الرئيسة الأولى في انحراف الأمم عموماً وانحراف هذه الأمة على وجه الخصوص، سياسات جائرة من السلاطين، ثم أحبار السوء الذين يزينون الشر للسلاطين وللناس ويصدون عن الخير باسم الشرع، ثم المتعبدة الرهبان الذين لبسوا على عوام المسلمين وعلى كثير من أبنائهم بما يظهرونه من زهد وتورع، وهو زهد كاذب وتورع كاذب.

وجه الإفساد الكائن من ملوك الجور وأحبار السوء وأصحاب الذوق والوجد

وجه الإفساد الكائن من ملوك الجور وأحبار السوء وأصحاب الذوق والوجد قال رحمه الله تعالى: [فقال الأولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة! وقال الآخرون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل! وقال أصحاب الذوق: إذا تعارض الذوق والكشف وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف]. هذه قواعد لهؤلاء تعتبر فعلاً خلاصة مناهجهم، وقد ذكر الشارح رحمه الله هنا بأسلوب بين جلي وفي إيجاز بالغ مناهج هذه الأصناف الثلاثة، فالأولون أصحاب السياسات الجائرة قد يدعون أنهم يحكمون بشرع الله عز وجل، لكن إذا تعارضت السياسة مع الشرع قدموا السياسة، وهذا أمر واقع فيه أكثر السلاطين الجورة قديماً وحديثاً، خاصة في عصرنا، فإن أغلب الأمة الإسلامية تحكمها أنظمة وتحكمها سياسات تأخذ بهذا المبدأ، وإن اعترف بعضها بالإسلام فإنما يأخذ بهذا المبدأ، وهو مبدأ تقديم السياسة وما يسمونه بمصالح البلد والوطن، وما يسمونه بمصالح الدولة أو بمسايرة الأمم أو بمسايرة أحوال الناس إلى آخره ويقدمونه على الدين وعلى الشرع. فهذه قاعدة عند الساسة الجورة الذين لا يأخذون بدين الله عز وجل ولا يحكمون شرع الله إلى اليوم، بل هي اليوم قاعدة واسعة أكثر من ذي قبل، فإذا كان هذا الكلام كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن القيم ثم أخذه ابن أبي العز في ذلك الوقت؛ فكيف بوقتنا هذا. والصنف الآخر: الذين يقوم منهجهم على اعتماد العقل مصدراً من مصادر التلقي، فإذا تعارض مع الشرع أخذوا بالعقل وجعلوا الشرع محكوماً عليه بأحكام العقل الناقص المحدود. والفئة الثالثة: أصحاب الذوق الذين هم المتصوفة ومن نحا نحوهم كما ذكرنا، فإنهم أدخلوا في مصادر الدين ما لم يشرع، فأفسدوا الدين بهذه المصادر، وهذه المصادر هي الذوق والكشف ونحو ذلك من المصادر التي زعموا أنها تكون هي المرجع عندما تأتيهم النصوص أو الآثار عن السلف، بل إنهم قد لا يعملون بالنصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ويعملون بما يقول به شيوخهم وما يقول به سادتهم ومن يسمونهم بالأولياء حينما يهذون بهذيان قد يفسد الدين والدنيا، والعجيب أن المتصوفة حتى اليوم لا يناقشون ما يصدر عن شيوخهم، سواء كان حقاً أو باطلاً، بل ينفذونه مهما كان، حتى لو كان يتضمن الأمر بالفواحش فعلوه وتأولوا، وإذا جاءتهم الآيات لووا أعناقها وصرفوها إما برد وإما بتأول وإما بدعوى أن لها مفهوماً يرجعون فيه إلى شيوخهم. وكذلك إذا جاءتهم الأحاديث وآثار السلف وقفوا منها هذا الموقف، فإما أن يردوا الأحاديث والآثار، وإما أن يؤولوها، وإما أن يرجعوها إلى شيوخهم ويقولون: لا نعمل بهذا الحديث أو الآية حتى نرجع إلى الشيوخ، فيكون المعول عندهم على الذوق والكشف، والذوق يتضمن أشياء كثيرة، والكشف يتضمن أشياء كثيرة، منها: الرؤى والأحلام، ومنها الهذيان عند الرقص وما يسمونه بالسماع، حتى إن بعضهم يأخذ بهذيان المخبولين، فبعض الناس يكون عندهم شيء من ضعف العقول، وهم عقلاء المجانيين أو مجانيين العقلاء، الذين عندهم نوع من الهلوسة، فهؤلاء عند الصوفية لهم خصيصة، ويزعمون أنهم لا يتكلمون إلا بحق ولا يقولون إلا حقاً، وفي مصر وفي بعض مناطق السودان يسمونهم المجاذيب، وهم أناس فيهم نوع من الجنون أو نوع من خفة العقل، فهؤلاء يتعلقون بهم ويقدسونهم فالمهم أن هؤلاء يعطون الرجال من القدر والاعتبار أكثر مما يعطون الشرع.

شرح العقيدة الطحاوية [37]

شرح العقيدة الطحاوية [37] اختلف الناس في علم الكلام، ومذهب السلف الصالح رحمهم الله والأئمة أنه بدعة وحرام لا يجوز تعلمه ولا تعليمه، وذلك لأن الصحابة تركوه ولم يأخذوا به مع قيام الحاجة إليه في عهدهم، ولكثرة شره ومفاسده، وإضاعة الوقت فيه بلا فائدة، وإثارته للشكوك والشبهات في عقائد المسلمين، ولهذا فإن أساطين علم الكلام والذين خبروه قد حذروا منه ومن تعلمه، بعدما تبين لهم فساده وبطلانه، كالإمام الغزالي رحمه الله وغيره.

ما قاله الغزالي في حكم تعلم علم الكلام

ما قاله الغزالي في حكم تعلم علم الكلام قال رحمه الله تعالى: [ومن كلام أبي حامد الغزالي رحمه الله في كتابه الذي سماه إحياء علوم الدين، وهو من أجل كتبه -أو أجلها-: فإن قلت: فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه؟ فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف]. قبل أن يفصل الغزالي أحب أن أنبه إلى أنه رحمه الله اضطرب اضطراباً شديداً كعادة المتكلمين الذين لا يستقرون في عقائدهم على شيء، وإن كان أنصف في كلامه هنا، لكنه اضطرب، فكلامه يشعر بوصف مذهب السلف بأنهم غلوا في رد علم الكلام أو أنهم أسرفوا في رده، ثم بعد ذلك رجح قول السلف في رد علم الكلام، ثم يرجع عن ذلك مرة أخرى في بعض عباراته، وكأنه لا يريد أن يستقر على رأي، وإن كان في الجملة -خاصة في آخر حياته، وكما هو ظاهر من غالب كلامه الذي سنقرؤه الآن- قد رجع عن علم الكلام، ورأى أن مذهب السلف هو الصحيح وهو الأسلم والأعلم والأحكم، لكن مع ذلك بقيت عنده لوثات كلامية جعلت نفسه تتعلق بعلم الكلام بعض التعلق. قال رحمه الله تعالى: [فمن قائل: إنه بدعة وحرام، وإن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام. ومن قائل: إنه فرض إما على الكفاية، وإما على الأعيان، وإنه أفضل الأعمال وأعلى القربات؛ فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله. قال: وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أئمة الحديث من السلف. وساق ألفاظاً عن هؤلاء. قال: وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا، ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه، قالوا: ما سكت عنه الصحابة -مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم- إلا لما يتولد منه من الشر، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون)، أي: المتعمقون في البحث والاستقصاء. واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلم طريقه ويثني على أربابه. ثم ذكر بقية استدلالهم، ثم ذكر استدلال الفريق الآخر، إلى أن قال: فإن قلت: فما المختار عندك؟ فأجاب بالتفصيل، فقال: فيه منفعة، وفيه مضرة: فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال، أو مندوب أو واجب، كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام. قال: فأما مضرته فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل بالابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في اعتقاد الحق، وله ضرر في تأكيد اعتقاد المبتدعة، وتثبيتها في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل]. قبل أن نعرض كلامه في منفعة علم الكلام نحب هنا أن نستجلي أدلة السلف على تحريم علم الكلام من خلال ما ذكره الغزالي وغيره بإيجاز. ويظهر أن الغزالي رجح أن قول السلف هو الصحيح، لكنه استثنى استثناءً كما سيأتي، بمعنى أنه يرى أن علم الكلام مضرته أكثر من منفعته، والاستثناء الذي سيورده منقوض بكلامه هو.

موقف السلف من علم الكلام وبيان مجمل ما استخدموه في مناظراتهم من ألفاظ كلامية

موقف السلف من علم الكلام وبيان مجمل ما استخدموه في مناظراتهم من ألفاظ كلامية نرجع إلى قول السلف وأصل هذا القول وأدلته؛ فالسلف رحمهم الله كلهم يحرمون علم الكلام، فلا يظن أحد من الناس أن هناك من أهل السنة من سلف الأمة أئمة الدين وأهل الحديث من يبيح علم الكلام أبداً بإطلاق. وقد نجد من أقوال أئمة أهل السنة ما يشعر أحياناً باستخدام علم الكلام عند الضرورة، وهذا لا يعد دليلاً على إباحة علم الكلام، بل يعد من اللجوء للضرورة، كاستباحة الميتة عند الضرورة. وهذا أمر لا يتعلق به واجب أو مندوب، بمعنى أننا لا نستصدر له حكم، بل ولا ينبغي أن نستثنيه بقاعدة فنقول مثلاً: علم الكلام محرم إلا عند الضرورة؛ لأن الضرورة يتفاوت الناس في تقديرها، وقد يتذرع طالب علم أو متعلم بأنه وجد ضرورة لعلم الكلام، كأن يدافع عن العقيدة، ويرد شبهات المبطلين، ثم يدخل في علم الكلام فلا يخرج إلا كما خرج أساطينه بشبهات وشكوك ومرض قلوب وفساد اعتقاد. إذاً: فلا نُعرِّض المسلمين لما يسمى بالضرورة، وإنما ترد الضرورة في أمر يلجأ إليه العالم دون تبييت مسبق؛ كما حدث لكثير من الأئمة، فـ الشافعي ناظر بعض المتكلمين واضطر إلى أن يستعمل عبارات كلامية في موقف لم يبيته من قبل. والإمام أحمد رحمه الله استعمل بعض الحجج الكلامية وإن كانت قليلة جداً ونادرة، فقد كان وقافاً على النص، لكن استعملها من باب ضرورة الدفع لشبهة يخشى أن تنطلي على العامة، أو على الناس، أو على الحاضرين أثناء المناظرة. فكان يدفع شبهتهم بأسلوب كلامي لضرورة طارئة ما بيتها الإمام أحمد من قبل، فقاعدته سالمة وباقية لم ينقضها إلا لضرورة طرأت. كذلك من جاء بعدهم كشيخ الإسلام ابن تيمية، وقد أكثر من استعمال الأساليب الكلامية ورد علم الكلام بأصول أهله، ورد قواعد المتكلمين بعضها ببعض، وهذا أيضاً ضرورة لم تلجئ الإمام ابن تيمية ولا غيره إلى أن يجعلها فتوى، إنما اضطر إليها حينما احتسب وقته وجهده وعلمه في هذا السبيل، ولم يبح ذلك للناس أو يفتحه كقاعدة أو فتوى. إذاً: فيبقى الأصل عند السلف وأئمة أهل السنة قديماً وحديثاً إلى يومنا هذا أن علم الكلام حرام، والاطلاع على كتبه حرام، ولا يلجأ إليه بدعوى الضرورة إلا من متخصص في موقف يعرض له، فيستعمل أساليب كلامية، أو يطلع على كتب أهل الكلام للرد عليها، فهذا أمر يقدره العالم المتمكن، ولا يكون بمثابة الفتوى أو المنهج الذي يقرر كما يميل إلى ذلك بعض طلاب العلم عن جهل في عصرنا الحاضر.

أدلة السلف على تحريم علم الكلام

أدلة السلف على تحريم علم الكلام

سكوت الصحابة وإعراضهم عن علم الكلام مع قيام داعي الحاجة إليه

سكوت الصحابة وإعراضهم عن علم الكلام مع قيام داعي الحاجة إليه نرجع إلى أدلة تحريم السلف لعلم الكلام، ونبدأ بما ذكره الغزالي: أولاً: قالوا: لأن هذا الأمر سكت عنه الصحابة، مع أنهم كانوا بحاجة إليه، ولا يظن ظان أن الصحابة لم يحتاجوا إلى علم الكلام، بل احتاجوا إليه إبان الفتوح، واحتاجوا إليه قبل ذلك في جدال اليهود والنصارى والمنافقين، يعني: حدثت أمور تقتضي استعمال علم الكلام فلم يستعملوه، فأقوال النصارى في القدر كانت حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتكلموا بها، وكان القرآن يتنزل في الرد عليها دون استخدام أساليب كلامية، وكذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع المنافقين ومع اليهود ومع النصارى من المحاجة كان يلتزم فيه أصول الشرع والوحي، ثم ما فعله الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين، وكذلك في آخر عهد الخلفاء الراشدين واجه المسلمون أمماً كلها عندها فلسفات، وعندها قواعد كلامية، وكان من مقتضى الواقع أن يفتحوا لأنفسهم باب علم الكلام فيجادلوا اليهود بأصولهم الكلامية والنصارى بأصولهم الكلامية، والمجوس بأصولهم الكلامية، والصابئة بأصولهم الكلامية، لكن لم يفعلوا ذلك، إنما كانوا يقيمون الحجة الشرعية، ولا يجادلون إلا بحدود تلتزم بالضوابط الشرعية، ولا يتعمقون في رد أقوال الخصم، بل يردون أقوال الخصم بالأدلة الشرعية والأدلة العقلية المبنية على الأدلة الشرعية؛ لأن الأدلة الشرعية جاءت بالأدلة العقلية كما ذكر أهل العلم، وليست الأدلة الشرعية خالية من الأدلة العقلية، فما من شبهة رئيسة في الأمم قديماً وحديثاً إلا ونجد في القرآن رداً عقلياً عليها، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة. إذاً: فلا يقال: إن الصحابة لم يواجهوا الفلسفات فيستعملوا علم الكلام، بل واجهوا الفلسفات، لكنهم سدوا باب الكلام والمراء والجدل إلا بالتي هي أحسن وبالأصول الشرعية. إذاً: فما سكت عنه الصحابة يلزم المسلمين السكوت عنه إلى قيام الساعة، خاصة في الأمور الغيبية العقدية، وقبل ذلك ما سكت عنه الشارع، ما سكت عنه القرآن والسنة، مع أن الصحابة أعرف بالحقائق، يعني: حقائق الوحي، سواء ألفاظه ومعانيه، فالصحابة ليسوا كما يظن كثير من الناس أنهم إنما انشغلوا بالفتوح وليس عندهم تعمق في العلميات، ولا عندهم تعمق في المعارف، هذا ليس بصحيح، بل عندهم من القدرة العقلية والقدرة على التعمق ما ليس عند غيرهم، لكنهم وقفوا حيث أمروا أن يقفوا، والله عز وجل أمرهم ألا يسألوا عن أشياء، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ألا يسألوا عن أشياء من ضمنها هذه الفلسفات وهذه الكلاميات، فهم أعرف بالحقائق -أي حقائق كلام الله وحقائق الوحي- وأفصح في ترتيب الألفاظ من غيرهم.

جناية الشرور والمفاسد من علم الكلام

جناية الشرور والمفاسد من علم الكلام الدليل الثاني: ما يتولد عن علم الكلام من الشر، كالشكوك والشبهات والاستهانة بكلام الله عز وجل، وتعريض الوحي لكثرة الخوض فيه ممن ليسوا من أهل العلم من المجادلين المماحلين والمرائين، ثم ما ينتج عن ذلك من تلويث قلوب الناس بالشكوك والشبهات والريب في دين الله عز وجل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون). وهذا أمر ثابت، وهو أن التنطع في الدين لا يجوز، ومن التنطع البحث والاستقصاء في أمور الغيب، وأمور الدين وعلل الشرع، ونحو ذلك مما لا يدركه أحد أو لا يدركه إلا الراسخون في العلم.

انقطاع صلة علم الكلام بالدين لترك الأمر به

انقطاع صلة علم الكلام بالدين لترك الأمر به الدليل الثالث: أن بحث المسائل الشرعية بقواعد عقلية وفلسفية لو كان من الدين لأمر الله به وأمر به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لا يمكن أن يكون من لوازم الدين، ثم لا يبين لنا ولا نؤمر بالأخذ به، فكيف وقد نهينا عن الأخذ به أشد النهي؟!

إضاعة أوقات المسلمين وفتح أبواب الشبهات

إضاعة أوقات المسلمين وفتح أبواب الشبهات وأخيراً: ثبت بالاستقراء التاريخي -وهذا أمر قاطع-: أن علم الكلام لم يأت بخير، فمنذ أن بدأ أهل الأهواء يشتغلون بعلم الكلام فتحوا على المسلمين أبواباً من الشر: أولاً: من حيث إدخال الشبهات والشكوك على طوائف المسلمين، فضلوا وخرجوا عن السنة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. ثانياً: أشغلوا أهل العلم بما هو أولى، فكم من الطاقات والجهود -جهود أهل العلم- قد بذل! بل إن مما بذلوه أموالهم وأرواحهم في سبيل حماية العقيدة، والتصدي لأهل الكلام وأهل الباطل وأهل الهوى؛ الأمر الذي صرف المسلمين عما هو أهم من تأصيل العقيدة ونشرها، والاهتمام بتربية المسلمين وإعدادهم، والاهتمام بالجهاد، وغير ذلك. فالطاقات التي أهدرت في سبيل دفع هذه الشرور من علم الكلام وغيره من السلف وأئمة المسلمين لا تكاد تتصور، فبعض العلماء قد يكون أفنى عمره إلا القليل في سبيل التصدي لهذه الآفات، وهذه المصائب التي جرها علم الكلام على المسلمين. ولنستعرض على سبيل المثال أنموذج الإمام أحمد في أعظم محنة امتحن بها في حياته، وهي أعظم محنة في تاريخ الإسلام بعد محنة الصحابة، وهي المحنة في قضية خلق القرآن، فهي قضية باطلة من منشئها، وابتليت الأمة بها بلوى عظيمة، فأشغلتهم عن الجهاد، وأشغلتهم عن العلم الشرعي، وأشغلتهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأشغلتهم عن تحقيق أمر الله ووعده، ووقع بذلك من الشر العظيم ما بقي جراحاً في الأمة إلى يومنا هذا. ومثال آخر لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على ما أعطاه الله من طاقات ومواهب، فقد قضى تسعين في المائة من عمره وحياته في الرد على أهل الأهواء، وقد جاهد الجهاد العملي بعض الوقت، لكن شغله جدال أهل الكلام والتأليف فيهم، والتصدي لأهوائهم، وشغل أكثر وقته، حتى نسي نفسه ونسي شيئاً من الأمور الضرورية، ولو انشغل بتأصيل العلم الشرعي -مع أن الله نفع به في التأصيل نفعاً عظيماً- لأثمر ثمرة عظيمة، مع أنه بذل خيراً، لكن أقصد أن هذا الخير الذي بذله كان في سبيل صد تيارات الشر التي ملأت الدنيا في ذلك الوقت.

بيان الغزالي أن علم الكلام عديم النفع طريق إلى الضلال

بيان الغزالي أن علم الكلام عديم النفع طريق إلى الضلال قال رحمه الله تعالى: [قال: وأما منفعته؛ فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات؛ فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف. قال: وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا]. وبهذا تعلم أن عدداً كبيراً ممن تلوثوا بشيء من علم الكلام في حياتهم بقيت هذه اللوثة في عباراتهم وفي أحكامهم، فـ الغزالي رحمه الله مع أنه رجع عن علم الكلام والفلسفة والتصوف، وسلم بمذهب السلف في آخر حياته، إلا أنه بقيت عند هذه اللوثة. ويلحظ هنا الاضطراب في هذه العبارات، فهو حينما قال: (وأما منفعته)، يظن أنه سيأتي بمنفعة لعلم الكلام، ولم يأت بمنفعة، بل رد هذه المنفعة وأبطلها. ثم إنه ذكرها بصيغة التمريض، أو صيغة التضعيف، فقال: (فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها)، وهذا مما يدل على أنه جازم في قرارة نفسه بأنه ليس في علم الكلام منفعة، لكن نظراً لأنه قضى أكثر عمره في علم الكلام بقي عنده شيء من الاضطراب. ثم إن قوله هنا: (وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي) من لمز المتكلمين لأهل السنة، وكنا نظن مثل الغزالي حينما تراجع عن قوله في الكلام، وسلم لمذهب السلف ألا يستعمل هذه العبارة التي يستعملها خصوم السلف. فكلمة حشوي تطلق من قبل خصوم السلف على أهل الحديث أهل السنة والجماعة، ويقصد بها الذين أطلقوها أولاً أن أهل الحديث أهل حشو، ليسوا أهل تعمق ولا تفكير، إنما يهمهم حشو الآثار وحشو الحديث، وحشو الكلام! وهذا ظلم واعتداء وخلل في التصور، فأهل السنة أهل العلم وأهل الحديث ليس فيهم حشوي ليس عنده تعمق في العلم والمعرفة، بل هم أعمق الناس معرفة، لكنهم يتحاشون الفلسفات والمراء والجدل، فلذلك ظن خصومهم أن هذا ناتج عن قصور أو عن تقصير، أو عن غفلة، والأمر ليس كذلك، إنما هو عن تورع ووقوف عند أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.

تحذير من خبير بعلم الكلام

تحذير من خبير بعلم الكلام قال رحمه الله تعالى: [فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق]. فناقض نفسه هنا. قال رحمه الله تعالى: [وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود، ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور. انتهى ما نقلته عن الغزالي رحمه الله]. في الحقيقة هذا كلام عظيم، والرائد لا يكذب أهله، وكنا نتمنى أن يعي هذه النصيحة أهل الكلام الآن من إمام من أئمتهم ممن رجع عن الكلام وتاب منه، وهذا الكلام حقيقة يكتب بماء الذهب، أعني كلام الغزالي، وليت الذين يتمسكون الآن بعلم الكلام ويمدحون أهله، ويستحسنون سبيله كبعض الكتاب المتأخرين الذين ينتصرون للمؤولة وأهل الكلام؛ ليتهم يعون مثل هذا الحكم الذي حكم به الغزالي بعد تجربة طويلة، عاش فيها غمار الكلام وخاض بحاره، بل أسهم في تأسيسه وتأييده، وبذل من الجهود والأوقات الشيء العظيم في الانتصار لعلم الكلام، ثم ينتهي بهذه النتيجة المؤلمة بالنسبة له. فقوله: (فاسمع هذا ممن خبر الكلام) يقصد به نفسه (ثم قلاه) يعني: اختبره أتم الاختبار (بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل) في علم الكلام (إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك أيضاً إلى التعمق في علوم أخرى تناسب علم الكلام)، وهو التصوف وما يتفرع عنه، ثم الفلسفة أيضاً، فقد تعمق في الفلسفة، وجمع كل الوسائل التي تفيد في تأسيس علم الكلام، (وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود)، فليتهم يعون. وليس هذا كلام الغزالي فقط، بل قاله -كما قلت سابقاً- أكابر المتكلمين الذين أسسوا علم الكلام الذي يعيش عليه المتكلمون الآن من الأشاعرة والماتريدية، كلهم قالوا بهذا النتيجة. والعجيب أن أسلوبهم يكون في الغالب أسلوباً مؤلماً ومؤثراً ومحزناً، أسلوب الذي أضاع عمره وأشفق على الأمة أن تضيع عمرها في مثل ما فعل، كما سيأتي بعد قليل من كلام الجويني ومن كلام الرازي وكلام الشهرستاني وغيرهم، كلهم يتكلمون بحرقة وحسرة، وبكلام الناصح المشفق. ولو تأملنا كلامه لوجدنا فعلاً أنه كلام الذي أراد النصيحة لقومه في وقته وبعد وقته، ولكن هل يعون؟! قال رحمه الله تعالى: [وكلام مثله في ذلك حجة بالغة، والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحاً جديداً على معان صحيحة، كالاصطلاح على ألفاظ لعلوم صحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق. ومن ذلك: مخالفتها للكتاب والسنة، وما فيه من علوم صحيحة فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها، فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل، وأحسن ما عندهم فهو في القرآن أصح تقريراً، وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد، كما قيل: لولا التنافس في الدنيا لما وضعت كتب التناظر لا المغني ولا العمد يحللون بزعم منهمو عقداً وبالذي وضعوه زادت العقد فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه الشبه والشكوك، والفاضل الذكي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك].

من أحسن ما رد به على أهل الكلام

من أحسن ما رد به على أهل الكلام أحسن ما قرأت في الرد على المتكلمين بعد كتاب الله عز وجل وبعد ما عليه السلف من ردود عامة الناس الذين ليس عندهم تعمق، وهو رد فطري يمكن أن يستعمل دائماً في الرد على المتكلمين؛ هو رد تلك العجوز التي رأت الرازي وهو يمشي مع تلاميذه من المغترين به الذين يكتبون ما يقوله من هذيان الفلاسفة، فلما رأته وكانت جالسة بباب بيتها عجبت، وقالت: من هذا؟ قالوا: ألا تعرفينه؟! قالت: أهو السلطان؟! قالوا: لا، قالت: أهو الوزير؟! إلى آخره، تصورته من أصحاب الوجاهة الذين يكون معهم مواكب، فقالوا: هذا الذي يملك على وجود الله ألف دليل! فقالت: تعس وخسر، والله إن كان ذلك فعنده ألف شبهة أو ألف شك، أفي الله شك؟! فالمسألة معناها: أنه تكلف في الشكوك ثم تكلف الرد عليها، وقد قال بنفسه في كتابه (التفسير الكبير)، بأن أكثر معضلات أهل الكلام لا يمكن الرد عليها، وإن ردوا عليها فيستطيع الراد أن ينقض رده. ولذلك كثيراً ما يورد بنفسه شبهة ثم يرد عليها ثم ينقض ردها، ويقول: ويرد على هذا كذا وكذا، ويشكل على قولنا هذا كذا وكذا، فيقف ولا يرد، مع أن أكثر الشبهات لا يرد عليها ابتداء، لكن إن رد أوقع القارئ في مشكلة أو معضلة، وشك في رده، ثم انتهى إلى الحيرة، وأخيراً اعترف بما سيأتي.

شرح العقيدة الطحاوية [38]

شرح العقيدة الطحاوية [38] علم الكلام علم لا فائدة منه؛ مؤداه إلى الحيرة والاضطراب والتذبذب، وينتهي أمره إلى الإفلاس والضلال في دين الله تعالى، وقد عرف هذا الأمر أساطينه الكبار، ولذلك رجع بعضهم في آخر أمرهم إلى منهج السلف لما انتهوا إلى الحيرة والاضطراب، وعليه فمن المحال أن يحصل بهذا العلم هدى وعلم ويقين، ومن رام ذلك فلن يجده إلا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وجوب اعتماد كلام الله ورسوله وترك آراء أهل الكلام وأصولهم

وجوب اعتماد كلام الله ورسوله وترك آراء أهل الكلام وأصولهم قال رحمه الله تعالى: [ومن المحال ألا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين]. يقصد بهم أهل الكلام؛ لأنه لا يزال الحديث عن المتكلمين، والمتكلمون هم الذي يخوضون في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي ذاته عز وجل، وفي مسائل العقيدة وسائر أمور الغيب والأخبار ونحوها، يتكلمون عنها بمجرد الظنون والأوهام والفلسفات والعقليات، ولا يلتزمون ما ورد في النصوص الشرعية. قال رحمه الله تعالى: [بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله، ويعرف برهانه ودليله، إما العقلي وإما الخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول صلى الله عليه وسلم قُبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد. وهذا مثل لفظ المركب والجسم والمتحيز والجوهر والجهة والحيز والعرض ونحو ذلك، فإن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل هذا الاصطلاح، بل ولا في اللغة، بل هم يختصون بالتعبير بها عن معان لم يعبر غيرهم عنها بها، فتفسر تلك المعاني بعبارات أُخر، وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل. مثال ذلك في التركيب، فقد صار له معان: أحدها: التركيب من متباينين فأكثر، ويسمى: تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك]. الطبائع الأربع في عرف المتقدمين هي الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة. قال رحمه الله تعالى: [وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو ونحوه من صفات الكمال أن يكون مركباً بهذا المعنى المذكور. الثاني: تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب. الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى: الجواهر المفردة. الرابع: التركيب من الهولي والصورة، كالخاتم مثلاً، هيولاه الفضة وصورته معروفة]. الهيولى هنا المقصود بها المادة الأساسية الأولية للشيء في عرف الأولين، أو ما يسمى بالمادة الخام في عرفنا. قال رحمه الله تعالى: [وأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول، ولا فائدة فيه، وهو أنه: هل يمكن التركيب من جزئين، أو من أربعة، أو من ستة، أو من ثمانية، أو ستة عشر؟ وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه. والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء، وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه. الخامس: التركيب من الذات والصفات، هذا سموه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة، ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمية ولا كرامة. ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً؛ فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سموه ما شئتم، فلا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطلح على تسمية اللبن خمراً؛ لم يحرم بهذه التسمية. السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج هل يمكن ذات مجردة عن وجودها، ووجودها مجرد عنها؟! هذا محال. فترى أهل الكلام يقولون: هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده؟! ولهم في ذلك خبط كثير، وأمثلهم طريقة رأي الوقف والشك في ذلك، وكم زال بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل. وسبب الضلال الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والاشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة. وإنما سمي هؤلاء أهل الكلام؛ لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما علم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر، ومع من ينكر الحس. وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته مع وجود النص، أو عارض النص بالمعقول؛ فقد ضاهى إبليس، حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]. وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء:80]، وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا تسليماً].

قياس أهل الكلام ما يتعلق بالله على عالم الشهادة من أسباب خوضهم المذموم

قياس أهل الكلام ما يتعلق بالله على عالم الشهادة من أسباب خوضهم المذموم خلاصة هذا المقطع: أن أهل الكلام الذين خاضوا في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي ذاته عز وجل وخاضوا في أمور الغيب؛ كان من أهم أسباب خوضهم في هذه الأمور أنهم قاسوا أفعال الله وصفاته وذاته على ما يعرفونه من عالم الشهادة، أي: من المخلوقات، فلذلك جاءوا بمسألة التركيب والجسمية والتحيز والجوهر والجهة. ويقصد بذلك أن الذين عطلوا أسماء الله وصفاته، أو الذين عطلوها وأولوها لهذه العلل؛ فزعموا أن بعض ألفاظ أسماء الله عز وجل أو صفاته تدل على التركيب فنفوها أو أولوها. وبعضهم زعم أنها تدل على الجسمية، فبعض أسماء الله وصفاته قالوا فيها: هذه تدل على الجسمية، أو تشعر أو توهم -بتعبيرات مختلفة منهم- فنظراً لذلك تنفى عن الله عز وجل أو تؤول، وكذلك التحيز والجوهر والجهة والعرض وغيرها من الألفاظ. فالمقصود: أن الذين عطلوا أسماء الله وصفاته -كالجهمية- أو الذين أولوها -كالمعتزلة- ثم الذين ورثوا التأويل عنهم -وهم الأشاعرة والماتريدية- إنما نفوا أسماء الله وصفاته وعطلوها وأولوها بدعوى أنها تنطبق على هذه المصطلحات، وهذا كله رجم بالغيب، بل هو قول على الله بغير علم، فإذا جاز أن تنطبق هذه الأمور على ألفاظ صفات المخلوقات؛ فلا يجوز ذلك في حق الله عز وجل؛ لأن الله ليس كمثله شيء. فأسماء الله وصفاته وأفعاله تثبت له تعالى على ما يليق بجلاله، ولا يمكن أبداً بحال من الأحوال أن توهم المشابهة؛ لأن حقائقها تختلف، بل تغاير كل المغايرة حقائق خلق المخلوقات. والطبائع الأربع التي ذكرها هنا هي الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة، ويقصدون بذلك أن هذه الصفات يتكون منها الحيوان، سواء الإنسان والحيوانات الأخرى ذات الأرواح. وزعموا أن كل صفة تدل على عضو أو توجد في المخلوق فإنها صفة مركب، فمن هنا نفوها عن الله عز وجل بدعوى أنها تفيد التركيب، كاليد والعين إلى آخره.

موقف الغزالي وابن رشد من الفلسفة وعلم الكلام

موقف الغزالي وابن رشد من الفلسفة وعلم الكلام قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً، شاكاً زائغاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً): (يتذبذب): يضطرب ويتردد. وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه الله تعالى حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة، فيئول أمره إلى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد -وهو من أعلم الناس بمذهب الفلاسفة ومقالاتهم- في كتابه تهافت التهافت: ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟!]. (تهافت التهافت) رد به ابن رشد على الغزالي، فـ الغزالي الملقب بحجة الإسلام عاش في أول نشأته مع الفلسفة والفلاسفة وأعجب بهم، ثم ترك الفلسفة واعتنى بعلم الكلام على مذهب المتكلمين، وفي هذه الأثناء رد على الفلاسفة بكتاب اسمه (تهافت الفلاسفة)، فرد عليه ابن رشد الحفيد بكتاب سماه (تهافت التهافت)، انتصاراً لمذهب الفلاسفة، وكل من الرجلين ترك الفلسفة وأعرض عنها، بل ترك حتى علم الكلام وأعرض عنه، فـ ابن رشد الذي كان ينتصر للفلاسفة ترك الفلسفة، وأعرض عنها وحذر منها، والغزالي الذي كان فيلسوفاً ترك الفلسفة، وبعد أن انتقل إلى علم الكلام وعاش فيه فترة من عمره تركه ونزع إلى التصوف، ثم لما تعمق في التصوف وجد فيه زلات كباراً، وأدرك أن فيه ما قد يوصل إلى الكفر، فأعرض عن هذه المذاهب كلها، وسلم تسليم العجائز، ومات على هذا المذهب. أما ابن رشد الحفيد فقد أكب على الفقه والعلوم الشرعية، وترك الفلسفة، ولم يكن يوماً من الأيام متكلماً، بل كان يرد على المتكلمين في حياته الأولى الفلسفية، وفي حياته الثانية عندما كان فقيهاً ينزع إلى الفقه، لكن مع ذلك يقول ببعض مذاهب المتكلمين في الصفات وغيرها، بما يخالف أصول المتكلمين التي قننوها وأصلوا فيها بدعهم في التأويل والتعطيل. وله في ذلك رد عظيم جداً وجيد لا يكاد يوجد عند غيره، حتى كان شيخ الإسلام ابن تيمية ومن جاء بعده كثيراً ما ينقلون عن ابن رشد في رده على أهل الكلام، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: أنه ما رئي أقوى في رد علم الكلام والرد على أهله من كلام ابن رشد. والكلام هنا ممتد، وبعضه مرتبط ببعض، لكن سنستعرض بعض المسائل، ولعلنا نعيد الدرس مرة أخرى، فأرجو ألا ننسى؛ لأنه مترابط يحتاج إلى وقت طويل. والكلام على المتكلمين أمر يحتاج إلى الرجوع إلى أصول أهل السنة والجماعة، وما خالفها من أصول المتكلمين؛ لإثبات التذبذب والشك والحيرة والوسواس والتكذيب والجحود الذي وقع فيه المتكلمون وأشار إليه الشارح هنا. ومن أراد أن يستفيد ويستعجل الفائدة فليرجع إلى درء التعارض لشيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الأول صفحة (159) وما بعدها، فسيجد العجب العجاب، فما هذا إلا خلاصة موجزة جداً مما وجد في ذلك الكتاب.

تذبذب أهل الكلام وانتهاء أمرهم إلى الإفلاس

تذبذب أهل الكلام وانتهاء أمرهم إلى الإفلاس قوله: (يتذبذب بين الكفر والإيمان) هذا أحسن وصف لحال المتكلمين كما ذكر الشارح؛ لأن المتكلمين يزعمون أنهم على السنة، وهم يختلفون عن الفلاسفة الخلص كـ ابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم ممن لا يتورعون عن إظهار احتقار الشريعة، واحتقار الأنبياء، فهم كالمستشرقين، فالفيلسوف يعترف بجوانب العظمة في الرسالة النبوية، وبما يبهر ظاهراً، ويقوله ويعتز به، لكنه لا يخضع للوحي ولا يسلم له، ويحصر الشرائع في أنها ظواهر تصلح لعامة الناس، وليست على مستوى العباقرة والمفكرين والعباد الكبار، هذا فهم الفلاسفة للإسلام وللدين والوحي. فهم يعتبرون الوحي مفيداً، والشرائع مفيدة وهامة، لكنها لعامة الناس؛ لأن الأذكياء أمثالهم -كما زعموا- والعباقرة وكبار العباد وكبار الصوفية يستغنون عن الشرائع، وهؤلاء أرقى عند الفلاسفة من الأنبياء، ومذاهبهم أرقى من النبوة، وسلوكهم أرقى من الشريعة، ويصرحون بذلك، وليس عندهم في ذلك أي تحفظ، كـ ابن سينا وابن رشد وابن الفارض والفارابي والسهروردي وكذلك ابن عربي، وابن عربي من أفصحهم في هذه المسألة في كتبه التي كتبها في هذه الأمور. أما أهل الكلام -وهم محل الحديث هنا- فإن عندهم شيئاً من اللبس، فهم يقدسون الشرع ويقدسون الوحي ويقدسون الدين، ويعتبرون للأنبياء منزلتهم، ويعترفون بمبدأ الخضوع للشرع وللدين، لكنهم يزعمون أن الشرع لابد أن يأتي بما يوافق العقل، أي: يضعون للعقل الاعتبار الأول، فمن هنا إذا جاءت بعض المسائل أو النصوص أو القضايا التي يرون أن العقل لا يستوعبها وقفوا فيها حائرين، فلا يثبتونها كما أثبتها الوحي، ولا يستطيعون أن ينفوها نفي التكذيب والجحود كما فعلت الجهمية وغلاة الفلاسفة، فيقفون حائرين؛ إذ لا يعترفون بالنص لأنه يخالف قواعدهم العقلية؛ ولا يستطيعون رده لأنه يخالف عقائدهم في الشرع من حيث إنه عندهم حق وصدق، فمن هنا وقعوا في الاضطراب. وما من متكلم من المتكلمين الكبار هذا مبدؤه إلا وينتهي أمره بالحيرة وإعلان الإفلاس، والخضوع للشرع الخضوع المطلق، لكن بعد فوات الأوان؛ لأنهم تشبعت أفكارهم وعقولهم بعلوم وافدة طارئة محدثة، فلما أرادوا تصحيحها لم يتمكنوا، فسلموا تسليم العجائز كلهم، الرازي، والغزالي، والجويني، والشهرستاني، والخسروشاهي وغيرهم ممن سيأتي ذكرهم، كلهم ينتهون بالتسليم الفطري، أو تسليم العجائز الذي ليس فيه قدرة على إدراك التفاصيل.

ضرر التشبع بما يخالف الكتاب والسنة من العلوم

ضرر التشبع بما يخالف الكتاب والسنة من العلوم وقد يقول قائل: كيف وهم أذكياء وعباقرة، وأخذوا علوماً منها العلوم الشرعية وتبحروا فيها، كيف لا يدركون تفاصيل العقيدة ويستوعبون ما جاء عن السلف؟ و A أن المتأمل لحالهم يجد أنهم هم وأمثالهم ممن تشبع بعلم يخالف الكتاب والسنة قبل أن يستوعب العقيدة السلمية ويستوعب نصوص الشرع على نهج سليم، وتشبع بأفكار تخالف الكتاب والسنة أياً كانت، سواء كانت فلسفية أو أدبية أو تاريخية أو فكرية أو ثقافية أو غير هذا، يجد أنهم لابد من أن تؤثر تلك العلوم في أفكارهم وسلوكهم، حتى ولو استقاموا وتابوا، وأن تبقى آثارها فيهم إلى أن يموتوا، إلا النادر، والنادر لا حكم له، مع أن النادر استثناء؛ لأن الله عز وجل على كل شيء قدير. أما التاريخ فلم يثبت لنا أن أحداً ممن تشبع بعلم غير الكتاب والسنة، ثم رجع الكتاب والسنة بقي سليماً أبداً، ولنأخذ مثالاً واحداً: فمن أصدق من رجعوا عن مذاهبهم الباطلة إلى الكتاب والسنة وأبلوا في ذلك بلاء حسناً أبو الحسن الأشعري رحمه الله، من أصدق من قرأنا له، وسمعنا عنه وعرفناه في التاريخ، واعترف له السلف بصدق رجعته، فقد كان معتزلياً تشبع بالاعتزال حتى الثمالة، وفجأة تاب من الاعتزال وتصدى للمعتزلة وأفحمهم، ويعتبر هو الرجل الثاني بعد الإمام أحمد رحمه الله في قمع الجهمية والمعتزلة. ومع ذلك بقيت عنده آثار كلام المعتزلة إلى أن مات، بقيت في مذهبه حتى إنها صارت تكأة للأشاعرة، فدخلوا من سم الإبرة ووسعوه حتى كان أوسع من الباب، وظهر ذلك في نزعته في أفعال الله عز وجل، وكلام الله عز وجل موافقاً في ذلك ابن كلاب، وكذلك نزعته في علم الكلام، حيث قال: إن علم الكلام قد يفيد في رد شبهات المبطلين فقط. فهو يرفض أن يقرر الدين بعلم الكلام رفضاً قاطعاً في كتاب (الإبانة) و (الرسالة إلى أهل الثغر) وغيرهما، فإنه كان يرفض علم الكتاب رفضاً قاطعاً، لكن يقول: إنه قد يفيد في رد شبهات المبطلين. وقد خالفه السلف حتى في هذه، فقالوا: لا يجوز تعلم علم الكلام وإن كان قد يفيد، لا يجوز أن نضع قاعدة أو فتوى في تعلم علم الكلام، أو أنه مشروع تعلمه. وهو خالف في هذه المسألة، ورأى أنه يمكن أن يتعلم علم الكلام من أجل الرد على المتكلمين، وحصل له في ذلك موقف مشهور حينما عارضه في ذلك إمام السنة في ذلك الوقت البربهاري مع ضعف القصة المشهورة، فضيق عليه وطرد من بغداد بسبب إصراره على أن علم الكلام قد يفيد، مع أنه يرى من حيث الاعتقاد أن علم الكلام كله باطل. أقول: هذا شاهد على أنه لا يعرف أن أحداً تشبع بعلم غير الكتاب والسنة ثم رجع إلى الكتاب والسنة، وتاب من ذلك وسلم من أثر وغوائل العلم الذي تشبع به. وهذا هو السبب الذي جعل هؤلاء الكبار من المضطربين، مع أن بعضهم من البحور في العلوم الشرعية الأخرى، تجد الواحد منهم في الفقه وأصول الفقه والتفسير إماماً، بل بعضهم أئمة في الحديث، ومع ذلك تجد فيه نزعة الكلام، فإذا رجع عن علم الكلام لا يهتدي إلى مذهب أهل السنة، لنقاوته وصفاوته ووضوحه وبيانه؛ لأنه قد يكون ذلك -والله أعلم- نوعاً من العقوبة على البدعة، وإن تاب وصلحت حاله.

شرح العقيدة الطحاوية [39]

شرح العقيدة الطحاوية [39] منتهى علم الكلام هو الاضطراب والحيرة والتردد، وهذا هو حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم، وقد عرف هذا الأمر حق معرفته كبار علماء أهل الكلام كالآمدي والغزالي، ومن الفلاسفة ابن رشد وغيره، وهذا من أقوى ما يدل على بطلان هذا العلم وفساده.

وصف حال أهل الكلام

وصف حال أهل الكلام قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً، شاكاً زائغاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً)]. هذا الوصف وصف حال أهل الكلام، الذين تكلموا في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وفي قضايا الغيب والأخبار الغيبية والسمعيات وأمور العقيدة التوقيفية بمجرد عقولهم وقواعدهم الفلسفية والعقلية، ولم يلتزموا أدب الكتاب والسنة في التسليم لله تعالى، والتسليم لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يلتزموا ما أمر الله به من ترك الجدل والمراء في أمور الغيب. فخاضوا فصار خوضهم كلاماً، بمعنى: أنه ليس بوحي ولا بحق ولا بسنة، إنما هو كلام، فسموا بأهل الكلام، وهذا وصف حالهم، أي: وصف أوضاعهم الخاصة، وصف نفوسهم واضطراب عقولهم كما سيأتي تفصيله. قال رحمه الله تعالى: [يتذبذب: يضطرب ويتردد. وهذه الحالة التي وصفها الشيخ -رحمه الله تعالى- حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة، فيئول أمره إلى الحيرة والضلال والشك].

الرد على شبهة المتكلمين في الجمع بين ما ورد في الكتاب والسنة ومقررات العقول

الرد على شبهة المتكلمين في الجمع بين ما ورد في الكتاب والسنة ومقررات العقول قبل أن يأتي بالأمثلة نقف عند هذه المسألة وقفة يسيرة حول إشارته إلى أن شبهة المتكلمين الذي خاضوا في أمور العقيدة وأمور الغيب أنهم أرادوا أن يجمعوا بين ما ورد في الكتاب والسنة، وبين مقررات العقول، زعماً منهم بأنه ما دام الكتاب والسنة لا يعارضان العقول؛ فلابد من الجمع فيما يظهر التعارض بينهما فيه. وهذا أمر مبني على تصور فاسد أصلاً، وسيأتي سبب هذا التصور الفاسد في ذكر حالهم، فهو مبني على قولهم بأن هناك من مقررات العقول ما يتعارض مع ما ورد في الكتاب والسنة، وأنه لابد من الجمع بين هذا التعارض، فلما أرادوا الجمع ما جعلوا الكتاب والسنة هما الحكم، إنما جعلوا مقررات العقول هي المحتكم، فما وافقها أخذوا به بزعمهم وظنهم، وما خالفها من الكتاب والسنة أولوه. مع أن الأصل -كما سبق- أنه لا يتوهم أبداً، ويستحيل في ضوء الفطر والعقول السليمة أن يكون هناك تعارض بين ما جاء في الكتاب والسنة وبين العقول السليمة والفطر المستقيمة؛ لأن هذا من أمر الله وخبره، وهذا من خلق الله، ولا يمكن أن يتعارض خلق الله مع أمره وخبره أبداً. إذاً: قد يرد التعارض، بمعنى أنه قد يظن ظان أن هناك تعارضاً، فإذا ورد فإنما هو شبهة في ذهن المتوهم، وهذه الشبه تحتاج إلى دفع، وأسلوب دفعها ليس الجمع بين الكتاب والسنة وبين أوهام البشر، بل رد كل ما يرد عن البشر إلى الكتاب والسنة، فما وافق الكتاب السنة أخذنا به، وما لم يوافقهما رددناه، وما أشكل علينا توقفنا فيه، على أن نسلم بأن ما جاء في الكتاب والسنة حق، وأن سبب الإشكال هو قصور عقولنا عن إدراك معاني الكتاب والسنة. إذاً: لا يمكن أن هناك تعارض، وإذا تصور أحد من الناس أن هناك تعارضاً بين الكتاب والسنة وبين ما في ذهنه وعقله أو ما يسمعه ويقرؤه؛ فإنما هذا توهم في ذهنه وفي عقله القاصر لا في الوحي، ولا يمكن أن يكون الوحي محكوماً عليه أبداً بقصور البشر وزبالة أذهانهم؛ لأن الله عز وجل كامل، وكلامه كامل، والوحي جاء من الله، وهو معصوم، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم فيما يقول، والمعصوم لا يمكن أن يتطرق إلى ذهنه الخطأ والنسيان والسهو، فضلاً عن ضعف الرأي أو القول بما يتعارض مع العقول. إذاً: فالمتهم هو عقل البشر المحدود قطعاً، ولا يمكن أن يرد النقص أو التقصير في كلام الله تعالى ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم. وإذا سلمنا بهذا المبدأ -وهو مقتضى الإسلام، ومقتضى التسليم والإيمان- فإنا سنحكم بأن كل كلام جاء في هذه الأمور بغير ما ورد في ألفاظ الكتاب والسنة إنما هو باطل قطعاً، وإن التبس فيه الحق بالباطل فهذا الالتباس يفصل فيه، فيرد الحق إلى الكتاب والسنة، والباطل يرد على أهله، ويرد على صاحبه.

عظات وعبر من أقوال وأحوال الفلاسفة وعلماء الكلام

عظات وعبر من أقوال وأحوال الفلاسفة وعلماء الكلام

مقولة ابن رشد فيما قيل في الإلهيات

مقولة ابن رشد فيما قيل في الإلهيات قال رحمه الله تعالى: [كما قال ابن رشد الحفيد -وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم- في كتابه: (تهافت التهافت): ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟!]. قول ابن رشد هذا في الحقيقة قاعدة عظيمة، قال بها رجل عاش الفلسفة دهراً من عمره، بل إنه بذل مهجته وخلاصة عمره ووقته في خدمة الفلسفة والدفاع عنها، حتى إنه رد على الغزالي الذي يسمى بالحجة، رد عليه حينما كتب كتابه المشهور: (تهافت الفلاسفة)، فرد ابن رشد عليه بتهافت التهافت؛ انتصاراً للفلسفة ولأهلها وأصحابها، وانتهى به المطاف إلى إعلان إن الفلسفة لا فائدة فيها البتة، بل إنه نفى أن يكون هناك من قول الفلاسفة كله ما يعتد به على الإطلاق، لذلك قال هذه الكلمة العظيمة التي لو قيلت من خصوم الفلاسفة لقيل بأنها مبالغة، ولقيل بأنها تهور وحكم قاس. لكن قالها فيلسوف عاش الفلسفة وانتصر لها، وكتب فيها وعرفها عن جدارة عند المتخصصين، وأخيراً يعلن الإفلاس ويقول قوله هذا، بل إنه ألف كتاباً عظيماً في الرد على المتكلمين، وهذا الكتاب موجود، ويعتبر أعظم رد على المتكلمين، حتى أفاد منه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ونقلا عنه كثيراً، مع أنَّه فيه ما فيه، لكنه نظراً لأنه مارس الفلسفة وعايشها، ثم مارس علم الكلام وعايشه؛ رد على هؤلاء وهؤلاء، وانتصر للحق، وإن كان لم يوفق في كثير من الأمور، لكنه أجاد في إقامة الحجة العقلية على المتكلمين والفلاسفة ورد عليهم، ونسف أصولهم بمعاولهم التي بنوا بها تلك الأصول؛ وذلك في كتابه المشهور: (الكشف عن مناهج الأدلة)، وهذا الكتاب مطبوع وموجود، ويعتبر في رده على المتكلمين أعظم رد عرف إلى يومنا هذا بعد رد شيخ الإسلام ابن تيمية. يقول في عبارته المشهورة: ومن الذي قال في الإلهيات شيئاً يعتد به؟! بمعنى: أن كل ما قيل في الإلهيات غير ما في الكتاب والسنة لا يعتد به، وهذا حق، والإلهيات هي تعبير عن أمور العقيدة التي تتعلق بالله عز وجل في ذاته سبحانه، وأفعاله وصفاته وأسمائه، ومن الإلهيات: الأخبار الإلهية الأخرى التي وردت فيها أمور الغيب. وابن رشد هذا رحمه الله حسنت حاله في آخر حياته، وانكب على الفقه، وطلب العلم الشرعي، وأجاد فيه وأفاد وصنف، وكان يكتب فيه مصنفات جيدة ومفيدة إلى يومنا هذا، ومن أهمها (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) في الفقه في المذاهب، وفي ترجيح الأقوال، وهو من أحسن الكتب التي يقرؤها طلاب العلم اليوم.

حيرة الآمدي في المسائل الكبار

حيرة الآمدي في المسائل الكبار قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الآمدي أفضل أهل زمانه، واقف في المسائل الكبار حائر]. الآمدي من أعقل أهل زمانه بأمور المتكلمين، وأفضلهم في علم الكلام، وله أيضاً إسهام جيد في العلوم الأخرى، خاصة في أصول الفقه، له إسهام جيد، وغالب المتكلمين الذين كانوا من الفقهاء كانوا فيما يتعلق بالعلوم الشرعية ممن أجادوا وأفادوا، ولهم إسهام طيب، مع أن عليهم أخطاء وملاحظات، لكن اجتهاداتهم في الغالب توافق اجتهادات الأئمة، كـ الجويني أبي المعالي وابن رشد والآمدي وغيرهم. كل منهم له إسهام في العلوم الشرعية، لكن حينما أخذوا نفس المقاييس والموازين العقلية التي اجتهدوا بها في نصوص الشرع وطبقوها على نصوص العقيدة أخطئوا وابتدعوا ووقعوا فيما وقعوا فيه. فـ الآمدي واقف في المسائل الكبار، أي: كبار المسائل الكلامية فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته في العلو والفوقية والرؤية، وما يتفرع عن هذه المسائل، وكذلك بعض مقدمات الكلام التي تكلموا فيها، مثل الكلام عن العرض والجوهر والجسم والمباينة والمفاصلة والحدود والغايات، والجهات إلى آخر ذلك. كل هذه الأمور تعتبر مسائل كبار عند المتكلمين، تقصوا فيها وتكلموا وتبحروا، وكلما تبحروا ازدادوا إفلاساً وتيهاً، فمنهم من أنقذه الله ورجع، ومنهم من مات على حيرته وأعلن حيرته، ومنهم من هلك ولم يعرف عنه شيء.

إعراض الغزالي عن الطرق الكلامية واشتغاله بالحديث في آخر حياته

إعراض الغزالي عن الطرق الكلامية واشتغاله بالحديث في آخر حياته قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الغزالي رحمه الله، انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فمات والبخاري على صدره]. الغزالي بدأ حياته بالفلسفة، ثم عرج على علم الكلام، ونقد الفلسفة، وزعم أن عند المتكلمين فيما يخالفون فيه الفلاسفة ما ليس عند الفلاسفة، وأنهم أفضل؛ لأنهم أقرب إلى الكتاب والسنة نوعاً ما من الفلاسفة. ثم بعد تعمقه في علم الكلام وصل إلى الطريق المسدود الذي وقف عنده الآمدي ووقف عنده الجويني ووقف عنده الشهرستاني وغيرهم، فنزع للتصوف، وغرق فيه، ثم إنه لم يصل إلى ما يشفي غليله في التصوف، فخرج من التصوف وأعلن إفلاسه في هذه الأمور كلها، وسلم تسليم العجائز، ولم يهتد إلى تفصيلات عقيدة السلف، لكنه سلم تسليماً مجملاً بأن السلف هم الذين كانوا على الحق، مع أنه كان في كتبه يقرر المذاهب كلها ولا يذكر عقيدة السلف، حتى إنه مرة من المرات قال: إن الحق لا يعدو أربعة مذاهب، فذكر المذاهب الباطلة كلها إلا مذهب السلف، فذكر الفلسفة وعلم الكلام وذكر التصوف، وذكر مذهباً رابعاً. ثم تردد وشك في الصحيح من هذه الأربعة، هل هو طريق الفلاسفة، أم طريق المتكلمين، أم طريق المتصوفة، ثم انتهى إلى أن طريق المتصوفة هي الطريق الصحيحة، وما ذكر طريق السلف أبداً لا ابتداء ولا انتهاء، وهذا دليل -بل فيه عظة وعبرة- على أن من تنكب الصراط وخرج عن نهج أهل السنة والجماعة قد لا يهتدي إلى السنة ولا يعرفها، حتى وإن مرت عليه أو سمعها لا يفقهها، ولا يفقه قلبه الحق، وهذا مما يدل على أن أهل البدع إذا أصروا على بدعهم يصرفون عن الحق، فيسمعون الحق فلا يعقلونه، وهذا واقع كثير من أهل البدع، بل واقع كل أهل البدع المغلظة الذين يصرون على بدعهم، واقعهم أنهم لا يهتدون إلى الحق، وإن سمعوا بالحق وعقيدة السلف فإنهم يفهمونها معكوسة، يفهمون أنها هي الباطل، فبذلك يكثر لمزهم للسلف وسبهم لهم وتشنيعهم عليهم. وفي موقف الغزالي عبرة، فإنه حينما رجع عن هذه الأمور كلها ما اهتدى إلى تفاصيل عقيدة السلف، وإن كان سلم تسيلماً مجملاً، لكنه ما اهتدى إلى التفاصيل، فبقي على ما عليه العوام، فذلك أكب على قراءة كتب السنة، ومن ضمنها صحيح البخاري، حتى قيل: إنه مات رحمه الله وصحيح البخاري على صدره، ونرجو أن يكون بذلك -إن شاء الله- قد تاب توبة نصوحاً. لكن ينبغي أن نأخذ من مثله العبرة بعد تيه طويل وعمر مديد قضاه في متاهات على شهرته وذكائه وقدرته وإسهاماته في العلوم الكثيرة، إلا أنه ما اهتدى يوما ًإلى أن يعرف تفاصيل عقيدة السلف؛ لأن الله عز وجل صرفه عن ذلك باعتناقه لعقائد أهل الكلام. ومع ذلك فالرجل فيه خير كثير، ونرجو إن يكون -إن شاء الله- قد تاب وحسنت توبته، وله من العلوم ما هو نافع، وله من العلوم ما فيه شيء من الأخطاء والانحرافات كما هو معروف.

شرح العقيدة الطحاوية [40]

شرح العقيدة الطحاوية [40] الفخر الرازي هو المؤسس الأول لأصول الكلام منذ عصره إلى يومنا هذا، ولم يأت بعده من يفوقه ولا من يقاربه، ولا يزال المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية يعيشون على أصوله التي قررها، هذا الرجل انتهى به الأمر إلى ترك علم الكلام، والنصح لغيره بعدم الانشغال والخوض فيه، وقال في آخر أمره: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

الفخر الرازي وتعبيره البليغ عما ابتلي به من علم الكلام

الفخر الرازي وتعبيره البليغ عما ابتلي به من علم الكلام قال رحمه الله تعالى: [وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه في أقسام اللذات: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال، فزالوا والجبال جبال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]، ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي]. هذا الكلام للرازي يعد من أعظم الكلام في الرد على المتكلمين من لسان واحد من أكابرهم، ولا أظن أحداً ممن لم يجرب علم الكلام ويبتلى به يستطيع أن يعبر هذا التعبير المؤثر البليغ في رد الكلام وفي وصف أهله وحالهم. فالذي عانى ويعاني غير من لم يعان ولم يجرب، ولو تأملنا معاني هذه القصيدة لوجدنا فعلاً معاني صادقة في الوصول إلى هذه النتيجة المؤلمة، وهي الحيرة والاضطراب والندم الشديد، ولقد -والله- نصح المتكلمين بنصيحة عظيمة من مجرب. ويعد الرازي -بدون منازع- المؤسس الأول لأصول الكلام منذ عصره إلى يومنا هذا، ولم يأت بعده من يفوقه ولا من يقرب منه، ولا يزال المتكلمون من الأشاعرة والماتريدية يعيشون على أصوله وعلى مبادئه التي قررها. وكتبه شاهدة لذلك ومن أبينها (تأسيس التقديس)، فإنه أسس فيه مناهج أهل الكلام التي اعتمدوا عليها بعده، ومع ذلك وبعد عمر طويل أفناه في خدمة الكلام وأهله وفي الكتب المطولة في الفلسفة وعلم الكلام؛ ينتهي إلى هذه النهاية، ثم ينصح قومه، فيقول: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

وقفات مع تصوير النهاية المؤلمة للمتكلمين في كلام الرازي في قصيدته

وقفات مع تصوير النهاية المؤلمة للمتكلمين في كلام الرازي في قصيدته نرجع إلى القصيدة، فالقصيدة -في الحقيقية كما قلت- فيها أبلغ تعبير يصور النهاية المؤلمة للمتكلمين والإفلاس الذي يصلون إليه بعد عناء طويل، حينما تكلموا في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، وفي سائر أمور الغيب والسمعيات بمجرد الفلسفة والعقليات والظنيات، ظناً منهم أنهم سيصلون إلى الحق بأدلة وبراهين قاطعة، وأخيراً يتبين لهم أنهم لم يصلوا إلى الحق، وأن أدلتهم وبراهينهم ليست قاطعة، بل وهمية، ويتبين لهم أن طريقة القرآن في الإثبات والنفي -وهي طريقة السلف- هي الطريقة السليمة التي تستقيم معها العقول وترتاح لها الفطرة، ويسلم فيها الدين والذمة والضمير. يقول: (نهاية أقدام العقول عقال): وقصده بذلك أن إقدام العقول وجرأتها على الغيبيات تنتهي في الأخير إلى العقال، وهو الحبل الذي يقيد به الجمل لئلا يتحرك، فكأنه يقول: إن العقول إذا اقتحمت أمور الغيب؛ فإنها تقيد وتصل إلى نهاية تأسرها عن أن تنطلق إلى الحق وصفاء الفطرة. فنهاية إقدام العقول على ما لا تدركه عقال، يعني: أنها تقف حائرة لا تستطيع أن تمشي خطوة إلى الحق ولا إلى المنهج السليم. يقول: (وغاية سعي العالمين ضلال): وهذا تعبير عن واقع المتكلمين، يظنون أن الناس كلهم تبع لهم، وأن العالمين ينتظرون من هؤلاء العباقرة المفكرين النتيجة التي يرتاحون إليها في عقيدتهم. فيقول: وغاية سعي العالمين في هذا المجال من فلاسفة ومتكلمين وغيرهم ضلال، أي: آخر ما ينتهون إليه الضلالة، وهذا فعلاً واقع المتكلمين. ثم قال بتعبير نفسي لا أظن أحداً ممن لم يجرب يستطيع أن يعبره: (وأرواحنا في وحشة من جسومنا)؛ لأنه جعل روحه تسيح فيما لا طاقة لها به فتقلق وتعيش عيشة النكد؛ لأنه يبحث عن الحق فلا يجده، وأي إنسان ينشد الحق ثم لا يجده لابد من أن يعيش في قلق، إلا إذا اعتصم بالله عز وجل، وبكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنه لابد حينئذٍ من أن يسلم تسليم الموقن المرتاح الضمير، أما من لم يفعل ذلك فإنه لا يهدى ولا يستطيع أن يسلم تسليم الموقن؛ لأنه ترك طريق اليقين. يقول: (وحاصل دنيانا أذىً ووبال). هذا حاصل ما سعوا إليه في دنياهم، غاصوا في علم الكلام، ثم أخيراً ما وجدوا إلا الأذى والوبال، أذى الضمير وأذى النفس وأذى الروح، ووبال الشكوك ووبال الترهات والظنون والأوهام التي تجعل الإنسان يعيش في حيرة، فربما توصله حيرته إما إلى الكفر وإما إلى الإفلاس، وإما إلى التسليم بالفطرة التي يسلم بها أجهل الناس وعامتهم من العجائز ونحوهم. يقول: (ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا): يقصد نفسه وأمثاله، وإلا فالذين يطلبون العلم على نور مستفيدون، لكنّه يعبر عن نفسه وعن أمثاله، فيقول: ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وهذا والله صحيح، فكتبهم مليئة بهذا، وكان هو من أكثر الناس افتراضاً للقول، إذا ما وجد عند الفلاسفة وعند المتكلمين الذين سبقوه قولاً افترض هو افتراض الظن من عند نفسه، فيقول: فإن قيل قلنا، وإن قالوا قلنا إلى آخره، كما تجده في تفسيره. وكثيراً ما يعتز بهذا، يثير الشبهة ولا يعالجها، بل أحياناً يثير الشبهة ويرد عليها، ثم إذا رد وانتهى من الرد وكاد يقنع القارئ قناعة وهمية، قال: ويرد على هذا إشكال، ثم يورد على القناعة إشكاله. وهذا معنى قوله: (قيل وقالوا)، فما عند المتكلمين إلا قيل وقالوا، أما (قال الله وقال رسوله) فهذا مما جفوه وابتعدوا عنه. يقول: فكم قد رأينا من رجال ودولة فبادوا جميعاً مسرعين وزالوا هذا شعور كل إنسان، فكل إنسان حينما يستعرض ماضيه يجد أن الدنيا تطوى من ورائه، لكن فرق بين شعور وشعور، فالسليم العقيدة المرتاح الضمير لا ينزعج من انطواء الدنيا خلفه، بل يزداد حباً للخير وإقبالاً على الله عز وجل، ويعرف أن هذا مصير الإنسان، فالدقيقة -بل الثانية- والستون سنة سواء بالنسبة لما مضى، كلها مضت لا تستطيع أن تفرق بينها، فمساحتها واحدة في الذهن، لكن المؤمن الذي ينشد ما عند الله عز وجل، وعمل خيراً واستقام على عقيدة سليمة، ويرجو أن يبلغه الله عز وجل ليزداد خيراً في عمره؛ فإنه يأسف على ما فات، فإن كان ما فاته تفريط، فإنه يحاول أن يستدرك، وإن عمل خيراً فإنه يأمل من الله عز وجل أن يجزيه عليه خيراً. يقول: وكم من جبال قد علت شرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال هذا تصوير بديع يدل على قوة المعاناة عند هذا الرجل، ويدل أيضاً على صدق الرجعة عنده؛ لأنه رجع عن مواقفه السابقة. فهو يصور الحق الذي يتمثل في الكتاب والسنة وما جاء الله به وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم بالجبال، فهذه الجبال حاول رجال من الناس أن يقهروها، فارتقوها إما ليهدموها وإما ليزعزعوها وإما ليقهروها بأي نوع من أنواع القهر، وأخيراً زال الإنسان ومات وبقيت الجبال، فإما أن يكون قد عجز عن مصادمة الحقائق وبقي الحق حقاً، وإما أن يكون حاول أن يصل إلى نهاية الحقيقة ولم يصل. فالجبال بمعنى الحق الذي لا يتزعزع ولا ينقلب، وهناك من حاول أن يشكك فيه،

كلام الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ودليله على إفلاس أهل الكلام

كلام الرازي: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية ودليله على إفلاس أهل الكلام ثم يقول: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً): والطرق الكلامية هي المسالك التي حاول بها أن يثبت أن طريقة المتكلمين هي الحق، والمناهج الفلسفية: مناهج الفلاسفة، وقد عانى فعلاً، وعايش مناهج الفلاسفة؛ فوافقهم في أشياء وخالفهم في أشياء، لكنه في النهاية ما رآها تشفي العليل، أي: مرض القلب الذي في كثير من الشاكين من المتكلمين، وكذلك لا تروي الراغب والنهم في حب الكلام وأهله. ذلك أن علم الكلام علم يستهوي صاحبه، فإذا قرأ المبتدئ الذي عنده شيء من الذكاء كتب المتكلمين فإنه في الغالب يعجب وينبهر، ويجد أنه بحاجة إلى أن يصل إلى حقائق ما قالوه، فيشعر بشيء من الاندفاع والتمادي مع الكلام ومع الفلسفات، وتستمر هذه الأمور حتى يظن أنه على الحق أو أنه يكاد يصل إلى الحق، وفي النهاية يجد الطريق مسدوداً. يقول: (ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن)، وكأنه اكتشفها! وما عرف أن هذا ما عليه أئمة السلف وأئمة الأمة كلها وأهل السنة الذين لم يعانوا من هذه المشكلات ولم يدرسوا علم الكلام ولا وقعوا فيه. فكأنه ظن أنه بعد معاناته الطويلة اكتشف أن طريقة القرآن هي الطريقة السلمية، فلذلك لم يوفق إلى معرفة تفاصيل الحق مثل السلف، إنما وفق لأن يعرف أن أسلوب القرآن هو الأسلوب السليم فقط، وهو عدم الخوض، والإيمان بالأمور الغيبية بإجمال. يقول: (أقرأ في الإثبات)، أي إثبات الصفات وإثبات الغيبيات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]، فقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فيه إثبات الاستواء لله عز وجل، وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] فيه إثبات العلو لله عز وجل. يقول: (وأقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:110]). وهذه بدهيات عند عامة أهل السنة، لكنه ما أدركها إلا بعد مرحلة طويلة من عمره وهو في سن الشيخوخة، وإلا فمن البدهي أن الحق إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه. ثم قال: (ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي)، هذا إن وفق، وإلا فنسأل الله العافية، وألا نجرب مثل هذه التجربة. لكنَّه يقصد من ابتلي، فإنه إذا سلك هذا المسلك، فبحث عن الحق، ولم يصل إليه، ثم وفق وهدي؛ فسيعرف هذه المعرفة، لكن ليس كل من ولج هذا الطريق يوفق للتوبة. ليس كل من ولج هذا الطريق يوفق للتوبة، بل الغالبية من الهالكين، نسأل الله السلامة، ودليل ذلك أن أكثر المتكلمين لم يستفيدوا من قول رائدهم وقائدهم وأولهم وعمدتهم وهو الرازي، ما استفادوا أبداً، مع أنه قال لهم: الطريق مسدود، وأمامكم مهلكة، وأنا قد رأيت ورأيت، إلا أن بعضهم أبى إلا أن يسقط في الهاوية، بل أكثرهم إلى اليوم لم يستفيدوا من هذا الكلام مع إجلالهم للرازي وتقديرهم له، فهم لا يزالون يقررون كتبه التي ندم عليها وتراجع عنها وحذر منها، لا يزالون يعتمدنها في مذهبهم وفي طريقتهم، نسأل الله العافية، ونسأل الله السلامة.

شرح العقيدة الطحاوية [41]

شرح العقيدة الطحاوية [41] مما يدل على فساد علم الكلام وبطلانه حيرة أهله واضطرابهم فيه، ووصولهم إلى طريق مسدود لم يعرفوا فيه ما يعتقدون، فبعضهم لا يدري ما يعتقد، وبعضهم يموت على عقائد عجائز نيسابور، وبعضهم ينتهي به الأمر إلى أنه لا يعرف شيئاً، ثم أجمعوا كلهم على النصح لأصحابهم بترك هذا الطريق، وسلوك طريق السلف أتباع الكتاب والسنة، فلله ما أشد حيرتهم واضطرابهم! وهذا جزاء كل من أعرض عن الكتاب والسنة ونهج سلف الأمة.

مقالات لأرباب علم الكلام في تصوير الحيرة والاضطراب والندم الحاصل في حياتهم

مقالات لأرباب علم الكلام في تصوير الحيرة والاضطراب والندم الحاصل في حياتهم قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم وكذلك قال أبو المعالي الجويني رحمه الله: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به. وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـ ابن الجويني، وهأنذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور. وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي -وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي - لبعض الفضلاء وقد دخل عليه يوماً، فقال: ما تعتقد؟! قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به؟! أو كما قال، فقال: نعم، فقال: اشكر الله على هذه النعمة، لكني -والله- ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته. ولـ ابن أبي الحديد الفاضل المشهور بالعراق: فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري سافرت فيك العقول فما ربحت إلا أذى السفر فلحى الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظر كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر وقال الخونجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً. وقال آخر: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء]. هذا الكلام امتداد لوصف حال المتكلمين، والسعيد من وعظ بغيره، ونسأل الله السلامة والعافية. وهؤلاء الذين ذكرهم الشارح رحمه الله ليسوا من المغمورين أو من صغار الحائرين الذين قد لا يؤبه بقولهم ولا بكلامهم، بل هؤلاء من أئمة وأساطين علم الكلام الكبار، الذين رسموا علم الكلام لأهله إلى يومنا هذا، ومع ذلك هذا مصيرهم وهذا تعبيرهم عن نهاية خوضهم وعن نهاية كدهم طول أعمارهم، وهو -والله- تعبير فيه العبرة والعظة لمن اعتبر، لكن من لم يرد الله له الهداية فلا تنفع فيه موعظة، نسأل الله السلامة والعافية.

الشهرستاني وتعبيره عن النهاية المؤلمة لأهل الكلام

الشهرستاني وتعبيره عن النهاية المؤلمة لأهل الكلام والشهرستاني هو ممن عرفتم في شهرته في تقرير علم الكلام وانتصاره له، وفي استنقاصه للسلف وكلامه فيهم وتجاهله لمذهبهم، وإعجابه بالكلام والفلسفة، ومع ذلك ينتهي إلى هذه النهاية المؤلمة التي أعلن عنها في آخر المطاف، فقد ذكر أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم -نسأل الله السلامة- حيث قال: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم يعني مدارس الفكر الكلامي والفلسفي والخوض في مثل هذه الأمور، بمعنى: أنه جرب ودرس وتشرب هذه المذاهب كلها، وحاول أن يعرف طريق الحق، وأخيراً عبر التعبير الرائع الذي لا يعبره إلا من عانى، فقال: (فلم أر إلا واضعاً كف حائر)، وهذا تصوير عظيم، (على ذقن أو قارعاً سن نادم). وكلا الأمرين مؤلم ومؤسف، الحيرة والندم.

أبو المعالي الجويني ناصح مشفق ونادم على ما سلكه من علم الكلام

أبو المعالي الجويني ناصح مشفق ونادم على ما سلكه من علم الكلام ثم أبو المعالي الجويني، وهو من هو في جلالته وقدره وعلو شأنه في سائر العلوم، إلا أنه زل في بعض مسائل الاعتقاد وترك سبيل السلف إعجاباً بالكلام وأهله، ثم خاض بحر الكلام الخضم، وأخيراً مع علمه وعقله ينتهي إلى هذه النهاية المؤلمة التي حار فيها ورجع كما رجع غيره، حتى إنه نصح من سبقوه ومن لحقوه، وخاصة اللاحقين والمعاصرين له، نصحهم بأن يستفيدوا من تجربته، وهو رائدهم في وقته، بل وبعد وقته، فـ أبو المعالي يعتبر من الرواد الكبار لعلم الكلام ومن مؤسسيه، ولا يزال المتكلمون إلى يومنا هذا من أشاعرة وماتريدية ومن نحا نحوهم يعولون على أبي المعالي في الكلاميات التي قررها بعقله وبقواعده الفلسفية التي أنشأها أو قلد فيها غيره، وكذلك بأسلوبه في مخالفة نهج السلف. ثم بعد ذلك ندم ورجع ونصح قومه لعلهم يتعظون، فقال: (يا أصحابنا!) يعني: يا أهل الكلام، أو: يا من يسمعون منا، أو: يا أهل مذهبي في الفقه! (لا تشتغلوا بالكلام)، وهذه -والله- نصيحة ممن اشتغل بالكلام، لو جاءت من إنسان آخر لقيل: هذا خصم للكلام، ومن الطبيعي أن يقال هذا، لكن الجويني -كما قلت-: رائد من رواده، ثم يقول هذا الكلام! فهذا أمر فيه موعظة. قال: (لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ) أي: من الحيرة والندم والافتراء (ما اشتغلت به). ثم قال عند موته: (لقد خضت البحر الخضم) بحر الكلام ومتاهاته التي لا نهاية لها، (وخليت أهل الإسلام وعلومهم)، وأهل الإسلام أهل السنة ولا شك، وعلومهم علوم الكتاب والسنة التي تقف عند النصوص فيما يتعلق بالعقائد، وهو ما خلى أهل الكلام في غير العقيدة، حيث نجد أنه في الفقه والتفسير وغيرهما سار على نهج الأئمة ونهج السلف، لكن في العقيدة خلى أهل السنة وعلومهم. قال: (ودخلت في الذي نهوني عنه)، وهذا يدل على أنه كان هناك من يقوم بالحجة على الخلق وينهى عن المنكر، فلا شك في أنه نهي، وهذا دليل على أنه وجد من نهاه وحذره وأشفق عليه. قال: (والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لـ ابن الجويني). نسأل الله السلامة (وهأنذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور) عقيدة الفطرة، وهذا اعتراف ضمني بأنه مع تركه علم الكلام لم يوفق لفقه عقيدة السلف على جهة التفصيل، ولو وفق لها ما شعر بهذه الحيرة، وأي إنسان يعدل عن الحق بإصرار فإنه ولو تاب قد لا يوفق لأن يرجع إلى الحق كمن عاش في أحضان الحق منذ نشأته. لذلك ينبغي أن يحذر طالب العلم من أن يؤسس علومه على غير نهج شرعي سليم؛ فإنه يخشى عليه من أن يتأثر فيصعب عليه الرجوع، حتى وإن تاب فإنه يصعب عليه استيعاب مذهب السلف، وقد ذكرت سابقاً -ومن خلال هذه النماذج- أن كل الذين رجعوا من أهل الكلام عن الكلام وسلموا بالسنة واعترفوا لمنهج أهل السنة بأنه حق، كلهم لم يوفقوا بالرجوع إلى السنة كما كان أصحابها عليها، إنما بالتسليم المطلق والقناعة التي عليها العجائز والعوام الذين لا يدركون إلا البدهيات والأمور الفطرية العامة، وهذا اعتراف من واحد من أكابرهم.

الخسروشاهي لا يدري ما يعتقد

الخسروشاهي لا يدري ما يعتقد وقال الخسروشاهي -وهو كذلك من كبارهم، ومن تلاميذ الرازي - لبعض الفضلاء من أهل العلم الذين زاروه، وقد دخل عليه يوماً، ويظهر أن الزائر ممن شرب من علم الكلام، ويظهر أنه من أهل السنة، سواء كان من عوامهم أو من متعلميهم، قال له: ما تعتقد؟ فانظر إليه عند هذه اللحظة الحرجة يسأل هذا السؤال وهو متكلم كبير يزعم أنه هو الذي يقرر حقائق الدين، ثم يسأل سؤالاً لا يسأله إلا مستريب أو جاهل أو شاك أو محتار! وهو فعلاً من المحتارين. فمن الطبيعي أن يجيب هذا الرجل الفاضل بالجواب العادي الذي يلامس العقل السليم، فقال: ما يعتقده المسلمون، فهو يحسن الظن بالمسلمين، وأن المسلمين -إن شاء الله- كلهم على خير. وهذا جواب حكيم، يقول: ما عندي إلا ما يعتقده المسلمون، أي: العقيدة الحقة، فقال الخسروشاهي: وأنت منشرح الصدر بذلك ومستيقن به؟! فانظر إلى حاله نسأل الله العافية! فاقد لليقين قلق مضطرب، لا يجد فيما يعتقد من الأمور الكلامية التي خاض فيها وترك بها نهج السلف ما يشفي غليله ولا ما يغرس في قلبه اليقين والثقة بالعقيدة، بحيث يلقى الله عز وجل على ثقة بدينه. فعبر عن شكه، وقال: وأنت منشرح الصدر لذلك ومستيقن به؟! أو كما قال، فقال المسئول: نعم، فقال الخسروشاهي: اشكر الله على هذه النعمة، أي: لأنك مستيقن ما عندك ريب ولا شك، ثم يقول: لكني -والله- ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، نسأل الله العافية، أقسم أيماناً ثلاثة على أنه لا يدري ما يعتقد بسبب الكلام الذي خاض فيه، وقال: إن هذا هو الحق اللازم الذي لابد منه إلى آخره، مع أنه كان قد سب السلف ولمزهم واتهمهم بالتجسيم والتشبيه والحشوية إلى آخره، وأخيراً يرجع إلى هذه الحال التي لا هو رجع فيها إلى القول الذي كان يستهدي به ووفق إليه، ولا هو وجد اليقين الذي كان يسعى إليه، نسأل الله السلامة.

ابن أبي الحديد تائه في معرفة ربه وراد على المتكلمين

ابن أبي الحديد تائه في معرفة ربه وراد على المتكلمين وكذلك ابن أبي الحديد الفاضل المشهور في العراق، كان على طريقة الفلاسفة والصوفية، والفلاسفة والصوفية مع أنهم يزعمون حينما خاضوا في أمور الاعتقاد وأسماء الله وصفاته أنهم يسعون إلى تنزيه الله عز وجل حتى نفوا ما أثبته الله لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، مع ذلك يخاطبون الله كأنهم يخاطبون المخلوق، كما في أبيات ابن أبي الحديد، ففيها يخاطب ربه وكأنه يخاطب أحداً من المخلوقات، يقول: فيك يا أغلوطة الفكر حار أمري وانقضى عمري سافرت فيك العقول فما أي: عقول الفلاسفة والذين أرادوا أن يخوضوا في ذات الله وأسمائه وصفاته بغير علم. (فما ربحت إلا أذى السفر) أما المؤمنون الذين علقوا قلوبهم بالله وآمنوا بالله كما يليق بجلال الله عز وجل؛ فإنهم لم يشعروا بأذى هذا السفر، بل تلذذوا بلذة السفر إلى الله عز وجل. (فلحى الله الألى زعموا): وهنا يدعو على نفسه وعلى أمثاله، فيقول: فلحى الله الألى زعموا أنك المعروف بالنظر وكلمة (المعروف بالنظر) تأكيد على أنه يقصد المتكلمين؛ لأن المتكلمين قالوا: إن الله يعرف بالنظر، بمعنى: أنه لا يمكن أن تعرف الله حقيقة المعرفة إلا بفكرك، ولا تعول على الفطرة ولا على الوحي ولا على آيات القرآن والسنة ولا على ما تربيت عليه من نهج الهدى ودين الفطرة الذي نشأت عليه بين والديك والمسلمين، إنما عليك أن تنظر وتتفكر، فلذلك أغلب المتكلمين قالوا: أول واجب على العبد إذا بلغ سن الرشد أن ينظر ويتفكر: من ربه؟ وهل صحيح أن الرب هو الخالق؟ فإن كان هو الخالق فما صفاته وما أفعاله؟ إلى آخره. ولا يعولون على العبادة، بل يقفون عند قول: هل هو موجود أم غير موجود؟ وإذا كان موجوداً، فهل هو خالق أم غير خالق؟ فينتهون إلى هذا الحد ولا يصلون إلى شيء، فيقولون: أول ما يجب على العبد إذا بلغ أن ينظر ويفكر، فلما قيل لهم: ليس أحد يستطيع أن ينظر ويفكر بتفكيراتكم ويصل إلى نتيجة، بل تتوارد عليه الشكوك فيهلك؛ قال بعضهم: إذاً: لا نقول: الواجب النظر، بل الواجب على العبد إذا بلغ أن يقصد إلى النظر، فيحاول، فإن استطاع وإلا فهو معذور، أي: يحاول أن يشك ويضطرب في عقيدته، ثم يخرج عن دين الفطرة الذي نشأ عليه. والدين الحق الذي قرره الكتاب والسنة وعليه السلف أن الإنسان المسلم إذا نشأ بين أبوين مسلمين فإنه مستصحب لحال الإسلام، فإذا بلغ خمس عشرة سنة كتبت عليه أعماله، ويكفيه ما عرفه من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ولوازم ذلك، بل حتى تجديد الشهادة لا يلزمه، فلا يلزم أن يقال له: أنت بلغت، إذاً: اشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنه بفطرته شاهد وبتربيته شاهد وبعيشه بين المسلمين شاهد وعالم، فلا داعي لأن نجدد الشهادتين. إذاً: فمن باب أولى ألا نلجئه إلى أن يفكر في وجود الخالق ومن الذي خلق ولماذا خلق إلى آخر ذلك من الأمور التي أراح الله عز وجل منها العباد، وكلفهم بفعل الطاعات وترك المعاصي، ولم يجعل هذه الأمور إليهم، بل جعلها من مقتضيات الفطرة السليمة والعقل السليم. يقول: كذبوا إن الذي ذكروا خارج عن قوة البشر يعني: النظر، أي: أن الاعتقاد لا يكون بالتفكير، يقول: إن هذا خارج عن قدرة البشر؛ لأن البشر لا قدرة لهم على التفكير في الغيبيات وأمور القدر، والأمور المعضلة التي إن لم توصل إلى التشكيك فإنها لن توصل إلى اليقين.

الخونجي لا يهتدي إلى معرفة الحق لغبش علم الكلام

الخونجي لا يهتدي إلى معرفة الحق لغبش علم الكلام وكذلك الخونجي عبر عن أمثاله من أهل الأهواء وأهل الكلام الذين خاضوا في الكلام يريدون الحقيقة فلم يصلوا إلى أي حقيقة. قال: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم اعترض على القاعدة على طريقة الرازي والمتكلمين، يضع المرء منهم قاعدة ثم يعترض عليها ويورد عليها الشكوك، ولذلك كل قاعدة عقلية في الغيب لابد من أن يرد عليها من الشكوك ما ينسفها من قائلها ومن مقررها. فكل قاعدة عقلية في الغيب لابد من أن يرد من قائلها أو ممن كان على هذا المذهب ما يشكك به فيها، أما أمور الفطرة وأمور العقل السليم والشرع؛ فإنه لا يمكن أن يرد فيها التشكيك إلا من مريض القلب. وقولهم: إن الممكن يفتقر إلى المرجح فلسفة أصحابها ما وصلوا فيها إلى نتيجة، ويمكن أن نعبر بالتعبير اليسير لمفهومها عندهم، فهم يقولون بأن هذا العالم المخلوق ممكن الوجود؛ لأنه لا يعقل أن يكون أوجد نفسه؛ ولأنا نرى من مظاهر الكون ومظاهر الأحياء أن هناك ما يحدث وهناك ما يفنى من هذه المخلوقات، فما يحدث يدل على أنه لم يكن ثم كان، إذاً: هو ممكن، وما يفنى يدل على أنه كان ثم لم يكن، إذاً: هو ممكن، ويمكن أن يحدث مرة أخرى مثله أو هو نفسه. إذاً: كل الخلق ممكن الوجود، فنشأ عنده إشكال آخر، وهو أن الممكن هذا يحتاج إلى ما لا يمكن أن يخضع لهذا التصور، فلابد من أن يكون لهذا الممكن الذي يوجد ويفنى ويحدث وينقضي موجد، والموجد إذا كان ممكناً وقعنا في الدور، فالممكن يحتاج إلى ممكن إلى ما لا نهاية. إذاً: لابد من مرجح، وهو الذي وجوده لا يفتقر إلى غيره، يقصدون بذلك الله عز وجل، ويسمونه هم: واجب الوجود، يعني: لازم الوجود، وليس المراد الواجب الشرعي، فهم أقل الناس اهتماماً بالواجبات الشرعية، بل أصحاب مصطلح (واجب الوجود) لا يؤمنون بالشرائع، فهم يقصدون بواجب الوجود اللازم وجوده عقلاً، ويسمونه المرجح. ثم قال: الافتقار وصف سلبي، أي: افتقار المخلوقات إلى خالق وصف سلبي، وكأنه يرى أن عظمة هذا الكون تقتضي عدم وجود الوصف السلبي إلى آخره، ثم انتهى إلى لا شيء، نسأل الله السلامة والعافية، فقال: أموت وما عرفت شيئاً. هكذا قال. وقال آخر -وذكر أنه الحموي كما ورد في درء التعارض لشيخ الإسلام ابن تيمية -: أضطجع على فراشي. فانظر كيف حاله نسأل الله السلامة! فبدلاً من أن يذكر الله عز وجل ويقرأ أوراده وينام نوماً هنيئاً بعقيدته السلمية الصافية يجلس حائراً طول الليل وينتهي إلى لا شيء. يقول: أضطجع على فراشي وأضع الملحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء -أي: من المتكلمين- حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء! وهكذا يعيش عمره بهذه الترهات التي الكلام فيها متاهات والخوض فيها متاهات والنهاية منها متاهات، نسأل الله السلامة والعافية. فهذا تصوير لحال المتكلمين لا يمكن أن يعبر عنه غيرهم، وفي ذلك عبرة وعظة للمتعظين، لكن من يتعظ؟! ومن عافاه الله سيجد في ذلك العبرة والعظة، لكن من ابتلي بالكلام فقد لا يتعظ -نسأل الله السلامة- إلا إن وفق وكان قصده فعلاً أن يبحث عن الحق، دليل ذلك أن كثيراً من المتكلمين المعاصرين الآن بدءوا يرفعون راية الكلام منتصرين لهذا المنهج، ومنتصرين لهذا الاتجاه بمؤلفات وكتب ومحاضرات، ويشنون الحملة تلو الحملة على أهل الحق والاستقامة، ويتهمونهم بالتحجر والتشبيه والتجسيم والحشوية من جديد كما فعل أسلافهم، وبدءوا يهتمون بكتب أهل الكلام خاصة كتب هؤلاء الذين ذكرهم الشارح، فهناك طائفة من المتكلمين المعاصرين بدءوا يعنون بهذه الكتب وينشرونها على أنها البديل ضد التيار السلفي، وهذه مصيبة وداهية؛ إذ لم يتعظوا بمن سبقهم ولم يأخذوا بنصيحة المشفقين من شيوخهم ولا من أهل السنة والجماعة، لكن الأمر لله من قبل ومن بعد.

شرح العقيدة الطحاوية [42]

شرح العقيدة الطحاوية [42] قال أبو يوسف رحمه الله: من طلب الدين بالكلام تزندق، وحكم الإمام الشافعي على أهل الكلام بأن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام، وهذا حكم عادل يليق بأهل الكلام الذين بدلوا وأولوا وحرفوا ما هو معلوم في الكتاب والسنة بالدلائل القطعية، ومن جملة ما أولوه ونفاه بعضهم رؤية الله تعالى في الجنة، مع أنها ثابتة بالدلائل القطعية من الكتاب والسنة.

علم الكلام في نظر أعلام أهل السنة

علم الكلام في نظر أعلام أهل السنة

طلب الدين بالكلام زندقة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى

طلب الدين بالكلام زندقة عند أبي يوسف رحمه الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف رحمه الله: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب]. قوله: (من طلب الدين بالكلام تزندق)؛ يقصد: أن من بدأ علمه بأخذ علم الكلام قبل أن يتعلم العلوم الشرعية التي تبني العلم على أسس سليمة، أو كان نصيبه من القراءة في علم الكلام أكثر من غيرها، أو بدأ يقرأ في هذه الأمور قبل أن يشتد عوده وهو حديث السن؛ فإنه في الغالب يزيغ نسأل الله السلامة، وهذا الكلام لم يكن مجرد ظن من أمثال أبي يوسف، بل كان واقعاً يحكي نهج أهل الكلام قديماً وحديثاً، فما من إنسان يؤسس معلوماته على غير العلوم الشرعية في الدين -خاصة العقيدة- إلا تلوث فكره وانحرفت فطرته ونهج غير نهج المؤمنين وغير نهج السلف؛ لأن علم الكلام موضوعاته تتعلق بقضايا العقيدة، فهي تستهوي القارئ، ويظن أن علم الكلام وسيلة لفهم الحق ولفهم العقيدة السليمة، فمن هنا ينجرف من حيث إنه يظن أنه على هدى وعلى طريق مستقيم، وقد قلت سابقاً: الغالب أن علم الكلام يستهوي المبتدئ ويستهوي غير المتفقه في الدين، بمعنى: أنه يجد فيه ما يعجبه، فيعيش في خيالات وأحلام وأوهام يظنها حقائق، وتكبر في نفسه ويملكه الإعجاب بهذا المسلك وهذا المنحى وبكلام المتكلمين؛ لأنه يزينه له الشيطان من ناحية؛ ولأنه يبحث في قضايا غريبة طريفة تستهوي المطلع، فيتمادى معها أحياناً بمجرد حب الاستطلاع والوصول إلى نتائج الكلام، وأحياناً يشربها قلبه فيظن أنها حق فيتمادى فيها، ويصير عنده شيء من النهم، فكلما قرأ أحب الازدياد من القراءة، ولذلك فالذين يسلكون هذا المسلك في قراءة كتب الكلام أو كتب الفلسفة أو كتب الأدب غير المنضبطة يدمنون القراءة على هذه الأمور ولا يستطيعون الخروج منها غالباً، وتستهويهم بحيث لا يستطيع المرء منهم التخلص منها، وإذا قرأ غيرها يشعر أنه لا يستفيد، وأن العلوم الأخرى جافة غير مفيدة، وليس فيها جديد إلى آخره. فهذه السمة موجودة إلى اليوم في الفلاسفة أو المحبين للفلسفة والمحبين لعلم الكلام وللكتب غير النافعة، ككتب القصص غير الموجهة، وكتب الفن، وكتب الأدب المنحرف، كلها تستهوي القراء في الغالب وتهلكهم أيضاً في الغالب، إلا من عصم الله، وما من أحد يأخذ هذه العلوم بأكثر من قدر العلوم الشرعية إلا صار عنده شيء من اللوثة في دينه وفي سلوكه، إذاً: الغالب أن من طلب الدين بالكلام يصل به الأمر إلى التزندق إما جزئياً وإما كلياً. قوله: (ومن طلب المال بالكيمياء أفلس) يقصد به ظاهرة كانت موجودة قديماً، وهي أن كثيراً ممن كانوا يتعلمون الكيمياء يستخدمونها في خداع الناس ويراهنون على ذلك، وعوام الناس الذين لا يعرفون هذا العلم يظنون أنه نوع من السحر أو نوع من الدجل، ولا يعرفون أن هذا من الأمور العلمية، فيأتي من عنده شيء من الكيمياء فيراهن على أن يقلب هذا العنصر إلى عنصر آخر، أو هذا الماء من سائل إلى جامد، أو هذا اللون من لون إلى لون، فأكثر الناس الذين ليس عندهم إلمام يقولون له: لا تستطيع، ليس بمعقول، فيراهن، ويجعل هذه وسيلة لكسب الرزق، وكان بعضهم يجلس في الساحات وفي الطرقات من أجل المراهنة مع الجمهور ويكسب بذلك طريقة للعيش يعيش بها على حساب السذج. فـ أبو يوسف يقول: من فعل ذلك أفلس؛ لأن مصدره غير سليم، والغالب أن من كان مصدره المالي غير شرعي تكون نهايته الإفلاس كما يفعل هؤلاء، وكثير من الدجالين وكثير من المتسولين وإن ملكوا من الدنيا الكثير حالهم حال المفلس، ونهايتهم إلى فقر، ويزيدهم الله فقراً مادام طلبهم العيش عن هذه الطرق غير الصحيحة. يقول: (ومن طلب غريب الحديث كذب)، يقصد: أن كثيراً من أهل الأهواء والبدع يلتمسون غرائب الحديث وغرائب النصوص وشواذ الفتاوى وشواذ الأحكام وشواذ المواقف بدعوى أنهم يريدون أن يطلعوا عليها، والحقيقة أنهم في الغالب يريدون أن يلبسوا بها على الناس، ثم إن من دخل هذا الباب فأنه -في الغالب- يصاب بنفس المرض، يعني: إذا طلب غريب الحديث -سواء ما يتعلق بالأحاديث المكذوبة مثلاً أو بالأحاديث التي فيها نوع من الإشكال أو الاشتباه أو غيرها- وولج في هذا الباب وأكثر منه فلابد أن يتأثر على نحو يجعله يتعلق ببعض الإشكالات، فتثير في نفسه الشك، أو تجعله ممن يثيرون الشكوك بدعوى أن عنده علماً وأن عنده طرائف، وأن عنده أشياء ليست عند الناس، فيقع في هذه الظواهر التي تئول بالإنسان إلى الكذب والدجل والشك والريب.

حكم الإمام الشافعي في أهل الكلام

حكم الإمام الشافعي في أهل الكلام قال رحمه الله تعالى: [وقال الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننت مسلماً يقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله- خير له من أن يبتلى بالكلام. انتهى]. كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في عقوبة المتكلمين كلام ثابت، وله -أيضاً- عبارات أخرى تشبه هذه العبارات، وسبب ذلك أن الشافعي رحمه الله ممن تصدى لأوائل الجهمية والمعتزلة، تصدى لهم وناقشهم، مثل: حفص الفرد وغيره، ناقشهم وجرت بينه وبينهم مجادلات ثم قطع باب المناقشة؛ لأنه رأى أن مناقشة أهل الكلام تمرض، حتى إنه نهى عن جدالهم بعدما جرب، وأشار إلى الموضوعات التي يقولونها ويطرحونها على الناس، وأنها موضوعات خطيرة في الدين، بمعنى: أن المتورع -بل المسلم العادي صاحب الفطرة- ينفر من مقولاتهم؛ لأنها تتعرض لقضايا خطيرة فيها أولاً: إساءة أدب مع الله عز وجل، وفيها ثانياً: خوض في القدر، وفيها ثالثاً: خوض في الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله عز وجل. فكل مسائل أهل الكلام تدور حول الكلام في الله عز وجل، وفي ذاته وأسمائه وأفعاله بغير علم وبسوء أدب، وبكلام لا يليق بالبشر مع البشر، فكيف به في حق الله عز وجل؟! والشافعي رحمه الله تورع من أن يذكر شيئاً مما سمعه وناقشهم فيه؛ لأنه يرى أن مجرد حكايته فيه إساءة أدب مع الله عز وجل، بل أحياناً فيه قدح في ذات الله وأسمائه وصفاته وسب لله تعالى، فمن هنا ما مثل ولا ذكر؛ لأنه تورع عن أن يذكر مقولاتهم، وسنجتنب ما اجتنبه الشافعي، لكن أشير إلى قاعدة عندهم تعرفون بها مدى إساءة الأدب مع الله، فالمعتزلة والجهمية كثير من كلاهم يدور على إلزام الله بلوازم، ولن أذكر هذه اللوازم؛ لأنها شنيعة، وأيضاً القول بأن الله لا يفعل كذا، فلن أذكر هذه الأفعال، لكنهم ذكروها، بل أحياناً يقولون: لا يستطيع أن يفعل كذا، ويقولون: يجب على الله أن يفعل كذا! تعالى الله! ويجوز له أن يفعل كذا! ويجب عليه ألا يفعل! إلى آخر ذلك من الأمور التي هي ترهات لو قيلت في بشر لاعتبر هذا من أعظم إساءة الأدب، فكيف وقد قيلت في الله عز وجل؟! هذا مما أشار إليه الشافعي، كما أنه يقصد أموراً أخرى عظاماً يتورع المسلم عن مجرد حكايتها، فلذلك قال: (لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما خلا الشرك بالله) ولا أظن هذه مبالغة؛ لأنه ترجى له التوبة لو ابتلي بأي شيء مما نهى الله عنه ما خلا الشرك (خير له من أن يبتلى بالكلام)؛ لأن الذي يبتلى بالكلام قل أن يوفق للخير والهداية إلا نادراً؛ لأنه يعيش في أحلام، ثم إنه في الغالب يتمادى به الجدل والخصام إلى أن يمتهن هذا المسلك ويحترفه حرفة ويظن أنه على الحق، ويظن أن هذه عبادة، حتى إنه أثر عن كبار المتكلمين الأوائل من المعتزلة -مثل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء - أنهم في رحلاتهم كانوا يقصدون العلماء ومجالس العلم في البلاد لمجرد الجدل والنقاش لا لتلقي العلم، كما ورد عن عمرو بن عبيد أنه مرة ذهب إلى مكة، فكان ذهابه مع وجود أيوب السختياني رحمه الله أحد أعلام الأمة وأعلام السنة، فقارن أحد الناس الذين تنبهوا بين سلوك الرجلين، فذكر أن عمرو بن عبيد كان يجلس في البيت الحرام، ثم بعد صلاة العشاء يطلب من يناظره في بدعته، فيجلس يناظر الواحد تلو الآخر إلى الفجر، حتى إنه مرة لما صلى الفجر وانتهى من الصلاة بعد نقاش طول الليل قال لمن ناقشوه: إن بقي عندكم شيء فهاتوه بعد صلاة الفجر! نسأل الله السلامة. فهذا المقارن ذكر في المقابل أيوب، يقول: كان إذا صلى العشاء يقوم إلى الفجر يصلي! وهذه هي المقارنة الصحيحة التي بها نعرف الفرق بين أحوال القوم، فهذا يجادل ويظن أنه على الحق، ولا تظنوا أنه يعتقد أن جداله بالباطل، بل يظن أنه ينصر الحق، ويظن أن هذا أعظم الجهاد، وأنه أعظم من الجهاد بالسيف، ويرى أنه أعظم أجراً من أيوب السختياني الذي يقوم من العشاء إلى الفجر يصلي، بل يحقر هذا الاتجاه والسلوك، وهذا ما يفعله كثير من المتحذلقين والمجادلين في عصرنا ممن يظنون أنهم يحسنون صنعاً، وممن قد ينتسبون إلى الدعوة إلى الله، تجد كلامهم ثرثرة ولا يملون من الثرثرة، ولو وجدوا من يسهر معهم ويواصل الكلام في الأمور والإشكالات التي لا يقدر عليها إلا العلماء الفحول، ومع ذلك تجد هذا الصنف من الذين يحبون الكلام وعلم الكلام يضيعون وقتهم ووقت الأمة في صراعات كلامية، وتفريخ عاطفي لا قيمة له.

بيان عموم ذم الإمام الشافعي لعلم الكلام ودفع تخصيصه بقوم معينين

بيان عموم ذم الإمام الشافعي لعلم الكلام ودفع تخصيصه بقوم معينين وهنا تعليق على كلام الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، حيث يقول المعلق: [ذكره البيهقي في مناقب الشافعي وعلق عليه بقوله: إنما أراد الشافعي رحمه الله بهذا الكلام حفصاً وأمثاله من أهل البدع، وهذا مراده بكل ما حكي عنه في ذم الكلام وأهله، غير أن بعض الرواة أطلقه، وبعضهم قيده، وفي تقييد من قيده دليل على مراده، ثم نقل عن أبي الوليد بن الجارود قوله: دخل حفص الفرد على الشافعي وكلمه، ثم خرج الإمام الشافعي وقال لنا: لأن يلقى الله العبد بذنوب مثل جبال تهامة خير له من أن يلقاه باعتقاد حرف مما عليه هذا الرجل وأصحابه. وكان يقول بخلق القرآن، ثم قال: وهذه الروايات تدل على مراده بما أطلق عنه فيما تقدم وفيما لم يذكر هاهنا، فكيف يكون كلام أهل السنة والجماعة مذموماً عنده وقد تكلم فيه وناظر من ناظره فيه وكشف عن تمويه من ألقى إلى سمع بعض أصحابه من أهل الأهواء شيئاً مما هم فيه]. هذا الكلام محتمل غير واضح؛ لأن بعض الأئمة يدخل في الكلام والمناظرات والجدال بالحق، وهذه مسألة لن نقف عندها كثيراً، وإن كان السياق يشعر بأن علم الكلام الذي عند الأشاعرة جائز، وأنه لا يقصده الشافعي، وهذا غير وارد لأمرين: الأمر الأول: أن الشافعي سبق هؤلاء المتكلمين، فالمتكلمون الذين نعنيهم ما ظهروا إلا في القرن الرابع الهجري وما بعده، والأوائل هم الجهمية والمعتزلة، وهم على طريقة واحدة في الأصول وإن اختلفوا في الجزئيات، فأصول الكلام عند متكلمة الأشاعرة والماتريدية هي أصول الكلام عند الجهمية والمعتزلة، إنما هناك اختلاف في التفصيلات وفي وجوه المسائل فقط. فعلى هذا فإن ذم الشافعي لا شك في أنه ينصرف إلى علم الكلام جملة وتفصيلاً، وينصرف إلى اللاحقين والسابقين. الأمر الثاني: أن الشافعي حينما تكلم تكلم بكلام مطلق في أكثر من موقف، تكلم عن حفص وعن غير حفص، ثم إنه بنفسه توقف عن مجادلتهم وهو يجادل باسم الحق، ونصح الناس بألا يجادلوهم، وموقفه هذا دليل على أن قصده علم الكلام مطلقاً. ومع ذلك نحسن الظن بكلام البيهقي؛ لأن البيهقي ربما يدخل في الكلام مجادلة أهل الأهواء ومناظرتهم بالحق، فبعض أهل العلم فعلاً يجعل ذلك من الكلام الجائز؛ لكن نظراً لأنه اصطلاح تقرر في القرن الرابع وما بعده؛ فلابد من أن يحمل كلام الشافعي على الظاهر الكائن في وقته، أما بعد وقته فمن التعسف أن نجر كلامه عليه. وليس بصحيح كلام الذين يزعمون أن الشافعي أو غيره ممن ذموا علم الكلام قد لا يقصدون هذا الكلام، مثل الذين قالوا: إن علم الكلام هو مذهب الأشاعرة سواء بسواء، أو قالوا بأن الأشاعرة والماتريدية مذهبهم مذهب فلان وفلان ممن سبقوهم، مع أن هذا المذهب لم يطرأ إلا بعد القرون الفاضلة، فلم يعرف مذهب الأشاعرة في الكلام ولا مذهب الماتريدية إلا في بداية القرن الرابع، فنسبة هذه المذاهب إلى من سبقوا في القرون الثلاثة الفاضلة مغالطة، بل جناية على أهل السنة وعلى أئمة الدين.

اللياذ بما قاله طبيب القلوب صلى الله عليه وسلم طريق إلى عافيتها

اللياذ بما قاله طبيب القلوب صلى الله عليه وسلم طريق إلى عافيتها قال رحمه الله تعالى: [وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به، ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك التي كان يقطع بها، ثم تبين له فسادها أو لم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم إذا سلموا من العذاب بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب. والدواء النافع لمثل هذا المرض ما كان طبيبُ القلوب صلوات الله عليه وسلامه يقوله إذا قام من الليل يفتتح صلاته: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، خرجه مسلم. توسل صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبية جبريل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إذ حياة القلب بالهداية، وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الثلاثة بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم، وعود الأرواح إلى أجسادها، فالتوسل إلى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير عظيم في حصول المطلوب، والله المستعان]. ينبغي أن يحرص المسلم دائماً على التمسك بمثل هذا الدعاء، فأدعية النبي صلى الله عليه وسلم هي أفضل الأدعية لمناسباتها، ولذلك نجد أن أكثر ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم في الأدعية تناسب ما جاءت له، كدعاء الاستغاثة، واستنزال المطر، ودعاء الكرب، والأوراد التي كان يقولها النبي صلى الله عليه وسلم صباحاً ومساءً من القرآن وغيره، والأدعية التي يرقي بها بعض الأمراض أو عامة الأمراض، ومثل هذا الدعاء الذي يتعلق بما يختلف فيه الناس أو ما يشكل على المسلم في دينه وأمور العقيدة، فلذلك ينبغي على كل مسلم وكل طالب علم أن يتعلم ويعلم الناس تعلق قلوبهم بمثل هذه الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لمناسباتها، فإنها أفضل من الأدعية التي تنشأ على غير فقه، ولا يعني هذا أن الأدعية الأخرى لا تجوز، بل باب الدعاء مفتوح، وكل يدعو بما يتيسر له، ما لم يعتد في الدعاء، وما لم يدع بألفاظ مشتبهة أو بدعية. لكن أقول: إن الأدعية المأثورة بمناسباتها لا شك في أنها أعظم وأبلغ، بل إن التمسك بها سنة، ولذا فإن مثل هذا الدعاء من أعظم الأدعية التي تناسب الأحوال التي يكثر فيها اختلاف الناس واختلاف المسلمين في الفتن والخلافات التي تعصف بالناس أحياناً أو يضطرب فيها المسلمون، أو يشكل الأمر والخلاف فيها على الكثير منهم أو على شبابهم، فلذلك في مثل هذا الوقت الذي طرأت فيه بعض الخلافات حول كثير من مسائل الدين ينبغي التمسك بمثل هذا الدعاء والإكثار منه؛ لأنه -بإذن الله- وسيلة إلى الوصول إلى الحق وإلى الطريق المستقيم كما ورد في هذا الحديث.

امتناع صحة الإيمان برؤية الله وسائر صفاته حال تأويلها

امتناع صحة الإيمان برؤية الله وسائر صفاته حال تأويلها قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم؛ إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية ترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه)]. قبل أن نبدأ بالشرح نعطي بياناً مجملاً لمعاني هذه الكلمات أو هذه العبارات؛ لأنه سيشرحها الشيخ شرحاً متفرقاً. يقول: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم)، أي: يخشى على الذين ينكرون الرؤية ألا يروا ربهم؛ لأنهم يحرمون من الجنة بسبب كفرهم بإنكار هذا الأمر القطعي، فهو يقصد أنه يخشى الحرمان على من أنكر الرؤية من دخول الجنة ومن أن يرى ربه سبحانه. قوله: (إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف للربوبية ترك التأويل). يقول: التأويل الشرعي أو التفسير الحقيقي لهذه المعاني -مثل الرؤية وأسماء الله وصفاته وسائر معاني الربوبية- تفسيرها ترك التأويل، يقصد أن التفسير الحقيقي الذي عليه السلف هو ترك التأويل الممنوع، فهو هنا أتى بعبارة موهمة، كأنه يقول: التأويل ترك التأويل، ويقصد بذلك أن التأويل الحقيقي هو أن أترك التأويل البدعي، بأن نؤمن بها على حقائقها دون أن نلجأ إلى تفسيرها تفسيراً غير سليم. و (لزوم التسليم) أي: التصديق بأنها حق. وقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه)، يقول: من لم يحاذر أن ينفي ما أثبته الله عز وجل من الرؤية والصفات وغيرها؛ فإنه يزل عن الحق، وكذلك من حاول التشبيه، أي: من لم يحاذر من تشبيه الله تعالى بالخلق، فإنه أيضاً يزل ولا يصيب التنزيه.

الدلائل القطعية على ثبوت رؤية الله في الجنة

الدلائل القطعية على ثبوت رؤية الله في الجنة قال رحمه الله تعالى: [يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية، وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)، الحديث، أدخل كاف التشبيه على (ما) المصدرية الموصولة بـ (ترون) التي تنحل إلى المصدر الذي هو الرؤية، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي]. أي أن المعنى: رؤيتكم لله عز وجل يوم القيامة، نسأل الله أن يمتعنا جميعاً بذلك، يقول: رؤيتكم لله عز وجل في الجنة يوم القيامة كرؤيتكم -من حيث الوضوح- للشمس في رابعة النهار، وللقمر ليلة البدر ليس دونهما سحاب، إذاً: (ما) المصدرية ترجع إلى الرؤية، فقوله: (كما ترون) يعني: كرؤيتكم. قال رحمه الله تعالى: [وهذا بين واضح في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ودفع الاحتمالات عنها، وماذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح؟!]. نصوص الرؤية -كما ذكرت من قبل- واضحة، واحتمالات التأويل -كما ذكر الشيخ- غير واردة، وأشير إلى شيء من نماذج استحالة احتمال التأويل. فمثلاً: الذين أنكروا الرؤية بعضهم صرفوا الإنكار إلى كلمة: (ترون)، فقالوا: يمكن أن تكون الرؤية بالقلب؛ لأن الإنسان يرى في المنام رؤيا فيقول: رأيت، ويرى رأياً من الآراء فيقول: رأيت أن الأمر كذا. يعني: هذا رأيي، إذاً: الرؤية قلبية. وفعلاً لبسوا على الناس بذلك، لكن ترد عليهم نصوص أخرى، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عياناً) فهل العيان منام؟! وهل العيان بالقلب؟! وكلمة (عيان) محكمة ثابتة بالنصوص القطعية، هذا شيء. الشيء الآخر: أن الله عز وجل ذكر في القرآن -والقرآن مفسر للسنة، والسنة مفسرة للقرآن- ذكر الرؤية بالنظر، إذاً: النظر غير الرؤية من حيث كثرة المدلولات اللغوية وتفريعها، فـ (نظر إلى) تعني: بالعين الباصرة، وكذلك كلمة (رأى) تعني: نظر، فلو قدر أن يؤولوا كلمة (ترون) و (رأيت) ونحو ذلك، فإنهم يرد عليهم بقول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23]، فلا يستطيع من يقول: (رأيت في المنام) أن يقول: (نظرت في المنام)؛ لأن هذه تختلف. إذاً: نصوص الرؤية وردت متواترة، كما أن الصحابة سألوا سؤالاً بيناً واضحاً، حينما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور تتعلق بالله عز وجل وعظمته وجلاله من أمور يوم القيامة، فقالوا: (يا رسول الله! هل نرى ربنا؟) ولو كانت مسألة حلم أو رؤيا منامية أو كان المقصود أنهم يرون ربهم بقلوبهم، لما كان لهذا السؤال فائدة؛ لأن مسألة رؤية القلب أمر لا يعد رؤية حقيقية. فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بـ (نعم)، ومثل لهم بهذا المثل الواضح، وهذا التمثيل برؤية الشمس والقمر ينطبق على رؤية العيون الباصرة لا رؤية القلب؛ لأن القلب ليس لرؤيته للأمور مزية لا في الليل ولا في النهار، بل القلب لا يرى رؤية حقيقية، فالقلب رؤياه إما منامية وإما من باب المعاني التي لا تقبل الحس ولا التفسير بالحس.

فساد طريقة مؤولي الرؤية ونفاتها

فساد طريقة مؤولي الرؤية ونفاتها قال رحمه الله تعالى: [فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص؛ كيف يستدل بنص من النصوص؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه: إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر، ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1]، ونحو ذلك مما استعمل فيه (رأى) التي من أفعال القلوب؟! ولا شك أن (رأى) تارة تكون بصرية، وتارة قلبية، وتارة تكون من رؤيا الحلم وغير ذلك، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلص أحد معانيه من الباقي، وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني؛ لكان مجملاً ملغزاً لا مبيناً موضحاً، وأي بيان وقرينة فوق قوله: (ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب)؟! فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر أو برؤية القلب؟! وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه؟! فإن قالوا: ألجأنا إلى هذا التأويل حكم العقل بأن رؤيته تعالى محال لا يتصور إمكانها؛ ف A أن هذه دعوى منكم خالفكم فيها أكثر العقلاء، وليس في العقل ما يحيلها، بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال]. يشير هنا إلى التعبير عند المتكلمين، وأراد أن يرد عليهم بمصطلحاتهم، والسلف أحياناً يلجئون لمثل هذه الردود من باب إقامة الحجة وإلزام الخصم بالحق، فقوله: [هذه دعوى منكم خالفكم فيها أكثر العقلاء وليس في العقل ما يحيلها] يعني: أن رؤية المؤمنين ربهم في الجنة بأبصارهم ليس هناك في العقل ما يحيلها. يقول: [بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال]، يقصد بذلك أنه لو عرضنا على أي عقل سليم أنه يمكن أن يكون هناك موجود له وجود ذاتي، أو وجود في الأذهان أو وجود في الخيال أو وجود في العقول أو وجود معنوي -لأن الوجود المعنوي أمر افتراضي ليس حقيقياً- وهو قائم بنفسه، يعني: وجوده ذاتي لا يحتاج إلى غيره، ولكن لا تمكن رؤيته لحكم باستحالة ذلك. وقوله: [لا تمكن رؤيته] يقصد به أنه لا تمكن حتى ولو وجدت الأسباب وامتنعت الموانع، ونحن نعتقد أن الله عز وجل لا تمكن رؤيته في الدنيا؛ لأن الله بين لنا ذلك، وإلا فما عندنا دليل آخر، لكن لو أن الموانع التي تحجب عن النظر إلى الموجود انتفت والأسباب التي تقدر البشر على النظر وجدت؛ فهل هناك من مانع عقلاً من النظر إلى هذا الموجود القائم بنفسه؟! مثلاً: الملائكة نعلم أنها موجودة مخلوقة قائمة بنفسها، بمعنى: أن لها وجوداً ذاتياً مستقلاً، ليس وجوداً معنوياً أو عقلياً أو خيالياً، فهل أحد من البشر غير من استثنى الله عز وجل رأى الملائكة؟! لكن هل يحيل العقل أن نراهم؟ لا يحيل ذلك، فلو أقدرنا الله على ذلك أو هيأ لنا ذلك لرأيناهم، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل، والله عز وجل هيأ له ذلك فرآه، ولكن نحن لا نستطيع أن نرى الملائكة؛ لأن هناك موانع. فإذا وجدت الأسباب للرؤية وارتفعت الموانع؛ فإنه ليس هناك ما يمنع أن ترى الأبصار ما يمكن رؤيته، هذا أمر. وأمر آخر بالمناسبة أذكره وهو بدهي، وهو أن الأمر راجع إلى قدرة الله عز وجل، فلماذا يخوضون في أمر أثبته الله عز وجل وهو راجع إلى قدرته، أليس الله سبحانه هو الذي سيقدر عباده على رؤيته على ما يليق بجلاله سبحانه؟! وليس في ذلك نقص له عز وجل، ولا يحيطون به علماً ولا يحيطون به رؤية. إذاً: ما المانع إذا أقدرهم الله؟! فالمسألة راجعة إلى قدرة الله وينتهي الجدال، فلا داعي لأن يقال: ذلك مستحيل أو غير مستحيل، بل إذا جاءنا خبر عن الله آمنا به وصدقنا، والله على كل شيء قدير سبحانه.

بيان معنى قول الطحاوي: (لمن اعتبرها بوهم أو تأولها بفهم)

بيان معنى قول الطحاوي: (لمن اعتبرها بوهم أو تأولها بفهم) قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (لمن اعتبرها منهم بوهم) أي: توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا فيتوهم تشبيهاً، ثم بعد هذا التوهم إن أثبت ما توهمه من الوصف فهو مشبه، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك الوهم فهو جاحد معطل، بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده، ولا يعم بنفيه الحق والباطل فينفيهما رداً على من أثبت الباطل، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق. وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه)؛ فإن هؤلاء المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي، وهل يكون التنزيه بنفي صفة الكمال؟! فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال؛ إذ المعدوم لا يرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراك إحاطة، كما في العلم؛ فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علماً، فهو سبحانه لا يحاط به رؤية كما لا يحاط به علماً. وقوله: (أو تأولها بفهم): أي: ادعى أنه فهم لها تأويلاً يخالف ظاهرها وما يفهمه كل عربي من معناها، فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل: أنه صرف اللفظ عن ظاهره، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص وقالوا: نحن نؤول ما يخالف قولنا، فسموا التحريف تأويلاً تزيينا له وزخرفة ليقبل، وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:112]، والعبرة للمعاني لا للألفاظ، فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق؟! وكلامه هنا نظير قوله فيما تقدم: (لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا)، ثم أكد هذا المعنى بقوله: (إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية: ترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين)، ومراده: ترك التأويل الذي يسمونه تأويلاً وهو تحريف. ولكن الشيخ رحمه الله تعالى تأدب وجادل بالتي هي أحسن، كما أمر الله تعالى بقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125]، وليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلاً، ولا ترك شيء من الظواهر لبعض الناس لدليل راجح من الكتاب والسنة، وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة المخالفة لمذهب السلف التي يدل الكتاب والسنة على فسادها، وترك القول على الله بلا علم، فمن التأويلات الفاسدة تأويل أدلة الرؤية وأدلة العلو وأنه لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً].

شرح العقيدة الطحاوية [43]

شرح العقيدة الطحاوية [43] التأويل هو الحقيقة التي يئول إليها الكلام، هذا هو معنى التأويل في الكتاب والسنة وعند سلف الأمة، ويدخل تحت هذا المعنى خمسة أنواع تسمى تأويلاً، ومن معانيه تفسير المعاني وبيانها، ومنه تأويل القرآن أي: تفسيره، وأما أخبار الغيب فتأويلها الذي هو حقيقتها لا يعلمه إلا الله، والبشر يعلمون منها معانيها دون حقائقها وكيفياتها، وما عدا ذلك من معاني التأويل فهو التأويل المبتدع الذي هو تحريف لنصوص الكتاب والسنة.

التأويل وأنواعه

التأويل وأنواعه قال رحمه الله تعالى: [ثم قد صار لفظ التأويل مستعملاً في غير معناه الأصلي، فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو الحقيقة التي يئول إليها الكلام، فتأويل الخبر: هو عين المخبر به، وتأويل الأمر نفس الفعل المأمور به، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53]، ومنه تأويل الرؤيا وتأويل العمل، كقوله: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} [يوسف:100]، وقوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ} [يوسف:6]، وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، وقوله: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:78]، إلى قوله: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82]، فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه؟!]. هذا السؤال إنكاري، حيث يقول: فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل؟

تأويل الخبر باعتقاد عين المخبر به

تأويل الخبر باعتقاد عين المخبر به وفي هذا المقطع ذكر أنواع التأويل عند السلف، يعني: الأنواع الصحيحة للتأويل التي تفهم من النصوص الشرعية والتي عليها السلف، فالتأويل عند السلف على أنواع: النوع الأول: تأويل الخبر الوارد في الكتاب والسنة، سواء كان هذا الخبر يتعلق بعالم الغيب أو يتعلق بعالم الشهادة، فإن تأويل الخبر هو اعتقاد عين المخبر به، كقوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، فهذا خبر جاءنا عن الله عز وجل، فتأويله حقيقة الاستواء، تأويله أن الله عز وجل استوى على عرشه، ليس له معنى آخر، وهذا تأويل فطري سليم يناسب الفطرة والعقل السليم، ثم إنه يتناسب مع فهم العرب للغتهم، ثم إنه هو الحق الذي يقتضي صدق خبر الله عز وجل؛ لأن الله أخبرنا بأخبار غيبية وأخرى غير غيبية. فالخبر لابد من أن يكون هو عين التأويل، والخبر لابد من أن يكون هو عين المخبر به، ومعنى (عين المخبر به): أن هذا الخبر الذي جاء عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم تأويله هو ذات المخبر به، ليس شيئاً آخر، فلا نبحث له عن تفسير بعيد؛ لأن الله عز وجل لا يقول إلا الحق والصدق؛ ولأن الخبر إن كان غيبياً فلا سبيل إلى معرفته إلا من خلال ما تكلم الله به، وما تكلم الله به له معنى يدركه الذهن والعقل، وإن كان من عالم الشهادة فسيراه الإنسان بمداركه وحواسه. المهم أن هذا النوع الأول -أي: تأويل الخبر-: هو أن تعتقد حقيقة المخبر به كما أخبر الله به، وكما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، كإخبار الله عز وجل عن الاستواء، وإخبار الله عز وجل عن أحوال البعث، وإخبار الله عن الرؤية، وإخبار الله عن أشراط الساعة، فإن تأويل هذا الخبر هو اعتقاد عين المخبر به دون زيادة ولا نقص.

تأويل الأمر بالفعل والنهي بالكف

تأويل الأمر بالفعل والنهي بالكف النوع الثاني: تأويل الأمر، كقوله عز وجل: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200]، {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77]، فإن تأويل هذا الأمر الذي أُمِر به إيقاعه كما أمر الله، وامتثاله كما أمر الله، وفعله كما أمر الله، فإن كان أمراً بفعله، وإن كان نهياً فبالانتهاء عنه، فقوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج:77] تأويله: وقوع الركوع والسجود كما أمر الله تعالى، وقوله عز وجل: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] تأويله: تنفيذ الصبر عندما يأتي له سبب. إذاً: تأويل الأمر فعل المأمور به، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن)، أي: يتأول قوله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:1 - 3]. فتأويل الأمر كما قالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم حينما أمر صلى الله عليه وسلم بأن يسبح ويستغفر، فصار ذلك عادة له في ركوعه، فهنا أول معنى الآية بالفعل، وكل أمر ونهي يأتي في القرآن والسنة فإن تأويله بامتثاله.

تأويل الشيء بوقوعه

تأويل الشيء بوقوعه النوع الثالث: تأويل الشيء بمعنى: وقوعه، فتأويل خبر الله بمعنى: وقوعه، فتأويل يوم القيامة وقوعه، وتأويل أشراط الساعة وقوعها، وكل ما أخبر الله به وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وقع فقد وقع تأويله، فإذا وقع الشيء وقع تأويله، فالأخبار التي وردت ولم يقع تأويلها لا يحتاج الناس إلى تكلف في معنى ذلك، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم أخبر في الحديث الصحيح: (أنه ستخرج نار من المدينة تضيء لها أعناق الإبل ببصرى) أو نحو ذلك، فوقعت هذه النار، فلما وقعت وقع تأويلها، فلا يحتاج الناس إلى أن يؤولوا الخبر، لكن هناك أخبار لم يقع تأويلها، وتأويلها وقوعها، كالخبر عن يوم القيامة، كما جاء في قوله عز وجل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ} [الأعراف:53]، يعني: هل ينظرون إلا وقوع يوم القيامة؟! هذا هو التأويل.

تأويل الرؤيا بما ستقع وتأويلها بنفس وقوعها

تأويل الرؤيا بما ستقع وتأويلها بنفس وقوعها النوع الرابع: تأويل الرؤيا، وتأويل الرؤيا على صنفين: تأويلها بمعنى: تفسيرها كما ستقع، وهذا قد يحدث لمن أعطاهم الله عز وجل شيئاً من الفراسة والموهبة في التأويل، كما كان يوسف عليه السلام، وكما كان كثير من أهل الفراسة، فأهل العلم يؤولون الرؤيا، بمعنى: أنهم يفسرونها كما ستقع، فتقع على ما أولوه. والصنف الثاني: ما لا يمكن إدراكه حتى تقع، فيكون وقوعها تأويلها. فقد ترى رؤيا فتسأل بعض أهل العلم بها فيفسر لك الرؤيا فتقع كما فسرها، فهذا نوع من التأويل، فتفسير ذلك الشخص لك صار تأويلاً للرؤيا؛ لأنها وقعت على نحو ما فسر. وأحياناً لا تسأل عنها، أو تسأل فلا تجد من يخبرك، فتصبر حتى يقع تأويلها وهو وقوع ما يصدق الرؤيا، والنوعان متشابهان، لكن هذا يكون بإدراك البشر وهذا لا يدرك إلا بعد الوقوع، فكل ذلك يعد من التأويل الحقيقي الذي لا مجال للعدول فيه عن المعاني الصحيحة إلى التخرصات أو الظنون.

التأويل العملي الامتثالي

التأويل العملي الامتثالي النوع الخامس: التأويل العملي، كقوله عز وجل: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، يعني: مثل ما نسميه الآن التطبيق، وإن كانت الكلمة -في الحقيقة- فيها نظر، فتطبيق الشيء يعتبر تأويلاً له، وتأويل العمل تطبيقه أو تمثيله. وقد لا يكون العمل عن سابق أمر، فتأويل الأمر هو العمل به، لكنه أحياناً يكون العمل نفسه تأويلاً، بمعنى: أنه مآل للشيء، وكل هذه المعاني تعود إلى معنى المآل والتفسير. فهذه أنواع التأويل عند السلف، وما عداها في الأمور الشرعية يعد تكلفاً، وأحياناً يعد إفراطاً، وقد يعد ضلالاً، وقد يعد كفراً، كما سيأتي في أنواع التأويل الأخرى.

انتفاء علم البشر بتأويل حقائق أخبار الغيب وكيفياتها دون معانيها

انتفاء علم البشر بتأويل حقائق أخبار الغيب وكيفياتها دون معانيها قال رحمه الله تعالى: [وأما ما كان خبراً -كالإخبار عن الله واليوم الآخر- فهذا لا يعلم تأويله الذي هو حقيقته؛ إذ كانت لا تعلم بمجرد الإخبار؛ فإن المخبر إن لم يكن قد تصور المخبر به أو ما يعرفه قبل ذلك؛ لم يعرف حقيقته التي هي تأويله بمجرد الإخبار، وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه، فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها، وما أنزل آية إلا وهو يحب أن يعلم ما عنى بها، وإن كان من تأويله ما لا يعلمه إلا الله، فهذا هو معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف، وسواء كان هذا التأويل موافقاً للظاهر أو مخالفاً له، والتأويل في كلام كثير من المفسرين كـ ابن جرير ونحوه يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالف، وهذا اصطلاح معروف، وهذا التأويل كالتفسير يحمد حقه ويرد باطله]. لعلنا نقف بعض الوقفات عند هذا المقطع، فقوله: (لا يعلم تأويله الذي هو حقيقته) يعني: الإخبار عن اليوم الآخر، ويقصد بالحقيقة الكيفية؛ لأنه كثيراً ما يلتبس مفهوم الحقيقة عند الناس، فالمنفي هنا هو الكيفية، فالذي لا يعلم تأويله من أخبار اليوم الآخر وأخبار الصفات وأخبار الغيب هو الكيفيات. أما الحقيقة التي هي إثبات المعنى؛ فهذا أمر يجب أن يقال به، وإلا فستكون ألفاظ الشرع جوفاء لا معنى لها، فإذا قيل: إن لفظ الشرع لا تفهم حقيقته أو لا نؤمن بحقيقته؛ فكأنا جعلنا ألفاظ الشرع جوفاء لا معنى لها، لكن المنفي هنا حقيقة الكيفية لا حقيقة المعنى، فكلام الله له حقيقة وهي المعاني، وكلام الله له معان وهي الحقيقة، لكن المنفي هو الكيفية، وهذا ما يقصده المؤلف هنا، لذلك احترز بقوله: [لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى]، وهذا هو الكلام الصحيح، فالعلم بالمعنى معلوم، فقوله عز وجل عن اليوم الآخر وأخباره وتفصيله له معانٍ، وإخباره عن الصراط والميزان والحوض، وإخباره عن الاستواء، وغير ذلك، كله لابد من أن يكون له معان؛ لئلا نعطل ألفاظ كلام الله من المعنى الذي يجب، لكن حقائق الكيفيات هي التي لا نعلمها.

المراد بالتأويل عند أئمة التفسير

المراد بالتأويل عند أئمة التفسير كذلك قوله عن ابن جرير وعن المفسرين بأنهم يستعملون لفظة التأويل، فـ ابن جرير كثيراً ما يقول: قال أهل التأويل، وتابعه بعض المفسرين وبعض أهل العلم، وظن كثير من المؤولة من المتكلمين وغيرهم أنهم يقصدون تأويل أسلافهم الذين أولوا صفات الله، وهذا خطأ في الفهم شنيع؛ لأن ابن جرير يقول هذا الكلام عن السلف، يقول: قال أهل التأويل، أو قال: ابن عباس في تأويل الآية، وهذا قبل أن يظهر التأويل الباطل الذي هو صرف ألفاظ كلام الله من معانٍ راجحة إلى معانٍ مرجوحة، فهذا لم يظهر في عهد السلف الذين ينقل عنهم ابن جرير. فـ ابن جرير وأمثاله من أئمة العلم إذا قالوا: قال أهل التأويل، فإنما يقصدون به أهل التفسير الذين يفسرون كلام الله عز وجل، والتأويل عند السلف هو تفسير المعاني بقواعد التفسير الصحيحة، يسمى: تأويلاً على ما ذكرت في الأصناف الخمسة، وكتفسير آيات الله عز وجل باللغة، وكتفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بقول النبي صلى الله عليه وسلم، وتفسير القرآن بفهم الصحابة، وهكذا، فهذا يعد تأويلاً لأنه من باب التفسير الصحيح، ولا يعد تأويلاً من باب العدول عن المعنى الراجح المفهوم إلى معنى مرجوح مظنون. إذاً: فقول ابن جرير وغيره في التأويل يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه، لكن قد يفسر الكلام بمعنى لغوي صحيح أو معنى شرعي صحيح، إذاً: فمفهوم السلف للتفسير هو على نحو قواعد التفسير المعهودة عندهم.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين تأويل الخبر بمعنى اعتقاد عينه وتأويله بمعنى وقوعه

الفرق بين تأويل الخبر بمعنى اعتقاد عينه وتأويله بمعنى وقوعه Q ألا ترى أن النوع الأول من أنواع التأويل -وهو كون الخبر نفس المخبر عنه وعينه- يستوي في المعنى مع النوع الثالث، وهو تأويل الشيء بمعنى وقوعه؟ A بينهما فرق، فالأول يتعلق بالاعتقاد، والثالث يتعلق بالمعاني. فالأول: يتعلق بأنه يجب على المسلم إذا جاء الخبر عن الله أن يعتقد حقيقته، ويكون هذا تأويله، فإذا جاء قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؛ فإن تأويله: الإيمان بأنه استواء حقيقي، هذا تأويله، ليس له أكثر من الاستواء. أما النوع الثاني: فيرجع إلى المآل، يرجع إلى الأمور الخبرية التي تتعلق بالأحداث، كأحداث يوم القيامة، فتأويلها وقوعها إذا وقعت، فالأول يتعلق باعتقادنا الآن، أما الثالث فيتعلق بالمصير الذي سيكون عليه الخبر حين وقوعه، فتأويل اليوم الآخر على النوع الأول: الجزم بأن الله يقصد به حياة أخرى يكون فيها الحساب والجزاء والعمل إلى آخره، هذا يسمى تأويلاً. وعلى النوع الثالث: يقصد بالتأويل: وقوعه إذا حدث، بمعنى: أن كل الناس حتى الكفار إذا حدث اليوم الآخر وقع لهم تأويله، فقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف:53] يعني: هل ينتظرون إلا وقوع اليوم الآخر؟ وهذا يتبين بالمثال المضاد، فالمبطلون الذين أخطئوا في النوع الأول من التأويل قالوا في الاستواء: إنه الاستيلاء إلى آخر ذلك من المعاني. فهذا التأويل خرج عن مفهوم السلف للتأويل؛ لأنهم يرون أن التأويل الإيمان بحقيقة اللفظ دون لجوء إلى المعاني الإضافية، أو إلى معان من باب اللوازم وتأكيدها على أنها هي المعنى، والانتقال من الحقيقة إليها، فالتأويل الذي يخرج عن مفهوم اللفظ وحقيقته لا يعد تأويلاً معتبراً عند السلف، إنما يعد تأويلاً مذموماً. وكذلك النوع الثالث له مفهوم عند السلف ومفهوم عند المخالفين، فالسلف يفهمون من تأويل يوم القيامة وقوعه، وأنه سيقع، إضافة إلى أنهم يفهمون من تأويله الإيمان به. لكن المبطلين يرون أن مفهوم اليوم الآخر حياة أخرى ليست حياة بعث، إنما هي حياة أخرى تتجدد بالروح في هذه الحياة الدنيا، وهو ما يسمونه بالتناسخ. إذاً: أولوه بتأويل باطل، وزعموا أن اليوم الآخر حياة أخرى تنتقل فيها الروح من الجسد إلى جسد آخر في الحياة الدنيا، وليس في يوم القيامة، ولذلك زعموا أن أرواح الناس بحسب أعمالهم، فزعموا أن أرواح المؤمنين تكون الحياة الأخرى لها في حواصل طير أو حيوانات أليفة، وأن أرواح الكفار تكون في حشرات وغيرها، فهذا تأويل باطل لليوم الآخر؛ إذ ما عندهم قناعة بأنه سيقع يوم آخر يكون فيه جزاء وحساب، إنما أولوه تأويلاً باطلاً.

معنى التأويل عند السلف وصلة أنواع التأويل الخمسة به

معنى التأويل عند السلف وصلة أنواع التأويل الخمسة به Q ذكرت أن المؤلف ذكر أنواع التأويل عند السلف، ثم ذكرت أنها خمسة أنواع، وكأنني -والله أعلم- أفهم من قول المؤلف أن التأويل عند السلف: هو الحقيقة التي يئول إليها الكلام، وأن هذه الأنواع إنما هي أمثلة على هذا التأويل الجامع، فجميع هذه الأنواع نهايتها الحقيقة التي يئول إليها الكلام؟ A لا مانع؛ إذ الأصل أن السلف يفهمون من التأويل الحقيقة التي يئول إليها الكلام، لكن هذا الكلام قد يكون خبراً، فتأويله وقوعه، وقد يكون أمراً، فتأويله تنفيذه والعمل به، وقد يكون خبراً أيضاً، فتأويله الإيمان بحقيقته، وقد يكون رؤيا، فتأويلها تفسيرها وتأويلها وقوعها، وقد يكون عملاً، فتأويله نفس الفعل وإن لم يسبقه أمر، وهذا يختلف عن الثاني، فالثاني فعل أمر، والثالث: الفعل ولو لم يسبقه أمر صريح، فإنه يعد تأويلاً، والله أعلم.

إمامة أبي حنيفة رحمه الله تعالى وضلال طريقة من يطعن فيه

إمامة أبي حنيفة رحمه الله تعالى وضلال طريقة من يطعن فيه Q رويت في أبي حنيفة مقولات من السلف في ذمه، وأنه ينقض عرى الإسلام وغير ذلك، ويوجد الآن من يتبناها من طلاب العلم، ويفسقونه، فما رأيكم في ذلك؟ A أما تفسيق مثل أبي حنيفة فهو خطأ ولا يجوز، نعم تكلم فيه بعض أهل العلم المعاصرين له، لكن ما عليه جملة السلف وما استقر عليه أمرهم في شأنه هو الذي عليه المعول، فلا نذهب إلى بعض تصرفات العلماء أو زلاتهم التي قد يكون فيها فتنة للأمة، وقد يكونون رجعوا عنها، وقد تكون مواقف فعلوها لأمور لها ملابسات وظروف، فهذه الأمور كلها لا تخرجنا عن الأصل، وهو أن عامة السلف يترحمون على أبي حنيفة ويرونه -رحمه الله- من أئمة الدين ومن أئمة السلف، هذا ما عليه عامة السلف وجمهورهم، وإن لم يجمعوا على ذلك، فلا يلزم إجماعهم في مثل هذه الأمور، فتفسيقه أو تبديعه أظن أنه نوع من الجناية، ولا ينبغي أن يجرؤ طلاب العلم على هذه المسألة.

معنى الصراط

معنى الصراط Q وجدت في تفسير الصراط: أنه الحبل من السماء إلى الأرض؟ A قد يكون من تفسير الصراط أنه الحبل؛ لكن كونه ممتداً من السماء إلى الأرض لا أدري ما المقصود به؛ وقد يكون ما قرأه الأخ أو سمعه مرتبطاً بنص معين له علاقة بهذا المعنى.

شرح العقيدة الطحاوية [44]

شرح العقيدة الطحاوية [44] التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك، والصحيح منه ما وافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهو الذي سلكه المبتدعة وأولوا ظواهر النصوص بدعوى دلالتها على معاني باطلة، وهذا كلام باطل يدل على بطلانه الشرع والعقل، ويفتح الباب أمام الزنادقة لتأويل نصوص الدين كلها.

القراءات الواردة في قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) وتوجيه المعنى لكل قراءة

القراءات الواردة في قوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله) وتوجيه المعنى لكل قراءة قال رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، الآية فيها قراءتان: قراءة من يقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، وقراءة من لا يقف عندها، وكلتا القراءتين حق، ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله، ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله، ولا يريد من وقف على قوله: {إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] أن يكون التأويل بمعنى: التفسير للمعنى، فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاماً لا يعلم معناه جميع الأمة ولا الرسول، ويكون الراسخون في العلم لا حظ لهم في معرفة معناها سوى قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]، وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين، والراسخون في العلم يجب امتيازهم عن عوام المؤمنين في ذلك. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله، ولقد صدق رضي الله عنه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقال: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) رواه البخاري وغيره، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لا يرد، قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس من أوله إلى آخره أقفه عند كل آية وأسأله عنها. وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية: إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله].

المراد بالتأويل عند السلف على قراءة الوقف على لفظ الجلالة

المراد بالتأويل عند السلف على قراءة الوقف على لفظ الجلالة في هذا المقطع يشير إلى أمور: أولها: الفهم الصحيح لمعنى قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، على قراءة الوقف، ذلك أن السلف لهم فهم وأهل الكلام والمبتدعة لهم فهم آخر، فالسلف في فهمهم لقوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] يفسرون التأويل هنا بمعنى: تأويل الكيفيات في أخبار الغيب في صفات الله عز وجل وفي أفعاله وفي أمور الغيب الأخرى، فهذه فيها ما لا يعلم تأويله إلا الله، وهو الكيفيات التي هي غائبة عن الحواس وعن العقول. فهنا التأويل يكون بمعنى: معرفة الكيفية لأمور الغيب، وهذه لاشك في أنه لا يعلمها إلا الله عز وجل، هذا فهم السلف، إذاً: التأويل هنا بمعنى: ما تئول إليه حقيقة الكيفيات، لا بمعنى التفسير. أما أهل الأهواء المتكلمون ومن سار على سبيلهم فإنهم يفسرون معنى قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، بمعنى: معاني كلام الله عز وجل وحقائقه، يقولون في صفات الله عز وجل: ما يعلم تأويلها إلا الله، بمعنى: لا يعلم حقائقها ولا معانيها إلا الله، وهذا خطأ، فالحقائق والمعاني تعلم، إنما الكيفيات هي التي لا تعلم. فعلى هذا يجعلون حقائق الصفات والأمور الغيبية ومعانيها من المتشابه الذي لا يعلم أبداً، ولذلك صاروا في تفسير نصوص الشرع في الصفات وغيرها على قولين: منهم من يقول: هذه النصوص لا نفهم منها شيئاً أبداً ونفوضها؛ لأن معناها متشابه وحقائقها متشابهة في ذلك، ومنهم من ضل فذهب يؤولها بما يستقيم عقلاً، فقال: لا نثبت معاني ألفاظها ولا حقائق ألفاظها، لكن نبحث لها عن معان أخرى تئول إليها وهي المعاني المرجوحة، فقالوا في قوله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]: الاستواء هنا من المتشابه حقيقته ومعناه، فمنهم من قال: الاستواء لا نعلم له حقيقة أبداً ونفوض أمره إلى الله، وهؤلاء هم المفوضة، ومنهم من قال: نصرف اللفظ -وهو الاستواء- عن معناه الحقيقي، وعن الفهم الذي تفهمه مداركنا إلى معنى آخر نبحث عنه في دلالات اللغة، فبحثوا في دلالات اللغة فوجدوا أن من معاني الاستواء بزعمهم: الملك والسلطان والاستيلاء، مع أن في هذا نظراً، فصرفوا الألفاظ عن معانيها وحقائقها. فقوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] على الوقف على لفظ الجلالة، يقول السلف في معناه: وما يعلم الكيفيات إلا الله، أما المعاني والحقائق فلا شك في أن الله عز وجل قصد بكلامه معاني وحقائق تدركها عقولنا ومداركنا، لكنها تثبت لله عز وجل من غير تشبيه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وتثبت على ما يليق بالله عز وجل وبجلاله سبحانه.

المراد بالتأويل على قراءة الوصل

المراد بالتأويل على قراءة الوصل أما على الوصل، وهو قراءة الآية على هذا النحو: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، فإن السلف يقولون: إن الراسخين في العلم يفهمون معاني وحقائق كلام الله عز وجل، أي: يفسرونها التفسير اللفظي المعلوم مع نفي التشبيه. وأهل الأهواء يقولون في قوله عز وجل: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7]، يقولون: إن الراسخين في العلم يعلمون صرفه عن معانيه إلى معان أخرى، أي: التأويل المرجوح، يزعمون أن الراسخين في العلم يلزمهم أن يصرفوا كلام الله عز وجل في أسمائه وصفاته عن معانيها المفهومة على ما يليق بجلال الله عز وجل إلى معان أخرى مرجوحة لقرينة دفع التشبيه. قال رحمه الله تعالى: [وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: إن المتشابه الحروف المقطعة في أوائل السور. ويروى هذا عن ابن عباس، مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كان معناها معروفاً فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً -وهي المتشابه- كان ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب. وأيضاً فإن الله قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:7]، وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادين].

بيان ما يصح من التأويل وانتفاء المعنى الفاسد عن ظواهر النصوص

بيان ما يصح من التأويل وانتفاء المعنى الفاسد عن ظواهر النصوص قال رحمه الله تعالى: [والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك، وهذا هو التأويل الذي يتنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية. فالتأويل الصحيح منه الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه. وذكر في التبصرة أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة عن محمد بن الحسن رحمهم الله: أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه؟ فقال: نمرها كما جاءت ونؤمن بها ولا نقول: كيف وكيف. ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيم وقيل: علي نحت القوافي من أماكنها وما علي إذا لم تفهم البقر فكيف يقال في قول الله الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث وهو الكتاب الذي: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1]؟! إن حقيقة قولهم أن ظاهر القرآن والحديث هو الكفر والضلال، وأنه ليس فيه بيان لما يصلح من الاعتقاد ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه! هذا حقيقة قول المتأولين].

ردود على مؤولة ظواهر النصوص بدعوى دلالتها على المعاني الباطلة

ردود على مؤولة ظواهر النصوص بدعوى دلالتها على المعاني الباطلة قال رحمه الله تعالى: [والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق، وما كان باطلاً لم يدل عليه، والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه. فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه -وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة حقيقة- فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين لا تقدرون على سده، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي؛ فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ؟! فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه وإلا أقررناه؛ قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع، ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد، ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى وعلى امتناع قيام علم أو كلام أو رحمة به تعالى، وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام، ويلزم حينئذ محذوران عظيمان: أحدهما: ألا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل، وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيئول الأمر إلى الحيرة. المحذور الثاني: أن القلوب تنحل عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول؛ إذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصة النبي هي الإنباء، والقرآن هو النبأ العظيم، ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للاعتضاد لا للاعتماد إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه، وإن خالفته أولوه، وهذا فتح باب الزندقة والانحلال، نسأل الله العافية].

تفاوت عقول الناس وانعدام العقل المرجعي في التأويل

تفاوت عقول الناس وانعدام العقل المرجعي في التأويل خلاصة هذا المقطع أن الذين سلكوا طريقة التأويل من أهل الأهواء لا تستقيم قاعدتهم، ولا يمكن أيضاً أن نقف وإياهم على منهج يمكن أن نتحاكم إليه أو نستند إليه. وأغلب قواعد التأويل قواعد عقلية، بل كلها قواعد عقلية، بمعنى: أن السبب الذي جعل المؤولة يؤولون دعواهم أن بعض ما يرد في الشرع لا يعقل، فهؤلاء يرد عليهم -كما ذكر الشارح- من وجوه: أولها: أن عقول الناس تتفاوت، بل لا يمكن أن يتفق اثنان من كل وجه على شيء من الأشياء من جميع الوجوه؛ لأن تصورات الناس تختلف. الوجه الثاني: أن العقل الذي يزعمون أن له قواطع وله دلالات وأنه يحكم ويرد إليه الشرع غير معلوم فعقل من هو؟! فكل واحد يدعي أن عقله هو المحكم، إذاً: فمن نصدق؟!

القول بتأويل بعض النصوص فتح لتأويل الزنادقة لنصوص الدين كلها

القول بتأويل بعض النصوص فتح لتأويل الزنادقة لنصوص الدين كلها الوجه الثالث: إنا إذا قلنا: إن العقل هو المحكم كما أشار الشارح؛ فهذا يعني: أننا نفتح باب عدم الثقة بالعقيدة والنصوص، بمعنى: أننا إذا قلنا بهذا القول نزعنا اليقين من قلوب الناس، وجعلناهم يبحثون عن اليقين بوجوه أخرى، وهذا أولاً يوقع الشك في قلوب المؤمنين، ثم إنه ينزع اليقين، ثم لا يستقر أحد على قول، بدليل أن كل الذين أولوا ما اتفقوا على التأويل، ولو اتفقوا لكان هناك شبهة، وإلا فما عندهم دليل؛ لكن لو اتفقوا لقيل: هناك شبهة، وليس لهم شبهة يمكن أن تنطلي على العاقل. فيقال للمؤولة: أنتم ما اتفقتم على التأويل، ثم لما فتحتم باب التأويل ولجه جميع المبطلين، حتى ألحدوا إلحاداً كاملاً، فالقرامطة فسروا جميع أمور الشرع بتفسيرات غريبة جداً، حتى أركان الإسلام وأركان الإيمان فسروها بأسماء رجال. ثم من دونهم كالرافضة، فقد أولوا نصوص الشرع، حتى ما يتعلق بالأحكام منها، وفسروها بالتأويل تفسيرات حمقاء وساذجة وغريبة جداً؛ لأنهم فتح لهم باب التأويل؛ حتى الألفاظ التي لا تحتمل المعاني التي قالوا بها من حيث اللغة، جعلوا لها معاني غريبة جداً وشاذة؛ لأنهم يقولون: أنتم فتحتم باب التأويل، وهذا تأويلنا. فعلى سبيل المثال: قالوا في قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} [الإسراء:60] قالوا: هم بنو أمية، وبعضهم قال: عائشة، والبقرة المذكورة قالوا: هي عائشة، والجبت والطاغوت عندهم أبو بكر وعمر، فإذا قيل لهم: هذا تأويل لا يصح، قالوا: أنتم فتحتم باب التأويل، وهذا تأويلنا وهذا ما تقتضيه أصولنا إلى آخره. إذاً: انفتح باب التأويل ولم ينغلق، وصارت عقول الناس تتفاوت في هذا، فمنهم من يعقل، ومنهم الأحمق الذي لا يعقل، والذي يعقل أيضاً في عقله قصور. إذاً: ما هو العقل الذي يحكم؟ إنه عقل وهمي، وإذا كان المراد عقول هؤلاء الناس من البشر؛ فعقول البشر قاصرة، فالعقل الذي نعني به تفكير الإنسان ما فهم نفسه. فلو قلت لأي عاقل: أين عقلك؟ أين يتمركز عقلك؟ فلن يعطيك جواباً يجزم به، وكذلك لو قلت له: هل عقلك في رأسك؟ هل هو في قلبك؟ هل هو بين الرأس والقلب؟ كيف تعقل؟ كيف تتم عملية العقل؟ إذاً: العقل ما عرف نفسه، فكيف -إذاً- يحكم في شرع الله ودينه؟! المهم أن شبهة المؤولة إلى يومنا هذا زعمهم أن العقل يحيل بعض معاني النصوص، فيقول: إنها مستحيلة، وعلى هذا خرجوا من مقتضى نص الشرع، ولم يصلوا إلى قرار، وكل منهم ذهب مذهباً لا يمكن أن يكون هو الحق؛ لأن الحق لا يتشتت كما تشتتوا هم. نسأل الله السلامة.

الأسئلة

الأسئلة

صلة الرسوخ في العلم بكبر السن

صلة الرسوخ في العلم بكبر السن Q هل يلزم من الرسوخ في العلم أن يكون صاحبه كبيراً في السن؟ A غريب هذا السؤال، ويبدو أنه من الخلط الذي صار الآن عند الشباب، أو عند طوائف منهم. فلا يلزم من الرسوخ في العلم كبر السن، لكن الغالب وسنة الله في عباده أن كبار السن أعلم وأرسخ وأكثر تجربة فقط، وقد يوجد عالم صغير إذا أعطاه الله مواهب وقدرة ووفقه الله عز وجل لتلقي العلم الشرعي على أصوله الشرعية، فسيبرز بسرعة، فيكون من صغار السن ويكون من الراسخين، ويكون من أهل الحل والعقد في الأمة، ومن أهل العلم، كما كان ابن عباس رضي الله عنه، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر ونحوهم، كانوا علماء يعدون من الراسخين وهم صغار في السن، لكن الغالب أن الأكبر سناً يكون أقدر، وأكثر تحصيلاً، وأكثر تجربة، وأثبت في كثير من الأمور، ولا يمنع ذلك من وجود علماء صغار، فالعالم من توافر فيه العلم والرسوخ مع العقل والحكمة، واقتفاء السنة والاستقامة، فهو عالم راسخ ولو كان عمره عشرون سنة.

الفرق بين تأويل الأمر بامتثاله والتأويل العلمي

الفرق بين تأويل الأمر بامتثاله والتأويل العلمي Q ذكرتم في أنواع التأويل تأويل الأمر وذلك بإيقاعه كما أمره الله، وتأويل العمل كقول الله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]، فما الفرق بينهما؟ A الفرق بينهما أن تأويل الأمر -أي: الأمر الشرعي بـ (افعل) أو (لا تفعل) - بالامتثال، أما العمل فمجرد فعله يكون تأويلاً، قبل أن تكون مأموراً به، فقد لا يدخل في هذا المجال، قد يدخل في مجال المباح، فمجرد وقوعه تأويل له. أما الأمر فيتوجه العمل به لأنه مأمور به شرعاً، فالفرق بينهما خفيف وليس كبيراً، وبعض أهل العلم يعدهما واحداً، بل حتى شيخ الإسلام ابن تيمية -وهو الذي فرع هذا التفريع- كثيراً ما يذكر أن الأمر والعمل بمعنى واحد.

حكم السؤال عما يتوهم التعارض فيه من آيات القرآن الكريم

حكم السؤال عما يتوهم التعارض فيه من آيات القرآن الكريم Q إذا كان الشخص يكثر من السؤال في آيات القرآن، كأن يقول: هذه آية تقول كذا، وهذه الآية تقول كذا، بشيء معارض ظاهراً؛ فهل هذا مما نهى عنه السلف؟ A السؤال عن الآيات أو عن النصوص للاستعلام ولطلب العلم الشرعي ليس فيه حرج، أما إذا كان للتعنت أو لإظهار القدرة العلمية، أو للكشف عن قدرة المسئول؛ فهذا مما نهى الله عنه، لكن مجرد السؤال عن مثل هذه الأمور لطلب العلم، أو لإشكال لا يزول إلا بالسؤال هذا له ضوابطه، فإن كان السؤال مما يشكل في القدر أو في معاني أسماء الله عز وجل وصفاته مما يشكل على السامعين؛ فلا يجوز علناً، ينبغي أن يكون السؤال بين السائل -طالب العلم- والعالم، وإذا ورد السؤال على العالم على وجه يجهله السائل ووجد أن السؤال غير لائق فينبغي أن ينصرف عن الجواب عنه، ويحيل السائل على وقت آخر يجيبه فيه، إلا إذا خيف الإشكال في السؤال، بمعنى أنه لابد من الإجابة عنه خوفاً من أن يرسخ الإشكال. المهم أن الأدب في السؤال أن يكون على الضوابط الشرعية، فإذا كان السؤال مما يثير، لكن السائل جاد فينبغي ألا يسأل هذا السؤال المثير علناً فيفتن الناس، وأن يكون قصده فعلاً الوصول إلى الحق، فهذه المسألة ترجع إلى هذا الضابط. وليس كل من بدا له أمر أثاره، أما ظهور هذه الظاهرة بين كثير من المتعالمين أو طلاب العلم الصغار فينبغي أن يعالج. يعني: كثرة الأسئلة في أمور قد تكون إما من المعضلات أو تكون من التوافه، وإشغال الناس بها، وأحياناً يعلقون بها الحكم على الناس والولاء والبراء والموقف من السائل والمسئول والسامع إلى آخره، هذه الأمور لا تجوز، وقد كثرت كثيراً أسئلة لا فائدة منها أو تثير إشكالات كبيرة في الدين، أو من التوافه التي لا يجوز التعلق بها وشغل الناس بها إلى آخره. فهذه كثرت ولا شك، وتحتاج إلى علاج، وهذه الأمور دائماً تصحب كل موجة إقبال على العلم الشرعي، فنحن -بحمد الله- الآن في موجة إقبال على العلم والتدين، وهذا من الأمور التي تبشر بخير، لكن تكون فيها هذه الظواهر ويجب أن تعالج، فدائماً يصحب الإقبال على أي شيء من الأشياء -سواء في الدين أو في غيره- يصحبه بعض الأشياء في بداية الأمر والتجاوزات، فلابد من تسديد الناس وعلاجهم ونصححهم.

شرح العقيدة الطحاوية [45]

شرح العقيدة الطحاوية [45] هناك ألفاظ محدثة أطلقها أهل البدع كالجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة والماتريدية في أسماء الله وصفاته، ولم ترد في الكتاب والسنة، كالحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات ونحوها، هذه الألفاظ موقف أهل السنة والجماعة منها أنه إذا دلت على كمال فإنه يثبت ذلك الكمال الذي دلت عليه ويرد اللفظ؛ لأن دلائل الكتاب والسنة قد تضمنت ذلك الكمال وزيادة، وإن دلت على معانٍ باطلة فإنها ترد مطلقاً معانيها وألفاظها.

الموقف من ذكر الحدود والغايات ونحو ذلك من الألفاظ المحدثة نفيا أو إثباتا

الموقف من ذكر الحدود والغايات ونحو ذلك من الألفاظ المحدثة نفياً أو إثباتاً قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات). أذكر بين يدي الكلام على عبارة الشيخ رحمه الله مقدمة، وهي: أن للناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال: فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل وهم المتبعون للسلف، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها إلا إذا بين ما أثبت بها، فهو ثابت، وما نفي بها، فهو منفي؛ لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي، ولهذا كان النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به، وبعض المثبتين لها يدخل فيها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف، ولما دل عليه الكتاب والميزان، ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها، وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون. فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني باب الصفات، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه. والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني]. هذا الكلام كله يتعلق بالألفاظ المحدثة، والمقصود بالألفاظ المحدثة: هي تلك العبارات التي أطلقها أهل الأهواء، خاصة الجهمية والمعتزلة ومن سار على سبيلهم من أهل الكلام كالأشاعرة والماتريدية، أطلقوها في أسماء الله وصفاته، ولم ترد في الكتاب والسنة، سواء أطلقوها على سبيل الإثبات، ككلمة (القديم) وكلمة (الصانع)، أو أطلقوها على سبيل النفي كنفي المباينة والمفاصلة والعرض والجوهر والجسم إلى آخره، هذه العبارات كلها حينما كثرت وعمت بها البلوى قعد السلف لها بقواعد، هذه القواعد فيها تفصيل وفيها إجمال، أما التفصيل فسيأتي في الدرس القادم؛ لأن هذا الموضوع طويل، أما الإجمال فعلى ما يلي: أولاً: هذه الألفاظ -أي: كلمة الحدود، والغايات، والأركان، والأعضاء، والأدوات، والجهات، والأجسام، والجواهر، والمباينة، والمفاصلة ونحو ذلك مما تكلم به المتكلمون- كل هذه الأمور: تعتبر ألفاظاً مبتدعة، لم ترد في الكتاب والسنة. ثانياً: أنها لا تنفى بإطلاق ولا تقبل بإطلاق، يعني: لا تنفى نفياً مطلقاً ولا تثبت إثباتاً مطلقاً. ثالثاً: أنه لابد من التفريق بين معانيها وبين ألفاظها، فما كان فيها من معانٍ صحيحة أخذت وقبلت وردت إلى ألفاظ الشرع، وما كان فيها من معانٍ فاسدة فإنها ترد مطلقاً، أما ألفاظها فليست بملزمة، بل ينبغي تجنب هذه الألفاظ البدعية. رابعاً: أن ما تكلم الله عز وجل به عن نفسه وما تكلم به رسوله صلى الله عليه وسلم عن ربه هو الكمال المطلق الذي يدخل فيه كل كمال يمكن أن يرد في أذهان البشر أو على ألسنتهم. خامساً: أن كل كمال فالله عز وجل أحق به، وكل ذلك راجع إلى ألفاظ الشرع، فلا يمكن لأحد من المخلوقات أن يعبر باسم أو وصف أو فعل لله عز وجل بأعظم مما تكلم الله به عن نفسه وتكلم به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.

مواقف الناس تجاه الحد والغاية ونحوهما من الألفاظ المحدثة

مواقف الناس تجاه الحد والغاية ونحوهما من الألفاظ المحدثة الأمر الآخر: أن الناس لهم تجاه هذه الألفاظ المحدثة ثلاثة مواقف: الموقف الأول: موقف أهل الحق أهل السنة والجماعة، وهو التفصيل الذي ذكرته، بأن أي لفظ يرد يقصد به وصف الله أو تسميته فإنا لا نتعجل فيه، فإن اقتضى كمالاً أخذنا بمعنى الكمال لكننا نستغني عن اللفظ؛ لأنَّه لابد أن نجد هذا الكمال فيما تكلم الله به عن نفسه، بل لله عز وجل من الأسماء والصفات ما هو جامع لكل الكمال، مثل: اسم الجلالة (الله)، ومثل (الحي القيوم)، ومثل (العلي العظيم)، (الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد) إلى آخر ذلك من عبارات الكمال التي يدخل فيها كل كمال. أما المعاني الباطلة فترد، والألفاظ لا نلتزم بها، بل نردها. إذاً: هذا الفريق الذي يفصل هم أهل السنة والجماعة. الفريق الثاني أو الطائفة الثانية: هم الذين يثبتون هذه المعاني ويقصدون التشبيه أو التجسيم أو التمثيل، وهؤلاء هم المجسمة، وسيأتي الكلام عنهم في ثنايا الدرس قريباً. والمجسمة: هم الذين يطلقون هذه العبارات أو معانيها ويحدونها في حق الله عز وجل، وقد لا يقولون بالحدود، لكنهم يقولون بما يفهم الحدود، بأن يتصوروا لربهم تصورات تدل على الحدود، ويجعلون هذه التصورات عقائد، وكذلك الغايات والأركان والأعضاء والأدوات، فالمجسمة أشكال وأنواع، والممثلة كلهم يقولون بنوع من أنواع التحديد، والغايات والأركان، والأعضاء، والأدوات، وهؤلاء أيضاً جانبوا الحق ووقعوا في الكفر. وطائفة تنفي هذه الألفاظ وتنفي معها حقائق صفات الله عز وجل وأفعاله، بمعنى أنهم يجعلون هذه القواعد عندهم هي المحتكم ثم يردون إليها معاني ألفاظ كلام الله عز وجل على نهج غير سليم، فيردون هذه الألفاظ كما يردها السلف لكنهم يردون معها معاني أسماء الله وصفاته وأفعاله، فمثلاً: يقولون بأنه لا يجوز في حق الله الحد، والعلو الذاتي حد، إذاً: فالعلو منفي عن الله، ويقولون: العلو يكون علواً معنوياً، وأحياناً يقولون: الاستواء حد، والحد ممنوع، إذاً: الاستواء له معنى آخر، فيؤولون معنى الاستواء أو ينكرونه، وقد يقولون مثلاً: اليد عضو، والله منزه عن العضو، إذاً: لليد معنى آخر غير حقيقتها التي تكلم الله بها إلى آخره، فيردون هذه الألفاظ ويردون معها حقائق أسماء الله وصفاته وأفعاله. وهذا الصنف هم المعطلة والمؤولة، وهؤلاء اللبس عندهم أكثر من اللبس عند المشبهة؛ لأن المشبهة أمرهم واضح، فالتشبيه ينفر منه الطبع، حتى العوام الذين لا يدركون تفصيل العقيدة، فإنهم في الغالب ينفرون من التشبيه، أما التأويل والتعطيل فإنه في الغالب يكون بأمور مشتبهات، ويكون بتلبيس، فيقع فيه كثير من الناس إذا لم يتشربوا العقيدة السليمة. فالمهم أن أصناف الناس تجاه هذه الأمور ثلاثة: الأول: الذين يفصلون ويردون المعاني إلى أسماء الله وصفاته وأفعاله الواردة في الكتاب والسنة، وهم أهل السنة والجماعة. الثاني: الذين يقبلون هذه الألفاظ ولا يتأدبون في إطلاقها على الله عز وجل، وهم الممثلة، وهؤلاء خرجوا عن الحق وكفروا. الثالث: الذين يردون هذه الألفاظ ويردون معها حقائق صفات الله وأفعاله وأسمائه، وهؤلاء هم الجهمية المعطلة، والمعتزلة المؤولة، وأهل الكلام المؤولة. ثم قال: [فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني باب الصفات، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه] بمعنى أن هذه المعاني التي وردت بها هذه الألفاظ ما أثبته الله ورسوله منها أثبتناه، فمعانيها الحقة نردها إلى كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وما نفاه الله ورسوله نفيناه. يقول: [والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي]، بمعنى: يرد إليها كل شيء، فالألفاظ التي ورد بها النص أولاً تقر وتثبت ويؤمن بها، ثم تكون هي القاعدة والمحتكم والميزان، فما ورد على ألسنة البشر يرد إليها، فما كان فيها من معنى صحيح أخذ، لكن يلتزم اللفظ الشرعي ويرد اللفظ البدعي، فاللفظ البدعي قد يحتمل حقاً وباطلاً، فالحق الذي فيه نأخذه ونرده إلى ألفاظ الشرع، ونستغني عن اللفظ المبتدع، والباطل نرده مطلقاً، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني.

الأسئلة

الأسئلة

إطلاقات الإرجاء تاريخيا

إطلاقات الإرجاء تاريخياً Q ما حكم القول بأن من الصحابة مرجئة بسبب موقفهم من الفتنة التي وقعت بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، وإن كان إرجاؤهم من جهة اللغة، وهل المرجئة ظهرت في الصدر الأول كما يقول بعضهم؟ A المرجئة من حيث الإطلاق التاريخي تطلق على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: الذين توقفوا في أمر المختلفين بعد الفتنة التي تلت قتل عثمان رضي الله عنه؛ فإن هناك من الناس من توقف في أمر الفريقين الذين حصل بينهم نزاع بعد مقتل عثمان، وهذا التوقف على درجات، منهم من توقف في أن يحكم عليهم في الدنيا من هو المخطئ ومن هو المصيب، ومنهم من زاد وتوقف في الحكم عليهم في الآخرة، وعلى أي حال هذا إرجاء تجاوزه الزمن ولم يعد له وجود، إلا عند بعض طوائف أهل الأهواء، ولم يقل به أحد من الأئمة المعتبرين. كما أنه لم يعد يطلق في الاصطلاح، فالاصطلاح يطلق على الإرجاء الذي هو النوع الذي ظهر بعد ذلك، وهو إرجاء الأعمال عن الإيمان، أي: إخراج الأعمال من مسمى الإيمان، وهذا يسمى إرجاء الفقهاء. ونوع ثالث هو إرجاء الجهمية، وهم الذين يقولون بأن الإيمان هو المعرفة فقط، وأن من عرف الله كفاه ذلك، فلا ينفعه زيادة عمل ولا يضره العصيان، إنما مجرد المعرفة بالله تكفيه وتكون طريقاً للنجاة. فالإرجاء الأول والإرجاء الثاني لم يعد لهما شهرة، وصار الاصطلاح الغالب أن إرجاء الفقهاء هو القول بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الأعمال لا تزيد ولا تنقص، وأنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان. أما الإرجاء الأول: فإنه لم يكن واضحاً أولاً، بمعنى أنه فيه اضطراب في النقل، ثم إنه لم ينسب إلى أحد من المعتبرين، إنما نسب إلى طائفة من الذين توقفوا وليس لهم اعتبار في الدين، إما أئمة الدين من الصحابة الذين حصلت في عهدهم الفتنة، وكذلك كبار التابعين فإنهم لم يستقروا على عقيدة تسمى الإرجاء، إنما استقر قولهم آخر الأمر بعد تمحيص الأخبار على أن المقتتلين أو الذين تنازعوا بعد عثمان رضي الله عنه من الصحابة وغيرهم كلهم مجتهدون، وكلهم مأجورون، وأن الفئة الأقرب إلى الحق هي التي كانت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالجملة، والفئة الأخرى مخطئة لكنها لا تفسق بذلك؛ لأنها مجتهدة، ولأنها مأجورة، هذا ما انتهى إليه السلف آخر الأمر، ولم يعد هناك قول ثانٍ يعتد به.

مدى صحة تسمية إرجاء أمر مرتكب الكبيرة إلى الله إرجاء

مدى صحة تسمية إرجاء أمر مرتكب الكبيرة إلى الله إرجاءً Q أحدهم قسم ما وقع في مرجئة السنة إلى قسمين: الأول: إرجاء أمر صاحب الكبيرة إذا لم يتب إلى الله عز وجل، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، والثاني إرجاء العمل عن مسمى الإيمان، فهل الأمر الأول يسمى إرجاء؟ A هذا ليس بإرجاء، هذا تعبير عن الحق، كلمة (يرجأ أمره إلى الله) تعبير عن الحق، وليس هذا إرجاءً بالمعنى البدعي، إنما هذا تعبير لغوي عن عقيدة سليمة، أي: أن يقال: إن العصاة يرجأ أمرهم إلى الله عز وجل إذا ماتوا على معصيتهم، فهذا ليس بإرجاء، إنما التعبير بـ (يرجأ) هنا تعبير لغوي سليم ليس بمعنى الإرجاء البدعي.

شرح العقيدة الطحاوية [46]

شرح العقيدة الطحاوية [46] الأصل الواجب في صفات الله تعالى أن يثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله، وينفى عنه ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها كالجهة ونحوها من الألفاظ المحدثة، فيثبت ما دلت عليه من المعاني الصحيحة اللائقة بالله، وينفى ما دلت عليه من المعاني الباطلة، وأما اللفظ فيرد مطلقاً؛ لأنه لفظ مبتدع محدث، ومعناه قد دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

معنى قول الطحاوي: (وتعالى عن الحدود والغايات)

معنى قول الطحاوي: (وتعالى عن الحدود والغايات) نعود هنا إلى بيان المصطلحات؛ لأنها ستكون مثار أمثلة في أكثر المقاطع التي ستأتي. قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات). هذا متعلق بما أطلقه أهل الأهواء في زمن المؤلف رحمه الله، وهو الطحاوي صاحب الأصل، ثم إن هذه المصطلحات تتعلق بما اشتهر من كلمات في عهده في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع، ثم أضاف إليها الذين جاءوا بعد من أهل الكلام في القرن الخامس والسادس عبارات جديدة، فلعلنا نقف عند مفاهيم هذه العبارات وقفة لتكون قاعدة لما سيأتي من أمثلة وموازين على ضوء ما ذكر الشيخ. فقوله: (وتعالى عن الحدود والغايات)، يقصد أن الله عز وجل منزه عن أن يحد بأي نوع من الحدود الزمنية، والحدود المكانية، والكيفية، والعمق، والمسافة، ونحو ذلك، كل هذا يسمى حدوداً. وكذلك الغايات، أي: النهايات، والنهاية تدل على ما ذكرته، والحدود والغايات بينهما ترابط، فإن القول بالحدود يلزم منه القول بالغايات، فبين العبارتين نوع ترادف، وهذه العبارات التي جاءت لم يكن السلف يتكلمون بها، بل كانوا يبدعون من قالها، لكن لما قيلت احتملت معنيين كما سيأتي في الشرح، فالمعنى المتبادر للأذهان هو الذي نفاه الشيخ، فالشيخ هنا قرر ما تقتضيه الفطرة كعادة السلف في ذلك الوقت قبل أن يكثر تشقيق هذه العبارات والتفصيل فيها إلى حد يحتاج إلى مزيد بيان. فمن البدهي أن الله عز وجل منزه عن الحدود المعلومة في عالم الشهادة، ومنزه عن الغايات المعلومة في عالم الشهادة، لكن لا يعني ذلك أنه تعالى منزه عن الكمال الذي يسميه أهل الأهواء حدوداً وغايات، فلله عز وجل من صفات الكمال، ولله عز وجل من الأسماء والأفعال ما سماه أهل البدع حدوداً وغايات من أجل أن ينفروا فطر الناس من العقيدة السليمة، فمن هنا ينبغي التنبه إلى هذا المعنى الذي سيأتي تفصيله.

معنى نفي الأركان والأعضاء والأدوات عن الله عز وجل

معنى نفي الأركان والأعضاء والأدوات عن الله عز وجل وكذلك قوله: (والأركان، والأعضاء، والأدوات)، هذه أيضاً فيها نوع ترادف، حيث يقصد بالأركان الأجزاء الأساسية التي تشكل الشيء، فالغالب أن الذين أطلقوا هذه الكلمات يقصدون بالأركان مثل: الرجل، واليد، والقدم، والوجه ونحو ذلك، وقد يقصدون بالأركان أحياناً مثل العرش والكرسي ونحو ذلك. وكذلك الأعضاء يقصدون بها الأعضاء المعهودة في المخلوقات، كاليد، والرجل، والوجه وغيرها، والأدوات هي الأمور التي تستعمل عند المخلوقات عادة، لكنهم يدخلون في مفهوم الأدوات الرجل، والقدم، واليد ونحو ذلك. فهذه الأمور -الأركان، والأعضاء، والأدوات- لا شك في أنها بالفطرة منفية عن الله عز وجل بمفهومها عند البشر، فهي منفية عن الله عز وجل إطلاقاً وحتماً؛ لأن الله سبحانه ليس كمثله شيء، وله الكمال المطلق، لكن أهل الأهواء الذين نفوها يقصدون بنفيها نفي ما ورد من صفات الله عز وجل، فيسمون صفات الله الواردة أركاناً وأعضاء وأدوات، فيسمون: اليد، والرجل، والوجه، والنفس أركاناً وأعضاء وأدوات، فمن هنا كان لابد من التفصيل. وقول الشارح ينبني على النفي الفطري، ففي وقته لم يكن الناس قد تعمقوا في هذه المسائل، لكن بدأت بوادرها، فكان يقصد النفي الفطري؛ لأن الله عز وجل يتعالى عن هذه الأمور التي يفهمها البشر في عالم الواقع والشهادة، وإلا فإن الله عز وجل له من الصفات ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي قد يسميها بعضهم من المبطلين أركاناً، وأعضاء وأدوات؛ تمويهاً وتشبيهاً وتلبيساً.

معنى قول الطحاوي: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات)

معنى قول الطحاوي: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) ثم قال: (لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات). المقصود بالجهات الست: الشمال، والجنوب، والشرق، والغرب، ثم الفوق، والتحت. هذا الكلام أيضاً كلام مجمل، فالمسلمون بفطرتهم كلهم -إلا الذين دخلهم شيء من الأهواء- يعرفون أن الله عز وجل لا تحكمه الجهات التي تحكم المخلوقات، لكن قد يدخل في نفي مفهوم الجهة ما هو من كمال الله عز وجل، وهو العلو والفوقية والاستواء، فقد يسميها كثير من المبطلين جهة، ومن هنا ينفون العلو والاستواء والفوقية بدعوى أنها جهة، فكان لابد من التفصيل، لكن الإمام الطحاوي رحمه الله نفاها بالنفي الفطري المعروف عند سائر السامعين قبل أن تتحقق هذه الأمور بالتشقيقات الفلسفية، هذا أمر.

بيان ما أحدثه المتكلمون من مصطلحات لنفي ما ثبت لله من الصفات أو تأويلها

بيان ما أحدثه المتكلمون من مصطلحات لنفي ما ثبت لله من الصفات أو تأويلها الأمر الآخر: أن الذين جاءوا بعد الطحاوي أضافوا أموراً أخرى هي أكثر ما يدور الآن عند المتكلمين المتأخرين، وهي ما يسمونه: الأعراض، والجواهر، والأجسام، يقولون: إن الله عز وجل منزه عن الأجسام، والأعراض، والجوهر، والتلبيس الذي وجد في هذه الألفاظ كالتلبيس الذي وجد في تلك، لكن استعمالها أكثر، فاستعمال الأعراض والجواهر والأجسام الآن وسيلة لتعطيل أسماء الله وصفاته وأفعاله أو تأويلها أكثر من استعمال الحدود والغايات والأركان والأعضاء والأدوات؛ ذلك أنهم زعموا أن إثبات الصفات يقتضي التجسيم، فقالوا: إن الله عز وجل منزه عن الجسم، وهذا كلام فيه جانب حق لكن أريد به الباطل، نعم الله ليس كسائر المخلوقات التي لها أجسام، لكنهم يدخلون في مفهوم الجسم بعض كمالات الله عز وجل فينفونها بدعوى أنها جسمية، كاليد والعين والنفس ونحو ذلك، يقولون: هذه تقتضي الجسمية، والله عز وجل منزه عن الجسم إذاً: هو منزه عن أن نثبت له يداً ورجلاً وقدماً ونحوها على ما يليق بجلاله، فمن هنا نفوا الصفات بدعوى أنها تقتضي الجسمية، والتمثيل والمشابهة وكذلك الأعراض، يقصدون بالأعراض: الصفات التي يمكن أن يعبر عنها بتعبير يدل على كيفيتها على أي نحو من الأنحاء: فالطول، والعرض، واللون ونحو ذلك كلها أعراض، فيقولون: إن الله عز وجل منزه عن الأعراض، وهذا الكلام فيه حق، لكنه اشتمل على تلبيس، فيدخلون في الأعراض الصفات، فيقولون: إن هذه أعراض، إذاً: فلابد من تأويلها، وكذلك الجواهر، والجواهر: مفردات الجسم، فجزئيات الجسم يسونها جواهر، فينفون كثيراً من صفات الله عز وجل لأنها -كما يقولون- تقتضي الجسمية، والجسمية ترد إلى الجواهر، والله عز وجل ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم، فمن هنا كل ما يدل على هذه المعاني من الصفات الواردة في الكتاب والسنة إما أن ينفوه، وإما أن يؤولوه بدعوى أنه يقتضي الجسمية، أو العرضية، أو الجوهر ونحو ذلك. فيقولون مثلاً: اليد ركن، أو اليد عضو، أو اليد جسم، أو اليد عرض، أو اليد تتكون من مجموعة جواهر إلى آخره، إذاً: فلا يليق أن نصف الله باليد. فيقعون ويوقعون في التعطيل والتأويل، ونحو ذلك من الأمور الأخرى، كل هذه الأمور بدأت تظهر من جديد على أساس أنها معاول ووسائل للتأويل والتعطيل الذي سلكه المبتدعة. وقد ذكر الشارح هؤلاء بقوله: [لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام، كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي]، بمعنى أنهم يتفاوتون في المفهوم منها، فكل يفهمها بحسب ما لديه من قواعد وعقائد سابقة وخلفية إن صح التعبير؛ ولهذا كان النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، النفاة الذين هم أهل الكلام والجهمية والمعتزلة، هؤلاء كلهم نفاة. وقوله: [ويذكرون عن مثبتيها ما لا يقولون به]، يعني أن النفاة الذين يستعملونها لنفي صفات الله وتعطيلها يقولون لمن أثبت الصفات: إنه قال بالحد، أو يقول بالغايات، أو يقول بالأركان، ويرون أنه يقول بالأعضاء، أو أنه يقول بالأدوات، أو أنه يقول بالجسمية، والعرضية، والجوهرية إلى آخره، ولذلك وصف المتكلمون السلف بأنهم حشوية ومجسمة، وحاشاهم. قوله: [وبعض المثبتين لها] يقصد هنا المشبهة الممثلة [يدخل فيها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف]، حيث يبالغون في الإثبات إلى حد لم يرد في الكتاب والسنة، فيثبتون الحد، والغاية، والركن، والعضو، والأداة بألفاظ بدعية وبمعانٍ لا تليق بالله عز وجل، وتناقض قول الله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وهؤلاء هم المشبهة الممثلة المجسمة، وهم -بحمد الله- في الأمة قليل.

القاعدة الشرعية فيما لم ترد به النصوص نفيا أو إثباتا من المصطلحات

القاعدة الشرعية فيما لم ترد به النصوص نفياً أو إثباتاً من المصطلحات ثم ذكر القاعدة في الكتاب والسنة في هذه الأمور بقوله: [ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها]، هذه قاعدة كبرى تحكم جميع هذه الألفاظ وغيرها من الألفاظ التي ترد، فكل ما يوصف به الله عز وجل مما لم يرد في الكتاب والسنة يخضع لهذه القاعدة، سواء في الأسماء أو الصفات أو الأفعال، كل ما يرد على ألسنة الناس -سواء الألفاظ القديمة التي ذكرت نماذج منها، أو الألفاظ التي تحدث الآن من كثير من الناس- فإنه إذا لم يأت في الكتاب والسنة فلابد أن يخضع لهذا الميزان، وهو أنه لم يرد نص من الكتاب والسنة ينفيها ولا يثبتها، إذاً: فلابد من التفصيل على النحو الذي سيأتي. يقول رحمه الله تعالى: [وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً]، يعني: لا ننفي ولا نثبت، لا هذه الأمور ولا غيرها مما يرد من الأمور المشتبهة. نعم النقائص المحضة ننفيها دون تردد، والكمال المحض الواضح الذي ليس فيه إشكال نثبته بلا تردد، لكن أغلب الألفاظ وما يثبه الناس وينفونه مما لم يرد في الكتاب والسنة من الأمور المشتبهة التي تحتمل معنى باطلاً وتحتمل معنى حقاً، فهذه لابد أن يتوقف فيها على القواعد التي ستأتي.

قواعد شرعية في شأن الألفاظ المبتدعة

قواعد شرعية في شأن الألفاظ المبتدعة قال رحمه الله تعالى: [فالواجب أن ينظر في هذا الباب -أعني باب الصفات- فما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نفيناه، والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني، وننفي ما نفته نصوصهما من الألفاظ والمعاني، وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها لا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن كان معنى صحيحاً قُبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد والحاجة، مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها ونحو ذلك]. في هذا المقطع أجمل مجموعة من القواعد العظيمة التي قررها السلف؛ أجملها إجمالاً لأنه كان الأمر في عصر الشارح واضحاً عند كثير من أهل العلم، أما الآن فنحتاج إلى أن نستقرئ هذه القواعد الإجمالية بشيء من التفصيل، والتي تحكم ما ذكره سابقاً من الكلام عن الحدود والغايات والأركان والأعضاء، وسائر الألفاظ المبتدعة، هذه القواعد تتلخص فيما يلي: القاعدة الأولى: أنه في باب الأسماء والصفات والأفعال يثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، وينفى عن الله عز وجل ما نفاه عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم جملة وتفصيلاً، هذه القاعدة الأولى وهي المرجع، وهي الأصل. القاعدة الثانية: أن الكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله بما لم يرد في الكتاب والسنة نفياً وإثباتاً بدعة في الأصل، ولم يخالف في ذلك أحد من السلف، لكن قد يضطر العالم إلى الكلام فيما ابتدعه الناس ضرورة من أجل بيان الحق وتثبيته، ونفي الباطل والرد على أهله، هذا أمر قد يضطر إليه العالم، بمعنى: أنه لم يوجد أصلاً من السلف من أجاز لنفسه أن يتكلم عن أسماء الله وصفاته وأفعاله بشيء لم يرد في الكتاب والسنة لغير حاجة ابتداء، لكن ما فعله بعض السلف من الكلام في الأمور التي أحدثها أهل البدع؛ فإنما لجئوا إلى ذلك اضطراراً تقريراً للحق ودفاعاً عن العقيدة؛ لأن البدعة إذا اشتهرت أو عمت بها البلوى لابد من الكلام فيها لتصحيح العقيدة ولنفي الباطل ولإقرار الحق والدفاع عن عقيدة السلف. إذاً: تبقى القاعدة سليمة، وما حدث من بعض السلف من الكلام في أمر لم يرد في الكتاب والسنة إنما حدث اضطراراً لعموم البلوى. القاعدة الثالثة: أن هذه الألفاظ التي ذكرها الشارح عن أهل الكلام ونحوها تبين لنا جزماً بالاستقراء أنه لم يرد في الكتاب والسنة لا نفيها ولا إثباتها، فهذه الألفاظ التي ابتدعها المتكلمون، كالحدود، والغايات والأركان والأعضاء والأدوات والجهات والأعراض والجسم والجوهر والمباينة والمفاصلة والجهة ونحو ذلك، كل هذه الأمور لم يرد في الكتاب والسنة نفيها مطلقاً ولا إثباتها مطلقاً، إذاً: نحتاج إلى أن نرجع إلى القواعد العامة، كقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. القاعدة الرابعة: أن هذه الألفاظ إذا وردت على لسان أحد من الناس فلا تنفى إطلاقاً ولا تثبت إطلاقاً، حتى ينظر في مقصود قائلها، فإن قصد قائلها معنىً صحيحاً يدل على الكمال أخذنا هذا المعنى، ورددناه إلى ألفاظ الشرع، أما اللفظ المبتدع فيرد مطلقاً، وما يحمله من معنى يرد إلى ما ورد في الكتاب والسنة، وما كان فيها من معنى فاسد فإنه يرد مع لفظه. القاعدة الخامسة: أن ما ورد في الكتاب والسنة من أسماء وصفات وأفعال الكمال لله عز وجل يفي بكل ما يمكن أن يتصوره البشر من الكمال، وبكل ما يمكن أن ينطقون به بأي لسان من الكمال لله عز وجل، فأي كمال يمكن أن يتصور وأي كمال يمكن أن ينطق به البشر بأي لغة من اللغات؛ فلابد أن يوجد في الكتاب والسنة ما يدل عليه وزيادة، بل من أسماء الله عز وجل ما يشمل كل كمال يمكن أن يتصور، كاسم الجلالة (الله)، وكالحي القيوم، والأحد الصمد، وكالعلي العظيم، وكثير من أسماء الله عز وجل تتضمن الكمال المطلق، فلو نطق جميع البشر بأنواع الكمالات لاشتمل عليها هذا اللفظ وهذا الاسم لله عز وجل. وإنما أردت بهذا أن أقرر ما ذكره السلف من أنه لا يمكن أن يتوهم أن يرد في ذهن أحد من الناس أو على لسانه كمال نحتاج إلى أن نثبته ولم يرد في الكتاب والسنة مثله أو ما يزيد عليه.

أمثلة للموقف الصحيح تجاه الألفاظ المبتدعة

أمثلة للموقف الصحيح تجاه الألفاظ المبتدعة

الموقف الصحيح من لفظ الأعضاء

الموقف الصحيح من لفظ الأعضاء نعود إلى التمثيل على هذه القواعد جميعها، فلنأخذ من ذلك (كلمة الأعضاء) على سبيل المثال: فإذا جاء إنسان وقال: الله عز وجل منزه عن الأعضاء، فظاهر كلامه أنه حق لأول وهلة؛ لأنه قد يفهم المعنى المباشر، وهو الأعضاء المعلومة عند المخلوقات، والله عز وجل ليس كمثله شيء، لكن إن كان المتكلم صاحب بدعة ومعروفاً بالاعتزال أو بالتجهم، أو بالحذلقة والجدال والمراء، أو بالتفلسف والتعالم والغرور، وأطلق هذه الكلمة ونحن نعرف من قرائن أحواله أنه متكلم أو متحذلق أو متعالم فلا يجوز له ولا يجوز لنا أن نأخذ هذا الكلام على إطلاقه، فنقول: نعم كلمة (أعضاء) لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ماذا تريد بالأعضاء؟ إذ يحتمل عندنا مراد من ينفي عن الله الأعضاء -تعالى الله عما يتصوره المشبهة والممثلة وما يزعمه النفاة والمعطلة- احتمالين، فنقول له: ماذا تقصد بالأعضاء؟ فإن قصد بالأعضاء الجسمية المعهودة للمخلوقات فنفي ذلك حق، ولكن ينفى بدون إشارة إلى الأعضاء، فلا داعي لأن نقول: إن الله عز وجل منزه عن الأعضاء التي هي أعضاء المخلوقات لأن هذا أمر بدهي؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فنقول له: نزه الله بما نزه به نفسه تسلم من هذه الفلسفات، فقل: ليس كمثله شيء سبحانه، أو قل: هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، أو نحو ذلك من النفي المجمل الكامل الذي ينفي كل نقص عن الله عز وجل. إذاً: إذا كان المتكلم يريد المعنى الباطل المعهود في الأذهان فنقره على ذلك، لكن نبين له أنه أخطأ في إطلاق كلمة أعضاء؛ لأنها قد تحتمل المعنى الآخر. وقد يحتمل أن يقصد النافي للأعضاء نفي صفات الله عز وجل التي توهم أنها إثبات للأعضاء، فقد يكون قصد هذا المتكلم من المتفلسفة أو من أتباع الفرق الذين ابتلوا بالكلام في هذه الأمور -كالأشاعرة والماتريدية، والجهمية والمعتزلة ومن سار على سبيلهم أو تأثر بالفلاسفة- قد يكون قصده بنفي الأعضاء نفي ما أثبته الله لنفسه عز وجل من اليد والوجه والقدم والرجل ونحو ذلك مما هو ثابت في الكتاب والسنة، فنقول له: إن كنت تقصد بهذا نفي ما أثبته الله لنفسه فهذا باطل، لا يجوز لك أن تنفي ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته الله لنفسه حق، فقولك هذا لا تقر عليه، وتسميتك لهذه الصفات أعضاء خطأ. إذاً: المعنى الذي نفى به كلمة (عضو) إن قصد به ما يتبادر إلى الذهن من مشابهة المخلوقات؛ فهذا منفي عن الله عز وجل، وإن قصد به ما ورد في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات الله عز وجل التي يتوهم أنها تشبه صفات المخلوقات فيقال له: عبارتك ليست صحيحة، فنفيك للأعضاء من حيث إنها تشبه أعضاء المخلوقين حق، لكن بهذا التعبير خطأ، ونفيك للأعضاء بمعنى صفات الله عز وجل التي سميتها أعضاء باطل، ولا يجوز لك أن تنفي بهذه الطريقة، بل تنفي ما نفاه الله عن نفسه، وتثبت ما أثبته الله لنفسه. وبقي المعنى الصحيح لكلمة أعضاء، وهو إثبات الصفات، فنقول: نثبت لله الصفات، وهو المعنى المقصود عند المتكلم حينما أخطأ، لكن نستغني عن كلمة (أعضاء) لأنها لم ترد في الكتاب والسنة، ولأن الله عز وجل وصف نفسه بصفات معينة تليق بجلاله، ولأن هذا اللفظ يشتبه الأمر فيه، فننفيه.

الموقف الصحيح من لفظ الجهة

الموقف الصحيح من لفظ الجهة ويتبين الأمر بمثال آخر مفرد، وهو كلمة (جهة)، فبعض الناس يأتي ويقول: الله عز وجل منزه عن الجهة، فنقول له: كلامك هذا مجمل، فما قصدك بالجهة؟ فهذه الكلمة لم ترد في الكتاب والسنة وهي بدعة، فأنت تكلمت ببدعة، لكن حينما نفيت الجهة ماذا تقصد؟ فلابد من أن يقصد أحد أمرين: إما أن يقصد بالجهة العلو والفوقية والاستواء، وإما أن يقصد بالجهة المكان الذي يحصر الموجود. فإن قصد بالجهة المكان الذي يحصر ويحيط بالموجود؛ فنقول: الله عز وجل لا يحيط به شيء، وهو سبحانه أعظم وأجل من أن تحيط به المخلوقات، فهذا المعنى منفي عن الله فعلاً، لكن لماذا سميته جهة؟! وإما أن يقصد بالجهة العلو والفوقية، فنقول له: أخطأت في نفي الجهة؛ لأنك حينما سميت العلو والفوقية جهة بهذا اللفظ أخطأت، فالعلو والفوقية والاستواء ثابتة لله عز وجل، لكننا لا نسميها جهة. وكذلك لو أطلق إنسان الجهة على الله عز وجل على سبيل الإثبات وليس على سبيل النفي، فقال: أنا أطلق على الله الجهة، نقول له: ماذا تقصد؟ فإن قال: أقصد بالجهة أنه تحيط به الأشياء، قلنا: هذا باطل، ونرد اللفظة ومعناها الباطل، وإن قصد بإثبات الجهة إثبات العلو والفوقية والاستواء فنقول له: المعنى الذي قصدته بالجهة -وهو العلو والفوقية والاستواء لله عز وجل- صحيح، لكننا لا نحتاج إلى كلمة (جهة)؛ لأنها مشتبهة، فأخذنا المعنى ورددنا اللفظ، وهكذا كل مثال يرد من هذه الأمور المشتبهات، فما فيه من معنى صحيح نأخذه، لكن نرد اللفظ؛ لأن اللفظ مشتبه، وما فيه من معنى باطل نرده مع لفظه مطلقاً.

بيان ما أراد به الطحاوي من نفي الحدود والغايات والأعضاء والأدوات ونحو ذلك

بيان ما أراد به الطحاوي من نفي الحدود والغايات والأعضاء والأدوات ونحو ذلك قال رحمه الله تعالى: [والشيخ رحمه الله تعالى أراد الرد بهذا الكلام على المشبهة كـ داود الجواربي وأمثاله القائلين: إن الله جسم وإنه جثة وأعضاء، وغير ذلك، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً]. المشبهة الأوائل كـ داود الجواربي وهشام بن الحكم وما نسب إلى الكرامية وما نسب إلى المقاتلية على درجات، فمنهم من يدعي التشبيه والتمثيل الكامل، حتى إنه يتكلم عن الله عز وجل بالحد والمسافة، ويتكلم عن الله عز وجل بوصف لا يعرف إلا في المخلوقات كالنوع والكيفية، فهذا التشبيه وجد في الرافضة الأوائل كالجواربية والجواليقية ونحوهم، وهناك نوع آخر من التشبيه، وهو المبالغة في الإثبات على نحو ما ذكر سابقاً، مثلاً: يقولون: إن الله عز وجل -تعالى الله عما يقوله الظالمون- موصوف بالحد، أو يقولون: إن الله موصوف بالجهة، ولا يقصدون ما يعنيه السلف من العلو والفوقية، إنما يقصدون المعنى الباطل الذي ذكرت، وأحياناً يقولون: قابل لوصف الأعضاء أو نحو ذلك، تعالى الله عما يزعمون، لكنهم لا يحددون تفصيلاً، إنما يقولون هذا إجمالاً، يعني: لا يتورعون عن القول بالأعضاء والأركان والأدوات والحدود والغايات والجهات ونحو ذلك، لكنهم لا يفصلون، ويقولون: إن إثبات الصفات يدل على هذه المعاني، يعني: يأتون بمعان مبتدعة جديدة، ويقولون: إثبات الصفات يدل عليها، وهؤلاء كالكرامية، وكالمقاتلية، والمشبهة المتأخرة الذين انتهوا؛ لأن التشبيه مر بمرحلتين: المرحلة الأولى في نهاية القرن الأول وبداية القرن الثاني، وكان تشبيهاً شنيعاً بمعاني التشبيه الساذجة التي لا تليق حتى حكايتها، فلما اصطدموا بأقوال أهل العلم وبجهود السلف وما فعلوه تجاههم -حتى إنهم كفروهم وحكموا بقتلهم- تراجعوا عن التشبيه الكامل، فقالوا بالتشبيه المجمل، لكنه أيضاً تشبيه بدعي نفاه السلف وتبرءوا منه، وهو التشبيه الذي لا يتكلم في التفصيلات، لكن يعطي لأسماء الله وصفاته معاني لم ترد في الكتاب والسنة، وتوهم السامعين، مثلما ذكرت، فلا يتورعون عن إطلاق الحدود والغايات والأركان والأعضاء على الله تعالى إجمالاً، وهذا التشبيه انقرض وانتهى، أما المشبهة الأوائل الرافضة؛ فقد انقلبوا إلى معطلة وتحولوا إلى جهمية ومعتزلة مع بقائهم على مذهب الرفض، كما ذكرت في السابق.

موقف السلف من لفظ الحد

موقف السلف من لفظ الحد قال رحمه الله تعالى: [فالمعنى الذي أراده الشيخ رحمه الله من النفي الذي ذكره هنا حق، ولكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً، فيحتاج إلى بيان ذلك، وهو أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته]. أي: لا يعلمون الله كيفية، وإلا فسيأتي التفصيل في معنى الحد، فهناك حد عبر عنه السلف من باب الإخبار لا من باب الصفة لله عز وجل؛ لأن السلف يفرقون بين الإخبار والصفة. فالإخبار: البيان، وإذا أردت أن تبين فلابد أحياناً أن تزيد، مثاله: إنسان قال لك: ما معنى الأول؟ فتأتي له بخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو تفسيره للأول بالذي ليس قبله شيء، وإنسان قال: ما معنى الآخر؟ فتقول: الآخر اسم الله عز وجل جاء خبره عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه الذي ليس بعده شيء، فلو أن إنساناً ما فهم العبارة، وقال: هل معنى الأول القديم الذي ليس قبله شيء؟ تقول: نعم. وليس معنى ذلك أنك أثبت الاسم القديم، لكنه شرح لمعنى الأول، فالشرح إذا لم يتعد الحد اللغوي الصحيح يجوز بحدود المصلحة والحاجة. إذاً: فالسلف ينفون كلمة (حد)، لكن قد يخبرون عن المباينة والمفاصلة لله عز وجل عن مخلوقاته بالحد، لئلا يتوهم أحد حلول الله عز وجل في مخلوقاته. فقوله: [أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته]. يعني: لا يقولون بالطول، والعرض، والعمق، والكثافة ونحو ذلك مما خاض به الخائضون، لا يقولون بذلك ويتورعون عن الكلام فيه، ويبدعون من تكلم؛ لأنه نوع من الحد، والله عز وجل ليس كمثله شيء.

ذكر ما أثر في لفظ الحد عن سفيان وشعبة والحمادين وشريك وأبي عوانة

ذكر ما أثر في لفظ الحد عن سفيان وشعبة والحمادين وشريك وأبي عوانة قال رحمه الله تعالى: [قال أبو داود الطيالسي: كان سفيان وشعبة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون: كيف؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر]. قصده أنهم لا يشبهون يعني: لا يتكلمون في التشبيه، لا يقولون: يشبه كذا، ولا مثل كذا، ولا فعله يشبه كذا، ولا صفته مثل كذا إلى آخر ذلك مما تورع عنه السلف، ورأوا أنه من الباطل الذي لا يجوز أن يجري على ألسنتهم. [ويروون الحديث]، أي: يروون الحديث الثابت في الصفات، ونحن نعلم بالبداهة أنهم يروون الحديث إجمالاً، لكن هنا نص على أمر مهم، وهو أنهم يروون الحديث في الصفات حتى وإن إشكل على بعض السامعين، لذلك ذكروا أنه من الفوارق البينة بين السلف وخصومهم أن السلف يروون الأحاديث في الصفات، ولا يجدون في ذلك غضاضة، بل إنهم يجدون في هذا متعة؛ لأنها عن الله عز وجل، وفي تعظيمه وإجلاله، على عكس أهل الأهواء، فإنهم يترددون في رواية أحاديث الصفات، ويكرهون روايتها، حتى إن بعضهم كان إذا وقف وقفاً على مدرسة أو كذا اشترط ألا تقرأ فيها أحاديث الصفات، فإذا وقف مكتبة أو أهدى مكتبة اشترط ألا يكون فيها أحاديث الصفات، وبعضهم كان يسمع البخاري، فإذا جاء إلى آخر أبواب البخاري وبدأت أحاديث الصفات ترك الدرس وتخلى عنه؛ لأنَّه يكره أحاديث الصفات. فهذا معنى قوله: [ويروون الحديث] فالسلف يروون الحديث وليس عندهم في ذلك شيء، فمادام قد ثبت الحديث في صفات الله عز وجل فإنهم يروونه حتى ولو كرهه بعض السامعين أو بعض أهل الأهواء الذين لا يثبتون الصفات، فلذلك قالوا: من أشد الأمور على أسماع أهل الأهواء أحاديث الصفات، وهذا حق، وإلى اليوم تجدهم إذا رويت أحاديث الصفات لا تسلم من تعليقاتهم ومن لمزهم، وإذا نظرت لتحقيقاتهم أو إلى أعمالهم -كما هو حاصل من كثير من المتكلمين الآن إذا تعرضوا لكتب السلف- تجدهم يعلقون على أحاديث الصفات بتعليقات تدل على أنهم يكرهونها، وهي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.

ذكر ما أثر في لفظ الحد عن ابن المبارك

ذكر ما أثر في لفظ الحد عن ابن المبارك قال رحمه الله تعالى: [وسيأتي في كلام الشيخ: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه)، فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده؛ لأن المعنى أنه غير متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم. سئل عبد الله بن المبارك: بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش بائن من خلقه، قيل: بحد؟! قال: بحد. انتهى. ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه المقيم لما سواه، فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً؛ فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته، وأما الحد بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد؛ فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة]. هذا يصلح مثالاً لما ذكرته سابقاً، وهذا المثال كله ورد تفصيله على ألسنة السلف، وهو كلمة الحد، فقد يأتينا إنسان متفلسف فيقول: الله عز وجل منزه عن الحد، فنستفصل منه، ونقول له: ماذا تريد بالحد؟ إن أردت بالحد أن الله عز وجل منفصل عن مخلوقاته ووجوده غير وجود المخلوقات وأسماؤه وصفاته وأفعاله غير أسماء وصفات وأفعال المخلوقات فنعم، فالله عز وجل يثبت له الحد بهذا المعنى، ولذلك قال ابن المبارك بإثبات الحد؛ لأنه كان في خراسان، وخراسان في وقت عبد الله بن المبارك اشتهرت فيها مذاهب الجهمية، والجهمية ينكرون أسماء الله وصفاته ويزعمون أن إثباتها يقتضي الحد، بل يزعمون أن إثبات العلو والفوقية والاستواء يقتضي الحد، يقصدون بالحد الذي ينفونه أن الله له وجود غير وجود المخلوقات؛ ذلك أن مذهبهم كما قال الجهم: إن الله في كل شيء وفي كل مكان، قال ذلك حينما أشكل عليه قول سني له: أين ربك الذي تعبد؟ هل تحسه؟ هل تراه؟ هل تعقله؟ إلى آخره فجلس أربعين يوماً يفكر ماذا يقول، ثم خرج ببدعة وقال: هو ذا في الهواء، هو ذا في كل شيء! تعالى الله عما يزعم. إذاً: هم لا يعتقدون أن لله وجوداً غير وجود المخلوقات، فمن هنا ينفون الحد، أي: أن يكون لوجود الله حد ينفصل عن وجود المخلوقات، فلما نفوه أثبته ابن المبارك رداً عليهم، فقالوا: بحد؟ قال: نعم بحد. أي: أن الله وجوده غير وجود المخلوقات، هذا معنى الحد في قول ابن المبارك، فهذا المعنى للحد أثبته السلف، وبعضهم أطلق لفظ الحد من باب الإخبار لا من باب الإثبات، وهذه المسألة ينبغي أن نعرف فيها ألفاظ السلف التي أثبتوا بها ما لم يثبت في الكتاب والسنة، فهم يقصدون الإخبار ولا يقصدون الإثبات، فهم لا يقصدون الوصف، كإثبات الصانع، وكالجهة، والقِدَم، والحد، فهذه يتكلم بها بعض السلف من باب التفسير والبيان والإخبار، لا من باب الاسم أو الصفة. فـ ابن المبارك حينما قال: (بحد)، يقصد أن الله عز وجل وجوده غير وجود مخلوقاته، فهذا المعنى من الحد مثبت، لكن لفظ الحد نستغني عنه. ثم قال بعد ذلك: [ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره]، فهذا القدر مثبت عند السلف، أما الحد بمعنى العلم والقول، بمعنى أن نحد الله بعلمنا بأن نعلم كيفية وجود الله، أو نقول بذلك؛ فهذا ننفيه. فقوله: [وأما الحد بمعنى العلم والقول] يقصد الحد بمعنى العلم بالكيفية أو القول عن الكيفية، فهذا منتف بلا منازعة. إذاً: إذا ورد عن السلف نفي الحد فإنهم يقصدون الكيفية، وإذا ثبت عن السلف إثبات الحد فإنهم يقصدون المفاصلة والمباينة، وأن وجود الله عز وجل ليس كوجود مخلوقاته.

ذكر ما أثر في لفظ الحد عن سهل التستري

ذكر ما أثر في لفظ الحد عن سهل التستري قال رحمه الله تعالى: [قال أبو القاسم القشيري في رسالته: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي سمعت منصور بن عبد الله سمعت أبا الحسن العنبري سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول وقد سئل عن ذات الله، فقال: ذات الله موصوفة بالعلم، غير مدركة بالإحاطة ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى ظاهراً في ملكه وقدرته، قد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه والعيون لا تدركه، ينظر إليه المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية]. قوله: (ينظر إليه المؤمنون بالأبصار) يعني: يوم القيامة، وهذا أمر بدهي ما كان يحتاج إلى احتراز عند الأوائل، لاسيما أن القائل من أوائل العباد النساك، فهذا من كلام سهل بن عبد الله التستري، وهو من أوائل العباد النساك الذين ترتكز عليهم الصوفية في بدعها وتنسب إليه ما لم يقله وما لم يفعله، كما أن له رحمه الله بعض الشطحات، لكنها ليس كشطحات الصوفية، ويلحظ في هذا السند أن كل رجاله من أوائل المتصوفة الذين لم تختل عندهم العقيدة، لكن عندهم شطحات في السلوك والعبادة، والمقصود سلوك التصوف وليس سلوك الأخلاق. فـ أبو القاسم القشيري معروف من كبار المتصوفة الأوائل، وكذلك السلمي من كبار المتصوفة الأوائل، ومنصور بن عبد الله كذلك، وأبو الحسن العنبري كذلك، وسهل بن عبد الله التستري من أكابر العباد والنساك الأوائل الذين حصل منهم الشطحات. والمقصود أن هذا القول من التستري يدل على أن العباد الأوائل -إذ هو من عباد القرن الثالث- كانوا على عقيدة السلف، فلذلك نجد بالاستقراء أنهم في القرن الثاني والثالث من أقوى الناس دفاعاً عن العقيدة ومن أحسن الناس تعبيراً عن العقيدة وتقريراً لها، ومن أكثر أهل العلم وأهل التقوى والصلاح غيرة على العقيدة ورداً على أهل البدع، وبه نفهم أن الانحراف العقدي العلمي للصوفية ما بدأ إلا في القرن الرابع وما بعده، نعم الانحراف في العبادات وفي المفاهيم بدأ مبكراً، لكن الانحراف العقدي ما بدأ إلا مع بداية الطرق البدعية.

بيان تسلط النفاة بنفي الأركان والأعضاء والأدوات على نفي الصفات الثابتة بالأدلة القطعية

بيان تسلط النفاة بنفي الأركان والأعضاء والأدوات على نفي الصفات الثابتة بالأدلة القطعية قال رحمه الله تعالى: [وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات؛ فيتسلط بها النفاة على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد والوجه، قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر: له يد ووجه ونفس كما ذكر تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس، فهو له صفة بلا كيف، ولا يقال: إن يده قدرته ونعمته؛ لأن فيه إبطال الصفة. انتهى. وهذا الذي قاله الإمام رضي الله عنه ثابت بالأدلة القاطعة، قال تعالى: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67]، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27]، وقال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116]، وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54]، وقال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، وقال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة لما يأتي الناس آدم فيقولون له: (خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء) الحديث. ولا يصح تأويل من قال: إن المراد باليد بالقدرة؛ فإن قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] لا يصح أن يكون معناه: بقدرتيَ مع تثنية اليد، ولو صح ذلك لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك، فلا فضل له علي بذلك! فإبليس مع كفره كان أعرف بربه من الجهمية، ولا دليل لهم في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس:71]؛ لأنه تعالى جمع الأيدي لما أضافها إلى ضمير الجمع ليتناسب الجمعان اللفظيان للدلالة على الملك والعظمة، ولم يقل: (أيدي) مضاف إلى ضمير مفرد، ولا (يدينا) بتثنية اليد مضافة إلى ضمير، الجمع فلم يكن قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] نظير قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: (حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). ولكن لا يقال لهذه الصفات: إنها أعضاء أو جوارح أو أدوات أو أركان؛ لأن الركن جزء الماهية، والله تعالى هو الأحد الصمد لا يتجزأ سبحانه وتعالى، والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية تعالى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله تعالى: {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر:91]، والجوارح فيها معنى الاكتساب والانتفاع، وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة، وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى؛ ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى، فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني سالمة من الاحتمالات الفاسدة، فلذلك يجب ألا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً؛ لئلا يثبت معنى فاسد أو ينفى معنى صحيح، وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل. وأما لفظ الجهة فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقاً، والله تعالى لا يحصره شيء ولا يحيط به شيء من المخلوقات تعالى الله عن ذلك، وإن أريد بالجهة أمر عدمي -وهو ما فوق العالم- فليس هناك إلا الله وحده، فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات، فهو فوق الجميع عال عليه]. هذا أمر بدهي، فإذا قصد بالجهة العلو فهذا حق، لكن تسميتها جهة على هذا النحو الملبس فيها نظر، فنفي الجهة نفي للعلو، أما نفي الجهة بمعنى أن ينفى عن الله عز وجل أنه يحصره شيء من مخلوقاته؛ فهذا أمر بدهي ولا يحتاج إلى أن يتكلم فيه أحد؛ لأنه لم يقل به عاقل حتى أجل أن يُنفى. قال رحمه الله تعالى: [ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو يذكرون من أدلتهم: أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كان قبل الجهات، وأن من قال: إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، أو أنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها، وهذه الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواء سمي جهة أو لم يسم، وهذا حق، ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً، بل أمر اعتباري]. قوله: (اعتباري) يعني في الذهن، كما نقول في اصطلاحنا: أمر مفترض، والافتراض لا يبنى عليه شيء، فالافتراض توهم، فما يقوله أحد هؤلاء المبطلين من أنه ليس موصوفاً بالجهة يقصد به وجود شيء في ذهنه، والذي في

المأخذ على الطحاوي في قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأدوات)

المأخذ على الطحاوي في قوله: (وتعالى عن الحدود والغايات والأركان والأدوات) قال رحمه الله تعالى: [لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى]. هذا ما أشرت إليه سابقاً، فقد ذكرت في القاعدة السابقة أن هذه الألفاظ الأصل أنها مبتدعة وتترك ولا تستعمل، هذا الأصل فيها، لكن إذا اضطر المتكلم من أهل العلم إلى الكلام بها فليتكلم بالحق على جهة التفصيل، ولا يترك السامع أو القارئ في متاهة. قال رحمه الله تعالى: [لكن بقي في كلامه شيئان: أحدهما: أن إطلاق مثل هذا اللفظ مع ما فيه من الإجمال والاحتمال كان تركه أولى، وإلا تسلط عليه وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالاعتصام بالألفاظ الشرعية أولى]. يعني: بدل أن نقول: لا يحيط به شيء من مخلوقاته نقول: إنه عز وجل بكل شيء محيط. وينتهي الإشكال، وبدل أن نقول: لا يحويه شيء من مخلوقاته، نقول لفظ الشرع، وهو أن الله عز وجل بكل شيء محيط، هذا قصده بالألفاظ الشرعية، فنعتصم بالألفاظ الشرعية فهي أولى وأبعد عن الشبهة والفتنة. قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أن قوله: (كسائر المبتدعات) يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي، وفي هذا نظر، فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي فممنوع؛ فإن العالم ليس في عالم آخر وإلا لزم التسلسل، وإن أراد أمراً عدمياً فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره كالسماوات والأرض في الكرسي ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات كالعرش، فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات قطعاً للتسلسل كما تقدم. ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن (سائر) بمعنى: البقية، لا بمعنى: الجميع، وهذا أصل معناها، ومنه السؤر، وهو ما يبقيه الشارب في الإناء، فيكون مراده غالب المخلوقات لا جميعها؛ إذ (السائر) على (الغالب) أدل منه على الجميع، فيكون المعنى: أن الله تعالى غير محوي كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي بشيء تعالى الله عن ذلك، ولا يظن بالشيخ رحمه الله تعالى أنه ممن يقول: إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي النقيضين كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده: أن الله تعالى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته أو أن يكون مفتقراً إلى شيء منها، العرش أو غيره. وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به، وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى، وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وإن الأولى التوقف في إطلاقه، فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع، كالاستواء والنزول ونحو ذلك، ومن ظن من الجُهّال أنه إذا نزل إلى سماء الدنيا -كما أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم- يكون العرش فوقه ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم؛ فقوله مخالف لإجماع السلف مخالف للكتاب والسنة. وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني: سمعت الأستاذ أبا منصور بن حمشاد بعد روايته حديث النزول يقول: سئل أبو حنيفة؟ فقال: ينزل بلا كيف. انتهى. وإنما توقف من توقف في نفي ذلك لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين ولا محايث، لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والاستواء على العرش، ويقول بعضهم بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود ونحو ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: محيط بكل شيء وفوقه إن شاء الله تعالى]. قولهم: (لا مباين ولا محايث)، المباين: المفاصل، يعني: المنفصل، والمحايث: الملاصق والمخالط.

الأسئلة

الأسئلة

مدى صحة دعوى تصوف الثوري وإبراهيم بن أدهم

مدى صحة دعوى تصوف الثوري وإبراهيم بن أدهم Q سمعت عن سفيان الثوري رحمه الله وإبراهيم بن أدهم وقرأت عنهما أنهما صوفيان، وذلك في كتاب: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب المعاصرة، فما صحة ذلك؟ A لا تصح نسبة سفيان الثوري إلى التصوف، وأما إبراهيم بن أدهم رحمه الله فبعيد عن التصوف في معناه البدعي، لكن عنده بعض مسالك العباد، ومع ذلك فهو بعيد عن التصوف كل البعد، وهو إمام له نهجه الذي هو نهج السلف في العلم والعمل والاعتقاد، أما سفيان الثوري فمعلوم أنه أبعد الناس عن هذه المقولة.

توجيه قصد الطحاوي بنفي الحدود والغايات ونحو ذلك من الألفاظ المحدثة

توجيه قصد الطحاوي بنفي الحدود والغايات ونحو ذلك من الألفاظ المحدثة Q لقد عبر الطحاوي بنفي الحدود والغايات والأعضاء والأركان ونحو ذلك، فاعتبر بعضهم أن هذا من الأخطاء التي تؤخذ عليه، فما توجيه ذلك؟ A ابن أبي العز في هذا الشرح وجه كلام الطحاوي على أحسن المحامل، وهكذا ينبغي أن نحمل كلام أئمة السلف على أحسن المحامل، فبعيد أن الطحاوي وأمثاله من أولئك الأئمة في ذلك العصر يقصدون بهذه العبارات ما يقصده المتكلمون من نفي صفات الله عز وجل، فهو مثبت للصفات، ولذلك ينبغي في مثل هذا الكلام أن نحمل قول الطحاوي بعضه على بعض، فـ الطحاوي رحمه الله في نفس هذه العقيدة قرر الصفات كما قررها السلف، إذاً: يمتنع أن يكون قصده نفي الصفات وتأويلها كما يقصد المتكلمون، فعلى هذا فاعتبار ذلك من أخطاء الطحاوي نوع من التجوز والمبالغة، بل هو من العدوان والظلم. أما أن يقال: أخطأ في التعبير؛ فهذا أمر سهل، فأهل العلم ينبغي ألا يقولوا مثل هذا التعبير، والشارح تمنى أن الطحاوي رحمه الله لم يعبر بهذا الكلام، لكنه حمله على المحمل الصحيح الحسن، ورد كلام الشيخ الطحاوي بعضه إلى بعض، فحمله على أنه لم يرد المعنى الباطن قطعاً، فعلى هذا قد ينفى عنه الاتهام.

المراد بالغايات المنفية عن الله تعالى

المراد بالغايات المنفية عن الله تعالى Q هل في نفي الغايات نفي صفة الحكمة لله؟ A هو لا يقصد بالغايات العلة والحكمة التي نسميها غاية؛ بل يقصد بالغايات الغايات المادية، وهي الحدود.

الجمع بين إثبات الرؤية ونفي الإحاطة

الجمع بين إثبات الرؤية ونفي الإحاطة Q كيف نفسر قول التستري: (ينظر إليه المؤمنون بالأبصار)؛ بأن هذا في الآخرة مع أنه قال بعده: (من غير إحاطة ولا إدراك نهاية)؟ ثم هل يكون ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تضامون في رؤيته)؟ A لا يظهر أن في هذا إشكالاً، فالمؤمنون ينظرون إلى ربهم بأبصارهم يوم القيامة، وهذا من غير إحاطة ولا إدراك، والإدراك على معنيين، لكنه قيده بإدراك النهاية، فكأن تفسيره الإحاطة، فالمؤمنون يرون ربهم بأبصارهم لكن لا يحيطون به عز وجل، هذا معنى الكلمة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تضامون في رؤيته) بمعنى: لا تتزاحمون في الرؤية من وضوحها، فالله عز وجل لا يحتاج الناس في رؤيته إلى أن يتزاحموا كما أن معنى (ولا تضامون) لا ينكر عليكم، والله أعلم.

شرح العقيدة الطحاوية [47]

شرح العقيدة الطحاوية [47] الإسراء والمعراج حق ثابت بالكتاب والسنة، فقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السماء السابعة حتى بلغ سدرة المنتهى، كل ذلك ببدنه وروحه، يقظة لا مناماً، هذا معتقد أهل السنة، وهو ما دلت عليه نصوص القرآن والسنة، ومما دلت عليه النصوص وتواترت به إثبات الحوض لنبينا صلى الله عليه وسلم في الآخرة، ماؤه أبيض من اللبن وأحلى من العسل، وأبرد من الثلج، آنيته عدد نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبداً.

الإسراء والمعراج

الإسراء والمعراج

الإسراء والمعراج حق ثابت بالكتاب والسنة

الإسراء والمعراج حق ثابت بالكتاب والسنة قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والمعراج حق، وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء وأوحى إليه ما أوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، فصلى الله عليه في الآخرة والأولى)]. ينبغي في مثل هذه الحالات أن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلم عليه، فيجمع بين الصلاة والسلام، وكره أهل العلم إفراد الصلاة دون السلام أو السلام دون الصلاة، فالجمع بينهما هو السنة، وربما يكون المؤلف جمع بينهما لكن سقطت من النساخ في ذلك، وذكر أنه في نسخة: (فصلى الله وسلم عليه)، وهذا هو الأولى، وكان الأولى أن تثبت في المتن. قال رحمه الله تعالى: [المعراج: مفعال من العروج، أي: الآلة التي يعرج فيها، أي: يصعد، وهو بمنزلة السلم، لكن لا نعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته]. هذه قاعدة في سائر أمور الغيب، ونحن إلى تقعيدها في هذه المسألة أحوج؛ لأن المعراج حدث في عالم الشهادة بالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه غيب بالنسبة لنا، فمن هنا نحتاج إلى التذكير بهذه القاعدة فيما حدث للنبي صلى الله عليه وسلم من المعجزات، ومن أعظمها بعد القرآن المعراج، فإنها من الأمور التي حدثت فعلاً وهي حق، وحدثت من باب الكرامة للنبي صلى الله عليه وسلم والمعجزة له، وهي غيب وحكمها الإيمان بها والتسليم، فما ثبت منها يؤمن به ويسلم به ولا يشتغل بكيفيته، لا يقال: كيف صعد؟ أو: كيف عرج به؟ كيف أسري به؟ كيف ركب؟ إلى آخره.

ذكر الأقوال في كيفية الإسراء وبيان الحق منها

ذكر الأقوال في كيفية الإسراء وبيان الحق منها قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم وعرج بشخصه في اليقظة): اختلف الناس في الإسراء]. إذا اختلف الناس هنا فلا يعني ذلك اختلاف أهل الحق، بل يعني الناس عموماً وفيهم الذين شذوا في الآراء أو الذين ذلوا من أهل العلم، أو من نسب إليهم قول ولم يثبت، أو أهل الأهواء يعدون من جملة القائلين عند التفصيل، لكن القول الذي يعارض الكتاب والسنة يرد وإن ذكر. قال رحمه الله تعالى: [فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه]. هذا القول لم يثبت من طريق صحيحة، وإذا ثبت فإنه محمول -كما سيذكر الشارح بعد قليل- على أن الإسراء كان بروح النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، أما القول بأن الإسراء كان مناماً فهو شاذ كما سيأتي تفصيله، لا يصح أبداً، وهو خلاف قول الجمهور، بل اتفق أئمة السلف المقتدى بهم في الدين على أن عروج النبي صلى الله عليه وسلم والإسراء به كان بجثته وروحه. قال رحمه الله تعالى: [لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، فـ عائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق ما بين الأمرين؛ إذ ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج به إلى السماء وذهب به إلى مكة وروحه لم تصعد ولم تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال، فما أرادا أن الإسراء كان مناماً، وإنما أرادا أن الروح ذاتها أسري بها ففارقت الجسد ثم عادت إليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت. وقيل: كان الإسراء مرتين: مرة يقظة ومرة مناماً، وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: ثم استيقظت، وبين سائر الروايات]. هذا القول لا يثبت، فالإسراء إنما كان مرة واحدة، وسبب هذا القول الاضطراب في حديث شريك، وحديث شريك لم يعتد به أهل العلم؛ لأنه فيه نوع اضطراب، وفيه جوانب شاذة عن رواية الثقات، فلا يؤخذ به في أمر غيبي، فالإسراء كان يقظة بجسد النبي صلى الله عليه وسلم وروحه، وإنما حدث مرة واحدة. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين: مرة قبل الوحي ومرة بعده، ومنهم من قال: بل ثلاث مرات مرة قبل الوحي ومرتين بعده، وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة للتوفيق! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين. ذكره ابن عبد البر. قال الشيخ شمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً! وكيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلوات خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها إلى خمس؟! وقد غلَّط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند منه ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص، ولم يسرد الحديث، فأجاد رحمه الله. انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله].

ذكر حديث الإسراء والمعراج

ذكر حديث الإسراء والمعراج قال رحمه الله تعالى: [وكان من حديث الإسراء: (أنه صلى الله عليه وسلم أسري بجسده في اليقظة على الصحيح من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، راكباً على البراق صحبة جبرائيل عليه السلام، فنزل هناك وصلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد، وقد قيل: إنه نزل ببيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك البتة، ثم عرج به من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبرائيل ففتح له، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه فرحب به ورد عليه السلام وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية فاستفتح فاستفتح له، فرأى فيها يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم فلقيهما فسلم عليهما فردا عليه السلام، ورحبا به وأقرا بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف فسلم عليه، فرد عليه السلام ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس فسلم عليه، ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء السادسة فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج به إلى السماء السابعة فلقي فيها إبراهيم فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر على موسى فقال: بم أمرت؟ قال: بخمسين صلاة، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك فأشار أن: نعم إن شئت، فعلا به جبرائيل حتى أتى به الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه) هذا لفظ البخاري في صحيحه، وفي بعض الطرق: (فوضع عنه عشراً، ثم نزل حتى مر بموسى فأخبره فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي)]. هذه الأحوال في جملتها واردة في أحاديث صحيحة، فقد حاول الشارح رحمه الله أن يسرد ما صح من قصة الإسراء والمعراج، وترك ما جاء في بعض الروايات الضعيفة، لا سيما أن الوضع حول الإسراء والمعراج كثير جداً، حتى إن بعضهم قد يوصل حكايات الإسراء والمعراج التي لم تثبت إلى مجلد أو أكثر، أما ما ثبت فهو القليل، وما ذكره هنا مما صح.

المراد بالرؤية في سورة النجم

المراد بالرؤية في سورة النجم قال رحمه الله تعالى: [وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه ولم يره بعين رأسه]. هذا في المعراج. قال رحمه الله تعالى: [وقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المرئي جبرائيل، رآه مرتين على صورته التي خلق عليها. وأما قوله تعالى في سورة النجم: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبرائيل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما، فإنه قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:5 - 8]. فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء فذلك صريح في أنه دنو الرب تعالى وتدليه]. هذا ورد في البخاري، لكنه من حديث شريك؛ وما زال يعد هذا من مشكلات النصوص ومن مشكلات الآثار، لكنه ينبغي أن يؤخذ بالقبول في الجملة ما دام ورد تصريحاً، وأهل الحديث الذين هم أعلم منا بالرواية والدراية قبلوا ذلك، فالأولى ألا يتكلم فيه، بل يؤخذ بالتسليم، والله أعلم. قال رحمه الله تعالى: [وأما الذي في سورة النجم أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى؛ فهذا هو جبرائيل، رآه مرتين: مرة في الأرض ومرة عند سدرة المنتهى].

دليل كون الإسراء بالجسد في اليقظة

دليل كون الإسراء بالجسد في اليقظة قال رحمه الله تعالى: [ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]، والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان اسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق وهو الصحيح، فيكون الإسراء بهذا المجموع ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة، وهو كفر]. هناك أدلة أخرى أيضاً معلومة بالضرورة، وكل عقل سليم يسلم بها، ومنها أنه لو كان الإسراء والمعراج في المنام لما كان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، هذا من ناحية. ولما أنكره المشركون من ناحية ثانية؛ لأنه لو قال رأيت في المنام أني فعلت وفعلت ما أنكروا عليه هذا؛ لأنه من باب الرؤى والأحلام، فلما كان الإسراء والمعراج بالجسم اشتد نكير المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا برسوله، ولا يسلمون ولا يصدقون. ثم إن الإسراء لو كان بالروح ما احتاج إلى براق، أما المعراج فالصحيح أنه لم يكن بالبراق. وسائر مشاهد الإسراء التي حدثت للنبي صلى الله عليه وسلم يدل سياقها على أنها بالجسد والروح، ولو كانت بالروح فقط لما كان لها اعتبار، ولما كانت إعجازاً ولا حجة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولما كانت فاصلاً بين المؤمنين والكافرين، ولما استعمل المشركون ما استعملوه من تهكم واستهزاء، ولو كانت مناماً لما احتيج إلى أن يسمى أبو بكر بـ الصديق؛ لأن الحلم يصدق به جميع الناس، فمن قال: أني رأيت البارحة أني فعلت وفعلت، لا يستطيع أحد أن ينكر عليه أنه رأى؛ لكن نظراً لأن الإسراء والمعراج كانا حقيقة بالجسد والروح صارت لهما هذه اللوازم ضرورية، والله أعلم.

الحكمة من تقديم الإسراء إلى بيت المقدس

الحكمة من تقديم الإسراء إلى بيت المقدس قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء إلى بيت المقدس أولاً؟ فالجواب والله أعلم: أنه كان ذلك إظهاراً لصدق دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس، فنعته لهم وأخبرهم عن عيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن إطلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس فأخبرهم بنعته]. مما ينبغي أن يعلم أن الإيمان بمثل هذه الأمور الغيبية لا يتوقف على معرفة الحكمة، فالإيمان بجميع مسائل الغيب -ومن ذلك الإسراء والمعراج وما حدث فيهما من مشاهد وأحداث- لا يتوقف على معرفة الحكمة أبداً؛ فالإسراء والمعراج هذا أمر حدث وكان على سبيل الإعجاز والإكرام للنبي صلى الله عليه وسلم ولهذه الأمة، فلا داعي لأن نقول: لماذا ذهب إلى بيت المقدس؟ ولماذا مر على السماوات السبع على هذا النحو؟ ولماذا تردد بين موسى وربه؟ إلى غير ذلك من الأمور التي هي من باب الترف العلمي الذي لا ينبغي أن يسلكه المؤمن، بل أحياناً تكون من باب ما نهى الله عنه من السؤال، فالتباس الحكمة في هذه الأمور لا يتوقف عليه شيء.

دلالة المعراج على ثبوت صفة العلو لله جل جلاله

دلالة المعراج على ثبوت صفة العلو لله جل جلاله قال رحمه الله تعالى: [وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى من وجوه لمن تدبره، وبالله التوفيق]. من هذه الوجوه: أن هذا التفصيل الذي حدث، وهو كون النبي صلى الله عليه وسلم يعرج به إلى السماء وينتقل من سماء إلى سماء، فيكون في سماء الدنيا، ثم في الثانية وهي فوقها، ثم في الثالثة وهي فوقها، ثم في الرابعة ثم الخامسة ثم السادسة إلى السابعة، ثم إلى سدرة المنتهى، ثم عند ذلك قربه من ربه عز وجل، هذا كله دليل على العلو الذاتي لله سبحانه، ثم ما ورد من عبارات صحيحة عن المعراج، وهي كون النبي صلى الله عليه وسلم صعد، وأنه في صعود إلى ربه، فدل هذا بالضرورة على علو الله عز وجل بذاته، وكذلك القرب، وقد ورد في نصوص صحيحة، فهو دليل على علو الله عز وجل الذاتي، وكذلك ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم تردد بين الله عز وجل وبين موسى، فهذا التردد دليل على العلو الذاتي لله عز وجل، وغير ذلك مما هو معلوم في قصة الإسراء ويعد ضرورة في إثبات العلو، وكل ذلك من الأمور التي ترد التأويل في العلو؛ لأن الجهمية أنكروا العلو مطلقاً ووصفوه بمعان أخرى، وكذلك تبعتهم المعتزلة، ثم جاء أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية ومن نحا نحوهم فأنكروا العلو الذاتي لله سبحانه، ومن هنا اضطروا لتأويل الاستواء واضطروا لتأويل النزول واضطروا لتأويل المجيء كما يليق بجلال الله عز وجل، واضطروا إلى لوازم أخرى كثيرة من إنكار أفعال الله عز وجل وتأويلها، وإنكار صفات الله الذاتية وتأويلها، فكثير من ذلك إنما حدث بسبب إنكار العلو والاستواء، ولذلك عد كثير من أهل العلم إنكار الاستواء هو أول بدع الجهمية، وأنه مفتاح التأويل والتعطيل، ومن أنكر الاستواء سهل عليه أن ينكر غيره، وكذلك لوازم الاستواء. والمتكلمون يقولون: إن العلو هو العلو المعنوي، مع أن العلو المعنوي بدهي لا يحتاج إلى مثل هذه النصوص، إنما العلو الحسي الذي ربما تحار فيه العقول، وهو الذي يحتاج إلى تقرير على نحو إثبات الاستواء وإثبات الفوقية لله سبحانه، وإثبات أفعال الله عز وجل التي لها اقتران بالعلو، كالاستواء والنزول ونحو ذلك؛ فإنها دالة دلالة قاطعة على العلو الذاتي لله على ما يليق بجلاله سبحانه من غير توهم صورة ولا توهم التشبيه والتمثيل، فالله سبحانه يثبت له الكمال المطلق من كل وجه على ما يليق بجلاله دون أن يرتبط بذلك ما في الأذهان في عالم الشهادة وفي واقع المخلوقات.

ذكر الحوض وذكر بعض الأحاديث المتواترة على إثباته

ذكر الحوض وذكر بعض الأحاديث المتواترة على إثباته

ذكر أحاديث أنس رضي الله عنه في إثبات الحوض

ذكر أحاديث أنس رضي الله عنه في إثبات الحوض قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته حق): الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابياً رضي الله عنهم، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير تغمده الله برحمته في آخر تاريخه الكبير المسمى بالبداية والنهاية، فمنها: ما رواه البخاري رحمه الله تعالى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء)]. الحوض حوض حسي بأوصافه التي ذكرت، وهناك من أنكر الحوض، لكنهم قلة من شذاذ الجهمية وبعض المعتزلة وبعض الزنادقة، فالذين أنكروا الحوض شذاذ؛ إذ كثير من الفرق يثبتون الحوض. قال رحمه الله تعالى: [وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليردن علي ناس من أصحابي الحوض، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصيحابي. فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك) ورواه مسلم]. واختلف في معنى هذا الحديث اختلافاً كثيراً؛ لأن الرافضة اتخذته ذريعة للقول بتكفير الصحابة، وزعمت أن هذا يعني ردة الصحابة وكفرهم، وقد كذبوا؛ فإن الحديث عند أهل العلم محمول على أن هذا ينصرف إلى أهل الردة الذين كانوا دانوا بالإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مات رجعوا عن الإسلام، وكثير منهم مات مرتداً، فينطبق الحديث على طوائف منهم. ومنهم من قال بأن الحديث ينطبق على طوائف من الأمة بعد الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الصحابة لم يحدثوا بالأهواء والافتراق، وأن كلمة (أصيحابي) لا تعني الصحبة بمصطلحها المعهود، إنما تعني التبعية والإيمان به، وبعضهم قال: إن هذا يقع في طائفة من الأمة يطردون من ورود الحوض، لكنهم لا يطردون من الجنة؛ فيعني ذلك أنهم لا يطردون من الجنة وإنما يطردون من ورود الحوض فقط لأفعال فعلوها اقتضت ذلك، وغير ذلك مما قاله أهل العلم، وهو بعيد كل البعد عما ذكره الرافضة وغيرهم، لا سيما أن عدالة الصحابة، وأنهم من أهل الجنة بالجملة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي وهو عنهم راض مما اتفق عليه سلف الأمة، وليس محل إشكال. ثم إن هذا الحديث لم يفهمه أهل العلم على ما قالت الرافضة من أنه يعم الصحابة، إنما كان في أناس قد يكونون من المنافقين الذين كانوا يتظاهرون باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكونون ممن خالفوا في بعض الأمور أو أذنبوا ذنوباً أدت إلى حرمانهم من الحوض دون أن يدخلوا الجنة، وقد يكونون من هذه الأمة ولا يلزم أن يكونوا ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم في وقته، إلى آخر ما ذكره أهل العلم في ذلك. قال رحمه الله تعالى: [وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة، فرفع رأسه متبسماً إما قال لهم وإما قالوا له: لم ضحكت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه أنزلت عين آنفاً سورة فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] حتى ختمها، ثم قال: وهل تدرون ما الكوثر؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم فأقول: يا رب! إنه من أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك)]. هذا فيه دليل على التفسير الذي فسر به بعض السلف الحديث السابق وأمثاله، وهو أن المقصود أصحابه من أمته؛ لأن كل أمة النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب له، وأنه ليس المقصود الصحابة بالضرورة. قال رحمه الله تعالى: [ورواه مسلم ولفظه: (هو نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة) والباقي مثله. ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض، والحوض في العرصات قبل الصراط؛ لأنه يختلج عنه ويمنع منه أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط]. هذا التفسير قد عارضه بعض أهل العلم، أي: استنتاج أن الحوض في العرصات قبل الصراط، وقالوا: إن الاختلاج عن الحوض والردة على الأعقاب لا تعني الردة عن الإسلام جملة، إنما تعني الإحداث في الدين أو ارتكاب بعض الذنوب مما اقتضى حرمانهم من الحوض، ولا يلزم بالضرورة أن يكون المرء منهم من أهل النار أو ألا يكون من أهل الجنة، وهذا ليس فيه دلالة على أن الحوض قبل الصراط، بل قالوا: إن الحوض بعد الصراط، وإن كان الذين تجاوزوا الصراط كلهم من الناجين، فإن نجاتهم لا تعني أنهم بالضرورة يردون الحوض، فقد يكونون من أهل الجنة وينجون من الصراط، لكنهم يمنعون من الشرب من الحوض لأسباب أخرى، والله أعلم. وهناك كلام في هل الحوض يورد مرتين: مرة في المحشر ومرة بعد الصراط؟ أم أنه حوض واحد ويكون بعد الصراط أو قبل الصراط؟ وكل هذا ليس فيه

ذكر حديث جندب بن عبد الله وسهل بن سعد رضي الله عنهما في إثبات الحوض

ذكر حديث جندب بن عبد الله وسهل بن سعد رضي الله عنهما في إثبات الحوض قال رحمه الله تعالى: [وروى البخاري ومسلم عن جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا فرطكم على الحوض) والفرط: الذي يسبق إلى الماء. وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم). قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدثهم هذا فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم، فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها: (فأقول: إنهم من أمتي. فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي) سحقاً: أي بعداً].

صفة الحوض ومكان وروده

صفة الحوض ومكان وروده قال رحمه الله تعالى: [والذي يتلخص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض: أنه حوض عظيم ومورد كريم يمد من شراب الجنة من نهر الكوثر الذي هو أشد بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك، وهو في غاية الاتساع عرضه وطوله، سواء كل زاوية من زواياه مسيرة شهر، وفي بعض الأحاديث: أنه كلما شرب منه وهو في زيادة واتساع، وأنه ينبت في حال من المسك والرضراض من اللؤلؤ قضبان الذهب، ويثمر ألوان الجواهر، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء، وقد ورد في أحاديث: إن لكل نبي حوضاً، وإن حوض نبينا صلى الله عليه وسلم أعظمها وأجلها وأكثرها وارداً، جعلنا الله منهم بفضله وكرمه. قال العلامة أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى في التذكرة: واختلف في الميزان والحوض: أيهما يكون قبل الآخر؟ فقيل: الميزان قبل، وقيل: الحوض. قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل. قال القرطبي: والمعنى يقتضيه، فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم كما تقدم، فيقدم قبل الميزان والصراط. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب (كشف علم الآخرة): حكى بعض السلف من أهل التصنيف أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله. قال القرطبي: هو كما قال، ثم قال القرطبي: ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض، بل في الأرض المبدلة، أرض بيضاء كالفضة لم يسفك فيها دم ولم يظلم على ظهرها أحد قط، تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء. انتهى. فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض، وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر]. نسأل الله أن يجعلنا جميعاً ممن يرد حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم.

شرح العقيدة الطحاوية [48]

شرح العقيدة الطحاوية [48] الشفاعة ثابتة بالكتاب والسنة، وقد تواترت فيها الأدلة، وهي أنواع، منها الشفاعة العظمى الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة في أهل المحشر لفصل القضاء، ومنها الشفاعة في أهل المعاصي ألا يدخلوا النار، والشفاعة فيمن تساوت حسناتهم وسيئاتهم، والشفاعة لرفع درجات أهل الجنة، وفي تخفيف العذاب عن بعض أهل النار، والشفاعة في أهل الكبائر وغير ذلك مما ورد في النصوص الصحيحة الصريحة، وهناك شفاعات غير جائزة في الدنيا، كسؤال الله تعالى بجاه النبي، أو بحقه أو بحق غيره، وكذلك التوسل به أو بغيره من الأمور التي لا تجوز في الدعاء أبداً.

الشفاعة

الشفاعة قال رحمه الله تعالى: [والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار]. الشفاعة أنواع: منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع. النوع الأول: الشفاعة الأولى، وهي العظمى، الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. وقد جاءت أحاديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فدفع إليه منها الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه؟ ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح! أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى: فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، قال: هكذا هو، وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنبا، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتوني، فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ذنبك ما تقدم منه وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم، فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فأقول: يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، فيقول: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى) أخرجاه في الصحيحين بمعناه، واللفظ للإمام أحمد. والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه أنهم لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصور، فإنه المقصود في هذا المقام، ومقتضى سياق أول الحديث، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا إلى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار. وكان مقصود السلف - في الاقتصار على هذا المقدار من الحديث - هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم، فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث. وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله، لكن من مضمونه: (أنهم يأتون آدم ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون رسول الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفحص، فيقول الله: ما شأنك؟ وهو أعلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني، في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه وتعالى

بيان معنى الشفاعة

بيان معنى الشفاعة الكلام عن الشفاعة يحتاج إلى شيء من التقعيد والعنصرة، وسأشير إلى بعض ذلك. فأما ما يتعلق بتعريف الشفاعة فإنا نحتاج إلى شيء من ذكر معاني الشفاعة اللغوية لكي يتحدد المعنى الشرعي بشكل أدق. فالشفاعة في اللغة: من الشفع، وأحياناً يقال: الشفع، وهو ضد الوتر، والشفع هو الزوج من العدد أو من الأشياء، فالواحد وتر وما انضاف إليه يعد شفعاً، ومن معاني الشفاعة: الزيادة والانضمام والإضافة والاقتران والمعاونة والمساعدة. والشافع هو المعين، والمُشفِّع هو الآذن بالشفاعة، أو الذي يطلب منه الشافع الحاجة، أو ما يشفع به، والمُشَفَّع هو الذي يؤذن له بأن يشفع أو تطلب منه الشفاعة، بمعنى أن يشفع عند غيره، وكذلك الذي يؤذن له بالشفاعة، أما المشَفَّع فهو الآذن الذي تطلب منه الحاجة التي هي موضوع الشفاعة.

أنواع الشفاعة

أنواع الشفاعة والشفاعة من حيث تفصيلاتها أنواع كثيرة، فهي من حيث الحكم مثبتة ومنفية، ومن حيث الزمان شفاعة دنيوية وشفاعة أخروية، فلها تفصيلات كثيرة سأتحدث عنها بعد قليل.

أنواع الشفاعة من حيث الإثبات والنفي

أنواع الشفاعة من حيث الإثبات والنفي أما من حيث الحكم فهي مثبتة ومنفية، والمقصود بذلك ما يحدث من الشفاعات، وإلا فالشفاعة الشرعية التي ورد بها الشرع كلها مثبتة، بمعنى أنها مقبولة إذا توافرت شروطها، والشفاعة المعنية في الكتاب والسنة هي الشفاعة التي توافرت شروطها، وهي المثبتة، وهي التي تكون يوم القيامة لمن يأذن الله لهم، وتكون لمن يرضى بأن تكون لهم الشفاعة، كما سيأتي تفصيله. أما الشفاعة المنفية فهي المردودة، وهي الشفاعات البدعية التي يفعلها الكفار والمشركون وأهل البدع، لكنها لا تنطبق عليها الشروط الشرعية، كالاستشفاع بالحي فيما يتعلق بمصير الإنسان يوم القيامة، فإن الأحياء لا يستطيعون أن يشفعوا في الحياة الدنيا فيما يتعلق بمصير الإنسان يوم القيامة، إنما تكون يوم القيامة لمن يأذن الله له. ومن الشفاعات الممنوعة المردودة الاستشفاع بالأموات فيما يتعلق بمصائر العباد يوم القيامة، ونحو ذلك مما سيأتي ذكر شيء من أصنافه.

أنواع الشفاعة من حيث الجواز والمنع في الدنيا والآخرة

أنواع الشفاعة من حيث الجواز والمنع في الدنيا والآخرة أما من حيث أحكامها في الدنيا والآخرة؛ فللشفاعات في الدنيا أحكام، وللشفاعات في الآخرة أحكام. أما الشفاعات في الدنيا فمنها ما هو جائز ومنها ما هو ممنوع. فأما الجائز منها فأوله ما يتعلق بشفاعة الناس في دنياهم فيما يتعلق بنفع بعضهم لبعض بما يقدرون عليه، ومنه ما يسمى عند الناس بالوساطة، فهذا أمر جائز إذا لم يكن فيه ظلم ولا تجاوز لحدود الشرع، ولا تحريم حلال ولا تحليل حرام، فإذا وافق الشرع فهو جائز، بل إنه من أبواب الحسبة، ومن الأمور التي يلتمس فيها الأجر من الله عز وجل؛ لأنها نفع للناس ونفع الناس من أعظم أبواب الخير. وهذه المسألة تسمى شفاعة تجوزاً، ولا تدخل في الشفاعة الشرعية المعنية بالكتاب والسنة، فليست من الشفاعة الدينية التي تتعلق بمصائر العباد يوم القيامة، أو بأمورهم الغيبية. أما الشفاعة الشرعية المتعلقة بمصائر العباد فإن منها ما هو جائز، ومن صوره الاستشفاع بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة، وهذا يدخل في التوسل، فهو إلى معنى التوسل أقرب، لكن تجوز بعض أهل العلم في تسميته شفاعة، كما أن أهل الأهواء سموه شفاعة وأدخلوا فيه شفاعة الآخرة، بمعنى أنهم خلطوا بين الشفاعة الجائزة في الدنيا وتوسعوا فيها حتى أدخلوا فيها الشفاعات الممنوعة في الدنيا والممنوعة في الآخرة، فمن هنا سمي هذا النوع من التوسل شفاعة، أي: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحياة، والمقصود به التوسل بدعائه، وقد يسمي بعض الناس التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم توسلاً أو شفاعة، وهذا فيه تجوز، وفيه أيضاً خروج عن الحد الشرعي لمعنى الشفاعة ومعنى التوسل، وفرق بين التوسل والتبرك، فبينهما وجوه اقتران ووجوه اختلاف، لكن التبرك بمعناه الواسع الذي يفهم عند الناس الآن يدخل فيه كثير من الصور التي تعمل اليوم، وأما التبرك الشرعي فأكثر الصور التي تعمل الآن لا تدخل فيه، فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يجوز الاستشفاع به في حياته، بمعنى: طلب الدعاء منه، وهذا حدث كثيراً من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك دعاؤه للأعمى، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم لكثير من الصحابة، ودعاؤه لأمته، ودعاؤه لأصناف من الخلق. ومسألة التبرك سيأتي الكلام عنها، وبمناسبتها نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم يشرع التبرك بذاته وبأشيائه المباشرة في حياته، لكن بعد مماته لا يجوز التبرك بما انقطع من آثاره، وآثاره كلها انقطعت. الصورة الثانية من الشفاعات الشرعية الجائزة في الدنيا: الاستشفاع بدعاء الرجل الصالح أو نحوه، بمعنى أنه يجوز أن تقول لغيرك: ادع الله لي، لكن بشرط ألا يكون ذلك على جهة الاعتماد على دعائه، وأن يكون لمناسبة، بمعنى أن لا يكثر منه الإنسان، فإذا أكثر منه اتكل على غير الله، وترك السبب المباشر، وهو اتخاذ الوسيلة إلى الله عز وجل بعبادته ودعائه التي هي أوجب الواجبات على كل أحد، لكن إذا جاء لذلك مناسبة فإنه يشرع للإنسان أن يطلب من غيره من الصالحين ومن المؤمنين ومن المسلمين أن يدعوا له إذا اقتضى الحال ذلك، كأن يكون المقام مقام ضرورة، أو لمكان فاضل أو لزمان فاضل أو نحو ذلك. ومن صوره التي هي أعم من ذلك كله الاستشفاع بالحي فيما يقدر عليه، وبعض هذه الأمور تدخل في باب الشفاعة، وبعضها يدخل في باب الوسيلة أو التوسل، وبعضها يدخل في باب الحوائج العادية التي ليست من أمور العبادة. وعلى هذا فالاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته انقطع، والاستشفاع بالمسلمين وبالمؤمنين وبالرجال الصالحين بعد وفاتهم -أو فيما لا يقدرون عليه- ممنوع، وكذلك الاستشفاع بأي أحد من الخلق حياً أو ميتاً فيما لا يقدر عليه، فهو من الشفاعة الممنوعة. ويدخل في الشفاعات الممنوعة في الدنيا الاستشفاع بالأحجار والأشجار وغيرها، فإنها لا تشفع في الدنيا ولا في الآخرة، حتى الذين يعلقون الاستشفاع بهذه الأشياء على الآخرة -بمعنى أنهم يقولون: نستشفع بها الآن لتشفع لنا يوم القيامة- فإنهم بذلك يقعون في الشرك. أما الشفاعة في الآخرة فإن منها الجائز، ومنها الممنوع. أما الشفاعة الجائزة فهي التي تتوافر شروطها كما ورد في كتب أهل السنة، وهي: أولاً: أن تكون الشفاعة عند الله عز وجل، وهو سبحانه الذي يشفع عنده الشافعون. ثانياً: أن تكون الشفاعة بعد إذن الله عز وجل، كما قال عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]. ثالثاً: رضا الله عز وجل عن الشافع وعن المشفوع له، وعلى هذا فالكافر لا يشفع؛ لأن من لا يرضى الله عنه لا يشفع، وكذلك الكافر لا يُشفع له ولا يأذن الله بالشفاعة له؛ لأن الله عز وجل بعدما وصف الكافرين بصفاتهم الرئيسة، وهي أنهم لا يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة ولا يؤمنون باليوم الآخر؛ قال سبحانه: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، والمقصود أن الشافعين الذين تتوهم شفاعتهم لا يشفعون لهم، وكذلك الذين رضي الله عنهم لا تنفع شفاعتهم لهؤلاء الكافرين، ولذلك ل

أنواع الشفاعة من حيث الإطلاق والتقييد

أنواع الشفاعة من حيث الإطلاق والتقييد وأما الشفاعة من حيث الأنواع فمنها ما هو مطلق ومنها ما هو مقيد: فالشفاعة المطلقة هي ما ثبت من أن جميع الأنبياء، وكذلك طوائف من المؤمنين، وكذلك جميع الرسل والملائكة يشفعون لطوائف من أهل التوحيد غير مسمين، ولا يعرف أحد منهم بعينه. والشفاعة المقيدة منها ما قيد بالنوع ومنها ما قيد بالشخص، أما الشفاعة المقيدة بالنوع فشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وأما الشفاعة المقيدة بالأشخاص فإنا لا نعرف منها إلا ما ورد من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب بأن يخفف عنه من العذاب. وكذلك بالنسبة للشافعين، فمنهم شفعاء غير معينين، ومنهم شفعاء معينون بوصف، فمثلاً: ورد أن الأنبياء جميعاً يشفعون وأن الرسل يشفعون وأن الملائكة يشفعون دون تحديد لأحد بعينه، وورد أن المؤمنين يشفعون دون أن يحدد أحد منهم بعينه، لكن ورد في بعض النصوص أن طائفة من المؤمنين لهم شفاعة خاصة، وكذلك ورد أن نوعاً من أبناء المسلمين يشفعون، وهم الأطفال الذين يموتون قبل سن البلوغ إذا احتسبهم أهلهم، فإنهم يشفعون، كذلك وردت بعض الشفاعات المقيدة المخصصة مثل شفاعة القرآن، وشفاعة الصيام، ونحو ذلك من الشفاعات التي لا يجوز إثباتها إلا لمن ثبتت له أو لما ثبتت له، أما ما يدعيه أهل الأهواء وأهل البدع من إطلاق الشفاعة وصرفها لمن يهوون فهذا باطل، وأكثره يدخل في أنواع الشرك، فما كان منه صرفاً للدعاء لغير الله عز وجل وطلب النفع من غيره فهو شرك، وما كان منه يدخل في التبرك فهو على درجات، وما كان منه يدخل في التوسل فهو على درجات، منه ما هو شرك، ومنه ما هو بدعة مغلظة، ومنه ما هو دون ذلك، والله أعلم.

حكم الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به وبغيره

حكم الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوسل به وبغيره

حكم الاستشفاع بلفظ (بحق نبيك)

حكم الاستشفاع بلفظ (بحق نبيك) قال رحمه الله تعالى: [وأما الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره في الدنيا إلى الله تعالى في الدعاء؛ ففيه تفصيل: فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيك، أو بحق فلان، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته، فهذا محذور من وجهين]. الشارح هنا ذكر صورة من صور الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره، وكأنه أراد أن تكون هذه الصورة وما يشبهها أمثلة على قاعدة، وهي أن الاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بغيره قد يقصد به الاستشفاع بذاته، فإذا كان باعتبار ذاته وسيطة عند الله عز وجل؛ فهذا لا شك أنه باطل، وإذا كان المقصود به اعتبار ذاته المباركة، فيكون استشفاعاً من باب التبرك، فهذا جائز في حياته صلى الله عليه وسلم، وإن كان المقصود بالاستشفاع به الاستشفاع بدعائه وهو حي فهذا حق وجائز، وكذلك غير النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يستشفع بذاته تبركاً، فلا يتبرك بذات غير النبي صلى الله عليه وسلم، إنما يتبرك بدعائه بمعنى أن يطلب منه الدعاء فقط. قال رحمه الله تعالى: [أحدهما: أنه أقسم بغير الله]. هذا إذا كان المقصود القسم، والغالب على أذهان الناس في مثل هذا الإطلاق أن يُقصَد به الإقسام أو الحلف بحق نبيه، لكن قد يراد بكلمة (بحق نبيك) مجرد الاستشفاع بدون إقسام، بحيث لا تكون الباء باء القسم، بل تكون باء السببية، لكن الشارح غلب المدلول اللغوي العام عند الناس لمثل هذه الألفاظ، وهو أنه يقصد به الحلف. قال رحمه الله تعالى: [والثاني: اعتقاده أن لأحد على الله حقاً، ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد على الله حق، إلا ما أحقه على نفسه، كقوله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وكذلك ما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ رضي الله عنه وهو رديفه: (يا معاذ! أتدري ما حق الله على عباده؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم)، فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به ولا أن يسأل بسببه ويتوسل به؛ لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً]. وعلى هذا يكون قول القائل: (بحق نبيك) أو (بحق فلان من الصالحين أو غيرهم) فيه نوع من الاعتداء في الدعاء من جانب، كما أنه من التوسل البدعي من جانب آخر. أما أنه اعتداء في الدعاء فلأنه سأل غير حقه، أما الأمر الثاني فلأن حق الشخص المسئول بحقه كائن له؛ لأن الله عز وجل ضمن حقوق العباد، والله عز وجل ضمن إجابة الدعاء إذا انتفت الموانع؛ ولأن الله سبحانه وتعالى جعل لكل إنسان عمله، فحق الغير له، فلا يجوز لأحد من الناس أن يسأل الله بحق غيره، لا سيما أن الله عز وجل وعده بأن يفي له بحقه، فالمشروع لكل إنسان أن يسأل بحقه هو، بأن الله وعد السائلين، وهذا الذي يدعوه هو من السائلين، ولأن الله عز وجل جعل حقوق العباد لا تتعداهم، فكل إنسان له عمله وعليه وزره. فالسؤال بحق الآخرين سوء أدب مع الله عز وجل واعتداء في الدعاء وظلم للآخرين؛ لأن الذي يسأل بحق الغير لم يعرف حقيقة ما وعد الله به العباد، ثم إنه لم يقدر الله حق قدره، ثم إنه اعتدى على حقوق غيره الذين جعلت حقوقهم لهم. إذاً: لا يجوز، بل لا يشرع، بل من البدعة -وربما يصل إلى الشرك- أن يسأل الإنسان حق غيره أو بحق غيره، أو يعلق إيمانه ورجاءه وطمعه بحق غيره.

توجيه الحديث الوارد بسؤال العبد ربه بحق ممشاه وحق السائلين عليه

توجيه الحديث الوارد بسؤال العبد ربه بحق ممشاه وحق السائلين عليه قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الماشي إلى الصلاة: (أسألك بحق ممشاي هذا وبحق السائلين عليك)، فهذا حق السائلين، هو أوجبه على نفسه، فهو الذي أحق للسائلين أن يجيبهم وللعابدين أن يثيبهم، ولقد أحسن القائل: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فإن قيل: فأي فرق بين قول الداعي: (بحق السائلين عليك) وبين قوله: (بحق نبيك) أو نحو ذلك؟ ف A أن معنى قوله: بحق السائلين عليك: أنك وعدت السائلين بالإجابة، وأنا من جملة السائلين، فأجب دعائي]. هذه العبارة هي تعليل لجواز مثل هذا الدعاء حتى ولو لم يثبت النص، فالحديث الذي أورده ضعفه الكثير من أهل العلم، وعلى هذا لا يعد الاستدلال به على سبيل الجزم والقطع، إنما يستأنس به، ولكن إذا رجعنا إلى قواعد الشرع في مسألة الدعاء والتوسل والشفاعة وجدنا أن الإنسان إذا سأل ربه بحق السائلين على اعتبار أنه هو من السائلين، وأنه سأل ربه فعلاً؛ يكون هذا التوسل مشروعاً؛ لأنه تعلق بالوسيلة التي شرعها الله، وهي الدعاء لله عز وجل وما وعد الله به الداعي. فالسؤال بحق السائلين قد يجوز، لكن فيه نوع التواء؛ لأن الإنسان يجب أن يثق بوعد ربه عز وجل، وإذا عمل عملاً صالحاً فإنها وسيلة إلى الله، فعليه أن يدعوه بالأدعية المأثورة، والله عز وجل علام الغيوب، يعرف أن هذا الإنسان له رصيد من الطاعات وله رصيد من فعل الخير، فلا ينبغي للإنسان أن يتكلف في الدعاء بحيث يتعلق بمثل هذه العبارة (بحق السائلين)، هذا إذا كانت ما ثبتت شرعاً، أما إذا ثبتت فلا بد من قبولها، لكن يظهر -والله أعلم- أنها لم تثبت أو أنها ضعيفة، وعلى هذا فتكون جائزة، لكن الأولى أن الإنسان ينصرف إلى الأساليب الواضحة في الدعاء وإلى الأدعية المأثورة. قال رحمه الله تعالى: [بخلاف قوله: (بحق فلان)، فإن فلاناً وإن كان له حق على الله بوعده الصادق؛ فلا مناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل، فكأنه يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعائي! وأي مناسبة في هذا وأي ملازمة؟!]. اعتبر هذا التوسل من الاعتداء في الدعاء؛ لأنه توسل بحق الغير، وكأنه ما وثق بوعد الله له، هذا من ناحية. والناحية الأخرى أن من يفعل هذا يجهل الأصل الشرعي المعلوم، وهو أن لكل إنسان عملاً، ولا أحد ينفع غيره. فهذا السؤال نوع من الاعتداء؛ لأنه اعتداء على حق الآخرين، وفيه نوع من عدم الثقة بالله عز وجل، وذلك كله اعتداء.

السؤال بحق الغير اعتداء في الدعاء وابتداع

السؤال بحق الغير اعتداء في الدعاء وابتداع قال رحمه الله تعالى: [وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء، وقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55]، وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة]. قوله هذا يقصد به ما ضربه مثلاً قبل، وهو (بحق فلان) أو (بحق النبي صلى الله عليه وسلم) أو نحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتب بها الجهال والطرقية، والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والاتباع لا على الهوى والابتداع]. العبادات بخلاف الأحكام، فالأحكام الأصل فيها السعة والأصل فيها الاجتهاد والإباحة، فأمور الحلال والحرام الأصل فيها الإباحة، لكن العبادات مبناها على التوقيف، أي: موقوفة على ما ورد في الشرع. فلا يأتي المبتدع ويقول: إن العبادات قربات، والله عز وجل أمرنا بالتقرب إليه بكل ما هو من القربات، فأنا سأصلي صلاة أخرى، أو سأقول من الدعاء ما شئت إلى آخره. نقول: لا، العبادات مبناها على التوحيد، أي: لا نعبد الله عز وجل إلا بما شرع. ولا يجوز التوسع في باب العبادات والأدعية في أصولها لا في ألفاظها، فالألفاظ إذا كانت صحيحة فهذا أمر آخر، لكن القصد في أصول الدعاء وفي العبادات لا يجوز الخروج عما ورد في الشرع.

امتناع الإقسام على الله تعالى بحق فلان في الدعاء والسؤال

امتناع الإقسام على الله تعالى بحق فلان في الدعاء والسؤال قال رحمه الله تعالى: [وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان فذلك محذور أيضاً؛ لأن الإقسام بالمخلوق على المخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو: بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام، ونحو ذلك، حتى كره أبو حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله لما بلغه الأثر فيه]. هذا الأثر ضعيف، لكن القصد أنه هنا سأل الله بواسطة أمر آخر، وهو معقد العز من العرش، وهذه العبارة أيضاً فيها غموض من حيث المقصود، فما المقصود بمعقد العز؟ هذا أمر اختلف فيه أهل العلم، فيبقى من الأمور المجهولة، فمثل هذه العبارات الغامضة لا ينبغي أن يعول عليها. الناحية الأخرى: أن فيه إشارة إلى تعليق الدعاء بسبب وسيط، وهذا مما لا ينبغي من الإنسان ولا يجوز.

حكم التوسل بالجاه

حكم التوسل بالجاه قال رحمه الله تعالى: [وتارة يقول: (بجاه فلان عندك)، أو يقول: (نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك) ومراده: لأن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا. وهذا أيضاً محذور؛ فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه]. السؤال بالجاه أعظم وأكبر ذرائع أهل البدع قديماً وحديثاً إلى الشرك والبدعيات، فتعلقهم بجاه الغير من أعظم الذرائع التي يتعلقون بها ويتذرعون بها إلى أفعالهم الشركية والبدعية، وذلك أنهم زعموا -كما زعم المشركون قديماً- أن عندهم من التقصير والذنوب ما يجعلهم لا يجرءون على أن يدعوا الله مباشرة، وهذه شبهة من شبه الشيطان، فزعموا أن هؤلاء الصالحين والأنبياء والملائكة لهم جاه عظيم، فجعلوا هذا الجاه هو الوسيلة أو الوسيط، وزعموا أنه يدخل في الوسيلة المشروعة، مع أنه هو الشرك بعينه، فالسؤال بجاه فلان معناه أنه يتخذ هذا الجاه وسيطاً بينه وبين ربه، والوسيط هو الشريك وهو الند، وهو الواسطة التي ادعاها المشركون، وعدهم الله بها من المشركين، بل عدهم الله من أعظم الناس شركاً. فالسؤال بالجاه هو تعلق بالغير، ولو لم يتعلق بشخصه، فالتعلق بالجاه كالتعلق بالشخص لا فرق بينهما، إلا أن التعلق بالجاه أكثر التباساً، فبعض أهل البدع قد لا يجرؤ على أن يجعل ذات فلان أو شخص فلان هو الوسيط بينه وبين ربه فيشرك به، إنما يجعل الجاه وسيطاً، والجاه أمر معنوي. وهذا أيضاً نوع من الشرك فيه غموض وفيه التباس، فلذلك صار أعظم ذرائع المشركين وأهل البدع الذين يدعون الإسلام في عصرنا هذا وقبله. قال رحمه الله تعالى: [وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره، فلما مات صلى الله عليه وسلم قال عمر رضي الله عنه لما خرجوا يستسقون: (اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا) معناه: بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك؛ إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي صلى الله عليه وسلم أعظم وأعظم من جاه العباس]. هذه الحجة حجة قوية وقاطعة، وتسد باب الاستدلال على أهل الأهواء الذين زعموا أن قصة استشفاع الصحابة بـ العباس دليل على جواز الاستشفاع بالذوات أو دعاء الذوات ودعاء الأشخاص من دون الله والتعلق بهم. وهذه الحجة التي ذكرها الشارح هي أن الصحابة لو كان مقصودهم الاستشفاع بذات العباس لكانت ذات النبي صلى الله عليه وسلم أقرب إليهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في ذاته قريب إليهم، فهو مدفون بين ظهرانيهم، ولذا لما اضطروا إلى الاستشفاع استشفعوا بـ العباس، ثم إنهم حينما استشفعوا عرفنا الصورة التي استشفعوا بها، فالصورة العملية التي استشفعوا بها عرفناها قطعاً من خلال الرواية الثابتة ومن خلال إجماع الصحابة على الفعل، وهي: أن الصحابة رضي الله عنهم طلبوا الدعاء من هؤلاء الأشخاص، ولا يقصدون التمسح بذوات هؤلاء الأشخاص كـ العباس أو غيره، إنما طلبوا الدعاء، وهذا أمر معلوم بالروايات القاطعة الدالة على أنهم حينما اجتمعوا دعوا الله وطلبوا من العباس أن يدعو وهم يؤمنون بعده. فهذه الصورة في الاستشفاع بالأحياء فيما يقدرون عليه، أو بدعائهم، وكل الصور التي وردت عن السلف -سواء في عهد الصحابة أو بعدهم- ترجع إلى هذه الصورة، لم يرد عن السلف من الصحابة ومن بعدهم أنهم استشفعوا بالذوات.

حكم التوسل والاستشفاع باتباع الرسول وتصديقه

حكم التوسل والاستشفاع باتباع الرسول وتصديقه قال رحمه الله تعالى: [وتارة يقول: باتباعي لرسولك ومحبتي له وإيماني به وبسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم، ونحو ذلك. فهذا من أحسن ما يكون من الدعاء والتوسل والاستشفاع]. الاستشفاع الذي هو اتخاذ الوسيلة عند الله عز وجل -بمعنى عبادته سبحانه- أعظم الواجبات، وهو الغاية من خلق الخلق، فعبادة الله عز وجل هي أعظم ما يستشفع به، بل هي الوسيلة التي ذكرها الله عز وجل، وهي توحيد الله وعبادة الله، وهي تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع شرعه، وهي الإيمان بمعناه الشرعي الصحيح الذي يشمل الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، هذه هي الوسيلة الصحيحة، وهي التي يستشفع بها ويتوسل بها إلى الله عز وجل.

صور من التوسل الجائز والتوسل الممنوع

صور من التوسل الجائز والتوسل الممنوع قال رحمه الله تعالى: [فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال، غلط بسببه من لم يفهم معناه، فإن أريد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً، وهذا في حياته يكون، أو لكون الداعي محباً له مطيعا لأمره مقتدياً به، وذلك أهل للمحبة والطاعة والاقتداء، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته، وإما بمحبة السائل واتباعه، ويراد به الإقسام به والتوسل بذاته، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه]. هنا ذكر ثلاث صور من الصور الكبرى للتوسل: الأولى: التوسل بدعاء الوسيلة وشفاعته يوم القيامة، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة الشافعين الذين يؤذن لهم. الصورة الثانية: التوسل إلى الله عز وجل بالعبادات المشروعة، وبالأمور الإيمانية، سواء كانت اعتقاداً أم عملاً، فهذه وسيلة مشروعة. فهنا وسيلتان: وسيلة لكل إنسان، وهي عبادة الله عز وجل، ووسيلة وعد الله بها يوم القيامة، وهي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي نوعان: شفاعته العظمى وتسمى الوسيلة، وكذلك شفاعته لأهل الكبائر، وهذا لا تطلب في الدنيا، ولا سبيل إلى معرفتها في الدنيا، إنما تكون يوم القيامة بشروطها. الصورة الثالثة: التوسل بمحبة السائل واتباعه، يعني: محبة السائل لنبيه صلى الله عليه وسلم وبإيمانه به، كأن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بحبي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو باتباعي له، فهذا توسل مشروع؛ لأنه توسل من الشخص بعمله. وهناك صورة من هذا النوع خفية لم يشر إليها الشارح، وهي أن بعض الناس قد يتوسل إلى الله عز وجل بتقديسه من يقدسه من المخلوقين، ويظن ذلك نوعاً من المحبة، كالذين يقدسون الأولياء أو الذين يقدسون الأئمة، أو الذين يقدسون الأشجار والأحجار، ويزعمون أن ذلك من أعظم الإيمان، فيتوسلون بذلك إلى الله زاعمين أن ذلك من الوسيلة، وهذا نوع من الشرك. الصورة الرابعة: الإقسام بالمتوسل به، فهو إقسام بغير الله عز وجل، وحلف بغير الله لا يجوز. أما التوسل بذاته فلا يجوز؛ لأن الذات لا تنفع، والإنسان لا ينفعك منه إلا دعاء الرجل الصالح؛ لأن الله عز وجل وعد بإجابة الدعوة حتى وإن كانت بالغيب، لذلك شرع للمسلم أن يدعو لغيره من المسلمين الغائبين والحاضرين الأحياء والأموات. فهذه من الوسائل المشروعة التي جعلها الله من المنافع العامة بين المسلمين وبين المؤمنين، فالمسلم يدعو لأخيه في ظهر الغيب، ويدعو لمن سلفه، فهذا أمر من الوسيلة المشروعة، لكن تسميته وسيلة لم تكن معتادة عند الناس، فربما يتعلق به وجه ممنوع، وهو الاعتماد على دعاء الغير. ونرى هذه السمة موجودة عند بعض الناس أو بعض الفرق والفئات، وهي أن كل من لقي منهم أحداً من المسلمين قال: ادع الله لي. فهذا قد خرج عن الحد الشرعي في طلب الدعاء من الغير بشروط وضوابط، حيث يؤدي ذلك إلى الاتكال. قوله: [والتوسل بذاته] أي: بذات الشخص، بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره. وقوله: [هو الذي كرهوه] يقصد أبا حنيفة وصاحبيه، وصحيح أن السلف حرموه وجعلوه من البدع المغلظة، بل من الشرك أحياناً، فالتوسل بالذوات لا يجوز؛ لأن الذوات لا تنفع. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك السؤال بالشيء، قد يراد به التسبب به؛ لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام به]. السؤال بالشيء الذي هو العمل الصالح أو نحوه ليس على إطلاقه، فهناك من الأشياء ما لا يجوز السؤال بها، فأمور الغيب هي أشياء، لكن لا يجوز أن تسأل الله بها. فقوله: [وكذلك السؤال بالشيء] أي: بالشيء الذي يعمله الناس، أو بالشيء الذي هو من عمل الإنسان نفسه. قال رحمه الله تعالى: [ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم فتوسلوا إلى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول: (فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون) فهؤلاء دعوا الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله ويتوجه به إليه ويسأله به؛ لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله].

الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر

الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر قال رحمه الله تعالى: [فالحاصل: أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر، فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعه في الطلب، بمعنى أنه صار به شفعاً فيه بعد أن كان وتراً]. يعني: انضم إليه وانضاف إليه. قال رحمه الله تعالى: [فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه، فبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب منه، والله تعالى وتر لا يشفعه أحد، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه، فلا شريك له بوجه، فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله: (ارفع رأسك، وقل يسمع، واسأل تعطه، واشفع تشفع)، فيحد له حداً فيدخلهم الجنة، فالأمر كله لله. كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154]، وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وقال تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54]، فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء، ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته، كما قال صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء). وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بني عبد مناف! لا أملك لكم من الله من شيء، يا صفية عمة رسول الله! لا أملك لكِ من الله من شيء، يا عباس عم رسول الله! لا أملك لك من الله من شيء)]. قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) هذه الشفاعة مخصصة تتعلق بأمور الخلق في دنياهم، أي: شفاعة بعضهم لبعض، ولا تدخل فيها الشفاعة عند الله عز وجل؛ لأن الأمر هنا بالتماس الأجر أمر تكليف، والشفاعة المعنية في الآخرة لا تكليف فيها، إنما تحدث بإذن الله عز وجل، وليس فيها طلب الأجر، ولا تحدث إلا ممن ذكرت أوصافهم. أما الأمر هنا: (اشفعوا تؤجروا) فهو أمر لكل مسلم، إذاً: فلا بد من أن تكون الشفاعة الواردة في هذا الحديث فيما يتعلق بأمور الناس في دنياهم، وفي مصالحهم، وفيما يقدرون عليه، أقول هذا لأن بعض المسلمين قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) يعم الصالحين والأولياء في قبورهم، وأنهم يتقربون بالشفاعة لمن جاء يستشفع بهم ويدعوهم عند القبور، وأنهم ممن أتيحت لهم الشفاعة وأذن لهم فيها، وأنهم بذلك ممتثلون لأمر الله عز وجل، وهذا خطأ شنيع في فهم النص؛ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا) يعني: في دنياكم، أما بعد الممات، أو فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذا أمر غير وارد، وليس هو من أبواب التكليف ولا مما يلتمس فيه الأجر. قال رحمه الله تعالى: [في الصحيح أيضاً: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو شاة لها يعار، أو رقاع تخفق، فيقول: أغثني أغثني، فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله من شيء)، فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء صلى الله عليه وسلم يقول لأخص الناس به: (لا أملك لكم من الله من شيء)؛ فما الظن بغيره؟! وإذا دعاه الداعي وشفع عنده الشفيع فسمع الدعاء وقبل الشفاعة؛ لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق؛ فإنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه، وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء].

الأسئلة

الأسئلة

بعض أنواع الشفاعة الممنوعة وتوجيه حديث إخراج قوم من النار لم يعملوا خيرا

بعض أنواع الشفاعة الممنوعة وتوجيه حديث إخراج قوم من النار لم يعملوا خيراً Q ذكرت في الكلام عن الشفاعة الدنيوية أنواعاً، منها ما يتعلق بالتوسل، ومنها ما يتعلق بالتبرك، ومنها ما يتعلق بالشفاعة، فنرجو توضيح ذلك؟ A الشفاعة في الدنيا تختلف مفاهيمها عند الناس، فمنهم من يدخل في الشفاعة في الدنيا التوسل بالأشخاص الأحياء والأموات ويعدها شفاعة مشروعة، أو يسميها شفاعة مع أنها لا تدخل في باب الشفاعة إلا تجوزاً. ومنهم من يدخل ما يتعلق بالتبرك، وهو التبرك بالأشخاص، فبعض الناس يقول: إنها التبرك بفلان من الناس. أي: طلب البركة منه والتمسح بذاته، بجسمه، والتعلق بأشيائه، كما يحصل من الصوفية المبتدعة الآن يتعلقون بكل ما يتصل بالأولياء وما فيهم وما حولهم، فيتبركون بثيابهم، وبأجسامهم، وبفضلاتهم، وبكل شيء، ويقولون: هذا تبرك، ويدخلونه في الوسيلة المشروعة، يزعمون أنه من باب الوسيلة التي أمر الله باتخاذها، وأيضاً يدخلونه في مسمى الشفاعة. ومما يتعلق بالشفاعة الشفاعة عند الله عز وجل، فالشفاعة عند الله عز وجل منها ما هو ممنوع، باتخاذ الوسائط، وكذلك الشفاعة يوم القيامة ممن لا يرضى الله عنهم ولا يرضى لهم الشفاعة. وأما حديث: (شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط)، فقد اختلف فيه أهل العلم، وليس هناك تفسير قاطع لمعنى هذا الحديث، فمنهم من قال: (لم يعملوا خيراً قط) بمعنى: أنهم ممن أسلموا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل. لكن هذا منقوض بأن هؤلاء يكونون من أهل الجنة ولا يدخلون النار؛ لأنهم ماتوا على توحيد الله، والإسلام يجب ما قبله. ومنهم من قال: إن المقصود به أن الله عز وجل يخرج من الناس بعثاً ليس لهم أعمال صالحة إطلاقاً. وهذا هو الراجح، وفيه إثبات أن الأمور بيد الله عز وجل، وأن العباد لا يحكمون على أحد معين بأنه في جنة أو نار، وهذا يستثنى من القواعد العامة التي فيها تحقيق الوعيد وتحقيق الوعد؛ لأن الله عز وجل فعال لما يريد، فمما سيفعله عز وجل هذا الأمر، وهو أنه يخرج من الناس بعثاً لم يعملوا خيراً قط، وذلك راجع إليه سبحانه.

ما ينبغي أن يعلمه الصبي من أصول العقيدة

ما ينبغي أن يعلمه الصبي من أصول العقيدة Q ما هي الأصول العقدية التي يمكن أن توصل إلى من كان في السن الخامسة والسادسة في عمره؟ A هذا سؤال جيد، فمن كان في مرحلة الطفولة إلى العاشرة ينبغي أن يعلم الأصول العامة للدين الإسلامي، فيعلم أركان الإسلام، ويفهمها تفهيماً فيه شيء من التفصيل، ويعلم أركان الإيمان ويفهمها تفهيماً فيه شيء من التفصيل بدون ذكر الخلافات، ويعلم أصول الاعتقاد العامة التي ليس فيها غموض ولا غرابة، ويقتصر فيها على ما هو واضح بالأدلة، أو مستقر في بداهة العقول، أما الجزئيات والتفريعات أو ما كانت أدلته غامضة أو معانيه غامضة؛ فينبغي أن يجتنب في تعليم الصغار. ثم إنه ينبغي ألا يكون تعليم الصغار على سبيل الامتحان والسؤال، فيجوز أن يكون من وسائل تعليم الصغار السؤال والجواب في غير العقيدة، إلا في الأمور الكبرى الواضحة، مثل: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ لكن الأمور الأخرى لا ينبغي أن تأتي على شكل سؤال، بل ينبغي أن يفهمها الطفل أولاً، ولذلك أرى أن من الأخطاء الشنيعة: سؤال الصغار بمثل: أين الله؟ أو عن الاستواء أو عن الرؤية، فلا ينبغي هذا حقيقة؛ لأن هذا فيه نوعاً من امتحانهم وإلقاء اللبس على أذهانهم الصافية التي لا تستوعب هذه الأمور -وإن كانت من أصول الدين- إلا بتعليم، نعم علمهم أولاً، ثم اسأل بعد ذلك.

خطأ جدال أهل الأهواء بغير توافر شروطه

خطأ جدال أهل الأهواء بغير توافر شروطه Q قمت بمجادلة أحد المبتدعة من الرافضة، وقد أحدث ذلك أثراً في نفسي، وإني أستغفر الله من ذلك، وأوجه نصيحة لإخواني ألا يجادلوا أهل الأهواء والبدع، وهذه نصيحة مجرب، نسأل الله لنا ولكم الهداية والثبات؟ A لا ينبغي أن توقع نفسك في جدال المخالفين من أهل الأهواء المغلظة إلا باستعداد علمي جيد، وبضمانات وشروط قل أن تحدث إلا في أجواء قليلة جداً، ومن أهمها: أن تعرف أن صاحبك جاد ويريد الحق، وأن تلم بالقضية التي تريدها، وإلا يصل ذلك إلى حد إضاعة الوقت والمجالس الطويلة، ولا يصل إلى حد تكلف الحجج لمجرد إلزام الخصم، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الطحاوية [49]

شرح العقيدة الطحاوية [49] لقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة بإثبات الميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا، وهي تدل على تقدير الله تعالى السابق للعباد وأعمالهم، وعلى تمييز أهل السعادة من أهل الشقاوة، وأهل الجنة من أهل النار، وتدل كذلك على إخراج ذرية آدم من ظهره وإشهادهم وأخذ الميثاق عليهم بأن لا يعبدوا إلا الله تعالى.

خلاصة أنواع الشفاعات الدينية والدنيوية وما يثبت منهما وما ينفى

خلاصة أنواع الشفاعات الدينية والدنيوية وما يثبت منهما وما ينفى هناك بعض المسائل فيما يتعلق بالشفاعة أحب أن أشير إليها لإتمام الفائدة، وبعضها ورد لكن بشكل غير بين، ويحتاج إلى عنصرة. فخلاصة ما مر: أن الشفاعة دينية ودنيوية، أما الدنيوية فلا شأن لنا بها؛ لأنها تتعلق بمصالح العباد. وأما الدينية فهي المقصودة في ألفاظ الشرع، وهي التي وردت في كتب العقيدة، وهي التي يدور عليها الخلاف. فالشفاعة الدينية هي التي تتعلق بمصائر العباد من حيث أحوالهم يوم القيامة، ومن حيث مصيرهم إلى الجنة أو النار، وهي شفاعة في الدنيا، بمعنى الشفاعة فيما يتعلق بمصير العباد، وهذه لا تحدث أبداً، وكلها منفية، فلا أحد يشفع في الدنيا لأحد فيما يتعلق بمصيره في الآخرة. أما ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الشفاعات المثبتة فإنها أمر سيحدث يوم القيامة، فبعض الناس يظن أن النبي صلى الله عليه وسلم شفع وقبلت شفاعته، بل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الشفعاء سيشفعون يوم القيامة، ثم يأذن الله عز وجل لمن يشاء. فالشفاعة المتعلقة بمصير العباد وفي الدنيا لا تكون أبداً، وأغلب همم أهل الأهواء والبدع تنصرف إلى هذه الشفاعة المنفية، يطلبون الشفاعة من الأحياء والأموات في مصيرهم يوم القيامة، وذلك نوع من الشرك أو البدعة المغلظة أو الوسيلة البدعية. أما الشفاعة في مصير العباد في الآخرة فمنها المثبت ومنها المنفي، أما المثبت فما توافرت فيه شروطه: أن يأذن الله عز وجل للشافع ويرضى منه قوله، وأن يرضى عن المشفوع له، أما ما عدا ذلك فهو منفي.

أنواع التوسل

أنواع التوسل

التوسل المشروع

التوسل المشروع أما التوسل فهو ثلاثة أنواع: توسل مشروع، وتوسل بدعي، وتوسل شركي. والمقصود بالتوسل هو اتخاذ الوسيلة إلى الله عز وجل، والوسيلة إلى الله عز وجل هي التقرب إليه، فإن كان التقرب إليه بالأعمال الصالحة وبالعبادة فذلك أمر مشروع، وعلى هذا يكون التوسل المشروع نوعان: الأول: عمل العبد نفسه، وهذا هو الواجب، بل هو أعظم الواجبات، فتوحيد الله عز وجل وسيلة واجبة، وعمل الصالحات من الوسيلة، وكل ما يفعله الإنسان تقرباً إلى الله على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو توسل مشروع، سواء العبادة القلبية وعبادة الجوارح والدعاء باللسان، أو عمل الصالحات وفعل الخيرات، كل ذلك وسيلة مشروعة، منها ما هو فرض، ومنها ما هو سنة، وهذه هي الوسيلة التي أمر الله بها ورضيها لعباده. النوع الثاني من التوسل المشروع: التوسل بدعاء الصالحين، وهذا مشروع بشروط وضوابط، وصورته: أن يطلب المسلم من أخيه أن يدعو له.

التوسل البدعي

التوسل البدعي أما النوع الثاني من التوسل فهو التوسل البدعي، وهو التوسل بذوات الأشخاص، والتوسل بما لم يرد به الشرع من الأشياء والأمور التي لا تكون وسيلة من الشخص نفسه، فإذا لم يصل الأمر إلى حد صرف العبادة لغير الله فإن التوسل يكون توسلاً بدعياً، وهو اتخاذ الوسائط أو الأشخاص أو الأشياء وسيلة، أو التبرك بها على نحو يؤدي إلى التوسل. ويستثنى من ذلك التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فإن ذلك مشروع لورود النص فيه، أما ما عدا ذلك فإن التوسل بالذوات وبالأشياء يعد بدعة.

التوسل الشركي

التوسل الشركي النوع الثالث: توسل شركي، وهو صرف العبادة لغير الله عز وجل واتخاذ الشفعاء والوسائط بين العبد وبين ربه بصرف أنواع العبادة أو أي نوع من أنواع العبادة لهذا الوسيط أو الشفيع أو الوسيلة أو الواسطة أو الولي أو نحو ذلك، فأي نوع من أنواع العبادة -سواءٌ كان دعاء أم استعانة أم استغاثة أم نذراً أم ذبحاً أم طوافاً أم سجوداً أم صلاة أم ركوعاً- يصرف لغير الله عز وجل، أو يدعي صاحبه أنه يريد به شفاعة المصروف له عند الله، بمعنى أن يصرف العبادة لغير الله زاعماً أن هذا الشخص سيشفع له بسبب هذه العبادة عند الله؛ فإن ذلك شرك. وهذا النوع من الشرك على نوعين: نوع يصرف به صاحبه العبادة البحتة إلى من أشرك به. ونوع يصرف به العبادة أو الدعاء إلى هذا الشخص زاعماً أنه بذلك يريد منه الشفاعة عند الله، أو يريد منه التوسل عند الله، أو التوسط أو التقرب به إلى الله، كقول المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. فهناك طائفة من المشركين زعموا أنهم ما عبدوا الملائكة أو الجن أو الإنس أو الأشجار أو الأحجار إلا لتقربهم إلى الله، ومع ذلك عدوا من المشركين. وهذا النوع هو الذي عليه مشركة المبتدعة في هذه الأمة الذين اتخذوا الأحياء والأموات وأصحاب القبور أولياء من دون الله، فإنهم زعموا أنهم لا يعبدونهم، وإنما يريدون منهم الشفاعة، وأنهم يدعونهم من دون الله على أن أولئك المدعوين سيشفعون لهم بسبب هذا الدعاء.

التبرك والبركة

التبرك والبركة هناك مسألة تختلط بالتوسل، وهي مسألة التبرك، فقد توسع الناس في مفهوم التبرك خاصة أهل البدع، فأدخلوا بالتبرك الشفاعة الممنوعة، وأدخلوا بالتبرك التوسل الممنوع والتوسل البدعي والتوسل الشركي. وأيضاً توسعوا في باب التبرك حتى جعلوا البركة فيما لا بركة فيه، وجعلوا البركة مما لم يبارك الله فيه، وطلبوا البركة مما لم يثبت شرعاً أن فيه بركة، فتوسعوا في التبرك بأكثر مما ورد في النص. فالبركة لا تكون إلا من الله عز وجل، يجعلها فيما يشاء من خلقه، فتكون في الزمان، وتكون في الأشخاص، وتكون في المكان، لكن كل ذلك لا بد من أن يثبت بالشرع، فعلى هذا لا تثبت البركة لشيء ولا لشخص ولا لمخلوق إلا بدليل، وما لم يرد الدليل بأنه مبارك فلا يجوز أن تلتمس منه البركة. ثم إن الأشياء المباركة على نوعين: فهناك أشياء مباركة تتعدى بركتها، كماء زمزم. وهناك أشياء مباركة في نفسها لا تتعدى بركتها. والبركة في الأشياء هي ثبوت الخير ولزومه لهذا الشيء، أو زيادته وكثرة الخير فيه، أما الزيادة وكثرة الخير فهي البركة المتعددة، أما الثبوت واللزوم فهي البركة اللازمة. والبركة تكون في الأزمان، وتكون في الأمكنة، وتكون في الأشخاص، وتكون في الأشياء وفي الأفعال. أما البركة في الأزمنة فكبركة شهر رمضان، وبركة ليلة القدر، وليالي رمضان، والعشر الأواخر، وكبركة عشر ذي الحجة، وبركة يوم عرفة، والأشهر الحرم، ويوم الجمعة ونحو ذلك مما وردت البركة فيه، أما في الأمكنة فكالمساجد الثلاثة، فهي مباركة. وأما في الأشخاص فهناك بركة لازمة وبركة متعدية، أما البركة المتعدية فليس لأحد بركة متعدية تلتمس إلا شخص النبي صلى الله عليه وسلم، أما بقية الأشخاص فإن في المؤمنين منهم بركة، لكن بركتهم لهم لا تتعدى غيرهم، إلا بما شرع، كتعدي البركة بالدعاء، فهذا أمر آخر. وقد تثبت البركة أيضاً في بعض الأشياء أو بعض الأمور، كالبركة في نواصي الخيل، وبركة السحور، ونحو ذلك من الأمور التي وردت فيها بركة، وهي بركة مفسرة ومعلومة عند أهل الإيمان، كما أن البركة ثبتت في ماء زمرم؛ لأنها وردت، وهي بركة متعدية.

إثبات الميثاق الذي أخذه الله من آدم وذريته

إثبات الميثاق الذي أخذه الله من آدم وذريته قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق)]. المقصود هنا الميثاق الذي أخذه الله على عباده حين خلق آدم، وهو التوحيد الذي ميز به أهل الجنة وأهل النار. وسيأتي الخلاف -كما سيذكره الشارح- في مفهوم الميثاق، هل هو ميثاق فعلي على نحو ما ورد في الحديث إذا ثبت الحديث أم على خلاف ذلك؟ والحديث ثابت، وفيه أن الله عز وجل أخذ الميثاق من بني آدم من ظهره في أول الخلق وأنطقهم وأشهدهم على أنفسهم وشهدوا، وأن هذا الميثاق بقيت معالمه في الفطرة والعقل السليم وفي اتباع الوحي وفي دلائل خلق الله عز وجل، وعلى هذا فالميثاق على نوعين: ميثاق فعلي أخذه الله عز وجل بالاستنطاق، وهو الميثاق الأول الذي ورد في الحديث الذي سيأتي. ثم الميثاق الآخر، وهو امتداد للأول وأثر لمكانه، ويكون بإقامة دلائل الفطرة ودلائل العقل ودلائل الخلق الدالة على الله عز وجل، وبدلائل الوحي، وبالحجة، وبالرسل، وبالكتب المنزلة، وبالبراهين الشرعية والكونية. قال رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو].

ذكر الأحاديث الدالة على أخذ ذرية آدم من ظهره وإشهادهم

ذكر الأحاديث الدالة على أخذ ذرية آدم من ظهره وإشهادهم قال رحمه الله تعالى: [وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم]. أخذ الذرية وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، إلى أهل الجنة وأهل النار أمر ثابت لا صلة له بمسألة الميثاق إلا من بعض الوجوه، وأعني: أن عندنا في هذه النصوص مسألتين: مسألة أخذ الميثاق، ومسألة أخذ الذرية من ظهر آدم وتمييز أهل الجنة أهل الهداية عن أهل النار أهل الضلالة. وهذه مسألة مستقلة وردت في نصوص كثيرة، وهي ثابتة قطعاً، ولا خلاف في نوعها ولا كيفيتها؛ لأنها أمر غيبي، فتثبت على هذا النحو كما جاءت بلا تأول. النوع الآخر الذي ورد في هذه النصوص هو أخذ الذرية من ظهر آدم ثم إشهادهم على أنفسهم، وهذه مسألة أخرى وهي المسماة بالميثاق. والنصوص اختلط فيها هذا بذاك، وما سيورده الشارح من إشكالات ليس على أخذ الذرية من ظهر آدم ثم تمييز أهل الضلالة من أهل الهداية، وتمييز أهل الجنة من أهل النار؛ فليس الإشكال على هذا؛ لأن هذا ثابت بنصوص كثيرة، إنما الإشكال على الميثاق ما هو؟ وما كيفيته؟ وما المقصود به؟ والصحيح الذي يترجح أن أخذ الميثاق يشمل النوعين: يشمل أخذ الميثاق الفعلي بالإشهاد والاستنطاق في أول الخلق، ويشمل أخذ الميثاق ببقاء معالم هذا الميثاق في الفطرة السليمة والعقل السليم والبراهين على وجود الله عز وجل وعلى ربوبيته وإلهيته، وإقامة الحجة على الخلق بالأدلة الكونية والشرعية.

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما

حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال رحمه الله تعالى: [فمنها: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: عرفة- فأخذ من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلاً، قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] إلى قوله: {الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173]). ورواه النسائي أيضاً وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه].

حديث عمر رضي الله تعالى عنه

حديث عمر رضي الله تعالى عنه قال رحمه الله تعالى: [وروى الإمام أحمد أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سئل عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال: (إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار) ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن أبي حاتم وابن جرير وابن حبان في صحيحه].

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه

حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال رحمه الله تعالى: [وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما خلق الله آدم مسح على ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود، قال: رب! كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: أي رب! زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم جاء ملك الموت، قال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود؟! قال: فجحد فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت). ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه].

حديث أنس رضي الله تعالى عنه

حديث أنس رضي الله تعالى عنه قال رحمه الله تعالى: [وروى الإمام أحمد أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به؟ قال: فيقول: نعم. قال: فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً، فأبيت إلا أن تشرك بي) وأخرجاه في الصحيحين أيضاً. وفي ذلك أحاديث أخر أيضاً كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل النار وأهل الجنة. ومن هنا قال من قال: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد. وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقاً مستقراً ثابتاً، وغايتها أن تدل على أن بارئها وفاطرها سبحانه صور النسمة وقدر خلقها وأجلها وعملها، واستخرج تلك الصور من مادتها ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا يدل على أنها خلقت خلقاً مستقراً واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثم يرسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قاله ابن حزم. فهذا لا تدل الآثار عليه، نعم الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة على الوجه الذي سبق به التقدير أولاً، فيجيء الخلق الخارجي مطابقاً للتقدير السابق كشأنه سبحانه في جميع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقداراً وآجالاً وصفات وهيئات، ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير السابق]. مسألة الحديث عن سبق الأرواح أو الأجساد مسألة غيبية، لا سيما فيما يتعلق بالأصل، أما ما يتعلق بأطوار الخلق فالنصوص صريحة وواضحة في أن الله عز وجل خلق الأجساد ثم نفخ فيها الأرواح، بمعنى: أن آدم خلق الله جسده أولاً كما ورد في النص الصحيح، ثم نفخ الله فيه الروح. وكذلك بنو آدم يخلق الله أولاً أجسادهم كما هو معروف بالنطفة والعلقة والمضغة، ثم بعد ذلك تنفخ في كل إنسان روحه، بمعنى: أن الروح تكون بعد الجسد، وهذا أمر نعلمه. أما أيهما أسبق في أصل الخلق الأزلي؛ فهذه مسألة غيبية لا داعي للخوض فيها والكلام فيها، إنما هي من الكلام في الغيب وقول على الله بغير علم.

ما تدل عليه الأحاديث المروية في أخذ ذرية آدم من ظهره

ما تدل عليه الأحاديث المروية في أخذ ذرية آدم من ظهره قال رحمه الله تعالى: [فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة]. هذان هما النوعان اللذان أشرت إليهما قبل، فهذه النصوص تدل على نوعين: النوع الأول: تمييز الذرية بعد أخذهم من ظهر آدم، أي: تمييز المهتدين عن الضالين وأهل الجنة عن أهل النار. والنوع الثاني: الإشهاد والميثاق. قال رحمه الله تعالى: [وأما الإشهاد عليهم هناك فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد، كما تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومعنى قوله: {شَهِدْنَا} [الأعراف:172] أي: قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا. وهذا قول ابن عباس وأبي بن كعب، وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضهم على بعض. وقيل: (شهدنا) من قول الملائكة، والوقف على قوله: (بلى). وهذا قول مجاهد والضحاك والسدي. وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. والأول أظهر، وما عداه احتمال لا دليل عليه، وإنما يشهد ظاهر الآية للأول]. فرق بين ظاهر الآية لو جردت عن الحديث وبين ما ورد في الأحاديث من تفسير يمكن أن تفسر به الآية، فليس في الآية ما يدل على نوع الإشهاد، لكن الأحاديث مفسرة. أما قوله: (في حديثين موقوفين على ابن عباس وابن عمرو) فيظهر أنه يقصد بعض ألفاظهما، وإلا فالإشهاد بمعنى: أن الله عز وجل أخذ من آدم ذريته وأشهدهم وقالوا: شهدنا على نحو ما ذكر في الحديث قد ورد في الحديث الذي سبق، وهو ما رواه الإمام أحمد، وفيه: (فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلاً: ألست بربكم؟)، وهذا مرفوع، وهو أيضاً -على الأصح- صحيح. وكذلك ورد مرفوعاً في حديث آخر أورده، وهو يؤيد الحديث السابق، بل إنه ورد من طرق مرفوعاً، وليس مقصوراً على هذين الطريقين. أما تفسير الآية بهذا التفسير فهناك من السلف من جعل هذا شيئاً وذاك شيئاً آخر، فربما فسروا الآية على معنى وفسروا الحديث على معنى آخر، مع ما بينهما من التلازم، لكن لا يعدو أن يكون هذا التفسير رأياً.

ما حمل عليه المفسرون آية الإشهاد

ما حمل عليه المفسرون آية الإشهاد قال رحمه الله تعالى: [واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، كـ الثعلبي والبغوي وغيرهما، ومنهم من لم يذكره، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم، كـ الزمخشري وغيره، ومنهم من ذكر القولين، كـ الواحدي والرازي والقرطبي وغيرهم، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة، والثاني إلى المعتزلة].

تصنيف الشارح الأحاديث المروية في الإشهاد

تصنيف الشارح الأحاديث المروية في الإشهاد قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول، أعني: أن الأخذ كان من ظهر آدم، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفي بعضها الأخذ وإراءة آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد، كما في حديث أبي هريرة. والذي فيه الإشهاد على الصفة التي قالها أهل القول الأول موقوف على ابن عباس وابن عمرو رضي الله عنهم، وتكلم فيه أهل الحديث، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين، والحاكم معروف تساهله رحمه الله]. الأرجح أن الحديث صحيح وله طرق، وأخرجه غير الحاكم في المستدرك أيضاً. قال رحمه الله تعالى: [والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر]. بمعنى أن الله عز وجل قدر على العباد في علمه السابق وفيما كتبه عليهم وفيما شاءه سبحانه أن منهم أهل الجنة وأن منهم أهل النار، فمصائر العباد لا تخرج عن هذا. قال رحمه الله تعالى: [والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر، وذلك شواهده كثيرة، ولا نزاع فيه بين أهل السنة، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون. وأما الأول: فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك، وما قيل من الكلام عليها، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة]. في الحقيقة أن ما يظهر من الإشكال جاء من جانب واحد، وإلا فلا مجال للخلاف لولا هذا الإشكال، وهو أن الآية جاء فيها ذكر أخذ الذرية من ظهور بني آدم، حيث قال تعالى: {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172]، يعني: من مجموع بني آدم. وفي الحديث أن الأخذ من آدم نفسه. ويمكن الجمع بأن المقصود إخراج الذرية من آدم ثم يخرج بعضها من بعض في نفس الوقت، ولعل ذلك من لوازم إخراج الذرية من آدم فيما يظهر، فيحمل الحديث على الآية والآية على الحديث. فالآية تشير إلى أن الله عز وجل أخذ الذرية من بني آدم، والحديث يشير إلى أن الله أخذ الذرية من ظهر آدم نفسه، فلو قلنا: إن من لوازم أخذ الذرية من ظهر آدم أن تؤخذ الذرية من ظهور بعضهم ثم يجمع بين النصين لكان هذا أولى، وقد أشار إليه بعض أهل العلم. ويحمل الميثاق على النوعين: ميثاق فعلي حصل به الاستنطاق وأنطق الله به البشر، وأن الله كلمهم قبلاً كما ورد في الحديث ثم شهدوا. والنوع الثاني: الذي بقي في حياة الناس بعد هذا المشهد، وهو دلائل توحيد الله عز وجل وبراهين وجوده، فهذا أثر من آثار الميثاق باق إلى يوم القيامة.

ما نقله القرطبي عن العلماء في تأويل آية الإشهاد

ما نقله القرطبي عن العلماء في تأويل آية الإشهاد قال رحمه الله تعالى: [قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها، فنذكر ما ذكروه من ذلك حسب ما وقفنا عليه، فقال قوم: معنى الآية: أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض. قالوا: ومعنى: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172]: دلهم بخلقه على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً، {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف:172] أي: قال، فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم والإقرار منهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11]، ذهب إلى هذا القفال وأطنب]. أكثر من ينتصر لهذا القول أهل الكلام، وقال به بعض السلف فعلاً، لكنه لا يناقض القول الأول، والأدلة متوجهة على أن نوعي الميثاق موجودان، فالأول وردت به النصوص وهو غيبي، والثاني تدل عليه دلائل الفطرة والخلق، ولا تناقض بين الأمرين؛ لأن هذا تدل عليه النصوص وهذا تدل عليه النصوص، فأصحاب هذا القول الأول فسروا الميثاق ببعض معانيه. قال رحمه الله تعالى: [وقيل: إنه سبحانه أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وإنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها. ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك، إلى آخر كلامه. وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول: حديث أنس المخرج في الصحيحين الذي فيه: (قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي)، ولكن قد روي من طريق آخر: (قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد إلى النار) وليس فيه: (في ظهر آدم)، وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول]. المقصود بالقول الأول القول بأن الإشهاد إشهاد فعلي، بمعنى الاستنطاق، وأن الله عز وجل كلم هذه الذرية قبلاً، وأنهم قالوا: شهدنا. هذا هو القول الأول، وهذا الذي تدل عليه ظواهر النصوص. والقول الثاني في نظري صحيح، وتدل عليه أيضاً نصوص أخرى، فلا تنافي بين القولين، فالإشارة إلى التعجب تنتهي أو تزول إذا أخذنا بهذا الجمع، أي: بالجمع بين النصوص على هذا النحو، بأن يكون الميثاق ميثاقان: ميثاق أول، ثم بقي أثره في فطر الخلق وفي دلائل وبراهين خلق الله عز وجل في الكون والأنفس وفي الشرع.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التبرك بالنواصي

حكم التبرك بالنواصي Q هناك مقولة مشتهرة تقول: (تبركوا بالنواصي) فما صحتها؟ A إطلاقها غير صحيح، أما تقييدها بما ورد في الشرع من النواصي المباركة فنعم، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة). فإذا ورد الشرع بشيء مبارك فإنا نتبرك به إذا كانت بركته تتعدى، وكذلك البقاع، فإذا قصد بالبقاع البقاع المباركة التي بارك الله فيها وورد الشرع بالبركة فيها فلا مانع. أما إذا قصد الإطلاق وأن الناس يتبركون بما يريدون وكما يشاءون فهذا غير صحيح، بل ربما يكون من أسباب ظهور البدعة واشتهارها بين الأمة.

شرح العقيدة الطحاوية [50]

شرح العقيدة الطحاوية [50] اختلف الناس في معنى الإشهاد الذي ذكره الله في كتابه عن آدم وذريته، فقيل بأنه إشهاد حقيقي تم ووقع استنطاقاً، وهذا هو الذي دلت عليه النصوص، وهو الصحيح، وهو قول جمهور السلف وأهل الحديث، وقيل بأنه لم يحدث فعلياً، بل المقصود به دلائل الفطرة التي أقام الله بها الحجة على عباده، وهذا قول ضعيف، وهو ما اختاره شارح الطحاوية رحمه الله.

خلاصة القولين الواردين في معنى الإشهاد

خلاصة القولين الواردين في معنى الإشهاد قال رحمه الله تعالى: [بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين]. هنا ينبغي أن نستذكر القولين السابقين في الإشهاد: القول الأول: هو القول بأن الإشهاد تم فعلاً على الصورة التي وردت في الحديث، وهو أن الله عز وجل أخرج بني آدم من ظهره، وأشهدهم إشهاداً فعلياً على كيفية لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنها غيبية، وأنهم نطقوا وشهدوا على أنفسهم، وأن هذا مشهد واقعي فعلي صح في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعض أصحاب هذا القول قالوا: إن هذا الحديث مفسر للآية، فالآية مجملة وهذا مبين، ولا شك في أن الإجمال يرد إلى التفصيل، والمجمل يرد إلى المفصل. أما القول الثاني الذي انتصر له الشيخ ابن أبي العز هنا فهو القول بأن الإشهاد لم يحدث بصورة مشهد فعلي، إنما كان تعبيراً عن دلائل الفطرة، عبر الله بذلك عن دلائل الفطرة، وأن الإشهاد يتمثل بالبراهين والأدلة التي أقام الله بها الحجة على العقلاء، وهي خلق الكون، وخلق الإنسان، وآيات الله المنظورة، والوحي، ودلالة الفطرة والعقل السليم، ونحو ذلك من البراهين العلمية والعملية التي تقوم بها الحجة، فهذا بمثابة الإشهاد. ومال الشارح إلى تضعيف أحاديث الإشهاد، لأن الآية لا تدل صراحة على فعل الإشهاد على نحو ما ورد في الحديث، وهذا فيه تكلف كما سيأتي. والقول الأول الذي أنكره مال الشيخ إلى سواه هو القول الذي عليه كثير من السلف، وعليه أغلب أهل الحديث، وهو الذي تقتضيه النصوص الشرعية، وهو أن الإشهاد تم فعلاً على نحو ما جاء في الحديث، سواء كان ذلك تفسيراً للآية، أم أن الآية لها معنىً آخر على خلاف بين أصحاب هذا القول.

رد الشارح للقول بالإشهاد الفعلي

رد الشارح للقول بالإشهاد الفعلي قال رحمه الله تعالى: [بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين: أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان، وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة]. سينكر الشيخ هذه الأمور بعدة وجوه كما سيأتي. قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن الآية دلت على ذلك، والآية لا تدل عليه لوجوه: أحدها: أنه قال: {مِنْ بَنِي آدَمَ} [الأعراف:172] ولم يقل: من آدم. الثاني: أنه قال: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} [الأعراف:172] ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض أو بدل اشتمال، وهو أحسن. الثالث: أنه قال: {ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:172] ولم يقل: ذريته]. هذه الاعتراضات الثلاثة يجاب عليها بجواب واحد، فالإشكال فيها واحد، وهو مسألة مرجع الضمائر، فالأحاديث تشير إلى أن الله عز وجل أخذ من ظهر آدم ذريته وأشهدهم، وأنهم نطقوا، وأن الله كلمهم قبلاً، يعني: كفاحاً. والآية فيها إشارة إلى بني آدم، فكأنه -أي: الشارح- يقول: إن هناك فرقاً بين آدم وبني آدم، فإذا كان الأمر كذلك فالآية لا تدل على هذا الإشهاد الحقيقي، إنما تدل على أمر معنوي. والجواب عليه: أنه لا تنافي بين الأمرين، فالآية مجملة والحديث مبين، هذه ناحية. الناحية الأخرى: أن ما يتعلق بالضمائر؛ إذ الأحاديث أشارت إلى آدم بنفسه، وأن الإشهاد حدث عليه وعلى من أخذ من ظهره، والآية أشارت إلى مجموع بني آدم، ما يتعلق بذلك لا تنافي فيه بين الأمرين كما قال أهل العلم؛ لأنه يجوز -بل ربما كان من لوازم أخذ ذرية آدم من ظهره- أن يكون أخذ ذرية بعضهم من ظهور ذرية بعض. وكل ذلك راجع إلى قدرة الله عز وجل، فما الذي يمنع أن الله عز وجل حينما أخذ من آدم ذريته جعل الذرية تتداخل، وما هناك ما يمنع من هذا، بل شواهد النصوص وقرائن الأدلة تدل على هذا، وهو أن الإشهاد تم بهذه الطريقة: أن الله أخذ ذرية آدم من ظهره هو، ولزم من ذلك أخذ ذرية كل شخص من ظهره، وكل ذلك راجع إلى قدرة الله عز وجل التي لا حد لها، فلا داعي لتكلف إنكار الإشهاد الحقيقي واعتباره مجرد إشهاد معنوي أو ميثاق معنوي مع أنه يمكن الجمع بينهما. وقد ذكرت وجه الجمع بأنه لا تنافي أبداً في أن يكون الميثاق حدث فعلاً وبقي أثره، والناس في الدنيا لا يذكرون مشهد الميثاق لو لم يأت به القرآن، ونسيانهم له لا يعني نسيان أصل العهد، وهذا مما يحدث في حياة الناس، فالإنسان مثلاً قد تحدث له حادثة في مرحلة من مراحل عمره، حادثة لها شيء من التفاصيل، وينبني على هذه الحادثة مواقف معينة أو عقود أو عهود، ثم يمضي الزمن وينسى الحادثة، فيأتي من يذكره، فقد لا يذكر إلا العهد، ولكن ينسى التفاصيل، فعلى هذا تقوم الحجة بما عرفه الإنسان من ثمار الحادث وما ترتب عليه من عهود وإشهاد ونحو ذلك، ولو نسي التفاصيل. وكذلك الميثاق، فقد يكون الله عز وجل قدر لبني آدم ألا يستذكروا كلهم تفاصيل الإشهاد، لكن بقي موجبه، وبقيت لوازمه، وهذا أمر يدركه كل عاقل في آيات الله عز وجل الشرعية والكونية. قال رحمه الله تعالى: [الرابع: أنه قال: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأعراف:172] أي: جعلهم شاهدين على أنفسهم، ولابد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار كما تأتي الإشارة إلى ذلك، لا يذكر شهادة قبله. الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة الحجة عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. السادس: تذكيرهم بذلك، لئلا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين. ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم. السابع: قوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} [الأعراف:173]، فذكر حكمتين في هذا الأخذ والإشهاد: ألا يدَّعو الغفلة أو يدَّعو التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره. ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة. الثامن: قوله: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:173] أي: لو عذبهم بجحودهم وشركهم لقالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم لمخالفة رسله وتكذيبهم، فلو أهلكهم بتقليد آبائهم في شركهم من غير إقامة الحجة عليهم بالرسل لأهلكهم بما فعل المبطلون، أو أهلكهم مع غفلتهم عن معرفة بطلان ما كانوا عليه، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل. التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا الإشهاد في غير موضع من كتابه، كقوله:

إثبات الإشهاد الفعلي استنطاقا والرد على الشارح في نفيه

إثبات الإشهاد الفعلي استنطاقاً والرد على الشارح في نفيه يظهر لي أن هذا الكلام الذي وجه به الشارح رحمه الله رد القول الأول فيه نوع تكلف؛ لأمور: منها ما ذكرته من أنه ليس هناك ما يمنع من أن يكون الإشهاد حدث تفصيلاً وبقيت آثاره. والأمر الآخر: أن كل ما ذكره من هذه الاعتراضات ينصب على مسألة واحدة، وهي: أن الإشهاد الفعلي الذي تم لا يوجد له ذكر عند البشر الآن، وأنه كيف تقوم الحجة به عليهم وهم لا يتذكرونه، وهذا مردود بما ذكرته وبأمور أخرى: أولها: أنه جاء النص -وهو الحديث الصحيح- في الخبر عن الإشهاد تفصيلاً على نحو ما جاء في الحديث، وعلى هذا فيلزم أن نسلم بالنص، فما دام قد ثبت فلا بد أن نسلم بأن التفاصيل التي وردت فيه حق، وأنها جرت، وهي أمور غيبية لا نستطيع أن نتحكم فيها برد ولا تأويل ولا بتحكم بأي نوع من أنواع التحكم، وإنما لا بد من التسليم والتصديق بأنها حدثت فعلاً. ثم إن ظهر لنا نوع من التعارض بين ظاهر الآية وظاهر الحديث فلنلتمس وجوه التوفيق بين الأمرين، ووجوه التوفيق ميسورة على نحو ما ذكرت، فلا داعي للتكلف. الأمر الثالث: أن هذه النزعة -وهي نزعة الهروب من إثبات أمر غيبي- نزعة كلامية ما كان ينبغي أن يقع فيها أحد ممن ثبت لديه الحديث، لكن يظهر أن الشارح -والله أعلم- ما ثبتت عنده أحاديث الإشهاد، فركز على مفهوم الآية. وقد أشار إلى شيء من هذا حينما أشار إلى أن هذه الأحاديث موقوفة على بعض الصحابة، وإلا فلا يتصور من مثل ابن أبي العز رحمه الله أن يتكلف رد أمور ثبتت بالأحاديث، لا سيما أنه ممكن جداً الجمع بين مدلول الحديث ومدلول الآية. ثم إن أكثر ما ذكر من وجوه الرد إنما يتماشى مع قواعد العقلانية قديماً وحديثاً، وهذه النزعة نزعة عقلانية جاءت من أهل الأهواء من أمثال القدرية والمعتزلة والجهمية وأهل الكلام، ولذلك نجد أن أكثر من نصر هذا القول -وهو إنكار الإشهاد الفعلي- هم أهل الكلام، وقد قال بشيء من ذلك بعض السلف، لكن بدون تكلف، قالوا به لأنهم وجدوا له تفسيراً وتأويلاً يرون أنه تقتضيه معاني اللغة فقط، وإلا فما ردوا هذا الرد المباشر. إذاً: فهذه النزعة نزعة عقلية ما كان ينبغي أن يقع فيها أهل السنة أو أهل العلم المقتدى بهم في الدين، وهي نزعة رد النصوص بمثل هذه التأولات والاحتمالات والاستبعادات العقلية التي لا تقاوم الأخبار الغيبية، فالأخبار الغيبية يؤمن بها كما جاءت، فإن لم نجد لها تفسيراً من عقولنا، ولم نجد وجوهاً نجمع بها بين نص ونص، فلنتهم عقولنا، ولا نتهم النص ليرجع الأمر إلى الشك في نص ثابت، ومع ذلك يبقى احتمال أن أكثر الذين ردوا القول الأول من أئمة العلم لا يصححون الحديث، أو لم يبلغهم المسند الصحيح منه، فربما بلغتهم بعض الآثار الضعيفة أو الموقوفة أو نحو ذلك.

كرة ثانية للشارح في دفع القول بحصول الإشهاد استنطاقا

كرة ثانية للشارح في دفع القول بحصول الإشهاد استنطاقاً قال رحمه الله تعالى: [وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني، وتكلم عليه ومال إليه]. الشيخ أبو منصور الماتريدي يعتبر من أكابر المتكلمين الأوائل، وله في تأويلات النصوص مواطن كثيرة معروفة في كتابه التوحيد، وعلى هذا لا نستغرب أن ينصر هذا القول، بل من الطبيعي أن ينصره؛ لأنه يخالف القاعدة العقلية التي يسير عليها المتكلمون في بعض أمور الغيب وفي أفعال الله عز وجل، خاصة الذين ينكرون أفعال الرب، فإن الحديث عندهم لا بد أن يؤول، وإذا أمكنهم أن يردوه ردوه، وإذا ما أمكنهم فلا بد أن يؤولوه، فعلى هذا لا يصح أن يرتبط بأقوال هؤلاء، ولا يعتمد عليها كأقوال يرجح بها؛ لأنهم إنما خالفوا السلف في هذه الأمور وإن وافقوهم في أمور أخرى. قال رحمه الله تعالى: [ولاشك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طارئ، والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135]. وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به]. هذا فيه محاولة رد الإشهاد الحقيقي، وهذا أسلوب المتكلمين، وفيه تكلف، والشيخ رحمه الله كان من المتوقع أنه يقف عند قوله: [ولهذا تفطن ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث]، فهذا في الحقيقة أمر ينبغي أن يوقف عنده، فهؤلاء هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، وحق لهم أن يهابوا، ولماذا لا نهاب أمر غيبياً أخبرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ثم إن المسألة ليست مجرد هيبة، بل هي مقتضى الإيمان والتسليم والإذعان لله عز وجل وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، فالإنسان عليه أن يخشى الله عز وجل ويخافه، ويجب أن يسلم ويذعن، ولا شك في أن المسلم لا يجرؤ على أن يقول في الغيب شيئاً، لكن الأمر أكبر من ذلك. قال رحمه الله تعالى: [وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك؟! بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه، بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية؛ فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها، وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب؛ فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو دين التربية والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه -على الصحيح- حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع دين العلم والعقل، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح؛ فإن كان آباؤه مهتدين كيوسف الصديق مع آبائه قال: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف:38]، وقال ليعقوب بنوه: {نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة:133]، وإن كان الآباء مخالفين للرسل كان عليه أن يتبع الرسل، كما قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [العنكبوت:8]. فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه؛ فهذا اتبع هواه، كما قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة:170]. وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار لا مسلمة الاختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك؟ قال: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته. فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم لله، ولينظر من أي الفريقين هو؟ والله الموفق. فإن توحيد الربوبية

الأسئلة

الأسئلة

توجيه حديث الضرير في التوسل

توجيه حديث الضرير في التوسل Q بالنسبة للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم كيف نوجه حديث الضرير الذي صححه بعض العلماء، ومنهم الألباني وشيخ الإسلام كما قال السيوطي في كتابه؟ A هذا الحديث صحيح، ومما ورد في الحديث مما يفسره أن النبي صلى الله عليه وسلم طلب من ذلك الضرير الذي جاء إليه أن يتوضأ ويصلي ويطلب من الله عز وجل أن يتقبل دعاء شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فالنبي صلى الله عليه وسلم سيدعو له، وهذا أمر مشروع، فالضرير طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، بمعنى: أن يدعو له، وهذه شفاعة في الدنيا لا تتعلق بشفاعة الآخرة، فهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يُكشَف ضره، فهذا معنى الاستشفاع به والتوسل به، والنبي صلى الله عليه وسلم أرشده إلى الأمر الشرعي، ولا مانع يمنعه صلى الله عليه وسلم من أن يدعو له؛ لأن هذا حق، والنبي صلى الله عليه وسلم مستجاب الدعوة، لكن عليه أن يصلي لله عز وجل ويتوجه إلى الله بأن الله يقبل هذه الوسيلة، وهي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، هذا هو المشروع، وهذه الصور الحقيقية لا علاقة لها بما يفعله أهل البدع، فهذه الصورة مشهورة، نبه عليها السلف وأئمة العلم من أهل السنة قديماً وحديثاً ولا إشكال فيها، لكن هل ما يفعله أهل البدع هو على هذه الصورة؟! A لا؛ لأنهم يتمسحون بالذوات ويدعونها من دون الله، ويرجون منها النفع والضر بما لا يقدر عليه إلا الله، ويطلبون منها ما لا تستطيع وما لا تملك، فليس في حديث الضرير أي شبهة، فضلاً عن أن تكون دلالة لأهل البدع.

ثبوت حادثة ذبح خالد القسري للجعد بن درهم

ثبوت حادثة ذبح خالد القسري للجعد بن درهم Q هل صحيح أن حادثة خالد القسري مع الجعد بن درهم غير ثابتة؟ A الذي أعرفه أنها ثابتة ومستفيضة، وأهل العلم استندوا على أنها صحيحة، وقد تكون بعض أسانيدها غير صحيحة، لكن قتل خالد بن عبد الله القسري للجعد صحيح، وقتله بموجب فتوى الأئمة؛ لأن شره متعد ومقولته مقولة كفر، وكذلك بقية الأشخاص الذين قتلهم خالد بن عبد الله القسري، ولذلك سماه السلف: قصاب الزنادقة.

حكم متبع الهوى

حكم متبع الهوى Q قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان:43]، هل كل من اتبع هواه يكون كعابد الوثن؟ A إذا اتبع هواه في أمر يخرج به عن مقتضى الدين، أو يخل بالعبادة، بمعنى أنه عبد غير الله بهواه بأي نوع من أنواع العبادة؛ فهذا شرك كفري، وإذا كان هواه دفعه إلى أن ينكر أصلاً من أصول الدين القطعية فهذا كفر، خاصة إذا أقيمت عليه الحجة وبين له الحق، أما اتباع الهوى في المعاصي، وفي البدع الجزئية التي دون الكفر، واتباع الشهوات؛ فهذا أمر يعد من الذنوب، وقد يكون من الموبقات التي ورد فيها الوعيد، لكن لا يخرج به الإنسان من الإسلام.

الاشتراكية في ميزان الإسلام

الاشتراكية في ميزان الإسلام Q هناك من يجعل الاشتراكية مما جاء في الشريعة وحث عليه الإسلام، وهناك من يجعلها مبدأ ماركسياً مما جاءت به الشيوعية، فأيهما الصواب؟ A الاشتراكية لا شك في أنها مبدأ مادي وبعيد عن الإسلام كل البعد، ومذهب منحرف، وهي مذهب ضال، لكن الناس يعبثون بالألفاظ، فبعض الناس -مثلاً- قد يطلق على وجود التكافل في الإسلام كالزكاة والصدقات ونحوها من الأمور المشروعة أنها نوع من الاشتراكية، وهذا من الناحية اللفظية قد يصح، لكن هذا تلبيس؛ فالاشتراكية مبدأ لا يعترف بالزكاة ولا يعترف بالأصول الشرعية، ولا يعترف بالإسلام أصلاً، فهي مبدأ هدام يقوم على المساواة بين الخلق، والله عز وجل ما ساوى بين الخلق، إنما عدل بينهم، فلذلك يجب أن تتنبهوا لهذا، فكثير من الناس يقولون: إن الإسلام جاء بالمساواة، وهذا غير صحيح، فهل المساواة تعني أن يستوي المؤمن والكافر؟! وأن يستوي الجاد والهازل؟! وأن يستوي العامل والقاعد؟! إذاًَ: ما جاء الإسلام بالمساواة، وإنما جاء الإسلام بالعدل، أما المساواة فظلم، فلو جئنا لأي واحد ممن يدعون المساواة، أو يقول: الإسلام جاء بالمساواة، فأخذنا بعض ماله لجاره الفقير؛ فهل سيعترف بالمساواة أم سينكرها؟! إذاً: المسألة ليست مسألة دعاوى مساواة ولا اشتراكية، فالإسلام دين إلهي وضعه الله عز وجل لخلقه، فلا يجوز أن نقارنه بغيره، ولا نقارن غيره به، ولا يجوز أن ندعي أن هذه الشعارات تقرب من الإسلام ولا يقرب منها، فهذه شعارات باطلة، وما يوجد من وجوه التشابه في بعض هذه المبادئ؛ فهذا لا يقتضي أن بينهما شيئاً من التوافق، فالإسلام يقوم على التسليم لله عز وجل، حتى لو أن إنساناً عمل بالإسلام وما سلم قلبه لله لن ينفعه الإسلام وهو يعمل بالإسلام، فكيف بمن يقول بالاشتراكية؟!

شرح العقيدة الطحاوية [51]

شرح العقيدة الطحاوية [51] القدر سر الله تعالى في خلقه، وكل شيء بقضاء الله تعالى وقدره، والله تعالى خالق العباد وأعمالهم، قد علم ما يعملون قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة، وعلم أهل الجنة وأهل النار بسابق علمه بما سيعملون، هذا معتقد أهل السنة، وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، فزعموا أن الله تعالى لم يشأ الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي، وسبب ضلالهم في ذلك أنهم لم يفرقوا بين المشيئة الشرعية والكونية، فوقعوا في هذا الضلال المبين في هذا الأصل العظيم من أصول الدين.

علم الله تعالى السابق بأفعال العباد ومآلهم في الآخرة

علم الله تعالى السابق بأفعال العباد ومآلهم في الآخرة قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزاد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه). قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال:75]، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب:40]؛ فالله تعالى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلاً وأبداً، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة. قال: فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. ثم قال: اعملوا، فكل ميسر لما خلق له؛ أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:5 - 10]) خرجاه في الصحيحين. قوله: وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله]. هذا الحديث إشارة إلى الحجة القائمة على الخلق في مسألة القدر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما بين للصحابة المقادير السابقة، وأن مصير كل عبد قد كتب من الشقاوة والسعادة أشكل عليهم ذلك من حيث فائدة العمل، فقالوا: إذاً: فلم العمل؟! فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بقاعدتين عظيمتين: القاعدة الأولى: وجوب العمل؛ لأن الله أمر بالعمل، فقال: {اعْمَلُوا} [التوبة:105]، وهذا مقتضى الشرع الذي أنزله الله على رسله. بمعنى أن مصير العبد -حتى وإن كان كتب عليه تقديره السابق- مرتبط بعمله، وما دام ما كتب عليه غيباً فعليه أن يشتغل بعالم الشهادة، وليدع الغيب، فلا يعلق ذهنه ولا اعتقاده ولا مصيره بالغيب؛ لأن مصيره مرتبط بالعمل، فقوله: (اعملوا) أمر منه صلى الله عليه وسلم، وهو أمر الله الذي أرسل به رسله، فهذا توجيه يخرج معضلة اللغز الذي يحار فيه بعض الناس، فالصحابة حينما عرفوا أن التقدير السابق كتب وجاء عليهم الإشكال؛ أمروا بهذا الأمر، وكذلك جميع الأمة. إذاً: المصير المقدر السابق المجهول مرتبط بالعمل. القاعدة الثانية -وهي أيضاً حلقة من الأولى- قوله: (فكل ميسر لما خلق له). إذاً: فبعد العمل وبعد السعي والتحصيل وبعد بذل السبب الشرعي الذي قامت به الحجة سييسر كل لما كتب له، إلامَ وعلامَ سييسر؟ الله أعلم،، إنما الذي نعلمه أن الله عز وجل كلف العباد وأمرهم بالعمل وأقدرهم عليه وخيرهم فيه، وليس هناك إنسان يقول: أنا مقهور على أن أعمل الشر، أو أنه يعمل بدون إرادته، بل كل إنسان حر عاقل مميز يستطيع أن يعمل كما يشاء، يستطيع أن يعمل الخير بإرادته، وتقوم عليه الحجة بذلك، وأن يعمل الشر بإرادته وتقوم عليه الحجة بذلك. ثم إن الله عز وجل أعطى العباد عقولاً وفطراً، ثم أنزل لهم شرعاً يتضمن الأمر والنهي، ووعد على امتثال الأمر بالوعد الصادق، وتوعد على فعل الأمر وفعل المنهيات بالوعيد الصادق، وأقدر الإنسان على فعل هذا وهذا، ولم يقصره عليه، لذلك فالإنسان الذي يفقد عقله أو يكره على أمر لا يكلف، فمن هنا يأتي معنى: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، اعملوا بمقتضى ما أمرتم به، وثقوا بأنه لن يضيع عمل العامل، وكل سيسره الله لما قدره عليه في السابق، وليثق المرء بأن الإنسان الذي يعمل خيراً سيجد خيراً، والذي يعمل شراً تقوم عليه الحجة، فهذا أمر ينبغي أن لا يتعداه الإنسان في مسائل القدر، فينبغي لكل مسلم أن يلتزم هذا القدر، وما عدا ذلك من مسائل القدر لا يخوض فيه إلا على سبيل العلم، فنتكلم عن مواطن القدر لنعلمها فقط لا لنعلق عليها أموراً غيبية، بمعنى: لا نتكل على أمر كتب، فإذا عرف الإنسان أن كل شيء مكتوب -ومن جملة ذلك الشقاء والسعادة- فلا يعني ذلك أنه يتكل على المكتوب، بل عليه أن يعمل بالمعلوم، والغيب غيب عند الله، بدليل أنه لا أحد يدري ما مصيره، وإذا كان كذلك فليعلم أن مصيره مرتبط بالعمل أو ترك العمل.

الأعمال بالخواتيم

الأعمال بالخواتيم قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله): تقدم حديث علي رضي الله عنه وقوله صلى الله عليه وسلم فيه: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له). وعن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم: أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل؟ قال: لا. بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل؟ قال زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه، فسألت ما قال؟ فقال: اعملوا فكل ميسر) رواه مسلم. وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة) خرجاه في الصحيحين، وزاد البخاري: (وإنما الأعمال بالخواتيم). وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق المصدوق-: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله، وشقي أم سعيد؛ فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها). والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكذلك الآثار عن السلف، قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها، وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق]. ابن عبد البر رحمه الله إمام من أئمة أهل السنة، وكتبه عمدة عند أهل السنة، لكن لم تشتهر عندنا؛ لأنه من علماء المغرب، ومع ذلك ينبغي على طلاب العلم أن يعنوا بكتب الإمام ابن عبد البر؛ فإنه -رحمه الله- خدم السنة خدمة جليلة، خاصة في مسألة التأصيل والتقعيد، ووضع واستقراء مناهج السلف، وكتابه (التمهيد) من أعظم الكتب، ولا أظن طالب علم يستغني عنه أبداً، فلا بد لكل طالب علم من أن يقتني هذا الكتاب وأن يعنى به ويدرسه، فقد اشتمل على كثير من أصول السلف، ورد فيه ابن عبد البر على كثير من أصول أهل الأهواء والبدع، ويحتاج هذا الكتاب إلى خدمة علمية لإخراج ما فيه من كنوز. قوله: [وأكثر المتكلمون من الكلام فيه] يقصد المعتزلة والقدرية والجبرية والجهمية ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية، كلهم تكلموا في مسائل الغيب ومسائل القدر بكلام يخرج عن أصول السلف وعن أصول الحق، وجعلوا كلامهم كأنه أصول السنة أو كأنه هو الاعتقاد، مع أن كلامهم لا يعدو أن يكون تخرصات ورجماً بالغيب.

وجوب الإيمان بالقدر

وجوب الإيمان بالقدر قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين): أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى، قال علي رضي الله عنه: (القدر سر الله فلا تكشفه)].

أقوال الفرق ومذاهبها في القدر

أقوال الفرق ومذاهبها في القدر

مذهب أهل السنة في القدر وإرادة الله تعالى ومشيئته

مذهب أهل السنة في القدر وإرادة الله تعالى ومشيئته قال رحمه الله تعالى: [والنزاع بين الناس في مسألة القدر مشهور، والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً ولا يرضاه ديناً]. مثل هذه العبارة قد توهم أحياناً، أو يفهم منها شيء من بعض اللوازم التي لا تصح. فقوله: [وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه] بمعنى أن الله أراده كوناً، فالكفر فعل من الأفعال، وهو داخل في تقدير الله عز وجل وعلمه ومشيئته، بمعنى أن الكافر حينما كفر ما خرج عن إرادة الله، أو فعل شيئاً لا يريده الله؛ لأن الإرادة نوعان: إرادة بمعنى المشيئة العامة المطلقة الكونية، فكل شيء حدث في هذا الكون يحدث وهو في مشيئة الله، ومن ذلك الكفر والعصيان، بمعنى أن الله علمه وشاءه وقدره. والنوع الآخر من الإرادة هي الإرادة الشرعية، وهي الرضا والمحبة، فلا شك أن الله عز وجل ما أراد شرعاً الكفر من الكافر ولا العصيان من العاصي، بل الله عز وجل في شرعه نهى عن الكفر والمعاصي، وعلى هذا فإن الله لا يحب الكفر ولا المعاصي، ولا يرضى الكفر ولا المعاصي، فالإرادة بهذا المعنى هي المنفية، بمعنى أن الله لم يرد الكفر، أي: لا يحبه ولم يشرعه، ولكنه أراده كوناً وقدره؛ لأنه لا يحدث شيء في الكون بغير إرادة الله وتقديره. فإذا فهمنا نوع الإرادتين عرفنا كيف نصرف اللفظ إلى المعنى الذي يناسبه، فإذا قلنا: إن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، فالمعنى: أراده وشاءه كوناً وقدراً، وإذا قلنا: إن الله لا يريد الكفر ولا يشاؤه؛ فهذا يعني أن الله لا يحبه ولا يرضاه؛ لأن هذا هو معنى ابتلاء العباد، وإلا فلا يكون للابتلاء معنى.

مذهب القدرية والمعتزلة في أفعال الشر الكائنة من العباد

مذهب القدرية والمعتزلة في أفعال الشر الكائنة من العباد قال رحمه الله تعالى: [وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكنّ الكافر شاء الكفر؛ فروا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه، ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار، فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه -على قولهم- والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى، وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل. روى اللالكائي من حديث بقية عن الأوزاعي: حدثنا العلاء بن الحجاج عن محمد بن عبيد المكي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه -وهو يومئذ أعمى- فقالوا له: ما تصنع به؟ فقال: والذي نفسي بيده! لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كأني بنساء بني فهر يطفن بالخزرج تصطك ألياتهن مشركات. وهذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده! لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر). قوله: (وهذا أول شرك في الإسلام) إلى آخره من كلام ابن عباس، وهذا يوافق قوله: (القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده). وروى عمر بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم. قال المجوسي: حتى يريد الله. فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد! قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي! وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما! ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد فقال: يا هؤلاء! إن ناقتي سرقت، فادعوا الله أن يردها عليّ. فقال عمرو بن عبيد: اللهم! إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت فارددها عليه! فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك! قال: ولم؟! قال: أخاف -كما أراد أن لا تسرق فسرقت- أن يريد ردها فلا ترد!]. هذا الأعرابي كان أفقه من عمرو بن عبيد في الدين، وهذه القصة لو قدر أنها لم تصح، فلسنا في حاجة إلى أن نتأكد من سندها، فهي تحكي واقعاً صحيحاً في مسألة استقامة أكثر العوام على الفطرة في المسائل الغيبية؛ لأنهم لم يرد عليهم ما يفسد الفطرة، فهذا الأعرابي على الفطرة، كالعجوز التي ردت على الرازي، وككثير من العوام الذين يلهمون الحق في فطرتهم. فيبدو لي أن القصة -حتى لو لم تصح- مستقيمة في رد قواعد القدرية بأصول الفطرة، فإن عمرو بن عبيد حينما دعا بهذا الدعاء الذي هو فرع عن عقيدته الباطلة -وهو قوله: إنك لم ترد أن تسرق ناقته- كأنه بذلك أخرج هذا الفعل الذي حصل من إرادة الله وعلمه ومشيئته، وكأن السرق لم يكن في سابق علم الله، ولا بإرادته ولا مشيئته، فهذا يعني أنه جعل هناك مشيئة دون مشيئة الله، فجعل مع الله مدبراً وجعل مع الله رباً آخر وهو يشعر أو لا يشعر. فالأعرابي بفطرته خشي من هذه العقيدة الباطلة أن تكون سبباً في عدم رد ناقته أيضاً، فرد عليه بهذا الرد الفطري السليم الموجز الخالي من التعقيد ومن الفسلفة، لكن من يرد الله له الضلال لا يمكن أن يهتدي حتى بأوضح الأدلة، والمشركون قامت عليهم الأدلة بأوضح من هذا الدليل في القرآن، وفي آيات الله المنظورة والبينة، ومع ذلك لم يهتدوا، فقد رأوا انشقاق القمر حينما طلبوا، ومع ذلك قالوا: هذا سحر، نسأل الله السلامة والعافية. قال رحمه الله تعالى: [وقال رجل لـ أبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذبني؛ أيكون منصفاً؟! فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له، فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء]. هذا أيضاً رد فطري شرعي، فالله عز وجل يفعل في ملكه ما يشاء، ويفعل في عباده وخلقه ما يشاء، فلا يجوز مثل ذلك الافتراض الذي افترض.

التحذير من الإصغاء للقدرية وغيرهم من أهل الأهواء

التحذير من الإصغاء للقدرية وغيرهم من أهل الأهواء والإنسان الذي ليس عنده فطرة قوية أو علم يعصمه من هذه الشبهات إن لم يجد الرد عليها فمن الممكن أن تقع في نفسه، فلذلك نجد السلف يحذرون من سماع أهل الأهواء؛ لأنهم يخشون على المجتمع من مثل هذه الشبهات التي تقع في الخلق، إذا لم تجد إيماناً راسخاً وعلماً وفقهاً في الدين، فإن الإنسان قد يزل ويضل بمثل هذه الشبهة ولا يدري أنها شبهة، قد يتلقفها قلبه ولا يشعر أنها خطأ، فلذلك القدرية الأوائل حينما رد عليهم السلف رجع كثير منهم، والذي لم يرجع صار أشبه بالمريض، فأصبح هذا الأمر وسواساً عنده؛ لأنه عرف الحق ثم رجع عنه؛ لأنه استقرت في قلبه الشبهة، نسأل الله العافية. ولذلك أقول: إن السلف فعلاً شددوا في مسألة عدم السماع من أهل الأهواء، وعدم قراءة كتب أهل الأهواء وإن اشتملت على الحق، فقد يوجد فيها شيء من الحق، لكن الحق الذي في الكتاب والسنة وكتب السلف النقية يغني عن الحق الذي يلتبس بالباطل، فلذلك ينبغي أن تبقى هذه القاعدة إلى يومنا هذا، بل نحن أحوج إليها، وهو أن لا نسمع الشبهات ولا نقرأها، ولا نقرأ كتب أهل الأهواء والبدع مهما زخرفت، وأن لا نعرض أجيال المسلمين لها، سواء كانت أهواء قديمة أم جديدة، والغالب أن شبهات الأهواء تفتن وتستهوي الناس؛ لأنها إن كانت فلسفية ففيها من التشدق ما يستهوي الفكر ويستهوي عقل الإنسان، وإن كانت مادية فهي تدغدغ عواطف الناس واهتماماتهم، فمن هنا تصرفهم عن الحق بهذه المداخل الباطلة، وإلا فلو لم يكن التلبيس لما كان لأهل الأهواء صولة، ولما كانوا في جملتهم أكثر من أهل السنة والجماعة، فالباطل المحض قليل من يرتكبه، فمن هنا تجد إشكالات التلبيس، بمعنى أنها موهمة، وإذا جردت عن الرد عليها فربما تؤثر فيمن ليس لديه فقه في الدين أو معرفة بأمثال هؤلاء، فلذلك يجب أن يحذر طلاب العلم من التعرض للشبهات، لا بقراءة ولا بسماع ولا باختلاط بأهلها.

الأدلة على إثبات مشيئة الله تعالى وتقديره الهداية والضلال

الأدلة على إثبات مشيئة الله تعالى وتقديره الهداية والضلال قال رحمه الله تعالى: [وأما الأدلة من الكتاب والسنة: فقد قال تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة:13]، وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29]، وقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان:30]، وقال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39]، وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125]. ومنشأ الضلال: من التسوية بين المشيئة والإرادة، وبين المحبة والرضا، فسوى بينهما الجبرية والقدرية ثم اختلفوا: فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً، وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية؛ فهي خارجة عن مشيئته وخلقه].

سبب ضلال القدرية هو عدم التفريق بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية

سبب ضلال القدرية هو عدم التفريق بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية القصد من ذلك أن منشأ الضلال -بمعنى انقداح الشبهة في أذهان كثير من القدرية النفاة، والقدرية الجبرية- ناتج عن أنهم لم يوفقوا للتفريق بين المشيئة والإرادة العامة، وبين الرضا والمحبة، فظنوا أن المشيئة والإرادة تعني المحبة والرضا، وظنوا أن الله لا يشاء شيئاً ولا يريده إلا وهو يحبه، فمن هنا اختلط عليهم الأمر، فلذلك يجب التفريق -وهذا أمر ضروري في التسليم للقدر- بين المشيئة والإرادة العامة، وبين المحبة والرضا التي هي الإرادة الخاصة والإرادة الشرعية. فكل من الطائفتين نحت منحى في هذا الفهم الخاطئ، فمنهم من تصور المشيئة والإرادة تعني المحبة، فأعفى العباد من كل تكليف، وقال: إن الله قسرهم على ذلك، إذاً: لا يعذبهم، فمن آمن بالله يكفيه ذلك، ولا داعي لأن نحاسبه على أعماله وعلى ما يرتكبه من آثام، لأن كل ذلك بمشيئة الله، بمعنى أن الله راض عنه، وهذا غلط، نعم ذلك بمشيئة الله، لكن لم يرضه تعالى، وفرق بين المشيئة العامة وبين الرضا والمحبة. والفريق الآخر لما انخدع بمثل هذه الشبهة ما استوعبوا في أذهانهم أن الله عز وجل شاء الضلال ثم عذب عليه؛ وهم بعض الجهمية والمعتزلة وبعض الجبرية، والقدرية الأولى هم الذين أولوا الصفات وأنكروا الصفات الفعلية، بل أنكروا بعض الصفات الفعلية، فأنكروا المحبة، وأنكروا الرضا لله عز وجل، فلما أنكروا ذلك زعموا أن الله لا يرضى بالمعنى الذي ورد في الشرع الذي آمن به السلف، ولا يحب بالمعنى الذي هو حقيقة المحبة، فمن هنا ألغوا من أذهانهم مفهوم المحبة والرضا، فلما نظروا في واقع البشر وجدوا أن البشر يعملون شروراً ويعملون آثاماً، والله شاء كل شيء، فما استطاعوا أن يوفقوا بين المشيئة العامة وبين أن يشاء الله الشر أو يقدره، فزعموا أنه لا يليق بالله أن يشاء ويقدر الشر، ثم بعد ذلك يحاسب عليه، وما تصوروا المحبة والرضا والإرادة الشرعية، بل وقفوا عند المشيئة العامة والإرادة العامة، فلما وقفوا وأشكل عليهم زعموا أن المخرج من ذلك أن تنسب أفعال الشرور والمعاصي إلى العباد أنفسهم، وأن الله لم يقدرها أصلاً، فلما فعلوا ذلك جعلوا خالقاً مع الله، وطعنوا في علم الله عز وجل، وطعنوا في مشيئة الله، وجعلوا لله نداً ومدبراً في الكون غير الله، فوقعوا في شيء مما فروا منه كما ذكر الشارح. المهم أن منشأ الخطأ هو عدم التفريق بين الأمرين في القدر: بين المشيئة والإرادة العامة من ناحية، وبين الرضا من ناحية أخرى، فيجب أن يفهم المسلم أنه ليس كل ما يشاء الله ويقدره يرضاه، إنما قد يكون شاءه وقدره ابتلاءً كما هو معروف في أساس التكليف للعباد.

الأسئلة

الأسئلة

معنى كون القدر سر الله تعالى في خلقه

معنى كون القدر سر الله تعالى في خلقه Q ما معنى قول الإمام علي رضي الله عنه: القدر سر الله؟ A معنى ذلك أن القدر لا يمكن أن تكتشف الألغاز فيه والتساؤلات التي تحدث عند البشر إلا بموجب النصوص الشرعية، أما بمحض عقل الإنسان فلا تمكن الإجابة عنه إلا على ضوء أصل شرعي، بمعنى أن هناك تساؤلات ترد من باب الشكوك أو الشبهات لا جواب عليها إلا بالنص الشرعي، هذه ناحية. الناحية الأخرى: أن القدر غيب، والغيب سر، فمن معاني أنه سر الله في خلقه أو في عباده أنه يتعلق به مصائر العباد، ومصائر العباد غيبية، فأصل القدر سر، يعني أنه مجهول.

معنى: تيسير العامل لما خلق له

معنى: تيسير العامل لما خلق له Q ما الرابط بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل ميسر لما خلق له) وقوله: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة)؟ A هذا هو معنى التيسير، فقوله: (منكم من يعمل بعمل أهل الجنة) هو تفسير لمعنى قوله: (ميسر لما خلق له)، بمعنى أن من أراد الله له السعادة -ونسأل الله أن يجعلنا جميعاً كذلك- فسييسر له العمل بعمل أهل الجنة، وكونه ينسب إليه أنه هو الذي يعمل راجع إلى ما أعطاه الله للعقلاء من القدرة على الفعل والترك، فقوله: (منكم من يعمل) بمعنى أن الله عز وجل حينما أقدره على العمل فإنه بإرادته التي أعطاه الله إياها يستطيع أن يعمل، فإذا عمل بعمل أهل الخير فذلك من تيسير الله له، وإذا عمل بعمل أهل الشر فذلك أيضاً من تقدير الله له، وهذا كله راجع إلى أصل القدر، أي أن الله علم ذلك وشاءه وقدره، لكن الله أراد من العباد الخير ويسر طائفة منهم لذلك، وأحب منهم ذلك ورضيه، وكره منهم فعل الشر ونهاهم عنه، لكنه أقدرهم عليه، بمعنى أنه إذا عمل عبد من العباد بعمل الشر فإنما عمل بحريته وإرادته، وعمله داخل في مشيئة الله العامة، لكن هذا العمل لا يحبه الله شرعاً ولا يرضاه.

حكم الخوف من ركوب الطائرة ونحوها

حكم الخوف من ركوب الطائرة ونحوها Q أنا رجل أخاف من ركوب الطائرة ويصيبني ذعر منها، وأحرص على السفر دائماً بالسيارة، وقد أخبرني كثير من الإخوان بأن هذا عدم إيمان بالقدر، فهل هذا صحيح؟ A أما أن يكون الخوف من ركوب الطائرة ونحوها عدم إيمان فليس بصحيح، وأصل الخوف غريزة عند الإنسان، تزيد عند البعض وتقل عند الآخرين، لكن قوة الإيمان تقلل من الخوف وتكثر من الاعتماد على الله عز وجل وتوكيل الأمر إليه، فالإنسان الذي يجد في نفسه شيئاً من الخوف الشديد إذا أكثر من الأدعية والأذكار والأسباب المعينة التي شرعت ثم قوي اعتماده على الله وتوكله؛ فإن هذا الخوف يقل في نفسه، وليس من لوازم الخوف قلة الإيمان، بل الخوف غريزة، لكن إذا زاد عن الحد الطبيعي فربما يكون دليلاً على ضعف الإيمان، فالإنسان عليه دائماً أن يستعين بالله عز وجل ويتوكل عليه، ويتعود استحضار الأذكار دائماً، ولعله بذلك يخف ما عنده من خوف، أما إذا بقي الخوف مع بذل هذه الأسباب؛ فلا يدل ذلك -إن شاء الله- على عدم الإيمان بالقدر.

حقيقة الإشهاد

حقيقة الإشهاد Q هل القول الثاني في مسألة الميثاق قول شاذ، مع أن بعض العلماء الأجلاء قال به، كـ شيخ الإسلام وابن القيم؟ A القول الثاني يقصد به أن الميثاق هو الفطرة، وأنه ليس هناك شيء يسمى إشهاداً فعلياً، وأن الله عز وجل لم يأخذ ذرية آدم من ظهره أو من ظهورهم بشكل حقيقي، وأن ما ورد في الحديث إنما هو تعبير عن الفطرة، وتمثيل تخييلي، وهذا القول هو قول المتكلمين، وعلى هذا فلا يمكن أن يقول به شيخ الإسلام ابن تيمية ولا ابن القيم، فالذي يقول به شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم -فيما أذكر- هو أن الميثاق باق بالفطرة، وهذا حق، فالميثاق بقيت آثاره بالفطرة، وأن الناس في الحياة الدنيا لا يذكرون قصة الميثاق إلا من خلال ما ذكره الله عز وجل في كتابه، وخبره صدق، لكنهم لا يتذكرون أنهم حدث لهم ذلك المشهد الذي ورد في الحديث، وهذا لا يعني أنه لم يحدث، وتفسير هذا بالفطرة لا يعني إنكار حدوث مشهد الإشهاد والميثاق، وليس بينهما اختلاف كما ذكرت. فعلى هذا فإن القول الثاني الذي أشرت إليه وأشار إليه الشارح لا يقول به إلا عدد قليل من السلف، والقائلون بحصول الإشهاد الفعلي والميثاق منهم من يثبتون الميثاق كما ورد في الحديث، ويفسرون الآية بمعنى من المعاني، وهو الفطرة والدلائل الكونية، وليس بين القولين تناقض. إنما القول الذي يعد قليلاً هو القول بأنه لم يحدث الميثاق على النحو الذي ورد في الحديث؛ نظراً لضعف الحديث، وأن المقصود بالميثاق هو الفطرة ودلائل وجود الله عز وجل، وإقامة البراهين الكونية والشرعية على الخلق. وعلى هذا فيمكن أن تكون الأقوال على النحو الآتي: الأول: قول أغلب السلف، وهو أن الإشهاد حصل فعلاً، وأنه بقيت دلائله بالفطرة والدلائل الكونية والشرعية، وأنه لا تناقض بين هذا وذاك، لكنهم اختلفوا في الدليل، فبعضهم قال: إن مسألة الإشهاد الواردة في الحديث غير مسألة الإشهاد الواردة في الآية. وبعضهم قال: إن الإشهاد المقصود بالآية والحديث هو القصة الحادثة فعلاً، وأنه ذلك المشهد الذي قد حصل، فهذان قولان. والقول الثالث: إنكار أن يكون هناك شيء من الإشهاد الذي وردت قصته في الحديث، وهو أن الله عز وجل أخذ من آدم ذريته، ومن بني آدم ذريتهم، وأشهدهم فعلاً واستنطقهم، وقصر الإشهاد على مسألة الدلائل التي ذكرتها، وهذا قول قليل، وما قال به إلا بعض المتكلمين وبعض العلماء الذين ما ثبت عندهم الحديث.

حكم إطلاق لفظ (شيء) على الله جل جلاله

حكم إطلاق لفظ (شيء) على الله جل جلاله Q هل يجوز إطلاق كلمة (شيء) على الله صفة أو اسماً؟ A إطلاق كلمة (شيء) على الله عز وجل ورد في القرآن على سبيل الإخبار والوصف لا على سبيل الاسم، فليس من أسماء الله عز وجل هذا اللفظ، لكن يعبر عن الله عز وجل بـ (شيء) بمعنى أنه موجود، وهذا ورد في القرآن وورد في السنة وورد على ألسنة السلف، وليس في ذلك تحديد الاسم واستقلاله، لكن على سبيل الإخبار والوصف نعم، ومن هذا كثير، فهناك كثير من الألفاظ لا تصح أن تطلق أسماء لله عز وجل مفردة، لكنها تكون على سبيل الخبر لا على سبيل الوصف. ومنها ما يصح أن يطلق على سبيل الوصف، لكن لا يكون اسماً. فالله عز وجل يخبر عنه بـ (شيء) على سبيل الإخبار، لا على سبيل الاسم ولا الصفة.

حكم الحكم على الكافر المعين الميت بالنار

حكم الحكم على الكافر المعين الميت بالنار Q هل يجوز أن نقول عن كافر معين بعد موته بأنه في النار؟ A على الإطلاق يجوز، يعني: من مات على غير الإسلام مشركاً أو يهودياً أو نصرانياً نقول: إنه من أهل النار على سبيل الإخبار والحكم العام، لكن لا يجوز القطع بذلك على سبيل الاعتقاد اليقيني الذي تقسم عليه؛ لأن مصائر العباد بيد الله عز وجل، أما على سبيل الحكم فنعم، فنحكم من خلال ما حكم الله به، لا من عندنا، فالله عز وجل ذكر أن اليهود والنصارى من أهل النار، وأن المشركين من أهل النار، وأن المنافقين الخلص في الدرك الأسفل من النار، ولا نشك في ذلك، وذلك يعم أفرادهم وجماعتهم، وعلى هذا فمن مات كافراً نقول: إنه من أهل النار على سبيل الإطلاق والحكم العام، لكن الجزم اليقيني الذي نقسم عليه أو نتألى به على الله لا يجوز، ويتوقف عنه المسلم، والأولى عدم الخوض في هذه الأمور؛ لأن الإنسان في مثل هذه الأمور قد يلجأ إلى أمر يخالف الاعتقاد أو يستفز إلى قول لا يتنبه له، فالأولى أن نقف عند الأحكام العامة ولا ندخل في التفاصيل.

شرح العقيدة الطحاوية [52]

شرح العقيدة الطحاوية [52] مما يتعلق بباب القضاء والقدر أن الله تعالى قد يحب الشيء ويرضاه شرعاً، لكنه لا يريده ولا يشاؤه كوناً وقدراً، وذلك كإيمان الكافر وطاعة العاصي، وقد يبغض الشيء ولا يرضاه، لكنه يريده ويشاء وقوعه كوناً وقدراً، وذلك كالكفر وسائر المعاصي والشرور، فإنها غير محبوبة لله تعالى ولا يرضاها شرعاً، لكنه أراد وقوعها كوناً وقدراً، لحكم عظيمة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وهذا باب عظيم ضلت فيه فرق كثيرة، وتباينت طرقها وأقوالها؛ لأنهم لم يفقهوا هذا الأصل العظيم وهو التفريق بين الإرادة الشرعية والكونية القدرية.

الأدلة على المحبة والرضا والفرق بينهما وبين المشيئة

الأدلة على المحبة والرضا والفرق بينهما وبين المشيئة قال رحمه الله تعالى: [وقد دل على الفرق بين المشيئة والمحبة الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة، أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب فقد تقدم ذكر بعضها. وأما نصوص المحبة والرضا فقال تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]، {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]، وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:38]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال). وفي المسند: (إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يكره أن تؤتى معصيته)]. في هذه الآيات والأحاديث تفريق بين المشيئة العامة وبين المحبة والرضا وما يتفرع عنها. فكون الله عز وجل لا يحب الفساد -كما في الآية الأولى- لا يعني ذلك أن الله لم يقدره ولم يشأه كوناً، فإن الله عز وجل قدر كل شيء كوناً وشاءه كوناً، لكنه لا يحب الفساد شرعاً، فقوله عز وجل: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] بمعنى: لا يحبه شرعاً، أما كونه قدره فهذا أمر ضروري؛ لأنه لا يحصل شيء في الكون إلا بقدر الله عز وجل وبعلمه. وكذلك قوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] بمعنى: لا يرضاه شرعاً ولا يحبه، لكن لا يعني ذلك أنه لم يقدره كوناً ولم يشأه ولم يعلمه، بل علمه وكتبه وقدره وشاءه سبحانه، والابتلاء لا يتحقق إلا بمثل هذه الأمور. وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله كره لكم ثلاثاً) بمعنى: كره ذلك شرعاً، لكنه علمه وقدره وشاءه، إنما قدره على العباد ابتلاءً، وكذلك محبة الله عز وجل للرخص، وكراهية المعاصي؛ فإن الله عز وجل يحب ذلك شرعاً، وقدره وشاءه، وكذلك يكره المعاصي شرعاً ولا يريدها من العباد، ونهاهم عنها، لكنه علمها وشاءها وقدرها كوناً. إذاً: الخلاصة أنه لا تلازم بين المشيئة والمحبة، ولا بين المشيئة والرضا، ولا بين المشيئة ومرادف هذه الكلمات من الأمور التي تدل على أن الله عز وجل قد يحب من عباده شيئاً ويرضاه لهم لكن لا يفعلونه، أو لا يفعله فريق منهم، وإن كان قدره وشاءه. أقول: لا تلازم بين المشيئة والتقدير العام وبين الرضا والمحبة. قال رحمه الله تعالى: [وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم! إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك). فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضا من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة، فالأول للصفة والثاني لأثرها المترتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره؛ فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، فعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقوتك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك، ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك. فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته].

المعنى الجامع لوجه إرادة الفعل المحرم ومشيئته ووجه بغضه وعدم محبته

المعنى الجامع لوجه إرادة الفعل المحرم ومشيئته ووجه بغضه وعدم محبته قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يشاؤه ويكونه؟ وكيف يجتمع إرادته له وبغضه وكراهته؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً وتباينت طرقهم وأقوالهم، فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره]. المراد لنفسه كالشفاء من المرض على سبيل المثال، والمراد لغيره كالعلاج الذي هو وسيلة إلى الشفاء، فالشفاء من المرض مراد لنفسه. والدواء قد لا يكون مقصوداً لذاته، إنما المقصود به الوصول إلى غاية أخرى وهي الشفاء. قال رحمه الله تعالى: [فالمراد لنفسه مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد. والمراد لغيره قد لا يكون مقصوداً للمريد ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده؛ فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث إفضائه وإيصاله إلى مراده، فيجتمع فيه الأمران: بغضه وإرادته، ولا يتنافيان لاختلاف متعلقهما. وهذا كالدواء الكريه إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتآكل إذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة إذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف بمن لا يخفى عليه خافية؟!]

الحكمة من خلق إبليس

الحكمة من خلق إبليس قال رحمه الله تعالى: [فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره وكونه سبباً إلى أمر هو أحب إليه من فوته، من ذلك: أنه خلق إبليس الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والاعتقادات والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد وعملهم بما يغضب الرب تبارك وتعالى، وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه، ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها، منها: أنه تظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذه الذات التي هي أخبث الذوات وشرها وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبريل التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا! كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والداء والدواء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر. وذلك من أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات وقابل بعضها ببعض، وجعلها محال تصرفه وتدبيره، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير مملكته. ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع الحساب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل؛ فإن هذه الأسماء والأفعال كمال لا بد من وجود متعلقها، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء]. يعني بذلك أنه لا تتحقق هذه المعاني إلا بوجود ابتلاء الخلق بالخير والشر، فهذا لحكمة، والله عز وجل يفعل في خلقه ما يشاء، فهو فعال لما يريد، وما فعله الله عز وجل كله خير وحكمة. فخلق الله عز وجل الشر وخلق إبليس لحكم، منها: أنه لا تظهر آثار أسماء الله عز وجل القهرية إلا بمثل هذا الابتلاء، وبمثل هذه الفتنة التي فتن الله بها العباد، ولذلك جعل الله الشر والخير فتنة وابتلاء للخلق. قال رحمه الله تعالى: [ومنها ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا بقوله: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم). ومنها ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير الذي يضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك، فلو قدر عدم الأسباب المكروهة لتعطلت حكم كثيرة ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر]. الخير المحض لا تحصل به حقيقة الابتلاء ولا التكليف ولا معنى الجزاء ولا معنى الوعد والوعيد ولا تظهر فيه للعباد معاني الحكمة ومعاني الرحمة ومعاني القوة والجبروت وغير ذلك، فكان من خلقه تعالى المتضادات، ومن ذلك الخير والشر، وفيما يترتب عليهما من الجزاء للعباد في الدنيا والآخرة ظهور معاني الحكمة وحقيقة الابتلاء ونحو ذلك مما هو معلوم لدى العقلاء. قال رحمه الله تعالى: [ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه، ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى، والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى، وإيثار محاب الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه، إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها]. فإن قيل: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب؟ فهذا سؤال فاسد، وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب، والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.

مواد الفساد شر من حيث ما تفضي إليه لا من حيث وجودها

مواد الفساد شر من حيث ما تفضي إليه لا من حيث وجودها قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه؟ قيل: هذا السؤال يرد على وجهين: أحدهما: من جهة الرب تعالى، وهل يكون محبا لها من جهة إفضائها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها؟ والثاني: من جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضاً؟ فهذا سؤال له شأن. فاعلم أن الشر كله يرجع إلى العدم، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه، مثاله: أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه. وحركتها -من حيث هي حركة- خير، وإنما تكون شراً بالإضافة، لا من حيث هي حركة، والشر كله ظلم، وهو وضع الشيء في غير محله، فلو وضع في موضعه لم يكن شراً، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية]. يعني: أن الشر شر بآثاره، وبنتائجه والعقوبة عليه، فهو من حيث كون الله عز وجل قدره ليس شراً محضاً، لكن لما انبنى الشر على فعل المكلفين فصار ناتجاً عن تصرفاتهم، أو كان ناتجاً عن أسباب بذلوها فوقع الشر منهم أو عليهم أو على غيرهم؛ صار شر بهذا المعنى. أما مجرد خلقه وكونه وجد فليس شراً محضاً، فإبليس -مثلاً- ليس هو شراً لذاته، وإنما هو شر حينما عصى الله عز وجل، أما خلقه ووجوده وذاته فهو خلق من خلق الله ما جاء إلا لحكمة، لكنه لما عصى الله عز وجل وقع الشر من فعله، فصار خبيثاً بذاته وبأفعاله. وكذا الكافر، فالكافر لذاته خلق من خلق الله، فليس وجود الكافر شراً محضاً بذاته، إنما صار شراً بما عمله حينما كلف وأمر فلم يأتمر ولم يعمل بمقتضى التكليف، فصار الشر مضافاً إليه بأذاه، وصار بذاته وبأفعاله وتصرفاته شراً بعد أن نتج عنه الشر، ولذا فالإنسان غير المكلف -حتى أبناء الكفار الذين يعيشون بين ظهرانيهم- ليس هو شراً لذاته، وليس شره كشر الكافر المكلف، فالمجنون وغير المميز لا يكون شره إلا عندما يكلف، فعندما يكلف يكون منه الشر ويحاسب على ذلك. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها، وإن كانت شراً بالنسبة إلى المحل الذي حلت به؛ لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه في موضعه]. هذا مثل الحدود، فالحدود إقامتها خير، والذي يقيم الحدود يفعل خيراً، لكنها بالنسبة لمن حدثت له قد تكون شراً، بمعنى أنها أذى، فالذي تقطع يده يحدث له شيء من الأذى، والأذى شر، لكن قد تكون العاقبة خيراً له من حيث إنه بذلك تكفر عنه ذنوبه، والفعل الذي فعله الذي أقام الحد هو خير. إذاً: فالشر والخير نسبيان. قال رحمه الله تعالى: [فإنه سبحانه لم يخلق شرا محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك، فلا يمكن في جناب الحق تعالى أن يريد شيئا يكون فساداً من كل وجه، لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير]. يعني: لا ينسب الشر إلى الله مباشرة، ولا يضاف إليه الشر، بل يقال: إن الله خلق هذه الأمور وقدرها، لكن لا ينسب إليه من باب الإضافة. قال رحمه الله تعالى: [والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شراً، فتأمله، فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً، فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير].

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين ثبوت مشيئة العبد واختياره وبين ما ورد في تقليب الرحمن قلوب عباده

الجمع بين ثبوت مشيئة العبد واختياره وبين ما ورد في تقليب الرحمن قلوب عباده Q هل يتنافى ما ذكرت من أمر القدر وأن العبد له مشيئة واختيار مع حديث: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء)؟ A ليس هناك تناف، فالله عز وجل يفعل في خلقه ما يشاء، وتقليب قلوب العباد قد يكون من باب الجزاء على عمل، فقد يجعل الله ذلك من باب الجزاء على العمل، ومع ذلك فالله يفعل في عباده ما يشاء، لكن هذا لا يتنافى مع أن الله جعل كل مكلف ميسراً لما خلق له، فمن عمل صالحاً فسيجرى به، ومن عمل غير صالح فسيجزى به، فكون القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء لا يتعارض مع كون العباد أمروا بأن يفعلوا الإسلام، فقد يكون تقليب قلوب العباد إلى الخير والشر مبنياً على ما قدره الله وما يسره للعبد من ذلك، فلا تنافي. ولذلك ينبغي للعبد دائماً أن يدعو الله عز وجل بأن يهديه وأن يثبته على الحق والاستقامة ويميته على الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، كان يقول: (يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك)، وهذا فيه أشار أن الأمور كلها راجعة إلى الله عز وجل، وأنه يفعل بعباده ما يشاء، وأنه لا أحد يتألى على الله عز وجل في ملكه. المهم أنه لا تعارض بين هذا وذاك، إنما هذا فيه أمر للعباد بأن يلجئوا إلى الله عز وجل، ويدعوه، ويسألوه بالتثبيت والعصمة من الزلل. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الطحاوية [53]

شرح العقيدة الطحاوية [53] قدر الله تعالى الشر والمعاصي لحكم عظيمة منها الابتلاء والامتحان، فهي من حيث خلقها وتقديرها ليست شراً، إنما الشر هو فعلها الذي هو من جهة العبد، وكذلك الله تعالى قدر الخير والطاعة وخلقها، وأراد من العبد فعلها لأنه يحبها ويرضاها، وقد لا يعين العبد أحياناً على فعل بعض الطاعات لحكم عظيمة يعلمها سبحانه، هذا كله لابد من التسليم به كما وردت به النصوص، ومن نسب إلى الله تعالى غير ذلك فلم يقدره حق قدره.

حصول الشر في المادة بقطع الإعداد والإمداد وظهور حكمة الله تعالى في تفاوت المخلوقات في ذلك

حصول الشر في المادة بقطع الإعداد والإمداد وظهور حكمة الله تعالى في تفاوت المخلوقات في ذلك قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير]. يعني: بذلك أن الشر والمعاصي من حيث خلقها وإيجادها ليست شراً؛ لأنها لحكمة وابتلاء للعباد، إنما الشر هو فعل المعاصي وفعل الممنوعات، أما خلقها فهو لحكمة، والحكمة ليست شراً، إنما هي خير. قال رحمه الله تعالى: [فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد، والإعداد، والإمداد]. الإيجاد: هو التقدير والخلق، والإعداد: إقدار العباد وإقدار الفاعلين على الفعل، والإمداد التيسير والإعانة والتوفيق. قال رحمه الله تعالى: [فإيجاد هذا خير، وهو إلى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإذا لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل وإنما إليه ضده. فإن قيل: هلا أمده إذ أوجده؟ قيل: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده، فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده. فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة!]. هذا مذهب الفلاسفة، فالفلاسفة يرون أن التسوية ضرورية وأنها من اللوازم التي تلزم الله عز وجل، وانتقلت هذه الفلسفة إلى المعتزلة، وإلى كثير من أهل الكلام، ولذلك أنكروا حكمة الله عز وجل، وأنكروا الرحمة عن الرب سبحانه؛ لأنهم يرون أن الأفعال في الكون كلها لابد من أن تكون متساوية، ويرون أن مقتضى العدل فيها ألا يكون فيها خير وشر مطلقاً، وإن وجد الشر فمن أفعال العباد بذاتهم، فهم خالقون لها، فمن هنا ضلوا من حيث أرادوا أن ينزهوا الله، لكنهم وقعوا في شر مما هربوا منه. قال رحمه الله تعالى: [وهذا عين الجهل، بل الحكمة كل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء]. مبدأ التسوية -كما قلت- هو الذي جعل كثيراً من أهل الأهواء يغلطون في مسألة الحكم على الناس، ولعلي أكتفي بالإشارة بهذه المناسبة إلى ما وجد من أحكام باطلة من خلال هذه العقيدة الباطلة عبر نظرة سادت في الآونة الأخيرة عند كثير ممن يسمون بالمثقفين والمفكرين من المسلمين -مع الأسف- تبعاً لغيرهم من الفلاسفة ونحوهم من الذين الأصل عندهم هو الخلل في توحيد الله عز وجل. أقول: هذا الفكر السائد المبني على هذه الفكرة الفلسفية يرى أنه لا فرق بين المسلم وغيره، وأنه لا يليق بالله عز وجل أن يعذب البشر، فمن هنا ظهرت مقولة في الآونة الأخيرة تقول: لا فرق بين المسلم واليهودي والنصراني، فكلهم يؤمنون بالله، إنما الفرق في عملهم، فمن كان طيباً متخلقاً محسناً إلى الناس فهو من أهل الجنة وإن كان يهودياً أو نصرانياً! فهذا ناتج عن مبدأ التسوية وعدم الإيمان بحكمة الله عز وجل وأن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وأنه هدى من شاء ووفقه ووعده الجنة فضلاً منه سبحانه، وتوعد الكفار بالنار عدلاً منه عز وجل، وأن ذلك كله راجع إلى حكمته. إذاً: فمبدأ الحكمة لا يعترف به هؤلاء، بل ربما يعبرون عن الحكمة بالعدل فقط، فيقولون: ليس من الحكمة كذا، ويقصدون بذلك أنه: ليس من العدل؛ لأنهم يضعون مقاييس من عند أنفسهم فيفرضونها على الله عز وجل. فلذلك قالت المعتزلة ونحوهم: يجب على الله أن يفعل كذا، ويجب عليه ألا يفعل كذا! بدون تورع وبلا خوف من الله عز وجل، يقولون: يجب على الله أن يفعل كذا، ويجب عليه ألا يفعل كذا، تعالى الله عما يزعمون. فالمهم أن هذا الأصل كله ناتج عن عقيدة التسوية، والنظرة الخاطئة إلى مفهوم العدل المطلق.

استواء المخلوقات في الإيجاد وتفاوتها فيما تعدمه من الخير

استواء المخلوقات في الإيجاد وتفاوتها فيما تعدمه من الخير قال رحمه الله تعالى: [وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع بأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت، فإن اعتاص عليك هذا، ولم تفهمه حق الفهم؛ فراجع قول القائل: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع]. هذه حكمة مفيدة في الحقيقة، وليس على المسلم غضاضة في أنه إذا وجد في أمر من الأمور غموضاً وحاول أن يفهم ولم يفهم انصرف عنه عملاً بهذه الحكمة، ولا يضره ذلك، ذلك أن كثيراً من الأمور الفلسفية تكون من باب الأحاجي والألغاز والمعضلات والمحارات التي تحار فيها عقول العقلاء، ولا يضر المسلم ألا يفهم هذه الألغاز وهذه الإشكالات في القدر وفي الغيب وفي غيرهما، لا يضره ذلك لا في إيمانه ولا في ذكائه ولا في عقله، ولا يظن أن ذلك عجز فيه، ولا يتطلع إلى أن يصل إلى حل لمثل هذه الألغاز المشكلة، بل إذا وجد فيها صعوبة فليسلم لله عز وجل وليؤمن بما جاء عن الله، وليرجع إلى نصوص الكتاب والسنة فلن يجد فيها ما يحار فيه، إنما المحارات والألغاز والمعضلات في مثل هذا الكلام المشقق في الحكمة والعدل والتسوية والإقدار وضرب أقدار الله بعضها ببعض ونحو ذلك. فلا يضر المسلم إذا وجد في ذلك شيئاً من الإشكال أن ينصرف ويصرف ذهنه ويسلم لله عز وجل ويأخذ بمقتضى النصوص.

وجه عدم إعانة الله تعالى للعبد على بعض ما هو مرضي له من الطاعات

وجه عدم إعانة الله تعالى للعبد على بعض ما هو مرضي له من الطاعات قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه؟ قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة. وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46]، فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله وهو طاعة، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت تترتب على خروجهم مع رسوله، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47] أي: فساداً وشراً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة:47] أي: سعوا بينكم بالفساد والشر، {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه، فاجعل هذا المثال أصلاً وقس عليه].

جهة السخط وجهة الرضا في فعل العبد المعصية

جهة السخط وجهة الرضا في فعل العبد المعصية [وأما الوجه الثاني: -وهو الذي من جهة العبد- فهو أيضاً ممكن، بل واقع، فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها من حيث هي فعل العبد واقعة بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإرادته وأمره الكوني، فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه]. قوله: (ما هو منه) أي: من الإنسان نفسه. قال رحمه الله تعالى: [فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان، وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً]. أي: كرهت المعاصي مطلقاً من كل وجه، لكنهم لا يقصدون كراهية كونها من الله عز وجل، إنما كرهوها فقالوا: إن المعاصي شر محض. وسبب ذلك أنهم يرون أنها ما سميت معصية إلا من حيث فعلها من قبل العبد، وليست معصية بذاتها، بل لما فعلها صارت معصية، فمن هنا كرهوا المعصية مطلقاً. والذين فرقوا رجعوا إلى أصل الفعل، أي: أصل الإقدار على المعصية، فقالوا: إن الإقدار على المعصية من الله عز وجل، وهذا فيه حكمة وهو خير، لكن فعل المعصية من العبد شر. إذاً: الفريقان يلتقون على حكم واحد، وهو أن المعصية بذاتها من حيث فعلها من قبل العبد مكروهة كلها ومن حيث تقديرها من الله عز وجل ليست معصية، إنما صارت معصية بفعل العبد لها. فالمعصية من حيث هي تبقى مجردة في الذهن حتى تقع، فإذا وقعت لا تكون إلا ممن يفعلها وهو العاصي، فلا تكون معصية فعلية واقعة إلا من فاعل، والفاعل هو العبد، أما قبل أن يفعلها فما هي إلا مجرد تصور في الذهن، والتصور في الذهن لا يبنى عليه حكم. قال رحمه الله تعالى: [وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً، وقولهم يرجع إلى هذا القول؛ لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابته ومشيئته]. بمعنى أنهم لا يكرهون صدورها عن الله عز وجل من حيث إنه علمها وقدرها وشاءها، إنما يكرهونها لذاتها من حيث كونها معصية، وما صارت معصية إلا حينما فعلها العبد.

حصول الجبر الباطل بمنع اعتبار كراهة فعل العبد المعصية واعتبارها تقديرا من الله مرضيا محبوبا

حصول الجبر الباطل بمنع اعتبار كراهة فعل العبد المعصية واعتبارها تقديراً من الله مرضياً محبوباً قال رحمه الله تعالى: [وسر المسألة: أن الذي إلى الرب منها غير مكروه، والذي إلى العبد مكروه. فإن قيل: ليس إلى العبد شيء منها، قيل: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري، وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين]. الجبرية هم الجهمية، وهم الذين يقولون: إن العبد مسير لا خيار له أبداً، فهو كالريشة في مهب الريح، وعلى هذا فإنه يكفيه في مسألة الحساب والجزاء أن يؤمن بالله بقلبه مهما فعل من الكفر والمعاصي حتى الشرك، تعالى الله عما يقولون! فمن أشرك بالله عندهم ما دام عارفاً بالله فهو مؤمن! فهؤلاء هم الجبرية الغلاة؛ لأنهم يرون أن الإنسان ليس له أي فعل وأن الفعل كله لله، فهؤلاء يقولون: ما دام الفعل كله لله فلا حساب على العباد إلا بما يتعلق بالمعرفة في القلب، فمن عرف الله نجا ومن أنكر الله هلك، وليس دون ذلك أي تفصيل. فهؤلاء هم الجهمية، والجهمية ليست هي الجماعة المعهودة التي ظهرت في عهد جهم فحسب، بل بعد ذلك دخل التجهم في الفلاسفة والمتصوفة، خاصة ابن عربي ومن سلك طريقه قبله وبعده من غلاة الصوفية، هؤلاء جهمية خلص، وقد ذكر المحققون أن الجهمية فيما بعد دخلت في الصوفية فصار غلاة الصوفية جهمية، وكذلك دخل التجهم بعض فرق المسلمين. والقدرية هم المعتزلة، فالمعتزلة بعكس الجهمية تماماً، يقولون: إن الإنسان مخير كل التخيير، وإنه مسئول عن أفعاله كل المسئولية، وإن الله عز وجل لم يقدرها، فأغلبهم أثبتوا العلم لكنهم نفوا التقدير، فالقدرية هم المعتزلة الذين يقولون: إن العبد مسئول عن أفعاله مسئولية كاملة، وهو خالقها، وإن الله لم يقدرها، ومن هنا رتبوا المسئولية الكاملة على العبد، فكفروا بالمعاصي، وجعلوا أصحاب الكبائر مخلدين في النار بناء على هذه الفلسفة. وقد أثرت القدرية بعض التأثير في الفرق الكلامية التي ورثت المعتزلة فيما بعد، وإن كانت قامت ضدها أصلاً، لكنها ورثت بعض أصولها، كالرافضة ومتأخرة الخوارج، هؤلاء صاروا ورثة المعتزلة في القول بالقدر، أما الزيدية فأصلهم معتزلة. والجبرية وجد شيء منها في الفرق الكلامية، وهي الأشاعرة والماتريدية، وليس المراد الجبر الغالي، لكنه نوع من الجبر.

جواب الاعتراض بامتناع التوبة من المعصية مع شهود الحكمة في تقديرها

جواب الاعتراض بامتناع التوبة من المعصية مع شهود الحكمة في تقديرها قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة]. أي: كيف يطلب من العبد التوبة من المعاصي مع أنها حدثت بتقدير الله وحكمته؟! هذا منشأ السؤال. قال رحمه الله تعالى: [قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته]. هذا القول هو قول أغلب الصوفية، والعجيب أن هذا القول وجد في العباد الأوائل قبل أن تظهر الطرق الصوفية، فالعباد الأوائل النساك في أول القرن الثاني وما بعده هذا أصل كثير منهم، خاصة الجهلة؛ لأن العباد المشاهير منهم عندهم شيء من العلم، لكن الجهلة منهم -وهم كثير- هذا مبدؤهم، ولذلك دخلت من خلالهم هذه العقائد إلى الصوفية المتأخرة؛ لأنهم يرونهم قدوة لهم، والمتأمل لأحوال العباد الأوائل يجد أنهم تقمصوا عقائد كثير من الفرق التي وجدت في البلاد المفتوحة، خاصة العراق، فأغلب هذه الأقوال موجود أصلاً في عباد النصارى وفي عباد الهنود وموجودة عند طوائف من المجوس، فانتقلت إلى المسلمين عبر وراثة هذه العقائد عن أولئك القوم الذين، دخلوا في الإسلام ولم يتفقهوا في الدين، أو عن طريق الزنادقة الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا تلك العقائد ثم دعوا إليها. قال رحمه الله تعالى: [وفي ذلك قيل: أصبحت منفعلاً لما يختاره مني ففعلي كله طاعات وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي، لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون كلهم مطيعين، وهذا غاية الجهل]. قد يظن بعض الناس أن هذا من باب الإلزام، لكنه في الحقيقة واقع، فهناك طوائف من هؤلاء القوم من المتصوفة الفلاسفة الزنادقة الباطنية، والذين يجمعهم كلهم ابن عربي الطائي الاتحادي صاحب وحدة الوجود الحلولي الجهمي، صرحوا بأن خصوم الأنبياء هم أصحاب الحقيقة والتوحيد، وصرح به ابن عربي أكثر من مرة في كتبه صراحة لا التواء فيها ولا غموض، وكرر ذلك تكراراً بيناً، وألف في ذلك كتباً ورسائل، حتى إنه صرح بأن خصوم الأنبياء من الأمم المشركة التي كفرت بالنبوة وبأنبياء الله ورسله أعرف بالتوحيد من الأنبياء وأتباع الأنبياء، وأنهم حينما دعا بعضهم إلى عبادة نفسه أو عبادة الأوثان ما قال إلا الحقيقة وما فعل إلا الحقيقة. فهذا ليس من باب الإلزام فقط، وإن كان فعلاً يلزم من ألغى الحكمة والمشيئة ولم يفرق بين الأمر الشرعي وبين الأمر الكوني والقدري أن ينتج عنده أنه لا فرق بين التوحيد والشرك، فهذا إلزام فعلي عقلي وشرعي، لكنه حدث فعلاً، فتوصلوا إليه، وانتهى مذهبهم الباطل بقول ابن عربي، وصار مذهباً يحتذى إلى الآن في الفرق الباطنية في أكثر العالم الإسلامي، فالعالم الإسلامي الآن تنتشر فيه الفرق الباطنية، وأغلبها تتبنى هذا الرأي. قال رحمه الله تعالى: [لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة، فإن عليه حصناً حصيناً من (فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي)، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحالة، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه استولى عليه حكم النفس، فهنالك نصبت عليه الشباك والأشراك، وأرسلت عليه الصيادون، فإذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي؛ فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر، فبقي بربه لا بنفسه]. هذا الكلام فيه إيهام، وإن كان قاله ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين، وابن القيم لاشك في أنه أراد بمثل هذا الكلام أن يجر جهلة الصوفية إلى التوحيد بعباراتهم، وأن يفسر لهم أقوال أئمتهم بتفسير أقرب إلى الحق والسنة، وأن يعبر عن الحق بتعبيراتهم من أجل أن يكمل الحق الذي أراد بيانه، لكن مع ذلك ينبغي ألا نجيز هذا بإطلاق؛ لأن المسلم الذي عوفي من هذه الأمور وهذه المصطلحات وهذه المفاهيم الأولى له ألا يخوض فيها وألا يتعلق قلبه ولا خاطره بمثل هذه الأمور، ولا يقرأ الكتب المتعلقة بتقرير هذه القضايا إلا للحاجة، أو أن يكون طالب علم متمكناً، فمدارج السالكين كتاب جيد، وقد أفاد فيه في تقريب جهلة الصوفية وغير المعاندين منهم إلى الحق، وشرح مصطلحات بمعنى أقرب إلى الحق، فسلم من الولوغ في الكفريات، لكنه لا يصلح لأهل السنة الذين سلموا أصلاً من هذه المصطلحات ولم يعرفوها ولم يسمعوا بها ولا توجد عندهم. ولذلك فمثل هذا الكتاب يوصى بأن ينتشر في البلاد التي يكثر فيها التصوف أو تسود فيهم مصطلحات الصوفية، أما في البلاد التي سلمت فلا حاج

الرضا بالقضاء لا يستلزم امتناع إنكار الكفر وكراهته

الرضا بالقضاء لا يستلزم امتناع إنكار الكفر وكراهته قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرهه؟! فالجواب أن يقال: أولاً: نحن غير مأمورين بالرضا بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بل من المقضي ما يرضى به، ومنه ما يسخط ويمقت، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يسخط، كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم]. يقصد أن القضاء له وجهان: فمن حيث علمه وتقديره من الله عز وجل يجب أن يرضى به، ومن حيث هو من أفعال العباد ومن حيث كونه معصية فلا شك أنه ينبغي أن يسخط، ولا يسخط على الله عز وجل، تعالى الله عن ذلك، لكن يسخط العيب نفسه، بمعنى أن يكره. وكذلك القضاء، فالقضاء له وجهان: فمن حيث تقديره ومن حيث إرادته يجب أن يرضى به من الله عز وجل وألا يسخط، ومن حيث جانب المعصية فيه يعاب. فقوله: [بل من القضاء ما يسخط] يقصد به المعايب والمعاصي والذنوب، ولا يقصد المصائب، وهذا أمر يجب أن يفهم؛ لأن العبارة مجملة، فهو لا يقصد قضاء الله وتقديره العام، إنما يقصد جانب العيب وجانب الذنوب وجانب المعاصي التي هي من أفعال العباد، فهي من وجه قضاء من الله عز وجل، وهي من وجه آخر فعل من العبد، ففعل العبد مذموم ومسخوط، وفعل الله وتقديره مرضي لحكمة منه عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [ويقال ثانياً: هنا أمران: قضاء الله: وهو فعل قائم بذات الله تعالى، ومقضي: وهو المفعول المنفصل عنه. فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، فيرضى به كله، والمقضي قسمان: منه ما يرضى به ومنه ما لا يرضى به. ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان: أحدهما: تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به، والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى ما لا يرضى به. مثال ذلك: قتل النفس، له اعتباران: فمن حيث قدَّره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره نرضى به، ومن حيث صدر من القاتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله نسخطه ولا نرضى به].

الأسئلة

الأسئلة

حكم القول باشتراك الخالق مع المخلوق في أصل الصفة

حكم القول باشتراك الخالق مع المخلوق في أصل الصفة Q هل يصلح أن يقال: إن الله عز وجل يشترك مع المخلوق في أصل الصفة؟ A الله موجود والمخلوق موجود، إلا أن وجود الله واجب ووجود المخلوق ممكن، وهكذا في باب الصفات، فأصل المبدأ صحيح، لكن التعبير يجب أن يتأدب فيه مع الله عز وجل عندما يقرر هذا في باب الرد على المعطلة الذين زعموا أن سبب تعطيلهم التشبيه، فيقال لهم هذا الكلام، لكن لا يقرر عقيدة؛ لأنه لا يقرر إلا لنفي شبهة ولنفي باطل؛ لأن هذا الأصل بدهي عند أصحاب الفطر السليمة والعقول السليمة، فلا داعي إلى تقريره، لكن من حيث تصوره نعم، فتصوره صحيح، وهو أن أصل الصفة من حيث إنها موجودة في الأذهان ممكن أن تطلق على الله عز وجل وتطلق على المخلوق إذا كان ممن يستحق الصفة، لكنها في حق الله كاملة وتليق بالله عز وجل، وفي حق المخلوق ناقصة وتليق بنقص المخلوق، مثل العلم، فالله عز وجل عليم وعالم، لكن علمه العلم الكامل، ومن البشر من يسمى عالماً، لكنَّه علم ناقص. فأقول: تقرير هذه الأمور على سبيل الرد والبيان صحيح، لكن أن تقرر استقلالاً -بمعنى: أن نقررها وكأنها من ثوابت العقيدة- لا يصح؛ لأننا في غنى عن ذلك، والعقل السليم والفطرة تدرك هذا بالبديهة.

الجمع بين قوله تعالى: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وقوله: (كل من عند الله)

الجمع بين قوله تعالى: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) وقوله: (كل من عند الله) Q يقول الله عز وجل: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، وفي الآية الأخرى يقول عز وجل: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء:78]، حينما ذكر الحسنة والسيئة، فكيف نجمع بينهما؟ A لا تعارض في ذلك، فالسيئة والحسنة من حيث القضاء كلتاهما مقضيتان من الله ومقدرتان، لكن من حيث الفعل تنسب السيئة التي هي المعايب أو الأخطاء أو المعاصي إلى العباد؛ لأنهم فعلوها بمحض إرادتهم التي أقدرهم الله عليها، وهذا من رد معاني هذه الآية إلى ما سبق تقريره، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الطحاوية [54]

شرح العقيدة الطحاوية [54] الأصل الواجب على العبد أن يؤمن بقضاء الله تعالى وقدره كما جاء في الكتاب والسنة، ولا يرد شيئاً مما دلت عليه النصوص في هذا الباب، ويجب الحذر من الوسوسة وكثرة التفكير والخوض في هذا الأمر؛ فإن هذا فتح لباب الضلال والانحراف فيه، فالواجب هو الإيمان والتسليم بما ورد، ولا يجوز الاعتراض أو السؤال عن شيء قدره الله تعالى لم قدره؟ فإن هذا ضلال مبين؛ لأن القدر مما اختص الله تعالى بعلمه، ولم نعلم منه إلا ما ورد في النصوص فالواجب هو التسليم بذلك تسليماً مطلقاً.

ضرر التعمق والبحث في القدر بأكثر مما ورد في النصوص

ضرر التعمق والبحث في القدر بأكثر مما ورد في النصوص قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان) إلى آخره، التعمق: هو المبالغة في طلب الشيء. والمعنى: أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان، والذريعة: الوسيلة، والذريعة والدرجة والسلم متقاربة المعنى. وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقارب المعنى أيضاً، لكن الخذلان في مقابلة النصر، والحرمان في مقابلة الظفر، والطغيان في مقابلة الاستقامة]. يقصد بذلك أن الكلام في القدر بأكثر مما ورد في النص والتمادي في إثارة الشكوك وإثارة الأسئلة والإشكالات في القدر لا يزيد الإنسان علماً ولا يقيناً ولا إيماناً، فالقدر سر الله في خلقه، ولابد من الوقوف على ما جاء فيه من النصوص في الكتاب والسنة، ثم إن القدر لا يمكن لأحد من الخلق أن يأتي فيه بجواب بأكثر مما ورد عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. فتطاول العقول وتعمق الأفكار والوساوس في القدر لا يزيد الإنسان إلا خذلاناً، ولا يزيده إلا غواية وضلالة وبدعة وشكوكاً، وربما يصاب بشيء من الوساوس التي تبقى في نفسه فلا تمحى إلا بصعوبة، وربما تهلكه، فعلى أي حال: يجب على المسلم أن يحذر كل الحذر من إثارة الأسئلة والإشكالات في القدر، وإذا ثارت الأسئلة في أمر عارض فإن على الإنسان أولاً أن يعود إلى مبدأ التسليم، ويحاول أن يصرف ذهنه عما يرد إليه من شكوك وإشكالات، فإن استطاع وإلا فليحاول تلاوة آيات القدر وأحاديث القدر لعله بذلك يشفى قلبه، فإن لم يستطع فليسأل أهل العلم، فإن لم يصل إلى نتيجة فليضرع إلى الله عز وجل بأن يشفيه ويعافيه.

وجوب الحذر من الوساوس والخواطر المتعلقة بأمور الغيب

وجوب الحذر من الوساوس والخواطر المتعلقة بأمور الغيب [وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة): عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان). رواه مسلم. الإشارة بقوله: (ذاك صريح الإيمان) إلى تعاظمهم أن يتكلموا به. ولـ مسلم أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان)، وهو بمعنى حديث أبي هريرة، فإن وسوسة النفس ومدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان]. يقصد بالوسوسة هنا الخواطر العابرة العارضة، فالوسوسة العارضة والأفكار العارضة والخواطر الطارئة قد لا يسلم منها الإنسان، لكنها ما لم تستقر في النفس لا تضر، وهي من محاولة الشيطان إغواء كل إنسان، فإن وجد الإنسان في نفسه يقيناً ودفعها فليعلم أنه بذلك حقق معنى الإيمان، وصريح الإيمان، بمعنى: أن مجرد الوسواس العارض لا يضره، والفارق بين الوسواس العارض والثابت أن الوسواس العارض يجد فيه الإنسان من نفسه نوعاً من الغرابة والإنكار، وشيئاً من النفرة، حيث تنفر منه النفس بالفطرة لاسيما الوساوس المقصودة هنا، وهي الوساوس التي تتعلق بأمور الغيب، بالقدر، أو بالله عز وجل وبأسمائه وصفاته وأفعاله، ونحو ذلك، فإن هذه الخواطر ترد إلى الإنسان، فالمؤمن لابد من أن يجد في نفسه كراهية لهذه الخواطر ويحاول دفعها بما عنده من مبدأ التسليم لله عز وجل واليقين بالله واليقين بالحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد ذلك فليعلم بذلك أنه -إن شاء الله- حقق معنى الإيمان. إذاً: ليس المقصود بالوسوسة هنا الوسواس المستقر الذي هو بمثابة الشكوك، بل الوسوسة العارضة التي يسميها الناس أفكاراً وخواطر وخطرات تعرض، إما بسبب يرد إلى الإنسان من الأسباب المنظورة والمشاهدة والمحسوسة أو مما يسمعه من الناس، وإما من وسوسة الشيطان المحضة، لكنه إذا وجد في نفسه إنكاراً لهذه الوساوس فليعلم أن أصل الإيمان موجود عنده، وليحمد الله على ذلك. إذاً: هناك نوع من الوسواس غير ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهو الشكوك، سواء كان منشؤها الأمور العارضة الخارجة عن إرادة الإنسان أو الخارجة عن تفكير الإنسان بذاته، كما يحدث مما يقرؤه بعض الناس أو يسمعونه، أو ما يحدث من شبهات الفلاسفة والمتكلمين والدهريين وغيرهم، فهذا النوع إذا ورد على الإنسان فإن كان عنده شيء من الإيمان وقوة اليقين بالله عز وجل والفقه في دين الله؛ فإن ذلك لا يضر، وإن ضعف إيمانه وقل فقهه فربما تؤثر فيه الشبهات الواردة التي ترد من الناس أو ترد مما يسمعه أو يراه. كما أن من الشكوك ما يثيره أهل الشكوك أنفسهم من الفلاسفة والدهريين والعقلانيين والكفار والمشركين والمنافقين، فهذه شكوك ثابتة في أنفسهم وليست عارضة، وتكون من أسباب تماديهم في الضلالة، وقد تؤثر هذه الشكوك على بعض مرضى القلوب من المسلمين إذا ضعف إيمانهم وقل علمهم. ولذلك يجب على المسلم أن يحذر من قراءة الكتب التي تثار فيها هذه الإشكالات، ويجب ألا يتمادى في سماع ما يرد إلى سمعه من هذه الشكوك من الناس أو عبر الوسائل التي ترد فيها هذه الشكوك، كما أنه ينبغي أن يحصن نفسه ابتداء بمعرفة أصول الإيمان بالقدر؛ لأن الإنسان ضعيف، والواردات إلى ذهنه من خارج ذهنه أو من وساوس الشيطان في داخله كثيرة، فإذا وافقت ضعفاً في الإيمان وقلة في الفقه والعلم وعدم رسوخ في العقيدة فربما تؤثر على الإنسان، بل ربما يعتقد عقيدة باطلة من خلال هذه الوسوسة أو من خلال هذه الشكوك وهو لا يشعر.

نشأة الوساوس في القدر ونحوه من أمور الغيب

نشأة الوساوس في القدر ونحوه من أمور الغيب قال رحمه الله تعالى: [هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان، ثم خلف من بعدهم خلف سودوا الأوراق بتلك الوساوس التي هي شكوك وشبه، بل وسودوا القلوب وجادلوا بالباطل؛ ليدحضوا به الحق]. أول من فعل ذلك صنفان من الناس: أناس كانت عندهم هذه الوساوس بمثابة النزعات الفردية، وقد لا ترجع إلى أصول عقدية ذات قواعد أو إلى فرق أو نحل، وهذه كانت مصيبتها أسهل، وكان السلف الأوائل لهم منها مواقف قضت على هذه النزعات، كما حدث من بعض المشككين من أمثال صبيغ بن عسل التميمي، وذلك الشاب الذي جاء إلى ابن عباس وكان قد تمادى في الوسوسة في القدر، فجاء به أبوه إلى ابن عباس فأعطاه ابن عباس رضي الله عنهما درساً في ذلك حتى رجع واستقام، ومثلما حدث من بعض أهل الذمة، كـ قسطنطين بطريرك النصارى في الشام الذي سلم مفاتيح بيت المقدس لـ عمر، فقد حدثت منه تلك الحادثة بينما كان عمر يخطب بالجابية، فاعترض على القدر وهدده عمر بن الخطاب، وما حدث من بعض الخوارج كذلك، وما حدث من ابن الكوى وأمثاله. فإن هذه الأمور كانت نزعات فردية لم تكن أصولاً فلسفية، ولا ترجع إلى فرق، فهذه النزعات كانت بمجرد أن تبدو وتظهر يقضى عليها بسرعة وبقوة وبحزم، وتنتهي إما بالقوة وإما بإقناع أصحابها بالدليل والبرهان. الصنف الثاني: فرق سودت الكتب وظهر كلامها على شكل أصول، وأول ما ظهرت بعد سنة ستين للهجرة، وظهر كلامها على شكل اعتراض مقنن في مسائل القدر، يعني: كان كلامهم في القدر يحمل أصولاً وقواعد مستمدة من أهل الكتاب ومن الصابئة ومن المجوس، وكلهم تتشابه أقوالهم في القدر، وكان أصحاب هذا القول -أي: الفرق القدرية الأولى- عندهم نوع من التقعيد لمقولتهم، وهو تقعيد عقلاني وفلسفي، ولذلك لما ظهروا فتن بهم طوائف من أبناء المسلمين الذين قل فقههم في الدين ثم لما واجههم السلف كانوا مستعدين بالحجج العقلية والفلسفية، وأولهم معبد الجهني، ثم غيلان الدمشقي، ثم بعد ذلك تلقف هذا الاتجاه المعتزلة وصار أصلاً من أصولهم، وسموا بالقدرية فيما بعد. ثم انتقلت هذه الأصول إلى كثير من الفرق فيما بعد، فدخل القول في القدر إلى الرافضة، ودخل إلى الجهمية، ثم قالت به الفرق الكلامية المتأخرة من الأشاعرة والماتريدية، أي: أنها قالت في بعض مسائل القدر بقول يخالف أصول أهل السنة والجماعة، وإن كانت في الأصول الكبرى في القدر تقول بقول أهل السنة، لكن عندها بعض المسائل التي تخالف فيها أهل السنة، مثل مسألة الاستطاعة ومسألة الحكمة والتعليل لأفعال الله عز وجل ونحو ذلك، وبعد ذلك صار القول بالقدر أصلاً من أصول كثير من الفرق إلى يومنا هذا.

نصوص في ذم الخوض في القدر والبحث فيه

نصوص في ذم الخوض في القدر والبحث فيه قال رحمه الله تعالى: [ولذلك أطنب الشيخ في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه. وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم). وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا داود بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه، قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم. قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده بما غبطت نفسي بذلك المجلس أني لم أشهده). ورواه ابن ماجة أيضاً. وقال تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة:69]، الخلاق: النصيب، قال تعالى: {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] أي: استمتعتم بنصيبكم من الدنيا كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم، وخضتم كالذي خاضوا، أي كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا]. معنى (الذي خاضوا) أي: الذين خاضوا في الكلام في دين الله عز وجل بغير علم، وأول ذلك القدر، فكل الأمم -سواء الأمم الكتابية والأمم غير الكتابية- ضلت في القدر، أما الأمم الكتابية فقد ضلت بعد الهدى اليهود والنصارى، وأما الأمم غير الكتابية فمن الطبيعي أنها لم تهتد إلى الحق أصلاً، فقد قررت مسائل القدر بعقولها، فكل الأمم المنحرفة والضالة خاضت في القدر على نحو يختلف ويتناقض، وأخذوا في مسألة القدر مسالك شتى متناقضة ينقض بعضها بعضاً. فالله عز وجل في هذه الآية ينهانا وينهى الأمة كلها عن أن تخوض كما خاض الذين سبقوا؛ لأن الخوض في مسائل القدر هو مفتاح الخوض في جميع مسائل الاعتقاد، وما خاض أحد في القدر إلا ضل؛ لأن القدر مبناه على التسليم. وكذلك سائر أمور الغيب، لكن القدر هو أكثر أمور الغيب إعضالاً، والقدر يستهوي الحديث فيه النفوس، وأكثر الناس يجيد الخصام في القدر؛ لأن إثارة الشكوك فيه تقوم على الألغاز، فمن هنا يستهوي كثيراً من الناس الذين يصابون بمرض الثرثرة والكلام، فالمهم أن الأمم التي ضلت كان من أعظم من أسباب ضلالها الخوض في القدر، وقد نهينا أن نخوض في القدر، وكذلك غير القدر من أمور الغيب الأخرى. قال رحمه الله تعالى: [وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض؛ لأن فساد الدين إما في العمل وإما في الاعتقاد، فالأول من جهة الشهوات، والثاني من جهة الشبهات].

مشابهة هذه الأمة لأهل الكتاب في الافتراق وبيان نصيب القدر من ذلك

مشابهة هذه الأمة لأهل الكتاب في الافتراق وبيان نصيب القدر من ذلك قال رحمه الله تعالى: [وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لتأخذن أمتي مآخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، قالوا: فارس والروم؟ قال: فمن الناس إلا أولئك). وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان في أمتي من يصنع ذلك، وإن بني إسرائيل تفرقوا على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي). رواه الترمذي. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة)، رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: حديث حسن صحيح. وعن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني: الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة). وأكبر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأمة: مسألة القدر، وقد اتسع الكلام فيها غاية الاتساع]. لذلك كانت كل الفرق التي انحرفت عن السنة والجماعة عندها مخالفة في القدر، بمعنى أنها تتفق على الخروج عن السنة في مسألة القدر إما خروجاً جزئياً وإما خروجاً كلياً، فأولها القدرية الخالصة، وآخرها: أهل الكلام المتأخرين من الأشاعرة والماتريدية، فقد خالفوا السنة في بعض مسائل القدر. إذاً: الخروج عن السنة والخروج عن الحق في مسألة القدر قاسم مشترك بين جميع أهل الأهواء، فهو من المسائل التي تتفق عليها فرق الضلال وإن تفاوتت أقوالهم، مع أنها قد تختلف في المسائل الأخرى من مسائل الاعتقاد، أي أن بعضها قد يكون له قول صحيح في بعض مسائل الاعتقاد.

دلالات في أحاديث الافتراق

دلالات في أحاديث الافتراق

الجزم بحصول الافتراق في الأمة

الجزم بحصول الافتراق في الأمة ثم إن في هذه الأحاديث دلالة على أمور سبق التنويه عليها متفرقة، ولكن تحسن الإشارة إليها الآن، وأقول: إن أحاديث الافتراق دليل قاطع على إن الافتراق لابد واقع في هذه الأمة، وأن وقوعه أمر كتبه الله عز وجل، لكن وقوع الافتراق لا يعني ضياع الحق، فقد صح في الأحاديث المتواترة أنه تبقى في هذه الأمة طائفة على الحق ظاهرة ومنصورة إلى قيام الساعة، هذا أمر. الأمر الآخر: أن وقوع الافتراق لا يعني الرضا به، إذ هو في كتاب الله عز وجل وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم جاء على نوعين: جاء على طريق الإخبار وجاء على طريق التحذير من الوقوع في الأهواء، وذلك من باب تنبيه الأمة حتى لا تقع في الأهواء؛ لأن الأهواء لابد واقعة، ولذا فإن وقوع الافتراق يعني أن المسلم لابد له من أن يحذر في كل أموره من أن يقع في الهوى أو أن يزل أو أن يضل أو أن يتبع أحداً في الدين غير أهل السنة والجماعة.

بقاء الافتراق والاختلاف إلى قيام الساعة

بقاء الافتراق والاختلاف إلى قيام الساعة ثم إن في هذه الأحاديث أيضاً دلالة على أن الافتراق باق إلى قيام الساعة، وبهذا نرد على الذين يزعمون -وهم كثيرون- من المفكرين والعصرانيين والعقلانيين في هذا العصر الذين ينتسبون إلى الإسلام أن دعوى الافتراق دعوى ليست صحيحة، وأن الأمة كلها على الحق، وأن ما يحدث بينها هو أمور خلافية مما يسع فيه الاجتهاد، وأنه لا يجوز أن ندعي أن الأمة مفترقة أو أنها جماعات ينابذ بعضها بعضاً إلى آخره. وهذه دعوى -وإن كانت بينة العوار والخطأ- قد أثرت في طائفة من شباب الأمة ومفكريها ومثقفيها، فكان لابد من التنبيه على ذلك، لاسيما أن الذين قالوا بهذه المقولة وزعموا أن هذه الافتراقات ما هي إلا اختلاف في وجهات النظر، وما هي إلا نزاع في أمور اجتهادية بعضهم من المتبوعين الذين يحملون رايات تنتمي إليها جماعات من شباب الأمة، لذا يلزم التنويه بهذه المسألة والتنبيه عليها والتحذير منها.

الفرق المخالفة المتوعدة غير خارجة من الملة

الفرق المخالفة المتوعدة غير خارجة من الملة ثم إن هناك أمراً آخر يتعلق بمن ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم من المفارقين من الثنتين والسبعين الذين فارقوا السنة والجماعة، فهم أولاً متوعدون بالنار، وهذا صريح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن توعدهم بالنار لا يعني بالضرورة أنهم من الخالدين فيها، بل اتفق جمهور السلف على أن الفرق المفترقة التي لا تزال في ضمن المسلمين الأصل فيها أنها من أهل الوعيد، وليست من الكفار الخلص أو من المرتدين، ولذلك كان السلف إذا حكموا على أحد من أهل الأهواء بالردة أو الكفر الصريح أخرجوه من الثنتين والسبعين وقالوا: لا يعد هذا من فرق المسلمين، وهذا يكاد يكون محل اتفاق بينهم، فمثلاً: أغلب السلف لا يعدون غلاة الجهمية من فرق المسلمين، ولا يعدونهم من الثنتين والسبعين، ولا يعدون غلاة الرافضة من الثنتين والسبعين، ولا يعدون الباطنية من الثنتين والسبعين، بل يعدونها من ملل الكفر التي لا تنسب إلى الإسلام وإن انتسبت. إذاً: ففرق المسلمين الثنتان والسبعون التي خرجت عن السنة والجماعة لاشك في أنها ضالة وأنها مبتدعة، ويجب على المسلم أن يتبرأ من مناهجها ومن أهلها، لكنها ليست داخلة في صنف الكفار الخلص ولا في أهل الخلود في النار، إنما تدخل في أهل الوعيد من هذه الأمة. أقول هذا؛ لأنه اشتهر عند بعض الباحثين المتأخرين القول بأن الفرق الثنتين والسبعين خارجة من الملة، وأنها مخلدة في النار، وأنها تترتب عليها أحكام الكفار الخلص، وهذا خطأ، ورأيت في هذا الأمر بعض المؤلفات التي ظهرت أخيراً، كما أنه بالعكس ظهرت مؤلفات أخرى تزعم أن الفرق الثنتين والسبعين ليست من الفرق الضالة كلها، إنما هي من الفرق المختلفة في أمور اجتهادية، كالمذاهب الأربعة في الفقه، وهذا كله ضلال، لا هذا ولا ذاك، فالقول الوسط قول أهل السنة والجماعة أن الافتراق واقع، وأن الفرق المفارقة للسنة والجماعة ضالة ومبتدعة وخارجة عن السنة، ويجب على المسلم أن يتبرأ منها ومن عقائدها، لكنها غير خارجة من الملة إلا من خرج منها من الملة، وهي متوعدة بالنار، وحكمها حكم أهل الكبائر، والله أعلم.

قيام مبنى العبودية والإيمان على التسليم وعدم الخوض في تفاصيل الحكمة في الأمر والنهي والشرع

قيام مبنى العبودية والإيمان على التسليم وعدم الخوض في تفاصيل الحكمة في الأمر والنهي والشرع قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين): اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك، كما في الإنجيل: يا بني إسرائيل! لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا. ولهذا كان سلف هذه الأمة التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قدر كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم، فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأموراً به بحيث لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته، فإن ظهرت له فعله وإلا عطله، فإن هذا ينافي الانقياد ويقدح في الامتثال. قال القرطبي ناقلاً عن ابن عبد البر: فمن سأل مستفهماً راغباً في العلم ونفي الجهل عن نفسه باحثاً عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه فلا بأس به؛ فشفاء العي السؤال، ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره. قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد، قال: فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها ونشدت من مظانها، والله يفتح وجه الصواب فيها. انتهى. وقال صلى الله عليه وسلم: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، رواه الترمذي وغيره، ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له بين له الصواب؛ ليرجع إليه، فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته كما يقول جهم وأتباعه، وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله): قوله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود): الإشارة بقوله: (فهذا) إلى ما تقدم ذكره مما يجب اعتقاده والعمل به مما جاءت به الشريعة، وقوله: (وهي درجة الراسخين في العلم) أي: علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلاً، نفياً وإثباتاً، ويعني بالعلم المفقود: علم القدر الذي طواه الله عن أنامه ونهاهم عن مرامه، ويعني بالعلم الموجود: علم الشريعة أصولها وفروعها، فمن أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين، ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين، قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26 - 27] الآية. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34]، ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها ولا انتفاؤها جهلنا حكمته، ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيات والعقارب والفأر والحشرات التي لا يعلم منها إلا المضرة لم ينف أن يكون الله تعالى خالقاً لها؟! ولا يلزم ألا يكون فيها حكمة خفيت علينا؛ لأن عدم العلم لا يكون علماً بالمعدوم].

أنواع العلم المفقود الذي لا يسع المكلف طلبه

أنواع العلم المفقود الذي لا يسع المكلف طلبه هنا قسم العلم إلى مفقود وموجود، فالمفقود -كما أشار الشارح- يمكن أن يلخص في ثلاثة أمور: أولاً: القدر، فالقدر كله علم لا صلة للبشر به، ولم يتعبدوا بالبحث عنه أبداً، إنما تعبدوا بالتسليم به مطلقاً، ونصوصه محكمة، بمعنى أنه لا سبيل إلى الزيادة عليها ولا النقصان. الأمر الثاني: الغيبيات عموماً، سواء ما يتعلق بالله عز وجل بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وما يتعلق بأخبار الغيب الأخرى، وهي التي تسمى بالسمعيات، كأحوال الآخرة وأحوال المستقبل، وعالم الشهادة الذي لا نراه ولا تتناوله حواسنا ومداركنا، فإن هذا كله داخل في العلم المفقود الذي يجب على الإنسان ألا يتطلع إليه، ولا يبحث عنه، وبحثه من التكلف والإثم. الأمر الثالث: بعض حكم التشريع، فحكم التشريع نوعان: نوع قد يدركه عامة الناس أو يدركه طلاب العلم أو يدركه الراسخون، وبعضه قد لا يدرك إلا بذكاء وفطنة، وبعضه يدرك بالبديهة. النوع الثاني من حكم التشريع: ما لا يدرك أبداً، فيبقى سراً من أسرار الله عز وجل وحكمه الخفية. إذاً: فحكم التشريع ليست كلها خفية، فما يدرك عند الناس هو درجات، وما لا يدرك داخل في العلم المفقود، فليس للإنسان أن يكلف نفسه في البحث عن علل التشريع لا في جزئياتها ولا في كلياتها، نعم يلتمس العلل من باب قوة اليقين ومن باب الاستزادة من الحكمة ومن معرفة نعم الله عز وجل على عباده، فهذا أمر طيب، لكن لم نتعبد بمعرفة حكم التشريع كلها، بل ليس أصل البحث عن الحكمة مطلوباً شرعاً، لكن الإنسان قد يجد في البحث عن الحكمة أحياناً نوع استزادة من الإيمان أو من تعظيم الله عز وجل. النوع الثاني: العلم الموجود، وهو ما كان في متناول الإنسان، كاستنباط الأحكام من الأدلة، فهذا في متناول الإنسان، وقد تعبدنا به شرعاً، ومن الواجبات التي يجب أن تقوم به الأمة، وكذلك سائر الأمور الاجتهادية، سواء في علوم الدين أو في علوم الدنيا، فهذا علم موجود وقد تعبدنا بالبحث عنه، ولا تقوم مصالح العباد إلا به، بل لا تؤدى عبادة الله عز وجل على الوجه الشرعي السليم إلا به، فهذا العلم الموجود هو الذي أمرنا بطلبه وتعبدنا به، وهو الذي وردت النصوص بفضله وفضل طالبه، خاصة العلم الشرعي. وأما قول الشارح: [ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها ولا انتفاؤها جهلنا حكمته] ففيه اضطراب في الحقيقة، فالمحقق حينما نصب (جهلنا) ربما اجتهد، وقد أخطأ في نظري؛ لأن العبارة مضطربة، ولا نجزم بأن الجهل هو المنفي هنا، ومع ذلك يمكن أن نلتمس للعبارة معاني: المعنى الأول: أن قوله: [ولا انتفاؤها جهلنا حكمته] مرادف لقوله: [ولا يلزم من خفاء حكمة الله تعالى علينا عدمها]؛ أي: أن خفاء الحكمة علينا لا يلزم أنها غير موجودة، فحكمة الله موجودة فعلاً، ومعلومة بالضرورة، سواء علمت أو خفيت، وأظن العبارة الثانية مرادفة لها، فالعبارة الثانية: [ولا انتفاؤها جهلنا حكمته] معناها أننا إذا جهلنا فلا يلزم من جهلنا عدم الحكمة، وهذا مرادف في المعنى للأول. المعنى الثاني: أن انتفاء قدرتنا على الحكمة لا يعني أننا لا نقدر على شيء منها أبداً، بمعنى أنا قد نقدر على بعضها، إنما لا ندرك كل الحكمة، بل قد ندرك بعض الحكم، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

ثمرة الخلاف في كيفية حصول الميثاق

ثمرة الخلاف في كيفية حصول الميثاق Q ما هي ثمرة الخلاف في مسألة الميثاق؟ وهل يترتب عليها أحكام عقدية؟ A الخلاف في العقائد على نوعين: نوع له ثمرة عملية وعلمية، أي: اعتقادية، ونوع ليس له ثمرة عملية، لكن لابد أن يكون له ثمرة اعتقادية، فكل خلاف في العقائد لابد أن يكون له ثمرة عقدية علمية، وقد يكون له ثمرة عملية، فمسألة الميثاق ليس وراءها ثمرة تتعلق بسلوك الناس وأعمالهم في الدنيا، لكنها من أمور العقيدة؛ لأنها تتعلق بالخبر عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الإشارة إلى الميثاق في القرآن وجاء ذكره صراحة في السنة. إذاً: فهو من أمور الاعتقاد كما صح؛ لأنه من أمور الغيب، ومن هنا نقول: ثمرة الخلاف في مسألة الميثاق هي العلم والاعتقاد.

صور الميثاق عند الشيخ حافظ الحكمي

صور الميثاق عند الشيخ حافظ الحكمي Q ذكر الشيخ الحكمي في معارج القبول نوعاً ثالثاً من صور الميثاق، وهو إرسال الرسل، فهل هذا يدخل في أنواع الميثاق؟ أم هو مسألة أخرى منفصلة؟ A الشيخ الحكمي رحمه الله ذكر في معارج القبول أنواعاً كثيرة جداً من صور الميثاق في الدنيا، وأشار إلى أن الميثاق له صورتان: صورة تتعلق بوقوعه في الأزل قبل أن تظهر للخلق علامات ودلائل وجود الله عز وجل ودلائل حكمته وتوحيده، وصورة تكون في الدنيا، وصورة ثالثة تكون في الآخرة. فالشيخ الحكمي عندما ذكر صور الميثاق في الدنيا ذكر منها أشياء كثيرة، ذكر منها الآيات الكونية كالسموات والأرضين وغيرها، وذكر منها الآيات في الأنفس، وذكر منها آيات الفطرة والدلائل العقلية، وذكر منها الدلائل السمعية، وذكر منها إرسال الرسل والحجة التي قامت بهم على الخلق، وذكر صوراً كثيرة لا تكاد تحصى، بمعنى أن الشيخ رحمه الله عدد أنواع الدلائل والبراهين السمعية والعقلية المرئية والمشهودة والمسموعة والمدركة بسائر الحواس، واعتبرها كلها دلائل على الميثاق.

معنى الإيمان بالقدر خيره وشره

معنى الإيمان بالقدر خيره وشره Q يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان: (وتؤمن بالقدر خيره وشره)، فهل التسليم بالشر كالتسليم بالخير؟ A التسليم بالشر بمعنى أن الله عز وجل قدره، وأنه كتبه على العباد، وأنه من ضمن المصائب اللي تحدث على العباد حق، ولابد للمؤمن من أن يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن الله عز وجل قدر الخير والشر، بمعنى: علمه وكتبه وشاءه. لكن للشر جانبان: جانب من حيث تقديره، وآخر من حيث وقوعه، فالمعاصي والمعايب التي تحدث من العباد يحاسب عليها الإنسان، ومع ذلك يؤمن بها إذا وقعت، والإيمان بها لا يعني إقرارها ولا التسليم بها، ولا يعني أيضاً عدم الإنكار، ولا أن تكون حجة للعبد على ربه، ولا على ترك شرع الله، إنما وقوعها من العبد عيب يلام عليه، وتقديرها من الله عز وجل حكمة، فالمهم أن المؤمن يؤمن بالقدر خيره وشره، وأن الله عز وجل قدر الخير والشر.

معنى الاستحسان في الأحكام الفرعية وحكمه

معنى الاستحسان في الأحكام الفرعية وحكمه Q عارض الفلاسفة شرع الله بعقولهم، فهل سن الأحكام والاستحسان الذي فعله بعض الأئمة يدخل في ذلك؟ A إذا كان يقصد بالأئمة أئمة الهدى فقهاء الإسلام المقتدى بهم في الدين فلا، فهؤلاء ما وقعوا في شيء من ذلك، وما قالوه في الاستحسان في الفقه ما خرجوا به عن مقتضى النصوص، ولهم في ذلك أدلة، والاستحسان لا يعني معارضة الشرع بالعقل، وإنما يدخل في الأحكام الاجتهادية المستمدة من النصوص الشرعية. أما في العقيدة فليس هناك شيء اسمه استحسان في العقائد والأصول والقواعد القطعية، إنما الاستحسان الذي قرره أهل الفقه يدخل في الأحكام الاجتهادية، وينبني على الاستنباط من النصوص، فهم لا يستحسنون شيئاً بدون أن يرتبط بنص، إنما الاستحسان يدخل في الترجيح، ويدخل في الاستنباط من النصوص والتفريع على القواعد الشرعية المبنية على النصوص. فالعلماء يقررون الأحكام الاجتهادية بأصولها كما ذكرت، والاستحسان لا يعنون به ترك الشرع، إنما الاستحسان وجه من وجوه الترجيح، ولا يعد تقديماً للعقل على الشرع، إنما العقل وسيلة لفهم الشرع ووسيلة لفهم النصوص، ولا يمكن أن يستغنى عن العقل في فهم النصوص الشرعية المتعلقة بالأحكام، بل لا يستغنى عن العقل في فهم نصوص العقيدة، لكن نصوص العقيدة يسلم بها تسليماً وتقر على حقائقها التي تفهما العقول السليمة، أما نصوص الأحكام فيجتهد فيها لاستنباط الأحكام الجزئية المتعددة منها، وعلى هذا فالاستحسان لا يعد تقديماً للعقل، إنما هو وسيلة من وسائل الاجتهاد المبنية على النصوص، ولا يعد ذماً، ولا وجه للمقارنة بين الفلاسفة في تفضيلهم العقل على الشرع وبين الفقهاء الذين جعلوا الاستحسان من وسائل الاستنباط وبيان الأحكام.

توجيه احتجاج علي وفاطمة بكون أنفسهما بيد الله في نومهما عن الصلاة

توجيه احتجاج علي وفاطمة بكون أنفسهما بيد الله في نومهما عن الصلاة Q في الحديث الصحيح: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل على علي وفاطمة وهما نائمان فقال: ألا تصليان؟! فقالا: إن أنفسنا بيد الله، إن شاء أمسكها وإن شاء أطلقها، فتولى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول -يعني: كالغاضب-: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54])، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، أليس هذا منهما احتجاجاً بالقدر؟ وكيف توجه الحديث؟ A بالنسبة لـ علي وفاطمة لم يكن قصدهما الاحتجاج بالقدر، لكن قصدا أن هذا الأمر لم يكن عندهما فيه تفكير سابق، بمعنى أنهما ما عزما على القيام، ولو استيقظا لقاما، لكن ما استيقظا، فذلك الأمر بيد الله. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهما ذلك واعتبره خصومة وجدلاً، لأن علياً وفاطمة في ذلك الوقت ما كانا يجهلان أن ذلك ليس بحجة، وأن المسلم عليه أن يبذل الأسباب ليقوم، فالجواب على الإشكال موجود في الحديث نفسه، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ما رضي بهذا الجواب، ولا اعتبر التسليم بالقدر حجة على عدم فعل الخيرات والمسابقة إليها.

الموقف من اجتهادات المعتزلة ونحوهم في المسائل الفرعية

الموقف من اجتهادات المعتزلة ونحوهم في المسائل الفرعية Q بعض الطلاب في بعض الكليات ينقلون عن بعض الأساتذة أنه يقول: نحن نأخذ بآراء المعتزلة في الفقه ونوافقهم على ذلك إذا كان ذلك صحيحاً، ولكن لا نوافقهم في العقائد؟ A هناك قاعدة عامة عند السلف، وهي أن الحق يؤخذ من مصادره من الكتاب والسنة ومن آثار السلف الصالح، وأن هذا الحق قد يوافقه أهل الباطل فيأخذون به، فيؤخذ الحق لا لأنه منهم، لكن لأنه جاء من مصدره الصحيح وهو الكتاب والسنة، فعلى هذا قد يوافق قول أهل السنة قول المعتزلة أو بعض المعتزلة في الأحكام الاجتهادية، ولا يضر ذلك بقول أهل السنة والجماعة، ولا ينبغي أن يؤدي بهم إلى أن يعدلوا عن القول الحق بمجرد أن قاله المعتزلي، هذا أمر. الأمر الآخر: أنه قد يكون اجتهاد كثير من المعتزلة في الأحكام موافقاً لاجتهاد السلف في مسائل الأحكام في الفقه وأصول الفقه واللغة وغيرها، وموافقتهم لهم لأنهم أخذوا بمصدر صحيح، وهو التلقي عن الكتاب والسنة، وقد يوافقون الحق قدراً، ومع ذلك لا يرد الحق لكونه جاء عن المعتزلة. إذاً: الصحيح من هذا أنا قد نأخذ بالآراء الصائبة التي جاءت بأدلة صحيحة وإن قال بها المعتزلة، لكن لا نأخذها على أنها عنهم، بل نأخذها على أنها جاءت في الكتاب والسنة. ثم إن هناك أمراً آخر يجب التنبه له، وهو أنه ما من حق قال به أهل الأهواء إلا وقد سبقهم إليه أهل السنة، وهذه قاعدة، فلا يمكن أن ينفردوا بقول حق، فأهل الأهواء قد يقولون الحق في كثير من الأمور الاجتهادية ويوافقون الحق، فإذا قالوا بالحق ووافقوه فلا يعني أنهم انفردوا به، بل لابد أن يكون موجوداً عند أهل السنة مثله وزيادة. وهذه قاعدة من تصورها يسلم من مثل هذه الإشكالات، فعلى هذا أظن أن قول هذا الأستاذ صحيح إذا أحسنَّا الظن وأخذنا بالسلامة الأصلية في مشايخنا ومعلمينا، فصحيح أنا قد نوافق القول الحق عند المعتزلة إذا كان قولهم مبنياً على دليل صحيح يوافق ما كان عليه السلف في أمور الأحكام، أما في أمور العقائد فالمعتزلة الأصل فيهم الانحراف والابتداع، ولا تصح موافقة ما هم فيه؛ لأنه مخالفة للحق، إلا في بعض الجزئيات، فإنهم قد يوافقون الحق، وهذا لا يعد اكتشافاً منهم وانفراداً منهم بالحق، إنما هو اتباع اتبعوا به الحق عن قصد أو غير قصد.

ذكر بعض ما يطيب به خاطر المصاب من القول

ذكر بعض ما يطيب به خاطر المصاب من القول Q ما هو الذي يصح أن يطيب به خاطر من أصيب ببلاء في بدنه أو ماله ونحو ذلك؟ A قد نقول لمن أصابه كسر: قد يكون هذا الكسر الذي أصابك مانعاً لك من الموت فيما لو لم تصب به، ولكن لا داعي لهذا التفصيل، بل يمكن أن يطيب خاطر من أصيب ببعض المصائب فيقال له: احمد الله على أنه لم تكن المصيبة أعظم من ذلك، وهذا أمر طيب لا بأس به. فالإنسان يذكر بنعمة الله عز وجل أنه لم تكن المصيبة في دينه أولاً، وهذا من أعظم نعم الله على عباده المؤمنين، ألا تكون المصائب في دينهم. فالإنسان يعزى بأنه مهما بلغت المصائب في بدنه فإن ذلك له فيه أجر، وعليه أن يصبر، وأن ذلك لا يساوي شيئاً لو كانت المصيبة في دينه لا قدر الله. ثم إن المصائب في البدن تتفاوت، وأعظم مصيبة هي الموت، فما كان دون الموت لا مانع من أن يقال لمن أصيب به: يجب أن تحمد الله عز وجل على أنك لم تصب بما هو أعظم من ذلك، وهذا مشروع. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الطحاوية [55]

شرح العقيدة الطحاوية [55] اللوح والقلم حق ثابت بالكتاب والسنة، فيجب الإيمان بأن الله تعالى كتب بالقلم في اللوح المحفوظ مقادير الخلائق إلى قيام الساعة، وهذه هي المرتبة الثانية من مراتب القدر، فكل شيء مكتوب في اللوح المحفوظ، ولا يعني هذا التوكل على المكتوب سابقاً وترك العمل، بل لابد من العمل والتقوى والخشية لله تعالى، وليعلم العبد بعد ذلك أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، رفعت الأقلام وجفت الصحف.

الإيمان باللوح والقلم

الإيمان باللوح والقلم قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم): قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]. وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله خلق لوحاً محفوظاً، من درة بيضاء، صفحاتها ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمائة لفظة، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ستين وثلاثمائة نظرة، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل، ويفعل ما يشاؤه)]. هنا قبل أن نبدأ بالشرح أحب أن أنبه إلى أن الكلام عن اللوح والقلم امتداد للحديث عن القدر، وهو يمثل المرتبة الثانية من مراتب القدر؛ فالمرتبة الأولى هي العلم الكامل المطلق لله عز وجل، والمرتبة الثانية هي الكتابة التي وسيلتها القلم، وهناك قلم عام وهو القلم الذي يكتب به في اللوح المحفوظ، وهناك أقلام تعددت تلازم الكتابات، فكل كتابة كتابة فيها أقلام، فالكرام الكاتبون يكتبون بأقلام، والذين يكلفون بالصحف الخاصة لكل إنسان عند نفخ الروح فيه يكتبون بأقلام، والتقدير السنوي الذي يكون ليلة القدر يكتب بأقلام، وهكذا، فهذه الأقلام -والله أعلم- ليست هي القلم الأول الذي يكتب به في اللوح المحفوظ. فالمهم أن الكتابة هي المرحلة الثانية من مراحل القدر. قال رحمه الله تعالى: [اللوح المذكور هو الذي كتب الله مقادير الخلائق فيه، والقلم المذكور هو الذي خلقه الله وكتب به في اللوح المذكور المقادير، كما في سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب! وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)].

ذكر الخلاف في القلم والعرش أيهما خلق أولا

ذكر الخلاف في القلم والعرش أيهما خلق أولاً قال رحمه الله تعالى: [واختلف العلماء: هل القلم أول المخلوقات أو العرش؟ على قولين، ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهمذاني، أصحهما: أن العرش قبل القلم؛ لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء). فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم؛ لحديث عبادة هذا. ولا يخلو قوله: (أول ما خلق الله القلم) إما أن يكون جملة أو جملتين، فإن كان جملة -وهو الصحيح- كان معناه: أنه عند أول خلقه قال له: (اكتب)، كما في اللفظ: (أولَّ ما خلق الله القلمَ قال له: اكتب) بنصب (أول) و (القلم)، وإن كان جملتين، وهو مروي برفع (أول) و (القلم) فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق الحديثان؛ إذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم، وفي اللفظ الآخر: (لما خلق الله القلم قال له: اكتب)].

أنواع الأقلام

أنواع الأقلام قال رحمه الله تعالى: [فهذا القلم أول الأقلام وأفضلها وأجلها، وقد قال غير واحد من أهل التفسير: إنه القلم الذي أقسم الله به في قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1]. والقلم الثاني: قلم الوحي: وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله، وأصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم]. هذه العبارة فيها نظر، وأظن أن التعبير فيه نوع من التجوز، فكون أصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم بهذا التعبير فيه نوع من القرب من مصطلحات الصوفية والباطنية الذين يزعمون أن هناك من يدبر الكون مع الله، وكذلك الفلاسفة الذين ينسبون تدبير الكون إلى بعض الأجرام السماوية أو الأرواح أو الملائكة، أو غير ذلك من القوى أو العقول، فجملة (أصحاب هذا القلم هم الحكام على العالم) ينبغي أن تحرر بأحسن من هذه العبارة. قال رحمه الله تعالى: [والأقلام كلها خدم لأقلامهم، وقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبر بها أمر العالم العلوي والسفلي]. هذا المقطع يتعلق بالقدر بعد الحديث عن اللوح والقلم، واللوح والقلم هما من وسائل الكتابة، والكتابة هي المرحلة الثانية من مراحل القدر. وبعد الحديث عن اللوح والقلم ذكر الطحاوي رحمه الله بعض أمور القدر، وهي عموم الخلق وعموم مشيئة الله عز وجل، وأن الخلق لا يستطيعون أمراً قدره الله عز وجل إلا ما أقدرهم عليه ومكنهم منه.

العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير وذكر أنواع الأقلام ومراحل الكتابة

العمل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير وذكر أنواع الأقلام ومراحل الكتابة قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه غير كائن ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة)]. من المعلوم أنه يقصد بذلك ما لم يقدرهم الله عليه، فإن العباد جعل الله لهم شيئاً من القدرة في حدود معينة لا يتعدونها، وما يقدرون عليه لا يخرج عن تقدير الله عز وجل، وما يفعلونه لا يخرج عما كتبه الله عز وجل وسطره في اللوح والقلم. فقصده: أنه لو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله أنه كائن ليخالفوا ما قدره الله ما استطاعوا، لكن ما قدر الله أن يفعلوه فعلوه، وما قدر الله لهم أن يختاروه يكون اختيارهم على ضوء ما اختاره الله لهم، بمعنى: أن لهم إرادة ولهم قدرة، لكنها محدودة ولا تخرج عما قدره الله وأراده. قال رحمه الله تعالى: [تقدم حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما استقبل؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال: يا غلام! ألا أعلمك كلمات؟ احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. وفي رواية غير الترمذي: (احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً). وقد جاءت الأقلام في هذه الأحاديث وغيرها مجموعة، فدل ذلك على أن للمقادير أقلاماً غير القلم الأول الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ. والذي دلت عليه السنة أن الأقلام أربعة، وهذا التقسيم غير التقسيم المقدم ذكره: القلم الأول: العام الشامل لجميع المخلوقات، وهو الذي تقدم ذكره مع اللوح. القلم الثاني: حين خلق آدم عليه السلام، وهو قلم عام أيضاً، لكن لبني آدم، ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم عقيب خلق أبيهم. القلم الثالث: حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة. القلم الرابع: الموضوع على العبد عند بلوغه، الذي بأيدي الكرام الكاتبين، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، كما ورد ذلك في الكتاب والسنة]. ويتصل بالحديث عن الأقلام الحديث عن الكتابة، فكما أن الأقلام أربعة، فكذلك مراحل الكتابة أربع: الأولى: الكتابة العامة، وهي الكتابة بالقلم العام في اللوح المحفوظ. والكتابة الثانية: الكتابة التي قدرها الله عز وجل وكتبها حين خلق آدم بالقلم الثاني. والكتابة الثالثة: هي التي يكتب بها الملك ما يقدره الله عز وجل على كل إنسان حينما تنفخ روحه. والكتابة الرابعة: الكتابة التي تلازم المكلف منذ بلوغه إلى أن يتوفاه الله عز وجل، فعلى هذا تصحب مراحل الكتابة الأقلام، وهناك أمور وسيطة بين هذه المراحل لا شك أنها داخلة في المقادير الأربعة، وداخلة في الأقلام الأربعة وفي مراحل الكتابة الأربع، مثل التقدير السنوي الذي يكون في ليلة القدر.

ما تقتضيه معرفة العبد أن كل شيء بيد الله من إفراد ربه بالخشية والتقوى

ما تقتضيه معرفة العبد أن كل شيء بيد الله من إفراد ربه بالخشية والتقوى قال رحمه الله تعالى: [وإذا علم العبد أن كلاً من عند الله، فالواجب إفراده سبحانه بالخشية والتقوى، قال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]، {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]، {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52]، {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر:56]، ونظائر هذا المعنى في القرآن كثيرة، ولابد لكل عبد أن يتقي أشياء؛ فإنه لا يعيش وحده، ولو كان ملكاً مطاعاً فلابد أن يتقي أشياء يراعي بها رعيته، فحينئذ فلابد لكل إنسان أن يتقي، فإن لم يتق الله اتقى المخلوق، والخلق لا يتفق حبهم كلهم وبغضهم]. يعني: لا تتفق رغباتهم، فلو أراد إنسان مثلاً أن يرضي الخلق لم يستطع لكنه أمر أن يرضي الله سبحانه، أما الخلق فإنه لا يستطيع أحد أن يرضيهم؛ لأن رغباتهم تتفاوت، بل تتعارض، فإرضاء الناس كلهم لا يمكن، فالناس لا يتفقون على حب شيء ولا على بغض شيء. قال رحمه الله تعالى: [بل الذي يريده هذا يبغضه هذا، فلا يمكن إرضاؤهم كلهم، كما قال الشافعي رضي الله عنه: رضا الناس غاية لا تدرك، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه فلا تعانه. فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور، وإرضاء الخالق مقدور ومأمور]. هذه قاعدة عظيمة، فإرضاء الخلق لا يقدر عليه ولم يأمر الله به، وكونه لا يقدر عليه، بمعنى: لا يمكن لأحد أن يرضي جميع الناس، فهذا يستحيل، كما أن الله عز وجل لم يأمر بذلك، ومع ذلك فإن هناك من العباد من يسعى إلى إرضاء المخلوقين ولن يستطيع، ولا يسعى إلى إرضاء الله عز وجل ولا يمتثل أمر الله، في حين أن العكس هو الصحيح؛ وهو أن رضى الله عز وجل ممكن بطاعته سبحانه وبتقواه، كما أنه مأمور به، فالعاقل من أدرك هذا وعمل به، نسأل الله التوفيق والسداد للجميع. قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فالمخلوق لا يغني عنه من الله شيئاً، فإذا اتقى العبد ربه كفاه مئونة الناس، كما كتبت عائشة إلى معاوية رضي الله عنهما مرفوعاً -وروي موقوفاً عليها-: (من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً). فمن أرضى الله كفاه مئونة الناس ورضي عنه، ثم فيما بعد يرضون؛ إذ العاقبة للتقوى، ويحبه الله فيحبه الناس، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أحب الله العبد نادى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض)، وقال في البغض مثل ذلك. فقد بين أنه لابد لكل مخلوق من أن يتقي: إما المخلوق وإما الخالق، وتقوى المخلوق ضررها راجح على نفعها من وجوه كثيرة، وتقوى الله هي التي يحصل بها سعادة الدنيا والآخرة، فهو سبحانه أهل للتقوى، وهو أيضاً أهل للمغفرة، فإنه هو الذي يغفر الذنوب، لا يقدر مخلوق على أن يغفر الذنوب ويجير من عذابها غيره، وهو الذي يجير ولا يجار عليه، قال بعض السلف: ما احتاج تقي قط؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]، فقد ضمن الله للمتقين أن يجعل لهم مخرجاً مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللاً، فليستغفر الله وليتب إليه، ثم قال تعالى: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، أي: فهو كافيه لا محوجه إلى غيره].

التوكل على مقدر الأمور لا ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب

التوكل على مقدر الأمور لا ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب قال رحمه الله تعالى: [وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب]. يشير بهذا إلى طوائف من العباد والنساك الأوائل، ثم إلى أكثر الصوفية الطرقية في العصور المتأخرة، فإن منهم من يزعم -بل أكثرهم يزعم- أن التوكل ينافي فعل الأسباب، بمعنى: أن الإنسان إذا سعى وحرص على فعل الأسباب نقص توكله، وأن مقتضى التوكل أن يستسلم الإنسان للكسل والخمول ويقعد، وأنه سيأتيه رزقه، نعم قد يأتيه رزقه، لكن بمنة الناس، فالله عز وجل قد كفل الرزق، لكن لا يعني ذلك أن الله عز وجل تعبدنا بترك الأسباب، بل العكس هو الصحيح في كل شيء، ليس فقط فيما يتعلق بتحصيل الرزق وبتحصيل العيش، بل في كل الأسباب التي تهم الناس في دينهم ودنياهم، فالعلم لا يمكن تحصيله إلا بالجهد وبالصبر وببذل الأسباب، والعيش لا يمكن تحصيله على وجه تقوم به أحوال الأمة وشئونها إلا ببذل الأسباب، بل تحقيق ما أمر الله به من إقامة الفرائض والسنن والنوافل وغيرها لا يمكن أن يتأتى للإنسان إلا بالجهد وبذل الأسباب. إذاً: لابد للعبد أن يجمع بين التوكل على الله عز وجل وبذل الأسباب، وأن يعلم أن من مقتضى التوكل -بل من لوازم التوكل- أن يبذل الإنسان الأسباب المأمور بها شرعاً، لكن لا يجعل الأسباب هي المراد عنده وهي الغاية، ولا يتعلق قلبه بالأسباب، إنما يتعلق قلبه بالله عز وجل الذي أمر بفعل الأسباب، من هنا يكتمل إيمانه ويسدد ويوفق. قال رحمه الله تعالى: [وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب! وهذا فاسد، فإن الاكتساب منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، كما قد عرف في موضعه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين؛ يلبس لأمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب، حتى قال الكافرون: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7]، ولهذا تجد كثيراً ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم، إما صدقة، وإما هدية، وقد يكون ذلك من مكاس، أو والي شرطة أو نحو ذلك، وهذا مبسوط في موضعه، لا يسعه هذا المختصر. وقد تقدمت الإشارة إلى بعض الأقوال التي في تفسير قوله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39]. وأما قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] قال البغوي: قال مقاتل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت شيئاً. قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت ويرزق، ويعز قوماً ويذل آخرين، ويشفي مريضاً، ويفك عانياً، ويفرج مكروباً، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنباً إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء].

لزوم التسليم بما يقع من الأقدار لا ينافي الأخذ بأسباب طلب النافع منها وتفادي ما سواه

لزوم التسليم بما يقع من الأقدار لا ينافي الأخذ بأسباب طلب النافع منها وتفادي ما سواه قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه). هذا بناء على ما تقدم من أن المقدور كائن لا محالة، ولقد أحسن القائل: ما قضى الله كائن لا محالة والشقي الجهول من لام حاله والقائل الآخر: اقنع بما ترزق يا ذا الفتى فليس ينسى ربنا نملة إن أقبل الدهر فقم قائماً وإن تولى مدبراً نم له]. يقصد بقوله: (وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه) التسليم لأقدار الله بعد وقوعها، لكن لا يعني ذلك عدم الأخذ بأسباب تفادي الأقدار، فإن الأقدار منها ما هو سار ونافع، فيجب على العباد أن يبذلوا الأسباب للحصول على السار النافع وعلى أقدار الخير، ومنها ما هو ضار وشر، فيجب على العباد أن يسعوا إلى بذل الأسباب التي تمنع من الضرر والشر قبل وقوعه، بمعنى أنه لا يشرع للإنسان أن يسلم للأمر قبل وقوعه فيترك بذل الأسباب، بل لابد من بذل الأسباب، فإذا وقعت المقادير بعد بذل الأسباب فلابد من التسليم، فإذا وقعت المقادير على ما يحب العبد؛ فليحمد الله على ذلك وليشكره، وإذا وقعت على غير ما يحب العبد؛ فليعلم أن ذلك من حكمة الله عز وجل وتقديره وخيرته التي اختارها للعبد، وليسلم بهذا، وأن ما أصابه من هذه المقادير لم يكن ليخطئه ما دام قد حصل، فلا يقول: لو أني فعلت كذا لتفاديت هذا السبب أو هذه المصيبة أو هذا الحدث، أو لو أني لم أفعل كذا لحصل كذا، فلا داعي للتحسر على أمر مضى، فإذا وقع المقدور فلا يجوز للإنسان ولا ينبغي له أن يتحسر وأن يندم على أمر لم يفرط فيه، أما إن فرط فليندم على التفريط فقط، وليستأنف تفادي ما حصل في الماضي في الأمور المستقبلة، أما الأمور الماضية فإن ما أخطأ العبد فيها لم يكن ليصيبه ما دام قد أخطأه، وكذلك ما أصابه لم يكن ليخطئه مهما بذل من الأسباب ما دام قد حدث. إذاً: على العبد أن يسلم بالماضي وأن يسعى في المستقبل إلى ما يصلح أموره في دينه ودنياه على أمر الله وشرعه وعلى هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، فيبذل الأسباب ولا يقعد عنها، وبعد ذلك يعتمد على الله ويتوكل عليه.

شرح العقيدة الطحاوية [56]

شرح العقيدة الطحاوية [56] من مراتب القدر الإيمان بعلم الله تعالى الأزلي السابق لجميع المخلوقات، فهو سبحانه قد علم ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة علماً دقيقاً تفصيلياً، ثم كتب ذلك في اللوح المحفوظ، ثم شاء وقدر مقادير الخلائق، ثم خلقهم على ما علم وقدر سبحانه، فتقديره سبحانه مطابق لعلمه الأزلي بكل شيء، ولم ينكر العلم الأزلي إلا غلاة المعتزلة والقدرية، وقالوا بأن الله لم يخلق أفعال العباد، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

علم الله تعالى وتقديره سابقان لكل المخلوقات

علم الله تعالى وتقديره سابقان لكل المخلوقات قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا محول ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه)]. في هذه الفقرة أراد الشارح والمؤلف رحمهما الله تعالى أن يقررا أن علم الله سابق لكل شيء، وأن علم الله سابق يشمل جميع أفعال العباد، وكذلك التقدير، فالعلم والتقدير في كل ما يحدث في هذا الكون سابقان من الله عز وجل، فلا يحدث إلا ما علمه الله عز وجل، ولا يحدث إلا ما قدره الله عز وجل. وأراد بهذه الفقرة أن يرد على شبهة القائلين بأن أفعال البشر كلها أو بعضها ليست مقدورة لله عز وجل ولا معلومة له إلا بعد حدوثها. وقال: [وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالماً في الأزل] فالإشارة إلى غلاة المعتزلة، يعني: أنه ليس كل المعتزلة يقولون ذلك، وهذا صحيح، فغلاتهم ينكرون علم الله في الأزل، يعني: علم الله السابق مطلقاً، ويقولون: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوها، وبعضهم يقول بأن الله لا يعلم أفعال الشر من العباد حتى يفعلوها، إنما يعلم أفعال الخير ويقدرها، وبعضهم يثبت العلم، لكنه ينكر التقدير، يقول بأن الله علم ما سيفعله العباد، لكنه لم يقدره، وكذلك اختلافهم في التقدير كاختلافهم في العلم؛ فمنهم من ينفي تقدير أفعال العباد مطلقاً من قبل الله عز وجل، ومنهم من ينفي تقدير أفعال الشر فقط. وهؤلاء كلهم الرد عليهم واحد، ويتلخص في قول الشافعي: ناظروا القدرية بالعلم، يعني: خذوهم في مسألة الإقرار بالعلم، يعني: سلوهم عن العلم، أي: علم الله عز وجل، فإن أقروا به، أي: أقروا بأن الله عالم بكل شيء خصموا، بمعنى: انقطعت حجتهم، فلا يعقل أن الله عز وجل يعلم شيئاً ولا يقدره، وإن أنكروا العلم كفروا؛ لأن من أنكر العلم ادعى أنه يقع في ملك الله ما لا يعلمه الله، وهذا لا يعقل ولا يليق ولا يمكن، بل يستحيل أن يقع في ملك الله عز وجل -وهو المدبر الحي القيوم الذي لا تخفى عليه خافية- ما لا يعلمه. إذاً: فهم بهذا يخصمون على الوجهين.

الرد على شبهة قدرة العبد على تغيير علم الله بفعله ما لا يريده الله شرعا

الرد على شبهة قدرة العبد على تغيير علم الله بفعله ما لا يريده الله شرعاً ثم عرض الشارح لشبهة قالها بعض المتحذلقة، وهو قولهم: فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير علم الله، بمعنى: أنه إذا كان الإنسان يمكن أن يفعل ما لا يريده الله شرعاً فهذا يعني أن العبد قادر على تغيير علم الله، فكأنهم يزعمون أن الله لا يدري هل يفعل هذا أو ذاك، فإذا فعل ما لا يريده الله -أي: لم يشرعه الله- تجدد لله علم بأن هذا العبد فعل الشر الذي لا يريده الله منه! وذلك كله ناتج عن قصور فهمهم للقدر. فيقال لهم: هذه مغالطة؛ لأن مجرد قدرة العبد على الفعل لا تستلزم تغير العلم وتغييره بالنسبة لله عز وجل، فكون الله عز وجل أقدر العباد على الفعل والترك لا يعني أنه بفعلهم أو تركهم يتجدد له شيء، فالله سبحانه كما أنه أقدر العبد على أن يفعل وأقدره على أن يترك هو عز وجل عالم بأنه سيفعل أو سيترك، فإن فعل العبد ما يأمر الله به فإن الله عالم سلفاً بأن العبد سيفعله، وإذا لم يفعل العبد ما يأمره الله به؛ فإن الله عالم سلفاً بأن العبد لن يفعل ذلك، ومن هنا كان التقدير السابق في الشقاوة والسعادة مبنياً على علم الله السابق وحكمته ومشيئته. إذاً: مجرد قدرة العباد على الفعل أو على الترك لا يلزم منها أن يتغير لله علم.

الإيمان بالقدر من عقد الإيمان وأن القدرية مجوس هذه الأمة

الإيمان بالقدر من عقد الإيمان وأن القدرية مجوس هذه الأمة قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38]): الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها، قال صلى الله عليه وسلم في جواب السائل عن الإيمان: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وقال صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث: (يا عمر! أتدري من السائل؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) رواه مسلم. وقوله: (والاعتراف بتوحيد الله وربوبيته)، أي: لا يتم التوحيد والاعتراف بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى، فإن من زعم خالقاً غير الله فقد أشرك، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله؟! ولهذا كانت القدرية مجوس هذه الأمة، وأحاديثهم في السنن. روى أبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم). وروى أبو داود أيضاً عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته، ومن مرض منهم فلا تعودوهم، وهم شيعة الدجال، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال). وروى أبو داود أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم). وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صنفان من بني آدم ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة والقدرية). لكن كل أحاديث القدرية المرفوعة ضعيفة، وإنما يصح الموقوف منها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الإيمان بعلم الله القديم وما أظهر من علمه بخطابه وكتابه مقادير الخلق، وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر]. أحاديث القدرية لا تصح، وقد ترقى بمجموعها إلى درجة الحسن، ومع ذلك فإن الحكم بأن القدرية هم مجوس هذه الأمة حكم قاطع، بصرف النظر عن ثبوت الأحاديث؛ لأن السلف أجمعوا على أن القدرية مجوس هذه الأمة، وذلك لأنهم عرفوا أن قول القدرية هو قول المجوس، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الحديث الصحيح المتفق عليه بأن هناك طوائف من هذه الأمة تتبع سنن السابقين: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)، في بعض الروايات في البخاري: (شبراً بشبر وذراعاً بذراع)، وفي بعض الروايات أيضاً وصف هذه المشابهة بوصف يدل على الاحتذاء، فقوله: (حذو القذة بالقذة)، أي: السهم الذي يخرج من القوس أو غيره يحذو السهم الذي سبقه مباشرة، بمعنى: لا يزيد عنه ولا ينقص، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)، دل على أن المشابهة حرفية، وأن المشابهة مشابهة مطابقة، وعلى هذا فإن القدرية قالوا بقول المجوس، وقول المجوس مبني على أن الشر لم يكن من خلق الله عز وجل ولا من تقديره، وأن الشر ليس بعلم الله، فمن هنا أثبتوا خالقاً مع الله عز وجل زعموا أنه إله الشر، وقد اختلفوا في خالق الشر هل هو مخلوق لله أو هو أزلي؛ فمنهم من قال: إنه مخلوق لله، لكنه خالق للشر، ومنهم من قال: هو أزلي، فزعموا أن للخلق خالقين. وهذه المقولة انتشرت بين كثير من الأمم عن المجوسية؛ لأن المجوسية من أقدم الديانات، فانتقل قولها إلى النصارى وإلى طوائف من اليهود وإلى غيرهم، ثم عن المجوس وعن النصارى وعن اليهود انتقلت هذه المقولة إلى طوائف من هذه الأمة، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن طوائف من هذه الأمة ستتبع سنن السابقين، فالقدرية اتبعوا سنن من سبقهم، وقولهم في القدر هو قول المجوس. إذاً: فالنتيجة أن القدرية هم مجوس هذه الأمة، سواء ثبتت هذه الأحاديث أو لم تثبت، والسلف اتفقوا على ذلك.

تكذيب القدرية بقدرة الله تعالى على كل شيء

تكذيب القدرية بقدرة الله تعالى على كل شيء قال رحمه الله تعالى: [وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة؛ حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد، فأخرجوها عن قدرته وخلقه. والقدر الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه، وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع هو ما قدره الله من مقادير العباد، وعامة ما يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعني به هؤلاء، كقول ابن عمر لما قيل له: يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف: أخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء]. يعني: أنهم جعلوا من أفعال العباد ما لا يقدره عليه الله عز وجل وتعالى عما يقولون، أو أنهم أيضاً عمموا ذلك حتى في العلم، فقالوا بأنه لم يعلمه ولم يقدره. فالمهم أن جملة القدرية يكذبون بتقدير الله تعالى لكل شيء، ويزعمون أن الله لا يقدر بعض أفعال العباد على درجات بينهم.

ما يتضمنه التقدير المطابق للعلم

ما يتضمنه التقدير المطابق للعلم قال رحمه الله تعالى: [والقدر الذي هو التقدير المطابق للعلم يتضمن أصولاً عظيمة: أحدها: أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم. الثاني: أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً، قال تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان:2]، فالخلق يتضمن التقدير؛ تقدير الشيء في نفسه بأن يُجعَل له قدرٌ، وتقديره قبل وجوده، فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة، خلافاً لمن أنكر ذلك، وقال: إنه يعلم الكليات دون الجزئيات، فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات]. الإشارة إلى العلم هنا ينبغي التنبيه على أنها ليس لها مفهوم، وأعني بذلك أن السلف حينما عبروا بوصف القديم في علم الله وفي سائر صفاته لا يقصدون بذلك أن هناك قديماً وجديداً في علم الله، فعلم الله عز وجل كله أزلي ولا يتجدد لله علم، إنما قصدهم بالقديم: أن علم الله أزلي لا بداية له، أي: لم يحدث لله علم، ولم يتجدد لله علم، فعلم الله كامل قبل وجود المعلومات. قال رحمه الله تعالى: [الثالث: أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً، فيقتضي أنه يمكن أن يعلِم العباد الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً؛ فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم، فإنه إذا كان يعلِم عباده بذلك فكيف لا يعلمُه هو؟! الرابع: أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله، محدث له بمشيئته وإرادته، ليس لازماً لذاته. الخامس: أنه يدل على حدوث هذا المقدور، وأنه كان بعد أن لم يكن، فإنه يقدره ثم يخلقه]. هنا تنبيه مهم أشار إليه الشارح، وهو مسألة الدليل على أن الله عز وجل عليم بكل شيء، ومن جملة ذلك أفعال الشر من العباد، لا كما تزعم القدرية والمعتزلة وغيرهم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأشياء من أفعال الشر من العباد تقع في المستقبل أعلمه الله بها، وهم يقرون بهذه الأخبار، فإقرارهم بها حجة عليهم، فالله عز وجل أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بكثير من الأخبار المغيبة التي هي من أفعال الشر من العباد، كإخباره صلى الله عليه وسلم في قصة ذي الخويصرة: أنه سيخرج من ضئضئ هذا الرجل أناس يفعلون كذا وكذا من أمور الشر والبدع، وإخباره صلى الله عليه وسلم عن الدجال وما يحدث منه وما يحدث له، والشرور التي تحدث على يديه والمصائب، وأخباره صلى الله عليه وسلم بالفتن والشرور التي تحدث من أفراد العباد أو من مجموعاتهم، فهذه شرور يفعلها العباد، وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم قبل وقوعها، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم شيئاً من الغيب إلا ما أعلمه الله به. فالله عز وجل أعلم وأخبر بعض عباده بأشياء من أفعال الشر التي يفعلها العباد، والمعتزلة وغيرهم ممن ينكرون علم الله بأفعال الشر وتقديره لها يقرون بصحة هذه الأخبار، ففي ذلك رد عليهم.

شرح العقيدة الطحاوية [57]

شرح العقيدة الطحاوية [57] باب القدر باب عظيم، يجب التسليم فيه بما ورد في النصوص، وترك التعرض له بهوى أو شبهة؛ فإن هذا مزلق كبير ومرض خطير يصيب القلوب، فمن طعن في القدر بشبهة أو نحوها فإن ذلك يعد طعناً في ربوبية الله وإلهيته وحكمته؛ لأن القدر راجع إلى علم الله وأفعاله، والطعن والقدح فيه قدح في المقدِّر وهو الله سبحانه، ولذا كان الواجب هو التسليم وعدم الخوض أو المجادلة أو معارضة ذلك بشيء من الهوى والشبهات.

مرض القلوب وميزان معرفته

مرض القلوب وميزان معرفته قال رحمه الله تعالى: [قوله: (فويل لمن ضاع له في قدر قلباً سقيماً -وفي نسخة: فويل لمن صار قلبه في القدر قلباً سقيماً- لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً): القلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم مما للبدن، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122]، أي: كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان؛ فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها، بخلاف القلب الميت؛ فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر. وكذلك القلب المريض بالشهوة؛ فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك، بحسب قوة المرض وضعفه]. هذا ميزان صحيح، وينبغي لكل مسلم أن يعرض حاله على هذا الميزان دائماً وفي كل وقت، بمعنى: أن يستعرض قوة إيمانه ويحاسب نفسه بمثل هذا الميزان لينظر مدى ما في قلبه من حب الخير وأهل الخير؛ ومدى ما في قلبه من حب الإسلام والمسلمين ونصرة الحق والمعروف وبذله، ومدى ما في قلبه من غيرة على الحق، وولاء للمؤمنين، ونحو ذلك، فقد يقوى الدافع ويقوى القلب بهذا الأمر وقد يضعف، وقد ينعدم الإحساس نسأل الله السلامة، أما معدوم الإحساس فإنه -إن شاء الله- لا يكون في أهل العلم وأهل الخير والمنتسبين للحق وأهله، لكن الكلام على ضعف الإحساس؛ فإن ضعف الإحساس دليل على ضعف الإيمان، ويجب على كل مسلم أن يختبر نفسه بين وقت وآخر بهذا الميزان، ليعلم مدى شعور قلبه بالأمور الإيمانية، وبحب الحق وأهل الحق وبالولاء للحق وأهله، ومدى ما في قلبه من غيرة ومن شعور بما يجري للإسلام والمسلمين، وليعلم ما يجد في قلبه مما يجري من أمور تعارض الحق والإسلام، ومن أمور المنكرات وأمور الشرور والمصائب التي تجلب الفتن، فإن كان القلب يتحرك بذلك ففيه إيمان، وإن كان تحركه أقوى؛ فهذا دليل على قوة الإيمان، وإن كان القلب يتمعر ويتأثر ويعظم إحساسه بهذه الأمور فهذا -إن شاء الله- دليل على الاستقامة. فالمهم أن هذا الميزان ميزان حق، ويجب على المسلم أن يستعرض أحواله ويستعرض أعماله وإحساسه وخواطره وعواطفه بهذا الميزان.

مرض القلوب بالشبهات والشهوات

مرض القلوب بالشبهات والشهوات قال رحمه الله تعالى: [ومرض القلب نوعان كما تقدم: مرض شهوة، ومرض شبهة، وأردؤهما مرض الشبهة، وأردأ الشبه ما كان من أمر القدر، وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يعرف به صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة؛ فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه، وتألم بجهله بالحق بحسب حياته، و: ما لجرح بميت إيلام. وقد يشعر بمرضه، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء، فإن دواءه في مخالفة الهوى؛ وذلك أصعب شيء على النفس، وليس له أنفع منه. وتارة يوطن نفسه على الصبر، ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه؛ لضعف علمه وبصيرته وصبره، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى الخوف وأعقبه الأمن، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها، ولاسيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة، وجعل يقول: أين ذهب الناس فلي أسوة بهم؟! وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم. فالصابر الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول: {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69]. وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بـ أبي شامة في كتاب الحوادث والبدع: حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة؛ فالمراد لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً؛ لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، ولا ننظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم. وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: السنة -والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي، فاصبروا عليها رحمكم الله؛ فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى، وهم أقل الناس فيما بقي؛ الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ولا مع أهل البدع في بدعتهم، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم، فكذلك فكونوا].

العدول عن الأغذية النافعة إلى الضارة علامة مرض القلب

العدول عن الأغذية النافعة إلى الضارة علامة مرض القلب قال رحمه الله تعالى: [وعلامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة له إلى الأغذية الضارة، وعدوله عن دوائه النافع إلى دوائه الضار. فهاهنا أربعة أشياء: غذاء نافع، ودواء شاف، وغذاء ضار، ودواء مهلك]. قصده هنا بالغذاء النافع الهدى والإيمان، والدواء الشافي: هو الوحي والقرآن، والغذاء الضار والدواء الضار ضد هذين الأمرين. إذاً: فأعظم غذاء للقلوب هو الهدى والإيمان الذي يستقر في القلوب، واليقين والتقوى، وأعظم الدواء الذي يستشفي به الناس هو كتاب الله عز وجل وما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، والمتمثل في الوحي، خاصة القرآن، فهو شفاء لما في الصدور، شفاء للقلوب في أمراضها القلبية، وشفاء للأبدان في أمراضها الحسية. قال رحمه الله تعالى: [فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي على الضار المؤذي، والقلب المريض بضد ذلك، وأنفع الأغذية غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين؛ فإن الله تعالى يقول: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]، وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، و (من) في قوله: (من القرآن) لبيان الجنس لا للتبعيض، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]. فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية، وأدواء الدنيا والآخرة، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به، وإذا أحسن العليل التداوي به ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه لم يقاوم الداء أبداً، وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء، الذي لو نزل على الجبال لصدعها، أو على الأرض لقطعها؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه لمن رزقه الله فهماً في كتابه. وقوله: (لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً) أي: طلب بوهمه في البحث عن الغيب سراً مكتوماً؛ إذ القدر سر الله في خلقه، فهو يروم ببحثه الاطلاع على الغيب، وقد قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن:26] إلى آخر السورة. وقوله: (وعاد بما قال فيه)، أي: في القدر: (أفاكاً): كذاباً، (أثيماً): أي مأثوماً].

أعظم الشبهات في القدر

أعظم الشبهات في القدر أحب أن أشير إلى مسألة سبقت قريباً، وهي إشارة الشارح إلى أن القدر هو أعظم ما يرد من إشكالات على الناس، يقول: إن أعظم الشبه الشبه في القدر، ومرض الشبهة في القدر هو أعظم هذه الأمراض، ويقصد بذلك أن الشبهة في القدر طعن في ربوبية الله عز وجل وإلهيته وحكمته؛ لأن القدر راجع إلى علم الله وتقديره وحكمته في عباده أو في خلقه، فمن شك في القدر أو نازع فيه أو أثار فيه المشكلات أو اعترض على شيء منه؛ فلابد أن ينعكس ذلك بالضرورة بالشك في المقدر وهو الله سبحانه، فمن شك في القدر أو خاض فيه أو أثار حوله الشبهات فلابد أن يطعن في علم الله عز وجل وفي تقديره وفي حكمته سبحانه، ومن ثم في أفعاله وفي صفاته وأسمائه؛ لأن القدر راجع إلى علم الله وأفعاله، فمن هنا كان أعظم أمراض القلوب هو القول في القدر، وهو المدخل إلى كثير من الأهواء، فلذا يجب أن يتجنب المسلم -خاصة طالب العلم- الخوض في القدر، وألا يعدو النصوص، حتى وإن وردت أسئلة في القدر يجب أن يتحاشاها طالب العلم، ويتحاشى الكلام فيها إلا بالقدر الضروري، كأن يأتي إنسان مريض بالشبهة فعلاً ويخشى عليه، فهذا يجاب بما ورد في آيات الله عز وجل وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وأعتقد أنه لن يجد طالب العلم جواباً في القدر أكثر مما جاء في كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يمكن أن يرد سؤال أو إشكال في القدر إلا وجوابه في النصوص، فلذلك يجب على طالب العلم أن يتعود على أن يلتزم النصوص في الكلام في القدر، فإن في القدر محارات تتورط فيها العقول، وربما تسرح فيها الأوهام إلى ما لا نهاية. إذاً: ينبغي لطلاب العلم أن يعودوا الناس التزام القواعد في القدر، وأن يعلموهم القواعد العامة الإجمالية التي تثبت الإيمان بالقدر دون الدخول في التفاصيل، وأن يعودوهم على ألا يسألوا في القدر، وأن يعودوهم الطريقة الشرعية فيما إذا وردت على حواسهم وعلى خواطرهم إشكالات في القدر، وهي أن يعودوا إلى أصل التسليم وتعظيم الله عز وجل، واستحضار معاني أسمائه وصفاته وحكمته؛ فإن من فعل ذلك لابد أن يشفى -بإذن الله- مما يجد من إشكالات في القدر، فمن وجد إشكالاً في القدر فعليه أن يعود إلى تعظيم الله عز وجل وتقدريه حق قدره، وأن يعلم بعض معاني أفعال الله وأسمائه وصفاته؛ فإنه بذلك -إن شاء الله- يستقر إيمانه ولا يحتاج إلى شيء من المغالطات والحجج العقلية، فإن من لجأ إلى ذلك قد لا يوفق ولا يسدد. فالجواب عن القدر مقتصر على مسائل لا تخرج عن مجالس أهل العلم، وقد يضطر طالب العلم لكشف شبهة أمام الناس، فيضطر في حالات نادرة جداً أن يفصل أموراً عقلية تؤكد معاني ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن هذا الاستثناء أظنه نادر الوقوع، فلا ينبغي أن يؤثر على الأصل.

شرح العقيدة الطحاوية [58]

شرح العقيدة الطحاوية [58] العرش والكرسي ثابتان لله تعالى بالكتاب والسنة، فيجب إثباتهما والإيمان بهما كما ورد في النصوص، ولا يجوز تأويلهما بأي شيء آخر، بل هما حقيقيان، معناهما معلوم غير مجهول، فالعرش هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو سقف المخلوقات، والكرسي قيل: هو موضع القدمين، وقيل: هو بين يدي العرش كالمرقاة إليه، وقيل غير ذلك، فيجب الإيمان بذلك على حقيقته كما يليق بالله جل جلاله.

إثبات العرش والكرسي

إثبات العرش والكرسي قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والعرش والكرسي حق). كما بين تعالى في كتابه، قال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15]، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] في غير ما آية من القرآن، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:116]، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل:26]، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر:7]، {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75]. وفي دعاء الكرب المروي في الصحيح: (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم)، وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله فوق ذلك، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء) ورواه أبو داود والترمذي وابن ماجه. وروى أبو داود وغيره بسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث الأطيط أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن عرشه على سماواته كهكذا، وقال بأصابعه، مثل القبة) الحديث. وفي صحيح البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا سألتم الله الجنة فسلوه الفردوس؛ فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، وفوقه عرش الرحمن). يروى: (وفوقه) بالنصب على الظرفية، وبالرفع على الابتداء، أي: وسقفه. وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة، وربما سموه: الفلك الأطلس، والفلك التاسع، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: (فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي، أم جوزي بصعقة الطور؟)].

بيان معنى العرش

بيان معنى العرش قال رحمه الله تعالى: [والعرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى عن بلقيس: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23]، وليس هو فلكاً، ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات، فمن شعر أمية بن أبي الصلت: مجدوا الله فهو للمجد أهل ربنا في السماء أمسى كبيراً بالبناء العالي الذي بهر النا س وسوى فوق السماء سريراً شرجعاً لا يناله بصر الع‍ ين ترى حوله الملائك صوراً الصور هنا: جمع أصور، وهو: المائل العنق لنظره إلى العلو، والشرجع: هو العالي المنيف، والسرير: هو العرش في اللغة. ومن شعر عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة. وروى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش: إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام) ورواه ابن أبي حاتم، ولفظه: (مخفق الطير سبعمائة عام). وأما من حرف كلام الله، وجعل العرش عبارة عن الملك، كيف يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7]؟! أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية؟! وكان ملكه على الماء؟! ويكون موسى عليه السلام آخذاً بقائمة من قوائم الملك؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول؟!].

بيان معنى الكرسي

بيان معنى الكرسي قال رحمه الله تعالى: [وأما الكرسي فقال تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، وقد قيل: هو العرش، والصحيح أنه غيره، نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. روى ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش، والحاكم في مستدركه -وقال: إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه- عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] أنه قال: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى. وقد روي مرفوعاً، والصواب أنه موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما. وقال السدي: السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش. وقال ابن جرير: قال أبو ذر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض). وقيل: كرسيه علمه، وينسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما، والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة كما تقدم، ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن، والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم، كما قيل في العرش. وإنما هو -كما قال غير واحد من السلف-: بين يدي العرش كالمرقاة إليه]. ما روي عن ابن عباس من تأويل الكرسي بالعلم يتعارض مع ما ثبت عن ابن عباس أيضاً من تفسير الكرسي بموضع القدمين، وإذا أخذنا بقواعد التعارض عند السلف فإن هذا القول الأخير لا يحمل عليه تفسير معنى الكرسي، وإنما يكون -إن ثبت- إما تفسيراً باللوازم، وإما تفسيراً بالظن، والنصوص قد تضافرت على أن الكرسي مفسر بأن له حقيقة، وتأويله بالعلم لا يستقيم؛ لأنه وردت في ذلك النصوص متضافرة على أن الكرسي له وجود حقيقي، فإذا ثبتت الرواية عن ابن عباس بهذا وذاك، فالتعارض بين التفسيرين محمول على أن تفسير الكرسي بالعلم من باب التفسير باللوازم أو نحو ذلك من وجوه الجمع التي قال بها السلف.

بيان أن للعرش والكرسي حقيقة

بيان أن للعرش والكرسي حقيقة وجملة ما سبق فيما يتعلق بإثبات العرش لله عز وجل وإثبات الكرسي أمر ثابت بالنصوص المتواترة، والشارح رحمه الله أورد حشداً من النصوص وأورد الأشعار والأدلة الأخرى وبعض أقوال أهل العلم كذلك؛ لرد أقوال أهل الكلام الذين تبعوا الفلاسفة فأنكروا الكرسي والعرش أو أولوهما، ولا شك أن المؤول ليس معه أي دليل على التأويل، والنصوص -سواء الآيات والأحاديث الثابتة- كلها تجتمع على ضرورة القول بأن الكرسي والعرش لهما حقيقة، وتأويلهما بأمور معنوية -سواء بالملك أو العلم أو غير ذلك مما ذكره المؤولون- لا يصح، إلا إذا كان من باب التفسير باللوازم، يعني: التفسير ببعض المقتضيات، وأعني بذلك أنه قد يصح أن نقول: من لوازم الإيمان بالعرش أو الإيمان بالكرسي الإيمان بعلم الله عز وجل، وبفوقيته، وبأنه بكل شيء محيط، وبعلوه سبحانه، فهذا من اللوازم الضرورية، وكذلك الإيمان بالملك وأن الله مالك كل شيء إلى غير ذلك من المعاني التي تلزم من إثبات العرش والكرسي. إذاً: فما قد يرد عن بعض السلف من كلمات تفهم التأويل -كما ورد عن ابن عباس - هو من باب التفسير باللوازم، لا تأويل الحقيقة؛ فإن السلف يؤمنون بحقائق أسماء الله تعالى وصفاته وأفعاله، وسائر الأمور الغيبية التي منها العرش والكرسي. إذاً: فهذه النصوص -كما ترون- متواترة على أن العرش والكرسي لهما وجود حقيقي، وتفسيرهما بأمور معنوية لا يصح أبداً وليس عليه أي دليل.

الأسئلة

الأسئلة

إثبات الصفات بأحاديث الآحاد

إثبات الصفات بأحاديث الآحاد Q هل نثبت صفة لله وردت في حديث آحاد؟ A إذا ثبت الحديث بسند صحيح فإنه يثبت مضمونه حتى وإن تضمن صفة، فلا يلزم في إثبات صفات الله التواتر، مع أن أكثر الصفات التي ثبتت لم ترد في حديث آحاد، والقليل جداً الذي ثبت في حديث آحاد يستقيم مع قواعد وأصول إثبات الصفات لله عز وجل.

شرح العقيدة الطحاوية [59]

شرح العقيدة الطحاوية [59] من صفات الله تعالى أنه مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله، لا عن حاجة إلى العرش أو غيره، فهو سبحانه غني عن العرش وما دونه، ويلزم من ذلك إثبات صفة العلو والفوقية لله تعالى، فهو سبحانه فوق كل شيء ومحيط بكل شيء، لا يغيب عن علمه مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.

الرد على مؤولي الاستواء بإثبات غنى الله عز وجل عن مخلوقاته

الرد على مؤولي الاستواء بإثبات غنى الله عز وجل عن مخلوقاته قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه). أما قوله: (وهو مستغن عن العرش وما دونه)؛ فقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، وقال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا لأنه لما ذكر العرش والكرسي ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش؛ ليبين أن خلقه للعرش واستواءه عليه ليس لحاجته إليه، بل له في ذلك حكمة اقتضته]. هذا من البدهيات، لكن السلف لما ظهرت الأهواء وظهر التأويل والتعطيل صاروا يقررون البدهيات ويحشدون لها الأدلة؛ لدفع شبه أهل الأهواء؛ ذلك أن أهل التعطيل وأهل التأويل الذين أنكروا استواء الله على عرشه وأولوا الاستواء وأولوا العرش وأولوا الكرسي؛ مستندهم في ذلك توهم يزعمون أنه شبهة، وهو زعمهم بأن الله عز وجل إذا كان مستوياً على عرشه فهذا يعني أنه محتاج له، فبين المؤلف -كما هو معلوم عقلاً وشرعاً- أن الله عز وجل لا يلزم من كونه مستوياً على عرشه أنه محتاج إلى العرش، بل هو سبحانه غني عن العالمين، وغني عن العرش، وكونه له كرسي لا يعني ذلك بالضرورة أن يكون للكرسي كيفية كالمعهود عند البشر، ولا يعني أنه محتاج إلى شيء من ذلك، فأثبت الغنى ليبين أن إثبات هذه الأمور على حقيقتها واجب شرعاً مع الجزم بأن الله عز وجل مستغن عنها، وأنه لا يلزم من إثبات هذه الأمور الحاجة إليها، لا سيما أنا نجد أن من أول ما ورد على المسلمين في تأويل أفعال الله وصفاته مسألة الاستواء، بل يذكر أن أول من أول الاستواء هو غيلان الدمشقي، فعلى هذا يكون قبل ظهور المؤولة الجهمية والمعتزلة، ومن هنا انفتح باب التأويل في جميع أفعال الله وصفاته، ثم شمل الأسماء. إذاً: فإثبات الكرسي وإثبات العرش لله عز وجل وإثبات الاستواء لله سبحانه لا يعني ذلك أبداً أنه محتاج إلى شيء من ذلك، فهو سبحانه الغني، ولا حاجة به إلى أحد من خلقه، وهذه الأمور التي ذكرها الله عز وجل من مخلوقاته لابد من إثباتها كما جاءت من غير تأويل، وما ينقدح في الذهن من شبهات أخرى تتعلق بالحاجة ونحوها؛ كل ذلك منفي قطعاً بدلالة العقل السليم والفطرة، وقبل ذلك بدلالة الشرع. قال رحمه الله تعالى: [وكون العالي فوق السافل لا يلزم أن يكون السافل حاوياً محيطا به حاملاً له، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه، فانظر إلى السماء كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها، فالرب تعالى أعظم شأناً وأجل من أن يلزم من علوه ذلك، بل لوازم علوه من خصائصه، وهي حمله بقدرته للسافل، وفقر السافل، وغناه هو سبحانه عن السافل، وإحاطته عز وجل به، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته، وغناه عن العرش، وفقر العرش إليه، وإحاطته بالعرش، وعدم إحاطة العرش به، وحصره للعرش، وعدم حصر العرش له، وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق. ونفاة العلو أهل التعطيل لو فصلوا هذا التفصيل لهدوا إلى سواء السبيل، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل، ولسلكوا خلف الدليل، ولكن فارقوا الدليل فضلوا عن سواء السبيل].

معنى قول الإمام مالك: الاستواء معلوم

معنى قول الإمام مالك: الاستواء معلوم قال رحمه الله تعالى: [والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله، لما سئل عن قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]: كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم]. قوله: (معلوم) من الأمور التي تشتبه على بعض الناس، فكثيراً ما ترد فيه الأسئلة: ما معنى كونه معلوماً؟ وهذه قاعدة في كل أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله، وفي كل أمور الغيب، فهذه القاعدة تشمل حتى أمور الغيب التي لا تتعلق بذات الله تعالى وأفعاله وأسمائه وصفاته، كأمور الغيب التي تتعلق بالمخلوقات في أحوال القيامة، وفي أحوال الملائكة والجن، وأحوال السماوات والأرض، وغيرها من الأمور الغيبة التي لا تدركها حواس البشر، فإنها كلها تحكمها هذه القاعدة، فلو أن أحداً سأل عن الصراط: كيف الصراط؟ فإنا نقول له: الصراط معلوم، والكيف مجهول، وخبر الله عز وجل حق وصدق. وأما قولنا: (معلوم) فيعني: أن حقيقته مدركة في الأذهان عند الإطلاق، أما الكيفية التي تتعلق بالشكل واللون والحجم والعدد ونحو ذلك؛ فهذه أمور لا تدركها العقول؛ لأنها لا تعرف إلا بالحواس، وكل الأمور الغيبية لا يمكن أن تدرك بالحواس، فأي أمر من الأمور الغيبية نقول: إنه معلوم، سواء في أسماء الله وصفاته وأفعاله، أو في سائر أمور الغيب، فكلما جاءنا أمر من الأمور الغيبية نقول عنه: الأمر الفلاني الذي ذكره الله عز وجل معلوم، يعني: له حقيقة تليق به على ما خلقه الله عز وجل عليه، أو على ما أراد الله له، أو على ما كان في تقدير الله عز وجل إذا كان من الأمور الخبرية الغيبية، أما إذا كان في أسماء الله وصفاته؛ فنقول: الأمر الفلاني معلوم على الحقيقة على ما يليق بجلال الله. إذاً: فكلمة معلوم معناها أن اللفظ له وجود فعلي يليق به، أما الكيف فهو يتعلق بالحجم والشكل واللون والخصائص التي تدرك بالأبصار وتدرك بسائر الحواس، فهذه أمور لا شك في أنها مجهولة، وهي المقصودة بقوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، بمعنى: أنه لا يمكن أن نتخيل له مثلاً، وما نتخيله أوهام يجب أن ننفيها عن الله، وإلا فلابد لكل من سمع شيئاً من أسماء الله وصفاته وأفعاله أن يتخيل، فإذا تخيل فليعلم أن هذا الخيال إنما هو أمثال تضرب، لكنها ليست هي الكيفية. إذاً: فالحقيقة تثبت في كل أمر غيبي، وكل ما أخبر الله به له حقيقة؛ نقول هذا لأن أغلب المؤولة قالوا: الألفاظ التي وردت في أخبار الله تعالى أو عن نبيه صلى الله عليه وسلم إنما تنطبق على معانٍ مجردة ليس لها وجود فعلي، أي: إنما هي أمور معنوية، فالاستواء المقصود به: الهيمنة والملك، وهذا عدول عن مراد الله عز وجل؛ لأن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بالهيمنة والملك بألفاظ أخرى، فيأتي هذا الوصف وله معنى أخص، لاسيما أن هذا الوصف قد قيد بمعان تدل على أن المقصود به حقيقة وجودية لا ذهنية معنوية. فلابد إذاً أن تقال هذه القاعدة في كل شيء، فكل غيب معلوم، أي: له حقيقة وجودية، وله كيفية لا نعلمها، فنؤمن بالحقيقة ونتوقف في الخوض في الكيفية.

إثبات إحاطة الله تعالى بكل شيء وفوقيته تعالى على كل شيء

إثبات إحاطة الله تعالى بكل شيء وفوقيته تعالى على كل شيء قال رحمه الله تعالى: [وأما قوله: (محيط بكل شيء وفوقه)، وفي بعض النسخ: (محيط بكل شيء فوقه) بغير واو من قوله: (فوقه)، والنسخة الأولى هي الصحيحة، ومعناها: أنه تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء، ومعنى الثانية: أنه محيط بكل شيء فوق العرش. وهذا-والله أعلم- إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً، ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد، وإنكاراً لصفة الفوقية! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات وليس فوقه شيء من المخلوقات، فلا يبقى لقوله: (محيط بكل شيء فوق العرش) -والحالة هذه- معنى؛ إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحاط به، فتعين ثبوت الواو، ويكون المعنى أنه سبحانه محيط بكل شيء، وفوق كل شيء. أما كونه محيطاً بكل شيء فقال تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج:20]، {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54]، {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء:126]، وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً! وإنما المراد: إحاطة عظمته وسعة علمه وقدرته، وأنها بالنسبة إلى عظمته كخردلة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم). ومن المعلوم -ولله المثل الأعلى- أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها وأحاط قبضته بها وإن شاء جعلها تحته، وهو في الحالين مباين لها، عال عليها فوقها من جميع الوجوه، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف؟! فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته، أو يدني إليه من يشاء من خلقه؟! فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره. وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في رؤية الرب تعالى: (فقال له أبو رزين: كيف يسعنا -يا رسول الله- وهو واحد ونحن جميع؟ فقال: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر آية من آيات الله كلكم يراه مخلياً به، والله أكبر من ذلك) وإذا قد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء؛ فهذا يزيل كل إشكال، ويبطل كل خيال]. هذا في جميع أفعال الله وصفاته يستصحب، بمعنى أنَّ عظمة الله عز وجل أكبر من أن يتصورها المتصورون، فلذلك إذا تكلم الناس عن أفعال الله وصفاته يجب أن يتورعوا عن التحديد أو عن استبعاد بعض المعاني؛ لأن المخلوقات أكبر شيء منها لا يساوي شيئاً أمام ذات الله عز وجل، فلذلك لا ينبغي أن يتحكم الناس فيما يتعلق بأفعال الله وصفاته. وضرب الشيخ رحمه الله مثلاً لذلك يتعلق باللزوم والقرب، فكثير من الذين أولوا النزول يستبعدونه؛ لأنهم تصوروا النزول على نحو ما يعرفونه في الخلق، في حين أنهم لو قدروا الله حق قدره في أذهانهم وفي قلوبهم ما استبعدوا شيئاً من ذلك في أفعال الله عز وجل، فإن دنو الله من خلقه ونزوله إلى سماء الدنيا أمر يعقل في العقول السلمية؛ لأنه أخبر به الله عز وجل، والله سبحانه لا يعجزه شيء، وهو فعال لما يريد، وفعله ليس كفعل خلقه، وكل ذلك أمر متعلق بعظمته سبحانه، فمن التعظيم لله عز وجل أن نؤمن بما ذكره عن نفسه من أفعاله، كالنزول والدنو والقبض والبطش ونحو ذلك من الأمور التي هي دليل الكمال؛ لأن من نفاها لابد له من أن يصف الله بشيء من العجز، لاسيما أن الله أثبت لنفسه هذا الكمال، وإن كان لا يعلم على جهة التفصيل إلا بالخبر، لكن على جهة الإجمال تدرك العقول أنه العظيم سبحانه، وأنه بكل شيء محيط، ولا يعجزه شيء، ولا تساوي المخلوقات أمامه شيئاً، وأنه يفعل هذه الأمور بقدرته، وما دام أخبر بها عن نفسه فهي حقيقة على ما يليق بجلال الله، فلهذه الأفعال وجود حقيقي، لكن لا ندرك الكيفية.

أدلة إثبات فوقية الله تعالى على خلقه

أدلة إثبات فوقية الله تعالى على خلقه قال رحمه الله تعالى: [وأما كونه فوق المخلوقات فقال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18]. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال المتقدم ذكره: (والعرش فوق ذلك، والله فوق ذلك كله). وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأقره على ذلك وضحك منه، وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله: شهدت بإذن الله أن محمداً رسول الذي فوق السماوات من عل وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما له عمل من ربه متقبل وأن الذي عادى اليهود ابن مريم رسول أتى من عند ذي العرش مرسل وأن أخا الأحقاف إذ قام فيهمو يجاهد في ذات الإله ويعدل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأنا أشهد). وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية: (تغلب غضبي) رواه البخاري وغيره. وروى ابن ماجه عن جابر يرفعه قال: (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم وقال: يا أهل الجنة! سلام عليكم. ثم قرأ قوله تعالى: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58]، فينظر إليهم، وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه). وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء). والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97] أي: يعلوه]. من معاني الظهور العلو، أما حصر الظهور في العلو فلا أظنه مقصود الشارح، إنما قصد أنَّ من معاني الظهور هنا العلو، وإلا فالظهور أشمل من العلو، فالعلو من لوازم الظهور. قال رحمه الله تعالى: [فهذه الأسماء الأربعة متقابلة: اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته، واسمان لعلوه وقربه. وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس ونهكت الأموال -أو هلكت- فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟! وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته -وقال بأصابعه مثل القبة- وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب). وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات)، وهو حديث صحيح أخرجه الأموي في مغازيه، وأصله في الصحيحين. وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات. وعن عمر رضي الله عنه: أنه مر بعجوز فاستوقفته، فوقف معها يحدثها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! حبست الناس بسبب هذه العجوز؟! فقال: ويلك! أتدري من هذه؟! هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة التي أنزل الله فيها: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] أخرجه الدارمي. وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف:17] قال: ولم يستطع أن يقول: من فوقهم؛ لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم. ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر. ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق الخلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة، تعالى الله عن ذلك؛ فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات -مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم- لكان متصفاً بضد ذلك، لأن القابل للشيء لا يخلو

وجه إنكار أهل الكلام علو الله تعالى وفوقيته على خلقه

وجه إنكار أهل الكلام علو الله تعالى وفوقيته على خلقه سيفصل الشارح في إثبات العلو والفوقية لله عز وجل، وكل ذلك رد على المؤولة، لاسيما أن إنكار الفوقية الذاتية لله عز وجل والعلو مما وقع فيه طوائف من أهل العلم من المنتسبين للحديث والفقه وغيرهم، خاصة من الأشاعرة والماتريدية، فإن من أعظم ما تابعوا فيه الجهمية موضوع العلو والفوقية، وهذا أمر جعل السلف يحشدون له كثيراً من المؤلفات والأقوال والمناظرات؛ لأنه مما عمت به البلوى وانخدع به كثير من عامة المسلمين؛ لأنه قال به بعض المنتسبين للعلم والمنتسبين للسنة، ولله الأمر من قبل ومن بعد. وإنما أنكر أهل الكلام العلو قياساً على عموم المخلوقات، فقالوا: لا يمكن أن تكون الفوقية إلا في جهة، والذي في جهة لا بد أن يكون مقابلاً، والمقابل يلزم من مقابلته حدود ومسافة إلى آخره. فهو يلزمهم بإلزامهم، يقول: على قولكم: إنه لا يمكن أن يكون فوق فلابد من أن يكون في ضد الفوق، وإذا نفيتم ضد الفوق فإن الذي لا يوجد فوق ولا في غير فوق يكون معدوماً. فهو أراد أن يلزمهم بلوازم عقلية، وإلا فإن أهل السنة لا يحتاجون إلى هذا الرأي ولا يقولون به؛ لأن مسألة الفوق والسفل لا تحكم غير المخلوقات ولا شك، لكن نظراً لأنهم أخضعوا أفعال الخالق سبحانه عز وجل وقاسوها بأفعال المخلوقين، وقاسوا صفات الخالق بصفات المخلوقين فقالوا بإنكار العلو والفوقية؛ لأنه يلزم منها بزعمهم وجود الذات، ووجود الذات حقيقة لكنهم لا يريدون إثبات وجود الذات، وأما إذا لزم إثبات وجود الذات لزم إثبات لوازم الذات من الكم والكيف والحدود والمسافة إلى آخره، فكل هذا أخذوه من باب قياس المخلوقات، فهو أراد أن يلزمهم بكل شيء، وأكثر المسائل التي ستأتي في الرد التفصيلي في الدرس اللاحق -إن شاء الله- كلها من هذا الباب، من باب الإلزام العقلي على قواعدهم العقلية، وإلا فالناس الذين هم على الفطرة تكفيهم براهين القرآن، وهي براهين عقلية قاطعة، إضافة إلى أنها خبر عن الله عز وجل لا يقبل الجدل.

الأسئلة

الأسئلة

نظرة في تضعيف محقق الطحاوية لبعض الأحاديث

نظرة في تضعيف محقق الطحاوية لبعض الأحاديث Q ما صحة تضعيف المحقق لما ضعفه من الأحاديث؟ A ليس كل ما ذكر المحقق أنه ضعيف وافق فيه الصواب، فبعض الأحاديث التي قال فيها المحقق: إنها ضعيفة لا أدري هل أهمل بعض الطرق التي قال بعض الأئمة: إنها صحيحة، أم أنه حكم على السند الموجود؟ فبعض الأحاديث التي ذكر أنها ضعيفة ليست ضعيفة، ولها طرق أخرى صحيحة، ولها شواهد، ومن أراد الاستزادة في هذا الموضوع فليرجع إلى كتاب صحيح التوحيد وصفة الرب لـ ابن خزيمة، فحديث الأطيط وحديث الأوعال ونحوهما ذكرها ابن خزيمة تفصيلاً وذكر طرقها والروايات فيها.

حكم قول الداعي: (يا من لا تراه العيون ولا يصفه الواصفون)

حكم قول الداعي: (يا من لا تراه العيون ولا يصفه الواصفون) Q في دعاء القنوت يقول بعض الأئمة: يا من لا تراه العيون ولا يصفه الواصفون، فما صحة هذه العبارة؟ A هذه العبارة لا ينبغي أن تتلى، فإذا كان المقصود ما ذكره أهل العلم، وهو امتناع الرؤية في الدنيا؛ فهذا صحيح، لكن العوام قد يفهمون إنكار الرؤية مطلقاً، في حين أن الله عز وجل تراه عيون المؤمنين يوم القيامة بالأبصار، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم. وكذلك قوله: (لا يصفه الواصفون) ليس بحق على الإطلاق، فالواصفون يصفونه بما وصف به نفسه، والعقول السليمة والفطر السليمة تصف الله عز وجل بالكمال، وتصفه إجمالاً، وتصفه تفصيلاً بكل ما ورد في الكتاب والسنة، فهذه العبارات قد تكون من أدعية المتكلمين أو شبيهة بأدعية المتكلمين، فالأولى اجتنابها.

شرح العقيدة الطحاوية [60]

شرح العقيدة الطحاوية [60] علو الله تعالى على خلقه ثابت بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، وما يدعيه نفاة العلو من أدلة عقلية أو نظرية تناقض أدلة الإثبات هي في حقيقتها أدلة في خيالاتهم لا أثر لها في الواقع والحس، مع أن شهادة النصوص المتضافرة على إثبات العلو مما يدعم الأدلة العقلية الواقعية التي لا يدفعها إلا مكابر أو جاهل.

الردود على منكري الفوقية

الردود على منكري الفوقية

الردود العقلية

الردود العقلية قال المصنف رحمه الله تعالى: [فإن قيل: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها. قيل: لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط للعالم، وأنه موجود في الخارج، ليس وجوده ذهنياً فقط، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارج عنه، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب]. قولهم: (لا نسلم أنه قابل للفوقية) هذا قول أهل الكلام الفلاسفة والجهمية وكثير من المعتزلة وكثير من المتكلمين الذين سايروا الجهمية والمعتزلة في هذه المسألة، كـ الرازي والجويني في أول أمره، فهؤلاء ينكرون الفوقية لله عز وجل، ويؤولون ما ورد في النصوص من الفوقية والعلو لله سبحانه بأمور معنوية، وبعضهم ينكرها بالكلية كغلاة الجهمية، ثم اتسعوا بذلك على أوهام ليس لها أصل، ذلك أن مسألة الفوقية والعلو في حق الله عز وجل لا يجوز للإنسان أن يتفلسف فيها؛ لأن القول بأنه قابل للفوقية أو غير قابل مسألة لا ينبغي أن ترد مع النص أبداً، فنحن نقول بأن الله عز وجل من صفاته أنه علي على خلقه، وكذلك من أسمائه العلي، وأنه القاهر فوق عباده، وأنه في السماء، كل هذه معانٍ جاءت بلسان عربي مبين أراد الله بها حقيقة معناها، وصف الله تعالى بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في نصوص كثيرة لا تكاد تحصى، فنقف عند هذه النصوص ونعلم أنها حقيقة، ولا نأتي بأمور تشكل وتلبس، ككلمة قابل أو غير قابل، فمن الذي يفرض القبول أو لا يفرضه؟ فالله عز وجل هو القاهر فوق عباده، ولا تحكم لأحد فيه. فالشارح جاء بعبارات أطلقها المتكلمون والفلاسفة قد تنطلي على كثير ممن ليس عنده علم بعقيدة السلف، فقولهم مثلاً: القيام بالنفس أو عدم القيام بالنفس، يقصدون به أن الله عز وجل له وجود غير وجود المخلوقات، وأنه غني عن مخلوقاته لا يحتاج إليها، وهذا أمر بدهي فطري، فهو سبحانه الغني، وقد أكد الله عز وجل ذلك وأكده رسوله صلى الله عليه وسلم، فلسنا بحاجة إلى أن نعمل العقول الضعيفة في مثل هذه الحقائق الكبرى التي تقتضيها الفطرة ضرورة وورد النص بها قطعاً. إذاً: فقول الفلاسفة بأنه قائم بنفسه أو غير قائم بنفسه هذا كله خبط وخلط لا يجوز الاعتماد عليه، وإنما اضطر السلف للرد على هذه المسائل من أجل أن يقرروا الحق بمسالك القوم أنفسهم، فيقيموا الحجة عليهم بأدلتهم وبراهينهم. وكذلك قولهم: (غير مخالط للعالم) هذا أيضاً أمر بدهي، وكذلك كونه موجوداً في الخارج، أي: خارج المخلوقات، أي: أن وجوده غير جنس وجود المخلوقات، وأحياناً يعبر الفلاسفة عن الوجود في الخارج أنه في خارج الأذهان، وهذا أيضاً افتراض فلسفي لا يعقل، فما في الأذهان لا يقبل التحقيق إلا إذا كان له وجود فعلي، والوجود الفعلي إن كان في عالم الشهادة فقد ندركه بحواسنا أو يأتي به خبر الغيب، وإن كان في عالم الغيب فلا ندركه إلا بخبر الغيب. فإن كان الوجود الذي تتصوره الأذهان يتعلق بأمر وجودي فعلاً وفي عالم الشهادة تدركه الحواس فهذا أمر يصدق ما يرد في الأذهان من تصورات. وإن كان ما يرد في الأذهان يتعلق بأمر غيبي فإن الأمر الغيبي يقر بما جاء في الخبر لا بما في الأذهان، نعم الأذهان تتصور أشياء قد يكون لها وجود وقد لا يكون لها وجود، فلا سبيل إلى تحقيق وجود الموجودات التي ستتصورها الأذهان إلا بالحواس أو بخبر الغيب، وما تدركه الحواس لا جدال فيه، وما لا تدركه الحواس لا يمكن أن يثبت أبداً إلا بخبر الغيب، وما تتوهمه الأذهان في الموجودات التي لا تدركها الحواس لا يمكن أن تفهم كيفيته أبداً، فقولهم: (إنه موجود في الخارج) يقصدون به أن الله عز وجل موجود خالج المخلوقات، وهذا -كما قلت- أمر فطري بدهي؛ لأن الله ليس بحال في مخلوقاته، وهو عز وجل الأحد الصمد، فلا يمكن أن تتصور الأذهان المجبولة على الفطرة ولا العقول السليمة إلا أن الله عز وجل ليس في مخلوقاته، فكلمة خارج وداخل كلمة فلسفية يجب أن نتفاداها؛ لأن معناها مفهوم بالفطرة والضرورة والنص، لكن اللفظ فيه لبس، فالله عز وجل وجوده وجود فعلي بأسمائه وصفاته، وليس وجوداً ذهنياً كما يتصور الفلاسفة والجهمية. وقوله: [بل وجوده خارج الأذهان قطعاً] يعني: أنه لا يكون وجوده فيما تتخيله الأذهان. يقول: [وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو إما داخل العالم وإما خارجه]، هذا أيضاً افتراض تكلم به المتكلمون، فقالوا: هو إما داخل العالم وإما خارجه، فلما قالوا هذه الكلمة وردت عليهم معضلات كثيرة؛ لأنهم لما قالوا بافتراض أنه خارج العالم اضطروا إلى أن يقولوا بأن له وجوداً حقيقياً وأسماء وصفات وأفعالاً، فلما اضطروا إلى ذلك نفوا ذلك، فقالوا بأن الله لا داخل العالم ولا خارجه، تعالى الله عما يزعمون! مع أن هذه مسألة لا تتصور عقلاً، مع أنا نقول: إن هذه الأمور يجب أن لا نخوض

الردود النقلية

الردود النقلية قال رحمه الله تعالى: [فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة والفطر المستقيمة والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه، وكونه فوق عباده، التي تقرب من عشرين نوعاً: أحدها: التصريح بالفوقية مقروناً بأداة (من) المعينة للفوقية بالذات، كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50]. الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة، كقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18]. الثالث: التصريح بالعروج إليه، نحو: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم). الرابع: التصريح بالصعود إليه، كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]. الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه، كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55]. السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو: ذاتاً وقدراً وشرفاً، كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة:255]، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51]. السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه، كقوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر:1]، {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2]، {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:2]، {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل:102]، {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان:1 - 5]. الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف:206]، {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} [الأنبياء:19]، ففرق بين من له عموماً وبين من عنده من مماليكه وعبيده خصوصاً]. يعني بذلك أن الله عز وجل له الملك كله، لكن فيما يتعلق بالعندية -أي: تخصيص بعض المخلوقات بأنها عنده- فإن هذا خص به بعض المخلوقات، الأمر الذي يدل على أنها أكثر رفعة وأعلى من غيرها. قال رحمه الله تعالى: [وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: (أنه عنده فوق العرش). التاسع: التصريح بأنه تعالى في السماء، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين: إما أن تكون (في) بمعنى (على)، وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز الحمل على غيره. العاشر: التصريح بالاستواء مقروناً بأداة (على) مختصاً بالعرش الذي هو أعلى المخلوقات، مصاحباً في الأكثر لأداة (ثم) الدالة على الترتيب والمهلة. الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى، كقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً). والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط باطل بالضرورة والفطرة، وهذا يجده من نفسه كل داع كما يأتي إن شاء الله تعالى. الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل. الثالث عشر: الإشارة إليه حساً إلى العلو، كما أشار إليه من هو أعلم بربه وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله، في اليوم الأعظم، في المكان الأعظم، قال لهم: (أنتم مسئولون عني فماذا أنتم قائلون؟)]. هنا يقصد كلام النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك المكان الذي هو عرفة، في ذلك اليوم العظيم الذي جمع شرف الزمانين: يوم عرفة ويوم الجمعة. قال رحمه الله تعالى: [(قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت)، فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعاً إلى من هو فوقها وفوق كل شيء قائلاً: (اللهم اشهد) فكأنا نشاهد الكريمة وهي مرفوعة إلى الله، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع أصبعه إليه: اللهم اشهد، ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين وحذلقة المتحذلقين! والحمد لله رب العالمين. ال

إثبات الفوقية والعلو في كلام السلف رحمهم الله تعالى

إثبات الفوقية والعلو في كلام السلف رحمهم الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً، فمنه: ما روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق، بسنده إلى أبي مطيع البلخي: أنه سأل أبا حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض؟ فقال: قد كفر؛ لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وعرشه فوق سبع سماوات، قلت: فإن قال: إنه على العرش، ولكن يقول: لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر؛ لأنه أنكر أنه في السماء، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر. وزاد غيره: لأن الله في أعلى عليين، وهو يدعى من أعلى، لا من أسفل. انتهى. ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم، مخالفون له في كثير من اعتقاداته، وقد ينتسب إلى مالك والشافعي وأحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم، وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش مشهورة، رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره]. الملاحظ في التاريخ أن أصحاب مذاهب الكلام كان كثير منهم على مذهب أبي حنيفة في الفروع، كمشاهير الجهمية المنتسبين ومشاهير المعتزلة، كما أن كثيراً من المتكلمين كانوا بين شافعية وأحناف، وهذا لا يضر بأصول المذاهب نفسها، لكن هذا من باب العلم بالواقع، وإلا فالأئمة الأربعة كلهم على مذهب أهل السنة والجماعة، وأوائل تلاميذهم كذلك، لكن إذا أرادنا أن نؤرخ لدخول المذاهب الكلامية على المذاهب فسنجد أن الأحناف هم أول من تأثر بمذاهب الجهمية، وأن الشافعية وجد في أوائلهم من دخل في مذاهب الكلابية الذي هو أصل مذهب الأشاعرة والماتريدية، ثم بعد ذلك انتشرت المذاهب الكلامية في جميع المذاهب في بعض المالكية ثم في بعض الحنابلة.

الرد على متأول الفوقية

الرد على متأول الفوقية قال رحمه الله تعالى: [ومن تأول (فوق) بأنه خير من عباده وأفضل منهم، وأنه خير من العرش وأفضل منه، كما يقال: الأمير فوق الوزير، والدينار فوق الدرهم؛ فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة، وتشمئز منه القلوب الصحيحة، فإن قول القائل ابتداء: الله خير من عباده، وخير من عرشه من جنس قوله: الثلج بارد، والنار حارة، والشمس أضوأ من السراج، والسماء أعلى من سقف الدار، والجبل أثقل من الحصى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من فلان اليهودي، والسماء فوق الأرض، وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه! فكيف يليق بكلام الله الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً؟! بل في ذلك تنقص، كما قيل في المثل السائر: ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا ولو قال قائل: الجوهر فوق قشر البصل وقشر السمك لضحك منه العقلاء، للتفاوت الذي بينهما، فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم، بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك، بأن كان احتجاجاً على مبطل، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام: ((أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ)) [يوسف:39]، وقوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] {وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:73]. وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر وفوقية القدر، وفوقية الذات، ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقص، وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه، فإن قالوا: بل علو المكانة لا المكان! فالمكانة تأنيث المكان، والمنزلة تأنيث المنزل، فلفظ المكانة والمنزلة تستعمل في المكانات النفسية والروحانية، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية]. يعني أن المكانة تقال في الأمور المعنوية، والمكان يقال في الأمور الحسية. قال رحمه الله تعالى: [فإذا قيل: لك في قلوبنا منزلة، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان، كما جاء في الأثر: إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله؛ فلينظر كيف منزلة الله في قلبه، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه. فقوله: منزلة الله في قلبه: هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك، فإذا عرف أن المكانة والمنزلة تأنيث المكان والمنزل، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى، وتابع له، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة، إذا كان مطابقاً كان حقاً، وإلا كان باطلاً. فإن قيل: المراد علوه في القلوب، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء؛ قيل: وكذلك هو، وهذا العلو مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء، فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء، كان علوه في القلوب غير مطابق، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى]. الخلاصة: أن الشارح رحمه الله سلك في الرد على الذين أنكروا العلو الذاتي لله سبحانه وتعالى مسلك التفصيل واستقصاء الأدلة والبراهين العقلية والنقلية، وهذا مذهب السلف في الأمور التي تلجّ فيها القضايا بينهم وبين المخالفين، ذلك أن من عادة السلف إذا كانت الشبهات خفيفة أن يردوا عليها بإجمال، وإذا كانت كبيرة ومعضلة ويكثر فيها الكلام وتعم بها البلوى زادوا في التفصيل فيها إلى حد حشر الأدلة العقلية والنقلية بتوسع، كما فعل الشارح تبعاً لمن سبقه, خاصة ابن القيم.

الأسئلة

الأسئلة

مدى صحة القول بعلم فرعون بفوقية الله جل جلاله

مدى صحة القول بعلم فرعون بفوقية الله جل جلاله Q هل كان فرعون يعلم بفوقية الله عز وجل؟ A قال بعض السلف: إنه فهم بفطرته أن الله عز وجل فوق، وإنه بذلك أراد أن يغالط في مسألة الوصول إلى الله عز وجل، وبعضهم فهم العكس، وقال: إنه أراد بذلك أن ينكر دعوى موسى بأن الله فوق السماوات، وهذا بعيد، وفي نظري أن القول الأول أصح، وهو أن فرعون كان يعرف أن الله فوق السماوات، لكنه أراد أن يوهم الناس من حوله بمثل هذا الإيهام ليقول: إنه ليس هناك رب لكم غيري. وعلى أي حال أقول: إن قصة موسى تحتمل معنيين، وفي كلا المعنيين دليل على إثبات العلو لله عز وجل.

وجه الدلالة على العلو من استفهامه صلى الله عليه وسلم الجارية بلفظ (أين)

وجه الدلالة على العلو من استفهامه صلى الله عليه وسلم الجارية بلفظ (أين) Q يقول في الدليل الرابع عشر في أدلة العلو: التعبير بلفظ (الأين)، فما المقصود بالاستدلال به؟ A يقصد به أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل عند الحاجة بلفظ (أين الله)، كما سأل الجارية: أين الله؟ هذا معنى الأين، ولا يمكن أن يسأل بلفظ (أين الله) إلا إذا كان الله عز وجل موصوفاً بشيء مما يقتضي السؤال، وهو العلو، فلو كان كما يقولون: إن الله وجوده معنوي؛ لما جاز السؤال بـ (أين)؛ لأن الشيء المعنوي الذي يوجد في الأذهان فقط لا يسأل عنه بلفظ: أين هو؟ ثم إنه يقصد بالسؤال بـ (الأين) أن السؤال ترتب عليه جواب أقره النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم سأل: (أين الله) ثم جاء الجواب بأنه في السماء مع رفع الأصبع بالإشارة إلى العلو، فهذا معنى قوله: (التصريح بلفظ الأين)، أي: السؤال عن الجهة، وهي جهة الفوق والعلو. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الطحاوية [61]

شرح العقيدة الطحاوية [61] أدلة إثبات علو الله على خلقه متواترة نصاً وعقلاً وحساً، وكل من أراد أن يشكك في الأدلة أو يعارضها بزعمه وعقله وحدسه فإنها لا تثبت ولا تستقيم، بل سرعان ما تتلاشى وتتهاوى تجاه قوة الأدلة وكثرتها التي تفيد بوضوح إثبات العلو لله تعالى.

ثبوت علو الله تعالى على خلقه بدليل العقل

ثبوت علو الله تعالى على خلقه بدليل العقل قال المصنف رحمه الله تعالى: [وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع ثابت بالعقل والفطرة، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه: أحدها: العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر]. كلمة (قائم به) كثير ما يعبر بها أهل الكلام فيما يتعلق بالصفات وكثير من الأمور الغيبية، ويقصدون لزوم الشيء للشيء، يعني: الصفات الملازمة لله سبحانه. وأحياناً يقصدون أن القائم بالشيء هو الذي يعد جزءاً منه، أو أنه غير منفصل عنه، فأبرز تعبيراتهم هي القائم بالشيء، أي: اللازم له الحاصل منه أو الحاصل فيه الذي لا ينفصل عنه، وهو تعبير فلسفي ينبغي أن يتفاداه المسلم إلا عند الضرورة عندما يضطر للرد. قال رحمه الله تعالى: [الثاني: أنه لما خلق العالم فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجاً عن ذاته، والأول باطل، أما أولاً: فبالاتفاق، وأما ثانياً: فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. والثاني: يقتضي كون العلم واقعاً خارج ذاته، فيكون منفصلاً، فتعينت المباينة؛ لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه غير معقول. الثالث: أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه يقتضي نفي وجوده بالكلية؛ لأنه غير معقول، فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه، والأول باطل، فتعين الثاني، فلزمت المباينة]. وهذه الأمور بدهية، وتكرير البدهيات كثيراً ما يشكل، ولولا أن المؤلف ساق هذا هنا في الرد على أناس ممن ينتسبون للعلم، ويفتن بهم كثير من المسلمين، خاصة في تلك العصور التي كانوا فيها أعلاماً، ينظر إليهم نظرة إكبار وإعجاب، كحال أبي المعالي الجويني قبل رجوعه، والرازي قبل رجوعه، والغزالي والشهرستاني والبغدادي وغيرهم من الذين كان كثير من الناس ينظر إليهم نظرة إكبار وإعجاب، فوجد منهم هذا التلبيس، فاضطر السلف إلى أن يردوا على هذه المقولة دفعاً للبس، وإلا فالمفروض ألا يتكلم المسلم بهذه الأمور لغير ضرورة قصوى خاصة في الأماكن العامة والدروس العامة. لذا نجد أن الذين تصدوا لهذه الردود أحياناً يقولون أشياء غير لائقة، وبإمكانهم أن يعبروا عنها بتعبيرات أخرى سليمة، لكن الحرص على الرد والإمعان في رد هذه الشبهات جعلهم يقعون في مصطلحات وتعبيرات استعملها الخصوم. فمثلاً: استعمال الشارح عبارة لا ينبغي لطالب العلم أن يستعملها أبداً، وهي قوله: أما ثانياً: فلأنه يلزم أن الله عز وجل يكون محلاً لكذا وكذا، والمفروض أن يعبر بتعبير يدل على المراد مجملاً، كأن يقول: يلزم منه أن يكون محلاً لما لا يليق، وهذا كاف؛ لأن أي إنسان مطبوع على الفطرة السليمة ينفر من أن يعبر عن الله بما لا يليق دون ذكر العبارات التي توقع في حرج، فالمسلم يجد حرجاً شديداً في أن يحكيها حتى وإن قالها هؤلاء الملبسون. ولذا فإن ذكر هذه الأمور أحياناً يوجد أحياناً شيئاً من الإشكال عند الناس الذين هم على الفطرة، فلا يلجأ المسلم إلى هذا التعبير إلا عند الضرورة القصوى، أو في دروس خاصة من دروس العقيدة ونحوها، وأن يؤمن فيها عدم وجود الأحداث الصغار وعدم وجود العوام الجهال، وعدم وجود قليلي العلم الشرعي من المثقفين المغرورين ونحوهم.

ثبوت علو الله تعالى على خلقه بدليل الفطرة

ثبوت علو الله تعالى على خلقه بدليل الفطرة قال رحمه الله تعالى: [وأما ثبوته بالفطرة فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى. وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمذاني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين وهو يتكلم في نفي صفة العلو ويقول: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان! فقال الشيخ أبو جعفر: أخبرنا -يا أستاذ- عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا؟ فإنه ما قال عارف قط: (يا الله) إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف ندفع هذه الضرورة عن أنفسنا؟! قال: فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل! وأظنه قال: وبكى وقال: حيرني الهمذاني، حيرني الهمذاني! أراد الشيخ: أن هذا أمر فطر الله عليه عباده، من غير أن يتلقوه من المعلمين، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو]. هذه الضرورة يدركها كل إنسان، وليس المسلم فقط، فكل إنسان يعرف الله عز وجل ويدرك هذه الضرورة، وهي اللجوء إلى الله عز وجل والتوجه إلى العلو، سواء كان توجهاً فعلياً أو توجهاً قلبياً. والناس في هذا درجات، فالمسلم الموقن الصادق المتقي لله عز وجل يستصحب في كل أموره دائماً هذه الحقيقة، فيتوجه إلى العلو حينما يدعو الله عز وجل، يتوجه قلبه وجوارحه، أما توجه قلبه فهذا أمر دائم، أما توجه جوارحه فعندما يدعو أو يعبر عن شيء من كمالات الله عز وجل يجد أنه يشير إلى العلو، دون أن يقصد أحياناً، أي: يشير بفطرته. أما العاصي والكافر ونحوهما فإنهم عند الضرورة -أي: عند الأمور الملحة وعندما يمسهم الضر- تجدهم بفطرتهم تتوجه قلوبهم وجوارحهم إلى الله عز وجل، حتى عند المفاجئة التي ليس من طبع الإنسان أن يفكر فيها بسرعة، فعندما يدهمه أمر يجد أنه متوجه إلى الله عز وجل إلى جهة العلو بجوارحه وبقلبه، بل الحيوانات كذلك، فالحيوانات عندما يمسها شيء من الضر -خاصة عند النزع- أو عندما تفقد شيئاً من الأمور الغالية عليها -كأن تفقد الدابة ولدها- تجدها تشخص ببصرها إلى الله عز وجل إلى جهة السماء، فهذا أمر فطري يدرك في الحيوان وفي الإنسان، لكن الفلسفة أحياناً تضيع الحقائق الفطرية وتضيع الأمور التي يقتضيها العقل السليم، ودليل ذلك أن الناس إذا تمادوا في الفلسفات أنكروا البدهيات المشاهدة أمامهم فضلاً عن البدهيات العقلية؛ لأنه يوجد من الفلاسفة من يذهب إلى الشك في وجود نفسه، فالناس ليس في أوهامهم وظنونهم دلالة، والعقول لا تنضبط بشيء، فمن أضل الله عقله فلن يهتدي بالحق، فليس فيما يوجد من شذوذات عند المتكلمين والفلاسفة دليل على ما في الفطر والعقول السليمة، إنما الدليل ما عليه جمهور العقلاء وما تقتضيه النصوص الشرعية والفطرة السلمية التي يعبر عنها السذج من الناس، فإذا اختلف المتجادلون فليلجئوا إلى ما عليه أهل الفطرة السليمة الذين لم تدخلهم الفلسفة، فسيجدون عندهم حقيقة الأمور الفطرية، نعم ليس عندهم فقه شرعي، لكن الحقيقة في الأمور الفطرية تجدها عند السذج السالمين من الأهواء، السالمين من البدع، السالمين من الفلسفات الدخيلة، تجد عندهم كثيراً من الحقائق التي يماري فيها أهل الأهواء، سواء ما يتعلق بوجود الله عز وجل، وبعلوه سبحانه وفوقيته، وما يتعلق بأسمائه وصفاته وأفعاله.

الاعتراض على الدليل العقلي على علو الله والرد عليه

الاعتراض على الدليل العقلي على علو الله والرد عليه قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته؛ لأنه أنكره جمهور العقلاء، فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء، بل هو قضية وهمية خيالية. والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة، وهو أن يقال: إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل، وإن رد العقل قولنا فهو لقولكم أعظم رداً؛ فإن كان قولنا باطلاً في العقل فقولكم أبطل، وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل؛ فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل؛ فإن دعوى الضرورة مشتركة. فإنا نقول: نعلم بالضرورة بطلان قولكم، وأنتم تقولون كذلك، فإذا قلتم: تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل؛ قابلناكم بنظير قولكم، وعامة فطر الناس -ليسوا منكم ولا منا- يوافقونا على هذا]. هذا ما أشرت إليه سابقاً، وهو أن عامة الناس الذين هم على الاستقامة في الأصل ولم تدخلهم الفلسفات هم الذين يعتد بفطرهم السليمة، وقد لا يدركون الأمور العقلية العميقة، لكن هذه ليست محل خلاف، فأغلب الخلاف في الأمور البدهية، والأمور التي يتعمق فيها الفلاسفة ناتجة عن الخلاف في البدهيات. فأغلب الأمور التي تفلسف فيها المتفلسفون وتكلم فيها المتكلمون، ودوخوا فيها أنفسهم ودوخوا فيها المسلمين راجعة إلى البدهيات، فإذا أسقطنا أصولهم بالبدهيات سقطت جميع الفرعيات التي فرعوا عنها. فمثلاً: كثير من الأمور التي أولوا فيها الصفات راجعة إلى مسألة العلو ومسألة الاستواء، ومسألة كلام الله عز وجل. فهذه الأمور هي التي يدور عليها أكثر تأويل المؤولة من الجهمية والمعتزلة، وأهل الكلام وغيرهم تبع لهم، ثم هذه الثلاث كلها تدور على مسألة واحدة، وهي مسألة العلو، فإذا قررنا العلو بالفطرة تقرر الوجود الذاتي لله عز وجل، وإذا تقرر الوجود الذاتي تقرر إثبات الأسماء والصفات والأفعال لله على ما يليق بجلاله، وتقرر الاستواء ثم الكلام ثم سائر الصفات. ومسألة العلو بدهية، فإذا قررناها بالبداهة بعيداً عن السفسطة وبعيداً عن التكلف الذي تكلف به المتكلفون انتهى وانهدم أصل الخصم الذي بنى عليه التأويل أو بنى عليه التعطيل. وقول الهمذاني مثال فقط لما يجري بين أهل السنة وبين غيرهم في تقرير العقيدة، فـ الهمذاني ما ذهب يتفلسف، بل ألجأ الجويني إلى الاعتراف بحقيقة الفطرة الساذجة، فقال: دعنا من كلامك هذا كله، لكن فسر لي الضرورة التي يجدها قلب كل إنسان ما تفلسف ولا درس على الجويني ولا على غيره، يجد في قلبه أنه إذا دعا الله عز وجل توجه قلبه إلى فوق، فهذه الضرورة من أين جاءت؟! مع أنه ما قرأ ولا تعلم على يد معلم ولا سمع الجويني ولا غير الجويني، فمن أين جاءت هذه الضرورة؟! فـ الجويني تأمل وقال: هذه فطرة، فالله عز وجل هو الذي خلق هؤلاء العباد وفطرهم، فمن أين جاءتهم هذه الضرورة التي يتفقون عليها؟! ولماذا أنا وعدد من الناس يعدون على الأصابع على الحق وهذه الأمة التي هي على الفطرة السليمة يضيع إيمانها كلها، حيث لم تؤمن بما قاله الجويني وحينما آمنت بصيغة العلو؟! تأمل ذلك قليلاً ثم ضرب على رأسه وبكى، وبعد ذلك رجع رجعة عبر عنها بتعبير لا يستطيع أحد أن يعبر بمثل تعبيره؛ لأنه جرب. قال رحمه الله تعالى: [فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم، وإن كان مردوداً غير مقبول بطل قولكم بالكلية؛ فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية، وبطلت عقلياتنا أيضاً، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم، فنحن مختصون بالسمع دونكم، والعقل مشترك بيننا وبينكم. فإن قلتم: أكثر العقلاء يقولون بقولنا؟ قيل: ليس الأمر كذلك، فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم]. كان اللازم أن يعبر بـ (خالق العالم)، لكن هذا التعبير من تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يرد على أهل الكلام، فكثيراً ما يستعمل مصطلحاتهم؛ لأنها أقرب إلى مفاهيمهم وأقرب إلى إقامة الحجة عليهم، وعلى هذا ينبغي أن يكون بدلها (خالق العالم). قال رحمه الله تعالى: [فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم ليس هو فوق العالم وليس فوق العالم شيء موجود، وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم؛ طائفة من النظار، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم بن صفوان وأتباعه].

الاعتراض على الدليل الفطري على علو الله تعالى والرد عليه

الاعتراض على الدليل الفطري على علو الله تعالى والرد عليه قال رحمه الله تعالى: [واعترض على الدليل الفطري أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة]. الذين اعترضوا على الدليل الفطري في إثبات العلو لله عز وجل هم أهل الكلام من الجهمية والمعتزلة، والذين ورثوهم في هذه المسألة هم متكلمة الأشاعرة والماتريدية، فهؤلاء قالوا: إن الدليل الفطري ينقضه أن توجه الناس إلى السماء يعني أن السماء قبلة الدعاء، لا أنه غريزة، كما أن الكعبة بزعمهم هي قبلة الصلاة، يقولون: كما أن الكعبة هي قبلة الصلاة كذلك السماء أو العلو قبلة الدعاء، وهذا سينقضه المؤلف بكلام بين واضح. قال رحمه الله تعالى: [واعترض على الدليل الفطري أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء، كما أن الكعبة قبلة للصلاة، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض. وأجيب على هذا الاعتراض من وجوه: أحدها: أن قولكم: (إن السماء قبلة للدعاء) لم يقله أحد من سلف الأمة، ولا أنزل الله به من سلطان، وهذا من الأمور الشرعية الدينية، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها. الثاني: أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة؛ فإنه يستحب للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة، فمن قال: إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة، أو: إن له قبلتين: إحداهما الكعبة والأخرى السماء؛ فقد ابتدع في الدين، وخالف جماعة المسلمين. الثالث: أن القبلة: هي ما يستقبله العابد بوجهه، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء والذكر والذبح، وكما يوجه المحتضر والمدفون، ولذلك سميت وجهة. والاستقبال خلاف الاستدبار، فالاستقبال بالوجه، والاستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة، لا حقيقة ولا مجازاً، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها، وهذا لم يشرع، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة لا حقيقة ولا مجازاً؛ ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تتبع فيه الشرائع، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقل السماء بوجهه، بل نهوا عن ذلك، ومعلوم أن التوجه بالقلب واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري، يفعله المسلم والكافر، والعالم والجاهل، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة. وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك، بخلاف الداعي فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده. وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض، فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له، لا أن يميل إليه إذ هو تحته، هذا لا يخطر في قلب ساجد، لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول في سجوده: سبحان ربي الأسفل! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً. وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال لحري أن يتزندق إن لم يتداركه الله برحمته، وبعيد من مثله الصلاح، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110]، وقال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5]، فمن لم يطلب الاهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان، نسأل الله العفو والعافية].

الأسئلة

الأسئلة

وجه دلالة مباينة الله تعالى لخلقه على علوه جل جلاله

وجه دلالة مباينة الله تعالى لخلقه على علوه جل جلاله Q الوجوه التي ذكرها المؤلف في إثبات علو الله سبحانه بالعقل فهمت منها إثبات المباينة، فهل يلزم من إثبات المباينة إثبات العلو؟ A نعم، فيلزم من إثبات المباينة إثبات العلو؛ لأنَّ الله عز وجل غير خلقه، فوجوده غير وجود المخلوقات، والله عز وجل منزه عن النقص، ولا بد أن يوصف بالكمال، وأكمل وأحسن الجهات هي العلو؛ لأن العلو هو الدليل على التمكن والدليل على الهيمنة والدليل على الإحاطة، والله عز وجل موصوف بأنه العلي العظيم، وهو بكل شيء محيط، فأي الجهات تناسب صفات الله وأسماءه الحسنى؟! فكونه عز وجل غير خلقه لا بد أن يكون مبايناً لها، أي: منفصلاً عنها، فليس هو المخلوقات، ووجوده وجود ذاتي، بمعنى أنه له وجود فعلي حقيقي، ليس كما يتوهم أولئك أنه وجود ذهني أو معنوي؛ لأن الوجود المعنوي ليس بشيء، فالمعدوم له وجود معنوي في التصور والأذهان والأوهام، بمعنى أن النفس تتخيله وهو عدم.

بيان معنى قول أهل الكلام: (لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها)

بيان معنى قول أهل الكلام: (لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها) Q ما معنى قول الشارح في الطحاوية: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها؟ A هذه عبارة الجهمية والمعتزلة وطوائف من أهل الكلام، قالوا: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها، ذلك أن السلف قالوا: يلزم من نفي الفوقية ثبوت ضد الفوقية وهو السفل، ذلك أنه لا يعقل أن يكون موجود بلا جهة على الإطلاق؛ إذ الجهة أمر نسبي لكل موجود، فالموجودات التي هي المخلوقات تحكمها الجهات الأربع والجهات الست. أما بالنسبة لوجود الله عز وجل فإنه لا بد أن يوصف بالكمال، والكمال بالنسبة للجهات هو الفوق والعلو، وما دام المنازعون -وهم أكثر أهل الكلام- يقرون بوجود الله عز وجل، وأن الوجود صفة ثبوتية حقيقية عند كثير منهم؛ فإنه يلزمهم بناءً على إقرارهم أن يكون هذا الوجود إلى جهة، والجهة اللائقة بالله عز وجل هي العلو، لا سيما أنها ثبتت في النصوص الشرعية، فهي مقتضى النص والفطرة والعقل السليم، فمن لم يصف الله عز وجل بالفوقية والعلو والاستواء على العرش وغير ذلك مما ورد في النصوص فإنه يلزمه بناءً على ذلك أن يصف الله عز وجل بضد العلو؛ لأنه أقر بوجود الله الوجود الثبوتي، ويلزم من الوجود الجهة. فقال المنازع: لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها. وهذا من العبث بالألفاظ ومعارضة العقول السلمية والفطر فضلاً عن رد الشرع. فالرسول صلى الله عليه وسلم عند وفاته شخص ببصره إلى السماء وقال: (بل الرفيق الأعلى)، أليس هذا من أدلة العلو؟! و A بلى، بل هو دليل صريح على العلو.

شرح العقيدة الطحاوية [62]

شرح العقيدة الطحاوية [62] لقد دلت النصوص الكثيرة على إثبات صفات الله تعالى على وجه لا تشابه فيه صفات المخلوقين ولا تماثلهم، ومن تلك الصفات صفتا المحبة والخلة، وقد حاول بعض المبتدعة كما هي عادتهم إنكار الصفات وجحدها أو تأويلها أو تفويضها، ولكن أئمة الإسلام وعلماؤه الأعلام تصدوا لهم وردوا عليهم وأقاموا عليهم الحجج البينات، كما فعل خالد القسري وسلم بن أحوز وغيرهم من الأمراء الذين تصدوا للمارقين بناءً على فتاوى علماء المسلمين.

إثبات المحبة والخلة لله تعالى

إثبات المحبة والخلة لله تعالى قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاًَ، وكلم موسى تكليما، إيماناً وتصديقاً وتسليماً): قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، وقال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164]. الخلة: كمال المحبة، وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين، زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة. وكذلك أنكروا حقيقة التكليم كما تقدم، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية، فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط، خطب الناس يوم الأضحى فقال: أيها الناس! ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بـ الجعد بن درهم؛ إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما. ثم نزل فذبحه وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم، فجزاه الله عن الدين وأهله خيرا. وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان]. قبل هذا المقطع هناك ثلاثة أسطر سقطت عن غير قصد، وهي: [قوله: (وقد أعجز عن الإحاطة خلقه) أي: لا يحيطون به علماً ولا رؤية ولا غير ذلك من وجود الإحاطة، بل هو سبحانه محيط بكل شيء ولا يحيط به شيء]. فالله عز وجل لا يمكن أن تحيط به مدارك الناس ولا قواهم ولا حواسهم، فهو أعز وأجل من أن تحيط به حواس البشر وقواهم وأفكارهم وعقولهم، بمعنى أن تدرك كيفية ما هو عليه عز وجل، أو أن تنتهي إلى منتهى الكمال لله عز وجل، ولا بمجرد التصور؛ لأن الله عز وجل أعظم وأجل من أن تدركه العقول القاصرة والأفهام المحدودة والقوى الفانية. وذلك يشمل قدرات البشر في الدنيا والآخرة، ومع أن الناس في الآخرة يرون ربهم، وأن المؤمنين في الجنة يرون ربهم كما يليق بجلال الله عز وجل فضلاً منه وإحساناً -نسأل الله أن يجعلنا من هؤلاء- مع ذلك لا يحيطون بالله عز وجل، أي: بذاته، كما لا يحيطون بعلمه ولا يحيطون بكماله، فجميع كمالاته لا يحيطون بها، وجميع صفاته لا يحيطون بها، وجميع أسمائه لا يحيطون بها. فعجز الخلق عن الإحاطة بالله عز وجل يشمل أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، ويشمل قوى البشر المعنوية والحسية كلها، فلا يمكن لها أن تحيط بالله سبحانه.

ما أنكره الجهمية من جانبي المحبة وما أنكروه من التكليم

ما أنكره الجهمية من جانبي المحبة وما أنكروه من التكليم وأما قوله: [وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين]؛ فإن الجهمية الغلاة منهم أنكروا المحبة من الله عز وجل لعباده الصالحين، وأنكروا محبة العباد لله عز وجل، هذا معنى قوله: (من الجانبين)، أي: أنكروا أن تتوجه المحبة من العباد لله عز وجل على وجه الحقيقة، وأنكروا أن تكون المحبة من الله عز وجل لعباده. ثم قال: [وكذلك أنكروا حقيقة التكليم]، أي: أنكروا أن الله عز وجل يكلم عباده أو أنه يتكلم على الحقيقة، وزعموا أن الكلام عبارة عما يخلقه الله عز وجل أو يوجده مما يسمعه العباد أو مما يكتب، أو مما يلقى في أذهان البشر أو في عقولهم. ويزعمون أنه حروف وأصوات خلقها الله عز وجل فسميت كلاماً، ومن هنا زعموا أن القرآن مخلوق. وأحياناً يعبرون عن القرآن والتوراة والإنجيل وغيرها بأنها مما يفيض على العباد، أو أنها معانٍ نفسية ثم يترجمها إما الملك وهو جبريل، وإما الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الرسل، فإذا ترجمت سميت بحسبها، فإذا كانت هذه المعاني باللغة العبرية سميت توراة، وإذا كانت هذه المعاني باللغة العربية سميت قرآناً، وهكذا، فزعموا أن الله عز وجل لا يتكلم على الحقيقة. والمقصود بالحقيقة هنا: أنهم أنكروا الكلام لله عز وجل بما يليق بجلاله، والسلف يقولون: إن الله متكلم حقيقة؛ لأن الله لا يتكلم إلا بحق، فالله عز وجل حينما قال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] فلابد أن يكون هذا حقيقة، والحقيقة على ما يليق بجلال الله، ومن توهم المعنى الذي يتوهمه الناس في أذهانهم من كلام البشر أو كلام المخلوقات؛ فذلك لا يمكن في حق الله عز وجل؛ لأن الله ليس كمثله شيء. فمعنى أنهم أنكروا حقيقة الكلام أنهم أنكروا أن الله يتكلم على الحقيقة، وفسروا كلام الله عز وجل بتفسير يؤدي إلى القول بأنه مخلوق.

نظرة في الكلام على خالد القسري وسلم بن أحوز

نظرة في الكلام على خالد القسري وسلم بن أحوز أما الكلام عن خالد بن عبد الله القسري فهو مما خالف فيه أهل الأهواء أهل السنة في كل العصور، وإلى يومنا هذا، لكن في العصر الحاضر نجد بعض المثقفين من أبناء المسلمين الذين قد لا يتهمون بهوى أو نزعة افتراق وإنما لجهلهم وقلة اطلاعهم على أقوال السلف خاضوا فيما خاض فيه الأولون في اتهام خالد بن عبد الله القسري وأمثاله بأن قتله رءوس البدع والأهواء كان لغرض سياسي، وهذا نوع من تفسير ما في القلوب والنيات لا يجوز، وهذا قول قال به معاصرون من الجهمية، والمعتزلة، والخوارج، والرافضة، ثم صار سمة لأهل الأهواء دائماً، ما أن يقع فيه طوائف من أبناء السنة فهذا مما لا ينبغي السكوت عليه، وينبغي التنبيه عليه، والتحذير من الوقوع في المجاراة للمبطلين وأهل الأهواء. وخالد بن عبد الله القسري رحمه الله من أمراء العراق، كان عنده شيء من القسوة والظلم وليس ممدوحاً في جميع خصاله، وإن كان جواداً كريماً، وله غيرة على دين الله عز وجل، لكن له خصال مذمومة، وقد يكون عنده شيء من النصب، أي: القول في علي بما لا يجوز، فهذا نسب إليه، وقد لا يثبت، ومع ذلك لا يلزم من كونه غيوراً على دين الله عز وجل أن يكون سوياً في جميع جوانب حياته وخصاله، وهذه قاعدة في جميع الولاة في تاريخ الإسلام، أنه لا يلزم من كون الوالي قوياً في الدين، ومجاهداً في سبيل الله أن يكون على سمت أهل الورع والتقوى والصلاح من كل وجه. وأظن عدم إدراك هذه المسألة هو الذي أوقع بعض شبابنا في الخلط، فظنوا أنه ما دام قد اتهم بشيء من الظلم والمعاصي فلا يمكن أن يكون قتله هؤلاء الزنادقة إلا لسياسة، أقول: هذا لا يجوز، وما قاله أحد السلف الذين عاصروه ومن بعدهم من أئمة الدين إلى يومنا؛ لأنه حكم على القلوب والنيات، ولأنه أيضاً يعد من مجاراة أهل الأهواء والقول بقولهم. فقتله لمثل الجعد كان بناءً على فتوى أهل العلم، وإذا كان مثل هذا القتل يخدم الوالي فهذا أمر آخر لا صلة له بهذه المسألة، وهو أمر مظنون لا ينبغي أن نبني عليه أحكاماً، وهذا يشمل خالد بن عبد الله القسري وغيره ممن تصدوا لأهل الأهواء وعندهم بعض الفساد، فإنهم يحمدون على ما فعلوا، وقد تكون قوتهم في نصر الحق من التأييد لدين الله عز وجل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر). قال رحمه الله تعالى: [وأخذ هذا المذهب عن الجعد الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه، وإليه أضيف قول الجهمية، فقتله سلم بن أحوز أمير خراسان بها]. هنا أيضاً مسألة مهمة، وهي أيضاً تشمل ما سبق، وهي الحكم على سلم بن أحوز في قتله كثيراً من الزنادقة، فقد قتل الجهم وغيره، ولاشك في أن الجهم حينما قتل كان قتله على إثر خروجه على الأئمة، ولهذا فرح بعض أهل الأهواء قديماً وحديثاً وبعض الذين تأثروا بهم بهذه المناسبة، فجعلوا مثل هذه الظواهر -أي: قتل هؤلاء من رءوس البدع- لأسباب سياسية. وأنا أقول: الجهم خرج، ومن أسباب قتله خروجه، ومن أسباب قتله قوله بالتجهم أيضاً، فاجتمع الأمران في قتله: أنه خرج على الأئمة، وأنه أيضاً كان جعدياً على مذهب الجعد، وسمت الفرقة باسمه فيما بعد. فيصح أن يكون الجهم قتل لخروجه، لكن هذا أمر أيضاً لا يتنافى مع كونه قتل للتعطيل، وهذا يشمل أيضاً جميع أهل الأهواء. ومن سمات أهل الأهواء أنهم يرون الخروج، فلذلك أكثرهم قتل لخروجه، وقتل أيضاً لاعتقاده الخروج ولو لم يخرج فعلاً، وقد يكون قتل أيضاً لآرائه وعقائده. ومن هؤلاء غيلان الدمشقي، فـ غيلان الدمشقي قتل لقوله في القدر وغلوه في ذلك وتعطيله، وقتل أيضاً لأنه كان يرى الخروج، وهذه سمة أهل الأهواء جميعاً، أنهم يجمعون مع أهوائهم القول بالخروج، ولذلك ذكر كثير من السلف أن من السمات الجامعة لأهل الأهواء أنهم يرون السيف على تفاوت بينهم. فإذاً: لا يستبعد أن يكون الشخص الواحد يجتمع فيه أمران لقتله: فيكون ذا عقائد باطلة تستوجب قتله، ويكون أيضاً ممن يرى الخروج، أو ينتهز الفرصة مع كل خارج، ومع كل ناعق. وهنا أنبه على أن القاسمي في (تاريخ الجهمية والمعتزلة) تعاطف مع الجهمية ومع بعض الفرق، واعتبرها مظلومة في بعض جوانب آرائها. فعلى هذا لا يصح أن نعتمد عليه في مثل هذه الأمور التي فيها حكم على الأشخاص، وحكم على أمور العقيدة. قال رحمه الله تعالى: [ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون، حتى امتحن أئمة الإسلام، ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك. وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً، وموسى كليماً؛ لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب، كما قيل:

أدلة إثبات الخلة لنبينا صلى الله عليه وسلم

أدلة إثبات الخلة لنبينا صلى الله عليه وسلم قال رحمه الله تعالى: [ولكن محبة الله وخلته -كما يليق به تعالى- كسائر صفاته، ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الله) يعني نفسه. وفي رواية: (إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً)، وفي رواية: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً). فبين صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلاً، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق، مع أنه صلى الله عليه وسلم قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً، كقوله لـ معاذ: (والله إني لأحبك)، وكذلك قوله للأنصار رضي الله عنهم، وكان زيد بن حارثة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابنه أسامة رضي الله عنه حبه، وأمثال ذلك، وقال له عمرو بن العاص: (أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة. قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها). فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة، والمحبوب بها لكمالها يكون محبوباً لذاته، لا لشيء آخر؛ إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير، ومن كمالها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة؛ لتخللها المحب، ففيها كمال التوحيد وكمال الحب، ولذلك لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً، وكان إبراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره، فامتحنه بذبحه؛ ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده]. هذا التعبير فيه نوع تساهل، ونسبة الغيرة إلى الله عز وجل لاشك أن المقصود بها اللائق بالله عز وجل، لا الجانب السلبي في مفهوم الغيرة. لكن مع ذلك ينبغي تفادي هذا الأسلوب في نسبة الغيرة على هذا السياق وعلى هذا النحو إلى الله عز وجل بغير نص مأثور، وإن كان المعنى صحيحاً والمقصود صحيحاً. قال رحمه الله تعالى: [فلما استسلم لأمر ربه، وعزم على فعله، وظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح ولده إيثاراً لمحبة خليله على محبته نسخ الله ذلك عنه، وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم وتوطين النفس على ما أمر، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح نفسه مفسدة فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في أتباعه إلى يوم القيامة. وكما أن منزلة الخلة الثابتة لإبراهيم صلوات عليه قد شاركه فيها نبينا صلى الله عليه وسلم كما تقدم، كذلك منزلة التكليم الثابتة لموسى صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما ثبت ذلك في حديث الإسراء].

جواب إشكال حول طلب الصلاة على نبينا كما حصل لإبراهيم عليه السلام

جواب إشكال حول طلب الصلاة على نبينا كما حصل لإبراهيم عليه السلام قال رحمه الله تعالى: [وهنا سؤال مشهور، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من إبراهيم صلى الله عليه وسلم، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه؟ وكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين؟ وقد أجاب عنه العلماء بأجوبة عديدة يضيق هذا المكان عن بسطها، وأحسنها: أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم، فإذا طلب للنبي صلى الله عليه وسلم ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله - وفيهم الأنبياء - حصل لآل محمد ما يليق بهم، فإنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم إبراهيم لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيحصل له من المزية ما لم يحصل لغيره. وأحسن من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم من آل إبراهيم، بل هو أفضل آل إبراهيم، فيكون قولنا: كما صليت على آل إبراهيم متناولا الصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم، بل هو متناول إبراهيم أيضاً، كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33]، فإبراهيم وعمران دخلا في آل إبراهيم وآل عمران، وكما في قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} [القمر:34]، فإن لوطاً داخل في آل لوط، وكما في قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة:49]، وقوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]، فإن فرعون داخل في آل فرعون، ولهذا -والله أعلم- أكثر روايات حديث الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فيها كما صليت على آل إبراهيم، وفي كثير منها: كما صليت على إبراهيم، ولم يرد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إلا في قليل من الروايات، وما ذلك -والله أعلم- إلا لأن في قوله: (كما صليت على إبراهيم) يدخل آله تبعاً، وفي قوله: (كما صليت على آل إبراهيم) هو داخل في آل إبراهيم، وكذلك لما جاء أبو أوفى رضي الله عنه بصدقته إلى النبي صلى الله عليه وسلم دعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (اللهم صل على آل أبي أوفى). فعلى رواية من روى: (كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم) لا يدخل فيهم لإفراده بالذكر. ولما كان بيت إبراهيم عليه السلام أشرف بيوت العالم على الإطلاق خصهم الله بخصائص، منها: أنه جعل فيهم النبوة والكتاب، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من أهل بيته، ومنها: أنه سبحانه جعلهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة، فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم، ومنها: أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين، كما تقدم ذكره، ومنها: أنه جعل صاحب هذا البيت إماماً للناس، قال تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]، ومنها: أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياماً للناس ومثابة للناس وأمناً، وجعله قبلة لهم وحجاً، فكان ظهور هذا البيت من أهل هذا البيت الأكرمين، ومنها: أنه أمر عباده أن يصلوا على أهل هذا البيت، إلى غير ذلك من الخصائص].

الأسئلة

الأسئلة

المراد بلفظ (سذج)

المراد بلفظ (سذَّج) Q ما المراد بالسذج؟ A المقصود بالسذج: هم الذين على الفطرة ولم يطرأ على عقولهم علوم فلسفية، ولا ثقافات صحف وتشويشات تدخل في أذهان الناس ما ليس من الحق. فالساذج: هو الباقي -كما خلقه الله عز وجل- على الفطرة، وليس المقصود بالسذج المغفلين كما يفهم بعض الناس، ولا أقصد هذا، بل أقصد بالسذاجة الفطرة النقية الصالحة التي جعلها الله أصل الخلق في العباد.

شرح العقيدة الطحاوية [63]

شرح العقيدة الطحاوية [63] للإيمان أصول وأركان معلومة بالضرورة عند المسلمين أجمعين، ولكن من انتكست فطرهم وغيم الجهل عليهم أصبحوا لا يعرفون للدين أصلاً ولا ركناً ولا واجباً ولا مستحباً، كالفلاسفة وبعض أصناف المبتدعة، الذين حاولوا الطعن في الإسلام من داخله، وإلقاء الشبهات حوله، والتشكيك في المسلمات والأصول، وبضاعة هؤلاء وأمثالهم مزجاة، وأفكارهم ضحلة وعقيمة، وضلالهم وسوء صنيعهم تجاه الشريعة والإسلام واضح لكل أحد.

أصول الإيمان التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل

أصول الإيمان التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بالملائكة والنبيين، والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين): هذه الأمور من أركان الإيمان، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] الآيات، وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177]. فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة بقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136]. وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته، حديث جبريل وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل].

موقف الفلاسفة المبتدعة من أصول الإيمان

موقف الفلاسفة المبتدعة من أصول الإيمان قال رحمه الله تعالى: [وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة وأهل البدع؛ فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها، وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة المسمون عند من يعظمهم بالحكماء؛ فإن من علم حقيقة قولهم علم أنهم لم يؤمنوا بالله ولا رسله، ولا كتبه ولا ملائكته، ولا باليوم الآخر، فإن مذهبهم أن الله سبحانه وجوده مجرد لا ماهية له، ولا حقيقة، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها].

بيان المراد بالفلاسفة وما يهتمون به من العلوم

بيان المراد بالفلاسفة وما يهتمون به من العلوم يقصد بذلك الفلاسفة ومن نحا نحوهم، والمقصود بالفلاسفة: طائفة من البشر الذين يحكمون عقولهم في أمور الغيب، ويفترضون أوهاماً، ويبنون على افتراضاتهم أحكاماً. ولذلك فإن الفلسفة تتعلق بالغيبيات، أما ما يتعلق بعالم الشهادة فليس فلسفة، إنما يدخل في العلوم التطبيقية، أو العلوم الطبيعية، أو عالم الشهادة، فلذلك تميز الفلاسفة كلهم ومن سلك طريقهم بأنهم يميلون إلى الأفكار الخيالية وإلى الأوهام. وليس عند الفلاسفة إلا أوهام، مع أنه قد يوجد من يتعلق عقدياً بالفلسفة والفلاسفة، ويظن أن عندهم شيئاً من الحق أو الحقيقة، وهذا لا يمكن؛ لأن ما عند الفلاسفة نوعان: نوع يتعلق ببعض الأصول والقواعد المنطقية التي تستقرأ من عالم الشهادة، أو التي تعرف بالبداهة في الفطرة، مثل بعض الأمور الرياضية والحسابية وغيرها، فهذه أمور ليس للفلاسفة فيها ميزة، ولم يسموا من أجلها فلاسفة، وإن تعلقت بفلستهم واهتماماتهم. والأمر الثاني من اهتمامات الفلاسفة هو ما يتعلق بالخوض في الغيبيات، سواء الغيبيات التي جاء ذكر أصنافها في الكتب المنزلة، كاليوم الآخر، والملائكة، والجن، وما يتعلق بالإلهيات، أو غيرها من الغيبيات الأخرى التي افترضها الفلاسفة مجرد افتراض وتوهم، وسموا بعضها بالعقل الفعال، والعلة الأولى، والعلة الثانية، والمدبرات السبعة، وغير ذلك مما يختلفون في الكلام فيه وفي الاصطلاحات. وقد يعلقون بعض أوهامهم بأمور موجودة، أو بأمور ورد ذكرها في الكتاب والسنة. فالأمور الموجودة: كالنجوم، فقد يربطون ما يعتقدون من أوهام وفلسفات بالنجوم، أو بنحوها مما في الكون، وقد يربطونها أيضاً بأمور لها وجود في الكتاب والسنة، لكنها غيبية، وقد يتكلم الفلاسفة في الملائكة، لكن على نحو يخالف الإقرار بالملائكة في الكتاب والسنة، وقد يتكلمون أيضاً عن بعض أحوال الروح، أو عن المعاد أحياناً، لكن على خلاف ما ثبت في الكتاب والسنة. إذاً: فالفلاسفة ليس عندهم علم، ومن ادعى ذلك فعليه البرهان. وقد يتكلمون عن بعض العلوم الطبيعية، لكن لا علاقة لها بالفلسفة، وربطها بالفلسفة إنما هو من باب التجوز. كما أن الفلاسفة قد يهتمون ببعض العلوم المتعلقة بالإنسان كالطب، أو علوم النفس أو غيرها، فهذه علوم إنسانية أو طبيعية لا صلة لها بالفلسفة. وقد سلك سبيل الفلاسفة من يسمون بالعقلانيين، وهم الذين زعموا أن لعقولهم حكماً في الغيبيات، وهذا المنحى ظهر في الإسلام على أيدي فئات، أولها: أهل الكلام، فهم يحكمون عقولهم في أمور الغيب، وتلبيسهم أشد من تلبيس الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة الخلص إلحادهم واضح، لكن أهل الكلام -وأعني بهم الجهمية والمعتزلة ومتكلمة الأشاعرة والماتريدية ومن سلك سبيلهم، كالكرامية والسالمية والرافضة ومتأخرة الخوارج- كلهم ينزعون نزعة الكلام، وقد أخذوا كثيراً من أصولهم الكلامية عن الفلاسفة، لكن تلبيسهم أشد من تلبيس الفلاسفة؛ لأنهم صاغوا أوهام الفلاسفة باصطلاحات إسلامية، وأخضعوا أصول العقيدة -خاصة في الأسماء والصفات، وفيما يتعلق باليوم الآخر- لصياغة فلسفية ملبسة، فلذلك دخلوا على المسلمين باستعمالهم المصطلحات الإسلامية، وعرض مذاهب الفلاسفة بقوالب ومصطلحات شرعية.

أتباع الفلاسفة في العصر الحديث

أتباع الفلاسفة في العصر الحديث أما في العصر الحديث فإن أصحاب هذه النزعة يتمثلون باتجاهات كثيرة تتفاوت كتفاوت المتكلمين السابقين ما بين الغلو والإفراط في تفسير الأصول الإسلامية والعقائد والغيبيات تفسيرات إلحادية، وبين التأويل وبين نزعة التردد والتشكيك، أو عدم التسليم بحقائق الغيب. وهؤلاء على رأسهم أصحاب الاتجاهات العقلانية الذين يفسرون كثيراً من أمور العقيدة -بل كثيراً من أحكام الإسلام وشرائعه- بتفسيرات عقلانية، ويخضعون بزعمهم الإسلام لمقررات ومقدرات العقل. ومنهم من تسمى بغير هذه الأسماء، أي: بغير العقلانية، كالحداثيين، وإن كان منهم فئات ملحدة خالصة، لكن هناك فئة منهم عقلانية، ومنهم من سموا أنفسهم بأصحاب الاتجاهات العصرانية، ومنهم من لم يسم نفسه لا بهذا ولا بذاك، وإنما قد يدعي السنة، وقد يدعي أنه يسلك مسالك أهل الحق، لكنه أقرب إلى العقلانيين، وقد يكون منهم من يحمل لواءات في الاتجاهات الإسلامية الحديثة. وربما يكون من المشاهير الذين تتبعهم حركات كبرى، فهؤلاء على مختلف نزعاتهم كلهم يريدون تجريد المعاني الغيبية، والأصول الإسلامية عن حقائقها، وإعطاءها تصورات وتفسيرات عقلية أغلبها وهمية.

تصورات الفلاسفة لوجود الله تعالى

تصورات الفلاسفة لوجود الله تعالى أما قوله عن الفلاسفة بأن مذهبهم: أن الله سبحانه وجود مجرد لا ماهية له ولا حقيقة، فلا يقصد بذلك أنهم لا يعتقدون أن لله وجوداً ذاتياً مستقلاً عن وجود المخلوقات. ولذلك فهم ذهبوا إلى تفسير وجود الله عز وجل بأنه وجود مجرد، وفسروه بتفسيرات تؤدي إلى إنكار أسماء الله وصفاته وذاته وأفعاله، بل إلى إنكار الوجود الحقيقي الذي يتصوره العقلاء. إذاً: فتصورهم لوجود الله تصور تجريدي يجردونه من الوجود الحقيقي، فمنهم من فسره بالوجود العقلي، والعقل ليس له وجود حقيقي عندهم، إنما هو قوة فعالة، وبعضهم فسره بالروح، أي: فسروا وجود الله عز وجل بأنه روح، وبعضهم فسر وجود الله عز وجل بأنه قوة، وبعضهم فسر وجود الله عز وجل بالحلول في الخلق، وبعضهم فسره بالاتحاد بالخلق، وبعضهم فسره بوحدة الوجود، وقال: إن هذا الوجود كله هو الله، تعالى الله عما يزعمون. وكل هذه المذاهب هي مذاهب الفلاسفة، لكنها ظهرت في المسلمين تحت شعارات وتحت ألوية الفرق بمسميات إسلامية، إما على أيدي الفلاسفة أو الباطنية، أو الصوفية، أو على أيدي من جمعوا هذه المذاهب كلها، كمتأخرة الزنادقة أمثال: ابن عربي والسهروردي، وابن سبعين، وابن الفارض وأمثالهم. ولذلك لما فسروا النبوات وفسروا الوحي فسروه بما يتفق مع هذه المعاني. فمنهم من قال: إن الوحي والنبوة إنما هي إشراق من نور الوجود بالمثال إلى عالم المادة، ومنهم من قال: إنها فيض، ومنهم من قال: إنها تأتي عن طريق العقل الفعال كما ستأتي الإشارة إليه. ومن هنا جردوا الله عز وجل من الأسماء والصفات والأفعال، وإن أقروا له بالصفات، أو أقر بعضهم بالأسماء والصفات، فإنما أقروا بمعانٍ لا تنطبق على موصوف ولا مسمى، إنما هي مجرد معاني دل عليها ظواهر المخلوقات، ولا ترجع إلى موصوف موجود. قال رحمه الله تعالى: [فإن مذهبهم: أن الله سبحانه وجود مجرد لا ماهية له ولا حقيقة، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها، وكل موجود في الخارج فهو جزئي، ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته، وإنما العالم عندهم لازم له أزلاً وأبداً، وإن سموه مفعولا له فمصانعة ومصالحة للمسلمين في اللفظ، وليس عندهم بمفعول ولا مخلوق ولا مقدور عليه، وينفون عنه سمعه وبصره وسائر صفاته! فهذا إيمانهم بالله].

تصورات الفلاسفة لكتب الله تعالى ووحيه

تصورات الفلاسفة لكتب الله تعالى ووحيه قال رحمه الله تعالى: [وأما كتبه عندهم؛ فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا تكلم ولا يتكلم]. المؤلف هنا اختصر الكلام، وكأنه اعتمد على ما هو أصل عند جميع المسلمين، وهو: أن الكتب المنزلة من عند الله عز وجل هي كلامه. فبنى على ذلك أن كلامهم في كلام الله عز وجل ينطبق على الكلام في الكتب، فإنهم إذا أنكروا الكلام الذي هو صفة الله عز وجل فإنهم سينكرون أن تكون الكتب من عنده، أو يفسرونها بتفسير لا يطابق الواقع، ولا يدل عليه الوحي، بل يفسرونها بأمور سيأتي ذكرها. قال رحمه الله تعالى: [فإنهم لا يصفونه بالكلام، فلا تكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر]. العقل الفعال عندهم مجرد افتراض، فلو أردنا أن نعرف معنى العقل عندهم لوجدناه مجرد وهم وتصور ليس له حقيقة في الواقع. وهم لا يعتقدون أن لمثل هذه المعاني حقيقة في الواقع، وإن كان بعضهم قد يقول بأن مثل هذه الأمور -كالعقل الفعال- تتلبس بمخلوقات أخرى، وقد ينسبونها إلى النجوم والكواكب، فبعضهم قد ينسب مثل هذا الاختلاف إلى أكبر الكواكب، أو إلى أصل الكواكب أو أصل النجوم كالقطبين، وكل هذه تفسيرات وهمية، والمهم: أنهم يجردون ذات الله عز وجل عن الوجود الفعلي، وينسبون ما يحدث من أمور خارقة لا يقدر عليها البشر إلى أمور غيبية، أو وهمية كالعقل الفعال، والعقل الفعال يقصدون به: القوة الخفية المدبرة للكون، وقد يقول بعضهم بأن العقل أيضاً يصدر أوامره وتوجيهاته إلى عقول أخرى تحت أمرة هذا العقل، وهذه العقول أيضاً تتجزأ مسئولياتها ثم تتفرع إلى عقول أخرى وهكذا، وقد يجعلون هذا عن طريق النجوم، أو عن طريق الملائكة بأسمائها، أو نحوها. فالمهم: أن العقل الفعال يقصدون به وجوداً ذهنياً ليس له واقع، إنما هو قوة متوهمة -عندهم- تدبر الكون، وقد يعتقدون أن هذا العقل الفعال له وجود، وليس لهم على ذلك أدلة ولا براهين. ومن هنا يبقى هذا الأمر مجرد وهم؛ لأن الشيء الغيبي الذي ليس عليه برهان من الله عز وجل من ادعاه بدون دليل فلابد أن يكون قد توهم. فالأمر الغيبي لابد له من أحد أمرين: إما أن يكون هذا الغيب جاء عن طريق صحيح، وهو: الوحي المنزل من الله عز وجل، وهذا نؤمن به ونسلم. وإما أن يكون مجرد توهم، والتوهم لا حقيقة له؛ لأنا نجزم قطعاً بأن الذين قالوا بوجود العقل الفعال لا يمكن أن يأتوا لنا بدليل على وجوده، إنما اضطرهم إليه إنكار وجود الله عز وجل الوجود الذاتي، فاضطروا إلى أن يؤمنوا بمدبر لهذا الكون، سواء أكان عقلاً أم قوة، أم روحاً أو نحو ذلك مما عبروا به، فقالوا بمدبر للكون وهم لا يؤمنون بالله، وإنما يؤمنون به تعالى إيماناً تجريدياً كما ذكرت، فلجئوا بعد ذلك إلى افتراض قوة تدبر الكون سموها العقل الفعال. قال رحمه الله تعالى: [والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب زاكي النفس طاهر، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص: قوة الإدراك وسرعته؛ لينال من العلم أعظم مما يناله غيره! وقوة النفس؛ ليؤثر بها في هيولى العالم بقلب صورة إلى صورة! وقوة التخييل؛ ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة، وهي الملائكة عندهم!]. الهيولى عادة يقصدون بها أموراً، منها: أصل الشيء، أصل الخلقة، أو -بتعبير المحدثين- مادة الخلق، أي: المادة الأساسية قبل أن يتجزأ الخلق إلى عناصر، فالأساس للخلق -سواء كان مادياً، أو قوة أخرى لها تأثير في حركة الكون- قد يعبرون عنه بالهيولى. قال رحمه الله تعالى: [وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، وترى وتخاطب الرسول، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان، فهم أشد الناس تكذيباً به وإنكاراً له]. وهذا يعني أنهم ينكرون أن يكون هناك ملك اسمه: جبريل ينزل بالوحي، وأن تكون هناك ملائكة تنزل وتصعد بأمر الله عز وجل، ينكرون ذلك كله، ويفسرونه بتفسيرات تجريدية وهمية ذهنية تخييلية، ويقولون: هذه تخييلات يعبر بها عن القوى المعنوية المدبرة للكون.

تصورات الفلاسفة لأحداث الآخرة

تصورات الفلاسفة لأحداث الآخرة قال رحمه الله تعالى: [وعندهم أن هذا العالم لا يخرب، ولا تنشق السماوات ولا تنفطر، ولا تنكدر النجوم، ولا تكور الشمس والقمر، ولا يقوم الناس من قبورهم ويبعثون إلى جنة ونار! كل هذا عندهم أمثال مضروبة لتفهيم العوام، لا حقيقة لها في الخارج كما يفهم منها أتباع الرسل، فهذا إيمان هذه الطائفة الذليلة الحقيرة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه هي أصول الدين الخمسة].

سلوك المعتزلة والرافضة مسلك الفلاسفة في إحداث أصول هادمة للدين

سلوك المعتزلة والرافضة مسلك الفلاسفة في إحداث أصول هادمة للدين قال رحمه الله تعالى: [وقد أبدلتها المعتزلة بأصولهم الخمسة التي هدموا بها كثيراً من الدين؛ فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض، الذي هو الموصوف والصفة عندهم، واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض على حدوث الموصوف الذي هو الجسم، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل، فنفوا عن الله كل صفة، تشبيها بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام، ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر، وسموا ذلك العدل، ثم تكلموا في النبوة والشرائع والأمر والنهي والوعد والوعيد، وهي مسائل الأسماء والأحكام، التي هي المنزلة بين المنزلتين، ومسألة إنفاذ الوعيد، ثم تكلموا في إلزام الغير بذلك، الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمنوه جواز الخروج على الأئمة بالقتال، فهذه أصولهم الخمسة، التي وضعوها بإزاء أصول الدين الخمسة التي بعث بها الرسول]. الأصول الخمسة وغيرها مما تكلم به أهل الأهواء قديماً، ومما بدأت تظهر بعض مظاهره عند الفرق الحديثة، وأعني بذلك وضع أصول أو أركان للدين غير ما ورد في الشرع؛ فإن هذا من البدع، ولذلك يجب أن يحذر طالب العلم ويحذر غيره من تسمية ما يعتقده الناس أو يجتهدون فيه من مناهج أصولاً في الدين، بمعنى: أنه لا يصح أن نسمي في الإسلام أركاناً غير الأركان الخمسة، ولا أن نسمي للإيمان أركاناً غير الأركان الستة، ولا أن نضع أصولاً للدين غير ما تقرر في الكتاب والسنة، وإذا أقررنا بمجمل الأصول فلا نعدها عداً على سبيل الحصر، فلا يجوز -مثلاً- لقائل أن يقول: أصول الدين تنحصر في عشرين مسألة أو في عشرين أصلاً؛ لأن الحصر في أصول الدين لا يجوز، وهذا بخلاف الأمور الاجتهادية، فإذا كان العالم أو طالب العلم يتكلم عن أمور اجتهادية تتعلق بالتفريعات على العقيدة، أو بالأحكام؛ فلا مانع من أن يضع ضوابط للتقسيم، فيقول مثلاً: هذا فيه عشر مسائل، هذا فيه عشرة أصول، هذا فيه عشر قواعد إلى آخر ذلك من الأمور الاجتهادية. أما فيما يتعلق بأصول الدين -كأركان الإسلام وأركان الإيمان والإحسان، ونحو ذلك من المصطلحات الشرعية التي حددت أصولها- فلا يجوز لأحد أن يحدث شيئاً فيها. ولذلك ينبغي أن نتنبه لما أحدثه الناس من مناهج يضعونها أصولاً لهم، فهذا يضع أصولاً عشرين، وهذا يضع خمسة، وهذا يضع ستة، وغير ذلك مما تفعله الجماعات الآن. وهذا -وإن كان لا يقصد به مضاهاة أصول الدين، ولا يقصد به وضع أصول غير ما جاء في الشرع- لكنه مع مرور الزمن إذا بقي بدون تنبيه عليه -وهذا في الغالب مما لا يضبط- وإذا أصر أصحابه على التحديد فإنه ستأتي أجيال تجعل هذه الأصول من أصول الدين، كما فعلت المعتزلة في أصولها الخمسة، وكما فعلت الرافضة في أصولها، والخوارج في أصولها، والقدرية في أصولها، وأهل الكلام في أصولهم، حيث وضعوا قواعد جعلوها هي الأصل في تكميل الدين واعتقاده. فينبغي أن نتنبه لهذه المسألة، فلا يجوز أن نضع مناهج ونسميها أصولاً، أو أن ننسبها إلى الدين، ما عدا الأمور الاجتهادية التي تتعلق بالأحكام أو بالفرعيات، بشرط أن تكون أصولاً أو تفريعات علمية لا أموراً يجتمع عليها وينتمي إليها الناس، وتكون بمثابة الشعارات، بمعنى أنه لو اجتهد أحد في أمور من المسائل الاجتهادية ووضع لها أصولاً حددها أو لم يحددها؛ فإنه لا ينبغي أن يدعو الناس لاعتناقها أو للاجتماع عليها، أو أن تكون شعاراً لجماعة أو منهجاً لطريقة من الطرق أو حركة من الحركات أو نحو ذلك؛ فإن هذا في الغالب -ولابد- يؤدي مع مرور الزمن إلى التعصب لهذه الأصول وجعلها بديلاً عن أصول الدين. والجماعات التي وضعت هذه الأصول قديماً وحديثاً نجد بوضوح أنها بدأت تحتكم إليها وتوالي وتعادي عليها على تفاوت بينهم، وبدأت تقرر أصول الدين ومناهج الدين على هذه الأسس التي وضعتها، وقد تنسى في غمرة الحماس لهذه الأصول أركان الإسلام وأركان الإيمان، بل إن كثيراً من الجماعات نسيت الحديث عن أركان الإيمان وأركان الإسلام إلا عرضاً، وجعلت الحديث مع الناس وفي الدعوة إلى مبادئها على هذه الأصول التي وضعتها أو قررتها، فينبغي التنبه لذلك والتنبيه عليه.

اتباع أهل السنة في أصولهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أصول الدين

اتباع أهل السنة في أصولهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أصول الدين قال رحمه الله تعالى: [وأصول أهل السنة والجماعة تابعة لما جاء به الرسول، وأصل الدين: الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيان ذلك، ولهذا كانت الآيتان من آخر سورة البقرة -لما تضمنتا هذا الأصل- لهما شأن عظيم ليس لغيرهما؛ ففي الصحيحين عن أبي مسعود عقبة بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه). وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينا جبرائيل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضاً من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم، لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم، وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته). وقال أبو طالب المكي: أركان الإيمان سبعة. يعني هذه الخمسة، والإيمان بالقدر، والإيمان بالجنة والنار، وهذا حق]. بناءً على ما قرره السلف من أنه لا يجوز إحداث أركان أو أصول في الدين غير ما ذكره الله في القرآن، وشرعه وبينه الرسول صلى الله عليه وسلم، بناءً على هذا يجب أن نتوقف في كلام أبي طالب وأمثاله في جعل أركان الإيمان سبعة؛ لأن أركانه الستة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل مشتملة على لوازمها الأخرى التي هي بمثابة أصول الدين، والإيمان بالله عز وجل يشمل جميع ما يتعلق بالإيمان بذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بالملائكة كذلك، والإيمان بالكتب كذلك، والإيمان بالرسل كذلك، وهكذا بقية أركان الإيمان، فلا داعي لأن نحدث ركناً نسميه سابعاً. وعلى هذا فإن موافقة المؤلف هنا لـ أبي طالب المكي فيها نظر، إلا إن كان يقصد أنه ما قال إلا حقاً من حيث تفصيل الأركان، أما إذا قصد أننا نسمي الأركان على هذا النحو سبعة ونعد هذه السبعة فلا يجوز؛ لأن الإيمان بالجنة والنار داخل في الإيمان باليوم والآخر، والإيمان بالقدر منصوص عليه في الحديث. فينبغي اجتناب مثل هذه الألفاظ والتنبيه عليها. قال رحمه الله تعالى: [وقال أبو طالب المكي: أركان الإيمان سبعة. يعني هذه الخمسة والإيمان بالقدر والإيمان بالجنة والنار، وهذا حق، والأدلة عليه ثابتة محكمة قطعية، وقد تقدمت الإشارة إلى دليل التوحيد والرسالة].

الإيمان بالملائكة وحقيقتهم عند أتباع الرسل

الإيمان بالملائكة وحقيقتهم عند أتباع الرسل قال رحمه الله تعالى: [وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة]. هذه الكلمة مجملة، أعني قوله: [فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة] ففيها نوع تجوز، ولاشك أن الله عز وجل جعل للملائكة وظائف في الكون، وكل ذلك بإذن الله ومشيئته، ولا يخرج عن تدبيره وعن أمره وربوبيته سبحانه، لكن القول بأن كل حركة في العالم ناشئة عن ملائكته قد يكون فيه نظر؛ لأنه قد ورد في بعض النصوص أن هناك أموراً تحدث بهذه الأسباب، أي: بما جعله الله عز وجل من أعمال الملائكة الموكلين بالسماوات والأرض، وأموراً تكون بقدرة الله المحضة، كما ورد من أن الله عز وجل خلق آدم بيده، وخلق عيسى بن مريم بيده، وتولى كثيراً من أمر خلقه بيده سبحانه. كما أن هناك من الأمور ما يحدث بأسباب مباشرة، أي: يكون وجوده وخلقه بأسباب جعلها الله عز وجل، وهناك ما يكون بمجرد قول الله عز وجل: (كن). فتدبير الله للعالم يكون بفعله وبقوله، ويكون بيده سبحانه، ويكون أيضاً بتسخيره للملائكة، وبأمره لهم. قال رحمه الله تعالى: [وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة، كما قال تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات:5]، {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات:4]. وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون: هي النجوم]. هناك من فسر بعض هذه الآيات -المقسمات، والمدبرات، وكذلك المرسلات والناشرات والفارقات والنازعات والناشطات والسابحات- فسرها بالملائكة، ومنهم من فسرها بأمور أخرى لكنها ترجع أيضاً إلى أن الملائكة هي أسباب في هذه التفسيرات، ومنهم من فسر بعض هذه الأمور بالسحاب، وبعضها بالرياح المرسلة من الله عز وجل، وبعضها بأمور أخرى هي من خلق الله عز وجل، ومن الأسباب التي جعلها الله عز وجل أسباباً في هذا الكون، لكن هذا لا يمنع من تفسيرها بالملائكة؛ لأنه معلوم أنا إذا فسرنا بعض هذه الألفاظ بالرياح فالرياح أيضاً وكل الله بها الملائكة، وإذا فسرنا بعضها بالسحاب والمطر فإن الله عز وجل وكل بالسحاب والمطر طائفة من الملائكة، فتفسيرها ببعض المخلوقات راجع إلى أمر الله للملائكة.

دلالة الكتاب والسنة على أصناف الملائكة وأعمالهم

دلالة الكتاب والسنة على أصناف الملائكة وأعمالهم قال رحمه الله تعالى: [وقد دل الكتاب والسنة على أصناف ملائكته، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالجنة وعمارتها وغراسها وعمل آلاتها ملائكة، فالملائكة أعظم جنود الله، ومنهم: المرسلات عرفاً، والناشرات نشراً، والفارقات فرقاً، والملقيات ذكراً. ومنهم: النازعات غرقاً، والناشطات نشطاً، والسابحات سبحاً، فالسابقات سبقاً، ومنهم: الصافات صفاً، فالزاجرات زجراً، فالتاليات ذكراً. ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله: الفرق والطوائف والجماعات، التي مفردها: فرقة وطائفة وجماعة]. أراد بهذا الاحتراز من وصف الملائكة بالأنوثية، وهذا من سمات المشركين والفلاسفة والعقلانيين وغيرهم من أهل الضلالة والبدع؛ فإنهم قد يصفون الملائكة بأنهم إناث. فنظراً لأن مثل هذه الألفاظ قد تشير إلى معنى التأنيث في الإشارة إلى الملائكة، أراد أن يبين أن التأنيث هنا راجع إلى الجنس لا إلى الملائكة بأفرادهم. فالملائكة فرق، والفرقة من حيث المعنى اللغوي توصف بالتأنيث، وكذلك الطوائف، فالطائفة لفظها اللغوي مؤنث، والجماعات لفظها اللغوي مؤنث، فلا يعني ذلك تأنيث الملائكة؛ لأن الملائكة لا يوصفون بذلك، إنما هذه الألفاظ تنصرف إلى جنس جماعة الملائكة وفرقها وطوائفها ونحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [ومنهم ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقديس، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله. ولفظ (الملك) يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله، فليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر كله لله الواحد القهار، وهم ينفذون أمره: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:27 - 28]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50]. فهم عباد مكرمون، منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم لا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:19 - 20] ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة: جبرائيل وميكائيل وإسرافيل الموكلون بالحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم. فهم رسل الله في خلقه وأمره، وسفراؤه بينه وبين عباده]. الملائكة منهم السفراء الخاصة، كجبريل عليه السلام الذي جاء بالوحي إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى سائر الأنبياء. ومنهم سفراء سفارة عامة، وهم الملائكة الذين يحيطون بعباد الله عز وجل بالرعاية والتدبير العام، وبالرعاية الخاصة بالمؤمنين، فالله عز وجل أوكل هذا الأمر إلى طوائف من الملائكة، وهذا من معنى السفارة العامة، أما السفارة الخاصة فهي الوحي الذي هو عن طريق جبريل. قال رحمه الله تعالى: [فهم رسل الله في خلقه وأمره وسفراؤه بينه وبين عباده، ينزلون بالأمر من عنده في أقطار العالم، ويصعدون إليه بالأمر]. من السفراء الكرام الكاتبون، والملائكة الموكلون بالعباد الذين يتناوبون صباح مساء. قال رحمه الله تعالى: [قد أطت السماوات بهم وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد لله، ويدخل البيت المعمور منهم كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم].

تنوع حالات ذكر الملائكة في القرآن الكريم

تنوع حالات ذكر الملائكة في القرآن الكريم قال رحمه الله تعالى: [والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم ومراتبهم، فتارة يقرن الله تعالى اسمه باسمهم، وصلاته بصلاتهم، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف، وتارة يذكر حفهم بالعرش وحملهم له، وبراءتهم من الذنوب، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم، والتقريب والعلو والطهارة والقوة والإخلاص، قال تعالى: {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285]، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ} [آل عمران:18]، {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43]، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:7]، {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر:75]، {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26]، {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206]، {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38]، {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:11]، {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:16]، {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:21]، {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى} [الصافات:8]، وكذلك الأحاديث النبوية طافحة بذكرهم، فلهذا كان الإيمان بالملائكة أحد الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان].

شرح العقيدة الطحاوية [64]

شرح العقيدة الطحاوية [64] الإيمان بالملائكة ركن من أركان الإيمان كما دل على ذلك الكتاب والسنة، فيجب الإيمان بهم، وبأنهم موكلون بأمور وقضايا وكلهم الله بها، وهم أعظم جنود الله ومخلوقاته، وقد اختلف في تفضيلهم على جنس البشر بناءً على اختلاف الأدلة في ذلك، وهذه المسألة في جملتها من المسائل التي لا يترتب عليها ثواب ولا عقاب، ولا خير ولا شر، ولكن بحثها في علم العقيدة جاء عرضاً ضمن باب الملائكة.

الخلاف في المفاضلة بين الملائكة وجنس البشر

الخلاف في المفاضلة بين الملائكة وجنس البشر قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر، وينسب إلى أهل السنة تفضيل صالحي البشر والأنبياء فقط على الملائكة، وإلى المعتزلة تفضيل الملائكة، وأتباع الأشعري على قولين: منهم من يفضل الأنبياء والأولياء، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولاً، وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة، وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية، وقالت الشيعة: إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة، ومن الناس من فصل تفصيلاً آخر، ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر: إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض، وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة لقلة ثمرتها، وأنها قريب مما لا يعني، (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)، والشيخ رحمه الله لم يتعرض إلى هذه المسألة بنفي ولا إثبات، ولعله يكون قد ترك الكلام فيها قصداً، فإن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وقف في الجواب عنها على ما ذكره في مآل الفتاوى، فإنه ذكر مسائل لم يقطع أبو حنيفة فيها بجواب، وعد منها: التفضيل بين الملائكة والأنبياء، وهذا هو الحق، فإن الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنبيين، وليس علينا أن نعتقد أي الفريقين أفضل، فإن هذا لو كان من الواجب لبين لنا نصاً، وقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64]، وفي الصحيح: (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها)، فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفياً وإثباتاً والحالة هذه أولى، ولا يقال: إن هذه المسألة نظير غيرها من المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة؛ لأن الأدلة هنا متكافئة على ما أشير إليه إن شاء الله تعالى، وحملني على بسط الكلام هنا: أن بعض الجاهلين يسيئون الأدب بقولهم: كان الملك خادماً للنبي صلى الله عليه وسلم، أو أن بعض الملائكة خدام بني آدم! يعنون الملائكة الموكلين بالبشر، ونحو ذلك من الألفاظ المخالفة للشرع، المجانبة للأدب. والتفضيل: إذا كان على وجه التنقص أو الحمية والعصبية للجنس لا شك في رده، وليس هذه المسألة نظير المفاضلة بين الأنبياء، فإن تلك قد وجد فيها نص، وهو قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253]، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء:55]، وقد تقدم الكلام في ذلك عند قول الشيخ: (وسيد المرسلين) يعني النبي صلى الله عليه وسلم. والمعتبر رجحان الدليل، ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه، بعد أن تكون المسألة مختلفاً فيها بين أهل السنة. وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول أولا بتفضيل الملائكة على البشر، ثم قال بعكسه، والظاهر أن القول بالتوقف أحد أقواله. والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدل على الفضل، لا على الأفضلية، ولا نزاع في ذلك]. قصده فضل بعض الأفراد أو بعض الأجناس، لا الأفضلية المطلقة، يعني: ما ورد من بعض النصوص التي تدل على فضل الملائكة يعني فضلاً مقيداً بأشخاص، والنصوص التي وردت في تفضيل بعض البشر ورد في سياقها على أنها تدل على تفضيل بعض الأشخاص -كالنبي صلى الله عليه وسلم- على الملائكة، أو تفضيل جنس من البشر، لا تفضيل عموم البشر. إذاً: الأدلة التي وردت في المسألة -سواء في تفضيل الملائكة أو في تفضيل البشر، أو في تفضيل بعض الملائكة، أو في تفضيل بعض البشر- أغلبها يدل على خصوصية الفضل لا على الأفضلية المطلقة من كل وجه، ويقصد بذلك: أنه ليس عندنا من النصوص التي وردت ما يدل على أن الملائكة كلهم أفضل من جميع البشر، ولا ما يدل على أن البشر كلهم أفضل من جميع الملائكة، بل ليس هناك دليل يدل على أن الملائكة أفضل من طائفة من البشر، ولا على أن البشر أفضل من طائفة من الملائكة، إنما قد يرد في بعض الأفراد أو في بعض الحالات ما يدل على التفضيل، وليس من كل وجه. قال رحمه الله تعالى: [وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه الله مصنف سماه: الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك، قال في آخره: اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام، التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كثير من المقاصد، ولهذا خلا عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب. انتهى].

أدلة القائلين بتفضيل الأنبياء على الملائكة وردود مخالفيهم عليها

أدلة القائلين بتفضيل الأنبياء على الملائكة وردود مخالفيهم عليها قال رحمه الله تعالى: [فمما استدل به على تفضيل الأنبياء على الملائكة: أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم، وذلك دليل على تفضيله عليهم، ولذلك امتنع إبليس واستكبر وقال: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62]. قال الآخرون: إن سجود الملائكة كان امتثالاً لأمر ربهم، وعبادة وانقياداً وطاعة له، وتكريماً لآدم وتعظيماً، ولا يلزم من ذلك الأفضلية، كما لم يلزم من سجود يعقوب لابنه يوسف عليهما السلام تفضيل ابنه عليه، ولا تفضيل الكعبة على بني آدم بسجودهم إليها امتثالاً لأمر ربهم. وأما امتناع إبليس فإنه عارض النص برأيه وقياسه الفاسد بأنه خير منه، وهذه المقدمة الصغرى، والكبرى محذوفة، تقديرها: والفاضل لا يسجد للمفضول، وكلتا المقدمتين فاسدة. أما الأولى فإن التراب يفوق النار في أكثر صفاته، ولهذا خان إبليس عنصره، فأبى واستكبر، فإن من صفات النار طلب العلو والخفة والطيش والرعونة، وإفساد ما تصل إليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه، ونفع آدم عنصره في التوبة والاستكانة، والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب المغفرة، فإن من صفات التراب الثبات والسكون والرصانة، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل، وما دنا منه ينبت ويزكو، وينمي ويبارك فيه، ضد النار. وأما المقدمة الثانية -وهي: أن الفاضل لا يسجد للمفضول- فباطلة؛ فإن السجود طاعة لله وامتثال لأمره، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر لوجب عليهم الامتثال والمبادرة، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه، وإنما يدل على فضله، قالوا: وقد يكون قوله: {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء:62] بعد طرده لامتناعه عن السجود له، لا قبله، فينتفي الاستدلال به. ومنه: أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات، والأنبياء لهم عقول وشهوات، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى، ومنعوها عما تميل إليه الطباع؛ كانوا بذلك أفضل. وقال الآخرون: يجوز أن يقع من الملائكة من مداومة الطاعة وتحمل العبادة وترك الونى والفتور فيها ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم، مع طول مدة عبادة الملائكة. ومنه: أن الله تعالى جعل الملائكة رسلاً إلى الأنبياء، وسفراء بينه وبينهم. وهذا الكلام قد اعتل به من قال: إن الملائكة أفضل، واستدلالهم به أقوى، فإن الأنبياء المرسلين إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم، فإن الرسول الملكي يكون رسولاً إلى الرسول البشري. ومنه: قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة:31] الآيات. قال الآخرون: وهذا دليل على الفضل لا على التفضيل، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله، وليس الخضر أفضل من موسى بكونه علم ما لم يعلمه موسى، وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر وتزودا لذلك، وطلب موسى منه العلم صريحاً، وقال له الخضر: إنك على علم من علم الله إلى آخر كلامه، ولا الهدهد أفضل من سليمان عليه السلام بكونه أحاط بما لم يحط به سليمان علماً. ومنه: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]. قال الآخرون: هذا دليل الفضل لا الأفضلية، وإلا لزم تفضيله على محمد صلى الله عليه وسلم، فإن قلتم: هو من ذريته، فمن ذريته البر والفاجر، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم: ابعث من ذريتك بعثا إلى النار، يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار، وواحدا إلى الجنة. فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط. ومنه: قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه: ما خلق الله خلقا أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم الحديث. فالشأن في ثبوته، وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه؛ فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات. ومنه: حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الملائكة قالت: يا ربنا! أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة. قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له: كن فكان). أخرجه الطبراني، وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم أنه قال: أخبرني الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الملائكة قالوا) الحديث، وفيه: (وينامون ويستريحون، فقال الله تعالى: لا، فأعادوا القول ثلاث مرات، كل ذلك يقول: لا). والشأن في ثبوتهما، فإن في سنديهما مقالاً، وفي متنهما شيئاً، فكيف يظن بالملائكة الاعتراض على الله تعالى مرات عديدة وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون؟! وهل يظن بهم أنهم بأحوالهم متشوقون إلى ما سواها من شهوات بني آدم؟! والنوم أخو الموت،

أدلة القائلين بتفضيل الملائكة وردود مخالفيهم عليها

أدلة القائلين بتفضيل الملائكة وردود مخالفيهم عليها قوله: [ومما استدل به على تفضيل الملائكة] بدأ يقلب به المسألة في الاستدلال، حيث بدأ يستدل للفريق الآخر الذي يقول بتفضيل الملائكة على البشر، ومن هنا يكون قوله: (أجاب الآخرون) مراداً به الأولون الذين قالوا بتفضيل بعض البشر على الملائكة، خاصة الأنبياء. قال رحمه الله تعالى: [أجاب الآخرون بأجوبة، أحسنها -أو من أحسنها-: أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد، وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقاً، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه. ومنه قوله]. أي: من أدلة الذين قالوا بأفضلية الملائكة. قال رحمه الله تعالى: [ومنه قوله تعالى: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} [هود:31]، ومثل هذا يقال بمعنى: إني لو قلت ذلك لادعيت فوق منزلتي، ولست ممن يدعي ذلك. أجاب الآخرون: بأن الكفار كانوا قد قالوا: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7]، فأمر أن يقول لهم: إني بشر مثلكم أحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة. ومنه ما روى مسلم بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)، ومعلوم أن قوة البشر لا تداني قوة الملك ولا تقاربها. قال الآخرون: الظاهر أن المراد المؤمن من البشر- والله أعلم - فلا تدخل الملائكة في هذا العموم. ومنه ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يروي عن ربه عز وجل قال: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم) الحديث، وهذا نص في الأفضلية. قال الآخرون: يحتمل أن يكون المراد (خيراً منه) للمذكور لا الخيرية المطلقة. ومنه ما رواه ابن خزيمة بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا جالس إذ جاء جبرائيل فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة مثل وكري الطير، فقعد في إحداهما وقعدت في الأخرى، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين، وأنا أقلب بصري، ولو شئت أن أمس السماء مسيت، فنظرت إلى جبرائيل كأنه حلس لاطئ، فعرفت فضل علمه بالله علي). قال الآخرون: في سنده مقال؛ فلا نسلم الاحتجاج به إلا بعد ثبوته. وحاصل الكلام: أن هذه المسألة من فضول المسائل، ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول، وتوقف أبو حنيفة رحمه الله في الجواب عنها كما تقدم، والله أعلم بالصواب]. هذه المسألة: تكلم عنها بعض أهل العلم، وممن أفاض فيها شيخ الإسلام ابن تيمية في أكثر من موضع، ومن المواضع التي فصلت فيها في المجلد الرابع من الفتاوى، ومع ذلك لم يجزم شيخ الإسلام بقول، ولم يجزم برأي، وإن كان بين بعض الآراء الغريبة والشاذة، وبين بعض الآراء التي قد تقتضيها ظواهر الأدلة، لكنه لم يجزم بشيء. إذاً: فالخلاصة في هذا الكلام أنه لا طائل تحته وليس من أمور الاعتقاد، لا سيما أنه لم يرد فيه نص قاطع من ناحية، ومن ناحية أخرى أن ما ورد من نصوص إنما تتعلق بأفراد من الفريقين من البشر أو من الملائكة، أما جملتهم فلم يرد فيها نصوص قاطعة، والله أعلم.

الإيمان بالأنبياء والمرسلين

الإيمان بالأنبياء والمرسلين قال رحمه الله تعالى: [وأما الأنبياء والمرسلون فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلاً سواهم وأنبياء لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم. فعلينا الإيمان بهم جملة؛ لأنه لم يأت في عددهم نص، وقد قال تعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78]]. الإيمان الإجمالي معناه أنه لابد لكل مسلم من أن يؤمن بأن الله عز وجل أرسل أنبياء ورسلاً، وأن عددهم كثير، وأن الله أرسل في كل أمة رسولاً، وأقام الحجة إما برسول، وإما بدين جاء به هذا الرسول حتى لو لم يكن حياً بين ظهراني أمته، بمعنى أن إرسال الرسول لا يعني: أن يكون حياً بين أمته، بل قد تبقى رسالته وتبقى شريعته ويكون هذا بمثابة إقامة حجة، وقوله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24] قال بعض أهل العلم: إن المقصود به: النبي والرسول، وبعضهم قال: المقصود به النبي والرسول أو من يحمل الرسالة الباقية التي لم تغير ولم تحرف من المنذرين والمصلحين، وهذا الاستدلال الثاني لا ينافي الأول، وهو الذي يدل عليه واقع الأمم والبشر؛ فإن هناك من الأمم من بقيت فيهم شرائع الأنبياء حتى بعد موتهم، فإن شريعة موسى بقيت بعده حجة على قومه وعلى البشر الذين سمعوا برسالته. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت رسالته لا تخضع للقاعدة؛ لأن الله جعل له عموم الرسالة من ناحية؛ ولأن الله أبقى دينه محفوظاً إلى قيام الساعة، لكن مع ذلك فإنه بعد موته بقيت رسالته حجة، وما جاء به حجة. إذاً: لابد من الإيمان بأن الله عز وجل أقام الحجة بالرسل على جميع البشر وجميع الأمم، وبأنه ذكر طائفة من هؤلاء الأنبياء والرسل ولم يذكر غيرهم وهو تعالى أعلم بهم، وقد ورد في ذلك حديث حسنه كثير من أهل العلم، وقال بعضهم بأنه يصل إلى درجة الصحيح لغيره، وهو حديث أبي ذر وأبي أمامة الذي فيه ذكر عدد الأنبياء وعدد الرسل، فهذا الحديث إن صح وجب اعتقاد ما ورد فيه من عدد النبيين وعدد المرسلين، ففيه أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد النبيين فذكر أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، وسأله عن عدد المرسلين فقال له بأنهم ثلاثمائة وبضعة عشر، وفي بعض الروايات: ثلاثة عشر، وبعضها: خمسة عشر، وإذا ثبت هذا الحديث فإنه نص على عدد النبيين والمرسلين، فيدخل في باب الإيمان بالأنبياء والرسل على جهة الإجمال، أما على جهة التفصيل فالمقصود: أنه لابد لكل مسلم من أن يؤمن ويجزم ويصدق بكل نبي ورد ذكره في كتاب الله عز وجل أو صح ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ورد وصفه ولو لم يرد ذكره، فلابد من الإيمان به من خلال وصفه.

بيان معنى الإيمان بالرسل عامة وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه خاصة

بيان معنى الإيمان بالرسل عامة وبمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه خاصة قال رحمه الله تعالى: [وعلينا الإيمان بأنهم بلغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به، وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله ولا يحل خلافه، قال تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:81 - 82]، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، {وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [التغابن:12]. وأما أولو العزم من الرسل فقد قيل فيهم أقوال، أحسنها: ما نقله البغوي وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم، قال: وهم المذكورون في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الأحزاب:7]، وفي قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]. وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فتصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالاً وتفصيلا. وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه من التوراة والإنجيل والزبور، ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله تعالى]. ويضاف إلى ما ذكر في القرآن الكريم صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام. قال رحمه لله تعالى: [وأما الإيمان بالقرآن فالإقرار به واتباع ما فيه، وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب، فعلينا الإيمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم من عند الله، وأنها حق وهدى ونور وبيان وشفاء، قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] إلى قوله: {وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:136]، وقال: {الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران:1 - 2]، إلى قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران:4]، وقوله: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ} [البقرة:285]، وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تكلم بها وأنها نزلت من عنده، وفي ذلك إثبات صفة الكلام والعلو. وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [البقرة:213]، وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41 - 42]، وقال: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ:6]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57]، وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت:44]، وقال: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا} [التغابن:8]، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن].

الأسئلة

الأسئلة

توجيه لمن يسأل عن المفاضلة بين الملائكة والبشر

توجيه لمن يسأل عن المفاضلة بين الملائكة والبشر Q قد نسأل عن مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر، فهل نجيب بما هو موجود في كتاب شرح العقيدة الطحاوية كما قرأنا، أم نصرف الناس عن الجواب في هذه المسألة؟ A الأولى صرف الناس عن هذه المسألة بإقناع، بأن يقال: هذه المسألة ما تعبدنا بها، وهي أمور غيبية وليس فيها نص قاطع، وينبغي للمسلم أن لا يسأل عن أمور لا يحاسب عليها يوم القيامة، ولا يحتاج في ذلك إلى كثير كلام.

الدليل على إنزال الله تعالى الكتب على رسله

الدليل على إنزال الله تعالى الكتب على رسله Q ما الدليل على أن الله تعالى أنزل كتباً؟ A لله تعالى كتب أنزلها على أنبيائه لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله تعالى كما قال الشارح، وهذا يفهم من عموم النصوص، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الطحاوية [65]

شرح العقيدة الطحاوية [65] من الأصول المقررة في باب الأسماء والصفات أن لا يخوض الإنسان في الله ولا يماري في دين الله ولا يجادل في القرآن بأن يلقي الشبهات حوله أو يشكك فيه؛ لأنها تؤدي إلى الطعن في القرآن وبالتالي الكلام فيمن أنزل القرآن وتكلم به، والواجب في هذا كله هو الوقوف عند النصوص والامتثال التام لكل أمر ونهي، والابتعاد عن المجادلة والمخاصمة والمراء.

الحكم بإسلام أهل القبلة المصدقين بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر به

الحكم بإسلام أهل القبلة المصدقين بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر به قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا). ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحله، والمراد بقوله: (أهل قبلتنا) من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)، وعند قوله: (والإسلام والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء)]. هذا على قول مرجئة الفقهاء، وهو أن الإيمان هو التصديق والقول فقط.

منهج السلف في ترك الخوض في الله بغير ما ورد في النصوص

منهج السلف في ترك الخوض في الله بغير ما ورد في النصوص قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نخوض في الله ولا نماري في دين الله). يشير الشيخ رحمه الله تعالى إلى الكف عن كلام المتكلمين الباطل وذم علمهم، فإنهم يتكلمون في الإله بغير علم وغير سلطان أتاهم: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]]. وهنا يؤكد قاعدة معلومة عند السلف، وهي أنه لا يجوز الخوض في ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بأكثر مما ورد في الكتاب والسنة، لكن قد يكون من القول الجائز رد بعض مفردات النصوص إلى قواعد الأسماء والصفات، فهذا أمر جائز؛ لأنه يحتاج إليه الناس بعد وجود الأهواء وعدم وجود التعطيل والتشبيه والتمثيل، فإن السلف قد يتكلمون أحياناً ببعض الفروع التي ترجع إلى أصول تقررت في الكتاب والسنة، فمثلاً: قد يرجعون إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة التي خاض فيها الخائضون إلى مثل قوله عز وجل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. فهذا أمر طبيعي لا يعد من الخوض، فرد آيات الله بعضها إلى بعض، وتفسير آيات الله بعضها ببعض، وتفسير الآيات بالأحاديث والأحاديث بالآيات أمر لا يعد من الخوض، إلا إذا وصل إلى درجة المراء والتكلف. فالكلام في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي ذاته سبحانه بأكثر مما ورد في النصوص لا يجوز، بل هو من أشد المحرمات وأعظمها ومن أعظم الآثام، وما يضطر إليه بعض السلف من الكلام عن شبهات القوم من أهل الكلام أمر لا يعد قاعدة، إنما هو شذوذ عن القاعدة باستثناء اقتضته بالضرورة، وبعض طلاب العلم قد يستبيح لنفسه أن يقرأ كتب أهل الكلام ويتكلم أو يخوض في بعض ما خاض فيه أهل الكلام، بدعوى أنه يريد الاطلاع، فنقول: هذا لا يجوز، بل هو إثم بحد ذاته، حتى وإن اعتقد أنه يضمن سلامة عقيدته. فمجرد الاطلاع على كتب أهل الكلام لغير ضرورة يقدرها أهل العلم ولغير حاجة يعد من أعظم الآثام وأعظم الكبائر؛ لأنها تؤدي إلى الخوض في ذات الله وأسمائه وصفاته بأكثر مما ورد في الكتاب والسنة، وإلى القول على الله بغير علم، وقد يقول قائل: أنا أقرأ ولا أعتقد ما أقرأ، فنقول: حتى مجرد قراءتك لما خاض به الخائضون هي بحد ذاتها إثم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى مع عمر بن الخطاب صحيفة من التوراة نهاه أشد النهي وغضب واحمر وجهه، مع أنه يعلم أن عمر -وقد هداه الله- لا يزيغ لمثل هذه الورقة، لكنه أراد أن يسد باب الاطلاع على كتب أهل الباطل، إلا لضرورة يقدرها أهل العلم للدفاع عن الإسلام أو الرد على أهل الأهواء أو حماية عقيدة المسلمين إذا انتشرت الأهواء، وهذا يجب أن يكون بحدود ضيقة، وأن يتولاه أشخاص تتوافر فيهم شروط يقدرها أهل العلم. أما أن ينبري لهذا كل طالب علم وكل من قدر على القراءة ممن هب ودب فهذا لا يصح، وأقول هذا؛ لأني أرى بوادر تساهل كثير من طلاب العلم في قراءة مثل هذه الكتب، وهذا تفريط، فيجب أن نتناصح فيه.

عظمة الله تعالى وتعقب ما أثر من ألفاظ محتملة في ذلك

عظمة الله تعالى وتعقب ما أثر من ألفاظ محتملة في ذلك قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه قال: لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات الله بشيء، بل يصفه بما وصف به نفسه. وقال بعضهم: الحق سبحانه يقول: من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب، ومن كشفت له حقيقة ذاتي ألزمته العطب فاختر الأدب أو العطب]. هذه العبارات فيها نظر، فلها معنى صحيح ولها معنى فاسد، أما المعنى الصحيح فإنه إن قصد بقول: (من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي) الوقوف عندها بالإقرار والتصديق والإيمان وعدم الخوض فصحيح، وإن قصد بالقيام مع أسمائه وصفاته بعض مفاهيم الصوفية في تمثل الأسماء والصفات الإلهية في أخلاقهم وسلوكهم، كقول بعضهم بأنه يتكلم على لسان الرب أو نحو ذلك؛ فهذا أمر لا يصح، فالعبارة موهمة. وعلى أي حال فالسلف قد ينقلون مثل هذه العبارات لأنها تحمل معنى صحيحاً، والمعنى الفاسد يستبعد، لكن في زماننا هذا نجد أن مثل هذه العبارات لابد من التنبيه عليها؛ لأن الناس لم يعد عندهم الالتزام بالعقيدة، بمعنى: أنهم لم يتشربوا العقيدة كما تشربها الأولون، فمن هنا كان لابد من التنبيه على أن مثل هذه العبارات قد تحتمل معنى فاسداً. قال رحمه الله تعالى: [ويشهد لهذا: أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات، وقال الشبلي: الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب]. هذه العبارة مجملة موهمة قد تحمل معنى صحيحاً بتكلف لا يفهمه الناس إلا بعد جهد جهيد، وقد تحمل معنى فاسد أيضاً، وقد اتكأ على مثل هذه العبارة كثير من ضلال الصوفية وضلال الفلاسفة وضلال الباطنية وأهل البدع والأهواء الذين أرادوا أن يطعنوا في أصول الإسلام من خلال مثل هذه العبارات التي تخرج من هؤلاء الذين قد يزكيهم بعض أهل العلم، مثل الشبلي رحمه الله، ويكون في مثل هذا الكلام فتنة، فقوله: (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) هذه العبارة لا تفهم إلا بتكلف شديد، والمعنى الصحيح إذا أردنا أن نفسرها به نحتاج إلى أن نجلب كثيراً من العبارات والمصطلحات والمفاهيم من أجل أن نصححها، وظاهرها عدم الصحة، لكن نظراً لأن الشبلي -كما قال أهل العلم-: قد يتكلم أحياناً بعبارات فيها اضطراب، فلعل هذه من عباراته المضطربة، فقوله: (الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب) كأنه يريد أن يقول: إن التمادي في التفكر في أسماء الله وصفاته وأفعاله وفي ذاته على جهة التكييف خلاف الأدب.

منهج السلف في ترك المراء في الدين والجدال في القرآن الكريم

منهج السلف في ترك المراء في الدين والجدال في القرآن الكريم قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولا نماري في دين الله) معناه: لا نخاصم أهل الحق بإلقاء شبهات أهل الأهواء عليهم التماساً لامترائهم وميلهم؛ لأنه في معنى الدعاء إلى الباطل وتلبيس الحق وإفساد دين الإسلام. قوله: (ولا نجادل في القرآن، ونشهد أنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وعلى آله أجمعين، وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين): فقوله: (ولا نجادل في القرآن) يحتمل أنه أراد: أنا لا نقول فيه كما قال أهل الزيغ واختلفوا وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، بل نقول: إنه كلام رب العالمين نزل به الروح الأمين إلى آخر كلامه، ويحتمل أنه أراد: أنا لا نجادل في القراءات الثابتة، بل نقرؤه بكل ما ثبت وصح، وكل من المعنيين حق، ويشهد بصحة المعنى الثاني ما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (سمعت رجلاً قرأ آية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها، فأخذت بيده فانطلقت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فعرفت في وجهه الكراهة، وقال: كلاكما محسن ولا تختلفوا؛ فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا) رواه مسلم. نهى صلى الله عليه وسلم عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق؛ لأن كلا القارئين كان محسناً فيما قرأه، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا، ولهذا قال حذيفة رضي الله عنه لـ عثمان رضي الله عنه: أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم. فجمع الناس على حرف واحد اجتماعاً سائغاً وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة، ولم يكن في ذلك ترك لواجب ولا فعل لمحظور؛ إذ كانت قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة ورخصة من الله تعالى، وقد جعل الاختيار إليهم في أي حرف اختاروه. كما أن ترتيب السور لم يكن واجباً عليهم منصوصاً، ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني، وكذلك مصحف غيره، وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية، بخلاف السور، فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد جمعهم الصحابة عليه، هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء، قاله ابن جرير وغيره. ومنهم من يقول: إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولاً، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيراً عليهم وهو أوفق لهم أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة، وذهب طوائف من الفقهاء وأهل الكلام إلى أن المصحف مشتمل على الأحرف السبعة؛ لأنه لا يجوز أن يهمل شيء من الأحرف السبعة، وقد اتفقوا على نقل المصحف العثماني وترك ما سواه، وقد تقدمت الإشارة إلى الجواب، وهو: أن ذلك كان جائزاً لا واجباً، أو أنه صار منسوخاً، وأما من قال عن ابن مسعود رضي الله عنه: إنه كان يجوز القراءة بالمعنى فقد كذب عليه، وإنما قال: قد نظرت إلى القراء فرأيت قراءتهم متقاربة، وإنما هو كقول أحدكم: هلم وأقبل وتعال، فاقرءوا كما علمتم. أو كما قال. والله تعالى قد أمرنا أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم، فكيف بمناظرة أهل القبلة؟! فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن، وليس إذا أخطأ يقال: إنه كافر قبل أن تقام عليه الحجة التي حكم الرسول بكفر من تركها، والله تعالى قد عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، ولهذا ذم السلف أهل الأهواء وذكروا أن آخر أمرهم السيف، وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً والفرقة زيغاً وعذاباً). قوله: (ونشهد أنه كلام رب العالمين): تقدم الكلام على هذا المعنى عند قوله: (وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً).

القرآن الكريم نزل به الروح الأمين

القرآن الكريم نزل به الروح الأمين قوله: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ) هو جبريل عليه السلام، سمي روحاً لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب إلى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين، وهو أمين حق أمين صلوات الله عليه، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193 - 195]، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:19 - 21] وهذا وصف جبريل، بخلاف قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحاقة:40 - 41]، فإن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم. وقوله: (فعلمه سيد المرسلين) تصريح بتعليم جبريل إياه إبطالاً لتوهم القرامطة وغيرهم أنه تصوره في نفسه إلهاماً. وقوله: (ولا نقول بخلقه ولا نخالف جماعة المسلمين) تنبيه على أن من قال بخلق القرآن فقد خالف جماعة المسلمين؛ فإن سلف الأمة كلهم متفقون على أن القرآن كلام الله بالحقيقة غير مخلوق، بل قوله: (ولا نخالف جماعة المسلمين) مجرى على إطلاقه: أنا لا نخالف جماعة المسلمين في جميع ما اتفقوا عليه؛ فإن خلافهم زيغ وضلال وبدعة.

الموقف من تكفير أهل القبلة

الموقف من تكفير أهل القبلة قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله)]. هذه العبارة تحتها كثير من القواعد وكثير من الفرعيات والأصول أيضاً التي تحتاج إلى توجيهها، لاسيما أن مسألة التكفير في عصرنا من المسائل التي عمت بها البلوى، وابتلي بها بعض المنتسبين إلى الإسلام، وسأعرض هنا بعض القواعد الهامة وأترك البقية والتفصيل إلى درس لاحق، لكن نظراً لأهمية الموضوع أحب أن أهيئ الأذهان ببعض المسائل حول التكفير، فأقول: أولاً: إن أغلب الذين يخوضون الآن في التكفير يخوضون بغير علم، فلا يحيطون بالنصوص ولا بقواعد الشرع ولا بأقوال السلف ولا بأحوال الأمة وتنزيل الأحكام عليها، وأكثرهم من المتعالمين المغرورين الذين ليس عندهم إلا التعالم. ثانياً: أن مسألة التكفير من المسائل التي تعد أول ما افترقت فيه الأمة؛ لأنها نوع من التنطع في الدين، والتنطع في الدين قد لا ينتبه له الناس؛ لأن صاحبه في الظاهر ينشر الصلاح والاستقامة، والناس بفطرتهم وبحبهم للإسلام يحبون الصلاح والاستقامة، فقد يغفلون عن نزاعات التشدد ونزاعات التنطع في الدين التي نهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: أن التكفير لا يصح أبداً أن يتناوله كل الناس ولا طلاب العلم، فتكفير الأعيان لا يتناوله إلا العلماء الراسخون. وأحكام التكفير من حيث هي مذكورة في الكتب، وليس لأحد فيها فضل، لكن تنزيل الأحكام على الأشخاص أمر لا يمكن أن يتأتى إلا بجهود متضافرة من أهل العلم، والتكفير له شروط وضوابط، وله محاذير، وله أصول لابد من أن يطبقها أهل العلم، وقد تنطبق في عصر ولا تنطبق في عصر آخر، وتقال في ظرف ولا تقال في ظرف آخر؛ لأحوال الناس، فقد يكون في ظرف من الظروف أحوال المسلمين كلها استثنائية، كأن يكون عند المسلمين شيء من الإعراض والجهل والبدع والتخلف والبعد عن فقه دين الله عز وجل، وقد يكون الأمر ليس كذلك، كما في عهد السلف، حيث كان الأمر بيناً والحجة ظاهرة، ولا يزيغ أو يخرج إلى التكفير إلا إنسان تعمد خرق القواعد، إذاً: هذه المسائل يجب ألا يتناولها إلا الراسخون في العلم. الأمر الرابع: وهو مهم جداً، وبه افتتن كثير من الشباب، وهو ما يظنه بعض الناس من أن تكفير الناس أمر في ذمته، وأنه ما لم يخرج هذه العهدة من ذمته فلن يعيش سعيداً بين الناس، وهذا غير صحيح، وكأنه لا يمكن أن يتم دينه حتى يكفر من يكفر، وهذه مزلة خطيرة جداً تجعله لا يرجع إلى العلماء ويستعجل ويتهور. خامساً: أن التكفير أغلبه يبدأ بلوازم قبل أن يكون تكفيراً صريحاً وهذا هو بيت القصيد، فالتكفير أحياناً يبدأ على شكل نوازع وانطباعات وآراء ووجهات نظر يتساهل فيها العلماء وطلاب العلم، ثم تنمو حتى توصل إلى التكفير الضيق، ثم يتوسع التكفير، وأقصد بذلك أنه من بذور التكفير الحكم على القلوب والنيات، والاستعجال في إطلاق الأحكام قبل إقامة الحجة والأخذ بأصول العذر ونحو ذلك، ثم بعد ذلك الأخذ باللوازم. ولذلك تجد أن التكفير أول ما يبدأ بمثل هذه الظنون، ثم بعد الظنون يبدأ بتكفير جزئي، فيكفر شخص أو هيئة، ومع مرور الزمن يكفر بلوازم تتعلق بالشخص أو الهيئة، فيقال -مثلاً-: من والى هذا الشخص أو والى هذا الهيئة فهو كافر، ومن لم يعلن كفر الكافر فهو كافر، وهكذا، وهذه نتائج طبيعية مع الزمن لابد أن تكون، والسعيد من وعظ بغيره. ولنا في الأحداث القريبة والبعيدة شيء من العبرة، فقد حصلت قبل سنين أحداث التكفير والهجرة في مصر، ثم تفرقت الأمة، واحتوى كثير من شباب الأمة سفهاء الأحلام الذين يتعلموا عند العلماء، ثم جاءت الفتنة التي استهدف أصحابها بيت الله عز وجل، وكان أساسها التكفير، ثم الأحداث الأخيرة وما حدث من تفجيرات وغيرها من أمور شنيعة ضيعت الأمة وأوقعت ما أوقعت مما نعلم، فهذا كله نتيجة التكفير من أناس ليس لهم علم ولا فكر، مع عدم رعاية مثل هذه الظواهر وعلاجها من قبل طلاب العلم والمشايخ والولاة بشكل كافٍ. فلذا يجب أن يتنبه طلاب العلم لمثل هذه المسائل؛ لأنها أصبحت ظواهر موجودة، وما دامت ظواهر موجودة فلابد أن تعالج، ولا تبرأ الذمة بالسكوت عنها، وكان بعض طلاب العلم الناصحون يقولون ذلك قبل أن تحدث الأحداث الأخيرة، فكان بعض الناس يقول: ربما يكون ذلك نزعات فردية، وليست مشكلة خطيرة، ولما وقع الفأس في الرأس تبين الناصح من الغافل. فلذا يجب أن نتنبه وألا تتكرر العبرة مرة أخرى، وأنا أقول: بإمكان طلاب العلم أن يسهموا إسهاماً كبيراً في علاج ظواهر التشدد والتنطع في الدين والتكفير؛ لأن هذا يحمي الأمة ويجمع كلمتها على مشايخها وولاتها، وبإذن الله -إذا تضافرت الجهود- يضمن عدم تكرار مثل هذه الأعمال الشنيعة التي روعت الأمة وأوقعت الأمة في حرج، وكان مصدرها وأساسها هو الغلو في الدين، نسأل الله السلامة، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قول الطحاوي: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء)

معنى قول الطحاوي: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) Q ما معنى قول الطحاوي: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء)؟ A قول الطحاوي: (والإسلام والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء) قد يقصد به معنى صحيحاً، وهو أن الإسلام والإيمان ينطبقان على الدين نفسه، فأصلهما واحد، أما إذا أخذنا كل عبارة بمفردها فلاشك في أن معناهما مختلفان، فهما يجتمعان في أمور ويختلفان في أمور، وهذا سيأتي ذكره على التفصيل فيما بعد. وكل ما جاء في المتن ليس بصحيح على الإطلاق، فالشيخ الطحاوي رحمه الله من السلف، وقرر عقيدة السلف، إلا أنه فيما يتعلق بمسائل الإيمان رأى أن الخلاف بين المرجئة الذين ينتمي إليهم في مذهبه الفقهي -وهم الأحناف- وبين أهل السنة خلاف لفظي؛ فكأنه أراد أن يتوسط في استعمال الألفاظ المحتملة لتحتمل معنى صحيحاً يجمع بين قولي السلف ومرجئة فقهاء الأحناف، هذا ما أفسر به اضطراب عبارات الطحاوي رحمه الله في مسائل الإيمان، فقد اضطرب اضطراباً كثيراً، أما ما عدا ذلك فقد وافق السلف في كل شيء.

شرح العقيدة الطحاوية [66]

شرح العقيدة الطحاوية [66] أهل السنة والجماعة وسط بين الفرق في أبواب الأسماء والأحكام، فهم لا يكفرون أحداً بالكبائر، ولا يحكمون عليهم بالخلود في الآخرة كما تقول الخوارج، كما أنهم لا يقولون بقول المرجئة الذين يبرئون الإنسان من النار مهما ارتكب من ذنوب وسيئات ما لم يصل إلى الكفر، بل يجرون نصوص الوعد والوعيد ويفهمونها بفهم السلف الصالح، ويحكمون على مرتكب الكبيرة بأنه مسلم عاصٍ متوعد في الآخرة بالعقوبة والنار، وهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء عذبه بعدله وإن شاء عفا عنه بفضله وجوده وإحسانه، كما أن التكفير حكم شرعي يثبت على من يستحقه بشروط معروفة ومقررة عند أهل العلم.

عظم باب التكفير وموقف الناس منه

عظم باب التكفير وموقف الناس منه قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله)]. هذه العبارة فيها نظر، وسيأتي استدراك الشارح عليها، فقول الطحاوي رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) ليس على إطلاقه كما قد يفهم منه، فظاهر العبارة يفهم منه أن أي ذنب من الذنوب دون ما يخرج من الملة لا يكفر به المرء، وهذا فيه نظر؛ لأن مسألة الاستحلال ليست شرطاً دائماً لتكفير من ارتكب بعض الذنوب، فالمسألة فيها نظر، وسيأتي الكلام عنها عند استدراك المؤلف. قال رحمه الله تعالى: [أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين)، يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب، واعلم -رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق وتشتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه -في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية]. يقصد: أن مسألة التكفير من المسائل التي تميز فيها أهل الأهواء عن أهل السنة على اختلاف درجات أهل الأهواء، وأهل الأهواء أغلبهم مكفرة، ومنهم من لا يكفر بأي ذنب، أي: لا يكفرون بالذنوب مطلقاً، وربما لا يكفرون بأي عمل من الأعمال، كالمرجئة، فعلى هذا يكون من السمات التي تشترك فيها الأهواء جميعاً مخالفة أهل السنة والجماعة في مسألة التكفير، وغالب أهل الأهواء يقولون بالتكفير ولوازمه، أو بلوازم التكفير فقط كما سيأتي، وبعض الأهواء لا يكفر، لكنه يشارك المكفرة كالخوارج والمعتزلة في كثير من الأصول، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والموقف من الولاة، والسمع والطاعة لهم، والموقف من أهل السنة ونحو ذلك، حتى المرجئة الجهمية الذين لا يكفرون أبداً، ويرون أن كل من عرف الله فقد آمن ولو ارتكب أي ذنب، فإن مواقفهم فيها ما يدخل في لوازم التكفير، أعني مواقفهم التاريخية مع أهل السنة والجماعة. فقول الشيخ: إن باب التكفير وعدم التكفير باب عظمت فيه الفتنة، يشير به إلى أن جميع أهل الأهواء يتسمون بمخالفة أهل السنة في مسألة التكفير، وأول الأهواء خروجاً في تاريخ الأمة كان مبدؤها مسألة التكفير.

ذكر القائلين بامتناع تكفير أحد من أهل القبلة مطلقا

ذكر القائلين بامتناع تكفير أحد من أهل القبلة مطلقاً قال رحمه الله تعالى: [فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك بحيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين]. الذين لا يكفرون من أهل القبلة أحداً صنفان: أولهم: غلاة المرجئة الذين هم الجهمية ومن سلك سبيلهم، وعلى طريقهم الفلاسفة الجهمية، وعلى طريقهم الزنادقة وبعض أهل الكلام، وكثير من غلاة الصوفية. والصنف الثاني: من يترددون في إطلاق الكفر على من حكم الشرع بكفره من الذين يتسمون بالإسلام، كالجهمية وغيرهم، فهؤلاء بعضهم من مرجئة الفقهاء وبعضهم من الفقهاء الذين لا يتبعون المرجئة لكن لهم بعض الاجتهادات، خاصة فقهاء أهل الكلام الذين عندهم نزعة كلامية، فأغلبهم يتردد في إطلاق الكفر حتى على من حكم بكفره شرعاً ممن يتسمى بالإسلام.

تكفير اليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين

تكفير اليهود والنصارى وسائر الكفرة والمشركين أما الذين ليسوا بمسلمين فلم ينطقوا بالشهادتين أصلاً -كاليهود والنصارى والمشركين وعامة الكفار غير المسلمين- فهؤلاء ليسوا محل الحديث هنا؛ ولذلك ينبغي التنبه ما دمنا في أول الكلام عن مسألة التكفير في الطحاوية، ينبغي التنبه إلى أن كل الكلام الذي سيرد إلا القليل يرد في أهل القبلة من يكفر منهم ومن لا يكفر، ومتى يخرج مدعي الإسلام الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله من الملة، أو متى يكفر كفراً دون كفر أو كفراً مغلظاً؟ هذا هو موضوع الحديث. فلذلك بعض الناس يفهم خطأ أن هذا الحديث كله ينطبق على جميع الكفار، وأن هناك خلافاً بين المسلمين في مسألة تكفير الكفار، وهذا غير وارد، فلم يرد البحث هنا عن مسألة تكفير الكفار الخلص؛ لأن من المعلوم من الدين بالضرورة تكفير اليهودي وتكفير النصراني وتكفير المشرك وتكفير من لم يسلم ولا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا تكفيره ليس محل البحث، وهذا الخلط الذي ذكرته هو الذي أوقع كثيراً من المثقفين وبعض المفكرين وبعض أدعياء العلم وبعض قليلي الفقه وقليلي العلم الشرعي في أن يترددوا في الحكم بكفر الكافرين الخلص؛ لأنهم ظنوا أن هذه الأحكام في إطلاق الكفر تنسحب على اليهود والنصارى. وهذا جهل مطبق، بل رأيت وسمعت وقرأت عن بعض المنتسبين للعلم أنه يشكل عليهم هذا الأمر، وأتعجب حقيقة: لماذا يشكل عليهم هذا الأمر؟! حيث ظنوا أن قواعد التكفير تنسحب على اليهود والنصارى! وهذا أمر غير وارد، بل أمر مفروغ منه، فما بعد حكم الله حكم ولا بعد قول الله قول، إنما نتردد في الأمور التي وكل إلينا الاجتهاد فيها؛ والأمور التي وكل إلينا الاجتهاد فيها هي رد بعض أفراد العمل والاعتقادات التي تصدر من الناس إلى قواعد الشرع ونصوص الشرع الصادرة ممن يتسمون بأهل القبلة، أما الكفار الخلص فليسوا محل حديث، ولا يجوز لأحد أن يتردد في كفرهم؛ لأن هذا من المعلوم من الدين بالضرورة، ومن المجمع عليه عند المسلمين جميعاً، حتى الفرق الضالة تقول بكفر الكفار الخلص من اليهود والنصارى والمشركين. قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة والمحرمات الظاهرة المتواترة ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً]. لو أن إنساناً يدعي الإسلام أنكر أو تردد في إثبات وجوب الزكاة أو في إثبات وجوب الصيام أو في ثبوت وجوب الحج أو في ثبوت وجوب الجهاد أو في ثبوت وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك مما تواترت به النصوص، بمعنى: أنه اعتقد أن هذا لا يجب شرعاً، ونفى ما تواترت به النصوص من الواجبات؛ فإنه بذلك يكفر ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهذا محل اتفاق، وكذلك من أنكر المحرمات القطعية أو تردد في ذلك أو شك تديناً لا شك جهل؛ إذ قد يوجد جاهل لا يدري، لكن الذي يدين بعدم تحريم الربا أو بعدم تحريم الزنا أو بعدم تحريم الخيانة والغدر أو بعدم تحريم دم المسلم ونحو ذلك، أو يشك في ذلك؛ فإنه بذلك يكفر، وإذا أنكره فإنه يستتاب، فإن تاب وإلا قتل. إذاً: الواجبات المعلومة من الدين بالضرورة والمحرمات المعلومة من الدين بالضرورة -أو القطعية على تعبير كثير من أهل العلم- من أنكرها يكفر ويستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وإن كان جاهلاً يعلم.

التكفير بالذنوب بين النفي العام ونفي العموم

التكفير بالذنوب بين النفي العام ونفي العموم قال رحمه الله تعالى: [والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة بسنده إلى محمد بن سيرين أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء]. يقصد بذلك أن الذين تكثر عندهم البدع بحيث تكون هي الأصل عندهم يكثر عندهم الفجور بحيث يكون هو الأصل؛ فإن هؤلاء مظنتهم النفاق والردة، وليس جزماً؛ لأننا لابد من أن نقيم عليهم الحجة، لكنه يقصد بذلك أننا نعرف ظواهر النفاق والردة بالبدع والفجور، فالناس الذين تكثر عندهم البدع إلى حد أنهم لا يعملون بالسنة ويكثر عندهم الفجور إلى حد أنهم لا يقيمون شعائر الإسلام ولا يحلون ما أحل الله ولا يحرمون ما حرم الله؛ فهؤلاء يظن بهم أنهم أهل نفاق وأهل ردة، لكن مع ذلك لا نحكم بنفاق الواحد منهم وردته إلا بعد استنفاذ الأصول الشرعية من إقامة الحجة والتأكد من توافر شروط الكفر وانتفاء موانعه. قال رحمه الله تعالى: [وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام:68]، ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب، بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب كما تفعله الخوارج، وفرق بين النفي العام ونفي العموم، والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب]. يقصد بهذا: أن العبارة التي أوردها الطحاوي رحمه الله قد تفهم أننا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، وهذا قول المرجئة، والشيخ رحمه الله قد يميل إلى قول مرجئة الفقهاء في بعض الألفاظ وإن كان يوافق أهل السنة عملياً، فهذه اللفظة محتملة، فقد يقصد بها الانتصار لقول مرجئة الفقهاء من الأحناف، وهو حنفي، وقد يقصد التعبير عن مذهب أهل السنة والجماعة بتعبير يقرب الأحناف إلى أهل السنة والجماعة في هذه الجزئية. وقول الشارح: [وفرق بين النفي العام ونفي العموم] يقصد به أن هناك فرقاً بين أن نقول: إن المسلم لا يكفر بأي ذنب مطلقاً، وبين أن نقول: ليس كل ذنب مكفراً، فالنفي العام: هو أن يقال بأنا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، هذا نفي عام، وهذا لا يجوز، فليس بصحيح أننا لا نكفر بأي ذنب مطلقاً، بدليل أن الذنوب تتفاوت، فالشرك هو أعظم الذنوب، ولاشك في أنه مكفر. بل هناك ما هو دون الشرك من المكفرات، فالنفي العام هو الممنوع الذي لا يقره أهل السنة، وهو أن نقول بأنه لا يكفر أهل القبلة بأي ذنب مطلقاً. لكن نفي العموم هو أن نقول: ليس كل ذنب مكفراً إلا إذا استحل الذنب ولو كان صغيراً وقامت الحجة، وهذا قول صحيح؛ لأن الخوارج والمعتزلة وكثير من الأهواء يكفرون بكل ذنب، وأهل السنة لا يكفرون بكل ذنب، كما أن المرجئة لا تكفر بأي ذنب مطلقاً، وهذا هو النفي العام الذي لا يجوز، والصحيح هو نفي العموم، أي: ليس كل ذنب يكفر به صاحبه. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا -والله أعلم- قيده الشيخ رحمه الله بقوله: (ما لم يستحله)، وفي قوله: (ما لم يستحله) إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب الذنوب العملية لا العلمية، وفيه إشكال؛ فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح وأعمال الجوارح تبع، إلا أن يضمن قوله: (يستحله) بمعنى: يعتقده، أو نحو ذلك].

موقف الخوارج والمعتزلة من تكفير أهل القبلة

موقف الخوارج والمعتزلة من تكفير أهل القبلة قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) إلى آخر كلامه رد على المرجئة، فإنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فهؤلاء في طرف والخوارج في طرف، فإنهم يقولون: نكفر المسلم بكل ذنب أو بكل ذنب كبير، وكذلك المعتزلة الذين يقولون: يحبط إيمانه كله بالكبيرة، فلا يبقى معه شيء من الإيمان. لكن الخوارج يقولون: يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر! والمعتزلة يقولون: يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر! وهذه المنزلة بين المنزلتين، وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار]. الفرق بين المعتزلة والخوارج فرق فلسفي، وليس فرقاً علمياً، فكلهم يكفرون بالكبيرة، لكن الخوارج يرون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا كافر خالص، والمعتزلة ينفون عنه الإيمان، ونحن نقول: يلزم من نفي الإيمان الكفر، لكن المعتزلة جاءت بأسلوب فلسفي كعادة أهل البدع، حيث يأتون من عندهم باختراعات في الدين، فنظراً لأنهم ما توافر عندهم النص القطعي على كفر من ارتكب الذنب قالوا بأنه لا مؤمن ولا كافر، وهذه المنزلة بين المنزلتين التي ما استطاعوا أن يفسروها إلى الآن؛ لأن نصوص الشرع كلها ليس فيها أن هناك حالة ثالثة، بل إما أن يكون المرء مؤمناً، ودرجات الإيمان تتفاوت تفاوتاً عظيماً، أو يكون كافراً، ودرجات الكفر تتفاوت. فهم يقولون: لا نسميه مؤمناً، فأخرجوه من الإيمان، ونلزمهم شرعاً بأن يدخلوه في الكفر، لكنهم فروا مما قالت الخوارج؛ لأنهم قاموا بردة فعل ضد الخوارج، ومسألة الحوار بينهم وبين الخوارج هي التي جعلتهم يتكلفون مذهباً وسيطاً بزعمهم، وهو أنه -أي: مرتكب الكبيرة- إذا لم يتب في الدنيا فهو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، هذا في الدنيا، وفي الآخرة بينهم تشابه، لكن عند التفصيل نجد أن بينهم شيئاً من الفروق الفلسفية، فالخوارج يقولون: مرتكب الكبيرة مخلد في النار، وعذابه عذاب الكافرين والمشركين، وليس بينه وبينهم فرق، والمعتزلة تقول بأنه مخلد في النار أيضاً، وتقول بمنع الشفاعة كما تقول الخوارج، لكنها تقول بأن عذاب مرتكبي الذنوب في الآخرة -وإن كانوا مخلدين في النار ولا تشملهم الشفاعة- غير عذاب المشركين، وهذه من عندهم جاءوا بها تخلصاً من موافقة الخوارج.

ذكر القائلين بحصر التكفير في الاعتقاد دون العمل

ذكر القائلين بحصر التكفير في الاعتقاد دون العمل قال رحمه الله تعالى: [وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال]. يعني: لا يكفرون بالأعمال، إنما يحصرون التكفير في الاعتقادات البدعية. قال رحمه الله تعالى: [لكن في الاعتقادات البدعية، وإن كان صاحبها متأولاً]. هذه النزعة ظهرت الآن على ألسنة بعض المنتسبين للعلم، وكتبوا فيها مؤلفات، وأثيرت القضية بين المشايخ وطلاب العلم بشكل فيه لبس وفيه غموض، وأنا أشم في رائحة إثارة هذه القضية تأثراً بجماعة التبين والتوقف، حيث تثار الآن قضية العذر بالجهل وعدم العذر بالجهل، وقضية أن الكفر هو الكفر الاعتقادي فقط، فهذه مسألة -في الحقيقة- تحتاج إلى تفصيل. فهناك من يتبنون أن الكفر لا يكون إلا الكفر الاعتقادي، وألفت في هذا مؤلفات، والمسألة فيها لبس، حتى إن بعضهم انتزع من بعض المشايخ والعلماء موافقة على مثل هذا القول مع أن الأمر يتضمن مذهباً آخر هو أشبه بمذاهب الواقفة ومذاهب بعض أهل الكلام القديمة؛ بل بمذاهب بعض معتدلة الخوارج إن صح التعبير أو غيرهم، بل أحياناً قد يوافقون مذاهب بعض المرجئة خاصة مرجئة الفقهاء، فالمسألة فيها لبس. فلذلك أقول: لا ينبغي أن نسلم بهذا المبدأ، وهو القول بأنه لا يكون الكفر كفراً إلا إذا كان اعتقادياً، فهذا غير صحيح ولا تدل عليه النصوص، بل هناك نصوص تدل على أن بعض الأعمال مخرجة من الملة، سواء كانت عن اعتقاد أم عن غير اعتقاد، وبعض الأقوال مخرجة من الملة، سواء كانت عن اعتقاد أم عن غير اعتقاد، ثم إن ترك الأعمال إذا كثر، وفعل الموبقات إذا كثر، بحيث صار الإنسان يفعل كل الموبقات مما يقدر عليه ويترك جميع الواجبات فإنه بذلك يكفر ولو لم نعرف اعتقاده. إذاً: المسألة فيها تفصيل، فالكلام ليس على إطلاقه، وأقول: إن المسألة أثيرت الآن وتأثر بها كثير من طلاب العلم غير المتخصصين في العقيدة، فصار فيها لبس، وأرجو التنبه لذلك، والحذر من إطلاق مثل هذه الأحكام، كالقول بأنه لا يكون الكفر إلا بالاستحلال أو لا يكون الكفر إلا إذا كان اعتقادياً، أو القول بمسألة عدم العذر بالجهل مطلقاً، فهذه مسائل تحتاج إلى تحرير؛ لأن الناس يتلاعبون فيها بالألفاظ، ولكل إنسان فيها مفهوم، فينبغي أن تحرر أولاً، ويحرر المقصود ثانياً، ويفصل فيها ثالثاً، من ادعى أن هذه قواعد لازمة وأنها هي التي عليها السلف فأظنه ما صدق، السلف يفصلون، فقد تختلف أحوال الناس في مسألة العذر بالجهل أو الاستحلال أو الكفر الاعتقادي والعملي، تختلف أحوال الناس من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ومن شخص إلى شخص ومن بيئة إلى بيئة. قال رحمه الله تعالى: [فيقولون: يكفر كل من قال هذا القول، لا يفرقون بين المجتهد المخطئ وغيره، أو يقولون بكفر كل مبتدع، وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة؛ فإن النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك، والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه، وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ: (وأهل الكبائر في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون)].

ضرر التكفير وعظيم خطره

ضرر التكفير وعظيم خطره هنا بعض التعليقات التي يقتضيها المقام، وهي متعلقة بالتكفير، وموضوع التكفير من الموضوعات الخطيرة، وهو من أعظم بواعث الفتنة قديماً وحديثاً -كما ذكر الشارح- بين المسلمين، وكما قرر أهل العلم، ومعروف سلفاً أن أول خروج عن أهل السنة والجماعة وأئمة المسلمين ظهر في التاريخ كان بسبب التكفير، وهو خروج الخوارج، وأول فتنة ظهرت في التاريخ -وهي الفتنة السبئية- كان من سماتها التكفير ونزعات التكفير، فموضوع التكفير من الموضوعات الخطيرة التي يجب التحذير منها في كل وقت ويبصر بها المسلمون على جهة العموم، وعندما تأتي مناسباتها على جهة الخصوص أرى أنه يتعين الكلام عنها، كمثل ظروفنا الراهنة الآن. والحديث عن التكفير كان يجب أن يكون قبل هذا الوقت من قبل طلاب العلم وأهل العلم المعنيين بأمر الأمة، وأظن أن المشايخ وكثيراً من طلاب العلم قد أدوا بعض الواجب في ذلك، لكن ليس بالقدر الكافي في نظري.

السبب الداعي إلى الحديث عن التكفير في هذا الزمن

السبب الداعي إلى الحديث عن التكفير في هذا الزمن وربما يقول قائل: لماذا الكلام عن التكفير الآن؟ فأقول: أولاً: لأنه كثرت الحاجة إلى الحديث عن التكفير؛ حيث ظهر في طوائف من أبناء المسلمين -وإن كانوا قلة- نزعات التكفير، وهذا أمر خطير على الإسلام والمسلمين عموماً، ثم على أهل الخير وطلاب العلم والدعاة والمتدينين على وجه الخصوص، ثم إنه من بواعث الفتنة في أي مجتمع تحدث فيه هذه النزعات، هذا أمر. الأمر الآخر: أنه ليس صحيحاً أن الكلام لم يكن إلا في هذه المناسبة أو في هذه الظروف، بل قد مرت مناسبات كثيرة من المناسبات التي تستدعي الحديث عن التكفير والتحذير من بواعثه ومن نزعاته وضرورة نصح المسلمين فيه وشباب المسلمين خاصة، وهذا أمر ضروري تقتضيه نصوص الشرع. ثم إنا نجد من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمواجهتهم للبدع والمشكلات أنهم واجهوا قضية الخوارج -التي هي قضية التكفير- بقوة لم يواجهوا بها غيرها من البدع. فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الأهواء جملة، وذكر الخوارج الذين هم أصل التكفير تفصيلاً، وحينما ذكر أهل الأهواء حذر منهم وأمر بجهادهم بالرد عليهم ونحو ذلك، لكنه خص الخوارج بوجوب قتالهم، وقد يقول قائل: لماذا الخوارج؟ وهل الخوارج أخطر عقيدة؟! و A لا، بل هناك ما هو أخطر من عقائد الخوارج، كالرافضة والباطنية والجهمية وغيرهم، لكن -كما ذكر أهل العلم، واستقرأ هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في كثير من كتبه- لكون الخوارج أكثر فساداً في الأرض؛ لأنهم أناس يواجهون المسلمين بالقوة والسيف؛ ولأنهم من طبائعهم أنهم لابد من أن يهلكوا أو يهلكوا، فمن ينزع نزعة الخوارج أو ينزع نزعة التكفير لا يعيش بين الناس مستريحاً، بل إما أن يؤذي الناس ويقاتلهم ويفعل كل ما يخل ويفسد، وإما أن يقضى عليه، فلذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوب قتال الخوارج ووعد من قتلهم. ولذلك فرح الصحابة لما تحققوا أن الخوارج الذين قتلوهم في النهروان هم الذين وعد النبي صلى الله عليه وسلم من قتلهم بأن له الجنة، وفرح الإمام علي رضي الله تعالى عنه بذلك فرحاً شديداً، وكان الصحابة إذا سمعوا بالخوارج هبوا لقتالهم، ولما سمعوا بالقدرية حذروا منهم، مع أن القدرية أكفر من الخوارج، فالخوارج ما كفروا كلهم، ولا قيل بكفرهم، لكنهم مع ذلك أمر بقتالهم، والصحابة قاتلوهم واستبشروا بقتالهم وفرحوا بذلك، وكانوا كلما ذكر لهم فئة خارجية يهبون لقتالها امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولما ظهر الشيعة جادلوهم بالكلمة وأقاموا عليهم الحجة، ثم لما سمعوا بالقدرية كذلك جادلوهم بالكلمة وأمروا بهجرهم حتى أصر بعض رءوسهم من أهل البدع، فكانوا يأمرون بقتل الرءوس فقط، هذا أمر. الأمر الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في نصوص أخرى خوارج يأتون بعد الخوارج الأولين، من ذلك ما ورد في البخاري وغيره أنه (سيخرج في آخر الزمان أناس حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية) إلى أن قال: (فإذا لقيتموه فاقتلوهم فإن لم قتلهم الجنة). ولا أعرف أن هناك فئة ظهرت من الخوارج الآن ما عدا التكفير والهجرة، وقد انقرضت، لكن سمات الخوارج بدأت تظهر، وأول سمات الخوارج التكفير، والتكفير وجد عند فئات من أبناء المسلمين وإن كانت قليلة والحمد الله. فأغلب أبناء المسلمين على الرشد -إن شاء الله- وعلى الاستقامة، ولاشك أن سائر شبابنا -والحمد الله- فيهم تعقل وفيهم علم وفيهم فقه، لكن يوجد شذوذ في طوائف من الشباب، ومعظم النار من مستصغر الشرر، وكم يجر الشذوذ على الأمة في دينها ودنياها إذا أهمل من وبال على أهل الخير خاصة وسائر المسلمين عامة، وشواهد ذلك بدأت، إذاً: لماذا ينزعج بعض الناس من الحديث عن نزعات التكفير ونحن نراها ونسمعها فعلاً؟! فأنا أعلم أن نزعات التكفير موجودة فعلاً، وتزداد الآن، وأن بعض طلاب العلم والمشايخ الذين يعرفونها يحاولون علاجها، وبعضهم ربما يتردد في العلاج ظناً منه أنها لن تصل إلى حد الخطورة، وأقول: إنها وصلت إلى حد الخطورة، وحوادث التفجير ونحوها دليل ذلك. فكل حوادث العنف والقوة تنتج عن هذه النزعات، سواء أكانت تكفيراً خالصاً أم استعداداً للتكفير أم براءة من المخالفين، أم استباحة لوسائل العنف، كلها ترجع عاجلاً أو آجلاً إلى التكفير، فمن هنا أقول: إن سمات التكفير ظهرت، وسمات الخوارج ظهرت بنزعات في أفراد وفي جماعات وفي اتجاهات، فإذا ظهرت فلابد من الحديث عنها، وأرى أنه لا يسع طلاب العلم السكوت، بل لابد من التحذير حتى لا يقع كثير من شبابنا الذين لم ينهلوا من العلم الشرعي بقدر كاف، والذين تحكمهم العواطف وقلة التجربة وعدم الرجوع إلى الراسخين في العلم في التكفير من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

قواعد ومسائل مهمة في مسألة التكفير

قواعد ومسائل مهمة في مسألة التكفير

التكفير المتناول حكمه عند أهل العلم يخص أهل القبلة دون الكفار

التكفير المتناول حكمه عند أهل العلم يخص أهل القبلة دون الكفار أما قواعد التكفير: فالقاعدة الأولى قد أشرت إليها، وهي أنا عندما نتكلم عن التكفير وعدمه أو نحو ذلك، وأن كل ما يتكلم به أهل العلم في التكفير ليس المقصود بذلك تكفير الكفار الخلص؛ لأن هذا أمر مفروغ منه، كتكفير اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين وغيرهم ممن حكم الله بكفرهم، فهؤلاء ليسوا محل الحديث. إذاً: محل الحديث في التكفير هم الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، الذين يسمون أهل القبلة، فهؤلاء هم الذين يتكلم عن التكفير فيهم.

التكفير من سمات أهل الأهواء

التكفير من سمات أهل الأهواء القاعدة الثانية: أن التكفير يعد من سمات أهل الأهواء دائماً، إلا إذا صدر التكفير عن علماء راسخين توافرت فيهم شروط الاجتهاد وعرفوا شروط التكفير وموانع التكفير، وكانوا ممن يستطيع أن يحكم بالكفر على جماعة أو أفراد بعد استفراغ جميع وسائل الاجتهاد. إذاً: من سمات أهل التكفير إعلان التكفير وإشهاره، ولا يعني ذلك أن أهل السنة لا يكفرون من يكفر، لكن ليس من سمتهم التكفير، وليس من طبعهم التكفير، وليس همهم التكفير أصلاً إلا بمقتضى النصوص الشرعية وبتوافر أمور الاجتهاد.

تكفير أهل القبلة أمر غير متعبد به

تكفير أهل القبلة أمر غير متعبد به القاعدة الثالثة: أننا لم نتعبد بالتكفير أصلاً، فبعض الناس -خاصة الجهلة وقليلي العلم- يظنون أنهم إذا ما كفروا من يظن أنهم كفار؛ فإنه لا تبرأ ذممهم، فلذلك تجد عند الواحد منهم شيئاً من التوتر، وتجده حريصاً على نبش الأمور وبحثها: هل يكفر من فعل كذا أو من قال كذا أو لا يكفر؟ وهل الجماعة الفلانية التي قالت أو ابتدعت تكفر أو لا تكفر؟ إلى آخره، وينبش عن أقوال الأشخاص وأفعال الأشخاص والهيئات والمؤسسات والجماعات ظناً منه أنه إذا لم يكفر فقد أثم، وهذا غلط، فالمسلم لم يتعبد بالتكفير أصلاً، وليس مسئولاً عن نبش أحوال الناس والبحث عن أمور المسلمين حتى أهل البدع منهم، فلا ينبغي أن تنصرف الهمم إلى مسألة الحكم بكفرهم أو عدمه ممن ليس من أهل الاجتهاد الراسخين في العلم. وهذه المسألة خفيت على كثير من أبنائنا من بعض المثقفين وبعض قليلي العلم، يظنون أنهم يجب عليهم أن يكفروا، وأنهم تعبدوا بإعلان التكفير، وأن من لم يكفر منهم فقد داهن، وأن مقتضيات الولاء والبراء أن ينبش عن أحوال الناس ويحكم على الجماعات والأفراد والهيئات والمؤسسات والدول، وهذا ما هو بصحيح، بل هذه فتنة، ومن تتبع هذه الأمور حري أن يقع في الفتنة ما لم يتداركه الله عز وجل فيترك هذه الأمور. فالمسلم عليه أن يسير كما أمره الله عز وجل، فيطلب العلم الشرعي، ويؤهل نفسه إذا كان عنده استعداد للتبحر في العلم الشرعي، فإذا وصل إلى مستوى المجتهدين عمل بقواعد الاجتهاد، وسيجد بالضرورة أنه ليس من شروط إسلام المسلم أو تدين المتدين أو صلاح الصالح أن ينبش عن أحوال الناس.

الأصل امتناع التكفير

الأصل امتناع التكفير القاعدة الرابعة: أن الذي ورد في النصوص الشرعية هو الوعيد في تكفير أهل القبلة، كما ورد في الحديث الصحيح: (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، نسأل الله السلامة. فهذا يفهم أنه يجب أن تحترز من إطلاق الكفر على غيرك؛ لأنك لا تعلم الغيب، ولست من أهل الاجتهاد الذين يملكون الحكم بالكفر، بل أهل الاجتهاد أكثرهم يتورع عن الحكم بالكفر، إذاً: يجب أن يتوقف المسلم في إطلاق الكفر على الأشخاص والهيئات والجماعات وغيرها حتى على أهل البدع؛ لأن أهل البدع يتفاوتون، فمنهم من يكفر ومنهم من لا يكفر، ثم إن للتكفير شروطاً وله موانع لا يتحقق استجلاؤها والاجتهاد فيها إلا على أيدي العلماء الراسخين. إذاً: الصحيح هو أنه ورد الوعيد في التكفير، فإذا كان كذلك وجب أن يحذر المسلم من أن يكفر غيره أو أن يقول بكفر أحد، وهذه مسألة خطيرة جداً على ذمة المسلم ودينه ومصيره. القاعدة الخامسة: من يتناول التكفير؟ هل لكل مسلم أن يبحث في مسألة التكفير ليكفر من يشاء ويترك من يشاء؟ أو لكل من استطاع أن يقرأ النصوص أن يكفر أو لا يكفر؟ أقول: مسائل التكفير ينبغي ألا يبحث فيها إلا من قبل المتخصصين الذين تتوافر عندهم شروط الاجتهاد، وتتوافر فيهم صيغة الرسوخ في العلم مع الرأي والتجربة وإدراك قواعد الشرع وإدراك أحوال الأمة بالتفصيل. فلا ينبغي لكل مسلم أن يتناول التكفير، بل لا ينبغي لكل طالب علم أن يتناول التكفير، بل لا ينبغي للعالم بمفرده أن يستقل في مسألة إطلاق الأحكام على المسلمين، لاسيما في هذا الوقت الذي خفي فيه كثير من الأمور، وغمض فيه كثير من أحوال المسلمين، فلابد من التأني في إطلاق الأحكام، ولا يتم ذلك إلا من قبل أهل العلم الراسخين في العلم.

التفريق بين الحكم بكفر العمل وتكفير المعين

التفريق بين الحكم بكفر العمل وتكفير المعين القاعدة السادسة: أنه يجب أن نفرق -كما كان السلف- بين الحكم بالكفر وبين تكفير الأعيان والأشخاص والهيئات وغيرها، فطريقة السلف أنهم يقررون الأحكام، فيقولون: الأمر الفلاني كفري، والقول الفلاني كفري، والاعتقاد الفلاني كفري، فهذا يكفر به من قاله، وهذا يكفر به من اعتقده، وهذا يكفر به من فعله، وذاك ليس كذلك، إلى آخره. هذه بالنسبة إلى الأحكام، لكن تطبيق الأحكام على الهيئات والأشخاص والمؤسسات والجماعات ونحوها له أسلوب آخر لا يلجأ إليه إلا في الحالات النادرة وعند الضرورة، ولذلك تجد كلام السلف في أحكام التكفير كثيراً جداً جملة وتفصيلاً، لكن كلامهم في الأعيان تجده قليلاً جداً، حتى إن بعضهم كان يتردد في تكفير من تبين كفره عند عموم الأمة، وقليل من أهل العلم من كان يطلق التكفير، خاصة أهل العلم الكبار، ككبار الصحابة، بل كل الصحابة، فالصحابة واجهوا أهل البدع وما كفروهم، حتى أولئك الذين قاتلوا الخوارج، وأول خصم وأشد خصم على الخوارج هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ذلك لما قيل له: أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا. وكذلك سائر الصحابة لما واجهوا القدرية، ولما واجهوا أقوال كثير من الشيعة وغيرهم، فإنهم كانوا يترددون في تكفير الأعيان والأشخاص، أما التكفير بالأحكام فأمره واضح وسهل، بأن يقال: من فعل كذا فهو كافر، من قال كذا فهو كافر، من اعتقد كذا فهو كافر، فهذه مسألة سهلة؛ لأنها حررت علمياً عند السلف، لكن السلف يفرقون بين هذا وبين إطلاق الأحكام على الأشخاص، ولذلك -كما قلت- تجد كبار أهل العلم من الصحابة إلى يومنا هذا يندر عندهم التكفير، بل بعضهم لم يؤثر عنه أنه كفر أحداً مع أنه لا تنقصه عقيدة الولاء والبراء، ولا تنقصه الغيرة على دين الله عز وجل، كالإمام أحمد رحمه الله، فما كفر إلا في حالات نادرة جداً أقام الحجة فيها بنفسه، كتكفيره من قال بخلق القرآن؛ لأنه علم يقيناً أن الحجة قامت، وأن شروط الكفر توافرت، وأن موانع التكفير منتفية، فأطلق الكفر بعد ذلك، أما فيما عدا ذلك فإنك تجد الإمام أحمد تورع كثيراً عن إطلاق الكفر حتى فيمن كفرهم السلف قبله. وأقول: الخلل الحاصل الآن عند كثير ممن يدعون العلم هو سرعة تطبيق الأحكام على الأعيان، فينزل الدليل على القضية مباشرة، فيكفر الشخص، مع أنا نعلم يقيناً أنه ما توافرت عنده شروط التكفير، ولا اجتهد في معرفة ما يعارض إطلاق التكفير من الموانع الشرعية المعروفة، مثل: الإكراه، ومثل: التأول، ومثل: الجهل، وغير ذلك مما هو معروف ويحدث عند كثير من المسلمين في بعض العصور والأمكنة والأزمان. وعلى هذا فإن تكفير الأشخاص وتكفير الأعيان وتكفير الهيئات وتكفير الجماعات وتكفير الدول أمر خطير يجب ألا يسود بين الناس، ويجب أن يترك لأهل العلم الراسخين، وإذا أدرك بعض طلاب العلم أن هذا الأمر بدأ يظهر بكثرة الثرثرة في هذه الأمور وجب عليهم أن يناصحوا الناس وأن يعظوهم في ذلك وأن يذكروهم بتقوى الله عز وجل، فلا يتحدث في هذه الأمور بغير علم، وأغلب ما يتكلم فيه الناس الآن عواطف بناء على الشائعات بدون تثبت وبدون معرفة لهذه الأحكام التي أشرت إليها.

شروط التكفير وموانعه أمر يلزم استحضاره

شروط التكفير وموانعه أمر يلزم استحضاره ومن الأمور المهمة ما يتعلق بضرورة التذكير دائماً بأن التكفير له شروط، والشروط تزداد وتنقص من شخص إلى شخص، ومن عهد إلى عهد، ومن عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، وكذلك للتكفير موانع لابد من اعتبارها، وهذه الموانع تختلف من عصر إلى عصر، ومن شخص إلى شخص، ومن حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، فأوضاع الضرورات غير أوضاع الحالات العادية، وأوضاع الإكراه تختلف عن أوضاع الاختيار. لذا ينبغي أن نفرق في مسألة الأشخاص بين من يعلم ومن لا يعلم، ومن أقيمت عليه الحجة ومن لم تقم عليه، ومن يشترط أنه علم وسمع وتواتر عنده الأمر ومن لا يشترط فيه ذلك، ومن يمكن أن يكره أو يمكن أن يجهل أو يقع في الأمر المحظور ضرورة ونحو ذلك، ومن ليس كذلك، لاسيما في أحوال المسلمين اليوم، ففي أحوال المسلمين اليوم نجد كثيراً من الأمور انقلب من الحال العادية إلى أحوال الضرورات، وأضرب لهذا مثالاً واحداً وكثيراً ما أضربه؛ لأنه من أوضح الأمثلة، حيث يدل على أن أحوال المسلمين يجب أن نتأنى فيها في إطلاق الأحكام بالكفر أو نحوه عليهم. ففي البلاد التي يحكم فيها بالقانون الوضعي -نسأل الله العافية- قد يضطر مسلم إلى أن يحمي عرضه باللجوء إلى القانون الوضعي، فلا يحمي عرضه إلا باللجوء إلى القانون الوضعي، أليس هذا الوضع محرجاً؟! إنه إذا ما لجأ إلى المحكمة القانونية سينتهك عرضه غداً، فيمكن أن تؤخذ ابنته أو زوجته؟ أليست هذه معضلة؟ وهناك مسألة أخرى جاءت فيها أسئلة فعلاً واجهتها وواجهها غيري، والمشايخ يواجهونها أكثر منا، حيث يقول السائل: أنا في بلد مسلم من بلاد الإسلام، لكن يلزمني أن أحلق لحيتي، وأن أترك الصلاة جماعة، ولا أصلي إلا خفية، ويلزمني أحياناً أن أتساهل في عرضي، فبنتي تختلط بالشباب في الجامعة، وتسبح معهم في المسابح رغم أنفي، وتختار صديقاً، وإذا عارضت أسجن إلى آخر ذلك من المآسي التي لا نحب أن نجرح بها أفئدة المؤمنين، يقول: أنا مضطر لأن أسافر إلى بلد الشرك؛ لأني سأصلي وأحمي عرضي وأدعو إلى الله عز وجل وأعمل بشعائر الدين تحت ظل قانون كافر خالص في فرنسا أو أمريكا أو ألمانيا أو أي مكان، فما رأيكم؟! أليس السفر من بلد الإسلام إلى بلد الشرك محرماً في الأصل؟! وإذا كان اختياراً وتفضيلاً لبلد الكفار ألا يكون كفراً؟! فما رأيكم في هذه الحالة؟ فمن يتتبع أحوال المسلمين يجد أن مفردات الضرورات كثيرة جداً، وهناك ما هو أعظم من ذلك، فهناك ما يمس جماعات المسلمين ومجتمعاتهم لا أفرادهم. إذاً: فالمفتي الذي لا يعتبر هذه الأحوال لا أظنه يصيب الحق، ولذا لما نظر في الأمر بعض الذين عندهم تدين بغير بصيرة كفروا المجتمعات المسلمة على هذا الأساس، فإذا سئلوا عن السبب ذكروا هذه الأحوال على أنها موجبة لتكفير المجتمع المسلم، فمن هنا قالوا بأقوال الخوارج. وقد يقال: ألا يجب الدفاع عن العرض ومدافعة المنكر ومدافعة الشر قبل وقوعه؟ فنقول: بل يجب على المسلمين ذلك، ولكننا نتكلم عن الحكم على أمور ليست بإمكان كثير من المسلمين الآن، وفرق بين ما يجب وبين علاج الواقع، فأنا أتكلم عمن لا يستطيع، فالإنسان إذا لم يستطع حماية نفسه إلا بالأساليب التي ليست مشروعة هل يلجأ إلى الأساليب التي ليست مشروعة؟ وهل الغاية هنا تبرر الوسيلة؟! الأمر الثاني: أن المسلمين الذين هذه أحوالهم في البلاد الأخرى لا يستطيعون أن يعملوا إلا أشياء تضر بهم وتضر بالأمة وتضر بالمجتمع، بل أحياناً قد يتصرف الإنسان تصرف متشنج يحمي فيه نفسه وعرضه، لكن بعد ذلك تتضاعف المشكلة أكثر، فينتهك عرضه وينهب ماله ويؤذى أقاربه ويؤذى أصدقاؤه، وتصير المشكلة جماعية بعد أن كانت فردية. فكثير من المسلمين اليوم جهلة، وأحوال المسلمين الآن أكثرها واضحة ليست خفية، فلا نبن الأمور على أحكام وهمية، نعم يجب على المسلمين أن يكونوا متمسكين بدينهم، وألا يقع هذا الذي حصل، يجب ألا تكون البدع موجودة في المسلمين؛ لأنها هي التي أدت إلى ضعف اليقين وضعف الإيمان في الناس حتى صار ما صار، ويجب ألا يهيمن التصوف والخزعبلات على عقول المسلمين التي أدت إلى هذا الوهم والسلبية، والأمر لله من قبل ومن بعد، فالتقصير حصل والمآسي حصلت، فنحن لا نفترض وقوع أشياء نخشى أن تقع ونقول: يجب أن نتفاداها قبل أن تقع؛ بل نحن نتكلم في أمور وقعت في المسلمين. فهذا كله جرنا إليه مسألة أنه ينبغي للمسلم ألا يتعجل في التكفير؛ لأنه ليس كل من وقع في مثل هذه المحظورات، أو وقع في البدع، أو وقع في الأمور التي ورد النص بالتكفير فيها خاصة نحكم بكفره؛ إذ الأحوال تنقلب أحياناً إلى العكس، فأغلب الأحكام يعذر المسلمون فيها على الأقل في التكفير، ولا نقول: ليس فيهم فسق ولا فجور! فلا شك أن أكثر المسلمين فيهم بدع وفيهم فجور وفيهم فسق وفيهم إعراض عن شرع الله عز وجل، ولولا ذلك ما صاروا إلى ما صاروا إليه؛ لأن الله عز وجل ضمن لهم إن تمسكوا بدينه أن ينصرهم ويمكن لهم في الأرض، لكن التقصير حصل، وما دام قد حصل فما العلاج؟ هل العلاج أن يكفر الناس ب

التوقف في الحكم بإسلام المسلمين قبل التبين بدعة عصرية ضالة

التوقف في الحكم بإسلام المسلمين قبل التبين بدعة عصرية ضالة المسألة التي تتبع هذا الأمر: مسألة التوقف والتبين، وهي من البدع التي انتشرت بين أبناء المسلمين في بعض البلاد التي يكثر فيها الجهل، ومسألة التبين والتوقف هي من آثار الهجرة والتكفير، وهي تابعة لمسألة التكفير، لكنها لم تصل إلى حد التكفير. فهناك مجموعات أو جماعات أو أفراد -خاصة الذين ما أخذوا العلم على أصوله الصحيحة، ولا تعلموا على أيدي العلماء، وما عرفوا كيف يتناولون أصول الولاء والبراء ويرجعونها إلى قواعد الشرع، ولا عرفوا أقوال أهل العلم الراسخين في العلم- أخذوا نصوص الولاء والبراء ونصوص الوعد والوعيد فنظروا فيها ففهموا أنها تستدعي التوقف في إسلام جميع المسلمين أو أكثر المسلمين، وأنه لا بد من التبين قبل الحكم بالإسلام، وهذه النزعة هي من جنس التكفير، والغالب أنها تؤدي إلى التكفير، وقد كثرت في بعض المنتسبين للعلم الشرعي ممن لم يتعلموا على العلماء ولم يعرفوا قواعد الشرع. فبعض هؤلاء يقول: إن المسلمين الأصل فيهم الإعراض عن الإسلام، وبعضهم يقول: الأصل فيهم الردة، وبعضهم يقول: الأصل فيهم عدم تحقق الإسلام، ولا يحكم بالردة ولا الكفر، إذاً: نتوقف في إسلام أهل القبلة إلا من عرفته وأقمت عليه الحجة وتبين لي أنه مسلم، فمن هنا قد لا يصلون وراء كل أحد من عامة المسلمين، وقد لا يتعاملون التعامل الشرعي مع كل أحد، فقد لا يردون السلام، فبعضهم إذا سلم عليه مسلم آخر ما تبين له حاله يقول: صباح الفل، صباح الخير، أو: أهلاً وسهلاً، ولا يقول: وعليكم السلام، يقول: أخشى أنه غير مسلم، فأكون قد وقعت في الإثم. وقد يستغرب من هذه الظواهر، وقد يقول قائل: أين هي؟ وأقول: إنها موجودة، وإن كانت -والحمد الله- قليلة، ولكن ليس عندنا عصمة من الله عز وجل، فهذه الظواهر وصلت إلينا كما وصل التكفير إلى بعض من كانوا شذاذاً لتساهلنا وعدم عنايتنا بهذه الأمور، فالتبين موجود الآن وظهرت له مؤلفات وكتب وله زخم كبير بين طائفة من المنتسبين للعلم، وتثار قضاياه، خاصة في مصر وفي أفغانستان وفي بعض البلاد الإسلامية.

عظيم خطر نزعات التكفير

عظيم خطر نزعات التكفير المسألة الأخرى: خطورة نزعات التكفير قبل التكفير، ولذلك أرى أن طلاب العلم يجب عليهم أن يهتموا بالأشياء الممهدة للتكفير ويعالجوها قبل أن توصل إلى التكفير؛ لأن الغالب أن ظواهر ونزعات التكفير إذا لم تعالج قبل وصول أهلها للتكفير فإنه يصعب علاجهم بعد ذلك بحسب التجربة قديماً وحديثاً، فمن وصل إلى التكفير الخالص فإنه في الغالب يصعب علاجه، لا يمكن إقناعه إلا في حالات نادرة جداً، أما الذين يمر عليهم الكلام بدون اقتناع، وربما يتأثرون بعض التأثر، فمسألتهم مسألة ظواهر تعالج. فلذلك أقول: إنه ينبغي أن نحذر ونُحذِّر ونتنبه للنزعات الأولى الممهدة للتكفير، ومن هذه النزعات التشدد والشدة في الكلام في الولاء والبراء إلى حد يوقع الناس في الحرج مع آبائهم وأقاربهم، ومع شيوخهم وزملائهم، ومع المسئولين وأهل الرأي والمشورة فيهم، ومع كبار القوم وذوي الهيئات إلى آخره، فإذا وجدت الشدة إلى حد يخرج عن الحد الشرعي المعروف عند أهل العلم؛ فاعرف أن هذه نزعة يخشى منها أن تصل إلى التكفير، فيجب أن تعالج، فالبراء والولاء أمر شرعي، لكن له ضوابطه وموازينه، فينبغي أن يرجع فيه إلى أهل الفقه الراسخين، خاصة إذا انبثق عنه مواقف وتعامل، فقد تجد بعض الناس قد هجر عمه أو خاله أو قريبه، فتسأله: لماذا؟ فيقول: في بيته كذا من المعاصي، وعنده كذا من التقصير، وليست تلك مكفرات، ولكن تجده أنه عامله معاملة الكافر، أو قريباً من معاملة الكافر، فلا يأكل ذبائحه، ولا يجيب دعوته الواجبة، وقد لا يشارك في الأمور الواجبة له شرعاً، وهذا ناتج عن شدة القول بالبراءة. وبعض الناس تجده يعد أصدقاءه على الأصابع، والبقية يتبرأ منهم، ويقول: ما أجد على الدين الصحيح إلا فلاناً وفلاناً! وهذا ليس صحيحاً، فإن الصالحين كثيرون، فإذا وجد تشدد في الولاء تضيق دائرة الولاء إلى حد غريب لا يعرفه أهل العلم وأهل الاستقامة.

استحلال المحرم من حقوق الآخرين نتيجة حتمية للتكفير

استحلال المحرم من حقوق الآخرين نتيجة حتمية للتكفير ومن آثار التكفير الاستحلال، كاستحلال الغيبة أحياناً، واستحلال القدح في المخالف وإن كان من المسلمين إلى حد التبديع والتكفير والإخراج من الملة أو دون ذلك، واستحلال الوسائل غير المشروعة، واستعمال المكائد التي فيها غدر وخيانة، أو استحلال الأساليب التي فيها سوء أدب، فقد تجد وإن كان -بحمد الله- ليس كثيراً، وقد وجد في بعض البلاد، ومثاله: أن يأتي طالب علم له رأيه في قضية من القضايا فيصعد على المنبر أو في قاعة من القاعات أو في مكان من الأمكنة ليقرر أمراً من أمور الدين، فتجد أصحاب هذا التوجه الذين عندهم شدة يعملون عملاً ليس من الأدب تجاه هذا المخالف، فإما أن يخرجوا كلهم من المسجد، أو يغيروا جلستهم بحيث يجعلون اتجاههم عكس اتجاهه فيعطونه ظهورهم، وهذا نوع من الاستفزاز والنكاية بهذا المخالف لأنه يخالفهم، وهذه العلامات من سمات الخوارج. أقول: مثل هذه الأساليب لا يفعلها إلا أحد اثنين: إما جاهل، وهذا يجب أن يعلم، وإما صاحب هوى، فإذا لم يصحح عمله ولم يوجد من طلاب العلم من يبين له أن هذا غلط فستتجارى به الأهواء وربما يصل إلى التكفير، والله أعلم. وأعظم من ذلك استباحة الأعمال التي تعد من الفساد في الأرض، كاستباحة التفجيرات، والإحراق، والنسف، والنكاية بالآخرين إلى حد يتلف النفوس، أو إلى حد يخل بالأمن، أو إلى حد يوقع المؤمنين ويوقع أهل الخير في فرقة، أو إلى حد يستعدي الأشرار على الأخيار؛ لأن الأشرار لا يميزون، فمن كان متديناً وفعل شيئاً حسب أن فعله من الدين. إذاً: ألا يجب الأخذ على يد السفيه ممن ينتسب للتدين؟! لا سيما أن مثل هذه الأفعال خطير على الدين وعلى المسلمين أعظم من خطر الكثير من أفعال الكفار أنفسهم، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتل أحد من أهل الأهواء غير الخوارج؛ لأن عملهم يؤدي إلى الفساد في الأرض، ويؤدي إلى الإخلال بالأمن؛ ولأنهم يستحلون دماء المسلمين، ويستحلون النكاية بالمخالف بكل وسيلة، ونزعات التكفير تؤدي إلى هذا حتى لو لم تصل إلى التكفير، فبعض الناس يقول: هذه مجرد عواطف، أو مجرد وجهة نظر أو اجتهادات خاطئة أو جهل، ونقول: هذه مصيبة أن نترك هذه العواطف وهذا الجهل وهذه الاجتهادات الخاطئة ولا نعالجها بكل وسيلة، ولو بإعلان مثل هذه الأمور، إذا عسر العلاج بالستر بين المسلمين، فإذا عسر العلاج بالستر فلابد من إعلانها لا سيما أن الأمر قد وقع فيه الفأس على الرأس، فلا بد لطلاب العلم من أن يعالجوا مسألة نزعات التكفير، وسمات التكفير والظواهر والآراء والمواقف التي تؤدي إلى التكفير في النهاية، ومن ضمنها هذه الأساليب التي ذكرتها. وقد يقول قائل: إن من علاج التكفير أو من تفادي وقوع التكفير إنكار المنكرات، وهذا حق يجب أن يقال؛ لأن من أسباب ظهور التكفير كثرة المنكرات، فنجد شباباً حدثاء الأسنان ما عندهم فقه، وما عندهم تجربة، وليس لهم صلة بالمشايخ الذين يرشدونهم يرون منكرات كثيرة في المجتمعات الإسلامية، ويرون الضيم على المسلمين في كل مكان، فلا يعرفون كيف يعالجون هذه الأمور على القواعد الشرعية، فيقعون في الأحكام الشديدة والتكفير، فيجب إنكار المنكرات، ويجب النصح للمسلمين، لكن لا يعني هذا عدم الأخذ بأسباب العلاج الأخرى من التحذير من التكفير، وتعليم الناس قواعد الشرع، وإرجاع الأمور إلى أصولها الشرعية، وكشف من يصر على التكفير إذا كان ممن يتصف بالخير، خاصة إذا صرح، فهذا كله من الأسباب.

الأسباب الممهدة لظهور نزعات التكفير

الأسباب الممهدة لظهور نزعات التكفير

الخوض في أمور الأمة الكبرى

الخوض في أمور الأمة الكبرى من الأسباب التي ربما تؤدي إلى ظهور نزعات التكفير أو التمهيد للوقوع في التكفير الثرثرة في الأمور الكبرى التي ليست في مقدور الشباب ولا في مقدور العوام، فالثرثرة في هذه الأمور تشحنها، ثم تؤدي إلى سرعة الحكم بالأشياء، مثلاً: الكلام في مصالح الأمة العظمى التي ليست من شأن العوام ولا من شأن الصغار ولا من شأن النساء، فالثرثرة في هذه الأمور تؤدي في النهاية إلى التكفير. ولا شك أن أعظم سبب لوجود التكفير وجود المنكرات والإعراض عن دين الله عز وجل في أكثر البلاد الإسلامية، ولا يشك في هذا ولا يجحده إلا جاهل، لكن هناك بواعث أخرى نعرفها ونستطيع علاجها، وربما يسهم بعضنا فيها وهو لا يشعر، فأنا الآن أتكلم مع طائفة من طلاب العلم، ولست أتكلم للناس جميعاً، فأنا أكلم هذا الصنف لأنهم يدركون هذه الظواهر ويستطيعون علاجها ويرونها في المجتمع، أعني الثرثرة وكثرة الكلام وشحن القلوب، كما تفعل بعض النشرات وغيرها بغير بصيرة وهدى، كالكلام في العلماء، والكلام في الولاة، والكلام في المظالم، فهذه قضايا عامة كبيرة لا تستوعبها عواطف الصغار ولا عواطف النساء ولا عواطف العوام ولا عواطف كثير من أبناء الأمة، فالثرثرة فيها مصائب من ورائها، إلا أنها سمة من سمات كثير من حركات المسلمين المعاصرة، أو سمة من سمات العصر الحديث، فالأسلوب الصحفي ليس مبرر لطالب العلم أن يجاري وينشر بين أهل الخير هذه القضايا، فهي الممهدة للتكفير، وهي الممهدة للعنف. وكذلك الثرثرة في مسائل علمية كبيرة لا يستطيع الناس الحكم فيها، كمسألة الكبائر وحكم أهلها، ومسألة الكفريات وحكم أهلها، والبدع بأشكالها وحكم أهلها، وما يقع في قضايا الحكم بغير ما أنزل الله ونحوها، فهذه قضايا كبيرة لا يستطيعها الصغار ولا الكثير من الناس، فهذه تناقش عند أهل العلم، نعم تبين للناس في الكتب وتبين للناس في المحاضرات، ولكن ببيان يناسب الناس، تبين القواعد والأحكام والأصول، وتبين القضايا الرئيسة التي تناسب عقول الناس، لكن إصدار الأحكام على الأشخاص، وتطبيق الأحكام على الهيئات، وتطبيق الأحكام على الدول، وتطبيق الأحكام على الجماعات في المجالس عند من هب ودب من أسباب ظهور نزعات التشدد والتشنج والتكفير. وكذلك الكلام في مثل البيعة والخروج وإلزام الناس بما لا يلزم، كأن يقال: من فعل كذا فهو مبتدع، ومن فعل كذا فهو فاجر، فتوضع قواعد على غير أصولها، فلذلك كانت سمة أهل العلم أنهم إذا جلسوا في المجالس العامة يقرءون كتباً تناسب العامة، ويطرحون قضايا تناسبهم، ويطرحون أحكاماً تتعلق بأعمالهم اليومية التي يدركونها، أما القضايا العامة الخطيرة -كقضايا التكفير- فلا يتعرضون لها في مثل هذه المجالس. ومن الظواهر المزعجة التي بدأت تكثر في مجتمعاتنا الآن كثرة الثرثرة في القضايا الخطيرة في الأشخاص والهيئات والجماعات وفي مصالح الأمة العظمى مع وجود من ينتسب للعلم، وربما يشارك الناس ويؤيدهم أو يسكت ويصمت في مثل هذه المجالس، ولا يبين ولا يعظ، فيظن الناس أن هذا مشروع، بل ربما يدعي بعض القاصرين ممن ينتسبون للعلم أن هذا مشروع.

الحكم على نيات الناس وما في قلوبهم

الحكم على نيات الناس وما في قلوبهم ومن النزعات التي توصل إلى التكفير: الكلام في نيات الناس، الكلام عن النيات والقلوب، والاستجابة للشائعات، والحكم على أشخاص في أمور لم تثبت أو لم تقم عليهم الحجة فيها، والحكم على المخالف قبل نقاشه، واستعداء الآخرين على المخالف في الرأي، وأرى أن هذه ظاهرة خطيرة، وأظنها من سمات الخوارج، كطالب علم أو إنسان له خلاف مع طالب علم أو مع أحد المشايخ، فيذهب يستعدي المشايخ الآخرين، ويستعدي المجتمع عليه بحجة أن هذا له رأي خطير، فهذه المسألة تؤدي إلى فتنة بين المؤمنين، وهي من سمات الخوارج، فالاستعداء مسألة خطيرة جداً، لا سيما أن أكثر ما يدور بين طلاب العلم والمشايخ من الأمور الخلافية، حتى ما يقال عنه: إنه بدعة، فالاستعداء أرى أنه من الوسائل التي تؤدي إلى التشدد والتشنج وتفريق ذات البين، وشحن قلوب المسلمين بعضها على بعض مما يؤدي في النهاية إلى تكفير بعضهم لبعض، وهذه هي نزعة التكفير عند الخوارج.

السلوك التديني المخالف لما عليه أهل العلم

السلوك التديني المخالف لما عليه أهل العلم ومن النزعات: سلوك مسالك تخالف أهل العلم في التدين، وهذه -وإن كانت أحياناً تحدث عن تورع- تؤدي في كثير من الأحيان إلى غرس مذاهب واتجاهات ربما تصل إلى مذاهب الخوارج أو تصل إلى التكفير، وأعني بذلك الشذوذ عن العلماء وعن جمهور طلاب العلم في قضايا وإن كانت اجتهادية، مثل تحريم بعض الأشياء المباحة أو التي ما حرمها العلماء، كتحريم الدراسة في المدارس، فهذه نزعة قد تجدها عند شخص تورعاً، فهي مسألة تخصه، لكن أن نقول: إنه مبتدع، ويدعو إلى ترك الدراسة، ويصد أبناء المسلمين عنها بدعوى أنها بدعة؛ فهذا يؤدي في النهاية -إذا لم يعالج- إلى مذاهب الخوارج. وكذلك تحريم حمل البطاقات، وتحريم حمل العملة، نعم هناك ناس يتورعون عن هذه الأمور تورعاً، وهذا شيء راجع إليهم وأمرهم إلى الله عز وجل، ونحسبهم -إن شاء الله- من الصالحين، لكن أن يجعلوا هذا ديناً، ويتهموا من خالفهم، وإذا قيل: إن المشايخ أفتوا بضرورة حمل البطاقة التي فيها صورة اتهموا المشايخ؛ فهذا ما أردت أن أنهى عنه. وهذه مجرد أمثلة، وأعود إلى ما بدأت به، وهو أن الكلام بالتكفير أمر ينبغي أن يتفاداه الناس إلا عند الضرورة، وأرى أنه في مثل الأحوال التي نعيشها الآن من الضروري لطلاب العلم أن يبينوا للناس القواعد الصحيحة في التكفير، وأن يجلى الأمر وإن أدى هذا إلى الكتابة في الصحف وإلى استعمال وسائل الإعلام المشروعة وإلى محاضرات وندوات ودورات، فأدعو طلاب العلم إلى مثل ذلك في هذه الظروف؛ لأن الأمر وصل إلى حد الإضرار بالمسلمين، والإضرار بأهل الخير، ووصل إلى حد أن ظهرت ظواهر نخشى أن تكون اتباعاً لما عليه الخوارج، ونحن حديثي عهد بقصص التكفير والهجرة، وبجماعة التبين والتوقف، والسعيد من وعظ بغيره. وهذا اجتهادي، وأسأل الله لي ولكم ولجميع المسلمين التوفيق والسداد والرشاد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

نظرة في واقع صلة الشباب بالمشايخ والعلماء

نظرة في واقع صلة الشباب بالمشايخ والعلماء Q ألا يكون من أسباب التكفير الجوهرية حجب العلماء بأي صورة كانت عن الشباب وعامة المسلمين؟ A هذا الكلام -في الحقيقة- كلام عاطفي، فمن حجب العلماء عن الشباب؟! فهذا الكلام فيه نظر، فالعلماء أبوابهم مفتوحة، ودروسهم وقلوبهم مفتوحة للشباب، نعم هناك بعض الأمور لظروف اقتضتها، حيث أصبح الناس تحكم حياتهم الأساليب الحديثة والعمل الرسمي، فالعمل الرسمي والمواعيد أمور تحكم حياة الناس كلهم، ولكن من حجب الشباب عن المشايخ؟! لا سيما أن الوسائل ممكنة، فالشباب الذين لا يمكنهم الحضور إلى المشايخ يستطيعون أن يسمعوا أشرطتهم، ويقرءوا كتبهم، ويتصلون بهم بالهواتف، ويتصلون بهم عبر تلاميذهم الوسطاء، فالمسألة ليست صحيحة إلى هذا الحد، نعم قد يكون في التفاف الشباب على مشايخهم وعلمائهم صعوبة؛ لأن الظروف اختلفت منذ زمن، ولكن لا نسمي ذلك حجباً؛ لأننا نعرف أن المشايخ ما أوصدوا أبوابهم، والوصول إليهم متاح.

ضابط الولاء والبراء

ضابط الولاء والبراء Q ما الضابط في الشدة في الولاء والبراء؟ A الضابط هو قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، فأنا أردك إلى أمر واقعي جداً، فالمقياس هو تطبيق أهل العلم الراسخين في العلم، فالمعتدلون من أهل التدين هم المقياس.

التحذير من الخوض في القضايا الكبرى

التحذير من الخوض في القضايا الكبرى Q ألا ترى أن كلام بعض الناس في قضايا الأمة العظمى وكبار مسائل العلم نشأ من عدم وجود من يتكلم فيها ومن يوضحها للناس إلى آخره؟ A نعم. هذا السؤال وجيه لكنه غير صحيح، أنا لا أقول: إن طلاب العلم يستطيعون أن يحجروا على الناس ألا يتكلموا، الناس الآن عودهم الإعلام وعودهم الواقع وعودهم اختلاطهم بالأمم بأن يثرثروا فيما يشاءون، لا، الذي أنا أتكلم فيه هو الثرثرة باسم الدين وباسم الشرع، وباسم طلاب العلم، وأن يتصدر ذلك ناس من المربين للشباب، من الدعاة، من طلاب العلم، أن يجعلوا ذلك منهجاً لهم، أما أن نكمم أفواه الناس أو نستطيع أن نتحكم في ألفاظ الناس هذا أمر لا نستطيعه، لكن أن يكون ذلك حسبة، وأن يكون هذا منهجاً لبعض طلاب العلم يربون عليه العوام ويربون عليه الشباب هذا هو الذي أنا أنكره، فيجب على طلاب العلم أن يبينوا، وإلا فمن الأصل حتى في تاريخ الإسلام القديم والعوام إذا تحدثوا بحديث يتكلمون في كل شيء، وقد يعزلون وينصبون ما لنا ولهم؟! العوام يجروننا إلى أن نتبنى مناهج خاطئة! حتى كثير من المثقفين وكثير من الأدباء وغيرهم ممن لم يلتزموا الشرع قد يثرثرون في هذه الأمور، ما لنا وما لهم؟! الواقع لا يفرض نفسه علينا، ولا يجعلنا نتخطى المنهج السليم، أنا أقول: يجب على طلاب العلم أن يبينوا للناس أن هذه الأمور يجب ألا يتكلم فيها إلا أهلها وأن لا يجاروهم، وإذا اجتمعوا في المجالس يذكروهم بهذا الأمر، ويناصحونهم بأنه لا يجوز، وأنتم اشتغلوا فيما يسعكم وفي ذكر الله وما والاه، إلى غيره من الأمور التي تهم الناس. إذاً: أنا أقول: فرق بين الواقع وبين مجاراة الواقع، أما أن يكون نشأ من عدم وجود من يتكلم فيها ويوضحها فهذا ليس صحيحاً على إطلاقه، وكنت أتمنى أن أكثر طلاب العلم إذا حضروا مثل هذه المجالس -كما قلت- أن يقرروا الأصول، لكن الحاصل أحياناً غير ذلك، وهذا ما أقصده، أنه أحياناً يحصل غير ذلك، أن طالب العلم يجاري مثل هذا الحديث ويشارك فيه ويكون له رأي يثرثر مع المثرثرين، هذا هو الذي أنا أخطئه وأرى أنها سمة ظاهرة، أنا لا أتكلم عن ظواهر أو أمور قد تحدث من شخص أو شخصين، أقول: إنها ظواهر كثيرة يعلمها الكثير من طلاب العلم فيجب علاجها، أما أن نتحكم في الناس أو نضبطهم هذا أمر قد لا ندركه، فالأمر لله من قبل ومن بعد، قد لا نستطيع، لكن نعمل ما يسعنا ولا نقع في الخطأ مجاراة للناس والله أعلم.

الموقف من نشر قواعد التكفير في أوساط الشباب

الموقف من نشر قواعد التكفير في أوساط الشباب Q إيضاحك لقواعد التكفير مهمة يحتاج إليها كثير من الشباب المسلم، ما رأيك لو تم تعميمها بأي وسيلة؟ A سبق أن تكلمت في هذا الموضوع بقريب من هذا الكلام منذ خمس سنوات ومنذ سنتين ومنذ ثلاث سنوات، وبعض الكلام نشر لكن على غير هذا التصعيد أو على غير هذا السياق، وبعض هذا الشيء يوجد ضمن كتاب الخوارج الذي صدر أخيراً في (سلسلة الأهواء) الحلقة الرابعة، كما يوجد ضمن كتاب جديد اسمه (من قضايا الصحراء)، الفقرة الأخيرة منه في هذا الموضوع، طبعاً السلسلة مناسبة للعامة، أنا أتكلم الآن في مجلس أنا أقول: إنه من المجالس الخاصة، كلامي هذا لا أرى أنه ينشر إلا بتقعيد وتفصيل وعرض على المشايخ وأهل العلم، بتقعيد وتفصيل وببيان وبأسلوب يناسب عامة المخاطبين، لا يعني هذا أن ما أقوله لكم لا أرى أن يثار، لا، أرى أن يثار لكن يثار بما يناسب الناس، ما هو بكلام خاص، لكن التعبير والتقعيد الذي ذكرته أنا أظنه لا يناسب إلا أمثالكم من طلاب العلم. وأما بالنسبة لصياغة مثل هذه الأمور بالأسلوب الذي يناسب عامة الناس فكما قلت، أنا بدأت به على شكل معالجات مناسبة في كتاب الخوارج وفي الكتاب الآخر، وربما إن شاء الله إذا تهيأ وقت، وإذا رأيت أن هذا مناسب بعد استشارة أهل العلم ومشايخنا الكبار أن مثل هذا الأمر ممكن أن ينشر؛ فلا حرج عندي

بيان معنى قول الشاطبي: (الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال)

بيان معنى قول الشاطبي: (الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال) Q يقول الشاطبي في (الاعتصام): إن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال، كيف والكافر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار، ويرمي مخالفه به، ولو تبين له وجه لزوم الكفر من مقالته لم يقل بها على حال. فما معنى ذلك؟ A الذي فهمته أن قصد الشاطبي رحمه الله أن التكفير باللوازم أو التكفير بما يئول إليه القول لا يعني بالضرورة أن يكون كفراً من كل الوجوه، أو يكفر به صاحبه، لا سيما وأنه ينكر ذلك، ومثال ذلك أن تعطيل أسماء الله كفر، فلو فرعنا على هذه المسألة لقلنا: إن المؤول الذي أول صفات الله عز وجل يئول قوله إلى التعطيل، فهل يكون قوله كفراً لمجرد أن قوله يئول إلى التعطيل وهو قد لا يلتزم ذلك أو لا يعتقده؟! و A أنه لا يلزم كل من قال بالتأويل -مع أن قوله يئول إلى التعطيل- أن يكون قوله كفراً ولا أن يكون كافراً، هذا ما فهمته من العبارة.

نظرة في كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي

نظرة في كتاب الاعتصام للإمام الشاطبي Q هل على كتاب الاعتصام ملاحظات؟ A كتاب الاعتصام في الجملة من أجود الكتب التي رسمت المنهج في كثير من مسائل العقيدة، خاصة فيما يتعلق بالأهواء والافتراق ونحو ذلك، وأغلب ما فيه يوافق منهج السلف، وصاحبه حريص على التزام منهج السلف الصالح، وقد وفق في كثير من الأمور في استقراء منهج السلف وتقعيده ووضعه على شكل مناهج وقواعد وأصول يمكن أن تكون مرجعاً لطلاب العلم، ومع ذلك فيه بعض المسائل التي خالف فيها السلف، لكنها مسائل معدودة هي أشبه بالزلات، ولا تدخل في المخالفات المنهجية، مثل مخالفته للسلف في مسألة التحسين والتقبيح، ومثل موافقته لبعض المتكلمين في بعض المسائل في الصفات وغيرها، فعنده بعض الأشياء التي هي أشبه بالاجتهادات التي لا تصل إلى حد أن نقول: إنه فارق أهل السنة في هذه الأمور أو في بعضها، فعنده زلات أشبه بزلات بعض الأئمة الذين خالفوا السنة ويعدون من أهل السنة ووافقوا المتكلمين في بعض المسائل أمثال النووي والبيهقي ونحوهما.

بيان مدى صحة القول بكفر من لم يكفر الكافر

بيان مدى صحة القول بكفر من لم يكفر الكافر Q ما رأيك في قول القائل: من لم يكفر الكافر فهو كافر؟ A هذه مقولة ليست صحيحة، بل لا يقول بها إلا صاحب هوى أو جاهل؛ لأن هذه الكلمة مطلقة تحتاج إلى قيود كثيرة، وإطلاقها بهذه الصورة لا يستقيم مع القواعد الشرعية؛ لأن جملة (من لم يكفر الكافر فهو كافر) فيها حكم على الناس بالمجازفة، نعم هناك أمور لا شك أنها قد تنطبق على هذه القاعدة، لكن يجب أن يعبر عنها بغير هذا التعبير، فالكفار من اليهود والنصارى والمشركين لا شك أنهم كفار، ولا أظن مسلماً يجادل في ذلك، ومن تردد في هذا فهو إما جاهل وإما صاحب هوى ربما يكفر بذلك. فهذه العبارة بهذا الحال مطلقة لم تقيد؛ مع أن هناك من يكون كفره كفراً عملياً، أو كفراً أصغر، أو كفراً في الخصال وليس كفراً في الاعتقاد، يعني: فيه خصلة كفر، فلا يصح أن نقول: من لم يكفره فهو كافر، فكل أصحاب المكفرات الذين لا يخرجون من الملة لا يصح في حقهم إطلاق أن من لم يكفرهم فهو كافر، وأكثر أنواع الكفر بين أهل القبلة من النوع الذي لا يخرج من الملة، مثل قتال المسلمين حيث سماه النبي صلى الله عليه وسلم كفراً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، وهذا كفر عملي غير مخرج من الملة، وكذلك تصديق الكاهن، وكذلك في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله في مسائل كثيرة هي كفر دون كفر، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكرها في أحوال الكفر، والذي يطلق عليه الكفر منها لا يعني أن فاعلها كافر خارج من الملة، ولا أنه ليس من المسلمين، إنما هي من كبائر الذنوب التي تسمى كفراً من باب التغليظ أو من باب الكفر المجازي كما يقول بعض أهل العلم، أو من باب الكفر العملي غير الاعتقادي، أو الكفر بمعنى المعصية، وكل هذه ألفاظ صحيحة. فهذه الكلمة على إطلاقها لا تصح، لا سيما في هذه الظروف وهذه الأيام التي كثر القول فيها، ووجد من الجهلة من يقول بمثل هذه اللوازم الخاطئة، أنه من لم يكفر الكافر فهو كافر، فالمهم أن القاعدة فيها نظر، وتحتاج إلى تفصيل، وأكثر من يطلقونها يطلقونها على معنى غير صحيح.

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة Q هل تارك الصلاة يكفر وإن كان يعتقد وجوبها؟ A هذه المسألة فيها خلاف كثير بين أهل العلم، فهل تارك الصلاة إذا كان يعتقد وجوبها وتركها كسلاً وتهاوناً يكفر كفراً يخرج من الملة أم لا؟ فالصلاة خصت بنصوص كثيرة في مسألة تاركها؛ لأنه وردت أحاديث كثيرة في كفر تارك الصلاة والتغليظ في ذلك، فلذلك اختلف أهل العلم، فمنهم من يقول: إن من تركها وداوم على تركها كافر، وكفره يخرج من الملة، وتترتب عليه أحكام الكافرين حتى وإن لم نتبين اعتقاده، ومنهم من قال: لا شك أن تركها من أعظم الذنوب، وأن من تركها متهاوناً يرتكب ذنباً عظيماً، لكن ما دام يعتقد أنها واجبة فلا يخرج من الملة، والذي عليه أغلب المحققين أن من ترك الصلاة بالكلية فلم يصلها أبداً؛ فإن هذا قرينة على أنه معرض عن شرع الله عز وجل وعن دينه؛ لأن الصلاة أعظم شعائر الدين، وأنه بذلك تجري عليه أحكام الكافر الخالص، والله أعلم.

شرح العقيدة الطحاوية [67]

شرح العقيدة الطحاوية [67] إطلاق التكفير في المسائل والأحكام الغامضة يحتاج إلى مراعاة الأحوال والزمان والمكان، كما أن التكفير العام يختلف عن تكفير المعين، فالمعين لابد من توافر الشروط وانتفاء الموانع في حقه حتى يكفَّر، كما أن الأحكام على الفرق والطوائف تحتاج إلى معرفة تامة بأصولها وأدلتها، ومراعاة مآلات الأحكام الناتجة عن ذلك.

البدع من جنس الذنوب في التكفير ببعضها وامتناعه ببعضها

البدع من جنس الذنوب في التكفير ببعضها وامتناعه ببعضها قال المصنف رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا: أن البدع هي من هذا الجنس]. يعني: من جنس الذنوب والكبائر، وإن كانت البدع أغلظ ولا شك، لكن عند التفصيل لا تخرج عن جنس الذنوب، فالبدع منها صغائر ومنها كبائر ومنها مكفرات ومنها مخرجات عن الملة. قال رحمه الله تعالى: [فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً، لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً]. ولذلك ما كفر السلف أهل البدع المؤولة، مثل أكثر المعتزلة وبعض الجهمية والخوارج وأصحاب البدع العملية الذين لا يرتكبون الشركيات، هؤلاء لم يكفرهم السلف مع أنهم بدعوهم وهجروهم وتكلموا فيهم وقبحوا أعمالهم، وأمروا بتعزيرهم أحياناً، ومع ذلك لم يكفروهم. قال رحمه الله تعالى: [فلا يقال: إن إيمانه حبط بمجرد ذلك، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة، ولا نقول: لا يكفر، بل العدل هو الوسط، وهو أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول أو إثبات ما نفاه، أو الأمر بما نهى عنه أو النهي عما أمر به؛ يقال فيها الحق، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص، ويبين أنها كفر، ويقال: من قالها فهو كافر، ونحو ذلك، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفوس والأموال، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها].

أثر اختلاف الأحوال على التكفير في المسائل الواضحة

أثر اختلاف الأحوال على التكفير في المسائل الواضحة مسألة التكفير في المسائل الواضحة غير التكفير في مسائل غامضة، وفرق بين من تعمد اعتقاداً مخالفاً في المسائل الواضحة، مثل مسألة القول بخلق القرآن أو نفي الرؤية، وبين الأمور التي ليست واضحة، ولذلك فإن مما ينبغي أن يراعى في مسألة إطلاق الأحكام على الناس اختلاف الظروف واختلاف الزمان والمكان. فعلى سبيل المثال: مسألة القول بخلق القرآن، ففي القرن الأول ما كانت تثار هذه المسألة، لكن في القرن الثاني والثالث اتفق السلف أو كانوا على ما يشبه الإجماع على أن القول بخلق القرآن كفر، وأن إنكار الرؤية كفر؛ لأن هذا من قطعيات الدين، وصار من المعلوم من الدين بالضرورة؛ لأن الحجة قامت فيه على الناس في ذلك الوقت، لكثرة الكلام فيه، فالكلام فيه دخل كل بيت وكل حجر ومدر، وأصبح قضية القضايا، خاصة في القرن الثالث، لا سيما في عهد المأمون ومن بعده، حتى امتحن العامة فيها، فتكلم السلف في ذلك فوق المنابر وفي كل مجال وفي كل مناسبة، فكانت الحجة فيها قائمة، فتقرر هذا الأصل وبقي أصلاً واضحاً إلى اليوم؛ فصارت قضية القول بخلق القرآن من القضايا الخطيرة التي يعلمها أهل العلم جميعاً. لكن لو افترضنا -وهذا ما أردت أن أقوله، وأرجو أن يفهم على وجهه الصحيح- أن إنساناً عامياً لم يسمع بهذه المسألة أبداً، ثم جاءه متحذلق من بعض المفتونين يختبره ويمتحنه، يقول: ما تقول في القرآن؟ فأجاب عن جهل بمثل قول الجهمية، فهل نكفِّره لأول وهلة؟ A لا، بل يعلم، ولا شك أنه إذا كان مسلماً مؤمناً أخذ الحق بدليله. وكذلك الرؤية، فهي من الأمور الواضحة عند أهل العلم، وكانت في أصل إثارتها من القضايا البدهية؛ لأنها تثار عند العوام وعلى المنابر وفي كل مكان. على أي حال فقد أردت بهذا التنظير لأمر مهم، وهو قضية التكفير، ليس كل أمر يستفاض التكفير فيه يكفر فيه الناس، وهذا ما أردت أن أقوله أن الناس بحسب الزمان والمكان وبحسب الظروف والملابسات، فقد يأتي يوم من الأيام ينسى فيه الكلام في بعض قضايا العقيدة، فلا يتكلم فيها إلا خاصة العلماء، فالناس يعذرون إذا جهلوها، ولا يكفرون إذا خالفوها؛ لأنه ليس قصدهم المخالفة في قلوبهم، لا سيما إذا كانت من الأمور العلمية وليست من الأمور البدهية الفطرية، ولا شك أن مثل مسألة الرؤية والكلام ليست من الأمور البدهية الظاهرية، إنما هي من الأمور العلمية، وإن كان اتضح فيها القول بحمد الله، وأصبح الناس كلهم يعرفون القول فيها أو أغلبهم، لكنها مع ذلك تعتبر من الأمور التي تحتاج إلى تعلم؛ لأنها غيبية توقيفية، وليست فطرية عقلية.

التضييق في تكفير المعين

التضييق في تكفير المعين قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة حتى اتفق رأيي ورأيه: أن من قال بخلق القرآن فهو كافر. وأما الشخص المعين إذا قيل: هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة]. هذا الكلام مبهم مجمل، فقوله: [إلا بأمر تجوز معه الشهادة] كلام مبهم، يقصد به أنك لا تشهد على المعين إلا بأمر تستطيع أن تشهد به، كما تشهد عند القاضي في أمر من الأمور الثبوتية، بمعنى أنك لو استشهدت على شخص لم تره ولم تسمعه لكن سمعت عنه ما قيل فيه، فهل تشهد عليه بمجرد قول الناس عند القاضي؟ A لا تشهد، وكذا مسألة تكفير المعين، فمهما قال الناس فيه ومهما نقل عنه يجب ألا تشهد إلا بعلم، والعلم لا يتم إلا بتوافر الشروط وانتفاء الموانع، أن تقيم الحجة على الشخص، وتسمع منه، أو ترى منه، ثم تتأكد من أنه ليس متأولاً، وأنه ليس بمكره، وأنه ليس بجاهل في أمور تستوضحها بنفسك، وما لم تستوضح بنفسك فلا تأخذ بأحكام الناس وأقوال الناس في المعين، إلا ما كان عن طريق الاستفاضة عند أهل العلم الموثوقين الراسخين الذين يقيمون الحجة، فهذا أمر يمكن أن تتبع فيه غيرك، بمعنى أن تقول: أقول ما يقوله العلماء، وتسند الأمر إلى العلماء، لكن أن تشهد بشهادة غيرك فلا، فالأمر المستفيض في الحكم على المعين إذا كنت لا تعرفه تقول فيه: أنا لا أخرج قولي عن قول أهل العلم، ومع ذلك لا أشهد بنفسي؛ لأنه ما توافرت عندي شروط الشهادة، أما من لم يستفض خبره -وأغلب أحكام الناس على ما لم يستفض- فهذا أمر لا يجوز الكلام فيه بتكفير المعين أبداً. وقد ذكرت في قواعد سابقة أن تكفير المعين ليس في مقدورنا، بل ليس من حق كل شخص أو كل طالب علم، ولا يتم ذلك إلا ممن يملكون الاجتهاد وإقامة الحجة والقدرة العلمية ثم الرسوخ والاستعداد وتوافر الشروط في الحكم على المعين، فالحكم على المعين لا يأتي بمجرد اجتهاد فرد أو فردين أو ثلاثة في مسائل معينة إلا في أمور محدودة يعرفها أهل العلم، أما فيما يتعلق بما يحدث بين الناس الآن وقبل الآن فأكثره مما لا تتوافر فيه الشروط، وأكثره من القول بالظن والرجم بالغيب. قال رحمه الله تعالى: [فإنه من أعظم البغي أن يُشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار]. هذه لوازم التكفير، وهي لوازم شرعية وليست لوازم عقلية، فهي لوازم شرعية صحيحة، بمعنى أنه من أعظم البغي أن تكفر الشخص بغير علم؛ لأنك إذا كفرته فكأنك قلت بأن الله لا يغفر له إذا مات على ذنبه، ولا يرحمه؛ لأن الكافر لا تشمله رحمة الله عز وجل إلا إذا تاب، وكذلك إذا حكمت بالكفر على الشخص ومات على ذلك فقد حكمت بتخليده في النار، فهذه أمور كلها خطيرة جداً، تدل على خطر الكلام في التكفير. قال رحمه الله تعالى: [فإن هذا حكم الكافر بعد الموت؛ ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب: (باب النهي عن البغي) وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر. فوجده يوماً على ذنب فقال له: أقصر، فقال: خلني وربي، أبُعثت علي رقيباً؟! فقال: والله لا يغفر الله لك. أو: لا يدخلك الجنة، فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً؟! أوكنت على ما في يدي قادراً؟! وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي، وقال للآخر: اذهبوا به إلى النار، قال أبو هريرة رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته) وهو حديث حسن]. هذا الحديث لا شك أن فيه مواطن عبرة، وفيه أيضاً قاعدة عظيمة من قواعد الشرع يجب أن يلتزمها المسلمون وطلاب العلم بالخصوص، وهي أن مسألة الحكم على الناس مسألة غيبية، لا سيما أن أغلب الأحكام تتعلق بالقلوب، والظواهر ليست دليلاً على البواطن دائماً، هذا أمر. الأمر الآخر أنه لا ينبغي للإنسان أن يتعدى حدود ما كلفه الله به في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم على إقامة الحجة وعلى العمل بما يجب شرعاً من تعزير وغيره للوالي أو من ينوبه، لكن لا يصل إلى حد القول على الله فيما يتعلق بمصائر العباد، وأن المذنب مهما أذنب فإنه ما دام له في الله تعلق وله في الله رجاء يرجى له الخير ويرجى له أن يرحمه الله تعالى مهما بلغت ذنوبه، ولا ينبغي لأحد من الناس أن يتألى على الله عز وجل، وقد يكون هذا الذي على العبادة قال هذا الكلام غاضباً، لكن ينبغي ألا يؤدي الغضب بالإنسان إلى أن يتجاوز الحدود الشرعية، فلا شك أن مثل هذا قد يقال: إنه موقف استفزاز؛ لأن هذا المذنب استفز هذا الناصح فجعله يقول هذا القول حينما أصر على الذنب، نقول ومع ذلك فالمسلم يجب عليه أن يضبط نفسه في هذه ا

إقامة الحد في الدنيا مبني على الظاهر دون الحكم على مصائر العباد

إقامة الحد في الدنيا مبني على الظاهر دون الحكم على مصائر العباد يجب على المسلمين تجاه إقامة حدود الله عز وجل وإقامة شرعه أن يعملوا بالظواهر، لكن لا ينسحب هذا الحكم على القلوب أو على مصائر العباد، فالقلوب ومصائر العباد أمور غيبية ولن تقوم القرائن عندنا إلا باستنفاذ جهد كبير، ولا يمكن أن يكون بمجرد التعامل العادي، فالسلف كانوا يفرقون بين إجراء الحكم على الظاهر وما يترتب على ذلك من أمور في تعامل الناس بعضهم مع بعض، وبين الجزم بما في قلب الشخص، فالجزم أمر لا يستطيع الناس أن يتناولوه، اللهم إلا إذا توافرت أمور مثل التصريح بالردة عن الإسلام أو نحو ذلك، هذا أمر مفروغ منه، لكن الكلام فيما يتعلق بالظواهر فقط، يعني: قد يظهر لبعض الناس أن أحد المذنبين كثير الفجور كثير الأعمال الخبيثة، وكثيراً ما يعرض عن بعض الخيرات، فيعتبر هذه قرائن على أنه خبيث النية، ومع ذلك لا يجزم بخبث هويته، ولذلك كان المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تجرى الأحكام عليهم بحسب ظواهرهم، وكان المسلمون يعاملونهم بأحكام المسلمين، ومع ذلك هم منافقون في الحقيقة، ولكن لا يعلم نفاقهم إلا الله عز وجل ومن أطلعه الله، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أطلعه ربه على بعض المنافقين، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أطلع حذيفة على بعض المنافقين. وهذا أمر انقطع الآن، فلا يقل أحد من الناس: إنه يعلم الباطن، إذاً يجب أن نفرق بين الحكم بالظاهر وبين الحكم على القلوب، فالحكم على القلوب صعب، ولا يصح إلا بأمور علمية شرعية لا بد من أن تتوافر فيها شروط، وأن تنتفي فيها موانع، وهذا من أكثر الأمور التي يخلط فيه الناس اليوم ويجهلونها.

التفريق بين كفر العمل وتكفير فاعله

التفريق بين كفر العمل وتكفير فاعله قال رحمه الله تعالى: [ثم إذا كان القول في نفسه كفراً قيل: إنه كفر، والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع]. يقصد بذلك أنه يفرق بين كون العمل أو القول كفراً، وبين الحكم على من يفعل، فمسألة أن القول أو العمل كفر سهلة؛ لأن النصوص واضحة فيها، أما أن من فعل أو قال الكفر يكفر لأول وهلة فلا، إذ الغالب أن المسلمين الذين يقعون في الأمور الكفرية لا يكفرون؛ لأنه يكثر فيه من الجهل، ويكثر فيه التأول، وقد يحصل فيه الإكراه، ويكثر فيهم التقليد، فالحكم بأن شيئاً من الأشياء كفر بمقتضى النص الشرعي سهل، وتأويله سهل في النصوص الشرعية، لكن ليس كل من فعله أو قاله يكفر إلا بشروط وانتفاء موانع، وهذه الشروط لا توكل إلى كل من ادعى العلم وهو ليس من أهله الراسخين، بل لا بد من توافر القدرة وتوافر الحجج والعلم الراسخ.

أصناف الخلق في الإيمان والكفر

أصناف الخلق في الإيمان والكفر قال رحمه الله تعالى: [ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً، فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون منافقاً زنديقاً، وكتاب الله يبين ذلك، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف: صنف كفار من المشركين ومن أهل الكتاب، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين]. وهؤلاء كفرهم ليس محل نقاش، وهذه المسألة يجب أن تكون واضحة ويجب أن توضح للناس، لأن هناك من بدأ يخلط في هذه المسائل ويلبس على الناس بدعوى أنه لا يجوز أن يكفر المعين، فيفتن الناس بكافر يهودي أو نصراني أو مشرك ويقول: لا نستطيع أن نكفره! فمن كان يهودياً أو نصرانياً مشركاً لا يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو كافر، وهذه مسألة مفروغ منها وليست محل نقاش، وليست هي التي قررها أهل العلم في كتبهم، فكل ما قاله أهل العلم في تكفير المعين يخص تكفير أهل القبلة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين إلى يومنا هذا، ولا ينطبق على الكفار الخُلّص، فهؤلاء مفروغ منهم. قال رحمه الله تعالى: [وصنف: مؤمنون باطناً وظاهراً، وصنف أقروا به ظاهراً لا باطناً]. الصنف الأول معلوم، وليس محل جدال، والصنف الثاني أيضاً معلوم، وهم المسلمون الذين يظهرون شعائر الإسلام، يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيمون شعائر الدين، ويظهرون الإسلام ويحبون الله ورسوله، هؤلاء لا شك أنهم مسلمون، ولا نستطيع أن نخرجهم من الملة إلا بمخرج قطعي، حتى وإن ارتكبوا آثاماً وارتكبوا مظالم وارتكبوا معاصي وارتكبوا بدعاً، إلا البدع الشركية. أما الصنف الثالث فهو الذي يخفى أمره، وهم المنافقون، فالمنافق حكمه الظاهر هو الإسلام إذا ادعى الإسلام، وحكمه الباطن إلى الله عز وجل، ولا نستطيع أن نقول فيما في قلبه شيئاً، فهؤلاء يعلمهم الله عز وجل، ونحن لا نعلمهم، لكن قد تتوافر عندنا قرائن على أن الإنسان فيه نفاق تكثر أو تقل، قد تظهر عليه علامات النفاق والزندقة، ولكن مع ذلك لا نقيم عليه الحكم والحجة إلا بقرينة، كإقرار أو نحو ذلك مما يعرفه أهل العلم. قال رحمه الله تعالى: [وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة، وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين فإنه لا يكون إلا زنديقاً، والزنديق هو المنافق]. من العلامات التي يمكن نعرف بها الزندقة والنفاق مثل من يسب الله عز وجل أو يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يهين المصحف، أو نحو ذلك من الأعمال الشنيعة التي ليس فيها احتمالات، فهذه لا شك أنها تدل على الزندقة والكفر القطعي، وتدل على النفاق. وأما الساحر فيقتل لسحره وفتنته وفساده في الأرض، قد يكون كافراً، وقد لا يكون كافراً في مسألة ما منه، وأغلب السحرة وقعوا في الكفر، وبعض السحرة يمارس الدجل ويفتن الناس طمعاً في الدنيا أو الشهرة، فإذا عمت فتنته فإنه يقتل لفساده في الأرض، وقد يقتل أكثر السحرة لكفرهم؛ لأن أغلب السحرة يقعون في الكفر؛ لأنه لا يمكن أن ينالوا السحر -في الغالب- إلا بالوقوع في الكفريات من الشركيات وغيرها، ومع ذلك يكف شره عن المسلمين ولو بالقتل؛ لفساده في الأرض، ولذلك قال بعض أهل العلم: إنه لا يستتاب، بل مجرد الفساد في الأرض يكفي، وقد لا يكفر، وأمره إلى الله عز وجل، فليست الحدود دائماً تبنى على ضرورة الوقوع في الكفر، لذلك فالبغاة إذا بغوا على المسلمين أو أثاروا فتنة في الأرض يقتلون لمجرد أنهم أثاروا الفساد في الأرض والفتنة، وكذلك قطاع الطريق، فقطاع الطريق قد يكونون من المسلمين، لكن غلبتهم شهواتهم وشقوتهم فقطعوا السبيل، فإذا قدر عليهم قبل أن يتوبوا فإنهم يقتلون.

لازم القول بتكفير قائل البدعة

لازم القول بتكفير قائل البدعة قال رحمه الله تعالى: [وهنا يظهر غلط الطرفين؛ فإنه من كفّر كل من قال القول المبتدع في الباطن يلزمه أن يكفّر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله، ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين، كما ثبت في صحيح البخاري عن أسلم مولى عمر رضي الله عنهما عن عمر رضي الله عنه: (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوماً فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنه؛ فإنه يحب الله ورسوله)]. هذا من النصوص التي لا يطيقها الخوارج وأمثالهم، ويضيقون بها ذرعاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم شهد لهذا الرجل مع أنه حد في كبيرة من الكبائر بأنه يحب الله ورسوله، فينبغي للمسلمين أن يقتدوا بمثل هذه النصوص الجامعة الحاكمة، فهذا من النصوص الحاكمة التي تعطي التوازن، ويجب أن يرجع إليها الناس في مسألة الوعد والوعيد، فإن هذا الرجل اجتمع فيه تحقيق الوعيد والوعد له من النبي صلى الله عليه وسلم، فنفذ في هذا الرجل الحد في الدنيا بأن جلد، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالاً بجلده، وفي نفس الوقت شهد له بالإيمان، إذاً: مثل هذا النص يمثل القاعدة التي يجب أن يحتذيها المسلمون جميعاً في الحكم على أهل القبلة، حتى في مسألة الولاء والبراء، فالقاعدة الشرعية أنك تحب المسلم بقدر ما فيه من الخير والفضيلة، وبقدر ما يظهر منه من الطاعات، وفي الوقت نفسه تكرهه بقدر ما يظهر منه من المعاصي، فإذا كان هناك من المسلمين من فيه معاص وفيه بعض مظاهر الخير تحبه بقدر ما فيه من الخيرات وتكرهه بقدر ما فيه من الشر، فيجتمع الحب والبغض والولاء والبراء في الشخص الواحد، وهذا أمر بدهي ضروري، فإذا أخذنا الأمور كلها بحزم فمن الذي نزكي؟! ولو أن طائفة زكت فلاناً وأخرى لم تزكه فإن الفتنة تقع في الأرض.

الموقف من زلات العلماء وبيان انتحال الفرق المخالفة لأئمة الدين

الموقف من زلات العلماء وبيان انتحال الفرق المخالفة لأئمة الدين قال رحمه الله تعالى: [وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج، ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة، بل بفرع منها؛ ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير]. يقصد بذلك أن بعض العلماء قد تكون منه زلة يوافق فيها بعض أهل البدع أو أهل الأهواء عن اجتهاد أو عن تأويل، أو لعدم بلوغ الدليل أو نحو ذلك، فهذه الزلة يجب ألا تقلل من قيمة العالم، ويجب ألا نتبعه فيها، ثم إن هذه الزلات صارت من أسباب الفتنة عند أهل الأهواء؛ لأن أهل الأهواء كل منهم الآن يزعم أن له سلفاً من خيار هذه الأمة، ذلك أنهم يلتقطون الزلات من العلماء فيجعلونها مرتكزاً لأهوائهم، وهذا ما عليه كثير من أهل الأهواء في كل زمان، فكل من كان له هوى تجده يلتقط من زلات العلماء في التاريخ ما يوافق هواه فيفتن به الناس، وهذا كثير جداً، وليس في أهل البدع فقط، بل في بعض أهل السنة، فحينما تحدث بينهم بعض الخلافات والفتن في بعض الظروف تجد منهم من يبحث عن بعض المواقف وبعض الأقوال وبعض الزلات للعلماء لتأييد هواهم، وقد يشعر بذلك وقد لا يشعر. فأقول: إن كثيراً من أهل البدع وأهل الأهواء قد يحتجون بزلات العلماء من المعاصرين والأولين، الأموات والأحياء، وهذه مسألة يجب أن يقعد لها طلاب العلم ويتبصروا فيها، لا سيما أنها تحصل الآن من كثير ممن سببوا وقوع الكثير من الناس في الأهواء والفتن لعدم معرفتهم بالأصول الشرعية. ويكفينا أن نضرب مثلاً لما وقع من أهل الأهواء بالفرق الكبرى في اتكائها على بعض الزلات التي وقعت من بعض العلماء، فمثلاً: المعتزلة يزعمون أن لهم سلفاً من الصحابة، وهم أولئك الذين اعتزلوا الفتنة، لمجرد الاشتباه في اللفظ فقط، أخذوا اللفظ وجعلوه موطن فتنة للمسلمين، فزعموا أن الاعتزال هو مذهب أولئك الذين ما شاركوا في الفتنة بين الصحابة، ففهموا أن هؤلاء هم أصل المعتزلة، وأنهم أقرب إلى الحق لأنهم ما وقعت ألسنتهم ولا أيديهم في الفتنة، وصاروا هم أزكى الأمة، فزعمت المعتزلة أنها أزكى الأمة، ثم جاء الشيعة المتأخرون فزعموا أن لهم سلفاً من الأمة، فقالوا: كانوا على التشيع سفيان الثوري وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي والحاكم وعبد الرزاق الصنعاني، قالوا: إن هؤلاء فيهم تشيع، إذاً: التشيع موجود في السلف، وهكذا تجد أن كل مبطل يدعي أن له من هذه الأمة سلفاً، والآن كثرت البلوى بهذه الأمور، الأمر الذي يوجب على طلاب العلم أن يحرروا هذه المسائل ويبينوها للناس ويعطوا الناس المفاهيم والموازين، وكيف توزن أعمال السلف أنفسهم على ضوء قواعدهم؛ لأن السلف وضعوا قواعد بعضهم قد يخالفها لا عن قصد، لكن عن اجتهاد، فالعبرة بالمناهج والقواعد والأصول وليست بمفردات التصرفات، فالعبرة في أخذ منهجهم هي بما قالوه وما قرروه في جملتهم من مناهج وأصول، وليست العبرة بمفردات سلوكهم، وإن كان سلوكهم في الجملة لا شك أنه على هذه الأصول، لكن أقصد أنه قد تحدث بعض المواقف وبعض الأقوال وبعض الكلمات التي تخالف الأصل، فيأتي من هو مفتون أو جاهل فيأخذ هذه الكلمات فيقررها أصلاً خلاف الأصل الأول الذي اعتمد عليه السلف، وأنا أدعي أن أكثر السلف الذين وقعوا في بعض المواقف أو خرجت منهم بعض الكلمات التي هي خلاف منهج السلف حينما ألفوا التزموا منهج السلف في المسألة التي خالفوا فيها عن اجتهاد، وهذا يجعل في مجموع الأمة العصمة، وليس في مفردات تصرفاتهم. قال رحمه الله تعالى: [فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفِّرون].

ما وصف بالكفر من الذنوب التي لا تخرج من الملة

ما وصف بالكفر من الذنوب التي لا تخرج من الملة قال رحمه الله تعالى: [ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه الله تعالى، وهو: أن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفراً، قال الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)]. هذه الفقرة يمكن أن نضع لها عنواناً فنقول: المسائل التي ورد وصفها بالكفر وهي لا تخرج من الملة، أو: الأمور التي ورد وصفها بالكفر وهي لا تخرج من الملة، أو: الكبائر التي سميت كفراً، أو: نماذج من الكفر الأصغر، أو: نماذج من الكفر العملي، أو: المعاصي المكفرة التي لا تخرج من الملة. وكل النماذج التي جاء بها الشيخ من النصوص أكثر أهل العلم على أنها لا تخرج من الملة، وقد يكون منها صور مخرجة، لكن ليست هي الأصل، فالأصل في هذه الأمور أنها ليست مخرجة من الملة، وهذا ما عمله سلف الأمة؛ لأن أكثر السلف كانوا يضربون هذه الأمور أمثلة على أنه ليس كل كفر مخرجاً من الملة. فالصحابة والتابعون وأئمة السلف ثم الأئمة الذين كتبوا وصنفوا في العقائد فيما بعد كلهم عندما يتناولون هذه المسألة يقررون أن من الكفر ما لا يخرج من الملة، وهو بمثابة الكبائر أو عظائم الذنوب، ثم يضربون أمثلة عليه بهذه النصوص، وهي نصوص ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كثيرة جداً، فكثير مما وصفه القرآن بأنه كفر أو وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه كفر من أعمال المسلمين أهل القبلة ليس من الكفر المخرج من الملة. فأغلب ما ورد في القرآن الكريم وما ورد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وألسنة الصحابة وأئمة التابعين من إطلاق الكفر على أهل القبلة في تصرفاتهم وأفعالهم وأقوالهم مما لا يخرج من الملة. وأغلب الكفر الذي وصف الله به المشركين والمنافقين واليهود والنصارى هو من الكفر المخرج من الملة، فالقاعدة تنعكس في الكفار الخلص. قال رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه]. واضح في الحديث أنه اعتبر قتال المسلم كفراً، ولا شك أنه كفر غير مخرج من الملة؛ لأن الله عز وجل وصف المقتتلين في كتابه بأنهم إخوة. قال رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، (إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما) متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما]. هذا الحديث قد تأتي فيه صور تعني الكفر المخرج من الملة، لكن هذا قليل، فظاهر الحديث أن من قال لأخيه المسلم الذي من أهل القبلة: يا كافر. فقد باء بها أحدهما، بمعنى: أنه حينما أطلق عليه الكفر وهو لا يستحقه رجع الكفر إلى القائل، لكن هل قال: خرج من الملة؟ و A لا؛ لأنه سماهما أخوان فقال: (من قال لأخيه)، فلا يزالان في إخوة الإيمان. حتى القائل الذي ارتكب إثماً بالتكفير حينما كفر أخاه لا يرتد إليه الكفر المخرج من الملة، إلا في بعض الحالات والله أعلم، كما لو اعتقد أن أخاه خارج من الملة، فقد يرتد إليه نفس الحكم، وقد لا يرتد أيضاً. وهذه مسألة تحتاج إلى تحقيق، وتحتاج إلى بحث، لكنها على أي حال من ألفاظ الوعيد، وألفاظ الوعيد لا تجرى على ظاهرها؛ لأنها لا بد أن تقيد بالنصوص الأخرى وبقواعد الشرع بالضرورة، وإلا فلو أخذنا هذه النصوص على ظواهرها لأخرج كثير من المسلمين من الإسلام بمجرد الحكم، ويترتب على ذلك ما يترتب في الزواج والطلاق والمواريث والصلاة إلى آخره. وهذا الذي جعل المكفرة يسمون الخوارج ويخرجون عن أهل السنة والجماعة، ذلك أنهم حينما حكموا بمثل هذه النصوص والكفر المخرج من الملة أخرجوا أكثر المسلمين وما بقي غيرهم، فمن هنا وقعوا في الفرقة، ووقعوا في مذهب الخوارج. قال رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد)]. هذا الحديث لا بد أيضاً من أن يرد إلى الحديث الآخر، حديث أبي ذر في إثبات الإيمان للزاني والسارق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (وإن زنى وإن سرق) هذا شيء. الشيء الآخر: أن حديث النفاق فيه دلالة واضحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم النفاق إلى نوعين: إلى نفاق خالص، وهذا أمر غيبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، وإلى نفاق جزئي، يعني: خصلة من خصال النفاق، والكفر كالنفاق، فقد يقال عن إنسان بأنه كافر خالص، وهذا الكافر الخالص م

حمل نصوص التكفير بما ليس بمكفر على واقع عهد النبوة يزيل شبهة الخوارج

حمل نصوص التكفير بما ليس بمكفر على واقع عهد النبوة يزيل شبهة الخوارج ما نفهمه من هذه الخلاصة مما هو معلوم ويجب أن يعلم: أن كل النصوص التي أوردها المؤلف إنما هي في كبائر الذنوب التي لا تخرج من الملة، ولذلك نجد أن مشكلة الخوارج أنهم كفروا بالذنوب بناء على النصوص السابقة، بناء على اشتباه الأمر عندهم في النصوص السابقة، حيث ظنوا أن الكفر الذي أطلق في القرآن أو أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم في مثل الآيات والأحاديث السابقة يعني الكفر المخرج من الملة؛ لأنهم ما ردوا النصوص بعضها إلى بعض، ولا فقهوا معاني الكفر وإطلاقاته في الشرع، ذلك أن الكفر في الشرع أطلق على عدة معان، وأن ذلك معلوم بالضرورة؛ لأنه حدثت هذه الأمور في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. فالأمور التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: إنها كفر حدث منها أشياء كثيرة في وقته، فهل كفر النبي صلى الله عليه وسلم من فعلها وأخرجه من الملة وحكم بردته؟! و A أن العكس هو الذي حصل؛ إذ لما رأى من يلعن شارب الخمر زجره وشهد للشارب بالإيمان. ثم إن الصحابة تعلموا ذلك، فلذلك لما كثرت مظاهر هذه الأفعال في عهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من الصحابة ما كفروا أصحابها. ثم إن الخوارج ظهروا في عهد الصحابة فكفروا بهذه النصوص، فخالفهم الصحابة وقاتلوهم على ذلك. إذاً: المسألة واضحة، وأنا أعجب من تلبيس بعض الناس على بعض طلاب العلم في هذه المسألة، أعجب لأني رأيت العجب فعلاً من بعض الذين يأتون ليناقشونا ويسألوا عن بعض المسائل، حيث تجد الواحد منهم يقول: قال فلان كذا، وأورد الحديث، فما جوابي على الحديث؟! فأقول: كيف تقول: ما جوابي؟! وكأن الحديث نزل تواً، أما قاله النبي صلى الله عليه وسلم في وقته، وسمع الصحابة ثم التابعون مثل هذا النص؟! أما أعرفت أن هذه القضية هي القضية الكبرى بين الخوارج وبين أهل السنة؟! فينسى لأنه قد لا يقرأ، أو لقلة تمعنه في هذه الأمور، فيأتيه من صغار المتحذلقين من يورد الإشكال على ذهنه. وأقول: لا ينبغي لطلاب العلم أن تفوتهم هذه الأمور، فينبغي أن يؤسسوا علمهم على أصول، خاصة في مثل هذه القضايا الخطيرة التي بدأت تثار الآن، وأصبحت من الأمور التي تشكل خطراً على عقائد أهل السنة والجماعة وعلى مناهجهم وعلى أبنائهم، فيجب على الناس أن يتبصروا في مثل هذه الأمور.

الجواب عن نصوص التكفير بالذنوب التي لا تخرج من الملة

الجواب عن نصوص التكفير بالذنوب التي لا تخرج من الملة قال رحمه الله تعالى: [ و A أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية كما قالت الخوارج؛ إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال، ولا يقبل عفو ولي القصاص، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر، وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام. ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود في النار مع الكافرين كما قالت المعتزلة، فإن قولهم باطل أيضاً؛ إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] إلى أن قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا، وجعله أخاً لولي القصاص، والمراد أخوة الدين بلا ريب. وقال تعالى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] إلى أن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10]. ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل، بل يقام عليه الحد، فدل على أنه ليس بمرتد. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون درهم ولا دينار، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ثم ألقي في النار) أخرجاه في الصحيحين. فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه، وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما تعدون المفلس فيكم؟ قالوا: المفلس فينا من لا له درهم ولا دينار، قال: المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال قد شتم هذا، وأخذ مال هذا، وسفك دم هذا، وقذف هذا، وضرب هذا، فيقتص هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار) رواه مسلم. وقد قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، فدل ذلك على أنه في حال إساءته يفعل حسنات تمحو سيئاته. وهذا مبسوط في موضعه. والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار، لكن قالت الخوارج: نسميه كافراً، وقالت المعتزلة: نسميه فاسقاً، فالخلاف بينهم لفظي فقط].

الأسئلة

الأسئلة

مذهب الخوارج في الصغائر

مذهب الخوارج في الصغائر Q ما قول الخوارج في الصغائر؟ A الخوارج لم يكن لهم قاعدة ولا منهج يتفقون عليه في الصغائر، بل قولهم في ذلك مضطرب أشد الاضطراب، ومنهم من لا يفرق بين الذنوب كلها، فيعتبر كل الذنوب كبائر، ومنهم من يضع ضوابط للصغائر تشبه ضوابط أهل السنة والجماعة، ويجعل صغائر الذنوب لا تدخل في أحكام الكبائر، ومنهم من لا يعرج على هذه المسألة أصلاً، ومنهم من يفرق بتفريقات عجيبة لا ترجع إلى ضوابط شرعية، إنما ترجع إلى موازين أغلبها مبني على الأهواء. فعلى أي حال: لا أعرف أن للخوارج قولاً يتفقون عليه أو يمكن أن ينسب إليهم؛ لكثرة اضطرابهم في مسألة الصغائر.

الفرق بين تكفير من لم يكفر الكافر وتكفير من لم يكفر المشرك

الفرق بين تكفير من لم يكفر الكافر وتكفير من لم يكفر المشرك Q هل هناك فرق بين قول: (من لم يكفر الكافر فهو كافر) وقول: (من لم يكفر المشركين فهو كافر)؟ A لا شك أن هناك فرقاً؛ لأن أغلب الذين يقولون: من لم يكفر الكافر يقصدون الكافر بحكمهم هم، والناس قد يخالفونهم في حكمهم. أما من لم يكفر المشرك فهذه مسألة لا شك أنها واضحة، فالمشركون لا شك في كفرهم، وكذلك المنافقون الذين علم الله نفاقهم، وإلا فلا نستطيع أن نعرف المنافق بعينه، وكذلك اليهود والنصارى، وكل من لم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو كافر، ومن لم يكفره فالأصل فيه الكفر، لكن تحتاج المسألة إلى إجراء المعروف في التثبت في ماذا يقول وماذا يعرف؟ وهل يجهل أو لا يجهل؟ إلى آخره.

انتفاء وجود من لا يؤمن بوجود الله ظاهرا وباطنا

انتفاء وجود من لا يؤمن بوجود الله ظاهراً وباطناً Q هل هناك من لا يؤمن بالله ظاهراً ولا باطناً؟ أم أن هذا لا يتصور أبداً؟ A فرق في مسألة الإيمان بالله بين الإقرار بوجوده، وبين الإيمان بالله الذي يلزم منه الإقرار بأسمائه وصفاته وأفعاله ولوازم ذلك مما يجب إثباته لله عز وجل، فقد يوجد من الناس من لا يؤمن بالله الإيمان الواجب ظاهراً وباطناً، وكثيرون ممن يؤمنون بالله لا يؤمنون بالله الإيمان الشرعي ظاهراً وباطناً، أقصد أن كثيراً من أهل الشرك والنفاق والكفار الخلص الذين يقرون بوجود الله لا يؤمنون بالله الإيمان الحقيقي الذي تكون به النجاة. فمسألة نفي الإيمان أحياناً تنصرف إلى مجرد الإقرار بالوجود، وأحياناً تنصرف إلى ما هو أهم من ذلك من ناحية المعنى الشرعي، ثم إن النفي والإثبات لا يتعلق بالإيمان بالله فقط، بل كذلك بالإيمان بالرسل وسائر أركان الإيمان، وأصول الدين الضرورية.

موقف المستفتي وطالب العلم من أقوال العلماء وفتاويهم

موقف المستفتي وطالب العلم من أقوال العلماء وفتاويهم Q هل يلزم إذا أخذت بقول أحد العلماء أن أمشي على قوله في كل الأمور أم لا؟ وهل هناك فرق بين طالب العلم والعامي؟ A أما مسألة التلقي أو الاتباع فتتبع الحق مع من كان، لكن ينبغي لغير طالب العلم المتمكن أن يقتدي بالعلماء من حوله، ولا يلزمه أن يقتدي بعالم في كل شيء، وهذا الذي عليه المسلمون الآن، يعني: تجد أي مسلم يسأل أقرب عالم إليه، لكن لا يلزم الإنسان ألا يتبع إلا فلاناً؛ لأنه قد لا تتمكن من أن تسأل فلاناً من المشايخ في كل شيء أو أن تعرف أقواله في كل شيء، ومع ذلك إذا كان هناك من أهل العلم من تعتبره قدوة أكبر من غيره فلا مانع أن تجعل أكثر الأمور التي تأخذ بها مأخوذة عن قوله، ولا حرج في هذا، لكن لا أتصور أن أحداً لا يمكنه أن يأخذ الحق إلا عن واحد من العلماء، فأي إنسان يستطيع أن يأخذ العلم عمن يسهل الوصول إليه أو الاتصال به أو عمن يعرفه من طلاب العلم الذين يدرسون على المشايخ. أما الفرق بين طالب العلم والعامي فهذا أمر بدهي ولا شك، فطالب العلم هو الذي يعرف (قال الله) و (قال رسوله) ويعرف الأدلة، ويعرف كيف يستدل، وعنده من الأدب والسمت والتزام الحق والأخذ بالسنن ما ليس عند كثير من الناس، والعامي لا يعرف ذلك، فالفرق بينهما أنه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولا شك أن من عنده علم شرعي أفضل من العامي من وجوه كثيرة، ويجب أن يكون الأمر كذلك.

حكم رمي الناس بما يقرب من التكفير

حكم رمي الناس بما يقرب من التكفير Q ألا ترى أن ما قلتموه عن التكفير ينسحب على الكلام عن بعض الناس بأنه علماني مثلاً أو نحو ذلك، خاصة أن كثيراً من الدعاة يتساهل في هذا الباب، فهل من توجيه بخصوص ذلك؟ A لا شك أن الكلام في الناس بغير علم وبدون تثبت لا يجوز، وهو من الكبائر، وهذه قاعدة عامة، فكل كلام في المسلمين -سواء أفرادهم وجماعاتهم- بالغيبة والنميمة أو البهتان فإنه من الكبائر، ثم يتفرع عن هذه القاعدة أن رمي الناس بالألقاب -سواء الكفر أو الفسق أو النفاق أو الأمور التي تدل على ذلك، مثل المصطلحات الحديثة الجديدة، كعلماني أو حداثي أو نحو ذلك- رميهم بذلك بدون تثبت يعد من كبائر الذنوب. ولا شك أن مما يجري على ألسنة الناس أحياناً منه ما هو من هذا النوع، أي: رمي بعض الناس بشيء من هذه الألقاب بغير تثبت، بل بمجرد الشائعة، أو بقرائن قد لا تكفي في إطلاق الحكم، أو بالظنون أو نحو ذلك. فلا يجوز ولا ينبغي لأحد من المسلمين أن يستبيح الكلام في إخوانه أو في أحد من المسلمين حتى وإن ظهرت منه بعض القرائن، ما لم يثبت ذلك بطرق التثبت الشرعي. ولا ينبغي للإنسان أن يطلق قولاً على أحد إلا بما يشهد به عند القاضي، اللهم إلا الأمور المستفيضة عند الثقات مما لا يمكن دفعه؛ لأنه بلغ حد التواتر، فهذا أمر يستثنى، وأظن أني لا أبالغ إذا قلت: أكثر كلام بعض الناس في بعض مما لا يثبت شرعاً. فعلى هذا ينبغي أن نتواصى بتقوى الله عز وجل، وأن نؤكد على هذا الأصل الشرعي دائماً، وأن نحذر المسلمين من كلام بعضهم في بعض، وأن نبين للناس هذه الأصول الشرعية التي قد ينسونها ويحكمون العواطف أو يقلد بعضهم بعضاً.

حكم إجبار الابن أمه على طلب فسخ عقد زواجها بأبيه قاطع الصلاة

حكم إجبار الابن أمه على طلب فسخ عقد زواجها بأبيه قاطع الصلاة Q ما رأيك في ابن أجبر والدته على فسخ العقد من أبيه لأن الأب لا يصلي، فهل هذا الفعل يعتبر من الغلو في البر والذي هو من نزعات التكفير؟ A هذه حالة لا يلزم أن تكون من باب الغلو، قد تكون اجتهاداً خاطئاً أو وسواساً، وعلى أي حال فمثل هذا ينبغي أن يحدث باستشارة أهل العلم، وأن يتم بإجراءات شرعية لا باجتهاد فردي، فإذا كان أب لا يصلي، والابن أخذته الغيرة، فاعتبر أنه لا يجوز أن تبقى المرأة في ولايته، فهذه مسألة لا يتم الاجتهاد فيها من الفرد، بل لا بد أن يرجع إلى العلماء، والعلماء -بحمد الله- موجودون، وليرجع فيها أيضاً للمحكمة إذا استلزم الأمر ذلك، أما مجرد تصرف فردي فلا أراه؛ لأن المسألة خلافية، ولا بد فيها من اتخاذ إجراءات شرعية يعرفها أهل العلم. فإذا كان هذا التصرف حدث منه ولم يرجع إلى أهل العلم فعليه أن يراجع تصرفاته، وإذا كان استند على فتوى صحيحة ممن لهم اعتبار فهذا أمر أرجو أن تبرأ به الذمة.

حكم الاطلاع على كتب أهل الكتاب

حكم الاطلاع على كتب أهل الكتاب Q الباحثون في التاريخ القديم يعتمدون فيما يعتمدون عليه على التوراة والإنجيل، والباحثون المسلمون منهم يعتبرونهما مجرد مصادر تاريخية فيها الخطأ وهو كثير، وفيها شيء من الصواب، هل فعلهم هذا داخل في نهي النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر رضي الله عنه؟ أم أنه جائز باعتبار التحديث عن بني إسرائيل وتلاوة التوراة حال الاختلاف، كما في قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران:93]؟ A الاطلاع على كتب أهل الكتاب -سواء التوراة والإنجيل وغيرهما- فيه تفصيل: فإن كان الاطلاع بقصد التلقي بمعناه الشرعي فلا يجوز هذا أبداً، وعموم المسلمين يجب عليهم ألا يطلعوا وألا يقرءوا كتب التوراة والإنجيل أو غيرهما من الكتب الدينية للأمم الأخرى، سواء في الديانات الوثنية أو الكتابية؛ لأن الله عز وجل أغناهم بكتابه سبحانه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان المطلع من أهل العلم، واطلاعه جاء لسبب شرعي معتبر وبشروط وضوابط عرفها أهل العلم فلا مانع، لكن هل تعتبر هذه المصادر مصادر يقينية، أم مجرد مصادر تاريخية قابلة للنقاش؟ الصحيح أنها ليست مصادر يقينية، إلا ما وافق الكتاب والسنة، فما كان فيها موافقاً الكتاب والسنة فإنه يكون يقينياً، ومصدر يقينيته هو اعتماده على الكتاب والسنة، لا لأنه في التوراة والإنجيل؛ إذ إنهما تعرضا للتحريف، وما كان دون ذلك فإنه بحسب حاله، وبحسب حال المتلقي أو المتناول من أهل العلم بالشروط، فلا يجوز الاعتماد على كتب بني إسرائيل فيما لم يرد في الكتاب والسنة اعتماداً كلياً، ولا اعتبارها مصادر موثوقة، إنما من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم). إذاً: فالاطلاع على هذه الكتب من بعض المتخصصين ممن تحصنوا بالعقيدة السليمة إذا كان لفائدة شرعية معتبرة شرعاً -كالرد على هذه الأمور، أو الاستشهاد بما يرد به على أهل الكتاب أو نحو ذلك مما هو معتبر- لا حرج فيه، لكن هذه ضوابط يجهلها كثير من الناس، فلذلك من الخير أن نعود المسلمين على ألا يطلعوا على ما يسمى بالكتب الدينية للأمم الأخرى؛ لأنه يشملها النهي الجازم من النبي صلى الله عليه وسلم.

شرح العقيدة الطحاوية [68]

شرح العقيدة الطحاوية [68] الإيمان عند أهل السنة والجماعة حقيقة مركبة من القول والعمل، وهو على مراتب، كما أن الكفر على مراتب، وما حصل من اختلاف في مسمى الإيمان أو الكفر فإن النصوص الواضحة تحكم الخلاف إذا جمع بينها وأحسن فهمها، وعند ذلك تتبين حقيقة الأسماء وما تدل عليه من أوصاف وأحكام وكذا ما يترتب عليها من مآلات وعواقب، كما أن الحكم بغير ما أنزل الله من المسائل التي حصل فيها سوء فهم وخلط من بعض المعاصرين وإهمال لأقوال أهل العلم السابقين في هذه المسألة.

وسطية أهل السنة في مرتكب الكبيرة بين الخوارج والمرجئة

وسطية أهل السنة في مرتكب الكبيرة بين الخوارج والمرجئة قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأهل السنة أيضاً متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب كما وردت به النصوص، لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ولا ينفع مع الكفر طاعة]. يقصد هنا المرجئة الغلاة الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو المعرفة، ومن هنا لا يضعون للشرع في النهي والأمر أي اعتبار. قال رحمه الله تعالى: [وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة تبين لك فساد القولين، ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى].

الاختلاف في كون الكفر والإيمان على مراتب وبيان مدار النزاع

الاختلاف في كون الكفر والإيمان على مراتب وبيان مدار النزاع قال رحمه الله تعالى: [ثم بعد هذا الاتفاق بين أن أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً لا يترتب عليه فساد، وهو: أنه هل يكون الكفر على مراتب كفراً دون كفر؟ كما اختلفوا: هل يكون الإيمان على مراتب، إيماناً دون إيمان؟ وهذا الاختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى الإيمان: هل هو قول وعمل يزيد وينقص أم لا؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافراً، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافراً ولا نطلق عليهما اسم الكفر، ولكن من قال: إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص قال: هو كفر عملي لا اعتقادي]. والكفر العملي سبق أن المقصود به كفر المعصية، وكفر الكبائر، فهو كفر لا يخرج من الملة، فيبقى صاحبه مسلماً له أحكام المسلمين، لكنه يكفر كفراً جزئياً بالمعصية الكبيرة، وهي الذنب المغلظ الذي لا يخرج من الملة. قال رحمه الله تعالى: [والكفر عنده على مراتب، كفر دون كفر، كالإيمان عنده]. يقصد بهذا أهل السنة والجماعة أهل الحديث، فإنهم يقولون بأن الكفر على نوعين: كفر أصغر لا يخرج من الملة، وهو الكفر العملي، وهو من أكبر الكبائر، وهو كفر دون كفر. والثاني: الكفر المخرج من الملة، وأغلبه من الكفر الاعتقادي، وقد يدخل فيه بعض أنواع الكفر العملي، مثل الإعراض عن الدين بالكلية، فإنه قد يدخل في الكفر المغلظ، وهو الكفر الأعظم المخرج من الملة، وقد يسمى ردة، وأيضاً يسمى كفراً بإطلاق، ويدخل فيه النفاق الكلي والنفاق الكامل، وغير ذلك من الألفاظ التي تعني الخروج من الملة. وأغلب أنواع الكفر التي يقع فيها كثير من أفراد أهل القبلة وجماعاتهم من الكفر الذي لا يخرج من الملة، وهذا أمر ينبغي أن يفهم؛ لأن الناس بدءوا يخوضون في هذه المسألة بغير علم، فإن أغلب ما يقع فيه المسلمون قديماً وحديثاً من أنواع الكفر هو كفر لا يخرج من الملة، ولا يخرج الإنسان من الإسلام، ومن ذلك ما وصفت به بعض الفرق من الكفر، كالفرق الثنتين والسبعين الخارجة عن الجماعة التي توعدها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه لا تخرج من الملة، ولذلك فإن الفرق التي خرجت من الملة لا تسمى من فرق المسلمين، ولا تدخل في الثنتين والسبعين التي ورد فيها الوعيد. وما أطلقه بعض السلف من ألفاظ الكفر على الفرق كالمعتزلة وأوائل الشيعة والمرجئة وأكثر أهل الكلام وكذلك بعض الأشاعرة الماتريدية إنما هو كفر لا يخرج من الملة. وهذا أمر معلوم عند أئمة المحققين، وإنما جهله الناس في الآونة الأخيرة حينما ابتعدوا عن تلقي مناهج السلف وتأصيلها ومعرفتها. وذلك بخلاف القول بخلق القرآن، فقد اتفق السلف على أنه كفر؛ لأن الأمر فيه تبين، وبحثت هذه المسألة بحثاً مستفيضاً قامت به الحجة واستبان به الدليل وظهر فيه البرهان وأزيلت فيه الشبهات. فالقول بخلق القرآن كفر عند جميع السلف، لم يخرج عن هذا الإجماع أحد بعد اشتهار المسألة في آخر القرن الثاني والقرن الثالث، لكن: هل كل من قال بخلق القرآن يكفر بعينه؟ هذه مسألة لا بد فيها من تفصيل: ففي بعض العصور -مثل عصر الإمام أحمد - كانت الحجة قائمة؛ لأن القضية استفاضت عند عموم الناس العوام وغير العوام، المتعلم وغير المتعلم، فجميع الناس اشتهرت عندهم قضية القول بخلق القرآن، فعرفوا أنها كفر، فمن هنا قد يجوز لبعض أهل العلم أن يطلق الكفر على كل من قال بخلق القرآن، ومع ذلك لا نعرف أن السلف كانوا يجرءون على تكفير الأعيان في هذه المسألة، إلا في حالات قليلة جداً يجزمون بأنها قامت فيها الحجة وانتفت فيها الشبهة. وفي بعض العصور وبعض الأوقات تكون المسألة غامضة ليست واضحة عند عموم الناس وإن اتضحت عند أهل العلم، فمن هنا لا نستطيع أن نجزم بأن كل من قال شيئاً من ذلك يكفر، بل لا بد من بيان الحجة واجتماع الشروط وانتفاء الموانع في هذه المسألة. والدليل على ذلك: أنا لو أتينا إلى عامي لا يعرف هذه المسألة أبداً وسألناه ربما يجيب بغير الحق، فمن الخطأ أننا نقول بأنه يكفر لأول وهلة قبل أن نبين له الحق. إذاً: فالقاعدة سليمة، لكن التطبيق يختلف من عصر إلى عصر ومن حال إلى حال ومن شخص إلى شخص، فليس كل من قال بالكلام الكفري يكفر، وأنا أرى أنه في عصرنا هذا من الصعب أن نمتحن الناس في هذه المسائل ونكفر كل من قال بهذا القول الكفري إلا بعد البيان وإقامة الحجة. قال رحمه الله تعالى: [ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان؛ قال: هو كفر مجازي غير حقيقي]. هذا قول مرجئة الفقهاء أو طائفة منهم، وهؤلاء غير المرجئة الأوائل الذين قالوا: إن الإيمان هو المعرفة، ولا ينفع مع الإيمان طاعة ولا يضر مع الإيمان معصية، فهؤلاء الغلاة الجهمية سبق ذكرهم آنفاً، والكلام هنا عن مرجئة الفقهاء. قال رحمه الله تعالى: [ومن قال: إن الإيمان هو التصديق، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان، والكفر هو الجحود، ولا يزيدان ولا ينقصان؛ قال

بيان حقيقة المنازعين في كون الإيمان والكفر على مراتب

بيان حقيقة المنازعين في كون الإيمان والكفر على مراتب يتلخص عندنا الآن قولان نسبهما المؤلف لأهل السنة، وهذا فيه شيء من النظر، فهو من باب التجوز؛ إذ إن قول المرجئة قد يقول به بعض من ينتسبون للسنة وينسبون إليها، ولكنه يبقى قول المرجئة لا قول أهل السنة، فقوله: [ثم بعد هذا الاتفاق بين أهل السنة اختلفوا اختلافاً لفظياً] فيه نظر، لكن لعل هذا من باب التأثر بمذهب الأحناف مذهب الشارح والماتن. ولا شك أن كثيراً ممن قالوا بالإرجاء، وقالوا بأن الإيمان هو التصديق والكفر هو الجحود، وقالوا بأن الكفر كفران: كفر مجازي وكفر حقيقي، لا شك أنهم لا يخرجون من عموم أهل السنة عند الإطلاق، كـ أبي حنيفة وشيخه وبعض تلاميذه وكبار الأحناف أهل الحديث منهم، لا نستطيع أن نخرجهم من أهل السنة بإطلاق، لكن هذه المسألة التي ذكرها الشيخ ليست قول أهل السنة، بل هي قول المرجئة. فالمسألة تحتاج إلى تنبيه، فأهل العلم لا يوافقون الشارح على أن قول المرجئة قول لأهل السنة، سواء في مسألة تعريف الإيمان، أو في مسألة تقسيم الكفر. أهل السنة يقولون: إن الكفر نوعان: كفر دون كفر، وكفر أكبر، والمرجئة يقولون: كفر حقيقي، وكفر مجازي. صحيح أن الخلاف لا ثمرة له، بمعنى أن مؤدى الكلام واحد، فالكفر العملي هو الكفر المجازي، ونتائجه عند الفريقين سواء، بمعنى: أنه لا يخرج من الملة، وصاحبه يبقى من أهل القبلة وإن بدع وإن فسق. والكفر الأعظم والكفر الحقيقي هو واحد عند الفريقين، في معنى ما يترتب عليه من أحكام، لكن مع ذلك فإن هذه التسمية ناشئة عن الاختلاف بينهما، فليس القول الثاني هو قول أهل السنة وإن وافقه في النهاية والثمرة، لكنه لم يقل به أحد من أهل السنة والحديث، اللهم إلا بعض أهل العلم الذين قد لا يوافقون المرجئة في أصل تعريف الإيمان. إذاً: فملخص القول أن أهل العلم لهم في هذا قولان: قول بأن الكفر على نوعين: كفر أكبر اعتقادي، وهو يخرج من الملة، وكفر أصغر عملي لا يخرج من الملة، وهذا قول أهل السنة. والقول الثاني: أن الكفر ينقسم إلى كفر حقيقي وهو المخرج من الملة، وهو الاعتقادي، وكفر مجازي، وهو الكفر العملي الذي لا يخرج من الملة. فالقولان في النهاية ثمرتهما واحدة، ومؤداهما واحد، لكن منشأ التعبير يختلف، ولا يترتب عليهما فساد في النهاية في ثمرة الاعتقاد، أو انحراف في المفهوم، فالثمرة عند الفريقين واحدة، فهم لا يختلفون في الأحكام التفصيلية لنوعي الكفر، وإنما يختلفون في التسمية، والتسمية أيضاً مأخوذة من أصل الاعتقاد في الإيمان. وهذا كمسألة القول في الذنوب، وفي مسألة العمل بالإسلام، فقد يقال: إن أهل السنة ومرجئة الفقهاء كلهم في النهاية يقرون بأنه لا بد من عمل الخيرات وترك الآثام، وإن الخلاف لفظي. ونقول: الخلاف ليس لفظياً، نعم من الناحية العملية لا يختلفون، خاصة مرجئة الفقهاء الأوائل، فـ أبو حنيفة رحمه الله يقول: إن الإيمان هو التصديق، وقد يخرج الأعمال من مسمى الإيمان على قول من أقواله التي نسبت إليه، لكنه يعظم جوانب الأوامر وينكر المنكرات ويعظم ارتكابها، بل إنه من أشد أئمة الدين في ذلك، ففي النهاية ليس للخلاف ثمرة عملية في اعتقاد أولئك الأئمة. لكن هناك اختلاف علمي تنبني عليه أحكام، والاختلاف العلمي له اعتباره في العقيدة، حتى وإن كانت الثمرة العملية لا تختلف، فمن الناحية الاعتقادية، ومن ناحية التقرير العلمي نجد أن المرجئة خالفوا أهل السنة والجماعة.

اتفاق فقهاء الملة على كون أصحاب الذنوب من أهل الوعيد في حال إقرارهم الظاهر والباطن بالشرع

اتفاق فقهاء الملة على كون أصحاب الذنوب من أهل الوعيد في حال إقرارهم الظاهر والباطن بالشرع قال رحمه الله تعالى: [وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس: إنها سميت إيماناً مجازاً؛ لتوقف صحتها على الإيمان، أو لدلالتها على الإيمان؛ إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمناً، ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا صلى كصلاتنا. فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب، إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما تواتر عنهم أنهم من أهل الوعيد، ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار، كالخوارج والمعتزلة، ولكن أردأ ما في ذلك التعصب من بعضهم وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه والتشنيع عليه، وإذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين وأن يجادلوا بالتي هي أحسن؛ فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف؟! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]. وهنا أمر يجب أن يتفطن له، وهو: أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة، وقد يكون معصية كبيرة أو صغيرة، ويكون كفراً إما مجازياً وإما كفراً أصغر على القولين المذكورين، وذلك بحسب حال الحاكم، فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب وأنه مخير فيه، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله فهذا كفر أكبر، وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله وعلمه في هذه الواقعة، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهو عاص، ويسمى كافراً كفراً مجازياً أو كفراً أصغر، وإن جهل حكم الله فيها مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأ؛ فهذا مخطئ له أجر على اجتهاده، وخطؤه مغفور].

نظرة في واقع التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله

نظرة في واقع التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله هذه المسألة من المسائل التي يخوض فيها الناس الآن كثيراً، والذي يظهر لي أن أغلب ما يتكلم فيه الناس من ذلك يتكلمون فيه بالمجازفة التي ليس فيها تثبت ولا تقرير علمي، ثم إن الناس يخلطون بين الأحكام العامة وبين إنزال الأحكام على الأشخاص والهيئات والجماعات، وهذا أمر عمت به البلوى ويحتاج إلى شيء من التفصيل والتقرير من قبل العلماء الراسخين، وإن كان علماؤنا كثيراً ما يبينون هذه المسائل، لكن كثرة من يتعالم ويسبق إلى الناس ويحول بينهم وبين العلماء ربما تحجب الكثير من أبناء المسلمين ومن عوام المسلمين عن معرفة أقوال أهل العلم المعاصرين، إلى حد ادعاء طائفة من الناس أن العلماء ليس لهم رأي، وأنهم لم يحسموا هذه المسألة. وهذا جهل، فالعلماء قالوا ولا يزالوا يقولون، وقد يتورعون أحياناً عن بعض التفصيلات أو يتأنون ولا يستعجلون في بعض الأحكام التفصيلية، خاصة على المعين؛ نظراً لأنهم يعلمون أصول الاجتهاد الشرعية الصحيحة التي تنبني على التثبت أولاً، ومعرفة الواقعة تفصيلاً ثانياً، ومعرفة الشخص وما عنده وما يقوله، وتطبيق الشروط الشرعية والتأكد من انتفاء الموانع في حقه، ونحو ذلك مما يتكلم به الناس. أقول: إن الأحكام العامة سهلة، وهذا التقعيد الذي ذكره تقعيد جيد لا يختلف عليه، لكن المشكلة في تطبيق هذه القواعد، فلذا أرى أن طلاب العلم ينبغي عليهم أن يفهموا عوام المسلمين والشباب خاصة أنه لا يجوز لكل من طلب العلم أو كان من العلماء أن يحكم في المسائل الكبرى التي تتعلق بالأشخاص والهيئات بالطريقة الفردية؛ لأن هذه المسائل خطيرة تنبني عليها أحكام خطيرة ومواقف خطيرة، فلا بد من اجتماع أهل العلم على كثير منها، هذا أمر. الأمر الآخر: أن التكفير بالحكم بغير ما أنزل الله أكثره يتم بمجرد أخذ القرائن ووصف الأحوال، وكثير من الذين يكفرون الهيئات ونحوها يكفرون دون أن يأخذوا بالأصول الشرعية في التكفير من التثبت، ومعرفة عدم وجود الجهل، ومعرفة عدم وجود الاشتباه، ومعرفة العدول عن الاعتقاد الذي في القلب؛ لأنه قد يحكم إنسان بغير ما أنزل الله وقلبه كاره لذلك لعوارض أخرى لا نعلمها، فهو بذلك ارتكب كبيرة، لكن لا يخرج من الملة. فأكثر ما يحدث من الحكم بغير ما أنزل الله مما لا يخرج عن الملة، فمن هنا يجب أن يتأنى طلاب العلم في إطلاق الأحكام، وألا يجاروا بعض المتعجلين أو المتعالمين أو بعض الذين يتكلمون بغير علم في مسألة إطلاق الأحكام جزافاً. وأضرب مثلاً لمسألة جزئية ينطبق عليها الحكم العام والأحكام الخاصة: فلو أن إنساناً مسلماً بنى عقاراً من العقارات ثم أجره لأناس يعملون الفساد -كالخمارين، أو أصحاب العهر- وهو يعرف أن هذا حرام، لكنه طماع يحب الدنيا مع أنه يصلي ويصوم، بل ما أجر هذه العمارة لأصحاب الكبائر فقط، وإنما حماها لهم وضمن لهم ألا يعتدي عليهم أحد، أيكفر بذلك كفراً مخرجاً عن الملة؟ إنه يوصف بالفسق، وبالظلم، وبالفجور، وبأكل الحرام، وبكل الأوصاف الشنيعة؛ لأنه ارتكب أشنع الأعمال، لكنه ما خرج من الملة، فلا تبين منه زوجته، ولا تترتب عليه أحكام الكفر. إذاً: فالمسألة خطيرة، خاصة مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، والكلام فيها أكثره من الخوض بغير علم والقول على الله بغير علم، والتقاط الفتاوى القديمة والحديثة وتطبيقها على الوقائع المعاصرة خلل في الاجتهاد وخلل في تطبيق النصوص وخلل في تشخيص القضايا وتحقيق المناط فيها. فليتق الله طلاب العلم، وليعرفوا أن الأمور لا بد من أن تؤخذ على بينة، ولا تؤخذ بالعواطف.

مخالفة المرجئة في دعوى عدم ضرر الذنوب مع الإيمان

مخالفة المرجئة في دعوى عدم ضرر الذنوب مع الإيمان قال رحمه الله تعالى: [وأراد الشيخ رحمه الله بقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله) مخالفة المرجئة، وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك، فإن قدامة بن مظعون شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة، وتأولوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93] الآية، فلما ذكر ذلك لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتفق هو وعلي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على استحلالها قتلوا، وقال عمر لـ قدامة: أخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر. وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر -وكان تحريمها بعد وقعة أحد- قال بعض الصحابة: فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر؟! فأنزل الله تعالى هذه الآية، بين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس. ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا وعلموا أنهم أخطئوا، وأيسوا من التوبة، فكتب عمر إلى قدامة يقول له: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:1 - 3]، ما أدري أي ذنبيك أعظم: استحلالك المحرم أولاً؟ أم يأسك من رحمة الله ثانياً؟! وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام].

صعوبة معرفة الاستحلال القلبي عند ارتكاب المحرم

صعوبة معرفة الاستحلال القلبي عند ارتكاب المحرم في هذا الكلام إشارة إلى أن الكفر لا يكون إلا بالاستحلال القلبي الاعتقادي، والاستحلال القلبي الاعتقادي من الصعب أن يعرف بالقرائن، بل لا يمكن أن يعرف بالقرائن، وسبق أن ضربت مثلاً، فلو أن إنساناً عمل فجوراً كثيراً وعمل أشياء كثيرة من الموبقات والمحرمات، وربما يكون بالغ في هذا العمل إلى حد أن نشر هذه الأمور، ولم ينكر تحريمها في الكتاب والسنة، فإنه مع ذلك يبقى مسلماً لا يخرج من الملة. ومسألة الاستحلال القلبي أو الفساد الاعتقادي لا يمكن أن تعرف - كما قلت - إلا بالإقرار اليقيني الذي نعرف به أن هذا الإنسان الذي يدعي الإسلام أنكر شيئاً صريحاً في القرآن، وما تأول كما تأول هؤلاء الذين استحلوا الخمر في عهد عمر، فإنهم ما أنكروا الآية، إنما ظنوا أن شربها له وجه من وجوه الإباحة، وهو أن الإنسان إذا شرب الخمر مع أنه يحب الله ورسوله ويعتقد اعتقاداً سليماً ويعمل الصالحات ويصلي ويصوم لا يضره ذلك، فهذا تأول؛ إذ ما أنكروا الآية ولا أنكروا أصل التحريم فيها، إنما تأولوا فاستحلوا بالتأول شربها، وهذا هو أكثر ما يحدث من المسلمين حتى في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله. إذاً: الحكم بكفر فلان لمجرد أنه ارتكب ذنباً لا يمكن إلا بأن يقر إقراراً يبين به عما في قلبه، وإلا فلا سبيل إلى معرفة القلوب. وأما الأمور الشركية البحتة فليس فيها مجال للتأول ولا مجال للتردد، إنما نتكلم عن المعاصي. وبعض الناس يخلط بين مفهوم المعاصي وبين مفهوم الشركيات، وهذا الخلط ربما كان سبب وقوع كثير من الناس الآن في عدم التثبيت. أقول: كثير من الأمور التي ورد فيها أنها كفر تدخل في الكبائر، أما الشركيات فهي الشركيات الواضحة، كالسجود لغير الله عز وجل تعظيماً له، وكالطواف بغير الكعبة، وكدعاء غير الله صراحة، فهذه أمور شركية صريحة ظاهرة لا تحتاج إلى أن نعرف ما في القلوب، لكن الأعمال الأخرى التي ليست شركية صريحة تبقى من الذنوب أو الكبائر، ولا يمكن أن نحكم بكفر صاحبها إلا أن يعبر عما في قلبه، اللهم إلا إذا كثر الإعراض عن دين الله كثرة يجزم معها أهل العلم الراسخون الذين يعرفون أصول الاجتهاد بأن هذا تنصل من الدين بالكلية، وهذا لا يتم إلا بشروط لا تتوافر لكل الذين يتكلمون ما عدا العلماء الكبار الراسخين. إذاً: فالأصل في الكفريات العملية -ومنها الحكم بغير ما أنزل الله- أن الكفر فيها كفر غير مخرج من الملة، وقد يكون ظلماً وقد يكون فسقاً، ولذلك جعل أهل العلم المسألة موزعة على ما ورد من ألفاظ النصوص، فجعلوا الحكم بغير ما أنزل الله على ثلاثة أصناف: الأول: كفر، ومنه ما يخرج من الملة ومنه ما لا يخرج من الملة، والثاني والثالث: فسق وظلم. فالكفر المخرج من الملة في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله واحد من أربعة، كما أنه من الأمور التي لا يمكن أن يعلمها الناس؛ لأنها أمور قلبية لا بد فيها من اجتهاد أهل العلم بمجموعهم، فيحكمون بأن هذا كفر صراح من هذا الشخص، وقد يكون العمل كفراً، ومع ذلك قد لا يكفر فاعله، فقد يكون من أنواع الحكم بغير ما أنزل الله ما هو كفر جزماً، لكن لا يلزم أن يكون صاحبه وفاعله كافراً، هذا أمر. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة الخروج كلاماً إذا رجعنا فيه إلى كلام المحققين من أهل العلم لعرفنا أن المسألة فعلاً لا يحكم فيها على الشخص إلا بعد استنفاذ أمور كثيرة جداً لا يملكها الفرد ولا العالم لوحده، خاصة إذا انبنى عليها عمل، أما مجرد التفلسف فأمر سهل، لكن إذا انبنى عليها عمل يكون الأمر خطيراً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفراً بواحاً) أي: جلياً كالشمس، ثم قال بعد ذلك: (عندكم) وما قال: عندك (عليه) أي: على هذا الكفر، لا على قرائنه وشواهده (من الله برهان)، فالمسألة خطيرة، فمن يجرؤ في تطبيق هذا الحديث على أن يدعي أنه عمل بهذه الضوابط الشرعية في الحكم. Q بعض العلماء يقول: إن الذي يكفر هو من حكم بغير ما أنزل الله مع الاعتقاد، فما هو الدليل على وجوب الاعتقاد؟ ولو قلنا بذلك لما كفرنا معيناً أبداً، ولم نستطع أن نكفر أحداً حتى ولو نفى وجود الله؟ A الذي يقر بالإلحاد لا شك أنه يكفر، ومن أقر باستحلال الحرام فهو كافر، ومن أقر بأنه يستحل الحكم بغير ما أنزل الله ولا يقر بحكم الله، ويعلم ذلك فهو كافر، فما وجه اللبس؟! أما كوننا لا نكفر أحداً فمن الخير ألا نكفر أحداً ما دمنا لا نجد دليلاً على كفره، فمن الخير لنا في ديننا ودنيانا وللإسلام والمسلمين ألا نكفر أحداً ما دام أنه ليس عندنا دليل على كفره في قلبه، ومن قال: لابد من أن نكفر؟!

الأسئلة

الأسئلة

حكم التأويل

حكم التأويل Q هل التأول سائغ لكل أحد من الناس؟ A التأول ليس سائغاً لكل الناس، بل له شروطه، لكن قد يتأول الجاهل فنعذره وإن كان من غير أهل التأويل، بمعنى أنه قد يستبيح محرماً ظناً منه أنه حلال لشبهة في ذهنه أو لفهم خاطئ في الدليل، كما فعل أولئك الذين شربوا الخمر في عهد عمر، فهؤلاء الصحابة فهموا الآية على غير معناها، فتأولهم غير سائغ ولا صحيح.

حكم تأويل النصوص بحسب الرغبة والهوى

حكم تأويل النصوص بحسب الرغبة والهوى Q هل للمرء أن يتأول النص حسب رغبته وهواه مع وجود العلم؟ A ليس له ذلك، لكن إذا فعله عن جهل نعذره بجهله.

بيان معنى أن الكفر لا يكون إلا بعد استحلال

بيان معنى أن الكفر لا يكون إلا بعد استحلال Q قلت: إن قول الماتن: إن الكفر لا يكون إلا بعد استحلال فيه نظر، فكيف ذلك؟ A الكفر المخرج من الملة أغلبه لا يكون إلا الكفر الاعتقادي، فإذا كان من باب عمل الكبائر فإنه غالباً لا يكون كفراً إلا باستحلال؛ لأن الاستحلال هو استحلال الحرام، فإذا استحل الحرام اعتقاداً مع معرفة أنه حرام، وأنكر الآية، أو أنكر الحديث الصحيح فهو بهذا يكفر، وقد يظهر لنا أنه استحلال وهو ليس باستحلال، فالمسألة فيها غموض.

بيان ما حكم به الصحابة على قدامة بن مظعون حال شربه المسكر

بيان ما حكم به الصحابة على قدامة بن مظعون حال شربه المسكر Q كيف يحكم الصحابة بقتل قدامة مع أنه متأول؟ A ما حكموا عليه بالقتل، بل قالوا: إن استحل بعد قيام الدليل عليه قتل، فلما قامت عليه الحجة وبينوا له الدليل واستتابوه رجع. فالصحابة قالوا: يعرض عليه الأمر ويبين له الدليل وتكشف عنه الشبهة، فإن أصر على الاستحلال بعد قيام الدليل كفر، لكنه ما أصر.

شرح العقيدة الطحاوية [69]

شرح العقيدة الطحاوية [69] من مسائل الأسماء والأحكام أننا نرجو للمحسنين أن يعفو الله تعالى عنهم ويسامحهم ويدخلهم الجنة، ولكننا لا نأمن عليهم، ولا نشهد للمعين منهم بالجنة؛ لأننا لا نعلم حاله ومآله وما أقدم عليه، كما أننا نستغفر للمسيء من هذه الأمة ونخاف عليه ونرجو أن يغفر الله له، ولا نقنطه في أن لا يتوب ولا يستغفر، ونحكم عليه جزافاً بدون علم ولا بينة؛ بل هناك مكفرات كثيرة للذنوب قد يدخل العبد تحت واحد منها فيغفر الله له.

استلزام رجاء عفو الله الإتيان بالعمل الصالح

استلزام رجاء عفو الله الإتيان بالعمل الصالح قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم، ونخاف عليهم ولا نقنطهم)]. هذا الموضوع داخل في باب الأسماء والأحكام، أي: أنه تفصيل في أحكام المسلمين، سواء منهم المتقون والمقصرون الذين وقعوا في بعض التقصير أو وقعوا في بعض العظائم؛ فهؤلاء وأولئك يدخل موضوعهم في العقيدة في باب الأسماء والأحكام، أي: تسميتهم مسلمين ومؤمنين، وأحكامهم في الدنيا والآخرة. قال رحمه الله تعالى: [وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله في حق نفسه وفي حق غيره، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57]، وقال تعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} [البقرة:41]، {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40]، {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44]. ومدح أهل الخوف، فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:58 - 61]. وفي المسند والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: (يا رسول الله! الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: لا، يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف ألا يقبل منه). قال الحسن رضي الله عنه: عملوا - والله - بالطاعات واجتهدوا فيها، وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً. انتهى]. في المقطع التالي سيذكر أن الخوف والرجاء يستلزمان العمل، وليس الخوف والرجاء مجرد أمانٍ، وإنما لا بد أن يكون الخوف وراءه عمل، والرجاء وراءه عمل. قال رحمه الله تعالى: [وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]، فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إتيانهم بهذه الطاعات؟! فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى، شرعه وقدره وثوابه وكرامته. ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها، ورجا أنه يأتي من مغلها مثل ما يأتي من حرث وزرع وتعاهد الأرض؛ لعده الناس من أسفه السفهاء، وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع، أو يصير أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام، وأمثال ذلك، فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلا والنعيم المقيم من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه. ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه أموراً: أحدها: محبة ما يرجوه. الثاني: خوفه من فواته. الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان]. الشيخ: لذلك قرر أهل العلم أهل السنة والجماعة أن العبادة لا بد أن تقوم على ثلاثة أركان، وإذا اختل ركن اختلت العبادة: الركن الأول: المحبة لله عز وجل. والركن الثاني: رجاء رحمة الله عز وجل ورجاء ثوابه. والركن الثالث: هو الخوف، أي: الخشية من الله عز وجل والخشية من عقابه وعذابه. وهذه الأمور كلها لا بد أن تترجم إلى عمل. قال رحمه الله تعالى: [وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني شيء آخر، فكل راج خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات. وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فالمشرك لا ترجى له المغفرة؛ لأن الله نفى عنه المغفرة، وما سواه من الذنوب في مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه. وفي معجم الطبراني: (عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين: ديوان لا يغفر الله منه شيئاً، وهو الشرك بالله، ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48] وديوان لا يترك الله منه شيئاً، وهو مظالم العباد بعضهم بعضاً، وديوان لا يعبأ الله به، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه)].

خطر احتقار المعاصي وقلة الحياء من ارتكابها

خطر احتقار المعاصي وقلة الحياء من ارتكابها قال رحمه الله تعالى: [وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر، وستأتي الإشارة إلى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون). ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له، وهو أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب، وهو قدر زائد على مجرد الفعل، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره]. ومن الأشياء التي تلحق الصغيرة بالكبيرة إدمان الصغيرة والإصرار عليها، فالصغائر إذا أدمن عليها صاحبها وأصر عليها دخلت عند كثير من أهل العلم في الكبائر. أما التفريق بين الصغائر والكبائر فسيأتي في مقام آخر فيما بقي إن شاء الله من الكتاب.

ذكر موانع إنفاذ الوعيد

ذكر موانع إنفاذ الوعيد

التوبة النصوح

التوبة النصوح قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره، فإن فاعل السيئات تسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة: السبب الأول: التوبة، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ} [مريم:60]، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:5]. والتوبة النصوح -وهي الخالصة- لا يختص بها ذنب دون ذنب، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة، حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل؟ والصحيح أنها تقبل، وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها؟ أم لا بد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر -مثلاً- هل لا يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر؟ أم لا بد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه؟ أو يتوب توبة عامة من كل ذنب؟ وهذا هو الأصح: أنه لا بد من التوبة مع الإسلام، وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة]. الذي ورد في النصوص أن الإسلام يجب ما قبله، وإذا كان يجب ما قبله -كما هو ظاهر الحديث- فإن ذلك يتضمن التوبة من الذنوب ويستلزمها أيضاً، أي: الإسلام بعد الكفر، فالدخول في الإسلام بعد كفر وشرك يعد توبة مطلقة يدخل فيها -والله أعلم- الذنوب التي يرتكبها الإنسان حال كفره، اللهم إلا إذا أصر على ذنب، فإذا أصر على ذنب واستمر عليه -بمعنى أنه صار عليه حال كفره وحال إسلامه- فإنه يبقى عليه ذنبه، لكنه يدخل في الإسلام. إذاً: فالكافر إذا أسلم فالظاهر أن إسلامه يجب كل ما سبق من ذنوبه، ولا ذنب أعظم من الشرك والكفر، ولا شك أن من أسلم فقد استسلم وسلم لله عز وجل، ومن سلم فإنه بدأ أعماله من جديد، والإسلام يمحو كل ما سبق، هذا الظاهر والله أعلم، اللهم إلا إن بقي ذنب من الكبائر أصر عليه حال إسلامه؛ فإنه يستمر عليه الإثم، وهو ظاهر كلام المؤلف هنا. قال رحمه الله تعالى: [وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها مما لا خلاف فيه بين الأمة، وليس شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] وهذا لمن تاب، ولهذا قال: {لا تَقْنَطُوا} [الزمر:53] وقال بعدها: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر:54]].

الاستغفار

الاستغفار قال رحمه الله تعالى: [السبب الثاني: الاستغفار، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33]، لكن الاستغفار تارة يذكر وحده وتارة يقرن بالتوبة، فإن ذكر وحده دخل معه التوبة، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار، فالتوبة تتضمن الاستغفار، والاستغفار يتضمن التوبة، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى؛ فالاستغفار: طلب وقاية شر ما مضى، والتوبة: الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله]. وهناك أيضاً من الفروق الرئيسة بين الاستغفار والتوبة أن التوبة أعم، بمعنى أن التوبة تكون من الشرك والكفر وما دون ذلك، والاستغفار لا يقع إلا من مسلم، بمعنى أنه لا ينفع الكافر استغفاره إذا كان باقياً على كفره، لكنه لو تاب من جميع ما هو عليه قبلت توبته. إذاً: الاستغفار أخص من هذا الوجه، فالاستغفار لا ينفع الكافر، لكنه من خصائص المسلمين. قال رحمه الله تعالى: [ونظير هذا: الفقير والمسكين، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر، وإذا ذكرا معاً كان لكل منهما معنى، قال تعالى: {فإِطْعَامُ عَشَرَة مَسَاكِينَ} [المائدة:89]، وقال: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة:4]، وقال: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]. لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] كان المراد بأحدهما المقل، والآخر المعدم، على خلاف فيه. وكذلك: الإثم والعدوان، والبر والتقوى، والفسوق والعصيان، ويقرب من هذا المعنى: الكفر والنفاق، فإن الكفر أعم، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق، وإن ذكرا معاً كان لكل منهما معنى. وكذلك الإيمان والإسلام، على ما يأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى].

الحسنات

الحسنات قال رحمه الله تعالى: [السبب الثالث: الحسنات؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها، فالويل لمن غلبت آحاده عشراته، وقال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، وقال صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها)].

المصائب الدنيوية

المصائب الدنيوية قال رحمه الله تعالى: [السبب الرابع: المصائب الدنيوية، قال صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب، ولا غم ولا هم ولا حزن، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر بها من خطاياه). وفي المسند: (أنه لما نزل قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] قال أبو بكر: يا رسول الله! نزلت قاصمة الظهر، وأينا لم يعمل سوءاً؟ فقال: يا أبا بكر! ألست تنصب؟! ألست تحزن؟! ألست يصيبك اللأواء؟! فذلك ما تجزون به). فالمصائب نفسها مكفرة، وبالصبر عليها يثاب العبد، وبالسخط يأثم، فالصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه، ويكفر ذنبه بها، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله، والصبر والسخط من فعله، وإن كان الثواب والأجر قد يحصل بغير عمل من العبد، بل هدية من الغير، أو فضل من الله من غير سبب، قال تعالى: {وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40]، فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم. وكثيراً ما يفهم من الأجر غفران الذنوب، وليس ذلك مدلوله، وإنما يكون من لازمه]. هناك فرق بين الثواب وبين التكفير، بمعنى أن الثواب أو الإثم على شيء أمر زائد عن مجرد تكفير الذنوب، فمثلاً: المصائب الدنيوية التي تصيب المسلم تكون تكفيراً عن ذنوبه، لكنه قد لا يؤجر إذا لم يصبر، فإذا جزع فليس له في ذلك أجر، لكن لا يعني ذلك أنه لا تكفر ذنوبه، وهذا هو وجه الجمع بين النصوص؛ لأنه ورد في النصوص أن الذي يجزع ولا يصبر ليس له في ذلك أجر، كما أنه ورد النصوص المطلقة كحديث البخاري السابق وحديث مسلم أن المصائب تكفر الذنوب. إذاً: فتكفير الذنوب أمر، والأجر الحاصل أمر زائد، فالمسلم إذا أصابته اللأواء وأصابته المصائب في دنياه، فإن صبر أجر على ذلك أجراً عظيماً، وإن لم يصبر فإنه -إن شاء الله- قد يكفر عنه من الذنوب ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، وذلك من فضل الله ورحمته بعباده.

عذاب القبر

عذاب القبر قال رحمه الله تعالى: [السبب الخامس: عذاب القبر. وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى]. يقصد بعذاب القبر أن طوائف من المؤمنين الذين يعذبون في قبورهم بعد الموت يكون هذا العذاب تطهيراً لهم من بعض ما ارتكبوه من ذنوب، وعلى هذا فإن هذا العذاب الذي يلقاه بعض من يستحقه في القبر من المؤمنين لا يعذب به يوم القيامة بعد البعث، هذا ظاهر كلام المؤلف.

ذكر سائر موانع إنفاذ الوعيد

ذكر سائر موانع إنفاذ الوعيد قال رحمه الله تعالى: [السبب السادس: دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات. السبب السابع: ما يهدى إليه بعد الموت من ثواب صدقة أو قراءة أو حج، ونحو ذلك، ويأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى. السبب الثامن: أهوال يوم القيامة وشدائده. السبب التاسع: ما ثبت في الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة). السبب العاشر: شفاعة الشافعين، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها. السبب الحادي عشر: عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة، كما قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه؛ فلابد من دخوله إلى الكير؛ ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، بل من قال: لا إله إلا الله، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه. وإذا كان الأمر كذلك امتنع القطع لأحد معين من الأمة غير من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولكن نرجو للمحسنين، ونخاف عليهم]. ما يتعلق بعذاب القبر سيأتي الكلام عنه تفصيلاً كما ذكر الشارح، لكن أحب أن أشير إلى أن كلام كثير من أهل العلم أن عذاب القبر ثلاثة أقسام: منه ما يكون على ذنوب يستمر معها العذاب في القبر وبعد البعث، كذنوب المنافقين والمشركين. ونوع آخر يكون فيه تكفير كامل، وهو عذاب المسلمين الذين يعذبون ببعض الذنوب في قبورهم، فإن هناك صنفاً من المؤمنين يكون تعذيبهم في القبر من التكفير الكامل لذنوبهم. ونوع ثالث يكون تعذيب أهله في القبر تخفيفاً للجزاء وليس تكفيراً بالكلية. فالمعذبون ثلاثة أصناف: صنف يستمر عذابهم في القبر وبعد البعث، وهم العتاة من المشركين والكفار والمنافقين، نسأل الله السلامة. وصنف يكفر الله عنهم بعذاب القبر وهم طوائف من المؤمنين. وصنف يخفف الله عنهم بعذاب القبر، وهم أيضاً طوائف من المؤمنين.

خطر الأمن والإياس ووجوب اجتماع الخوف والرجاء في العبد

خطر الأمن والإياس ووجوب اجتماع الخوف والرجاء في العبد قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والأمن والإياس ينقلان عن ملة الإسلام، وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة)]. يقصد الأمن من عذاب الله ومكره، واليأس من رحمة الله وعفوه، فالأمن الكامل من عذاب الله ومكره كفر، نسأل الله السلامة، واليأس الكامل من رحمة الله وعفوه أيضاً كفر، وأغلب ما يقع فيه العباد الأمن الكامل، واليأس يوجد عند أهل التنطع والتشدد، كغلاة الخوارج وبعض غلاة العباد، لكن الأمن كثير جداً في الأمم وفي بعض الطوائف كغلاة المرجئة ومن سلك سبيلهم. قال رحمه الله تعالى: [يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً؛ فإن الخوف المحمود الصادق: ما حال بين صاحبه وبين محارم الله، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط. والرجاء المحمود: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله، فهو راج لثوابه، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله، فهو راج لمغفرته، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:218]. أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب. قال أبو علي الروذباري رحمه الله: الخوف والرجاء كجناحي الطائر، إذا استويا استوى الطير، وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت. وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ} [الزمر:9]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، فالرجاء يستلزم الخوف، ولولا ذلك لكان أمناً، والخوف يستلزم الرجاء، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله تعالى، فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه. وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله: الرجاء أضعف منازل المريد. وفي كلامه نظر، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء). وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه)، ولهذا قيل: إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه، بخلاف زمن الصحة، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه].

بيان لزوم عبادة الله تعالى بالحب والخوف والرجاء وخطر العبادة ببعض ذلك

بيان لزوم عبادة الله تعالى بالحب والخوف والرجاء وخطر العبادة ببعض ذلك قال رحمه الله تعالى: [وقال بعضهم: من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد]. هذه الكلمة سارت واشتهرت عند الأئمة، لكنهم ما أسندوها إلى أحد بعينه، وهي قاعدة عظيمة: فقولهم: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق) يعني أنه يقع في الإعراض عن دين الله عز وجل، فمن غالى في الإرجاء وقع في الزندقة التي هي ترك الدين والإعراض عنه. وقولهم: (ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري) الحروري هو الخارجي؛ لأن الخوارج يميلون إلى التشدد، والخوارج سموا حرورية نسبة إلى حروراء ذلك الموضع الذي انحازوا إليه لما افترقوا عن جماعة المسلمين في عهد علي رضي الله عنه، فسمي كل من نزع هذه النزعة حرورياً، يعني أنه غلب جانب الخوف وغلب نصوص الوعيد وترك نصوص الوعد فشدد على نفسه وعلى غيره. وقولهم: (ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ) هذا يدخل في الأول لكنه أخف من الأول؛ لأن من عبد الله بالحب هو الذي لا يبالي بالشرع أبداً، يعرض عن الشرع بالكلية، وأغلب الذين يسلكون هذا المسلك نجدهم من زنادقة الفلاسفة وغلاة الصوفية، وأما الإرجاء -ما عدا إرجاء الجهمية- فهو في الغالب نوع من الإخلال بالشرع فقط، فلا يعد الإرجاء كله زندقة أو إعراضاً عن دين الله، فإرجاء الفقهاء المشهور هذا قد يقصر صاحبه في بعض الأعمال وليس في كلها. قال رحمه الله تعالى: [ولقد أحسن محمود الوراق في قوله: لو قد رأيت الصغير مَنْ عمل الخير ثواباً عجبت من كبره أو قد رأيت الحقير من عمل الشر جزاءً أشفقت من حذره].

الأسئلة

الأسئلة

الرد على المصر على الذنوب رجاء تكفيرها بمسقطات عقوبة جهنم

الرد على المصر على الذنوب رجاء تكفيرها بمسقطات عقوبة جهنم Q ما الرد على أصحاب المعاصي الذين يستمرون على معاصيهم بحجة أن هذه الأسباب المذكورة تكفر ذنوبهم؟ A ليس لهم حجة؛ لأن الله عز وجل أمرهم بالتوبة وأمرهم بالاستغفار، وجعل تكفير الذنوب مرتبطاً بالسعي إلى ذلك بترك المنهيات، وبفعل المأمورات، وكثرة الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، والشارح رحمه الله أشار إلى أنه لا توبة ولا رجاء إلا بأسباب، وإلا فتعليق الأمل على الله عز وجل مجرد أمان، والأماني لا تنفع أصحابها.

مدى صحة القول بأن الأمن واليأس ينقلان من ملة الإسلام

مدى صحة القول بأن الأمن واليأس ينقلان من ملة الإسلام Q يقول سماحة الشيخ ابن باز: الصواب أن الأمن واليأس لا ينقلان من ملة الإسلام وإنما هما من كبائر الذنوب؟ A الأمن واليأس في الجملة لا ينقلان من الإسلام إلا إذا كان الأمن أمناً كاملاً أدى إلى ترك الدين بالكلية، أما من هو مسلم لله وقائم بالحد الأدنى من الدين، فلا شك أن أمنه -بمعنى: تفريطه في حق الله- لا يخرجه من الملة، وكذلك المسلم إذا يئس من الرحمة، بمعنى أنه غلب جانب اليأس، ومع ذلك يعمل ويرجو الله عز وجل، فإن هذا أيضاً لا يخرج من الملة وإن غلب عليه اليأس، لكن قصد الشارح وقصد بعض الأئمة بأن الأمن واليأس كفر الأمن الكامل، فإذا أمن الإنسان من عقوبة الله عز وجل وأدى ذلك إلى أن ترك الدين بالكلية، وأعرض عن الإسلام وعن جميع الأعمال، هذا معرض عن دين الله عز وجل، فأمنه يوقعه في الكفر، وهكذا من يئس من رحمة الله يأساً كاملاً بأن اعتقد أن الله لا يرحم عباده، فهذا أيضاً يكون كفراً.

بيان أن الفرد ليس من أسماء الله تعالى

بيان أن الفرد ليس من أسماء الله تعالى Q هل من أسماء الله الفرد؟ A لم يرد أن من أسماء الله الفرد، فالفرد وصف للأحد، والأحد من أسماء الله، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، فالفرد بمعنى الأحد.

ضابط العموم والخصوص في الألفاظ المختلفة دلالاتها بحسب الإطلاق والتقييد

ضابط العموم والخصوص في الألفاظ المختلفة دلالاتها بحسب الإطلاق والتقييد Q ما الحد الفاصل بين اللفظ الأخص والأعم في التقسيمات التي مرت معنا في الطحاوية؟ A الخصوص والعموم في الألفاظ التي مرت أمر نسبي، لا يعد من وجه واحد، مثل التوبة والاستغفار، فالاستغفار قد يكون أعم من وجه، والتوبة أعم من وجه آخر، وهذا راجع للسياق، فلا نستطيع أن نحدد ما تختص به التوبة عن الاستغفار من وجه واحد، وكذلك لا نستطيع أن نعرف خصائص الاستغفار دون التوبة من وجه واحد، لكن مع ذلك فالظاهر أن التوبة أعم من الاستغفار، لأن الاستغفار من وسائل التوبة، والتوبة أعم من ذلك، فهذا على وجه العموم، وهكذا بقية الألفاظ.

شرح العقيدة الطحاوية [70]

شرح العقيدة الطحاوية [70] من عقيدة أهل السنة والجماعة في أبواب الإيمان والكفر أن الأصل في المسلم أنه لا يخرج من إسلامه إلا إذا أتى بناقض قولي أو عملي أو جحودي، أما الكبائر وما دونها فإنها لا تخرجه من إسلامه، خلافاً لما تدعيه الخوارج الذين يحكمون على مرتكب الكبيرة بالكفر والخلود في النار، وكل هذا نتج عن لبس وخلط في منزلة العمل من الإيمان، وما هو العمل الذي يكون تركه كفراً أو يكون تركه معصية.

ما يخرج به العبد من الإيمان

ما يخرج به العبد من الإيمان قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه). يشير الشيخ إلى الرد على الخوارج والمعتزلة في قولهم بخروجه من الإيمان بارتكاب الكبيرة، وفيه تقرير لما قال أولاً: إنه لا يكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، وتقدم الكلام على هذا المعنى]. كلامه هنا فيه نوع من الإجمال، وبعض الألفاظ فيها اشتباه، وفي الجملة إذا جعلنا هذا الأصل جارياً على أصول أهل السنة والجماعة -وهو -إن شاء الله- مقصود الإمام الطحاوي - فإنه يعني أنه لا يخرج العبد من مسمى الإيمان إلا إذا ترك شيئاً من أصول الدين، بمعنى أنه أنكر شيئاً من أصول الإيمان ولوازم أصول الإيمان التي لا بد منها والتي ثبتت في النصوص، مثل الشفاعة، والرؤية، وكلام الله عز وجل وأنه منزل غير مخلوق؛ فهذه من لوازم الإيمان، وتدخل في أصول الإيمان بالنصوص الشرعية، وليس باللزوم العقلي أو التفريع على القواعد فقط، بل بمقتضى النصوص الشرعية؛ لأن أركان الإيمان وأركان الإسلام لها لوازم. وفي الأركان العملية خلاف، فهل من أعرض عن الصلاة والصيام والحج والزكاة إعراضاً كلياً يخرج من الإيمان أو لا يخرج؟ هذه مسألة خلافية، إلا أن الصلاة ورد فيها نصوص مستقلة على أنه يخرج تاركها من الإيمان ومن الإسلام، وما عدا ذلك فإن المسألة فيها خلاف، فبعض أهل العلم قال: إن من أعرض عن أركان الإسلام إعراضاً كلياً؛ فلا بد أن يلزم من إعراضه الجحود أو الشك الذي يؤدي إلى الجحود، أو عدم التسليم الذي يخرج به عن مسمى الإيمان. إذاً: فقوله: (لا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه) يقصد به جحود أصول الدين التي أدخلته في مسمى الإيمان، وهي أركان الإيمان ولوازمها وأركان الإسلام بجملتها ولوازمها.

تعريف الإيمان

تعريف الإيمان قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والإيمان: هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان)، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى]. هذه العبارات في الحقيقة جارى فيها الشيخ الطحاوي رحمه الله مذهبه وشيوخه الأحناف، وإن كان حاول أن يقرب بعض الألفاظ إلى المعاني التي يقول بها أهل السنة والجماعة، إلا أنه بقي في بعض عباراته شيء من الإشكال. فقوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان) ليس هو التعريف الكامل للإيمان، فقد بقي العمل بالجوارح، أي أنه مال إلى قول المرجئة. وقوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق) هذا فيه تلميح إلى قول أبي حنيفة ومرجئة الفقهاء رحمهم الله، فإنهم يقولون: إن الأعمال تخرج من مسمى الإيمان، لكنها تلزم العبد؛ لأنها أوامر ونواه، ويترتب على فعلها الثواب وعلى تركها الوعيد والعقاب. وقوله: (والإيمان واحد وأهله في أصله سواء) فيه تعبير عن مذهب المرجئة، وكأنه يشير إلى أن الإيمان هو التصديق والقول. والسلف في الحقيقة يرون أن الإيمان متعدد؛ لأن الإيمان هو معانٍ وحقائق تتفاوت، كالتصديق والإذعان والخشية والتقوى والخوف والرجاء ونحو ذلك من المعاني القلبية، وكذلك يتعدد في الأمور العملية، فأعمال الجوارح كلها تدخل في مسمى الإيمان، وهي متعددة وتتفاوت زيادة ونقصاً، وتتفاضل بحسب النية وما يقر في القلب، وتتفاضل أيضاً بنوعها وكمها، وهذا التفاضل في أعمال القلب وفي أعمال الجوارح لا يتماشى مع التعبير بأن الإيمان واحد وأهله في أصله سواء. كما أن قوله: (وأهله في أصله سواء) متابعة للمرجئة في أن المؤمنين على درجة واحدة من الإيمان، إنما يتفاوتون في الأعمال على اعتبار أن الأعمال عند هؤلاء لا تدخل في مسمى الإيمان، وكذلك قوله: (والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) يقصد بذلك أن التفاضل معنوي ولا يكون حسياً، وهو بهذا أيضاً يميل إلى قول المرجئة بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان على الأقل في ظاهر اللفظ، وإن كان الشارح ابن أبي العز رحمه الله حاول أن يجر هذه العبارات إلى مذهب أهل السنة والجماعة بشيء من التكلف، والله أعلم، وسيتضح هذا من خلال ما سيذكره.

ذكر الخلاف في حقيقة الإيمان

ذكر الخلاف في حقيقة الإيمان

ذكر مذهب السلف في حقيقة الإيمان

ذكر مذهب السلف في حقيقة الإيمان قال رحمه الله تعالى: [اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان اختلافاً كثيراً: فذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين إلى أنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان]. هنا زاد على كلام الشيخ الطحاوي الإشارة إلى العمل بالأركان، هذا أمر، الأمر الآخر أن العبارة فيها قصور في الحقيقة، وإن كان ابن أبي العز ربما لم يقصد ذلك، لكنه ما أراد أن يبين وجه الخطأ في كلام الطحاوي رحمه الله، وما أراد أن يشهر وجه الخطأ؛ لأنه حمله على أحسن المحامل. وقوله: [اختلف الناس] ثم قوله: [ذهب مالك]، كان الأولى منه أن يقول: فذهب السلف؛ فهذا مذهب السلف إطلاقاً: الصحابة والتابعين وأئمة الهدى، ولم يخالفهم من الأئمة المشاهير إلا أبو حنيفة وشيخه حماد وعدد قليل من أتباعهما ممن يعدون من أئمة السلف، أما البقية فهم من أهل الأهواء، فعلى أي حال ينبغي أن يقال: فهذا مذهب السلف، ثم يذكر أفراداً منهم، فيقال: فمذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي كذا، كما فصل، أو أن يقال: فمذهب السلف -كـ مالك والشافعي - إلى آخره. وقد تبع بعض المتكلمين السلف، أما أهل المدينة فهم أصل السلف، وأهل الظاهر أيضاً يوافقون السلف في كثير من الأصول في العقيدة، وقوله: [وجماعة من المتكلمين] يقصد جماعة من الأشاعرة والماتريدية. والمعتزلة يوافقون أهل السنة بإجمال في هذا القول، فيدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، وكذلك أكثر الخوارج يدخلون الأعمال في مسمى الإيمان، لكنهم لا يجزئون الإيمان، حيث يرون أن الإيمان إذا اختل منه شيء اختل كله، فعند الإجمال يوافق المعتزلة والخوارج أهل السنة، لكن عند التطبيق والتفصيل يخالفون مخالفة كبيرة، فأهل السنة يرون أن الإيمان يتفاضل، ومع تفاضله إذا اختل منه عمل بقي الآخر، والخوارج والمعتزلة يرون أن الإيمان يشمل القول والعمل، لكن إذا اختل منه جزء اختل كله، ولا يزال مذهب أكثر الإباضية إلى اليوم.

ذكر مذهب الحنفية في حقيقة الإيمان

ذكر مذهب الحنفية في حقيقة الإيمان قال رحمه الله تعالى: [وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله: أنه الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان]. قوله: (من أصحابنا) يعني: الأحناف، وهم المرجئة؛ ولا يلزم التلازم بين الأحناف والمرجئة، نعم هناك مرجئة غير الأحناف، لكنهم هم الأغلبية، فهناك من الأحناف من مال إلى مذهب أهل الحديث مذهب أهل السنة والجماعة قديماً وحديثاً، وهناك منهم من يخالفهم في بعض الجزئيات، لكن في الجملة الكلام أن غالب الأحناف هم المرجئة، كما أن أغلب المرجئة أحناف، والماتريدية كذلك مرجئة. فقوله: (أصحابنا) يعني: الأحناف، أصحابه في المذهب الفقهي. قال رحمه الله تعالى: [ومنهم من يقول: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه]. الراجح عن أبي حنيفة أنه قال: إن الإيمان تصديق وقول، وهو مذهب شيخه، وقد فرق الشارح الأقوال، فلذلك يحسن أن نجمعها الآن بإيجاز، وإن كانت ستأتي تفصيلاً، فمحصلة الأقوال في الإيمان أنها خمسة: أولها: قول السلف بأنه قول وعمل، هذا على الإجمال، وأحياناً يفصلون فيقولون: اعتقاد بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان. والقول الثاني: أنه تصديق القلب وقول اللسان، وهذا مذهب أبي حنيفة وشيخه وكثير من أوائل المرجئة. والقول الثالث: أنه قول اللسان فقط، وهذا قول الكرامية. والقول الرابع: أنه التصديق فقط، وهذا قول طائفة من الأحناف، وهو قول أبي منصور الماتريدي وكثير من أتباعه، ولا يزال هو قول كثير من المرجئة، سواء كانوا أشاعرة أو ماتريدية أو غيرهم، بمعنى أن المرجئة لهم قولان: منهم من قال: الإيمان هو التصديق فقط، وأثر هذا عن أبي حنيفة، وهو أيضاً قول الماتريدي وقول كثير من المرجئة الأشاعرة والماتريدية، ومنهم من قال: إن الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو الأرجح عن أبي حنيفة، وقال به بعض المرجئة أيضاً. والقول الخامس: أن الإيمان هو مجرد المعرفة فقط، أي: أن من عرف الله فهو مؤمن، سواء صدق أو لم يصدق، فالذي يعرف ويجحد كفرعون مؤمن كامل الإيمان، وهذا قول الجهم وقول بعض الفلاسفة وغلاة الصوفية، ويقول به كثير من الباطنية.

ذكر مذهب الكرامية ومذهب الجهمية

ذكر مذهب الكرامية ومذهب الجهمية قال رحمه الله تعالى: [وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان، لكن يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به! وقولهم ظاهر الفساد. وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي -أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله؛ فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام، ولم يؤمنوا بهما، ولهذا قال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء:102]]. وجه الاستدلال هنا أنه قال: (لَقَدْ عَلِمْتَ) وهذا مما حكاه الله عز وجل عن موسى وفرعون، وفرعون لم ينكر هذه الدعوى؛ لأنه ما أنكر قول موسى: (لَقَدْ عَلِمْتَ)، ثم إن الله عز وجل حكى بذلك وجه الحق في القصة، فلو كان فيها استدراك فيما لا يعلمه إلا الله عز وجل -وهو ما في قلب فرعون - لتبين هذا في القرآن، أو لبينه الله عز وجل، ثم إن موسى لا ينطق إلا بالحق في الدعوة إلى الله وإقامة الحجة على فرعون، والله عز وجل يسدده ويعصمه من أن يقول الباطل، لا سيما أنه يشير إلى ما في قلب فرعون. وقوله: (لَقَدْ عَلِمْتَ) فيه نوع من إطلاع موسى على شيء من الغيب مما في قلب فرعون، فلو لو يكن هذا حقاً -أي: أن فرعون علم لكنه جحد- لما جاءت بهذا السياق في كتاب الله، فلو كان كلام موسى عليه السلام عن فرعون مجرد ظن؛ لما جاء بها هكذا دون أن يسدده الله عز وجل ويبين له وجه الحق في ذلك، لا سيما أنه يشير إلى معنى قلبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد أطلع الله عليه نبيه موسى، وهو أن فرعون علم في قرارة قلبه أنه ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر. قال رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَة الْمُفْسِدِينَ} [النمل:14]]. دلالة هذه الآية دلالة ظاهرة؛ لأن الله عز وجل يحكي حالهم، والله لا يقول إلا الحق، فالله يحكي حال فرعون وآله؛ لأنهم استيقنتها أنفسهم، بمعنى أنهم عندهم يقين قلبي، لكن الجحود جحود مكابرة وجحود تعالي وغطرسة وغرور، وهذه من صفات الإنسان إذا طغى واستحوذ عليه الشيطان، نسأل الله العافية. قال رحمه الله تعالى: [وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم، ولم يكونوا مؤمنين به، بل كافرين به، معادين له، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً، فإنه قال: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان! فإنه لم يجهل ربه، بل هو عارف به، {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36] {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى، ولا أحد أجهل منه بربه، فإنه جعله الوجود المطلق، وسلب عنه جميع صفاته، ولا جهل أكبر من هذا، فيكون كافراً بشهادته على نفسه!]. هذا من باب الإلزام، والشاهد أنه يلزم من قول الجهم -وهو قول خبيث غال في الخبث- أنه إذا كان الإيمان هو معرفة الله فقط، وأن من عرف الله استحق الثواب على الإيمان، يلزم منه أن يكون فرعون وقومه من المؤمنين والذين يستحقون الثواب، وأنهم لا يكونون كافرين على هذا المفهوم، وكذلك أبو طالب وقريش، والكفرة الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى، كل هؤلاء على قاعدة الجهم يعدون من المؤمنين وليسوا من الكافرين، وكذلك إبليس، وهذه مغالطة وقلب للحقائق، وهذا أسلوب الباطنية في كل زمان.

حاصل الأقوال في حقيقة الإيمان

حاصل الأقوال في حقيقة الإيمان قال رحمه الله تعالى: [وبين هذه المذاهب مذاهب أخر بتفاصيل وقيود، أعرضت عن ذكرها اختصاراً، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره. وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان: إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله، كما تقدم]. هذا كلام ليته عبر به في السابق، فهذا تعبير سليم عن قول السلف بأسلوب واضح صريح ليس فيه مجاملة للأحناف ولا للمرجئة. قال رحمه الله تعالى: [أو بالقلب واللسان دون الجوارح، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، أو باللسان وحده، كما تقدم ذكره عن الكرامية، أو بالقلب وحده، وهو إما المعرفة كما قاله الجهم، أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله، وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر].

نظرة في حكم الشارح على الخلاف بين أبي حنيفة وسائر الأئمة بأنه خلاف صوري

نظرة في حكم الشارح على الخلاف بين أبي حنيفة وسائر الأئمة بأنه خلاف صوري قال رحمه الله تعالى: [والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري، فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزءاً من الإيمان، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه؛ نزاع لفظي، لا يترتب عليه فساد اعتقاد]. وهذا الكلام أيضاً مما تساهل فيه الشارح وأراد أن يتوسط حسب رأيه ووجهة نظره بين الطحاوي والأحناف من جهة وبين أهل السنة من جهة أخرى، فتصوير الخلاف بأنه صوري مطلقاً غير صحيح، وكذلك تصوير الخلاف بأنه لفظي مطلقاً غير صحيح، فهو صوري ولفظي من جهة، لكنه اعتقادي وعلمي من جهة أخرى، أما كونه صورياً ولفظياً فهذا من جهة الأعمال وثمرة الأعمال، أي: جزاء الأعمال، بمعنى أن أبا حنيفة وأتباعه -سواء الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق، والذين قالوا: هو التصديق والقول- عندهم للأعمال اعتبار كبير، فلا يتساهلون في الأعمال، ويرون أنها من لوازم الإيمان، وأن الإخلال بالأعمال يترتب عليه الوعيد، وأن الزيادة في الأعمال عليها الثواب العظيم، فمن ناحية العمل يكون الغالب أن النزاع لفظي، وهذا عند الكبار الأوائل منهم الذين في عصر السلف في القرن الأول والثاني تقريباً، أما المتأخرون منهم فصار عندهم نوع تساهل في فروع هذه المسألة، وانعكس هذا المفهوم عندهم في التساهل في الأحكام والأسماء والأعمال وثمرات الأعمال انعكاساً مباشراً وغير مباشر، وأقصد بذلك أن متأخري المرجئة تساهلوا في مسألة لوازم الأعمال من الولاء والبراء، ومن تحقيق الوعيد، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، بخلاف الأولين، فـ أبو حنيفة رحمه الله ومن كان في زمنه وقبله كانوا لا يتساهلون في مسألة الأعمال، وعندهم من الورع ومن التزام السنة ما يجعلهم لا يخلون بمنهج الولاء والبراء، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا بلوازم العمل من حيث الوعيد ونحو ذلك. إذاً: الخلاف عند الأوائل في الجانب العملي صوري في نهايته وثمرته، لكن في الجانب الآخر -وهو الجانب الاعتقادي- لا شك أن هناك فرقاً كبيراً، ولذلك جعل أهل السنة بإجماع المسألة من مسائل الاعتقاد، وهي قولهم بأن الإيمان قول وعمل، وإدخالهم الأعمال في مسمى الإيمان، وصار ذلك من أصول العقيدة يقررونه في كتبهم، ويدرسونه ويحشدون له الأدلة، وكتبوا في ذلك مجلدات تقريراً للحق، فالسلف لا يتكلمون بالفضول، وهم أكثر الناس تورعاً عن الكلام والتأليف في فضول الأمور، فقد عنوا بمسألة الإيمان عناية باهرة وكبيرة وعظيمة جداً، أي: إدخال الأعمال في مسمى الإيمان، وأن الأعمال جزء من الإيمان. وترتب عليها من الجانب الاعتقادي القول بأن الإيمان يزيد وينقص، ولذا فالمرجئة يرون أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فصارت هذه المسألة من الناحية الاعتقادية والعلمية من أكبر المسائل عند أهل السنة والجماعة، وربطوها بالتي قبلها، ثم جاءت مسألة الاستثناء في الإيمان، وصارت من أساسيات العقيدة؛ لأنها فرع عن القول بأن الإيمان تصديق أو أنه تصديق وعمل، فالذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق والقول؛ قالوا: لا يجوز الاستثناء في الإيمان؛ لأنك إذا صدقت لا تستثني، والسلف حينما قالوا بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، أجازوا استثناء في الإيمان؛ لأن العمل مرتبط بالعبد، فإذا كان موقناً بالله عز وجل عاملاً بمقتضى الشرع؛ فليقل: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه ليس المقصود مجرد التصديق اللغوي، ومجرد الإقرار. فعلى هذا فالخلاف من الناحية العملية عند الأوائل لفظي فعلاً، لكنه عند المتأخرين من الناحية العملية لم يعد لفظياً، أما من الناحية الاعتقادية والناحية العلمية فإن الخلاف ليس بلفظي، بل ترتب عليه أمور خالفت مقتضى النصوص الصريحة عند السلف، والسلف حينما قرروا أن الإيمان يزيد وينقص وأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأنه يجوز الاستثناء في الإيمان، حينما قرروا ذلك قرروه لأن النصوص وردت بذلك، فلا بد من حماية النصوص وقواعد الشرع وأصول الدين من أن تنتهك وتختل مفاهيمها عند الناس لمجرد مجاراة إمام غلط أو زل.

تكفير تارك الصلاة بدليل مستقل لا يلزم منه امتناع دخول سائر الأعمال في الإيمان

تكفير تارك الصلاة بدليل مستقل لا يلزم منه امتناع دخول سائر الأعمال في الإيمان قال رحمه الله تعالى: [والقائلون بتكفير تارك الصلاة ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقاً]. اعترض الشيخ هنا اعتراضاً قاله بعض أهل العلم، لكنه اختصر فجعل الاعتراض غير واضح، ثم أجاب عن هذا الاعتراض، يقول: إن من الأعمال ما يخرج تركه من الملة، أو يدخل تركه الكفر، وهو الصلاة، وعلى هذا فإن تارك الصلاة إذا كان يخرج من الملة أو يكفر فقد اختل إيمانه، أو لا يقال: إنه مؤمن، ثم يقول: إن الجواب عن هذا أن الصلاة استثنيت بنصوص مستقلة. وهذا الكلام في مجمله صحيح، فالصلاة ورد النص بتكفير تاركها أكثر مما ورد في غيرها، وقد وردت نصوص بأن كفر تارك الصلاة كفر مغلظ، فقد وصف تارك الصلاة بالشرك، والشرك لا يكون -إذا قارن الكفر- إلا الكفر المغلظ، وكلامه هذا صحيح، لكنه فيه نوع من الالتباس، فلا يظهر أنه يستدل للسلف أو يستدل ضدهم، وكأنه بذلك يشير إلى أن هذا دليل من أدلة المرجئة الذين يقولون: إن ترك الأعمال لا يخرج من الإيمان إلا الصلاة، والصلاة جاء دليل إخراج تاركها من الإيمان بدليل مستقل، لا لأنها من الإيمان. نقول: هذا صحيح من وجه وليس بصحيح من وجه آخر، فصحيح أن الصلاة استثنيت من أركان الإسلام بأن تاركها يخرج من الملة عند بعض أهل العلم، أو يكفر كفراً مغلظاً أو نحو ذلك مما قيل، وأن فيها نصوصاً مستقلة، لكن هذا لا يعني أن غيرها من الأعمال لا يدخل في مسمى الإيمان؛ لأننا نقول: الإيمان يزيد وينقص، ولا نقول بأن الذي يختل إيمانه يخرج من الإيمان بالكلية، فمن هنا لا مكان للاعتراض على أهل السنة بهذا المثال، لكن استثناء الصلاة وارد. فكثير من الأعمال تركها لا يخرج من الملة، إلا الصلاة، لكن لو أن إنساناً ترك أركان الإسلام جميعاً وأعرض عن الدين بالكلية فإنه يكفر وإن كان مصدقاً، وسيأتي أيضاً إشارة إلى هذا في مقام آخر، المهم أنه هنا اعترض اعتراضاً بالقول بأن تارك الصلاة يكفر ويخرج من الإيمان، فعلى هذا فإن الأعمال داخله في الإيمان، ثم كأنه استدرك على هذا الاعتراض بقوله: إن الصلاة جاء النص فيها مستقلاً، ونحن نقول: كما جاء النص بأن تارك الصلاة يكفر كذلك جاءت النصوص بأن الذي يخل بالأعمال ينقص إيمانه، والذي يفي بالأعمال يزيد إيمانه، وهذا له نصوص مستقلة، فيبقى الاعتراض غير وارد على أهل السنة والجماعة، إنما يرد على المرجئة فيما بينهم، وعلى المرجئة وخصومهم الآخرين من المعتزلة والخوارج الذين يخرجون أهل الكبائر من الإيمان بالكلية.

مراد أهل السنة بالقول والعمل

مراد أهل السنة بالقول والعمل قال رحمه الله تعالى: [ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل، وأعني بالقول: التصديق بالقلب والإقرار باللسان، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: الإيمان قول وعمل]. هذا أيضاً من الكلام المجمل الملتبس، فكلامه هذا فيه إجمال وفيه نظر من ناحية أخرى، فقوله: التصديق بالقلب والإقرار باللسان هو معنى أن الإيمان قول وعمل ليس بصحيح. فالقول بأن التصديق بالقلب والإقرار باللسان يخالف ويناقض قول السلف بأن الإيمان قول وعمل؛ لأن السلف فسروا قولهم، وتفسيرهم لهذه الكلمة متواتر، وهو أنهم يقصدون بـ (قول وعمل) قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح. إذاً: فكلمة (قول وعمل) ليست مرادفة للإقرار بالقلب والقول باللسان، بل تزيد عليها قطعاً؛ لأن السلف اتفقوا على أن المقصود بقولهم: (قول وعمل) جميع الأمور الثلاثة: التصديق والإقرار باللسان والعمل بالأركان، لذلك لما خاضوا مع المرجئة في هذه المسألة فصلوا، فلما اضطر السلف للتفصيل فصلوا، وقالوا: الإيمان هو تصديق الجنان وقول اللسان وعمل الأركان، وهو تفسير لكلمة (قول وعمل). وقوله: [لا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل] هذا صحيح، لكن تفسيره بأن القول التصديق بالقلب والإقرار باللسان فقط، فيه نوع من الالتباس؛ لأنه قال: [وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم: قول وعمل]، فليته شرح معنى (وعمل) وجعلها في أصل الشرح السابق، من أجل أن يزول اللبس، ومع ذلك يبقى لسلامة العبارات محمل لو لم يكن هناك نوع من التكلف في عرض قول المرجئة في هذا المقطع كله، فلو لم يكن هناك التباس في الكلام في أوله وآخره لقلنا: إن هذا الكلام يمكن أن يحمل على أحسن المحامل، فيبقى سليماً في الجملة، لكن إذا نظرنا إلى مجمل القول قبل صفحات وفي الصفحات التالية؛ وجدنا أن هذا القول ملبس ولا بد من بيانه وشرح معنى جملة (قول وعمل)، فهي ليست مرادفة للتصديق والإقرار فقط، وإن كان القول فعلاً يرادف التصديق والإقرار، لكن العمل أمر لا بد من الإشارة إليه هنا، وأنه يعني الأمور الثلاثة، والله أعلم. قال رحمه الله تعالى: [لكن هذا المطلوب من العباد هل يشمله اسم الإيمان أم الإيمان أحدهما، وهو القول وحده، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر، وإن أطلق عليهما كان مجازاً؟ هذا محل النزاع. وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله]. يقصد أن أهل السنة والمرجئة أجمعوا، فكأنه يريد أن يجمع بينهم هنا ليوفق بين المذهبين. قال رحمه الله تعالى: [وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد، لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال: لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما! بل قال: كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام! وهذا غلو منه؛ فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه، فمنهم الأخفش والأعشى، ومنهم من يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها]. ويعني هنا طائفة من المرجئة. وقوله: (قد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بجوارحه أنه عاص لله ورسوله مستحق للوعيد) هذا فعلاً قول لأهل السنة والمرجئة جميعاً. لكن قوله: (لكن فيمن يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال) يقصد أن هناك طائفة من المرجئة توافق أهل السنة في ظاهر القول، لكن عند التفصيل يخالفون، فهذا قول بعض المرجئة، كما أنه رد من معتدلة المرجئة -وهم مرجئة الفقهاء- على الجهمية، فعبارة: (لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق) هي قول طائفة من المرجئة، وليس كلهم، وتوافق قول بعض الجهمية.

تعليق على كلام المحقق في نقله المذاهب في منزلة العمل من الإيمان

تعليق على كلام المحقق في نقله المذاهب في منزلة العمل من الإيمان وللمحقق كلام في الحاشية نقله عن غيره فيه شيء من الإجمال، وكنت أود لو أنه وضحه، حيث قال ناقلاً: [قال الخوارج والمعتزلة: إن الأعمال أجزاء الإيمان، فالتارك للعمل خارج عن الإيمان عندهما]. فهذه العبارة آخرها صحيح وأولها فيه نظر، أعني أن القول بأن الأعمال أجزاء للإيمان هذا فعلاً قول المعتزلة وقول الخوارج، لكنه يوافق بعض أقوال أهل السنة والجماعة، وقلت لكم: أهل السنة والجماعة يرون أن الأعمال داخلة في الإيمان، وأنه يمكن أن يعبر بعضهم بأنها أجزاء الإيمان، لكن ليست أجزاء بمثابة الأركان عند أهل السنة، بل أجزاء بمثابة المتممات والمكملات، فالإيمان يزيد وينقص لأنها منه، فظاهر أول العبارة يوافق قول أهل السنة والجماعة بأن الأعمال أجزاء الإيمان، وإن كانوا لا يعبرون بهذا التعبير، لكن هذا هو مفهوم قول أهل السنة والجماعة، ثم عند التطبيق يفارق الخوارج والمعتزلة أهل السنة، فالخوارج والمعتزلة حينما وافقوا أهل السنة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان -وهو ما عبر عنه هنا بأجزاء الإيمان- خالفوهم في مسألة حكم الذي يخالف في الأعمال، وهو مرتكب الكبيرة، فإن الخوارج والمعتزلة يرون أن مرتكب الكبيرة إذا أخل بجزء الإيمان اختل إيمانه كله، بينما أهل السنة يقولون: إذا أخل بجزء الإيمان -وهو العمل- ينقص إيمانه بقدر الخلل العملي. ثم جاء بكلام ينبغي التنبيه عليه، وهو أنه أشار إلى قول المرجئة، فقال: [والثالث مذهب المرجئة، فقالوا: لا حاجة إلى العمل، ومدار النجاة هو التصديق فقط]، وهذا كلام مجمل، وكان الصواب أن يقول: مذهب الجهمية، أو يقول: غلاة المرجئة، أو: مرجئة الجهمية، ولا يقول: مذهب المرجئة، فالمرجئة لا يقولون: لا حاجة إلى العمل، إنما يقولون: العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، فهو إنما حكى هنا قول الجهمية وسماه مذهب المرجئة، وفي هذا نوع من الإيهام. ثم قال: [فصار الأولون والمرجئة على طرفي نقيض، والرابع أهل السنة وهم بين بين, فقالوا: إن الأعمال أيضاً لا بد منها، لكن تاركها مفسق لا مكفر، فلم يشددوا فيها كالخوارج والمعتزلة، ولم يهونوا أمرها كالمرجئة]. هذا الكلام في الحقيقة فيه إجمال وإيهام، صحيح أن أهل السنة بين المرجئة الغلاة وبين الخوارج والمعتزلة، لكن قوله بأنهم قالوا: إن الأعمال لا بد منها كأنه يحكي مذهب أبي حنيفة، بمعنى أنها شرط زائد عن مجرد الإيمان، وأنها من لوازم الإيمان، بينما أهل السنة يقولون: لا بد منها بمعنى أنها من الإيمان أو تدخل فيه، ثم قوله: [لكن تاركها مفسق لا مكفر] هذا فيه تفصيل وليس على إطلاقه، فبعض الأعمال تاركها يكفر بحسب ما ورد في النصوص، وبعضها يفسق، وأيضاً يقال بأن إيمانه ناقص، ويقال: نقص إيمانه. وقوله: [ولم يهونوا أمرها كالمرجئة] أيضاً فيه نظر؛ لأن مرجئة الفقهاء هونوا أمرها في آخر الأمر، ثم قال: [افترقوا إلى فرقتين، فأكثر المحدثين أن الإيمان مركب من الأعمال، وإمامنا أبو حنيفة وأكثر الفقهاء والمتكلمين إلى أن الأعمال غير داخلة في الإيمان] هو هنا خلط بين الناس قال: [مع اتفاقهم على أن فاقد التصديق كافر]. نعم، فاقد التصديق بالكلية كافر. أيضاً وكلمة (أكثر الفقهاء) فيها نظر. وقوله: [فلم يبق الخلاف إلا في التعبير] هذا أيضاً فيه نظر، فليس صحيحاً أن الخلاف في التعبير، الخلاف عقدي، وهو اعتقاد أن العمل يدخل في مسمى الإيمان، وهذا هو الحق، وأن الإيمان يزيد وينقص، وهذا هو الحق، وأنه يجوز الاستثناء في الإيمان؛ لأنه عمل البشر، وعمل البشر يجوز استثناؤه، ولأن الإنسان لا يدري ما مصيره وما مصير عمله عند الله عز وجل، فالاستثناء جائز، وهو لا يعني عدم الثقة بالعمل، إنما يعني أن يكل الأمر إلى الله عز وجل، ولا يزكي نفسه.

اختلاف درجات نور التوحيد في قلوب العباد

اختلاف درجات نور التوحيد في قلوب العباد قال رحمه الله تعالى: [ومن يرى الخط الثخين دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها، ومن يرى عن قرب زائد على العادة، وآخر بضده]. هذا مما يمكن أن نسميه نوعاً من الخلط؛ لأن ابن أبي العز رحمه الله يظهر لي أنه يوافق أهل السنة والجماعة إجمالاً، لكنه أيضاً عنده نوع مما نسميه القرب أو اعتقاد معقولية بعض أقوال المرجئة، وأنها معقولة، ويمكن أن تفسر بتفسيرات تتوافق مع مذهب السلف؛ نظراً لأن النزاع لفظي. فهنا بدأ يستدل لأهل السنة والجماعة باستدلالات لا بأس بها، وإن كانت موهمة، لكنه إيهام فيه غموض لا أحب أن أشير إليه؛ لأننا نحمل كلام ابن أبي العز على أحسن المحامل، لاسيما أنه في آخر المبحث هنا قرر الانتصار لأقوال أهل السنة والجماعة في الأمور التي ذكرها، فإذا كان انتصر لها فلا شك أن اضطرابه في الأمور السابقة وفي بعض المسائل الآتية ناتج عن أنه يرى أن أقوال المرجئة لها وجه، وأنها يمكن أن تكون أقوالاً اجتهادية، وإن كان يرجح غيرها، فهنا بدأ يستدل لمذهب السلف بأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص. قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا -والله أعلم- قال الشيخ رحمه الله: (وأهله في أصله سواء)، يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيه إلا الله تعالى]. قوله: (وأهله في أصله سواء) يحتمل أمرين عند الطحاوي رحمه الله: يحتمل أن يقصد بالأصل مبدأ الإيمان، وهو مجرد التصديق ابتداء، ويحتمل أن يقصد بأصله الإيمان التصديقي الذي هو كل الإيمان عند المرجئة، فمن هنا تبقى العبارة محتملة، لكن الشارح ابن أبي العز فسرها بما هو أقرب إلى أقوال السلف، ومع ذلك في عباراته نوع من الإيهام، فقول الطحاوي: (وأهله في أصله سواء) إن قصد أن أهل الإيمان في مبدأ التصديق سواء، أي: في وجود الإيمان في قلوبهم، ثم يتفاوت هذا الإيمان في المعاني والأعمال؛ فهذا صحيح، وإن كان قصده الوقوف عند القول بأن الإيمان في قلوب الناس سواء، بمعنى أنه لا يرى أنه يتفاوت في الأعمال والأحوال؛ فهذا خطأ. وابن أبي العز كأنه أراد أن يجمع بين الأمرين، فقال: [لا يلزم منه التساوي من كل وجه، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله] فهذا فيه أيضاً نوع تقريب بالكلام إلى مذهب السلف. قال رحمه الله تعالى: [فمن الناس من نورها في قلبه كالشمس، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري، وآخر كالمشعل العظيم، وآخر كالسراج المضيء، وآخر كالسراج الضعيف، ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه، وهذه حال الصادق في توحيده، فسماء إيمانه قد حرست بالرجوم من كل سارق، ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله تعالى)، وقوله: (لا يدخل النار من قال: لا إله إلا الله)، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس، حتى ظنها بعضهم منسوخة، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار، وأول بعضهم الدخول بالخلود، ونحو ذلك]. ينبغي أن يفهم أن هذه النصوص ما أشكلت فعلاً إلا على المرجئة، فالخوارج بالغوا في الأخذ بها، فما أشكلت عليهم، فهم يعتبروها هي المحكمة، ويعتبرون نصوص الوعد هي المتشابهة، لكن المرجئة هم الذين أشكلت عليهم نصوص الوعيد، أما بقية أهل العلم فما أشكلت عليهم، هذا أمر.

وجه اللبس في اعتبار الطحاوي استواء أهل الإيمان في أصله

وجه اللبس في اعتبار الطحاوي استواء أهل الإيمان في أصله الأمر الآخر: أن الكلام السابق كله في شرح قول الطحاوي: (وأهله في أصله سواء) فيه نوع التباس؛ لأن الشيخ ابن أبي العز هنا إن قصد بهذا الكلام أن الإيمان يتفاوت في أحواله ومعانيه القلبية فقط دون الأعمال؛ فهذا لا يكفي في شرح الكلمة، وإن أراد أن الإيمان يتفاوت في الأحوال القلبية وفي أحوال الأعمال فهذا صحيح، لكنه ما استكمل الموضوع، غير أنه هنا يوهم بأنه أيد الأحناف في أن المقصود بالزيادة والنقص الزيادة في جانب التصديق، والزيادة في الأحوال القلبية، لا سيما أنه قبل ذلك قال ما يدل على أنه هنا يخدم المرجئة أكثر مما يخدم أهل السنة والجماعة. حيث شرح قول الطحاوي: (والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى)، فهذه كلها معان قلبية فيها إشارة إلى أن الأعمال لا علاقة لها بالزيادة والنقصان، أو لا علاقة لها بالإيمان. وكذلك قول ابن أبي العز هنا وشرحه للكلمة، كأنه يشير إلى أن الزيادة والنقصان وعدم التساوي بين العباد في الإيمان إنما هو في الجوانب التصديقية وأحوال القلوب، إلا أنه بعد ذلك فصل بين الأمرين ورجع رجعة أخرى إلى تقرير زيادة الإيمان بالأعمال، وهذا المسلك قد يستغله المرجئة في تفسير كلام الشيخ، لأنه في صالح المرجئة، لكن إذا أخذنا الكلام بمجمله، فأخذنا هذا المقطع مع ما سيأتي من تقرير أن الأعمال يزيد بها الإيمان وينقص؛ فإنا نعتبر ابن أبي العز قد عدل عن هذا المسلك ورجع إلى مذهب أهل السنة والجماعة، لكنه بأسلوب مضطرب، كأنه أراد أن يجر المرجئة والأحناف إلى مذهب أهل السنة والجماعة بأسلوب يصلح لهم.

امتناع حصول الإيمان بمجرد الإقرار دون ما يقوم بالقلب من حقائق الإيمان

امتناع حصول الإيمان بمجرد الإقرار دون ما يقوم بالقلب من حقائق الإيمان قال رحمه الله تعالى: [والشارع صلوات الله عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط]. هنا يرد على الكرامية. قال رحمه الله تعالى: [فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام؛ فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب]. هذا الكلام فيه إجمال، فقوله: [فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب] الصحيح أن الأمرين يجتمعان، الأعمال تتفاضل بالعدد وبتفاضل القلوب. فالإنسان الذي يعمل عملاً صالحاً لا شك أن ثوابه على هذا العمل بقدر ما في قلبه من الإخلاص واليقين وبقدر كثرة العمل، فالإنسان إذا كان يكثر من النوافل عن يقين وتصديق بالله وخشوع، فإنه يؤجر ويعظم ثوابه على الأمرين: على ما في قلبه من التصديق والخشوع وعلى كثرة العمل، وهنا حصر الأجر والثواب والتفاضل على ما في القلب فقط، وهذا جارى فيه المرجئة، فكلامه صحيح من وجه، لكنه يحتاج إلى إكمال، فيحسن أن تكون العبارة: وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب وبعددها وبنوعها أيضاً. قال رحمه الله تعالى: [وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر، فتثقل البطاقة، وتطيش السجلات، فلا يعذب صاحبها، ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار. وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته -وهو في تلك الحال- أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت!]. هذه قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين ثم جاء إلى عابد وسأله: هل له من توبة؟ فقال: ليس لك توبة، فلما يئس من التوبة قتله وأتم به المائة، ثم ذهب إلى عالم فقيه في دين الله فسأله: هل له من توبة؟ فقال له: نعم، ومن يحول بينك وبين الله عز وجل؟! فنصحه بأن يذهب إلى مجتمع صالح وإلى أهل بلد صالحين، لعله بينهم تصلح أعماله فيقبل الله توبته، وفعلاً اتجه إلى هذه البلاد من أجل أن يعيش بينهم وهو صادق التوبة، فمات في الطريق بين القريتين، فجاءته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فتنازعوا فيه، كل منهم يقول بأنه تبع له، ثم قيست المسافة بين البلدين فوجدوا أنه إلى بلد أهل الخير والاستقامة أقرب، فدخل في رحمة الله عز وجل. والشارح يقصد بهذا أنه استحق الجنة قبل أن يعمل، لكن الصحيح أن هذا الدليل ليس دليلاً للمرجئة، إنما هو دليل لأهل السنة، وإن كان فعلاً دليلاً للجميع -للمرجئة وأهل السنة- على من قال بأن الإيمان قول اللسان فقط، فهو أيضاً دليل لأهل السنة؛ لأن ما استحق به الثواب عمل واعتقاد، فهذا الرجل الذي استحق الثواب من الله عز وجل واستحق الجنة والتوبة أنشأ العمل، بمعنى أنه سار برجليه متجهاً إلى بلد صالح وإلى أناس صالحين ليحقق ما أمره الله عز وجل به، فهو عمل، وليس المقصود ما وقر في قلبه فقط. قال رحمه الله تعالى: [وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية؛ فغفر لها]. هذا دليل لأهل السنة على أن الأعمال من الإيمان. قال رحمه الله تعالى: [وهكذا العقل أيضاً، فإنه يقبل التفاضل، وأهله في أصله سواء، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين، وبعضهم أعقل من بعض. وكذلك الإيجاب والتحريم، فيكون إيجاب دون إيجاب، وتحريم دون تحريم، هذا هو الصحيح، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب].

الأسئلة

الأسئلة

سبب الاختلاف في حقيقة الإيمان

سبب الاختلاف في حقيقة الإيمان Q ما سبب الاختلاف في الإيمان؟ A سبب هذا الخلاف في الإيمان، نزعة علم الكلام التي وجدت في ذلك الوقت، أي: الكلام في القدر، وكلام الخوارج في مرتكب الكبيرة، وكلام أوائل المعتزلة، فكلام القدرية والخوارج هو الذي سبب قول المرجئة، فهو ردة فعل؛ لأن الخوارج بالغوا في مسألة الجزاء على الأعمال حتى إنهم كانوا يرون أن الكبيرة تزيل الإيمان بالكلية، وتخرج المسلم من الإيمان بالكلية، فهذا أوجد جواً من المناقشات والمناظرات والتمحل العقلي والرد بالعقليات والرد بالفلسفة والمراء والجدل، الأمر الذي مهد لظهور الإرجاء فيما بعد.

حكم الاهتزاز أثناء القراءة

حكم الاهتزاز أثناء القراءة Q ما حكم ما يفعله بعضهم من الاهتزاز أثناء القراءة؟ A هز الرأس عند تلاوة القرآن لا أصل له، وإذا كان الإنسان يتعبد به فهو بدعة، وإذا ما تعبد به فهو خطأ يجب أن لا يرتكبه.

من يلتمس له العذر في المخالفة في بعض مسائل العقيدة

من يلتمس له العذر في المخالفة في بعض مسائل العقيدة Q إذا كنا نلتمس للعلماء الأجلاء العذر في كونهم جانبوا الصواب في بعض مسائل العقيدة؛ فلماذا لا يلتمس بعض المعاصرين العذر لأناس لهم قدرهم ومكانتهم في مسائل عقدية؟ A هذا أصل شرعي، وهو أن نلتمس للعلماء الأجلاء وأهل الفضل والصلاح والاستقامة المعروفين بالسنة العذر إذا خالفوا، ما لم يرتكبوا أمراً مخلاً بالعقيدة أو يصروا على بدعة، فإنهم نلتمس لهم الأعذار في مثل ما ورد، كمسألة الكلام في المرجئة، والتماس الأعذار لا يعني الإقرار على ما فعلوا ولا أن ما قالوه حق، وفرق بين التماس العذر للشخص كـ أبي حنيفة وغيره وبين الإقرار بما قاله، فنحن نلتمس لهم العذر ولا نتبعهم فيه. أما ما يحصل من بعض الناس فليس بحجة، فالناس تحدث منهم تجاوزات وبغي من بعضهم على بعض في كل زمان، وعلى أي حال فما يحدث بين أهل السنة وأهل الحق من تجاوز هذا الأصل هو إما من الجهل وإما تشف وإما حسد، وإما غير ذلك من الأمور التي تعتري البشر، والبشر فيهم الضعف والخلل والتقصير، ومع ذلك يجب على المسلمين أن يتناصحوا وأن يجمعوا الكلمة وأن يلتفوا حول علمائهم، ولو أن أمثال هؤلاء الذين لا يعذر بعضهم بعضاً من أهل الحق والصلاح رجعوا إلى علمائهم وإلى أهل الفضل والعدل فيهم لما حصل منهم ذلك.

شرح العقيدة الطحاوية [71]

شرح العقيدة الطحاوية [71] أدلة دخول الأعمال في مسمى الإيمان كثيرة، وقد صنف فيها السلف كتباً وردوا على المخالفين من المرجئة الغلاة، ومرجئة الفقهاء والجهمية وغيرهم، وفندوا شبهاتهم وحججهم، وبينوا بوضوح عقيدة السلف في الإيمان وآثارهم وأقوالهم، وما يؤدي إليه لازم قول المرجئة من انتشار المعاصي والمنكرات واستحلال المحرمات والتهاون في الواجبات وغيرها من المآلات الباطلة.

حصول زيادة الإيمان بزيادة الشرائع والتكاليف

حصول زيادة الإيمان بزيادة الشرائع والتكاليف قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل: فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجب على من بلغه خبره، كما في حق النجاشي وأمثاله]. يعني بذلك أن الإيمان يزيد بزيادة الشرائع والتكاليف، وعلى هذا فإنه يزيد بزيادة العمل أيضاً، فكلما زاد عمل الإنسان بما أمر به، وزاد انتهاؤه عما نهي عنه؛ زاد إيمانه، كما أن الإيمان يزيد في أصل نشأته في تاريخ التشريع، بمعنى أن الإيمان في أول الأمر في العهد المكي كان المقصود به مجرد بعض الأمور المعرفية وبعض الأعمال، ثم زاد بتشريع الصلاة، ثم زاد بتشريع بقية أركان الإسلام، وتشريع الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بالدعوة، زاد من حيث الكم، بمعنى أن كل هذه تسمى إيماناً، كما أنه يزيد أيضاً بعمل الإنسان نفسه، فالإنسان كلما زاد امتثاله للأوامر الشرعية زاد إيمانه؛ لأن الإيمان يزيد بالأمور القلبية والأمور العملية. قال رحمه الله تعالى: [وأما الزيادة بالعمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس المخبر كالمعاين)، وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله، لكن المخبَر -وإن جزم بصدق المخبِر- فقد لا يتصور المخبَر به نفسه كما يتصوره إذا عاينه، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله عليه: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]]. الإيمان يزيد بالأعمال فيما يتعلق بالجوارح، وكذلك يزيد بالأمور التي ترد إلى القلب فتزيد اليقين، ما يرد إلى القلب مما يزيد اليقين يعد زيادة في الإيمان، حتى وإن كان من الأمور التصديقية الخبرية. قال رحمه الله تعالى: [وأيضاً: فمن وجب عليه الحج والزكاة -مثلاً- يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملاً، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل. وكذلك الرجل أول ما يسلم إنما يجب عليه الإقرار المجمل، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان. ولا شك أن من قام بقلبه التصديق الجازم الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة لا تقع معه معصية، ولولا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى؛ بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية فيغيب عنه التصديق والوعيد فيعصي، ولهذا -والله أعلم- قال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث، فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا، وإن بقي أصل التصديق في قلبه، ثم يعاوده؛ فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201]. قال ليث عن مجاهد: هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه. والشهوة والغضب مبدأ السيئات، فإذا أبصر رجع، ثم قال تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:202]، أي: وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا الإنس تقصر عن السيئات، ولا الشياطين تمسك عنهم. فإذا لم يبصر يبقى قلبه في عمى والشيطان يمده في غيه، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب، فذلك النور والإبصار وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه، وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى وإن لم يكن أعمى، فكذلك القلب بما يغشاه من رين الذنوب لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر، وجاء هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا زنا العبد نزع منه الإيمان، فإن تاب أعيد إليه)].

ما أراده الشارح في تقرير زيادة الإيمان بالأعمال

ما أراده الشارح في تقرير زيادة الإيمان بالأعمال المقطع السابق كله لا يزال فيه نوع في بيان معنى أن الإيمان يزيد بالعمل، بل ربما يفهم بعض الناس -وربما يكون هذا مقصود الشارح- أن كل هذه النصوص وهذه المعاني قصد بها أن الزيادة والنقص في القلب فقط، أي: في الجانب التطبيقي، فربما يفهم من عبارات الشارح هذا الكلام. والحقيقة أني تأملت الأمر فوجدت أن ما ساقه الشارح هنا يحتمل الأمرين: يحتمل أن المقصود به الاستدلال على قول القدرية؛ لأن المقصود بزيادة الإيمان زيادة اليقين في القول وزيادة التصديق فقط، وأما كون الإيمان يزيد بالأعمال -يعني أن الأعمال تدل على زيادة التصديق، وأن الأعمال من لوازم الإيمان وليست من ذاته- فهذا محتمل حقيقة، لكن مع ذلك فإن في العبارات ما يدل على أنه يقصد أن الإيمان يزيد وينقص بالأعمال، وأن الزيادة والنقص ليست فقط بزيادة اليقين والتصديق، إنما هي أيضاً زيادة تشمل العمل، بمعنى أن العمل من الإيمان وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان. فقوله: [وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل] إلى آخر ما ذكره يحتمل أن الشارح أراد فيها الانتصار لمنهج أهل السنة والجماعة رداً على المرجئة بإثبات أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وأنه بها يزيد وينقص، لكنه لم يفصح عن ذلك إفصاحاً بيناً. فمثلاً: قوله: [وأما الزيادة في العمل والتصديق المستلزم لعمل القلب والجوارح] فيه إشارة إلى أنه يقصد الاستدلال لمذهب المرجئة؛ لأن زيادة الإيمان بالأعمال لا تدل على أن الأعمال من مسمى الإيمان، إنما تدل على أن الأعمال مظاهر للجانب التطبيقي والمعرفي في القلب، وأننا نعرف زيادة الإيمان ونقصه بلوازمه وبالأعمال، وهذا وارد، لكنه غير صحيح. ويحتمل أنه يقصد الاستدلال على أن الإيمان يزيد وينقص بزيادة الأعمال ونقصها، أي: بالعمل والترك حسب الأوامر الشرعية. وفي الحقيقة أني تأملت في هذا المقطع كله أكثر من مرة ووجدت أن الأمر فيه غموض، فالشارح ابن أبي العز اضطرب في هذه المسائل والتي قبلها وفي بعض ما سيرد، فعنده نزعة الاعتذار للمرجئة الأحناف، في حين أنه -والله أعلم- يميل في حقيقة الأمر إلى مذهب أهل السنة والجماعة؛ ولذلك حاول أن يتوسط بأسلوب فيه اضطراب، فكان كلامه محتملاً للأمرين: يحتمل أنه يقصد بهذا المقطع كله الاستدلال على أن الإيمان يزيد وينقص بالأعمال، وأن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، ويحتمل العكس، أنه أراد الاستدلال على أن الأعمال زيادتها ونقصها إنما هي دليل على زيادة ونقص التصديق في القلب، أي: إنما هي مستلزمات فقط، أي: قرائن ودلائل على الإيمان الذي في القلب، وليست من مسمى الإيمان.

حقيقة النزاع بين أهل السنة والمرجئة في دخول الأعمال في مسمى الإيمان وزيادته

حقيقة النزاع بين أهل السنة والمرجئة في دخول الأعمال في مسمى الإيمان وزيادته قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك]. سبق أن ذكرت أن النزاع ليس لفظياً، فالحقيقة أن النزاع عقدي، وإن كان لفظياً من بعض الوجوه، لكنه من حيث العلم والاعتقاد ليس بلفظي، فمن الجانب العملي نجد أن النزاع بين أهل السنة وأوائل المرجئة يكاد يكون لفظياً من الناحية العملية، والدليل على ذلك أن المرجئة الأوائل الذين يخرجون العمل من مسمى الإيمان لا يتساهلون في العمل، ويرون أن الإخلال بالعمل معصية، وأن ارتكاب ما نهى الله عنه معصية، ويثبتون الوعيد الثابت في المعاصي، لكنهم يقولون: إن وجوب العمل بالأمور العملية وترك ما نهى الله عنه ثابت بنصوص خارجة عن نصوص الإيمان، أي: جاء وجوب العمل ووجوب الترك لما نهى الله عنه بمقتضى نصوصٍ لا تدل على أن هذه الأمور من الإيمان بذاته، إنما هي من لوازمه، فيقولون: الإنسان إذا آمن وصدق لا بد أن يذعن لأوامر الله عز وجل ويترك نواهيه، وهذا من لوازم الإيمان أو من شروط الإيمان، والشرط خارج عن الأصل، كما نقول في شرط الصلاة، فشرط الصلاة هو من مقدماتها ومن الأمور التي تسبقها، فيقال -مثلاً-: من شروط الصلاة الطهارة، لكن ليست الطهارة من أجزاء الصلاة، هذا نظير كلام الأحناف والمرجئة في الإيمان، وهم يقولون فعلاً: الأعمال من مستلزمات الإيمان وليست من الإيمان، وهذه شبهة في الحقيقة، وليست حجة؛ لأن الأمر يرجع إلى الاصطلاح الشرعي، أي: ما ورد به كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهمه الصحابة والسلف في معنى الإيمان، فهؤلاء وقفوا في معنى الإيمان على المعنى اللغوي، وسيأتي ذكر شبهتهم والرد عليها بعد قليل. إذاً: ليس النزاع في المسألة نزاعاً لفظياً إلا من جانب الثمرة العملية فقط، أما من حيث الاعتقاد ومن حيث المعرفة فلا شك أن هناك نزاعاً عقدياً حقيقياً، هذا شيء. الشيء الآخر: أن أوائل المرجئة بينهم وبين أهل السنة خلاف لفظي في الجانب العملي، وليس الأمر كذلك عند المتأخرين من المرجئة، فمتأخرو المرجئة تساهلوا في هذا الأمر حتى إنهم أخلوا بكثير من أمور الوعيد؛ لأنهم لما قالوا: إن الإيمان التصديق قالوا بأن من أعرض عن الأعمال بالكلية يبقى مؤمناً مسلماً حتى وإن لم يعمل من الدين بشيء، وهذا خلاف الأصل الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهذه النزعة بدأت على ألسنة بعض المعاصرين الذين يقولون: لا يكون الكفر إلا بالتكذيب القلبي، فقولهم هذا هو قول المتأخرة من المرجئة، وهو غير صحيح، فالكفر يكون أيضاً بالأعمال، إما عملاً وإما تركاً، فالإعراض عن الدين بالكلية كفر مخرج عن الملة، وكذلك عمل الشركيات وإن كان القلب مصدقاً مؤمناً، فالعمل بالشركيات كفر مخرج عن الملة، ولا يصح أن يقال: لا يشرك إلا من زال من قلبه الإيمان، فقد يشرك وفي قلبه التصديق. إذاً: فالصحيح أن الخلاف ليس بلفظي مع المتأخرين، أما عند المتقدمين فقد يكون لفظياً من الجانب العملي، لكنه ليس بلفظي من الجانب الاعتقادي العلمي.

أصناف المرجئة في كلام السلف

أصناف المرجئة في كلام السلف قال رحمه الله تعالى: [وإذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً فلا محذور فيه سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والافتراق بسبب ذلك، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم، وإلى ظهور الفسق والمعاصي بأن يقول: أنا مؤمن مسلم حقاً كامل الإيمان والإسلام، ولي من أولياء الله! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي، وبهذا المعنى قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله! وهذا باطل قطعاً]. هذا الكلام أيضاً وما تبعه من تعليق من المحقق في الهامش فيه نوع إيهام، فقوله: [أن يصير ذلك ذريعةً إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء] هذا ليس على إطلاقه، كما أن قوله بعد ذلك: [قالت المرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وهذا باطل قطعاً] هو حق، لكن ليس هذا قول المرجئة الذين يعنيهم السلف، فالسلف يطلقون المرجئة في الإطلاق العام المشهور ويقصدون بهم مرجئة الفقهاء من الأحناف والأشاعرة والماتريدية، وأغلب الذم الوارد وما ورد في نصوص وآثار السلف إنما هو في الرد على هذا النوع من المرجئة، وهم الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق، أو: التصديق والقول فقط، ومن ثم لا يجعلون الأعمال من الإيمان، ولا يقولون بزيادة الإيمان ونقصانه، ولا يستثنون في الإيمان، فأصحاب هذه الأصول الأربعة أو الخمسة هم المرجئة عند السلف. أما الذين أشار إليهم الشارح هنا فسماهم أهل الإرجاء فيسميهم السلف الجهمية، وهم الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، يعني: بإطلاق، هؤلاء هم مرجئة الجهمية، وهم المقصودون بالإطلاق في عبارات من بعد السلف. فالسلف كانوا يطلقون على الجهمية مرجئة، لكن هذا قليل وبحسب المناسبة، أما أكثر الذين رد عليهم السلف من المرجئة فهم مرجئة الفقهاء، وأكثر كلام السلف في المرجئة يعنون به مرجئة الفقهاء، فإذا أطلقت كلمة (المرجئة) عند العلماء فإنما يقصدون بها مرجئة الفقهاء، أما مرجئة الجهمية فإطلاقهم لها عليهم قليل، ولا يمكن أن يذكر إلا مع ذكر مقولات الجهمية أو بوصف قولهم الشنيع، هذا الإرجاء الغالي، والإرجاء عند الجهمية ناتج عن الجبر، وهو القول بأن الإنسان مجبور على أفعاله، فنتج عن ذلك الإرجاء ضرورة، يعني: الجهمية يلزمهم ذلك ولو لم يقولوا به؛ لأن من قال بأن الإنسان مجبورٍ على أفعاله وليس له أي اختيار ولا حرية ولا قدرة، فمن الضروري أن يقول بأن الإنسان لا يحاسب على أي ذنب؛ لأن المجبور على الذنب لا ذنب له. إذاً: فالصحيح أن الذين أشار الشارح إليهم هنا هم غلاة المرجئة، وهم الجهمية. وكذلك المحقق همش بوهم أكثر وقال: [الإرجاء المذموم الذي يعد بدعة هو قول من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية] والصواب أن هذا إرجاء يخرج به صاحبه من الملة، وليس مجرد ذنب؛ لأن قولهم: لا يضر مع الإيمان معصية، يدخلون فيه الشرك الأكبر، والبدع المغلظة، والكفريات والجرائم وكل شيء، وهذا لا يصح، وهذا قول غلاة المرجئة الذين هم الجهمية، وليس الإرجاء المذموم هو هذا فقط، بل الإرجاء المذموم هو قول مرجئة الفقهاء، وكذلك قول الجهمية من باب أولى. ثم قوله: [أما من يقول بإرجاء أمر المؤمنين العصاة إلى الله ولا ينزلهم جنة ولا ناراً ولا يتبرأ منهم، فهذا لا يعد بدعة] بل هذا هو البدعة بعينها إلا إذا فصل، فهذا فيه إجمال، فالصحيح أن من قال بإرجاء عصاة المؤمنين يوم القيامة إلى الله عز وجل فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، فقد وافق قول أهل السنة والجماعة، أما من قال بالإرجاء المطلق -وهو نتيجة قول المرجئة- فإن هذا بدعة، وقوله: لا ينزلهم جنة ولا ناراً، كذلك الكلام مجمل. فقول المحقق: [الإرجاء المذموم الذي يعد بدعة هو قول من يقول: لا يضر مع الإيمان معصية] هذا ليس على الإطلاق، فهو مذموم فعلاً، لكنه إرجاء غلاة المرجئة وهم الجهمية، ومن الإرجاء المذموم عدم إدخال العمل في مسمى الإيمان، وعدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه، وعدم الاستثناء في الإيمان إلى آخره. وقوله: [وأما من يقول بإرجاء أمر المؤمنين العصاة إلى الله ولا ينزلهم جنة ولا ناراً] كلام مجمل، فإن قصد بهذا عصاة المؤمنين الذين يموتون دون توبة فصحيح، فهؤلاء أمرهم إلى الله عز وجل. وقوله أيضاً: [لا ينزلهم جنة ولا ناراً] هذا أيضاً أمر محتمل، أما مصيرهم في النهاية فلا شك أنه إلى الجنة، حتى أولئك الذين يعذبون من أهل الكبائر من عصاة المؤمنين إذا لم يغفر الله لهم، فإنهم قد يعذبون عذاباً على قدر أعمالهم ثم يخرجون بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أو بشفاعة غيره. وقوله: [لا يتبرأ منهم] هذا كلام مجمل أيضاً، فما معنى التبرؤ؟! فالتبرؤ الكامل لا يجوز، لكن التبرؤ بقدر ما فيه من فسق وعصيان أو بدعة هذا أمر ضروري، ولذلك قرر فعلاً منهج المرجئة، ولم يقرر مذهب أهل السنة في هذه الكلمة، فقوله: [ولا يتبرأ منهم] ليس على إطلاقه، فالتبرؤ فيه تفصيل، فلا يتبرأ منهم تبرؤاً كاملاً؛ لأن عصاة المؤمنين لهم من الولاية بقدر إيمانهم، لكن أيضاً يتبرأ

مأخذ أبي حنيفة ومأخذ مخالفيه من الأئمة في اعتبار حقيقة الإيمان

مأخذ أبي حنيفة ومأخذ مخالفيه من الأئمة في اعتبار حقيقة الإيمان قال رحمه الله تعالى: [فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع، وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع، فإن الشارع ضم إلى التصديق أوصافاً وشرائط كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك]. هذا من الأمور التي تحتاج إلى شيء من الإيضاح والتعليق، وربما نعنصر هذه الفقرة؛ لأنه سيترتب على هذه المقدمة التي ذكرها أمور كثيرة ستأتي فيما بعد، فسنذكر بعض العناصر الضرورية لأنها مقدمات مهمة لما سيأتي فيما بعد من حوار بين أهل السنة والمرجئة حسب السياق الذي ذكره الشارح. قوله: [فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع، وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع] هذا الكلام يحتاج إلى تأمل، وذلك أن أمور الاعتقاد ليست كأمور الأحكام، فأمور الأحكام قد يقع فيها إذا اختلف الأئمة أن يكون الحق مع واحد من الأئمة أو مع اثنين، والبقية قد لا يصل اجتهادهم إلى الصواب، لكن العقيدة ليست كذلك، فلا يمكن أن يكون الحق مع واحد والبقية قد جانبوا الحق في أمور العقيدة؛ وهذا أمر يجب أن تهتموا به في جميع مسائل الخلاف في الأمور التي تعد أصولاً في الاعتقاد، فأهل السنة يعدون هذه الأمور من أصول الاعتقاد، أعني دخول الأعمال في مسمى الإيمان، وزيادة الإيمان ونقصانه؛ لأنه خالف فيها من خالف، فلما حشدت فيها النصوص وجدوا وجه الحق فيها بالكتاب والسنة واضحاً جداً، ولا يجوز لأحد أن يعدل عنه، وإن تأول بعض من تأول وعذر في ذلك فلا يعني أنه يحتمل أن يكون معه الحق، فقد يزل عالم من العلماء ويخرج عن مقتضى السنة في أمر صريح بين، ولا يعد ذلك من الأدلة على أن المسألة خلافية، فمسألة الإرجاء ليست مسألة خلافية، بل هي بدعة، وما دامت من العقيدة فإن شذوذ الإمام أبي حنيفة وشيخه حماد ومن جاء بعدهما ممن تبعهما عن عموم السلف لا يدل على أن المسألة خلافية، بل ما دام جمهور السلف -كما أشار الشارح- وبقية الأئمة لهم رأي آخر فيجب أن يكون الحق مع البقية، ما دام أن المخالف قليل، ولا ننظر إلى المخالف الآن، لكن ننظر إلى المخالف عندما نشأت المسألة، وهذا هو الذي ينبغي اعتباره منهجياً من الناحية الشرعية؛ لأننا نتكلم عن نشأة هذه المقولة -مقولة المرجئة- في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، وهذا يعني أن الصحابة لم يقولوا بها، ولا التابعون الأوائل، بل قال بها بعض التابعين أو تابعي التابعين، فبدأت بواحد فقط، قيل: إنه ذر بن عبد الله، وقيل: إنه حماد بن أبي سليمان، وقيل: أبو حنيفة، وقيل: إنهم كلهم قالوا بهذا القول، لكن كل واحد زاد عمن سبقه. فإذا كان في ذلك العصر ما قال بها إلا واحد، ثم أخذها عنه واحد، ثم اشتهرت عند هؤلاء؛ فهل يعقل أن الحق مع واحد؟! إنه في الأمور الاجتهادية قد يرد هذا، لكن في الأمر العقدي لا يعقل أن الحق مع واحد وإن تبعه بعد ذلك من تبعه، فكثرة أتباعه أمر لا تقوم به الحجة، حتى ولو كان أكثر المسلمين صاروا تبعاً له؛ لأن هذا مصداق حديث النبي صلى الله عليه وسلم في وقوع المخالفة والافتراق، أما منشأ القول فهو شاذ، والشاذ في العقيدة يجب أن لا يكون دليلاً أو حجة على الناس. إذاً: فهذا السياق أراد به الشيخ أن يلطف الخلاف، في حين أنه فعلاً بين لنا أن قول أبي حنيفة رحمه في هذه المسألة شذ به عن الأئمة وشذ به عن السلف، وعلى ذلك فلا اعتبار لهذا القول من الناحية الشرعية، هذه النقطة الأولى.

الرد على اعتبار أبي حنيفة للمدلول اللغوي للفظ الإيمان

الرد على اعتبار أبي حنيفة للمدلول اللغوي للفظ الإيمان النقطة الثانية: حينما أشار إلى المعنى اللغوي، فنقول: إن المعنى اللغوي ليس حجة على الاصطلاح الشرعي؛ لأن الاصطلاح الشرعي أمر زائد على المعنى اللغوي، يدل عليه أن الاصطلاح الشرعي في كثير من المعاني الشرعية التي وردت يزيد عن المعنى اللغوي علمياً ويزيد عملياً، والدليل على ذلك الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والدعاء وغير ذلك، كلها لها معان لغوية محدودة عند العرب، فوضع لها الشارع المعاني التي تتضمن أعمالاً، فالصلاة في اللغة هي الدعاء، لكن في الاصطلاح هي الدعاء وزيادة، والصلاة في الاصطلاح ركوع وسجود، وأدعية، وقراءة قرآن، وتوجه معين، واستقبال القبلة، فدخل في مفهوم الصلاة غير مجرد الدعاء بالمعنى اللغوي، حيث دخلت أعمال أخرى إضافية صارت جزءاً من الصلاة شرعاً. وكذلك الصيام، فالصيام لغة: هو الإمساك، لكن الشرع وضع للصيام معنى آخر، وهو الإمساك بضوابط وحدود وأعمال، وما لم تتم هذه الضوابط والحدود والأعمال لا يصير الصيام صياماً شرعياً. وكذلك الجهاد، فالأصل فيه بذل الجهد، لكنه إذا أطلق في الشرع فالمقصود به في الدرجة الأولى القتال للكفار بالسيف، وإلا فيمكن أن واحداً يجلس في بيته ويفكر في مصالح المسلمين ويقول: أنا مجاهد؛ لأنني بذلت جهدي، إذاً: فلا بد من اعتبار الاصطلاح الشرعي، فكما قلنا: إن للصلاة معنى شرعياً غير اللغوي، وكذلك الحج، والصوم، والجهاد وغيرها، فكذلك للإيمان معنى شرعي غير المعنى اللغوي، هذا ما حدده القرآن والسنة. إذاً: فالاعتذار لـ أبي حنيفة رحمه الله في قوله: الإيمان هو التصديق على أن اللغة تدل على ذلك؛ ليس بعذر، يعني: ليس بعذر في الخروج عن أصل السلف، نعم نعذره بتأول، بمعنى أننا لا نبدعه؛ لأنه إمام، لكن لا يعني ذلك أن عمله صحيح وأن قوله غير بدعة، بل بدعة ويجب تجنبها.

قيام الأدلة الشرعية على دخول الأعمال في الإيمان

قيام الأدلة الشرعية على دخول الأعمال في الإيمان الأمر الثالث: أن الأدلة من الشرع على أن الأعمال من الإيمان، وعلى زيادة الإيمان ونقصانه وبقية الأمور التي قررها السلف لا تكاد تحصر، في حين أن أدلة أبي حنيفة رحمه الله وغيره من المرجئة على أن الإيمان هو التصديق فقط أدلة قليلة جداً، واستدلالهم بها فيه اشتباه وفيه ضعف، فهل يعقل أن نعدل عن الأدلة الصريحة القوية الكثيرة التي كتبها العلماء في مجلدات، وكلها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال من الإيمان، وكلها صريحة صراحةً بينة، مثل حديث شعب الإيمان، فهل يعقل أن نعدل عن هذه الأدلة الصريحة الكثيرة إلى أدلة قليلة مشتبهة للعلماء عليها رد بين؟! نعم هناك أدلة سيوردها بعد قليل فيها اشتباه على من لم يرجع إلى قواعد السلف في الاستدلال، وفيها اشتباه على من لم يرد النصوص بعضها إلى بعض، أما من رد النصوص بعضها إلى بعض وفسر بعضها ببعض فلا بد أن يتبين له وجه الحق في أن الإيمان هو التصديق وزيادة، أن الإيمان هو التصديق والعمل، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان. الأمر الرابع: أن هذه الأوصاف للإيمان التي اعتبروها أوصافاً وشرائط، أي أن الأحناف حينما قالوا: إن الأعمال من لوازم الإيمان، لكنها أشبه بالأوصاف للإيمان، وأشبه بالقرائن على وجود الإيمان، وأشبه بالشروط للإيمان ومستلزماته، لكنها ليست من الإيمان. نقول لهم: لما سميتموها أوصافاً وشرائط للإيمان لا يتم الإيمان إلا بها؛ فإن هذا يعني أنها في الاصطلاح الشرعي توسع مفهومها حتى صارت جزءاً من الإيمان، وسماها الله عز وجل إيماناً، وكونها سميت إيماناً؛ لأنها تنبني على التصديق والمعرفة، وهذا أمر ضروري بدهي. فتسمية الأعمال بالإيمان فعلاً؛ لأن فيها جزءاً تصديقياً، بمعنى أن من عمل ولم يصدق لا يعتبر مؤمناً، وكذلك من صدق ولم يعمل لا يعتبر مؤمناً، وهم يقولون العكس، يقولون: من صدق ولم يعمل يعتبر مؤمناً، لكنه يعاقب على تركه لموجب النصوص الخارجية، وهذا ليس بكلام جيد، هذا كلام عقلي فلسفي، هذه أهم الأمور التي أحببت أن أشير إليها؛ لأنها عبارة عن ضوابط سنحتاجها بعد قليل في سياق قول الأحناف والرد عليهم.

ذكر أدلة أبي حنيفة على أن الإيمان عبارة عن التصديق في اللغة

ذكر أدلة أبي حنيفة على أن الإيمان عبارة عن التصديق في اللغة

نفي إخوة يوسف إيمان أبيهم لهم في إخباره بشأن يوسف

نفي إخوة يوسف إيمان أبيهم لهم في إخباره بشأن يوسف قال رحمه الله تعالى: [فمن أدلة الأصحاب لـ أبي حنيفة رحمه الله: أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، قال تعالى خبراً عن إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] أي: بمصدق لنا]. هذه الآية وجه الدلالة عندهم فيها غير صريح، فقول إخوة يوسف: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17] لا يتعلق بقضية شرعية، فإخوة يوسف أخبروا أباهم بخبر ثم قالوا هذا القول، فما دخل في ذلك الإيمان في الاصطلاح الشرعي، فهم يستدلون بدليل يتعلق بالخبر على أمر يتعلق بالأوامر والنواهي الشرعية، فهذا الدليل ليس في مكانه. إذاً: ليس المقصود في كلام إخوة يوسف الإيمان الشرعي، ولو كانوا يقصدون الإيمان الشرعي لقالوا: وما أنت بمؤمن بنا، لكن حينما قالوا: (لنا) عرف أن المقصود الإيمان بخبر وليس الإيمان بالمعنى الشرعي الذي هو الأعمال والأمور القلبية التي هي مقتضى الإسلام. فهذا دليل على أن التصديق يسمى إيماناً، والإيمان يسمى تصديقاً مع زيادة، والسلف ما أنكروا أن الإيمان يسمى تصديقاً وأن التصديق يسمى إيماناً، لكن هل الإيمان الشرعي مقتصر على التصديق فقط؟! إذاً: فالحنفية تجاهلوا محل الخلاف واستدلوا على ما لا خلاف فيه. قال رحمه الله تعالى: [ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك، ثم هذا المعنى اللغوي -وهو التصديق بالقلب- هو الواجب على العبد حقاً لله، وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله، فمن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى]. هذا الكلام صحيح في إطلاقه، لكن ليس دليلاً على أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان؛ لأنه تكلم عن أحكامنا الظاهرة التي يحكم بها المسلمون يحكم بها أهل العلم. فالأسماء والأحكام حينما يقررها أهل العمل لا يقصدون بها ما عند الله عز وجل، بل يقصدون الظواهر التي نبني عليها أحكاماً باجتهادنا نحن البشر، فكونه مؤمناً بينه وبين ربه أمر لا نعلمه، فكيف نعرف أنه مؤمن وهو لا يعمل؟! وعكسه المنافق، فالمنافق لا نجزم بنفاقه لأننا لا نعلم ما في قلبه، لكن نحكم له بظاهر الإسلام ونقول بأنه مؤمن مسلم؛ لأنه عمل بظواهر الإيمان. فكلامهم هذا كلام مجمل ليس حجة لهم ولا عليهم، وليس هو محل الخلاف، فنحن لا نتكلم عن تسمية العبد مؤمناً بينه وبين ربه، وإنما نتكلم عن تسميته في أحكام الدنيا، أما الأحكام الغيبية فلا نفترضها ثم نقيم الحجة على الافتراض. قال رحمه الله تعالى: [فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا]. هذا كلام صحيح من وجه، لكن فيه إجمال، فما المقصود بكون الإقرار شرطاً؟! إن قصدوا بأن الإقرار شرط أننا لا نحكم بإسلام المؤمن أو بإيمان المؤمن إلا بالأعمال فهذا صحيح، وإن قصدوا أن الإقرار والعمل شرط زائد عن الإيمان فلا نقرهم على ذلك، ونقول: الإقرار والعمل إنما هو جزء من الإيمان، فمن أقر فهو مؤمن، ومن عمل فهو مؤمن في ظاهر الأمر، كما أن من صدق فهو مؤمن إذا ألحق تصديقه بالعمل والإقرار. قال رحمه الله تعالى: [هذا على أحد القولين كما تقدم]. استدلوا أولاً بالآية على أن الإيمان المقصود به التصديق، ثم جاءوا بكلام إخوة يوسف، وإخوة يوسف لا يتكلمون عن الإيمان الشرعي، ولا يتكلمون عن أمور الدين والعقيدة، بل يتكلمون عن خبر كذبوا به على أبيهم، فقالوا: ما أنت بمؤمن لنا، ثم أتوا بالدليل الثاني.

اعتبار الضدية للكفر الذي يعني التكذيب والجحود

اعتبار الضدية للكفر الذي يعني التكذيب والجحود قال رحمه الله تعالى: [ولأنه ضد الكفر وهو التكذيب والجحود، وهما يكونان بالقلب، فكذا ما يضادهما]. هذا أيضاً فيه نظر؛ إذ عندنا عبارتان مختلفتان: عندنا شيء اسمه التصديق، وشيء اسمه الإيمان، ولا شك أن التصديق من الإيمان، لكن الإيمان أرفع من التصديق، فالتصديق يقابله التكذيب، والإيمان يقابله الجحود أو الكفر، فهم خلطوا في المسألة خلطاً لا يلزم لغة ولا يلزم في اصطلاح العلماء، فقولهم: إن الإيمان ضد الكفر هذا في الحقيقة يكون دليلاً عليهم وليس دليلاً لهم.

الاستدلال بقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)

الاستدلال بقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) قال رحمه الله تعالى: [وقوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] يدل على أن القلب هو موضع الإيمان لا اللسان، ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه]. قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] قالوا: يدل على أن قلبه هو موضع الإيمان، والجواب أن السلف ما أنكروا أن هناك حداً اضطرارياً وحداً اختيارياً، فالحد الاضطراري يصل إلى حد أن الإنسان يبقى إيمانه في قلبه فقط إذا ما استطاع أن يعمل، كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فلو أن إنساناً اضطر اضطراراً إلى ترك الأعمال في ظرف من الظروف أو في وقت من الأوقات أو في لحظة حرجة أو زمن فتنة؛ فإنه معذور بذلك حتى ولو لم يبق من الإيمان إلا التصديق، فحجتهم هنا ليست حجة عامة على أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان؛ لأن قول الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106] يتعلق بالحد الأدنى من الإيمان عند الضرورة القصوى، ونحن لا نتكلم في هذا ولا ننكره، بدليل أنه لو زالت هذه الضرورة وجب عليه العمل. فاستدلالهم هنا ليس بصحيح؛ لأن الحد الذي ذكروه هو الحد الاضطراري، ونحن نتكلم عن الأمور الاختيارية التي أوجبها الله عز وجل على الأمة إلى قيام الساعة.

تركيب الإيمان من قول وعمل يعني زواله بزوال جزئه

تركيب الإيمان من قول وعمل يعني زواله بزوال جزئه وأما الدليل الرابع، وهو أنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال الجزء، فغير صحيح أيضاً ولا يسلم لهم، فالإيمان مركب من قول وعمل، ومع ذلك لا يزول كله بزوال الجزء، بل ينقص، فالأصل أن نقول: ما دام أنه مركب من قول وعمل فإنه ينقص بزوال الجزء، ونقول لهم: من قال لكم: إنه يزول كله؟! والله عز وجل صرح في كتابه بزيادة الإيمان؛ والذي يزيد قد ينقص، بل ورد في نصوص الإشارة إلى نقصان الإيمان، فقولهم بأنه لو كان مركباً من قول وعمل لزال كله بزوال جزئه لا يسلم، وهذه فلسفة عقلية لا صحة لها.

عطف العمل على الإيمان عطفا يقتضي المغايرة

عطف العمل على الإيمان عطفاً يقتضي المغايرة قال رحمه الله تعالى: [ولأن العمل قد عطف على الإيمان، والعطف يقتضي المغايرة، قال تعالى: {آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25] في مواضع من القرآن]. العطف لا يدل على المغايرة من كل وجه، والدليل على هذا كلمة الإسلام والإيمان، فالإسلام إذا أطلق وقيل: مسلم فلا بد أن يتضمن الإيمان في الظاهر، أما الباطن فأمره إلى الله عز وجل، وإذا قيل: مؤمن فلا بد أن يتضمن الإسلام، ومع ذلك إذا اجتمعت الكلمتان فكل واحدة يصير لها معنى، وإذا افترقتا تضمنت إحداهما الأخرى، فكذلك الإيمان والعمل الصالح إذا انفردت واحدة لا بد أن تتضمن الأخرى، فالعمل الصالح لا يكون صحيحاً إلا بإيمان، والإيمان لا يكون صحيحاً إلا بعمل صالح، وإذا جاءت الكلمتان في سياق واحد في مقام واحد دلت كل واحدة على معنى يخصها فـ (الذين آمنوا) يعني: اعتقدوا اعتقاداً صحيحاً، (وعملوا الصالحات) يعني: عملوا بما أوجبه الله، ولذلك السلف فرقوا بين الكلمة إذا أطلقت وبينها إذا جاءت في سياق الجمع مع مرادفها، فعلى هذا نقول في كلمة (آمنوا وعملوا الصالحات)، كما نقول في كلمة الإسلام والإيمان.

الاعتراض على استدلال الحنفية بأن الإيمان هو التصديق في اللغة

الاعتراض على استدلال الحنفية بأن الإيمان هو التصديق في اللغة

امتناع الترادف بين الإيمان والتصديق

امتناع الترادف بين الإيمان والتصديق قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق]. هنا بدأ يذكر ردود أهل السنة والجماعة، لكنه ذكرها ذكراً فيه ضعف وإجمال. قال رحمه الله تعالى: [وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق بمنع الترادف بين التصديق والإيمان]. يقصد بهذا أن السلف حينما قال لهم المرجئة بأن الإيمان في اللغة هو التصديق قالوا: نعم إن الإيمان قد يدل لغة على التصديق، لكن ليست الكلمتان مترادفتين من كل وجه، فالترادف ممنوع، أي أن الإيمان أوسع من التصديق من الناحية الشرعية، فلا تحتجوا علينا -أيها المرجئة- بكون العرب تسمي الإيمان تصديقاً، وتسمي التصديق إيماناً؛ لأن هذا ترادف من بعض الوجوه، وكل الكلمات العربية المترادفة لا تترادف من كل وجه، ولا تتطابق من كل وجه، لكن تتطابق في أغلب معانيها أو في بعض معانيها، وكذلك كلمة (تصديق) و (إيمان) لا تترادفان من كل وجه، بل كلمة (إيمان) أوسع من كلمة (تصديق) من بعض الوجوه، فالإيمان الشرعي يشمل التصديق وزيادة، كما أن الصلاة تشمل الدعاء وزيادة، وكما أن الصيام يشمل الإمساك وزيادة، وهكذا. قال رحمه الله تعالى: [وهب أن الأمر يصح في موضع، فلم قلتم: إنه يوجب الترادف مطلقا؟! وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان، ومما يدل على عدم الترادف أنه يقال للمخبر إذا صُدق: صدقه، ولا يقال: آمنه ولا: آمن به، بل يقال: آمن له، كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} [يونس:83]، وقال تعالى: {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:61]، ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام، فالأول يقال للمخبر به، والثاني للمخبر، ولا يرد كونه يجوز أن يقال: ما أنت بمصدق لنا؛ لأن دخول اللام لتقوية العامل، كما إذا تقدم المعمول، أو كان العامل اسم فاعل أو مصدراً على ما عرف في موضعه، فالحاصل: أنه لا يقال قط: آمنته، ولا صدقت له، وإنما يقال: آمنت كما يقال: أقررت له، فكان تفسيره بـ (أقررت) أقرب من تفسيره بـ (صدقت) مع الفرق بينهما؛ ولأن الفرق بينهما ثابت في المعنى، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب يقال له في اللغة: صدقت، كما يقال له: كذبت، فمن قال: السماء فوقنا قيل له: صدقت، وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب، فيقال لمن قال: طلعت الشمس: صدقناه، ولا يقال: آمنا له؛ فإن فيه أصل معنى الأمن، والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر، ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ (آمن له) إلا في هذا النوع؛ ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق، وإنما يقابل بالكفر، والكفر لا يختص بالتكذيب، بل لو قال: أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك؛ لكان كفره أعظم، فعلم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط، ولا الكفر هو التكذيب فقط، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب؛ فكذلك الإيمان يكون تصديقاً، وموافقة، وموالاة، وانقياداً، ولا يكفي مجرد التصديق، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان]. خلاصة هذا الكلام: أن الدليل على أن الإيمان ليس هو التصديق فحسب: أنه في لغة العرب لا يقابل الإيمان التكذيب، بل الذي يقابل الإيمان هو الجحود، والذي يقابل التصديق هو الكذب، فإذا قلتم: إن الإيمان هو التصديق فمعنى هذا أن ضد الإيمان هو الكذب وليس الكفر، وهذا لا يستقيم، وما دمنا قلنا: إن الكفر ضد الإيمان فهذا يعني أن الإيمان له معنى زائد عن مجرد التصديق؛ لأن التصديق يقابله التكذيب في المعنى اللغوي المباشر. فهم قصروا الإيمان على معنى ضيق من معانيه، فقال لهم السلف: إن الذي ضد التصديق لغة هو التكذيب وعلى هذا ما أدخلتم الكفر وإن كان التكذيب يتضمن الكفر، لكن الكلام على المدلول اللغوي، فإذا قلتم بأن الإيمان هو التصديق فما تقولون في أن العرب يجعلون مقابل الإيمان الكفر والجحود؟! فهذا يجعلكم تضطربون في الوقوف على المعنى الغوي الذي هو التصديق فقط.

حصول التصديق بالأفعال

حصول التصديق بالأفعال قال رحمه الله تعالى: [ولو سلم الترادف فالتصديق يكون بالأفعال أيضا كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العينان تزنيان وزناهما النظر، والأذن تزني وزناها السمع) إلى أن قال: (والفرج يصدق ذلك ويكذبه)]. يعني: لا يتم التصديق من قبل الأعضاء إلا بالعمل. قال رحمه الله تعالى: [وقال الحسن البصري رحمه الله: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكنه ما وقر في الصدر وصدقته الأعمال. ولو كان تصديقاً فهو تصديق مخصوص كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له؛ فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق، بل بإيمان خاص وصفه وبينه]. يقصد أنه إيمان مفسر في الشرع، وهو هذا الدين، والدليل على ذلك هو أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بأركانه الستة، وفسر الإيمان بأركان الإسلام، وكلها أحاديث صحيحة، فسر الإيمان بأركانه الستة: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وبالقدر، كما فسر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث صحيحة ثابتة الإيمان بأركان الإسلام الخمسة، فإن قلنا افتراضاً: إن العرب قصروا معنى الإيمان على التصديق؛ فإن الدلالة الشرعية توسعت في المعنى فوضعت للإيمان معاني عملية، وأركاناً عملية، كما وضعت للصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، والجهاد، وغير ذلك من المصطلحات الشرعية. إذاً: فمعنى الإيمان مفسر، فلا داعي للكلام بعد تفسير النصوص، فإذا كان الله عز وجل فسر لنا معنى الإيمان، وفسره رسوله صلى الله عليه وسلم كما صح عنه؛ فلا داعي للوقوف على المعنى اللغوي، إذاً: فالإيمان شرعاً إيمان خاص مفسر، وهو هذا الدين بجملته وبما فيه من الأمور الاعتقادية والعملية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بذلك وأجمع عليه السلف.

توجيهات للقول بدخول الأعمال في مسمى الإيمان من حيث دلالة لفظ الإيمان

توجيهات للقول بدخول الأعمال في مسمى الإيمان من حيث دلالة لفظ الإيمان قال رحمه الله تعالى: [فالتصديق الذي هو الإيمان أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام، فلا يكون مطابقا له في العموم والخصوص من غير تغيير للبيان ولا قلبه، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق، أو لأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح، فإن هذه لوازم الإيمان التام، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم، ونقول: إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى، أو: إن اللفظ باق على معناه في اللغة]. قوله: (ونقول) يعني أهل السنة والجماعة، ففي الكلام خلط؛ لأنه أحياناً ينقل كلام شيخ الإسلام وكلام ابن القيم بحذافيره، فيقول: نقول وقالوا، وكأنه فريق يرد على فريق، في حين أن الكلام لأهل السنة والجماعة. قال رحمه الله تعالى: [ونقول: إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة وتخرج عنه أخرى]. أي: تدخل في المسمى اللفظي بالمدلول الشرعي، وتخرج عنه بالمدلول اللغوي أحياناً، فلوازم الإيمان -وهي الأعمال- تدخل في مسمى الإيمان اللفظي بالمدلول الشرعي، وتخرج عنه أيضاً بالمدلول اللغوي أحياناً. قال رحمه الله تعالى: [أو أن اللفظ باقٍ على معناه في اللغة، ولكن الشارع زاد فيه أحكاماً]. يقصد أن لغة العرب ليس فيها ما يمنع من أن تدخل الأعمال في مسمى الإيمان، وهذا صحيح، فالسلف استقرءوا لغة العرب ووجدوا أن العرب ليس عندهم قصر الإيمان على التصديق فقط، بل يدخلون بعض الأعمال القلبية وغيرها في مسمى الإيمان، حتى قبل ورود المصطلح الشرعي، فهذا وجه من وجوه التسوية. والثاني هو الوجه الذي قال به طائفة من السلف. قال رحمه الله تعالى: [ولكن الشارع زاد فيه أحكاماً]. أي: يجوز أن نقول: إن اللفظ وقع على معناه اللغوي فقط، وهو التصديق، لكن الشارع زاد فيه أحكاماً، وهي الأعمال والأمور الأخرى. قال رحمه الله تعالى: [أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي]. هذا بعيد وإن كان له وجه من الاستدلال؛ لأنه يجوز أن تكون الأعمال من الإيمان مجازاً، وهذا بعيد، واللغة تتسع لإدخال الأعمال في مسمى الإيمان ما دامت الأعمال التي يدين بها الإنسان لله عز وجل مرتبطة بالعمل القلبي. قال رحمه الله تعالى: [أو أن يكون قد نقله الشارع، وهذه أقوال لمن سلك هذه الطريق]. يعني: نقله الشارع من الخصوص إلى العموم، من الخصوص وهو قصر الإيمان على التصديق إلى العموم وهو إدخال الأعمال في مسمى الإيمان، كل هذه مسالك مفترضة في الرد على المرجئة في تعميم مسمى الإيمان، وأنه يدخل فيه الأعمال، وأقواها أن لغة العرب لا تمنع من دخول الأعمال في مسمى الإيمان ما دامت الأعمال مأموراً بها شرعاً، ويدين بها الإنسان لله عز وجل؛ لأن الأعمال الشرعية ليست مجرد حركات، الأعمال الشرعية تنبثق من خضوع القلب لله عز وجل، تنبثق من جانب التصديق والتسليم والإذعان واليقين، والتقوى، والحب، والخوف، والرجاء، وغير ذلك من الأمور القلبية، فإذا كانت الأعمال تنبثق عن هذه الأمور القلبية فهي مرتبطة بمسمى الإيمان.

احتجاج أهل السنة ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لمعنى الإيمان

احتجاج أهل السنة ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لمعنى الإيمان قال رحمه الله تعالى: [وقالوا: إن الرسول قد وافقنا على معاني الإيمان، وعلمنا من مراده علماً ضرورياً أن من قيل إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان مع قدرته على ذلك، ولا صلى ولا صام ولا أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولا خاف الله، بل كان مبغضاً للرسول معادياً له يقاتله؛ أن هذا ليس بمؤمن، كما علمنا أنه رتب الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)]. هذا الدليل من أقوى أدلة أهل السنة والجماعة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان شعباً، وجعل هذه الشعب تشمل الأعمال القلبية وغير القلبية، وأعمال الجوارح، بل إن الشعب بدأت بعمل اللسان، وانتهت بعمل الأركان، فقول لا إله إلا الله، وإماطة الأذى مثالان متعلقان بالعمل، ومع ذلك سماهما إيماناً، وهذا دليل قاطع بين على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مبين ولا ينطق عن الهوى، ولسانه أيضاً عربي، ولا يتكلم إلا بما يفهمه المخاطبون العرب، ولا يمكن أن يكون في لفظه وكلماته إيهام، ولسان النبي صلى الله عليه وسلم أفصح الألسنة بالعربية، فلا يمكن أن يرد احتمال باضطراب الكلام أو اضطراب اللغة. فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى هذه الأعمال إيماناً، وقال: (الإيمان بضع وسبعون شعبة، أفضلها) أي: أفضل ما سماه الإيمان (قول لا إله إلا الله، وأدناها) أي: أدنى ما سماه الإيمان (إماطة الأذى عن الطريق)، وهذه الأمثلة كلها أعمال. قال رحمه الله تعالى: [وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (الحياء شعبة من الإيمان)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: (البذاذة من الإيمان)]. الخلق كثير منه أعمال، والبذاذة ترجع إلى التواضع، يعني: عدم التكلف في اللباس، وهذا عمل. قال رحمه الله تعالى: [فإذا كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة وكل شعبة منها تسمى إيمانا؛ فالصلاة من الإيمان وكذلك الزكاة، والصوم، والحج، والأعمال الباطنة؛ كالحياء، والتوكل، والخشية من الله والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه من شعب الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها، كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً، منها ما يقرب من شعبة الشهادة ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى، وكما أن شعب الإيمان إيمان فكذا شعب الكفر كفر، فالحكم بما أنزل الله -مثلاً- من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله كفر، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم، وفي لفظ: (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، وروى الترمذي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان)، ومعناه -والله أعلم-: أن الحب والبغض أصل حركة القلب، وبذل المال ومنعه هو كمال ذلك، فإن المال آخر المتعلقات بالنفس، والبدن متوسط بين القلب والمال، فمن كان أول أمره وآخره كله لله كان الله إلهه في كل شيء، فلم يكن فيه شيء من الشرك، وهو إرادة غير الله وقصده ورجاؤه، فيكون مستكملاً الإيمان، إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل، ويأتي في كلام الشيخ رحمه الله في شأن الصحابة رضي الله عنهم: (وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) فسمى حب الصحابة إيماناً وبغضهم كفراً. وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي وغيره عن استدلالهم بحديث شعب الإيمان المذكور وهو: أن الراوي قال: بضع وستون أو بضع وسبعون، فقد شهد الراوي بغفلة نفسه حيث شك فقال: بضع وستون أو بضع وسبعون، ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم الشك في ذلك! وأن هذا الحديث مخالف للكتاب]. أبو المعين النسفي من شيوخ الماتريدية، والماتريدية مرجئة، وكثير من أهل الكلام المتأخرين من الماتريدية والأشاعرة إذا عارض الحديث أصولهم ذهبوا إلى الطعن في الحديث بأي وسيلة، فاستهدفوا إما الرواة وإما الكلام في متن الحديث، أو ذهبوا إلى أنه خبر آحاد إذا كان خبر آحاد ونحو ذلك، وهذا منهج منتشر في الأشاعرة والماتريدية، وليس هو من منهج الأولين. قال رحمه الله تعالى: [فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب، فانظر إلى هذا الطعن ما أعجبه! فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه، مع أن البخاري رحمه الله إنما رواه: (بضع وستون) من غير شك،

الأسئلة

الأسئلة

بيان مدى صحة القول بخروج الزاني من الإيمان إلى الإسلام

بيان مدى صحة القول بخروج الزاني من الإيمان إلى الإسلام Q ذكر ابن رجب في (جامع العلوم والحكم) أن الزاني إذا زنى وقد كان مؤمناً فإنه يخرج من الإيمان إلى الإسلام، فهل هذا صحيح؟ A هذا كلام يحتاج إلى تفسير معنى الإسلام، فإن كان المقصود أنه لا يزال حكمه ظاهراً أنه مسلم فهذا صحيح، بمعنى أنه ظاهراً وباطناً لا يزال مسلماً، فهذا يرجع إلى التفصيل في معنى (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)، فهل يزول عنه الإيمان بالكلية ثم يرجع إليه، أو يزول عنه الإيمان في هذه الجزئية، وهي الإيمان بتحريم الزنا؟ هذه مسألة اختلف فيها أهل العلم اختلافاً كبيراً، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية وفصل فيها في كتاب الإيمان فليرجع إليه.

شرح العقيدة الطحاوية [72]

شرح العقيدة الطحاوية [72] الإيمان قول وعمل، والقول يشمل قول القلب أي: تصديقه واعتقاده، وقول اللسان وتكليمه، والعمل يشمل عمل القلب من الخوف والخشية والرجاء والتوكل والحب والبغض، وعمل الجوارح وهو فعل الطاعات وترك المعاصي والمنكرات، كما أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي والسيئات، والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة والآثار السلفية الواردة في ذلك.

رد أهل السنة على المرجئة في احتجاجهم بزوال الإيمان المركب بزوال جزئه

رد أهل السنة على المرجئة في احتجاجهم بزوال الإيمان المركب بزوال جزئه قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقالوا أيضاً: وهنا أصل آخر، وهو أن القول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد، وقول اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام، والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه، وعمل الجوارح، فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله، وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء؛ فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة، وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة!!. ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب، إذ لو أطاع القلب وانقاد لأطاعت الجوارح وانقادت، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة، قال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب)، فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً، بخلاف العكس، وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت فمسلَّم، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء، فيزول عنه الكمال فقط]. يقصد بذلك أن الذين قالوا: إن الإيمان يزول بزوال جزئه، وهم طائفة من الذين قالوا: لا يزيد ولا ينقص، هذا من جانب، ومن جانب آخر أيضاً هو قول المعتزلة والخوارج، ليس فقط قول طوائف بعض المرجئة، فالذين قالوا: إن كونه يلزم من زوال جزئه زواله كله هم بعض المرجئة، وهم أيضاً الخوارج والمعتزلة، والخوارج والمعتزلة هم عكس المرجئة في كثير من الأمور، ومع ذلك يلتقون في بعض المستلزمات وبعض الأقوال. وهو هنا يريد أن يرد على الذين قالوا: إن الإيمان يزول بزوال جزئه، وإنه إذا زال جزء منه زال كله، يريد أن يرد عليهم بأن هذا الكلام كلام مجمل، يقول: إذا قلتم: إن الإيمان يزول كله بزوال شيء منه؛ فهذا لا يصح. وقوله: [فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية] يقصد كل أفراد الإيمان، فهو يقول: إنه لا يصح أن الإيمان يزول كله بزوال الجزء، أما إذا أرادوا أن الإيمان إذا زال شيء منه لم يبق مجتمعاً فهذا صحيح، فنحن نعرف أن الإيمان بمجموعه إذا زال جزء منه لم يبق سليماً في الجملة، فيختل شيء منه بقدر خلل هذا العمل، ولا يبقى كاملاً أيضاً، فإنه ينقص بقدر نقص هذا العمل، لكن لا يصح أن نقول: إنه إذا اختل منه شيء أو زال جزؤه أو ذهب بعضه فقد ذهب مسمى الإيمان عن المؤمن أو زال كله، بمعنى أنه لا ينعدم بزوال جزء منه، بل يبقى أصله حتى ولو كثر النقص فيه، فلو افترضنا أن النقص في أكثر أجزاء الإيمان فإنه يبقى أصله، هذا جانب. والجانب الآخر: أننا لو افترضنا أن النقص جاء من شيء عظيم في الدين -كارتكاب بعض الكبائر- فإنه مع ذلك قد يختل خللاً عظيماً، لكن يبقى أصله، وقد يرتفع معنى الإيمان عن المسلم في لحظة ما، لكنه مع ذلك لا ينفك عنه مسمى الإسلام ولا مسمى الإيمان، إنما قد يرتفع في تلك اللحظة التي حدث للمسلم فيها عارض، كأن يشك في شيء من الدين أو يضطرب اعتقاده أو يحصل له شيء من النزغات العظيمة التي تستوجب زوال الإيمان في لحظة ما، لكنه لا يلبث أن يعود، بل ربما يرتكب من الكبائر والفواحش العظام ما يمكن أن نقول: إنه بذلك لم يكن مؤمناً في تلك اللحظة التي حصل منه فيها ذلك الفعل، بمعنى أنه لا يستحق أن يكون ممن وفى بالإيمان، لكن يبقى أصل الإيمان ثابتاً. فعلى هذا فإن قول الذين يقولون: إن الإيمان يزول كله بزوال جزئه لا يصح، وإذا كان قصدهم أنه يزول كماله فنعم، لكن هذا لا يسمى زوالاً، بل يسمى نقصاً، ويسمى تقصيراً، ويسمى خللاً، ويسمى عدم كمال إلى آخر ذلك من الألفاظ التي يعبر بها أهل العلم، والآن سيبدأ في الاستدلال على تقرير زيادة الإيمان أو نقصانه.

الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه

الأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه

أدلة الكتاب على زيادة الإيمان ونقصانه

أدلة الكتاب على زيادة الإيمان ونقصانه قال رحمه الله تعالى: [والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً، منها: قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال:2]]. هنا صرح تعالى بزيادة الإيمان، فزيادة الإيمان بسبب الجمع بين العمل والمعرفة، أو العمل والتطبيق، أو تلاوة آيات الله، زادتهم إيماناً، ولا شك أنه يلزم منها أنها زادتهم يقيناً وزادتهم عملاً؛ لأن من زاد يقينه زاد عمله. قال رحمه الله تعالى: [{وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]]. هذه خمسة أدلة من كتاب الله عز وجل كلها صريحة صراحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض في أن الإيمان يزيد، وعلى أنه يزيد بمجموعة من الأمور القلبية والعملية، وليس في الأمور القلبية التصديقية فقط. قال رحمه الله تعالى: [وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها: إن الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به؟! فهل في قول الناس: (قد جمعوا لكم فاخشوهم) زيادة مشروع؟! وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟!]. هنا أشار إلى اعتراض قال به المرجئة، وهو أنهم قالوا في الزيادة المذكورة في هذه الآيات وفي غيرها: إن هذه الزيادة باعتبار زيادة المؤمن به، أي: بزيادة الشرائع، فقالوا: إن زيادة الإيمان للمؤمنين بزيادة ما يرد إليهم من الله عز وجل من أوامر ونواه وأخبار، فكلما زادت الأخبار عندهم -بزعمهم- وصدقوا بها زاد إيمانهم بذلك، وكلما زادت الأعمال وصدقوا بها زاد إيمانهم، فكأنهم أعادوا الزيادة إلى مجرد التصديق بالقلب، ثم أجابوا على هذا: بأن قولهم هذا لا يصح وإن كان ضمن الزيادة الواردة في النصوص الشرعية، فلا شك أن زيادة المؤمن به واقعة، بمعنى أن الشرائع تزيد في وقت تنزل الوحي، وفي وقت نزول هذه الآيات، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل عليه أشياء من الأعمال والاعتقادات تزيد في مسمى الإسلام، وفي شرائعه، هذا معنى صحيح، لكن ليس هذا فقط هو معنى الزيادة. إذاً: فالذين قالوا بأن الزيادة زيادة المؤمن به يقصدون به زيادة الأعمال المشروعة، فرد عليهم بقوله: فهل في قول الناس {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] زيادة مشروع؟! يعني: هل جاء فيه تشريع جديد؟! نعم إن الله عز وجل أمرهم بأن يثبتوا في الإيمان، لكن لا يعني ذلك أنه جاءهم أمر جديد في الدين، إنما أمرهم الله عز وجل بأن يثبتوا على ما هم عليه، فكذلك بقية الآيات، فليس فيها زيادة عمل مشروع، إنما فيها إشارة إلى أن المؤمنين الذين حصل لهم ذلك زاد إيمانهم، وزاد يقينهم، وزاد عملهم، وزاد أخذهم بالأسباب، وكل مستلزمات الزيادة معروفة، وأقل ذلك أنهم لما قيل لهم: إن الناس قد جمعوا لكم؛ قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهذا دليل على أنهم جمعوا بين يقين القلب وبين العمل، وهو نطق اللسان في الاحتساب وفي مسألة اللجوء إلى الله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع؟! وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم من الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقيناً، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} [آل عمران:167]، وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:124 - 125]]. الآيات التي تتنزل ويزداد بها المؤمنون إيماناً تتضمن العقائد والأمور القلبية، وتتضمن الأعمال، هذا شيء. الشيء الآخر: أن الله عز وجل نسب الزيادة إلى الإيمان نسبة صريحة لا لبس فيها كما ذكرت، إذاً: فمحاولة تأول هذا الأمر فيه نوع تناقض وتكلف.

بيان حال حديث أبي هريرة في امتناع زيادة الإيمان ونقصانه

بيان حال حديث أبي هريرة في امتناع زيادة الإيمان ونقصانه قال رحمه الله تعالى: [وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية، فقال: حدثنا الفقيه، قال: حدثنا محمد بن الفضل وأبو القاسم الساباذي قالا: حدثنا فارس بن مردويه قال: حدثنا محمد بن الفضل بن العابد قال: حدثنا يحيي بن عيسى قال: حدثنا أبو مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: (لا، الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر)]. هذا الحديث لا يصح كما قال أهل العلم. قال رحمه الله تعالى: [فقد سئل شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير رحمه الله عن هذا الحديث فأجاب بأن الإسناد من أبي ليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع فهو: الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي ضعفه أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وعمرو بن علي الفلاس، والبخاري، وأبو داود، والنسائي، وأبو حاتم الرازي، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي، والعقيلي، وابن عدي، والدارقطني وغيرهم، وأما أبو المهزم الراوي عن أبي هريرة -وقد تصحف على الكتاب، واسمه: يزيد بن سفيان - فقد ضعفه أيضاً غير واحد، وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً!]. إذاً: الحديث لا دليل فيه، ولا يصح الاستدلال به، ولا تكون به حجة للمرجئة، ومتنه تظهر عليه علامة الوضع، فالمتن مركب تماماً على عقيدة المرجئة التي ما ظهرت إلا في آخر القرن الأول، فهو مركب تركيباً يناسب عقيدة المرجئة في القول بعدم زيادة الإيمان ونقصانه، وقول طائفة منهم ومن المتكلمين بأن نقص الإيمان يعني الكفر، يعني: إذا نقص اختل كله، وهذا لا يستقيم مع النصوص الشرعية في الكتاب والسنة ولا مع ما أجمع عليه السلف، ولا مع قواعد الشرع المعروفة في مسائل التكفير. إذاً: فعلامات الوضع على متن الحديث واضحة جداً، وقد كفينا في موضوعه والحديث عنه من قبل أهل العلم؛ لأن السند لا يصح أبداً.

الأدلة من السنة على زيادة الإيمان ونقصانه

الأدلة من السنة على زيادة الإيمان ونقصانه قال رحمه الله تعالى: [وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين]. هذا الدليل السادس؛ لأن الأدلة متفرقة نوعاً ما، فالشيخ استأنف الاستدلال على زيادة الإيمان ونقصانه عند أهل السنة والجماعة، وهذا هو الدليل السادس. قال رحمه الله تعالى: [وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان العقل والدين، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، والمراد نفي الكمال، ونظائره كثيرة، وحديث شعب الإيمان، وحديث الشفاعة، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان، فكيف يقال بعد هذا: إن إيمان أهل السماوات والأرض سواء، وإنما التفاضل بينهم بمعانٍ أخر غير الإيمان؟!]. الإشارة إلى حديث شعب الإيمان هو الدليل السابع، وحديث الشفاعة الدليل الثامن، والشاهد أن حديث شعب الإيمان معروف، وسبق إيراده، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بأن الإيمان بضع وسبعون شعبة، وفي بعض الروايات: بضع وستون، ثم ذكر أعلاها وأدناها، وهي من الأعمال، فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدنها إماطة الأذى عن الطريق، وهي كلها أعمال، فعلى هذا فإن الإيمان يشمل الأعمال، ويزيد وينقص؛ لأن ذكر الأعلى إشارة إلى الزيادة والأدنى إشارة إلى النقص. وكذلك حديث الشفاعة، ذكر فيه أنه يخرج من النار من في قلبه أدنى مثقال ذرة، وفي سياق الحديث ثلاث مرات، أي: أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان؛ لأن الحديث ورد متدرجاً، فذكر فيه أدنى مرة، ثم أدنى مرتين، ثم أدنى ثلاثاً، فذكر الثالثة يدل على المقصود بشكل أوضح، فدل على أن الإيمان له أدنى وأدنى من أدنى، الأمر الذي يدل على أن الإيمان فيه زيادة ونقص، لا سيما أنه مثل الإيمان بالحبة وبنصفها وبالذرة، وهي تتفاوت فيها الزيادة والنقص، وعلى هذا فإن هذا يعتبر أيضاً دليلاً صريحاً على زيادة الإيمان ونقصانه.

آثار السلف في زيادة الإيمان ونقصانه

آثار السلف في زيادة الإيمان ونقصانه قال رحمه الله تعالى: [وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً]. هنا بدأ يستدل بأقوال السلف على أن الإيمان يزيد وينقص، فذكر الدليل الأول قول أبي الدرداء. قال رحمه الله تعالى: [منه: قول أبي الدرداء رضي الله عنه: من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص. وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه: هلموا نزدد إيماناً. فيذكرون الله عز وجل، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه: اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً. وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل: اجلس بنا نؤمن ساعة. ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان: إنصاف من نفسه، والإنفاق من إقتار، وبذل السلام للعالم. ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه، وفي هذا المقدار كفاية، وبالله التوفيق]. فيما سيأتي سيشير إلى استدلالات المرجئة والرد عليها، وهنا أشار إلى الرد مباشرة، فبدأ بالأول، وهو أنهم زعموا أن عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة، أي: أن العمل غير الإيمان، وسيرد على ذلك.

الرد على احتجاج الحنفية بأن عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة

الرد على احتجاج الحنفية بأن عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة قال رحمه الله تعالى: [وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة؛ فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان؛ فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل وعن الإسلام، وتارة يقرن بالعمل الصالح، وتارة يقرن بالإسلام، فالمطلق مستلزم للأعمال، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2]]. هنا فسر المؤمنين بمن إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وهذا يتضمن المعنيين، فوجل القلب هو نوع من اليقين والإيمان، ثم إنه نوع من العمل؛ لأن الوجل لابد أن يكون له لوازم. قال رحمه الله تعالى: [{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة:81]]. هنا أفرد الإيمان، ولابد أن يستلزم أعمالاً، أي: أن هذه المعاني لا تتحقق للمؤمنين إلا إذا كانوا يعملون بمقتضى الدين. قال رحمه الله تعالى: [وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث، (لا تؤمنوا حتى تحابوا)، (من غشنا فليس منا)، (من حمل علينا السلاح فليس منا)]. في الدليل الأول: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) نفى الإيمان عن الفاعل بعمل يخل بالإيمان، وهذا دليل على أن العمل من الإيمان، وكذلك قوله: (حتى تحابوا) فالتحاب هو عمل، وهو شرط للإيمان، بل هو أيضاً معنى من معاني الإيمان، وكذلك قوله: (من غشنا)، (من حمل السلاح)، نفى عنه ذلك بالعمل الذي هو الغش وحمل السلاح، وهذه كلها أعمال. قال رحمه الله تعالى: [وما أبعد قول من قال: إن معنى قوله: (فليس منا) أي: فليس مثلنا! فليت شعري فمن لم يغش يكون مثل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟! وأما إذا عطف عليه العمل الصالح فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما، والمغايرة على مراتب]. يقصد هنا عطف العمل الصالح على الإيمان، فإنه غايره من بعض الوجوه ووافقه في الأصل، يقول: إن كثيراً من ألفاظ اللغة العربية التي فيها ترادف إذا عطف أحدها على الآخر بقي الاشتراك على أصله، ودل العطف على المغايرة من بعض الوجوه، وهذه قاعدة عند العرب لا تتخلف، وهي قاعدة معروفة معلومة، وتستقيم في المصطلحات الشرعية أكثر من غيرها، وهو أنه إذا وجدنا لفظين مترادفين فإذا أطلق أحدهما منفرداً دل على معنى الآخر، وإذا أطلقا جميعاً بقي الاشتراك بينهما ودل العطف على التغاير من بعض الوجوه. فالعطف فعلاً يدل على المغايرة، لكن في بعض الوجوه، ولا يعني وجود المغايرة من بعض الوجوه أن الترادف انعدم أو زال. ومن ذلك: الفقير والمسكين، فإذا أطلقنا كلمة (فقير) دلت على معنى المسكين وحدها بدون أن ترد معها الأخرى. وكذلك إذا قلنا: (مسكين) دل على معنى الفقير، لكن إذا اجتمعتا فقلنا: الفقير والمسكين صار بينهما شيء من الفروق، ومع ذلك فوجوه الاشتراك بينهما موجودة، ومنها الحاجة ونحو ذلك من الأمور. وكذلك الإيمان والعمل الصالح؛ فإذا عطف العمل الصالح على الإيمان بقي الاشتراك موجوداً في أن العمل الصالح جزء من الإيمان والإيمان يشمل العمل الصالح، لكن العطف يدل على التغاير الجزئي الذي جاء من أجله سياق الكلام.

مراتب المغايرة

مراتب المغايرة قال رحمه الله تعالى: [والمغايرة على مراتب: أعلاها: أن يكونا متباينين ليس أحدهما هو الآخر، ولا جزأه، ولا بينهما تلازم، كقوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1]، {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} [آل عمران:3]]. عطف العمل الصالح على الإيمان لا يدخل في هذا المعنى إطلاقاً، وهذا ظاهر، فليس بينهما تباين كالنور والظلمة. قال رحمه الله تعالى: [ويليه: أن يكون بينهما تلازم، كقوله تعالى: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:42]، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92]. الثالث: عطف بعض الشيء عليه، كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238]، {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة:98]، {مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ} [الأحزاب:7]. وفي مثل هذا وجهان: أحدهما: أن يكون داخلاً في الأول فيكون مذكوراً مرتين]. ذكر مرتين للاختصاص، فإذا عطف على الشيء جزؤه فإنه يدل على أن أحدهما اختص بشيء، والغالب أن المعطوف يكون أخص، وأن له معنى يزيد على المعطوف عليه، فعطف الصلاة الوسطى على الصلوات دليل على أن هناك أهمية للصلاة الوسطى مع دخولها في أهمية عموم الصلوات، وعطف جبريل وميكال على عموم الملائكة يدل على أن هناك أهمية أو خصائص لجبريل وميكال مع دخولهما في خصائص الملائكة العامة، وكذلك عطف النبي صلى الله عليه وسلم على عموم النبيين يدل على أنه داخل في عموم النبيين وأنه اختص بأمر عظيم آخر، وهكذا مسألة الإيمان والعمل الصالح. قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلاً فيه هنا، وإن كان داخلاً فيه منفرداً، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوه مما تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران. الرابع: عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين، كقوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3]، وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط، كقوله: فألفى قولها كذباً ومينا. ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، والكلام على ذلك معروف في موضعه].

الاعتداد بإطلاق الشرع لفظ الإيمان لدحض دعوى المغايرة

الاعتداد بإطلاق الشرع لفظ الإيمان لدحض دعوى المغايرة قال رحمه الله تعالى: [فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه نظرنا في كلام الشارع كيف ورد فيه الإيمان؟ فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر، والتقوى، والدين، ودين الإسلام. ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان، فأنزل الله هذه الآية: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة:177] الآيات]. هنا استأنف الاستدلال، لكنه بشكل غير واضح، ففي هذه الآية دليل لأهل السنة على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان؛ لأنه فسره بالعمل. قال رحمه الله تعالى: [قال محمد بن نصر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ والملائي قالا: حدثنا المسعودي عن القاسم قال: (جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله عنه فسأله عن الإيمان؟ فقرأ: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] إلى آخر الآية، فقال الرجل: ليس عن هذا سألتك، فقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فقرأ عليه الذي قرأت عليك، فقال له الذي قلت لي، فلما أبى أن يرضى قال: إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنة سرته ورجا ثوابها، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها). وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب. وفي الصحيح قوله لوفد عبد القيس: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم)]. هذا من أصرح الأدلة وأقواها دلالة على قول أهل السنة والجماعة، ثم إنه من الأحاديث التي حار فيها كثير من المرجئة؛ لأنه فسر الإيمان بصراحة بأعمال صالحة: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء الخمس، فهذا دليل قاطع على أمرين: على أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان دخولاً أولياً، بل هي تفسير له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بهذه الأمور، فهي داخلة فيه، ليس على سبيل الاستلزام ولا على سبيل الشرطية، بل على سبيل التضمن، فالإيمان متضمن للأعمال، لأن تفسير الإيمان بالعمل بهذا الحديث تفسير صريح قاطع، وهو حديث صحيح، وتكرر بأسانيد وبألفاظ أخرى عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا اللفظ الذي أخرجه البخاري ومسلم وكثير من أهل السنة. كما أنه دليل على زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن هذه الأمور تزداد عند بعض الناس وتنقص عند بعضهم، فهم في شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يتفاوتون في العمل بها والنطق بها والتزامها قولاً وعملاً، وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأداء الخمس من المغنم. فهذه الأعمال من الأعمال التي يتفاوت فيها العباد، فتفاوتها دليل على زيادة الإيمان ونقصانه. قال رحمه الله تعالى: [ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب؛ لما قد أخبر في مواضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان. وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل؟! فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق، للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود، وفي المسند عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإسلام علانية والإيمان في القلب)، وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان].

دلالة حديث جبريل على اشتمال الإيمان على أعمال الإسلام

دلالة حديث جبريل على اشتمال الإيمان على أعمال الإسلام قال رحمه الله تعالى: [ويؤيده حديث جبريل عليه السلام، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)، فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان، فبين أن ديننا يجمع الثلاثة، لكن هو درجات ثلاث: مسلم ثم مؤمن ثم محسن. والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعاً، كما أنه أريد بالإحسان ما ذكر مع الإيمان والإسلام لا أن الإحسان يكون مجرداً عن الإيمان، هذا محال، وهذا كما قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32]، والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة، بخلاف الظالم لنفسه فإنه معرض للوعيد]. تصنيف وتقسيم العباد هنا دليل على زيادة العمل ونقصه وزيادة الإيمان ونقصه، فالسابق في الخيرات نزع إلى كمال الإيمان، والمقتصد عنده توسط في الإيمان، والظالم لنفسه نقص إيمانه، وهذا كله راجع إلى الأعمال أيضاً؛ لأن هذا معروف باللزوم، بل بالضرورة؛ لأنه لا يمكن أن هذه الآية تنطبق على من لم يعمل خيراً قط أو من صدق فقط، فلو كان الإيمان هو التصديق لقيل: إن الذين صدقوا حتى لو لم يعملوا يخضعون لهذا التصنيف، وهذا لا يرد أبداً، بل العكس هو الصحيح، فالذين تفاوتت أعمالهم بين نقص وزيادة هم كلهم من المؤمنين الذين جمعوا بين التصديق والعمل، لكن منهم من اقتصد في العمل ومنهم من سبق وعمل خيراً ومنهم من ظلم نفسه، بمعنى أنه كثر خلطه، وبهذا يدل هذا التقسيم على الزيادة والنقص في الإيمان والعمل بالضرورة. قال رحمه الله تعالى: [وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن، فإنه معرض للوعيد. فأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله من الإسلام، فالإحسان يدخل فيه الإيمان، والإيمان يدخل فيه الإسلام، والمحسنون أخص من المؤمنين، والمؤمنون أخص من المسلمين، وهذا كالرسالة والنبوة، فالنبوة داخلة في الرسالة، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها، فكل رسول نبي ولا ينعكس]. كلامه هنا يدل على أن هذه المعاني الثلاثة يتضمن بعضها بعضاً بالضرورة ويستلزم بعضها بعضاً أيضاً، ومسألة العموم والخصوص بين الإيمان والإسلام والإحسان وبين النبوة والرسالة يمكن أن تتبين لو تصورنا أن الإسلام والإيمان والإحسان عبارة عن دوائر، فنجعل دائرة الإحسان هي الدائرة الصغرى الضيقة، ودائرة الإيمان فوقها تحيط بها، ودائرة الإسلام دائرة كبرى، فإنا إذا نظرنا إلى الإحسان من حيث عدد المحسنين وجدناهم قلة؛ لأن الإحسان دائرة ضيقة جداً، فالإحسان أخص من جهة أهله ومن جهة الوجود، أي: وجود الإحسان من العباد، لأنه أعلى درجات الإيمان والإسلام، لكن من حيث نفسه نجد أن الإحسان لابد أن يستلزم الإيمان والإسلام؛ لأنه لا يمكن أن يكون هناك محسن إلا وهو قبل ذلك مؤمن ومسلم. فعلى هذا يكون الإحسان أعم من جهة نفسه؛ لأنه يشمل الإيمان والإسلام، فشمل الدائرتين الوسطى والكبرى، وأخص من جهة أهله؛ لأن المحسنين قلة. وكذلك النبوة والرسالة، فلو جعلنا الرسالة دائرة صغيرة فالنبوة دائرة كبرى فوقها، فعلى هذا فإن الرسالة لابد أن تتضمن النبوة من جهة نفسها؛ لأنه لابد أن يكون كل رسول نبياً، لكن من جهة أهلها نجد أن الرسل أقل؛ لأن الله عز وجل يصطفي الرسل من الأنبياء، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

حكمة عطف العمل الصالح على الإيمان

حكمة عطف العمل الصالح على الإيمان Q ألا يكون العطف بين الإيمان والعمل الصالح للإشعار بأهمية العمل؛ إذ الخلل غالباً يكون في العمل، فأكثر العباد يعتقدون ويصدقون ويقولون: إنا مؤمنون -كما هو واقع في هذا الزمان في كثير من المسلمين- ثم يتساهلون في العمل؟ A أما أن يكون هذا من المقاصد فهذا أمر بين، لكن مع ذلك يبقى الأصل، وهو أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان وأنه إذا اجتمع الإيمان والعمل الصالح فإن الإيمان يعني: الجوانب الاعتقادية القلبية والعمل الصالح يعني: ظواهر الأعمال، كالإسلام والإيمان إذا اجتمعا. أما أن يكون من مقاصد الشرع الإشعار بأهمية الأعمال في مسألة عطف العمل الصالح على الإيمان، وأن التساهل فيها من أكثر ما يكون في العباد؛ فهذا صحيح.

بيان معنى قوله: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل)

بيان معنى قوله: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل) Q ما معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (ليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبة خردل) فيما يتعلق بإنكار المنكر، وهل يعني هذا أن الإنكار بالقلب هو آخر حد للإيمان؟ A الحديث يتعلق بدرجات إنكار المنكر: الإنكار باليد لمن استطاع، والإنكار باللسان، والإنكار بالقلب، فالإنكار بالقلب قد يزيد وقد ينقص، لكن إذا انعدم الإنكار بالكلية فهذا دليل على عدم وجود الإيمان، بحيث لا يكون عند الإنسان إحساس ولا تمعر لوجود المنكر أو مشاهدته ورؤيته، فهذا دليل على أنه ليس عنده إيمان، فعلى أي حال أقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) يعني: من لم ينكر بأدنى درجات الإنكار القلبي، فالإنكار القلبي درجات، فمن الناس من يتمعر قلبه ويقشعر جلده من المنكر، ومنهم من يتأثر بعض التأثر، ومنهم من يشعر بأن هذا منكر وتكرهه نفسه فقط، لكن لا يتحرك قلبه، وعلى أي حال إذا لم يوجد أي شعور بالمنكر حتى بالقلب فهذا دليل على تبلد الإحساس وعدم وجود الإيمان أصلاً.

شرح العقيدة الطحاوية [73]

شرح العقيدة الطحاوية [73] الإسلام والإيمان بينهما عموم وخصوص وجهي، فإذا اجتمعا دل الإسلام على الأعمال الظاهرة والإيمان على الأعمال الباطنة، وإذا افترقا شمل كل منهما الآخر، والاستثناء في الإيمان من مسائل الإيمان التي وقع خلاف فيها بين السلف، ولكل قول دليله، وإن كان أقواها وأرجحها أن الاستثناء في أصل الإيمان لا يجوز، أما الاستثناء لعدم العلم بالعاقبة أو تعليق للأمر بمشيئة الله أو في غير أصل الإيمان فهذا لا حرج فيه.

الأقوال في مسمى الإسلام

الأقوال في مسمى الإسلام قال رحمه الله تعالى: [وقد صار الناس في مسمى الإسلام على ثلاثة أقوال: فطائفة جعلت الإسلام هو الكلمة، وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الإسلام والإيمان حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة]. قوله: منهم من جعل الإسلام هو الكلمة، الكلمة تعبير عن الشهادتين، أو الإقرار بالإسلام بأي تعبير ولو بالقرائن، يقولون: من أقر بالإسلام كأن ينطق بالشهادتين، أو تتوافر عندنا القرائن على إقراره بالإسلام -كملازمته للقيام بشعائر الدين- فإن هذا يكفيه أن يكون مسلماً، بل قالوا: إن هذا هو المقصود بالإسلام الإقرار، وانقسموا إلى طائفتين: منهم من اعتبر الإسلام هو النطق والإقرار، ومنهم من اشترط توافر القرائن الأخرى مع الشهادتين أو مع الإقرار باللسان. ومنهم من قال: إن الإسلام يعني: الأعمال الظاهرة، وهو قريب من القول الأول، إلا أن القول الأول حصر بالكلمة، قالوا: إن الإسلام هو الأعمال الظاهرة من الدين، ذلك أن الدين أعمال قلبية باطنة وهي الاعتقادات والأمور الإيمانية التصديقية، وأعمال ظاهرة، وهي الشعائر الظاهرة التي تؤدى بالأركان، فقالوا: إن الإسلام المقصود به هو الأعمال الظاهرة فحسب. وقول ثالث: أن الإسلام والإيمان مترادفان لا فرق بينهما أبداً، والقول الرابع هو الذي يرى التفريق عند الاجتماع والترادف عند الانفراد، وإن كان الترادف لا يعني الترادف من كل وجه، لكن في الجملة، وهذا هو قول جمهور السلف، فيرون أنه يفرق بين مسمى الإيمان ومسمى الإسلام عندما يجتمعان فإذا اجتمع الإيمان والإسلام في كلمة واحدة فإن الإيمان يعني: الأمور القلبية الاعتقادية المعرفية التصديقية، والإسلام يعني: شعائر الدين الظاهرة، وإذا انفرد كل واحد منهما عن الآخر فلابد أن يتضمن الآخر، فإذا أطلق اسم الإيمان على الشخص -كأن نقول: المؤمن- فلابد أن يتضمن معنى المسلم؛ لأن الكافر لا يسمى مؤمناً في الاصطلاح الشرعي، وإن سمي مؤمناً في الاصطلاح اللغوي فيما يتعلق ببعض أجزاء العقيدة، كالإيمان بالله. وقالوا: إن المؤمن إذا جاء منفرداً فإنه يشمل معنى الإسلام، وكذلك المسلم يشمل معنى الإيمان؛ لأنه جاء منفرداً، ومع ذلك قالوا: قد يطلق على المنافق أنه مسلم، لكن هذا أمر غيبي لا تتعلق به الأحكام التي نقررها، ذلك أن الأحكام على أهل القبلة وتسميات أهل القبلة ونحو ذلك متعلقة بالظواهر ومتعلقة بالقرائن، وأمور القلوب غيبية، فعلى هذا يبقى الاصطلاح صحيحاً، واستثناء المنافق لا يرد؛ لأننا لا نعلم المنافق، فأحكامنا التي نطلقها لا نفرق فيها هذا التفريق الذي يقال فيه: يستثنى منه المنافق، فالراجح أن كلمة إسلام وإيمان ومسلم ومؤمن إذا اجتمع دلت كل واحدة على معنى، وإذا افترقت دلت كل واحدة على الأخرى. وأما قوله: الإيمان بالأصول الخمسة، فالمراد الأصول الخمسة الواردة في آية بسورة النساء {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:136]، وأغفل الإيمان بالقدر لا على أساس أنه ليس من أركان الإيمان، لكن على أساس أن الغالب في الآيات والأحاديث ذكر الأصول الخمسة، وعلى أي حال فهذا الاصطلاح سبق أن تكلمت عنه وأرى أن فيه نظراً؛ لأنه موهم، فالأولى أن يقال: الأركان الستة. قال رحمه الله تعالى: [وطائفة جعلوا الإسلام مرادفاً للإيمان، وجعلوا معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة،) الحديث، شعائر الإسلام. والأصل عدم التقدير، مع أنهم قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم قالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد، فيكون الإسلام هو التصديق! وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة، وإنما هو الانقياد والطاعة]. هنا أشار إلى تناقض هؤلاء في قولهم حيث قالوا: إن الإيمان هو التصديق بالقلب، ثم قالوا: الإسلام والإيمان شيء واحد، فكأنه يقول بأنهم حينما أشاروا إلى أن الإيمان يخص معنى وهو التصديق بالقلب تناقضوا بعد ذلك حينما جعلوه مرادفاً للإسلام تماماً. أما إذا رجعنا إلى المصطلح الشرعي فلاشك أن الإيمان معنى زائد عن التصديق، والإسلام أيضاً معنى زائد على مجرد الشعائر الظاهرة، وهذا أمر مهم ولابد أن نستصحبه في كل ما سيأتي، وإذا تبين لنا ذلك عرفنا كيف نميز أدلة أهل السنة من أدلة غيرهم ووجوه الاستدلال فيها، وأقصد بذلك أن نفرق بين المدلول اللغوي للإسلام وللإيمان وبين المدلول الشرعي لهما، فعرفنا أن المدلول اللغوي للإيمان هو التصديق، وأن المدلول اللغوي للإسلام هو الانقياد العام الظاهر، وقد يطلق على الانقياد الباطن في اللغة، لكن هناك فرق بين هذا وبين المعنى الاصطلاحي الشرعي للكلمتين، فالشرع جاء بمسمى للإيمان، وهو أنه يشمل الأعمال الصالحة، وجاء أيضاً بمسمى للإسلام، وهو أنه يشمل الأمور القلبية، وترتب على هذا الأحكام في الدنيا والآخرة، فعلى هذا لابد من استصحاب الاصطلاح الشرعي عند الكلام على مسمى ال

منزلة الإسلام من الإيمان

منزلة الإسلام من الإيمان قال رحمه الله تعالى: [وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت)]. بدأ يستدل لمذهب أهل السنة في أن الإسلام والإيمان بينهما فرق إذا اجتمعا في سياق واحد كما في الحديث. قال رحمه الله تعالى: [وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بينهما أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم. وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع، وهذا هو الواجب، وهل يكون مسلماً ولا يقال له: مؤمن؟ وقد تقدم الكلام فيه، وكذلك: هل يستلزم الإسلام الإيمان؟ فيه النزاع المذكور. وإنما وعد الله بالجنة في القرآن وبالنجاة من النار باسم الإيمان، كما قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، وقال تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21]. وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه، وبه بعث النبيين: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]. فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حالة إفراد أحدهما عن الآخر، فمثل الإسلام من الإيمان كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى، فشهادة الرسالة غير شهادة الوحدانية، فهما شيئان في الأعيان، وإحداهما مرتبطة بالأخرى في المعنى والحكم كشيء واحد. كذلك الإسلام والإيمان، لا إيمان لمن لا إسلام له، ولا إسلام لمن لا إيمان له؛ إذ لا يخلو المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه، ولا يخلو المسلم من إيمان به يصح إسلامه، ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وفي كلام الناس كثيرة، أعني: في الإفراد والاقتران]. يقصد بهذا أنه لا يمكن أن تنفرد الشهادتين إحداهما عن الأخرى، كما أنه لا يمكن أن ينفرد مسمى الإيمان عن مسمى الإسلام في الجملة، فإن المسلم إذا شهد أن لا إله إلا الله فلابد أن يقر بالرسالة للرسول صلى الله عليه وسلم ويلتزم بلوازمها، وكذلك العكس، إذا شهد أن محمداً رسول الله فلابد أن يتضمن ذلك شهادة أن لا إله إلا الله، مع أن كل واحدة منهما لها لفظ ومعنى، وتعني أيضاً واجباً معيناً، لكن الواجبين لا ينفكان ولا يصح التفريق بينهما، وكذلك الإسلام والإيمان إذا اجتمعا دل كل واحد على معنى، وإذا افترقا تضمن كل واحد معنى الآخر. قال رحمه الله تعالى: [منها: لفظ الكفر والنفاق، فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون، كقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] ونظائره كثيرة، وإذا قرن بينهما كان الكافر من أظهر كفره، والمنافق من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه. وكذلك لفظ البر والتقوى، ولفظ الإثم والعدوان، ولفظ التوبة والاستغفار، ولفظ الفقير والمسكين، وأمثال ذلك].

دليل الفرق بين الإسلام والإيمان

دليل الفرق بين الإسلام والإيمان قال رحمه الله تعالى: [ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان قوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] إلى آخر السورة، وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية: (قولوا أسلمنا) انقدنا بظواهرنا، فهم منافقون في الحقيقة، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة. وأجيب بالقول الآخر، ورُجِّح، وهو أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان، لا أنهم منافقون، كما نفى الإيمان عن القاتل، والزاني، والسارق، ومن لا أمانة له، ويؤيد هذا سباق الآية وسياقها، فإن السورة من أولها إلى هنا في النهي عن المعاصي، وأحكام بعض العصاة ونحو ذلك، وليس فيها ذكر المنافقين. ثم قال بعد ذلك: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]، ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة، ثم قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15]، الآية، يعني -والله أعلم-: أن المؤمنين الكاملي الإيمان هم هؤلاء لا أنتم، بل أنتم منفي عنكم الإيمان الكامل، يؤيد هذا أنه أمرهم أو أذن لهم أن يقولوا: أسلمنا، والمنافق لا يقال له ذلك، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام كما نفى عنهم الإيمان، ونهاهم أن يمنوا بإسلامهم، فأثبت لهم إسلاماً، ونهاهم أن يمنوا به على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال: لم تسلموا بل أنتم كاذبون، كما كذبهم في قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون:1]، والله أعلم بالصواب]. ما قاله الشارح هو الراجح عند كثير من المفسرين من أهل السنة والجماعة، وإن كانوا تنازعوا في بعض الجزئيات، لكن واقع الأمر يشهد لهذا التفسير، وهو أنه لم ينف عنهم ما يعصم دماءهم وأموالهم، بل أثبت لهم أنهم دخلوا في الإسلام ونفى عنهم الإيمان الحقيقي أو الإيمان الكامل، وذلك راجع إلى أنهم أسلموا في وقت قريب أو أنهم حديثو عهد بكفر وبشرك، فالمتأمل لواقع الأعراب في ذلك الوقت يجد أنهم أذعنوا للإسلام بسبب قوة الإسلام في ذلك الوقت، ولم يكن عن روية وعن تفكر، فأذعنوا إذعان استجابة في الجملة وليس إذعان يمكن أن نسميه إذعاناً تاماً؛ لأنهم حينما أسلموا أسلموا في الجملة وانقادوا تبعاً لرءوسهم ولشيوخهم وتبعاً لما درج عليه الناس من حولهم، فكل القبائل أذعنت وأرسلت وفودها للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الإذعان العام نجد منه أنهم لم يتفقهوا في دين الله عز وجل وأنهم كانوا على قرب عهد بشركهم وبما هم عليه من أحوال قلبية وعملية، ولم يزل عنهم الإيمان بالكلية، لكنهم لم يصلوا إلى الحد الذي يكون فيه المرء منهم على فقه يعصمه عما يوجب الردة. ولذلك لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان أكثر هؤلاء ممن ارتدوا، وهكذا كل من يدخل الإسلام تبعاً لغيره من الشعوب والأمم، فإنهم لا يكونون على درجة واحدة من اليقين والإذعان والقناعة، بل يكونون تبعاً لشيوخهم وللناس، فإذا رأوا الناس أذعنوا أذعنوا، فهذا يدخلهم في مبدأ الإيمان، لكن لا يستحقون كمال الإيمان؛ لأنهم لم يتفقهوا في الدين بعد ولم يقتنعوا اقتناعاً يجعلهم يزدادون في الإسلام خيراً، وكثير منهم بعد ذلك فقهوا في دين الله وكانوا من خيار المسلمين.

انتفاء الترادف بين الإسلام والإيمان حال اجتماعهما

انتفاء الترادف بين الإسلام والإيمان حال اجتماعهما قال رحمه الله تعالى: [وينتفي بعد هذا التقدير والتفصيل دعوى الترادف، وتشنيع من ألزم بأن الإسلام لو كان هو الأمور الظاهرة لكان ينبغي ألا يقبل إلا ذلك، ولا يقبل إيمان المخلص! وهذا ظاهر الفساد؛ فإنه قد تقدم تنظير الإيمان والإسلام بالشهادتين وغيرهما، وأن حالة الاقتران غير حالة الانفراد. فانظر إلى كلمة الشهادة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، الحديث، فلو قالوا: لا إله إلا الله، وأنكروا الرسالة؛ ما كانوا يستحقون العصمة، بل لابد أن يقولوا: لا إله إلا الله قائمين بحقها، ولا يكون قائماً بـ (لا إله إلا الله) حق القيام إلا من صدق بالرسالة، وكذا من شهد أن محمداً رسول الله، لا يكون قائماً بهذه الشهادة حق القيام إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به. فانتظمت التوحيد، وإذا ضمت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة أن محمداً رسول الله كان المراد من شهادة أن لا إله إلا الله إثبات التوحيد، ومن شهادة أن محمداً رسول الله إثبات الرسالة. وكذلك الإسلام والإيمان: إذا قرن أحدهما بالآخر -كما في قوله تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم لك أسلمت وبك آمنت) - كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (الإسلام علانية، والإيمان في القلب)، وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه. وكما في الفقير والمسكين ونظائره، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فهل يقال في قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة:89] أنه يعطى المقل دون المعدم أو بالعكس؟ وكذا في قوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271]؟ ويندفع أيضاً تشنيع من قال: ما حكم من آمن ولم يسلم، أو أسلم ولم يؤمن في الدنيا والآخرة؟ فمن أثبت لأحدهما حكماً ليس بثابت للآخر ظهر بطلان قوله. ويقال له في مقابلة تشنيعه: أنت تقول: المسلم هو المؤمن، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] فجعلهما غيرين، وقد قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما لك عن فلان؟! والله إني لأراه مؤمناً. قال: أو مسلماً؟! قالها ثلاثاً)، فأثبت له اسم الإسلام، وتوقف في اسم الإيمان، فمن قال: هما سواء كان مخالفاً، والواجب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقد يتراءى في بعض النصوص معارضة ولا معارضة بحمد الله تعالى، ولكن الشأن في التوفيق، وبالله التوفيق. وأما الاحتجاج بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35 - 36] على ترادف الإسلام والإيمان فلا حجة فيه؛ لأن البيت المخرج كانوا موصوفين بالإسلام والإيمان، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما. والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه، وإنما هي من الأصحاب، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة رضي الله عنه! وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد، وأن حماد بن زيد لما روى له حديث: (أي الإسلام أفضل) إلى آخره، قال له: ألا تراه يقول: (أي الإسلام أفضل؟ قال: الإيمان)، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان؟ فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه يا أبا حنيفة؟ قال: بم أجيبه؟ وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!]. هذا دليل على أن أبا حنيفة رحمه الله كان يعتني بالنصوص الشرعية، لكن قد يحدث أحياناً شيء من سوء الفهم أو تشرب لبعض الأقوال التي تلتبس حتى على العالم الكبير مثله، أقول: فلاشك أن أبا حنيفة رحمه الله رجاع للحق، ويؤثر عنه أنه رجع عن الإرجاء بالكلية، وإن لم يرجع فإن قوله لا شك أنه مخالف لأهل السنة والجماعة، لكن هذا لا يقدح في أمانته وفي قدره كما هو معروف في ميزان أهل السنة والجماعة، فهو لا يوافق على زلته إن كان مصراً على القول بالإرجاء، لكن نظراً لإمامته ونظراً لعلمه وتقواه وصلاحه وقبوله عند عامة المسلمين يبقى له قدره من الإمامة والعلم والاعتبار، والراجح أنه لم يقل بجميع أقوال المرجئة التي شنعها السلف. وفي المقطع التالي أحب قبل أن يبدأ أن أشير إلى مسألة مهمة، فهو سيتكلم عن ثمرات الاختلاف بين الناس في مسألة الإيمان والإسلام، وهي فرع عن الاختلاف في مسمى الإيمان، فإذا كان هناك ثمرات فهذا دليل على أن الخلاف بين أهل ال

الخلاف في حكم الاستثناء في الإيمان

الخلاف في حكم الاستثناء في الإيمان قال رحمه الله تعالى: [ومن ثمرات هذا الاختلاف: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهو أن يقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله. والناس فيه على ثلاثة أقوال: طرفان ووسط، منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار، وهذا أصح الأقوال].

دليل القائلين بوجوب الاستثناء في الإيمان

دليل القائلين بوجوب الاستثناء في الإيمان قال رحمه الله تعالى: [أما من يوجبه فلهم مأخذان: أحدهما: أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال، والصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً. فالصحابة ما زالوا محبوبين قبل إسلامهم، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد! وليس هذا قول السلف]. هذا القول عند الكلابية فرع عن اعتقادهم أن أفعال الله عز وجل -ومنها المحبة والرضا والنزول والكلام وغير ذلك- أزلية قائمة بالذات غير مرتبطة بالمشيئة، فلذلك قالوا بهذه اللوازم، فجعلوا الحب والبغض لله عز وجل والكلام من الصفات اللازمة التي لا يحدث لله منها شيء، وأوضح ما يكون هذا في الكلام، فإنهم زعموا أن الكلام قائم بالنفس وأنه غير مرتبط بالمشيئة، وهذا يعني عندهم أن الله لا يتكلم متى شاء ولا كيف شاء، إنما كلامه معنى قد يعبر عنه بتعبيرات ترجع إلى تفسيرات كثيرة عندهم، فمن هنا قالوا: هو معنى قائم بالنفس، والذي يسمى كلام الله -كالقرآن- إنما هو عبارة عن كلام الله. فالتزامهم لهذا الأصل هو الذي جعل بعضهم يقولون بعدم جواز الاستثناء في الإيمان وبملازمة المحبة للشخص منذ نشأته إلى وفاته، حتى وإن انقلب من الإيمان إلى الكفر أو من الكفر إلى الإيمان، فبحسب خاتمته تكون المحبة والبغض؛ لأنهم يرون أن الله عز وجل لا ترتبط محبته بمشيئته، فهم يرون أن تعلق أفعال الله بالمشيئة يعني أن الله يطرأ له شيء لم يكن، وهذا قياس لله عز وجل على خلقه، فالخلق هم الذين تطرأ عليهم هذه الطوارئ، ويطرأ عليهم البداء ونحو ذلك، وهذا لاشك أنه منفي عن الله عز وجل. فالمهم أن الذين يوجبون الاستثناء في الإيمان -ومنهم بعض الكلابية- التزموا ذلك بسبب ما التزموه أصلاً من قولهم بأن الأفعال غير مرتبطة بالمشيئة، وهذا يذكرنا بما سبق تقريره من أن الأهواء تتجارى بأصحابها كما يتجارى الكلب بصاحبه، فيقولون بمقولة في جزئية معينة فيلزم من هذه المقولة أن تجرهم إلى أشياء أخرى في كثير من مسائل الدين، فالكلابية ما تكلموا إلا في مسألة كلام الله عز وجل وفي مسألة أزلية الصفات، أرادوا بذلك أن يقولوا: إنها أزلية غير مقترنة بالمشيئة ولا متعلقة بالمشيئة، وحينما التزموا ذلك ما توسعوا فيها أول الأمر، بل كان عندهم شيء من الحذر، لكن جاءت أجيال بعدهم من الأشاعرة والماتريدية فأخذت هذه القاعدة فنفت بها جميع صفات الله عز وجل، حتى إنها لم تثبت من الصفات إلا سبعاً، وهذه السبع أيضاً قالوا بأنها عقلية، وسموها الصفات العقلية. وقد يقول قائل: ما صلة مسألة الاستثناء في الإيمان بمسألة أفعال الله وصفاته؟ أقول: حينما زعموا أنه لا يجوز أن تتعلق أفعال الله بمشيئته، وأنه لا يفعل كما شاء، وإنما فعله دائم ملازم له أبداً وإلى ما لا نهاية؛ قالوا: من ذلك ما يتعلق بإيمان المؤمن وكفر الكافر، فنظراً لأن المؤمن عند الله مؤمن حتى وإن كان في أول حياته كافراً؛ فإن محبة الله لازمة له حينما كان كافراً وحينما أسلم، كما أن المؤمن لا نجزم بمصيره، فقد يكون بغيضاً عند الله لأنه ربما يموت على الكفر، نسأل الله العافية، فنظراً لأننا لا نجزم بمصيره، وأن الله ربما كتب له البغض والكره لا يجوز له أن يقول: أنا مؤمن، بل لابد أن يستثني وجوباً، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله. قال رحمه الله تعالى: [وليس هذا قول السلف، ولا كان يعلل بهذا من يستثني من السلف في إيمانه، وهو فاسد؛ فإن الله تعالى قال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] فأخبر أنه يحبهم إن اتبعوا الرسول، فاتباع الرسول شرط المحبة، والمشروط يتأخر عن الشرط، وغير ذلك من الأدلة. ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة، يقول: صليت إن شاء الله! ونحو ذلك، يعني القبول، ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء، فيقول أحدهم: هذا ثوب إن شاء الله! هذا حبل إن شاء الله! فإذا قيل لهم: هذا لا شك فيه! يقولون: نعم، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره!]. هذا نوع من الوسواس، والذين قالوا بهذا القول إنما هم من المتأخرين، ولا يعرف هذا القول في القرون الثلاثة، إنما نسب إلى ابن شريك وأظنه كان في القرن السادس أو الخامس، وصار له بعض الأتباع، فصاروا يقولون في كل شيء: إن شاء الله، حتى المشاهد أمامهم يقولون: هذا فلان إن شاء الله، وهو نوع من الوسواس. قال رحمه الله تعالى: [المأخذ الثاني: أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال الرجل: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد شهد لنفسه أنه من الأبر

دليل القائلين بتحريم الاستثناء في الإيمان

دليل القائلين بتحريم الاستثناء في الإيمان قال رحمه الله تعالى: [وأما من يحرمه فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً فيقول: أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين، فقولي: أنا مؤمن كقولي: أنا مسلم، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم الشكاكة، وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] بأنه يعود إلى الأمن والخوف، فأما الدخول فلا شك فيه، وقيل: لتدخلن جميعكم أو بعضكم؛ لأنه علم أن بعضهم يموت]. كلمة (الشكاكة) كلمة استعملها متأخرو المرجئة في لمز أهل السنة والجماعة، وهذا كثير في كتبهم، يقصدون بالشكاكة من يجوز الاستثناء في الإيمان، يقصدون أهل السنة والجماعة، والشكاكة هم الذين مر ذكرهم قبل قليل، وهم الذين يستثنون في كل شيء، أو الذين يوجبون الاستثناء، فهؤلاء لاشك أنهم قد يسمون الشكاكة أحياناً من باب التجوز، وبعضهم أيضاً قد يكون عنده شيء من الوسواس، لكن المرجئة توسعوا فأطلقوها على من أجازوا الاستثناء في الإيمان، وهم أهل السنة والجماعة. قال رحمه الله تعالى: [وفي كلا الجوابين نظر؛ فإنهم وقعوا فيما فروا منه، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين مع علمه بذلك، فلا شك في الدخول ولا في الأمن ولا في دخول الجميع أو البعض، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً، فكان قول (إن شاء الله) هنا تحقيقاً للدخول، كما يقول الرجل فيما عزم على أن يفعله لا محالة: والله لأفعلن كذا إن شاء الله. فلا يقولها لشك في إرادته وعزمه، ولكن إنما لا يحنث الفاعل في مثل هذه اليمين؛ لأنه لا يجزم بحصول مراده. وأجيب بجواب آخر لا بأس به، وهو أنه قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل، وفي كون هذا المعنى مراداً من النص نظر؛ فإنه ما سيق الكلام له، إلا أن يكون مراداً من إشارة النص. وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين وهما]. الزمخشري من رءوس المعتزلة كما هو معروف. قال رحمه الله تعالى: [وهما: أن يكون الملك قد قاله فأثبت قرآنا]. رجع الزمخشري إلى مشربه، وهذه من ثمرات القول بخلق القرآن، فما جرى هنا لمثل الزمخشري -وهو العالم في اللغة والمتمكن والمتبحر، ويعرف معاني لغة العرب، وعنده علم لكثير من أمور التفسير وغيرها- إلا بناء على أصله، وهو أن القرآن مخلوق بزعمه، فإذا كان مخلوقاً فمن السهل أن يقول: إن الملك حينما نزل بالقرآن أدخل الاستثناء، أو أن القرآن هو لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن الطبيعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم يستثني ما دام القرآن كلامه، وجبريل يستثني ما دام القرآن كلامه. أقول: هذا من الأمور التي يجب أن نعتبر بها وأن نعرف فعلاً كيف تجر المقولة الواحدة أحياناً على أصحابها أموراً كثيرة في أمور الاعتقاد، فمشرب هذا المعتزلي -وهو الزمخشري - أدى به إلى أن يجرؤ على أن يقول في كلام الله هذا القول، وهو أن (إن شاء الله) من لفظ جبريل أو من لفظ محمد صلى الله عليه وسلم! فكيف لو تصور عامة المسلمين هذا التصور في كتاب الله عز وجل، والناس لا يميزون هذا التمييز، فمن الطبيعي حينئذ أن يكون القرآن كله محتملاً ما دام مخلوقاً، أو قد يرد الاحتمال إلى كثير منه، والمسلمون يحترمون القرآن في الجملة، لكن حينئذٍ سيورد كل واحد الاحتمال فيما يخالفه ويقول: هذه الكلمة نظراً لأنها تخالف أصولي محتملة لأن تكون من جبريل أو من محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنها تعبير من الملك أو من الرسول عليه الصلاة والسلام. فيجب أن نعتبر بمثل هذه الأمور، وأن نعرف فعلاً أن الأهواء -كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم- تتجارى بأصحابها كما يتجارى الكلب بصاحبه، فهي مقولة جزئية أحياناً لكنها تجر أصحابها إلى فساد العقائد في كثير من الأصول.

دليل القائلين بجواز الاستثناء وتركه

دليل القائلين بجواز الاستثناء وتركه قال رحمه الله تعالى: [وأما من يجوز الاستثناء وتركه فهم أسعد بالدليل من الفريقين]. وهم السلف. قال رحمه الله تعالى: [وخير الأمور أوسطها: فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء وهذا مما لا خلاف فيه، وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4]، وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15]، فالاستثناء حينئذ جائز، وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله لا شكاً في إيمانه، وهذا القول في القوة كما ترى].

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين المسائل العلمية والاعتقادية

الفرق بين المسائل العلمية والاعتقادية Q ما الفرق بين المسائل العلمية والاعتقادية؟ A المسائل العلمية هي التي يرد فيها الخلاف، ويكون الخلاف فيها جارياً بين أهل السنة أنفسهم، ويسع فيها الخلاف، حيث تتنازع فيها الأقوال، وكل معه دليل أو وجه من الاستدلال، فهذه المسائل الخلافية تسمى مسائل الخلاف، أما مسائل الاعتقاد فهي التي يتفق عليها السلف أو جمهور السلف، فتعتبر مسألة عقدية حتى وإن كانت في الأحكام، فهي داخلة في العقائد ولو كانت من صنف الأحكام، كمسألة مسح الخفين أو غسل الرجلين، فهذه مسائل فقهية صارت من العقائد؛ لأن هناك من أهل الأهواء من خالف فيها النصوص مخالفة صريحة. فلذلك نجد أن الأمور الخلافية لا ترد في أصول الاعتقاد، إنما ترد في بعض الأمور المتفرعة عن أصول الاعتقاد، ومسائل الإيمان أغلبها من الأصول وليست من الفروع، فالسلف فرقوا بين أصول الإيمان ومسائل الإيمان، وهذا تفريق علمي اصطلاحي ليس تفريقاً عقدياً، فسموا أركان الإيمان أصولاً، وسموا المسائل الأخرى المتفرعة عنها -مثل دخول الأعمال في مسمى الإيمان، والاستثناء في الإيمان، والزيادة والنقص في الإيمان- هذه سموها مسائل الإيمان؛ تفريقاً بينها وبين الأركان فقط، لا لأنها أقل درجة في الاعتقاد، وإن كان المخالف في المسائل الإيمانية مبتدعاً، ولا يعد كافراً، هذا هو الفرق، لكن من حيث التبديع والخطأ ومخالفة السنة فإن كل من خالف في أصول الإيمان أو في مسائل الإيمان مخالف للسنة والجماعة. أقول: هناك فرق بين أصول الإيمان ومسائل الإيمان، وهو أن أصول الإيمان لا يجوز لأحد أن ينكر شيئاً منها أو يخالف الأصل فيها، ومن أنكر شيئا منها فقد كفر، أعني أركان الإيمان الستة، أما مسائل الإيمان فإن من خالف فيها أقوال السلف فإنه يعد مبتدعاً ولا يعد خارجاً من الملة.

حكم ادعاء الإيمان من غير استثناء

حكم ادعاء الإيمان من غير استثناء Q ما حكم أن يمثل الإنسان نفسه بالإيمان من غير استثناء فيقول: أنا مؤمن؟ A حسب السياق والمقام، إذا كان يقول: أنا مؤمن بقصد الاغترار والاعتزاز والتعالي فلا يجوز هذا، وإن كان قصده الإقرار بأصل المبدأ، وهو أنه مسلم إن شاء الله، فلا مانع أن يقول: أنا مؤمن حتى لو لم يستثن، وذكر الشارح الفرق بين من قال: أنا مؤمن على سبيل الجزم بالمصير -وهذا لا يجوز- وبين من قال: أنا مؤمن تعبيراً عما في قلبه من صدق اليقين والثقة بدينه والثقة بما في قلبه، فلا مانع، فعلى أي حال إذا قال الإنسان: إن شاء الله يقصد التعليق على المصير وغيره فلا مانع، وإن كان يقصد الشك فهذا غير جائز، فإذا قال: أنا مؤمن بدون استثناء فهذا هو الأرجح، لكن إذا كان على سبيل التزكية فلا.

حكم الاستثناء في الإخبار عما سيفعله المرء

حكم الاستثناء في الإخبار عما سيفعله المرء Q أوليس في الاستثناء مندوحة عن الوقوع في الكذب أو خلف العهد؟ A في غير دعوى الإيمان الأولى للإنسان أن يقول: إن شاء الله، إذا كان يعلق الأمر على يمين أو وعد، فجملة (إن شاء الله) يستخدمها بعض الناس في كل فعل، فإذا قال أحد الناس: سوف أذهب إلى السوق قيل له: قل: إن شاء الله، وإذا قال: سوف أكتب. قيل له: قل: إن شاء الله، هل هذا العمل مشروع؟ A هو جائز ولا بأس، فإذا قال أحد: إني سأفعل كذا. قلنا له: قل: إن شاء الله؛ لأن هذا نوع من الاستعانة بالله عز وجل، فكلمة (إن شاء الله) فيها زيادة توكل وتفويض إلى الله عز وجل. فذلك أمر جائز ومشروع ولا حرج فيه، وليس عليك حرج أن تقول: إن شاء الله، وإذا ذكرك بها إنسان فقل: جزاك الله خيراً، والله أعلم.

شرح العقيدة الطحاوية [74]

شرح العقيدة الطحاوية [74] من عقيدة أهل السنة والجماعة التصديق بكل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان، وكله حق يجب اتباعه، وسواء كان من أخبار الآحاد أو المتواتر، فإنها تفيد العلم اليقيني في أبواب الاعتقاد أو الأحكام والشرائع، أما من لجأ إلى عقله وحكم هواه ورد به أحاديث الآحاد أو ما لا يوافق عقله، فهذه من طرق أهل البدع في الاستدلال، وقد كان للسلف دور كبير في كشف استدلالات أهل الأهواء وبينوا ما فيها من فساد وخلل.

جميع ما صح عن رسول الله من الشرع حق والرد على الجهمية في ردهم أخبار الآحاد

جميع ما صح عن رسول الله من الشرع حق والرد على الجهمية في ردهم أخبار الآحاد قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق) يشير الشيخ -رحمه الله- بذلك إلى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة القائلين بأن الأخبار قسمان: متواتر وآحاد. فالمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة؛ فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين]. هذا القول من عقائد الجهمية، والمعتزلة تبع للجهمية في هذه المسألة؛ لأن السلف في مثل هذا الموضوع أو مثل هذه القضية لا يفرقون بين المعتزلة والجهمية، بل يسمون الجميع جهمية؛ لأن كل من عطل أو قال بقول مؤد إلى التعطيل أو التزم التأويل منهجاً في العقيدة يسميه السلف جهمياً، فعلى هذا يكون أول من ابتدع بدعة التفريق في الأخبار بين الآحاد والمتواتر، وجعل الآحاد دون المتواتر في الاحتجاج به هم الجهمية، ومن خلال الجهمية انتقل هذا الأصل الباطل إلى الرافضة؛ لأن الرافضة تحولوا إلى جهمية، ومتأخرة الخوارج كذلك قالوا بهذا القول، وإلى الآن يتبنونه. ثم إن هذا الأصل أيضاً موجود عند متكلمة الأشاعرة والماتريدية، بل أكثر الأشاعرة والماتريدية يقولون بهذا القول، أي: يفرقون في مسألة الأخبار بين الآحاد والمتواتر. وتقسيم الخبر إلى آحاد ومتواتر من الناحية الفنية العلمية تقسيم صحيح، فمعلوم أن الأخبار فيها متواتر من حيث السند وفيها آحاد، لكن تقسيمها من حيث القبول والرد على هذا النحو هذا هو البدعة، وهو من أبواب الضلالة التي استهدفت العقيدة ومصادر الدين، ومنهج الاستدلال الذي اتفق عليه سلف الأمة، فهذا الأصل صار الآن من أصول الأشاعرة والماتريدية، خاصة بعدما تبناه أكابر المتكلمين من الأشاعرة، أمثال أبي المعالي الجويني والرازي المسمى بـ فخر الدين، وكل منهما أصل هذه القضية، إلا أن الرازي فرع عليها فروعاً كثيرة وجعلها من الأساسيات في تقرير العقيدة في كتابه (أساس التقديس)، وقد رد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة وغيرها بردود مفصلة من خلال كتاب (بيان تلبيس الجهمية)، كما رد عليه ابن القيم في كتابين أيضاً: في الصواعق المرسلة، وفي اجتماع الجيوش الإسلامية، وقولهم بأنها لا تفيد اليقين، هذا قول التزموه وليس من لوازم قولهم، بمعنى: أنهم زعموا أن الأدلة اللفظية المتواتر منها والقطعي لا تفيد اليقين، ويقصدون باللفظية التي لا تخضع لقواعدهم، ما دامت مجرد ألفاظ في الكتاب والسنة لا تخضع لقواعدهم فلا تفيد اليقين حتى يحتكم فيها إلى القواعد العقلية. بمعنى أنهم يقولون: إن الأخبار الواردة في الأمور الغيبية -كأسماء الله وصفاته- تبقى دلالتها ظنية، ولا نجزم بأن دلالتها قطعية حتى تعرض على ما يسمونه بالقواطع العقلية، فما وافق هذه القواطع أخذوا به لفظاً ومعنى، وما خالف قواطعهم -كما زعموا- أولوه إلى معان يختلفون عليها اختلافاً كثيراً، فمن هنا زعموا أن الدلالات اللفظية -أي: دلالات القرآن على أسماء الله وصفاته وأفعاله- لا تصير إلى شيء.

سد الجهمية طريق معرفة الرب بالقدح في دلالة النصوص على الصفات

سد الجهمية طريق معرفة الرب بالقدح في دلالة النصوص على الصفات قال رحمه الله تعالى: [وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات، قالوا: والآحاد لا تفيد العلم ولا يحتج بها من جهة طريقها ولا من جهة متنها، فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول، وأحالوا الناس على قضايا وهمية]. يقصد بذلك أن كثيراً مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمور الدين ورد بطريق الآحاد، ثم إنه حينما ورد ذلك قبله الصحابة وقبله التابعون وأئمة الهدى، فهو عند السلف يفيد العلم، بل كل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم بآحاد أو تواتر فإنه يعد من مصادر الدين الأساسية، وسيذكر المؤلف أصل هذه القاعدة، والذي يتلخص أن سلف هذه الأمة عنوا بالأسانيد عناية فائقة قطعت الشبهة أو الشك في أي حديث يرد ويثبت بإسناد صحيح فإذا كنا عرفنا أن السلف عنوا عناية فائقة فصار عندهم تمييز قاطع بين الصحيح وغير الصحيح؛ فهذا يعني أنه لا يمكن أن يقال بأن حديث الآحاد أو خبر الآحاد لا يعتمد عليه في الدين. قال رحمه الله تعالى: [وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها قواطع عقلية وبراهين يقينية، وهي في التحقيق {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ * أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:39 - 40]، ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي وعزلوا لأجلها النصوص، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص، ولم يظفروا بقضايا العقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية، ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح الموافق للفطرة السليمة. بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته وما ظنه معقولاً، فما وافقه قال: إنه محكم وقبله واحتج به، وما خالفه قال: إنه متشابه ثم رده وسمى رده تفويضاً! أو حرفه وسمى تحريفه تأويلاً! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم].

أصول أهل التأويل والتعطيل في دلالات النصوص

أصول أهل التأويل والتعطيل في دلالات النصوص

القدح في دلالات ألفاظ النصوص على الصفات

القدح في دلالات ألفاظ النصوص على الصفات الشارح هنا ذكر أربعة من أصول أهل التأويل والتعطيل أجملها ثم أجمل الرد عليها. الأول: قوله: [وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات] فهذا أصل من أصولهم، وهو قولهم بأن الدلالة اللفظية في الآيات والأحاديث لا تفيد اليقين. يقول: إنهم بهذا أولاً قدحوا في دلالة القرآن على الصفات، ثم أضاف إلى هذا قولهم بأن أحاديث الآحاد لا تفيد اليقين، ورد عليهم في هذا.

تقديم قواعدهم العقلية على النصوص

تقديم قواعدهم العقلية على النصوص ثم جاء بالمسألة الثانية من أصولهم الفاسدة، وهي قوله: [ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي] أي: شبهاتهم وقواعدهم العقلية التي زعموا أنها قطعية، مثل: قولهم بأن النصوص تفيد الظن، والأصليات تفيد القطع، وأنه إذا تعارض الظن والقطع أخذ بالقطع وأولو الظن.

اعتبار دلالات النصوص ثانوية مظنونة

اعتبار دلالات النصوص ثانوية مظنونة والأصل الثالث في قوله: [وعزلوا لأجلها النصوص]، بمعنى: أنهم جعلوا دلالات النصوص دلالة ثانوية محكوماً عليها، وجعلوا دلالة النصوص مظنونة معرضة للشك ومعرضة للاختبار، ومعرضة للأوهام العقلية، فمن هنا خلت قلوبهم من الاعتقاد الصحيح، وهذا أمر بدهي؛ لأن من اعتقد أن كلام الله عز وجل إنما هو ظنون فمن الطبيعي أن لا يعتقد فيه الحق، وأن يبقى إما شاكاً متردداً وإما باحثاً عن الحق في غير موضعه.

عرض النصوص على البدع

عرض النصوص على البدع ثم ذكر الأصل الرابع فقال: [بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته]، يعني: أنهم جعلوا بدعهم وأصولهم هي الأصل وهي الحكم، والنصوص محكوماً عليها، فما وافق عقلياتهم قالوا بأنه محكم وقبلوه واحتجوا به، وما خالف عقلياتهم زعموا أنه متشابه، ثم إذا زعموا أنه متشابه اختلفوا في الموقف منه، فمنهم من رده، بمعنى: أنه لم يعتقد دلالته، ثم آل إلى الشك وفوض المعاني إلى غير اعتقاد، يعني: جعل الألفاظ بلا معان، وفوضها إلى علم الله، مع أن هذا أمر لا يصح؛ لأن الله عز وجل تكلم بالقرآن بلسان عربي مبين، وله حقائق ومعان، فتفويض المعنى يعني أنه لن يعتقد أن للنصوص معاني، فيبقى بلا عقيدة؛ لأن من فوض على هذا النحو فإنه سيبقى بلا عقيدة، ومنهم من حرف، بمعنى: أنه أول بمختلف أنواع التأويلات؛ لأن هناك من أول تأويلاً بعيداً وهناك من أول تأويلاً قريباً، لكن لا يدل على الحقيقة المرادة من النص. ومنهم من عطل تعطيلاً مطلقاً، بمعنى: أنه لم يفوض ولم يحرف ولم يؤول، إنما اعتقد أن ألفاظ القرآن والسنة مجرد ألفاظ تخييلية أو تشبيهية أو تمثيلية إلى آخر ذلك من المعاني التي زاغوا بها عن الحق واتبعوا الفلاسفة.

طريق أهل السنة في اعتبار دلالات النصوص

طريق أهل السنة في اعتبار دلالات النصوص قال رحمه الله تعالى: [وطريق أهل السنة: أن لا يعدلوا عن النص الصحيح، ولا يعارضوه بمعقول ولا قول فلان، كما أشار إليه الشيخ رحمه الله، وكما قال البخاري رحمه الله: سمعت الحميدي يقول: كنا عند الشافعي رحمه الله، فأتاه رجل فسأله عن مسألة، فقال: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال رجل للشافعي: ما تقول أنت؟! فقال: سبحان الله! تراني في كنيسة؟! تراني في بيعة؟! ترى على وسطي زناراً؟! أقول لك: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما تقول أنت؟! ونظائر ذلك في كلام السلف كثير. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]].

الرد على الجهمية ومن سلك مسلكهم في رد خبر الآحاد

الرد على الجهمية ومن سلك مسلكهم في رد خبر الآحاد

إفادة تلقي الأمة الخبر بالقبول والعمل

إفادة تلقي الأمة الخبر بالقبول والعمل بدأ يرد بعض الرد التفصيلي في مسألة خبر الواحد، ودعواهم أن خبر الواحد لا يفيد اليقين ولا يفيد العلم، وأن خبر الواحد لا يؤخذ منه اعتقاد، ولا يؤخذ منه أيضاً حكم جازم، إنما يبقى على سبيل الظن، أو تؤخذ منه بعض الأحكام الفقهية على غلبة الظن أيضاً. قال رحمه الله تعالى: [وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول عملاً به وتصديقاً له يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد قسمي المتواتر]. يقصد أن التواتر قسمان: تواتر لفظي، وتواتر معنوي، وكلاهما في الحكم سواء، فما تواتر من الدين -سواء كان تواتره لفظياً أو معنوياً- فحكمه واحد، بمعنى أنه قطعي، ولا يعني ذلك أن ما لم يتواتر لفظاً ومعنى لا يعتبر قطعياً، فإن هناك أحاديث ما وردت إلا بخبر الواحد، ولكنها اشتهرت كشهرة حديث: (إنما الأعمال بالنيات)، ومع ذلك فإنه عند السلف يعتد به ويصح التدين به، ذلك أن الدين إنما جاءنا على هذه الطريقة، بمعنى: أن الله عز وجل ارتضى كثيراً من أمور الدين بأن تنقل بخبر الآحاد، فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل من وسائل نقل الدين خبر الآحاد، فكثيراً ما يرسل واحداً إلى الصحابة، ويأخذ بخبر واحد، وأيضاً عرف النبي صلى الله عليه وسلم في كثير مما بلغ به الصحابة الدين أنه كان بخبر الواحد. ثم إن هذا أمر معلوم بالضرورة، وهو أن الله عز وجل علم أن هذه الأمور التي ستنقل بالآحاد ستكون، أي: أنها ستنقل من خلال الآحاد، فلو كان في ذلك نقص في نقل الدين لأتمه الله عز وجل ولأكمله قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. أما وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم وقد بلغ وأدى الرسالة، وكان من وسائل بلاغه خبر الآحاد؛ فهذا يعني: أن خبر الآحاد لا بد من اعتماده وقبوله إذا صح؛ لأنه من وسائل نقل الدين، وكثير من أمور الشرع والأحكام -بل وبعض العقائد- إنما مصدرها خبر الآحاد، هذا بالإضافة إلى ما أشار إليه الشارح هنا، وهو: أن أغلب أخبار الآحاد التي يعتمد عليها -خاصة ما يتعلق بالعقيدة وأصول الأحكام- أغلبها متواتر تواتراً معنوياً، والتواتر المعنوي: هو قبول الأمة للحديث، اتفاقهم على قبول حديث: (إنما الأعمال بالنيات) منذ عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم والقرون الفاضلة إلى عصر تدوين السنة، فلما دونت السنة كان هذا أشبه بالإجماع، أي: أنهم اتفقوا على قبول مثل هذا الحديث واعتباره من الدين والاحتجاج به، ولم يعترض أحد من الأئمة ولا من أهل العلم على الاستدلال بحديث الآحاد، فمن هنا كان أغلب الأحاديث التي ذكر الشارح نماذج منها يصل إلى حد التواتر المعنوي؛ لأن الأمة أخذتها بالقبول واشتهرت شهرة يستحيل معها أن تكون مجرد أخبار آحاد.

عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر الواحد

عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بخبر الواحد قال رحمه الله تعالى: [ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع، كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إنما الأعمال بالنيات)، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما: (نهى عن بيع الولاء وهبته)، وخبر أبي هريرة رضي الله عنه: (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها)، وكقوله: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب)، وأمثال ذلك، وهو نظير خبر الذي أتى مسجد قباء وأخبر أن القبلة تحولت إلى الكعبة فاستداروا إليها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسل رسله آحاداً، ويرسل كتبه مع الآحاد، ولم يكن المرسل إليهم يقولون: لا نقبله؛ لأنه خبر واحد!]

حفظ الله تعالى دينه بحفظ حججه وبيناته

حفظ الله تعالى دينه بحفظ حججه وبيناته قال رحمه الله تعالى: [وقد قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33]، فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه؛ لئلا تبطل حججه وبيناته]. من المعلوم في الدين بالضرورة أن الله عز وجل تكفل بحفظ الدين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أدى الأمانة وبلغ الرسالة، وأن الله رضي له ذلك، وأكمل الله الدين من كل وجه، وكان من وسائل كمال هذا الدين وتبليغه وحفظه أن نقل لنا شيء كثير منه من طريق الآحاد، فلو كان طريق الآحاد ليس بدليل في تثبيت الدين وفي تقريره والاعتماد عليه ما رضيه الله لنا ولا بقي الدين محفوظاً؛ لأنه إذا تطرق الاحتمال لشيء من الدين تطرق الاحتمال للدين كله، بل إذا تطرق الاحتمال إلى مفردة من مفردات الدين التي وردت في حديث الآحاد تطرق إلى كل ما يرد في حديث الآحاد، وحديث الآحاد كثير ويشمل جزءاً من الدين مهماً، فلو ألغينا هذا الجزء ما كان الدين كاملاً ولا كان محفوظاً، إذاً: لا بد أن يكون قبول خبر الآحاد من المعلوم بالضرورة؛ لأنه وسيلة من وسائل حفظ الدين، فإذا تأملنا بعض العقائد وبعض الأحكام وجدناها ثبتت بطريق الآحاد، وهي جزء من الدين. ثم إن هناك أمراً آخر يحسن التنبيه عليه، وهو أن أصول الدين القطعية الكبرى ليس طريقها فقط حديث الآحاد؛ فإنها انعقدت بالإجماع وانعقدت بأمور أخرى ودلائل أخرى، ومن ذلك ما يتعلق بصفات الله عز وجل. وأقصد بهذا أن أكثر الذين طعنوا في حديث الآحاد إنما لجئوا إلى الطعن في حديث الآحاد بسبب مخالفتهم في الصفات، فلو لم يكن هناك نزاع عندهم في الصفات لما تكلموا في أحاديث الآحاد، ولذلك ما عملوا بقاعدة عدم اعتماد خبر الآحاد إلا فيما يتعلق بالصفات، إذاً: فهم استهدفوا شيئاً من الدين ثبت بقواعد أخرى، بقواعد السلف المبنية على القواعد العامة، وهي إثبات ما أثبته الله لنفسه، وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته، وبين حاله للناس، قال سفيان بن عيينة: ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث، وقال عبد الله بن المبارك: لو هم رجل في السحر أن يكذب في الحديث لأصبح والناس يقولون: فلان كذاب].

أخبار أئمة الحديث المشتغلين به تنفي وقوع الشك في صحة ما رووه وتلقوه بالقبول

أخبار أئمة الحديث المشتغلين به تنفي وقوع الشك في صحة ما رووه وتلقوه بالقبول قال رحمه الله تعالى: [وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب، ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث]. قوله: [خبر الآحاد وإن كان يحتمل الصدق والكذب]، أي: قبل أن يحرر، وهذه قاعدة معلومة عند العقلاء، فمجرد خبر يأتيك عن أحد يحتمل الصدق والكذب حتى يحرر، فإذا حرر ثبت بالقرائن أو بصدق الراوي. فيكون الخبر معلقاً بين الصدق والكذب قبل أن يحرر، فإذا حرر عرف هل هو صدق أو كذب، فكل خبر يحتمل الصدق والكذب حتى يثبت بطرائق الثبوت المعروفة عند العقلاء، أو بالطرق الشرعية. قال رحمه الله تعالى: [ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث والبحث عن سيرة الرواة، ليقف على أحوالهم وأقوالهم، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة يتقولها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك، وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم، فهم يزك الإسلام وعصابة الإيمان، وهم نقاد الأخبار، وصيارفة الأحاديث. فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم، وعرف حالهم، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم؛ ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه، ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم من العلم بأحوال نبيهم صلى الله عليه وسلم وسيرته وأخباره ما ليس لغيرهم به شعور، فضلاً أن يكون معلوماً لهم أو مظنوناً. كما أن النحاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم، وعند الأطباء من كلام بقراط وجالينوس ما ليس عند غيرهم، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره، فلو سألت البقال عن أمر العطر، أو العطار عن البز، ونحو ذلك؛ لعد ذلك جهلاً كثيراً] يقصد بذلك أن الذين يؤخذ عنهم القول الفصل في مسألة خبر الآحاد هم أهل الحديث الذين عنوا به، حيث كانوا يفرقون بين الأحاديث بمختلف درجاتها، ويعرفون الصحيح من السقيم، وما الذي يعتمد عليه في الدين وما الذي لا يعتمد عليه، ومصداق قول الشارح أنا لا نعرف من أئمة الحديث الكبار المعتد بهم المقتدى بهم في الدين من يتردد في قبول خبر الآحاد إذا ثبت بسند صحيح، بل يتورعون عن الكلام فيه أشد التورع، ولا يجرؤ أحد من أئمة الحديث الكبار على ذلك؛ لأنه عرف مسالك القبول في الحديث من عدمه، فما نعرف أن أحداً منهم يتردد في الحديث مثل تردد الذين ليس لهم علم بالحديث، فلذلك هذا القول لم يقل به -فيما أعلم- أحد من أئمة الحديث المعتد بهم، إلا أنه قد يوجد من أئمة الحديث من قال ذلك بسبب نزعته، فهذا النوع تغلب عليه النزعة إلى مذهبه المخالف، من حيث يشعر أو لا يشعر، أما الذين لا ينتمون إلى الفرق ولا إلى الجماعات -بمعنى: ليس لهم مناهج تخالف مناهج أهل السنة- فلا يعرف أن منهم من تردد في هذه المسألة، وهي أن الحديث إذا ثبت بسند صحيح وجب قبوله في الاعتقاد والعمل، ولا يفرقون بين العقائد والأعمال، ولا يقولون بأنه ظني. وقد يتفلسف بعض المتكلمين فيقول: إني أقصد أنه ظني في أصل منشأ الخبر، لكن هذا ينبغي أن لا يقال في الأحاديث، فإذا صح أن نقول في أخبار الناس: إن الأصل فيها الظنية حتى تثبت؛ فلا يصح أن يقال ذلك فيما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه أهل العلم المختصون: إنه صحيح يجب قبوله بدون تردد، ولا يعرض لهذه الأوهام التي قد تصح في غير الوحي.

شبهة النفاة في رد دلائل الأحاديث الصحيحة

شبهة النفاة في رد دلائل الأحاديث الصحيحة قال رحمه الله تعالى: [ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] مستنداً لهم في رد الأحاديث الصحيحة، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم وما وضعته خواطرهم وأفكارهم ردوه بـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] تلبيساً منهم وتدليساً على من هو أعمى؛ قلباً منهم وتحريفاً لمعنى الآية عن مواضعه، ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام أنه يقتضي إثباتها التمثيل بما للمخلوقين، ثم استدلوا على بطلان ذلك بـ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، تحريفاً للنصين، ويصنفون الكتب ويقولون: هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به وجاء من عنده، ويقرءون كثيراً من القرآن ويفوضون معناه إلى الله تعالى من غير تدبر لمعناه الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر أنه معناه الذي أراده الله، وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث، وقص علينا ذلك من خبرهم؛ لنعتبر وننزجر عن مثل طريقتهم، فقال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة:75]، إلى أن قال: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة:78]، والأماني: التلاوة المجردة. ثم قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79]، فذمهم على نسبة ما كتبوه إلى الله وعلى اكتسابهم بذلك، فكلا الوصفين ذميم: أن ينسب إلى الله ما ليس من عنده، وأن يأخذ بذلك عوضاً من الدنيا مالاً أو رياسة، نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل في القول والعمل بمنه وكرمه. ويشير الشيخ رحمه الله تعالى بقوله: (من الشرع والبيان) إلى أن ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم نوعان: شرع ابتدائي، وبيان لما شرعه الله تعالى في كتابه العزيز، وجميع ذلك حق واجب الاتباع]. يظهر أنه يقصد بالشرع الابتدائي: النصوص العامة التي تقرر أصول الدين وقواعد الأحكام وجوامع الأدلة، فهذه تسمى شرعاً ابتدائياً، وما يفصلها وما يبينها وما يفسرها -سواء من القرآن أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم- هو الشرع المبين، فالابتدائي هو الأصول والقواعد، والنصوص الحاكمة والنصوص العامة، وما سواه هو البيان والتفسير. قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالحقيقة ومخالفة الهوى وملازمة الأولى)، وفي بعض النسخ: بالخشية والتقى بدل قوله: (بالحقيقة)، ففي العبارة الأولى يشير إلى أن الكل مشتركون في أصل التصديق، ولكن التصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت كما تقدم تنظيره بقوة البصر وضعفه. وفي العبارة الأخرى يشير إلى أن التفاوت بين المؤمنين بأعمال القلوب، وأما التصديق فلا تفاوت فيه، والمعنى الأول أظهر قوة، والله أعلم بالصواب].

الأسئلة

الأسئلة

منهج الصحابة في تلقي خبر الواحد منهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

منهج الصحابة في تلقي خبر الواحد منهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم Q ألم يرد أن أبا بكر رضي الله عنه كان لا يأخذ في بعض الأحيان إخبار بعض الصحابة حتى يتأكد من غيرهم؟ A ليس إخبار الناس بعضهم عن بعض، أو الصحابة بعضهم عن بعض، أو أخبارهم فيما بينهم كإخبارهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرق بين هذا وذاك، فالصحابة لم يردوا قول أحد ممن قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو: رأيت، أو: قال لي، أو كنت عنده، فأي واحد من الصحابة يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم أو يروي عنه فعلاً أو تقريراً كان الجميع يسلمون له، وبعض القصص التي حدثت من عمر في التثبت ليست راجعة إلى شكه في خبر الآحاد، بل راجعة إلى معان أخرى، كما شك حين سمع من يقرأ آيات على غير قراءته، فقد يكون في بعض هذه الأمور ملابسات أو قرائن لا ترجع إلى رد الخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما ترجع إلى أمور أخرى تكتنف الحال، وإلا فإن الصحابة كلهم -ومنهم الخلفاء الراشدون- كانوا ينفذون خبر الواحد في الدين، ولم يكونوا يشددون على الصحابة في أمر يتعلق بالرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانت آحاداً، وكثير من روايات الصحابة فيما بينهم كانت آحاداً، خاصة في بعض الأمور التي لا يتوافر فيها عدد ممن سمعوا، وأقصد أنه في كثير من الوقائع التي تحدث للصحابة يكون الراوي للحديث واحداً، فيقبل الحديث مع أنه لم يصل إلا عن طريق هذا الواحد، ولا يعلمون أنه رواه غيره إلا فيما بعد، ومع ذلك يقبلون الحديث لأول وهلة بمجرد أن رواه الواحد، وما يرد من حالات استثنائية لأمور لها ملابساتها ولها ظروفها ولأسباب معقولة عند أهل العلم لا تؤثر في الأصل.

معنى الفاسق الملي

معنى الفاسق الملي Q ما معنى الفاسق الملي؟ A الفاسق الملي: هو مرتكب الكبيرة، يسمى فاسقاً ملياً؛ لأنه فاسق بكبيرته، وسمي ملياً لأنه لا يزال من أهل الملة، فهو المسلم الذي يرتكب الكبيرة.

شرح العقيدة الطحاوية [75]

شرح العقيدة الطحاوية [75] ولاية الله لعباده ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجة إليه، بل ولايته لعباده هي من رحمته وإحسانه ولطفه بهم، فالمؤمنون كلهم أولياء الله، والله وليهم ينصرهم ويعينهم ويسددهم ويحبهم ويرضى عنهم، كما أن أولياء الله أصناف ودرجات تتفاوت بحسب القرب والبعد من الله، والكرامات التي تحصل للعبد هي من آثار ولايته لله، وما يدعيه المبتدعة من مكاشفات أو خوارق ولم يتحقق فيهم مقتضى الولاية من الإيمان والتقوى فإنما هي من الشياطين وإيحاءاتهم.

ولاية المؤمنين لله تبارك وتعالى

ولاية المؤمنين لله تبارك وتعالى قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن): قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]. الولي: من الولاية -بفتح الواو- التي هي ضد العداوة، وقد قرأ حمزة: ((ما لكم من ولايتهم من شيء))، بكسر الواو، والباقون بفتحها، فقيل: هما لغتان. وقيل: بالفتح النصرة، وبالكسر الإمارة. قال الزجاج: وجاز الكسر؛ لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكل ما كان كذلك مكسور، مثل: الخياطة ونحوها. ] الغالب استعمال الولاية بمعنى القرب والنصرة والمحبة، وتستعمل بالفتح، ويغلب استعمالها بالكسر في الإمرة وما يتفرع عنها، فالولاية: الإمرة والسلطة والإمارة ونحوها، والولاية -بالفتح- غالباً تطلق على الحب والنصرة والقرب ونحو ذلك. وعلى أي حال فالمعنى اللغوي للولاية -كما ذكر الشيخ- هو ضد العداوة، لكنه يعني القرب والنصرة، كما أنه يعني المحبة ولوازمها، ومن لوازم المحبة: القرب والنصرة.

أنواع الولاية الشرعية

أنواع الولاية الشرعية والولاية شرعاً يحسن أن نشير إليها إجمالاً، فالولاية شرعاً تطلق على ثلاثة أمور: الأمر الأول: ولاية الله لعباده المؤمنين، كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257]، يحبهم، وهو سبحانه حافظهم وناصرهم إلى آخر ذلك مما يتبع لوازم الولاية. الأمر الثاني: الولاية من المؤمنين لربهم، فالمؤمنون هم أولياء الله، يؤمنون به ويحبونه ويطيعونه ويعبدونه حق عبادته ويتقونه، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم. الأمر الثالث: ولاية المؤمنين بعضهم لبعض، وهي درجات، وهذه الولاية هي الولاية المقبولة الشرعية. وهناك ولايات لم يرد ذكرها شرعاً، وهي ولايات غير شرعية، بمعنى: أنها لا تقوم على أساس شرعي، كولاية بعض المسلمين للكافرين، فهذه محرمة، وولاية الكافرين بعضهم لبعض، وولاية الطواغيت والشياطين لبعض بني آدم، هذه كلها ولايات تدخل في مفهوم الولاية الاصطلاحي العام، لكنها ليست ولايات مشروعة، فالولايات المشروعة هي ولاية الله لعباده المؤمنين، وولاية المؤمنين لربهم فهم أولياء الله وأحباؤه، وكذلك ولاية المؤمنين بعضهم لبعض، وهي تتفاوت على درجات وشعب كشعب الإيمان، فكما أن الإيمان يزيد وينقص ويتفاوت؛ كذلك الولاية بين المؤمنين تزيد وتنقص وتتفاوت. قال رحمه الله تعالى: [فالمؤمنون أولياء الله، والله تعالى وليهم، قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11]، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] إلى آخر السورة، وقال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:55 - 56]. فهذه النصوص كلها ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وأنهم أولياء الله، وأن الله وليهم ومولاهم، فالله يتولى عباده المؤمنين فيحبهم ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، ومن عادى له ولياً فقد بارزه بالمحاربة]. ذكر الشيخ أنواع الولاية المشروعة في قوله: فهذه النصوص كلها ثبت فيها أولاً: موالاة المؤمنين بعضهم لبعض، وثانياً: أنهم أولياء الله، وثالثاً: أن الله وليهم ومولاهم، فالولايات الثلاث الشرعية ذكرها الشيخ بإيجاز هنا.

حقيقة الولاية الكائنة بين الله جل جلاله وعباده المؤمنين

حقيقة الولاية الكائنة بين الله جل جلاله وعباده المؤمنين قال رحمه الله تعالى: [وهذه الولاية من رحمته وإحسانه، ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجة إليه، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا} [الإسراء:111]، فالله تعالى ليس له ولي من الذل، بل لله العزة جميعاً، خلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه لذله وحاجته إلى ولي ينصره]. في هذا إشارة إلى شبهة المعطلة والمؤولة من الفلاسفة ثم الجهمية ثم المعتزلة ثم أهل الكلام كالكلابية والأشاعرة والماتريدية، كلهم يشير الشيخ هنا إلى الرد عليهم في أنهم حينما أنكروا الأسماء أو أنكروا الصفات أو بعض الصفات أو بعض الأفعال إنما زعموا أن فيها ما يشير إلى التأثر أو التفاعل بين الخالق والمخلوق بما يؤدي إلى النقص في حق الله عز وجل. فزعموا أن المحبة تكون لتفاعل بين المحبوبين، وأن التفاعل لا يخلو من حاجة كل واحد منهما إلى الآخر، فمنهم من أنكرها ومنهم من تأولها، وأنكروا الخلة، وأنكروا حتى الرحمة؛ لأنهم زعموا أن الرحمة تنبثق عن تأثر بين طرفين، فكلامه هنا إشارة إلى الرد عليهم، فحينما قال: [هذه الولاية من رحمته وإحسانه] أي أنها كمال من الله عز وجل ورحمة وإحسان، ولا تعني أن الله عز وجل يؤثر فيه شيء، أو أنه سبحانه بحاجة، أو أن علاقته بالمخلوقين كعلاقة المخلوقين بعضهم ببعض، فمحبته لأوليائه على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى مع غناه الكامل، ومحبته لعباده لا تعني حاجته إليهم، وإن احتاجوا هم إليه.

تفاوت درجات الولاية

تفاوت درجات الولاية قال رحمه الله تعالى: [والولاية أيضاً نظير الإيمان]: هنا سيقرر مسألة مهمة جداً يغفل عنها كثير من الناس، ويمكن أن نضع لها عنواناً، وهو: ثبوت أصل الولاية لكل مؤمن وتفاوت مقدارها، وهذا في أنواع الولاية الثلاثة، وأنواع الولاية الثلاثة كلها أصلها ثابت للمؤمنين والمسلمين عموماً، لكنها تتفاوت في مقدارها بين شخص وآخر بحسب ما عنده من التقوى والعمل الصالح، فمنها ما يكون ولاية كاملة، سواء من العبد لربه أو من الرب لعبده أو من المؤمن للمؤمن، فالمؤمن المتقي الصالح له الولاية الكاملة من الله عز وجل بحسب حاله، وله الولاية من المؤمنين الكاملة، وكذلك هو يتولى الله عز وجل بقدر ما يستطيع، أي: استنفذ جهده في ولايته لربه. إذاً: فمن هنا يقرر ثبوت الولاية لكل مؤمن بدرجاتها الثلاث، وتفاوت مقدراها أيضاً بدرجاتها الثلاث؛ لأن هناك من يكون له جزء من الولاية، وهناك من يكون أمره بين الولاية والعداوة، وهناك من يكون إلى الولاية الكاملة أكثر وأقرب، بحسب أعمالهم القلبية وأعمال الجوارح. قال رحمه الله تعالى: [والولاية أيضاً نظير الإيمان، فيكون مراد الشيخ: أن أهلها في أصلها سواء، وتكون كاملة وناقصة، فالكاملة تكون للمؤمنين المتقين، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62 - 64]، فـ {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] منصوب على أنه صفة (أولياء الله) أو بدل منه، أو بإضمار (أمدح)، أو مرفوع بإضمار (هم)، أو خبر ثان لـ (إن)، وأجيز فيه الجر بدلاً من ضمير عليهم. وعلى هذه الوجوه كلها فالولاية لمن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وهم أهل الوعد المذكور في الآيات الثلاث، وهي عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه، ليست بكثرة صوم ولا صلاة ولا تملق ولا رياضة. وقيل (الذين آمنوا) مبتدأ، والخبر: (لهم البشرى) وهو بعيد]. هنا يشير بهذا إلى طائفتين: إلى طائفة الخوارج الذين تشددوا في الدين وتنطعوا في مواصلة الصوم وفي كثرة الصلاة إلى حد يزيد على المشروع، وظنوا أن ذلك مقتضى الولاية، في حين أنهم خالفوا السنة وأمثالهم ممن تابعهم، فكثير من العباد والنساك بالغوا في العبادة حتى صارت منهاجهم هي أصول التصوف البدعي فيما بعد. كما أنه يرد على فريق آخر، وهم الصوفية الذين يكتفون من معاني التقوى والعمل الصالح بالشكليات، إما بالرياضة النفسية والتحنث وكثرة التأمل والتفكير مع قلة الأعمال الصالحات، وأحياناً يتركون الأعمال، وإما بالتعبد والتحنث والانتقاء والسياحة الهائمة في الأرض بغير قصد، والإقامة في الزوايا والدويرات دون إسهام في الأعمال الصالحة من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشهود الجمعة والجماعات، وإما بالأشكال، فيلبسون الخرق الممزقة والثياب البالية، ويزعمون أن هذا هو مظهر التقوى، وأنه كاف في تحقيق الولاية! فهذه الأصناف كلها موجودة في الأمة، وكلها أخطأت معنى الولاية، وإلا فلا شك أن من أهم أمور الولاية القيام بحق الله عز وجل في الصوم والصلاة، ثم القيام بالنوافل في حدود المشروع من الصوم والصلاة ونحوهما من الأعمال الصالحة. قال رحمه الله تعالى: [وقيل: (الذين آمنوا)، مبتدأ، والخبر: (لهم البشرى)، وهو بعيد؛ لقطع الجملة عما قبلها وانتثار نظم الآية].

بيان اجتماع الولاية والعداوة في المؤمن وبيان خلاف المرجئة والخوارج في ذلك

بيان اجتماع الولاية والعداوة في المؤمن وبيان خلاف المرجئة والخوارج في ذلك قال رحمه الله تعالى: [ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه وعداوة من وجه، كما قد يكون فيه كفر وإيمان، وشرك وتوحيد، وتقوى وفجور، ونفاق وإيمان، وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع]. أهل البدع على اختلاف طوائفهم يخالفون أهل السنة في هذه المسائل، وأشهر من خالف أهل السنة هم الخوارج والمرجئة كما ذكرت سابقاً. فالخوارج يزعمون أن الولاية والعداوة لا تجتمع في شخص، وأن من نقصت ولايته لله عز وجل فإنه لا يستحق رحمة الله سبحانه ولا يكون من المؤمنين، ومن هنا جعلوه كافراً، فحكموا بخلوده في النار في الآخرة، كما أنهم عادوه وجعلوه عدواً خالصاً، وأنزلوا عليه أحكام الكافرين، بل يعادونه أشد مما يعادون الكافرين، ولذلك وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، ففي الحديث الصحيح: (يقاتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان)؛ لأنهم يرون أن من نقصت ولايته بارتكاب ذنب انتفت عنه الولاية الكاملة، ووجدت له العداوة الكاملة. ويقابلهم المرجئة، وهم الذين لا يعولون على العمل الصالح أبداً، يقولون: كل من صدق بالله عز وجل -وبعضهم يقول: من صدق وأقر بلسانه، وبعضهم يقول: من عرف الله- فله الولاية الكاملة مطلقاً؛ لأن الولاية لا تتجزأ. فالفريقان يقولان بأن الولاية لا تتجزأ، فكما أن الإيمان عندهم لا يتجزأ فلا يزيد ولا ينقص، كذلك الولاية والعداوة عندهم لا تزيد ولا تنقص. والحق الذي عليه إجماع السلف، والذي قرره الكتاب والسنة أن كل مؤمن وكل مسلم له من الولاية بقدر ما فيه من الخير والإيمان والصلاح، ومن العداوة بقدر ما فيه من التجاوز والانحراف والمعصية، ما لم يأت بما يوجب الردة، فإذا أتى بما يوجب الردة فله العداوة الكاملة كالكافر الخالص، فالكفار الخلص لهم البراء الكامل، ولا تجوز ولايتهم في شيء، كاليهود والنصارى والمشركين والمرتدين، هؤلاء لهم العداوة الكاملة، ولا تجوز ولايتهم في شيء، لا الولاية الدينية ولا الدنيوية التي يفضلون فيها على المؤمنين، ونحو ذلك مما ذكره أهل العلم من صور الولاية، فلا يجوز للكافر أي نوع من أنواع الولاية التي تؤدي إلى الموادة. وكذلك المؤمن المتقي الصالح له أيضاً الولاية الكاملة، حتى وإن أتى ببعض اللمم، فإن هذا لا ينقص حقه في الولاية، إنما الذي ينقص الولاية هو الكبائر والذنوب العظيمة. أما ما بين هذين الحدين فإنه يتفاوت بقدر عمل كل مسلم، فكل مسلم له من الولاية بقدر ما فيه من الخير والطاعة والصلاح والاستقامة حتى وإن قلت، وله من البراء والعداوة بقدر ما فيه من المعصية والبدعة، وهذا يعني: أن البراء والعداوة لا يوجهان للشخص نفسه، بمعنى أن ينبذ نبذاً كاملاً، وإنما يكره فيه الشر وتكره فيه المعصية، ولا يتولى فيها أو ينصر عليها إلى آخره، فالولاية والعداوة والولاء والبراء لها تفاصيل في الأحكام. فالبراء الجزئي لا يعني النبذ الكامل، كما أن الولاية الجزئية لا تعني القبول الكامل للشخص، ولذلك يجتمع في أكثر المسلمين وأكثر المؤمنين الولاء والبراء؛ لأن الصالحين منهم قلة؛ ولأن الذين يقعون في الردة -نسأل الله العافية- قلة، فيبقى أكثر الناس في وسط، وإن كانوا يتفاوتون أيضاً بحسب أعمالهم وبحسب مظاهر الصلاح فيهم. وعلى هذا فإن ولاية المسلم إنما تتعلق بما يظهر منه، ولا يجوز أن نفتش عما في القلوب أو نمتحن الناس، كما يفعل كثير من الذين عندهم قلة فقه في هذه المسألة، فيقول: أنا لا أتولى مسلماً حتى أتثبت من دينه، أو: حتى أمتحنه، فهذه بدعة؛ إذ الأصل ثبوت الولاية للمسلم بمجرد أن تعرف أنه مسلم، وإن ظهر لك منه شيء من البدع والمعاصي، فتكره فيه هذه البدع والمعاصي وتتبرأ منها ومن فعله لها، لكنه يبقى له من الولاية حقه لكونه مسلماً. ويلحظ أن الشيخ عد بعض الأحناف الذين يقولون بالإرجاء، عدهم في هذه المسألة من أهل السنة، وهو يقصد أن المرجئة يقولون: إن الولاية في أصلها لا تتجزأ، ولا تزيد ولا تنقص، لكن تتجزأ فيما يضاف إليها أو تزيد فيما يضاف إليها من الأعمال الصالحة، فقولهم في الولاية والبراء كقولهم في الإيمان، فكما قالوا بأن الإيمان هو التصديق، قالوا بأن الولاية هي مبدأ المحبة. وفي الحقيقة قد يكون الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في مسألة الولاية والبراء أخف من الخلاف في مسألة زيادة الإيمان ونقصانه، وفي مسألة حقيقة الإيمان، لكن مع ذلك ليس صحيحاً على الإطلاق أن الخلاف لفظي من كل وجه؛ فإن كثيراً من المرجئة قد لا يهتم بمسألة المعاصي والكبائر، وربما بعضهم يبقى عنده أصل الولاء الكامل للمسلم وإن كان عنده شيء من المعاصي. فقوله: إن الخلاف لفظي فيه نظر، وإن كان ليس كالنزاع في مسألة الإيمان، فهو أخف بكثير ولا شك.

اجتماع الطاعة والمعصية في العبد دليل اجتماع الولاية والعداوة

اجتماع الطاعة والمعصية في العبد دليل اجتماع الولاية والعداوة قال رحمه الله تعالى: [وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع كما تقدم في الإيمان، ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى أولى من موافقته في المعنى وحده، قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، وقال تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14]، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين. وقال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر)، وفي رواية: (وإذا اؤتمن خان)، بدل: (وإذا وعد أخلف)، أخرجاه في الصحيحين. وحديث شعب الإيمان تقدم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار، وإن كان معه كثير من النفاق فهو يعذب في النار على قدر ما معه من ذلك، ثم يخرج من النار]. هذا الكلام فيه عودة إلى تقرير أن الإيمان يزيد وينقص، وكأنه يشير إلى أن الولاية والعداوة كذلك تزيدان وتنقصان، وأن الولاء والبراء يزيدان وينقصان بقدر ما عند الإنسان. قال رحمه الله تعالى: [فالطاعات من شعب الإيمان، والمعاصي من شعب الكفر، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود، ورأس شعب الإيمان التصديق. وأما ما يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله لا هم يدرون به ولا هو يدري بنفس)؛ فلا أصل له، وهو كلام باطل؛ فإن الجماعة قد يكونون كفاراً، وقد يكونون فساقاً يموتون على الفسق].

صفات أولياء الله وأقسامهم

صفات أولياء الله وأقسامهم قال رحمه الله تعالى: [وأما أولياء الله الكاملون فهم الموصوفون في قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62 - 64]. والتقوى هي المذكورة في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177]، إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177]. ] في هذه الآية ذكر تعالى صفات أهل الولاية الكاملة أهل التقوى الذين قاموا بحق الله عز وجل، ذكر منها عشر خصال: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالنبيين، ثم ذكر بعد ذلك إيتاء المال على حبه، ثم إقامة الصلاة، ثم إيتاء الزكاة، ثم الوفاء بالعهد، ثم الصبر في البأساء والضراء. فهذه الخصال العشر إذا اجتمعت في إنسان على وجه شرعي فهو صاحب الولاية الكاملة لله عز وجل، نسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من هذه الصنف. قال رحمه الله تعالى: [وهم قسمان: مقتصدون ومقربون، فالمقتصدون: الذين يتقربون إلى الله بالفرائض من أعمال القلوب والجوارح. والسابقون: الذين يتقربون إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته)]. في هذا الحديث وردت كلمة التردد، وهذه من الأمور التي تكثر إثارتها في الأيام الأخيرة، خاصة عندما أثار بعض الناس هذه المسائل على غير منهج السلف، كمسألة التردد ومسألة الهرولة، وإن كانت الهرولة لها خصوصية أكثر، لكن مثل هذه الأفعال التي وردت في حق الله عز وجل يؤمن بها كما جاءت على ظاهرها على ما يليق بجلاله عز وجل، ومن غير أن يورد المفهوم السلبي الناقص الذي يتبادر أحياناً إلى عقول بعض الناس، فباب الأخبار والأفعال أوسع من مسألة الصفات والأسماء، فليس كل فعل من أفعال الله يقصد به صفة، وليس كل خبر عن الله عز وجل يقصد به صفة، ومن ذلك ما في هذا الحديث. فمسألة التردد يؤمن بها كما هي خبر عن الله عز وجل على ما يليق بجلاله، مع نفي ما يرد إلى الذهن من معنى التردد عند البشر؛ لأن البشر يتردد عن جهل وعن تقصير وعن ضعف. فهذا المذكور عن الله تعالى إشارة إلى محبته لوليه، هذا هو المقصود، ومع ذلك لا تؤول كما يصنع المؤول، بل يؤمن بها كما هي وتثبت على حقيقتها كما وردت في السياق، ولكن لا نستنتج منها صفة، فلا يقال: من الصفات التردد؛ لأننا نعرف من السياق أن المسألة راجعة إلى ما بين الرب عز وجل وبين عبده، فإذا كنا نفهم هذا من السياق فإن المفهوم الكامل لهذه العبارة هو أن الله عز وجل يحب عبده ويكره له ما ينغصه، فيبقى اللفظ كما هو من دون أن يقال: إنه صفة؛ لأن إثبات الصفة يلزم منه لوازم أخرى زائدة عن مجرد إثبات السياق بما يكتنفه من قرائن وأحوال ومفهوم في المعنى العام. ولذلك ما كان السلف يخوضون في هذه الأمور، يقولون: هذا الكلام حق ويبقى على ظاهره، ويثبت على ما يليق بجلال الله عز وجل، فقوله: (ما ترددت في شيء أنا فاعله) هذا كلام الله عز وجل الذي ذكره عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويبقى كما جاء من دون أن يؤخذ منه اسم ولا صفة؛ لأنه من باب الأفعال ومن باب الأخبار، والأفعال والأخبار أوسع من الصفات، وهذا يعني أنه ليس كل ما يرد من فعل أو خبر نقول: إنه يثبت منه صفة، وليس كل صفة لله عز وجل يثبت منها اسم، فالأسماء توقيفية، والصفات أوسع منها، والأفعال أوسع من الصفات، والأخبار أوسع من ذلك كله. قال رحمه الله تعالى: [والولي: خلاف العدو، وهو مشتق من الولي: وهو الدنو والتقرب، فولي الله: هو من والى الله بموافقته في محبوباته والتقرب إليه بمرضاته، وهؤلاء كما قال الله تعالى فيهم: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. قال أبو ذر رضي الله عنه: لما نزلت الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا ذر! لو عمل الناس بهذه الآية لكفتهم). فالمتقون يجعل ا

ما تحصل به الكرامة للمؤمن عند الله تعالى

ما تحصل به الكرامة للمؤمن عند الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [(وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن): أي: أكرم المؤمنين هو الأطوع لله والأتبع للقرآن، وهو الأتقى، والأتقى هو الأكرم، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]. وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب)، وبهذا الدليل يظهر ضعف تنازعهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر وترجيح أحدهما على الآخر، وأن التحقيق أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق، فالمسألة فاسدة في نفسها؛ فإن التفضيل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان لا بفقر ولا غنى، ولهذا -والله أعلم- قال عمر رضي الله عنه: الغنى والفقر مطيتان لا أبالي أيهما ركبت, والفقر والغنى ابتلاء من الله تعالى لعبده، كما قال تعالى: {فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر:15]، فإن استوى الفقير الصابر والغني الشاكر في التقوى استويا في الدرجة، وإن فضل أحدهما فيها فهو الأفضل عند الله، فإن الفقر والغنى لا يوزنان، وإنما يوزن الصبر والشكر. ومنهم من أحال المسألة من وجه آخر: وهو أن الإيمان نصف صبر ونصف شكر، فكل منهما لا بد له من صبر وشكر، وإنما أخذ الناس فرعاً من الصبر وفرعاً من الشكر وأخذوا في الترجيح، فجردوا غنياً منفقاً متصدقاً باذلاً ماله في وجوه القرب شاكراً لله عليه، وفقيراً متفرغاً لطاعة الله ولأداء العبادات صابراً على فقره، وحينئذ يقال: إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما، فإن تساويا تساوت درجتهما، والله أعلم]. هذا فيه رد على المتصوفة ومن نحا نحوهم من الذين يزعمون أن الولاية إنما هي الولاية القلبية، وأنه إذا اجتمعت الولاية الكامنة في القلب فقد يستغني الإنسان عن العمل، وقد يترك طلب الرزق، بل هو أفضل له من السعي في طلبه، ولذلك تركوا طلب العيش، وتركوا الجهاد وغير ذلك، والحقيقة أن الأمر -كما ذكر الشيخ- يرجع إلى نفس الإنسان وما آتاه الله من إيمان ومن تقوى وعمل صالح، فإن كان غنياً وهو محسن في العمل فوظف ماله لدين الله عز وجل وفي عمل الخيرات زاده الغنى خيراً، وإن كان فقيراً وصبر زاده الصبر خيراً، ولذلك نجد من أفاضل هذه الأمة من الفقراء عدداً في جميع مراحل التاريخ، وأولهم الصحابة الكبار، فالعشرة المبشرون بالجنة كان منهم الأغنياء ومنهم الفقراء، وفي عموم المهاجرين الأغنياء والفقراء، وكذلك أهل بيعة الرضوان، وفي كل خير، وكذلك من التابعين وتابعيهم بعد عهد النبوة، نجد -مثلاً- من كبار السلف من اشتهر بالغنى، كـ عبد الله بن المبارك، كان غنياً منفقاً، وكان ينفق على قوافل الجهاد وينفق على قوافل الحج، ومع ذلك كان من العباد الزهاد في الوقت نفسه، ومن الأئمة الصالحين والعلماء الكبار والمحدثين. ونجد في المقابل الإمام أحمد، فلم يكن غنياً، بل كان ينفر من الدنيا، واعتبر الدنيا محنة أشد عليه من المحنة التي حصلت له في قضية القول بخلق القرآن، وفي كل خير، كل كان إماماً في الدين، فالمسألة مبناها على ما عند الإنسان من التقوى والصلاح والاستقامة. قال رحمه الله تعالى: [وحينئذ يقال: إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما، فإن تساويا تساوت درجتهما، والله أعلم. ولو صح التجريد لصح أن يقال: أيما أفضل: معافىً شاكر أو مريض صابر؟ أو مطاع شاكر أو مهان صابر؟ أو آمن شاكر أو خائف صابر؟ ونحو ذلك].

الفرق بين ما يحصل للمؤمنين من الكرامات وما يدعيه الصوفية من المكاشفات

الفرق بين ما يحصل للمؤمنين من الكرامات وما يدعيه الصوفية من المكاشفات بقي لنا تعليق على جملة ذكرها الشارح أحب أن أذكره هنا، حيث قال الشارح عن أولياء الله المتقين: [ويعطيهم الله أشياء يطول شرحها من المكاشفات والتأثيرات] يقصد أن كثيراً من أولياء الله عز وجل يحدث لهم من الكرامات شيء طيب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد كان فيمن قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فـ عمر بن الخطاب)، فالشارح يقصد الإلهام والرؤى الصادقة، ويقصد الكرامات، ويقصد الفراسة ونحو ذلك مما يحدث للمؤمنين من هذه الأحوال التي يكون فيها إكرام من الله لهم، سواء في الأمور الاعتقادية أو في الأمور العلمية أو في الأمور العملية في الحياة الدنيا، أو في توفيق لكثير من الأمور التي لا تحصل لغيرهم، فهذه تسمى مكاشفات وتأثيرات. والصوفية قد يقصدون بهذه الأمور معاني بدعية، فقد يقصدون الاطلاع على أمور غيبية، أو تأثيرات فيها مخرقة ودجل وعبث الشياطين بهم يسمونها مكاشفات وتأثيرات، ففرق بين مكاشفات وتأثيرات المؤمنين التي هي نتائج الولاية ومن باب الكرامات، وبين المكاشفات والتأثيرات الصوفية التي هي من عبث الشياطين ومن الدجل والشعوذة.

الأسئلة

الأسئلة

بيان حصول التواتر المعنوي لخبر الواحد حال تلقيه بالقبول

بيان حصول التواتر المعنوي لخبر الواحد حال تلقيه بالقبول Q قلت: إن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يكون من قبيل المتواتر، فكيف ذلك؟ A التواتر إما لفظي وإما معنوي، فالتواتر المعنوي أن تحتف بأحاديث الآحاد قرائن، أو يتفق مع قواعد أو مع نصوص أخرى، فالتواتر المعنوي بابه واسع يختلف عن التواتر اللفظي، فالتواتر اللفظي يحدث بتواتر السند، أما التواتر المعنوي فهو أوسع من ذلك، فأي حديث آحاد وافق معنى آية أو وافق قاعدة شرعية؛ فإنه يكون فيه تواتر معنوي، حتى وإن كان سنده آحاداً.

بيان معنى قوله: (كان منافقا خالصا)

بيان معنى قوله: (كان منافقاً خالصاً) Q في الحديث المتفق عليه: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً) هل المقصود بالنفاق النفاق الاعتقادي؛ لقوله: (خالصاً)؟ A قد يفهم من الحديث هذا، لكن ليس على سبيل الجزم، فبعض أهل العلم وجه الحديث على أن المقصود به النفاق العملي الخالص، وليس النفاق الاعتقادي، ومع ذلك فإنه -والله أعلم- يحتمل الأمرين، غير أنه مختلف فيه بين أهل العلم: فأما الذين قالوا بأن المقصود به النفاق العملي الخالص وليس الاعتقادي فقد قالوا: إن الخصال التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم -وهي الكذب في الحديث، والغدر، والخيانة، وإخلاف الوعد- كلها من الأمور العملية من كبائر الذنوب، ومهما كثرت الكبائر العملية لا تخرج من الملة، والنفاق الاعتقادي مخرج من الملة. وأما الذين قالوا بأن النفاق المقصود في الحديث هو النفاق الاعتقادي فقد استدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كان منافقاً خالصاً)، وظاهره النفاق الخالص، ثم إنهم وجهوا الاستدلال بقولهم: من اجتمعت فيه هذه الخصال وأكثر منها فإنه لا بد أن يكون فاسد الضمير وفاسد النية وفاسد الاعتقاد؛ إذ لا تجتمع هذه الخصال العملية إلا فيمن خلا قلبه من الإيمان، والله أعلم.

المراد بمعاداة الولي التي يعقبها إيذان الله بالحرب

المراد بمعاداة الولي التي يعقبها إيذان الله بالحرب Q ما المقصود بقوله: (من عادى لي ولياً فقد بارزته بالمحاربة)؟ وهل مبارزة الولي من الكبائر؟ وكيف تكون المعاداة؟ وهل من عادى ولياً لا يكون هو ولياً لله لثبوت الوعيد؟ A يظهر أن الحديث يشمل العداوة الكاملة التي هي عداوة النفاق وعداوة الكفر، ويشمل ما دون ذلك، حتى وإن كان أمراً دنيوياً، فقد يشمله الوعيد، يعني: إذا حدث منه ما يوصف بالعداوة أو العدوان، والعدوان يشمل العدوان الجزئي والعدوان الكلي، فيظهر أن الحديث يشمل جميع هذه الأمور، لكن معاداة الولي درجات. وقوله: (بارزني بالمحاربة)، هذا من ألفاظ الوعيد، لا يعني المبارزة بالمحاربة التي هي المبارزة بالنفاق والكفر في الضرورة، فالحديث الأظهر أنه شامل للمبارزة التي هي مبارزة الكفر والنفاق ونحو ذلك، ويشمل ما دون ذلك من معاداة أولياء الله، فما يحدث من حسد وما يحدث من بغي وعدوان لأولياء الله يدخل في ذلك. وأما ولاية من عادى ولياً لله فقد تحصل من وجه، فلا يعني ذلك أن من عادى الولي معاداة ليست كفرية يخرج من الولاية العامة، يعني: قد يكون مسلماً يعادي ولياً من أولياء الله لحسد، أو لشهوة، أو لشبهة أو نحو ذلك، أو لظلم وعدوان، لكن ليس فيه كفر أو نفاق، إنما ضعف إيمانه من هذا الوجه، فعادى ولياً من أولياء الله، فهذا لا يخرج من الولاية العامة، يعني: لا يخرج عن كونه مسلماً، وفيه من الولاية بقدر ما فيه من الطاعة، لكن ليس له الولاية الحقة الكاملة التي خص بها الأولياء المتقون.

انتفاء اجتماع الكفر الأكبر مع الإيمان

انتفاء اجتماع الكفر الأكبر مع الإيمان Q ذكر الشارح أن المرء قد يكون فيه كفر وإيمان وشرك وتوحيد، فهل يجتمع في الإنسان كفر أكبر مع الإيمان، وشرك أكبر مع التوحيد؟ A لا يجتمع شرك أكبر مع التوحيد بمعناه الشرعي، فالمراد الذين يكون فيهم إيمان وكفر لا يخرج من الملة، أو شرك ليس مخرجاً من الملة، فقد يكون في الإنسان شرك الرياء، أو الشرك الخفي، أو الشرك الذي ليس بخفي لكنه لا يدخل في الشرك الأكبر، ذلك أن الشرك مراتب، وإن كان الغالب في الشرك عند الإطلاق هو الشرك الأكبر، لكن مع ذلك للشرك مراتب، ومن مراتب الشرك ما يكون من البدع غير المخرجة من الملة، ومن المعاصي القلبية كالرياء والسمعة. المهم أن الشرك مراتب كما أن الإيمان مراتب، كما أن الكفر مراتب والتوحيد مراتب، فعلى هذا فإن من خرج من الملة بكفر أو شرك لا يكون فيه توحيد ولا إيمان، وكذلك من كان فيه إيمان وتوحيد واستحق ذلك شرعاً فإن كفره وشركه لا يخرجه من الملة.

شرح العقيدة الطحاوية [76]

شرح العقيدة الطحاوية [76] من أركان الإيمان: الإيمان بالقدر خيره وشره حلوه ومره من الله تعالى، وما تدعيه القدرية من أن الإنسان خالق فعله أو بعض فعله مضاد ومناقض لقوله تعالى: (الله خالق كل شيء) وقوله: (والله خلقكم وما تعملون) وغيرها من النصوص الدالة على أن الله تعالى خلق الإنسان وفعله، وقد صنف أئمة الإسلام كتباً في هذه المسألة وبينوا ضلال القدرية وقبيح استدلالهم.

أركان الإيمان وأصوله ومسائله

أركان الإيمان وأصوله ومسائله قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والإيمان: هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى)]. هنا قرر المؤلف أركان الإيمان وأصول الإيمان، وأحب أن أنبه على أمر مهم في جميع مسائل الإيمان القادمة، وينبني عليه فهم الكثير من القضايا المتعلقة بالإيمان، وهو أن الأمور العلمية المتعلقة بالإيمان على نوعين: النوع الأول: ما يسمى بأصول الإيمان، وهو أركان الإيمان الستة التي عدها المؤلف هنا. والثاني: ما اصطلح عليه أهل العلم في نهاية القرن الأول وما بعده، وهو ما يسمى بمسائل الإيمان، فمسائل الإيمان هي أيضاً من أصول الدين، وبعض الناس قد يظن أن مسائل الإيمان دون الأركان في الأهمية، لكن الأمر على غير ذلك، فإن أصول الإيمان أو أركان الإيمان لا تختلف عنها مسائل الإيمان في أهميتها في الدين، وإنما فرق بينهما تفريقاً علمياً؛ لأن المسائل تفرعت عن القواعد العامة، لكنها مما أجمع عليه السلف ومما اعتبر من أصول الدين بعدما تكلمت فيه الفرق. فالنوع الأول يعبر عنه بأصول الإيمان، وأركان الإيمان، وهي الأركان الستة. والنوع الثاني -وهو مسائل الإيمان- يشمل أموراً: أولها: تعريف الإيمان. وثانيها: دخول الأعمال في مسمى الإيمان. وثالثها: زيادة الإيمان ونقصانه. ورابعها: الاستثناء في الإيمان. وبعض أهل العلم زاد فيها مسألة خامسة: وهي الأسماء والأحكام، فبعضهم يلحقها بمسائل الإيمان؛ لأنها ثمرة لها. والأسماء والأحكام في العقيدة المقصود بها: الأسماء التي نطلقها على العباد المكلفين، ثم الأحكام التي تترتب على هذه الأسماء، مثل: مسلم، مؤمن، فاسق، فاجر، كافر، مشرك إلى آخر ذلك من العبارات، فهذه تسمى أسماء. فالأسماء: هي الألفاظ التي تطلق على العباد المكلفين بحسب أحوالهم، ثم يترتب على هذه الأسماء أمر آخر يسمى: الأحكام. فالكافر له أحكام تفصيلية، والمسلم له أحكام، والمؤمن له أحكام تفصيلية، والفاسق الفاجر مرتكب الكبيرة له أحكام تفصيلية، فالأحكام فرع عن الأسماء، أو نتيجة للأسماء، والأسماء والأحكام نتيجة عن مسائل الإيمان.

أهمية مسائل الإيمان

أهمية مسائل الإيمان مسائل الإيمان لا تقل أهمية عن الأركان؛ لأنها فرع عنها، وإن كانت الأركان منصوصاً عليها بالكتاب والسنة، وعليها إجماع سلف الأمة، لكن المسائل أخرجت بمباحث مستقلة؛ لأنها تكلمت فيها الفرق، وأول ما تكلم السلف عن مسائل الإيمان على وجه فيه تفصيل، فالناس أول القرن الأول في عهد الصحابة كانوا يأخذون الدين بالجملة دون كلام في المسائل البدهية، إلا ما ورد في الكتاب والسنة، ومنها مسائل الإيمان، لكن لما جاءت المرجئة والقدرية خاضوا في هذه الأمور، وخاض قبلهم الخوارج، فالكلام في هذه المسائل ما ظهر إلا حين ظهرت المرجئة، وهي أشبه بردة الفعل ضد الخوارج. فالمرجئة هم الذين أثاروا قضايا مسائل الإيمان، فقالوا بأن الإيمان هو التصديق، أو التصديق والإقرار، ثم قالوا بأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، بل هي شرط الإيمان وثمرته، ثم نتج عن هذا عدم القول بزيادة الإيمان ونقصانه؛ لأن من قال بأن الإيمان هو التصديق أو القول، فالتصديق والقول لا يدخلهما زيادة ونقص، وتبعاً لذلك قالوا: لا يجوز الاستثناء في الإيمان، فلما تحدث المرجئة عن هذه المسائل تحدث السلف في تقريرها شرعاً على ما ورد في الكتاب والسنة، وأبرزت وقررت على أصولها العلمية، فسميت بهذه الأسماء تحت هذه القضايا الرئيسة، وهي تابعة لأصول الإيمان، وهي أصول أيضاً، أصول من أصول الدين؛ لأن السلف أجمعوا عليها وبدعوا من خالفها، فلا يظن ظان أن مسائل الإيمان أدنى درجة، أو أنها من المسائل الخلافية، بل هي من لوازم أركان الإيمان وأصوله.

اشتمال حديث جبريل على أركان الإيمان واشتمال حديث وفد عبد القيس على أعماله

اشتمال حديث جبريل على أركان الإيمان واشتمال حديث وفد عبد القيس على أعماله قال رحمه الله تعالى: [تقدم أن هذه الخصال هي أصول الدين، وبها أجاب النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور المتفق على صحته؛ حيث جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم على صورة رجل أعرابي وسأله عن الإسلام، فقال: (أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً وسأله عن الإيمان، فقال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره. وسأله عن الإحسان، فقال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وتارة بآيتي الإيمان والإسلام التي في سورة البقرة: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} [البقرة:136] الآية، والتي في آل عمران: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] الآية، وفسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس المتفق على صحته، حيث قال لهم: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم)]. هذا الحديث تكلم عنه الشارح، لكن في كلامه شيء من الغموض في مسألة الجمع بين الحديثين: حديث تفسير الإيمان بالأركان الستة، الذي هو حديث جبريل، وحديث تفسير الإيمان بأركان الإسلام، الذي هو حديث وفد عبد القيس، فهذان الحديثان بينهما فرق في تفسير الإيمان، ويجمع بينهما ما ذكره أئمة السلف من أنه في حديث جبريل فسر الإيمان مع الإسلام، أي: جاء ذكر الإيمان والإسلام في حديث واحد؛ لأن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام أولاً، ثم سأله عن الإيمان ثانياً، ثم سأله عن الإحسان، والإسلام والإيمان والإحسان أمور متداخلة، فأخصها الإحسان ثم الإيمان ثم الإسلام، وكأنها دوائر ثلاث: الدائرة الصغرى الخاصة الإحسان، والدائرة الوسطى الإيمان، والدائرة الكبرى الإسلام، هذا عندما ذكرت هذه الألفاظ مجتمعة، فعندما ذكرت هذه الألفاظ مجتمعة فسر كل لفظ بالمعنى الذي يخصه. في الحديث الثاني ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام، إنما ذكر الإيمان، فقال: (آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله؟) ففسر الإيمان مفرداً بما يتضمن الإسلام والإحسان، كما هي القاعدة عند أهل العلم؛ أنه إذا ذكر مفرداً يتضمن الإسلام والإحسان، وإن كان الإحسان قد يخرج، لكن هذا أمر لا نجزم به، فالتضمن هو الأصل، بمعنى أنه قد يكون الإنسان مؤمناً مسلماً ولكن ليس بمحسن، فهذا استثناء نحترز به احترازاً عند التفصيل، وإلا فالإيمان الأصل فيه أنه يتضمن الإحسان، ومع ذلك لا يلزم، والعكس هو الصحيح، فالإحسان لابد أن يتضمن الإيمان والإسلام، والإيمان لابد أن يتضمن الإسلام، لكن الإسلام لا يلزم أن يتضمن الإحسان ولا يتضمن الإيمان، بمعنى: قد يكون أحد ظاهره الإسلام وهو منافق، والله أعلم بحاله. أعود فأقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإيمان بأركان الإسلام حينما ذكر الإيمان مفرداً، فلابد أن يتضمن الإسلام، فعلى هذا تطرد القاعدة عند التفصيل والإجمال، فعندما نجمل فتأتي الألفاظ وحدها يتضمن لفظ الإسلام الأمور الثلاثة، وكذلك لفظ الإيمان وكذلك لفظ الإحسان، وعندما يأتي كل لفظ مع الآخر فلابد أن يفسر بأخص معانيه، وكل معنى شرعي له خصوص وعموم، فالصلاة قد تطلق على نوعين من الصلاة: الصلاة الكاملة المؤداة على وجه صحيح، ومجرد الصلاة التي تبرأ بها الذمة فقط، فكلها تسمى صلاة، وهذه مقبولة وهذه مردودة، لكن كلها يسقط بها الفرض، فعلى هذا فإن تفسير الإيمان بأركان الإسلام جاء هنا لأن الإيمان ذكر وحده. قال رحمه الله تعالى: [ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب، لما قد أخبر في غير موضع أنه لابد من إيمان القلب، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان، وقد تقدم الكلام على هذا].

دلالة الكتاب والسنة على ثبوت حقيقة الإيمان بالعمل مع التصديق

دلالة الكتاب والسنة على ثبوت حقيقة الإيمان بالعمل مع التصديق [والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق]. ينبغي أن نضيف كلمة من أجل أن يستقيم الأمر على تصور أهل السنة، فنقول: (والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حقيقة الإيمان وحكمه إلا بالعمل الصالح مع التصديق)؛ ذلك أن كلمة (حكم الإيمان) كلمة محتملة، فقد يقصد بحكم الإيمان ثمرته أو الأحكام المترتبة عليه، وقد يقصد بحكم الإيمان حقيقته، فهي عبارة موهمة، فهذه العبارة قد يقول بها المرجئ، وتستقيم على مذهبه، وقد يقول بها السني، لكن فيها نوع من الالتباس. قال رحمه الله تعالى: [وهذا أكثر من معنى الصلاة والزكاة، فإن تلك إنما فسرتها السنة، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة؛ فمن الكتاب قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] الآية، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] الآية، وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، نفي الإيمان حتى توجد هذه الغاية دل على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد، لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب، ولا يقال: إن بين تفسير النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث جبريل وتفسيره إياه في حديث وفد عبد القيس معارضة؛ لأنه فسر الإيمان في حديث جبريل بعد تفسير الإسلام، فكان المعنى أنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مع الأعمال التي ذكرها في تفسير الإسلام]. هنا أشار إلى ما ذكرته من أن لفظ الإيمان إذا جاء مفرداً شمل الإسلام، كما في حديث وفد عبد القيس، وإذا جاء مقترناً بالإسلام فسر بالمعنى الأخص، وكما قلت: يمثل ذلك الصلاة، فأنت قد ترى إنساناً صلى الظهر أو العصر لم تعجبك صلاته، بمعنى: أنه ما خشع ولا قام بما ينبغي في الصلاة من الأمور المكملة، فيمكن أن تقول له: ما صليت، تعني: أنه ما أدى الصلاة على وجهها، فالصلاة الخاصة المطلوبة ما صلاها، ولو أنه أخل بالصلاة إخلالاً كاملاً قلت: ما صليت، يعني: ما أديت الصلاة أصلاً، وما قبلت صلاتك. فكذلك الإيمان والإسلام، ولذلك يتميز مذهب أهل السنة والجماعة بهذه الشمولية في تفسير الألفاظ، واعتبار معاني الألفاظ ورد بعضها إلى بعض، سواء في مثل هذه الأمور أو في غيرها، هذا مما يتميز به منهج السلف عن مناهج أهل الأهواء والفرق، ومنهم المرجئة، وهو الجمع بين ألفاظ الشرع وإعطاء كل لفظ وكل معنى التفصيلات التي تتعلق به.

وجه إشكال حديث وفد عبد القيس على تفسير الطحاوي للإيمان

وجه إشكال حديث وفد عبد القيس على تفسير الطحاوي للإيمان قال رحمه الله تعالى: [كما أن الإحسان متضمن للإيمان الذي قدم تفسيره قبل ذكره، بخلاف حديث وفد عبد القيس؛ لأنه فسره ابتداء، لم يتقدم قبله تفسير الإسلام، ولكن هذا الجواب لا يتأتى على ما ذكره الشيخ رحمه الله من تفسير الإيمان، فحديث وفد عبد القيس مشكل عليه]. يشير إلى تفسير الشيخ للإيمان على مذهب المرجئة؛ لأن الشيخ فسر الإيمان أكثر من مرة، وفي بعض المرات فسره بتفسير يرده حديث وفد عبد القيس. وهو قوله: (والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى). فهذا مما يرد عليه الحديث؛ لأنه لا يكون الإيمان واحداً؛ ولا يكون أهله في أصله سواء؛ لأن هذا ينافيه تفسيره بالأعمال التي ذكرت. فمجموع كلام الطحاوي السابق في الإيمان يفهم منه: أنه وافق المرجئة، وأنه جعل العمل من لوازم الإيمان وليس من الإيمان نفسه، فالشارح يقول بأن حديث وفد عبد القيس لا يتوافق مع تفسير الشيخ للإيمان عند تفصيله، ويعارضه؛ لأن الحديث صريح في تفسير الإيمان بأركان الإسلام.

جواب السؤال عن قصر الإسلام على الخصال الخمس دون غيرها من الواجبات

جواب السؤال عن قصر الإسلام على الخصال الخمس دون غيرها من الواجبات قال رحمه الله تعالى: [ومما يسأل عنه: أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من الخصال الخمس التي أجاب بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المذكور، فلم قال: إن الإسلام هذه الخصال الخمس؟ وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الإسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده. والتحقيق: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً، الذي يجب لله عبادة محضة على الأعيان، فيجب على كل من كان قادراً عليه، ليعبد الله بها مخلصاً له الدين، وهذه هي الخمس، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب مصالح، فلا يعم وجوبها جميع الناس، بل إما أن يكون فرضاً على الكفاية: كالجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك من إمارة وحكم وفتيا وإقراء وتحديث وغير ذلك، وإما أن يجب بسبب حق الآدميين، فيختص به من وجب له وعليه، وقد يسقط بإسقاطه من قضاء الديون ورد الأمانات والمغصوب والإنصاف من المظالم من الدماء والأموال والأعراض، وحقوق الزوجة والأولاد، وصلة الأرحام ونحو ذلك. فإن الواجب من ذلك على زيد غير الواجب على عمرو، بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة؛ فإن الزكاة وإن كانت حقاً مالياً فإنها واجبة لله، والأصناف الثمانية مصارفها، ولهذا وجبت فيها النية، ولم يجز أن يفعلها الغير عنه بلا إذنه، ولم تطلب من الكفار، وحقوق العباد لا يشترط لها النية، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته، ويطالب بها الكفار. وما يجب حقاً لله تعالى -كالكفارات- هو بسبب من العبد، وفيها معنى العقوبة، ولهذا كان التكليف شرطاً في الزكاة؛ فلا تجب على الصغير والمجنون عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى على ما عرف في موضعه].

وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى

وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره من الله تعالى قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (والقدر خيره وشره وحلوه ومره من الله تعالى): تقدم قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام: (وتؤمن بالقدر خيره وشره)، وقال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51]، وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:78 - 79] الآية].

الجمع بين قوله تعالى: (كل من عند الله) وقوله: (فمن نفسك)

الجمع بين قوله تعالى: (كل من عند الله) وقوله: (فمن نفسك) قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))، وبين قوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ))؟ قيل: قوله ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)): الخصب والجدب والنصر والهزيمة؛ كلها من عند الله، وقوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ)): أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك]. خلاصة هذا الجمع أن قوله عز وجل: ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)) يعني: من حيث العلم والتقدير، كل شيء يحدث -ومنه أفعال العباد خيرها وشرها- بعلم الله وتقديره ومشيئته، وقوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ)) ونحوه مما جاء في الآيات يعني: من حيث التسبب، فالله عز وجل جعل لأفعال العباد أسباباً، وأفعال العباد التي فيها الشر والضرر عليهم تسببوا في وقوعها على أنفسهم، وكون الله عز وجل قدرها لا يعني ذلك ألا يكون العبد متسبباً؛ لأن الله عز وجل أعطى العباد المكلفين الحرية والقدرة والاختيار، وبين لهم طريق الخير وأقدرهم عليه وأمرهم به، وبين لهم طريق الشر وأقدرهم عليه ونهاهم عنه، فإذا فعلوا الشر فإن فعلهم له سبب في العقوبة، والفعل والعقوبة كلاهما مقدر من الله عز وجل؛ لأنه كل من عند الله. إذاً: كل من عند الله من حيث العلم والتقدير والمشيئة العامة والإرادة العامة، ويقال للإنسان إذا أصابه ضر بسبب أعماله وسيئاته: فمن نفسك، أي: من حيث التسبب، أنت سببه، فهذا عقوبة لك، وهذا معلوم عند التأمل، بل هو واضح، وهو الذي تقتضيه الفطرة، ومن حاد عن هذا الفهم فلابد أن يختل فهمه ويقع في إشكال. قال رحمه الله تعالى: [وقوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ))، أي: ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك، كما قال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30]، يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ: ((وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)) وأنا كتبتها عليك. والمراد بالحسنة هنا: النعمة، وبالسيئة: البلية، في أصح الأقوال، وقد قيل: الحسنة الطاعة، والسيئة المعصية، وقيل: الحسنة ما أصابه يوم بدر، والسيئة ما أصابه يوم أحد]. هذا من تفسير الشيء بجزئه، يعني: كثيراً ما يرد عن السلف تفسير النصوص بأسباب نزولها أو بأحوال خاصة، ولا يعني ذلك أنهم ينكرون عموم اللفظ، بل كانت مداركهم ومفاهيمهم وإدراكهم للغة تغني عن التفصيل، فكان السلف في ذلك الوقت المبكر في عهد الصحابة ومن بعدهم إذا جاء تفسيرهم هكذا -مثل تفسير السيئة بما حصل يوم أحد- فإنهم لا يتطرق إلى أفهامهم أن المقصود حصر معنى الآية على السيئة يوم أحد، إنما الإشارة إلى المثل والسبب، أو تفسير الشيء بجزئه، وهذا كثير جداً في عهد الصحابة والتابعين الأوائل قبل أن يتكلف الناس ويتعمقوا في الكلام ويتوسعوا، وتضعف لغتهم وتضعف مفاهيمهم، ولذلك يظن كثير من الناس أن تفسير الصحابة وتفسير التابعين ليس بشامل؛ لأنه يأتي بمثل هذه الجزئيات، والصحيح أنه أشمل؛ لأنه يأتي بالمثل الذي يدل على القاعدة، ويأتي بالجزء الذي يدل على الكل، ويأتي بالمثال الذي يدل على الأصل، وهذا أشمل في الفهم، لكن لما ضعفت العربية وكثر تكلف الناس، وتعودوا على العنصرة والتعمق وتشقيق الكلام اضطر العلماء إلى التنبيه على عمومات الألفاظ في النصوص. قال رحمه الله تعالى: [والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث، والمعنى الثاني ليس مراداً دون الأول قطعاً، ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه، مع أن الجميع مقدر، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى، فتكون من سيئات الجزاء، مع أنها من سيئات العمل، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى، كما دل على ذلك الكتاب والسنة].

دفع احتجاج القدرية على خلق الإنسان فعله بقوله تعالى: (فمن نفسك)

دفع احتجاج القدرية على خلق الإنسان فعله بقوله تعالى: (فمن نفسك) قال رحمه الله تعالى: [وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى: ((فَمِنْ نَفْسِكَ))]. يقصد القدرية الذين قالوا بأن الإنسان خالق أفعاله أو بعض أفعاله، فبعضهم قالوا: إنه خلق أفعاله، وبعضهم قالوا: خلق بعض أفعاله، وبعضهم يقول بأنه هو الموجد والأصل في أفعال الشر، وليس لله فيها خلق! تعالى الله عما يزعمون، المهم أن هؤلاء هم القدرية الأولى، وقدرية المعتزلة كذلك. قال رحمه الله تعالى: [وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى: ((فَمِنْ نَفْسِكَ))، فإنهم يقولون: إن فعل العبد حسنة كان أو سيئة فهو منه لا من الله! والقرآن قد فرق بينهما وهم لا يفرقون، ولأنه قال تعالى: ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))، فجعل الحسنات من عند الله، كما جعل السيئات من عند الله، وهم لا يقولون بذلك في الأعمال، بل في الجزاء. وقوله بعد هذا: ((مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ))، و ((مِنْ سَيِّئَةٍ))، مثل قوله: ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ))، و ((وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ)). وفرق سبحانه وتعالى بين الحسنات التي هي النعم، وبين السيئات التي هي المصائب؛ فجعل هذه من الله، وهذه من نفس الإنسان؛ لأن الحسنة مضافة إلى الله؛ إذ هو أحسن بها من كل وجه، فما من وجه من وجوهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه. وأما السيئة فهو إنما يخلقها لحكمة، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه؛ فإن الرب لا يفعل سيئة قط، بل فعله كله حسن وخير؛ ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الاستفتاح: (والخير كله بيديك، والشر ليس إليك)، أي: فإنك لا تخلق شراً محضاً، بل كل ما تخلقه ففيه حكمة هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس، فهذا شر جزئي إضافي، فأما شر كلي أو شر مطلق فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه، وهذا هو الشر الذي ليس إليه. ولهذا لا يضاف الشر إليه مفرداً قط، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات، كقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، ((كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ))، وإما أن يضاف إلى السبب، كقوله: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2]، وإما أن يحذف فاعله، كقول الجن: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10]. وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة، بل لله من الرحمة والحكمة ما لا يقدر قدره إلا الله تعالى، وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة يكون شراً كلياً عاماً، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيراً ومصلحة للعباد، كالمطر العام، وكإرسال رسول عام].

وجه الخير فيما يبتلي الله تعالى به عباده من ظلم الظلمة

وجه الخير فيما يبتلي الله تعالى به عباده من ظلم الظلمة قال رحمه الله تعالى: [وهذا مما يقتضي أنه لا يجوز أن يؤيد كذاباً عليه بالمعجزات التي أيد بها الصادقين؛ فإن هذا شر عام للناس يضلهم فيفسد عليهم دينهم ودنياهم وأخراهم. وليس هذا كالملك الظالم والعدو؛ فإن الملك الظالم لابد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه، وقد قيل: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، وإذا قدر كثرة ظلمه فذاك خير في الدين، كالمصائب تكون كفارة لذنوبهم، ويثابون على الصبر عليه، ويرجعون فيه إلى الله، ويستغفرونه ويتوبون إليه]. هذا فيه إشارة إلى الفارق بين فهم أئمة السلف أئمة السنة وفهم أهل الأهواء فيما يتعلق بالصبر على المظالم والجور والأثرة، وما يتعلق بالتعامل مع الولاة، فهو أشار إلى ذلك هنا بهذه المناسبة ليبين أنه فعلاً قد يحدث من الملوك أو من بعض السلاطين شيء من الظلم والعدوان والأثرة، لكن ورد الصبر على ذلك، بمعنى: يجب ألا يؤدي ذلك إلى الخروج، ولا يعني بذلك عدم النصح وعدم إقامة الحجة أو عدم إنكار المنكر بالطرق المشروعة، لا يقصد هذا، وإنما يقصد أن ما يحدث من هذه الأمور -الظلم والأثرة والعدوان من بعض السلاطين- لا يقتضي بالضرورة أن يكون شراً كله، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ظلم الولاة وجورهم وأثرتهم، وقال: (إنكم سترون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)، ونحو ذلك من الأحاديث الواردة، بل إنه أمر بالصبر حتى مع جلد الظهر وأخذ المال: (وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) ونحو ذلك من الأحاديث، وأمر بالصبر حتى على من لا يرى الناس أنه مستحق للولاية كالعبد الحبشي ونحو ذلك. المهم أن الشاهد هنا أن فيما يحدث من مظالم وعدوان قد يكون شراً، لكنه شر لابد من الصبر عليه، وقد يكون وراءه خير، ثم إنه ليس شراً محضاً، نعم لو كان باختيار الناس لوجب أن يختاروا الأفضل وأن يبتعدوا ولا يقعوا فيما يسبب الظلم والعدوان، لكن الكلام فيما يقدر عليهم وما يكتب لهم في مصائرهم؛ وذلك أن الملك لله يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، فهذا الأمر هو الفارق بين فهم السلف وغيرهم، ولذلك قالوا هذه الكلمة: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، وهذه قاعدة -في الحقيقة- صحيحة يصدقها الشرع والعقل، فلو افترضنا أن تنفلت أمور الناس ليلة واحدة بلا إمام لفسد دينهم ودنياهم، وما استطاع الإنسان أن يؤدي حتى صلاة الجماعة أو غيرها، وكثير من ضرورات الدين -كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجمعة والجماعات وإقامة الحدود والجنائز وغيرها- كلها لا يمكن أن تؤدى بغير ما يحكم دنيا الناس من إمامة ولو من سلطان ظالم، فهذه الحقيقة هي التي يختلف فيها فهم السلف عن فهم غيرهم من الذين لا يصبرون على الجور ويعدون الجور من المنكرات التي يجب إزالتها بلا حدود ولا ضوابط ولا شروط. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك ما يسلط عليهم من العدو، ولهذا قد يمكن الله كثيراً من الملوك الظالمين مدة، وأما المتنبئون الكذابون فلا يطيل تمكينهم، بل لابد أن يهلكهم؛ لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة]. هذا ينطبق أيضاً على مثل الأمر بقتال الخوارج، فالخوارج ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بقتالهم دون غيرهم من أهل الأهواء، مع أن أهل الأهواء من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم أشد كفراً من الخوارج، ومع ذلك ما جاء الأمر إلا بقتال الخوارج؛ لأن منهجهم ومسلكهم يفسد الدين والدنيا، فهم لا يستريحون حتى يقتلوا الناس أو يقتلهم الناس، فلذلك جاء الأمر بقتلهم؛ لأن مناهجهم تفسد دين الناس ودنياهم، وكل منهج يكون كذلك يكون أضر على الناس، وهذا هو السبب في حث السلف على الصبر على الظلم والجور؛ لأن الظلم والجور بذنوب العباد، فالعباد لو استقاموا على دين الله عز وجل وحققوا التوحيد، وحققوا أوامر الله عز وجل واجتنبوا نواهيه لا يمكن أن يولى عليهم من لا يصلح لهم، فهذا لا يتأتى أبداً شرعاً ولا عقلاً، فما يأتي الناس شيء من الجور والظلم من الملوك والسلاطين إلا بسبب ذنوبهم، ولا يمكن ولا يتأتى أن يكون هناك مجتمع مثالي مسلم كمجتمع الصحابة فيولى عليه ظالم، لا يمكن هذا، ولذلك لما قال أحد الناس لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم اختلف الناس عليك وقد اتفقوا على أبي بكر وعمر؟ قال: لأن أبا بكر وعمر كانا ولاة على مثلي، وأنا ولي على مثلك. والظاهر -والله أعلم- أن الذي سأل علي بن أبي طالب من أهل الأهواء، ولا أجزم، لكن الظاهر من السؤال هو هذا. قال رحمه الله تعالى: [قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46].

فوائد من قوله تعالى: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك)

فوائد من قوله تعالى: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك) قال رحمه الله تعالى: [وفي قوله: ((فَمِنْ نَفْسِكَ)) من الفوائد: أن العبد لا يطمئن إلى نفسه ولا يسكن إليها، فإن الشر كامن فيها، لا يجيء إلا منها، ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساءوا إليه، فإن ذلك من السيئات التي أصابته، وهي إنما أصابته بذنوبه، فيرجع إلى الذنوب، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله، ويسأل الله أن يعينه على طاعته، فبذلك يحصل له كل خير، ويندفع عنه كل شر. ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته، فلم يصبه شر لا في الدنيا ولا في الآخرة. لكن الذنوب هي لوازم نفس الإنسان، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الطعام والشراب، ليس كما يقوله بعض المفسرين: إنه قد هداه فلماذا يسأل الهدى؟! وأن المراد التثبيت، أو مزيد الهداية! بل العبد محتاج إلى أن يعلمه الله ما يفعله من تفاصيل أحواله، وإلى ما يتركه من تفاصيل الأمور في كل يوم، وإلى أن يلهمه أن يعمل ذلك؛ فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله مريداً للعمل بما يعلمه، وإلا كان العلم حجة عليه ولم يكن مهتدياً، والعبد محتاج إلى أن يجعله الله قادراً على العمل بتلك الإرادة الصالحة، فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما لا نريد فعله تهاوناً وكسلاً مثل ما نريد أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر، ونحن محتاجون إلى الهداية التامة، فمن كملت له هذه الأمور كان سؤاله سؤال تثبيت، وهي آخر الرتب. وبعد ذلك كله هداية أخرى: وهي الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة، ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة لفرط حاجتهم إليه، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء، فيجب أن يعلم أن الله بفضل رحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير المانعة من الشر، فقد بين القرآن أن السيئات من النفس، وإن كانت بقدر الله، وأن الحسنات كلها من الله تعالى، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يشكر سبحانه، وأن يستغفره العبد من ذنوبه، وألا يتوكل إلا عليه وحده، فلا يأتي بالحسنات إلا هو، فأوجب ذلك توحيده والتوكل عليه وحده، والشكر له وحده، والاستغفار من الذنوب. وهذه الأمور كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمعها في الصلاة، كما ثبت عنه في الصحيح: أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: (ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد) فهذا حمد وهو شكر لله تعالى، وبيان أن حمده أحق ما قاله العبد، ثم يقول بعد ذلك: (لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد). وهذا تحقيق لوحدانيته، لتوحيد الربوبية خلقاً وقدراً وبداية وهداية، هو المعطي المانع، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولتوحيد الإلهية شرعاً وأمراً ونهياً، وهو أن العباد وإن كانوا يعطون جداً -ملكاً وعظمة وبختاً ورياسة- في الظاهر أو في الباطن -كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة- فلا ينفع ذا الجد منك الجد، أي: لا ينجيه ولا يخلصه، ولهذا قال: لا ينفعه منك، ولم يقل: ولا ينفعه عندك؛ لأنه لو قيل ذلك أوهم أنه لا يتقرب به إليك، لكن قد لا يضره. فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد، وتحقيق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإنه لو قدر أن شيئاً من الأسباب يكون مستقلاً بالمطلوب -وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره- لكان الواجب ألا يرجى إلا الله، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يسأل إلا هو، ولا يستغاث إلا به، ولا يستعان إلا هو، فله الحمد وإليه المشتكى وهو المستعان وبه المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا به، فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب، بل لابد من انضمام أسباب أخر إليه، ولابد أيضاً من صرف الموانع والمعارضات عنه حتى يحصل المقصود؟! فكل سبب فله شريك وله ضد، فإن لم يعاونه شريكه ولم ينصرف عنه ضده لم تحصل مشيئته. والمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم إليه من الهواء والتراب وغير ذلك، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف عنه المفسدات. والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك فهو -مع أن الله يجعل فيه الإرادة والقوة والفعل- فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة خارجة عن قدرته تعاونه على مطلوبه، ولو كان ملكاً مطاعاً، ولابد أن يصرف عن الأسباب المتعاونة ما يعارضها ويمانعها، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع. وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتض تام، وإن

الرد على الجبرية والقدرية

الرد على الجبرية والقدرية هذا الكلام كله فيه رد على فئتين، وببيان مذهب هاتين الفئتين يتبين المقصود: الفئة الأولى: الذين يزعمون أن العباد يستقلون بأفعالهم استقلالاً تاماً بجميع الأفعال أو ببعضها، وهم القدرية على مختلف أصنافهم، فهذا رد عليهم. والفئة الثانية: وهم الجبرية، وهم أيضاً على درجتين، الجبرية الغالية جبرية الجهمية، وهم الذين يقولون: إن الإنسان مجبور على أفعاله، ويجرون هذا الأمر حتى على الأسباب، يعني: يزعمون أن الأسباب ما هي إلا قرائن على أفعال خفية ليست هي بذاتها التي تتسبب في وجود الأفعال، ويتضح هذا ببيان ما عند الصنف الثاني من الجبرية، وهم كثير من جبرية الأشاعرة والماتريدية أصحاب القول بالكسب، فلهم فلسفة عجيبة في مسألة الأسباب، فكثير منهم يرون أن الأسباب ليست إلا قرائن على فعل الله عز وجل، وليست مؤثرة في الأفعال، وهذا ردة فعل للقدرية، يزعمون أن كل شيء مادام بفعل الله عز وجل وتقديره؛ فالأسباب لا أثر لها البتة، فعلى سبيل المثال: إذا قلنا لهم: نرى أن الله عز وجل جعل السحاب سبباً للمطر، والمطر سبباً لحياة الأرض ثم للنبات وهكذا، قالوا مبالغة في إلغاء الأسباب: السحاب الذي ترون قرينة على وجود المطر وعلامة فقط، وما هو بسبب، ولذلك ألغوا الأسباب، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره: إنهم يحترزون من ذكر الباء السببية في أفعال الله عز وجل أو في ألفاظ القرآن، وقد رد عليهم ابن القيم في كتابه (شفاء العليل). والمهم أنهم يزعمون أن الأسباب ما هي إلا قرائن على فعل الله وليست أسباباً حقيقية مؤثرة، زعماً منهم أن قولنا بأنها مؤثرة يتنافى مع أن الله خالق كل شيء؛ وهذا فهم خاطئ، فالله عز وجل فعال لما يريد، وكل شيء بقدره وفعله، لكن جعل للأشياء أسباباً، وقد يكون من أفعال الله ما ليس له أسباب مباشرة، فالله عز وجل يخلق ما يشاء كيف يشاء، قد يخلق الشيء بكن، لكن سائر الأفعال التي نراها في الكون تكون بأسبابها، فالله عز وجل خالق الأسباب والمسببات، وهو على كل شيء قدير، فلا يخرج عن ملكه شيء، لكن مع ذلك فإن من إتقان الملك وإتقان الخلق أن توجد هذه الأسباب، فهذا من بديع الصنع ومن عظيم خلق الله عز وجل وقدرته أن توجد هذه الأسباب، فالشيخ هنا يرد على طائفتين: الذين يلغون الأسباب بالكلية، ويجعلون الأسباب ما هي إلا قرائن ودلالات على الأفعال، وكذلك الذين يزعمون أن المكلف يستقل بفعل نفسه، سواء كل الأفعال أو بعض الأفعال، والله أعلم. قال رحمه الله تعالى: [ومن عرف هذا حق المعرفة انفتح له باب توحيد الله، وعلم أنه لا يستحق أن يسأل غيره، فضلاً عن أن يعبد غيره، ولا يتوكل على غيره، ولا يرجى غيره].

الأسئلة

الأسئلة

المقصود بحكم الإيمان وحقيقته

المقصود بحكم الإيمان وحقيقته Q ما المقصود بحكم الإيمان وحقيقة الإيمان؟ A قد يقصد بحكم الإيمان حقيقة الإيمان، لكن بعض المرجئة يقصدون بحكم الإيمان ثمرته أو لوازمه، أو الأسماء والأحكام؛ يعني: الحكم على الشخص بعد إيمانه، فكلمة حكم الإيمان قد يقصد بها الحقيقة وقد يقصد بها الآثار والأحكام المتعلقة بأفعال العباد، أما الحقيقة فهي أدق؛ فحقيقة الإيمان تعني حقيقته الشرعية، فإذا قيدت كلمة حكم الإيمان بحقيقته فإنها تعتبر أحكم وأسلم من الكلمة المجردة من الوصف. إذاً: كلمة (حكم الإيمان) تحتمل معنيين: تحتمل الآثار واللوازم والشروط، وهذا قول المرجئة، وتحتمل حقيقة الإيمان، وهذا قول السلف. وقد يقال: هل بينهما فرق؟ وما حكم الاقتصار على أحدهما؟ و A لا مانع أن نطلق كلمة (حكم الإيمان) وحدها أو (حقيقة الإيمان) وحدها إذا دل السياق على المقصود.

مدى الاعتبار بحديث أركان الإيمان في تعريف الإيمان

مدى الاعتبار بحديث أركان الإيمان في تعريف الإيمان Q سمعت بعض الناس يقول: ينبغي أن يعرف الإيمان بما عرف به الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أنه: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله إلى آخره، وينهى عن التعريف المشهور بحجة وجود الرد على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ A هذا حق وهذا حق، فإن تعريف الإيمان بأركانه الستة صحيح إذا قصد التعريف الخاص، لكن أحياناً يدخل في مسمى الإيمان أمور أخرى، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بتعريف آخر، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عرفه بأركان الإيمان الستة، وعرفه في قصة وفد عبد القيس وفي أحاديث كثيرة بأركان الإسلام؛ فمعنى هذا أن كل ذلك من تعريف النبي صلى الله عليه وسلم له، فيكون جماع هذه التعريفات وجماع مفهوم الإيمان في الكتاب والسنة، وجماع ما ورد في حقيقة الإيمان في عموم النصوص تعريف الإيمان بأنه قول وعمل، أو اعتقاد وقول وعمل، ولا مانع مع ذلك من تعريفه بأركان الإيمان الستة، لكن مادام قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا وهذا، فلا ينبغي لأحد أن يحجر الإيمان على تعريف معين، إلا إذا اقتضى الحال ذلك، أما عند الحاجة للتفصيل، وعند وجود اللبس، أو بعد ظهور الأهواء وخوف خطأ الفهم من الناس، أو إذا كان السائل ممن قد يفهم من التعريف قول فئة أو طائفة من الطوائف التي تخص الإيمان ببعض معانية فنحتاج إلى التفصيل.

وجه امتناع اشتقاق الصفة من التردد والهرولة

وجه امتناع اشتقاق الصفة من التردد والهرولة Q من المعلوم أن صفات الله عز وجل وأسماءه وأفعاله تأتي عن طريق الخبر، فلماذا لا يؤخذ من فعل التردد والهرولة صفة؟ A التردد والهرولة وردت في مقابل أفعال العباد، ولو لم ترد في مقابل فعل العبد لأطلقناها صفة بجزم، لكن ما دامت قد وردت في سياق فعل العبد فلابد أن يربط المعنى بهذا المفهوم، وهذا أمر لا نستطيع أن نرده عن أذهان السامعين، وهو مقتضى اللغة التي تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم تكلم بلسان عربي مبين، وأعطي جوامع الكلم، ولا يتكلم عن ربه إلا بحق، فألفاظ الحديث التي ورد فيها التردد وورد فيها الهرولة ونحوها من الأفعال الثابتة لله عز وجل لا نستطيع أن نجزم بأنها صفات، لكن نقول: نقرها كما جاءت، وتثبت لله عز وجل حقيقة على ما يليق بجلاله، فهي حق على حقيقتها، ولا نتأول، لكن مع ذلك لا نثبتها صفة مفردة؛ لأن إثباتها صفة مفردة يحتاج إلى دليل، ولا سيما أنها ربطت بأفعال الخلق، فأي فعل لله يربط بأفعال الخلق يفهم من سياقه المعنى المراد، وإذا فهم من سياقه المعنى المراد لم يصر هذا الفهم تأويلاً؛ بل هو تفسير للفظ بظاهره، فإذا فهمنا أن التردد في قبض نفس المؤمن القصد منه إكرام المؤمن والرأفة به لعمله الصالح؛ فهذا يعني أننا ما أولنا؛ لأن هذا هو مفهوم النص وظاهره. وكذلك الهرولة، وإن كانت الهرولة تختلف عن التردد نوعاً ما، لكن يمكن أن يقاس على التردد الملل: (إن الله لا يمل حتى تملوا)، فربط الفعل بأفعال العباد، فمعنى الملل عند العباد منفي عن الله عز وجل، إذاً: للملل في حق الله معنى آخر بالضرورة مفهوم من السياق نفسه، لا بتأول، ولذلك لا تصلح هذه أمثلة على التأويل كما يزعم كثير من المبطلين، فالسلف حينما أولوا الملل أو فسروه بغير لفظه -وكذلك التردد- لا يعني ذلك أن هذا تأويل؛ لأن هذا مقتضى السياق، فالمعنى موجود في النص نفسه؛ لأنه مقابل أفعال العباد، فهذا خبر، ولا مانع أن نثبت منه صفة بالإجمال، لكن لا يقال: إنها صفة مفردة، فلا يقال: من الصفات التردد ومن الصفات الملل، لكن يقال: هذا الفعل من صفات أفعال الله عز وجل، ونكتفي بذلك ونقف على النص، ونقول: هذا النص يثبت لله على ظاهره على ما يليق بالله عز وجل، ومعناه مفهوم عند المخاطبين، والله أعلم.

حكم الجزم لشخص بالولاية

حكم الجزم لشخص بالولاية Q ما حكم الجزم بأن فلاناً المعروف بالعلم والدين ولي من أولياء الله؟ A الجزم بأن فلاناً من أولياء الله لا يجوز، مثل الجزم بمصير أحد من العباد، لكن أن يقال: هذا ولي من أولياء الله بناء على القرائن وظواهر الحال؛ فهذا معلوم، فلا شك أنا إذا رأينا على عبد من العباد قرائن الولاية من الاستقامة والصلاح والتقوى وغير ذلك قلنا: فلان ولي من أولياء الله، على سبيل الشهادة بما نعلمه ظاهراً ولا نجزم، فالجزم أمر صعب ولا ينبغي، وربما يكون من الأمور غير المشروعة، أما الشهادة بأن فلاناً ولي من أولياء الله بناء على القرائن الظاهرة إذا شهد له عموم الناس فجائزة؛ لأن الشهادة على نوعين: شهادة بمعنى الجزم، وشهادة بمعنى الأخذ بالقرائن الظاهرة، فيجوز أن تقول: يظهر لي أن فلاناً ولي من أولياء الله، بناء على ما يظهر من أعماله وحاله. إذاً: فالجزم الذي يعني الاعتقاد الذي يمكن أن تقسم عليه لا يجوز؛ لأنه مثل الجزم بمصير العبد، وفرق أيضاً بين الحي والميت، يعني: التغليظ في أمر الميت أكثر من أمر الحي؛ لأن الميت إذا مات وظاهره على الولاية يشهد له بالولاية شهادة عامة، أما الحي فلا تؤمن عليه الفتنة، ومع ذلك يشهد له بظاهر حاله في وقت الشهادة، على ألا تتعلق الشهادة بمصيره إذا كانت الشهادة بواقع الحال فلا حرج فيها بشرط ألا يكون الجزم اليقيني الذي يؤدي إلى الاعتقاد.

البشرى الموعود بها الأولياء في الدنيا

البشرى الموعود بها الأولياء في الدنيا Q ما هي البشرى التي وعدها الله أولياءه في الدنيا؟ A أولياء الله لهم البشرى في الحياة الدنيا من عدة وجوه: أولاً: شهادة الناس لهم. والأمر الثاني: ما يطمئن الله به قلوبهم من نور الإيمان ولذة العبادة وسعادة الحال ونحو ذلك مما يلاحظه أهل التقوى والاستقامة؛ فهم يعيشون سعادة قلبية في الدنيا، إضافة إلى ما يجدونه من قرائن الحال على الولاية؛ من شهادة الناس، ومن كرامات تحدث لهم منظورة وغير منظورة وغير ذلك مما هو معلوم.

شرح العقيدة الطحاوية [77]

شرح العقيدة الطحاوية [77] أهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا ماتوا فهم تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غفر لهم وأدخلهم الجنة، وإن شاء عذبهم ولكن لا يخلدون في النار، خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يقولون بخلود العصاة في النار، وقد وفق الله أهل السنة والجماعة، فجمعوا بين النصوص وفهموها على فهم الصحابة والتابعين، بعيداً عن الغلو أو الإرجاء.

الإيمان بجميع الرسل وتصديقهم فيما جاءوا به

الإيمان بجميع الرسل وتصديقهم فيما جاءوا به قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونحن مؤمنون بذلك كله، لا نفرق بين أحد من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به): الإشارة بذلك إلى ما تقدم، مما يجب الإيمان به تفصيلاً، وقوله: (لا نفرق بين أحد من رسله) إلى آخر كلامه، أي: لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض، بل نؤمن بهم ونصدقهم كلهم، فإن من آمن ببعض وكفر ببعض كافر بالكل، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150 - 151]. فإن المعنى الذي لأجله آمن بمن آمن منهم موجود في الذي لم يؤمن به؛ وذلك الرسول الذي آمن به قد جاء بتصديق بقية المرسلين، فإذا لم يؤمن ببعض المرسلين كان كافراً بمن في زعمه أنه مؤمن به؛ لأن ذلك الرسول قد جاء بتصديق المرسلين كلهم، فكان كافراً حقاً، وهو يظن أنه مؤمن، فكان من الأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً].

الأقوال في مصير أهل الكبائر

الأقوال في مصير أهل الكبائر قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون)]. صحة العبارة: لا يخلدون في النار، لكنه راعى السجع؛ فأوهمت العبارة، فالمعنى: وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يخلدون في النار، والتقدير بأنهم في النار ثم لا يخلدون خطأ، فـ الطحاوي راعى السجع فقدم كلمة (النار) على (لا يخلدون)؛ وهذا يفهم منه أنهم في النار في أول وهلة، والصحيح التفصيل كما سيأتي؛ وهو أن أهل الكبائر تحت المشيئة: إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم، وبعضهم يغفر له وبعضهم قد يعذب، ومن يعذب لا يخلد. قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون؛ وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته؛ وذلك بأن الله تعالى مولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله! مسكنا بالإسلام حتى نلقاك به]. في هذه الجملة تعرض لأصل من الأصول الكبرى التي خالف فيها كثير من الفرق أهل السنة والجماعة، وهي مسألة مرتكب الكبيرة، ويمكن أن نلخص أقوال الناس في أهل الكبائر بما يلي: أولاً: أن مرتكب الكبيرة إذا تاب من ذنبه قبل الموت، فهذا لا شك أنه يغفر له ذنبه، بمعنى أنه تقبل منه توبته إذا صدق وتوافرت فيه شروط التوبة، وهذا باتفاق، وإن كان هناك من بعض الجهلة من يخوض في بعض تفاصيل المسألة، لكن في الجملة لا نجد في أصول الفرق التي خالفت أهل السنة والجماعة -كالخوارج والمعتزلة- من يشك في هذه المسألة، أن من تاب تاب الله عليه. وأما إذا أصر عليها في الدنيا ثم مات عليها فأقوال الناس في هذه المسألة على النحو الآتي:

قول أهل السنة والجماعة

قول أهل السنة والجماعة أولاً: قول أهل السنة والجماعة: وهو أن مرتكب الكبيرة ما دام مصراً على كبيرته في الدنيا فإنه يبقى فيه أصل الإيمان، لكنه فاسق بكبيرته، وقد يسمى بحسب عمله، قد يسمى ظالماً، وقد يسمى فاجراً، وقد يسمى فاسقاً، وقد يسمى عاصياً، وقد يطلق عليه وصف النفاق إذا كانت فيه خصلة من خصال النفاق، لكن ليس المقصود به النفاق المطلق، فيقال: فيه نفاق، فيه جاهلية إلى آخره، ويسمى مبتدعاً إذا كانت معصيته بدعة، لكن يبقى فيه مسمى الإيمان وأصل الإيمان، فيسمى مؤمناً ويعامل معاملة أهل القبلة إلا لمصلحة راجحة فيهجر ليتوب، أو ليكف فساده عن الناس، ويقام الحد عليه في الدنيا، كل هذه الأمور لا تمنع من كونه مؤمناً، ولا تمنع أن يكون من أهل القبلة وأن تجرى عليه أحكام أهل القبلة في الجملة، وحجبه عن بعض حقوق أهل القبلة لا يعني أنه خرج منهم، فقد لا يصلي عليه بعض أهل العلم، ولا يعني ذلك أنه ليس بمسلم، وقد لا يحضر جنازته، وقد لا يعوده في أثناء مرضه، لكن هذا لمصلحة، ولا يعني أنه ليس بمسلم، وهذه من الأمور التي اشتبهت على كثير من صغار طلاب العلم؛ يأخذون بعض مواقف السلف تجاه المبتدعة أو تجاه أهل الكبائر أو الظالمين أو نحوهم، فيظنون أن هذا يعني الحكم عليهم بالكفر أو نحو الكفر، أو أنهم يحرمون من حقوقهم التي ثبتت لهم بالإسلام، والحال أن هؤلاء لهم حكم تفصيلي، فلابد من اعتبار المصالح ودرء المفاسد فيهم، ومعرفة حكم السلف على الشخص وإن عاملوه معاملة قاسية؛ فالسلف قد يهجرون المبتدع، قد يهجرون الفاسق والفاجر، قد يقيمون عليه الحد في الدنيا، قد يصفونه بالفسق والفجور، قد يتركون بعض حقوقه من الصلة أو الزيارة عند المرض أو الصلاة عليه أو حضور جنازته، أو حضور وليمته أو نحو ذلك، قد يفعل هذا كثير من أئمة الدين، وهذا نوع من الهجر لمصلحة، ولكن لا يعني الحكم عليه بأنه ليس بمسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال في حق بعض موتى الصحابة: (صلوا على صاحبكم)، وكذلك فعل بعض السلف، فهذا ما يتعلق بحكم مرتكب الكبيرة في الدنيا عند أهل السنة. أما في الآخرة فإن مرتكب الكبيرة إذا مات مصراً على كبيرته فإنه تحت مشيئة الله عز وجل: إن شاء غفر له، وأسباب الغفران كثيرة جداً، وأحياناً يغفر الله للعبد بغير سبب منه، بل برحمة الله عز وجل ولطفه بعبده، وإن شاء عذبه في النار، وإن عذبه الله عز وجل فلابد أن يخرج منها بشفاعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة لأهل الكبائر من أمته، وقد ضمنها الله له يوم القيامة، أو بشفاعة الشافعين الآخرين، كشفاعة الأنبياء، وشفاعة الرسل، وشفاعة الصالحين، وشفاعة الشهداء على القول بأن حديث شفاعة الشهداء صحيح، وشفاعة القرآن، وشفاعة الصيام، وشفاعة أطفال المسلمين إذا ماتوا قبل البلوغ واحتسبهم أهلهم عند الله عز وجل، كل هذه من أسباب خروج أهل الكبائر من النار، ثم برحمة الله عز وجل قبل ذلك وبعده. أما الفرق فقد اختلفت اختلافاً كثيراً في مصير أهل الكبائر في الآخرة نوجزه على النحو الآتي:

قول الخوارج والمعتزلة والمرجئة

قول الخوارج والمعتزلة والمرجئة أولاً: الخوارج، فالخوارج يرون أن مرتكب الكبيرة في الدنيا كافر، أي: يحكمون عليه بأحكام الكفر في الغالب، وإن كان بعضهم قد يسميه كافراً ومع ذلك لا يحكم عليه بجميع أحكام الكفر، ففرقهم تختلف في هذا اختلافاً كثيراً، وإذا مات على كبيرته فإنهم يرون أنه مخلد في النار مطلقاً. ثانياً: المعتزلة، وقد وافقوا الخوارج في بعض أقوالهم وخالفوهم في بعضها، فأما في الدنيا فقد نفت المعتزلة عن مرتكب الكبيرة الإيمان ونفت عنه الكفر، وبعضهم يسميه فاسقاً، وبعضهم يقول: هو في منزلة بين المنزلتين، فمنزلة بين المنزلتين اصطلاح جديد لم يرد به الشرع، يريدون به أنه ليس بمؤمن ولا بكافر. أما في الآخرة؛ فإن مرتكب الكبيرة عندهم -كما هو حاله عند الخوارج- من أهل النار المخلدين فيها، ولا يدخل تحت مشيئة الله عز وجل ولا تشمله الشفاعة، لكن بعضهم يقول بأن له ناراً غير نار الكافرين، أي أنها أخف من نار الكافرين، وهذه أيضاً مقولة عجيبة ليس لها مستند. ثالثاً المرجئة، وأقوال المرجئة أيضاً تتفاوت، فالمرجئة الغلاة يرون أن مرتكب الكبيرة ما دام مؤمناً بالله عز وجل فهو مؤمن في الدنيا والآخرة، ولا يضره أي ذنب يفعله ما دام مؤمناً، وهو في الآخرة مضمونة له الجنة، حتى وإن ارتكب من الكبائر ما ارتكب. أما مرجئة الفقهاء فيقولون بأن مرتكب الكبيرة في الدنيا عاص، وقولهم شبيه بقول أهل السنة والجماعة عموماً، وإن كان المتأخرون منهم تساهلوا في مسألة الحكم على مرتكب الكبيرة، خاصة فيما يتعلق بالتعامل معه، وأما الأوائل فإن رأيهم في مرتكب الكبيرة في الدنيا قريب من رأي أهل السنة والجماعة، وإن كان عندهم نوع تساهل، ومن ذلك أن بعضهم يدخل بعض الأمور المكفرة المخرجة من الملة في مسمى الكبائر، فلا يرون أن مرتكبها يخرج بها من الملة مادامت عملية، وهذا من أهم الفوارق في حكم مرتكب الكبيرة في الدنيا بين أهل السنة والمرجئة عند التفصيل، فهم عند الإجمال يقولون بقول أهل السنة والجماعة، لكن عند التفصيل فإن الكبائر المكفرة عندهم ما دامت عملية لا تخرج من الملة، ويبقى صاحبها مؤمناً، ويكون حكمه حكم المؤمنين في الدنيا والآخرة، وهذا فيه نظر؛ فإن الكبائر المخرجة -كالشركيات والبدع المغلظة- يخرج بها المؤمن من مسمى الإيمان إلى الردة والكفر، أما في الآخرة فإن مرجئة الفقهاء يقولون بقول أهل السنة والجماعة في الجملة. قال رحمه الله تعالى: [فقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون إذا ماتوا وهم موحدون) رد لقول الخوارج والمعتزلة القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار، لكن الخوارج تقول بتكفيرهم، والمعتزلة بخروجهم من الإيمان، لا بدخولهم في الكفر، بل لهم منزلة بين منزلتين، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله). وقوله: (وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) تخصيصه أمة محمد يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد صلى الله عليه وسلم قبل نسخ تلك الشرائع به حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وفي ذاك نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان) ولم يخص أمته بذلك، بل ذكر الإيمان مطلقاً، فتأمله، وليس في بعض النسخ ذكر الأمة. وقوله: (في النار) معمول لقوله: (لا يخلدون)، وإنما قدمه لأجل السجعة، لا أن يكون (في النار) خبراً لقوله: (وأهل الكبائر)، كما ظنه بعض الشارحين].

الخلاف في عدد الكبائر وحقيقتها

الخلاف في عدد الكبائر وحقيقتها قال رحمه الله تعالى: [واختلف العلماء في الكبائر على أقوال، فقيل: سبعة، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ما اتفقت الشرائع على تحريمه، وقيل: ما يسد باب المعرفة بالله، وقيل: ذهاب الأموال والأبدان، وقيل: سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها، وقيل: لا تعلم أصلاً، أو: إنها أخفيت كليلة القدر، وقيل: إنها إلى السبعين أقرب، وقيل: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، وقيل: إنها ما يترتب عليها حد، أو توعد عليها بالنار، أو اللعنة، أو الغضب، وهذا أمثل الأقوال]. هذا هو أجمع الأقوال، خاصة إذا أضيف إليه الإصرار على الصغيرة، فالكبيرة ما يترتب عليه حد في الدنيا أو وعيد بالنار في الآخرة أو اللعنة أو الغضب من الله عز وجل، وكذلك ما يشابهه، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا)، (من تشبه بقوم فهو منهم) إذا كان التشبه يتعلق بالأمور العقدية والعبادية ونحوها، وكذلك البراءة من الفاعل ونحو ذلك، فالمهم أن الألفاظ التي يفهم منها الوعيد بأي وجه مع الإصرار على الصغائر نستطيع أن نفرق بها بين الكبيرة والصغيرة وإن لم تكن حدية قاطعة، لكنها أحسن الضوابط، تجمع الفروق بين الصغيرة والكبيرة بشيء من الدقة. قال رحمه الله تعالى: [واختلفت عبارات قائليه: منهم من قال: الصغيرة ما دون الحدين: حد الدنيا وحد الآخرة]. المقصود بذلك الحدود في الدنيا، وحد الآخرة الذي هو الوعيد بالنار ونحو ذلك، كالوعيد بعذاب القبر. قال رحمه الله تعالى: [ومنهم من قال: كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار، ومنهم من قال: الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة، والمراد بالوعيد: الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا، أعني المقدرة، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة والغضب]. ضوابط الصغيرة هنا تعود إلى ضوابط الكبيرة، فإذا قلنا: إن ضوابط الكبيرة هي تلك الضوابط؛ فالصغيرة ما دون ذلك، وهذا ما أراد أن يقرره، لكن فصله مرة أخرى على وجه كان ينبغي أن يقرره على القاعدة الأولى، فيقول: ما دون ذلك فهو صغيرة، وينتهي الإشكال.

وجوه ترجيح القول بأن الكبيرة ما وجب فيه حد أو ورد فيه وعيد

وجوه ترجيح القول بأن الكبيرة ما وجب فيه حد أو ورد فيه وعيد قال رحمه الله تعالى: [وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره؛ فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة: كالشرك، والقتل، والزنا، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، ونحو ذلك؛ كالفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وشهادة الزور، وأمثال ذلك. وترجيح هذا القول من وجوه: أحدها: أنه هو المأثور عن السلف كـ ابن عباس وابن عيينة وابن حنبل وغيرهم. الثاني: أن الله تعالى قال: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء:31]، فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر. الثالث: أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب؛ فهو حد متلقى من خطاب الشارع. الرابع: أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، بخلاف تلك الأقوال. فإن من قال: سبعة، أو سبعة عشر، أو إلى السبعين أقرب مجرد دعوى، ومن قال: ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف، والتزوج ببعض المحارم، والمحرم بالرضاعة والصهرية. ونحو ذلك ليس من الكبائر! وأن الحبة من مال اليتيم، والسرقة لها، والكذبة الواحدة الخفيفة ونحو ذلك من الكبائر! وهذا فاسد. ومن قال: ما سد باب المعرفة بالله، أو ذهاب الأموال والأبدان يقتضي أن شرب الخمر، وأكل الخنزير والميتة والدم، وقذف المحصنات ليس من الكبائر! وهذا فاسد. ومن قال: إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها، أو: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر! وهذا فاسد؛ لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر. ومن قال: إنها لا تعلم أصلاً، أو: إنها مبهمة؛ فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره، والله أعلم].

أهل الكبائر في مشيئة الله تعالى إذا لقوه مؤمنين غير تائبين

أهل الكبائر في مشيئة الله تعالى إذا لقوه مؤمنين غير تائبين قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وإن لم يكونوا تائبين) لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب، وإنما الخلاف في غير التائب. وقوله: (بعد أن لقوا الله تعالى عارفين) لو قال: (مؤمنين) بدل قوله: (عارفين) كان أولى؛ لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر، وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم، وقوله مردود باطل كما تقدم؛ فإن إبليس عارف بربه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الحجر:36]، {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]. وكذلك فرعون وأكثر الكافرين، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25]، {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84 - 85] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، وكأن الشيخ رحمه الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للاهتداء، التي يشير إليها أهل الطريقة، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر، بل هم سادة الناس وخاصتهم. وقوله: (وهم في مشيئة الله وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله) إلى آخر كلامه، فصل الله تعالى بين الشرك وغيره؛ لأن الشرك أكبر الكبائر، كما قال صلى الله عليه وسلم، وأخبر الله تعالى أن الشرك غير مغفور، وعلق غفران ما دونه بالمشيئة، والجائز يعلق بالمشيئة دون الممتنع، ولو كان الكل سواء لما كان للتفصيل معنى، ولأنه علق هذا الغفران بالمشيئة، وغفران الكبائر والصغائر بعد التوبة مقطوع به غير معلق بالمشيئة، كما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فوجب أن يكون الغفران المعلق بالمشيئة هو غفران الذنوب سوى الشرك بالله قبل التوبة. وقوله: (ذلك أن الله مولى أهل معرفته) فيه مؤاخذة لطيفة، كما تقدم]. أشار إلى المعرفة؛ لأن مسألة المعرفة ليست هي الكافية في إثبات الإيمان، وليست هي دلالة الولاية، ففيها مأخذ من حيث موافقتها لمرجئة الجهمية؛ لأنهم يعدون الإيمان هو المعرفة، وأن الولاية تتم بالمعرفة، وكذلك لموافقتها عبارة المتصوفة؛ لأنهم يعبرون عن الأولياء بأهل المعرفة، وهذا التعبير فيه تساهل شديد، ولا شك أن أغلب أهل التصوف من مرجئة الجهمية.

حاجة المسلم إلى سؤال الله تثبيته على الإسلام

حاجة المسلم إلى سؤال الله تثبيته على الإسلام قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكنا بالإسلام) وفي نسخة: (ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به): روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه (الفاروق) بسنده عن أنس رضي الله عنه قال: (كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا ولي الإسلام وأهله، مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه)، ومناسبة ختم الكلام المتقدم بهذا الدعاء ظاهرة، وبمثل هذا الدعاء دعا يوسف الصديق صلوات الله عليه، حيث قال: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]، وبه دعا السحرة الذين كانوا أول من آمن بموسى صلوات الله على نبينا وعليه، حيث قالوا: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} [الأعراف:126]، ومن استدل بهاتين الآيتين على جواز تمني الموت فلا دليل له فيه؛ فإن الدعاء إنما هو بالموت على الإسلام، لا بمطلق الموت، ولا بالموت الآن، والفرق ظاهر]. ينبغي للمسلم دائماً أن يعود نفسه ويعود من حوله ومن تحت ولايته وأن يذكر المسلمين دائماً بضرورة الإكثار من الدعاء بالتثبيت، لاسيما عند الفتن وعند كثرة البدع والضلالات وكثرة الفسوق والفجور كما هو حاصل في حال المسلمين اليوم، فينبغي للمسلم دائماً أن يتحرى مثل هذا الدعاء: يا مقلب القلوب والأبصار! ثبت قلبي على دينك، وغيره من الأدعية التي يجب أن يكثر بها المسلم من اللجوء إلى الله عز وجل بأن يثبته ويعصمه من الضلالة والفتن وأن يميته على الإسلام.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الصفة والخبر

الفرق بين الصفة والخبر Q ذكرت في الدرس الماضي الكلام حول الهرولة فقلت: إن هذا من قبيل الإخبار، فما الفرق بين الصفة والإخبار؟ A الخبر أوسع من الصفة فيما يتعلق بالله عز وجل، والإخبار عنه على درجات: أخصها الأسماء، فالأسماء توقيفية، ثم بعد ذلك الصفات، والصفات كذلك توقيفية، لكنها أوسع من الأسماء؛ ذلك أن الأسماء يشتق منها صفات، وهناك صفات أخرى أوسع من الأسماء، فالصفات أكثر من الأسماء، ثم الأفعال، فأفعال الله عز وجل منها ما هو متعلق بأسمائه، ومنها ما هو متعلق بصفاته، ومنها ما هو أفعال لا نجزم بأنها يمكن أن تطلق على الله صفات مستقلة، والإخبار أوسع من هذا كله، فالخبر هو الإخبار عن ذات الله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن ذلك الإخبار عن جزاء العباد والإخبار عن أمور تتعلق بخلق الله وتدبيره وأمره ونهيه، وهذه الأمور بابها واسع جداً، فأوامر الله ونواهيه وأفعاله ومشيئته وخلقه جملة وتفصيلاً كل هذه تتعلق بالأفعال، ولذلك ليس كل خبر نستنتج منه صفة، ولذلك اختلف العلماء في مسألة الهرولة، هل هي صفة تثبت مستقلة أو تثبت على سياقها في الحديث؟ والخلاف في مسألة الملل أكثر منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فإن الله لا يمل حتى تملوا)، ومثلها التردد، هذه أخبار عن أفعال الله عز وجل تتعلق بخلقه، فهذه الأفعال بعضها معلوم لدى المخاطبين، وبعضها قد يلتبس، وبعضها غيبي، فعلى هذا ليس كل خبر عن أفعال الله عز وجل في خلقه يعتبر صفة؛ لأن الصفة على كل الأحوال تلزم مفردة بصرف النظر عن السياق، في حين أن كثيراً من الأفعال والأخبار ترد بالسياق حسب مقاماتها وحسب المفهوم من السياق، فمثلاً: الهرولة الواردة في الحديث: (وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) يفهم منها المجازاة لا شك، فواضح أن المقصود أن الله عز وجل يجازي عبده على فعله، وإن كنا لا نجعل مفهوم الهرولة كله ينصرف إلى المجازاة، لكن نفهم المقصود من إطلاق الهرولة، وعلى هذا لا نستطيع أن نجزم بأنها صفة تثبت بدون سياقها، وكذلك صفة المقت لا نستطيع أن نثبتها إلا مقيدة، وكذلك نقول: إن الله عز وجل يمكر بالماكرين: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30]، وكذلك الاستهزاء، وكل هذه الأمور بعضها من باب الخبر، وبعضها فعل، وبعضها صفة، فعلى هذا يكون الفرق بين الصفة والخبر أن باب الإخبار أوسع من باب الصفات، فليس كل الأخبار نستطيع أن نستنج منها صفات، كالتردد في قبض روح المؤمن، والاستهزاء بالمنافقين، والمكر بالكافرين.

بيان معنى قول الطحاوي (ولا نكفر أحدا من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)

بيان معنى قول الطحاوي (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله) Q ما معنى قول الطحاوي: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله)؟ A أي: يرى أنه حلال، أو يعتقد عدم تحريمه بما يخالف قطعية النص، فالمقصود بالاستحلال: اعتقاد عدم تحريمه، سواءً فعله أو لم يفعله، فمن اعتقد أن الربا حلال فقد كفر، سواء أكل الربا أو لم يأكله. وليس المقصود بالاستحلال مجرد الفعل، إنما المقصود بالاستحلال اعتقاد ما يخالف القطعي في الدين. لكن الغالب أن الاستحلال يرجع إلى المحرم، وأحياناً يطلق السلف كلمة الاستحلال لاعتقاد خلاف الشرع في الحلال والحرام وغيرهما. فلذلك توقف بعض أهل العلم عن هذه العبارة، كثير من شراح الطحاوية والذين يدرسونها يتوقفون عند هذه العبارة ويرون أنها تستبدل؛ بأن يقال: ما لم يعتقد خلافه، أو ما لا يعتقد خلاف الحق، أو بما لا يرد به النص، أو بما خالف الإجماع أو نحو ذلك. ثم ذكر من يقر بعض الأمور الكفرية التي تخالف الإسلام ويحميها، هل يعتبر مستحلاً لها؟ و A لا يلزم أن يكون مستحلاً لها، فالاستحلال -كما ذكرنا- هو اعتقاد أن المحرم ليس بمحرم، أما مجرد الفعل والانتهاك سواء في الربا أو غيره فهذا من عموم الذنوب، ومثله من يقر عملاً كفرياً، أو يدافع عنه بهوى، لكنه لم يستحله اعتقاداً، أي: لم يخالف ما جاء في تحريمه أو تحليله، فإنه بذلك يكون مرتكباً لكبيرة مهما فعل، ما دام أنه لم يعتقد خلاف الحق، أما مجرد الأكل والانتهاك والحماية وغير ذلك فإنه يعتبر من الكفر العملي إن كان كفراً وإلا فيعتبر من الكبائر العادية، وإن كانت الكبائر تتفاوت بلاشك.

تعليق على السؤال عن الشر الجزئي والكلي وعن اعتبار العقيدة قاعدة وثلاث نتائج

تعليق على السؤال عن الشر الجزئي والكلي وعن اعتبار العقيدة قاعدة وثلاث نتائج Q ما معنى الشر الجزئي والشر الكلي، وما صحة القول بأن العقيدة قاعدة وثلاث نتائج، وما معنى القول بأن الشر ليس في الشرع، ولكن في تأخر الخير عن الشر؟ A هذا السؤال من الأسئلة التي أعتذر عن الإجابة عن مثلها، وأنصح السائل ألا يعلق نفسه بمثل هذه الأمور. وأما ما يتعلق بجواب هذا السؤال فالسؤال نفسه يحتاج إلى عدة أسئلة تبينه، فما معنى الشر الجزئي والشر الكلي؟ هذا كلام مبهم، وكذلك القول بأن العقيدة قاعدة وثلاث نتائج، فالذي قال هذا ماذا قصد بالقاعدة؟ فإن كانت القاعدة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، والثلاث المسائل تتعلق بالإسلام والإيمان والإحسان؛ فهذا صحيح. فلذلك مثل هذا السؤال من المحارات التي يضر تعلق النفس بها، فهي إما تكلف، وإما تقليد للغير، وإما نوع من الطموح إلى المثاليات الفكرية الوهمية، ومع ذلك نعتذر عن الجواب عن مثل هذا السؤال؛ لأنه لا يزال غامضاً يحتاج إلى شرح. وأنصح السائل وجميع الإخوان ألا يتعلقوا بمثل هذه الأسئلة التي لا يتعلق بها اعتقاد ولا عمل، وليست من متعلقات العقيدة، ولا من أمورها الكمالية فضلاً عن الضرورية.

شرح العقيدة الطحاوية [78]

شرح العقيدة الطحاوية [78] الصلاة خلف كل بر وفاجر من المسلمين صحيحة، كما أنه تشرع الصلاة على كل من مات من أهل القبلة دون السؤال عن معتقده أو امتحانه، فالصلاة خلف مستور الحال من المسلمين جائزة ما لم يظهر منه شرك أو بدعة مغلظة، والأفضل والأولى أن يصلي الإنسان خلف البر فهو أولى من الصلاة خلف الفاجر.

عقيدة أهل السنة في الصلاة خلف أهل القبلة

عقيدة أهل السنة في الصلاة خلف أهل القبلة قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم): قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا خلف كل بر وفاجر) رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني وقال: مكحول لم يلق أبا هريرة. وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرج له الدارقطني أيضاً وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم، بر أو فاجر، وإن هو عمل بالكبائر، والجهاد واجب مع كل أمير، بر أو فاجر، وإن عمل الكبائر). وفي صحيح البخاري رحمه الله: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وكذا أنس بن مالك، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً. وفي صحيحه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم). وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلوا خلف من قال: لا إله إلا الله، وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله) أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها].

صور الصلاة خلف الأئمة وأحكامها

صور الصلاة خلف الأئمة وأحكامها في بداية هذا المقطع أحب أن أشير إلى أن الصلاة خلف أئمة المسلمين لها عند السلف أحكام تفصيلية، ذكر منها الشيخ ثمان صور أو تسع صور كل صورة لها حكم، ويمكن أن نوجز هذه الصور بما يلي: فالصلاة خلف الإمام تختلف في حكمها بين الصلاة خلف الإمام الأعظم -الخليفة أو السلطان، أو من ينوبه-وبين الصلاة خلف الإمام الذي دون ذلك. فأكثر الأحكام التي توجب الصلاة مطلقاً خلف كل إمام براً كان أو فاجراً تتعلق بالصلاة خلف الإمام الأكبر، أو الإمام المعين من قبل السلطان والإمام الأكبر، فهذا لا يجوز ترك الصلاة خلفه بحال من الأحوال. ثانياً: أن من لم يعلم عنه البدعة -وهو مستور الحال- تجب الصلاة خلفه أيضاً مطلقاً، والسؤال عن حاله أو الشك في الصلاة خلفه بدعة. وكل هذه قطعيات ليس فيها إلا استثناءات نادرة جداً ينبغي ألا يعول عليها؛ لأن الاستثناءات ينبغي ألا تسبق القواعد، فتجب الصلاة خلف من لا يعرف عنه بدعة، وكذلك مجهول الحال، فضلاً عن أن يكون إماماً معتبراً هذا أمر بدهي. ثالثاً: صاحب البدعة غير المغلظة، وكذلك صاحب الكبيرة -كالظالم والفاسق- إذا كان والياً من ولاة المسلمين، أو معيناً من قبل أئمة المسلمين تشرع الصلاة خلفه إذا كان صاحب بدعة غير مغلظة، أو فاسقاً أو فاجراً أو ظالماً، سواءً كان سلطاناً أو عينه السلطان، فالصلاة خلفه مشروعة وواجبة إذا ترتب على البحث عن غيره مفسدة. وكذلك صاحب البدعة الذي لا يدعو إلى بدعته يدخل في هذا الحكم. رابعاً: صاحب البدعة المغلظة إن كان سلطاناً يصلى خلفه، وللسلف قولان في كونها تعاد أو لا تعاد، والراجح: أنها إذا كانت مغلظة مكفرة صلى خلفه، ثم تعاد الصلاة سراً. ولذلك قيل: إن بعض السلف كانوا يصلون خلف المأمون ثم يعيدونها؛ لأنهم يرونه صاحب بدعة مغلظة داعياً إلى بدعته؛ لأنه قال بخلق القرآن وانتصر لذلك ودعا إليه، فكان بعض السلف يصلون خلفه لأنه إمام المسلمين ثم يعيدون الصلاة. وهذه المسألة خلافية، ومبنى الخلاف على أن هناك من قال بأن المأمون لا يكفر بفعله؛ لأنه ملتبس عليه الأمر، والالتباس في تصرفاته واضح، يعني: لم يكن جازماً، وبعضهم يقول بأنه متأول، والمتأول لا يكفر وإن كانت بدعته مكفرة، فإذا كان كذلك فالأولى عدم إعادة الصلاة خلفه. فإن قيل: ما الفرق بين ابن أبي دؤاد وبين المأمون وبدعتهما واحدة؟ ف A أن ابن أبي دؤاد جهمي معتزلي خالص، والمأمون كان معتزلياً في هذه المسألة، وليس في أصول المعتزلة كلها، فهو لا يقول بالمنزلة بين المنزلتين، ولا يقول بالتوحيد، ولا يقول بالعدل، وإنما كان يقول بخلق القرآن، ومع ذلك كان متردداً، حتى إنه رجح قول المعتزلة ترجيحاً، لكن أثناء المناظرات ظهر تردده والتباس الأمر عليه، فهو متأول، ففرق بين المأمون وابن أبي دؤاد، فـ ابن أبي دؤاد رأس ضلالة ورأس بدعة ومعتزلي خالص، وكان جهمياً تالفاً. أما المأمون -وإن كان مبتلى بهذا الكلام عفا الله عنا وعنه- فإنه مع ذلك إمام المسلمين ومن أهل السنة، وليس بدعياً خالصاً، بمعنى: أنه لا يعد من أهل الاعتزال الخلص، ولا من الجهمية الخلص. وقد كان الإمام أحمد يستغفر للمأمون، ولاشك أن الإمام أحمد عامل المأمون على أنه إمام مسلم ويجب عليهم السمع والطاعة له، ويصلى خلفه، هذا مما لا شك فيه، ومن خالف في شيء من هذا فلا يعني أنه خالف في الأصل، فالأصل عند أهل السنة واضح. خامساً: أن صاحب البدعة وصاحب الكبيرة إذا لم يكن سلطاناً أو معيناً من قبل الولاة؛ فإن وجد من هو أفضل منه فيجب العدول عنه إلى الأفضل، ما لم يترتب على ذلك مفسدة. ففي أحيان كثيرة يكون الإمام عادياً يختاره جماعة، ولا تعلم السلطة، كما يحصل في بعض البلاد الإسلامية، فهذا هو الذي يجب فيه العدول عن المفضول إلى الفاضل. وفي واقع حالنا الآن أغلب الأئمة يعينون من قبل جهة رسمية، فلا بد من اعتبار ذلك، فهم معينون من قبل ولي الأمر؛ لأن تعيين الإمام يكون من قبل الجهة المختصة من الوزارة المختصة بالمساجد ووزارة الشئون الإسلامية، وعلى هذا فأغلب الأئمة المعينون من قبل ولاتهم لا يتأتى العدول عن واحد منهم إلا بالتفاهم مع الجهات المسئولة، لكن الشخص إذا لم يرغب في الائتمام بأحدهم فهناك مساجد كثيرة، يعني: لا حرج عليه إذا رأى كبيرة ظاهرة في إمام من الأئمة أن يعدل عنه إلى إمام آخر ما لم يترتب على ذلك فتنة، فهذا أمر عادي ليس فيه حرج، لكن ليس لأحد أن ينصب دون ولاة الأمور، فما دام هناك جهات مسئولة فلا بد من الرجوع إليها. ونحن نعلم أنه -بحمد الله- في هذا البلد يختار الأئمة بشكل جيد، ويندر أن يكون في بعضهم الصفات المحذورة، فلا بدع ولا كبائر، إلا النادر والنادر لا حكم له.

مجمل القول في صلاة المرء خلف الإمام

مجمل القول في صلاة المرء خلف الإمام قال رحمه الله تعالى: [اعلم -رحمك الله وإيانا- أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقاً باتفاق الأئمة، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، ولا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟! بل يصلي خلف المستور الحال]. لا يجوز امتحان الأئمة، بمعنى أنه يكون مستور الحال فتمتحنه وتسأله في العقيدة، فهذه بدعة، فما دام أنه يصلي في جماعة يعرفونه، وألفوه ورضوه؛ فلا يجوز أن تمتحنه، إلا أن تكون من أهل الحسبة أو من أهل الولاية ممن لهم سلطة. ويلحق بهذه المسألة التوقف والتبين كما يفعل جماعة التوقف والتبين الذين بدءوا يظهرون بدعهم، يقول أحدهم: أنا أتوقف في الصلاة خلف أي إمام حتى يتبين لي الحال، حتى إن بعضهم يعد في البلد الواحد الكبير أو في المدينة الكبيرة أربعة أو خمسة أشخاص يصلي خلفهم، والبقية لا يعرف حالهم، وهذه بدعة من بدع الخوارج. قال رحمه الله تعالى: [ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته، أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه -كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك-؛ فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر؛ فهو مبتدع عند أكثر العلماء. والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها؛ فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف، وكذلك أنس رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وكان يشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً، ثم قال: أزيدكم؟! فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة! وفي الصحيح أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان: إنك إمام عامة، وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة؟! فقال: يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم. والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب. ومن ذلك: أن من أظهر بدعة وفجوراً لا يرتب إماماً للمسلمين؛ فإنه يستحق التعزير حتى يتوب، فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه؛ فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية، ولم تفت المأموم الجمعة ولا الجماعة]. كل هذا لا يتأتى إلا للمطاعين من الأئمة الكبار والعلماء المعتبرين، فلا يأتي طويلب علم ويطبق هذه القاعدة وهو مجهول مغمور، فلا ينفع فعله هذا بل قد يضر؛ لأن بعض الناس قد يجتهد ويقول: أنا أترك الصلاة خلف هذا الرجل من أجل أن يعرف الناس أنه صاحب بدعة وكذا وكذا، فنقول: إذا كنت إماماً متبوعاً وكلمتك مسموعة، وعملك هذا لا يؤدي إلى فتنة، فهذا لا حرج فيه. إذاً: يشترط في مثل هذا أن يكون من إمام متبوع يطاع ويعتبر فعله وقوله وتصرفه، ويؤدي فعله هذا إلى نتيجة ولا يؤدي إلى فتنة ولا مفسدة. قال رحمه الله تعالى: [وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة؛ فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم. وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور، ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، فهنا لا يترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلف الأفضل أفضل، فإذا أمكن الإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك، لكن إذا ولاه غيره، ولم يمكنه]. يعني: كأن توليه السلطة أو الدولة، فلا يجوز للفرد أن يغيره إلا عن طريق الجهة المسئولة. قال رحمه الله تعالى: [لكن إذا ولاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهر من المنكر؛ فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، فتفويت الجمع والجماعات أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة]. هذه قواعد عظيمة يجب أن يدركها طلاب العلم، خاصة في الأزمان التي يقل فيها فهم هذه الأمور، فيجب أن تدرك وأن تشهر للناس؛ لأن الناس في وقتنا هذا بدأ خلطهم في هذه الأمور، واضطرابهم وعدم إدراكهم لفقه القواعد الشرعية، وهذه قواعد عظيمة عليها عمل السلف، حتى وإن وجدت بعض الشذوذات تخالفها، فلا اعتبار بذلك. أعني: من أراد أن يتلقف من أقوال السلف وأفعالهم ما يخالف هذا فسيجد، لكنها أفعال قليلة

الأسئلة

الأسئلة

حكم العدول عن الصلاة خلف المقصر في الالتزام بالشعائر

حكم العدول عن الصلاة خلف المقصر في الالتزام بالشعائر Q يوجد في بعض الأحيان مساجد لها أئمة متفاوتون في الالتزام بالشعائر، مثل: إعفاء اللحى وغير ذلك، فهل الأفضل العدول عمن كان كذلك إلى مسجد قريب؟ وكذلك لو كان في المسجد الآخر بعض المظاهر التي تذهب الخشوع، مثل صغر المسجد وكثرة الصبيان ونحو ذلك؟ A هذه الأمور إذا ما كانت متعلقة باعتقاد باطل فلا حرج؛ لأن المساجد كثيرة، فإذا كان هناك مسجد ليس ببعيد، ويرى أن الصلاة فيه أفضل باعتبارات، كالخشوع، أو لقلة المصلين، أو قلة الفوضى، أو البعد عن الشوارع العامة التي فيها الحركة والفوضى، أو لأمر يفضل فيه هذا الإمام على الإمام الآخر فيما يتعلق بزيادة إيمانه، وزيادة يقينه، وزيادته في الخير؛ فلا حرج في ذلك ما لم يترتب على هذا مفسدة. وإن كان هذا الشخص الذي ينتقل إلى مسجد أبعد من مسجده يعتبر عمدة في المسجد، أو له اعتبار، أو ينظر الناس إلى تركه لهذا المسجد بسوء الظن في الإمام، أو كان انتقاله سيؤدي إلى الشك، أو إلى أمر فيه مفسدة، كاختلافهم مع الإمام ونحو ذلك؛ فهذا لا ينبغي في الحقيقة، وإن كان ليس هناك أي شيء يترتب على هذه الأمور؛ فيبقى الأمر باعتبار الأصلح في حق الشخص نفسه. ومع ذلك أرى أن هذا نادر جداً، يعني: أن يكون الإمام على ما ذكره السائل، ويجب أن ينصح.

حكم تكفير الحجاج ومدى صحة قتله لسعيد بن جبير

حكم تكفير الحجاج ومدى صحة قتله لسعيد بن جبير Q ما حكم تكفير الحجاج، وهل ورد من بعض السلف تكفيره وهل صح ما نسب إليه من قتل سعيد بن جبير وغيره؟ A ما أعرف أن أحداً من السلف كفر الحجاج، فقد يطلق على بعض أعماله الكفر، وهذا معروف، فبعض الأعمال قد يفسرها بعض السلف بأنها كفر، ولا يعني ذلك أنهم أطلقوا عليه أنه كافر، بل هو كفر معصية. أما قتله لـ سعيد بن جبير فمعروف، فـ سعيد بن جبير رضي الله عنه اجتهد فخرج مع عبد الرحمن بن الأشعث، وخرج كثير من الأئمة في وقته فناصحوه، خاصة الأئمة الكبار أمثال: الحسن البصري، ومطرف وغيرهم من الأئمة الكبار، نصحوا سعيد بن جبير ونصحوا غيره، لكن لله الأمر من قبل ومن بعد، فخرج فاتخذ الحجاج في خروج سعيد بن جبير ذريعة لقتله، ولا شك أن قتله كان بعدما انتهت الفتنة، وبعد العهد بها، فقتل الحجاج له بعدما رجع واختفى معناه أن سعيد بن جبير قتل مظلوماً، لكن الذريعة التي اتخذها الحجاج هي خروجه عليه، مع أن سعيد بن جبير ما خرج على عبد الملك بن مروان، إنما تأول في ضرورة دفع ظلم الحجاج، فتأوله ما وافقه عليه غيره هو ومن شاركه، ما وافقهم السلف على ذلك، بل إن بعد هذه الفتنة -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية، والذهبي - عرف السلف أنه لا جدوى من استعمال القوة لدفع الظلم، وأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بضرورة الصبر والمناصحة أمر قاطع لا محيد عنه، وأنه لا يجوز لمن ليس له ولاية أن يحمل السيف على الوالي وإن كان ظالماً وفاجراً، والحجاج كان والياً، لكنه كان ظالماً جباراً كما هو معروف. فـ سعيد بن جبير رحمه الله تأول وأخطأ، والأئمة الذين سلموا بعد الفتنة وبقوا أحياءً رجعوا عن ذلك وتابوا وعرفوا أنهم أخطئوا، وإن كان الحجاج ظالماً جباراً، وفرق بين هذا وهذا. فالخروج لا يسوغ بمثل هذه الأمور مهما كان الظلم والجبروت من الوالي، فلا يجوز الخروج بحال ما يحل الأمر بالطرق الشرعية، ولا يصيب الناس من هذه الأمور شيء من الظلم والجور إلا بذنوبهم، ولو استقاموا وأصلحوا ما بينهم وبين ربهم لما ولى عليهم والياً ظالماً أبداً.

حكم الخروج على الحاكم لعمله الكفري

حكم الخروج على الحاكم لعمله الكفري Q هل العمل الكفري يسوغ الخروج؟ A العمل الكفري لا يسوغ الخروج؛ لأن أغلب الأعمال الكفرية كبائر، هذا شيء. الشيء الآخر: قد يقصد بالعمل الكفري الشرك أو نحوه، لكن هذا لا يحكم به على المعين، قد يصدر من كثير من الناس أعمال كفرية، ولاة وغير ولاة، لكن لا يكفرون بذلك ولو كانت أعمالهم كفرية؛ لأنه فرق بين الحكم بالكفر، وبين تكفير المعين، ولا يجوز الخروج بالسيف على من ظهر منه الكفر العملي أبداً. فلذلك ينبغي أن تحرر هذه الأمور جيداً، وأن تعرف مذاهب السلف ومقاصدهم في هذه الأمور.

إرجاء عمر بن ذر

إرجاء عمر بن ذر Q ما نوع الإرجاء عند عمر بن ذر؟ وهل هو من الوعاظ؟ A عمر بن ذر قال بمثل قول أبيه بأن الإيمان قول، وأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وإرجاؤه هو إرجاء الفقهاء المشهور الذي كان عليه أبو حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان، فإرجاؤه إرجاء الفقهاء وهم المرجئة الأوائل الذين يقولون بأن الإيمان هو القول، أو التصديق والقول، وأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

وجه الاستدلال بقوله تعالى: (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) على زيادة الإيمان

وجه الاستدلال بقوله تعالى: (حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم) على زيادة الإيمان Q ذكر الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله في كتابه: (أعلام السنة المنشورة) قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:7] مستدلاً به على زيادة الإيمان ونقصانه، فما وجه ذلك؟ A الذي يظهر لي -والله أعلم- أنه لو كان الإيمان التصديق فقط لما كان محبباً ومزيناً في القلب؛ لأن التصديق أمر لا يقبل أكثر من مجرد الإقرار، فإذا قبل أكثر من الإقرار مثل التحبيب والتزيين فإنه يكون قابلاً للزيادة والنقص؛ لأن المحبة أمر زائد على التصديق، وأيضاً: تزيين الإيمان في القلب أمر زائد على التصديق، هذا ما يظهر لي، والله أعلم.

بيان درجة الزيادة على ما ثبت عن رسول الله من نوافل العبادة في الأفضلية

بيان درجة الزيادة على ما ثبت عن رسول الله من نوافل العبادة في الأفضلية Q يروى عن بعض السلف أن الواحد منهم كان يصلي في الليل أكثر من ثلاثمائة ركعة، وقد يقرأ القرآن في اليوم مرتين، فهل لمثل هذا العمل أثر في الولاية، أم ينبغي للإنسان المحافظة على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم؟ A السؤال تضمن الجواب، فلاشك أنه ينبغي أن يحافظ على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وما اجتمع عليه أصحابه من الاعتدال في العبادة وفي كل شيء، ومن ذلك الصلوات وقراءة القرآن والقيام والصيام، وقد يكون بعض الناس عنده ميل إلى الزيادة في بعض العبادات، وربما يكون عنده من الظروف ما يجعله يعمل ببعض العبادات نظراً لأنه -مثلاً- قد لا يقدر على الكسب، أو في بعض أمور حياته يحتاج إلى إشغال وقته بمزيد من الطاعات، فهذه أمور خاصة، لكن الإنسان السوي المعتدل ينبغي أن يوازن بين أموره في دينه ودنياه. فلا بد أن يسهم في أمور الدنيا بما ينفع الأمة، كما أنه ينبغي أن يأخذ من العبادة بالقدر الكافي الذي يوافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا نجد أن عامة الصحابة كانوا على الاعتدال، لكن قد يوجد إنسان عنده مزيد من الوقت والفراغ لأمر معذور فيه، فقد يكون من المعذورين في الجهاد، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو نحو ذلك، فإذا كان عنده شيء من هذا مما يقعده أو يعجزه عن أن يقوم بواجباته التي تقوم بها حياة الأمة؛ فقد يعذر في شغل وقته بالعبادة من صيام أو قيام أو قراءة قرآن أو لزوم صلاة أكثر مما هو معهود في السنة؛ لأنه ما دام لم يتعبد بذلك ولم يوجبه على الآخرين، وإنما أراد مجرد التطوع والنافلة؛ فهذا لا حرج عليه. أما الإنسان السوي الذي عنده من المواهب والقدرات ما يستطيع أن يعمل به لدينه ودنياه؛ فيجب أن يوازن بين الأمرين، ولذلك نجد أفاضل الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل الاعتدال والاستقامة كان عندهم شيء من الموازنة بين الأمور، والله أعلم.

شرح العقيدة الطحاوية [79]

شرح العقيدة الطحاوية [79] من عقيدة أهل السنة والجماعة أن المعين من أهل القبلة لا يحكم عليه بجنة ولا نار إلا من ثبت النص في حقه، وقد اختلفت أقوال السلف في تحديد من يشهد لهم بالجنة، أما الشهادة بالكفر أو بالنار على المعين من أهل القبلة فإنه لم يثبت عن أحد من السلف، خلافاً للخوارج وغيرهم من فرق المبتدعة.

أثر نسيان الإمام وخطئه على صلاة المأموم

أثر نسيان الإمام وخطئه على صلاة المأموم قال رحمه الله تعالى: [وأما الإمام إذا نسي أو أخطأ، ولم يعلم المأموم بحاله؛ فلا إعادة على المأموم، للحديث المتقدم، وقد صلى عمر رضي الله عنه وغيره وهو جنب ناسياً للجنابة، فأعاد الصلاة، ولم يأمر المأمومين بالإعادة، ولو علم أن إمامه بعد فراغه كان على غير طهارة أعاد عند أبي حنيفة خلافاً لـ مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، وكذلك لو فعل الإمام ما لا يسوغ عند المأموم، وفيه تفاصيل موضعها كتب الفروع]. لو فعل الإمام ما لا يسوغ عند المأموم فالراجح: أنه لا يجوز له أن يعيد الصلاة؛ لأن المسألة فيما يسوغ وما لا يسوغ، المسألة في الأمور الخلافية، وإلا ففيما أعلم أن القاعدة عند السلف أنه إذا صلى المأموم خلف إمام يخالفه في بعض الأمور الفقهية، ثم إن هذا الإمام عمل أموراً يرى هذا الذي صلى خلفه أنها فيها نظر -يعني: ليست من الأمور التي تبطل الصلاة، أو تبطل الصلاة عنده، لكنها اجتهادية بين أهل العلم- فلا يجوز له أن يعيد الصلاة، وسيأتي أمثلة لهذا. فالأمور الاجتهادية لا يجوز للمأموم أن يعيد بسببها الصلاة فيما خالفه فيه إمامه، ولو كان في أمر يرى أنه يبطل الصلاة ما دام من الأمور الاجتهادية، وهذا هو الراجح حفاظاً على معنى الجماعة، وتجنباً للفرقة. [ولو علم أن إمامه يصلي على غير وضوء فليس له أن يصلي خلفه، لأنه لاعب وليس بمصل]. هذه محل إجماع وليست من الأمور الخلافية.

وجوب طاعة ولي الأمر في مواضع الاجتهاد

وجوب طاعة ولي الأمر في مواضع الاجتهاد قال رحمه الله تعالى: [وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر، وإمام الصلاة، والحاكم، وأمير الحرب، وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية]. هذه قاعدة عظيمة، ومن القواعد التي يحتاجها المسلمون في كل مكان وفي كل زمان، ولو امتثل المسلمون هذه القاعدة لانحل كثير من الخلافات بينهم، ولما وجد كثير مما يوجب النزاعات وشحناء القلوب والفرقة واضطراب الأمور عند المسلمين فيما بينهم، لا سيما في وقتنا هذا، حيث نرى بعض مظاهر المخالفة لهذه القاعدة قد تؤدي أحياناً بمجتمعنا وبكثير من المجتمعات الإسلامية إلى أمور مفاسدها تضر بالإسلام والمسلمين، وتضر بالأمة في مجموعها فضلاً عن ضررها اللاحق بالمتنازعين. فكثيراً ما نجد بعض المجتهدين في الحسبة أو غيرها قد يصدر عمن يعد مسئولاً أو يعد مرجعاً لهم ما لا يعجبهم من الأحكام أو القرارات، فتجد الواحد منهم متذمراً، وربما يحتال بكل حيلة للخروج من هذه الأوامر، وربما يعلن المعارضة ويفت في عضد من حوله ممن يعملون لمصلحة الإسلام والمسلمين. أقول: إن هذه الأمور موجودة -مع الأسف- عند بعض المنتسبين إلى الخير، فقد لا يعجبهم رأي يصدر عن شيخ لهم أو عن مسئول، أو عن مرجع، فلا يعملون بهذه القاعدة، بل يعملون بالعكس، فربما ينكرون الإشكالات بدعوى أن هذه أمور تؤدي إلى مفاسد، وربما تفسر كثير من الأعمال والقرارات وغيرها بتفسيرات فيها حكم على القلوب ونحو ذلك. فلنتأمل هذه القاعدة، وأرى أنه يجب علينا جميعاً أن نمتثلها، وأن نعود أبناء المسلمين على مثل هذا الأمر فإن مصلحة الجماعة مقدمة، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية، فيجب أن نتعود ونعود من حولنا على مسألة الطاعة لمن اجتهد في موارد الاجتهاد. فالشارح يقول بأن إمام الصلاة، وأمير الحرب، وعامل الصدقة، ويقاس عليهم كل مسئول تحت إدارته من يعمل من المسلمين يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف خير من الفرقة، وهذه القاعدة العظيمة كثيراً ما تحدث النزاعات بين المسلمين بسبب إهمالها أو تركها أو جهلها، فيحسن التركيز على مثل هذه القاعدة، خاصة في وقتنا الذي كثرت فيه الآراء والاجتهادات والنزاعات بين المسلمين، وكثرت الفرقة والاختلاف والنزاع في مثل هذه الأمور التي ينبغي أن يتعود فيها المسلم على الصبر، واحتمال الرأي المرجوح عنده ما دام صادراً ممن له ولاية عليه، بل يجب ما هو أكثر من ذلك؛ لأن المسلم إذا رأى أن كلامه يخالف هذه القاعدة -حتى لو لم يعمل ما يناقضه- فيجب عليه أن يسكت للمصلحة ودرء المفسدة. قال رحمه الله تعالى: [ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض، والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض. ويروى عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لما حج مع هارون الرشيد فاحتجم الخليفة وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لـ أبي يوسف: أصليت خلفه؟! قال: سبحان الله! أمير المؤمنين! يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع]. يظهر أن أبا يوسف يرى عدم جواز الصلاة بذلك، ويرى وجوب الوضوء بعد الاحتجام، ومع ذلك صلى ولم يعد الصلاة، ولما قيل له ذلك قال هذا الكلام العظيم، الذي هو قاعدة: سبحان الله! أمير المؤمنين! يعني: أترك الصلاة خلف أمير المؤمنين لمجرد مخالفة في أمر اجتهادي. [وحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم) نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه، لا على المأموم، والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجباً، أو فعل محظوراًً اعتقد أنه ليس محظوراً، ولا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه، وهو حجة على من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح اقتداؤه به، فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي إلى الفساد.

اعتقاد الصلاة على من مات من أهل القبلة سوى من استثني

اعتقاد الصلاة على من مات من أهل القبلة سوى من استثني وقوله: (وعلى من مات منهم) أي: ونرى الصلاة على من مات من الأبرار والفجار]. يعني: من أهل القبلة من المسلمين، فيخرج بذلك الكفار الخلص، وقد يسمون فجاراً، فالمقصود أن أهل القبلة أبراراً كانوا أو فجاراً يجب أن يصلى عليهم وتشهد جنائزهم ويدفنوا في مقابر المسلمين. قال رحمه الله تعالى: [وإن كان يستثنى من هذا العموم البغاة وقطاع الطريق، وكذا قاتل نفسه]. هذه فيها خلاف؛ فبعض أهل العلم قالوا: قد يكون أهل البدع المكفرة متأولة، وكذلك قطاع الطريق قد يكونون من الجهلة أو نحو ذلك، فهؤلاء يصلى عليهم، وبعضهم يرى عدم الصلاة، والمسألة خلافية. قال رحمه الله تعالى: [خلافاً لـ أبي يوسف، لا الشهيد خلافاً لـ مالك، والشافعي رحمهما الله على ما عرف في موضعه. لكن الشيخ إنما ساق هذا لبيان أنا لا نترك الصلاة على من مات من أهل البدع والفجور، لا للعموم الكلي. ولكن المظهرون للإسلام قسمان: إما مؤمن، وإما منافق. فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والاستغفار له، ومن لم يعلم ذلك منه صلي عليه، فإذا علم شخصٌ نفاق شخص لم يصل هو عليه، وصلى عليه من لم يعلم نفاقه]. لذلك ينبغي التنبيه على مسألة كثيراً ما يرد عنها السؤال، وهي أنه إذا كان إنسان يعرف أن أحد المسلمين عمل عملاً يخرجه من الملة، يعني: يعرف أنه منافق خالص في النفاق، فهل يجوز له أن يعلن للناس أنه لا تجوز الصلاة خلفه؟ والصحيح: أنه ما دام مستور الحال فلا يجوز له الصلاة خلفه، ويجب ألا يتكلم، بل يترك الأمر على ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله وكان الصحابة يفعلونه، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا علم نفاقاً في أحد تركه، ولم يقل للناس: لا تصلوا عليه. أقول هذا لأنه كثيراً ما ترد أسئلة في هذا الموضوع، حيث يقول المرء: أنا أعرف أن فلاناً الميت فيه كذا وكذا، كأن يكون -مثلاً- تاركاً للصلاة بالكلية، أو نحو هذا، فهل أقول للناس: لا تصلوا عليه؟ أقول: لا؛ بل نسكت عنه ما دام أن الناس لا يعرفون حاله، فدع الأمر على ما هو عليه، فيصلي عليه على أساس أنهم يجهلون حاله، وأنت ما دمت تعرفه لا تصل عليه، وإذا قال لك أحد ممن لا يعرفه: ما رأيك؟ تقول: أرى أنك لا تصلي عليه، مع أنه هذه المسألة مسألة خلافية، لكن أن تعلن أو أن تشهد أو أن تقول للناس: لا تصلوا عليه؛ فهذا لا يجوز، ولا ينبغي، وهو خلاف السنة. قال رحمه الله تعالى: [وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة؛ لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين، وقد نهى الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على المنافقين، وأخبر أنه لا يغفر لهم باستغفاره، وعلل ذلك بكفرهم بالله ورسوله، فمن كان مؤمناً بالله ورسوله لم ينه عن الصلاة عليه، ولو كان له من الذنوب الاعتقادية البدعية أو العملية الفجورية ما له، بل قد أمره الله تعالى بالاستغفار للمؤمنين، فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]. فأمره سبحانه بالتوحيد والاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات، فالتوحيد أصل الدين، والاستغفار له وللمؤمنين كماله، فالدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وسائر الخيرات إما واجب وإما مستحب، وهو على نوعين: عام وخاص، أما العام فظاهر، كما في هذه الآية، وأما الدعاء الخاص فالصلاة على الميت، فما من مؤمن يموت إلا وقد أمر المؤمنون أن يصلوا عليه صلاة الجنازة، وهم مأمورون في صلاتهم عليه أن يدعوا له، كما روى أبو داود، وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء)].

الحكم على المعين بكونه من أهل الجنة أو النار

الحكم على المعين بكونه من أهل الجنة أو النار قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً): يريد: أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار]. يعني: على سبيل الجزم، ينبغي أن يفهم هذا؛ لأنه يجب أن نفرق بين الحكم العام، وبين الحكم على المعين أو للمعين. أما الحكم العام بأن المؤمنين من أهل الجنة فهذا نجزم به إن شاء الله، ونشهد أن المسلمين والمؤمنين من أهل الجنة، هذا حكم عام قطعي، ولا شك فيه، وأن الكفار الخلص من أهل النار، وهذا أيضاً حكم قطعي يجب أن يعتقده كل مسلم. ومن الأمور التي قد تخفى على كثير من الناس اليوم -بل اختلط فيها بعض من يدعون الثقافة والفكر والعلم أحياناً- مسألة الكفار الخلص، فالكفار الخلص لاشك أنهم من أهل النار، فاليهود والنصارى والمشركون والمنافقون الخلص والملاحدة من أهل النار جزماً، هذا الحكم العام، فنجزم بأنهم من أهل النار كما نجزم بأن المسلمين المؤمنين هم أهل الجنة، فالحكم العام أمر لا بد من اعتقاده. لكن الحكم على المعين هو الذي يجب أن يتحرز فيه المسلم، وهو أن تقول: فلان ابن فلان من المسلمين من أهل الجنة جزماً، تعتقد ذلك وتقسم عليه، فهذا لا يجوز، وكذلك العكس، فلا تجزم بأن فلاناً ابن فلان -وإن كان كافراً خالصاً- من أهل النار، بحيث تتألى على الله عز وجل، أو تقسم على ذلك، فهذا مما لا يجوز. إذاً: فرق بين الحكم العام الذي هو قطعي، وبين الحكم على المعين الذي هو أمر غيبي لا يعلمه إلا الله عز وجل. وقد ميز الله بين المسلمين والكفار، وبين من يستحق الجنة ومن يستحق النار، لكن يبقى التخصيص في المسلمين هل كلهم يدخلون الجنة من أول وهلة أم أن منهم من قد يدخل النار -وهم أهل الكبائر إذا لم يغفر الله لهم- ثم يخرجون من النار إلى الجنة؟ هذا أمر تفصيلي معلوم، لكن مصير جميع المسلمين في الجملة إلى الجنة، ومصير جميع الكفار في الجملة إلى النار، ويبقى المعين، فهذا أمر لا بد فيه من الاطلاع على الغيب، ولا يطلع على الغيب إلا الله عز وجل، إلا من ورد ذكره بالنص، فمن شهد له الله عز وجل أو شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة وجبت الشهادة له، ومن جاءت الشهادة له بالنار -عياذاً بالله- وجبت الشهادة له بذلك إذا ذكر تعيينه. قال رحمه الله تعالى: [يريد أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة: إنه من أهل الجنة أو من أهل النار، إلا من أخبر الصادق صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة، كالعشرة رضي الله عنهم، وإن كنا نقول: إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من يشاء الله إدخاله النار، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين، ولكنا نقف في الشخص المعين، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم؛ لأن حقيقة باطنه وما مات عليه لا نحيط به، لكن نرجو للمحسنين، ونخاف على المسيء].

أقوال السلف في الشهادة بالجنة للمعين

أقوال السلف في الشهادة بالجنة للمعين قال رحمه الله تعالى: [وللسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال: أحدها: أن لا يشهد لأحد إلا للأنبياء، وهذا ينقل عن محمد بن الحنفية، والأوزاعي. والثاني: أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث. والثالث: أنه يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون، كما في الصحيحين: (أنه مر بجنازة فأثنوا عليها بخير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ومر بأخرى فأثني عليها بشر، فقال: وجبت -وفي رواية كرر (وجبت) ثلاث مرات- فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! ما وجبت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً وجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض). وقال صلى الله عليه وسلم: (توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بالثناء الحسن والثناء السيئ)، فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار]. هذا على سبيل القرائن والعلامات، ولا نقول بالجزم، يعني: يعرف أهل الجنة بقرائن وعلامات، وترجى لهم الجنة بذلك، ويعرف أهل النار بقرائن وعلامات، ويخشى عليهم. أما الجزم فإن هذه الأدلة لا تدل على الجزم، لكن ما ورد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من مثل هذه القصة توقيفي لنعلم أنه لا يمكن أن يقوم أحد مقام النبي صلى الله عليه وسلم بإثبات الشهادة للمعين، فينبغي ترك الشهادة للمعين، وتبقى شهادة المؤمنين قرينة فقط، أما الجزم فلا نستطيع أن نجزم، فعلى هذا يكون الرأي الثاني هو الرأي الصحيح، وهو الذي تتجه إليه الأدلة، ودليل أصحاب القول الثالث إنما هو مظنة، والظن في هذه الأمور لا يصح.

ما يعتقده أهل السنة من ترك الشهادة بالكفر على أهل القبلة

ما يعتقده أهل السنة من ترك الشهادة بالكفر على أهل القبلة قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيء من ذلك، ونذر سرائرهم إلى الله تعالى): لأنا قد أمرنا بالحكم بالظاهر، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] الآية، وقال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36] الآية]. قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف): قال الشارح في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)]. من أصول السلف وأصول أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون على أحد من المسلمين بالكفر، ولا بالشرك ولا بالنفاق، إلا إذا تبين شيء من ذلك، يعني: توافرت شروط وقوع الكفر من الشخص وانتفت الموانع، وتوافر الشروط يزيد وينقص، أي: شروط وقوع الكفر بحسب حال الشخص، وبحسب الزمان وبحسب المجتهد. فعلى هذا لا يتأتى لأكثر أفراد المسلمين أن يحكموا على أحد بالكفر؛ لأنهم ليسوا من أهل العلم، لأن شروط التكفير لا بد من إدراكها إدراكاً جيداً بفقه تراعى فيه قواعد الشرع، وتراعى فيه النصوص الشرعية، ويراعى فيه حال الشخص، ويراعى فيه أسلوب إقامة الحجة، ويراعى فيه معرفة إقامة الدليل وكيف يكون. ثم لا بد أيضاً من معرفة تامة، فلا يمكن أن نحكم على معين إلا بعد أن تنتفي الموانع، فالإكراه قد يعذر به، والتأول قد يعذر به، والجهل قد يعذر به، وغير ذلك من الأمور الكثيرة التي لا يعرفها إلا أهل العلم. ولذلك فإن مسألة التكفير من المسائل الخطيرة التي يجب ألا يتناولها إلا أهل العلم، ويجب أن نفهم أنا لسنا متعجلين بها، وأن عامة الناس وكثيراً من طلاب العلم ليس عليهم أن يبحثوا عن أحوال الأفراد والجماعات والمؤسسات والدول، ليس عليهم ذلك، بل هذه الأمور ترجع إلى أهل العلم الراسخين، وأنهم ما تعبدوا بإشهار الكفر وإعلانه، وأن الحكم بالكفر حكماً عاماً أمر يختلف عن الحكم على المعين اختلافاً كبيراً، فكثير من الأمور التي يكون فعلها كفراً، أو قولها كفراً، أو اعتقادها كفراً؛ لا يحكم على من فعلها بأنه كافر، ولذلك نجد أن السلف كثيراً ما يطلقون الكفر على الحالات والأقوال والاعتقادات، لكن يندر جداً حكمهم بالكفر على المعين. أقول: يندر جداً، بل إن بعض الأئمة لم يؤثر عنه أنه كفر أحداً حتى وقت اشتداد الأهواء وشدة أهل البدع وتسلطهم على المسلمين، فإنا لا نعرف من الأئمة من حكم على المعين إلا في حالة نادرة، وكثير من أئمة الهدى -وما أكثرهم- لم يؤثر عنهم تكفير المعين. إذاً: المسألة خطيرة، فلا تجوز الشهادة من طائفة أو جماعة على المعين بكفر ولا بشرك ولا بنفاق إلا بعد معرفة الأصول الشرعية بذلك، وليس كلما يعرف يقال، فليس كل من تناول هذه الأمور يستطيع أن يصل فيها إلى الحكم بالكفر القاطع، وبعض الأشياء لا يحكم بها الفرد، إنما لا بد من توافر اجتهاد المجتهدين، خاصة في الحالات التي تتعلق بالمصالح الكبرى، وفي الأمور التي ينبني عليها الحكم على جماعات أو أفراد أو أمم أو مجتمعات. وكذلك قوله: (لا نرى السيف على أحد من محمد صلى الله عليه وسلم) هذه قاعدة عامة، تشمل الأفراد والجماعات والولاة وغيرهم، فلا يجوز رفع السيف إلا فيما أباحه الله عز وجل.

الأسئلة

الأسئلة

مدى صحة الحكم على الكافر المعين بالنار

مدى صحة الحكم على الكافر المعين بالنار Q هل يحكم على الكافر المعين بأنه من أهل النار؟ A في الجملة نعم، لكن ما يجزم عليه، الحكم العام غير الجزم وغير الشهادة، ولذلك إذا تكلم الناس عن معين أصل كلامهم في هذا الأمر ليس بمشروع، إذا مات كافراً وخاض الناس هل هو من أهل النار أو لا؟ أصلاً غير مشروع، إذا مات يهودي فقل: اليهود من أهل النار ولا داعي أن نحكم على المعين. ولذلك لما هلك أحد زعماء اليهود منذ أشهر خاض الناس في المسألة خوضاً يدل على أن الناس بدءوا يجهلون البدهيات، ولا يجدون من يعلمهم، فبدءوا يتجادلون ويتعادون أحياناً، فبعضهم يقول: لا نشهد له بالنار، وبعضهم يقول: نشهد له بذلك جزماً! وهو يهودي، واليهود من أهل النار، لكن بعينه لا نتكلم فيه، فما أمرنا بهذا، وليس هذا من الأمور التي كلف بها العباد.

شرح العقيدة الطحاوية [80]

شرح العقيدة الطحاوية [80] من عقيدة أهل السنة والجماعة عدم جواز الخروج على ولاة الأمر والحكام بالسيف وإن جاروا، ووجوب طاعتهم بالمعروف ما لم يأمروا بمعصية، ومن رأى منهم منكراً أو ظلماً فليصبر على جورهم وظلمهم، ويدعو الله تعالى لهم، ويلزم جماعة المسلمين، ولا ينزع يده من طاعتهم أبداً.

ما يعتقده أهل السنة من حرمة الخروج على الأئمة وولاة الأمر

ما يعتقده أهل السنة من حرمة الخروج على الأئمة وولاة الأمر قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة، ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة)]. هذه من القواعد المتفق عليها عند السلف، فهي تشمل عدة قواعد، وإن شاء الله نلخصها تفصيلاً في درس لاحق، لكن نجملها الآن حسب ما يظهر؛ لأن الشيخ أدخل بعضها في بعض. فقوله: (ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا) هذا كلام على إطلاقه يشمل كل الأئمة الفجار منهم والأبرار. أقول هذا؛ لأنه وجد من المتحذلقين الذين اغتروا بأقوال أهل الأهواء من لا يسمى إماماً من الولاة إلا من كان مستحقاً للإمامة، بمعنى أنه تقي صالح، وهذا غير صحيح، بل العكس هو الصحيح. فولاة الأمور يجب عدم الخروج عليهم، سواءٌ كانوا صالحين أو طالحين، سواءٌ كانوا أبراراً أو فجاراً، والسلف نصوا على هذا، وإن جاروا، فولي الأمر إذا حدث منه نوع من الظلم، أو أثرة، فيجب الصبر والمناصحة، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يتخذ الجور والظلم والأثرة ذريعة للخروج. ثم قال: (ولا ندعو عليهم)، وهذه أيضاً مهمة جداً؛ لأن بعض الناس فهم فهماً خاطئاً في هذه المسألة، فالدعاء على ولاة الأمور لا يجوز؛ لأن ولاة الأمور ولاهم الله أمر المسلمين، فالدعاء عليهم ينعكس على الأئمة نفسهم، فلذلك إذا كان عند إنسان غيرة على دين الله، وإشفاق على الأمة وعلى المجتمع فيجب عليه أن يدعو لولاة الأمور؛ لأن في صلاحهم صلاح المجتمع، لكن الدعاء عليهم يزيد البلاء؛ فيجب على كل مسلم أن يدعو لولي الأمر بأن الله يهديه ويسدده ويصلحه ويوفقه، يدعو له بالدعاء المشروع سراً وعلناً، ولا ندعو عليهم، فالدعاء عليهم بدعة. إذاً: فهذا أصل عظيم، وقد يتعلل البعض بأن الدعاء يكون للصالحين، وهذا جهل أو هوى، فليس الدعاء للصالحين فقط، بل أيهما أحق بالدعاء بالصلاح: الصالح أو غير الصالح؟! فالصالح تدعو له بالتسديد، لكن غير الصالح تدعو له بالصلاح، فيجب أن تفهم المسألة جيداً على أصول السلف وعلى مقتضى النصوص. وقوله: (ولا ننزع يداً من طاعة) هذا أيضاً تأكيد لما سبق، وهو أخذ بنص الحديث الذي سيأتي. وقوله: (ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة) لأن الله أمر بذلك، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك أمراً صريحاً لا لبس فيه. وقوله: (ما لم يأمروا بمعصية) أي: أنهم إذا أمروا بمعصية تعارض الشرع فلا يطاعون في هذه المعصية. فهذه أيضاً مسألة مهمة، فبعض الناس يقول -وهذا أيضاً جهل أو هوى-: ما دام أن الوالي قد أمر بمعصية فأنا لا أطيعه مطلقاً! وهذا فهم منكوس، فلا تطعه في هذه المعصية التي أمرك بها، لكن في غيرها من الطاعات تطيعه، فلو أن والياً قال لك: لا تصل جماعة في المسجد من غير سبب ضروري، فإنه في هذه المسألة لا يطاع؛ لأنه أمر بمعصية إما عن جهل وإما عن تأول وإما عن ظلم، فالله أعلم. وهذا افتراض مع أنه لا يحدث إن شاء الله، ولكن لو حدث فإنه في هذه المعصية لا يطيعه، لكن فيما عدا ذلك إذا أمر بأمر من الأمور الأخرى التي تتعلق بمصالح الأمة في دين الناس أو دنياهم تجب طاعته طاعة لله عز وجل.

الأدلة على وجوب طاعة أولي الأمر في غير معصية

الأدلة على وجوب طاعة أولي الأمر في غير معصية قال رحمه الله تعالى: [قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني). وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف)، وعند البخاري: (ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة)]. الظاهر أن هذا مخصوص، أعني: الأمر بالطاعة حتى ولو لم تتوافر فيه شروط الإمامة؛ لأنه ذكر أنه ولو كان مجدع الأطراف تجب طاعته، وهذا فيما يتعلق بإمام الغلبة، أو الوالي الذي تمكن من غير اختيار المسلمين، فهذا تجب طاعته في هذه الحال؛ لأنه فرق بين الاختيار والغلبة، ومعروف من خلال تاريخ المسلمين ومن استقراء أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أن أئمة الاختيار في التاريخ قلة، فأغلب الذين حكموا المسلمين قديماً وحديثاً ليسوا أئمة اختيار، ومع ذلك هم ولاة تجب طاعتهم في المعروف، ويجب الدعاء لهم، وتجب الصلاة خلفهم، ويجب الجهاد معهم، والدعاء لهم بالصلاح والمعافاة وغير ذلك، وإن كان عندهم ما عندهم مما لا يعجب بعض الناس أو مما لا تتوفر فيه الشروط المثالية. ففرق بين الاختيار -كما في عهد الخلفاء الراشدين- وبين الغلبة أو الإمارة أو الوراثة، أو الملك أو السلطة أو غير ذلك مما هو أصل من أصول تولي الولاية الشرعية التي اعتبرها أهل العلم بإجماع ولاية شرعية، فأغلب ولايات المسلمين في تاريخ الإسلام هي من النوع الثاني الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر عليه مع وجوب النصح وغير ذلك مما هو معلوم، ولهذا فإن هذه الأحاديث التي أوردها الشارح كلها صحيحة ثابتة، ليس فيها ما يمكن أن يطعن فيه من حيث السند، ولذلك تلقاها السلف بالقبول وجعلوها من مناهج الدين؛ إذ إنها وصية من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذه الوصية تعني أن هذه الأمور ستكون، وأنه قد يتولى على المسلمين عبد حبشي.

معنى حديث: (على المرء المسلم السمع والطاعة)

معنى حديث: (على المرء المسلم السمع والطاعة) قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين أيضاً: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)]. هذا فيه إشارة مهمة جداً، وهي مسألة: (فيما أحب وكره)، فكثير من الناس الذين لا يفقهون هذه الأصول يرون أن الأمر الذي تكرهه لا تمتثل فيه أمر السلطان أو الوالي، وهذا ما هو بصحيح، فقد أمرنا بالسمع والطاعة في المنشط والمكره، فليس المقصود أن المرء لا يطيع إلا فيما يحب ويوافق هواه، وإذا أمر بأمر اجتهادي يخالف رأيه، ويخالف قناعته، ويخالف ما يقول به كثير من الناس في عبارات معاصرة؛ يقول: ليس عندي استعداد لقبول ذلك، وليس المقصود بالولاية مجرد أن يأمر الوالي الأكبر فقط والسلطان الأكبر بل من دونه ممن له ولاية حتى ولو كان أدنى موظف، فله ولاية، يجب أن يطاع في المعروف فيما تحب وفيما تكره، وإلا فسدت أحوال الناس، ولن تستقيم أمور الأمة، وتحدث فيهم دعوات الشقاقات، وفساد ذات البين والفتن.

معنى حديث: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)

معنى حديث: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) قال رحمه الله تعالى: [وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله! إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم، فقلت: هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن، قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر، فقلت: هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها، فقلت: يا رسول الله! صفهم لنا؟ قال: نعم، قوم من جلدتنا، يتكلمون بألسنتنا، قلت: يا رسول الله! فما ترى إذا أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. فقلت: فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)]. في هذا الحديث افترض حذيفة رضي الله عنه أسوأ الحالات تدريجياً، ومع ذلك ما أمر بالمنازعة، ولا بأن يثير فتنة، ولا بأن يحمل رأياً، وهذا الحديث فيه حكم عظيمة من أحوج ما يحتاجه المسلمون اليوم. فالنبي صلى الله عليه وسلم ما فتح له الفرصة ليكون له موقف، أو أن يتخذ موقفاً من السلطان أو من الناس، أو من المخالفين ما دام الأمر عنده لم يستبن، فما قال: ارفع راية، أو: قم بالواجب، كما يدعي بعض الناس ولو كان من غير أهله، فـ حذيفة إمام جليل وفقيه في الدين، ومع ذلك أمره النبي صلى الله عليه وسلم -والأمر للأمة- بأن إذا كان الأمر على هذه الحال فيجب أن يكف ولو أن يعض على أصل شجرة. وهذا مقيد بالنصوص الأخرى، لكنه يحكم غالب المسلمين الذين ليس لهم حل ولا عقد، وليسوا من أهل العلم الراسخين، وإلا فقد يستثنى من هذا الحديث ما جاء في أحاديث أخرى يمكن نجمع بينها فيما بعد إن شاء الله.

معنى حديث: (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر)

معنى حديث: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر) قال رحمه الله تعالى: [وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر؛ فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات فميتته جاهلية)]. هذا أيضاً فيه وصية عظيمة، وهو أنه يجب الصبر حتى مع رؤية ما يكره من الأمير، مع عدم الطاعة في المعصية، فإذا كان ما تكره معصية لله عز وجل فلا تطعه فيها. فهذه قاعدة عامة تدخل أيضاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر فيه بالطاعة فيما أحب وكره، أي: يجب أن تصبر على ما تكرهه من أميرك؛ لأن في عدم الصبر مفسدة عظمى ترجع على الأمة، وربما عليك أيضاً وعلى غيرك.

شرح العقيدة الطحاوية [81]

شرح العقيدة الطحاوية [81] من عقيدة أهل السنة والجماعة في أبواب الإمامة أن طاعة ولاة الأمر من طاعة الله عز وجل ما لم يأمروا بمعصية، وأن يدعى لهم بالصلاح والمعافاة، ومن رأى منهم منكراً أو جوراً وظلماً فليصبر وليلزم الجماعة والسنة، ويجتنب الشذوذ والفرقة.

معنى حديث: (من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر)

معنى حديث: (من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر) قال رحمه الله تعالى: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما)]. لا تجزئ بيعة لخليفتين في بلد واحد، فبعد الخلافة الراشدة انقسمت بلاد المسلمين في بعض الفترات إلى أكثر من دولة، وهذا أمر واقع رضيه المسلمون، وتعتبر الولاية للمسلمين -وإن تعددت- شرعية ما لم تكن في بلد واحد. أما في البلد الواحد فلا تجوز الولاية لاثنين، هذا أمر بدهي عقلاً وشرعاً، لا تصح الولاية لاثنين في بلد واحد، ومسألة التنازع على الولاية تحسم بأن الولاية لمن كانت له الولاية أصلاً، بصرف النظر عن الأمور والملابسات الأخرى، فمن كان هو الوالي صاحب بيعة فلا يجوز أن يبايع لغيره ما دامت بيعته نافذة.

معنى حديث: (ولا ينزعن يدا من طاعة)

معنى حديث: (ولا ينزعن يداً من طاعة) قال رحمه الله تعالى: [وعن عوف بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، فقلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟! قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله؛ فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة)]. هذا الحديث اشتمل على قواعد عظيمة من قواعد الدين في الولاية، وهذه القواعد هي منهج السلف الذي قرروه في كل زمان، وفي كل الأحوال التي مرت بالأمة عبر تاريخها الطويل، وهي: أنه قد يتولى على الأمة خيارها، وقد يتولى الأمة شرارها، وقد يتولى عليهم من يبغضونه ويبغضهم، وأن هذا الأمر إذا كان أمراً واقعاً فلا بد من التزام الأصل فيه، وهو: السمع والطاعة في المعروف، وعدم جواز الخروج، وعدم جواز المنابذة بالسيف بنص الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بين للصحابة هذا الأمر سألوه، فقالوا: (أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك؟! قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) يعني: ما دامت الصلاة قائمة بين المسلمين وتحت هذه الولاية الشرعية فلا يجوز رفع السيف على الوالي. ثم ذكر القاعدة الأخرى، وهي: أن من رأى من واليه شيئاً يكرهه من معصية الله فليكره ما يأتيه الوالي أياً كانت هذه المعصية، بمعنى أن كون الوالي يرتكب معصية أو ظلماً أو فسقاً أو فجوراً أو نحو ذلك مما ترى أنه غير جائز شرعاً؛ فلا يعني ذلك أن تقر هذا العمل وتبيحه، بل تكرهه وتكره فعله، لكن لا يجرك ذلك إلى نزع اليد من الطاعة، أي: نزع البيعة، سواء بالقلب أو بالعمل، فلا يجوز أن يستبيح الإنسان نقض بيعة لإمام له عليه ولاية شرعية وإن ظهر منه ما يكرهه المسلم في قلبه، فلا يجوز أن ينزع يداً من طاعة، بل يبقى مطيعاً سامعاً ولو على كره، أو على أثرة أو على ظلم أو نحو ذلك مما هو معروف مما يقع من البشر من المظالم والأخطاء والفسق والفجور. أقول: هذه قواعد عظيمة يجب أن يفهمها الناس وأن يعرفوا أنها هي مناهج السلف وليست من عندنا، فهذا الحديث حديث صحيح من الأحاديث التي أوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم الأمة وأمرهم بها أمراً صريحاً. ونزع اليد من الطاعة نوعان: نوع بمعنى عدم اعتبار الولاية في القلب، بمعنى أن تعتقد أن الوالي ليس له ولاية بمجرد ظهور المعاصي، فهذا لا يجوز، وهو نوع من نزع الطاعة؛ لأنه ورد هذا في أحاديث أخرى غير هذا الحديث، فهذا الحديث ظاهره أن نزع اليد هو الشيء العملي الظاهر، لكن هناك أحاديث أخرى تنظم إلى هذا الحديث ستأتي الإشارة إلى بعضها، فيها أنه لا يجوز أن يتخذ ما يحدث من الوالي من فسق وفجور وظلم ذريعة إلى عدم اعتقاد ولايته؛ لأن الخروج يكون باليد ويكون بالقلب كما سيأتي، وكما هو معروف في منهج السلف.

لزوم طاعة أولي الأمر فيما هو طاعة لله تعالى

لزوم طاعة أولي الأمر فيما هو طاعة لله تعالى قال رحمه الله تعالى: [فقد دل الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر ما لم يأمروا بمعصية، فتأمل قوله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] كيف قال: (وأطيعوا الرسول) ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر منكم؛ لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله، وأعاد الفعل مع الرسول لأنه من يطع الرسول فقد أطاع الله، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله، بل هو معصوم في ذلك. وأما ولي الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله، وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم، بل في الصبر على جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور؛ فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا، والجزاء من جنس العمل، فعلينا الاجتهاد في الاستغفار والتوبة وإصلاح العمل، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]، وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]، وقال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129]، فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم فليتركوا الظلم. وعن مالك بن دينار: أنه جاء في بعض كتب الله: (أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، لكن توبوا أعطفهم عليكم)].

عقيدة أهل السنة في اتباع السنة والجماعة واجتناب الشذوذ والفرقة

عقيدة أهل السنة في اتباع السنة والجماعة واجتناب الشذوذ والفرقة قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة): السنة: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والجماعة: جماعة المسلمين، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين، فاتباعهم هدى وخلافهم ضلال، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]، وقال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]، وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]. وثبت في السنن الحديث الذي صححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة؛ فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة). وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة -يعني الأهواء- كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة) وفي رواية: (قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)، فبين صلى الله عليه وسلم أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين إلا أهل السنة والجماعة. وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث قال: (من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم؛ فإنهم كانوا على الهدى المستقيم). وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى عند قول الشيخ: (ونرى الجماعة حقاً وصوابا والفرقة زيغاً وعذابا)].

الأسئلة

الأسئلة

بيان معنى هلاك المخالفين من الجانبين

بيان معنى هلاك المخالفين من الجانبين Q ما المقصود بقوله: عامة المخالفين هالكون من الجانبين؟ A أشار إلى حديث أن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، يعني الهلاك من جانب الإفراط والتفريط؛ لأن الإشارة إلى أهل الكتاب تدل على هذا الجانب، فالنصارى فيهم غلو واليهود فيهم تفريط، فهلكت الطائفتان بالغلو والتفريط، وكذلك الذين يهلكون من هذه الأمة مابين مغال وما بين مفرط، والله أعلم.

حكم الإنكار على تارك الصلاة خلف إمام يدعو لولي الأمر

حكم الإنكار على تارك الصلاة خلف إمام يدعو لولي الأمر Q هل ينكر على تاركي الصلاة خلف إمام معين لكونه يدعو للوالي، وهل فعلهم بدعة؟ A الدعاء للولاة مشروع، بل هو من علامات أهل السنة، فمن علامات أهل السنة الدعاء للولاة، ومن علامات أهل البدعة الدعاء عليهم، وعلى هذا فإن الذي يترك الصلاة خلف إمام لكونه يدعو للوالي يعتبر مبتدعاً.

الجمع بين قوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ودخول مقرب الذباب للصنم النار

الجمع بين قوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) ودخول مقرب الذباب للصنم النار Q في الحديث أن رجلاً أكرهه عباد الصنم على أن يقرب له شيئاً فقرب ذباباً، فدخل النار، فكيف نجمع بينه وبين قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]؟ A الحديث ورد ولا بد من الإيمان بما جاء به؛ لأن هذا الذي قرب ذباباً دخل النار بسبب ذلك، وهذا أمر توقيفي غيبي، وظاهر ذلك -والله أعلم- أن هذا الرجل حينما أكره على أن يقرب ذباباً لم يستشعر أنه بذلك يفعل ذنباً عظيماً، وربما قصد التقرب، فالله أعلم، فإذا كان قصد التقرب لغير الله -وإن كان في الأصل ألجئ إلى ذلك- وكان بإمكانه أن لا يفعل ذلك، أو إذا فعله يفعله وهو يعلم أنه شرك، ولا يفعله عن قصد؛ فإنه بذلك يستحق العذاب، والله أعلم.

بيان معنى كون إلزام السلطان بالتزام قول بغير حجة غير جائز

بيان معنى كون إلزام السلطان بالتزام قول بغير حجة غير جائز Q قال ابن تيمية في الفتاوى: (وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة في الكتاب والسنة؛ فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين)، فما معنى هذا الكلام؟ A يظهر أن المقصود به أحد وجهين: الوجه الأول: أن يلزم العلماء السلطان بأن يأخذ بقول اجتهادي ويلتزمه بغير رضاه، فهذا بعيد، وهو لا يجوز. والوجه الثاني وهو الظاهر: أن السلطان إذا ألزم في مسألة خلافية بقول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز، بمعنى: إذا شرع ذلك تشريعاً؛ لأن إلزام السلطان الناس بقول معين في مسألة اجتهادية له وجهان: وجه يعتبر فيه الإلزام من باب تقرير المصلحة أو دفع المفسدة؛ فإذا كان من باب المصلحة ودفع المفسدة فهذا من حق السلطان، والخلفاء الراشدون ومن بعدهم من أئمة المسلمين وسلاطينه إلى اليوم كانوا يلزمون في مسألة خلافية بأمر معين، كما في كثير من التعاميم التي فيها مصالح وتبنى على آراء أهل العلم، فهذا جائز، بل من حق السلطان إذا كان الإلزام يعني: إلزام الناس بمصلحة معينة لها مبرر شرعي في أمر اجتهادي. أما إذا كان الإلزام بمعنى أن يشرع فيحرم أو يحلل؛ فهذا لا يجوز، وإذا حصل فهو تشريع ولا يجوز باتفاق المسلمين. وأغلب ما يحدث من سلاطين المسلمين من النوع الأول، أي: من الأنواع الاجتهادية، حيث تكون المسألة فيها نزاع بين العلماء، فيأخذ السلطان بقول من أقوالهم ويلزم الناس به، ويكون هذا الإلزام في الغالب من باب تحقيق المصلحة ودرء المفسدة وجمع الكلمة أو نحو ذلك، وهذا جائز وسائغ تقتضيه المصلحة في الغالب.

شرح العقيدة الطحاوية [82]

شرح العقيدة الطحاوية [82] من عقيدة أهل السنة والجماعة محبة أهل العدل والأمانة، وبغض أهل الجور والخيانة، فإن العبودية وتمامها يستلزم كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، كما يجب التسليم للنصوص والإيمان بما تحويه من معانٍ وأحكام، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه؛ فإن ذلك أسلم وأحكم للإنسان في الحال والمآل.

عقيدة أهل السنة في الحب والبغض

عقيدة أهل السنة في الحب والبغض قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة): وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية، فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها، وكمال الذل ونهايته، فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره، فغير الله يحب في الله لا مع الله]. تطرق هنا لأصلين متلازمين: الأصل الأول: هو مسألة الولاء والبراء، أو الولاية والبراءة. الأصل الثاني: وهو ملازم للأول، وهو الحب والبغض، فلا شك أن المسلم لا بد أن يكون له حال تعامله مع الناس ولاء وبراء، ومحبة وبغض، حتى مع المسلمين، وسيذكر الشارح -لكن بكلام متفرق- أن هناك ولاءً كاملاً وهناك ولاءً جزئياً، وأن هناك براءً كاملاً وهناك براءً جزئياً، والولاء الكامل فيه المحبة الكاملة والولاء الجزئي فيه المحبة الجزئية، والبراء الكامل فيه البغض الكامل، والبراء الجزئي فيه البغض الجزئي، فالولاء والبراء يتجزأان، وتجزئة الولاء والبراء وجعله درجات هو الفارق بين أهل السنة وبين الخوارج من جهة، وبينهم وبين المرجئة من جهة أخرى، فالمرجئة لا يجزئون الولاء والبراء، والخوارج لا يجزئون الولاء والبراء، فالخوارج إذا تبرءوا من مسلم أو من غير مسلم تبرءوا منه جملة وتفصيلاً، فالمسلم الذي يرتكب الكبيرة يتبرءون منه تبرؤاً كاملاً ويعاملونه معاملة الكافر، وهذا شطط وتنطع في الدين وخروج عن مقتضى السنة، وبدعة مغلظة. وكذلك المرجئة يرون للمسلم -وإن كان عاصياً فاجراً- الولاء الكامل، وهذا أيضاً شطط وتفريط. إذاً: فالقاعدة أن الكافر الخالص يجب البراء الكامل منه ومن كفره، ويجب البغض الكامل له ولكفره، أما من كان مسلماً وكان مرتكباً للمعاصي والآثام والبدع فإن له من الولاية بقدر ما يأتيه من الإيمان والصلاح، وله من البراءة -وكذلك البغض- بقدر ما فيه من المعصية أو الفجور أو البدعة، ما لم يخرج من الملة، فإذا خرج من الملة وجب البراء الكامل منه والبغض الكامل له. فصاحب البدع المغلظة والآثام والجرائم والمظالم الشنيعة يغلب في حقه البغض والبراء، ومن كان دون ذلك فله من الحق وعليه بقدر طاعته ومعصيته. إذاً: فتفصيل القاعدة في الولاء والبراء، وترتيب الولاء والبراء على درجات لا يكون إلا عند أهل السنة، أما بقية الفرق فما بين مفَرِّط ومُفْرِط. وأؤكد على أن الحب والبغض مرتبط بالولاء والبراء، فقد يجتمع في المسلم الواحد الحب والبغض، بل أغلب المسلمين يجتمع في حقهم الحب والبغض، تحبهم في الله بقدر ما فيهم من الطاعة والاستقامة والخير، وتبغض الواحد منهم بقدر ما فيه من المعصية والانحراف، بمعنى أنه يجتمع في الشخص الواحد الولاء والبراء، وأغلب المسلمين يقعون في التقصير، فعلى هذا يشترك فيهم الولاء والبراء والحب والبغض. قال رحمه الله تعالى: [فإن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض، ويوالي من يواليه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضائه ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه، فهو موافق لمحبوبه في كل حال، والله تعالى يحب المحسنين ويحب المتقين، ويحب التوابين ويحب المتطهرين، ونحن نحب من أحبه الله، والله لا يحب الخائنين، ولا يحب المفسدين، ولا يحب المستكبرين، ونحن لا نحبهم أيضاً، ونبغضهم موافقه له سبحانه وتعالى. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار). فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه وولايته وعداوته، ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4]].

الفرق بين محبة الله تعالى والمحبة في الله

الفرق بين محبة الله تعالى والمحبة في الله مما تحسن الإشارة إليه هنا أن هناك فرقاً بين محبة الله وبين المحبة في الله، ذلك أن محبة الله عز وجل لا تجوز إلا له سبحانه، التي هي محبة التقديس والعبادة، فمحبة التقديس والعبادة لا تجوز إلا لله سبحانه. والنوع الثاني: هو المحبة في الله، بمعنى: أن يكون عند المسلم ميل فطري غريزي للخير وأهل الخير، فهذا أمر مشروع، بل ينبغي أن يكون لكل من يستحق المحبة، فكل مؤمن له من المحبة -كما ذكرت سابقاً- بقدر ما فيه من الولاية والخير. وكون المسلم يحب الله ثم يحب أولياء هذا أمر لا تناقض فيه، فإن محبة الله إنما هي محبة التعظيم والتقديس والعبادة، أما محبة العباد فهي المحبة الفطرية، لكن المسلم المستقيم على الحق ترتبط محبته بما يحبه الله، والذي ليس عند استقامة قد يحب ما لا يحب الله، وهذا انحراف، لكنه إذا أحب غير الله محبة تقديس وعبادة وقع في الشرك، وإذا أحب غير الله محبة ميل وغريزة شهوانية ونحوها فهذا هوى، لكنه دون الشرك. إذاً: محبة الله لا يشرك فيها غيره، وهي محبة التقديس ومحبة العبادة، أما المحبة الأخرى الغريزية فمنها ما هو مرتبط بالدين، ومنها ما هو غريزي بحت، فالمحبة التي ترتبط بالدين هي محبة الخير وأهل الخير وما يحبه الله عز وجل، والمحبة الغريزية البحتة حي محبة الأشياء، فالله عز وجل فطر العباد على محبة الأولاد والأموال والأزواج، فهذه محبة غريزية جائزة إذا لم يتعد فيها الإنسان حدود ما يشرع، فإذا تعدى فيها حدود ما يشرع وقع إما في البدعة وإما في الشرك وإما في الشهوة. قال رحمه الله تعالى: [والحب والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر، فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة، والحب والبغض، فيكون محبوباً من وجه مبغوضاً من وجه، والحكم للغالب، وكذلك حكم العبد عند الله؛ فإن الله قد يحب الشيء من وجه ويكرهه من وجه آخر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: (وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه)، فبين أنه يتردد؛ لا أن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه وتعالى يحب ما يحب عبده المؤمن، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه، كما قال: (وأنا أكره مساءته)، وهو سبحانه قضى بالموت، فهو يريد كونه، فسمى ذلك ترددا، ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك؛ إذ هو يفضي إلى ما هو أحب منه].

بيان عقيدة أهل السنة في رد علم ما اشتبه إلى عالمه جل جلاله

بيان عقيدة أهل السنة في رد علم ما اشتبه إلى عالمه جل جلاله قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونقول: (الله أعلم) فيما اشتبه علينا علمه): تقدم في كلام الشيخ رحمه الله أنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه، ومن تكلم بغير علم فإنما يتبع هواه، وقد قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} [القصص:50]، وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [الحج:3 - 4]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35]، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]. وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد علم ما لم يعلم إليه، فقال تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الكهف:26]، {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ} [الكهف:22]. وقد قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أطفال المشركين: (الله أعلم بما كانوا عاملين)، وقال عمر رضي الله عنه: (اتهموا الرأي في الدين، فلو رأيتني يوم أبي جندل فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي فأجتهد ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب، وقال: اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم)، قال: اكتب: باسمك اللهم، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتب وأبيت، فقال: يا عمر! تراني قد رضيت وتأبى؟!). وقال أيضاً رضي الله عنه: السنة ما سنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إن قلت في آية من كتاب الله برأيي -أو: بما لا أعلم-؟! وذكر الحسن بن علي الحلواني: حدثنا عارم حدثنا حماد بن زيد عن سعيد بن أبي صدقة عن ابن سيرين قال: لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر رضي الله عنه، وإن أبا بكر نزلت به قضية فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً ولا في السنة أثراً، فاجتهد برأيه ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صواباً فمن الله، وإن يكن خطأ فمني وأستغفر الله].

درجات أخذ أهل السنة بالنصوص

درجات أخذ أهل السنة بالنصوص في هذا المقطع إشارة إلى أصل عظيم كثيراً ما يخفى على الناس، خاصة في الآونة الأخيرة، وهو من أعظم أصول أهل السنة، ومن أعظم المناهج التي تعد من الفوارق الكبرى بين أهل السنة وبين أهل البدع والأهواء، ذلك أن أهل السنة يأخذون بالنصوص على أصول الاجتهاد، سواء كانت اجتهادية أو كانت توقيفية، والأخذ بالنصوص على ثلاث درجات: فإذا كان النص من النصوص الواضحة التي لا تشتبه على أحد، مثل نص شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فهذا أمر بيِّن تقوم به الحجة على كل العباد الذي يسمعون ويعقلون. وإن كان من النصوص التي تخفى على أكثر الناس ولا يعرفها إلا المجتهدون فيجب الرجوع فيها إلى أهل العلم وأهل الاختصاص الذين هم أهل الذكر، كما بين الله تعالى ذلك. وإذا كان من النصوص التي لا يعلمها إلا الله تعالى؛ فليسلم وليرد النص إلى عالمه، وهو الله عز وجل، بأن يقول: آمنت بأن كلام الله حق وأن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، ويذعن لذلك ويجعل نفسه مستسلماً بحيث لو فهم النص عمل به، فهو مؤمن به حتى ولو لم يفهمه، بمعنى أنه اشتمل على الحق الذي لا شك فيه ولا مرية، هذا هو الأصل، وأغلب نصوص الشرع من الدرجتين الأوليين، أغلبها مما يفهمه عامة الناس أو يفهمه العلماء، والذي يشتبه في الغالب هو بعض نصوص الغيب ونصوص العقيدة.

بيان وجه الفرق بين أهل السنة ومن خالفهم في رد ما اشتبه من النصوص إلى عالمه

بيان وجه الفرق بين أهل السنة ومن خالفهم في رد ما اشتبه من النصوص إلى عالمه أما كون هذه القاعدة هي الفارق بين أهل السنة والجماعة فيمكن أن نستعرض هذا بإيجاز، فنقول: إن الخوارج حينما تواردت عليهم نصوص الوعيد اشتبه عليهم الأمر نظراً لقلة علمهم، وما ردوا نصوص الوعيد إلى نصوص الوعد أولاً؛ لأنَّ مداركهم ضعفت عن ذلك، ولم يرجعوا إلى العلماء، وربما رجعوا لكنهم لم يسلموا لأهل العلم من الصحابة، ذلك أن الخوارج كانوا من الفئات التي تستهين بالعلماء، لا ترى لأحد من الناس فضل علم، لذلك كانوا يلمزون الصحابة ويرون أنهم علماء دنيا وأنهم قعدوا عن الجهاد إلى آخره، فلما لمزوا الصحابة ولمزوا العلماء تركوهم وجفوهم، فلما جفوهم وكلهم الله إلى مداركهم الضعيفة، فقالوا على الله بغير علم، ولم تتسع مداركهم للجمع بين النصوص، فغلبوا نصوص الوعيد وتركوا نصوص الوعد، فصاروا وعيدية يكفرون بالذنوب، وصار هذا منهجاً باطلاً ابتليت به الأمة إلى يومنا هذا. ثم جاءت القدرية، فالقدرية حينما جاءت نصوص القدر ولم يفهموها ما ردوها إلى أهل العلم. ولذلك وصف معبد الجهني -وهو أول قدري- بأنه طلب العلم وكان عنده تعجل وتسرع، وأنه لم يستوعب العلم من العلماء، فأخذ نصوص القدر برأيه وضعفت مداركه عن الجمع بين نصوص القدر، فتوافق رأيه مع رأي بعض فئات من النصارى والصابئة والمجوس، ففرح بذلك وظن أن هذا مذهب من المذاهب التي تقتدى، فأعلن القول بالقدر؛ ولم تستوعب مداركه نصوص القدر، ولم يعرف قواعد الجمع بين النصوص، ولم يرجع إلى العلماء، وما سلم لله عز وجل، بل خاض في القدر برأيه، فصار مذهبه من أخبث المذاهب إلى يومنا هذا. وهكذا بقية الفرق، كلهم على هذا المنهاج، ومن متأخريهم أهل الكلام الذين خالفوا السلف في الصفات، فأهل الكلام حينما جاءتهم نصوص الصفات وما استوعبوا منهج السلف في تقرير صفات الله عز وجل ما فهموا ولا أذعنوا لأهل العلم، بل اتهموا أهل العلم بالحشوية، واتهموهم بأنهم عندهم سلامة قلوب وسذاجة ونوع من الغباء والغفلة إلى آخره. فلما اتهموا أهل العلم وأئمة الدين في ذلك استقلوا عنهم، وما استوعبت مداركهم الإيمان بالصفات، بل اشتبهت عليهم، فعدوها من المتشابهات مع الأسف، وإلى اليوم يعد أهل الكلام نصوص صفات الله عز وجل من النصوص المتشابهة، وليتهم حينما اشتبهت عليهم ردوها إلى عالمها، ولو فعلوا لأحسنوا؛ لأن هذا منتهى مداركهم، لكن ما فعلوا، بل خاضوا فتكلموا في صفات الله بغير علم، وقالوا -مثلاً-: لا يعقل أن يكون الرحمن على العرش استوى، لا بد أن يكون المعنى غير ذلك، فلما قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأنها اشتبهت. فلما اشتبهت ما ردوها إلى عالمها، بل خاضوا فيها، وما اتفقوا على رأي في هذا الأمر. فصفات الله عز وجل الذاتية كاليد والقدم إلى آخره، والصفات الفعلية كلها أولوها، فلما قيل لهم: لماذا؟ قالوا: لأنها اشتبهت، فقيل لهم: أما تعرفون القاعدة في الاشتباه؟ إن الذي يشتبه يرجع للعلماء، فإن فهمتم قول العلماء وإلا فالعيب في عقولكم، فردوا الأمر إلى عالمه وقولوا: آمنا بما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً: مسألة الخوض في المتشابه هي الفارق بين أهل الأهواء وبين أهل السنة، فأهل السنة أولاً ليس عندهم اشتباه، لكن إذا اشتبه عليهم شيء قالوا: آمنا بما جاء عن الله على مراد الله عز وجل، وأهل الأهواء كلهم خاضوا في المتشابه، فكانت أصولهم كلها تقوم على هذا الأصل.

الأسئلة

الأسئلة

حكم مدح الكافر تعظيما لعمل قام به

حكم مدح الكافر تعظيماً لعمل قام به Q هل مدح الكافر دون محبته التي فيها تعظيم لعمل قام به فيه محظور، وكذا التسمي باسمه؟ A هذا كلام يحتاج إلى تفصيل، فمدح الكافر إذا كان يعني تزكيته في الدين أو تزكية منهجه الكفري؛ فلا يجوز مدحه، وإذا كان المدح لبعض أفعالهم الشائعة بين البشر، ككونه صادقاً، فيقال: هذا الرجل صادق، وإن كان كافراً؛ فلا حرج في ذلك إذا لم يلتبس الأمر ولم يكن عند أناس قد يتأثرون إما من صغار السن أو غيرهم ممن لا يفرقون بين أساليب المدح، فمجرد الاعتراف بخلق حسن عند الكافر لا حرج فيه إذا أمنت الفتنة.

حكم بغض رجال الحسبة بغير حق

حكم بغض رجال الحسبة بغير حق Q هل من يبغض رجال الحسبة بحق أو بغير حق ناقص الإيمان؟ A رجال الحسبة أولاً هم في الغالب من الصالحين إن شاء الله، والحسبة لا شك في أنها من أعظم الأعمال الجليلة التي يجب أن يثنى على صاحبها وأن يحب في الله، لكن لا يعني ذلك أن كل من اندرج اسمه أو دخل في أهل الحسبة يكون مزكى بكل حال، هذا لا يلزم، فالأصول تبقى أصولاً، لكن الأفراد يحكم عليهم بحسب أحوالهم، وقد يحدث من بعض من ينتسبون للحسبة -وإن كان هذا قليلاً، وهذا من باب الابتلاء- أشياء مما يحدث من البشر من المعاصي أو الآثام أو الظلم أو نحو ذلك، فهذا يعامل بحسبه، ولا ينسحب الحكم على أهل الحسبة، بل يعامل الشخص الذي يخطئ بحسبه ويوقف منه بحسب حاله، لكن لا ينسحب الأمر على أهل الحسبة كلهم، فأهل الحسبة قد يكون فيهم من ينتسب إليهم وهو ليس كذلك، أو عنده نقص، كما يكون في أهل الجهاد، وكما يكون في أهل العلم، وكما يكون في عامة المسلمين، فالأمر واضح ولا ينبغي أن يشتبه.

تفاوت محبة الله تعالى لعباده بتفاوت طاعاتهم

تفاوت محبة الله تعالى لعباده بتفاوت طاعاتهم Q هل محبة الله لعباده تتفاوت من عبد إلى عبد؟ A لا شك أن المحبة مرتبطة بالعمل، فكلما تقرب الإنسان إلى ربه زادت محبة الله له، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

حكم الرضا بالقضاء والقدر

حكم الرضا بالقضاء والقدر Q ما حكم الرضا بالقضاء والقدر؟ وهل هناك فرق بين الرضا بالقضاء والقدر وبين الإيمان بالقضاء والقدر؟ A الرضا بالقضاء والقدر واجب، يجب على العبد أن يرضى بقدر الله عز وجل؛ لأن هذا مقتضى الإيمان بالربوبية وأن ما شاء الله عز وجل كان وما لم يشأ لم يكن، وأن أفعال الله لا تكون إلا بالحكمة، وأن ما أصاب العبد لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فعلى هذا يكون الرضا بالقضاء والقدر من الله عز وجل واجباً على العبد، وهناك بعض الفروق بين الرضا بالقضاء والقدر وبين الإيمان بالقضاء والقدر، فالإيمان هو مجرد التسليم واليقين والتصديق، وهو أمر قد لا يتعدى إلى الرضا، بمعنى أن هناك من يؤمن بالقضاء والقدر، لكن إذا حصل القدر فيما لا يحمد قد لا يرضى، وقد لا يصبر، فهذا أمر ينافي الرضا، ولا ينافي مجرد التصديق أو مجرد الإيمان. إذاً: فالرضا أمر زائد على الإيمان بالقدر، وكثير من العباد -خاصة أهل التقصير- قد يسلمون بالقدر ويؤمنون به، لكن إذا حصل قد يضعف إيمانهم عن الرضا، وقد يحصل لهم شيء من الجزع وعدم التحمل.

حكم موالاة أعداء الإسلام

حكم موالاة أعداء الإسلام Q هل موالاة أعداء الإسلام تعتبر من الكفر البواح، وما معنى الكفر البواح؟ A الموالاة درجات، فإذا كانت الموالاة قلبية، بمعنى أن المسلم يحب الكفار لكفرهم أو لبعض كفرهم، أو يواليهم لما هم عليه من أمور شركية، أو يحبهم حباً يصل إلى حد الإخلال بالعقيدة الإسلامية أو بشيء من أركانها وأصولها؛ فهذا قد يكون كفراً، وغالب صوره في الكفر، أما إذا كانت الموالاة موالاة مادية عامة، وموالاة ظاهرة؛ فهي معصية وتختلف بحسبها، فأغلب صور الموالاة الظاهرة -خاصة في وقت ضعف المسلمين- تكون من الكبائر أو من الذنوب العظيمة، ما لم تصل إلى حد الإخلال بشيء من العقيدة، أي: بشيء مما يتعلق بأركان الإيمان، وما لم تصل إلى حب شيء من دينهم وما هم عليه من كفر، وحينئذٍ تبقى من الأمور التي تتفاوت في تقديرها، وهي من الكبائر، يعني: موالاة الكفار فيما يتعلق بالتعامل ظاهراً، أو ما يسمى بالعلاقات، سواء كانت عامة أو فردية، فأغلب صورها من الأمور العملية؛ لأنا لا نطلع على قلوب العباد، والغالب أن أغلب المسلمين الذين عندهم شيء من الولاء الظاهر في التعامل مع الكفار ليس عندهم النفاق الخالص -والله أعلم- أو حب عقائد الكفار أو التعلق بها، إنما قد يكون ذلك لمصالح ناتجة عن ضعف أو ناتجة عن تأول أو تراخ أو عن أمور تحدث من الناس بسبب تقصيرهم في دين الله عز وجل، فهذه الأمور لا تصل إلى حد الكفر، وأغلب الناس يخلط في هذه المسألة خلطاً عجيباً، ولا يعرف قواعد الشرع ولا مذهب السلف في ذلك.

موقف الخوارج من المسح على الخفين

موقف الخوارج من المسح على الخفين Q هل الخوارج تنكر المسح على الخفين وتقول: لم يرد في القرآن إلا الغسل؟ A هناك طوائف من الخوارج ينكرون المسح، لكن إنكار عموم الخوارج ليس عندي به علم، وأغلب الخوارج يجهلون السنة أو بعضها ويتنكرون لها، وكثير من السنن التي لا تخضع لقواعدهم لا يأخذون بها وإن أجمع عليها المسلمون، فبعض الخوارج فعلاً ينكرون المسح على الخفين، لكن لا أعرف أنه من أصول الخوارج كما هو عند الرافضة، والله أعلم.

شرح العقيدة الطحاوية [83]

شرح العقيدة الطحاوية [83] من أصول أهل السنة والجاعة العظام وقواعدهم المتينة: أن الحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما، خلافاً للرافضة الذين يقولون: لا جهاد إلا عند خروج المهدي المزعوم، كما أن من عقيدة أهل السنة الإيمان بالكرام الكاتبين من الملائكة الذين جعلهم الله على العباد حافظين وأوكلهم بكتابة جميع الأعمال.

اعتقاد أهل السنة في الحج والجهاد مع ولاة الأمر من المسلمين

اعتقاد أهل السنة في الحج والجهاد مع ولاة الأمر من المسلمين قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة، لا يبطلهما شيء ولا ينقضهما)]. قبل أن نبدأ بالشرح نشير إلى وجه الجمع بين الحج والجهاد في هذه الجملة، وهو أن الحج من أركان الإسلام، والجهاد أيضاً من أصول الدين، ونظراً لأن الحج والجهاد من الأعمال الجماعية الكبرى، فالحج من الأعمال التي تتعلق بعموم المسلمين، فلا يتأتى للمسلمين أن يختلفوا فيه؛ لأن اختلافهم يؤثر في أداء الشعائر، ولذلك يجب على الناس أن يلتزموا نهجاً واحداً في أداء الحج على ضوء ما يجتهد فيه الذي يتولى الحج في ذلك الوقت، وفي أداء المشاعر في أوقاتها؛ لأن المشاعر مربوطة بمكان وزمان، فلا يتأتى للناس أن يختلفوا فيها، وإذا اختلفوا فسد حج بعضهم، فلا بد أن يكون الوقوف في عرفة في يوم معين، فمن وقف قبل هذا اليوم أو بعده لا يصح حجه، ثم يتلو ذلك بقية الشعائر الأخرى التي تؤدى في الحج، فلذلك لا بد للمسلمين أن يلتزموا في الحج بقرار الإمرة التي تتولى الحج، سواء كان من يتولى الحج براً أو كان فاجراً عاصياً ظالماً. وهنا أنبه على مسألة كثيراً ما تثور عند بعض الجهلة، وهي مسألة توقيت يوم عرفة، حيث يدور أحياناً في مجالس الناس عن جهل أن تقدير يوم عرفة مبني على كذا وكذا، وأنه ليس هناك رؤية في هذه السنة، أو أن مجلس القضاء الأعلى لم يقرر دخول ذي الحجة على رؤية، إنما هو اجتهاد أشخاص! فهذا كلام خطير؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الحج يوم يحج الناس)، وما قال هذا إلا لأنه يعلم أن الناس قد تتفاوت أفهامهم، وفي هذه البلاد -والحمد لله- كل ما يتعلق بالمواقيت الشرعية من دخول رمضان وخروجه والحج ونحو ذلك يسير على أساس شرعي سليم بحمد الله، ويعلن من مجلس القضاء الأعلى أو من الديوان الملكي بناء على أمور ترجع إلى أهل العلم، خاصة فيما يتعلق بهذه الأمور الشرعية الخطيرة، فهناك من يتكلم في هذه الأمور بجهل أو بهوى فيضل الناس، وهذا أراه من أعظم الفتنة ومن أعظم الهوى ومن أعظم البدع التي يجب أن يردع من يقع فيها. وإنما نبهت على هذا؛ لأنه بدأ يكثر عند بعض الجهلة وبعض المتعلمين وبعض أصحاب الغرور والأهواء الكلام بما يشكك الناس في شعائر دينهم، وهذا أمر خطير، ويجب على طلاب العلم أن لا يسمحوا للناس أن يخوضوا في هذه الأمور، فإذا أعلن وقت الحج فإعلانه شرعي ملزم، ولا داعي لهذه الأمور التي تحدث الوساوس، وقد ربط الحج بولاية الحج، فمن تولى إمرة الحج -براً كان أو فاجراً- لا بد من الحج معه، ولا يكون الحج صحيحاً إلا بتوقيته، فمن تأخر يوماً أو تقدم يوماً فحجه غير صحيح؛ لأن الحج يوم يحج الناس.

الرد على الرافضة المعطلين للجهاد إلى خروج مهديهم

الرد على الرافضة المعطلين للجهاد إلى خروج مهديهم قال رحمه الله تعالى: [يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الرافضة، حيث قالوا: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وينادي مناد من السماء: اتبعوه]. الرافضة هم على رأس الفرق التي خالفت المسلمين، وتعمل في هذه الأمور بضد ما عليه أهل الحق، لكن غير الرافضة فيهم شبه منهم، فأكثر أهل الأهواء من سماتهم المخالفة في هذه الأمور، فلا نعرف أن أهل الأهواء يجاهدون مع المسلمين أو مع أئمة المسلمين، ولا يجاهدون إلا في فتنة، ويسمونها الجهاد، فلو نظرنا إلى المعتزلة والجهمية والخوارج وكثير من الفرق الكبرى لوجدنا أن هذا هو منهجهم، لا يقاتلون مع المسلمين، بل يقاتلون المسلمين، فإذا ثارت على المسلمين فتنة سارعوا فيها، ولا تجدهم في الثغور أو في جيوش المسلمين؛ لأنهم لا يرون الجهاد مع أئمة المسلمين. فأهل الأهواء لا يقاتلون إلا في ألويتهم، ولا نعرف أن ألوية أهل الأهواء ضد الكفار أو لجهاد الكفار، بل ألوية أهل الأهواء دائماً في نحور المسلمين ومن قرأ التاريخ فسيجد مصداق هذا واضحاً جداً طيلة التاريخ الإسلامي. فأكثر الفرق هم كالرافضة، لكن قد يكون لهم فلسفة أخرى ونظرة أخرى غير نظرة الروافض، فمتى ما حصلت ثورة على أئمة المسلمين شاركوا فيها، أما الرافضة فلا يشاركون إلا تأولاً أو من أجل النكاية، لا لأنه جهاد، ولا يجاهدون إلا مع هذا الموهوم المنتظر الخرافة الذي يسمونه المهدي المنتظر. قال رحمه الله تعالى: [وبطلان هذا القول أظهر من أن يستدل عليه بدليل، وهم شرطوا في الإمام أن يكون معصوما اشتراطا بغير دليل، بل في صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قال: قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعته)]. قوله: (خيار أئمتكم) وقوله: (شرار أئمتكم)، يعني: الولاة؛ لأن لفظ (الأئمة) يطلق على صنفين: على الولاة السلاطين، أبراراً كانوا أو فجاراً، وعلى الأئمة في الدين، أئمة العلم، فهذه إمامة وهذه إمامة، وهذه لها حقها وهذه لها حقها، ولا شك أن من ولي أمر المسلمين فهو إمام لهم حتى ولو لم يكن على شروط الإمامة، لا كما يظن بعض الناس الذين يعتقدون جهلاً أنه لا يسمى إماماً إلا إذا توافرت الشروط، فهذا ليس بصحيح، ثم إن من الشروط شروطاً كمالية لم توجد إلا في الخلافة الراشدة. فمن تولى أمر المسلمين فهو إمام، سواء كان براً أو فاجراً، ومصداق ذلك هذا الحديث، وهو صريح، حيث سماهم أئمة على الحالين، وهذا أمر له اعتباره في القواعد الشرعية، ولذلك بنى الحكم على هذا الاعتبار، فحين قالوا: (أفلا ننابذهم عن ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة). ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أيضاًَ قاعدة أخرى مهمة جداً، فقال: (ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله) يعني: يكره ذلك في قلبه، ويناصح إن استطاع، وينكر إن استطاع بالأسلوب المناسب الذي لا يؤدي إلى الفتنة، لكن لا ينزع يداً من طاعة، وما أجهل كثيراً من الناس في هذا العصر من الذين بدءوا يجانبون هذه المسائل ويتهمون من يقول الحق أو يعتقده أو ينهج هذا النهج بأمور ليست مما يجوز أن يتهم فيه المسلمون أو يتراشق فيه المسلمون. أقول: إن كثيراً من أهل السنة وأهل الحق الذين بقوا على هذا الأصل يكادون يعيشون غربة أحياناً في بعض بلاد المسلمين، بسبب انتكاس مفاهيم المسلمين وعملهم على غير الأصول، فالمسلمون الذين نهجوا مع ولاتهم نهج الخروج والقوة ما أصابوا الحق؛ لأن هذا ليس هو منهج السلف، فمن أنكر عليهم اعتبروه هو المخطئ، وهو الذي يخذل الدين، وهو الذي لا يعرف شيئاً إلى آخره، حتى عاش كثير من أهل الرأي الصائب والقول الرشيد والاعتقاد السديد في غربة الآن في كثير من بلاد المسلمين، فلا بد من تقرير الحق، وأن يكون لطلاب العلم أثر في المسلمين يعملونه، ذلك أن أغلب المصائب التي وقعت على البلاد الإسلامية الآن -خاصة ما يحدث من القتل والتشريد وانتهاك الأعراض وسفك الدماء وما ترونه وتسمعونه من فتنة في بعض بلاد المسلمين- يقوم أصلاً على مخالفة هذا المنهج، بسبب أن طائفة ممن عندهم حماس للدعوة إلى الله عز وجل، وعندهم غيرة على دين الله جهلوا هذا الأصل، فظنوا أن مقتضى الحسبة قتال الحكومات، وهذا خطأ شنيع؛ إذ هو أولاً مخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم إنه مخالفة لنهج الإسلام في الدعوة إلى الله، ومخالفة لأصول الدعوة وللأساليب المشروعة التي شرعها الله عز وجل، ولو أنهم اتقوا الله عز وجل وناصحوا بالتي هي أحسن وعملوا لوجدوا خيراً، وإذا ما وجدوا فالأ

خسارة الرافضة في تعليق الجهاد بالإمام المعصوم

خسارة الرافضة في تعليق الجهاد بالإمام المعصوم قال رحمه الله تعالى: [وقد تقدم بعض نظائر هذا الحديث في الإمامة، ولم يقل: إن الإمام يجب أن يكون معصوماً، والرافضة أخسر الناس صفقة في هذه المسألة؛ لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم الذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا]. لأنهم فرضوا له صفات لا يمكن أن تكون في البشر، فهو معدوم فعلاً، فتلك الصفات لا توجد في أحد من خلق الله عز وجل ولا من الذين يدعون أنهم أئمة معصومون، فهؤلاء الذين يدعون أنهم معصومون هم أناس من البشر منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، والصالحون منهم ليس عندهم هذه الخصائص التي ادعتها الرافضة، سواء منهم من يعلقون عليه بعض الآمال مثل المهدي الموهوم، أو الأحياء منهم أو الأموات الذين كان لهم وجود، ألقوا عليهم من الصفات والآمال وافترضوا فيهم من الخصال ما لا يوجد في مخلوق. إذاً: فهم توهموا أموراً معدومة وليست حقيقية، فلذلك بقوا طيلة الدهر ينتظرون موهوماً حتى جاء الخميني وأظهر لهم فكرة جديدة، وهي فكرة (ولاية الفقية) الوسيط بين الإمام المزعوم الموهوم وبين الأجيال الحاضرة، وقال: لا بد أن نتولى بعض صلاحيات الإمام المعصوم المنتظر، فنفخ هذه الروح الوهمية أيضاً فانتفضوا انتفاضتهم المعلومة، لكنهم لا يزالون على أفكارهم الخيالية. قال رحمه الله تعالى: [فإنهم يدعون أن الإمام المنتظر محمد بن الحسن العسكري الذي دخل السرداب في زعمهم سنة ستين ومائتين أو قريباً من ذلك بسامراء، وقد يقيمون هناك دابة -إما بغلة وإما حرساً- ليركبها إذا خرج، ويقيمون هناك في أوقات عينوها لمن ينادي عليه بالخروج: يا مولانا! اخرج، يا مولانا! اخرج، ويشهرون السلاح، ولا أحد هناك يقاتلهم! إلى غير ذلك من الأمور التي يضحك عليهم فيها العقلاء!]. ذكر المحقق في الهامش بعض الترجمة للعسكري التي توهم أن هذا الرجل له وجود، وأن له ولادة ووفاة إلى آخره. وهم يزعمون أنه المهدي، ويسمونه صاحب الزمان والمنتظر والحجة وصاحب السرداب، وقد ولد بزعمهم في سامراء، ومات أبوه وله خمس سنين، وكل هذه ليست حقائق بإجماع المؤرخين، فكل ما قالوه من هذا أوهام لا وجود لها تاريخياً أبداً حتى في كتبهم، وقد قرأنا في كتبهم ما يدل على أن هذا وهم وكذب، ولا أدري كيف يروون هذه الروايات التي يعتمدونها عندهم ثم يقولون بهذه الأكذوبة، فيكذبون ثم يصدقون أنفسهم، أقول: حتى في كتبهم المسندة يوجد ما يكذب القول بأن هناك رجلاً اسمه كذا إلى آخره؛ إذ إن أباه كان عقيماً ومات عقيماً ليس له ولد ولا ذرية، وهذا معروف عند المؤرخين من غير الشيعة، وبعض الرافضة يثبت هذا. قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (مع أولي الأمر برهم وفاجرهم) لأن الحج والجهاد فرضان يتعلقان بالسفر، فلا بد من سائس يسوس الناس فيهما، ويقاوم العدو، وهذا المعنى كما يحصل بالإمام البر يحصل بالإمام الفاجر].

عقيدة أهل السنة في الإيمان بالكرام الكاتبين من الملائكة

عقيدة أهل السنة في الإيمان بالكرام الكاتبين من الملائكة قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بالكرام الكاتبين، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين): قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12]، وقال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17 - 18]، وقال تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]، وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80]، وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29]، وقال تعالى: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} [يونس:21]. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد إليه الذين كانوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وفارقناهم وهم يصلون). وفي الحديث الآخر: (إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم). جاء في التفسير: اثنان عن اليمين وعن الشمال يكتبان الأعمال، صاحب اليمين يكتب الحسنات وصاحب الشمال يكتب السيئات، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه واحد من ورائه وواحد أمامه، فهو بين أربعة ملاك بالنهار وأربعة آخرين بالليل بدلاً، حافظان وكاتبان. وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه].

القرين من الجن والقرين من الملائكة

القرين من الجن والقرين من الملائكة قال رحمه الله تعالى: [وروى مسلم والإمام أحمد عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة. قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي، لكن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير). الرواية بفتح الميم من (فأسلمَ)، ومن رواه (فأسلمُ) برفع الميم فقد حرف لفظه، ومعنى (فأسلمَ) أي: فاستسلم وانقاد لي في أصح القولين، ولهذا قال: (فلا يأمرني إلا بخير) ومن قال: إن الشيطان صار مؤمناً فقد حرف معناه؛ فإن الشيطان لا يكون مؤمناً]. ليس هناك ما يمنع أن يكون هذا القرين من الجن؛ وليس من الشياطين الذين حكم عليهم بالشيطنة على وجه خاص؛ لأن الشيطنة وصف عام ووصف خاص، فالوصف العام هو بمعنى الشر، فالإنس فيهم شياطين والجن فيهم شياطين، وذرية إبليس فيهم شياطين، والوصف الخاص هو المختص بالشيطان الذي هو إبليس وذريته الذين هم من جنسه وفصيله. والناظر إلى النصوص الشرعية وإلى فهم الصحابة وفهم السلف وتفسيرهم للنصوص يجد أن الأحاديث التي جاء فيها أن الله أعان النبي صلى الله عليه وسلم على قرينه فأسلم تدل على أنه قرين من الجن، والجن منهم من يسلم ومنهم من يفسق، أو أنه قرين -مهما كان- قدر الله أن يسلم؛ لأن الأمور بيد الله عز وجل، حتى لو قلنا: إن الشياطين لا يسلمون كما يقول بعض الشراح، فالأمر راجع إلى قدرة الله عز وجل، وهذا خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلا داعي للتحريف وتطويع النصوص لقواعد عقلية، فإذا كان أسلم بقدرة الله فالله بيده مقاليد السموات والأرض وبيده قلوب عباده، فليس الأمر بغريب، والخبر لا بد أن يؤخذ على حقيقته، أن قرين النبي صلى الله عليه وسلم أسلم بمعنى أنه لم يعد كافراً، هذا ظاهر الحديث، فما عداه تكلف، وما أشرت إليه هو رأي الجمهور؛ لأنه أسلم حتى لم يكن يأمره إلا بخير. قال رحمه الله تعالى: [ومعنى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] قيل: حفظهم له من أمر الله أي: الله أمرهم بذلك، يشهد لذلك قراءة من قرأ: يحفظونه بأمر الله].

بيان ما تكتبه الملائكة

بيان ما تكتبه الملائكة قال رحمه الله تعالى: [ثم قد ثبت بالنصوص المذكورة أن الملائكة تكتب القول والفعل، وكذلك النية؛ لأنها فعل القلب، فدخلت في عموم {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:12]، ويشهد لذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة، وإذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قالت الملائكة: ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة -وهو أبصر به- فقال: ارقبوه، فإن عملها فاكتبوها بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي) خرجاهما في الصحيحين، واللفظ لـ مسلم].

الأسئلة

الأسئلة

الجمع بين كتابة الملائكة النيات وكونهم لا يعلمون الغيب

الجمع بين كتابة الملائكة النيات وكونهم لا يعلمون الغيب Q كيف نجمع بين كتابة الملائكة النية وبين كون الملائكة لا يعلمون الغيب، والنية من الغيب؟ A ما يتعلق بما يحدث عند الإنسان أمر لا شك أنه يطلع الله عليه الملائكة عندما يحدث، حتى الخواطر والوساوس والهم بالشيء، إذا هم أن يفعل أو أن يترك، فهذا أمر جعل الله عز وجل عند الملائكة القدرة على معرفته، ولا يقدر عليه غيرهم، بمعنى أن البشر لا يعرفون ما في وساوس البشر الآخرين أو في خطراتهم أو في نياتهم وإراداتهم، لكن الكرام الكاتبين أقدرهم الله عز وجل على أن يعرفوا ما يختلج في نيات الناس، هذا أمر جعله الله عز وجل من مقدورهم، فلم يعد في حق الملائكة غيباً، لاسيما أنه أمر حدث من الإنسان، ولكن لا أظن أن الملك -حتى الكاتب- يعلم ما يفعل الإنسان غداً أو بعد غد حتى من الخطرات والإرادات والهم ونحو ذلك، فالمهم أن الله عز وجل أطلع هذه الطائفة من الملائكة على هذا الشيء الذي هو غيب عنا، فهذا راجع إلى قدرة الله، ولم يعد غيباً بالنسبة لهم.

الجمع بين كون الكفر ملة واحدة وثبوت كفر دون كفر

الجمع بين كون الكفر ملة واحدة وثبوت كفر دون كفر Q كيف نجمع بين كون الكفر ملة واحدة وأن هناك كفراً دون كفر؟ A أولاً: لا يظهر أن بينهما تناقضاً. والأمر الثاني: أن كل عبارة محمولة على المعنى المراد بحسب قواعد الشرع والنصوص وفهم السلف، فلا شك أن المراد بكون الكفر ملة واحدة الكفر المخرج من الملة، فالكفر المخرج من الملة ملة واحدة، وملة الإسلام ليست كفراً. وقول السلف: كفر دون كفر يعني: الكفر الذي لا يخرج من الملة، ولا شك أنه يتبين من خلال النصوص أن الكفر منه ما يخرج من الملة ومنه ما لا يخرج، ومسمى الكفر قد يطلق على المعصية والبدعة، وقد يطلق على الكفر المخرج، وهذا ظاهر جداً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى النياحة كفراً، وسمى الطعن في الأنساب والأحساب كفراً، وسمى الانتساب لغير الأب كفراً، وسمى كفر النعمة كفراً، وسمى جحد حق الزوج من المرأة كفراً، في أشياء كثيرة سماها النبي صلى الله عليه وسلم كفراً وليست كفراً قطعياً، فهذا هو مفهوم الكفر دون الكفر، فكل ما سماه النبي صلى الله عليه وسلم من أعمال المسلمين كفراً مما ليس بشرك ولا ردة فهو كفر معصية، وكفر بدعة، بل إن بعض الأعمال دون البدعة يسمى كفراً، مثل عدم شكر المنعم في بعض النعم التي أنعم الله بها على عباده، فهذا يسمى كفر نعمة، وقد لا يكون كبيرة أيضاً. فمثل هذه الأمور لا بد من استصحاب عموم النصوص وقواعد الشرع فيها، ولذلك أجد أنه من الخلل والزلل أن يتناول مثل هذه الأمور من لا علم عنده ولا فقه، أو يقل فقهه في الدين، فربما يكون مثقفاً متحذلقاً أو طويلب علم مبتدئاً ثم يبدأ يخوض في هذه الأمور ويصنف المسلمين ويحول ذممهم إلى الكفر وغيره بمجرد أن يقرأ هذه النصوص أو يسمع بها، وهذا أمر خطير، فالذي لا يعرف موارد الشرع وقواعد الدين ومناهج السلف وألفاظ الشرع ومعانيها ودلالاتها، ولا يعرف كيف يرجع الألفاظ والمصطلحات إلى أصولها بحسب سياقها، لا يجوز له أن يتكلم في هذه الأمور، وأقول هذا بمناسبة كثرة كلام الناس في هذه الأمور، وعدم تفريقهم بين الصالح وغير الصالح، وبين ما له أصل وما ليس له أصل، والله أعلم.

شرح العقيدة الطحاوية [84]

شرح العقيدة الطحاوية [84] من الإيمان بالملائكة أن نؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين، وقد اختلف في الروح وحقيقتها ووقوع العذاب عليها مع البدن أم لا، وكلها من الاختلافات الجزئية بين أهل السنة، كما أن فناء الروح وموتها حصل فيه كلام بين الفلاسفة وغيرهم، ومرد النزاع في ذلك هو عدم الرجوع إلى النصوص القرآنية والنبوية في ذلك مع فهم أهل العلم لها.

الإيمان بملك الموت الموكل بقبض الأرواح

الإيمان بملك الموت الموكل بقبض الأرواح قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بملك الموت الموكل بقبض أرواح العالمين): قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة:11]، ولا تعارض هذه الآية قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]، وقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42]؛ لأن ملك الموت يتولى قبضها واستخراجها، ثم يأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ويتولونها بعده، كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره وحكمه، فصحت إضافة التوفي إلى كل بحسبه].

ذكر ما قيل في حقيقة النفس وحدوث الروح

ذكر ما قيل في حقيقة النفس وحدوث الروح قال رحمه الله تعالى: [وقد اختلف في حقيقة النفس ما هي؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن؟ أو عرض من أعراضه؟ أو جسم مساكن له مودع فيه؟ أو جوهر مجرد؟ وهل هي الروح أو غيرها؟ وهل الأمارة واللوامة والمطمئنة نفس واحدة أم هي ثلاثة أنفس؟ وهل تموت الروح أو الموت للبدن وحده؟ وهذه المسألة تحتمل مجلداً، ولكن أشير إلى الكلام عليها مختصراً إن شاء الله تعالى. فقيل: الروح قديمة]. كلمة (قديمة) يعني بها أنها أزلية، وأنها ليست مخلوقة، فهنا عبر عن قول الفلاسفة، وأفراخ الفلاسفة، بمعنى أن الروح لا بداية لها، وعلى هذا ففهمها عندهم أنها تشبه الخالق عز وجل، أو أنها تأخذ صفات الخالق عز وجل من حيث إنه الأول الذي ليس قبله شيء. والذين يقولون بهذا القول إيمانهم بالله عز وجل مضطرب، قد يعبرون عن الروح بأنها صفة من صفات الله عز وجل، فهي على هذا قديمة عندهم، أي: أزلية، أو يعبرون عن الروح بأنها قوة ونوع من الآلهة عندهم، والآلهة عندهم على حد سواء كلها أزلية، أو غير ذلك من التعبيرات، فالمهم أن هؤلاء ليسوا في قولهم على شيء، بل هم في أمر مريج. فهؤلاء أعطوا الروح خصائص الربوبية التي لا تكون إلا لله عز وجل؛ لأنه ليس هناك شيء قديم أزلي ليس قبله شيء إلا الله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [وقد أجمعت الرسل على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة، وهذا معلوم بالضرورة من دينهم أن العالم محدث، ومضى على هذا الصحابة والتابعون حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة فزعم أنها قديمة، واحتج بأنها من أمر الله وأمره غير مخلوق، وبأن الله أضافها إليه بقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، وبقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29]، كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده]. الذين قالوا بأن الروح قديمة هم طائفة من الفلاسفة والإسماعيلية، وكثير من الفلاسفة الإسلاميين يقولون بهذا القول، يعني: الإسلاميين الذين يدعون الإسلام، ويسمون بأسماء إسلامية، وعاشوا بين المسلمين، وأغلبهم من الباطنية كـ الفارابي وابن سينا وابن سبعين، فهؤلاء يقولون بقدم الروح ويلحقونها بصفات الله عز وجل، والروح خلق من خلق الله عز وجل، وهي أمر من أمره، بمعنى أنها من شأنه سبحانه، فهو يقدرها ويخلقها، هذا معنى كونها من أمر الله، {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] وليس المعنى: من أمره الشرعي الذي هو الطلب، إنما من أمره يعني: من شأنه سبحانه، أي: من تقديره وخلقه.

أدلة أهل السنة على كون الروح مخلوقة

أدلة أهل السنة على كون الروح مخلوقة قال رحمه الله تعالى: [وتوقف آخرون، واتفق أهل السنة والجماعة على أنها مخلوقة، وممن نقل الإجماع على ذلك: محمد بن نصر المروزي وابن قتيبة وغيرهما. ومن الأدلة على أن الروح مخلوقة قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما، ولا يدخل في ذلك صفات الله تعالى، فإنها داخلة في مسمى اسمه، فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال، فعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وجميع صفاته داخل في مسمى اسمه، فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق، وما سواه مخلوق، ومعلوم قطعاً أن الروح ليست هي الله ولا صفة من صفاته وإنما هي من مصنوعاته. ومنها قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1]، وقوله تعالى لزكريا: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:9] والإنسان اسم لروحه وجسده، والخطاب لزكريا لروحه وبدنه، والروح توصف بالوفاة والقبض، والإمساك والإرسال، وهذا شأن المخلوق المحدث. وأما احتجاجهم بقوله: {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85] فليس المراد هنا بالأمر الطلب، بل المراد به المأمور، والمصدر يذكر ويراد به اسم المفعول، وهذا معلوم مشهور. وأما استدلالهم بإضافتها إليه بقوله: {مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله نوعان: صفات لا تقوم بأنفسها، كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له، وكذا وجهه ويده سبحانه]. يعني بذلك أن هذه الصفات وأمثالها لا يمكن أن تطلق إلا على موصوف، وإذا أطلقت بألفاظ اللغة بدون موصوف فإنها ليس لها وجود إلا في الأذهان، فهي مجرد تصور، فالصفات التي لا تقوم بنفسها هي التي إذا أطلقت فلابد أن تقيد بالموصوف، والصفات التي تقوم بنفسها هي الصفات التي إذا أطلقت تكون مستقلة، فيمكن أن يعبر عنها مستقلة، ويمكن أن يعبر عنها مضافة إلى غيرها، وفي الحالين تبقى أعياناً مستقلة تقوم بنفسها. فالعلم إذا أطلق يبقى مجرد إطلاق ذهني، فإذا قلنا: علم الله صار صفة من صفات الله عز وجل، وهو العلم الكامل، وإذا قلنا: علم المخلوق صار صفة من صفات المخلوق المحدود. أما الأسماء الأخرى التي تقوم بنفسها -وهي الأعيان المنفصلة- فهي التي تتعلق بالمخلوقات، مثل البيت، فيجوز أن تقول: أو هذا بيت، أو: هذا البيت، ونعرف أنه يطلق على شيء مخلوق ندركه، فإذا قلت: هذا بيت فلان فقد أضفته إلى فلان، ولكن لو لم تضفه لعرفنا أن البيت صفة قائمة بنفسها، وإذا أضيف إلى الله عز وجل -كبيت الله الحرام- فإنه تكون إضافة تشريف؛ لأنه مخلوق، ولا يمكن أن يكون من صفات الله عز وجل.

الأسئلة

الأسئلة

جواب عن استشكال قبض ملك الموت الأرواح المتفرقة والمتعددة في وقت واحد

جواب عن استشكال قبض ملك الموت الأرواح المتفرقة والمتعددة في وقت واحد Q هل مع ملك الموت ملائكة آخرون يعينونه على توفي الأنفس، كما قال تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام:61]، وإذا لم يكن هناك ملائكة يتوفون الأنفس غير ملك الموت، فكيف يكون توفي من يموتون في نفس الوقت وفي أماكن متفرقة، ومن يموتون في مكان واحد في نفس اللحظة؟ A أولاً: أمور الغيب لا تقاس بعالم الشهادة. ثانياً: أن قدرات المخلوقات تختلف ما بين مخلوق ومخلوق، فقدرات ملك الموت أو غيره من الملائكة -مثل جبريل عليه السلام، وميكائيل وإسرافيل وغيرهم- لا تقاس بقدرات البشر أبداً، فلا شك أن الله أعطاهم من القدرات ما لم يعط البشر. كما أن بعض الخلق عنده من القدرات ما ليس عند البشر، والبشر عندهم ما ليس عنده، والجن عندهم من المقدرة ما ليس عند البشر. فالجني قد يطلع على أمر لا تحجبه عنه الحجب المادية المحسوسة، في حين أن الإنسان تحجبه الجدران وتحجبه الوسائل التي تحجب المدركات، والجني لا تحجبه هذه الأمور إلا في حدود معينة حددها الله له في أصل خلقه. فعلى هذا لا يصح أن يرد هذا الاعتراض أو الإشكال في ملك الموت؛ لأن ملك الموت أعطاه الله عز وجل من القدرات ما لم يعط البشر، هذه ناحية. الناحية الأخرى: أنا لا ندري لعل الله عز وجل يقسم الموتى في الزمن، فاللحظة فيه يمكن أن تقسم إلى ألف قسم. ثم إن ملك الموت -كما هو معروف- معه فريق من الملائكة، ومع ذلك فإن الله عز وجل أقدره على ما يشاء مما كلفه به، فلا داعي لمثل هذا القول في أمور الغيب؛ لأنها غيب، وعليها نقيس ما ورد في أخبار الغيب من عذاب القبر ونعيمة وأحوال الموتى وأحوال الجن وأحوال الشياطين وأحوال الملائكة، فالشيطان -وهو إبليس- ثبت أنه يوسوس وأن له جنوداً. فهذه مسائل لا نقيس فيها ما أخبرنا الله به من أمور الغيب وثبت فيه الخبر على عالم الشهادة أبداً. وكل المقاييس العلمية التي تحت تناولنا لا يمكن أن تحكم أمور الغيب، فإذا ما أيدت الغيب فلا يمكن أن تعارضه أو أن تحكم فيه بما يعارض ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم. فعلى هذا يجب على المسلم أن يريح نفسه من هذه الأمور، ويعرف أن الله عز وجل لا حدود لقدرته، وأنه يقدر عباده على ما يشاء من القدرات التي يخلقها ويوجدها. ونحن نعرف ما حدث لسليمان عليه الصلاة والسلام حينما طلب من بعض مجالسيه من أهل العلم ومن الشياطين ومن الجن ومن البشر، إحضار عرش بلقيس، فعرض عليه العفريت أن يحضره قبل أن يقوم من مقامه، وقال الذي عنده علم من الكتاب: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، وهذا في اليمن وهذا في الشام في فلسطين، وقبل أن يرتد إليه طرفه كان عرش بلقيس أمامه، فالله عز وجل صرح بأن ذلك بعلم آتاه الله المخلوق، فهذه المسألة وغيرها من المسائل الغيبية، ولا يجوز إثارة مثل هذه الأسئلة فيها. والإنسان إذا أشكل عليه الأمر عليه أن يسلم بأن كلام الله حق، وأن خبر الرسول صلى الله عليه وسلم حق، ويكفي ذلك. وأحب أن أنبه على الأدب الشرعي الذي وجه إليه الله تعالى في كتابه بشأن الروح حينما سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح، فقال عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء:85]، وهذا فيه توجيه رباني بأن المسلم يجب عليه أن لا يخوض في موضوع الروح على سبيل الجزم. كما أن الخوض في الروح على سبيل تحديد الماهية يعتبر -والله أعلم- مما نهى عنه الشرع؛ لأن صرف النبي صلى الله عليه وسلم من سألوه عن الحديث عن ماهية الروح يدل على أن هذا مما أمر الله عز وجل بالتأدب به والتزامه، لكن قد يجوز الكلام أحياناً عن بعض خصائص الروح الخارجية التي ورد ذكرها، أو ذكر شيء منها في كتاب الله وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. أما ماهية الروح فلا يجوز الكلام فيها، أما خصائص الروح وأعمال الروح وما ورد في صفاتها فهذا يجوز الكلام فيه؛ لأنه ورد في الشرع، لكن أيضًا بقدر لا يتجاوز ما ورد في الكتاب والسنة.

الخلاف في حقيقة الروح

الخلاف في حقيقة الروح قال رحمه الله تعالى: [واختلف في الروح: هل هي مخلوقة قبل الجسد أم بعده؟ وقد تقدم عند ذكر الميثاق الإشارة إلى ذلك. واختلف في الروح: ما هي؟ فقيل: هي جسم، وقيل: عرض، وقيل: لا ندري ما الروح، أجوهر أم عرض؟ وقيل: ليس الروح شيئاً أكثر من اعتدال الطبائع الأربع]. الطبائع الأربع هي: الرطوبة واليبوسة والحرارة والبرودة. قال رحمه الله تعالى: [وقيل: هي الدم الصافي الخالص من الكدر والعفونات، وقيل: هي الحرارة الغريزية وهي الحياة، وقيل: هو جوهر بسيط منبث في العالم كله من الحيوان على جهة الإعمال له والتدبير]. الجوهر هو تعبير عن جزء الجسم أو الجسيمات الصغيرة الشفافة التي ليس لها ثقل ولا كثافة ملموسة، أو أن ثقلها لا يمكن أن يدركه الناس بمداركهم، فإذا قيل: جوهر بسيط فذلك يعني أنه لا ثقل له ولا كثافة، كالهواء مثلاً، فالهواء قد يسمى جوهراً بسيطاً. والجوهر المركب أو الكثيف: الأجسام الصلبة التي تتركب من عدة جزيئات، ثم تكون لها كثافة ويكون لها ثقل فتقبل اللمس وغير ذلك من الإحساسات. قال رحمه الله تعالى: [وهي على ما وصفت من الانبساط في العالم غير منقسمة الذات والبنية، وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير، وقيل: النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس، وقيل غير ذلك. وللناس في مسمى الإنسان: هل هو الروح فقط، أو البدن فقط، أو مجموعهما، أو كل منهما؟ وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه: هل هو اللفظ، أو المعنى فقط، أو هما، أو كل منهما؟ فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه. والحق: أن الإنسان اسم لهما، وقد يطلق على أحدهما بقرينة، وكذلك الكلام.

حقيقة النفس التي دل عليها الكتاب والسنة والإجماع

حقيقة النفس التي دل عليها الكتاب والسنة والإجماع قال رحمه الله تعالى: [والذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل: أن النفس جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس]. وجه المخالفة ما ذكرته قبل قليل، وهو أنها ليس فيها ثقل ولا كثافة، هذا معنى مخالفة الأجسام الكثيفة المركبة، فهي مخالفة للجسم في كيفية الخلق، فليس لها ثقل ولا كثافة. قال رحمه الله تعالى: [وهو جسم نوراني علوي، خفيف حي متحرك، ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم. فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف بقي ذلك الجسم اللطيف سارياً في هذه الأعضاء، وأفادتها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح. والدليل على ذلك قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، ففيها الإخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها]. هذا يحتمل أن المقصود به الروح، أو أن النفس قد يرد ذكرها أحياناً على معانٍ أخرى، وسيأتي الكلام عن أن النفس والروح بينهما أحياناً تلازم، وبينهما أحياناً افتراق حسب السياق، ومع ذلك فإن مجموع النفس والروح توصف بصفات تدل على أنها مخلوقة، وأنها ربما تكون جواهر بسيطة أو مخلوقات شفافة، وغير كثيفة، فورد أن النفس والروح قابلة للتوفي، وأنها قابلة للقبض، وأنها قابلة للإخراج والخروج والدخول، والبعث والعروج، وغير ذلك من الأوصاف التي تطلق على النفس والروح معاً، وأحياناً بعضها يطلق على الروح فقط، وبعضها يطلق على النفس. وهذا دليل على أن بين الروح والنفس شيئاً من الترادف أحياناً وشيئاً من الاختلاف في بعض الأحيان بحسب السياق. والأقوال في تفسير الروح ليس لها مستند يقيني من الأدلة الشرعية، ما هي إلا استنباطات إما من ظواهر النصوص، وإما من كلام الناس، وإما من بعض الاستنتاجات العقلية التي لا يلزم أن تكون حقيقة، فليس في ذلك ما تتعلق به العلوم الشرعية، بل هي أقوال أقرب إلى الترف العلمي منها إلى الحقائق العلمية، فضلاً عن أن تكون عقيدة، ما عدا الإجماليات الكبرى، ككون الروح من خلق الله عز وجل، وتنفخ في الجسد في وقت معين، وأن الله عز وجل يرسل ملكاً لنفخ الروح في وقت معين بعد مائة وعشرين يوماً إلى آخر هذه الأمور التي لا بد من الإيمان بها؛ لأنها جاءت بها النصوص. أما ما عدا ذلك -كتفسير الروح ما هي، والنفس ما هي، ومتى تغاير النفس الروح، ومتى توافقها- فهذه أمور أقرب إلى الاستنتاجات، وبعضها يكون راجحاً إذا قام عليه الدليل، لكن لا يكون يقينياً، وبعضها لا أصل له. قال رحمه الله تعالى: [وقوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93]، ففيها بسط الملائكة أيديهم لتناولها، ووصفها بالإخراج والخروج، والإخبار بعذابها ذلك اليوم، والإخبار عن مجيئها إلى ربها. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} [الأنعام:60]، ففيها الإخبار بتوفي النفس بالليل، وبعثها إلى أجسادها بالنهار، وتوفي الملائكة لها عند الموت. وقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30]، ففيها وصفها بالرجوع والدخول والرضا. وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الروح إذا قبض تبعه البصر)، ففيه وصفه بالقبض، وأن البصر يراه. وقال صلى الله عليه وسلم في حديث بلال: (قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء)، وقال صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة). وسيأتي في الكلام على عذاب القبر أدلة كثيرة من خطاب ملك الموت لها، وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، وأنها تصعد ويوجد منها من المؤمن كأطيب ريح، ومن الكافر كأنتن ريح، إلى غير ذلك من الصفات. وعلى ذلك أجمع السلف ودل العقل، وليس مع من خالف سوى الظنون الكاذبة، والشبه الفاسدة، التي لا يعارض بها ما دل عليه نصوص الوحي والأدلة العقلية].

العلاقة بين النفس والروح

العلاقة بين النفس والروح قال رحمه الله تعالى: [وأما اختلاف الناس في مسمى النفس والروح: هل هما متغايران، أو مسماهما واحد؟ فالتحقيق: أن النفس تطلق على أمور، وكذلك الروح، فيتحد مدلولهما تارة، ويختلف تارة. فالنفس تطلق على الروح، ولكن غالب ما تسمى نفسا إذا كانت متصلة بالبدن، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها. وتطلق على الدم، ففي الحديث: (ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه). والنفس: العين، يقال: أصابت فلانا نفس، أي: عين. والنفس: الذات، كقوله تعالى: {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61]، وقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء:29]، ونحو ذلك]. الذات يقصد بها البدن والروح معاً، وأحياناً يقصد بها البدن وحده، فالإنسان والحيوان يسمى بدنه نفساً، وأحياناً تطلق النفس على البدن والروح معاً. قال رحمه الله تعالى: [وأما الروح فلا تطلق على البدن لا بانفراده ولا مع النفس، وتطلق الروح على القرآن، وعلى جبرائيل، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء:193]، وتطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان أيضا. وأما ما يؤيد الله به أولياءه فهو روح أخرى، كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة:22]. وكذلك القوى التي في البدن، فإنها تسمى أرواحاً، فيقال: الروح الباصر، والروح السامع، والروح الشام. وتطلق الروح على أخص من هذا كله، وهو: قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته، ونسبة هذه الروح إلى الروح كنسبة الروح إلى البدن، فللعلم روح، وللإحسان روح، وللمحبة روح، وللتوكل روح، وللصدق روح]. لذلك يعبر الناس عن الأمور الإيمانية اليقينية وعن الأحوال العبادية بالروحانية، ويعبرون عن خلافها -أي: عن الشهوات والبعد عن العبادة- بالمادية. وهذا الإطلاق يوافق هذا المفهوم نوعاً ما، وإن كان كثير من المنحرفين من غلاة المتصوفة وغيرهم بالغوا في هذه المسألة حتى جعلوا لها معاني غير شرعية، ومعاني بدعية، ومع ذلك فالإطلاق في أصله ناتج عن مفاهيم الناس نحو الروح. فهناك من المفاهيم التي تطلق ما يقصد بالروح فيها الروحانية التي هي الإقبال على العبادة، والمادية بعكس ذلك، أي: الشهوات والملذات والإقبال على بهرج الدنيا والأمور التي تبعد عن جو العبادة. قال رحمه الله تعالى: [والناس متفاوتون في هذه الأرواح: فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانيا، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضيا بهيميا].

صفات النفس

صفات النفس قال رحمه الله تعالى: [وقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس: مطمئنة، ولوامة، وأمَّارة. قالوا: وإن منهم من تغلب عليه هذه، ومنهم من تغلب عليه هذه، كما قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27]، {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2]، {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53]. والتحقيق: أنها نفس واحدة لها صفات، فهي أمارة بالسوء، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة، تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها، وتلوم بين الفعل والترك، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن)، مع قوله: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الحديث].

الخلاف في موت الروح

الخلاف في موت الروح قال رحمه الله تعالى: [واختلف الناس: هل تموت الروح أم لا؟ فقالت طائفة: تموت؛ لأنها نفس، وكل نفس ذائقة الموت، وقد قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27]، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]. قالوا: وإذا كانت الملائكة تموت؛ فالنفوس البشرية أولى بالموت. وقال آخرون: لا تموت الأرواح؛ فإنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان. قالوا: وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها. والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية؛ فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى]. وعموم النصوص يدل على أن المقصود بتوفي الأرواح أو توفي الأنفس هو خروجها من الأجساد، والنفس تطلق ويراد بها الجسد، ولا شك أن الأجساد تموت وتضمحل، يعني: تفنى، وأما الأرواح فإن التوفي والموت لا يعني أنها تنعدم، إنما تخرج من الجسد، وإذا خرجت من الجسد فقد ورد في النصوص أن أرواح المؤمنين -أسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم- ترتفع وتصعد إلى السماء، وأما أرواح الكفار -نسأل الله العافية- فتبقى في أسفل سافلين، وتوصد أمامها أبواب السماء. فإذا قصد بموت الروح التحول عن الجسد، بحيث تنفصل الروح عن الجسد؛ فهذا صحيح، وإن قصد بالفناء والموت ما يقصده كثير من الذين يتفلسفون ولا دليل عندهم على أنها تنعدم، فالصواب خلافه، وهو أن النفس أو الروح لا تنعدم، والله أعلم. قال رحمه الله تعالى: [وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56]، وتلك الموتة هي مفارقة الأرواح للأجساد. وأما قول أهل النار: {رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر:11]، وقوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة:28]؛ فالمراد أنهم كانوا أمواتا وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم، ثم أحياهم بعد ذلك، ثم أماتهم، ثم يحييهم يوم النشور، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة، وإلا كانت ثلاث موتات، وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها، فإن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء وأشرقت الأرض بنوره، وليس ذلك بموت، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى. وكذلك صعق موسى عليه السلام لم يكن موتا، والذي يدل عليه أن نفخة الصعق -والله أعلم- موت كل من لم يذق الموت قبلها من الخلائق، وأما من ذاق الموت أو لم يكتب عليه الموت من الحور والولدان وغيرهم، فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية، والله أعلم].

الأسئلة

الأسئلة

حال مرتكبي الكبائر عند الموت فيما يخص مناداة النفس المتوفاة

حال مرتكبي الكبائر عند الموت فيما يخص مناداة النفس المتوفاة Q الناس عند الموت صنفان: صنف يقال لهم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27]، وصنف آخر يقال لهم: يا أيتها النفس الخبيثة، فماذا يقال للمسلمين العصاة ممن ارتكبوا بعض الكبائر وما زالوا على الإسلام؟ A مرتكب الكبيرة المسلم إذا مات على كبيرته فظواهر النصوص تدل على أنه تخاطب نفسه خطاب النفس الخبثة. ولو رجعنا إلى سياق الحديث الذي ورد فيه النفس الخبيثة؛ فسنجد أنه يشمل الكافر والمنافق والعاصي في بعض الأحوال، وليس في كل الأحوال، فليس عندنا يقين على أن كل العصاة الذين يموتون على المعصية يخاطبون بهذا الخطاب، لكن هناك دلائل تدل على أن بعض أصحاب الكبائر الشنيعة إذا ماتوا على كبائرهم تخاطب نفوسهم بخطاب النفوس الخبيثة، لكن ذلك -والله أعلم- يكون من باب الجزاء المقدم، أو العذاب المقدم، الذي يشبه عذاب القبر؛ لأن بعض العصاة يعذبون عند خروج الروح، ويعذبون في القبر، لكنهم عند الحساب تحت مشيئة الله، قد يغفر الله لهم ويدخلون الجنة، ويكون عذابهم عند الموت -بأن يقال: يا أيتها النفس الخبيثة- وعذابهم في القبر بمثابة التكفير لذنوبهم، هذا ظاهر النصوص والله أعلم.

المفاضلة بين طلب العلم والدعوة إلى الله تعالى

المفاضلة بين طلب العلم والدعوة إلى الله تعالى Q أيهما أفضل: طلب العلم والانصراف إليه بالكلية، أم الدعوة إلى الله عز وجل وصرف الوقت في ذلك، أم الأفضل الجمع بين الأمرين؟ A الصواب أن ينظر في حال الشخص، فإن كان من ذوي الذكاء والفطنة والقدرة على الاستنباط فإنه يجعل وقته لطلب العلم، ومن كان دون ذلك فإنه ينصرف إلى الدعوة والعبادة مع أخذ القدر الكافي من العلم الضروري الذي يحتاجه، وكل ميسر لما خلق له. وهنا أنبه على أن الناس الآن عندهم نوع من الخلط في التصورات يحتاج إلى التنبيه عليه، ومن ذلك فهم الناس للدعوة، فهذه مسألة ينبغي أن يعنى بها طلاب العلم. فالمفهوم السائد عند شبابنا للدعوة أنها ممارسة العمل الدعوي العملي فقط، وعلى هذا فإنهم لا يعتبرون طالب العلم المتمسك الذي يعكف على طلب العلم الشرعي، ويعمل بشعائر الدين، ويستقيم في بيته وفي أهله، لا يعتبرونه داعية، وهذا خطأ فادح. وأنا أعتبر أعظم نموذج للدعوة أن يكون الشاب مكباً على العلم الشرعي، وأن يكون عاملاً بما يعمل، سلوكه على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وملازم للعلماء وطلاب العلم، وأن يكون قدوة فيما يعمل وما يأتي وما يظهر به أمام الناس، وأن يحرص على شعائر الدين الظاهرة، فهذا عندي أكبر داعية، والنصوص على هذا ظاهرة من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وسلوك الصحابة والتابعين. وكون المسلمين يحتاجون إلى بعض العمل في الدعوة وفي أعمال البر أمر معلوم، لكن لا يعني أن الدعوة تحصر على أعمال البر وعلى الحركة والنشاط، كما هو مفهوم كثير من شباب المسلمين في العالم كله الآن. فكوننا نتحرك بما نستطيع هذا لا بأس به، لكن أن نحصر الدعوة على العمل النشط فلا، بل هذا وجه من وجوه الدعوة. وأفضل داعية هو طالب العلم المستمسك الذي يكون قدوة للناس في قوله وعمله وسلوكه، هذا هو أكبر داعية. والداعية النشط في الدرجة الثانية بعده، أعني النشط في حركته وعمله؛ لأن طالب العلم الذي يكب على العلم هو الذي يشق طريقه إلى الرسوخ في العلم، والذي يكون من أهل الذكر، ويكون مرجع الأمة في الفتوى، ومرجع الأمة في الرأي، ومرجع الأمة في الأنموذج الذي يحتاجه الناس. ومع ذلك ففي كل الخير، ولا يعني ذلك أنا نشطح ونقول: الدعوة هي هذا العمل فقط، وإنما أقول: هذا أفضل أنموذج للداعية، ومع ذلك فإن الدعوة يدخل فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدخل فيها أعمال البر، وهذا من أعظم أبواب الدعوة، والمسلمون لو أنهم حصروا الدعوة في معنى واحد لقصروا، وربما أثموا إثماً عظيماً؛ فلا بد من التوازن. فمن مفهوم الدعوة الضروري الذي يجب أن يلقنه شبابنا اليوم هو ما ذكرته من أن يكون طالب العلم أنموذجاً وقدوة لغيره في علمه وسلوكه، وسيكون أكبر داعية بإذن الله ولو لم يتحرك الحركة التي يفهمها الناس. ولذلك يجب أن يلتزم الداعية بالنهج السليم وقواعد الشرع، وسمت أهل العلم وهديهم، والبعد عن الأمور التي لا تليق بالدعاة مما يثير الفتن أو يوقع الأمة في الحرج، أو نحو ذلك مما يسلكه بعض الناس هداهم الله من باب الاجتهاد. فعلى هذا لا بد من تصحيح المفهوم حول الدعوة عند الناس، وإن كنا نجد أن مشايخنا -حفظهم الله- يمثلون النموذج الأمثل للدعاة، وهذا خير قد تقوم به الحجة، ويقوم به البيان، كما أنهم أيضاً يوضحون هذه الأمور، يبينون أن الدعوة ليس المقصود بها فقط ما يفهمه الناس. وقد فصل الناس بين الداعية والعالم، أو بين الداعية وطالب علم، فيقولون: هذا داعية، وهذا طالب علم، والحق أن طالب العلم هو الداعية، بل إذا لم يكن طالب العلم هو مرجع الداعية وهو قدوته؛ فإن هذا يعني الإنفصام النكد الذي نرى ظواهره الآن. وعلى هذا فلا بد من تطمين كثير من الشباب الذين نجد عندهم شيئاً من عرض هذه القضايا، خاصة الشباب الصغار في المرحلة الثانوية أو بعض مراحل الجامعة، حيث تجد عند الشاب نوعاً من التوتر؛ لأنه يظن أنه إذا انكب على العمل وانقطع إلى العبادة خرج من كونه داعية فأثم، فتجد عنده شيئاً من التوتر وضيق النفس وضيق الصدر والتوفز والتحفز، يريد أن يخرج من وضعه الذي هو فيه؛ لأنه شعر أنه أنه قاعد حينما بدأ يكب على دروس المشايخ، وبدأ ينصرف إلى شئون أهل بيته، وبدأ يجالس الناس، ويجالس من ليس عندهم حركة ولا نشاط، يظن أنه ترك الدعوة وأنه بذلك وقع في ذنب عظيم، وربما حبط عمله، وهذا خطأ أقول: هذا الذي لاحظته في بعض الشباب، يقول أحدهم: أنا أحتاج إلى علاج. فما الذي دهاك؟ يقول: كنت فيما مضى أتحرك وأمشي وأذهب في رحلات، والآن شعرت أنه ليس عندي إلا الذهاب إلى دروس المشايخ! فنقول: هذا خير كثير، فقد كنت تسعى في الزمن السابق بدون علم. والدعوة الصحيحة أولاً تبدأ بالعلم، وأغلب الناس مداركهم وسط، فيجب على من كان كذلك أن يتعلم، ولو تجاوز الثلاثين والأربعين، ثم بعد ذلك يذهب للدعوة، فالأنبياء دعوا في سن كبير وما ضرهم ذلك، وما صارت شخصياتهم -كما يقال- مضطربة أو غير مرباة. بل إني أقول: إن إغراق الشباب في سن المراهقة وما بعدها بقليل في العمل الدعوي الحرك

بيان ما خالف فيه أهل البدع من العلو الثابت لله تعالى

بيان ما خالف فيه أهل البدع من العلو الثابت لله تعالى Q من المعلوم أن الله تعالى له العلو المطلق، فله سبحانه علو الذات وعلو القدر وعلو القهر، فأي هذه الأنواع خالف فيه أهل البدع من أهل الكلام؟ A هو علو الذات، فهم حصروا العلو في علو القدر أو الخيرية المطلقة، أو ما يسمونه العلو المعنوي، وبعضهم قد يقر بعلو القهر وبعضهم لا يقر به، خاصة غلاة المتكلمين، لكن محل النزاع هو علو الذات. ولذلك أنكروا الفوقية لله عز وجل، وأنكروا الاستواء، وأنكروا الأفعال التي تتفرع عن هذه المسألة، مثل النزول والمجيء ونحو ذلك.

شرح العقيدة الطحاوية [85]

شرح العقيدة الطحاوية [85] نعيم القبر وعذابه حق، وكذا سؤال منكر ونكير في القبر عن ربه ودينه ونبيه كما جاءت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الكلام في كيفيته فليس للعقل فيه مجال لكونه لا عهد له به في الحياة الدنيا، ولكن نؤمن إجمالاً كما جاءت النصوص بأحوال حياة البرزخ وما يجري فيها، وإن كانت بعض الجزئيات جرى فيها خلاف بين السلف.

عقيدة أهل السنة في إثبات عذاب القبر

عقيدة أهل السنة في إثبات عذاب القبر قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم، والقبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران): قال تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45 - 46]، وقال تعالى: {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ * يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنصَرُونَ * وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الطور:45 - 47]. وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر؛ لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا، أو المراد أعم من ذلك].

ذكر حديث البراء بن عازب في عذاب القبر ونعيمه

ذكر حديث البراء بن عازب في عذاب القبر ونعيمه قال رحمه الله تعالى: [وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله كأن على رءوسنا الطير، وهو يلحد له، فقال: أعوذ بالله من عذاب القبر ثلاث مرات، ثم قال: إن المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه الملائكة، كأن على وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة! أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون بها -يعني: على ملأ من الملائكة- إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟! فيقولون: فلان ابن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض؛ فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء أن: صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، قال: ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؛ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: يا رب! أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي، قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة! أخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟! فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحا، ثم قرأ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31]. فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه. لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه. لا أدري، فينادي مناد من السماء أن: كذب، فافرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت؛ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب! لا تقم الساعة) رواه الإمام أحمد وأبو داود، وروى النسائي وابن ماجه أوله، ورواه الحاكم وأبو عوانة الإسفرائيني في صحيحيهما وابن حبان].

ذكر أحاديث أخرى في إثبات عذاب القبر

ذكر أحاديث أخرى في إثبات عذاب القبر قال رحمه الله تعالى: [وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث، وله شواهد من الصحيح، وروى البخاري في الصحيح عن سعيد عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقول له: أنظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدا من الجنة، فيراهما جميعاً)، قال قتادة: وروي لنا أنه يفسح له في قبره، وذكر الحديث. وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: (إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة، فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين وقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا). وفي صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قبر أحدكم -أو الإنسان- أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما: المنكر وللآخر: النكير) وذكر الحديث. وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا تتكلم في كيفيته؛ إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته لكونه لا عهد له به في هذا الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول، فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا]. كون الشرع لا يأتي بما تحيله العقول صحيح، بمعنى أنه لا يمكن أن يأتي بشيء يخالف العقل السليم؛ لأن العقل السليم مفطور على الاستقامة، وعلى التوافق مع الوحي؛ لأن الوحي هو كلام الله، والعقل السليم من خلقه، ولا يمكن أن يتعارض الخلق مع الأمر، فخلق الله وأمره متوافقان، لكن العقول المشوشة أو التي اعترضتها الأهواء، أو سوء التربية أو الجهل، أو تنازعتها المذاهب وأقوال الناس؛ ربما يتخيل أصحابها تخيلاً أو توهماً يحيله العقل، لكن المقصود هنا العقل السليم المهتدي بهدي الله عز وجل، فإن هذا العقل أي السليم الذي على الفطرة السلمية لا يمكن أن يتصور من أمور الشرع ما يناقض العقل. لكن قد يأتي الشرع بما تحار فيه العقول، بمعنى أنه قد يأتي في الشرع ما لا تدركه العقول، فتحار فيه، والحيرة متوجهة إلى العقل بقدراته الناقصة، لا إلى الشرع، فحينما نقول: إن الشرع قد يأتي بما تحار فيه العقول؛ فإن الحيرة أتت من قصور العقول، لا من كون كلام الله عز وجل أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم يشتمل على المحارات في ذاته، أو على الأمور المحيرة المتشابهة، فهذا لا يمكن، لكن الحيرة تأتي من قصور العقل، والعقل مخلوق، والمخلوق محدود ويعتريه السهو والنسيان والخطأ، والفناء، والهوى، ونوازع الشيطان، وغير ذلك من الأمور التي تعتري العقل، فقد يحار في بعض الأمور التي جاء بها الشرع. وحيرته لا تعني أن الشرع اشتمل على محارات، فالشرع لا يأتي إلا بالأمر البين، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدين بالواضحة البيضاء التي ليلها كنهارها، والوضوح لا يمكن أن يكون فيه شيء من المحارات، إنما المقصود أن عقول بعض البشر قد تحار في بعض الأمور الغيبية التي جاءت في كتاب الله، أو صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أنواع تعلق الروح بالبدن

أنواع تعلق الروح بالبدن قال رحمه الله تعالى: [فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق متغايرة الأحكام: أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا. الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض. الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه. الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها إليه التفات ألبتة، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة. الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه؛ إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتاً ولا نوماً ولا فساداً، فالنوم أخو الموت، فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة. وليس السؤال في القبر للروح وحدها كما قال ابن حزم وغيره، وأفسد منه قول من قال: إنه للبدن بلا روح! والأحاديث الصحيحة ترد القولين، وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعاً باتفاق أهل السنة والجماعة، تنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به. واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه قبر أو لم يقبر، أكلته السباع أو احترق حتى صار رماداً ونسف في الهواء، أو صلب، أو غرق في البحر وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور. وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه ونحو ذلك فيجب أن يفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله! بل سوء الفهم عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد، والله المستعان].

أحوال الإنسان في قبره

أحوال الإنسان في قبره هذا الكلام متعلق بعذاب القبر ونعيمه، والإنسان تثبت له في قبره سبعة أحوال: الحالة الأولى: أنه تعاد روحه إلى جسده في الحياة البرزخية، والحياة البرزخية هي الواسطة بين حياتين؛ إذ البرزخ هو الفاصل بين شيئين، فالطريق الفاصل بين أرضين يسمى برزخاً، والطريق بين البحرين يسمى برزخاً، فالبرزخ معناها حياة بين حياتين، بين حياة الدنيا وبين الحياة الآخرة. فأول أحوال الإنسان أنه تعاد روحه في جسده، والثانية يأتيه ملكان، ويحصل له من الملكين ما يحصل، ومن ذلك أنهما يحاسبانه ويسألانه، وليس المراد الحساب التفصيلي الوارد بعد الحشر والبعث، إنما هو حساب محدود بهذه الأسئلة الثلاثة. والملكان قيل: إنهما المنكر والنكير، وبعض أهل العلم يصحح حديث منكر ونكير الذي فيه اسماهما. والحالة الثالثة: أنه يسأل عن ثلاثة أمور: عن ربه، وعن دينه، وعن نبيه صلى الله عليه وسلم. والحالة الرابعة: أنه يفرش له إذا كان مؤمناً من الجنة، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً من أهل الجنة. وإذا كان من أهل الجنة فله حالة خامسة، وهي أن يفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وريحها. والحالة السادسة: أنه إذا كان أيضاً مؤمنا يفسح له في قبره مد بصره، وهذه مسألة غيبية أيضا أشكلت على بعض العقلانيين الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوسات، فزعموا أن القبور المتقاربة لا يتأتى أن يمد لكل واحد من المؤمنين فيها مد بصره؛ لأنهم قاسوا أحوال البرزخ بأحوال الدنيا، وهو قياس فاسد؛ فإن ذلك أمر راجع إلى قدرة الله عز وجل، وراجع إلى الحياة البرزخية الغيبية بكل أجزائها، ولا تحكمها مقاييس الدنيا، لا بمسافات ولا بزمان ولا بمكان، إنما هي راجعة إلى قدرة الله عز وجل، وهذا أمر لا حد له، والخبر لا بد أن يصدق. والحالة السابعة: أنه يأتيه رجل حسن الوجه إذا كان مؤمناً، وتنعكس الأحوال الأربعة الأخيرة بالنسبة للكافر، نسأل الله العافية. فهذه أحوال سبعة ثبتت بالنصوص: إعادة الروح، وسؤال الملكين، وما يفرش له، وما يفتح له من باب، وكذلك أنه يمد له مد بصره، أو يضيق عليه إذا كان كافراً، نسأل الله السلامة، وأنه يأتيه رجل فإن كان مؤمناً كان حسن الوجه يؤنسه ويسعد به، وإن كان عمله سيئاً فيكون بمثابة الرجل القبيح الوجه، كما هو وارد في النصوص. هذه الأحوال ثبتت فيها النصوص، ولم يجادل فيها أهل العلم، وإن كان بعض أهل العلم ناقش في بعض المسائل، لكن الغالب أن من ناقشوا هم من أهل الكلام، وليسوا من أهل السنة، وأن من روي عنهم هذا الشيء من بعض أهل السنة ربما لم يبلغهم الحديث، مع أني لا أعرف أن هذا من آراء أهل السنة، إنما هو من آراء المتكلمين، أي إنكار هذه الامور جميعاً أو بعض هذه الأمور، أو بعض هذه الاقوال. وأما تسمية الملكين بمنكر ونكير فهذه مسألة راجعة إلى ثبوت الحديث الذي فيه التسمية، لكن لا أثر لها على ثبوت ورود خبر الملكين، فإن هذا أمر آخر، وقد خلط بعض المفسرين في هذه المسألة، فخلط بين إنكار اسم منكر ونكير، أو دعوى أنه لم يرد إلا في أحاديث ضعيفة، وبين مسألة ثبوت ورود الملكين، فالملكان لا شك أنهما يأتيان الإنسان في قبره، لكن تسمية الملكين بمنكر ونكير هذه راجعة -كما قلت- إلى صحة الحديث، والظاهر أن الحديث صحيح، والله أعلم.

اختلاف الأحكام المتعلقة بالأبدان والأرواح باختلاف الدور

اختلاف الأحكام المتعلقة بالأبدان والأرواح باختلاف الدور قال رحمه الله تعالى: [فالحاصل أن الدور ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وقد جعل الله لكل دار أحكاماً تخصها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان والأرواح تبع لها، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبع لها، فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعاً، فإذا تأملت هذا المعنى حق التأمل ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، ويجب أن يعلم أن النار التي في القبر والنعيم ليس من جنس نار الدنيا ولا نعيمها، وإن كان الله تعالى يحمي عليه التراب والحجارة التي فوقه وتحته حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بها، بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفن أحدهما إلى جنب صاحبه وهذا في حفرة من النار وهذا في روضة من رياض الجنة، لا يصل من هذا إلى جاره شيء من حر ناره ولا من هذا إلى جاره شيء من نعيمه، وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب، ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علماً، وقد أرانا الله في هذه الدار من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير، وإذا شاء الله أن يطلع على ذلك بعض عباده أطلعه وغيبه عن غيره، ولو أطلع الله على ذلك العباد كلهم لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (لولا ألا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع)، ولمَّا كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم سمعته وأدركته].

الاختلاف في مسائل من أحوال القبور

الاختلاف في مسائل من أحوال القبور قال رحمه الله تعالى: [وللناس في سؤال منكر ونكير: هل هو خاص بهذه الأمة أم لا؟ ثلاثة أقوال: الثالث التوقف، وهو قول جماعة منهم أبو عمر بن عبد البر، فقال: وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن هذه الأمة تبتلى في قبورها)، منهم من يرويه (تُسأل)، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة قد خصت بذلك وهذا أمر لا يقطع عليه، ويظهر عدم الاختصاص، والله أعلم، وكذلك اختلف في سؤال الأطفال أيضاً. وهل يدوم عذاب القبر أو ينقطع؟ جوابه أنه نوعان: منه ما هو دائم، كما قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]]. أي: منه قسم دائم إلى قيام الساعة، فالدوام في حال الحياة الدنيا. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك في حديث البراء بن عازب في قصة الكافر: (ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة) رواه الإمام أحمد في بعض طرقه. والنوع الثاني: أنه مدة ثم ينقطع، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم، فيعذب بحسب جرمه، ثم يخفف عنه كما تقدم ذكره في الممحصات العشرة].

الاختلاف في مستقر الأرواح بعد الموت إلى قيام الساعة

الاختلاف في مستقر الأرواح بعد الموت إلى قيام الساعة قال رحمه الله تعالى: [وقد اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة، فقيل: أرواح المؤمنين في الجنة، وأرواح الكافرين في النار. وقيل: إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة على بابها يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها. وقيل: على أفنية قبورهم. وقال مالك: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت. وقالت طائفة: بل أرواح المؤمنين عند الله عز وجل، ولم يزيدوا على ذلك. وقيل: إن أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت. وقال كعب: أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة، وأرواح الكافرين في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس. وقيل: أرواح المؤمنين ببئر زمزم، وأرواح الكافرين ببئر برهوت. وقيل: أرواح المؤمنين عن يمين آدم، وأرواح الكفار عن شماله. وقال ابن حزم وغيره: مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها. وقال أبو عمر بن عبد البر: أرواح الشهداء في الجنة وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم. وعن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش تغدو وتروح إلى رياض الجنة، تأتي ربها كل يوم تسلم عليه. وقالت فرقة: مستقرها العدم المحض، وهذا قول من يقول: إن النفس عرض من أعراض البدن كحياته وإدراكه! وقولهم مخالف للكتاب والسنة. وقالت فرقة: مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح! وهذا قول التناسخية منكري المعاد، وهو قول خارج عن أهل الإسلام كلهم، ويضيق هذا المختصر عن بسط أدلة هذه الأقوال والكلام عليها. ويتلخص من أدلتها: أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت، فمنها: أرواح في أعلى عليين في الملأ الأعلى، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وهم متفاوتون في منازلهم، ومنها أرواح في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت، وهي أرواح بعض الشهداء لا كلهم، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه، كما في المسند عن محمد عبد الله بن جحش: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! مالي إن قتلت في سبيل الله؟ قال: الجنة. فلما ولى قال: إلا الدين، سارني به جبرائيل آنفا). ومن الأرواح من يكون محبوساً على باب الجنة، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة)، ومنهم من يكون محبوساً في قبره، ومنهم من يكون محبوساً في الأرض، ومنها أرواح تكون في تنور الزناة والزواني، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة، كل ذلك تشهد له السنة، والله أعلم. وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره في قوله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، وقوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]؛ فهي أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما أصيب إخوانكم -يعني يوم أحد - جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب مذللة في ظل العرش) الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود، وبمعناه في حديث ابن مسعود رواه مسلم. فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه أعاضهم منها في البرزخ أبدانا خيرا منها تكون فيها إلى يوم القيامة، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها، ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير أو كطير، ونسمة الشهيد في جوف طير، وتأمل لفظ الحديثين، ففي الموطأ أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه). فقوله: (نسمة المؤمن) تعم الشهيد وغيره، ثم خص الشهيد بأن قال: (هي في جوف طير خضر). ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الاعتبار، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم، وإن كان الميت على فراشه أعلى درجة من كثير منهم، فله نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه، والله أعلم. وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء كما روي في السنن، وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة، والله أعلم.

الأسئلة

الأسئلة

بيان ما لا يغفر من نوعي الشرك يوم القيامة

بيان ما لا يغفر من نوعي الشرك يوم القيامة Q هل الشرك الأصغر داخل في عموم قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:48]. A الشرك الأصغر داخل في عموم المعاصي والذنوب، ولا يدخل في الشرك من حيث الحكم، والشرك الأصغر يشمل الكبائر والبدع وما دون ذلك، فالبدع المغلظة والكبائر المغلظة التي لا تخرج من الملة كثير منها يدخل في الشرك الأصغر. بل ما هو دون ذلك من بعض البدع يدخل في الشرك الأصغر، فعلى هذا فالمقصود بالشرك الذي لا يغفر هو الشرك الأكبر فقط.

مدى صحة اعتبار منكر ونكير وصفا لعدد من الملائكة

مدى صحة اعتبار منكر ونكير وصفاً لعدد من الملائكة Q من خلال ما نشاهد من كثرة الموتى في وقت واحد قد نعلم أن منكراً ونكيراً وصف لمن يقوم بهذا العمل من الملائكة، مثل رقيب وعتيد، فهل هذا صحيح؟ A هذا السؤال فيه خطأ في التصور، ذلك أن عمل الملائكة لا يقاس بعمل البشر في المحدودية وفي الكيفية، فلو مات مائة ألف في لحظة واحدة ودفنوا في لحظات متقاربة فإن سؤال منكر ونكير يشملهم. وكيفية ذلك الله أعلم بها، وليس هناك داع لنقيسها بمقاييس الدنيا، وأحوال البشر في الوقت والمكان والزمان. فهذا القول لا يقال على سبيل تقرير أن منكراً ونكيراً وصف. والحقيقة أنه لا يلزم أن يكون وصفاً، فربما يكون اسماً، وربما يكون الاسم مشتقاً من الوصف، والله أعلم.

شرح العقيدة الطحاوية [86]

شرح العقيدة الطحاوية [86] من الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالبعث والجزاء، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب والصراط والميزان، وكلها ثابتة في نصوص الوحيين، وكل الأمم مقرة بالبعث الأخروي غير طوائف قليلة ورد في القرآن الكريم محاججتهم والرد عليهم.

عقيدة الإيمان بالبعث وما يكون يوم القيامة

عقيدة الإيمان بالبعث وما يكون يوم القيامة قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بالبعث، وجزاء الأعمال يوم القيامة، والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب، والصراط والميزان): الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة السليمة، فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز وأقام الدليل عليه ورد على منكريه في غالب سور القرآن]. مسألة البعث من المسائل التي تكلمت فيها جميع الأمم، الأمم الكتابية والأمم غير الكتابية، وجميع الديانات والمذاهب الكبرى تتكلم عن البعث، وهم بين منكرين وهم القلة، وبين من يقرون بمبدأ البعث لكنهم يختلفون، فمنهم من يقر بمبدأ البعث على نحو تراثي، وهم أكثر الديانات، ما عدا الإسلام، فالإسلام لا شك أنه الدين الحق الذي أبان الله به الحق، فإن الإيمان بالبعث فيه، ومسائل البعث جملة وتفصيلاً جاءت في نصوص من الكتاب والسنة بينة، لا لبس فيها ولا غموض. والمنكرون للبعث تماماً قلة، وإن كان ورد ذكرهم في القرآن الكريم؛ لأن لهم وجوداً بين العرب وبين نُزاَّع الأمم، ويوجد ذلك في مذاهب الفلاسفة والدهريين وغيرهم. وأما أغلب الذين يؤمنون بالبعث فقولهم كقول المنكرين، بمعنى أن مؤدى قولهم هو إنكار البعث، حتى أهل الكتاب اليهود والنصارى الآن، فإيمانهم بالبعث شبيه بإيمان الأمم غير الكتابية، ومؤدى رأي غالب الأمم في البعث إلى إنكاره؛ لأنهم يقولون: إن البعث بعث الأرواح فقط، فأغلب الديانات الشرقية، والديانات اليونانية، والديانات القديمة، وكذلك الفلاسفة يتكلمون عن البعث؛ لأنه جاء عن الأنبياء، لكنهم يفسرونه بتفسير هو في الحقيقة إنكار للبعث. فبعضهم يرون أن البعث ما هو إلا نوع من التناسخ للأرواح، أي: أن أرواح البشر الموجودة الآن تنتقل إلى أجساد أخرى بعد الموت، وهذا هو البعث عندهم. وبعضهم يفسر البعث بأنه حلقة من حلقات الدنيا تعتبر الحلقة الأخيرة، وهذا موجود عند المجوس وعند بعض الصابئة وعند الرافضة، وعند الباطنية وبعض غلاة الصوفية. فيرون أن البعث ما هو إلا حياة أخرى لاحقة بالحياة الدنيا تعتبر انتصاراً لمن يقدسونه، وانتصاراً لهم على الآخرين. فكأن البعث عندهم حلقة من حلقات هذه الحياة الدنيا تعتبر هي الحلقة الأخيرة، يسعد فيها السعداء ويشقى فيها الأشقياء، على نحو خرافي عندهم. وهذا هو ما عليه أكثر الديانات الوضعية، فهو عند الصابئة وعند المجوس بمختلف دياناتهم، وعند أكثر الديانات الهندية، ويوجد عند بعض الرافضة، وعند غلاة الصوفية، وغلاة الفلاسفة وغيرهم، وأكثر الباطنية. لكن بعضهم يقول: إن هذه الحلقة تتكرر، بمعنى أن البعث يتكرر على مدار سنين معينة، يعدونها بآلاف السنين. فبعضهم يقول: ستة آلاف سنة، وبعضهم يقول: في كل ست وثلاثين ألف سنة، وبعضهم يقول: في كل ثلاثمائة وستين ألف سنة إلى آخره. فليس البعث عندهم بمعنى تبدل الأرض بغير الأرض، وأن الله عز وجل يميت جميع الناس ثم يحييهم مرة أخرى، ويندر أن يوجد هذا التصور عندهم، حتى عند أصحاب الديانات الكتابية، فبعضهم يرى البعث تناسخاً، وبعضهم يرى البعث حلقات، وهو أيضاً نوع من التناسخ، وبعضهم يرى أن البعث هو الحلقة الأخيرة من هذه الحياة. فالإيمان بالبعث حتى عند الأمم الكتابية لا يخلو من هذه التصورات الفاسدة، فلا يوجد من يؤمن بالبعث على نحو صحيح سليم إلا المسلمون. وإن وجد من يؤمن به كذلك فعددهم قليل، وليس هو مذهباً سائداً عند غير المسلمين، ولا حتى عند أهل الكتاب. ولا شك أن العقول السليمة تدرك ضرورة الإيمان بالبعث، فبعض العقلاء حتى وإن لم يكونوا مسلمين عندهم هذا الشعور، وهو شعور فطري، غريزي؛ لأننا إذا قلنا: إن وجود البشر في هذه الدنيا جاء عن إبداع وعن حكمة ولا شك في ذلك، فنحن نرى الناس يموتون والأمم تنقضي وتفنى، وبينها تفاوت في الأقدار وفي الأعمار وفي الرزق وفي الحظوظ، وهناك الظالم والمظلوم، وفي هذه الدنيا من استكمل نصيبه وحظوظه، وفيها من لم يستكمل، فيموتون على هذا الشكل بتفاوتهم، مما يوجب عند العاقل ضرورة أن يكون هناك حلقة أخرى تكون فيها المساواة، ويكون فيها العدل المطلق، وإن كنا نعرف أن الله عز وجل عدل بين الخلق في الدنيا والآخرة، لكن هناك أمور غيبية لا ندركها. فالظاهر من كثير الناس الذين ليس عندهم إدراك لحكمة الله عز وجل أو قناعة بأحكام الله على التفصيل أنهم يشعرون بالضرورة وبالغريزة من أنه لا بد من استكمال حلقات الدنيا، أو حظوظ البشر والأمم على نحو ما، فيوجد عندهم الشعور بضرورة البعث، فهذا شعور عام هو أشبه بالدلالة العقلية المجملة، لكن مع ذلك هذه الدلالة لا تعطي يقيناً بالبعث، ولا تعطي أيضاً خبراً عن تفاصيل البعث، وما بعد البعث؛ لأن أحوال القيامة والبعث وما يحدث فيها من أهوال، ثم بعد ذلك انقسام الناس إلى شقي وسعيد، وإلى منعم ومعذب، هذا أمر لا يدرك على التفصيل، حتى وإن أقرت بضرورته بعض العقول السليمة، لكن على التفصيل أنى للإنسان أن يدرك هذه الأمور الغيبية على التفصيل؟! فكان لا بد من الإيمان بالغيب والإيمان بالبعث على نحو ما ج

اتفاق الأنبياء على الإيمان بالآخرة وموقف الفلاسفة من الأنبياء والبعث

اتفاق الأنبياء على الإيمان بالآخرة وموقف الفلاسفة من الأنبياء والبعث قال رحمه الله تعالى: [وذلك أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالآخرة، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم، وهو فطري، كلهم يقر بالرب إلا من عاند كفرعون، بخلاف الإيمان باليوم الآخر، فإن منكريه كثيرون، ومحمد صلى الله عليه وسلم لما كان خاتم الأنبياء، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين، وكان هو الحاشر المقفي؛ بيّن تفصيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء؛ ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري]. يقصد بالخطاب الجمهوري أن نظرة الفلاسفة للأنبياء نظرة خاصة؛ لأن الفلاسفة ليسوا من أتباع الأنبياء، فقد اتفق المحققون من أئمة السلف وغيرهم أن الفلسفة لم تأت إلا بمخالفة ما جاء به الأنبياء، الفلسفة بمعناها الاصطلاحي عند السلف، لا أقصد الفلسفة في العصر الحديث؛ لأن الناس توسعوا في مفهوم الفلسفة في هذا العصر، لكن الفلاسفة بمفهوم العلماء في القرون الأولى إلى وقت قريب هم من لم يؤمن بالنبوات، أو إيمانهم بالنبوات منحرف، فلا يمكن أن يكون فيلسوفاً ومؤمناً بالنبيين على وجه الحقيقة، قد يكون هناك إيمان إجمالي؛ فلذلك مبدأ الفلاسفة يقوم على اعتبار أن الأنبياء ما هم إلا أناس عباقرة، عندهم قدرات ومواهب عالية جبارة، استطاعوا أن يصنعوا للناس أشياء وتعاليم يقودون بها الأمم، وبمواهبهم العالية استطاعوا أن يجذبوا إليهم العوام، فخاطبوا الجمهور بخطاب عقلي نابع عن عبقرية ومواهب عالية. وبعض الفلاسفة قد يفسر بعض أمور النبوة بشيء من التفسيرات الغيبية الوهمية لا الصحيحة، فيقول: نظراً للعقلية الجبارة والمواهب الجبارة عند النبي فقد تتصل به قوة خارجية وأرواح خارجية فتفيض عليه من فتوحاتها، فيقول بأقوال هي أشبه بالهستيريا. هذه هي مذاهب الفلاسفة إلى يومنا هذا، وكل من أعرفهم من الفلاسفة الإسلاميين هذا كلامهم في النبوات، فالفلاسفة يقدرون الأنبياء ويحترمونهم، لكن على أنهم أناس عباقرة، لا أن الله أوحى إليهم، وإن فسروا الوحي فسروه بنحو خرافي. إذاً معنى قولهم: إن خطاب الأنبياء خطاب جمهوري، أي: أن الأنبياء بعبقريتهم ومواهبهم العالية خاطبوا الجمهور بخطاب عقلي، فصار لهم أتباع، وصارت لهم ديانات صنعوها من عند أنفسهم، ولذلك كان أمثال العقاد يقول: ما النبوة قبل إبراهيم إلا نمط من الكهانة، وأن الأنبياء قبل إبراهيم ما هم إلا مجموعة من الكهان الذين يحترفون حرفة الكهانة أمام الأمم. وكان العقاد يفسر النبوة تفسيراً خرافياً على نحو ما يقول الغرب.

تبيين القرآن لمعاد النفس والبدن ومعرفة ذلك عند الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم السلام

تبيين القرآن لمعاد النفس والبدن ومعرفة ذلك عند الأنبياء من آدم إلى محمد عليهم السلام قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والقرآن بيّن معاد النفس عند الموت، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع، وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى، وينكرون معاد الأبدان، ويقول من يقول منهم: إنه لم يخبر به إلا محمد صلى الله عليه وسلم على طريق التخييل، وهذا كذب، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام. وقد أخبر الله بها من حين أن أهبط آدم، فقال تعالى: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} [الأعراف:24 - 25]، ولما قال إبليس اللعين: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:36 - 38]. وأما نوح عليه السلام فقال: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} [نوح:17 - 18]. وقال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82] إلى آخر القصة. وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41]. وقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]. وأما موسى عليه السلام فقال الله تعالى لما ناجاه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:15 - 16] بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد، وإنما آمن بموسى قال تعالى حكاية عنه: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:32 - 33] إلى قوله تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] إلى قوله: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]. وقال موسى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف:156]، وقد أخبر الله في قصة البقرة: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73]. وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين في آيات من القرآن، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر:71]، وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا، فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة، فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد يذكر فيها الدنيا والآخرة. وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد، فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ:3]. وقال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس:53]. وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7]. وأخبر عن اقترابها فقال: {اقْتَرَبَتْ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1]. وقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1]. {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج:1 - 2]، إلى أن قال: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6 - 7]. وذم المكذبين بالمعاد فقال: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [يونس:45]. {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُون

الأسئلة

الأسئلة

اختلاف السلف في مستقر الأرواح بعد الموت

اختلاف السلف في مستقر الأرواح بعد الموت Q كيف اختلف السلف في مستقر الأرواح بعد الموت مع أنها مسألة غيبية لا مجال للرأي فيها؟ A بعض المسائل التي اختلف فيها السلف ولم يتفقوا فيها على قول، وهي من أمور الغيب، استنتجوها أو استروحوا القول فيها من النصوص لا على سبيل الجزم، بعضهم قد ينتزع من بعض النصوص مفاهيم أو أحكاماً معينة لا يجزم بها، لكن يفهمها إما بالمفهوم وإما بظاهر النص من غير جزم، وإما بقرائن أو بسياقات وغيرها، فأغلب المختلف فيها من الأمور الغيبية عند السلف نجدها مما يتنازع فهم الناس فيها، لا على أنهم يقولون فيها بغير علم مطلقاً، إنما قد يفهم من بعض النصوص بعض الأحكام أو بعض الأشياء نظراً لاختلاف المعنى، فيكون الاختلاف؛ لأن النصوص الغيبية منها ما هو قطعي الدلالة قطعي المعنى فهذا لا خلاف فيه، ومنها ما هو ثابت في دلالته أي في نصه، لكن اختلف في معناه، فهذا اختلفوا فيه على اختلاف فهومهم في النصوص، ولذلك فإنهم يدخلونه تحت مشكل الآثار أو مشكل النصوص، أي: ما يشكل عند صاحب النظر لا في ذات النص، وهذا قليل جداً، ولا يدخل في الأصول، إنما يدخل في الفرعيات.

شرح العقيدة الطحاوية [87]

شرح العقيدة الطحاوية [87] أدلة البعث العقلية والنقلية مبثوثة في النصوص الكثيرة، وما يدعيه المنكرون من أدلة هي في حقيقتها أوهام وخيالات كاذبة وأساطير منافية للحس والعقل، كما أن جزاء الأعمال في الآخرة من ثواب أو عقاب هو مما أوضحته النصوص وبينته بجلاء، وكذلك العرض والحساب والميزان كله في آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، لا يكابر أحد في ذلك ولا يماري.

تابع عقيدة الإيمان بالبعث وما يكون يوم القيامة

تابع عقيدة الإيمان بالبعث وما يكون يوم القيامة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وللحجة تقدير آخر: وهو لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما، فإنه قادر على أن يفنيكم، ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام مع شدتها وصلابتها بالإفناء والإحالة، فما الذي يعجزه فيما دونها؟ ثم أخبر أنهم يسألون سؤالاً بقولهم: من يعيدنا إذا استحالت جسومنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله: {قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51]، فلما أخذتهم الحجة، ولزمهم حكمها، انتقلوا إلى سؤال آخر يتعللون به بعلل المنقطع، وهو قولهم: متى هو؟ فأجيبوا بقوله: {عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء:51]. ومن هذا قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]، إلى آخر السورة، فلو رام أعلم البشر وأفصحهم وأقدرهم على البيان، أن يأتي بأحسن من هذه الحجة أو بمثلها، في ألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز، ووضع الأدلة، وصحة البرهان؛ لما قدر، فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد اقتضى جواباً، فكان في قوله: (ونسي خلقه) ما وفى بالجواب، وأقام الحجة، وأزال الشبهة، ولما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها، فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79]، فاحتج بالإبداء على الإعادة، وبالنشأة الأولى على النشأة الآخرة، إذ كل عاقل يعلم علماً ضرورياً أن من قدر على هذه قدر على هذه، وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز، ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه، وعلمه بتفاصيل خلقه، أتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:79]، فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ومواده وصورته، فكذلك الثاني، فإذا كان تام العلم كامل القدرة، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة وبرهان ظاهر يتضمن جواباً عن سؤال آخر يقول: العظام صارت رميماً، وعادت طبيعتها باردة يابسة، والحياة لابد أن تكون مادتها وحاملها طبيعته حارة رطبة، بما يدل على أمر البعث، ففيه الدليل والجواب معاً، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنْ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس:80]. فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة، من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة، الذي يخرج الشيء من ضده وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها، ولا تستعصي عليه، هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه، من إحياء العظام وهي رميم]. وفي مثل هذه الحجة نجد أن الخصم لا بد أن ينقطع، يعني: إذا كان الخصم منصفاً عاقلاً يريد الحق أصلاً، أما إذا كان لجوجاً، فاللجوج ينكر البدهي، وهذه الحجة بدهية وفطرية وبرهانية وتطبيقية في وقت واحد، تجتمع فيها جميع معاني إقامة الحجة، فهي حجة شرعية وعقلية، وهي أيضاً من البدهيات، ولذلك لا يمكن لأحد من البشر مهما أوتي من قوة في الذكاء والمقدرة والوسائل العلمية أن يأتي بدليل على البعث مثل هذا الدليل، أو يأتي بحجة على البعث مثل هذه الحجة، ولذلك لما تكلف المتكلمون بعد عصر الصحابة الذين بزعمهم أرادوا أن ينصروا الحق بالقواعد العصرية، لما تكلفوا الحجج العقلية لم يأتوا بمثل هذا البرهان، بل في الغالب أنهم سلكوا مسالك وعرة ملبسة عسرة الفهم، وعسرة الألفاظ لبيان أو إقامة الحجة على البعث، ثم هم لم يصلوا إلى مثل هذه النتيجة ولا إلى قريب منها، وكثير من المتكلمين الذين زعموا أنهم أتوا بالأدلة العقلية على البعث ذهل عن هذا الدليل، ولو استعمله واكتفى به لاستراح من تسويد المجلدات العظيمة بلا طائل، وفي النهاية ما وصلوا إلا إلى التشكيك أحياناً أو إلى إنكار بعث الأجساد، أو إلى أدلة واهية لا تقوم بها حجة ولا تستبين للمخاصم أو المجادل، سواء كان المجادل عنيداً أو كان ممن يريد الحق، لكن لم يهتد إليه. إذاً: هذا البرهان على البعث يكفي عن كل الأدلة والوسائل العلمية التي يسلكها الناس، وقد اجتمعت في هذه الأدلة ما يدل على البعث، فلذلك ينبغي للمسلم دائماً في أي قضية يريد أن يستدل فيها، ينبغي له أن يتحرى أدلة القرآن، وألا يحيد عن الدلالة القرآنية، إلا بمزيد من الشرح لبعض المعاني التي قد يجهلها الخصم في معاني الألفاظ، أو ترتيب النتائج على المقدمات التي وردت في القرآن، فكل أمر من الأمور الشرعية والعقلية سواء في عالم الشهادة أو في عالم الغيب له دليل في القرآن، فلا يمكن للناس أن يأتوا بأفضل منه، وهو يناسب جميع البشر بجميع لغاتهم، فالأدلة والبراهين القرآنية التي وردت في الاستدلال على قضايا الدين، سواء في باب الإيمان بالله عز وجل ووحدانيته أو بالبعث أو بسائر أصول الدين، قد اشتملت على كل عناصر الإقناع لأي صنف من البشر، على اختلاف لغاتهم، لكن الذين يفقهون العربية لا شك أنهم سيعرفون الدليل مباشرة من القرآن، و

الاستدلال بالشيء الأجل الأعظم على الأيسر الأصغر في إثبات البعث والمعاد

الاستدلال بالشيء الأجلِّ الأعظم على الأيسر الأصغر في إثبات البعث والمعاد قال رحمه الله تعالى: [ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجلِّ الأعظم على الأيسر الأصغر، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل، فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد اقتداراً، فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس:81]، فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض على جلالتهما وعظم شأنهما وكبر أجسامهما وسعتهما وعجيب خلقهما، أقدر على أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً، فيردها إلى حالتها الأولى، كما قال في موضع آخر: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر:57]. وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف:33]. ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره الذي يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل، بل لا بد معه من آلة ومعين، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته، وقوله للمكون: (كن) فإذا هو كائن، كما شاء وأراده. ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعله وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245]. ومن هذا قوله سبحانه: {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36 - 40]، فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملاً عن الأمر والنهي والثواب والعقاب، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء، كما قال تعالى: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، إلى آخر السورة. فإن من نقله من النطفة إلى العلقة، ثم إلى المضغة، ثم شق سمعه وبصره، وركّب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع والأعصاب والرباطات التي هي أشده، وأحكم خلقه غاية الإحكام، وأخرجه على هذا الشكل والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته به أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته، ولا تعجز عنه قدرته. فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب، بالقول الوجيز، الذي لا يكون أوجز منه، والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه، ومأخذه القريب الذي لا تقع الظنون على أقرب منه. وكم في القرآن من مثل هذا الاحتجاج، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [الحج:5]، إلى أن قال: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] إلى أن قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16]. وذكر قصة أصحاب الكهف، وكيف أبقاهم موتى ثلاثمائة سنة شمسية، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية، وقال فيها: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]. والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة لهم في المعاد خبط واضطراب، وهم فيه على قولين: منهم من يقول: تعدم الجواهر ثم تعاد. ومنهم من يقول: تفرق الأجزاء ثم تجمع. فأورد عليهم الإنسان الذي يأكله حيوان، وذلك الحيوان أكله إنسان، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا، لم تعد من هذا؟ وأورد عليهم: أن الإنسان يتحلل دائماً، فماذا الذي يعاد؟ أهو الذي كان وقت الموت؟ فإن قيل بذلك، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة، وهو خلاف ما جاءت به النصوص، وإن كان غير ذلك، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض، فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني، والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل، ليس فيه شيء باق، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان. والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء: أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال، فتستحيل تراباً، ثم ينشئها الله نشأة أخرى، كما استحال في النشأة الأولى، فإنه كان نطفة، ثم صار علقة، ثم صار مضغة، ثم صار عظاماً ولحماً، ثم أنشأه خلقاً سوياً، كذلك الإعادة، يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب، كما ثبت في الصحيح عن

ما جاء في جزاء الأعمال في الآخرة

ما جاء في جزاء الأعمال في الآخرة [وقوله: (وجزاء الأعمال) قال تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]. {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25]. والدين: الجزاء، يقال: كما تدين تدان، أي كما تجازي تجازى، وقال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ:26] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [الأنعام:160] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:89 - 90] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص:84]. وأمثال ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم، فيما يروي عن ربه عز وجل، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). وسيأتي لذلك زيادة بيان عن قريب، إن شاء الله تعالى].

عقيدة العرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب

عقيدة العرض والحساب وقراءة الكتاب والثواب والعقاب قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (والعرض والحساب، وقراءة الكتاب، والثواب والعقاب). قال تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:15 - 18] إلى آخر السورة. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق:6 - 15]. {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف:48] {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]. {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48]. {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر:15]، الآية، إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]. {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]. وروى البخاري رحمه الله في صحيحه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك، فقلت: يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:7 - 8]؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ذلكِ العرض، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب)، يعني: أنه لو ناقش في حسابه لعبيده لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولكنه تعالى يعفو ويصفح، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى آخذ بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة يوم الطور). وهذا صعق في موقف القيامة، إذا جاء الله لفصل القضاء، وأشرقت الأرض بنوره، فحينئذٍ يصعق الخلائق كلهم. فإن قيل: كيف تصنعون بقوله في الحديث: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش)؟ قيل: لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا، ومنه نشأ الإشكال، ولكنه دخل فيه على الراوي حديث في حديث، فركب بين اللفظين فجاء هذان الحديثان هكذا: أحدهما: (إن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق)، كما تقدم، والثاني: (أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة)، فدخل على الراوي هذا الحديث في الآخر، وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزي، وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم، وشيخنا الشيخ عماد الدين بن كثير رحمهم الله. وكذلك اشتبه على بعض الرواة فقال: (فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل)، والمحفوظ الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول، وعليه المعنى الصحيح، فإن الصعق يوم القيامة لتجلي الله لعباده إذا جاء لفصل القضاء، فموسى عليه السلام إن كان لم يصعق معهم فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكاً، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً عن صعقة الخلائق لتجلي الرب يوم القيامة، فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله. وروى الإمام أحمد والترمذي وأبو بكر بن أبي الدنيا عن الحسن قال: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات، فعرضتان: جدال ومعاذير، وعرضة تطاير الصحف، فمن أوتي كتابه بيمينه، وحوسب حساباً يسيراً دخل

الإيمان بالصراط

الإيمان بالصراط وقوله: (والصراط): أي: ونؤمن بالصراط، وهو جسر على جهنم، إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف إلى الظلمة التي دون الصراط، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال: هم في الظلمة دون الجسر). وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين، ويتخلفون عنهم، ويسبقهم المؤمنون، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم. وروى البيهقي بسنده عن مسروق عن عبد الله رضي الله عنه قال: (يجمع الله الناس يوم القيامة إلى أن قال: فيعطون نورهم على قدر أعمالهم، قال: فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه، حتى يكون آخر ذلك من يعطى نوره على إبهام قدمه يضيء مرة ويطفأ مرة، إذا أضاء قدم قدمه، وإذا طُفِئَ قام، قال: فيمر ويمرون على الصراط، والصراط كحد السيف دحضٌ مزلة، فيقال لهم: امضوا على قدر نوركم، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشد الرحل، ويرمل رملاً، فيمرون على قدر أعمالهم، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه، تجر يد وتعلق يد، وتجر رجل، وتعلق رجل، وتصيب جوانبه النار، قال: فيخلصون، فإذا خلصوا قالوا: الحمد لله الذي نجانا منكِ بعد أن أراناكِ، لقد أعطانا الله ما لم يعطِ أحداً) الحديث.

معنى الورود في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها)

معنى الورود في قوله تعالى: (وإن منكم إلا واردها) واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71]، ما هو؟ والأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط، قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72]. وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده! لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة، قالت حفصة فقلت: يا رسول الله! أليس الله يقول: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم:71]، فقال: ألم تسمعيه قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72]). أشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا يستلزم حصوله، بل يستلزم انعقاد سببه، فمن طلبه أعداؤه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه؛ يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً} [هود:58]. {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً} [هود:66]. {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً} [هود:94]، ولم يكن العذاب أصابهم، ولكن أصاب غيرهم، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك. وكذلك حال الواردين النار يمرون فوقها على الصراط، {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72]، فقد بين صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور أن الورود هو المرور على الصراط. وروى الحافظ أبو نصر الوائلي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (علِّم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك، وإن أحببت ألا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة، فلا تحدثن في دين الله حدثاً برأيك)، أورده القرطبي. وروى أبو بكر أحمد بن سلمان النجاد عن يعلى بن منية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جُزْ يا مؤمن! فقد أطفأ نورك لهبي)]. أمور القيامة تسمى السمعيات أو الخبريات؛ لأنها لا سبيل إلى إثباتها إلا بما ثبت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن العقول لا تحيط بدقائق هذه الأمور، لكن عقول البشر قد تدرك في الجملة ضرورة البعث، أما تفاصيل ما يحدث يوم القيامة من البعث والنشور والعرض والجزاء والحساب والصحف والصراط والميزان وغير ذلك، فهذه أمور لا يمكن أن تَرِدَ على خاطر أحد؛ لأنها أمور لا يعرف الناس دقائقها، فلا بد من الإيمان بها كما جاءت، والتسليم بأنها حق على حقيقتها. فالعرض معناه: أن العباد يعرضون على الله عز وجل. والحساب معناه: أن الله عز وجل يحاسب كل واحد منهم، ويحاسبهم جميعاً في وقت واحد، وكل واحد يظن أن الله لا يحاسب غيره ولا يناجي غيره، والله على كل شيء قدير. وكذلك الكتاب هو كتاب حقيقي، وأن كل إنسان سيقرأ كتابه المتعلم والأمي، فالله عز وجل يمكن حتى غير القارئين من أن يقرءوا كتبهم، فهو سبحانه على كل شيء قدير. والكتاب هو الصحيفة، وقيل: إن الكتاب غير الصحيفة، وقيل: إن الكتاب هو ما فيه تفاصيل الأعمال التي كتبها الكرام الكاتبون، وأن الصحيفة هي خلاصة النتيجة وأشبه بالشهادة، وكل ذلك حق، فقد وردت النصوص بهذا وذاك، والثواب والعقاب الذي هو جزاء ذلك. ثم ذكر الصراط وهو أمر حسي معلوم موصوف، وفي كل ما أشار إليه الشارح رد على الذين زعموا أن هذه الأمور ما هي إلا أمور توهيمية، أو أنها دلالات على معان لا على أشياء، فقال: الصراط هو الحق والعدل، وقال: إن الميزان هو العدل أيضاً إلى آخره. فهذه الآيات والأحاديث الواردة تثبت أن هذه الأمور أمور حسية حقيقية أخبرنا الله عز وجل بها، فلا مجال لتأويلها، بل لا بد أن نؤمن بها كما جاءت، فمثلاً في حديث البيهقي: ذكر وصف الصراط، ووصف بعض ما يحدث للناس على الصراط من وجود النور للمؤمنين، وتفاوت النور بينهم، وهذا حق لا بد أن يثبت على حقيقته، وأنه أمر مادي محسوس يوم القيامة، وليس تعبيراً عن أمور معنوية، كذلك الصراط ووصفه بهذه الأوصاف، وأنه كحد السيف وأنه دحض، يعني: زلق، مزلة، ومزلة وصف لمعنى دحض، وأن الناس يمرون بهذا الصراط على قدر أعمالهم، فمرورهم أيضاً موصوف بهذه الأوصاف، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، وفي بعض الروايات كالبرق، ومنهم كالريح إلى آخره، وأن هذا الصراط صراط حقيقي على متن جهنم، وليس مجرد معان أو أمور معنوية يرمز فيها إلى رموز غير حقيقية، كما يقول الفلاسفة وأتباعهم من الجهمية وبعض المعتزلة، وكثير ممن يسمون أنفسهم بالعقلانيين والعصرانيين في العصر الحديث، فإنهم تعرضوا لهذه الأمور بالتأويل الذي يؤدي إلى إنكارها وتعطيلها. نس

شرح العقيدة الطحاوية [88]

شرح العقيدة الطحاوية [88] نصب الميزان يوم القيامة لوزن أعمال العباد من كمال عدل الله سبحانه وتعالى وظهوره على خلقه؛ لأنه لا أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، والميزان له كفتان حسيتان مشاهدتان يوزن فيه الرجل مع عمله كما دلت النصوص على ذلك، وأما من ينفي الميزان من أهل البدع في الآخرة أو يتأوله ولا يصدق بالنصوص والآثار التي تثبت حقيقة الميزان، فهذا حري بأن لا يقيم الله له وزناً يوم القيامة.

حقيقة الميزان في الآخرة

حقيقة الميزان في الآخرة قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والميزان) أي: ونؤمن بالميزان، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]. وقال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103]. قال القرطبي: قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال؛ لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة؛ فإن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها، ليكون الجزاء بحسبها. قال: وقوله: ((وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)) يحتمل أن يكون ثَمَّ موازين متعددة توزن فيها الأعمال، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات، فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة، والله أعلم.

كفتا الميزان

كفتا الميزان والذي دلت عليه السنة أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان، روى الإمام أحمد من حديث أبي عبد الرحمن الحبلي قال: سمعت عبد الله بن عمرو رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله سيخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب! فيقول: ألك عذر أو حسنة؟ فيبهت الرجل فيقول: لا يا رب! فيقول: بلى، إن لك عندنا حسنة واحدة، لا ظلم عليك اليوم، فتخرج له بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم). وهكذا رواه الترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا من حديث الليث، زاد الترمذي: (ولا يثقل مع اسم الله شيء). وفي سياق آخر: (توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة) الحديث.

وزن العمل مع العامل

وزن العمل مع العامل وفي هذا السياق فائدة جليلة، وهي أن العامل يوزن مع عمله، ويشهد له ما روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} [الكهف:105]). وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود: (أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تدفعه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ممَ تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله! من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده! لهما أثقل في الميزان من أحد). وقد وردت الأحاديث أيضاً: بوزن الأعمال أنفسها، كما في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان) الحديث. وفي الصحيحين -وهو خاتمة كتاب البخاري - قوله صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). وروى الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بابن آدم يوم القيامة فيوقف بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وإن خف ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً). فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول: الأعمال أعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام، فإن الله يقلب الأعراض أجساماً كما تقدم، وكما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالموت كبشاً أغبر، فيوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون، ويقال: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون، ويرون أن قد جاء الفرج، فيذبح، ويقال: خلود لا موت)، ورواه البخاري بمعناه. فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال، وثبت أن الميزان له كفتان، والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات. فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبرنا الصادق صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان.

الرد على من ينفي الميزان

الرد على من ينفي الميزان ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع، لخفاء الحكمة عليه، ويقدح في النصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال، وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً. ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده، فلا أحد أحب إليه العذر من الله؛ من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين، فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه؟ فتأمل قول الملائكة لما قال الله لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]. وقال تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85]. وقد تقدم عند ذكر الحوض كلام القرطبي رحمه الله: أن الحوض قبل الميزان والصراط بعد الميزان، ففي الصحيحين: (أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة). وجعل القرطبي في التذكرة هذه القنطرة صراطاً ثانياً للمؤمنين خاصة، وليس يسقط منه أحد في النار، والله تعالى أعلم].

الأسئلة

الأسئلة

مدى صحة القول بأن الصراط لا يمر عليه إلا المؤمنون فقط

مدى صحة القول بأن الصراط لا يمر عليه إلا المؤمنون فقط Q ما صحة القول بأن الصراط لا يمر عليه إلا المؤمنون فقط؟ A الصراط لا يتجاوزه إلا المؤمنون، لكن جميع البشر يمرون على الصراط، وقد ورد في بعض النصوص أن هناك من المسلمين ومن المؤمنين من لا يمرون بالصراط، لكن هذا مرجوح، والصحيح أن جميع البشر يمرون بالصراط، لكنّ المؤمنين يتجاوزون الصراط ويقطعونه دون أن يتكردسوا في النار نسأل الله العافية، أما الكفار والمنافقون وأهل الكبائر، الذين قدر الله عليهم أن يعذبوا، فإنهم يتكردسون في جهنم بعد أن يكونون على الصراط. وما أشار إليه القرطبي كلام مرجوح، وجه به بعض النصوص، لكن الصراط العام الذي ورد ذكره في عموم النصوص هو الذي يمر به جميع البشر، لكن لا يتجاوزه ولا يقطعه وينجو منه إلا من أراد الله له ذلك، وهم المؤمنون.

عدم التعارض بين دخول الأمم الكافرة النار مع معبودها وبين سقوطهم من على الصراط

عدم التعارض بين دخول الأمم الكافرة النار مع معبودها وبين سقوطهم من على الصراط Q هل هناك تعارض بين سقوط كل أمة مشركة مع ما تعبد من حجر وبشر وشجر وغير ذلك وبين كونهم يمرون على الصراط فيسقطون منه؟ A الحديث الذي ذكر أن كل أمة تصور لها ما كانت تعبد، ثم تتبعه وتسقط في جهنم، هذا سقوط جماعي، ما فيه دلالة على نوعية السقوط في الصراط، وأيضاً ما ورد أن قوم فرعون يردون معه جهنم، وأن أهل النار يدخلونها زمراً، وأنهم يساقون من قبل الملائكة، كل هذه مشاهد لا تتناقض، بمعنى أنه لا يمنع أن يكون ذلك إما بعد الصراط مباشرة أو قبل الصراط على نحو جماعي. والصراط هو مرحلة من المراحل وهو على متن جهنم، فلا تعارض بين النصوص؛ لأن هذه مسألة غيبية، لا يمنع أن يكون هذا وهذا، وأن هذه الأمور تعد مراحل يمر بها العباد، كما أن الحشر نفسه فيه بعث ثم وقوف ثم عرض ثم حساب ثم صحف، والصحف نوعان: منها: الصحف الخاصة التي هي أشبه بالشهادات، ومنها: الصحف التي هي السجلات، ثم وزن، وبعد ذلك يأتي تقسيم الناس إلى أصناف، وكل صنف يذهب على حدة، فالأمور التي تدل على ما يحصل للأفراد لا تتعارض مع الأمور التي تدل على ما يحصل للناس كجماعات وكأمم، فإنها مشاهد من مشاهد القيامة وحلقات من حلقاتها الله أعلم بتفاصيلها.

ما جاء في الورود المذكور في الآية

ما جاء في الورود المذكور في الآية Q ما معنى الورود المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] وحقيقة هذا الورود؟ A أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الجميع سيردون، لكن كيف هذا الورود؟ هذا هو الذي لا نستطيع أن نتحكم به في أذهاننا؛ فهو ورود غيبي لا يعلمه إلا الله عز وجل، فعلى هذا لا يمكن أن نقصر الأمور على كيفيات معينة، وربما يكون الورود وروداً عاماً وورداً خاصاً، وما ورد من أن هناك من المؤمنين من لا يحاسبون، وهم في ظل الله عز وجل، فهذا لا يمنع من أن يكون هذا نوعاً من الجزاء، وأنهم حين يمرون على الصراط على متن جهنم يمرون ولا يشعرون، فالذين يمرون كالبرق هم بمثابة من لا يمرون، نسأل الله أن يجعلنا جميعاً منهم؛ لأن لمحة البرق لا تشعر الإنسان بأنه مر على شيء، فيجمع بين النصوص على هذا النحو، أو كل نص يكون له معنى، وما دام من الأمور الغيبية فلا يجوز أن يتوهم التعارض.

شرح العقيدة الطحاوية [89]

شرح العقيدة الطحاوية [89] من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، والقول بفناء النار مخالف لنصوص القرآن والسنة، ومسألة القول بحوادث لا أول لها أو تسلسل الحوادث أو القول بحلول الحوادث بذات الرب تبارك وتعالى، كلها أقوال وبدع محدثة لها لوازم وإيرادات، وكل هذه الأقوال ناتجة عن خلل في التصور وعدم فهم منهج السلف وضبط المصطلحات الشرعية.

الجنة والنار مخلوقتان وهما موجودتان الآن ولا تفنيان أبدا

الجنة والنار مخلوقتان وهما موجودتان الآن ولا تفنيان أبداً قال رحمه الله تعالى: [قوله: (والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق، وخلق لهما أهلاً، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه، وكل يعمل لما قد فرغ له، وصائر إلى ما خلق له). أما قوله: (إن الجنة والنار مخلوقتان) اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن، ولم يزل على ذلك أهل السنة، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية فأنكرت ذلك، وقالت: بل ينشئهما الله يوم القيامة، وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله، وأنه ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا، وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة، وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة، فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى، وحرفوا النصوص عن مواضعها، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم]. هناك نصوص تدل على أن الجنة مخلوقة الآن، وكما سيقرر الشارح بعد قليل أن الجنة في أصلها موجودة، وكثير مما فيها موجود مخلوق، لكن قد يكون من بعض أنواع النعيم التي يعد الله بها عباده ما يتجدد خلقه، فالتسبيح الذي هو غرس الجنة، يغرس الله به للعباد جزاءهم، وكثيراً من الأعمال يتجدد جزاؤها في نعيم الجنة بحسب تجدد الأعمال. فوجود الجنة حقيقي، هذا أمر معلوم، وهي مخلوقة الآن، وكذلك النار مخلوقة الآن وموجودة، وكثير من أنواع النعيم فيها مخلوقة وموجودة، لكن بعض أنواع النعيم يخلق ويتجدد بحسب أعمال العباد كما ورد في النصوص.

النصوص الواردة في إثبات وجود الجنة والنار الآن

النصوص الواردة في إثبات وجود الجنة والنار الآن قال رحمه الله تعالى: [فمن نصوص الكتاب قوله تعالى عن الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]. {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الحديد:21]. وعن النار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]. {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلْطَّاغِينَ مَآباً} [النبأ:21 - 22]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:13 - 15]]. القرآن جاء بلسان عربي مبين، والله عز وجل تكلم به ولا يتكلم الله إلا بالحق، والإعداد المذكور في الآيات هو الخلق والوجود السابق. قال رحمه الله تعالى: [وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى، كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، وفي آخره: (ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك). وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة). وتقدم حديث البراء بن عازب رضي الله عنه، وفيه: (ينادي منادٍ من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، قال: فيأتيه من روحها وطيبها)، وتقدم حديث أنس بمعنى حديث البراء. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (خسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت الحديث، وفيه: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به، حتى لقد رأيتني آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني أقدم، ولقد رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت)]. هذه أحاديث صريحة بأن الجنة والنار موجودتان. أما قوله: (فأفرشوه من الجنة) أي: أن الميت إذا كان من أهل الصلاح والاستقامة يفرش له من الجنة، ويرى منزله من الجنة رؤية حقيقية؛ لأن هذه الأخبار حق، وتقع في زمن الدنيا، وإلا فأحوال البرزخ وأحوال القبر تختلف عن أحوال الدنيا، لكنها في زمن الدنيا الذي يعيشه الأحياء إذا مات الميت من هؤلاء الأحياء فإن كان من أهل الخير يرى منزله من الجنة، ويفرش له من الجنة، فتكون الجنة موجودة معاينة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم -وخبره الصدق والحق- في أثناء المعراج بما رآه، وكذلك أخبر صلى الله عليه وسلم حينما كسفت الشمس أنه رأى الجنة ورأى النار عياناً، كما ورد في الحديث الصحيح، وهذا دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان، وأن هذه الأخبار ليست أخباراً توهيمية تخييلية، كما يزعم الفلاسفة وأذناب الفلاسفة، ممن لا يؤمنون بالله ولا برسله. قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: (انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث، وفيه: فقالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئاً في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت؟ فقال: إني رأيت الجنة فتناولت عنقوداً، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أرَ منظراً كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بمَ يا رسول الله؟ قال: يكفرن. قيل: أيكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله، ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط). وفي صحيح مسلم من حديث أنس: (والذي نفسي بيده! لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيراً، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار). وفي الموطأ والسنن من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما نسمة المؤمن طير يعلق في شجر الجنة، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة). وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة. وفي صحيح مسلم والسنن والمسند من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما خلق الله الجنة والنار أرسل جبريل إلى الجنة، فقال: اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها، فرجع فقال: وعزتك! لا يسمع بها أحد إلا دخلها، فأمر بالجنة فحفت بالمكاره، فقال: ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها، قال: فنظر إليها ثم

شبهة القائلين بعدم وجود الجنة الآن والرد عليهم

شبهة القائلين بعدم وجود الجنة الآن والرد عليهم قال: [وأما شبهة من قال: إنها لم تخلق بعد، وهي أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة، وأن يهلك كل من فيها ويموت؛ لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88]. {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185]. وقد روى الترمذي في جامعه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي، فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر)، قال: هذا حديث حسن غريب. وفيه أيضاً من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة) قال: هذا حديث حسن صحيح. قالوا: فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً، ولم يكن لهذا الغراس معنى، قالوا: وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11]؟]. هذه الشبهات كلها قالها بعض المعتزلة والجهمية والفلاسفة، حتى ممن يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، ليس في الإسلام فلسفة وليس من المسلمين فلاسفة، لكن سموا إسلاميين؛ لأنهم يدّعون الإسلام، وإلا فأغلبهم ينزعون إلى الباطنية، فلذلك فإن الفلاسفة الإسلاميين كـ ابن سينا وابن رشد وابن الفارض وابن سبعين والسهروردي وغيرهم، هؤلاء أغلبهم من الباطنية، ومن لم يكن باطني الأصل، فهو لا يؤمن بكثير من أمور الإسلام، إنما هم على مذاهب الفلاسفة وإن ادعوا الإسلام. وقوله: (وأما على قول من قال: إن الجنة الموعود بها هي الجنة التي كان فيها آدم ثم أخرج منها) يعني: أن الجنة موجودة؛ لأن جنة آدم التي كان فيها جنة حقيقية، عاش فيها آدم جزءاً من عمره، ثم حدثت البلوى التي ابتلاه الله بها، وقصته مع الشيطان، ثم نزل إلى الأرض، وقصة آدم مع إبليس، وإنزال آدم من الجنة إلى الأرض، هذا دليل قاطع على أن الجنة كانت موجودة، وأنها لا تزال موجودة؛ لأن آدم نزل من جنته الحقيقية إلى هذه الدنيا، وهو قول السلف. وهذه الشبهات تلبس على من ليس عنده علم شرعي، وعلى من لم يكن عنده بصيرة في العلم الشرعي ولا يرجع إلى أهل العلم، فمن هذه الشبهات أولاً: أنها لو كانت مخلوقة لوجب أن تفنى يوم القيامة؛ لأن الله عز وجل وعد بفناء كل شيء، وأن كل شيء هالك إلا وجهه، هذا أولاً. ثانياً: قولهم: إن الجنة لو كانت مخلوقة لما قيل: إن غراسها التسبيح، فهذا دليل على أنها تُنْشَأ فيما بعد؛ بسبب أعمال العباد. نقول: هذا دليل عليهم وسيأتي. وكذلك قولهم عن امرأة فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11]، قالوا: هذا دليل على أن الجنة غير موجودة، إذ لو كانت موجودة لما دعت امرأة فرعون بأن يبني لها الله عز وجل بيتاً في الجنة، ولكان البيت مبنياً من قبل، لكنها طلبت بناء البيت فيما بعد. هذه شبهات سيرد عليها المؤلف إجمالاً في الردود التالية. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فالجواب أنكم إن أردتم بقولكم: إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور، وقيام الناس من القبور، فهذا باطل، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها، وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئاً بعد شيء، وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أموراً أخر، فهذا حق لا يمكن رده، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر]. يعني: استدلالاتكم هذه لا تدل على أن أصل الجنة غير مخلوقة ولا موجودة، وإنما تدل على أن بعض نعيم الجنة يحدثه الله عز وجل على نحو ما ذكر وورد في النصوص؛ بسبب أعمال العباد التي وفقهم الله إليها، وبسبب أيضاً ما وعد الله به عباده يوم القيامة، إذا دخلوا الجنة أنه يحقق لهم كل ما يتمنونه من نعيم، فما يحققه الله عز وجل هو جديد، لكن أصل الجنة والكثير من نعيمها موجود ومخلوق الآن وقبل الآن. قال رحمه الله تعالى: [وأما احتجاجكم بقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88]، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن نظير احتجاج إخوانكم بها على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما، فلم توفقوا أنتم ولا إخوانكم لفهم معنى الآية، وإنما وفق لذلك أئمة الإسلام، فمن كلامهم: أن المراد كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش فإنه سقف الجنة، وقيل المراد: إلا ملكه. وقيل: إلا ما أريد به وجهه. وقيل: إن الله تعالى أنزل: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا ف

الأقوال في فناء الجنة والنار

الأقوال في فناء الجنة والنار قال: [وقوله: (لا تفنيان أبداً ولا تبيدان). هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف، وقال ببقاء الجنة وفناء النار جماعة منهم من السلف والخلف، والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرها. وقال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة، وليس له سلف قط لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا من أئمة المسلمين ولا من أهل السنة، وأنكره عليه عامة أهل السنة، وكفروه به، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض، وهذا قاله بأصله الفاسد الذي اعتقده، وهو امتناع وجود ما لا ينتهي من الحوادث، وهو عمدة أهل الكلام المذموم، التي استدلوا بها على حدوث الأجسام، وحدوث ما لم يخلُ من الحوادث، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم. فرأى الجهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي يمنعه في المستقبل، فدوام الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي، وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة وافقه على هذا الأصل، لكن قال: إن هذا يقتضي فناء الحركات، فقال: بفناء حركات أهل الجنة والنار، حتى يصيروا في سكون دائم، لا يقدر أحد منهم على حركة. وقد تقدم الإشارة إلى اختلاف الناس في تسلسل الحوادث بالماضي والمستقبل، وهي مسألة دوام فاعلية الرب تعالى، وهو لم يزل رباً قادراً فعالاً لما يريد، فإنه لم يزل حياً عليماً قديراً، ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعاً عليه لذاته، ثم ينقلب فيصير ممكناً لذاته من غير تجدد شيء، وليس للأول حد محدود حتى يصير الفعل ممكناً له عند ذلك الحد، ويكون قبله ممتنعاً عليه، فهذا القول تصوره كافٍ في الجزم بفساده]. في هذا المقطع عدة أمور يحسن الوقوف عندها بإيجاز.

حقيقة ما نسب إلى بعض السلف من القول ببقاء الجنة وفناء النار

حقيقة ما نسب إلى بعض السلف من القول ببقاء الجنة وفناء النار أولاً: ما يتعلق بما أشار إليه الشارح من أن هناك من السلف والخلف من قال ببقاء الجنة وفناء النار، فهذه مسألة يخلط فيها كثير من الناس، وبعضهم نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وإلى تلميذه ابن القيم القول بفناء النار، وعند تأمل هذه المسألة عند شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن سبقهما ممن نسب إليه القول من السلف في هذه المسألة، فالمتأمل يجد أن الناس يخلطون بين مسألتين: بين مسألة القول بفناء النار، والقول بانقطاع العذاب، وهما مسألتان منفصلتان. ثم إنهم يخلطون بين ما يسوقه أهل العلم وبين ما يقولون به، فالقول بفناء الجنة والنار فناء مطلقاً لم يقل به أحد من السلف، وما نسب إلى بعض السلف من القول في النار دون القول في الجنة، فهو القول بانقطاع عذاب النار لا بفنائها، وفرق بين الفناء وانقطاع العذاب، وانقطاع العذاب لا يعني انتهاء مادة النار، إنما يعني انتهاء صورة التعذيب لأهلها على نحو معين، فهم اجتهدوا في سياقه، واستدلوا بعمومات النصوص من أن رحمة الله تسبق عذابه، فلا بد في نهاية الأزمان والآباد التي لا تتناهى أن تسبق رحمة الله عز وجل عذابه، وتعم الرحمة جميع الخلق فتبقى الجنة، وهناك أيضاً من يبقى من أهل النار يعذبون آباداً لا تتناهى، لكن في النهاية يكون لها تناه أبدي، أو بعد سرمدية لا يعلمها إلا الله عز وجل، ويقصدون بذلك انقطاع العذاب. وهذا القول مرجوح ولا دليل عليه، إلا أدلة عامة ليست أدلة قطعية، فلذلك لا يلتفت إليه كما قال جمهور السلف، فجمهور السلف يقولون ببقاء النار وبقاء آبادها لمن قدر الله عز وجل أنهم لا يخرجون منها، نسأل الله العافية، فهؤلاء لا يخرجون منها ويبقى عذابهم أبد الآباد. فمن قال: ينقطع عذابها ولا تنقطع النار، إنما هو اجتهاد ليس عليه دليل، وقد ساق هذا الاجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية دون أن يذكر رأيه فيه، فحمّله بعض الناس هذا القول، وكذلك ساقه ابن القيم دون أن يجزم بشيء، بمعنى أنه لم يفنده في بعض المقامات، أو أنه حكاه مجرد حكاية، فظن الناس أنه قوله، لكن عند التحقيق نجد أن قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم هو قول السلف: أن الجنة والنار لا تفنيان ولا تبيدان، وأن نعيم الجنة لا ينقطع، وأن عذاب النار لا ينقطع. وأن هناك طائفة من خلق الله عز وجل مخلدون في النار لا ينقطع عذابهم أبداً، ممن لم تشملهم رحمة الله عز وجل. هذا هو قول جمهور السلف ولم يخرج عنه شيخ الإسلام ابن تيمية ولا ابن القيم، لكن -كما قلت- حكى كل منهما أقوالاً، وربما بعضهم يحكي القول كالمنتصر له في حين أنه يحكيه على لهجة من قالوه، هذا الذي يظهر لي من خلال تأملي لكلام شيخ الإسلام، وله في ذلك رسالة مستقلة حققت وطبعت الآن من قبل الدكتور محمد السمهري، وهي موجودة تباع في الأسواق، في مسألة فناء الجنة وفناء النار، فينبغي الرجوع إليها.

مسألة القول بوجود حوادث لا أول لها

مسألة القول بوجود حوادث لا أول لها ثانياً: ما يتعلق بحوادث لا أول لها في الماضي، فهذه فلسفة في الحقيقة تكلف فيها المتكلفون وتكلم بها المتكلمون قديماً وحديثاً، وهم ليسوا على شيء، ورد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية برد قوي عقلي مفحم، ولذلك ألزموه بلازم باطل لا يصح، اتهموه بأنه يقول: بأن هناك حوادث لا أول لها ولا آخر لها، واتهموه بأنه يقول بالتسلسل في الحوادث، واتهموه بأنه يقول بحلول الحوادث بذات الله سبحانه. وهذا كله باطل لم يقل به، إنما ألزموه به. وشيخ الإسلام حينما قال بالتسلسل أو بمنع التسلسل، فإنه فرق بين أمرين: فرق بين الحوادث المتعلقة بأفعال الله عز وجل سبحانه، وبين الحوادث التي هي المخلوقات، وهذا التفريق لم يفهمه كثير من الناس الذين قرءوا كتب شيخ الإسلام، وأكثر خصومه لم يفهموه، أو فهموه؛ لكنهم نظراً لأنه يخالفهم ألزموه بما لم يتكلم به. فشيخ الإسلام ابن تيمية قال في مسألة حوادث لا أول لها أو بالتسلسل في البداية والنهاية في أفعال الله عز وجل، قال: هذه أزلية لا حد لها لا في البداية ولا في النهاية؛ لأن الله عز وجل فعال لما يريد منذ الأزل وإلى الأبد إلى ما لا نهاية. لكن الجهمية وأتباعهم من الأشاعرة والماتريدية ينكرون الأفعال لله، فلذلك منعوا هذا وقالوا: إن ابن تيمية قال بحوادث لا أول لها ولا نهاية لها، مع أنه لم يقل ذلك، وإنما قال: إن قصدتم بالحوادث أفعال الله، وهو أن الله يفعل من الخلق والإحياء والإماتة والكلام والنزول والمجيء والرضا والغضب ونحو ذلك فصحيح؛ لأن أفعال الله لا أول لها ولا نهاية لها، سواء سميتموها حوادث أو لم تسموها، بدليل أن الله عز وجل هو الأول الذي ليس قبله شيء، ومن ذلك أفعاله سبحانه، فهو قادر على الخلق حتى قبل أن يخلق الخلق، وقادر على الرزق حتى قبل أن يوجد المرزوقين، وهو سبحانه فعال لما يريد منذ الأزل، كما أنه الآخر الذي ليس بعده شيء، فهو قادر على الأفعال إلى ما لا نهاية، يتكلم متى شاء سبحانه، ينزل متى شاء سبحانه، يخلق متى شاء، يحيي ويميت متى شاء، لا نهاية لأفعاله ولا بداية. فهم قالوا: إن هذا قول بتسلسل الحوادث، وألزموا شيخ الإسلام بما لم يلتزم به. أما الجانب الثاني: وهي أفعال العباد أو هي المخلوقات، فقال شيخ الإسلام: هذه المخلوقات المحدثات لا شك أن لها بداية؛ لأنها مخلوقة، ولها نهاية؛ لأنها تفنى، فهو فرق بين الحوادث التي هي أفعال الله، وبين الحوادث التي هي المحدثات المخلوقات. إذاً: من عرف هذه المسألة وعرف التفريق فيها أدرك صحة قول شيخ الإسلام ابن تيمية وأقوال السلف؛ لأن شيخ الإسلام ذكر أقوال السلف وساقها منذ عهد الصحابة إلى عصره، فلم يكتف بقوله، بل ساق أقوال السلف. ومن فرق في هذه المسألة عرف شناعة قول خصومه الذين شنعوا عليه، وقالوا: إنه قال بقيام الأفعال به سبحانه، وأنه قال بحوادث لا أول لها، وأنه صحح التسلسل في الحوادث إلى ما لا نهاية، وإلى ما لا بداية إلى آخره، فهم ألزموه بما لم يلتزم به؛ لأنهم ينكرون أفعال الله، بينما هو يقصد أن الحوادث مستمرة منذ الأزل، وإلى ما لا بداية لها ولا نهاية في أفعال الله، والله عز وجل يحدث من خلقه وتدبيره وأمره ما يشاء متى شاء، ولا يقال بأنها تسلسل، ولا يجوز أن نسميها حوادث، لكن ما دام أنهم سموها بذلك فنحن نقول: إذا قصدتم بالحوادث أفعال الله، فأفعال الله لا نهاية لها ولا بداية، ولكن لا نسميها حوادث، وإن قصدتم بالحوادث المخلوقات فلا شك أن المخلوقات لها بداية ونهاية، لكن هذا ليس هو محل النزاع بيننا وبينكم، وليس هو محل النزاع بينكم وبين السلف، أنتم موهتم على الناس، ألزمتم السلف بألفاظ لم يقولوا بها، فالسلف غاية ما يقولون: إن أفعال الله -التي تسمونها الحوادث خطأ وزوراً- لا حد لها لا في البداية ولا النهاية. وأظن المسألة واضحة، وإذا طبقتموها على كثير من مسائل الخلاف في هذه القضية عرفتم وجه الصواب ووجه الخطأ في كثير مما يقوله الناس.

الأسئلة

الأسئلة

معنى قول أبي هريرة: (حفظت وعاءين عن رسول الله بثثت أحدهما وأمسكت عن الآخر)

معنى قول أبي هريرة: (حفظت وعاءين عن رسول الله بثثت أحدهما وأمسكت عن الآخر) Q جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أنه حفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين بث أحدهما وأمسك عن الآخر، وقال: لو بثثت الآخر لقطع مني هذا وأشار إلى حلقه) Q ما المقصود بهذا؟ وهل هذا إشارة إلى الفتن التي تكون في الأمة؟ A تضمن السؤال شيئاً من الجواب، نعم جاء عن أبي هريرة وعن بعض الصحابة ما يشير إلى ذلك؛ لأن الأحاديث التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم في عموم الدين على نوعين: نوع يدركه عامة الناس، ونوع لا يدركه إلا بعض الناس، وهم الراسخون في العلم، أو يكون من باب الإخبار عن أحوال شخص ائتمن الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة عليه، أو يكون متعلقاً بالفتن التي لم تتحقق، والإخبار عنها يوجد في قلوب عامة الناس شيئاً من الرعب والرهبة وشيئاً من اليأس والقنوط، فيحدث الصحابة بها طلاب العلم والعلماء، ولا يحدثون بها العامة، ولذلك كان الصحابة يعتبون على القصاص أن يتحدثوا بكل شيء، القصاص والوعاظ الذين ليس عندهم فقه في الدين، لكنهم يحفظون النصوص، وعندهم عاطفة، ويحبون الخير، فتجد الواحد منهم يعظ بما يعرف وبما لا يعرف، بما يدرك وبما لا يدرك، فلامهم الصحابة على ذلك، حتى إنهم لما كثر منهم الوعظ في عهد علي رضي الله عنه انبرى لهم هو وغيره ومنعوهم، حتى كان ابن عمر وعبد الله بن الزبير وغيرهما يخرجونهم من المساجد بقوة، مع أنهم يقولون: قال الله قال رسوله، ويتحدثون ببعض الإسرائيليات التي يجوز الحديث عنها، لكن كانوا يحدثون الناس بما لا يعرفون، مثل: أحاديث الصفات عند العامة، ومثل: أحاديث الفتن وغير ذلك، فهذه الأمور تشكل على العامة. يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ يعني: أنتم لا تقولون الكذب، لكن أتيتم بأشياء لا يستوعبها الناس. إذاً: الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بعضها ربما يكون خاصاً ببعض الناس، أو يكون خاصاً ببعض الفتن، أو لا يدركها إلا الراسخون في العلم، أو لا يستطيع أن يحدث بها إلا عالم يستطيع أن يبين للناس وجه الحق، ويزيل عنهم الالتباس، فالذي قال فيه أبو هريرة هذا القول هو من هذا النوع، والله أعلم.

ذكر مراتب دخول المؤمنين الجنة

ذكر مراتب دخول المؤمنين الجنة Q هل قول من قال: إن المؤمنين يدخلون الجنة على طوائف: طائفة يدخلون الجنة بلا عذاب ولا حساب، وطائفة يدخلون الجنة بعد الصراط والفصل، وطائفة يدخلون الجنة بعد أن يمحصوا في النار وهم أهل الكبائر هل هذا القول صحيح؟ A نعم، هذا تقسيم صحيح، ولا شك أن هناك من يدخلون الجنة بلا حساب، وهناك من يدخلون الجنة بعد تجاوز الصراط والمحن التي يمر بها العباد، وطائفة يدخلون الجنة بعد أن يطهروا وهم أهل الكبائر، هذا ورد في النصوص، وإن كانت هناك تقسيمات أكثر من هذه، فيمكن أن نقول: طائفة يدخلون الجنة دون أن يردوا الحوض، وهذا إذا قيل: إن الحوض بعد الصراط، أما على القول بأن الحوض قبل الصراط فربما يكونون من هؤلاء الذين يذادون، وربما يكونون من أهل الكبائر، فالله أعلم، ليس فيها نص صريح. وربما يقال أيضاً: إن الذين يدخلون الجنة ثلاثة أصناف، ويكون الصنف الرابع هم الذين يدخلون الجنة بلا حساب، وأنهم تفتح لهم أبواب الجنة، ومنهم من لا يدخلون الجنة إلا بعد شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم أن تفتح لهم أبوابها. إذاً: هذه أحوال كلها وردت وكلها صحيحة.

شرح بيتين لابن القيم فيهما ذكر الأشياء التي لا تفنى

شرح بيتين لابن القيم فيهما ذكر الأشياء التي لا تفنى Q هناك بيتان لـ ابن القيم يقول فيهما: ثمانية حكم البقاء يعمها من الخلق والباقون في حيز العدم هي العرش والكرسي ونار وجنة وعجب وأرواح كذا اللوح والقلم فما هو شرح هذين البيتين؟ A ذكر أهل العلم بعض هذه الأشياء، وبعضها ثبتت في النصوص وبعضها ليس هناك دليل قاطع على بقائها وعدم فنائها، وقال بعضهم: إنها تفنى بصورة أخرى، يعني: تتحول من حال إلى حال. أما العرش والكرسي فلا شك أنه لا يشملهما العدم، وكذلك النار والجنة، وعجب الذنب كذلك ورد أنه أيضاً لا ينعدم، بمعنى: أنه يبقى عظماً، لكن لا يعني ذلك عدم الموت، فهذه مسألة خلافية، فالعظم الذي يكون في عجز الإنسان ويبقى فبقاؤه لا يعني عدم الموت؛ لأن الموت محكوم به على الإنسان نفسه، والإنسان قد تأكله الأرض كله وقد تبقى أجزاء منه، وقد وجد من بعض أجسام الأنبياء والشهداء من لم تمسه الأرض إلى الآن. فعلى هذا يبقى جسمه، لكن الفناء الذي هو الموت حصل، وكون بعض العظام تبقى لا يعني عدم الحكم بالموت، والتحول من خلق إلى خلق قد يسمى فناء وقد يسمى موتاً أيضاً، فالإنسان قد يأكله سبع، وقد يسقط في الماء وتأكله الحيتان، وقد يحترق، ومع ذلك تبقى ذرات جسمه على شكل رماد أو فضلات أو نحو ذلك. وكذلك اللوح والقلم والأرواح، أما الأرواح فالخلاف فيها راجع إلى طبيعة هذه الأرواح، هل هذه الأرواح أجسام؟ هل هي أعيان، أو هي أمور معنوية أو نحو ذلك؟ فالخلاف مبني على حقيقة هذه الأرواح وكيفيتها، والله أعلم. وقد ذكر كثير من أهل العلم ما ذكره ابن القيم من أن هذه الثمانية الأشياء لا تفنى. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية العرش والكرسي والنار والجنة وبين أنها لا تفنى، وأن هذا قول جمهور السلف، وأنها مستثناة. أما البقية فليس عندي فيها جزم، والله أعلم.

شرح العقيدة الطحاوية [90]

شرح العقيدة الطحاوية [90] وردت استثناءات في القرآن الكريم تفيد عدم أبدية النار، وقد اختلفت كلمات السلف في فهمها وتعددت الآراء حول هذه المسألة، وإن كانت الأدلة التي استدلوا بها لا تقوى أمام الأدلة الكثيرة التي تفيد عدم فناء النار، فضلاً عن أن هذا هو قول جمهور أهل السنة، وقد حكى ابن القيم رحمه الله المسألة بالأدلة والتفصيل في كتابه (حادي الأرواح) وكتب فيها ابن تيمية رحمه الله رسالة مستوفاة.

الأقوال في أبدية الجنة

الأقوال في أبدية الجنة قال رحمه الله تعالى: [فأما أبدية الجنة وأنها لا تفنى ولا تبيد، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر به، قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] أي: غير مقطوع، ولا ينافي ذلك قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:108]. واختلف السلف في هذا الاستثناء: فقيل: معناه إلا مدة مكثهم في النار، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار، ثم أخرج منها، لا لكلهم. وقيل: إلا مدة مقامهم في الموقف. وقيل: إلا مدة مقامهم في القبور والموقف. وقيل: هو استثناء استثناه الرب ولا يفعله، كما تقول: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وأنت لا تراه، بل تجزم بضربه. وقيل: (إلا) بمعنى (الواو)، وهذا على قول بعض النحاة، وهو ضعيف. وسيبويه يجعل (إلا) بمعنى (لكن) فيكون الاستثناء منقطعاً، ورجحه ابن جرير، وقال: إن الله تعالى لا خلف لوعده، وقد وصل الاستثناء بقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] قالوا: ونظيره أن تقول: أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت. أي: سوى ما شئت، أو لكن ما شئت من الزيادة عليه. وقيل: الاستثناء لإعلامهم بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله، لا أنهم يخرجون عن مشيئته، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود، كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا} [الإسراء:86]. وقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى:24]. وقوله: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس:16] ونظائره كثيرة، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وقيل: إن: (ما) بمعنى (من) أي: إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء. وقيل: غير ذلك، وعلى كل تقدير فهذا الاستثناء من المتشابه. وقوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] محكم]. لا ندري ما المقصود بالاستثناء على سبيل الجزم، لكن حينما أورد ما بعد الاستثناء وهو قوله عز وجل: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] تبين أن الحكم هذا هو المقصود وهو يتضمن الأبدية، وأن الاستثناء راجع لأحد الأمور السابقة ما نستطيع أن نجزم بشيء من ذلك، ومع ذلك فإنه يدل على أن الله عز وجل فعال لما يريد، لا معقب لحكمه، لكنه حكم وأخبرنا بحكمه بأن هذا العطاء للمؤمنين غير مجذوذ، يعني: لا ينقطع أبداً. فهذا هو الحكم النهائي؛ لأنه جاء بعد الاستثناء. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54]. وقوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد:35]. وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48]. وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن، وأخبر أنهم: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى} [الدخان:56] وهذا الاستثناء منقطع، وإذا ضممته إلى الاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:108] تبين لك المراد من الآيتين، واستثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية وذاك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها. والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيرة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ويخلد ولا يموت). وقوله: (ينادي مناد: يا أهل الجنة! إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً). وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار، ويقال: (يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت)]. الكلام في أبدية النار وفي دوامها وأقوال الناس فيها، والكلام أيضاً في انقطاع عذاب أهلها، وهل ينقطع العذاب وتبقى النار، أو تبقى النار ويبقى العذاب لمن حكم الله عليهم بالخلود؟ وهل هذا الخلود الأبدي يعني أن لا نهاية، أو أن الآباد لها حدود؟ هذه مسألة عويصة، وتعتبر من المشكلات، وكان الأولى ألا يخوض فيها الناس؛ لأن الأصل ما عليه جمهور السلف من القول بأبدية الجنة والنار، وأن نعيم الجنة لا ينقطع، وأن عذاب النار لا ينقطع أيضاً، وأن هناك طائفة من عباد الله عز وجل ينعمون إلى ما لا نهاية، وطائفة من عباد الله عز وجل يعذبون إلى ما لا نهاية، هذا هو الأصل، لكن وردت إشكالات نسبت إلى بعض الصحابة وإلى بعض التابعين في مسألة النار

الأقوال في أبدية النار

الأقوال في أبدية النار قال رحمه الله تعالى: [وأما أبدية النار ودوامها، فللناس في ذلك ثمانية أقوال: أحدها: أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد، وهذا قول الخوارج والمعتزلة]. هذا القول تضمن صراحة القول بأبدية العذاب، ومن ثم القول بأبدية النار نفسها. إذاً: من قال بأبدية العذاب إلى ما لا نهاية، فلا شك أنه يقول بأبدية النار إلى ما لا نهاية. قال رحمه الله تعالى: [والثاني: أن أهلها يعذبون فيها، ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة نارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم، وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي. الثالث: أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ثم يخرجون منها، ويخلفهم فيها قوم آخرون، وهذا القول حكاه اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم وأكذبهم فيه، وقد أكذبهم الله تعالى، فقال عز من قائل: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:80 - 81]. الرابع: يخرجون منها، وتبقى على حالها ليس فيها أحد]. وهذا القول يتضمن القول بانقطاع العذاب، وليس فيه تصريح بفناء النار أو عدمه، أي: أن أصحاب هذا القول يقولون ببقاء النار وبانقطاع عذاب المعذبين فيها، وأنهم يخرجون منها كلهم. قال رحمه الله تعالى: [الخامس: أنها تفنى بنفسها؛ لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه، وهذا قول الجهم وشيعته، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار كما تقدم]. هذا القول أيضاً قال بفناء النار بنفسها، وهذا القول يتضمن القول بانقطاع العذاب في الضرورة أيضاً، هذا القول عكس القول الأول تماماً يتضمن القول بانقطاع العذاب بالضرورة، لأنه إذا كانت تفنى فلا شك أنه ينقطع عذابها، وهذا أيضاً قول باطل. قال رحمه الله تعالى: [السادس: تفنى حركات أهلها، ويصيرون جماداً لا يحسون بألم، وهذا قول أبي الهذيل العلاف كما تقدم. السابع: أن الله يخرج منها من يشاء، كما ورد في الحديث، ثم يبقيها شيئاً، ثم يفنيها، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه]. هذا القول أيضاً تضمن القول بانقطاع العذاب، لأن من قال بفناء النار لا شك أنه يقول بانقطاع عذابها، لكنه يرى أن أهل النار يخرجون على درجات، منهم من يخرج بعد تطهيره من ذنوبه وهم أهل الكبائر، ومنهم من يبقى إلى أن تفنى، وبالضرورة سينقطع عذابها عنهم، لكن هذا القول فيما يظهر لي أنه يتضمن القول بأن أهل النار يعودون إلى الجنة، وإن كان ليس فيه تصريح بذلك، لكن شيخ الإسلام ابن تيمية في موضع آخر ضمنه هذا القول وفصله. قال رحمه الله تعالى: [الثامن: أن الله تعالى يخرج منها من شاء كما ورد في السنة، ويبقى فيها الكفار بقاء لا انقضاء له، كما قال الشيخ رحمه الله. وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان. وهذان القولان لأهل السنة ينظر في دليلهما]. قوله: (وهذان القولان لأهل السنة ينظر في دليلهما) يشير فيه إلى أن من أهل السنة من قال بالقول السابع، أما القول الثامن فهو قول الجمهور، وهو القول الذي تقوم عليه ظواهر الأدلة، والقول الثامن هو الأصل عند أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل يخرج من النار من يشاء من أهل الكبائر وغيرهم بالشفاعات، وبرحمته سبحانه كما ورد في السنة، وأنه يبقى فيها الكفار، وأن عذابها يبقى ويبقى أهلها مخلدين فيها، نسأل الله العافية. إذاً: هذا القول هو قول جمهور أهل السنة والجماعة، وهو القول الصحيح. أما القول السابع فقد أثر عن بعض أهل العلم من أهل السنة والجماعة، ونسب إلى بعض الصحابة وإلى بعض كبار التابعين، وحكاه بعض الأئمة على أنه قول لبعض أهل العلم المعتبرين، وحكاه شيخ الإسلام ابن تيمية وحكاه ابن القيم أيضاً. وفي بعض المواضع التي حكاه فيها شيخ الإسلام ابن تيمية نجد أنه سكت عنه لم يؤيد ولم يعارض، ولذلك فهم بعض الناس أنه يقول بهذا القول، وهذا من باب الإلزام الذي لا يلزم، وشيخ الإسلام له في ذلك رسالة مشهورة موجودة مكتوبة وقد حققت مستقلة. ذكر في هذه الرسالة شيئاً من الأقوال التي ستأتي بعد قليل وأدلتها، لكن جملة القول الذي حكاه أو ساقه هو أن هناك من أهل العلم من الصحابة وغيرهم من قال بأن عذاب النار ينقطع، وليس هناك تصريح بفنائها بذاتها؛ لأن الآباد مهما تكررت لها نهاية، ولأن رحمة الله عز وجل سبقت عذابه، ولأن الأصل في عذاب المعذبين هو بسبب ذنوبهم، وأن الذنوب مهما تكاثرت تنتهي إلى آخره من الأمور التي ذكرها ولم يعلق عليها، فهو إنما ذكرها أدلة للقائلين بانقطاع العذاب، ففهم بعض الناس أن شيخ الإسلام ابن تيمية يؤيد هذا القول، مع أنه لم يؤيده ولم يعارضه؛ إلا أنه في الم

أدلة القائلين بفناء النار دون الجنة

أدلة القائلين بفناء النار دون الجنة قال رحمه الله تعالى: [فمن أدلة القول الأول منهما: قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128]. وقوله تعالى. {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:106 - 107]. ولم يأت بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة، وهو قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108]. وقوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23]. وهذا القول - أعني القول بفناء النار دون الجنة - منقول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد وغيرهم رضي الله عنهم. وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور بسنده إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه. ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] قالوا: والنار موجب غضبه، والجنة موجب رحمته. وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لما قضى الله الخلق، كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) وفي رواية: (تغلب غضبي) رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. قالوا: والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه: {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15] و {أَلِيمٌ} [الأعراف:73] و {عَقِيمٍ} [الحج:55] ولم يخبر ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم، وقد قال تعالى: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156]. وقال تعالى حكاية عن الملائكة: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر:7]]. في الإشارة إلى اليوم في قوله: (عذاب يوم) هنا يقصد أنه يوم لا بد أن يكون له نهاية في دلالته اللغوية، وحتى في الدلالات الاصطلاحية للغة، فاليوم سواء كان من أيام الدنيا أو من أيام الآخرة فإنه محدود بحد زمني معين، فالإشارة إلى أن العذاب في يوم يدل على أنه ينقطع، ولذلك لم يرد نص في نعيم الجنة بأنه يوم، وهذا دليل على أنه لا ينقطع، هذا من أدلتهم. واليوم هو يوم القيامة عند الحساب، ولا شك أن الحساب له يوم معين ويوم الجزاء له وقت معين أيضاً. أما ما ورد في قول الله عز وجل: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:55] فالمقصود به يوم القيامة عند الحساب قبل دخول الجنة. أما نعيم الجنة فلم يوصف بأنه يوم. قال رحمه الله تعالى: [فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته، وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم، وليس في حكمة أحكم الحاكمين ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً لا نهاية له، وأما أنه يخلق خلقاً ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيماً سرمداً فمن مقتضى الحكمة، والإحسان مراد لذاته، والانتقام مراد بالعرض. قالوا: وما ورد من الخلود فيها والتأبيد وعدم الخروج، وأن عذابها مقيم، وأنه غرام، كله حق مسلم لا نزاع فيه، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد، ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه. ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها، قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68]]. هذه أدلة الفريق الأول ممن ينسبون إلى أهل السنة والجماعة، أو أنهم من أهل السنة والجماعة إن صح القول عنهم، وذكر أدلة شرعية وأدلة عقلية وقواعد عامة، وذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية تفصيلاً كما ذكرها ابن القيم أيضاً في (حادي الأرواح) وكذلك في (الصواعق المرسلة). وكلام ابن القيم قريب من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعضه منقول عنه، لكن ليس فيه ما يدل على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم قالا بهذا القول صراحة.

أدلة القائلين ببقاء النار وعدم فنائها

أدلة القائلين ببقاء النار وعدم فنائها قال رحمه الله تعالى: [ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها]. قوله: (ببقائها وعدم فنائها) فيه نوع من الغلو؛ لأن بعض أصحاب القول الأول ما قال بفناء النار، وإنما قال بانقطاع عذاب أهلها، فتداخلت الأقوال، ولذلك القول بفناء النار بنفسها قول شنيع عند الجميع بالإجماع، وإن نسب إلى بعض أهل العلم والفضل، لكن ربما من زلة العالم أو من التوهم أو الاجتهاد الخاطئ، بينما القول بانقطاع العذاب أو بخروج أهل النار منها بعد أبد الآباد هذا قول أخف من القول بنفائها بنفسها، والقول بانقطاع العذاب أو بخروج أهل النار بعد آباد وآماد طويلة لا يلزم منه القول بفناء النار بنفسها. وهنا سرد أدلة القائلين ببقائها، وبعضها لا يتضمن القول ببقاء النار، إنما يتضمن فقط القول ببقاء عذاب أهل النار، وعدم انقطاع عذاب أهلها. قال رحمه الله تعالى: [ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها، قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [التوبة:68]. وقوله: {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:75]. وقوله: {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30]. وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23]. وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر:48]. وقوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:167]. وقوله: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40]. وقوله: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]. وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65] أي: مقيماً لازماً. وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله، وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان. وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما، بل بإبقاء الله لهما. وقوله: وخلق لهما أهلاً، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} [الأعراف:179]. وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: (دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار، فقلت: يا رسول الله! طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يعمل السوء ولم يدركه، فقال: أو غير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم) رواه مسلم وأبو داود والنسائي. وقال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:2 - 3] والمراد الهداية العامة، وأعم منها الهداية المذكورة في قوله تعالى: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50]. فالموجودات نوعان: أحدهما مسخر بطبعه، والثاني متحرك بإرادته، فهدى الأول لما سخره له طبيعة، وهدى الثاني هداية إرادية تابعة لشعوره وعلمه بما ينفعه ويضره. ثم قسم هذا النوع إلى ثلاثة أنواع: نوع لا يريد إلا الخير، ولا يتأتى منه إرادة سواه، كالملائكة. ونوع لا يريد إلا الشر، ولا يتأتى منه إرادة سواه، كالشياطين. ونوع يتأتى منه إرادة القسمين، كالإنسان، ثم جعله ثلاثة أصناف: صنفاً يغلب إيمانُه ومعرفتُه وعقلُه هواه وشهوتَه، فيلتحق بالملائكة. وصنفاً عكسه، فيلتحق بالشياطين. وصنفاً تغلب شهوته البهيمية عقله، فيلتحق بالبهائم. والمقصود أنه سبحانه أعطى الوجودين: العيني، والعلمي، فكما أنه لا موجود إلا بإيجاده فلا هداية إلا بتعليمه، وذلك كله من الأدلة على كمال قدرته، وثبوت وحدانيته، وتحقيق ربوبيته سبحانه وتعالى. وقوله: (فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه) إلى آخره. مما يجب أن يعلم أن الله تعالى لا يمنع الثواب إلا إذا منع سببه، وهو العمل الصالح، فإنه: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112] وكذلك لا يعاقب أحداً إلا بعد حصول سبب العقاب، فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30]؟ وهو سبحانه المعطي المانع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، لكن إذا منَّ على الإنسان بالإيمان والعمل الصالح، لا يمنعه موجب ذلك أصلاً، بل يعطيه من الثواب والقرب ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر

شرح العقيدة الطحاوية [91]

شرح العقيدة الطحاوية [91] الاستطاعة عند أهل السنة والجماعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به تكون مع الفعل، ومن جهة التوسع والصحة والتمكين تكون قبل الفعل، والله لا يكلف العباد ما يشق عليهم وما لا يقدرون عليه، وأما الأشعرية ومن نحا نحوهم من أهل الكلام والفلسفة فقد طال جدلهم وكلامهم في مسائل الاستطاعة والجبر والكسب والقدر، عندما حكموا العقل وابتعدوا عن النص، وقد رد عليهم أهل العلم وبينوا مخالفاتهم في الكسب وأفعال العباد والقدرة.

مفهوم الاستطاعة

مفهوم الاستطاعة قال رحمه الله تعالى: [والاستطاعة التي يجب بها الفعل من نحو التوفيق الذي لا يوصف المخلوق به تكون مع الفعل. وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع والتمكين وسلامة الآلات فهي قبل الفعل وبها يتعلق الخطاب، وهو كما قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]]. المقصود بموضوع الاستطاعة هنا القدرة التي أقدر الله بها العباد المكلفين على الفعل، ولها ارتباط بالإرادة والمشيئة والقدر عموماً، فالاستطاعة هي قدرة المكلف على فعل الشيء الذي أقدره الله على فعله. وموضوع الاستطاعة من الموضوعات التي ابتدع فيها أهل الأهواء من المعتزلة والجهمية الكلام، ثم صارت من أصول أهل الكلام الأشاعرة والماتريدية، واشتهرت باسم الكسب عند الأشاعرة؛ نظراً لأن الأشعري يرى أن استطاعة العباد على أفعالهم التي يقدرهم الله عليها تأتيهم عن طريق الكسب، لا القدرة الكاملة على الفعل، بمعنى: أنه يرى أن الإنسان المكلف ليس في الأصل قادراً على الفعل، إلا عند العزم والشروع بالفعل، حتى وإن كان يملك جميع القدرة والوسائل، كالمشي مثلاً قدرة يتم بالاستطاعة، فيقول: إن الإنسان الذي يقدر على المشي أعطاه الله عز وجل وسيلة وهي الرجلين، ولا يمكن أن نسميه مستطيعاً على المشي إلا إذا عزم على الفعل، فإذا عزم وأنشأ التحرك أقدره الله، أو في تلك اللحظة التي عزم فيها أوجد الله عز وجل له الاستطاعة. وهذه فلسفة فيها شيء من الغموض واللبس من ناحية، ومن ناحية أخرى ليس لها أصل في الشرع، نحن نعلم أن الله عز وجل جعل للعباد قدرات فيما يقدرون عليه، وجعل لهم وسائل وهي الجوارح، والقدرات موجودة قبل الفعل وبعده، لكنها لا تتمثل لنا بفعل حقيقي إلا عند الفعل الحقيقي. فالإنسان المتكلم الذي يملك القدرة على الكلام نسميه متكلماً وقادراً على الكلام، حتى وإن لم يتكلم، والقدرة على الكلام موجودة عنده، لكن قد لا يعزم على الكلام فيسكت، وحينما سكت لا يعني أنه غير قادر أو غير مستطيع على الكلام. وكذلك بعد الفعل، فالمسألة فيها نوع من التفلسف عند أهل الكلام، خاصة الأشعري ومن جاء بعده، حيث زعم أن الاستطاعة على الفعل لا تكون إلا أثناء الشروع فقط، وكأن الإنسان يصادفها مصادفة أو يكسبها كسباً، كالإنسان الذي يبحث عن شيء مفقود، فإنه لا يتهيأ له -حسب رأيهم- أن يكون وجد هذا الشيء إلا عندما يقع عليه، ومثلوا بالقدرة أو بالاستطاعة على الشيء المفقود، فإنه لا يمكن أن يكون وجد الشيء إلا أثناء التمكن منه، وهذا القياس غير صحيح، فلذلك عدت مسألة الاستطاعة والكسب عند الأشعري من المعضلات التي لا يمكن تفسيرها تفسيراً صحيحاً. المهم أن السلف يرون أن الله عز وجل أقدر العباد المكلفين على الأفعال، التي عندهم وسيلة إليها قبل الفعل وبعد الفعل وأثناء الفعل، وأنهم بذلك مكلفون، لكن قد يهيئ الله عز وجل لبعض العباد أن يفعل، وقد لا يهيئ الله عز وجل لبعض العباد أن يفعل. فتأتي مسألة الهداية والإضلال والتوفيق والخذلان متفرعة من مسألة الاستطاعة، وسيأتي الحديث عنها بعد قليل. قال رحمه الله تعالى: [الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع ألفاظ متقاربة، وتنقسم الاستطاعة إلى قسمين كما ذكره الشيخ رحمه الله، وهو قول عامة أهل السنة، وهو الوسط]. القسم الأول: أن الاستطاعة قوة كاملة في الإنسان القادر المكلف موجودة قبل الفعل. القسم الثاني: أنها موجودة أيضاً أثناء الفعل، والإنسان ليس مجبوراً، فالإنسان قادر على أن يفعل أو لا يفعل في الأمور الاختيارية، فقادر أن يفعل، وهذه قدرة ثابتة للفعل، ثم تلحق إذا أنشأ الفعل، وقادر ألا يفعل أيضاً. إذاً: المقصود بالقسم الأول: القدرة الكاملة في الإنسان. والقسم الثاني: القدرة التي تتهيأ للإنسان أثناء الشروع في الفعل. قال رحمه الله تعالى: [وقالت القدرية والمعتزلة: لا تكون القدرة إلا قبل الفعل. وقابلهم طائفة من أهل السنة فقالوا: لا تكون إلا مع الفعل. والذي قاله عامة أهل السنة: إن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي، وهذه قد تكون قبله، لا يجب أن تكون معه]. يعني: جعل الله عز وجل القدرة التي أعطاها العباد سبباً للتكليف، ولذلك الإنسان الذي لا يستطيع أن يفعل شيئاً من الأمور التي أمر بها، فإنه لا يحاسب، وغير مكلف بها، ورفع الله الحرج عن غير المستطيع، لكن الاستطاعة هي مناط التكليف، يعني: أن الله عز وجل جعل للعباد قدرات وقوى كاملة فيهم، هي الوسيلة لفعل ما أمر الله به، وترك ما نهى عنه.

محل القدرة من حيث الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات وأدلتها

محل القدرة من حيث الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات وأدلتها قال رحمه الله تعالى: [والقدرة التي يكون بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة. وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع، والتمكن وسلامة الآلات، فقد تتقدم الأفعال]. يعني: أنه قسم أفعال العباد هنا إلى قسمين وهذا هو الصحيح. القسم الأول: كون الإنسان قادراً على الفعل قبل فعله، فيما يقدره الله عليه. القسم الثاني: التمكن من الفعل أثناء الفعل. وقال السلف بالأمرين: إن الإنسان فاعل وقادر حتى قبل أن يتمكن، وإذا فعل فإنه فاعل بقدرة أقدره الله عليها أثناء الفعل. وهذا مما خالف فيه الأشاعرة حيث قالوا: القدرة لا تكون إلا أثناء الفعل فقط. وكذلك الجبرية الجهمية وبعض المعتزلة خالفوا وقالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل، أما أثناء الفعل فالإنسان مجبور على الفعل، وكونه قادراً فالله عز وجل جبره أن يفعل بالقدرة السابقة. إذاً: قول الجبرية أن الإنسان قادر على أن يفعل الأشياء التي يقدر عليها، لكن قدرته أو فعله للشيء أثناء الشروع في الفعل لا يعد قدرة جديدة ولا استطاعة، إنما يعد مما جبر عليه. وكلا القولين خطأ، والصواب هو أن الله عز وجل أقدر العباد وأوجد فيهم القوة الكاملة الفطرية والغريزية على الفعل، ثم أثناء الفعل أيضاً هيأ الله عز وجل لهم التمكن من الشروع في الفعل. قال رحمه الله تعالى: [وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فأوجب الحج على المستطيع، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج، ولم يعاقب أحداً على ترك الحج، وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام]. يعني: أن الله عز وجل رتب الحكم على التمكن والقدرة، لا على ذات الفعل، فالله تعالى أوجب الحج على من تمكن وقدر عليه، فإن فعل قام بالواجب، وإن لم يفعل لم يقم بالواجب، ولم يرتب الحكم على الفعل؛ لأنه لم يقل: إن الحج لا يجب إلا على من باشر الحج، بل ذكر الله عز وجل في القرآن الكريم وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة أن الحج واجب على المستطيع، فرتبا الحكم على التمكن والقدرة والاستطاعة لا على الفعل ذاته، وهذا دليل على أن الإنسان قادر ومتمكن، وتوجد عنده الاستطاعة قبل الفعل، وأنه لو لم توجد عنده، لسقط عنه التكليف، لكن الأصل وجود الاستطاعة والتمكن والقدرة في عموم العباد المكلفين. قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة، فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى، لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى، ولم يعاقب من لم يتق، وهذا معلوم الفساد. وكذا قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة:4] والمراد منه استطاعة الأسباب والآلات. وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة:42] وكذبهم في ذلك القول، ولو كانوا أرادوا الاستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل، ما كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين، وحيث كذبهم دل أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال، على ما بين تعالى بقوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى} [التوبة:91] إلى أن قال: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ} [التوبة:93]. وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] والمراد: استطاعة الآلات والأسباب. ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـ عمران بن حصين: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) وإنما نفى استطاعة الفعل معها. وأما دليل ثبوت الاستطاعة التي هي حقيقة القدرة، فقد ذكروا فيها قوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود:20] والمراد نفي حقيقة القدرة، لا نفي الأسباب والآلات؛ لأنها كانت ثابتة]. يعني: أن هذه الآية تعني نفي الفعل لا نفي أصل القدرة؛ لأن الله عز وجل ما نفى أصل القدرة على السمع والبصر، وإنما جعل لهم أسماعاً وأبصاراً، لكن نفى أن يكون الله عز وجل وفقهم للسمع والبصر على الوجه الصحيح، وإنما خذلهم الله عز وجل فأعمى قلوبهم وأبصارهم وجعلهم لا يفعلون، أما أصل القدرة فهي موجودة، ولذلك جعل الله عز وجل التكليف مناط الثواب والعقاب. إذاً: كونهم ما يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون فيه نفي الشروع في الفعل لا نفي أصل القدرة، فالله عز وجل لم ينف عنهم أصل القدرة، لأن الله أعطاهم أسماعاً وأبصاراً وأفئدة، لكنه عاقبهم بالخذلان، بسبب ذنوب وأعمال اقترفوها. قال رحمه الله تعالى: [وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قو

الرد على القدرية في اعتقادهم أن العبد يخلق فعله

الرد على القدرية في اعتقادهم أن العبد يخلق فعله قال رحمه الله تعالى: [وما قالته القدرية بناء على أصلهم الفاسد، وهو إقدار الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء، فلا يقولون: إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان، بل هذا بنفسه رجح الطاعة، وهذا بنفسه رجح المعصية، كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفاً، فهذا جاهد به في سبيل الله، وهذا قطع به الطريق. وهذا القول فاسد]. يعني: هذا القول بأنه لا دخل لقدرة الله عز وجل في أفعال العباد، الذي يتضمن قولهم بنفي الهداية والإضلال من الله عز وجل، وبنفي التوفيق والخذلان، فنحن نقول: إن الله عز وجل يهدي من يشاء ويوفق من يشاء، وأن الله عز وجل يضل من يشاء ويخذل من يشاء، هم يقولون: لا، الإنسان خالق لأفعاله قادر على أفعاله، فإن ضل فبقدرته واستطاعته التي توجد في غريزته، وإن اهتدى فبقدرته واستطاعته. هذا كلام قدرية المعتزلة، وهذا باطل، فإن الله عز وجل أقدر المؤمنين على فعل الخيرات هداية منه وتوفيقاً سبحانه، وأقدر الكفار على فعل الكفر، وحجبهم عن الخير والهدى إضلالاً وخذلاناً منه؛ لأمر يعلمه سبحانه ولحكمة؛ لما يعلمه عن هؤلاء العباد وما يستحقون. فلا يقال: إن الله عز وجل لم يخص المطيع بالطاعة، إنما المطيع بإرادته وباستطاعته أطاع فقط، بل لا بد من أن يكون لله عز وجل تقدير في التوفيق والخذلان. قال رحمه الله تعالى: [وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية، خصه بها دون الكافر، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر، كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7]. فالقدرية يقولون: هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق، وهو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق، والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمن، ولهذا قال: {أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات:7] والكفار ليسوا راشدين]. هناك خلط في العبارات، فقوله: (فالقدرية يقولون: هذا التحبيب إلى آخره، إلى أن قال: وإظهار دلائل الحق بدأ يرد على القدرية، فقال: والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمنين) يعني: تزيين الإيمان في القلوب وتحبيبه خاص بالمؤمنين. قال رحمه الله تعالى: [وقال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:125]. وأمثال هذه الآية في القرآن كثير، يبين أنه سبحانه هدى هذا وأضل هذا، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف:17] وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان إن شاء الله تعالى. وأيضاً فقول القائل: يرجح بلا مرجح، إن كان لقوله: (يرجح) معنى زائد على الفعل، فذلك هو السبب المرجح، وإن لم يكن له معنى زائد، كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح، وهذا مكابرة للعقل، فلما كان أصل قول القدرية: إن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء؛ امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه؛ لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك وإنما تكون للفاعل، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى. وهم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل، قالوا: لا تكون مع الفعل، لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك، وحال وجود الفعل يمتنع الترك، فلهذا قالوا: القدرة لا تكون إلا قبل الفعل، وهذا باطل قطعاً]. هنا ترك قول الأشاعرة، وبدأ يرد على القدرية.

الرد على الأشاعرة في القدرة

الرد على الأشاعرة في القدرة قال رحمه الله تعالى: [فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع، بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجوداً عند الفعل، فنقيض قولهم حق، وهو: أن الفعل لابد أن يكون معه قدرة. لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين: حزب قالوا: لا تكون القدرة إلا معه، ظناً منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين، وظناً من بعضهم أن القدرة عرض، فلا تبقى زمانين، فيمتنع وجودها قبل الفعل]. هؤلاء هم الأشاعرة، رجع المؤلف إليهم مرة أخرى، وجعلهم من أهل الإثبات، وقال: إنهم حزب من القائلين بإثبات القدرة، لكنهم حصروا القدرة على وقت الفعل. قال رحمه الله تعالى: [والصواب: أن القدرة نوعان كما تقدم: نوع مصحح للفعل يمكن معه الفعل والترك، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي، وهذه تحصل للمطيع والعاصي، وتكون قبل الفعل، وهذه تبقى إلى حين الفعل، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول: إن الأعراض لا تبقى زمانين، وهذه قد تصلح للضدين، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة، فلا يكلف الله من ليس معه هذه الطاقة، وضد هذه العجز، كما تقدم. وأيضاً: فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه. فالشارع ييسر على عباده، ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة المرض وتأخر برئه، فهذا في الشرع غير مستطيع لأجل حصول الضرر عليه، وإن كان قد يسمى مستطيعاً. فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعل ممكناً مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائماً مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ونحو ذلك. فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة، فكيف يكلف مع العجز؟ ولكن هذه الاستطاعة -مع بقائها إلى حين الفعل- لا تكفي في وجود الفعل، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل، بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن، مع جعل الفاعل مريداً، فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة وإرادة، والاستطاعة المقارنة تدخل فيها الإرادة الجازمة، بخلاف المشروطة في التكليف، فإنه لا يشترط فيها الإرادة. فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه، وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض، فالإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة لزم وجود الفعل. وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق، فإن من قال: القدرة لا تكون إلا مع الفعل يقول: كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق، وما لا يطاق يفسر بشيئين: بما لا يطاق للعجز عنه، فهذا لم يكلفه الله أحداً، ويفسر بما لا يطاق للاشتغال بضده، فهذا هو الذي وقع فيه التكليف، كما في أمر العباد بعضهم بعضاً، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف، ويأمره إذا كان قاعداً أن يقوم، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة]. بهذا ينتهي الدرس، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الطحاوية [92]

شرح العقيدة الطحاوية [92] تنازع العلماء في القول بفناء النار على أقوال ومذاهب، أقواها وأشهرها هو قول جمهور العلماء والمحققين أن النار لا تفنى ولا تبيد، وقد نسب القول بفناء النار لبعض الصحابة والتابعين.

الأقوال في فناء الجنة والنار

الأقوال في فناء الجنة والنار الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فسبق أن وعدتكم أن نقرأ جملة من رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على من قال بفناء الجنة والنار، وبيان الأقوال في ذلك؛ لأن هذه المسألة من المسائل المعضلة التي كثر الخلاف فيها قديماً وحديثاً، وأيضاً نسب إلى شيخ الإسلام فيها قول قد لا يصح في الجملة، والآن سنقرأ جملة من كلام الشيخ في الرسالة؛ لأن الرسالة طويلة، وبعضها قد لا تلزم قراءته؛ لأن فيها شيئاً من الاستطرادات، لكن قبل أن نبدأ بالقراءة أحب أن أنبه أن شيخ الإسلام حينما تكلم عن هذا الموضوع تكلم عنه بناء على إشكال ورد عند تلميذه ابن القيم في مسألة القول بفناء الجنة والنار، أو القول بفناء النار، فلما تهيأت فرصة لـ شيخ الإسلام تكلم عن هذا الموضوع بلسانه، وهذه الرسالة اشتهرت عند الناس قديماً وحديثاً، لكنها لم تطبع وتخرج محققة إلا في الآونة الأخيرة في كتاب تحت عنوان: (الرد على من قال بفناء الجنة والنار، وبيان الأقوال في ذلك) تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية، دراسة وتحقيق الدكتور محمد بن عبد الله السمهري. وقد وضع المحقق جزاه الله خيراً مقدمة جيدة، درس فيها هذه المسألة وأقوال الناس، وما قيل في شيخ الإسلام بسببها ما بين ناف أو مثبت، ثم حقق الرسالة، وشيخ الإسلام ابن تيمية بدأ رسالته في الكلام عن القول بفناء الجنة والنار بذكر أقوال أهل العلم جملة، كما ذكرها ابن القيم في (حادي الأرواح) فذكر أن الناس تنازعوا في ذلك على ثلاثة أقوال: القول الأول: القول ببقائهما مطلقاً، أي: الجنة والنار، وهذا قول جمهور السلف وجمهور المسلمين، فالجمهور -وهم الأغلب- قالوا ببقاء الجنة والنار إلى ما لا نهاية بإذن الله وبقدرته سبحانه. والقول الثاني: من قال بفنائهما معاً، أي: الجنة والنار، وهذا قول منكر، وهو قول الجهم بن صفوان ومن تابعه القول بفنائهما مطلقاً، بأن الجنة والنار تفنيان، وبالتبع يفنى النعيم والعذاب. وهذا قول منكر، فقد كفر السلف من قال به. والقول الثالث: من قال ببقاء الجنة مطلقاً لصراحة النصوص في ذلك إلى ما لا نهاية بإذن الله، والقول بفناء النار أو بانقطاع عذابها. وأصحاب هذا القول لم يميزوا بين الأمرين تمييزاً واضحاً، ثم أشار شيخ الإسلام إلى أن القول بفنائهما من الأقوال الشاذة، فما رأينا أحداً حكاه عن أحد من السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حكوه عن الجهم بن صفوان وأتباعه الجهمية، وهذا مما أنكره عليه أئمة الإسلام، بل ذلك مما أكفروهم به، ثم ذكر كلاماً لـ عبد الله بن أحمد بن حنبل في السنة، والآن نقرأ كلام شيخ الإسلام بالتفصيل حول القول بفناء النار، بعد أن قرر الإجماع والقول الجزم بأن الجنة لا تفنى. قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وأما القول بفناء النار ففيها قولان معروفان عن السلف والخلف، والنزاع في ذلك معروف عن التابعين ومن بعدهم. وهذا أحد المأخذين في دوام عذاب من يدخلها، فإن الذين يقولون: إن عذابهم له حد ينتهي إليه ليس بدائم، كدوام نعيم الجنة، قد يقولون: إنها قد تفنى، وقد يقولون: إنهم يخرجون منها، فلا يبقى فيها أحد، لكن قد يقال: إنهم لم يريدوا بذلك أنهم يخرجون مع بقاء العذاب فيها على غير أحد، بل يفنى عذابها، وهذا هو معنى فنائها]. يعني: هذه المسألة ليست واضحة، وليست هناك أقوال صريحة فيها، والآن سيسوق أسماء من أُثِرَ عنهم القول بانقطاع العذاب، وتضمن هذا القول بفناء النار، لكنهم ما صرحوا بفناء مطلق، فقولهم يتوجه إلى أمرين: إلى خروج أهل النار منها بعد أحقاب طويلة لا يعلمها إلا الله عز وجل، وانقطاع العذاب عن المعذبين، لكن ما صرحوا بأن النار تفنى، وربما يقول قائل: إذا كان أهل النار بعد أحقاب طويلة يخرجون منها فما فائدة بقائها؟ نقول: هذا شيء ليس لنا أن نعلقه على فائدة نتحكم بها، وأيضاً أننا نجد في هذا حكمة وهي: أن في بقاء النار -وإن كان ليس فيها أحد- تذكيراً لأهل الجنة الذين فيها بنعمة الله عليهم؛ حتى يداوموا على حمد الله وشكره وغير ذلك من الفوائد التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، كما أن هناك من المخلوقات ما لا يفنى كالكرسي والقلم وغير ذلك، والله أعلم.

القائلون بفناء النار وأدلتهم

القائلون بفناء النار وأدلتهم قال رحمه الله تعالى: [وقد نقل هذا القول عن عمر وابن مسعود وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وغيرهم رضي الله عنهم]. هؤلاء أربعة من الصحابة رضي الله عنهم نقل عنهم القول بذلك، وإن كان كثير من أهل العلم طعنوا في أسانيد النقل إليهم، لكن الكلام فيها بين الصحابة وبين التابعين مشهور، بغض النظر عمن ثبت عنه القول ومن لم يثبت، مع أن بعض أهل العلم صحح القول المنسوب إلى عمر رضي الله عنه في بعض أسانيده.

أثر عمر في خروج أهل النار منها

أثر عمر في خروج أهل النار منها قال رحمه الله تعالى: [وقد روى عبد بن حميد -وهو من أجل علماء الحديث- في تفسيره المشهور، قال: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري قال: قال عمر رضي الله عنه: لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج، لكان لهم على ذلك يوم يخرجون فيه. وقال: أنبأنا حجاج بن منهال عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو لبث أهل النار في النار عدد رمل عالج، لكان لهم يوم يخرجون فيه. ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23]. وهذا يبين أن مثل الشيخ الكبير من علماء الحديث والسنة يروي عن مثل هؤلاء الأئمة في الحديث والسنة، مثل: سليمان بن حرب، الذي هو من أجل علماء السنة والحديث، ومثل: حجاج بن منهال في كلامهما، عن حماد بن سلمة مع جلالته في العلم والسنة، والذي يروى من وجهين: من طريق ثابت، ومن طريق حميد، هذا عن الحسن البصري الذي يقال: إنه أعلم من بقي من التابعين في زمانه، يرويه عن عمر بن الخطاب، وإنما سمعه الحسن من بعض التابعين، فسواء كان قد حفظ هذا عن عمر أو لم يحفظ، كان مثل هذا الحديث متداولاً بين هؤلاء العلماء الأئمة لا ينكرونه، وهؤلاء كانوا ينكرون على من خرج عن السنة من الخوارج، والمعتزلة، والمرجئة، والجهمية. وكان أحمد بن حنبل يقول: أحاديث حماد بن سلمة هي الشجا في حلوق المبتدعة. فهؤلاء من أعظم أعلام أهل السنة الذين ينكرون من البدع ما هو دون هذا، لو كان هذا القول عندهم من البدع المخالفة للكتاب والسنة والإجماع، كما يظنه طائفة من الناس]. قصد الشيخ هنا: أن الإرسال بين الحسن وبين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يضر في ثبوت أصل القضية بين السلف، وأنها مسألة يتكلم فيها؛ لأن هذا السند رجاله ثقات إلى الحسن، والحسن رحمه الله نسبه إلى عمر، وسواء صحت النسبة أو لم تصح فهذا لا يضر بأصل القضية؛ لأن الحسن تكلم بها وأسندها إلى عمر، ثم كلامه بها اشتهر، ورواه عنه هؤلاء الثقات الذين يميزون، وهم صيارفة الأسانيد والحديث، ومع ذلك ما أنكروا أصل القضية حينما رووها، فلو كان هذا الكلام عندهم بدعة لبدعوه وردوه. قال رحمه الله تعالى: [وعبد بن حميد ذكر هذا في تفسير قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23]؛ ليبين قول من قال: الأحقاب لها أمد ينفد، ليست كالرزق الذي ما له من نفاد، ولا ريب أنه من قال هذا القول، قول عمر ومن نقله عنه، إنما أرادوا بذلك جنس أهل النار الذين هم أهلها. فأما قوم أصيبوا بذنوب، فأولئك قد علم هؤلاء وغيرهم بخروجهم منه، وأنهم لا يلبثون فيها قدر رمل عالج، ولا قريباً من ذلك. والحسن كان يروي حديث الشفاعة في أهل التوحيد، وقد ذكره البخاري ومسلم عنه، وكذلك حماد بن سلمة كان يجمعها ويحدث بها، وكذلك سليمان بن حرب وأمثاله، فهذا عندهم لا يقال فيه مثل هذا، ولفظ أهل النار لا يختص بالموحدين، بل يختص بمن عداهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون). وقوله: (يخرجون منها) أي: يخرجون من جهنم بعد أن يفنى عذابها وينفد وينقطع. فهم لا يخرجون منها -يعني: جهنم- بل هم خالدون في جهنم، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، لكن إذا انقضى أجلها، وفنيت كما تفنى الدنيا، لم يبق فيها عذاب، وذلك أن العالم لا يعدم، وجهنم في الأرض، والأرض لا تعدم بالكلية، ولكن فناؤها بتغير حالها، واستحالتها من حال إلى حال. كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن:26]، وهم لا يعدمون، بل يموتون ويهلكون، وكما قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، فإذا أنفده الرجل فقد نفد ما عنده، إن كان لم يعدم، بل انتقل من حال إلى حال.

أثر ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله)

أثر ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله) وفي تفسير علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما -وهو معروف مشهور- ينقل منه عامة المفسرين الذين يسندون التفسير كـ ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم، وعثمان بن سعيد الدارمي، والبيهقي، والذين يذكرون الإسناد مجملاً كـ الثعلبي، والبغوي، والذين لا يسندون كـ الماوردي، وابن الجوزي قال: قوله: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128]. قال: وفي هذه الآية أنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً. قال الطبري: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يتأول في هذا الاستثناء: أن الله تعالى جعل أمر هؤلاء القوم في مبلغ عذابه إياهم إلى مشيئته]. إذاً: ينبغي أن نستصحب في أذهاننا أمرين: الأمر الأول: أن شيخ الإسلام هنا لم يؤيد هذا القول ولم يعارضه، بمعنى أنه لم ينتصر له انتصاراً يرى أنه هو الراجح، ولم يظهر منه أنه يرى أن هذا القول باطل، إنما ساقه على أنه قول قيل من أهل العلم، وأنه ثبت أنه قال به من لهم اعتبارهم من أهل العلم. الأمر الثاني: أن هذا القول بحد ذاته ليس من الأقوال المنكرة، بغض النظر عن كونه راجحاً أو مرجوحاً، وإن كان غير قول الجمهور، لكنه قول له اعتباره؛ لعموم الأدلة، وهذا الاعتبار لا يعني أنه صحيح بالضرورة، قد يكون الصحيح هو رأي الجمهور، لكن يريد رحمه الله أن يقرر أن هذه المسألة مسألة مشهورة، وقال بها من لهم علمهم وفضلهم من السلف، وطائفة أقروها ولم ينكروها وإن لم يقولوا بها، ورووها بأسانيد صحيحة ولم ينكروا أصل القول، إنما سكتوا عنه، فغاية ما يقال: إن هذا القول اجتهادي، وإن من قال به خلاف رأي الجمهور يمكن أن يقال: إنه أخطأ، لكن ليس ببدعة؛ لأن الدلالة على قول هذا الفريق وجيه، ويكون قول الجمهور أوجه منه وأصح. إذاً: لا بد من أن نضع في أذهاننا أن سياق شيخ الإسلام ابن تيمية لهذه المسألة، وذكر أقوال الذين قالوا بفناء النار وانقطاع عذابها وذكر أدلتهم لا يعني أنه ينتصر لهذا القول، ولا أنه هو القول الراجح، وكثيراً ما يسلك شيخ الإسلام هذا المسلك في المسائل الخلافية، يسردها دون أن ينتصر لها أو يرد عليها، ينبغي أن نفهم هذا؛ لئلا يلتبس الأمر علينا. قال رحمه الله تعالى: [قال الطبري: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا} [الأنعام:128]. قال في هذه الآية: إنه لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً. وهذا الوعيد في هذه الآية ليس مختصاً بأهل القبلة، فإنه قال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:128 - 129]، (فأولياؤهم من الإنس) لفظ يدخل فيه الكفار قطعاً، فإنهم أحق بموالاتهم من عصاة المسلمين. وقال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99 - 100]. وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202]. وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]. وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]. وقال تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَان

الآثار الواردة عن ابن مسعود وأبي هريرة وغيرهما في خلو جهنم من المعذبين بعد مضي الحقب

الآثار الواردة عن ابن مسعود وأبي هريرة وغيرهما في خلو جهنم من المعذبين بعد مضي الحقب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً، وهؤلاء هم الكفار. وعن أبي هريرة رضي الله عنه مثله. قال البغوي: ومعناه عند أهل السنة إن ثبت: ألا يبقى فيها أحد من أهل الإيمان. فيقال: إنهما لم يريدا ذلك، فإنهما بعدما يلبثون فيها أحقاباً، وهؤلاء هم الكفار المذكورون في قوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا * إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا * جَزَاءً وِفَاقًا * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَابًا * وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} [النبأ:21 - 28]. وهذا وصف الذين كذبوا بآيات الله، {كِذَّابًا} [النبأ:28] أي: تكذيباً، فهو تكذيب مؤكد بالمصدر، ولم أجد نقلاً مشهوراً عن أحد من الصحابة يخالف ذلك، بل أبو سعيد وأبو هريرة رضي الله عنهما هما رويا حديث ذبح الموت، وأحاديث الشفاعة، وخروج أهل التوحيد وغيرهما، قالا في فناء النار ما قالا، وقد نقل البغوي: روى السدي عن مرة عن عبد الله قال: لو علم أهل النار أنهم يلبثون في النار عدد حصى الدنيا لفرحوا. وقد استفاض عن غير واحد من السلف تقدير الحقب بحد محدود، والأحقاب جمع حقب، فروى ابن أبي حاتم عن عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما قال في قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] قال: سنين. وعن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] قال: الحقب: ثمانون سنة، والسنة ثلاثمائة وستون يوماً، واليوم كألف سنة، اليوم منها كالدنيا كلها. قال ابن أبي حاتم، وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص وهلال الهجري والضحاك وذكوان والحسن وسعيد بن جبير وقتادة وعمرو بن ميمون أنهم قالوا: الحقب: ثمانون سنة. وعن هشام عن الحسن البصري أنه سئل عن قوله تعالى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] فقال: الله أعلم بالأحقاب، فليس فيها عدد إلا الخلود، ولكنه بلغنا أن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، كل يوم من تلك الأيام كألف سنة مما تعدون. وعن هشام عن الحسن قال: الأحقاب لا يدري أحد ما هي؟ ولكن الحقب الواحد سبعون ألف سنة، اليوم منها كألف سنة مما تعدون. وقوله: الله أعلم ما الأحقاب، ولا يدري أحد ما هي؟ يقتضي أن لها عدداً الله أعلم به، ولو كانت لا عدد لها لعلم كل واحد أنه لا عدد لها، ويؤيد ما نقله الحسن عن عمر بن الخطاب كما تقدم. قول الحسن: (ليس فيها عدد إلا الخلود) حق أيضاً، فإنهم خالدون فيها لا يخرجون منها ما دامت باقية، فأقوال الحسن يصدق بعضها بعضاً. وأما خلودهم في النار فهو حق كما أخبر الله. وعن السدي: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] قال: سبعمائة حقب، كل حقب سبعون سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوماً، كل يوم كألف سنة مما تعدون. وعن عبد الله بن عمرو قال: الحقب: أربعون سنة.

أقوال الناس في الأحقاب المذكورة في آية النبأ من حيث تحديدها وعدمه

أقوال الناس في الأحقاب المذكورة في آية النبأ من حيث تحديدها وعدمه وقد تنازع الناس في الأحقاب، هل هي مقدرة محدودة؟ على قولين: فعلى قول السدي وغيره: هي محدودة مقدرة، وهو قول الزجاج وغيره، لكن قال الزجاج: المعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً، لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً. قال الزجاج: وبيانه: أن الأحقاب حد لعذابهم بالحميم والغساق، فإذا انقضت الأحقاب عذبوا بغير ذلك من العذاب. وهذا الذي قاله الزجاج شاذ، خلاف ما عليه الأولون والآخرون، وهو خلاف ما دل عليه القرآن، فإن هذا يقتضي أنهم يبقون بعد الأحقاب فيها، ولكن لا يذوقون البرد والشراب حينئذٍ، وهذا باطل قطعاً، ثم إذا ذاقوا البرد والشراب فهذا نعيم، فكيف يكونون معذبين فيها بعد ذلك؟ وقال بعضهم: هذه الآية منسوخة، وقيل: هي في أهل التوحيد. قال عبد الحق بن عطية في تفسيره: ومن الناس من ظن لذكر الأحقاب أن مدة العذاب تنحصر وتتم، فطلبوا التأويل لذلك، فقال مقاتل بن حيان: الحقب سبع عشرة ألف سنة، وهي منسوخة بقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30]، قال: وقد ذكرنا فساد هذا القول]. لا يمكن أن يرد نسخ الأخبار؛ فالله عز وجل إذا قال خبراً لا يمكن نسخه؛ لأن النسخ لا يرد إلا في الأوامر والنواهي والأحكام، فالكلام في النسخ مستبعد. قال رحمه الله تعالى: [وقال آخرون: الموصوف باللبث أحقاباً عصاة المؤمنين. قال: وهذا أيضاً ضعيف؛ فما بعده من السورة يرد عليه. وقال آخرون: إنما المعنى: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23] غير ذائقين برداً ولا شراباً، فبهذه الحال: يلبثون أحقاباً، ثم يبقى العذاب سرمداً وهم يشربون أشربة جهنم. والقول الثاني: إنها غير مقدرة، وقال هؤلاء: هذا لا يدل على غاية؛ لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب، ولو أنه قال: لابثين فيها عشرة أحقاب، أو خمسة أحقاب دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة وغيره. قال أبو الفرج بن الجوزي: وهذا قول ابن قتيبة والجمهور، وبيانه: أن زمان أهل الجنة والنار يتصور دخوله تحت العدد، كقوله تعالى: {بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11]، ومثل هذا أن كلمات الله داخلة تحت العدد، وإن لم يكن لها نهاية، فيقال: هذا ممنوع، فما لا نهاية له يمتنع أن يدخل تحت العدد، وإنما يدخل تحت العدد ما له مقدار محدود وهو المعدود، لكن إذا أُخِذَ بعض من أبعاضه دخل تحت العدد، كالبكرة والعشي، وهو مقدار يوم من أيام الجنة، ويعرف ذلك بنور يظهر لهم يزيد على النور المعتاد، يعرفون به البكرة والعشي، كما تظهر الشمس لأهل الدنيا، لكن الجنة ليس فيها ظلمة. وقوله: (كلمات الله داخلة تحت العدد) ممنوع؛ إنما يدخل منها تحت العدد بعض من أبعاضها، مثل: الآيات المنزلة، وإلا فما لا نهاية له كيف يكون معدوداً، وكلما عد بقدر معدود فهو ما حدّ، وما يقدره الإنسان بلسانه وذهنه من العدد فله حد، والذي لا يتناهى ليس له مقدار لا في ذهنه ولا في لسانه.

استدلال القائلين بفناء النار وانقطاع عذابها بقوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك)

استدلال القائلين بفناء النار وانقطاع عذابها بقوله تعالى: (خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك) وقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]. قال ابن أبي حاتم: ذكر عن جعفر بن سليمان عن الجريري قال: سمعت أبا نضرة يقول: ينتهي القرآن إلى هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]. وقد روى حرب الكرماني وأبو بكر البيهقي عن أبي سعيد الخدري وعن قتادة في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:106 - 107] الله أعلم بتثنيته على ما وقعت. وروى الطبري عن يونس أنبأنا ابن وهب حدثنا ابن زيد في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] فقرأ حتى بلغ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108]، فأخبرنا الذي شاء لأهل الجنة، فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار. وعن السدي: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107] إن هذه الآية يوم نزلت كانوا يطمعون في الخروج. قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن:23]، وذكر البغوي عن عبد الرحمن بن زيد أنه قال: قد أخبرنا الله سبحانه وتعالى بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار. وقد روى علماء السنة والحديث في ذلك آثاراً عن الصحابة والتابعين، مثل ما روى حرب الكرماني، وأبو بكر البيهقي، وأبو جعفر الطبري وغيرهم عن الصحابة في ذلك. وفي المسند للطبراني: ذكر فيه: (أنه ينبت فيها الجرجير) وحينئذ فيحتج على فنائها بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة، مع أن القائلين ببقائها ليس معهم كتاب ولا سنة ولا أقوال الصحابة. منها ما رواه حرب والبيهقي، قال حرب الكرماني: سألت إسحاق عن قول الله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ} [هود:107]، قال: أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن. قال إسحاق: حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال: قال لي أبي: حدثنا أبو نضرة عن جابر أو أبي سعيد، أو بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]. قال المعتمر: قال أبي: عنى كل وعيد في القرآن. ورواه أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسيره قال: حدثنا الحسن بن يحيى أنبأنا عبد الرزاق أنبأنا ابن التيمي عن أبيه عن أبي نضرة عن جابر أو أبي سعيد أو عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم في قوله سبحانه: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107]، قال: هذه الآية تأتي على القرآن كله، فيقول: حيث كان في القرآن: {خَالِدِينَ فِيهَا} [هود:107]، تأتي عليه. وقال ابن جرير حدثت عن ابن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس رضي الله عنهم: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود:107]، قال: استثنى الله عز وجل، قال: يأمر النار أن تأكلهم. قال: وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليأتين على جهنم زمان تخفق أبوابها ليس فيها أحد، وذلك بعدما يلبثون فيها أحقاباً. وقال: حدثنا محمد بن حميد الرازي حدثنا جرير عن بيان عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمراناً، وأسرعهما خراباً. وقال حرب الكرماني عن إسحاق بن راهوية حدثنا عبيد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي بلج سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو رضي الله

أدلة وطرق الذين قطعوا بدوام النار

أدلة وطرق الذين قطعوا بدوام النار قال رحمه الله تعالى: [قلت: والذين قطعوا بدوام النار لهم أربع طرق: أحدها: ظن الإجماع، فإن كثيراً من الناس يعتقد أن هذا مجمع عليه، ولا خلاف فيه بين السلف، وإن كان فيه خلاف حادث فهو من أقوال أهل البدع. والثاني: أن القرآن قد دل على ذلك دلالة قطعية، فإنه أخبر بخلودهم في النار أبداً في غير موضع من القرآن. والثالث: أن السنة المستفيضة أخبرت بخروج من في قلبه مثقال ذرة من إيمان من النار دون الكفار، فإنهم لم يخرجوا. والرابع: قول من يقول: الرسول وقفنا على ذلك، وعلمناه من بعده ضرورة، ولا يحتجون بنص معين، وعامة الناس يقولون: هذا لا نعلمه إلا من الخبر، وشذ بعضهم فزعم أن العقل دل على خلود الكفار. فأما الإجماع فهو أولاً: غير معلوم، فإن هذه المسائل لا يقطع فيها بإجماع، نعم قد يظن فيها الإجماع، وذلك قبل أن يعرف النزاع، وقد عرف النزاع قديماً وحديثاً، بل إلى الساعة لم أعلم أحداً من الصحابة قال: إنها لا تفنى، وإنما المنقول عنهم ضد ذلك، ولكن التابعون نقل عنهم هذا وهذا.

أدلة دوام النار من القرآن

أدلة دوام النار من القرآن وأما القرآن فالذي دل عليه حق، وليس في القرآن ما يدل على أنها لا تفنى، بل الذي يدل عليه ظاهر القرآن أنهم خالدون فيها أبداً، كما أخبر الله عز وجل في غير موضع، وأخبر أنهم يطلبون الموت والخروج منها، ويطلبون تخفيف العذاب فلا يجابون: لا إلى هذا ولا إلى هذا، وأخبر أنهم ماكثون فيها، وأخبر أنهم {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]. وقال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر:37]، {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:107 - 108]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:74 - 78]. وقوله: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف:77] أي: يميتنا، وهكذا قال المفسرون مثل: السدي وابن زيد وغيرهما. قال السدي: يقضي علينا بالموت، وقال ابن زيد: القضاء هاهنا: الموت. وكذلك قال سائر المفسرين، وهذا كقوله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر:36]. وعن الفراء في قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] إلى قوله تعالى: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27]، وذلك أن القضاء هو الإكمال والإتمام، والأمر المقتضى هو الذي قد مضى وفرغ. وبالموت تنقضي حياة الإنسان، فقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} [البقرة:161 - 162]. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:36 - 37]. وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:27 - 28]. فهذه النصوص وأمثالها في القرآن تبين أنهم خالدون في جهنم لا يموتون ولا يحيون، وأنهم يسألون هذا وهذا فلا يجابون. وهذا يقتضي خلودهم في جهنم دار العذاب مادام ذلك العذاب باقياً، ولا يخرجون منها مع بقائها وبقاء عذابها، كما يخرج أهل التوحيد، فإن هؤلاء يخرجون منها بالشفاعة، وغير الشفاعة مع بقائها، كما يخرج ناس من الحبس الذي فيه العذاب، مع بقاء الحبس والعذاب الذي فيه على من لم يخرج.

أدلة دوام النار من السنة

أدلة دوام النار من السنة وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -صحيح مسلم - عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم، فأماتهم الله إماتة، حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل). وفي الصحيحين: عن أبي هريرة في الحديث الطويل الذي فيه المرور على الصراط والشفاعة، وقال فيه: (حتى إذا فرغ الله من القصاص بين العباد، فأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئاً ممن أراد الله أن يرحمه، ممن يقول: لا إله إلا الله، فيعرفونهم بأثر السجود، وتأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتحشوا، فيصب عليهم ماء الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل، ثم يفرغ الله من القصاص بين العباد، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، وهو آخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة فيقول: رب اصرف وجهي عن النار) وذكر صرفه عن النار، ثم تقدمه إلى الجنة، ثم إلى بابها، ثم إدخاله الجنة، وأنه يعطيه ما تمناه ومثله معه. ورواه أبو سعيد، وقال: (وعشرة أمثاله). وكذلك في الصحيحين من حديث أبي سعيد قال: (حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقول: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً، وقد أخذت النار إلى نصف ساقيه، وإلى ركبتيه، فيقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتهم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً، إلى أن قال: ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً. وكان أبو سعيد الخدري يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث، فاقرءوا إن شئتم: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]. فيقول الله: شفعت الملائكة، وشفعت النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط، قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة، يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل، قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم، يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله، الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه، ثم يقول: ادخلوا الجنة، فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا، وأي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي، فلا أسخط عليكم بعده أبداً). وفي رواية: (من إيمان) بدل قوله: (من خير)، قال فيه: (فيقول الجبار: قد بقيت شفاعتي، فيقبض قبضة من النار، فيخرج أقواماً قد امتشحوا، فيلقيهم في نهر بأفواه الجنة) الحديث. ولم يقل: (لم يعملوا خيراً قط). وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر الجنة دخولاً الجنة: رجل يخرج من النار حبواً، فيقول الله له: اذهب: فادخل الجنة، فيأتيها فتخيل إليه أنها ملآى إلى أن قال: فيقول الله له: اذهب، فإن لك عشرة أمثال الدنيا، أو إن لك الدنيا وعشرة أمثالها). وفي رواية لـ مسلم: فيقول له: (تمن، فيتمنى، فيقال له: لك الذي تمنيت، وعشرة أضعافه). وهذا يوافق حديث أبي سعيد من وجهين: وكذلك لـ مسلم من حديث جابر: (مثل الدنيا وعشرة أمثالها)، كما في اللفظ الأول في حديث ابن مسعود. وفي حديث جابر في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يخرج ناساً من النار فيدخلهم الجنة). وفي رواية: (إن الله يخرج قوماً من النار بالشفاعة). ولـ مسلم من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً يخرجون من النار يحترقون فيها، إلا دارات وجوههم حتى يدخلون الجنة). وللبخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج قوم من النار بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيدخلون الجنة، فيسمون: الجهنميين).

الفرق بين بقاء الجنة والنار شرعا وعقلا

الفرق بين بقاء الجنة والنار شرعاً وعقلاً الفرق بين بقاء الجنة والنار. والفرق بين بقاء الجنة والنار شرعاً وعقلاً، فأما شرعاً، فمن وجوه: أحدها: أن الله أخبر ببقاء نعيم الجنة ودوامه، وأنه لا نفاد له ولا انقطاع في غير موضع من كتابه، كما أخبر أن أهل الجنة لا يخرجون منها، وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك، بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها، وأما النار وعذابها فلم يخبر ببقاء ذلك، بل أخبر أن أهلها لا يخرجون منها. الثاني: أنه أخبر بما يدل على أنه ليس بمؤبد في عدة آيات. الثالث: أن النار لم يذكر فيها شيء يدل على الدوام. الرابع: أن النار قيدها بقوله: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ:23]، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:128]، وقوله: {مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ} [هود:107]، فهذه ثلاث آيات تقتضي قضية مؤقتة أو معلقة على شرط، وذلك دائم مطلق ليس بمؤقت ولا معلق. الخامس: أنه قد ثبت أنه يدخل الجنة مَنْ يُنَشَأه في الآخرة لها، ويدخلها من دخل النار أولاً، ويدخلها الأولاد بعمل الآباء، فثبت أن الجنة يدخلها من لم يعمل خيراً، وأما النار فلا يعذب أحد إلا بذنوبه، فلا تقاس هذه بهذه. السادس: أن الجنة من مقتضى رحمته ومغفرته، والنار من عذابه، وقد قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50]. وقال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]. وقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف:167]. فالنعيم من موجب أسمائه التي هي من لوازم ذاته، فيجب داومه بدوام معاني أسمائه وصفاته. وأما العذاب فإنما هو من مخلوقاته، والمخلوق قد يكون له انتهاء مثل الدنيا وغيرها، لاسيما مخلوق خلق لحكمة تتعلق بغيره. السابع: أنه قد أخبر أن رحمته وسعت كل شيء، وأنه {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:12]، وقال: (سبقت رحمتي غضبي) و (غلبت رحمتي غضبي). وهذا عموم وإطلاق، فإذا قدر عذاب لا آخر له، لم يكن هناك رحمة ألبتة. الثامن: أنه قد ثبت مع رحمته الواسعة أنه حكيم، والحكيم إنما يخلق لحكمته العامة، كما ذكر حكمته في غير موضع، فإذا قدر أنه يعذب من يعذب لحكمة كان هذا ممكناً، توجد في الدنيا العقوبات الشرعية فيها حكمة، وكذلك ما يقدره من المصائب فيها حكم عظيمة، فيها تطهير من الذنوب، وتزكية للنفوس، وزجر عنها في المستقبل للفاعل ولغيره، ففيها عبرة، والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب، ولهذا قال في الحديث الصحيح: (إنهم يحبسون بعد خلاصهم من الصراط على قنطرة بين الجنة والنار، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة). والنفوس الشريرة الظالمة التي إذا ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه، لا يصلح أن تسكن دار السلام التي تنافي الكذب والظلم والشر، فإذا عذبوا بالنار عذاباً يخلص نفوسهم من ذلك الشر، كان هذا معقولاً في الحكمة، كما يوجد في تعذيب الدنيا، وخَلْقُ مَنْ فيه شر يزول بالتعذيب من تمام الحكمة، أما خَلْقُ نفوسٍ تعمل الشر في الدنيا، وفي الآخرة لا تكون إلا في العذاب، فهذا تناقض يظهر فيه من مناقضة الحكمة والرحمة ما لا يظهر في غيره. ولهذا كان الجهم لما رأى ذلك ينكر أن يكون الله أرحم الراحمين، وقال: بل يفعل ما يشاء، الذين سلكوا طريقته كـ الأشعري وغيره، ليس عندهم في الحقيقة حكمة ورحمة، ولكن له علم وقدرة وإرادة لا ترجح أحد الجانبين، ولهذا لما طلب منهم أن يقروا بكونه حكيماً، فسروه بأنه عليم أو قدير أو مؤيد، وليس من الثلاثة ما يقتضي الحكمة، وإذا ثبت أنه رحيم حكيم، وعلم بطلان قول الجهم تعين إثبات ما تقتضيه الرحمة والحكمة. وما قاله المعتزلة أيضاً باطل، فقول القدرية المجبرة والنفاة في حكمته ورحمته باطل، ومن أعظم ما غلطهم اعتقادهم تأييد جهم، فإن ذلك يستلزم ما قالوه، وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، والله سبحانه أعلم.

الآيات الواردة في بقاء الجنة وعدم فنائها

الآيات الواردة في بقاء الجنة وعدم فنائها وأما آيات بقاء الجنة. فالأول: مثل قوله تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد:35]. فأخبر أنه دائم، والمنقطع ليس بدائم. والثاني: مثل قوله: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص:54]، والمنقطع ينفد. والثالث: قوله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96]، فأخبر أن ما في الدنيا من الخير ينفد، وما عند الله باق لا ينفد، فلو كان لما عند الله من النعيم آخر، لكان ينفد كما ينفد نعيم الدنيا، ولم يكن باقياً لا ينفد. والرابع: مثل قوله تعالى في آيتين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت:8]. وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق:25]. كما قال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:3]. قال عامة المفسرين: غير مقطوع ولا منقوص. وذكروا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: غير مقطوع. وعن مقاتل: غير منقوص أيضاً. قال عامة المفسرين: غير مقطوع ولا منقوص، كما قال: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:3]. قالوا ومنه المنون؛ لأنه يقطع عمر الإنسان. وعن مجاهد: غير محسوب. وهذا يوافق ذلك؛ لأن ما ينتهي مقدر محسوب، بخلاف ما لا نهاية له فإنه غير محسوب. وقد شذ بعض الناس فقال: غير ممنون عليهم، من جنس قوله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ} [الحجرات:17]. وهذا القول مع مخالفته لأقوال السلف والجمهور هو خطأ لوجوه: أحدها: أن الله يمن علينا بكل نعمة أنعم بها علينا، حتى بالإيمان والعمل الصالح، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]. وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِم} [آل عمران:164]. وقال أهل الجنة ما أخبر الله تعالى به في قوله: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:25 - 27]. وهذا قولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43]. وقوله: {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57]، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحد منكم بعمله الجنة، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل). والله تعالى في غير موضع يذكر آلاءه وإحسانه ونعمه على عباده، ويأمرهم أن يذكروها، ويأمرهم أن يشكروها. والعبد قد نهي أن يمن بصدقته بقوله تعالى: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264]؛ لأن المتصدق في الحقيقة إنما أحسن إلى نفسه لا إلى المتصدق عليه؛ فإنه لولا أن له في ذلك منفعة وأجراً وعوضاً لم يتصدق عليه، فصار كالذي يخدم المماليك بأجرة يأخذها من سيدهم ليس بمحسن إليهم. وأيضاً فإن المصدق الله هو المنعم عليه بما يسره الله للإحسان إلى نفسه، وعليه أن يشكر الله تعالى ويرى أن الله هو المحسن إليه، فإن نظر إلى الفعل فالله خالقه، وإن نظر إلى غايته فهو يطلب جزاءه وعوضه من الله، وإن نظر إلى المحسن إليه فهو المحسن إلى نفسه، والله أحسن إليه أن جعله محسناً إلى نفسه لا ظالماً لها. فلهذا كان مَنُّهُ على المخلوق ظلماً أبطل به صدقته، والله هو المنعم على عباده حقيقة بالنعمة، والشكر عليها إذا أعانهم على شكره، وجعلهم شاكرين بنعمته، بثواب الشكر، فكل ذلك تفضل منه وإحسان من غير أن يكون له على ذلك عوض يأخذه من غيره، لا من المحسن إليه ولا من غيره فهو المنعم حقيقة، وإن كان له في الإنعام حكمة يحبها ويرضاها، فتلك الحكمة منه، فما لأحد عليه مِنَّة، وهو الجواد المحض، وهو سبحانه ليس كمثله شيء. وللناس كلام في الجود والإحسان، ومن يفعل لحكمة ومقصود لحكمة هو مقصود هل هو جواد أم ليس بجواد؟ أم يفرق بين من يطلب عوضاً من غيره، فيحتاج إلى غيره، فيكون جوده من باب المعاوضة، وبين من لا يحتاج إلى غيره، بل هو الجواد بالنعم وبالحكم كما قد بسط في غير هذا الموضع. ولأنه لما قال تعالى: {

تحقيق موقف شيخ الإسلام من القول بفناء النار

تحقيق موقف شيخ الإسلام من القول بفناء النار كما سمعتم لقد ساق شيخ الإسلام الأقوال في هذه المسألة، ويظهر للقارئ أنه انتصر للقول بأن عذاب النار ينقطع وينتهي، وأن مآل الجميع إلى دار النهاية، لكن هذا لا يعني أنه تبنى هذا القول جزماً، أو أنه هو رأيه، وإنما ساق أقوالاً تبقى المسألة محتملة، الله أعلم بها؛ ولذلك تنازع الناس هل هذا رأي شيخ الإسلام أم أنه حكاه مجرد حكاية وقرره، الله أعلم بالحال، ولا يظهر أنه توقف؛ لأنه لم يصرح بالتوقف، فلا نستطيع أن نجزم أنه توقف، وإلا قد يرد ذلك. وقد ورد حول هذا الموضوع سؤال عن رسالة لـ عبد الكريم الحميد في هذه المسألة، وأنا سبق أن قرأت للحميد رسالة قديمة من حوالي ثمان سنوات أو أكثر مخطوطة في هذا الموضوع، لكن السائل هنا يذكر أن هذه الرسالة فيها رد على ما توجه في مقدمة هذا الكتاب من أن هذا ليس قولاً نجزم به على شيخ الإسلام، وأنا لم أطلع على هذا الرد الأخير، وإنما اطلعت على الكلام الذي ينزع فيه إلى أن هذا هو قول شيخ الإسلام كما في رسالة الحميد، فهو يرى أن ما ذكره الشيخ في هذه الرسالة التي قرأناها هو قوله، أي: قول شيخ الإسلام.

تنبيهات في مسألة فناء النار

تنبيهات في مسألة فناء النار لعل مسألة القول بفناء النار من المسائل التي لا تزال تستحوذ على أذهان الكثيرين، والقضية كما تعرفون ليست جديدة على أهل العلم المتخصصين، والذي وردني بشأنها بعض الأمور من الإخوة أحب أن أنبه إليها بإيجاز. الأمر الأول: أنني أحب أن أؤكد على ما سبق أن ذكرته أكثر من مرة، وهو أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقرر في كثير من كتبه رأي جمهور السلف وينتصر له، من أنه لا يجوز القول بفناء النار، وأن هذا من أقوال الجهمية، وهذا تكرر كثيراً في كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكثيراً ما كان يرد على الجهمية وعلى أصحاب هذا القول، وكلامه واضح، ومع ذلك ما نسب عنه من سرده لأقوال الناس في الرسالة السابقة الغالب أنه صحيح، لكنه حسب ما قرأنا وسمعتم أنتم وعند التمعن والتبين للحال نجد أن شيخ الإسلام لم يذكر بصراحة أنه يتبنى هذا الرأي أو يؤيده، وإنما ذكر أقوال هؤلاء وذكر أقوال هؤلاء، وتوسع في أقوال المخالفين؛ لأن المقام يقتضي حشد كل ما عندهم من الأقوال والأصول والقواعد، فينبغي أن يفهم هذا، حتى لا يدعي أحد ويجزم أن شيخ الإسلام قال بفناء النار؛ لأن أقواله في إنكار هذا القول كثيرة جداً في مواضع كثيرة، فيحمل الصريح على غير الصريح كما هي القاعدة، والمجمل يحمل على المبين، ويحمل على المفسر، هذه قاعدة شرعية، إذا وجد من أي إنسان فضلاً عن الأئمة قول مجمل وقول مفصل ومفسر ومبين، فينبغي أن يحمل المجمل على المبين، وهذا ما أراه في موقف شيخ الإسلام ابن تيمية وهو إنكاره على من يقول بفناء النار، وهذا بين في مواضع كثيرة، أما سرده لرأي من يرى فناء النار وحشده للأدلة فإنما هو سياق مجرد عن الرأي، ما ظهر أنه انتصر لهذا القول، أو قال: هذا رأيي، أو هذا ما أرجحه، وليس هناك ما يدل على ذلك، ولا حتى بالإشارة، وإنما غاية ما يمكن أن يقوله بعض المتكلفين أن سكوته إقرار، وهذا لا يصح دائماً، ليس كل سكوت إقرار في معرض بيان أقوال أهل العلم وتفصيله. الأمر الثاني فيما يتعلق بهذه القضية أيضاً: أن بعض الإخوة أنكر إثارة مثل هذا الموضوع، وقال: هل من المصلحة أن تثار مثل هذه المسألة؟ أقول: مثل هذه المسائل الغامضة والمشكلة ينبغي ألا تثار عند عموم الناس، ولا في المحاضرات العامة، ولا في دروس المبتدئين، لكن في درس متخصص يحضره مثل هؤلاء النخبة، الذين هم طلبة علم إن شاء الله ينبغي أن يثار الموضوع؛ لأنه من الأمور التي كتب فيها الناس الآن، والقول فيها سجال بين فريق وآخر، وهناك راد ومردود عليه، وهناك كتب طبعت وموجودة في الساحة، ووصل الحد بإناس إلى طلب المباهلة في مثل هذا الموضوع. إذاً: فلا بد من إثارتها عند أمثالكم، ولا تستغربوا هذا، ولستم في عافية من إثارة القضايا العقدية الخطيرة المهمة التي تحدث إثارتها بين طلاب العلم بخاصة، فلا تضيق صدوركم ذرعاً في عرض مثل هذا الموضوع في درس متخصص مثل هذا الدرس.

الأسئلة

الأسئلة

الترجيح في مسألة القول بفناء النار

الترجيح في مسألة القول بفناء النار Q كأنك تميل إلى القول بفناء النار، وكأنك تهز رأسك مؤيداً للأدلة التي ذكرها أصحاب القول بفناء النار، فكيف نوجه الآيات التي صرحت بأن أهل النار خالدين فيها أبداً، مثل: سورة النساء والأحزاب وغيرهما، وما زالت هذه التساؤلات تحيرني حتى أنقذني الله بـ (كتاب رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار) للإمام الصنعاني، حيث رد على شيخ الإسلام ابن تيمية وعلى تلميذه ابن القيم، وقد فند الأدلة ورد عليها، وقد قام بتحقيق الكتاب الشيخ الألباني، والشيخ الألباني يؤيد ما ذكر الإمام الصنعاني، وأثبت أن شيخ الإسلام يقول بذلك، وإنه خطأ، وقد جل من لا يخطئ؟ A لو قدر أني أرى هذا الرأي فقد سبقني من هو خير مني، لكن كنت أحكي أن هذا قول غريب، وكنت أذكر كثيراً أنه ينبغي في مثل هذه المسألة وغيرها، إذا كان لجمهور السلف فيها رأي، فإنه ينبغي للمسلم أن يلتزم به، وإذا كان لعدد قليل منهم قول فهو بمثابة زلة العالم، ولا ينبغي أن يكون لي رأي غير رأي الجمهور. ففي الحقيقة أنا لا أعتقد ذلك، وإذا فهم مني أني أهز رأسي عندما يذكر دليل هذه المسألة فلا يجوز أن يبنى على ذلك حكم ورأي، فعلى أي حال فقد أوضحت أن رأي الجمهور هو الرأي الأرجح، وهو الذي ينبغي أن يتبناه طالب العلم، وهو الذي تقتضيه الأدلة صراحة.

قواعد وضوابط في التكفير

قواعد وضوابط في التكفير Q ما هو ضابط التكفير؟ وهل من ترك تكفير إنسان وقع في أحد نواقض الإيمان من الإرجاء؟ وما حكم تكفير النصراني؟ وما حكم تعيين شخص بعينه أنه كافر؟ A هناك قواعد وضوابط في التفكير أثرت عن السلف، وهي مستنبطة من النصوص الشرعية، من أهمها: القاعدة الأولى: أن الكافر الخالص يجب ألا نشك في كفره، اليهودي، والنصراني، والمشرك، والمنافق، والملحد، والزائغ عن دين الله المرتد، لا نشك في كفره ولا يجوز للمسلم أن يتردد في ذلك. كما أن المسلم أيضاً يجب ألا نشك في إسلامه، حتى يتبين كفره، من كان مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويستقبل هذه القبلة، ويدعي الإسلام ولم يظهر منه ما يوجب الردة، فإنه يبقى على اسم الإسلام، حتى وإن ظهر منه ما يمكن أن يكون كفراً في القول والعمل. القاعدة الثانية: ليس كل من فعل أو قال الكفر يكفر، إلا بانتفاء موانع وتوافر شروط يعلمها أهل العلم، ليس كل من قال أو فعل الكفر من المسلمين يكفر، بل أكثر من يقولون الكفر أو يفعلونه من المسلمين الأصل فيهم الإسلام، ما لم يكن ردة؛ لأن أغلب الأقوال الكفرية من باب الكبائر، وأغلب الأفعال الكفرية من باب الكلام، إذ الشرك الصريح مسألة معروفة، وليس كل من قال أو فعل الكفر يكفر. القاعدة الثالثة: أنه جاء الوعيد بالتكفير، يعني: ورد الوعيد في وصف المسلم بالكفر وعلى أنه كافر، ومع ذلك لا يكفر إلا إذا توافرت الشروط وانتفت الموانع. القاعدة الرابعة: أننا لسنا متعبدين بتكفير من نرى كفرهم، بمعنى أنه لا يتعلق بذمة المسلم تكفير المسلمين خاصة، ولا يظن أنه إذا ما كفر من يظهر كفره منهم أنه يأثم، وأنه ارتكب ذنباً عظيماً، أو أنه إذا ما كفَّر كَفَر، كل هذا خطأ. القاعدة الأخيرة: أنه لا يتناول التكفير إلا الراسخون في العلم، وإلا لو عرضنا هذه المسألة لكثير من طلاب العلم أو المتعالمين أو الحدثاء الذين ليس عندهم فقه في دين الله عز وجل، لكفّر الناسُ بعضهم بعضاً، ووقعت فتنة.

معنى قاعدة (من شك في كفر المشركين فهو كافر)

معنى قاعدة (من شك في كفر المشركين فهو كافر) Q ما معنى قاعدة: من شك في كفر المشركين فهو كافر؟ A قاعدة: من شك في كفر المشركين أو كذا فهو كافر، هذه قاعدة، لا تنطبق على المسلم، نعم من شك في كفر المشركين من اليهود والنصارى والمرتدين الخلص، وأهل النفاق الخالص، فلاشك أن من شك بما ثبت شرعاً في الكتاب والسنة من كفر هؤلاء، فإنه يخشى عليه الكفر، فالقاعدة سليمة في غير المسلمين، أما في المسلمين فلا، حتى وإن كانوا أهل بدع، وإن كانوا أهل معاص وفجور وظلم، وإن تجاوزوا كثيراً من حدود الله عز وجل، ما داموا مسلمين لا نكفرهم إلا ببينة.

شرح العقيدة الطحاوية [93]

شرح العقيدة الطحاوية [93] الله خالق كل شيء، ومن مخلوقاته سبحانه وتعالى أنه خلق العباد وأفعالهم، والعباد فاعلون لها على الحقيقة، وهي كسب لهم، وبها صاروا مطيعين أو عصاة، وقد خالفت الجبرية والقدرية في مسألة خلق أفعال العباد، وأوردوا شبهات وإيرادات دحضها أهل السنة وردوا عليهم وأبطلوا أدلتهم.

أفعال العباد خلق الله وهم فاعلون لها حقيقة

أفعال العباد خلق الله وهم فاعلون لها حقيقة قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد). اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية]. أفعال العباد على نوعين: أفعال اختيارية، وأفعال غير اختيارية، أما الأفعال الاختيارية فالتي يفعلها العباد بمحض إرادتهم، وهذه لا تتأتى إلا من أفعال العقلاء، وغير العقلاء لا يخضعون في هذا؛ لأن أفعالهم قصرية، فمثلاً: المجانين والأطفال أفعالهم شبه قصرية، حتى وإن كان عند الطفل المميز شيء من الاختيار، لكنه غير مكلف، وعلى هذا فإن الحديث منصب على أفعال المكلفين العقلاء الذين يختارون أفعالهم الاختيارية، التي بمقدورهم أن يفعلوها أو يتركوها. أما النوع الثاني: وهو الأفعال غير الاختيارية، وهي الأفعال القصرية المتعلقة بتسيير أحوال العباد في شئونهم الخاصة، وفي أنفسهم، وفي أجسامهم، مثل: حركة الدم، وحركة الجسم وغير ذلك من الحركات التي عُبِّر عنها الآن اللاإرادية، هذه أمور لا تدخل في هذا الكلام، إنما الداخل في هذا الكلام الذي سيأتي الخلاف فيه، هو أفعال العباد التي يفعلونها باختيارهم أو يتركونها باختيارهم، مما يستطيعونه ويقدرون عليه تركاً أو فعلاً. قال رحمه الله تعالى: [فزعمت الجبرية -رئيسهم الجهم بن صفوان الترمذي - أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى، وهي كلها اضطرارية كحركات المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار، وإضافتها إلى الخلق مجاز، وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصِّله. وقابلتهم المعتزلة، فقالوا: إن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات بخلقها، لا تعلق لها بخلق الله تعالى، واختلفوا فيما بينهم أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا؟]. هنا ذكر الشارح أو نسب القول المخالف للمعتزلة، والمعتزلة هم الذين يقولون بأن الإنسان مختار لأفعاله اختياراً مطلقاً، ليس لله فيها تقدير ولا مشيئة، هذا هو قول القدرية، فهو نسبه إلى المعتزلة؛ لأن أشهر من تبناه في القرن الثاني وما بعده المعتزلة، وإلا فأصل هذا القول هو قول القدرية الأولى، قول معبد الجهني وغيلان الدمشقي ومن سلك سبيلهما. والقدرية الأولى يقولون: لا قدر، أي: أن الله لم يقدر أفعال العباد المكلفين، وأن الأمر أُنُف، يعني: مستأنف، وأن أفعالهم حدثت بإرادتهم الكاملة، وليس لله فيها تقدير، بل بعضهم بالغ وقال: ليس لله فيها علم أصلاً، وهذا كفر محض، فمن أنكر العلم والتقدير فقوله كفر، حتى لو لم نكفره، ثم لما جوبه وقوبل هذا القول بشيء من الاستنكار حتى عند عوام الناس لطفته المعتزلة فيما بعد، وقالوا: نحن لا نقول بإنكار العلم السابق، إنما نقول بأن أفعال العباد من اختيارهم الاختيار المطلق، ومع ذلك فإن بعض المعتزلة حصروا هذه المسألة بأفعال الشر فقط، وقالوا: إن أفعال الشر هي التي ليست مقدرة من الله عز وجل، زعماً منهم أن هذا يقتضي التنزيه؛ لأنهم ظنوا أن الله عز وجل إذا قدر شيئاً فقد رضي به، ونسوا أن الله عز وجل قد يقدر الشيء من باب الابتلاء والفتنة، أو قد يقدره سبحانه بناء على ما سيفعل هذا الشخص في سابق علم الله، فهم ما استوعبوا قضية القدر، وحكموا عقولهم، فوقعوا في هذا، فمنهم من قال بأن جميع أفعال العباد العقلاء المكلفين ليست من تقدير الله إطلاقاً، إنما هي من أفعال العباد بحتة، حتى إن بعضهم صرح بأن الإنسان خالق أفعاله، وبعضهم حصر هذا في جانب فقط وهو جانب الشر. إذاً: هذا هو قول القدرية، وليس كل المعتزلة يقولون به، إنما بعضهم يلطف العبارة.

مذهب أهل السنة في خلق أفعال العباد

مذهب أهل السنة في خلق أفعال العباد قال رحمه الله تعالى: [وقال أهل الحق: أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة، وهي مخلوقة لله تعالى، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات لا خالق لها سواه]. يعني: أن الله عز وجل منفرد بخلق المخلوقات جميعاً، بما فيها أفعال العباد، وهذا حتم لا بد منه، ولو افترضنا أن هناك أفعالاً لا تحدث بقدرة الله ولا بعلمه ولا بمشيئته، فإن هذا يؤدي إلى القول بخالق مع الله، وهذا هو قول المجوس، وقد كفروا بهذا القول. قال رحمه الله تعالى: [فالجبرية غلوا في إثبات القدر، فنفوا صنع العبد أصلاً، كما غلت المشبهة في إثبات الصفات فشبهوا، والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالِقِين مع الله تعالى، ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة، بل أردأ من المجوس من حيث إن المجوس أثبتت خالِقَين وهم أثبتوا خالِقِين]. قوله: (بل أردأ من المجوس) نقول: قول المجوس من أشنع الأقوال؛ لأن المجوس صرحوا بأن الخالق الآخر إله، وعبدوه من دون الله عز وجل، فلاشك أن مقولتهم إذا نظرناها من جميع الوجوه أشد وأشنع وأكفر من مقولة المعتزلة الجهمية أو المعتزلة القدرية، لكن قد يكون قول المعتزلة من بعض الوجوه أشد، وإلا فقول المجوس قول شنيع، ولاسيما أنهم نسبوا خلق الشر إلى إله آخر وعبدوه من دون الله، وأحياناً يقولون: إنه الشيطان، وعبدوا الشيطان، وهذا سبب نزعة عبادة الشيطان عند عبدة الشيطان الموجودين الآن في بعض البلاد. وعبدة الشيطان لهم اصطلاحان: اصطلاح يطلق على طائفة قديمة هم امتداد للمجوس، وانتموا إلى بعض الفرق الإسلامية، وهؤلاء عباد الشيطان الذين في العراق وأجزاء من سوريا وشمال هذه المنطقة، هؤلاء نزعتهم نزعة مجوسية، فهم يعبدون إبليس نسأل الله العافية؛ لأنهم يرون أن له قدرة، ويستقل بخلق بعض الأفعال، منها: خلق الشر، وهناك صنف آخر من عبدة الشيطان، وهم الذين ظهروا أخيراً ويمارسون بعض الطقوس، وبين الفكرتين شيء من التشابه، لكن هذه فيها سذاجة ونوع من عدم التعمق الفكري، بينما تلك كانت متأصلة ومغرقة في الوثنية. على أي حال هناك شبه بين قول المعتزلة والقدرية وبين قول المجوس، من حيث قولهم بأن الإنسان هو خالق أفعاله، أو ألزموا بهذا القول فجعلوا جميع العقلاء خالِقِين لأفعالهم، بينما المجوس أثبتوا خالقاً آخر مع الله فقط، هذا من الناحية العددية، وإلا من حيث شناعة القول فلاشك أن قول المجوس أشنع، وقول القدرية إنما هو امتداد لقول المجوس، وأغلب الذين نشروا قول القدرية إما أنهم مجوس أو أخذوه عن المجوس مباشرة، وقول القدرية كما أنه موجود في المجوسية، كذلك هو موجود عند بعض الفرق الصابئة، وعند بعض فرق اليهود، وبعض فرق النصارى، ويدل عليه قصة بطريرك الشام قسطنطين الذي سلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفاتيح بيت المقدس، فإن عندهم هذه النزعة القدرية بعينها، أي: القول بأن الإضلال ليس من تقدير الله، فلذلك لما خطب عمر رضي الله عنه الناس في الجابية قال: ومن يضلل فلا هادي له، قام هذا الأسقف النصراني واعترض على عمر هذا القول، وقال: إن الله لا يضل أحداً، فلما سمع عمر رضي الله عنه مقولته هدده بالقتل. فإذاً: هذه المقولة موجودة عند النصارى وعند اليهود، لكن أصلها من المجوس، ولا شك أن نشأتها بين المسلمين جاءت من خلال النصارى والمجوس واليهود والصابئة. قال رحمه الله تعالى: [وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فكل دليل صحيح يقيمه الجبري، فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء، وأنه على كل شيء قدير، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة ولا مريد ولا مختار، وأن حركاته الاختيارية بمنزلة حركة المرتعش، وهبوب الرياح، وحركات الأشجار. وكل دليل صحيح يقيمه القدري، فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة، وأنه مريد له مختار له حقيقة، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى، وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته. فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى، فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة، من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والأفعال، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم]. هذا الأمر يذكرنا بضرورة استحضار مراتب القدر، وسبق الكلام عنها أكثر من مرة، لكن من المناسب الآن أن نستحضرها جيداً، فمراتب القدر أربع جاءت في النصوص القطعية، لا بد من الإلمام بها جميعاً؛ من أجل أن يحكم المسلم عقيدته في هذا الأمر، ويعرف الرأي المخالف بهذا الميزان معرفة واضحة بلا تردد ولا التباس. المرتبة الأولى: العلم، وهي أن جميع المخلوقات لله عز وجل بما في ذلك أفعال العباد تخضع أولاً لمرتبة العلم، وأن الله عز وجل علمها أصلاً. الثانية: الكتابة، وهي أن الله عز وجل

الرد على الجبرية والمعتزلة في مسألة أفعال العباد

الرد على الجبرية والمعتزلة في مسألة أفعال العباد قال رحمه الله تعالى: [وهذا هو الواقع في نفس الأمر، فإن أدلة الحق لا تتعارض، والحق يصدق بعضه بعضاً ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدلة الفريقين، ولكنها تتكافأ وتتساقط، ويستفاد من دليل كل فريق بطلان قول الآخر، ولكن أذكر شيئاً مما استدل به كل من الفريقين، ثم أبين أنه لا يدل على ما استدل عليه من الباطل. فمما استدلت به الجبرية، قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فنفى الله عن نبيه الرمي وأثبته لنفسه سبحانه، فدل على أنه لا صنع للعبد، قالوا: والجزاء غير مرتب على الأعمال، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل). ومما استدل به القدرية، قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، قالوا: والجزاء مرتب على الأعمال ترتيب العوض، كما قال تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]، {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72] ونحو ذلك. فأما ما استدلت به الجبرية من قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17]، فهو دليل عليهم؛ لأنه تعالى أثبت لرسوله صلى الله عليه وسلم رمياً بقوله: {إِذْ رَمَيْتَ} [الأنفال:17]، فعلم أن المثبت غير المنفي، وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء، فابتداؤه الحذف، وانتهاؤه الإصابة، وكل منهما يسمى رمياً، فالمعنى حينئذ والله تعالى أعلم: وما أصبت إذ حذفت، ولكن الله أصاب، وإلا فطرد قولهم: وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى، وما صمت إذ صمت، وما زنيت إذ زنيت، وما سرقت إذ سرقت!! وفساد هذا ظاهر. وأما ترتب الجزاء على الأعمال فقد ضلت فيه الجبرية والقدرية، وهدى الله أهل السنة وله الحمد والمنة، فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات، فالنفي في قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحد بعمله)، باء العوض، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة، كما زعمت المعتزلة أن العامل يستحق دخول الجنة على ربه بعمله، بل ذلك برحمة الله وفضله، والباء التي في قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] ونحوها، باء السبب، أي: بسبب أعمالكم، والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته.

بيان ما يدخل في عموم (كل)

بيان ما يدخل في عموم (كل) وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14]، فمعنى الآية: أحسن المصورين المقدرين، والخلق يذكر ويراد به التقدير، وهو المراد هنا، بدليل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد:16]، أي: الله خالق كل شيء مخلوق، فدخلت أفعال العباد في عموم (كل) وما أفسد قولهم في إدخال كلام الله تعالى في عموم (كل)، الذي هو صفة من صفاته، يستحيل عليه أن يكون مخلوقاً. وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم (كل)، وهل يدخل في عموم (كل) إلا ما هو مخلوق؟ فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم، ودخل سائر المخلوقات في عمومها، وكذا قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، ولا نقول: لأن (ما) مصدرية، أي: خلقكم وعملكم؛ إذ سياق الآية يأباه؛ لأن إبراهيم عليه السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت لا النحت، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله تعالى، ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقاً له، بل الخشب أو الحجر لا غير.

الرد على شبهة: كيف يعذب الله المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم؟

الرد على شبهة: كيف يعذب الله المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم؟ وذكر أبو الحسين البصري إمام المتأخرين من المعتزلة: أن العلم بأن العبد يحدث فعله ضروري، وذكر الرازي أن افتقار الفعل المحدث الممكن إلى مرجح يجب وجوده عنده، ويمتنع عند عدمه ضروري، وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري، ثم ادعاء كل منهما: أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة غير مسلم، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري، وإنما وقع غلطه في إنكار ما مع الآخر من الحق، فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثاً لفعله، وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8]، فقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:8] إثبات للقدر بقوله: {فَأَلْهَمَهَا} [الشمس:8]، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه؛ ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية، وقوله بعد ذلك: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] إثبات أيضاً لفعل العبد، ونظائر ذلك كثيرة. وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم، بل مزقتهم كل ممزق، وهي أنهم قالوا: كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم، وهو خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقاً في العالم على ألسنة الناس، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته، وعنه تفرقت بهم الطرق، فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل وسدت باب السؤال، وطائفة أثبتت كسباً لا يعقل، جعلت الثواب والعقاب عليه، وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرَين، ومفعول بين فاعلين، وطائفة التزمت الجبر، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه، وهذا السؤال هو الذي أوجب التفرق والاختلاف. والجواب الصحيح عنه، أن يقال: إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية، وإن كانت خلقاً لله تعالى فهي عقوبة له على ذنوب قبلها، فالذنب يكسب الذنب، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها، فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضاً. يبقى أن يقال: فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب، يقال: هو عقوبة أيضاً على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة إليه، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30]. فلما لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه عوقب على ذلك، بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي؛ فإنه صادف قلباً خالياً قابلاً للخير والشر، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24]. وقال إبليس: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82 - 83]. وقال الله عز وجل: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:41 - 42]، والإخلاص: خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته، فخلص لله فلم يتمكن منه الشيطان، وأما إذا صادفه فارغاً من ذلك تمكن منه بحسب فراغه، فيكون جعله مذنباً مسيئاً في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص، وهي محض العدل]. خلاصة الأمر في هذا الموضوع: أن مسألة أفعال العباد راجعة إلى تصور مراتب القدر أولاً. ثانياً: تصور معنى الابتلاء، وتصور حكمة الله عز وجل في ذلك، فإن الإنسان إذا تصور المراتب الأربع للقدر، ثم عرف أن الله عز وجل بيّن للعباد طريق الخير وأقدرهم عليه، ورتب عليه الثواب، وبين لهم طريق الشر وحذرهم منه، ورتب عليه العقاب، فهذا أمر يتصوره كل عاقل يعرف شرائع الله عز وجل، فإذا كان الأمر كذلك فإن الإنسان محجوج بهذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يمكن أن يقول عاقل بأن الإنسان الحر المختار قصر وجبر على شر دون أن يريده، إلا في حال لا يكلف ولا يحاسب فيها، فمن فقد عقله وفقد الاستطاعة سقط عنه الحساب، لكن في حال قدرته وإمكاناته فإنه محاسب على ما بيّنه الله عز وجل له وأرشده إليه، وبذلك تقوم الحجة، وما وراء ذلك من الإشكالات والشبهات إنما هو من وساوس الشيطان، والله عز وجل ليس بظلام للعبيد، ولا يمكن أن يحدث منه ولا في أفعاله ظلم لعباده. يبقى ما ورد مما يحدث من أفعال الله عز وجل إذا شاء للعباد فيها، مما هو محجوب عنهم ولا قدرة لهم عليه، مثل: مسألة الشقاء والسعادة المكتوبة سلفاً على العبد، فهذه مسألة محجوبة عن العب

الأسئلة

الأسئلة

الرد على من قال بأن شيخ الإسلام هو أول من ابتدع مراتب القدر الأربع

الرد على من قال بأن شيخ الإسلام هو أول من ابتدع مراتب القدر الأربع Q ذكر محقق شرح الواسطية للشيخ الهراس: أن بعض المبتدعة انتقد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بأنه أول من ابتدع هذا التقسيم لمراتب القدر الأربع، فما صحة ذلك؟ A لا، ليس بصحيح فقد سبق شيخ الإسلام كثير في هذه الأمور، وقد تكلم فيها السلف، لكن هل سموها مراتب وحدودها بأربع؟ هذا ما أدري عنه، لكن أصلوا القدر على هذا الأساس: مرتبة العلم، مرتبة الكتابة، مرتبة المشيئة والتقدير، مرتبة الخلق، هذه المراتب ذكرها السلف منذ أن نشأت القدرية في آخر القرن الأول الهجري، وليس من ابتداع شيخ الإسلام ابن تيمية.

شرح العقيدة الطحاوية [94]

شرح العقيدة الطحاوية [94] من رحمة الله تعالى ولطفه بعباده أنه لا يكلف العباد ما لا يطيقون، بل لا يكلف نفساً إلا وسعها، وقد يطيقون أكثر مما كلفهم، ولكنه سبحانه رفع الحرج عن هذه الأمة ويسر لها الأحكام والتكاليف، وكل ما يجري في هذا الكون فهو يجري وفق حكمته وقدرته ومشيئته، لا راد لقضائه، ولا غالب لأمره، بل هو عدل حكم لا يظلم أحداً أبداً سبحانه وتعالى.

مفهوم التكليف والاستطاعة

مفهوم التكليف والاستطاعة قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم، وهو تفسير: لا حول ولا قوة إلا بالله، نقول: لا حيلة لأحد ولا تحول لأحد ولا حركة لأحد عن معصية الله إلا بمعونة الله، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله تعالى، وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها، وغلب قضاؤه الحيل كلها، يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]]. هنا الإمام الطحاوي رحمه الله في هذه العبارة جارى الأشعري فيما خالف فيه السلف في بعض التعبيرات، لكن الطحاوي ربما يقصد معنى آخر غير ما يقصده الأشعري، وتعلمون أن الأشعري رحمه الله حينما رجع إلى السنة بعد أن كان معتزلياً بقيت عنده بعض النزعات الكلامية، من ضمنها ما يتعلق بمسألة الكسب والاستطاعة، أو تكليف ما يطاق أو ما لا يطاق. فقوله: (ولم يكلفهم الله عز وجل إلا ما يطيقون) هذا كلام لا بأس به؛ لأن الله عز وجل يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن العبارة الثانية فيها نظر، وهي قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) فهذه فيها نوع من الفلسفة والتكلف، وهي من كلمات الأشعري، ولا يؤيده عليها السلف بهذا الإطلاق، لا يقال: ولا يطيقون إلا ما كلفهم لأنه نوع من الجبر، قد يطيقون أكثر مما كلفهم، لكن الله عز وجل بنى دينه على التيسير وعدم الحرج، وإلا لو كلف الناس بست صلوات لصلوا ست صلوات، لكن الله عز وجل يسر لهم، والله عز وجل فرض علينا خمسين صلاة، ثم خففت إلى خمس بأجر خمسين، وذلك من فضل الله. فقوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم) هذا هو مذهب الأشعري الذي يرى أن القدرة لا تكون إلا عند الإرادة، ويرى أيضاً أن إرادة العبد إرادة شكلية ليست إرادة حقيقية، يعني: تأتي بالصدفة مع إرادة الله. إذاً: فلا يصح أن يقال: (لا يطيقون إلا ما كلفهم)؛ لأنهم قد يطيقون أكثر مما كلفهم، لكن بمشقة وبحرج، والله عز وجل رخص لهم ورفع عنهم الحرج والمشقة، وبنى دينه على التيسير. أما تفسيره فيما بعد هو تفسير صحيح لا بأس به. قال رحمه الله تعالى: [فقوله: (ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون) قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286]، {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [المؤمنون:62]. وعند أبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً، ثم تردد أصحابه أنه: هل ورد به الشرع أم لا؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن، وأنه سيصلى ناراً ذات لهب، فكان مأموراً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن، وهذا تكليف بالجمع بين الضدين، وهو محال]. الأصل أن السلف يكرهون الحديث في مثل هذه القضايا، كقول أبي الحسن الأشعري: إن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً. هذه فلسفة في الحقيقة؛ لأن كلمة (جائز) أو (غير جائز عقلاً) هذه سفسطة لا ثمرة لها، وجميع الأمور الاعتقادية أو التفصيلية التي تكلم فيها الناس، والتي لا أصل لها في الشرع، أو لا يترتب عليها عمل فالكلام فيها بدعة، ولذلك بدّع السلف من استعمل علم الكلام أو تحدث به أو تناوله؛ لأنه حديث عن مثل هذه الأمور التي لا مصلحة من ورائها، فما الفائدة من أن الإنسان يتفلسف ويجادل غيره في أن الله عز وجل يكلف ما لا يطاق أو لا يكلف، أو أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً أو غير جائز عقلاً؟ الله عز وجل حكم وشرع لعباده شرعاً بني على قدرات العباد و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وبني على التيسير وانتهى الأمر. ولو فرضنا أن العقل أجاز تكليف ما لا يطاق أو لم يجز، فالنتيجة أن هذا أمر لا مصلحة فيه للعباد لا في دينهم ولا دنياهم، ولذلك مثل هذا الكلام يجب أن يجتنبه من يتقي الله ويتورع عن الدخول فيما لا يعنيه؛ لأنه ليس له تعلق بحياة الناس وبعلومهم الطبيعية أو علومهم الشرعية، بل مجرد فلسفة لا طائل تحتها، وعليه يقاس غيره من الأمور التي ليس وراءها لا أمر شرعي ولا مصلحة دنيوية طبيعية. إذاً: الأصل في علم الكلام النهي؛ لأنه لا فائدة فيه لا في دين الناس ولا في دنياهم. وهذه الأمور مما أخذت على الأشعري رحمه الله، ودخلت بسببه على كثير من أهل الفضل والعلم، دخلت على كثير من الأشاعرة والماتريدية وغيرهما، بل حتى أحياناً ممن ينتسبون إلى مذهب الإمام أحمد دخلوا في هذه الأمور، مع المهاترات والكلام والردود، وردود على الردود، مثل: الذي يحلم في منامه ينتهي إلى لا شيء. قال رحمه الله تعالى: [والجواب عن هذا بالمنع، فلا نسلم أنه مأمور بأن يؤمن بأنه لا

معنى قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم به)

معنى قوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم به) وقوله: (ولا يطيقون إلا ما كلفهم به) إلى آخر كلامه. أي: ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه، وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق لا التي من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات، و (لا حول ولا قوة إلا بالله) دليل على إثبات القدر. وقد فسرها الشيخ بعدها، ولكن في كلام الشيخ إشكال، فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار، وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي، وهو قد قال: (لا يكلفهم إلا ما يطيقون، ولا يطيقون إلا ما كلفهم) وظاهره أنه يرجع إلى معنى واحد ولا يصح ذلك؛ لأنهم يطيقون فوق ما كلفهم به، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]. وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28]. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه ولكنه تفضل علينا ورحمنا وخفف عنا، ولم يجعل علينا في الدين من حرج، ففي العبارة قلق فتأمله.

الفرق بين القضاء الكوني والقضاء الشرعي وكذلك الأمر والإذن والكتاب وغيرها

الفرق بين القضاء الكوني والقضاء الشرعي وكذلك الأمر والإذن والكتاب وغيرها وقوله: (وكل شيء يجري بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره) يريد بقضائه القضاء الكوني لا الشرعي، فإن القضاء يكون كونياً وشرعياً، وكذلك الإرادة والأمر والإذن والكتاب والحكم والتحريم والكلمات ونحو ذلك. أما القضاء الكوني ففي قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12]. والقضاء الديني الشرعي في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]. وأما الإرادة الكونية والدينية فقد تقدم ذكرها عند قول الشيخ: (ولا يكون إلا ما يريد). وأما الأمر الكوني ففي قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. وكذا قوله تعالى {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، في أحد الأقوال وهو أقواها. والأمر الشرعي في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل:90]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. وأما الإذن الكوني ففي قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102]. والإذن الشرعي في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5]. وأما الكتاب الكوني ففي قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر:11]. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]. والكتاب الشرعي الديني في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183]. وأما الحكم الكوني ففي قوله تعالى عن ابن يعقوب عليه السلام: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف:80]. وقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ ?بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [الأنبياء:112]. والحكم الشرعي في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1]. وقال تعالى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة:10]. وأما التحريم الكوني ففي قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26]. {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95]. والتحريم الشرعي في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3]. {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]. وأما الكلمات الكونية ففي قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137]. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر). والكلمات الشرعية الدينية في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة:124].

عدم ظلم الله عز وجل لعباده بأي وجه من الوجوه

عدم ظلم الله عز وجل لعباده بأي وجه من الوجوه وقوله: (يفعل ما يشاء وهو غير ظالم أبداً) الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد، يقتضي قولاً وسطاً بين قولي القدرية والجبرية، فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً يكون منه ظلماً وقبيحاً، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم! فإن ذلك تمثيل لله بخلقه وقياس له عليهم، هو الرب الغني القادر، وهم العباد الفقراء المقهورون]. هذه العبارة لو قيدت لكان أحسن، وهي قوله: (فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً) لو قال: ليس كل ما كان من بني آدم ظلماً إلى آخره، لكان أفضل؛ لأن هناك أشياء قبيحة تكون ظلماً ولا تجوز في حق الله عز وجل، كما لا تجوز في حق العباد، لا من باب القياس، لكن من باب أنها مما ينزه الله عنها؛ لأن الكامل ليس كالناقص، فالعباد ليس لهم سلطة على العباد، فكل تحكم في الآخرين يعتبر منهم ظلماً، أما الله عز وجل إذا تحكم في عباده فإنما يتحكم في ملكه سبحانه. فهذا هو الفارق، فالله عز وجل يفعل في خلقه ما يريد، ويفعل في خلقه ما يشاء؛ لأنهم خلقه وملكه، لكن العباد لا يملك منهم أحد ملكاً حقيقياً، فلذلك تحكم العباد بالعباد ظلم إذا كان بغير حق، أما تحكم الله عز وجل بالعباد على ما يشاء فليس بظلم؛ لأنه هو ربهم وهم ملكه، وبيده مقاليد السماوات والأرض سبحانه، ويفعل بملكه ما يشاء. إذاً: لا يقال: ما يكون ظلماً من العباد يكون ظلماً من الله من كل وجه، فالتقييد يكون أضبط وأولى. قال رحمه الله تعالى: [وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم، يقولون: إنه يمتنع أن يكون في الممكن المقدور ظلم، بل كل ما كان ممكناً فهو منه -لو فعله- عدل؛ إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي، والله ليس كذلك، فإن قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]. وقوله تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]. وقوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76]. وقوله تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49]. وقوله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17]، وذلك يدل على نقيض هذا القول. ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا). فهذا دل على شيئين: أحدهما: أنه حرم على نفسه الظلم، والممتنع لا يوصف بذلك. الثاني: أنه أخبر أنه حرمه على نفسه، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة، وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي، والله ليس كذلك، فيقال لهم: هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه لا ما هو ممتنع عليه. وأيضاً: فإن قوله: {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:112]، قد فسره السلف بأن الظلم: أن توضع عليه سيئات غيره، والهضم: أن ينقص من حسناته، كما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]. وأيضاً فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، حتى يؤمّن من ذلك، وإنما يؤمّن مما يمكن، فلما آمنه من الظلم بقوله: {فَلا يَخَافُ} [طه:112]، علم أنه ممكن مقدور عليه، وكذا قوله: {لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [ق:28]، إلى قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29]، لم يعن بها نفي ما لا يقدر عليه، ولا يمكن منه، وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم، فعلى قول هؤلاء: ليس الله منزهاً عن شيء من الأفعال أصلاً، ولا مقدساً عن أن يفعله، بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله، بل فعله حسن ولا حقيقة للفعل السوء، بل ذلك ممتنع، والممتنع لا حقيقة له! والقرآن يدل على نقيض هذا القول في مواضع نزه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له، ولا ينبغي له، فعلم أنه منزه مقدس عن فعل السوء، والفعل المعيب المذموم، كما أنه منزه مقدس عن وصف السوء، والوصف المعيب المذموم، وذلك كقوله تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115]، فإنه نزه نفسه عن خلق الخلق عبثاً، وأنكر على من حسب ذلك وهذا فعل، وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]. وقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)

شرح العقيدة الطحاوية [95]

شرح العقيدة الطحاوية [95] مما ينتفع به الأموات بعد حياتهم ما تسببوا به في حال الحياة من أوقاف أو صدقات جارية، أو علم ينتفع به الآخرون، أو غير ذلك من القربات وأنواع الصدقات التي لها آثار نفعية متعدية تلحق العبد إلى قبره، أو ينتفع بدعاء المسلمين واستغفارهم له والصدقة عنه والحج وغيرها من القربات، وقد اختلف في بعض الأعمال البدنية مثل الصوم عنه والصلاة وقراءة القرآن له والذكر، ومنع بعض أهل البدع كل هذه الأعمال أن تصل إلى الميت، والصواب هو ما حرره السلف والعلماء من بعدهم في هذه المسألة.

انتفاع الأموات من سعي الأحياء

انتفاع الأموات من سعي الأحياء قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم منفعة للأموات). اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين: أحدهما: ما تسبب إليه الميت في حياته. والثاني: دعاء المسلمين واستغفارهم له، والصدقة والحج، على نزاع فيما يصل من ثواب الحج، فعن محمد بن الحسن رحمه الله: أنه إنما يصل إلى الميت ثواب النفقة والحج للحاج، وعند عامة العلماء: ثواب الحج للمحجوج عنه وهو الصحيح]. هذا ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة التي رفعت الصبي وقالت: (ألهذا حج؟ قال: ولكِ أجر)، هذا والحديث مطلق، وقد ورد في أكثر من حادثة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الذي حج عن أبيه أو عن أمه، أو فيمن يحج بالصبي، والصبي غير مكلف، وورد ثبوت الأجر لمن حج عن غيره مطلقاً في النصوص، فتحديد الأجر بأجر النفقة هذا لا دليل عليه. قال رحمه الله تعالى: [واختلف في العبادات البدنية، كالصوم، والصلاة، وقراءة القرآن، والذكر، فذهب أبو حنيفة وأحمد وجمهور السلف إلى وصولها، والمشهور من مذهب الشافعي ومالك عدم وصولها. وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء ألبتة لا الدعاء ولا غيره، وقولهم: مردود بالكتاب والسنة، لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]. وقوله: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به من بعده)، فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة، وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه. واستدل المقتصرون على وصول العبادات التي تدخلها النيابة، كالصدقة والحج بأن النوع الذي لا تدخله النيابة بحال، كالإسلام والصلاة والصوم وقراءة القرآن يختص ثوابه بفاعله لا يتعداه]. الصلاة بالاتفاق لا تدخلها النيابة، فلا أحد ينوب عن أحد في الصلاة. أما الحج فقد ورد أنه يجوز الحج عمن لم يستطع الحج، سواء كان حياً غير متمكن بإطلاق، أو من به مرض لا يرجى برؤه، أو كان ميتاً، فإنه يجوز الحج عنه والنيابة عنه. وكذلك تجوز الصدقة عن حي أو ميت. وكذلك بعض الأعمال الأخرى كإهداء قراءة القرآن. أما الصيام ففيه نظر أو فيه خلاف هل هو مما تدخله النيابة أو لا تدخله، والراجح أنه لا يصوم أحد عن أحد إلا بإسقاط الفرض؛ لحديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه)، وهذا لا يعني: النيابة، إنما يعني: الصيام عمن مات وعليه فرض الصيام. إذاً: الراجح أن الحديث لا يتعدى إلى التطوع، إلا إذا كان واجباً، كصيام فرض، أو وجب على الإنسان صيام كفارة أو نذر. قال رحمه الله تعالى: [كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره، وقد روى النسائي بسنده عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة)].

ذكر الأدلة على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه

ذكر الأدلة على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه [والدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح. أما الكتاب، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر:10] فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء، وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة، والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة وكذا الدعاء له بعد الدفن، ففي سنن أبي داود من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت؛ فإنه الآن يسأل). وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم، كما في صحيح مسلم من حديث بريدة بن الحصيب قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية). وفي صحيحه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: (سألت النبي صلى الله عليه وسلم: كيف أقول إذا استغفرت لأهل القبور؟ قال: قولي: السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون). وأما وصول ثواب الصدقة، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها ولم توص، وأظنها لو تكلمت تصدقت، أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم). وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن أمي توفيت وأنا غائب عنها فهل ينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها)، وأمثال ذلك كثيرة في السنة. وأما وصول ثواب الصوم، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وعليه صيام صام عنه وليه)، وله نظائر في الصحيح، ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال بالإطعام عن الميت دون الصيام عنه؛ لحديث ابن عباس المتقدم، والكلام على ذلك معروف في كتب الفروع]. الحديث صريح ولا اجتهاد مع النص، في أنه يجوز الصيام بل يشرع الصيام عمن مات وعليه صوم. وكنت أريد أن أشير إلى أن حديث ابن عباس السابق الصحيح فيه أنه موقوف على ابن عباس وهو قوله: (لا يصلي أحد عن أحد، ولا يصوم أحد عن أحد، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة) حسب ما قال المحقق: إنه موقوف على ابن عباس. قال رحمه الله تعالى: [وأما وصول ثواب الحج، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله، فالله أحق بالوفاء)، ونظائره أيضاً كثيرة. واجتمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت، ولو كان من أجنبي ومن غير تركته، وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة حيث ضمن الدينارين عن الميت، فلما قضاهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن بردت عليه جلدته)، وكل ذلك جار على قواعد الشرع، وهو محض القياس، فإن الثواب حق العامل، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك، كما لم يمنع من هبة ماله له في حياته، وإبرائه له منه بعد وفاته. وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية، يوضحه أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية، وقد نص الشارع على وصول ثوابه إلى الميت، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية؟]. قوله: (وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة) هذا من باب القياس، والقياس في الأمور التوقيفية لا يصح؛ لأن أمور العقيدة توقيفية، هذا ليس من باب الأحكام المجردة، هذا من باب الأمور الغيبية والأمور التوقيفية، فإذا نبه الشارع بوصول ثواب الصوم، فلا يدل ذلك على وصول ثواب غيره من الأعمال إلا بدليل آخر، وإلا لو أخذنا بهذه القاعدة لفتحنا باب العمل للميت من كل وجه، بما في ذلك قراءة القرآن عند القبور، وبما في ذلك الصلاة، والكثير من الأعمال التي يعملها أهل البدع، وهذا فيه نظر. إذاً: لا يصح القياس في أمور العقيدة والأمور الغيبية أبداً، وإنما يصح القياس في أمور الأح

معنى قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى)

معنى قوله تعالى: (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) قال رحمه الله تعالى: [والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، قد أجاب العلماء بأجوبة أصحها جوابان: أحدهما: أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس، فترحموا عليه ودعوا له، وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام، من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم. يوضحه: أن الله تعالى جعل الإيمان سبباً لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك. الثاني -وهو أقوى منه-: أن القرآن لم ينفِ انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه، فإن شاء أن يبذله لغيره، وإن شاء أن يبقيه لنفسه. وقوله سبحانه: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:38 - 39]، آيتان محكمتان تقتضيان عدل الرب تعالى: فالأولى: تقتضي أنه لا يعاقب أحداً بجرم غيره، ولا يؤاخذه بجريرة غيره، كما يفعله ملوك الدنيا. والثانية: تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله، ليقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، وهو سبحانه لم يقل: لا ينتفع إلا بما سعى، وكذلك قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:286]، وقوله: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]، على أن سياق هذه الآية يدل على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره، فإنه تعالى قال: {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54]. وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله) فاستدلال ساقط؛ فإنه لم يقل: انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل لا ثواب عمله هو، وهذا كالدين يوفيه الإنسان عن غيره فتبرأ ذمته، ولكن ليس له ما وفى به الدين، وأما تفريق من فرق بين العبادات المالية والبدنية فقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم الصوم عن الميت كما تقدم، مع أن الصوم لا تجزئ فيه النيابة، وكذلك حديث جابر رضي الله عنه قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه، فقال: باسم الله، والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي)، رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وحديث الكبشين اللذين قال في أحدهما: (اللهم هذا عن أمتي جميعاً)، وفي الآخر: (اللهم هذا عن محمد وآل محمد) رواه أحمد والقربة في الأضحية وإراقة الدم، وقد جعلها لغيره. وكذلك عبادة الحج بدنية، وليس المال ركناً فيه، وإنما هو وسيلة، ألا ترى أن المكي يجب عليه الحج إذا قدر على المشي إلى عرفات من غير شرط المال، وهذا هو الأظهر، أعني: أن الحج غير مركب من مال وبدن، بل بدني محض، كما قد نص عليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة المتأخرين. وانظر إلى فروض الكفايات: كيف قام فيها البعض عن الباقين، ولأن هذا إهداء ثواب، وليس من باب النيابة، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يستنيب عنه، وله أن يعطي أجرته لمن شاء.

حكم الاستئجار على تلاوة القرآن وإهدائه للميت وإهداء القراءة للميت بغير أجرة

حكم الاستئجار على تلاوة القرآن وإهدائه للميت وإهداء القراءة للميت بغير أجرة وأما استئجار قوم يقرءون القرآن ويهدونه للميت، فهذا لم يفعله أحد من السلف، ولا أمر به أحد من أئمة الدين، ولا رخص فيه، والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف، وإنما اختلفوا في جواز الاستئجار على التعليم ونحوه، مما فيه منفعة تصل إلى الغير، والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله، وهذا لم يقع عبادة خالصة، فلا يكون ثوابه مما يهدى إلى الموتى، ولهذا لم يقل أحد: إنه يكتري من يصوم ويصلي ويهدي ثواب ذلك إلى الميت، لكن إذا أعطى لمن يقرأ القرآن ويعلمه ويتعلمه معونة لأهل القرآن على ذلك، كان هذا من جنس الصدقة عنه فيجوز. وفي الاختيار: لو أوصى بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره، فالوصية باطلة؛ لأنه في معنى الأجرة. انتهى. وذكر الزاهدي في القنية: أنه لو وقف على من يقرأ عند قبره فالتعيين باطل. وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعاً بغير أجرة فهذا يصل إليه كما يصل ثواب الصوم والحج، فإن قيل: هذا لم يكن معروفاً في السلف ولا أرشدهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم؟ ف A إن كان مورد هذا السؤال معترفاً بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء، قيل له: ما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن؟ وليس كون السلف لم يفعلوه حجة في عدم الوصول، ومن أين لنا هذا النفي العام؟]. رأي جمهور السلف على خلاف هذا القول، لكن بعض أهل العلم المعتبرين من السلف وغيرهم قالوا بمثل قول ابن أبي العز هنا، وقال به أيضاً بعض المتقدمين والمتأخرين، لكن الراجح هو قول جمهور السلف من أنه لا يجوز القياس في هذا الأمر، ولا يجوز إهداء قراءة القرآن للميت، وكونه لم يرد عن السلف يعتبر حجة؛ لأنه إذا لم يرد فيه نص صحيح صريح بإطلاق ولم يفعله السلف هذا كاف في أن نرده؛ لأنه يدخل في باب الابتداع، وقياس إهداء القرآن على وصول ثواب الحج والصيام والدعاء لا يصح، للاعتبارات التي ذكرتها من قبل، وهي أن هذا الأمر من الأمور التي لا يجب فيها القياس؛ لأن فيه جانب عبادة، وأيضاً هو أمر توقيفي، ومثل هذه الأمور لا بد أن يكون الأصل فيها الدين، ومع ذلك فإن الشارح سينتصر لهذا الرأي ويذكر الأدلة، وكما قلت: المسألة فيه نزاع. قال رحمه الله تعالى: [فإن قيل: فرسول الله صلى الله عليه وسلم أرشدهم إلى الصوم والحج والصدقة دون القراءة؟ قيل: هو صلى الله عليه وسلم لم يبتدئهم بذلك، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم، فهذا سأله عن الحج عن ميته، فأذن له فيه، وهذا سأله عن الصوم عنه، فأذن له فيه، ولم يمنعهم مما سوى ذلك، وأي فرق بين وصول ثواب الصوم الذي هو مجرد نية وإمساك، وبين وصول ثواب القراءة والذكر؟ فإن قيل: ما تقولون في الإهداء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قيل: من المتأخرين من استحبه، ومنهم من رآه بدعة؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم له مثل أجر كل من عمل خيراً من أمته، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء؛ لأنه هو الذي دل أمته على كل خير وأرشدهم إليه. ومن قال: إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده، باعتبار سماعه كلام الله، فهذا لم يصح عن أحد من الأئمة المشهورين، ولا شك في سماعه، ولكن انتفاعه بالسماع لا يصح، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة، فإنه عمل اختياري، وقد انقطع بموته، بل ربما يتضرر ويتألم، لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه، أو لكونه لم يزدد من الخير.

اختلاف العلماء في حكم قراءة القرآن عند القبور

اختلاف العلماء في حكم قراءة القرآن عند القبور واختلف العلماء في قراءة القرآن عند القبور على ثلاثة أقوال: هل تكره أم لا بأس بها وقت الدفن وتكره بعده؟ فمن قال بكراهتها، كـ أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، قالوا: لأنه محدث لم ترد به السنة، والقراءة تشبه الصلاة، والصلاة عند القبور منهي عنها، فكذلك القراءة. ومن قال: لا بأس بها، كـ محمد بن الحسن وأحمد في رواية، استدلوا بما نُقل عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتمها، ونُقل أيضاً عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة. ومن قال: لا بأس بها وقت الدفن فقط -وهو رواية عن أحمد - أخذ بما نُقل عن ابن عمر وبعض المهاجرين، وأما بعد ذلك كالذين يتناوبون القبر للقراءة عنده فهذا مكروه، فإنه لم تأت به السنة، ولم يُنقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلاً، وهذا القول لعله أقوى من غيره لما فيه من التوفيق بين الدليلين]. يعني: يرى الشارح أن القراءة عند القبر بعد الدفن مباشرة فقط لا بأس بها؛ لأن هذا هو المأثور عن كثير ممن أجازه من السلف، وأنهم يرون هذا جائزاً وقت الدفن، أما أن يكون بصورة مستمرة في كل وقت يقرءون عنده القرآن، فهذا ليس بمشروع.

الأسئلة

الأسئلة

وجه إدخال مسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء في أمور العقيدة

وجه إدخال مسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء في أمور العقيدة Q هل مسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء داخلة في أمور العقيدة؟ A مسألة انتفاع الأموات بسعي الأحياء لها جانبان: جانب حكمه من حيث الشرع الجواز، وجانب حكمه عدم الجواز؛ لأنه من الجوانب العبادية، والخلاف ورد بسبب الذين توسعوا في هذا الجانب، فالعبادات في أسلوبها داخلة في باب العقيدة، ثم هناك جانب غيبي، والجانب الغيبي داخل في العقيدة، ومن الجانب الغيبي نشأة الأموات، وما يسمعونه وما لا يسمعون، وما ينتفعون به وما لا ينتفعون، وهل يجيبون أو لا يجيبون؟ وهل يصلهم الثواب أو لا يصلهم؟ فهذه أمور داخلة في مسألة الحياة البرزخية وأمور الآخرة، فمن هذا الجانب كانت عقدية.

وجه الجمع بين مراتب القدر الأربع وبين كون الدعاء يرد القدر

وجه الجمع بين مراتب القدر الأربع وبين كون الدعاء يرد القدر Q كيف نجمع بين قولنا: إن مراتب القدر أربع: العلم، والكتابة، والمشيئة، والخلق، وبين أن الدعاء يرد القدر؟ وهل يقال: إن الملك عندما يؤمر عند خلق الإنسان بكتب رزقه وعمله وشقي أم سعيد، كل هذا لا يكتب في اللوح المحفوظ، بل يكتب في مكان آخر، فإذا دعا أزيل عنه ما كتب له؟ فهل هذا صحيح؟ A أولاً: الدعاء لا يرد ما كتب في اللوح المحفوظ، الدعاء يرد الأقدار الجزئية الأخرى، ما كتب في صحيفة الإنسان عند نفخ الروح فيه بعد (120) يوماً من خلقه، إذا نفخت فيه روحه وكتبت عليه القضايا الأربع: رزقه، وأجله، وموته، وشقاوته أو سعادته، هذه الأمور لا ينفع فيها الدعاء، إنما ينفع الدعاء في رد بعض الأقدار الجزئية أو جلبها، هذا هو الظاهر من النصوص. ثانياً: أن ما يقدره الله عز وجل مع كونه عز وجل يمحو ما يشاء ويثبت هذا لا يتعارض مع الكتابة الأولى، فالمحو والإثبات إنما فيه دليل على عموم مشيئة الله عز وجل، وأن الله فعّال لما يريد. واختلف أهل العلم هل المحو والإثبات في الكتابة الأصلية الأولى؟ الراجح أن المحو والإثبات في الكتابات الجزئية؛ لأن الكتابات مراحل: منها: الكتابة القدرية العامة الكبرى التي قدر الله بها جميع أحكام الخلائق، فهذه كتابة عامة. ومنها: ما هو دون ذلك ككتابة الصحيفة، الكتابة السنوية التي يقدرها الله عز وجل في ليلة القدر وغير ذلك، فهذه كتابات جزئية. فالمحو والإثبات إذا كان في الكتابة الأصلية فهو راجع إلى قدرة الله عز وجل وتقديره، وأن الله يعلم أن هذا سيكون، فلا يتعارض مع كتابته وتقديره وخلقه، وإذا كان المحو والإثبات في الصحائف التي دون الصحيفة الكبرى أو الكتابة الأولى، فهذا يعني: أن الله عز وجل يقدر في النهاية ما كتبه في الأول، وهو الراجح. المهم أن مراتب القدر باقية على ما هي عليه: العلم، والكتابة، علم الله عز وجل من عباده ما سيكون منهم فكتب الكتابة المستقرة على ما علمه منهم، وما دون ذلك من كتابات قد يكون فيه المحو والإثبات، والله أعلم.

حكم سماع الأموات للأحياء

حكم سماع الأموات للأحياء Q ما هو القول الصحيح في سماع الأموات للأحياء؟ A الصحيح أن الأموات يسمعون الأحياء، لكن ليس دائماً إلا ما ورد بالنص من أن الميت عند دفنه يسمع قرع نعال من ينصرفون عنه، ويسمع قولهم، وكذلك عند السلام، إذا جاء الحي وسلم على الميت، فإن الميت يرد عليه السلام ويسمعه، أو يسمعه سواء رد أو لم يرد، هذا هو الذي ورد هنا. إذاً: ما ثبت به النص يثبت وما لم يرد لم يثبت، وليس هناك دليل على أن الأموات يسمعون في كل الأحوال، فيكون الأصل أنهم لا يسمعون إلا ما ورد به النص.

دليل من أجاز قراءة القرآن على الميت عند الدفن

دليل من أجاز قراءة القرآن على الميت عند الدفن Q ما دليل الشارح في جواز قراءة القرآن على الميت عند الدفن؟ A القراءة على الميت بعد وفاته مباشرة نقلت عن بعض الصحابة وعن بعض السلف، نقلت عن محمد بن الحسن وعن ابن عمر وغيرهما من الصحابة والتابعين، وبقية الصحابة لم ينكروا ذلك، والقاعدة الشرعية: أن الصحابة إذا عملوا شيئاً من أمور العبادة الأصل فيها التوقيف، فإن عملهم حجة، خاصة إذا أقروه ولم يعارضوه، أو أقره بعضهم ولم يُعارض، وهذا موقوف أو محصور فيما بعد الدفن، أما استمرار قراءة القرآن على القبر فهذه المسألة فيها خلاف.

شرح العقيدة الطحاوية [96]

شرح العقيدة الطحاوية [96] الدعاء من أقوى الأسباب لجلب المنافع ودفع المضار عن العباد، وهو مشروع بإجماع المسلمين، ولم يخالف في ذلك أحد إلا غلاة الفلاسفة، والدعاء أنواع منها دعاء العبادة الذي هو الخوف والخشية والرغبة والرهبة والإنابة والتوكل والتوجه إلى الله، ودعاء المسألة الذي هو سؤال الله والتماس الإجابة منه وحده لا من أحد من المخلوقين. وقد تؤخر عن العبد الإجابة لأمور كلها خير ونفع له.

استجابة الله دعاء عبده

استجابة الله دعاء عبده قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (والله تعالى يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات). قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60]. وقال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] والذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وسائر أهل الملل وغيرهم: أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع، ودفع المضار، وقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين، وأن الإنسان إذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعداً أو قائماً، وإجابة الله لدعاء العبد مسلماً كان أو كافراً، وإعطاؤه سؤله من جنس رزقه لهم ونصره لهم، وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقاً، ثم قد يكون ذلك فتنة في حقه ومضرة عليه، إذ كان كفره وفسوقه يقتضي ذلك، وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يسأل الله يغضب عليه). وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال: الرب يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب]. الدعاء مشروع بإجماع المسلمين، ولم يخالف في ذلك إلا أناس أغلبهم ينتمون إلى فرق خارجة من الملة، فهؤلاء الذين شكوا في مشروعية الدعاء ينتمون إلى غلاة الجهمية وغلاة الصوفية وإلى الفلاسفة، يعني: الفلاسفة بالاعتبار العقدي، فعلى هذا نقول: إن الأصل في الدعاء هو العبادة، والله عز وجل جعل العبادة متضمنة للدعاء بكل أشكاله، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (الدعاء هو العبادة) لأن العبادة معناها: التوجه إلى الله عز وجل بالتعظيم والرغبة والرهبة والخشية والإنابة والتوكل، وكل ذلك إما أن يكون دعاء بذاته، وإما أن يكون وسيلته الدعاء، وعلى هذا لا يمكن أن تخلو عبادة من الدعاء، فيكون الدعاء هو العبادة التي شرعها الله عز وجل جملة وتفصيلاً، فلا ينبغي أن نتكلف في التماس الأدلة في مشروعية الدعاء، لكن علينا التماس الأدلة على نفع الدعاء؛ لأن بعض الناس قد يظن أن التوجه إلى الله عز وجل بالدعاء مجرد عبادة فقط ليس وراءها منافع، في حين أن الأمرين متحققان في الدعاء: الأول: أن الدعاء عبادة وتوجه إلى الله عز وجل بالتعظيم والتقديس والإجلال والتوكل والإنابة والخشية والرجاء وغير ذلك، الثاني: أنه أيضاً طلب للنفع في أمور الدنيا والآخرة. قال رحمه الله تعالى: [قال ابن عقيل: قد ندب الله تعالى إلى الدعاء، وفي ذلك معان: أحدها: الوجود، فإن ليس بموجود لا يُدعى. الثاني: الغنى، فإن الفقير لا يُدعى. الثالث: السمع، فإن الأصم لا يُدعى. الرابع: الكرم، فإن البخيل لا يُدعى. الخامس: الرحمة، فإن القاسي لا يُدعى. السادس: القدرة، فإن العاجز لا يُدعى]. هذا على سبيل التمثيل، وإلا فالدعاء يدل على جميع أسماء الله الحسنى، خاصة الصفات الفعلية التي هي متعلقة بمصالح العباد، فالدعاء يدل على جميع أسماء الله عز وجل بجملتها، وعلى صفاته مثل: الحي، القيوم، العظيم، الأعلى. قال رحمه الله تعالى: [ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها: كفي، ولا النجم يقال له: أصلح مزاجي؛ لأن هذه عندهم مؤثرة طبعاً لا اختياراً، فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء؛ ليبين كذب أهل الطبائع]. يشير الشارح هنا إلى الفلاسفة والدهرية والملاحدة وطوائف من غلاة المتكلمين، وكثير من العقلانيين في كل عصر، الذين يحكمون عقولهم في أمور الدين وفي كل شيء، فهؤلاء مذهبهم أن الدعاء يؤثر بالطبع وليس بقدرة الله عز وجل، وأن هذه الأمور من السنن اللازمة التي لا تأتي بتأثير الداعي، إنما قد يقترن وجود الدعاء بوجود المؤثر أو بوجود الأصل، فهم ينكرون أن يكون الدعاء سبباً في جلب المنافع ودفع المضار، ويعتبرون ما يجري في أحوال العباد أموراً طبيعية، تحدث في السنن الكونية فقط، دون أن يكون لله عز وجل مشيئة أو إرادة، أو يكون الدعاء سبباً مباشراً بما يحدث للعباد من مصالح أو مضار. وهذه فلسفة تشمل كثيراً من قضايا الدين في القدر وفي أفعال العباد وغيرها، ولذلك نتج عنها القول بالجبر، ونتج عنها مذاهب الصوفية الذين تركوا الأسباب، ونتج عنها أيضاً عدم الإيمان بصفات الله عز وجل الفعلية، ونتج عن هذا أيضاً التأول للصفات الفعلية إما بالإنكار وإما بالتأول، كل ذلك ناتج عن دعوى أن كل شيء يحدث بالطبع في السنن الكونية فقط، وليس للدعاء ولا للأسباب أي تأثير.

الرد على من يزعم عدم فائدة الدعاء

الرد على من يزعم عدم فائدة الدعاء قال رحمه الله تعالى: [وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة إلى أن الدعاء لا فائدة فيه! قالوا: لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء، وقد يخص بعضهم بذلك خواص العارفين، ويجعل الدعاء عليه في مقام الخواص]. يعني: أن الخواص يتحكمون في القدر لا على سبيل الدعاء، لكن الدعاء يعتبر إشارة أو علامة للتأثير في الأمور الكونية. قال رحمه الله تعالى: [وهذا من غلطات بعض الشيوخ]. لأنهم يزعمون أن الخواص يدبرون الكون! تعالى الله عما يزعمون؛ ولذلك قسموا الكون ووزعوه على من يقدسونه، فقالوا: القطب والغوث هذا هو المتحكم الأول في الكون، ثم من دونه طبقات بحسب التسمية، مثل: الأوتاد ومن دونهم، فقالوا: إن هؤلاء كل منهم له جزء في التصرف الكوني، فعمموا هذا حتى على مسألة الدعاء، فزعموا أن دعاء هؤلاء الخواص أمر ونهي، أي: تحكم في الكون، ليس مجرد طلب من الله عز وجل، لكنه إشارة أو دليل على تصرفه في الكون، فكأن صاحب الخصوصية عندهم إذا دعا فإنه يأمر الأسباب بأن تتصرف كما يريد. قال رحمه الله تعالى: [وهذا من غلطات بعض الشيوخ، فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام، فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية، فإن منفعة الدعاء أمر اتفقت عليه تجارب الأمم، حتى إن الفلاسفة تقول: ضجيج الأصوات في هياكل العبادات، بفنون اللغات، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات، هذا وهم مشركون]. هذا هو الذي يعتقده فلاسفة الصابئة، فهم يزعمون أن الأفلاك مؤثرة، وبعضهم يزعم أن الدعاء مؤثر فيما تعقده الأفلاك، فجعلوا تأثير هذا في هذا كله من دون الله عز وجل، وهم لا يقصدون ضجيج الأصوات بالدعاء المشروع، ولذلك نجد عند الصابئة وعند كثير من الديانات الوضعية التي تأثرت بالفلاسفة فيها أدعية تتضمن شركيات، وتنسب التأثير إلى غير الله عز وجل، وتطلب النفع والضر من غير الله سبحانه، ويزعمون أن هذا مما يؤثر على تدبير الأفلاك في الكون. فالفلاسفة ما قصدوا الدعاء بمعناه الشرعي، إنما قصدوا مجرد توجه العباد إلى من يزعمون أو يدّعون حصول النفع منهم، ونحن نعرف أن الداعي لغير الله عز وجل قد يتحقق له طلب من باب الابتلاء، بمعنى أنه قد يدعو غير الله مما لا يقدر على شيء مما يُدعى إليه وقد يتحقق للداعي دُعاءه من باب الابتلاء، فيكله الله عز وجل إلى هذا المخلوق، فيقع في الشرك، وقد ينتفع في دنياه وفي بدنه، لكنه يقع في الشرك، وهذا كثير، ولذلك بعض الناس قد يفتن إذا رأى دعاة أهل القبور قد ينتفعون ببعض الأشياء، قد ينتفعون من دعائهم لأصحاب القبور في بعض الأشياء فيفتن، ويكون عنده شيء من الريب والشك، وما جرى من هذا الشرك ابتلاء، مع أنه لا يتحقق له الطلب في الغالب، لكن إن تحقق طلبهم فلأنهم لجئوا لجوءاً صادقاً من حيث التوجه، لا لإخلاص العبادة، لكن من حيث الاضطرار، فالله عز وجل يجيب المضطر ولو كان كافراً. إذاً: المسألة تحتاج إلى إيضاح؛ لئلا تلتبس على الناس؛ لأني أرى كثيراً من الناس، خاصة مع كثرة إقبالهم على الرقى والأدعية غير المشروعة، وضعف توكلهم على الله عز وجل، تعلقت قلوبهم بمثل هذه الأمور، وحصل لهم نفع، فظنوا أن هذا النفع الذي حصل يدل على مشروعية العمل، وأن الله عز وجل ما حقق على أيديهم النفع إلا لأنهم على حق، وهذه مسألة فيها شرك، فنبين للناس أن الله عز وجل يبتليهم، قد يأتي إنسان ويذهب إلى دجال ويحصل منه على أمر دنيوي من باب الابتلاء، بمعنى أنه قد يجاب دعاؤه من باب العقوبة له والفتنة، والشيطان أيضاً أحياناً يتلبس بأمور كثيرة، وكذلك شياطين الجن قد يكون لهم أثر في ذلك، قد يجلبون لبعض الناس بعض النفع ويدفعون عنهم بعض الضر، مما أعطاهم الله عز وجل من قدرات، فيكون هذا من باب الوقوع في الإثم والشرك، ويكون من باب الفتنة والابتلاء، ولا يعني: أن استجابة الدعاء على الوجه الشرعي. ومع ذلك فإن الغالب أن من دعا الله خالصاً مخلصاً وبعيداً عن الشرك والدجل أنه يستجاب لهم، والغالب أن من دعا غير الله لا يستجاب لهم، لكن يستجاب للبعض وهذا ابتلاء وفتنة، والله أعلم. قال رحمه الله تعالى: [وجواب الشبهة بمنع المقدمتين: فإن قولهم عن المشيئة الإلهية، إما أن تقتضيه أو لا. ثم قسم ثالث: وهو أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه، وقد يكون الدعاء من شرطه، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ولا توجبه مع عدمه، وكما توجب الشبع والري عند الأكل والشرب ولا توجبه مع عدمهما، وحصول الولد بالوطء، والزرع بالبذر، فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب، فقول هؤلاء كما أنه مخالف للشرع فهو مخالف للحس والفطرة. ومما ينبغي أن يعلم ما قاله طائفة من العلماء وهو: أن الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع، ومعنى التوكل والرجاء يتألف من موجوب التوحيد و

الحكمة في أن الداعي قد لا يعطى شيئا أو لا يعطى غير ما سأل

الحكمة في أن الداعي قد لا يعطى شيئاً أو لا يعطى غير ما سأل وهنا سؤال معروف: وهو أن من الناس من قد يسأل الله شيئاً فلا يُعطى، أو يُعطى غير ما سأل، وقد أُجيب عنه بأجوبة، فيها ثلاثة أجوبة محققة: أحدها: أن الآية لم تتضمن عطية السؤال مطلقاً، وإنما تضمنت إجابة الداعي، والداعي أعم من السائل، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟). ففرّق بين الداعي والسائل وبين الإجابة والإعطاء، وهو فرق بالعموم والخصوص، كما أتبع ذلك بالمستغفر، وهو نوع من السائل، فذكر العام ثم الخاص ثم الأخص، وإذا علم العباد أنه قريب يجيب دعوة الداعي، علموا قربه منهم، وتمكنهم من سؤاله، وعلموا علمه ورحمته وقدرته، فدعوه دعاء العبادة في حال، ودعاء المسألة في حال، وجمعوا بينهما في حال، إذ الدعاء اسم يجمع العبادة والاستعانة، وقد فُسِّر قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] بالدعاء الذي هو العبادة، والدعاء الذي هو الطلب، وقوله بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60] يؤيد المعنى الأول]. أحب أن أشير إلى أن كثيراً من قضايا الدين ترد في نصوص مجملة، ثم إن كانت من أمور العقائد تفصل بإيضاح وبأخبار، وإن كانت من أمور العبادات تفصل بأوامر ونواه، ولا شك أنه ورد في النصوص الصريحة الصحيحة في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أن الله يجيب دعوة الداعي في نصوص مجملة، لكن هناك نصوص أخرى صحيحة تُفسّر معنى الدعاء وحقيقة الدعاء الذي يُجاب؟ ومتى يُجاب؟ وكيف يجاب؟ وهذا مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله دخل الجنة) هذا نص مجمل، لكن هناك نصوص مفسرة لشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ومبينة للوازم شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وهذه اللوازم ضرورية. ووردت نصوص: أن من فعل كذا قبلت صلاته، من فعل كذا قبل صيامه، لكن للصيام ضوابط ووقت معين وشروط وواجبات، وكذلك للصلاة شروط وواجبات لا بد منها، فكذلك الدعاء ورد في نصوص مجملة: أن الله يستجيب الداعي إذا دعاه، لكن هناك نصوص أخرى مفصّلة تضع للدعاء المقبول المُجاب شروطاً، وتوضح أن هناك موانع قد تمنع إجابة الدعاء. هذه قاعدة ينبغي أن يترسمها طالب العلم دائماً في كل ما يتعلق بقضايا الشرع العامة، والنصوص المجملة التي هي عبارة عن قواعد، وهذه النصوص مربوطة بالنصوص الأخرى، ولا بد من ضبطها بالأوامر والنواهي والشروط والواجبات، ولا بد من فهم الموانع أو المفسدات التي تتعلق بالأمر إن كان عبادة، أو تتعلق بالخبر إن كان عقيدة، لا بد من الرجوع في كل نص عام إلى ما يقيده ويفسره، ومن ذلك الدعاء، ورد للدعاء إجابة، لكن للإجابة شروط ولها موانع، ينبغي فهم هذه الشروط وتحقيقها، وفهم الموانع والابتعاد عنها. قال رحمه الله تعالى: [الجواب الثاني: أن إجابة دعاء السؤال أعم من إعطاء عين المسئول، كما فسّره النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يُعجِّل له دعوته، أو يدخر له من الخير مثلها، أو يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله إذاً نُكثر؟ قال: الله أكثر) فقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أنه لا بد في الدعوة الخالية عن العدوان من إعطاء السؤال معجلاً، أو مثله من الخير مؤجلاً، أو يُصرف عنه من السوء مثله. الجواب الثالث: أن الدعاء سبب مقتض لنيل المطلوب، والسبب له شروط وموانع، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب، وإلا فلا يحصل ذلك المطلوب، بل قد يحصل غيره، وهكذا سائر الكلمات الطيبات من الأذكار المأثورة، المعلق عليها جلب منافع أو دفع مضار، فإن الكلمات بمنزلة الآلة في يد الفاعل، تختلف باختلاف قوته وما يعينها، وقد يعارضها مانع من الموانع، ونصوص الوعد والوعيد المتعارضة في الظاهر من هذا الباب، وكثيراً ما تجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه، وإقباله على الله، أو حسنة تقدمت منه، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكراً لحسنته، أو صادف وقت إجابة ونحو ذلك، فأُجيبت دعوته، فيظن أن السر في ذلك الدعاء، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي. وهذا كما إذا استعمل رجل دواءً نافعاً في الوقت الذي ينبغي، فانتفع به، فظن آخر أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب، فكان غالطاً. وكذا قد يدعو باضطرار عند قبر فيُجاب، فيظن أن السر للقبر، ولم يدر أن السر للاضطرار، وصدق اللجأ إلى الله تعالى، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله تعالى كان أفضل وأحب إلى الله تعالى. فالأدعية والتعوذات و

غضب الله ورضاه

غضب الله ورضاه قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ويملك كل شيء، ولا يملكه شيء، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين، ومن استغنى عن الله طرفة عين، فقد كفر وصار من أهل الحين). كلام حق ظاهر لا خفاء فيه، والحين، بالفتح: الهلاك. قوله: (والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى). قال تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} [المائدة:119]. {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]. وقال تعالى: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60]. {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:93]. {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [البقرة:61]. ونظائر ذلك كثيرة. ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضا، والعداوة، والولاية، والحب، والبغض ونحو ذلك من الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى. كما يقولون مثل ذلك في السمع، والبصر، والكلام وسائر الصفات، كما أشار إليه الشيخ فيما تقدم بقوله: (إذ كان تأويل الرؤية، وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية، ترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المرسلين). وانظر إلى جواب الإمام مالك رضي الله عنه في صفة الاستواء كيف؟ قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وروي أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً عليها، ومرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك قال الشيخ رحمه الله فيما تقدم: (من لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه). ويأتي في كلامه: (أن الإسلام بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل). فقول الشيخ رحمه الله: (لا كأحد من الورى) نفي التشبيه، ولا يقال: إن الرضا إرادة الإحسان، والغضب إرادة الانتقام، فإن هذا نفي للصفة، وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه، وينهى عما يسخطه ويكرهه ويبغضه ويغضب على فاعله، وإن كان قد شاءه وأراده، فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده، ويكره ويسخط لما أراده. ويقال لمن تأول الغضب والرضا بإرادة الإحسان: لم تأولت ذلك؟ فلا بد أن يقول: لأن الغضب غليان دم القلب والرضا الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى، فيقال له: غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب، لا أنه من الغضب، ويقال له أيضاً: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا هي ميل الحي إلى الشيء، أو إلى ما يلائمه ويناسبه، فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده، ومفتقر إليه، يزداد بوجوده، وينقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذاك، وإن امتنع هذا امتنع ذاك. فإن قال: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهما حقيقة. قيل له: فقل: إن الغضب والرضا الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كانت كل منهما حقيقة، فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات، لم يتعين التأويل، بل يجب تركه؛ لأنك تسلم من التناقض، وتسلم أيضاً من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام، ولا يكون الموجب للصرف ما دله عليه عقله؛ إذ العقول مختلفة، فكل يقول: إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر! وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله تعالى، لامتناع مسمى ذلك في المخلوق، فإنه لا بد أن يثبت شيئاً لله تعالى على خلاف ما يعهده، حتى في صفة الوجود، فإن وجود العبد كما يليق به ووجود الباري تعالى كما يليق به، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم، وما سمى به الرب نفسه وسمى به مخلوقاته مثل الحي والعليم والقدير، أو سمى به بعض صفاته كالغضب والرضا، وسمى به بعض صفات عباده، فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله تعالى، وأنه حق ثابت موجود، ونعقل أيضاً معاني هذه الأسماء في حق المخلوق، ونعقل أن بين المعنيين قدراً مشتركاً، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركاً، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركاً إلا في الأذهان، ولا يوجد في الخارج إلا معيناً مختصاً، فيثبت في كل منهما كما يليق به، بل لو قيل: غضب مالك خازن النار وغضب غيره من الملائكة، لم يجب أن يكون مماثلاً لكيفية غضب الآدميين؛ لأن الملائكة ليسوا من الأخلاط الأربعة حتى تغلي دماء قلوبهم كما يغلي دم قلب الإنسان عند غضبه، فغضب الله أولى]. نقف عند هذه النقطة، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم ترك تطعيم الأطفال بحجة أن ذلك نقص في التوكل

حكم ترك تطعيم الأطفال بحجة أن ذلك نقص في التوكل Q أحد الإخوة لا يرى عمل التطعيمات الخاصة بالأطفال، فهو لا يطعم أولاده؛ لأنه يرى أن هذا نقص في التوكل على الله، وأن كبار السن لم يعملوا هذه التطعيمات عندما كانوا صغاراً، والناس في هذه الأزمنة قد تعلقوا بهذه الأسباب، فما رأيكم في هذا؟ A من يترك هذا تورعاً في حق نفسه لا حرج، لكن أن يترك أولاده لا يجوز له؛ لأن التطعيمات من الأسباب التي بإذن الله تبرأ بها الأمراض، وتجنب المرض قبل وقوعه مشروع، وحماية الناس من الأمراض قبل وقوعها مشروعة، سواء كانت حماية فردية أو جماعية. وكل فرد عليه أن يرعى من هم تحت ولايته، من أطفال وغير أطفال، وإذا وجد وسائل مشروعة لدرء الخطر عنهم فينبغي عليه أن يأخذ بهذه الوسائل، بما في ذلك التطعيمات. والتطعيمات مشروعة ولا حرج فيها، لكن على الناس أن يعلموا أن التطعيمات أسباب، وأن الله عز وجل هو الواقي. والوقاية قبل العلاج من الأسباب المشروعة، ونحن نعلم أن كثيراً من الأمراض انقطعت بإذن الله بسبب التطعيمات، كالجدري، والحصبة وغيرهما، وهذه الأمراض موجودة سابقاً ومن أشد الأمراض فتكاً بالناس، ولا تزال آثارها في بعض كبار السن. وكبار السن من آبائنا الذين هم أصفى توحيداً، وأعرف بقواعد الشرع بحكم أنهم على الفطرة، ويتلقون العلم الشرعي صافياً، لو أن أحد هذه الأسباب كانت موجودة في عهدهم فما أظن أن يتوقفوا في استعمالها، لكن ما وجدوا.

حكم التفرغ للرقية واتخاذها مهنة

حكم التفرغ للرقية واتخاذها مهنة Q ما حكم التفرغ للرقية واتخاذها مهنة من قبل بعض المنتسبين للعلم أو غيرهم، وهل هذا مأثور عن أئمة السلف؟ A الأصل في الرقية أنها مشروعة، وهي نوع من الدعاء الذي أمرنا به، وهو جزء من العبادة. وأيضاً الأصل في الرقية أن تكون من كتاب الله عز وجل، أو مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الألفاظ الثابتة، أو ما يشبه ذلك من الأدعية الصحيحة السليمة، التي ليس فيها شرك، وليس فيها بدع، وليس فيها ظلم أو عدوان، وليس فيها ألغاز أو استعانة بغير الله عز وجل، كالاستعانة بالجن ونحو ذلك. أما مسألة التفرغ للرقية من قبل طالب العلم، بحيث يجعل مهنته رقية للناس، سواء كان ذلك بأجر أو بغير أجر، فلم يرد عن السلف أن أحداً منهم تفرغ من أجل الرقية، بل كانوا يرقون أنفسهم ويرقون غيرهم، ويقرون من يرقي غيره، لكن لا على سبيل جعل الرقية مهنة يتفرغ لها الإنسان، وما يفعله كثير من طلاب العلم هذا فيه نوع من تجاوز الأصل الشرعي، ويستتبع ذلك وضع مكان ثابت يجتمع فيها حشد كبير من الرجال، أو حشد من النساء، ويقرأ عليهم قراءة جماعية بشكل يومي منتظم، وحدد لذلك أجوراً معينة، وتباع من خلال هذا الأمر أنواع من الأدوية والمياه بأكثر من قيمتها الحقيقية إلى غير ذلك من الوسائل التي في التوسع فيها نظر، ولذلك أقول: إن هذه الظاهرة إذا زادت ربما تتأصل وتكون من البدع التي يصعب علاجها فيما بعد. أما كون الإنسان يحتسب الرقية ويرقى الناس ويفيدهم فهذا لا حرج فيه، لكن أن يجعل ذلك مهنة فهذا فيه نوع من التجاوز ولا بد من التنبيه على ذلك. قد يرد إشكال وهو أن الناس بحاجة إلى الرقية الشرعية، والدليل على هذا أنه ما من راق يشتهر إلا ويتكدس عليه الناس بالعشرات والمئات والآلاف، نقول: هذا حق، لكن كلما زاد الناس من التعلق بهذا الأمر وضع الله عز وجل عليهم من الأصار والأغلال ما يجعلهم أيضاً يزيدون أكثر؛ لأنهم يلجئون إلى غير الله عز وجل فيكلهم الله إلى عباده، والذي ينبغي أن يعوّد الناس كيف يحمون أنفسهم بالأوراد الشرعية، وبالتزام الطاعة وأعمال البر، والمواظبة على الذكر والاستغفار وغير ذلك من المحصنات الشرعية التي بإذن الله تقي الناس من كثير من الأمراض والأوهام، التي تسبب لهم اللجوء إلى الرقاة، هذا شيء. الشيء الآخر: أن الناس لو عودوا أن يرقوا أنفسهم أو يرقيهم أمثالهم والأقربون منهم من الجيران وجماعة المسجد ونحوه؛ لكان هذا أولى، ولما ظهرت هذه الظواهر التي أصبحت الآن من الظواهر التي دخلت من خلالها بعض البدع، والله أعلم.

معنى قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك) وإثبات صفة الوجه لله عز وجل

معنى قوله تعالى: (ويبقى وجه ربك) وإثبات صفة الوجه لله عز وجل Q ما معنى قوله عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن:27] يعني: هل يبقى الوجه فقط أم سائر الذات؟ وهل فيها إثبات صفة الوجه لله؟ A هذه المسألة معروفة عند أهل العلم، وهي مسألة إثبات صفة الوجه لله عز وجل على ما يليق بجلاله، أما معنى الآية في كونه لا يبقى إلا وجه الله، يعني: لا يبقى إلا ذاته؛ لأن العرب تعبر عن الذات بالوجه، هذا معروف في لغة العرب، وليس بغريب، وليس فيه تكلف، نثبت الوجه، ومع ذلك نثبت أنه لا يبقى إلا الله عز وجل، ويستثنى من ذلك من كتب الله له من المخلوقات عدم الفناء، مما ذكره أهل العلم.

شرح العقيدة الطحاوية [97]

شرح العقيدة الطحاوية [97] من عقيدة أهل السنة والجماعة محبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نحبهم وألا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ونذكرهم بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان، ونبرأ إلى الله من طريقة الروافض والنواصب الذين قدحوا في الصحابة وسبوهم وكفروهم، كما نبرأ من الغالية الذين يبالغون في مدح بعض الصحابة حتى يعطوهم بعض صفات الإلهية ونحوها، والوسط هو منهج القرآن والسنة في الثناء على الصحابة ومدحهم وتزكيتهم ورضا الله تعالى عنهم.

مذهب الجهمية وأهل الكلام في صفتي الرضا والغضب

مذهب الجهمية وأهل الكلام في صفتي الرضا والغضب قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد نفى الجهم ومن وافقه كل ما وصف الله به نفسه من كلامه، ورضاه وغضبه، وحبه وبغضه، وأسفه ونحوه ذلك، وقالوا: إنما هي أمور مخلوقة منفصلة عنه، ليس هو في نفسه متصفاً بشيء من ذلك. وعارض هؤلاء من الصفاتية ابن كلاب ومن وافقه فقالوا: لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلاً، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته قديمة أزلية، فلا يرضى في وقت دون وقت، ولا يغضب في وقت دون وقت. كما قال في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)]. قد يفهم بعض الناس أن الشيخ رحمه الله أتى بالحديث استدلالاً لقول الكلابية وقول الجهمية ومن سلك سبيلهم، بينما هو يقصد أنهم اعترضوا على مثل ما ورد في هذا الحديث، فساق الحديث ليثبت مذهب السلف. وقبل أن ندخل في الكلام عما في الحديث من دلالة، أحب أن أنبه إلى بعض الأمور التي مرت، وهي نفي الجهم ومن وافقه كل ما وصف الله به نفسه من كلامه ورضاه وغضبه، فـ الجهم بن صفوان نفى جميع الأسماء والصفات، حيث زعم أن المقصود بالأسماء والصفات هي آثار أفعال الله عز وجل في خلقه، فنفيه الأسماء والصفات والأفعال لله سبحانه بحجة أن ذلك يفهم منه التشبيه. والجهم على مذهب غلاة الفلاسفة، بل على مذهب الفلاسفة؛ فالفلاسفة كلهم غلاة، وما أعرف أحداً من الفلاسفة يسمى معتدلاً. والفلاسفة يجردون الله عز وجل من وجود الذات أصلاً، فيتصورون وجود الله عز وجل -كما يسميه أهل الفكرة- وجوداً ذهنياً فقط، فمن هنا أنكروا الأسماء والصفات التي جاء بها الأنبياء، وجهم تعلق بمذهب الفلاسفة حينما حاورهم وحاور الصفاتية، وهذا يدل على خطورة تعلق المسلم بمحاورة المخالفين دون أن يتسلح بالعلم، لا ينفعه ذكاؤه، بل أكثر ما يهلك الإنسان بسبب ذكائه إذا لم يتسلح بالعلم الشرعي، وأغلب الذين يقعون في الشبهات والتأويل والإلحاد بأسماء الله وصفاته وأفعاله وفي قضايا الدين هم الأذكياء، تجدهم يحاورون غير المسلمين أو أهل الأهواء المخالفين دون تسلح بالعلم الشرعي، والجهم كما هو معروف لم يعرف بعلمه كما ذكر السلف، فلما حاور الصفاتية وحاور الفلاسفة أوقعوا في ذهنه مسألة: أنه لا يمكن أن يكون لله عز وجل وجود ذاتي، فمن هنا استنكر الأسماء والصفات، فلما وجد النصوص الشرعية في الكتاب والسنة قال: إن هذه النصوص تعني آثار ما يفعله الله عز وجل في خلقه. والمعتزلة سارت على منهج الجهمية، لكنهم أثبتوا الأسماء دون الصفات. أما الصفاتية فالمقصود بهم الذين يثبتون الصفات، ويدخل فيهم الكلابية والأشاعرة والماتريدية والسالمية والكرامية ومن سلك سبيلهم، وبعض أهل العلم يدخل فيهم المعتزلة. وأهل السنة من باب أولى أن يثبتوا الصفات. إذاً: فالمقصود بالصفاتية هم من أثبتوا الصفات، سواء أهل السنة أو غيرهم، فمن أثبت شيئاً من الصفات أو كل الصفات يسمون صفاتية. وأول الصفاتية الذين تأثروا بالجهمية والمعتزلة وادعوا أنهم على مذهب السلف الكلابية، فإنهم يثبتون جميع الصفات ما عدا الصفات الفعلية، فزعموا أن الصفات الفعلية لا تثبت على حقيقتها، إنما لا بد أن تؤول، فإنهم قالوا بأن الصفات الفعلية ليس لها علاقة بالمشيئة، ولا ترتبط بالمشيئة، وزعموا أنها تفسر بآثار خلق الله في العباد، ولا تفسر بأنها صفات لله ثابتة له. وهذا الاتجاه هو الذي مشى عليه الأشاعرة والماتريدية، هذا قبل أن يتوسعوا ويأخذوا بمذهب الجهمية في إنكار الصفات الذاتية، فالأشاعرة والماتريدية في أقوالهم المتأخرة خرجوا عن مذهب ابن كلاب الذي كان عليه، ووقعوا في تأويل جميع الصفات ما عدا سبع صفات. أيضاً قوله: إن الصفاتية ومن سلك سبيلهم من النفاة قالوا: صفاته لازمه لذاته، قديمة أزلية، يعني: أنها غير مرتبطة بالمشيئة، قالوا: لا يتكلم الله عز وجل كما يشاء، ولا يغضب متى شاء، وإنما رضاه آثار ذلك في خلقه، وغضبه آثار ذلك في خلقه، فأولوا هذه الصفات. والصفات الفعلية ثابتة لله عز وجل، كما في حديث الشفاعة. قال رحمه الله تعالى: [كما قال في حديث الشفاعة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله)]. في هذا دلالة قاطعة على أن الله عز وجل يحدث منه الغضب، كما يليق بجلاله سبحانه، وأنه يغضب متى شاء إذا وجد للغضب سبب، وغضبه يثبت له سبحانه على ما يليق بجلاله من غير تشبيه، وليس غضب الخالق كغضب المخلوق؛ ولذلك قال: (غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله) هذا دليل على أن غضبه عز وجل متعلق بمشيئته فيما قبله. وقوله: (ولن يغضب بعده مثله) فيه دليل على أن الله عز وجل بعد هذا المقام يغضب كما يشاء، وأن غضبه متعلق بمشيئته سبحانه. قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إ

ما ورد من النصوص في الثناء على الصحابة

ما ورد من النصوص في الثناء على الصحابة قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ونحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم، وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان). يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الروافض والنواصب، وقد أثنى الله تعالى على الصحابة هو ورسوله، ورضي عنهم، ووعدهم الحسنى]. النواصب عكس الروافض، فالروافض معروفون وهم الذين يسبون الصحابة، وينتسبون إلى التشيع، وفي الحقيقة أن الشيعة درجات: الشيعة المفضلة، والشيعة المفترية، والشيعة الغالية التي خرج منها الرافضة حين ذاك، فالشيعة الغالية هم الذين يقدسون علياً رضي الله عنه، ولم يكونوا يتكلمون في الصحابة كثيراً في بداية الأمر. والشيعة المفترية هم الذين يفضلون علياً رضي الله عنه على أبي بكر وعمر، وقد سماهم علي رضي الله عنه: مفترية، وأمر بجلدهم ثمانين جلدة. والشيعة المفضلة هم الذين يفضلون علياً على عثمان فقط، فالشيعة المفضلة انتهت واندثرت، ولذلك بعض الناس يحب الشيعة ظناً منه أن الشيعة إنما مشكلتهم تفضيل علي على عثمان، أو تفضيل علي على الصحابة فقط، فيتعاطف معهم، وتجده يدافع عنهم ويقول: التشيع ليس فيه شيء، نقول: هذا التشيع غير موجود عند الرافضة؛ لأن الرافضة يسبون الصحابة، بل يكفرونهم، أما المفضلة فتشيعهم أخف من تشيع الرافضة. أما الشيعة الغالية فهي السبئية، والسبئية فيما بعد تحولت إلى رافضة، فهم الآن يسمون رافضة؛ لأنهم أولاً يرفضون الصحابة رضي الله عنهم إجمالاً، بل كفّروهم وأخرجوهم من الملة وقالوا فيهم قولاً عظيماً، حتى ذات النبي صلى الله عليه وسلم لم تسلم منهم، ثم إنهم رفضوا زيد بن علي منذ ذلك الوقت؛ لأنه أثنى على أبي بكر وعمر خيراً، ثم إنهم رفضوا الحق ورفضوا السنة والجماعة، فهؤلاء رافضة ليسوا شيعة. إذاً: الروافض سمتهم الأولى: سب الصحابة، يوجد عند بعض الشيعة الأوائل سب لبعض الصحابة، لكن لا يسبون جملة الصحابة، ولا يسبون أبا بكر وعمر. أما النواصب فهي نزعة وليست فرقة؛ لأن بعض الأصول فرق وبعض الأصول ليست فرقاً، فالرافضة فرق، والخوارج فرق، والجهمية فرق، والمعتزلة فرق، لكن النصب نزعة وجدت أشبه بردة فعل، فالناصبة لما رأوا مبالغة الشيعة في علي وآل البيت صاروا يقدحون في علي وفي آل بيته، لكن الناصبة لا يكفرون علياً إنما يقدحون فيه، أو يفضلون عليه بعض الصحابة الذين لم يرد التفضيل بينهم شرعاً، فقد يفضلون معاوية على علي، أو يفضلون بني أمية على آل البيت، وهذا لا شك أنه بدعة وخطأ وظلم عظيم، ولكن هو أشبه بالنزعة التي ليست مذهباً وليس لها أتباع ولا رءوس مشاهير، إنما هي ردة فعل من بني أمية. أما الخوارج فهم خوارج قبل أن يكونوا ناصبة، والنصب يوجد في الخوارج؛ لأنهم يسبون علياً رضي الله عنه ويكفّرونه، ولم يبق من النصب إلا أنه سمة من سمات الخوارج.

الآيات القرآنية الواردة في الثناء على الصحابة

الآيات القرآنية الواردة في الثناء على الصحابة قال رحمه الله تعالى: [كما قال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]. وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29] إلى آخر السورة. وقال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] إلى آخر السورة. وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد:10]. وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:8 - 10]. وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار، وعلى الذين جاءوا من بعدهم يستغفرون لهم، ويسألون الله ألا يجعل في قلوبهم غلاً لهم، وتتضمن أن هؤلاء هم المستحقون للفيء، فمن كان في قلبه غل للذين آمنوا ولم يستغفر لهم، لا يستحق في الفيء نصيباً بنص القرآن]. أي: أن الله عز وجل ذكر هذه الفئات بالتفصيل بأنهم يستحقون الفيء، أي: الغنائم، بعد أن ذكر ذلك إجمالاً في أول السورة، فقد ذكر الله عز وجل قبل هذه الآيات قوله سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر:7]، ثم ذكر بعد ذلك: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر:8] أي: هؤلاء يستحقون الفيء، ثم ذكر من سمات هؤلاء أنهم الذين ليس في قلوبهم غل، وأن من يستحق الفيء هم الذين يدعون لإخوانهم الذين سبقوهم، وعلى هذا فإن الذين لا يدعون للسابقين ومن في قلوبهم غل لا يستحقون الفيء على هذا الوجه؛ لأن الآيات جاءت في ذكر صفات تفصيل من يستحقون الفيء الذي ورد ذكره في أول السورة.

الأحاديث والآثار الواردة في الثناء على الصحابة والتحذير من الطعن فيهم

الأحاديث والآثار الواردة في الثناء على الصحابة والتحذير من الطعن فيهم قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أحداً من أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه) انفرد مسلم بذكر سب خالد لـ عبد الرحمن دون البخاري. فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول لـ خالد ونحوه: (لا تسبوا أصحابي)، يعني: عبد الرحمن وأمثاله؛ لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون، وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا، وهم أهل بيعة الرضوان، فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية، وبعد مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة، ومنهم خالد بن الوليد، وهؤلاء أسبق ممن تأخر إسلامهم إلى فتح مكة، وسموا الطلقاء، منهم أبو سفيان وابناه يزيد ومعاوية. والمقصود أنه نهى من له صحبة آخراً أن يسب من له صحبة أولاً، لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه، حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه. فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية، وإن كان قبل فتح مكة، فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؟ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة. وقيل: إن السابقين الأولين من صلى إلى القبلتين، وهذا ضعيف؛ فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجرده فضيلة؛ لأن النسخ ليس من فعلهم، ولم يدل على التفضيل به دليل شرعي، كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة التي كانت تحت الشجرة. وأما ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فهو حديث ضعيف، قال البزار: هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة. وفي صحيح مسلم عن جابر، قال: (قيل لـ عائشة رضي الله عنها: إن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبا بكر وعمر! فقالت: وما تعجبون من هذا! انقطع عنهم العمل، فأحب الله ألا يقطع عنهم الأجر)]. يقول في الحاشية: لم نجده في مسلم، فيبدو أن نسبته إلى مسلم وهم من ابن أبي العز. قال رحمه الله تعالى: [وروى ابن بطة بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لا تسبوا أصحاب محمد؛ فلمقام أحدهم ساعة -يعني: مع النبي صلى الله عليه وسلم- خير من عمل أحدكم أربعين سنة)، وفي رواية وكيع: (خير من عبادة أحدكم عمره). وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري: أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة؟) الحديث. وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة). وقال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117]. ولقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصفهم، حيث قال: (إن الله تعالى نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد؛ فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيئ)، وفي رواية: (وقد رأى أصحاب محمد جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر)]. كلام ابن مسعود مقيد بالأصول الأخرى، يعني: ما رآه المسلمون الذين هم على الاستقامة حسناً فهو كذلك، وهذا أمر معلوم بالضرورة؛ لأن هذا مثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة في أحاديث: (عليكم بالجماعة)، (إن يد الله مع الجماعة). إذاً: قوله: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) أي: ما رآه المسلمون المستمسكون، وهم من يسمون بأهل الحل والعقد وبأهل العلم، ليسوا بالرعاع والدهماء، وليسوا بأهل البدع وإن كثروا، ثم هذا مفسر بحديث: (إ

النهي عن التجاوز في حب الصحابة والتبرؤ من أحد منهم

النهي عن التجاوز في حب الصحابة والتبرؤ من أحد منهم قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولا نفرط في حب أحد منهم) أي: لا نتجاوز الحد في حب أحد منهم، كما تفعل الشيعة، فنكون من المعتدين. قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171]. وقوله: (ولا نتبرأ من أحد منهم) كما فعلت الرافضة! فعندهم لا ولاء إلا ببراء، أي: لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما!! وأهل السنة يوالونهم كلهم، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها بالعدل والإنصاف، لا بالهوى والتعصب، فإن ذلك كله من البغي الذي هو مجاوزة الحد، كما قال تعالى: {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الجاثية:17]، وهذا معنى قول من قال من السلف: الشهادة بدعة، والبراءة بدعة، يروى ذلك عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين، منهم: أبو سعيد الخدري والحسن البصري وإبراهيم النخعي والضحاك وغيرهم. ومعنى الشهادة: أن يشهد على معين من المسلمين أنه من أهل النار أو أنه كافر، بدون العلم بما ختم الله له به.

حب الصحابة دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان

حب الصحابة دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان وقوله: (وحبهم دين وإيمان وإحسان) لأنه امتثال لأمر الله فيما تقدم من النصوص، وروى الترمذي عن عبد الله بن مغفل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه). وتسمية حب الصحابة إيماناً مشكل على الشيخ رحمه الله؛ لأن الحب عمل القلب، وليس هو التصديق، فيكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان، وقد تقدم في كلامه: أن الإيمان هو الإقرار باللسان، والتصديق بالجنان، ولم يجعل العمل داخلاً في مسمى الإيمان، وهذا هو المعروف من مذهب أبي حنيفة، إلا أن تكون هذه التسمية مجازاً. وقوله: (وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) تقدم الكلام في تكفير أهل البدع، وهذا الكفر نظير الكفر المذكور في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، وقد تقدم الكلام في ذلك.

ثبوت الخلافة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه

ثبوت الخلافة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه قوله: (ونثبت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه، تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة). اختلف أهل السنة في خلافة الصديق رضي الله عنه: هل كانت بالنص، أو بالاختيار؟ فذهب الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث إلى أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة، ومنهم من قال بالنص الجلي، وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية إلى أنها ثبتت بالاختيار.

أدلة القائلين بثبوت خلافة أبي بكر بالنص

أدلة القائلين بثبوت خلافة أبي بكر بالنص والدليل على إثباتها بالنص أخبار: من ذلك ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: (أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ كأنها تريد الموت، قال: إن لم تجديني فائتي أبا بكر) وذكر له سياقاً آخر، وأحاديث أخر؛ وذلك نص على إمامته. وحديث حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر) رواه أهل السنن. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها، قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي بدئ فيه، فقال: ادعي لي أباك وأخاك، حتى أكتب لـ أبي بكر كتاباً، ثم قال: يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر). وفي رواية: (فلا يطمع في هذا الأمر طامع). وفي رواية: قال: (ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر، لأكتب لـ أبي بكر كتاباً لا يختلف عليه، ثم قال: معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر). وأحاديث تقديمه في الصلاة مشهورة معروفة، وهو يقول: (مروا أبا بكر فليصل بالناس). وقد روجع في ذلك مرة بعد مرة، فصلى بهم مدة مرض النبي صلى الله عليه وسلم]. عائشة رضي الله عنها أشفقت على أبيها، فراجعت النبي صلى الله عليه وسلم بألا يستخلفه في الصلاة، لكنه أصر على استخلافه. قال رحمه الله تعالى: [وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بينا أنا نائم رأيتني على قليب عليها دلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع منها ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غرباً، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريَّه، حتى ضرب الناس بعطن). وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال على منبره: (لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت، إلا خوخة أبي بكر). وفي سنن أبي داود وغيره، من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم: (من رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزاناً أنزل من السماء، فوزنت أنت وأبو بكر، فرجحت أنت بـ أبي بكر، ثم وزن عمر وأبو بكر، فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان، فرجح عمر، ثم رفع الميزان، فرأيت الكراهة في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء). فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ولاية هؤلاء خلافة نبوة، ثم بعد ذلك ملك. وليس فيه ذكر علي رضي الله عنه؛ لأنه لم يجتمع الناس في زمانه، بل كانوا مختلفين، لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك. وروى أبو داود أيضاً عن جابر رضي الله عنه، أنه كان يحدث، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأى الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بـ أبي بكر، ونيط عثمان بـ عمر، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما المنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه). وروى أبو داود أيضاً عن سمرة بن جندب: (أن رجلاً قال: يا رسول الله، رأيت كأن دلواً دلي من السماء، فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها، فشرب شرباً ضعيفاً، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها، فانتشطت منه، فانتضح عليه منها شيء). وعن سعيد بن جمهان عن سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء، أو الملك)]. يعني: من خلال النظر في كلام المحققين من أهل العلم قديماً وحديثاً تبين أن مسألة استخلاف أبي بكر رضي الله عنه اجتمع فيها النص والاختيار، بمعنى أن الصحابة رضي الله عنهم كان عندهم من إدراك مقاصد الإسلام ومقاصد النبي صلى

حجج القائلين بعدم ثبوت خلافة أبي بكر بالنص الصريح

حجج القائلين بعدم ثبوت خلافة أبي بكر بالنص الصريح قال رحمه الله تعالى: [واحتج من قال لم يستخلف بالخبر المأثور عن عبد الله بن عمر عن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني: أبا بكر - وإن لا أستخلف، فلم يستخلف من هو خير مني، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم]. عمر رضي الله عنه لم يعتبر النصوص صريحة في الاستخلاف، لكن أن تكون قرائن أو مؤشرات يستأنس بها فلا شك أن الصحابة رووا هذا وعمر يعرفها، لكنه لم يعتبرها من النص الجلي الصريح، ولذلك جمهور السلف يرون أن النص على خلافة أبي بكر خفي وليس من النص الجلي. قال رحمه الله تعالى: [وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: (من كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفاً لو استخلف؟). والظاهر -والله أعلم- أن المراد أنه لم يستخلف بعهد مكتوب، ولو كتب عهداً لكتبه لـ أبي بكر، بل قد أراد كتابته ثم تركه، وقال: (يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر). فكان هذا أبلغ من مجرد العهد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دل المسلمين على استخلاف أبي بكر، وأرشدهم إليه بأمور متعددة، من أقواله وأفعاله، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك، حامد له، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه، فترك الكتاب اكتفاء بذلك، ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس، ثم لما حصل لبعضهم شك: هل ذلك القول من جهة المرض؟ أو هو قول يجب اتباعه؟ ترك الكتابة، اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر. فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه بياناً قاطعاً للعذر، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر المتعين، وفهموا ذلك، حصل المقصود، ولهذا قال عمر رضي الله عنه في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: (أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم ينكر ذلك منهم أحد، ولا قال أحد من الصحابة: إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار؛ طمعاً في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم بطلانه]. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم التقريب بين أهل السنة وبين الرافضة وحكم من يدعو إلى ذلك

حكم التقريب بين أهل السنة وبين الرافضة وحكم من يدعو إلى ذلك Q ظهر في الآونة الأخيرة في بعض الأشرطة لبعض المنتسبين للعلم أنه لا فرق بين أهل السنة والرافضة، ويسعى للتقريب بينهم، كما ذكر روايات وقصصاً فيما وقع بين الصحابة من خلاف وفتنة؟ A ما يتعلق بالكلام في الصحابة الذي أعرفه أن المشايخ والعلماء الكبار الآن يرون أنه لا يجوز الحديث عما شجر بين الصحابة، حتى وإن كان من باب إعطاء الحقيقة أو الإنصاف للصحابة؛ لأن هذا يثير في الناس إشكالات، ويشككهم فيما كان عليه الصحابة، وأكثر الناس لا يتخلص من الشبهات التي تقع في ذهنه، فاعتبر من الأحداث التي لا يجوز إثارتها بين المسلمين مرة أخرى، ولا يترتب على إثارتها أي مصالح، فالأصل في المسلمين أن يعرفوا حقوق الصحابة، وأن يتعلموا ذلك، أما ما حدث من فتن وأحداث فلا يجوز إثارته ولو من باب تقرير الإنصاف أو العدل أو تقرير الدفاع عن الصحابة؛ لأن الأصل عند السلف عدم جواز الحديث فيما شجر بين الصحابة. أما الكلام عن الرافضة وتزكية الرافضة أحياناً، أو اعتبار الفرق بينهم وبين أهل السنة فرقاً غير عقدي أو التقريب بينهم، فهذه كارثة في صفوف الدعاة إن صح التعبير، منذ أن صار الدعاة غير علماء والكوارث تتوالى على المسلمين من هذا النوع، وسبق التنبيه إلى مثل هذا من قبل مشايخنا وطلاب العلم، منذ بدأت بعض الأحداث من بعض الدعاة أو بعض الحركات الإسلامية، وهذا مصداق ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من أنهم اتخذوا رءوساً جهالاً، فضلوا وأضلوا، والسبب في ذلك أن الموازين الآن عند كثير من الدعوات المعاصرة اختلت، فصار من يتولى القيادة يتولاها بشروط غير شرعية، مجرد ما يكون عنده عاطفة إسلامية وفكر وثقافة ويكون لسناً، وقد يكون صاحب مؤهل أو تخصص نادر، يرفع الراية وتنساق معه جموع الشباب وجموع المجتمعات، وهذه من سمات أهل الأهواء، وهي خطر عظيم، ولذلك لما تمكن هؤلاء من الدعوة، وصار لهم أتباع، تجرءوا على أن يقولوا ما في أنفسهم، وأن يبينوا عن جهلهم. فهذا جهل مطبق ودليل على عدم الرسوخ في العقيدة، وعدم الفقه في الدين، ودليل على تمكن الحزبية من الجماعات، فأنا أشعر من السؤال أن فيه إشارة إلى بعض الدعاة المشاهير في بعض البلاد العربية القريبة، الذين حاولوا أن يلطفوا الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين الشيعة، وأن يعتبروا الخلاف مع الشيعة اختلافاً يسيراً يمكن تجاوزه، وأن أهل السنة بالغوا في قولهم في الشيعة إلى آخره. أقول: هذا من الخلط، وسببه تصدر هؤلاء الذين لا يفقهون في دين الله عز وجل، إلا مجرد الثقافة العامة من غير أصول ولا ضوابط، فصاروا يفتون بغير علم، ويتبعهم على ذلك فئام من شباب الأمة. إذاً: المسألة ليست مسألة شخص، بل مسألة مناهج، وإذا استمرت المناهج بهذا الشكل في تصدر هؤلاء الذين ليسوا من الراسخين في العلم، فسترى كوارث كثيرة، نسأل الله العافية والسلامة، ورأينا وسمعنا في السابق ولا نزال نسمع من مثل هذه الأمور العظام الكبار. ومعلوم أنه إذا تصدر للدعوة ناس ليس لهم رصيد إلا العاطفة، فمن الطبيعي أن يحدث مثل هذا، ما لم يتعلموا على أهل العلم، والمشكلة أن أكثر الذين يتدينون ممن لهم أثر يعتبرون مفكرين أو دعاة، خاصة الذين يتدينون في الغرب، ثم يأتي إلى بلاد المسلمين هنا ويتصدر، هؤلاء مشكلتهم أنهم جهلة ولا يعلمون أنهم جهلة، وهذا يسمى جهلاً مركباً، فلا يدرسون على العلماء، وأنا أشير على كثير منهم بأنه يجب أن يجلسوا على الركب بين يدي العلماء، لكنهم والله أعلم رأوا أن في ذلك غضاضة عليهم، وإلا فعلى هؤلاء أن يتعلموا ما يتعلمه الأطفال عندنا، ثم ما يتعلمه الشباب، ثم ما يتعلمه طلاب العلم، حتى يرسخوا في العلم؛ لأن تدينهم قائم على عواطف، والعواطف لا تصنع شيئاً، أو يتدين على أيدي دعاة أكثرهم من أهل الأهواء، فتنغرس في قلبه الأهواء وهو لا يدري، أو يتدين في الغالب على أصحاب شعارات وحزبيات وجماعات ترفع لواءات الحزبية، فيتصدر بهذا الاتجاه، ولو لم ينتم إليها، فمن هنا جاءت مثل هذه الدواهي والمصائب من أمثال هؤلاء، مما يزعمون أنه جمع أو تقريب بين السنة والرافضة. أقول: أهل السنة والرافضة ليس بينهم تقارب، إلا أن تستجيب الرافضة للحق، فهذا ما نرجوه ونأمله، ويجب أن نسعى إليه، ويسعدنا ذلك، أما أن نقرب السنة للرافضة أو نتهم السنة بالتحيز، أو أنهم قالوا في الرافضة ما لم يكن، فهذا من الباطل، فلا شك أن عند الرافضة من الباطل والضلالات والانحراف في المناهج والأعمال، وعندهم من الشركيات ما يجهلها أكثر أهل السنة؛ لأن أكثر مخازي الرافضة لا يعلمها إلا بعض المتخصصين، حتى إن بعضهم قد لا يجرؤ على ذكرها علناً؛ لأن أكثر الناس لا يصدقون، ويحتاجون إلى براهين قد لا يملك إفهام الناس لها، عند الرافضة من الباطل والكفر والشرك والبعد عن الحق ما لا يكاد يتصور.

شرح العقيدة الطحاوية [98]

شرح العقيدة الطحاوية [98] من عقيدة أهل السنة والجماعة ثبوت الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة، ثم لعمر بعده بالنص عليه من أبي بكر، ثم لعثمان حين ترك عمر الأمر شورى من بعده، ثم لعلي رضي الله عنه، وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون، وفضائلهم وجليل مناقبهم مبثوثة في كتب السير والتراجم، وقد اتفق أهل السنة على تعظيمهم وتوقيرهم، ثم من بعدهم بقية العشرة المبشرين بالجنة، وما شجر بين الصحابة فإنه يسع المسلمين السكوت وعدم الكلام خوفاً من الفتن وإيغار الصدور بالأحقاد والضغائن.

من حجج القائلين بعدم ثبوت خلافة أبي بكر بالنص الصريح

من حجج القائلين بعدم ثبوت خلافة أبي بكر بالنص الصريح قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم الأنصار كلهم بايعوا أبا بكر، إلا سعد بن عبادة، لكونه هو الذي كان يطلب الولاية، ولم يقل أحد من الصحابة قط: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على غير أبي بكر؛ لا علي، ولا العباس ولا غيرهما، كما قد قال أهل البدع! وروى ابن بطة بإسناده أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير الحنظلي إلى الحسن، فقال: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر؟ فقال: أو في شك صاحبك؟ نعم، والله الذي لا إله إلا هو استخلفه، لهو كان أتقى لله من أن يتوثب عليها. وفي الجملة: فجميع من نقل عنه أنه طلب تولية غير أبي بكر، لم يذكر حجة دينية شرعية، ولا ذكر أن غير أبي بكر أفضل منه، أو أحق بها، وإنما نشأ من حب قبيلته وقومه فقط، وهم كانوا يعلمون فضل أبي بكر رضي الله عنه، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ففي الصحيحين، عن عمرو بن العاص: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وعد رجالاً). وفيهما أيضاً، عن أبي الدرداء قال: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبتيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر، فسلم، وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر، ثلاثاً، ثم إن عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثم هو؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين، فما أوذي بعدها)، ومعنى: غامر: غاضب وخاصم، ويضيق هذا المختصر عن ذكر فضائله. وفي الصحيحين أيضاً، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح، -فذكرت الحديث إلى أن قالت-: واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيأت في نفسي كلاماً قد أعجبني، خشيت ألا يبلغه أبو بكر، ثم تكلم أبو بكر، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر: لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب، وأعزهم أحساباً، فبايعوا عمر، أو أبا عبيدة بن الجراح، فقال عمر: بل نبايعك، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعد، فقال عمر: قتله الله]. والسنح: العالية، وهي حديقة من حدائق المدينة معروفة بها.

خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه وفضائله

خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه وفضائله قوله: (ثم لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه). أي: ونثبت الخلافة بعد أبي بكر لـ عمر رضي الله عنهما]. يعني: نحن بصدد الحديث عن ترتيب الخلفاء الراشدين في الخلافة، لكن ينبغي أن يستصحب الترتيب الآخر، وهو أن ترتيبهم في الفضل جاء هكذا، ولم يكن بالضرورة أن يكون ترتيبهم في الخلافة ناتجاً عن ترتبيهم في الفضل، لكنه وقع هكذا، ولعل الصحابة رضي الله عنهم جميعاً سددوا ووفقوا في اختيار الأفضل فالأفضل فالأفضل، فكما أن الأربعة ترتيبهم في الأفضلية هكذا: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، فكذلك ترتيبهم في الخلافة جاء هكذا، وإن كان ليس ترتيب الخلافة من لوازم ترتيب الأفضلية، لكنه وقع كما قلت، وذلك من توفيق الله للصحابة رضي الله عنهم. وكان الناس في وقت عثمان رضي الله عنه خاضوا في أيهما أفضل علي أو عثمان، ولم يترددوا في أفضلية أبي بكر وعمر، وبعد قتل عثمان رضي الله عنه، بقي الأمر محل نزاع، ثم استقر بعد ذلك باتفاق الصحابة وباتفاق التابعين وتابعيهم وأئمة السلف وإلى أفضلية الخلفاء الراشدين في الإمامة كأفضليتهم في الأفضلية المطلقة، وأن أفضلهم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، وانتهت المقولة التي كان عليها بعض السلف قديماً من تفضيل علي على عثمان، مع اعترافهم بإمامة عثمان، فإنهم كانوا يفضلون علياً على عثمان، ثم تركوا هذا التفضيل بعد توارد النصوص؛ لأنه لما أثيرت القضية روى الصحابة رضي الله عنهم وروى رواة الحديث من الثقات ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الأربعة من الصحابة، فتبين للسلف اتفاقاً أن عثمان أفضل من علي، وأن النصوص الواردة في أفضليته أكثر من النصوص الواردة في أفضلية علي وفي كل خير، ولا شك أنهم الخلفاء الراشدون، وأنهم خير الصحابة بإطلاق، وهم من العشرة المبشرين بالجنة, وتفضيل الفاضل لا يعني استنقاص المفضول. قال رحمه الله تعالى: [أي: ونثبت الخلافة بعد أبي بكر لـ عمر رضي الله عنهما؛ وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة بعده عليه، وفضائله رضي الله عنه أشهر من أن تنكر، وأكثر من أن تذكر. فقد روي عن محمد بن الحنفية أنه قال: قلت لأبي: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني، أوما تعرف؟ فقلت؟ لا، قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول: ثم عثمان! فقلت: ثم أنت؟ فقال، ما أنا إلا رجل من المسلمين. وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر). وفي صحيح مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (وضع عمر على سريره، فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت إليه، فإذا هو علي، فترحم على عمر، وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذلك أني كنت كثيراً ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فإن كنت لأرجو، أو لأظن أن يجعلك الله معهما). وتقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزعه من القليب، ثم نزع أبي بكر، ثم استحالت الدلو غرباً، فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر، حتى ضرب الناس بعطن. وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نساء من قريش يكلمنه، عالية أصواتهن -الحديث، وفيه-: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إيه يا ابن الخطاب! والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك). وفي الصحيحين أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم)، قال ابن وهب: تفسير محدثون: ملهم

خلافة عثمان رضي الله عنه وفضائله

خلافة عثمان رضي الله عنه وفضائله قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ثم لـ عثمان رضي الله عنه). أي: ونثبت الخلافة بعد عمر لـ عثمان رضي الله عنهما، وقد ساق البخاري رحمه الله قصة قتل عمر رضي الله عنه، وأمر الشورى، والمبايعة لـ عثمان في صحيحه، فأحببت أن أسردها، كما رواها بسنده: عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر رضي الله عنه قبل أن يصاب بالمدينة بأيام، ووقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف، فقال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة؛ ما فيها كثير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: لا، فقال عمر: لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً، قال: فما أتت عليه أربعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهن خللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف، أو النحل، أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر، فسمعته يقول: قتلني، أو أكلني الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد يرى الذي أرى، وأما نواحي المسجد، فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر، وهم يقولون: سبحان الله سبحان الله! فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا، قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام المغيرة، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال: قاتله الله! فلقد أمرت به معروفاً! الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، فقال: إن شئت فعلت؟ أي: إن شئت قتلنا؟ قال: كذبت! بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم؟ فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس عليه، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه، فعرفوا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كان كفافاً لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا علي الغلام، قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر! انظر ما علي من الدين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً ونحوه، قال: إن وفى لي مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأد عني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، قالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرن به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، قال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت، قال: الحمد لله، ما كان شيء أحب إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسرب معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجت داخلاً لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى علياً، وعثمان، والزبير، وطلحة، وسعداً، وعبد الرحمن، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر، وليس له من الأمر شيء، كهيئة التعزية له، فإن أصابت الإمرة سعداً فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة. وقال: أوصي الخليفة

خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفضائله

خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وفضائله قوله: (ثم لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه). أي: ونثبت الخلافة بعد عثمان لـ علي رضي الله عنهما. لما قتل عثمان وبايع الناس علياً، صار إماماً حقاً واجب الطاعة، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة، كما دل عليه حديث سفينة المقدم ذكره، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء). وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ابنه ستة أشهر. وأول ملوك المسلمين معاوية رضي الله عنه، وهو خير ملوك المسلمين، لكنه إنما صار إماماً حقاً لما فوض إليه الحسن بن علي رضي الله عنهما الخلافة، فإن الحسن رضي الله عنه بايعه أهل العراق بعد موت أبيه، ثم بعد ستة أشهر فوض الأمر إلى معاوية، وظهر صدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، والقصة معروفة في موضعها. فالخلافة ثبتت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه بمبايعة الصحابة، سوى معاوية مع أهل الشام. والحق مع علي رضي الله عنه، فإن عثمان رضي الله عنه لما قتل كثر الكذب والافتراء على عثمان وعلى من كان بالمدينة من أكابر الصحابة، كـ علي، وطلحة، والزبير، وعظمت الشبهة عند من لم يعرف الحال، وقويت الشهوة في نفوس ذوي الأهواء والأغراض، ممن بعدت داره من أهل الشام، ومحبي عثمان تظن بالأكابر ظنون سوء]. جاء في بعض النسخ: (ويحمي الله عثمان أن يظن بالأكابر ظنون سوء) وكلا العبارتين صحيحتين، إن كان الخطاب المقصود به عثمان، فلا شك أن عثمان رضي الله عنه لا يمكن أن يظن بالناس تلك الظنون التي نسبت إليه، لكن العبارة الموجودة أقرب: (ومحبي عثمان تظن بالأكابر ظنون السوء) يعني: أنهم كانوا بعيدين عن المدينة ولا يعرفون ماذا حدث، ويظنون أن الصحابة قصروا في حق عثمان، ولم تبلغهم الأخبار على وجهها، فأبوا أول الأمر مبايعة علي حتى يقتص لـ عثمان، والقضية اجتهادية بين المسلمين، لم يكن فيها قصد الهوى أو الفرقة كما هو معروف. قال رحمه الله تعالى: [وبلغ عنهم أخباراً منها ما هو كذب، ومنها ما هو محرف، ومنها ما لم يعرف وجهه، وانضم إلى ذلك أهواء قوم يحبون العلو في الأرض، وكان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج، الذين قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله، ورأى طلحة والزبير أنه إن لم يُنْتَصَرْ للشهيد المظلوم، ويقمع أهل الفساد والعدوان، وإلا استوجبوا غضب الله وعقابه، فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي، ولا من طلحة والزبير، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين، ثم جرت فتنة صفين لرأي؛ وهو أن أهل الشام لم يعدل عليهم، أو لا يتمكن من العدل عليهم، وهم كافون، حتى يجتمع أمر الأمة، وأنهم يخافون طغيان من في العسكر، كما طغوا على الشهيد المظلوم]. يعني: أن علياً رضي الله عنه لا يستطيع تحقيق مطلب أهل الشام الذين أرادوا الاقتصاص من قتلة عثمان؛ لأن علياً رضي الله عنه والذين خرجوا معه من المدينة أعرف من أهل الشام بتفاصيل القضية وبملابساتها، وبأحوال الجيش الذي مع علي، والذي منه قتلة عثمان، ومنهم من لا يعرف بعينه، ومنهم له أحوال لا يمكن معها إقامة القصاص ما لم تجتمع كلمة المسلمين على إمام واحد، فينفذ أمره. فالمسألة مسألة وجهة نظر، فكل من الصحابة ومن كان في الجيش في الجملة يريد مطلباً يرى أنه هو الشرعي، وأنه الذي به يكون الحق، لكن لا يخلو من بين هؤلاء وبين هؤلاء من يريد الفتنة، ولله الأمر من قبل ومن بعد، لكن ليس من الصحابة، وهذا مما يجب أن يفهم، لم يثبت ولن يثبت أن أحداً من الصحابة كان صاحب هوى أو له مطلب أو سلطان، لم يكن أحد منهم يريد ذلك، لكن ممن التفوا حولهم من قتلة عثمان، ومن الشيعة السبئية والخوارج وأهل النفاق، وقليلي الفقه في الدين، وحدثاء الأسنان الذين تأخذهم العواطف ولا يقدرون الأمور بقدرها، وليس عند

ذكر بعض الأصول المتعلقة بالفتنة التي حصلت في خلافة علي رضي الله عنه

ذكر بعض الأصول المتعلقة بالفتنة التي حصلت في خلافة علي رضي الله عنه من الأصول المهمة فيما يتعلق بالفتنة: أولاً: أن أكثر الصحابة لم يشاركوا في هذا الأمر؛ وذلك حين رأوا أن الأمر فتنة، فتأخروا، بخلاف ما تذكره روايات الرواة وأكثرهم من الشيعة من أن أغلب الصحابة وقعوا في النزاع، فالصحيح كما ذكر الأئمة المحققون أنه لم يشارك من الصحابة في القتال أكثر من ثلاثين، بل بعضهم قال: عشرة، يعني: الذين شاركوا في مسألة المداولة ومحاولة جمع المسلمين على رأي، فانضموا إما إلى علي وإما إلى معاوية. ثانياً: أن الصحابة الذين شاركوا منهم من خرج أثناء القتال، خاصة الكبار كـ طلحة والزبير؛ فقد خرجا منها في أثنائها لما علما بأنها فتنة، وحين بلغهما الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أورده علي بن أبي طالب وذكره لهما. ثالثاً: أن جميع من شارك في الفتنة ندموا بعد ذلك، حتى إن علي بن أبي طالب والزبير رضي الله عنهما حينما التقى كل واحد منهما الآخر تعانقا، حتى وقع سيفاهما على الأرض من شدة التأثر، وذهب علي إلى عائشة رضي الله عنها -وهي في جيش خصومه- فاعتذر منها، وكلمها بأدب، وخاطبها بأنها أمه، وقال: يا أماه، وهذا مما يدل على أن قلوبهم كانت صافية، بعكس ما يقوله الروافض، وأكثر المؤرخين الذين تكلموا عن القضية. رابعاً: أنها فتنة، والفتنة تنقلب فيها الموازين، ويضطر من يشارك فيها ومن لم يشارك فيها إلى ارتكاب الضرورات؛ لأن الأمور في وقت الفتنة تختلف عن حالة الرخاء والسلم، والفتنة لها ضرورات لا بد من اعتبارها، فقد يقبل المسلم في الفتنة ما فيه ضيم وضير عليه، قد يقبل المسلم في الفتنة ما يضره في دينه، لكنه يصبر، قد تعرض على المسلم في الفتنة مغريات، وتختل موازين الناس في الفتنة أيضاً في تقرير الحق والباطل، ففي الغالب في الفتنة ينغمر الحق وتسود الآراء الباطلة، حتى يرى الناس أنها هي الحق، وقد يخفى الأمر حتى على العاقل اللبيب، ويكون العاقل العالم الفقيه الراسخ الداهية حيران من أمره، أما الصغير العاطفي فيلج في الفتنة ويظن أنه على هدى، وهو ليس على هدى. فهذه أمور حاصلة من خلال هذه الفتنة التي حدثت بين الصحابة؛ ولذلك اتفق السلف على أنه لا يجوز الخوض فيما شجر بين الصحابة، واعتبار الأمر أمرَ تاريخٍ قد قضي لم نشهده ولم نعلمه، والذين شهدوه ما علموا كل خلفياته، مما جعلهم تختلف عندهم موازين الحكم، وموازين الرؤية للقضية، فكيف بمن جاء بعدهم بأجيال، وكل منهم كان يروي ما يرى ولا يدري عما لا يرى، وكان أغلب ما في القضية من أحكام قطعية في قلوب أصحابها عند علي ومعاوية وكبار الصحابة، لا أحد يدري عما كان في نفوسهم من اجتهادهم إلا الإحسان الظني فيهم، وقضوا إلى ما فعلوا، وأمرهم إلى الله عز وجل، لكن لا شك أنهم لم يقعوا في أمر يقتضي القدح والطعن في أحد منهم، ولا إلغاء الأفضلية التي كانت لهم؛ لأن الصحابة قدرهم قبل الفتنة كقدرهم بعدها ولا فرق، لم تغير الفتنة من حقوقهم شيئاً، وما ثبت لهم من النصوص الشرعية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حقوقهم العامة، وفي حقوق بعضهم الخاصة، فهو ثابت لم تغير فيه الفتنة شيئاً، وإذا كان الأمر كذلك فكأن الفتنة لم تكن، وهي أمر انقضى ومضى. إذاً: اتفق السلف على أنه لا يجوز الخوض في الفتنة، ولا حتى من أجل بيان وتقرير القول الحق؛ لأن إثارة القضية أمام عامة الناس، وأمام جمهور المسلمين، وأمام غير الراسخين في العلم لغير حاجة وضرورة مما يحرك القلوب على الصحابة، ومما يثير الشكوك والتساؤلات، ومما يبرر الوقوع في الفتن عند ضعاف الفقه، فما أكثر ضعف الفقه، أكثر الناس ربما إذا سمع القصة عن الصحابة ظن أنه يسوغ له أن يخالف، وأن يفارق، وأن يعاند، وأن يناطح العلماء ويناطح الولاة، ويظن أن هذا هو نهج الصحابة. فلذلك ينبغي ألا تثار قضية الصحابة أبداً إلا عند طلاب العلم المتخصصين، في دروس خاصة ممن يهمهم ذلك، أو عند الإجابة على سؤال يجب ويتعين الإجابة عليه عند من سأل، أما إثارة القضية في الندوات أو في المحاضرات، أو في الكتب، أو في رسائل أو بحوث من جديد، فهي من الأمور التي نهى عنها السلف، ولذلك لما ظهرت الأشرطة الأخيرة فيما شجر بين الصحابة، ورجع الناس إلى المشايخ الكبار والعلماء بسبب ما حيرهم من ضعف الإيمان، صدرت فتاواهم بعدم جواز تداول هذه الأشرطة، وعدم نشرها بين الناس؛ لأن هذا يثير الضغائن على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويثير الشكوك، وأكثر الناس لا يعرفون هذه الأمور، ولا يذكرون القواعد الشرعية في الحكم في هذه الأمور. فيجب على طلاب العلم أن يلتزموا هذا التوجيه من المشايخ الكرام.

من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه

من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال رحمه الله تعالى: [ومن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما في الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ علي: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي). وقال صلى الله عليه وسلم يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال: فتطاولنا لها، فقال: ادعوا لي علياً، فأتي به أرمد، فبصق في عينيه، ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه). (ولما نزلت هذه الآية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران:61]، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللهم هؤلاء أهلي).

الخلفاء الأربعة هم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون

الخلفاء الأربعة هم الخلفاء الراشدون والأئمة المهديون قوله: (وهم الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون). تقدم الحديث الثابت في السنن، وصححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة). وترتيب الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في الفضل، كترتيبهم في الخلافة. ولـ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من المزية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، ولم يأمرنا في الاقتداء في الأفعال إلا بـ أبي بكر وعمر، فقال: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر)، وفرق بين اتباع سنتهم والاقتداء بهم، فحال أبي بكر وعمر فوق حال عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين]. يعني: أن الفارق بين الاقتداء وبين الاتباع، أن الاتباع يكون باتباع المناهج والسنن التي لها أصل في الشرع، فنتبع الخلفاء الراشدين في الأمور التي لم يكن فيها خلاف، أو فيما ينظم أحوال الأمة، مما نسميه الآن: المناهج، سواء مناهج تقرير الدين، أو مناهج الدفاع عن الدين، أو مناهج حماية الأمة من البدعة، أو مناهج التعامل مع غير المسلمين وغير أهل السنة، أو مناهج أحكام أهل الذمة ونحوها، فهذه تسمى مناهج غالباً يكون الحال فيها ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، حتى بعد الخلفاء الراشدين، لكن الخلفاء الراشدون تميزوا؛ لأنهم كانوا في عهد أكابر الصحابة، فكانوا إذا وافقوهم على شيء أو أقروهم على أمر صار إجماعاً، أما الاقتداء فهو في الأحوال الخاصة التي تحدث من الخليفة أو نحوها، ولا شك أن الخلفاء الأربعة كلهم في أحوالهم الخاصة أهل قدوة، لكن حدث في عهد عثمان وفي عهد علي من الفتن ما يجعل التصرفات أحياناً تكون للضرورات وليست للأحكام العامة والمناهج، فـ علي رضي الله عنه تصرف تصرفاً ضرورياً تجاه الفتنة ما يلزم الاقتداء به فيه، وكذلك عثمان رضي الله عنه في مواجهته للفتنة في آخر أمره تصرف تصرفاً ضرورياً لا يلزم الاقتداء به فيه؛ لأنه لجأ إلى كثير من أموره ضرورة. فعلى هذا هناك فرق بين الاقتداء وبين اتباع السنة. قال رحمه الله تعالى: [وقد روي عن أبي حنيفة تقديم علي على عثمان، ولكن ظاهر مذهبه تقديم عثمان، وعلى هذا عامة أهل السنة. وقد تقدم قول عبد الرحمن بن عوف لـ علي رضي الله عنهما: إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بـ عثمان. وقال أيوب السختياني: من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار]. في عهد متأخري الصحابة وأوائل التابعين استقر الأمر، ولم يعد هناك شك عند السلف في ترتيب الخلفاء على ما ذكر، وأن عثمان أفضل من علي، ولذلك من خالف من السلف فمخالفته زلة لا يقرونه عليها، وإذا كان من غير السلف ومن غير المعتبرين فمذهبه بدعة، لكن بدعة غير مغلظة؛ بدعة تفضيل علي على عثمان من البدع غير المغلظة، وتسمى: تشيعاً، لكن ليس كالتشيع الاصطلاحي عندنا، هؤلاء الذين فضلوا علياً على عثمان وهم على منهج أهل السنة والجماعة في العموم، هؤلاء زلوا ووقعوا في بدعة خفيفة، ويسمون: المفضلة، ويقال: فيهم تشيع، كما قيل عن عبد الرزاق بن همام، وكما قيل عن سفيان الثوري قبل رجوعه إلى مذهب أهل السنة في هذه المسألة، وكما قيل عن الحاكم النيسابوري وعن كثير من الأئمة، يقال: فيهم تشيع، ولكن لا يقصد به تشيع الرافضة الآن، هذا ليس بالتشيع، هذا رفض. أما من قدم علياً على أبي بكر وعمر وعثمان جميعاً فهذا يسمى من المفترية، حتى لو كان في أموره الأخرى على السنة، ويندر، بل لم ينسب إلى أهل السنة من قال بهذا القول، بل هذا القول قال به الشيعة، ولذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأمر بجلد من يفضلونه على أبي بكر وعمر، ويسميهم: المفترية، وكتب إلى ولاته: بأن من فضله على أبي بكر وعمر فليجلد جلد المفتري ثمانين جلدة، ولذلك سماهم السلف: المفترية. قال رحمه الله تعا

العشرة المبشرون بالجنة

العشرة المبشرون بالجنة قال رحمه الله تعالى: [قوله: (وأن العشرة الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وبشرهم بالجنة، نشهد لهم بالجنة على ما شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله الحق: وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح وهو أمين هذه الأمة رضي الله عنهم أجمعين). تقدم ذكر بعض فضائل الخلفاء الأربعة، ومن فضائل الستة الباقين من العشرة رضي الله عنهم أجمعين: ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها: (أرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقال: ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، قالت: وسمعنا صوت السلاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله، جئت أحرسك، -وفي لفظ آخر-: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم نام). وفي الصحيحين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع لـ سعد بن أبي وقاص أبويه يوم أحد، فقال: ارم، فداك أبي وأمي). وفي صحيح مسلم عن قيس بن أبي حازم، قال: رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قد شلت. وفيه أيضاً عن أبي عثمان النهدي، قال: لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم غير طلحة وسعد. وفي الصحيحين، واللفظ لـ مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يوم الخندق، فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، ثم ندبهم فانتدب الزبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري، وحواريّ الزبير). وفيهما أيضاً عن الزبير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم؟ فانطلقت، فلما رجعت جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبويه، فقال: فداك أبي وأمي). وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل أمة أميناً، وإن أميننا أيتها الأمة: أبو عبيدة بن الجراح). وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان قال: (جاء أهل نجران إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، ابعث إلينا رجلاً أميناً، فقال: لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين، قال: فاستشرف لها الناس، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح). وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه، قال: (أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أني سمعته يقول: عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، ولو شئت لسميت العاشر، قال: فقالوا: من هو؟ قال: سعيد بن زيد، قال: لمشهد رجل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يغبر منه وجهه، خير من عمل أحدكم، ولو عمر عمر نوح) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه، ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف. وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه أبو بكر بن أبي خيثمة وقدم فيه عثمان على علي رضي الله عنهما]. في الرواية الأولى لم يذكر أبا عبيدة، لأنه عد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في هذه الرواية ذكر أبا عبيدة، فقد يكون صلى الله عليه وسلم قال هذا مرة وقال هذا مرة، وهذا لا ي

اتفاق أهل السنة على تعظيم العشرة المبشرين بالجنة التعظيم الشرعي

اتفاق أهل السنة على تعظيم العشرة المبشرين بالجنة التعظيم الشرعي وقد اتفق أهل السنة على تعظيم هؤلاء العشرة وتقديمهم؛ لما اشتُهر من فضائلهم ومناقبهم، ومَن أجهلُ ممن يكره التكلم بلفظ العشرة، أو فعل شيء يكون عشرة؛ لكونهم يبغضون خيار الصحابة وهم العشرة المشهود لهم بالجنة، وهم يستثنون منهم علياً رضي الله عنه، فمن العجب أنهم يوالون لفظ التسعة، وهم يبغضون التسعة من العشرة! ويبغضون سائر المهاجرين والأنصار من السابقين الأولين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، وكانوا ألفاً وأربعمائة، وقد رضي الله عنهم، كما قال تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]. وثبت في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة). وفي صحيح مسلم أيضاً عن جابر أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال: (يا رسول الله! ليدخلن حاطب النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت! لا يدخلها، فإنه شهد بدراً والحديبية)].

الأسئلة

الأسئلة

كيفية ترتيب الخلفاء الراشدين في الأفضلية وبقية العشرة

كيفية ترتيب الخلفاء الراشدين في الأفضلية وبقية العشرة Q كيف يكون ترتيب الخلفاء الراشدين وبقية العشرة؟ A مجمل الألفاظ في ترتيبهم كانت على ترتيبهم في الخلافة، إلا في ألفاظ قليلة، أما ما بعد الأربعة الخلفاء الراشدين فذكر بعضهم طلحة والزبير وأبا عبيدة؛ لأنهم أفضل من البقية، لكن ليس هناك دليل قاطع، إلا في النصوص التي وردت من تسمية الزبير بحواري الرسول صلى الله عليه وسلم، وتسمية أبي عبيدة أمين هذه الأمة، وهذا كلام مجمل لا شك أنه يدل على الأفضلية الفردية، لكن لا يدل على الأفضلية المطلقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، فهذه المحبة لا تعني الأفضلية المطلقة؛ لأن البقية يحبون الله ورسوله، ويحبهم الله ورسوله. فأحياناً تكون الأفضلية خصيصة وليست أفضلية بإطلاق. أما الخلفاء الراشدون لا شك أن ترتيبهم في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة، وجاءت النصوص على ترتيبهم المعروف، أما من بعدهم فالمسألة خلافية ليس فيها جزم، والله أعلم.

حكم الخوض فيما شجر بين الصحابة من قتال

حكم الخوض فيما شجر بين الصحابة من قتال Q ما رأيكم في الخوض في خلافة الأربعة بما فيها من الفتنة، وذكر تفصيل ذلك، وخصوصاً ما انتشر من دروس طارق السويدان وغيره، وأنا سمعت شيئاً من أشرطته، فقد تعرض فيها للفتنة؟ A الفتنة لها مقاييس، نسأل الله أن يعافينا جميعاً من الفتن، ليس كل حدث يسمى فتنة، لكن أحياناً بعض الأمور التي تبتدع في المسلمين تسمى فتنة، وإلا فالفتنة إذا جاءت لا تستأذن أحداً. أما الكلام على الأشرطة فما بعد كلام مشايخنا وعلمائنا مزيد، فقد أفتى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز بما نقله الثقات عنه، وفضيلة الشيخ محمد بن العثيمين وقد سمعته وغيرهما، أفتوا بعدم جواز استماع هذه الأشرطة وعدم نشرها، للتعليل الذي ذكره السلف، وهو أصل من أصول السلف، وهو قاعدة من قواعدهم التي يجب احترامها: من أن الكلام فيما شجر بين الصحابة ينبغي الكف عنه، وعدم إلقائه ونشره عند الآخرين، وهذه الأشرطة سحبت، وهذا بحمد الله كان بتوجيه المشايخ.

شرح العقيدة الطحاوية [99]

شرح العقيدة الطحاوية [99] أهل السنة يتبرءون من طريقة الرافضة الذين نصبوا العداء لأصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلا نفراً قليلاً لا يتجاوز بضعة عشر رجلاً، وبالمقابل يغالون في الاثني عشر إماماً الذين نصبوهم وهالوا عليهم الصفات القدسية والرتب العلية، ومن أحسن القول في الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم المطهرات من كل دنس فقد برئ وسلم من النفاق.

موقف الرافضة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم

موقف الرافضة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم قال المصنف رحمه الله تعالى: [والرافضة يبرءون من جمهور هؤلاء]. يعني: من الخلفاء الثلاثة الراشدين ومن بقية العشرة، ومن أصحاب الحديبية وأهل بدر، بل يبرءون من سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيذكر الشارح. قال رحمه الله تعالى: [بل يبرءون من سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا من نفر قليل، نحو بضعة عشر رجلاً! ومعلوم أنه لو فرض في العالم عشرة من أكفر الناس، لم يجب هجر هذا الاسم لذلك، كما أنه سبحانه لما قال: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ} [النمل:48] لم يجب هجر اسم التسعة مطلقاً، بل اسم العشرة قد مدح الله مسماه في مواضع من القرآن: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196] {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142] {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2]. وكان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وقال في ليلة القدر: (التمسوها في العشر الأواخر من رمضان). وقال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر) يعني: عشر ذي الحجة]. شهد النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة لعشرة، وهؤلاء عند الرافضة مرتدون، فأبغض الرافضة لفظة (عشرة)؛ لأنها تشير إلى العشرة المبشرين بالجنة، وهذا من أشد أنواع الحمق المعروف في البشر؛ لأنه لا علاقة بين هذا وذاك، حتى لو قدر أن هناك شيئاً من الأعداد يخص ما هو مبغض أو مكروه فلا ينبغي بغض العدد بذاته، وبغض إطلاقه على أي شيء، فهذه مسألة تدل على حمقهم، وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية تفصيلاً في منهاج السنة.

الأئمة الاثنا عشر عند الرافضة الإمامية

الأئمة الاثنا عشر عند الرافضة الإمامية قال رحمه الله تعالى: [والرافضة توالي بدل العشرة المبشرين بالجنة الاثني عشر إماماً، وهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويدعون أنه وصي النبي صلى الله عليه وسلم دعوى مجردة عن الدليل، ثم الحسن رضي الله عنه، ثم الحسين رضي الله عنه، ثم علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر بن محمد الصادق، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم محمد بن الحسن، ويتغالون في محبتهم، ويتجاوزون الحد]. قبل أن نتجاوز ذكر الأئمة عند الرافضة، نود أن نبين أن الأخير الذين يدّعون أنه إمام هذا ليس له وجود، وإنما هو شخص وهمي لم يولد ولم يعرف له حال، وأبوه مات عقيماً لم يكن له ولد، ولم يعرف أنه ولد، وقصة ولادته أيضاً قصة خرافية، فقد جاءوا بقصة لا تستقيم عند العقلاء، فزعموا أنه فجأة كشف للناس في ليلة واحدة أن إحدى جواريه حامل بولده، وأنها ستضع تلك الليلة، ولما أخبر من حوله من أهل البيت أنكروا ذلك، وقالوا لا نرى من نسائك ومن جواريك من في بطنها ولد، فأحالهم على أوهام بزعمهم في القصة وقال سترون، وفي آخر الليل فوجئ أنه بشر الناس بأنه ولد له ولد دون أن يكون هناك حمل، ودون أن يعرف أن إحدى نسائه حامل، ولم يكن لذلك أي شيء من التمهيد، وهذا مما يدل على أن القصة مكذوبة ومخترعة ولا أصل لها. وأنا أعجب من المهمش الذي ترجم في رقم (3) في الهامش لمن يسمى بـ محمد بن الحسن العسكري، ولم يعلق على هذه القصة التعليق الكافي، بل قال: هو أبو القاسم محمد بن الحسن العسكري ثاني عشر الأئمة الاثني عشر، الملقب عند الإمامية بـ الحجة والقائم والمنتظر وصاحب الزمان، وهو صاحب السرداب عندهم، وأقاويلهم فيه كثيرة، وهم ينتظرون ظهوره، والشيعة يقولون: إنه دخل السرداب إلى آخره. إذاً: لا بد من الإشارة إلى أن هذه خرافة، بل حتى الرافضة الآن متنازعون، ويوجد من علمائهم قديماً وحديثاً وإلى اليوم من يشير إلى أن هذه القصة خرافة، وهناك الآن كتاب خرج من كاتب وباحث مشهور أظن اسمه أحمد الكاتب، أضاف الشكوك على هذه القصة، وذكر بالمنهج العلمي الدقيق أنها لا تصح، وأن فيها نظراً. فالمهم القول بأن للعسكري ولداً هذه خرافة ولا أصل لها، لم يولد له ولد أبداً. قال رحمه الله تعالى: [ولم يأت ذكر الأئمة الاثني عشر إلا على صفة ترد قولهم وتبطله، وهو ما خرَّجاه في الصحيحين عن جابر بن سمرة قال: (دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعته يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عليَّ، فسألت أبي: ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كلهم من قريش). وفي لفظ: (لا يزال الإسلام عزيزاً باثني عشر خليفة). وفي لفظ: (لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثني عشر خليفة). وكان الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، والاثنا عشر: الخلفاء الراشدون الأربعة، ومعاوية، وابنه يزيد، وعبد الملك بن مروان وأولاده الأربعة وبينهم عمر بن عبد العزيز، ثم أخذ الأمر في الانحلال. وعند الرافضة أن أمر الأمة لم يزل في أيام هؤلاء فاسداً منغَّصاً، يتولى عليهم الظالمون المعتدون، بل المنافقون الكافرون، وأهل الحق أذل من اليهود! وقولهم ظاهر البطلان، بل لم يزل الإسلام عزيزاً في ازدياد في أيام هؤلاء الاثني عشر.

البراءة من النفاق بحسن القول في أصحاب رسول الله وأزواجه الطاهرات

البراءة من النفاق بحسن القول في أصحاب رسول الله وأزواجه الطاهرات قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه الطاهرات من كل دنس، وذرياته المقدسين من كل رجس؛ فقد برئ من النفاق)]. كلمة (المقدسين) فيها نوع من التجاوز؛ لأن القداسة لا تكون إلا لله عز وجل، فوصف الذريات بأنهم مقدسون فيه نوع تجاوز وتساهل، وهو لفظ لا ينبغي إطلاقه، لو قال: وذرياته المنزهين أو المبرئين كان أولى. أما قول القائل: قدس الله روحه، أو قدس الله روحها، فهو من باب الدعاء وليس من باب الوصف، فمعنى قولهم: قدس الله روحه، يعني: يرفع الله درجته في الملأ الأعلى، والملأ الأعلى هم عند روح القدس، فربما يؤخذ من هذا التساهل في هذه العبارة: قدس الله روحه، ومع ذلك عند التحقيق فيها نظر، لكن قالها من أهل العلم من هو قدوة، ومن هو مأمون على مثل هذه الأمور، وأما ما ذكر المؤلف فقد يكون من باب التساهل في التعبير، أو عدم الفطنة إلى مغزى العبارة، وتبقى كلمة: قدس الله روحه، أسهل من وصف إنسان من الناس أو أحد من البشر بأنه مقدس؛ لأن المقصود من عبارة: قدس الله روحه أن يرفع الله روحه إلى أعلى عليين، أو إلى الملأ الأعلى الذين عند روح القدس. قال رحمه الله تعالى: [تقدم بعض ما ورد في الكتاب والسنة من فضائل الصحابة رضي الله عنهم، وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بماء يُدعى خماً، بين مكة والمدينة، فقال: أما بعد: ألا أيها الناس، إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين: أولهما: كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغَّب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، ثلاثاً). وخرج البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: ارقبوا محمداً في أهل بيته.

أصل الرفض من منافق زنديق

أصل الرفض من منافق زنديق وإنما قال الشيخ رحمه الله: (فقد برئ من النفاق)؛ لأن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق؛ قصْدُه إبطال دين الإسلام، والقدح في الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك العلماء، فإن عبد الله بن سبأ لما أظهر الإسلامَ، أراد أن يفسد دين الإسلام بمكره وخبثه، كما فعل بولس بدين النصرانية، فأظهر التنسُّك، ثم أظهر الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى سعى في فتنة عثمان وقتلِه، ثم لما قدم علي الكوفة أظهر الغلو في علي والنصر له؛ ليتمكن بذلك من أغراضه، وبلغ ذلك علياً فطلب قتله، فهرب منه إلى قرقيسا، وخبره معروف في التاريخ. وتقدم أنه من فضَّله على أبي بكر وعمر جلده جلد المفتري]. مسألة إرجاع الرفض إلى النفاق، هذا أمر صحيح، لا شك أن الرفض منشؤه النفاق والمنافقون؛ لأن الرفض في الحقيقة عبارة عن ديانات كثيرة تقمصت مذاهب التشيع، هذه الديانات منها: اليهودية، ومنها: الصابئية، ومنها: المجوسية، وهي الأغلب، ومنها: النصرانية؛ ولذلك وجدت سمات هذه الديانات في الرافضة، فصارت الرافضة خليطاً من ديانة المجوس أولاً؛ لأن أغلب سمات الرافضة مجوسية في عقائدها، وفي عباداتها، وفي عاداتها وفي عوائدها، وفي مظاهر أعيادها، كما أنها مجوسية من حيث النزعة الشعوبية، أو النزعة العنصرية، فالرافضة مجوس قديماً وحديثاً، وينزعون إلى نصرة المجوس، وهم في أي وقت تقوم لهم دولة ينصرون تقاليد المجوس، ويتمسكون بآداب المجوس، حتى في أنماط إدارة الأمور، حتى في الشئون السلطانية، كما أنهم يقدسون المجوس تقديساً واضحاً، فعندهم العرق المجوسي هو العرق الأول المفضل. إذاً: لا شك أن الذين بذروا الرفض هم المنافقون من شتى الديانات، وأغلبهم أصحاب الديانات المشهورة، أولاً: الصابئة المجوسية، ثم اليهودية، ثم الصابئة، ثم النصرانية، وكل هذه الديانات موجودة في الرفض، وأصولها واضحة من خلال أصول الرافضة المشهورة. أما الأمر الآخر فيما يتعلق بهذا الموضع، هو القول بأن ابن سبأ هو الذي بذر بذور الرفض، هذا الأمر عند التحقيق العلمي قد يكون محتملاً، ولا سبيل إلى الجزم به؛ لأنه لا يلزم من إرجاع الرفض إلى أصوله الكفرية أن يكون من رجل واحد عمل ما عمل، مع أن الراجح أن ابن سبأ فعل ذلك، وإن لم يكن في وقت تصرفاته تلك مشهوراً بـ ابن سبأ، وإنما كان مشهوراً بـ ابن السوداء، وبعضهم يلقبه بـ عبد الله بن وهب، ولا يقصدون عبد الله بن وهب الراسبي الخارجي، إنما يقصدون عبد الله بن وهب الحميري السبائي، وله أسماء أخرى نظراً لتقلبه في كل بلد، فهو في كل بلد يظهر بشكل، فلقب بألقاب، وأهم صفاته التي اشتهر بها في عهد الصحابة أنه كان يسمى: ابن السوداء، وهذا يجرنا إلى الحديث عما ورد عند بعض الباحثين المتأخرين من إنكار أن يكون ابن سبأ حقيقة، ودعواهم أنه أسطورة. وإنكارهم هذا مبني على تعليق الأحداث بلفظة عبد الله بن سبأ، لكن لو رجعنا إلى ألقابه وأوصافه الأخرى لوجدنا له أصولاً، ورواة الرافضة وعلى رأسهم سيف بن عمر هم الذين أشهروا قصص عبد الله بن سبأ، وأكثرها عن طريقهم، لكن لا يعني أن القصة غير صحيحة؛ لأنهم يروون الصحيح وغير الصحيح، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن شهرة الاسم كانت متأخرة، فقد كان يسمى: ابن السوداء، ويسمى بأسماء أخرى، ولا شك أن علي بن أبي طالب طارد رجلاً فعل هذه الأفاعيل، وادعى هذه الدعاوى، وبذر بذور الإلحاد والكفر الصريح، وادعى عند قوم أن علياً إله إلى آخر القصة، وقام بنشر الرفض الغالي، وهذا معلوم، وقيل: إن علي بن أبي طالب تمكن منه، وقيل: إنه لم يتمكن منه، وقيل: إنه جلده، وقيل: إنه قتله، لكن لا يهمنا هذا بقدر ما يهمنا أصل الحدث والعبرة منه، وهو أن الرفض من صنع المنافقين، ولا يلزم أنه يرجع إلى رجل، ولذلك لما بذرت بذور التشيع دخلها كل كائد للإسلام، ولا يلزم أن يكون من خلال ابن سبأ أو تتلمذ على يده، ومن الطبيعي أنه إذا وجدت أفكار تشق عصا المسلمين، وتفارقهم في العقائد، فإن هذه الأفكار يعتنقها أناس كثيرون، ممن يضمرون الكيد للإسلام والمسلمين، أيضاً هذه الأفكار تتناسب مع أناس لهم ديانات معينة، ويحبون أن يبثوا دياناتهم من خلال هذه الأصول الكفرية أو الأصول البدعية، كما أن الذين وضعوا هذه الأصول لا شك أنهم ليسوا بشخص واحد، قد يكون بدأها شخص واحد، لكن لما بدأها توافرت جهود آخرين من الزنادقة والمنافقين، فكل وضع ما يناسب، ولذلك تجدون تطور الرفض من خلال العصور، حتى بعد ابن سبأ، فقد جاء على حسب رغبات الشعوب، وعلى حسب التأقلم مع الديانات الموجودة دا

وجوب موالاة المؤمنين والتحذير من معاداتهم

وجوب موالاة المؤمنين والتحذير من معاداتهم قوله: (وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل). قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]، فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصاً الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها إلا المسلمين، فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له في تركه من عذر. وجماع الأعذار ثلاثة أصناف: أحدها: عدم اعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. والثاني: عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول. والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ]. هذه جملة من أصول الأعذار التي يعذر بها المخطئ المجتهد، أو العالم إذا زل، فإذا زل العالم فلا نتبعه على زلته، بل ينبغي أن يحذر الناس من زلة العالم، لكن لا نلغي قدره واعتباره وإمامته في الدين، كما يفعله كثير من قليلي الفقه، من أصحاب العواطف، الذين إذا زل العالم أو زل طالب العلم ألغوا اعتباره وجرحوه، وهجموا عليه، وسلخوه من الأمة، هذا خلل شديد، بل فيه أحياناً خروج عن سبيل المؤمنين، أي: عدم إعذار العالم المجتهد إذا زل، لكن لا يتابع على زلته، كما أشار الشارح هنا في شرحه لكلام الطحاوي في قوله: (وعلماء السلف من السابقين، ومن بعدهم من التابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل) هذا تقرير أصل من أصول السلف أهل السنة والجماعة، يجب أن يعيه طالب العلم جيداً، وهو أن سبيل المؤمنين هو جزء من الدين، والمقصود بسبيل المؤمنين أي: المناهج التي عليها أئمة الهدى: المناهج في الدين، المناهج في المصالح العظمى، المناهج فيما يتعلق بوسائل الاجتهاد، المناهج فيما يتعلق بأصول تعامل الناس مع بعضهم، تعامل الناس مع علمائهم، تعامل الناس مع ولاة الأمر منهم، تعامل الناس مع المصالح العظمى، أو الأضرار الكبرى التي تتعرض لها الأمة، هذه كلها تسمى: سبيل المؤمنين، هذا السبيل أصله هو نهج العلماء من خلال استنباطهم لفقه الكتاب والسنة، ولذلك يعتبر سبيل المؤمنين جزءاً من العقيدة التي نعبر عنها بمناهج السلف، فمنهج أهل السنة والجماعة هو سبيل المؤمنين، ليس فقط في العلم والاعتقاد كما يظن بعض الناس، لكن أيضاً في العمل والتعامل، وهذه نقطة مهمة؛ لأن كثيراً من الذين ينتسبون لأهل السنة والجماعة، تجدهم من المتضلعين في العلم والاعتقاد، لكنهم في العمل وفي التعامل يكسرون مناهج السلف كسراً، ويصادمونها صدماً، بل ربما أحياناً يعملون بما يشوهها، ويعملون بضدها. وهذه مسألة مهمة وقع فيها كثير من المنتسبين للسلفية، والمنتسبين لأهل السنة والجماعة، تجدهم في الناحية العلمية النظرية لعقائد السلف من العالمين الراسخين في هذا الجانب، لكن في جانب التعامل هم في واد والسلف في واد آخر، ولذلك أقول: إن العلم هو الاعتقاد، والعمل به هو سبيل المؤمنين، ولا يختلف هذا السبيل وينفصل بعضه عن بعض، وإشارة المؤلف هنا والشارح تدل على أن المقصود توجه علماء الأمة ونهجهم في أمر من الأمور، سواء كان من أمر الدين، أو كان من أمر الدنيا الذي استقر فيه صالح الأمة، فإن نهجهم وما يتفقون عليه أو ما يتفق عليه جملتهم هو سبيل المؤمنين، ومن حاد عنهم فهو متوعد بالوعيد الذي ذكره الله عز وجل في الآية، فلذلك يجب أن يحذر طالب العلم من مخالفة نهج العلماء، أو الازدواجية في النظرة إلى العلماء، فتجده يأخذ ما يحلو له من الأمور العلمية، ويقول: العلماء في الجوانب العلمية والاعتقادية على العين والرأس، لكن في العمل، وفي تقدير مصالح الأمة، وفي النظرة إلى الأحداث ليسوا قدوة، أقول: هذه مصادمة لمنهج السلف في اتباع سبيل المؤمنين، وربما يقع فيها كثير من الناس وهو لا يشعر، وربما يتعذر بمعاذير هي من زلات العلماء، ولذلك نبه الشارح إلى هذه المسألة، قد يخالف سبيل المؤمنين عالم راسخ، لكن لا يكون عمله حجة، إنما نلتمس له العذر ولا نتابعه، وأمثلة ذلك كثيرة من عهد الصحابة رضي الله عنهم إلى يومنا هذا، كثير من الراسخين في العلم يجتهد اجتهاداً يخرج به عن سمت العلماء، وقد يكون له أحياناً موقف عملي هو مخالف لسبيل المؤمنين، فيجب ألا نتبعه؛ لأن المواقف العملية أخطر من الاجتهادات، لكن قد نعذره، فلذلك أشار إلى

الأسئلة

الأسئلة

الحكم على كتاب (الشيعة والتشيع) لموسى الموسوي

الحكم على كتاب (الشيعة والتشيع) لموسى الموسوي Q قصة محمد بن الحسن العسكري تكلم عنها الكسروي الشيعي الذي رجع إلى السنة نوعاً ما في كتابه الشيعة والتشيع، تحقيق الدكتور القفاري والعودة؟ A هذا الكتاب أو غيره فيه حجج من الشيعة الذين كتبوا عليهم، لكن ومع ذلك لا يلزمنا أن نحتج على الرافضة ببعضهم، بقدر ما يلزمنا أن نحقق المسألة علمياً أولاً، فإذا حققناها علمياً وأشهرناها عند الباحثين والعلماء، سنجد من الرافضة من يستفيد من هذا البحث العلمي أو التحقيق العلمي، أما وجود التناقض بين أقوال الرافضة فلا شك أنها موجودة، وما يكتبه بعضهم من الرجوع أو التراجع عن التشيع ينبغي ألا ننخدع به، فدعوى رجوع مثل الموسوي أو غيره هذه مسألة لا تعدو -والله أعلم- أن تكون عبثاً ولعباً على الذقون، شيعي أنكر على شيعي آخر، لكن لا يعني هذا أنه ترك التشيع، فلا نقع في السذاجة المتناهية، لكن نضرب قول بعضهم ببعض، هذا جيد، ومن أساليب السلف أنهم ينقضون بحجة بعضهم على بعض.

حكم إنكار شخصيات مشهورة في كتب التاريخ

حكم إنكار شخصيات مشهورة في كتب التاريخ Q ينكر بعض الكتَّاب ثبوت شخصيات من التاريخ مثل: عبد الله بن سبأ وبعض الصحابة مثل: القعقاع؟ A المسألة ينبغي أن تبحث علمياً.

حكم الجماعات الحزبية ومن ترفع شعار السلفية وغير ذلك من الجماعات

حكم الجماعات الحزبية ومن ترفع شعار السلفية وغير ذلك من الجماعات Q هل الجماعات الموجودة الآن من الفرق الثنتين والسبعين؟ وهل من انتسب إلى السلفية يعتبر على سبيل المؤمنين، أم هو أقرب، أم هو من التحزب المنهي عنه شرعاً؟ A هذا سؤال كبير، وكثير من المشايخ تكلموا في هذه الأمور بكلام جيد بين وواضح، وقعّدوا لها بقواعد، يستطيع طالب العلم من خلالها أن يستبين منها الحق. وعلى أي حال فالجماعات الموجودة الآن إن قصد بها الجماعات الحزبية ذات الشعارات والمناهج، فأغلب هذه الجماعات ترجع إلى أصول بدعية أصلاً، حتى وإن ادعت السنة؛ لأنها خرجت من منابت بدعية، هذا شيء، الشيء الآخر أننا لا نعرف من منهج السلف أن هناك تحزبات أو جماعات، هذا مخالف لنهج السلف، وبمجرد أن توجد الحزبية فالمنهج غير سلفي إطلاقاً، بل يعتبر نوعاً من الافتراق، حتى وإن ادعى صاحبه أنه على مذهب أهل السنة، وحتى وإن كان نظرياً وعلمياً على مذهب أهل السنة والجماعة، أو عقيدته العلمية على مذهب أهل السنة، فإذا تحزب ورفع شعاراً غير السنة والجماعة، وأوجد مناهج في الدين والدعوة مخالفة لمنهج السلف، فهذا خروج عن السنة. فنحن هنا نحكم على الجماعات ذات الطابع الحزبي بأنها خرجت عن منهج أهل السنة والجماعة خروجاً كلياً وجزئياً، لكن أهم من هذا كله وهو ما ذكرته في أول حديثي، وأؤكده الآن، ليكون واضحاً أن الجماعات التي خرجت في العالم الإسلامي جماعات أصولها بدعية أصلاً؛ لأنها خرجت من منابت أحسن ما فيها أنها خرجت من منابت أهل الكلام الأشاعرة والماتريدية، وخرجت من منابت صوفية، ومنابت قبورية، ومنابت عقلانية، ومنابت اعتزالية، ومنابت جهمية، فالمسألة واضحة، لكن لا يعني ذلك الحكم على الأفراد، وإنما الحكم من حيث الجملة. أما ما ذكره السائل من وجود بعض الشعارات السلفية، فأقول: السلفية ليست شعاراً، ومن ادعى السلفية فيعرض أمره على الكتاب والسنة، أو على نهج السلف، فإن سلم من التحزب، وسلم من وضع مناهج منحرفة في الدين، وسلم من البراء من غيره ممن هم من أهل السنة، وهذه مشكلة أكثر السلفيين يتبرءون ممن يخالف منهجهم الخاص، فوقعوا في الحزبية من حيث لا يشعرون، فإذا تبرءوا ممن لا يكون على منهجهم الخاص، ولم يغفروا له زلته، ولم يعذروه بالمعاذير الشرعية، وقعوا فيما وقع فيه الحزبيون، وهذه الحزبية ربما تكون أضيق من الحزبية العامة الموجودة عند الجماعات، وإن كان هذا قليلاً، لكن مع ذلك أحذر من ذلك، كما هو معروف عن أهل العلم ومشايخنا الذين لهم بصر ومعرفة بهذه الأمور، فإنهم بينوا للناس أن هناك بوادر تحزب عند بعض من يرفعون شعارات السلفية، لكن لا يعني ذلك: أن كل من رفع شعار السلفية نتهمه، لا، بالعكس. إذاً: غالب الجماعات ترجع إلى الثنتين والسبعين فرقة، بطبيعة الحال، من خلال المنشأ والمنابت والمناهج التي وضعوها. وهنا أحب أن أؤكد على عمل آخر؛ لكي لا يفهم الكلام على غير وجهه، وهو أن بعض الأساليب والوسائل في الدعوة إلى الله عز وجل يسميها كثير من الناس: حزبيات وجماعات، فمثلاً: وجود مراكز إسلامية لا تضع مناهج تخالف السلف، ولا تعلن ولاءات، ولا تعلن حزبيات، وإنما هي عبارة عن وسائل تعليم مثل: المدارس، المراكز، والمؤسسات مثل: مؤسسة الحرمين، وما كان على شاكلتها، هذه وسائل وأساليب في خدمة السنة، لا تُعَدُّ جماعات، بعض الناس حكم عليها على أنها تجمع وتحزب، وهذا غير صحيح، وفيه جناية، وأيضاً فيه حجر للأمة؛ لكي لا تعمل ولا تنشط، فالعمل المؤسسي مشروع، وأهل السنة أولى به من غيرهم، وكذلك بقية الوسائل، ولذلك أعجب من الذين يقولون: إن وسائل الدعوة توقيفية، فمن وسائل الدعوة الشريط، والكتاب، ومن وسائل الدعوة: استعمال الحاسبات، ومن وسائل الدعوة: استعمال الآلات والمصنوعات الحديثة في خدمة الدين، فهل هذه توقيفية؟ وأنا لا أدري لماذا تثار هذه الضجة حول وسائل الدعوة؟! فالخلاصة أن استعمال هذه الأساليب والوسائل، التي تخضع لضوابط السلف ومناهج السلف لا تدخل في الافتراق، ولا تدخل في الجماعات ولا الحزبيات. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الطحاوية [100]

شرح العقيدة الطحاوية [100] من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الأنبياء أفضل من الأولياء، ونبي واحد أفضل من جميع الأولياء، وأما أهل الأهواء والبدع من الصوفية وملاحدة الفلاسفة وغيرهم، والرافضة، فهم يفضلون أئمتهم وأولياءهم على الأنبياء، وهذا خروج ومروق عن الشريعة، وزندقة وإلحاد في دين الله تعالى.

ضلال تفضيل الأولياء على الأنبياء

ضلال تفضيل الأولياء على الأنبياء قال رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام، ونقول: نبي واحد أفضل من جميع الأولياء). يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة]. هذا مذهب تفضيل طوائف من الناس على الأنبياء والرسل، وهذا المذهب يوجد في كثير من الطوائف الضالة، فبعضهم يصرح، وبعضهم يكون واقع حاله تفضيل البشر، أو تفضيل من يزعمون له الولاية أو القداسة والإمامة على الأنبياء، فممن يصرحون بالتفضيل، تفضيل أنفسهم، أو تفضيل من يقدسونه، أو تفضيل الأولياء والفلاسفة على الأنبياء، ممن يصرح بذلك الفلاسفة، فالفلاسفة كلهم، حتى الذين يسمون بالإسلاميين وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا والسهروردي المقتول وابن سبعين وابن الفارض ومن سلك سبيلهم ممن زعم لهم الإسلام وليسوا كذلك، هؤلاء يصرحون بتفضيل الفلاسفة والأولياء على الأنبياء والمرسلين، وتوجد هذه النزعة عند طوائف الباطنية بشتى أنواعها، كل الباطنية بفرقها تفضل الأولياء أو الأئمة كل له في ذلك نزعة، يفضلون رؤسائهم على الأنبياء والمرسلين، وأحياناً يصرحون بإهانة المرسلين، وكذلك طوائف من المتصوفة، والمتصوفة أغلبهم ينزعون إلى الفلسفة وإلى الباطنية، لا تخلو أغلب مدارس الصوفية من النزعة الفلسفية التي تقول بتفضيل الأولياء على النبيين، أو النزعة الباطنية التي تقول بتفضيل الأئمة على الأنبياء. ثم الرافضة حقيقة مذهبهم أنهم يفضلون الأئمة على الأنبياء، والاتحادية وغلاة الجهمية يدخلون في طوائف الفلاسفة وغلاة المتصوفة والباطنية. كذلك كبار الجهمية وكبار المعتزلة نجد منهم من يفضل الطوائف من الفلاسفة والعقلانيين على الأنبياء، وبعضهم يلزمه ذلك من باب الإلزام، يعني: غلاة المتكلمين تدل نظرتهم إلى الدين الذي جاء به الرسل على أنهم يفضلون أنفسهم على الأنبياء؛ وذلك أنهم فضلوا عقولهم وأفكارهم وما ابتدعوه من مناهج في الدين على الأنبياء، هذا من باب الإلزام. وهناك طوائف من الجهمية وطوائف من المعتزلة وبعض المتصوفة وبعض المتشيعة يلمحون لهذا ولا يصرحون، أما خلّص الرافضة وخلّص الباطنية وخلّص المتصوفة الغلاة، وخلّص الفلاسفة فهؤلاء يصرحون بالتفضيل، ولا عندهم في ذلك أي تردد، ويبالغون في هذا في مؤلفاتهم، وفيما أُثر عنهم من كلام، وفي أشعارهم وفي غير ذلك، فقد قرروه تقريراً، وانتصروا له في مؤلفات وكتب. قال رحمه الله تعالى: [يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة، وإلا فأهل الاستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع، فقد أوجب الله على الخلق كلهم متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء:64] إلى أن قال: {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]. وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]]. الاتحادية هم أصحاب الاتحاد من الفلاسفة والباطنية وغلاة الصوفية، وهؤلاء كلهم مذهبهم واحد، يختلفون فقط في التعبيرات عن المذهب. والاتحادية هم الذين يرون اتحاد الخالق بالمخلوق أو اتحاد المخلوق بالخالق، بعضهم يعبر عن مسألة الاتحاد بزعمه أنه حلت فيه الإلهية، مثل ما فعل الحلاج، وبعضهم يزعم أن الله الخالق حل في المخلوقات أو اتحد فيها، وهذا مذهب كثير من غلاة الصوفية، فهؤلاء كلهم اتحادية، الذين يزعمون اتحاد الخالق بالمخلوق أو ببعض مخلوقاته، أو الذين يزعمون اتحاد المخلوقات أو بعض المخلوقات بالله عز وجل بأي نوع من أنواع الاتحاد. وعلى ذلك يعد التثليث عند النصارى والتثنية عند المجوس، وكذلك مذاهب غلاة الصوفية كلها نوع من الاتحاد. والاتحاد يشمل وحدة الوجود، وإن كانت الوحدة أخص أو أصرح في التعبير من الاتحاد، لكن مع ذلك فإن الاتحاد يشمل هذه المذاهب كلها؛ لأن الاتحاد يعبر عنه بعدة تعبيرات، فمنهم من يقصد بالاتحاد الاتحاد الجزئي، وهم أغلب أصحاب الاتحاد، ومنهم من يقصد بالاتحاد الاتحاد الكلي، وهؤلاء أحياناً يعبرون عن ذلك بوحدة الوجود، ولذلك يقال لهم: أصحاب وحدة الوجود، وهم في الحقيقة اتحادية، لكن عمموا مسألة الاتحاد حتى سموا بأصحاب وحدة الوجود، وهم الذين يرون أنه لا فرق بين الخالق والمخلوق، فكل من الخالق والمخلوق يتمثلون في هذا الخلق، تعالى الله عما يزعمون.

مصير من أمر السنة على نفسه ومن تكبر عنها

مصير من أمّر السنة على نفسه ومن تكبر عنها قال رحمه الله تعالى: [قال أبو عثمان النيسابوري: من أمّر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمر الهوى على نفسه نطق بالبدعة. وقال بعضهم: ما ترك بعضهم شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه. والأمر كما قال؛ فإنه إذا لم يكن متبعاً للأمر الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، كان يعمل بإرادة نفسه، فيكون متبعاً لهواه بغير هدى من الله، وهذا غش النفس، وهو من الكبر، فإنه شعبة من قول الذين قالوا: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة، وتصفية نفسه، إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم. ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء. ومنهم من يقول: إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء، ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء، ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون، وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه، ليس له صانع مباين له، لكن هذا يقول: هو الله، وفرعون أظهر الإنكار بالكلية، لكن كان فرعون في الباطن أعرف بالله منهم، فإنه كان مثبتاً للصانع، وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق كـ ابن عربي وأمثاله، وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره قال: النبوة ختمت، لكن الولاية لم تختم! وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة، وما يكون للأنبياء والمرسلين، وأن الأنبياء مستفيدون منها، كما قال: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي]. أشار المؤلف إلى بدعة تفضيل الأولياء على الأنبياء، وسبق الكلام عن هذا في درس من دروس الأهواء الملحق بهذا الدرس، لكن أحب الآن أن أنبه إلى مسألة مهمة دائماً تحدث عند تصور البدع، ولعلنا نستفيد منها فيما يجب أن يسلكه طلاب العلم في محاربة البدع، أو محاربة ذرائع البدع التي تحدث كثيراً عند الناس، وهو أن كثيراً من هذه الأفكار التي من ضمنها تفضيل الأولياء على الأنبياء، بدأت وكأنها ساذجة، وكأنها أفكار أو شبهات خفيفة ما تنبه لها الناس، وتفضيل الأولياء على الأنبياء، أو تفضيل طائفة من الناس على الأنبياء، هذه نزعة فلسفية كما قلت، توجد عند أكثر المستكبرين على النبوة وعلى الأنبياء، وعلى رأسهم الفلاسفة والباطنية وغلاة الصوفية وأهل الأهواء في كل ديانة، الذين يفارقون ديانات الأنبياء يوجد عندهم هذا الاستكبار، الذي يجعلهم يفضلون طوائف ممن يقدسونهم على الأنبياء، إما التفضيل المباشر الصريح، وإما التفضيل غير المباشر، وإنما يكون من لوازم المذاهب التي يلجئون إليها؛ لأن من سلك غير طريق النبيين لا شك أنه استهان بهم، وفضل عليهم غيرهم، لكن هنا نشأت هذه البدعة في تاريخ الإسلام، ربما يقول قائل: كيف تنتشر هذه البدعة التي يظهر عوارضها وخطؤها بشكل بيّن بين المسلمين؟ أقول: انتشرت غيرها من البدع في البداية حذرة غير بينة، وقد بدأت هذه الدعوى في منتصف القرن الثالث على أيدي العباد الجهلة، أو العباد الذين اختلط فيهم -والله أعلم- مسلك العبادة السنية عن جهل مع مسالك العبادات البدعية، أو عن تبييت لإفساد الإسلام والله أعلم بأحوال الأشخاص، لكن في الجملة الذي يتأمل أحوال العباد الأوائل في القرن الثاني والثالث، يجد منهم طوائف عمقت البدعة، وأخذت عن الأمم السابقة كثيراً من المذاهب والنحل والديانات، وأظهرتها بين المسلمين بشعار المسلمين وبالصبغة الإسلامية، وقد يكون ممن ينتسبون للسنة من العباد والنساك من وقع في هذه البدع، تقليداً لغيرهم دون أن يشعر أنها بدعة، وذلك ناتج عن جهله، وعن بعده عن مناهج العلماء، وعن عدم التزامه لسلوك الأئمة في وقته، وقد يكون من أصحاب الخير والفضل والاستقامة في ذاته، لكن نجد دائماً أن كل من كان عنده شيء من الجهل، أو الابتعاد عن مسالك السلف، إذا وضع نفسه إماماً في الدين، أو وضعته طائفة من الناس إماماً في الدين، فإنه يخطئ ويزل، ويتبع الناس زلته؛ بسبب صلاحه، فذكر شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من المحققين أن أول من تكلم بمسألة تفضيل الولي على النبي أحمد بن أبي الحواري، وهو من العباد المشاهير المتوفى سنة (246هـ)، وكانت عبارته حذرة، ولما استنكر العلماء ذلك عليه أخرجه العوام من دمشق؛ لأن العوام الذين هم على الفطرة في الغالب يمتثلون توجيهات أهل العلم، ثم لما شاعت هذه المسألة وتكلم عنها أهل العلم انطفأت بعض الوقت، ولم يجرؤ أحد أن يقولها، حتى جاء الحكيم الترمذي، وهو معاصر لـ ابن أبي الحواري تقريباً، فكتب هذه المسألة في كتاباته ومؤلفاته، وأشار إشارة صرح فيها بختم الولاية، وأن الولاية تختم كما تختم النبوة، وهذه مسألة في الحقيقة فيها نوع من الأخذ بالقول بتفضيل الأولياء، لكن غير صريح، يعني: مسألة القول بختم الأولياء كما تختم النبوة فيها نوع من رفع مقام الأولياء، ولم

عقيدة ابن عربي في النبوة والولاية وتكفير العلماء له

عقيدة ابن عربي في النبوة والولاية وتكفير العلماء له وقال ابن عربي أيضاً في فصوصه: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن، فرآها قد كملت إلا موضع لبنة، فكان هو صلى الله عليه وسلم موضع اللبنة، وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية، فيرى ما مثله النبي صلى الله عليه وسلم، ويرى نفسه في الحائط في موضع لبنتين، ويرى نفسه تنطبع في موضع كلتا اللبنتين، فيكمل الحائط؛ والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين أن الحائط لبنة من فضة ولبنة من ذهب، واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه؛ فلا بد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى إليه إلى الرسول. قال: فإن فهمت ما أشرنا إليه، فقد حصل لك العلم النافع]. عند تأمل كلام ابن عربي ينبغي أن نستصحب من خلال هذا التأمل مدى جهل الذين يعتذرون لـ ابن عربي أو يجهلون كفره؛ لأن كفريات ابن عربي كثيرة وثابتة في كل كتبه، ومن أمثلته هذا، مع أن هذا على وضوحه يعتبر من الكفريات التي تحتاج إلى بيان عند بعض الناس، وله كفريات صريحة وواضحة مثل الشمس. قال رحمه الله تعالى: [فمن أكفر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب، وللرسول المثل بلبنة فضة، فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسول؟! {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111]. {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56]، وكيف يخفى كفر من هذا كلامه؟! وله من الكلام أمثال هذا، وفيه ما يخفى من الكفر، ومنه ما يظهر، فلهذا يحتاج إلى ناقد جيد ليظهر زيفه، فإن من الزغل ما يظهر لكل ناقد، ومنه ما لا يظهر إلا للناقد الحاذق البصير. وكفر ابن عربي وأمثاله فوق كفر القائلين: {لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام:124]، ولكن ابن عربي وأمثاله منافقون زنادقة، اتحادية في الدرك الأسفل من النار، والمنافقون يعاملون معاملة المسلمين؛ لإظهارهم الإسلام، كما كان يظهره المنافقون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ويبطنون الكفر، وهو يعاملهم معاملة المسلمين؛ لما يظهر منهم، فلو أنه ظهر من أحد منهم ما يبطنه من الكفر لأجرى عليه حكم المرتد، ولكن في قبول توبته خلاف، والصحيح عدم قبولها، وهي رواية معلى عن أبي حنيفة رضي الله عنه، والله المستعان.

ثبوت كرامات الأولياء

ثبوت كرامات الأولياء قوله: (ونؤمن بما جاء من كراماتهم، وصح عن الثقات من رواياتهم). المعجزة في اللغة تعم كل خارق للعادة، وفي عرف أئمة أهل العلم المتقدمين وغيره، ويسمونها الآيات، ولكنْ كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما، فيجعلون المعجزة للنبي، والكرامة للولي، وجماعها: الأمر الخارق للعادة]. أقرب الأوصاف الشرعية لمعجزات الأنبياء أنها آيات أو دلالات، وقد ذكر الله عز وجل أنها آيات، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها آيات، وكلمة معجزة هي وصف للآيات وليست اسماً لها، فلذلك ينبغي أن يعبر عن المعجزة بالآية، ويقال: من أوصاف هذه الآيات أنها معجزة، ومن سمات الآيات أنها معجزة، فحصر الشيء ببعض وصفه فيه إضعاف للدلالة، هذا بالنسبة لمعجزات الأنبياء، والآيات التي تحدث من دون الأنبياء تسمى كرامات، إذا كانت على أيدي صالحين، وتسمى دجلاً ومخارق وخوارق إذا كانت على أيدي غير صالحين، ومع ذلك فالكرامات خارقة في وصفها اللغوي، لكن لا تسمى الآيات والمعجزات والخوارق كرامات، إلا إذا توافرت فيها صفات الكرامة، وإذا كانت الخوارق للأنبياء فهي آيات، ومن أوصافها أنها معجزة، وإذا ما توافرت في الأنبياء فلا تسمى معجزات، لكن تسمى آيات ودلائل؛ لأنها تلحق بدلائل النبوة. فكرامات الأولياء تلحق بدلائل النبوة؛ لأن الأولياء الذين توافرت عندهم صفة الكرامة أتتهم الكرامة باتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وبتقواهم، وصارت كراماتهم امتداداً لآيات النبي صلى الله عليه وسلم، ودلائل نبوته. قال رحمه الله تعالى: [فصفات الكمال ترجع إلى ثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وهذه الثلاثة لا تصلح على الكمال إلا لله وحده]. يعني: هذه صفات الكمال التي يكون فيها الإعجاز، والتي تنبثق منها الآيات الكونية، أو آيات الأنبياء، فشيء يرجع إلى العلم، وشيء يرجع إلى القدرة، وشيء يرجع إلى الغنى. قال رحمه الله تعالى: [وهذه الثلاثة لا تصلح على الكمال إلا لله وحده، فإنه الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير، وهو غني عن العالمين، ولهذا أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من دعوى هذه الثلاثة، بقوله: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:50]، وكذلك قال نوح عليه الصلاة والسلام، فهذا أول أولي العزم، وأول رسول بعثه الله إلى الأرض، وهذا خاتم الرسل وخاتم أولي العزم، وكلاهما تبرأا من ذلك؛ وهذا لأنهم يطالبونهم تارة بعلم الغيب، كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف:188]]. الآن بدأ يفصل في مسألة الثلاثة: العلم، والقدرة، والغنى، وأن هذه هي التي يكون فيها الإعجاز، وهي التي لا تكون على وجه الكمال إلا لله عز وجل، بدأ يفصل فيها، فالأولى كمال العلم، ومن ذلك علم الغيب، وهذا لا يكون إلا لله. قال رحمه الله تعالى: [وتارة بالتأثير]. الحديث عن التأثير يرجع إلى كمال القوة، التي لا تكون إلا لله عز وجل، أو كمال القدرة التي أشار إليها قبل قليل. قال رحمه الله تعالى: [كقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء:90]. وتارة يعيبون عليهم الحاجة البشرية]. هذا راجع إلى كمال الغنى الذي أشار إليه من قبل. قال رحمه الله تعالى: [كقوله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:7]. فأمر الرسول أن يخبرهم بأنه لا يملك ذلك]. يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك كمال العلم، ولا كمال القدرة، ولا كمال الغنى، إلا ما منحه الله عز وجل. قال رحمه الله تعالى: [وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله، فيعلم ما علّمه الله إياه، ويقدر على ما أقدره عليه، ويستغني عما أغناه عنه من الأمور المخالفة للعادة المطردة، أو لعادة غالب الناس]. العادة المطردة المخالفة هي الآيات الكونية، والعادة المخالفة لعادة غالب الناس هذه ما دون العادات الكونية، مثل: كشف المجهول، والقدرة على ما يعجز عنه كثير من المخلوقين، أو جلب النفع، أو دفع الضر فيما لا يقدر عليه البعض ويقدر عليه الآخر، هذا مما يقدر عليه بعض المخلوقين، وكشف المجهول من دون الغيب، ليس هو الغيب؛ لأن الغيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، لكن ما هو مجهول عنا تعلمه الملائكة، وكذلك ما هو مجهول عنا تعلمه الجن؛ لأن الجن ليس عليهم حجب في كثير من الأمور، وكذلك هناك أمور لا يقدر عليها البشر، يقدر عليها الملك، ويقدر عليها الجني، وهناك أمور أيضاً قد لا يستطيع أن ينفع بها الإنسي، لكن قد ينفع بها الجني وغيره، وهذه داخلة في خوارق العادات. أما الأمور المخالفة للعادات المطردة فهي لا شك الآيات الكونية، مثل: شق القمر، مثل: حبس الشمس، هذه أمور تخرج عن قدرة جميع الخلق، وهناك أمور لا تخرج

المحمود من الخوارق والمذموم والمباح

المحمود من الخوارق والمذموم والمباح فالخارق ثلاثة أنواع: محمود في الدين، ومذموم، ومباح؛ فإن كان المباح الذي فيه منفعة كان نعمة، وإلا فهو كسائر المباحات التي لا منفعة فيها. قال أبو علي الجوزجاني: كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة. قال الشيخ السهروردي في عوارفه: وهذا أصل كبير في الباب، فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا سلف الصالحين المتقدمين، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات، فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهماً لنفسه في صحة عمله، حيث لم يحصل له خارق، ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وأمارة القدرة يقيناً؛ فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا، والخروج عن دواعي الهوى، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة]. هذه إشارة إلى أن تعلق بعض الناس بالكرامة، واعتبارها هي دليل الصلاح أو دليل التوفيق هذا خطأ، خاصة من يطلبون الكرامات ويلتمسونها، ولذلك الذين يجعلون كثرة الكرامات دليلاً على الاستقامة، أو أن قلة الكرامات دليل على عدم الاستقامة وعدم التوفيق، هؤلاء يخطئون؛ فإن الكرامة هبة من الله عز وجل يهبها لمن يشاء بقدر، أيضاً لم تكن من الأمور الذي يفتن بها الصالحون، ولذلك نجد أن الكرامات عند أولياء الله الصالحين من الصحابة رضي الله عنهم، ومن جاء بعدهم قليلة. ولما وجد من العباد والجهلة والمبتدعة من كثر تعلقهم بالكرمات، كثرت عندهم الكرامات والمخارق أيضاً، واختلطت عليهم الكرامة بالخوارق وبالمخارق والدجل، ولذلك فتن بعضهم. وهناك طائفة من الدعاة الذين ينتسبون لبعض الجماعات يتعلقون كثيراً بالكرامات، ويجعلونها دليلاً دائماً أو غالباً على التوفيق والصلاح والاستقامة، وهذا خطأ، فكونهم يفرحون بالكرامة هذا أمر طيب، وإذا حدثت الكرامة لمسلم استبشر بها، لكن أن يطلبها ويتعلق بها قلبه، بحيث يعتمد عليها كثيراً، وأن يشيعها ويجعلها دليلاً على الاستقامة والتوفيق، فهذا خطأ؛ لأن الإكثار من ذلك ليس هو من سبيل المؤمنين، ولم يكن الإكثار من الكرامة أو التنويه عنها أو التماسها والتعلق بها من السنة، وإنما كما قال الشارح: إن أكبر كرامة للمؤمن أن هداه الله عز وجل ووفقه وسدده وأعانه، هذه بحد ذاتها كرامة، فلا ينبغي أن يبحث عن غيرها، إلا إن جاءت بدون طلب فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وليستبشر بها خيراً، لكن أن يلتمسها ويتعلق بها خاطره، ثم يبدأ يتعلق بها في مناماته ورؤاه، ويتعلق بها في أحواله الأخرى، فهذا مما يضعف التوكل على الله عز وجل، ويروج البدعة في كثير من الأمور، ويضعف جانب الصلاح والاستقامة في الظاهر. قال رحمه الله تعالى: [ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحاً، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسداً، فالأحوال يكون تأثيرها محبوباً لله تعالى تارة، ومكروهاً لله أخرى، وقد تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن]. يشير المؤلف رحمه الله إلى جانب آخر مما يلتبس على الناس بالكرامات، وهو جانب المؤثرات المعنوية والمؤثرات النفسية وتعلق النفس بها، وجعلها من ضمن الأسباب. والمقصود بهذا أن هناك من يتوسع في مفهوم الخوارق، حتى يستخدمها في ضر الناس ونفعهم، أو في كف الشر عنه، أو في جلب الخير إليه، كما يحدث من بعض الرقاة الجهلة، ويحدث من بعض المشعوذين وبعض الدجالين أو بعض المبتدعة، أو غيرهم من الذين عندهم نوع من الصلاح، لكن عن جهل، فهؤلاء قد يستخدمون بعض التأثيرات النفسية، أو يستخدمون أحياناً الجن، أو يستخدمون الرقى في التأثير على الخصم. ولذلك تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن، يعني: بغير سلاح مباشر، كمن يستخدم العين للقتل، وهذا يوجد عند بعض الحسدة مرضى القلوب، يعين الناس حتى يقتل بعضهم، نسأل الله العافية. أو يستعين بعائن، بأن يذهب إلى عائن مشهور ممن لا يتقون الله، من الجهلة المركبين في الجهل، ويكون مشهوراً بالعين، فيقول عن لي فلاناً، أو افعل معه كذا، أو سأصفه وأنت اصرف له العين إلى آخره! فيحدث أحياناً قتل للنفس، ويحدث مثل هذا عن طريق الجن أيضاً، بعض الناس يستعين بالجن استعانة يظن أنها مشروعة على قتل خصومه، أو قتل من يكرههم ومن يحسدهم، هذا كله من القتل بغير سلاح، واختلف أهل العلم هل فيه قود أو ليس فيه قود؟ هذه مسألة خلافية مبنية على عدم وجود القرينة أو الدليل القطعي على التعمد في القتل؛ أما إذا وجد التعمد في القتل بهذه الوسيلة فلا شك أنه من باب القتل الذي توعد الله به من يفعله، إنما يبقى هل يكون فيه قود (قصاص) أو لا يكون؟ والشاهد عندنا أن هؤلاء يستعملون هذه المخارق، وهذه الأساليب الدجلية، ويظنون أنها مشروعة في التأثير على خصومهم، أو في الإضرار بالآ

الأسئلة

الأسئلة

المقصود بولاية الفقيه وبيان وقت ظهور هذا المصطلح

المقصود بولاية الفقيه وبيان وقت ظهور هذا المصطلح Q ما المقصود بولاية الفقيه عند الرافضة؟ وهل هو مصطلح قديم أو هو حادث بعدما قامت دولتهم في إيران أذلهم الله؟ A ولاية الفقيه لا شك أنها من حيث فلسفتها الحديثة تعتبر أمراً حادثاً عند الرافضة، وإن كان يوجد عند بعض فقهائهم من يشير إلى هذا، لكنها كمذهب معلن لم يجرؤ أحد على إعلانه، والقول به واعتماده عند الرافضة إلا الخميني، ويقصد به الخميني أنه لا بد من أن يكون للمهدي المزعوم الذي يسمونه المنتظر من يمهّد لهم لظهوره؛ وذلك بأن يتولى ولاية الرافضة في شئونهم العلمية والفقهية والدينية، نيابة عن المهدي، وهذا الوالي الذي يمهّد للمهدي هو الفقيه، أو ما يسمونه: الآية. إذاً: معنى ولاية الفقيه: أن الفقيه ينبغي أن يقوم ببعض واجبات المهدي المعلقة إلى خروج المهدي، فهم مثلاً: يعتقدون أنه لا تقوم لهم دولة إلى بـ المهدي، فـ الخميني وهو سياسي داهية عبث بعقولهم، قال: إلى متى ننتظر خروج المهدي من أجل أن يقيم دولة؟ بل لا بد أن ننوب عنه في إقامة دولة؛ لكي نهيئ له السبيل ليخرج، فإذا خرج من سردابه وإذا بنا قد مهدنا له السبيل في دولة قائمة تحكم بالشرع كما يريد الرافضة، وهذه خرافة، ولكنه دجّل عليهم بها وصدقوه، ولا يزال أكثرهم يصدقونه وإن كانوا قد بدءوا يتراجعون بعض الشيء، فهناك من يبدّعون هذه الفكرة؛ لأنها ما أوصلتهم إلى ما يريدون، ولن يصلوا إلى أغراضهم التي يريدون بها ضر المسلمين.

أسباب اختلاف الرافضة فيما بينهم في الأصول المعتمدة لديهم

أسباب اختلاف الرافضة فيما بينهم في الأصول المعتمدة لديهم Q هل لك أن تحدثنا عن الأسباب العلمية، لما يحدث عند الإيرانيين الرافضة هذه الأيام من اضطرابات بين مراجعهم؟ A أكثر ما أثّر على الرافضة بعد الخميني هو أنهم تحطمت أحلامهم، واصطدموا بصخرة الواقع، ووجدوا أنهم كانوا يحلمون حينما قاموا مع الخميني، ولما مات الخميني ماتت آمالهم معه، فبدءوا يراجعون أمورهم، ومن ذلك رجوع كل منهم إلى أصوله العقدية، وأصوله الحزبية، وأصوله الأسرية إلى آخره، وهذا جعلهم يتشتتون الآن، هذا بالإضافة إلى أن كثيراً من مثقفيهم صاروا يشككون في أصوله، وهم من المثقفين الذين خرجوا عن نطاق إيران إلى الدول الأخرى، وعايشوا المسلمين وقرءوا، بدءوا يعلنون التشكيك في أصول الرافضة، والآن صدر في هذا الكتب، ولهم مقالات وردود، وردود على الردود من صميم الرافضة، وهذا مما يدل على تناقضهم، فبعضهم يرد على بعض في أصول كبرى قطعية، ليست مجرد أمور خلافية، بل اختلفوا في أمور قطعية من أصولهم التي يعتمدون عليها في دينهم، بدءوا يختلفون فيها.

حكم وصف بعض المشايخ وطلبة العلم بأنهم من أولياء الله

حكم وصف بعض المشايخ وطلبة العلم بأنهم من أولياء الله Q نرى في وقتنا المعاصر من يبالغ في مدح المشايخ أو طلبة العلم ويصفه بأنه ولي من أولياء الله؟ A من ظهر صلاحه واستقامته من أهل العلم الراسخين في الدين، الذين لهم اعتبارهم، والذين جعل الله في قلوب عامة المسلمين الحب لهم، يُشهد لهم -إن شاء الله- بالولاية، لا حرج في ذلك، هناك من علمائنا -بحمد الله- من شهد الناس لهم بالاستقامة، ونجد حبهم في قلوب عامة المسلمين، فهؤلاء -إن شاء الله- يقال: إنهم من أولياء الله، هذه من باب الشهادة العامة لا الجزم.

الفرق بين الشيخ محمد البهي تلميذ محمد عبده وبين البهي الخولي

الفرق بين الشيخ محمد البهي تلميذ محمد عبده وبين البهي الخولي Q هل الشيخ محمد البهي تلميذ محمد عبده هل هو محمد البهي الخولي؟ A لا، محمد البهي هو صاحب كتاب (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) وهو ليس بالمفكر الإسلامي الخولي، وكلاهما يسمى بالمفكر الإسلامي، لكن هذه مشكلة التسمية.

شرح العقيدة الطحاوية [101]

شرح العقيدة الطحاوية [101] أغلب الكرامات التي تقع للناس تكون في حال ضرورة ولجوء إلى الله سبحانه وتعالى، وقد يكون منها ما يدفع الله به عن المسلم سوءاً، أو يجلب له خيراً، وقسم من هذه الكرامات يكون من باب إقامة الحجة، أو الاستدراج لعبد من العباد، أو طائفة من الناس، فيبتليهم الله بما يشبه الكرامات فلا يشكرونه، فتحل عليهم نتيجة ذلك العقوبة، وليس كل إنسان يحصل له شيء من هذه الكرامات، ولا يكون عدم حصولها لعبد من العباد دليلاً على نقصه عند ربه، وبعده عن جنابه.

أقسام الناس في خوارق العادات

أقسام الناس في خوارق العادات قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام: قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة. وقسم يتعرضون بها لعذاب الله. وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات كما تقدم]. هذه مسألة مهمة، وسبق الإشارة إليها، لكن التأكيد عليها مهم في هذا المقام؛ لأن كثيراً من الناس لا يعرف ضوابط الكرامة والخوارق، ولا يميز بين الكرامة التي تكون بمثابة البشارة للإنسان برفع درجته، وبين الكرامة التي تكون من باب سد حاجة الإنسان، فهي مباحات، وبين الخارقة التي تشبه الكرامات وهي ابتلاء. فالكرامة إذا حدثت على يد شخص من أهل الخير والاستقامة، فإنها غالباً تكون بإكرام الله له، وربما يدله الله عز وجل فيها إلى خير ينفعه في دينه ودنياه، وأحياناً تكون الكرامة للرجل الصالح ولغير الرجل الصالح من الناس، من باب النفع العاجل، يفرج الله بها كربة، أو يشفي بها مرضاً، أو يدل فيها على أمر فيه حيرة ونحو ذلك، فهذه من الأمور التي تدخل في باب المباحات، وقد يكون جزءاً منها من باب الكرامة التي ترتفع بها الدرجة. فأغلب الكرامات التي يطلبها الناس تكون في حال ضرورة ولجوء إلى الله عز وجل، من فعل الأسباب التي شرعها الله وأباحها، كالدعاء أو الرقية أو الأدوية ونحو ذلك، فقد يكون الأمر الخارق للعادة الذي يدفع الله به عن المسلم سوءاً، أو يجلب له خيراً من باب الأمور المباحة، فإن شكر الله على ذلك وحمد الله ارتفعت بها درجته ولقي أجراً، وإن غفل ربما لا يظهر، لكن تبقى من صنف المباحات. وقسم آخر يكون من الأمور المضرة، أو من باب إقامة الحجة، سواء كان إنساناً أو جماعة أو أمة، قد تحدث لبعض الجماعات التي عندها شيء من البدع خوارق فيظنونها كرامات، وهي تصرفهم عن السنة إلى الوقوع في البدعة أو التمادي فيها، فيظنون أن هذه الخوارق دليل على أنهم على حق، في حين أنها من إملاء الله لهم، ومن العقوبة العاجلة، والتي ربما يترتب عليها الإثم في الدنيا والآخرة، وأغلب ما يحدث لأهل البدع وأهل الفجور من هذه الخوارق هو من هذا النوع، وأحياناً تكون من الاستدراج لعبد من العباد، أو لطائفة من الناس، فيبتليهم الله عز وجل بما يشبه الكرامات والخوارق، فلا يشكرون الله عز وجل، فتحل عليهم العقوبة بسبب ذلك.

كلمات الله نوعان: كونية، ودينية

كلمات الله نوعان: كونية، ودينية قال رحمه الله تعالى: [وتنوع الكشف والتأثير باعتبار تنوع كلمات الله، وكلمات الله نوعان: كونية، ودينية. فكلماته الكونية: هي التي استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر) قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]. وقال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الأنعام:115] والكون كله داخل تحت هذه الكلمات وسائر الخوارق]. الكون بما فيه، والإنسان في أعماله أو فيما يقدره الله عز وجل له وعليه في سائر الأمور غير الشرعية، هو داخل في كلمات الله الكونية، سواء في نفس الإنسان وفي جسمه وفي أحواله، أو في جميع أمور المخلوقات، فجميع المخلوقات تسير بتدبير الله عز وجل، فالجميع داخل في آيات الله الكونية الصغير منها والكبير، ليس المقصود بالآيات الكونية فقط السنن الكونية الكبرى كجريان الشمس، ودوران الأفلاك ونحو ذلك، لا، حتى الأمور الدقيقة جداً التي يقدر فيها الله مقادير الخلق الصغير والكبير كلها داخلة في آيات الله الكونية. أما النوع الثاني: وهو الكلمات الدينية، فهي الأوامر الشرعية، والوحي بشتى أنواعه يتمثل كلمات الله الدينية. قال رحمه الله تعالى: [والنوع الثاني: الكلمات الدينية، وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم، وهي أمره ونهيه وخبره، وحظ العبد منها العلم بها والعمل، والأمر بما أمر الله به، كما أن حظ العباد عموماً وخصوصاً العلم بالكونيات والتأثير فيها، أي: بموجبها، فالأولى: تدبيرية كونية، والثانية: شرعية دينية، فكشف الأولى: العلم بالحوادث الكونية، وكشف الثانية: العلم بالمأمورات الشرعية]. يعني: موقف العبد من الأمور الكونية بذل الأسباب، من خلال مقادير الله عز وجل التي أقدره الله عليها، وجعل له فيها الإرادة والحرية والقدرة، فالعباد لهم قدرة معينة داخلة في قدرة الله الكونية العامة، وعلى العباد أن يعملوا بما وهبه الله لهم من الأسباب، التي هي داخلة في الأسباب الكونية، وهي بذل الأسباب المادية من طلب الرزق ونحو ذلك، فهذه داخلة في الأمور الكونية العامة، وهي أيضاً مطلوبة من العباد. أما موقف العبد من كلمات الله الشرعية فالمطلوب منه أولاً: العلم بها، ثم امتثال ما فيها من أوامر، واجتناب ما فيها من نواه. إذاً: فالعبد مطلوب منه أن يعمل بالأمرين، وهذا هو التوازن والاعتدال والوسطية التي خالفها أهل الأهواء بشتى أصنافها، فأهل السنة والجماعة يعملون بالأسباب، ومن هنا فهم عاملون بما أمر الله به من الاستفادة من آيات الله الكونية، ثم إنهم أيضاً يمتثلون لأوامر الله وآياته الشرعية. الملقي: [وقدرة الأولى: التأثير في الكونيات، إما في نفسه، كمشيه على الماء، وطيرانه في الهواء، وجلوسه في النار، وإما في غيره بإصحاح وإهلاك وإغناء وإفقار. وقدرة الثانية: التأثير في الشرعيات، إما في نفسه، بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، وإما في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيُطاع في ذلك طاعة شرعية]. قدرة الأولى: هي التأثير في الكونيات، تشمل النوعين: الأول: تشمل عمل الخوارق بما لا يجوز شرعاً كعمل السحرة، فإن الله عز وجل قد يبتليهم بهذه الخوارق، ويكون ذلك سبباً لهلاكهم بوقوعهم في الكفر، أو في الكبائر التي تهلكهم في الدنيا والآخرة. النوع الآخر: تشمل آيات الله الكونية المتعلقة بالكرامات، فإنها داخلة في التأثير في الكونيات، فإن الله عز وجل قد يسخّر لعباده من الآيات الكونية ما يكون كرامة. إذاً: فالقدرة الأولى التي هي التأثير في الكونيات يدخل فيها الجائز والممنوع، يدخل فيها المشروع وغير المشروع. أما قدرة التأثير الثانية فلا تكون إلا لمن وفقه الله عز وجل بطاعة الله عز وجل، والتمسك بالكتاب والسنة ظاهراً وباطناً، وهذا لا يكون إلا على وجه الاستقامة، لا يتهيأ للإنسان أن تتوافر فيه الطاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، والاستقامة والتقوى والتوفيق في هذا الأمر إلا على الوجه المشروع، وإن حدث لأحد من الناس ظاهره الصلاح أن حدثت له ما يظن أنها كرامات، فهو إما ابتلاء، وإما من المخارق والدجل الذي يظنه من باب الكرامة، وهو ليس من باب الكرامة، فإن صاحب البدعة قد يدعو عند الكرب، والدعاء في حد ذاته مشروع، لكن يدعو بدعاء غير مشروع، فيحصل له نفع، أو يندفع عنه ضر، فهذا بذل وسيلة، إذ هي ظاهرة شرعية، لكن ليست على الاستقامة، وربما تسخر له الآيات الكونية، لكن من باب الابتلاء والفتنة والإملاء له، وهذا ليس دليلاً على الخير، وهذا يعرف بقرائن الأحوال، لا يمكن أن يعمى على الناس الحق، وأهل الاستقامة أهل السنة يدركون الفرق واضحاً، بل عامة أهل السنة يدركون ذلك، ولذلك تجدون بعض العوام مم

عدم نقصان العبد عند ربه إذا لم تظهر على يديه الكرامات والخوارق

عدم نقصان العبد عند ربه إذا لم تظهر على يديه الكرامات والخوارق قال رحمه الله تعالى: [فإذا تقرر ذلك فاعلم أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه]. هذه مسألة مهمة جداً؛ لأن الناس لما كثر إعراضهم عن العقيدة السليمة، وعن التمسك بالسنة، وابتعدوا عن مناهج السلف، وتعلق بعضهم بالكرامات، وظنها من علامات الاستقامة، وأنه إذا لم تحصل له كرامة كأنه محروم من الخير، خاصة عند الأحداث الكبرى، عندما يكون هناك جهاد، أو يكون هناك نوع من المواجهة أو الفتن أو المواقف الصعبة أو نحوها، بعض الناس تتعلق نفسه بالكرامة، ظناً منه أنه إذا لم تحدث له كرامة، فإنه ليس على شيء! وهذا غلط، ووجد هذا الهاجس عند كثير من الشباب المتدين، الذين لا يلمّون بعقيدة السلف، ولا عندهم إدراك لهذه الأمور، تجد أن نفوسهم تتعلق بالكرامة من خلال الدعوة إلى الله عز وجل، أو من خلال ما تتعرض لهم من مشاكل وأحداث، تجد الواحد منهم يظن أنه إذا لم تحدث له كرامة، فإنه مقصر في حق الله عز وجل أو في دين الله، مع أن هذا ليس من الموازين الشرعية، الكرامة قد تحدث وقد لا تحدث، وإذا لم تحدث كرامة لبعض الناس، أو أمر خارق للعادة يفتن به قد يكون هذا في حد ذاته من علامات التوفيق له. قال رحمه الله تعالى: [فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات، ولم يسخّر له شيئاً من الكونيات، لا ينقصه ذلك في مرتبته عند الله، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له، فإنه إن اقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة، فإن الخارق قد يكون مع الدين، وقد يكون مع عدمه أو فساده أو نقصه]. يعني: أن الكرامات أحياناً تكون من باب الجزاء العاجل، وخير للمسلم أن يكون له الجزاء في الآخرة من أن يكون له في الدنيا. أيضاً قد تكون الكرامة من باب النعمة التي لا يقدر على شكرها، قد يكرم الله بعض العباد بكرامة عظيمة قد لا يقدر على شكرها، فيقصر في حق الله عز وجل. فإذاً: لا ينبغي للمسلم أن تتعلق نفسه بالكرامة، إن حدثت فهذا خير، والكرامة مبشرات، ومن منهج السلف ألا تتعلق نفس المسلم بالكرامة أو يتطلع إليها، أو يلتمسها، أو يتكلف في حصولها أو نحو ذلك.

الخوارق النافعة تابعة للدين خادمة له

الخوارق النافعة تابعة للدين خادمة له قال رحمه الله تعالى: [فالخوارق النافعة تابعة للدين خادمة له]. أي: أن الخوارق والكرامات التي تحدث للمسلمين، من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، هي جزء من تأييد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الآيات والدلائل على نبوته صلى الله عليه وسلم، وإقامة الحجة على الخلق؛ لأن المسلم المستقيم إنما تحصل له الكرامة باتّباعه للسنة، فهذا الأمر ينعكس على قوة الحجة على نبوته صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: [كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين، وكذلك المال النافع، كما كان السلطان والمال النافع بيد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فمن جعلها هي المقصودة، وجعل الدين تابعاً لها ووسيلة إليها لا لأجل الدين في الأصل، فهو شبيه بمن يأكل الدنيا بالدين، وليس حاله كحال من تدين خوف العذاب أو رجاء الجنة، فإن ذلك مأمور به، وهو على سبيل نجاة، وشريعة صحيحة. والعجب أن كثيراً ممن يزعم أن همّه قد ارتفع عن أن يكون خوفاً من النار، أو طلباً للجنة، يجعل همّه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا! ثم إن الدين إذا صح علماً وعملاً، فلا بد أن يوجب خرق العادة إذا احتاج إلى ذلك صاحبه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3]. وقال تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]. وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68]. وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [يونس:62 - 64]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]) رواه الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقال تعالى فيما يروي عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضت عليه، ولا يزال عبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه). فظهر أن الاستقامة حظ الرب، وطلب الكرامة حظ النفس، وبالله التوفيق.

بطلان إنكار المعتزلة للكرامة

بطلان إنكار المعتزلة للكرامة وقول المعتزلة في إنكار الكرامة: ظاهر البطلان، فإنه بمنزلة إنكار المحسوسات. وقولهم: لو صحت لاشتبهت بالمعجزة، فيؤدي إلى التباس النبي صلى الله عليه وسلم بالولي، وذلك لا يجوز! وهذه الدعوى إنما تصح إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدّعي النبوة، وهذا لا يقع، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً، بل كان متنبئاً كذاباً، وقد تقدم الكلام في الفرق بين النبي والمتنبئ، عند قول الشيخ: (وأن محمداً عبده المجتبى، ونبيه المصطفى)]. هذه مسألة مهمة يحسن التنبيه عليها في هذا المقام، وهي من أسباب وقوع اللبس في مسألة المعجزة والكرامة، وهي أن المعتزلة وغير المعتزلة من الفلاسفة وبعض العقلانيين قديماً وحديثاً، وأكثر المتكلمين الذين أشكل عليهم الخلط بين المعجزة والكرامة، جعل بعضهم الدلائل الوحيدة على النبوة هي المعجزات، ومن هنا أدى هذا إلى إنكار الكرامات وإنكار الخوارق وإنكار السحر إلى آخره من الأمور التي لزمتهم، وهي ليست مستقيمة، حتى مع قواعدهم العقلية، وهم استندوا على دلالات العقول، والعقول لا تدرك ما وراء عالم الشهادة. لكن الذي يهمنا في هذا المقام أن أكثر اللبس وارد من معنى المعجزة وكونها دلالة على النبوة، فإطلاق المعجزات على آيات الأنبياء هذا يترتب عليه خطأ في المفهوم، وخطأ في اللوازم، وخطأ في النظرة إلى المعجزة والكرامة والخوارق، فالصحيح أن ما يحدث للأنبياء هو آيات، سواء كانت معجزات ظاهرة أو معجزات غير ظاهرة، سواء كانت خوارق عادية أو خوارق معنوية، أو كانت قرائن أحوال، وغالب ما يكون للأنبياء قرائن أحوال. إذاً: فدلائل الأنبياء هي آيات، وتسميتها معجزات أوجد اللبس، وهو ظنهم أنه لا يمكن أن تكون للنبي آية إلا أن تكون بمعنى الإعجاز بالظاهر الصريح، مع أن هناك آيات إعجازها غير ظاهر ولا صريح، لكن عند بذل الهمم وعند التفكير وصرف الجهود العقلية إليها يتبين أنها آية من آيات الله عز وجل، فمثلاً: إعجاز القرآن إعجاز أكيد يعترف به جميع العقلاء، لكن العامي لا يُدرك لأول وهلة إلا عندما يُفهّم ويُبين له أن القرآن معجزة. إذاً: الإعجاز هو جزء من آيات الأنبياء، وليس هو وصف لكل آيات الأنبياء، فدلالات النبوة هي آيات بعضها معجزات بالمعنى الاصطلاحي، وبعضها قد لا تسمى معجزات، إلا بعد بذل جهد وتبين، وقد تكون المعجزة معنوية لا تدرك إلا بجهود أجيال. فهذه المسألة هي راجعة في نظري إلى عدم تحقيق مناط الأمر، وعدم الاتفاق على موطن الخلاف، والصحيح أن دلائل النبوة هي آيات متنوعة، منها: المعجزات الظاهرة، ومنها: المعجزات غير الظاهرة، ومنها: قرائن الأحوال، وقرائن الأحوال هي ما يحدث للناس من الأمور التي تدل على الصدق والأمانة والأخلاق الفاضلة أو على العكس، فالأنبياء كلهم تميزوا بقرائن أحوال في سلوكهم، وهي تدل على أنهم لا يمكن أن يكذبوا على الله عز وجل في دعوى النبوة، وأنهم صادقون، وأنهم مشفقون، وأنهم أمناء إلى آخره. ولذلك لا نجد النبوة تكون في إنسان مغمور يخرج من كهف أو يخرج من أدغال الغابات أو غيرها، وإنما يخرج من بين قومه يعرفونه سلفاً، فتكون قرائن الأحوال هي أعظم آيات الأنبياء، وهي ليست معجزات، بل عند التحقيق أن الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمن الناس كرهاً بقوة السيف، أو بالرعب الذي أوجده الله عز وجل للإسلام بقوته، حينما قام الإسلام على الأرض، أقول: إن الذين آمنوا اختياراً آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم لقرائن أحواله، والذين نزلت عليهم الآيات العظمى التي تسمى معجزات ما آمنوا، الذين نزلت بناء على طلبهم، مثل: انشقاق القمر، فلما انشق وصفوا ذلك بالسحر، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرقى إلى السماء، فلما عُرج به إلى السماء وجاء بخبر الرقي كذّبوه. إذاً: ما نفعت ما يسميه المعتزلة: معجزات وهي آيات، ما نفعت الآيات الكونية الصريحة المنظورة، إنما أقامت الحجة عليهم، لكن لم يهتد بها أولئك الذين طلبوها، وهي زادت المؤمنين إيماناً، وقد يكون هناك من أسلم بعض الأفراد، لكن أصحاب التحدي -الذين كتب الله عليهم الضلالة- لم تنفعهم هذه الأمور.

أنواع الفراسة

أنواع الفراسة قال رحمه الله تعالى: [ومما ينبغي التنبيه عليه هاهنا: أن الفراسة ثلاثة أنواع] تكلم المؤلف عن الفراسة؛ لأنها نوع من الكرامة، والمقصود بها فراسة المؤمن، وقد تختلط الفراسة ببعض المخارق عند من لا يدركون أو لا يفقهون. فالمهم أن الفراسة هي التحديث الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر أن في هذه الأمة محدَّثين، وذكر منهم عمر بن الخطاب، وهم أهل الفراسة الذين يلقي الله في قلوبهم الحق ويلهمهم إياه، والفراسة هي إلهام وتحبيب، وهي نوع من الكرامات والخوارق. قال رحمه الله تعالى: [إيمانية: وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده، وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب، يثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة، ومنها اشتقاقها، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أَحَدُّ فراسة. قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: الفراسة مكاشفة النفس، ومعاينة الغيب، وهي من مقامات الإيمان، انتهى. وفراسة رياضية: وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، ولا تدل على إيمان ولا على ولاية، ولا تكشف عن حق نافع، ولا عن طريق مستقيم، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبارة الرؤيا والأطباء ونحوهم]. في تسمية هذا النوع فراسة نظر؛ لأن الفراسة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن) هي فراسة شرعية، وهي نوع من الكرامة، لا تلتبس بالنوع الآخر الذي هو الكشوف، وأشبه ما يكون بالهستريا التي تحدث لمن يبالغ في الجوع والسهر والعطش، فلا تسمى هسترته فراسة على المعنى الشرعي، لكن يمكن تسمى فراسة بالمدلول اللغوي. قال رحمه الله تعالى: [وفراسة خلقية: وهي التي صنّف فيها الأطباء وغيرهم، واستدلوا بالخلق على الخُلقُ؛ لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل، وبكبره على كبره، وسعة الصدر على سعة الخلق، وبضيقه على ضيقه، وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما، وضعف حرارة قلبه ونحو ذلك]. هذه أمور علمية وتسميتها فراسة تسمية مجازية؛ لأن الأمور التي تثبت بالتجارب ويعرفها أهل الاختصاص ليست فراسة على المعنى الشرعي، إنما هي أمور علمية يدركها المتخصص، ولا يدركها غير المتخصص، فربما يشعر غير المتخصص أنها نوع من الفراسة، لكن ليست فراسة، وإنما هي أمور تعرف بالقرائن وتعرف بالدراسة، وتعرف بالعلم والتجربة والاستقراء، سواء في الطب أو في سائر العلوم، أو في الممارسات العادية لأصحاب المهن وغيرها، فإن هذه الأمور تحدث لهم، لكن تسميتها فراسة حقيقة فيها نظر، وهذا التقسيم هو تقسيم لغوي لا تقسيم شرعي؛ لأن الفراسة الشرعية لا تختلط بالمعاني الأخرى، من المخرصة، أو الأمور الخُلُقية المعروفة بالعلم ونحو ذلك.

الأسئلة

الأسئلة

ما جاء في تعلق الفراسة بتمييز المتخصصين في الحديث بين الصحيح وغيره

ما جاء في تعلق الفراسة بتمييز المتخصصين في الحديث بين الصحيح وغيره Q ما يعرفه أهل الحديث المتخصصون من التمييز بين الحديث الصحيح وغير الصحيح، أحياناً من خلال متنه فهل هذا من باب الفراسة؟ A إذا كان هذا مبنياً على سياق المتن، فهذا التخصص يجعلهم أعلم من غيرهم؛ مما أعطاهم الله عز وجل من العلم والفقه في دين الله عز وجل، وما أعطاهم الله من التجربة وإدراك المعاني، وهذا لا يكون من الفراسة بمعناها الخاص، لكن إذا كان العالم المتخصص تفرس في اللفظ معنى ليس هو الظاهر من السياق، فقد يكون هذا من باب الفراسة الشرعية، التي هي نوع من الكرامة. وأهل الحديث هم صيارفة الحديث كما وصفهم الأئمة، والصيرفي إذا أعطيته عملة مزيفة قد تخفى على آلاف الناس، لكن بمجرد ما يلمسها الصيرفي حتى لو كان غير مبصر أدرك أنها مزيفة، فكذلك أهل الحديث كثرة الخبرة والمران وتعودهم على سياق أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، بمعرفة معانيها ومسالكها، وقوتها في اللغة والبيان، قد يدركون المعنى الذي لا يليق نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور، فهي نوع من الفراسة، لكنها فراسة علمية، ليست فراسة كشف وفراسة خوارق؛ لأن فراسة الخوارق تحدث بالإلهام الذي لا يمكن أن يكون بمجرد الوسائل والمواهب البشرية، فالفراسة الحقيقة هي نوع من الكرامة، كما حدث لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كثير من الأمور.

متى تحصل خوارق العادات للصالحين أفرادا وجماعات

متى تحصل خوارق العادات للصالحين أفراداً وجماعات Q قوله: (ثم إن الدين إذا صح علماً وعملاً، فلا بد أن يوجب خرق العادة، إذا احتاج إلى ذلك صاحبه) هل هذا مناقض للكلام السابق: (أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه)؟ A يقصد المؤلف معنىً يبدو أنه لم يفصح عنه، يقصد رحمه الله أن أهل الاستقامة إذا ألجأتهم ضرورة شرعية كبرى، ليس مجرد أمور شخصية كالتحدي بين الإسلام والكفر، فإنهم قد تحدث لهم كرامات، وهذا صحيح، فإن أكثر ما كانت الكرامات في عهد الصحابة وعلى أيدي أئمة الهدى الكبار لا تكون في أمور شخصية، إلا في حالات نادرة لا يرغبون نشرها أو التحدث عنها، ولذلك قد تُذكر وقد لا تُذكر، لكن الكرامات المشهورة التي تشتهر غالبها تحدث للمؤمنين؛ بسبب استقامتهم في دين الله عز وجل في المقامات العظمى والكبرى، مثل ما حدث لـ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حينما تجمد له النهر، ومثل ما حدث لـ خالد بن الوليد رضي الله عنه حينما أكل السم الذي يقتل الإنسان عادة، لكن كان من باب التحدي، وكان فيما يشبه المباهلة التي فيها نصر للإسلام، ليس موقفاً شخصياً بين المؤمن وبين آخرين، فإذا وصل الأمر إلى حد ما يشبه المباهلة بين أهل الحق وأهل الباطل، أو إلى ضرورة نصر الحق في أمر حاسم تتعلق فيه مصالح الأمة العظمى، فمن هنا تحدث الكرامات على الوجه الذي ذكره الشارح، أما في أحوال الأفراد والأمور العادية، فإنه قد تحدث وقد لا تحدث، قد تحدث للعبد الصالح كرامة في المقامات الصعبة، لكنها ليست قاعدة مطردة.

شرح العقيدة الطحاوية [102]

شرح العقيدة الطحاوية [102] إن أشراط الساعة تدخل في الأخبار التي جاءت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، فهي من الغيبيات التي يجب على كل مسلم أن يؤمن بها، وأشراط الساعة إما أن تكون أشراطاً صغرى، وقد حدث منها الشيء الكثير ولا يزال يحدث، وإما أن تكون أشراطاً كبرى ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في عدد من أحاديثه، وتقع قبيل قيام الساعة وتكون مؤذنة بقيامها، وهي أمور عظام هائلة، وخوارق للسنن الكونية.

الإيمان بأشراط الساعة

الإيمان بأشراط الساعة قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونؤمن بأشراط الساعة: من خروج الدجال، ونزول عيسى بن مريم عليه السلام من السماء، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها، وخروج دابة الأرض من موضعها). عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال: اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يُعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) وروي: (راية) بالراء والغين، وهما بمعنى. رواه البخاري وأبو داود وابن ماجه والطبراني. وعن حذيفة بن أسيد قال: (اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر الساعة، فقال: ما تذاكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، فقال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، والدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى بن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك: نار تخرج من اليمن، تطرد الناس إلى محشرهم) رواه مسلم. وفي الصحيحين واللفظ للبخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله لا يخفى عليكم، وإن الله ليس بأعور -وأشار بيده إلى عينه- وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية). وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلا وأنذر قومه الأعور الدجال، ألا إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور، ومكتوب بين عينيه: ك. ف. ر) فسّره في رواية: (أي: كافر). وروى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيراً من الدنيا وما فيها. ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: واقرءوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء:159]). وأحاديث الدجال، وعيسى بن مريم عليه السلام ينزل من السماء ويقتله، ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه بعد قتله الدجال، فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة، ببركة دعائه عليهم، ويضيق هذا المختصر عن بسطها. وأما خروج الدابة، وطلوع الشمس من المغرب، فقال تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82]. وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} [الأنعام:158]. وروى البخاري عند تفسير الآية عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا رآها الناس آمن من عليها، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل). وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أنسه بعد، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضحى، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريباً) أي: أول الآيات التي ليست مألوفة، وإن كان الدجال، ونزول عيسى عليه السلام من السماء قبل ذلك، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج، كل ذلك أمور مألوفة؛ لأنهم بشر، مشاهدة مثلهم مألوفة، وأما خروج الدابة على شكل غريب غير مألوف، ثم مخاطبتها الناس ووسمها إياهم بالإيمان أو الكفر فأمر خارج عن مجاري العادات، وذلك أول الآيات الأرضية، كما أن طلوع الشمس من مغربها على خلاف عادتها المألوفة أول الآيات السماوية، وقد أفرد الناس أحاديث أشراط ا

المقصود بأشراط الساعة

المقصود بأشراط الساعة يحسن الحديث عن بعض النقاط حول أشراط الساعة. من ذلك أولاً: المقصود بالأشراط. الأشراط لغة: العلامات والمقدمات، والأشراط جمع شرط، وهي الأحداث التي تكون علامة على الساعة وتتقدمها، وتكون مؤذنة بقيامها. أما المقصود بأشراط الساعة شرعاً: فهي العلامات والمقدمات التي تحدث بين يدي الساعة، سواء كانت من الخوارق، أو كانت من غير الخوارق، مما جاء ذكره في كتاب الله عز وجل، أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

صلة موضوع أشراط الساعة بالعقيدة

صلة موضوع أشراط الساعة بالعقيدة إن أشراط الساعة تدخل في الأخبار التي جاءت عن الله تعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، وتدخل في الغيبيات التي يجب أن يؤمن بها كل مسلم، والتي تميز المؤمنين عن غيرهم، فهي داخلة في أمور الإيمان بالغيب، ويدخل ذلك في الركن الخامس من أركان الإيمان: وهو الإيمان باليوم الآخر. وأشراط الساعة لا شك أنها من الأمور الغيبية، ولا يعرفها الناس على سبيل التحقيق، إلا إذا حدثت ورأوها أو أدركوها، لكن قبل ذلك لا بد من التسليم بكل ما صح فيها في كتاب الله أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون تحكم أو تفسير بلا دليل؛ لأن كثيراً من الذين تناولوا موضوع أشراط الساعة أحياناً يفسرونها بغرائب التفسير، وإذا كان هذا التفسير لا يوافق الحقيقة، وهو على سبيل الجزم، يكون من القول على الله بغير علم، وأحياناً يقترن بتفسير بعض المعاني قرائن، فتكون من الأمور المحتملة، يقال: ربما يكون هذا الشرط المقصود به كذا والله أعلم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (في آخر الزمان يكلم الرجل سوطه) قد يقصد به هذه الأجهزة التي أصبحت الآن مع الشُرَطِ ورجال الأمن وغيرهم، فهذه الأجهزة هي أشبه بالسوط، فأجهزة الاتصال يكون فيها الكلام، وقد يقال مثلاً: في أن الرجل في آخر الزمان يكلمه فخذه أو يكلم فخذه، قد يقصد بذلك أجهزة الجوال ونحوه؛ لأن الجوال إذا وضع في الجيب يكون موازياً للفخذ كثيراً، ومع ذلك كل هذا ظن لا نجزم به. وهكذا فالاحتمالات ترد إذا كانت قريبة، أما إذا كانت بعيدة فيكون الكلام فيها إثماً، وإذا جزم الإنسان بتفسير هذه العلامات دون دليل يكون ذلك من باب القول على الله بغير علم، فليحذر المسلم من أن يتكلم ما لم تكن هناك قرينة، وبشرط ألا يجزم. وعلى هذا فإن من أنكر أشراط الساعة، أو شيئاً منها مما ثبت في الكتاب والسنة يكون واقعاً في الكفر.

أنواع أشراط الساعة

أنواع أشراط الساعة أشراط الساعة على نوعين: الصغرى، الكبرى. أما الصغرى فهي المقدمات التي حدثت أو لا تزال تحدث منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر الزمان، وهي غير الكبرى التي يكون فيها أمر عظيم هائل، سواء كان خرقاً للسنن الكونية، أو أحداثاً كبرى عظيمة.

أشراط الساعة الكبرى

أشراط الساعة الكبرى أما الأشراط الكبرى للساعة فهي التي ورد ذكرها قبل قليل في حديث مسلم وغيره. وقد حصرها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث بعشر، هذه هي الكبرى، وسميت كبرى؛ لأنها إما خوارق للسنن الكونية، وإما أنها تتمثل بأحداث عظيمة هائلة، وتتمثل هذه العلامات الكبرى بما يلي: أولاً: خروج الدجال، وهذا على سبيل الترتيب التقريبي. ثانياً: نزول عيسى عليه السلام. ثالثاً: خروج يأجوج ومأجوج. رابعاً: الخسوف الثلاثة، مع أن الخسوف الثلاثة محتملة أن تحدث بين الأحداث السابقة أو قبلها، لكن هذا الظاهر من خلال عموم النصوص، والخسوف الثلاثة تعتبر ثلاث علامات. خامساً: الدخان، على اعتبار أنه لم يحدث إلى الآن، ربما يكون بعد خروج الدجال ونزول عيسى، مع أن هناك من السلف من قال بأن الدخان حدث في عهد الصحابة، أو في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو في عهد الخلفاء الراشدين. سادساً: طلوع الشمس من مغربها. سابعاً: خروج الدابة. ثامناً: خروج النار من اليمن، أو من قعر عدن، كما ورد في بعض النصوص. هذه الآيات العشر هي الآيات الكبرى، وترتيبها هنا ترتيب تقريبي.

أشراط الساعة الصغرى

أشراط الساعة الصغرى أما العلامات الصغرى فهي كثيرة، منها ما حدث جزماً، ومنها ما يحتمل أن يكون قد حدث ويحتمل ألا يكون قد حدث، ومنها الراجح أنه لم يحدث. ويمكن أن نسرد عدداً من الأحداث الصغرى: أولاً: مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقد حدث، وهذا قد يعد من الأحداث الكبرى أيضاً، كما ذكر بعض أهل العلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن العلامات الكبرى عشر، وعدّ منها مبعثه، وعلى هذا فالراجح أن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر من الآيات الكبرى؛ لأن مبعثه قلب موازين الدنيا، فمبعث النبي صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون من الكبرى أو من الصغرى. ثانياً: موت النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: فتح بيت المقدس، وهذا قد حدث أيضاً. رابعاً: الموت الذي يأخذ الناس كقعاص الغنم، قيل: إنه طاعون عمواس وأيضاً ما حدث بعده، وبعضهم يقول: لا لأن هذا يدخل في الأحداث التي تقارن العلامات الكبرى؛ لحديث عوف بن مالك عند البخاري قال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة -وذكر فيه-: ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم) فالمسألة فيها خلاف، هل هذه من الأمور التي حدثت أو لم تحدث بعد؟ الله أعلم. خامساً: استفاضة المال والاستغناء عن الصدقة، وهذا حدث في عهد عمر بن عبد العزيز والله أعلم. سادساً: ظهور الفتن التي جاءت في حديث الملاحم والفتن، وهي كثيرة يصعب تعدادها هنا. سابعاً: ظهور نار في الحجاز، وقد ظهرت قرب المدينة سنة (654هـ) هذه ظهرت ورآها الناس، ووقع فيها مصداق قول النبي صلى الله عليه وسلم، وهي الآن في شرق الحرة الشرقية شرق المدينة، وآثار هذه النار موجود إلى الآن على شكل أحجار بركانية، جنوب مطار المدينة. ثامناً: استتباب الأمن بين مكة والعراق، حتى يأمن الإنسان على نفسه من كل شيء، قد حدث هذا في مراحل كثيرة من التاريخ، منها في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين، وفي عهود متفرقة، في عهد الدولة السعودية القائمة وفقها الله لكل خير، فإن الأمن مستتب منذ أن وحد الملك عبد العزيز رحمه الله هذه البلاد، ولا يزال الأمن مستتباً بحمد الله، نسأل الله أن يستمر هذا الاستتباب للأمن، وأن يوفقنا ويوفق الولاة لشكر نعمة الله عز وجل، والثبات على دينه. تاسعاً: قتال العجم، وقد حدثت هذه الأشياء كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم. عاشراً: ضياع الأمانة، وإسناد الأمر إلى غير أهله، وهذا حدث ولا يزال يحدث. الحادي عشر: رفع العلم، وفشو الجهل، والمقصود برفع العلم قلة الفقه في الدين، وقلة العلماء المقتدى بهم؛ لأن العلم لم يرتفع بالكلية، وهذا مما يدل على أن المقصود برفع العلم رفع الفقه في الدين والعلم النافع، العلم بشرع الله عز وجل الذي ينتج عنه العمل. الثاني عشر: فشو الزنا، واستحلال الربا، وكثرة الفواحش، ونرى أن في شيوع وسائل الإعلان ما يدل على وقوع مثل هذا بين المسلمين، وسائل الإعلام المفسدة كالدشوش وغيرها. الثالث عشر: ظهور المعازف والأغاني واستحلالها. الرابع عشر: شرب الخمر، وتسمية الخمر بغير اسمه، وتسمية الربا بغير اسمه. الخامس عشر: التباهي بعمارة المساجد وزخرفتها. السادس عشر: تطاول الأعراب في البنيان، وهذه أمور كلها حدثت، وأن تلد الأمة ربتها. السابع عشر: كثرة الهرج والقتل. الثامن عشر: تقارب الزمان، والله أعلم بتقارب الزمان ربما يكون سرعة سير الأيام والساعات والدقائق، وهذا شعور مشترك بين كثير من الناس الآن، تجد الناس إذا تحدثوا في هذا الأمر يتفقون على الشعور بسرعة ذهاب الأيام؛ ولذلك تجد أن بعض كبار السن الذين مروا بفترة قبل توافر وسائل الحياة الحديثة، يقولون: نشعر أن اليوم في ذلك الوقت الذي هو 24ساعة كالأسبوع في هذا الزمن، واسألوا أي أحد من كبار السن الذين تأملوا هذه المسألة، فربما يكون هذا -والله أعلم- راجعاً إلى شعور الناس، أو إلى أمر لا نعلمه، وقد يكون المقصود انتزاع البركة، أو يجتمع الأمران. التاسع عشر: تقارب الأسواق، وقد حدث هذا، حتى اشتبكت أسواق العالم الآن، يستطيع الآن أي تاجر أن يعقد صفقة بأسرع وقت من أقصى الدنيا، ويتسوق وهو في بلده من أي بلاد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، وهذا حاصل الآن، وربما يكون تقارباً مكانياً أو تقارب الوسائل. العشرون: أن تعبد قبائل من هذه الأمة الأوثان، وهذا حدث عند غلاة المتصوفة وعند الرافضة وغيرهم، بل حدث حتى عند بعض قبائل العرب في بعض مراحل الزمان، ففي بداية دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ذكرت بعض كتب التاريخ: أن بعض جيوش الدعوة وجدت عند ذي الخلصة من يعبدون الأصنام هناك، هنا في جنوب المملكة، وهذا ورد فيه نص مستقل أن الخلصة تعبد في الإسلام كما عُبدت في الجاهلية. الحادي والعشرون: فشو التجارة ومشاركة النساء مع الرجال فيها، وهذا قد حدث. الثاني والعشرون: كثرة الزلازل وهذا أيضاً بدأ يظهر في السنين الأخيرة. الثالث والعشرون: كثرة المسخ والخسف في هذه الأمة،

الأسئلة

الأسئلة

القول بأن فتح القسطنطينية سيتكرر مرة أخرى في آخر الزمان

القول بأن فتح القسطنطينية سيتكرر مرة أخرى في آخر الزمان Q ذكر بعض أهل العلم كالشيخ أحمد التويجري رحمه الله في (إتحاف الجماعة): أن فتح القسطنطينية لم يحصل بفتح محمد الفاتح، وإنما هذا الفتح يكون في آخر الزمان، ودلل على ذلك، فما رأيكم في هذا؟ A احتمال أن يكون هناك فتح غير الفتح السابق، والله أعلم.

الرد على الشائعات حول ظهور الدابة أو بعض أوصافها

الرد على الشائعات حول ظهور الدابة أو بعض أوصافها Q قبل وقت قريب تكاثر الكلام حول الدابة، وأنها ستخرج من الصفا، وأن الصفا قد انشقت لها فما قولكم في هذا الكلام؟ A ما قيل من رؤية شعرها، هذا كلام من الشائعات التي لا أصل لها.

شرح العقيدة الطحاوية [103]

شرح العقيدة الطحاوية [103] ذكر أهل العلم أن أصول الدجل ترجع إلى أربعة أمور وهي: دعوى النبوة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء بأنهم دجالون، وهم أعظم الدجالين ذنباً، ثم يأتي بعدهم السحرة، ويدخل تحتهم أصحاب المؤثرات المعنوية إضافة إلى ما يعرف عنهم من تأثير حسي، ثم الكهنة الذين يدعون علم الغيبيات، ثم المنجمون، ويدخل تحت هذا الخط على الرمل، والضرب بالحصى، وقراءة الفنجان والكف، وغيرها من أعمال التنجيم.

كذب الكاهن والعراف

كذب الكاهن والعراف قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ولا نصدق كاهناً ولا عرّافاً، ولا من يدّعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة). روى مسلم والإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد). والمنجم يدخل في اسم العرّاف عند بعض العلماء، وعند بعضهم هو في معناه، فإذا كانت هذه حال السائل فكيف بالمسئول؟ وفي الصحيحين ومسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: (سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسٌ عن الكهان؟ فقال: ليسوا بشيء، فقالوا: يا رسول الله إنهم يحدّثون أحياناً بالشيء فيكون حقاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة). وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثمن الكلب خبيث، ومهر البغي خبيث، وحلوان الكاهن خبيث). وحلوانه: الذي تسميه العامة حلاوته. ويدخل في هذا المعنى ما يعطاه المنجم وصاحب الأزلام التي يستقسم بها، مثل: الخشبة المكتوب عليها أ، ب، ج، د، والضارب بالحصى، والذي يخط في الرمل، وما يعطاه هؤلاء حرام، وقد حكى الإجماع على تحريمه غير واحد من العلماء، كـ البغوي، والقاضي عياض وغيرهما. وفي الصحيحين عن زيد بن خالد قال: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فقال: أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب). وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد عن أبي مالك الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالأنواء، والنياحة). والنصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر الأئمة بالنهي عن ذلك، أكثر من أن يتسع هذا الموضع لذكرها. وصناعة التنجيم التي مضمونها الإحكام والتأثير، وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، أو التمزيج بين القوى الفلكية والغوائل الأرضية، صناعة محرمة بالكتاب والسنة، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين، قال تعالى: {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]. وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره: الجبت السحر. وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان لـ أبي بكر غلام يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء، فأكل منه أبو بكر، فقال له الغلام: تدري مم هذا؟ قال: وما هو؟ قال: كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية وما أُحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه. والواجب على ولي الأمر، وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين، وأصحاب الضرب بالرمل والحصى، والقرع والفالات، ومنعهم من الجلوس في الحوانيت أو الطرقات، أو أن يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك، ويكفي من يعلم تحريم ذلك، ولا يسعى في إزالته مع قدرته على ذلك، قوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79]، وهؤلاء الملاعين يقولون الإثم، ويأكلون السحت بإجماع المسلمين، وثبت في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية الصديق رضي الله عنه عنه، أنه قال: (إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه). وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسنة أنواع: نوع منهم: أهل تلبيس وكذب وخداع، الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له، أو يدعي الحال من أهل المحال، من المشايخ النصابين، والفقراء الكاذبين، والطرقية المكارين، فهؤلاء يستحقون العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس، وقد يكون في هؤلاء من يستحق القتل، كمن يدّعي النبوة بمثل هذه الخزعبلات، أو يطلب تغيير شيء من الشريعة ونحو ذلك. ونوع يتكلم في هـ

أصول الدجل والتنجيم والكهانة

أصول الدجل والتنجيم والكهانة يحسن الوقوف عند بعض الأمور مما سبق، أولاً: فيما يتعلق بأصول الدجل، وهنا الشارح رحمه الله عرض صوراً من صور الدجل والتنجيم والكهانة، وبعضها قد يشبه بعضاً، وبعضها مرادف للبعض الآخر، لكن عند الاستقراء نجد أن أصول الدجل التي ذكرها أهل العلم، ومنها ما ذكر الشارح هنا ترجع إلى أربعة أمور: الأمر الأول: دعاوى النبوة، وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء بأنهم دجالون، فأعظم الدجالين ذنباً وأكذبهم وأخطرهم وأشدهم هم الذين يدّعون النبوة، وهؤلاء يجب قتلهم بكل حال، ليس فيهم خلاف، من ادعى النبوة وهو عاقل سوي، ثم أصر على دعواه يجب قتله. الأمر الثاني: السحر، والسحر أنماط وأصناف وأنواع، ويدخل في السحر أحياناً المؤثرات المعنوية، ليس السحر فقط هو الأمور المادية، بل المؤثرات المعنوية تدخل في معنى السحر لغة وشرعاً. الأمر الثالث: الكهانة، والكهانة تعتمد على دعاوى الغيب. الأمر الرابع: التنجيم. وهذه الأمور قد تتداخل أحياناً، قد يكون المنجم ساحراً، وقد يكون المنجم كاهناً، وقد يكون الكاهن ساحراً والساحر كاهناً، لكن ومع ذلك فإن هذه الأصول إذا انفرد أحدها صار نوعاً من الدجل، وإذا اجتمعت فهي دجل مغلّظ مركب، وعلى هذا فإن الأمور التي ذكرها الشارح هي صور من صور هذه الأصناف الأربعة، فمثلاً: ذكر هنا العرّاف، العرّاف يدخل في مفهوم الكهانة، ويدخل في مفهوم التنجيم، ويدخل أحياناً في مفهوم السحر؛ لأن الساحر أحياناً يكون عرّافاً، بل المنجم يستعمل العرافة، والعرّاف أيضاً يستعين بالسحر وبالتنجيم، وسيأتي تعريف العرّاف بعد قليل، وكذلك أصحاب الأزلام، وذكر الشارح نموذجاً من صور من فعل الأزلام، التي من ضمنها وضع أشياء وكتابة حروف عليها، وربط الأفعال والتصرفات بهذه الحروف والرموز أو الألوان، كأن يلون الإناء أو الخشبة بألوان ثلاثة أو أربعة، ويقول: إن خرج عليك اللون الأخضر فامض إلى فعلك، وإذا خرج عليك الأحمر فلا تمض، أو إذا خرج عليك حرف كذا فامض، وإذا ما خرج الحرف الفلاني فاترك، أو إذا خرج عليك صورة طير أحمر فامض، وإذا ظهر عليك صورة طير أسود فلا تمض إلى آخره، كل هذه الصور تعتبر من الاستقسام بالأزلام، أو ما يستعمله أهل الجاهلية من وضع الأقداح، فإذا خرج منها نوع معين أو لون معين أو شكل معين أو طفحت أو غرقت إلى آخره، كل هذه صور من صور الاستقسام بالأزلام. وكذلك الضرب بالحصى، واعتبار أن نوع الضرب أو صوت الضرب أو لمس الحصاة إلى آخره يختلف من دجال إلى دجال؛ لأن كثيراً من الدجاجلة يحرص على أن يعمل خلاف ما يعمله غيره؛ ليتميز بشيء، ويرجع كل ذلك إلى نوع واحد. والخط في الرمل، وهو الخط بخطوط متعرجة ومستقيمة أو نحو ذلك، فهذا يكثر ولا يزال يمارس في التمويه على الناس والعامة. وكذلك من صور هذه الأفعال: التنجيم، التنجيم على صور كثيرة: من اعتقاد أن النجوم لها تأثير في الأرض، أو في مقاليد الأرض، أو في الأقدار، أو أن المطالع في الجملة لها تأثير في حياة الناس وفي أفعالهم وتصرفاتهم وأعمارهم وشقاوتهم وسعادتهم إلى آخره، أو أن النجوم لها تأثير في مضي الناس أو عدم مضيهم في الأعمال والأقوال وغيره إلى آخره! والتنجيم أيضاً له صور كثيرة تبدأ من عبادة النجوم، وتنتهي باعتقاد التأثير في النجوم، وبين هذه الصور صور كثيرة. وكذلك من الصور التي ذكرها الشيخ: القرع الذي هو ضرب شيء بشيء أو نحو ذلك، والفالات التي تسمى في بعض البلاد الحظ، ويمارس فيها الدجل علناً في الشوارع، والآن الحظ والفالات والطوالع صارت تنتشر في بعض وسائل الإعلام، في بعض الجرائد اللبنانية والمصرية وغيرها، ويضعون الآن للمنجمين صفحات تحت عناوين برّاقة وجذّابة، وهي تقوم على الفالات والحظ، ويتوارد السائلون على هؤلاء الدجالين والمنجمين في سؤالهم عن حقوقهم، وعن مقاديرهم، وعما يفعلونه أو يتركون إلى آخره، فيفتونهم بهذه الأساليب الشيطانية، ويقول: أنت صاحب حظ سعيد! أو الوقت الفلاني مشئوم فلا تذهب ولا تسافر فيه على النجم الفلاني! وأنت في الوقت الفلاني يجب أن تفعل كذا أو لا تمضي أو تمضي إلى آخره، هذا الدجل الموجود في السابق أصبح الآن يسمى بأسماء براقة خداعة، وكله يدخل في مجالات الفالات والحظ. وهؤلاء أيضاً لا يزال كثير منهم في البلاد الأخرى الإسلامية يجلسون في الحوانيت والطرقات، ويمتحنون الناس في دينهم. ومن هذا: دعاوى الصوفية، وهم من يدّعي الحال من أهل المحال، هذا يرجع إلى دعاوى السحرة، ودعاوى الفلاسفة، ودعاوى الصوفية، قال: (من المشائخ النصّابين، والفقراء الكذّابين، والطرقية المكّارين، فهؤلاء كلهم من أصناف أهل التصوف. فمشايخ الطرق الصوفية وأحوالها وأورادها وأشكالها يخربون عقائد الناس بالله، ويرتزقون باسم الدين. كذلك المدعون العبادة والتمسك يسمون الفقراء، وهو اسم من أسماء الصوفية والطرقية كذلك، كل هذه صور من صور الدجل ذكرها الشيخ. كذلك الطلاسم، وهي كل ما كان غامضاً بذاته، أو علق بأمر غامض، كتعليق الأمور بالرموز، وتع

حقيقة الكهانة والتنجيم والسحر وأنواعه

حقيقة الكهانة والتنجيم والسحر وأنواعه الكهانة: هي تعاطي الأمور الغيبية، وممارسة الأشياء الغامضة البسيطة، وادعاء كشف الأسرار، وادعاء القدرة على خرق العادات، ولهذا يدخل السحر في الكهانة، وبعض صور التنجيم تدخل في الكهانة أيضاً. أما السحر فالمقصود به ما خفي ولطف سببه، وعلى هذا فالسحر أكثره طلاسم. والسحر عمل غامض يبهر الناس، وغالباً يكون بمعونة الشياطين، سواء شياطين الإنس أو شياطين الجن. وقيل: إن السحر هو أعمال دقيقة تؤثر في القلوب والأبدان، تتم بعزائم ورقى وحركات شيطانية، وهذا وصف من أوصافه، وإلا فالسحر: هو كل ما خفي ولطف سببه، سواء كان هذا الأمر مما ليس له تفسير شرعي، أو مما ليس له تفسير مادي وعقلي. وما لم تستوعبه العقول، أو يفسره العلم، ولم يقر به الشرع، فهو سحر، وما أثر في مقادير الخلق وأحوالهم من الأمور التي ليس لها أصل شرعي، وليست معقولة عند العقلاء، فهي سحر، ولذلك الآن يدخل في السحر صور كثيرة مما يمارسه الدجالون الآن. والسحر كما هو معروف نوعان، ومن عرف هذين النوعين خرج مما وقع فيه كثير من الناس من الخلاف في السحر، فالسحر منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو خيالي، وأكثر الخيال يرجع إلى حقائق، وأكثر الحقائق ترجع إلى خيالات أيضاً. فمن هنا السحر نوعان: سحر حقيقي، وهو أن يعمل الساحر أشياء مادية ظاهرة التأثير بينة، وتكون بينه وبين أعوانه من الشياطين، فالساحر يربط أحوال الناس الذين يؤثر فيهم بفعل الشياطين بأمور غامضة، يقوم بعمل أمور مادية أو وضع نجاسات أو غيرها، ويجعلها بمثابة العقد بينه وبين الشيطان، وأنه ما دامت هذه الأشياء موجودة محفوظة في مكان معين أو على نمط معين، فإنها هي الرابط بين الشيطان وبين الساحر للتأثير في الآدمي. وهذا التأثير يرجع إلى أمر حقيقي، ولذلك كثير من الناس إذا وفق إلى معرفة مكان السحر وإتلافه بإذن الله يشفى؛ لأنه هو العقد بين الشيطان وبين هذا الساحر، أو بين الشياطين وبين هذا الساحر. فهذا النوع أيضاً يعتبر نمطاً من أنماط السحر، ولذلك ينبغي لمن أصيب له قريب -لا قدر الله- بسحر أن يحاول أن يتعرف على مكان السحر، ولو عن طريق ما تنطق به الجن إذا ما قصد ذلك، إنما جاءه من باب استعمال الرقية. فإذا أخبر الجن بمكان سحر، فإن كانوا صادقين فهذا خير ونعمة وكرامة للعبد أن يشفى بسبب هذا الخبر، لكن لا ينبغي أن يتعلق القارئ بالاستعانة بالجن، فيكون هذا من باب الاستدراج والابتلاء، لكن إذا جاءه الأمر بدون اختياره أو قصده وتعمده فهذا لا حرج فيه؛ فقد وقع منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا. فالسحر الحقيقي كثير، وأكثر ما يؤثر في العباد من قبل هؤلاء الأشرار قاتلهم الله، هو السحر الحقيقي الذي يؤثر تأثيراً حقيقياً، سواء أثر في أمر مادي جسماني، أو في أمر معنوي نفسي، فكل هذا يرجع إلى أصل واحد وهو السحر الحقيقي. أما السحر التخييلي فهو ما يكون تأثيره تأثيراً نفسياً أو نحو ذلك، أو يكون باستعمال الشياطين مباشرة، بحيث تؤثر على تفكير الإنسان وتسيطر عليه، وهذا قد يكون بتأثير مباشر من الجني أو الشيطان. وهذا السحر توجد منه نماذج، وهو نوع من الجنون والمس، سواء عُلِم أو لم يُعلم، وأحياناً يجتمع الأمران: السحر الحقيقي، والسحر التخييلي. أما التنجيم فهو ادعاء تأثير النجوم في مقادير الخلق، أو مقادير الكون، أو بعضها. والكهانة أيضاً لها أصناف: العيافة كهانة، والطرق كهانة، والعرافة كهانة، وأحياناً التنجيم والسحر يكونان من الكهانة.

ذكر بعض الصور الداخلة في التنجيم والسحر والكهانة

ذكر بعض الصور الداخلة في التنجيم والسحر والكهانة هناك بعض الصور تدخل في التنجيم والسحر والكهانة، وبعض الناس قد لا يرى هذه الصور من السحر والكهانة والعرافة والدجل. فمثلاً: من صور الدجل ما ذكره الشيخ في الشرح ولا نعيده، لكن من الصور أيضاً ما يسمى بصب الرصاص، هذا موجود إلى وقت قريب، وربما يوجد الآن في بعض البلاد يفتن به العامة، يزعمون أن بعض الناس ممن يعالج بالأدوية الشعبية أنه من الوسائل التي يتعرف بها على العائن، أو على الساحر، فيقوم الكاهن أو المشعوذ بصب الرصاص في إناء، ويجعله قريباً من المريض على شكل معين، ويدعي أن صورة العائن أو صورة الساحر تظهر في الرصاص الموجود في الإناء. ولا شك أن إظهار صورة الساحر أو العائن في الرصاص يكون عن طريق الجن، وقد يكون حقيقة، لكن بواسطة مخلوق غيبي، فمن هنا وقع المحظور، بعض الناس يقول: هذا ليس فيه شيء، نقول: لا؛ لأنك استعملت وسائل غير مشروعة لإخراج أو إظهار الأمور الغيبية، فهذه الكهانة بعينها، فتفسيرها بالتفسيرات الموهمة أو المضللة لا يعني أنها حلال، وفي هذه الأيام كثير من العوام يعتقد أن صب الرصاص لا شيء فيه، يعني: تجد الواحد منهم يرى أن الذهاب إلى كاهن معلن بالكهانة أو ساحر معلن بالسحر حرام وكفر، لكن يستبيح الذهاب إلى الذي يصب الرصاص، وهو دجال من الدجاجلة، وما هو إلا كاهن، والكهانة من السحر. كذلك من الصور: استعمال الرقى والعزائم غير الشرعية. هذا نوع من الدجل؛ لأن فيها يتم استخدام الجن عمداً، لكن كما قلت إذا خدم الجن الإنسان دون أن يتعمد فهذا من فضل الله عز وجل، بشرط ألا يكون هذا عادة، لأنه ربما يكون هذا من باب الابتلاء والاستدراج، لكن أن يتعمد الإنسان استخدام الجن فهذا نوع من الاستعانة بالجن من ناحية، وهو حرام، ونوع من سيطرة الجن على الإنس، وهذا هو الاستمتاع المنهي عنه ما بين الإنس والجن، وذلك بأن يفيدك الجني بمكان السحر، أو يفيدك بمعرفة العائن أو الساحر، أو بأي نوع من أنواع الإفادة، فإذا وصل الأمر إلى حد إدمان الاستعانة بالجن، والاستمتاع بمواهبهم وقدراتهم في عقد أو عهد أو وعد، فإن هذا ممنوع. أما ما حدث من السلف ولا يزال يحدث من كثير من الصالحين أن الجن يعينون الإنسان بدون ما يكون بينه وبينهم عقد ولا عهد فهذا أمر كما قلت أحياناً يكون من باب الكرامة، وقد يكون من باب الابتلاء، فلذلك إذا كثر عند القارئ أو الراقي الاستعانة بالجن أو معاونة الجن له وتعلقهم به، فهذا نوع من الاستخدام غير المشروع، فليتنبه. ومن أتى عرافاً فإنه لا بد أن يصلي ويؤمر بالصلاة، لأنه أولاً ممن يجب أن يشرع بالتوبة فيتوب، فإذا تاب تاب الله عليه. الأمر الثاني: من أحاديث الوعيد: (من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة) فهذا من أحاديث الوعيد لا يعني ضرورة تحققها؛ لأن الله عز وجل قد يغفر له، وقد يوفق لصلاته فيتوب، وأيضاً ربما يبقى له أصل سقوط الفرض عنه وبقاء الإسلام ولو لم تقبل الصلاة، فإن الصلاة قد لا تقبل، لكن يسقط بها الفرض ويكون مسلماً، فما دام على الإسلام نلزمه بالصلاة، فينبغي ألا نسقط إقامة الصلاة عليه ولو لم تقبل منه، فرق بين القبول وبين مجرد إقامة الصلاة، وكذلك قد يبقى له أصل الإسلام وإن لم تقبل منه الصلاة. كذلك من الصور: بعض الناس عنده نوع من الهسترة، أو ما يسمونهم بعقلاء المجانين أو مجانين العقلاء، هناك فئة من الناس يكون عندها نوع من الاضطراب النفسي أو العقلي، هذا النوع يكون فيه جني، فيطلع الناس ويخبرهم بما لم يدركوه، وهذا حدث. فأنا أعرف بعض المجانين أو أشباه المجانين، أحياناً تأتيه حالة يخبرك عن شيء بينك وبينه عدة كيلو مترات، فيكون حقيقة، فينبغي للناس ألا يستفزوه لمثل هذه الأمور، ولا يستفيدوا منه أو يستنطقوه؛ لأن هذا نوع من استخدام الجن، فهو ممسوس أو عنده خلل في عقله، فلا يجوز للناس أن يستفيدوا من هذه الخصلة فيه في اكتشاف الغائب؛ لأنه نوع من الدجل، بعض الناس يتلهى بهذا ويتلذذ. وأنا أعرف طالب علم تعرف على نوع من هذا الفئة، فوجد عنده بعض الأخبار، ففتن به، فهو دائماً يبحث عنه ويبدأ يستشيره وكأنه من النوع الموهوب، لكن عنده اضطراب، فإذا استشاره بدأ هذا الممسوس يهذي بأمور، ويخبر بأشياء هي عن طريق الجن، بل صار هذا الطالب يدمن استشارة هذا الممسوس، حتى إنه كشف من خلاله أشياء كثيرة. فينبغي لمثل هذا أن يخوف بالله عز وجل، ويوضح له أنه نوع من أنواع الدجل، سواء كانت بعض الأخبار مفيدة؛ لأن الجني يعلم ما لا يعلمه الإنسي، وقد تحجب عن الإنس أشياء لا تحجب عن الجن، فلا تعتبر هذا كرامة لك، أو أنه من الأمور المباحة أو الجائزة، بل العكس، فهذا من أبواب الفتنة التي تحدث عند بعض الناس، وهو نوع من الدجل. أيضاً من أنواع الدجل والسحر ما يسمى بالزار هذا يوجد عند بعض الجهلة، الذين يكونون غالباً من أصحاب اللهو والعبث والرقص والأغاني وغيرها، فهؤلاء في الغالب تستحوذ عليهم الشياطين، وبعضهم يكون بينه وبين الشياطين عقود لدفع ضر أو جلب نفع أو نحو ذلك، فهذه

الأسئلة

الأسئلة

حكم التشاؤم بأشياء معينة كطير ونحوه

حكم التشاؤم بأشياء معينة كطير ونحوه Q ما حكم التشاؤم بأشياء معينة كطير أو شخص أو غير ذلك؟ A لا شك أن التشاؤم بأشياء معينة لا يجوز؛ لأن التشاؤم بها مبني على الدجل أصلاً، فالتشاؤم من رقم، أو من شخص، أو من صفر، أو من طير أو نحو ذلك يدخل في العرافة، ويدخل في الدجل.

حكم وضع علامة أو ورقة على هيئة معينة للمضي في العمل أو تركه

حكم وضع علامة أو ورقة على هيئة معينة للمضي في العمل أو تركه Q ما حكم من استخار في أمر متردد فيه فلم يهتد إلى طريقة، ووضع ورقة أو علامة على كيفية معينة، فإذا جاءت على الكيفية التي فيها المضي في ذلك العمل مضى وإلا فلا؟ A هذا نوع من الطيرة والعرافة ولا يجوز؛ لأن الأصل في هذا أن الإنسان يستخير ربه، إذا كان متردداً بين أمرين أو في أمر، يستخير ويكرر الاستخارة، ويستشير، فإذا عزم فليتوكل على الله، كأن يكون له مريض فيقول: علاجه يكون باستعمال هذه الطريقة، ثم يقول: لا يكون علاجه بهذه الطريقة، فيقول: والله أنا ترددت، وربما استخرت واستشرت، فأنا الآن سأضع ورقة أو علامة، وهذه العلامة دليل على المضي على العمل أو عدمه، نقول: لا، هذا ما يجوز؛ لأنه علق قدره بما لا يجوز شرعاً، فعليه أن يرتب أمره على المشروع، وإن شاء الله سيهديه الله عز وجل، إذا صدق مع ربه.

حكم القرعة

حكم القرعة Q هل تدخل القرعة في الدجل والعرافة؟ A لا، القرعة حق؛ لأن القرعة تكون في الحقوق بين الناس، وفي المنازعة بين طرفين، القرعة ما تدخل في الدجل.

أنواع السحر وحكم أصحاب كل نوع منها

أنواع السحر وحكم أصحاب كل نوع منها Q ما هي أنواع السحر؟ وحكم أصحاب كل نوع منها؟ A المشهور عند أهل العلم أن السحر على نوعين: هناك سحرة يكون سحرهم بالشركيات، سواءً عملوا هم الشركيات وهو الغالب، أو أمروا به، أصحاب هذا النوع من السحر يقتلون، والأصل في عملهم الردة. النوع الثاني من السحر: استعمال ما دون الشركيات، كالتخرص والتخبطات والعرافة والدجل، الذي هو استعمال ألغاز، مع العلم أنها لا تنفع ولا تضر، فهذا نوع من الارتزاق بالدجل أو بالعرافة ونحوهما لكن دون الدخول في الشركيات، فهذا النوع إذا كان عمله أدى إلى الإضرار بالآخرين والفساد في الأرض، وصار الناس يستعينون به من دون الله عز وجل، فإذا عم فساده يقتل، وإن لم يكن مرتداً، أما إذا ما عم فساده فيكون عمله كبيرة، ويجب ردعه بالروادع التي دون القتل. إذاً: النوع الأول: يقتل بحال، إذا عمل الشرك وأمر بالشرك. النوع الثاني: إن كان عمله مؤدياً إلى فساد في الأرض، والفساد في الأرض معناه: أن يفتن الناس به، ويعلقون مقاديرهم بأقواله، فيقتل لهذا السبب. أما إذا كان فساده لم يعم، أو كان ضرره قليلاً، فهذا يجب أن يردع بالروادع والتعزيرات ما دون القتل، والله أعلم.

حكم الخروج على الولاة الظلمة عملا بخروج بعض السلف عليهم

حكم الخروج على الولاة الظلمة عملاً بخروج بعض السلف عليهم Q كيف نرد على من يعتقد الخروج على الولاة الظلمة، مستدلاً بخروج أصحاب الحرة، وعبد الله بن الزبير، والقراء في فتنة ابن الأشعث؟ ويقول: أليس هؤلاء من السلف، فلماذا لا نقتدي بهم؟ A ينبغي أن تحكم مثل هذه المسائل بمنهج السلف، لا بمجرد الكلام التفصيلي، هل هؤلاء مخطئون أو غير مخطئين؟ أولاً: لا يعد السلف كل ما حدث في عهدهم مشروعاً. ثانياً: لا يعدون كل ما حدث من أفراد السلف وبعض جماعاتهم مشروعاً؛ لأنه قد يحدث من بعض أفراد السلف أو بعض جماعاتهم الذين هم دون الجماعة الكبرى، قد يحدث منهم زلة عن اجتهاد أو تأول. ثالثاً: أنه قد يخفى على بعض المنتسبين للسلف من العلماء ومن العامة ومن القراء وغيرهم، قد يخفى عليهم أصل، فيعملون بخلافه وهم لا يدرون، أو يتأولون ذلك الأصل. ثم إن هذه الحوادث التي حدثت، وقد سميت: حادثة الحرة، وفتنة ابن الأشعث، أما قصة عبد الله بن الزبير فتختلف عن القصتين. لكن مثل حادثة الحرة، وفتنة ابن الأشعث حدثت عن اجتهاد من بعض المنتسبين للعلم، وحدث فيها كلام وبعدها، فقبلها حدث أن تكلم الناس في الخروج على يزيد، أو في الخروج على عبد الملك، فكان أن قرر أهل العلم الكبار أمثال الحسن البصري وغيره بأن هذا لا يجوز، فتأول آخرون وقالوا: يجوز، لكنهم خالفوا من هم أكبر وأعلم. ففي فتنة الحرة نعرف أن كبار الصحابة الموجودين منهم نهوا عن الخروج، حتى لما رأوا عزم أولئك على الخروج خرجوا من المدينة؛ لأنهم عرفوا أنها ستكون فتنة، والذين قاموا بفتنة الحرة شباب ليس معهم شيوخ إلا واحد أو اثنان، وهؤلاء الشباب أخذتهم الغيرة والعاطفة، ولم يسمعوا للكبار الراشدين الفقهاء، لكن كانوا مجتهدين، وأمرهم إلى الله عز وجل، لكن كان عملهم خطأ. كذلك فتنة ابن الأشعث حدث فيها خلاف كبير بين أهل العلم، فالعلماء الذين هم مرجع الأمة مثل: الحسن وغيره رفضوا الخروج بل أمروا الناس بأن يكفوا حتى عن جهاد هذا الظالم الجبار العاتي وهو الحجاج، وقالوا: ما هو إلا ذنب من ذنوبكم، فاستغفروا الله وتوبوا إليه، واعملوا ما تستطيعون، ولا يسعكم الخروج؛ لأن الخروج فتنته أعظم. وفعلاً حصل ما قاله الحسن بحذافيره، لا لأنه يعلم الغيب، ولكنه يعلم لماذا نهى الشرع عن الخروج؛ لأن الخروج يؤدي فتنة عظمى، فلما خرج أولئك على الحجاج كانت الجولة للحجاج، فكان أن نكل بهم، ونكل بأقاربهم وبالأبرياء من النساء والرجال والأطفال، فهذا دليل على أن هؤلاء أخطئوا وتأولوا، ثم بعد انتهاء الفتنة، سواء فتنة الحرة أو فتنة ابن الأشعث -كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - نظر السلف في عموم النصوص في قواعد الشرع فأجمعوا على أن الخروج لا يجوز، وأن ما حدث كان زلة من هؤلاء، لكن لا يقتدى بهم فيها؛ ولذلك سموه فتنة، وسموه خروجاً. فعلى هذا لا ينبغي الاستدلال بمثل هذه الأمور، بل ينبغي الاستدلال بقول السلف فيها، أنا لا أعرف أحداً من السلف الذين يقتدى بهم في الدين، المعتد بقولهم، الذين هم مصدر أخذ الدين ومناهجه، اعتبروا فتنة ابن الأشعث حجة، ولا اعتبروا فتنة الحرة حجة، بل العكس اعتبروها زلة. فإذاً: لم يستدلُ هذا المسكين بأدلة هي خلاف استدلال السلف؟ اعتبرها السلف من الزلات، ولا يزالون يضربون بها المثل على أنها من الغلطات التي وقعت فيها طائفة من المؤمنين. فهل يريد هذا أن تكرر الأمة الغلطات؟ ارجعوا إلى أقوال السلف، ليس الكلام كلامي، لكن ارجعوا إلى أقوال المحققين ممن محصوا هذه الأمور. أما عبد الله بن الزبير رضي الله عنه فقد ظهر في فترة كانت الخلافة شبه مضيعة، لما بويع بعد يزيد بن معاوية ابنه حصل نوع من الانفلات، وما تولى الخلافة بشكل حقيقي، ثم توفي بعد أيام، ثم بقيت الأمة بلا إمام ولا خلافة، فـ ابن الزبير دعا ودعي له بالبيعة، فبويع له بالحجاز، ووصلت ولايته إلى العراق، ثم في هذه الأثناء استعاد بنو أمية الخلافة، واجتمعت الأمة حولهم، وصار اضطراب عن اجتهاد من الفريقين، ما نستطيع أن نخطئ هذا ولا نخطئ هذا، فـ ابن الزبير ما خرج ولا حث على يزيد بن معاوية، رغم أنه اشتهر بالظلم؛ لأنه صحابي ويعرف أحكام الخروج. إذاً: الاحتجاج بمثل هذه الأمور غير صحيح، ومن وقعت عنده هذه الشبهة ينبغي أن يرجع إلى قول المحققين والأئمة، ولا يرجع إلى فتاوى شاذة؛ لأنه سيجد من الفقهاء من يفتي بمثل هذه الأمور، لكن العبرة بجمهور السلف، وإلا العالم يزل والمجموعة من العلماء يزلون، قد تزل جماعة من المؤمنين وطائفة من المسلمين، فالأخيار يزلون. ففتنة الحرة، وفتنة ابن الأشعث هي زلات يغفر الله لمن وقع فيهما، ولا نقول في دي

عدم دخول الجن كل مسحور

عدم دخول الجن كل مسحور Q هل من لازم الإنسان المسحور أن يكون هناك جني قد دخل فيه؟ A لا، لا يلزم، لكن هذا ينطبق على نوعي السحر الحقيقي، فالسحر الحقيقي قد يصاحبه الجني، وقد لا يصاحبه جني، ولا يلزم من كل سحر أن يصاحبه جني، لكن قد يكون هذا هو الغالب؛ لأن الجن يقومون بالدور الذي يريده الساحر في الغالب، لكن ليس هذا بلازم. أما المؤثرات المعنوية فتدخل في السحر التخييلي، مثل: أن يشعر الإنسان بشيء غير حقيقي، يشعر أنه فعل شيئاً وما فعله، ويشعر أنه يرى شيئاً وهو في الحقيقة لم ير شيئاً، فهذه تسمى مؤثرات معنوية، وقد يكون عنده نوع من الوسواس، والوسواس تأثيره معنوي. وقد يكون السحر عضوياً من الناحية الطبية، في مخ الإنسان أو جسمه، لكن هذا ما ندركه، هو بالنسبة لنا معنوي.

حكم فك السحر بالسحر للضرورة ووجه نسبة جواز ذلك للإمام أحمد

حكم فك السحر بالسحر للضرورة ووجه نسبة جواز ذلك للإمام أحمد Q ما صحة ما يروى أن الإمام أحمد أجاز النشرة بالسحر للضرورة؟ A لا أدري، لكن يجب أن يفرق الناس في فك السحر بالسحر بين مسألة استباحة فك السحر بالسحر، وبين مسألة الضرورة، الضرورة أمر آخر لا خلاف فيها، لكن لم يقل عالم بأن الضرورة تبيح الشرك، أو الوقوع في الشركيات، لكن هناك أنواع من أنواع فك السحر هي أنواع مادية، أو تكون عن طريق الاستعانة بآخرين، يمكن أن يفتي بها بعض أهل العلم من باب الضرورة، بعد استنفاذ الوسائل الشرعية، وبشرط ألا يكون فيها ارتكاب لشركيات، ولا ضرر بآخرين، ولا غير ذلك، فالنشرة على المعنى الممنوع، كأن يفك السحر بالسحر من نفسه، هذا يعتمد على الجن، وهو شرك، لكن فك السحر بوسائل أخرى غير السحر جائزة. وهناك من الناس من خلط بين إجازة بعض العلماء بعض الوسائل لفك السحر للضرورة، وبين النشرة التي هي فك السحر بسحر، وهي حرام.

حكم سؤال المنجمين وغيرهم عن مكان السحر

حكم سؤال المنجمين وغيرهم عن مكان السحر Q سؤال المنجمين عن مكان السحر، هل فيه محذور؟ A ليس فيه محذور، إذا عرض لك الجني بأي سبب من الأسباب فلا مانع أن تسأله، إذا كان الأمر متعلقاً بمصلحة آخر، أو بدفع ضرر عنه، فلا حرج في ذلك.

شرح العقيدة الطحاوية [104]

شرح العقيدة الطحاوية [104] لقد ذم الله عز وجل في كتابه الكريم الكافرين على استعاذتهم بالجن، وقد ظهر في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يتعلق بالجن من الصوفية، ويسمونهم رجال الغيب، فيخاطبونهم ويستعينون ويلجئون إليهم، ويخاطبون المجاذيب ممن فيهم مس أو جنون، حتى صار بعضهم يعتبرون ما يسند إلى رجال الغيب ديناً لابد من قبوله وتصديقه، وحتى ابتلي بعضهم بالاستعانة بالجن في الإضرار بالمسلمين، ومعاونة المنافقين والكافرين.

تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه

تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه، والأكثرون يقولون: إنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيء ظاهر إليه، وزعم بعضهم أنه مجرد تخييل]. هذه المسألة سبق الإشارة إليها، وذكرنا أن السحر منه ما هو تخييلي، ومنه ما هو حقيقي، يؤثر تأثيراً مادياً محسوساً، ومنه ما يجمع بين الأمرين وهو الغالب، أغلب أنواع السحر يكون تخييلياً مبنياً على أشياء مادية يضعها الساحر، وأحياناً يكون مجرد تخييل، لكنه سحر، وأحياناً يكون مادياً بحتاً، بمعنى أنه مادة منظورة مشهودة مؤثرة، تحس بالحواس. إذاً: فالتنازع في الحقيقة لا محل له هنا، وكما ذكر جمهور أهل السنة على أن السحر ينقسم إلى نوعين: منه ما هو تخييلي، ومنه ما هو حقيقي، والتخييلي أحياناً ينبني على الحقيقي، وكذلك العكس. قال رحمه الله تعالى: [واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس دعوة الكواكب السبعة أو غيرها، أو خطابها، أو السجود لها، والتقرب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتم والبخور ونحو ذلك؛ فإنه كفر، وهو من أعظم أبواب الشرك، فيجب غلقه، بل سده، وهو من جنس فعل قوم إبراهيم عليه السلام، ولهذا حكى الله عنه بقوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات:88 - 89]. وقال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام:76] الآيات، إلى قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82]. واتفقوا كلهم أيضاً على أن كل رقية وتعزيم، أو قَسَم فيه شرك بالله، فإنه لا يجوز التكلم به، وإن أطاعته به الجن أو غيرهم، وكذلك كل كلام فيه كفر لا يجوز التكلم به، وكذلك الكلام الذي لا يعرف معناه لا يتكلم به، لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً)]. مسألة الرقية موضوعها موضوع مستقل؛ لكن نظراً لأن المؤلف أشار إلى مسألة الرقية، وهي من الأمور التي يتحدث فيها الناس كثيراً الآن، ويكثر فيها اللغط، ويكثر فيها الكلام إلى حد شوش على عامة المسلمين. نقول: الأصل في الرقية الجواز، والأصل في الرقية أنها تجوز بكل مباح من الألفاظ والعبارات الصحيحة السليمة، وأفضل الرقية الرقية بكتاب الله عز وجل، وأيضاً بألفاظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم رب الناس، أذهب البأس، اشف أنت الشافي، اللهم لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً) ونحو هذا من العبارات التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم بعد ذلك يجوز الرقية بأي لفظ صحيح يكون فيه الدعاء لله عز وجل، ولا يكون فيه شرك ولا غموض، ولذلك عندما كان بعض الصحابة يرقون برقىً كانوا يرقون بها في الجاهلية قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعرضوا علي رقاكم) فأعطاهم قاعدة فيها وقال: (لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً). وهناك نصوص قد تدل على تخصيص الرقية بأشياء معينة أو بأمراض معينة، كتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم الرقية مثلاً بالعين والحمى، كما ورد في أكثر من لفظ، فهذا لا يعني أن غيرهما لا يجوز الرقية فيه، لكن هذا محمول على أن أفضل الرقى وأبلغها تأثيراً في هذين الأمرين، أو أنه من باب الخبر؛ للتأكيد على أن أبلغ أنواع الرقية هو هذا النوع، وإلا فما دام قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن العام، فتخصيص الرقية بشيء معين لا بد أن يحمل على معنىً آخر؛ لئلا يؤدي هذا إلى نقض الأحاديث، وهذا لا يمكن أن يكون. فإذاً: الأصل في الرقية الجواز إذا كانت بالقرآن أو بالسنة، أو بأدعية صحيحة مشروعة، وبألفاظ بينة ذات معنى مقر شرعاً، وليس فيها ألغاز ولا طلاسم ولا إسرار، بعض الناس يسر بالرقية؛ ليوهم الحاضرين بأن عنده أشياء ليست عندهم، فهذا نوع من الدجل، ومن مكائد الشيطان على الإنسان، فيبقى جنس الرقية جائز ما دامت بالضوابط الشرعية، وما ينضاف إلى الرقية من أمور فيحكم على الرقية من خلاله، بحسب ما يرد من الناس من زيادات وإشكالات؛ لأن من مداخل الشيطان على الناس أن أغلب الرقاة يضيفون على الرقية أشياء تأتيهم أحياناً بدون ما يشعرون، من خلال عبث الجن بهم، كحركات وصور وأشكال وأنماط من المؤثرات ونحو ذلك مما تنضاف إلى الرقية، وهذا من الباطل الذي ينبغي نفيه. أما الأمور الشرعية المعلومة التي ليس فيها لبس، سواء من الأعمال أو الألفاظ فلا حرج أن تكون من الرقى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما منع من الرقية ما كان شركاً فقط، وما كان سحراً ونحو ذلك.

حكم الاستعاذة والاستعانة بالجن

حكم الاستعاذة والاستعانة بالجن قال رحمه الله تعالى: [ولا يجوز الاستعاذة بالجن، فقد ذم الله الكافرين على ذلك، فقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] قالوا: كان الإنسي إذا نزل بالوادي يقول: أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح. (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) يعني: الإنس للجن، باستعاذتهم بهم. (رَهَقًا) أي: إثماً وطغياناً وجراءة وشراً، وذلك أنهم قالوا: قد سدنا الجن والإنس، فالجن تعاظم في أنفسها، وتزداد كفراً إذا عاملتها الإنس بهذه المعاملة، وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:40 - 41]. فهؤلاء الذين يزعمون أنهم يدعون الملائكة ويخاطبونهم بهذه العزائم، وأنها تنزل عليهم، ضالون، وإنما تنزل عليهم الشياطين، وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:128]. فاستمتاع الإنسي بالجني: في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات ونحو ذلك. واستمتاع الجن بالإنس: تعظيمه إياه، واستعانته به، واستغاثته وخضوعه له]. هذا مما يؤكد ما سبق الإشارة إليه في درس سابق: من أن ما يقع فيه كثير من الرقاة والقراء من الاستعانة بالجن ممنوع شرعاً، وأنه من الأمور التي ينبغي الحذر منها، والتوقف عنها، وذكرت أقوال أهل العلم، ومما ذكروا: أنه إذا كان انتفاع الإنسي بالجني يأتي من باب الكرامة، التي لم يقصدها الإنسي ولم يتقصدها، ولم يكن بعهد وعقد، فهذا لا حرج فيه، وربما يكون ذلك من إكرام الله للعبد، أو من باب الفتنة، فليحذر الإنسان، وليشكر الله على ما سيق له من نعمة، وأن يوقن أن ذلك من الله عز وجل وليس من الخلق، ولكن إذا زاد الأمر إلى حد الإدمان لهذه المسألة، وكثرة الاستعانة بالجن، وكثرة المخاطبة لهم، وأخذ العهود والمواعيد منهم، بأن يأتوا عند الحاجة، ويكون هذا مصاحباً للرقية دائماً لبعض الناس الذين فيهم مس، فهذا هو الممنوع؛ لأنه الاستمتاع الذي نهى الله عنه، فينبغي التنبه لهذه المسألة؛ لأنها كثرت عند القراء، وأصبحت محل إشكالات وعلقت الناس بالجن، والواجب أن يتعلق الناس بالله عز وجل، ثم بالاعتماد على الرقى الشرعية، والأدوية المباحة ونحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [ونوع منهم يتكلم بالأحوال الشيطانية، والكشوف ومخاطبة رجال الغيب، وأن لهم خوارق تقتضي أنهم أولياء الله، وكان من هؤلاء من يعين المشركين على المسلمين، ويقول: إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين؛ لكون المسلمين قد عصوا!! وهؤلاء في الحقيقة إخوان المشركين]. هذا من أساليب الصوفية، فكثير من الصوفية الطرقية يقع في مسألة التعلق بالجن، ويسمونهم: رجال الغيب، سواء مخاطبتهم أو الاستعانة بهم وكثرة اللجوء إليهم، أو مخاطبة الأشخاص الذين فيهم مس وجنون، ويسمونهم: مجاذيب ونحوهم ممن فيهم نوع من الجنون غير الظاهر، فهؤلاء فيهم نوع مس، قد يدخل من خلاله بعض المتصوفة، فيستفيدون منهم. والمهم أن رجال الغيب المقصود بهم الجن الذين يستعين بهم أصحاب الطرق، ويزعمون أنهم يوجهونهم حتى في الأمور الشرعية، ولذلك كثيراً ما يستند زنادقة الصوفية، خاصة الذين يدخلون في التصوف، يستندون فيما يعملونه وما يقولونه من الباطل على أن هذا بإيحاء من هؤلاء الذين هم رجال الغيب، وعموم شيوخ الطرق الصوفية -وأغلبهم من الكذبة الدجالين- يقطعون بأن ما يسنده الشيخ إلى رجال الغيب هذا أمر لا بد أن يقال ويصدق ولا يناقش، وربوا أتباعهم الدهماء على ذلك. وهذا من الابتلاء الذي يقع فيه هؤلاء، ولذلك وقع -كما ذكر الشارح- أن بعضهم يستعين بالجن في ضرر المسلمين، وأحياناً يعاون المشركين والمنافقين، ومنهم من تعاون مع التتار، ومنهم من تعاون مع الصليبيين، ومنهم من تعاون مع الباطنية ضد المسلمين، بدعوى أنه موجه من قبل رجال الغيب، وأن هذا توجيه رباني. وأحياناً يتصور لهم الشيطان بصور أولياء وملائكة وصور أنبياء ونحو ذلك، وأحياناً هذه الأمور قد تلتبس على كثير من الناس، فأحياناً يزعم الشيطان أنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: أن من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقد رآه حقيقة؛ لأن الشيطان لا يتمثل به، لكن ما يراه هؤلاء من الدجالين وأصحاب المخارق وغلاة الصوفية ليس هو الرسول صلى الله علي

أصناف الناس في اعتقاد وجود الجن وبيان وجه الحق في ذلك

أصناف الناس في اعتقاد وجود الجن وبيان وجه الحق في ذلك قال رحمه الله تعالى: [والناس من أهل العلم فيهم على ثلاثة أحزاب: حزب يكذبون بوجود رجال الغيب، ولكن قد عاينهم الناس، وثبت عمن عاينهم أو حدثه الثقات بما رأوه، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم. وحزب عرفوهم ورجعوا إلى القدر، واعتقدوا أن ثم في الباطن طريقاً إلى الله غير طريقة الأنبياء. وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول، فقالوا: يكون الرسول هو ممداً للطائفتين، فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه. ]. كل هذه الآراء باطلة، ليس فيها رأي يمثل الحق ولا أهل الحق، وإنما هي آراء موزعة بين الصوفية والفرق والأهواء والباطنية والفلاسفة وغيرهم. أما قوله: (والناس من أهل العلم فيهم) يعني: الذين يدعون العلم من هؤلاء الضالين. قال رحمه الله تعالى: [والحق أن هؤلاء من أتباع الشياطين، وأن رجال الغيب هم الجن، ويسمون رجالاً، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] وإلا فالإنس يؤنسون، أي: يشهدون ويرون، وإنما يحتجب الإنسي أحياناً لا يكون دائماً محتجباً عن أبصار الإنس، ومن ظن أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله، وسبب الضلال فيهم وافتراق هذه الأحزاب الثلاثة، عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن. ويقول بعض الناس: الفقراء يسلم إليهم حالهم]. الفقراء هنا هم النساك والعباد والجهلة من الصوفية ومن سلك سبيلهم، ومن أسماء الصوفية أهل البدع الفقراء، وقد ينطبق أحياناً هذا الوصف على بعض العبّاد أهل الاستقامة، لكن تسميتهم بفقراء غير صحيح، كما أن تسميتهم بالصوفية والنساك غير صحيح، قد يسمون عباداً؛ لأن العبادة من الأمور المشروعة لله عز وجل، لكن تسميتهم نساكاً، وتسميتهم صوفية، وتسميتهم فقراء متفكرة دراويش كل ذلك من التسميات البدعية، والغالب أنها تنطبق على أهل الجهل والبدع فيهم. ويقولون عمن يسمون بالفقراء: قد يسلم إليهم حالهم، وأنهم ما يعملون إلا خيراً، وأن كل تصرفاتهم لا بد أن تفسر بتفسير يؤدي إلى إعذارهم فيها؛ ولذلك يظن كثير من المريدين والمغترين بالصوفية أن هذا الصنف لا يعمل إلا خيراً، وإن ظهر منه ما هو شر فإنه يفسر بتفسيرات أخرى لها معان باطنية، ومصطلح الفقراء جعل المنظرين للصوفية وكتاب المقالات والمترجمين لرجالات الصوفية جعلهم يفسرون ما يحدث من بعض الزنادقة الصوفية وغيرهم من معاص بتفسيرات باطنية، جعلوا جرائمهم ومعاصيهم حتى المغلظة على أنها كرامات لأنهم يقولون: يسلم إليهم حالهم. فيقولون بأن الله عز وجل يدفعهم لهذه الأمور من غير شعور، أو فتنة للناس، لكن هم حالهم على الاستقامة، حتى تجد منهم من لا يصلي الفرائض أبداً، بل لا يصلي إطلاقاً، ثم يزعمون أن روحه تذهب إلى البيت الحرام وتصلي هناك، وقد يجلس يتناول بعض الشهوات أمام المصلين ويقولون: هذا روحه في الكعبة، وقد يتناول الخمر، وقد يفجر، ويقولون: هذا من كراماته، ويدعون له بالرحمة، كما يفعل الشعراني. فهذا مبني على قولهم: الفقراء يسلم إليهم حالهم. ثم تطورت المسألة إلى أن جعلوا كبار رجالهم يسلم إليهم حالهم بإطلاق، وأن ما يكون منهم إلا خير، حتى الجرائم والشرك والفساد في الأرض يفسرونه بأنه خير. قال رحمه الله تعالى: [ويقول بعض الناس: الفقراء يسلم إليهم حالهم. وهذا كلام باطل، بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية، فما وافقها قبل، وما خالفها رد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وفي رواية: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ر). فلا طريقة إلا طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا حقيقة إلا حقيقته، ولا شريعة إلا شريعته، ولا عقيدة إلا عقيدته، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطناً وظاهراً. ومن لم يكن له مصدقاً فيما أخبر، ملتزماً لطاعته فيما أمر، في الأمور الباطنة التي في القلوب، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان؛ لم يكن مؤمناً، فضلاً عن أن يكون ولياً لله تعالى، ولو طار في الهواء، ومشى على الماء، وأنفق من الغيب، وأخرج الذهب من الجيب، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل، فإنه لا يكون مع تركه الفعل المأمور وعمل المحظور، إلا من أهل الأحوال الشيطانية المبعدة لصاحبها عن الله تعالى، المقربة إلى سخطه وعذابه، لكن من ليس يكلف من الأطفال والمجانين، قد رفع عنهم القلم، فلا يعاقبون، وليس لهم من الإيمان بالله وتقواه باطناً وظاهراً ما يكونون به من أولياء الله المقربين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، لكن يدخلون في الإسلام تبعاً لآبائهم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]]

اعتقاد الولاية في بعض البله بدعة وضلال

اعتقاد الولاية في بعض البله بدعة وضلال قال رحمه الله تعالى: [فمن اعتقد في بعض البله أو المولعين -مع تركه لمتابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله- أنه من أولياء الله، ويفضله على متبعي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو ضال مبتدع مخطئ في اعتقاده، فإن ذاك الأبله إما أن يكون شيطاناً زنديقاً، أو زكارياً متحيلاً، أو مجنوناً معذوراً، فكيف يفضل على من هو من أولياء الله المتبعين لرسوله أو يساوى به؟!. ولا يقال: يمكن أن يكون هذا متبعاً في الباطن، وإن كان تاركاً للاتباع في الظاهر، فإن هذا خطأ أيضاً، بل الواجب متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً. قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي: قلت للشافعي: إن صاحبنا الليث كان يقول: إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تعتبروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة، فقال الشافعي: قصر الليث رحمه الله، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء، فلا تعتبروا به، حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة. وأما ما يقوله بعض الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اطلعت على الجنة فرأيت أكثر أهلها البله) فهذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي نسبته إليه، فإن الجنة إنما خلقت لأولي الألباب، الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وقد ذكر الله أهل الجنة بأوصافهم في كتابه، فلم يذكر في أوصافهم البله الذي هو ضعف العقل وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقرا) ولم يقل: البله. والطائفة الملامية، وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه، ويقولون: نحن متبعون في الباطن، ويقصدون إخفاء المرائين، ردوا باطلهم بباطل آخر، والصراط المستقيم بين ذلك]. موقف الملامية يحدث من عدة أصناف من الناس، منهم طائفة من المتصوفة، فهؤلاء بنوا فكرهم هذا على منهج خاطئ، أصله جهلهم في الدين، فترى الواحد منهم يكون له عبادة وتنسك واستقامة وصلاح، لكنه يتعمد أحياناً بأن يفعل ما يذم عليه؛ خوفاً من التزكية، أو خوفاً من الوقوع في الرياء، وهذا من عبث الشيطان بهم. كذلك يذهب الواحد منهم إلى مكان غير لائق، ويقول كلمة فيها إثم، أو ينظر نظرة معصية، ويشهد الناس على هذا؛ من أجل أن يظهر لهم أنه لا يزكي نفسه، وهذا اجتمع فيه الجهل والرياء المركب وعبث الشيطان، واجتمع فيه أيضاً البدعة، هذا الفعل بدعة إذا اعتقده ودان به. لكن هناك صنف آخر قد يكون من غير الصوفية، لكنه يعتقد هذا الاعتقاد، وهم بعض أصحاب الوساوس، بعض الناس عنده وسواس، هذا الوسواس يدفعه إلى أن يترك بعض السنن وبعض الواجبات أحياناً؛ خوفاً من أن يقول الناس: إنه مراءٍ، أو يفعل بعض ما يلام عليه، ويظهر في بعض المظاهر غير اللائقة أحياناً، كأنه يريد أن يؤدب نفسه؛ لئلا تقع في الرياء. وهذا كثير من الناس في كل زمان، وإن لم يكن من أصحاب الطريقة الأولى الذين يتعبدون بذلك عن جهل، فينبغي التنبه لمثل هذه الأمور. والفرق بين الرياء وبين التصنع واضح، التصنع: هو أن الإنسان لا يترك النافلة والسنة إلا إذا غلب على ظنه أنه لن يقهر هواه ونفسه في إظهار الرياء، فمن هنا قد يترك أحياناً، لكن ما تكون عادة له، قد يترك بعض الأعمال الظاهرة أحياناً إذا وجد نفسه تغلبه في المراءاة، أو وجد أنه يحتاج إلى أن يدافع نفسه دفاعاً شديداً، هذا قد يحدث لبعض الناس في بعض المواقف، فإذا حدث هذا مرة لا حرج، لكن أن يكون عادة ثم يكون مدخلاً للوسواس على الإنسان، فينبغي أن يترك، وليكن طبيعياً في أموره كلها، فيما يعمله من الواجبات والسنن، أو فيما يتركه من المحظورات. أما إخفاء الأعمال المبني على تورع أو على طلب الأجر من الله عز وجل، فهذا لا حرج فيه، مثل: إخفاء الصدقة، لكن الأصل في الأعمال الظهور، مثل: الفرائض الخمس، وشعائر الحج، والذكر، والتكبير المشروع فيه رفع الصوت، كذلك التكبير في مواسم التكبير، كعشر ذي الحجة، وفي الأعياد وغيرها، ومثل: السنن الرواتب وغيرها، وإقامتها في المسجد أصلح لبعض الناس، لأنك إذا ذهبت إلى البيت ربما نسيت أو انشغلت، والبيت مليء بالمشاغل والمزعجات وهكذا، أما إذا كان الأمر طبيعياً فلا حرج أن تصلى النوافل في البيت، لكن هناك أعمال ليس الأصل فيها الظهور، مثل: الصدقات وغيرها فلا حرج في إخفائها، بل ربما يكون أولى له أن يخفيها؛ لأن هذا أبلغ في الإخلاص. فإذاً: مسألة إخفاء العمل راجعة إلى طبيعة العمل، فإذا كان الأصل الظهور فينبغي أن يظهره الإنسان، وإن أخفاه أحياناً بشرط ألا يكون هذا دائماً فلا حرج.

تبديع من يصعق عند سماع الأنغام الحسنة

تبديع من يصعق عند سماع الأنغام الحسنة قال رحمه الله تعالى: [وكذلك الذين يصعقون عند سماع الأنغام الحسنة، مبتدعون ضالون، وليس للإنسان أن يستدعي ما يكون سبب زوال عقله، ولم يكن في الصحابة والتابعين من يفعل ذلك، ولو عند سماع القرآن، بل كانوا كما وصفهم الله تعالى: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]. وكما قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23]. وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين، فأولئك كان فيهم خير، ثم زالت عقولهم. ومن علامة هؤلاء: أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصحو، تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم، بخلاف غيرهم ممن يتكلم إذا حصل لهم نوع إفاقة بالكفر والشرك، ويهذون بذلك في حال زوال عقلهم]. يشير الشيخ إلى مسألة ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية كثيراً، ورددها في كلامه على أحوال الصوفية والعباد، وهي من المسائل التي تحتاج إلى تأمل، وهي أن هناك ممن يدعون التصوف أو يدعون التعبد، فمنهم من يحدث عنده أحياناً نوع مما نسميه الهستيريا، أو نوع من الجنون، فهو يفقد عقله أحياناً، أو يكون عنده نوع من الهذيان في بعض الأمور، وإذا زالت هذه الحال صار مستقيماً على السنة. وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية من هؤلاء: البسطامي، وابن أبي الحواري، والتستري ونحوهم، وهؤلاء لهم شطحات كبرى، بعضها شركية وبعضها كفرية وبعضها فيها ضلال، لكن شيخ الإسلام كان يعذر هؤلاء، والدليل على هذا أنهم إذا كانوا في حالة الصحو أتوا بكلام جميل في الاعتصام والالتزام بالكتاب والسنة، والدفاع عن العقيدة، وكراهة البدعة، والرد عليها، وفعلاً هؤلاء وأمثالهم لهم درر في الرد على أهل الأهواء، وعندهم حكم في تقرير الدين وتقرير السنة، حكم تكتب بماء الذهب، ومع ذلك لهم نوبات جنونية، يتكلم الواحد منهم بكلمات مقتضاها الكفر والضلال، أو شيء من المذاهب والملل والنحل الموجودة عند غير المسلمين. لكن يبقى في أمثال هؤلاء إشكال، وهذا الإشكال يحتاج إلى تأمل، وهو أنهم حينما يتلفظون ببعض الألفاظ غير اللائقة، نجدها أنها ألفاظ راجعة إلى أصول ومناهج مقننة عند الفلاسفة والباطنية، فمن أين أتتهم؟ ربما الشياطين تتكلم على ألسنتهم، وهذا مما يعذرون به، لكن في هذه الحالات تجدهم يقررون أصولاً باطلة موجودة في المجوس، وفي الصابئة، وفي متعبدة النصارى، وموجودة في الديانات الهندية، أصولاً فلسفية بدعية تتعلق بالعقائد والسلوك والتصوف والعبادات، وهذه الأصول البدعية التي خرجت من أفواه هؤلاء صارت فيما بعد هي أصول المتصوفة المنحرفة، وهي أصول الباطنية، وهي أصول الفلاسفة. فقوله: بأن هؤلاء يعذرون، قد يعذرون من جانب، لكن ما يتلفظون به لا بد أن يقرر بأنه باطل، ولا بد أن تؤخذ من أحوالهم العبرة؛ لأن تزكيتهم قد يفهم منها التزكية المطلقة، بل قد يتتبع الناس أقوالهم حتى في حال الهذيان والهسترة، وهذا ينبغي تأمله، وحبذا لو يتصدى له بعض طلاب العلم؛ لأن هذيان هؤلاء لا يزال هو المرتكزات للمتصوفة التي اعتمدوا عليها في نشر باطلهم، وفي تقرير أصول البدع، وزعموا أن هؤلاء من المرضيين عند السلف، ويستدلون بكلام شيخ الإسلام وغيره، وأن السلف زكوهم. فنقول: التزكية مشروطة ومضبوطة بضوابط الشرع وليست مطلقة، والله أعلم. أما كلامهم الجيد فلا بأس بسياقه، وقد ساقه كثير من الأئمة، حتى الإمام أحمد في كتاب (الزهد) ساق شيئاً من كلامهم الطيب والجيد الذي ينمي في الناس الإيمان والعمل الصالح، وينمي في الناس العقيدة السليمة والدفاع عنها؛ لأن هؤلاء مع وجود الشطحات فيهم حال الاضطراب، إلا أنهم حال صحوهم لهم كلام من الحكم أعجب به السلف، وجعلوه أحياناً من مناهجهم وأصولهم. أما كلامهم حال الاضطراب وحال الفترات الجنونية، فإنه يعتبر من أصول البدع، مثل قول رابعة: لا أعبدك رجاء جنتك، ولا خوفاً من نارك. هذا كلام خطير، فالرجاء والخوف أصل من أصول العبادة الضرورية، وهي كأنها تقول: لا أعبد الله إلا بالمحبة. وهذا حقيقته كفر، لكن ما مقصدها؟ الله أعلم بذلك. كذلك ابن أبي الحواري، والحكيم الترمذي، والتستري، والبسطامي كل هؤلاء أثر عنهم مثل هذه الأمور، لكن السلف رووا آثارهم التي في نصر العقيدة وفي الزهد وفي العبادة التي لها فائدة، رووها واعتمدوها وجعلوها من الأمور الت

الأسئلة

الأسئلة

حكم التوسل بالصالحين الأحياء فيما يقدرون عليه

حكم التوسل بالصالحين الأحياء فيما يقدرون عليه Q سمعنا وقرأنا بأن الوسيلة إلى الله عز وجل تجوز بأسمائه وصفاته والعمل الصالح وبعض الصالحين الأحياء، كما ورد في حديث عمر عندما استسقى بـ العباس، ولكني سمعت بأن الوسيلة بالصالحين فيها خلاف، فمنهم من جوز ذلك، ومنهم من رد هذا الأمر فهل هذا صحيح؟ A الوسيلة بالصالحين بمعنى طلب الدعاء منهم يجوز، لكنه ليس بإطلاقه، بمعنى: أن الإكثار منه أحياناً يؤدي إلى ضعف التوكل، وضعف الاعتماد على الله عز وجل، والاتكال على العباد. أما أن يكون أحياناً وبمناسبة، ولمن اشتهر صلاحه، كأن تطلب منه أن يدعو لك، فهذا جائز عند جمهور السلف، لكن من السلف من منعه مطلقاً، واعتبر قصة عمر بن الخطاب ضعيفة، أو ربما لم تبلغه، ومع ذلك يبقى الراجح أنه يجوز أن يطلب المسلم من الرجل الصالح أن يدعو له، لكن لا يكثر من هذا في كل مناسبة، إنما إذا كان لهذا الأمر موجب، كأن يكون في حال اضطرار، أو وجود كربة، وهذا الرجل يكون في مكان فاضل، أو في زمان فاضل، أو سيشرع في عمل فاضل، فيطلب الدعاء من الصالح، بشرط ألا يعتمد عليه بمعنى أن يتكل ولا يدعو هو ربه، فهذا من التوسل الجائز. وهذه ليست من صور التوسل التي يفهم منها الناس المعنى الشرعي التعبدي، إنما التوسل: هو طلب الدعاء من الغير، فعلى هذا رأي أكثر السلف على أنه جائز بشروطه.

الفرق بين المكره على الكفر وبين من يكفر خوفا

الفرق بين المكره على الكفر وبين من يكفر خوفاً Q ما الفرق بين المكره على الكفر وبين من يكفر خوفاً؟ A الخوف نوع من الإكراه، لا فرق، الخوف إذا كان له مقتضى طبيعي فهو نوع من الإكراه، بل ربما يكون الإكراه نوعاً من الخوف أيضاً، فالإكراه بابه واسع، قد يكون الإكراه أحياناً غير منظور، لكن في أمر من الأمور يشعر الإنسان به شعوراً حقيقياً. فالمهم أنه لا فرق بين المكره على الكفر وبين الخائف؛ لأن الخائف مكره، لكن هل جميع صور الخوف يصدق على صاحبها أنه مكره؟ ما أدري، لأنه قد يكون الخوف أحياناً توهماً، وقد يكون وسواساً، وقد يكون هلعاً من الهلع الذي يصيب بعض الناس، وقد يكون ضعف إيمان، وقد يكون حقيقياً، هذه مسألة راجعة إلى نوع الخوف الذي يرد، وممن خاف؟ ولماذا خاف؟.

حكم القول برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم يقظة جهارا

حكم القول برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم يقظةً جهاراً Q ما حكم القول برؤية الرسول صلى الله عليه وسلم جهاراً؟ A لا يصح، ولا يجوز الدعوى، فهذه من البدع المغلظة، وربما تكون كفراً، من ادعى أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم عياناً فلا يصدق في ذلك، ولكن قد يراه في رؤيا؛ لأن الرؤيا المنامية وردت في الحديث، وأنها حق، وإن كان في بعض الأحاديث وردت مطلقة، لكن جمهور أهل العلم حملوها على رؤيا المنام على الأحاديث الأخرى. والحديث إذا كان مجملاً ثم جاء ما يفسره أو يقيده أو يبينه، فلا بد أن يحمل على المبين والمفسر، والأحاديث التي وردت في أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم حق، بدون ما يشير إلى معنى الرؤيا، محمولة على أحاديث كثيرة وواضحة تدل على رؤيا المنام، ولأن دعوى الرؤية العينية إذا فتحت للناس أدت إلى فتن عظيمة في الدين. وعلى أي حال! لا يصح أن أحداً من الناس يرى الرسول صلى الله عليه وسلم بعينه.

وجه دخول التطير في السحر

وجه دخول التطير في السحر Q كيف يدخل التطير في السحر؟ A السحر بمعناه الواسع: هو كلما يؤثر تأثيراً خفياً على الإنسان، تأثيراً غير مباشر، تأثيراً غير شرعي ولا طبيعي، فإذا كان المؤثر غير طبيعي ولا شرعي فهو نوع من السحر بمعناه العام، لكن السحر بمعناه الأخص: هو التأثير عبر أمور محسوسة، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً أو تصرفات، أو أموراً مادية يتم العقد فيها بين الساحر والشيطان، فالتطير نوع من السحر بمعناه العام اللغوي لا بمعناه الخاص، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الطحاوية [105]

شرح العقيدة الطحاوية [105] مما ابتلي به المتصوفة منذ القدم ما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة من الهذيان، والتكلم بعبارات وألفاظ غير معروفة، وما يقدم عليه بعضهم من الاشتغال بالرياضات والخلوات، ويتركون في مقابلها الجمع والجماعات، وهؤلاء إنما هم ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

أثر سماع الأنغام المطربة على الصوفية وحكم ذلك

أثر سماع الأنغام المطربة على الصوفية وحكم ذلك قال المصنف رحمه الله تعالى: [وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة من الهذيان، والتكلم ببعض اللغات المخالفة للسان المعروف منه، فذلك شيطان يتكلم على لسانه كما يتكلم على لسان المصروع، وذلك كله من الأحوال الشيطانية، وكيف يكون زوال العقل سبباً أو شرطاً أو تقرباً إلى ولاية الله، كما يظنه كثير من أهل الضلال؟! حتى قال قائلهم: هم معشر حلوا النظام وخرقوا الـ سياج فلا فرض لديهم ولا نفل مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل وهذا كلامُ ضالٍ، بل كافر، يظن أن للجنون سراً يسجد العقل على بابه، لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة، أو تصرف عجيب خارق للعادة، ويكون ذلك بسبب ما اقترن به من الشياطين، كما يكون للسحرة والكهان، فيظن هذا الضال أن كل من كاشف أو خرق عادة كان ولياً لله. ومن اعتقد هذا فهو كافر، فقد قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء:221 - 222] فكل من تنزل عليه الشياطين لا بد أن يكون عنده كذب وفجور]. في هذا إشارة إلى أن أكثر الذين يتعلق بهم الصوفية من الأشخاص، الذين عندهم شيء من التخرص، تكون مخاريقهم عن طريق الشياطين، وعن طريق الجن، سواء كان الجن فسقة وفجاراً وهو الغالب، أو حتى بعض الصالحين من الجن يستهويهم تعلق الإنسان بهم؛ لأن الجن بطبعه أضعف من الإنسي ويهابه، لا كما يظن كثير من الناس أن الجني له سلطة، وأنه أقوى إرادة من الإنسان، لا، بل العكس، الصحيح أن الإنسان أقوى على الجني إذا اعتمد على الله عز وجل، والجني بطبعه أضعف من الإنسي، فإذا وجد من الإنس نوع انجذاب إليه فرح بذلك واستهواه. ولذلك يحدث من بعض المقصرين من صالحي الجن الاستحواذ على صالحي الإنس، فيخدمونهم ويقدمون لهم شيئاً مما يطلبون منهم، ولذلك يقع الجن في الكذب؛ من أجل استدراج الإنس، ومن أجل أن يبقوا متعلقين بهم، فلذلك ينبغي التنبه، خاصة من الرقاة والقراء الذين يقرءون على الممسوسين، ينبغي أن يتنبهوا لهذه المسألة، وهو أن بعض صالحي الجن يكذب، بل ربما يضطر للكذب؛ لأن الموقف بالنسبة له حرج، والإنسي لا يقدر هذا الموقف، فالجني لشدة ضعفه قد يضطر للكذب وإن كان صالحاً. أما فجرة الجن والشياطين فمن باب أولى أن يكون عبثهم بالإنس مما يصل إلى حد دعاوى تكبر عند الإنس، وتجعلهم يظنون أن هذا الإنسي الممسوس إنما يتلقى عن الله عز وجل، أو يتلقى بإلهام مباشر، أو برؤى أو كرامات، كل ذلك من عبث الشياطين.

حكم المتعبدين بالرياضات والخلوات وترك الجمع والجماعات

حكم المتعبدين بالرياضات والخلوات وترك الجمع والجماعات قال رحمه الله تعالى: [وأما الذين يتعبدون بالرياضات والخلوات، ويتركون الجمع والجماعات، فهم من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، قد طبع الله على قلوبهم. كما قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ترك ثلاث جمع تهاوناً من غير عذر طبع الله على قلبه). وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، إن كان عالماً بها فهو مغضوب عليه، وإلا فهو ضال، ولهذا شرع الله لنا أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، غير المغضوب عليهم ولا الضالين. وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليه السلام في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني، الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق، فهو ملحد زنديق. فإن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر، ولم يكن الخضر مأموراً بمتابعته، ولهذا قال له: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه، وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض إنما يحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن ادعى أنه مع محمد صلى الله عليه وسلم كـ الخضر مع موسى، أو جوز ذلك لأحد من الأمة، فليجدد إسلامه، وليشهد شهادة الحق، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله، وإنما هو من أولياء الشيطان، وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم، وأهل الاستقامة، فحرك تر]. يعني: مسألة دعوى العلم اللدني دعوى يدعيها طوائف من الناس، وكل له فيه فلسفة، وخلاصة الأمر في العلم اللدني: أن هناك دعاوى من كل طائفة من طوائف الضلال، تعتمد على أنهم يستغنون عن الشرع، وأن شيوخهم أو الأئمة أو الأولياء الذين يقدسونهم يتلقون العلم الإلهي بلا واسطة، أي: بدون أن يكون ذلك عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن طريق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة. والتلقي عن غير الرسول صلى الله عليه وسلم يسمى عندهم علماً لدنياً، لكن لهم فيه فلسفات مختلفة. فالرافضة يزعمون أن العلم اللدني علم موروث، أطلعه الله عز وجل على طوائف من بني آدم، توارثوا هذا العلم إلى أن وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم إلى ذريته من فاطمة رضي الله عنها، ثم بعد ذلك بقي يتوارث بين الأئمة، وهذا العلم عندهم محصل بالغريزة، فهؤلاء الأئمة ولدوا علماء، وانفتح لهم باب علم الغيب، بل إنهم يرون أن أئمتهم يعلمون الغيب كل الأحيان، وأن لهم تدبيراً في الكون. ويقولون: إن الأئمة اشتملوا على العلم اشتمالاً، ولم يحصلوه تحصيلاً، وإنهم متى ما شاءوا انفتحت لهم أبواب الغيب، وأن هذا العلم متوارث منذ آدم في أشخاص من شخص إلى شخص إلى أن وصل حسب دعواهم إلى الأئمة. والصوفية يزعمون أن العلم اللدني له عدة طرق، منها ما يحصله الشخص بالتعبد والرياضة العبادية، بحيث يتحلل من الدنيا وينقطع عنها، حتى يتصل قلبه بالله عز وجل، فينفتح له الغيب مباشرة. وبعضهم يقول: إنه يتلقى العلم اللدني عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بدون أن يكون ذلك عن طريق الكتاب والسنة، أو عن بعض الملائكة، أو عن الخضر مباشرة، وأن الخضر يعلم هؤلاء الأئمة، ويطلعهم على أسرار التحكم في الكون وعلم الغيب، لكن هناك من الفلاسفة الذين نزعوا نزعة التصوف من لهم في ذلك مذاهب أخرى. فمنهم من يرى أن العلم اللدني يكون بالإشراق، والإشراق: هو إشراق النور الإلهي على قلوب هؤلاء الذين يزعمون أنهم أولياء أو أئمة، فتنكشف لهم أمور الغيب. ومنهم من يرى أن ذلك يكون عن طريق الفيض وهو اتصال الروح بالقوى العقلية، التي تتحكم في الكون، يزعمون أن المتحكم في الكون هو العقل. ومنهم من يزعم الحلول، أي: أنه تقمص الإلهية، وأن الله عز وجل حل فيه أو حل فيه شيء من الإلهية، فمن هنا انفتح له الغيب، بناءً على أنه أصبح يحمل خصائص الألوهية. وبين هذه المذاهب مذاهب شتى، لكن كلهم يجتمعون على دعوى أن هناك من أئمتهم وأوليائهم وشيوخهم وفلاسفتهم من يتلقى العلم الكامل، أو كثيراً من أمور الغيب، بدون الوحي الذي نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم. قال رحمه الله تعالى: [وكذا من يقول بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا، فهلا خرجت الكعبة إلى الحديبية فطافت برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصر عنها، وهو يود منها نظرة؟! وهؤلاء لهم شبه بالذين وصفهم الله تعالى حيث يقول: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر:52] إلى آخر السورة].

الجماعة حق والفرقة زيغ

الجماعة حق والفرقة زيغ قوله: (ونرى الجماعة حقاً وصواباً، والفرقة زيغاً وعذاباً). قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103]. وقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام:159]. وقال تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود:118 - 119] فجعل أهل الرحمة مستثنين من الاختلاف. وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة:176]. وقد تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء -، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة). وفي رواية: (قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي) فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة، وأن الاختلاف واقع لا محالة. وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ الشاة القاصية، فإياكم والشعاب، وعليكم بالجماعة، والعامة، والمسجد). وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه قال لما نزل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك. {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} [الأنعام:65] قال: أعوذ بوجهك. {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] قال: هاتان أهون) فدل على أنه لا بد أن يلبسهم شيعاً، ويذيق بعضهم بأس بعض، مع براءة الرسول من هذه الحال، وهم فيها في جاهلية، ولهذا قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو فرج أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية].

شرح العقيدة الطحاوية [106]

شرح العقيدة الطحاوية [106] الجماعة مفهوم واسع، وهي تتمثل بكل زمان ومكان وبحسب الحال الذي عليه أمر المسلمين، فتكون متمثلة في الخليفة أو السلطان ومن معه من أهل الحل والعقد، وهذا هو الأغلب في صور الجماعة العامة التي تحقق المصالح العظمى للأمة، وأما الجماعة بمعناها الخاص والذي يتعلق بالمفهوم الشرعي فقد أطلقت على جمهور الصحابة، وأطلقت أيضاً على أهل العلم وأئمة الهدى، وأطلقت على المعتصمين بالحق من أهل الإسلام، وأطلقت على مجموع المسلمين وعامتهم المجتمعين على السنة.

المفهوم العام للجماعة

المفهوم العام للجماعة نحتاج إلى أن نتعرف على معنى الجماعة، كما ورد في الكتاب والسنة بمفهومها العام والجزئي. المفاهيم الجزئية تحتاج إلى وقت طويل؛ نظراً لأهمية هذا الموضوع في عصرنا، ونظراً لاختلال مفاهيم كثير من المسلمين عن الجماعة في عصرنا، مما ترتب عليه الخوض في الكثير من المسائل التي تتعلق بحقوق الجماعة ومعانيها، وتتعلق بعدم إدراك المخاطر في الفرقة والشذوذ. سنتحدث الآن عن المفهوم العام للجماعة، الجماعة المقصود بها القوم المجتمعون على أمر ما. والجماعة في الشرع: هم جماعة المسلمين. وتتحقق جماعة المسلمين العامة بعدة صور. من صورها: الاجتماع على الحق، أي: على الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن صور الجماعة: الاجتماع على الإمام أو الوالي. ومن صور الجماعة: الاجتماع على مصلحة من مصالح الأمة العظمى. ومن صور الجماعة: الاجتماع على أصول الدين الظاهرة، مثل: الاجتماع على الصلاة، والاجتماع في الجمعة، والاجتماع في العيدين، والاجتماع في الحج. من صور الجماعة: الاجتماع على الجهاد. ومن صور الجماعة: الاجتماع على الأمر بالمعروف والنهي عنه ونحو ذلك من مصالح الأمة. ومن صور الجماعة: اجتماع عامة المسلمين وخاصتهم على أي أمر من الأمور التي تجلب لهم مصلحة، أو تدفع عنهم مفسدة. وتتمثل الجماعة أيضاً بكل زمن، وبكل حال، وبكل مكان، وكل وضع، بحسب الحال الذي عليه أمر المسلمين، فأحياناً تكون الجماعة متمثلة في الخليفة ومن معه من أهل الحل والعقد، أو الإمام أو الوالي أو السلطان ومن معه من أهل الحل والعقد، وهذا هو الأغلب في صور الجماعة العامة التي تحقق المصالح العظمى للأمة، فمن أعم المعاني أن كون الجماعة تتمثل بمن له ولاية المسلمين العامة، ومن تحت إمرتهم من العلماء والولاة والقواد والوجهاء ورؤساء العشائر والمسئولين والوزراء، ومن جرى مجراهم ممن رأيهم مؤثر في مصالح الأمة، وهذا من أجمع المعاني العامة للجماعة في مفهومها العملي العام.

النقاط المتعلقة بالنصوص الواردة في الجماعة ومفهومها

النقاط المتعلقة بالنصوص الواردة في الجماعة ومفهومها هذه بعض النقاط حول النصوص الواردة في الجماعة ومفهومها:

تفسير النبي صلى الله عليه وسلم العام للجماعة

تفسير النبي صلى الله عليه وسلم العام للجماعة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الجماعة بعدة تفسيرات، من أهمها: التفسير العام الشامل في أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهذا في جميع أمور الدين وأمور الدنيا أيضاً؛ لأن بعض الناس يظن أن مفهوم الجماعة متوجه إلى الفرائض والسنن فقط، لا، بل مفهوم الجماعة يشمل كل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأمور الاعتقادية، والعملية العلمية، والظاهرة والباطنة، ومصالح الأمة العظمى وغيرها، كل ذلك ينطبق على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

إخراج النبي صلى الله عليه وسلم للفرق المنحرفة من مفهوم الجماعة

إخراج النبي صلى الله عليه وسلم للفرق المنحرفة من مفهوم الجماعة الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج الفرق بمفهوم الجماعة في حديث الافتراق، يعني: أن مفهوم الجماعة في كل مسائل الدين يخرج الفرق، لكن أحياناً في بعض مصالح الدنيا قد تدخل الفرق في مفهوم الجماعة دخولاً غير مباشر، بمعنى دخول ضرورةٍ، كأن يدهم العدو بلداً فيها من أهل السنة ومن غيرهم من أهل الأهواء، فيشترك الجميع ويجتمعون على جهاد العدو، فجائز ما دامت الراية مع أهل السنة والجماعة. فمن هنا لا اعتبار لهم من حيث النوع، إنما الاعتبار لهم من حيث العدد ومن حيث الوجود. فإذاً: قد يعد أحياناً أهل الأهواء فيما يتعلق بالضرورات من الجماعة، في أمور ضيقة محدودة، وهذا مما ينبغي أن يفقهه كثير من الدعاة الذين لا يفرقون بين دخول أهل الأهواء في مفهوم الجماعة عند الحالات الضرورية، وبين خروج أهل الأهواء من الجماعة، حتى أهل الذمة في البلاد الإسلامية يجب عليهم أن يشاركوا في درء الخطر عن المسلمين، الدرء الذي يلزم بالجميع، فمن هنا قد يشملهم مسمى الجماعة بالتبع لا بالأصالة.

معنى الجماعة في اللغة

معنى الجماعة في اللغة من المناسب الآن أن أشير إلى بعض الأمور، التي أصبح كثير من المسلمين يجهلها في معنى الجماعة، وعلى من ينطبق مفهوم الجماعة الذين أمر الله بالاعتصام بهم، ونهى أشد النهي عن الفرقة عنهم، وأحياناً جعل الفرقة عنهم تعادل الفرقة في الدين، وجعل الاجتماع بهم هو علامة السنة، والافتراق عنهم هو علامة البدعة، وتوافرت النصوص في آيات الله عز وجل، وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم على أن الافتراق عن الجماعة من أشد البدع، وأنه هوى ونزاع في الدين، ليس مجرد إخلال بمصلحة الأمة، بل هو نزاع في الدين، وخروج عن سبيل المؤمنين، وأصحابه من أعظم أصحاب الوعيد، ومن شذ عن الجماعة فقد شذ الشذوذ المهلك، فلعلي الآن أوجز الحديث عن هذا الموضوع بتعريف الجماعة بمعانيها الواسعة في الشرع، التي ورد إطلاقها على الجماعة، والتي تعني أن الجماعة تطلق على عدة اعتبارات، كلها أمرنا بالاعتصام بها، ونهينا عن مخالفتها والشذوذ عنها. أولاً: الجماعة في اللغة: هي من الاجتماع ضد الافتراق، يقال: تجمع القوم إذا اجتمعوا من هنا وهناك، أي ائتلفوا من بعد تفرق، ويقال: جمع المتفرق، أي ضم بعضه إلى بعض، ويقال: جمع فلان القلوب إليه، أي: ألفّها. والجماعة كذلك: هي اسم لجماعة الناس، والجمع مصدر لقولك جمعت الشيء. وكذلك الجمع قد يطلق على المجتمعين، يقال: هذا جمع من الناس، أي: جماعة مجتمعة. والجمع قد يجمع على جموعه كذلك، والجماعة والجميع والمجمع والجمع كلها بمعنى واحد. والجماعة في اللغة إذا أريد بها جماعة الناس، فهم القوم المجتمعون على أمر ما. قال الفراء: إذا أردت جمع المتفرق، قلت: فهم مجموعون، وكذلك قد تطلق الجماعة على الإجماع، وهو الاتفاق والإحكام، يقال: أجمع الأمر أي: أحكمه، فالجماعة قد تطلق على هذا المعنى، بمعنى أن أمورها محكمة، وأنها مجتمعة على ما يقتضي قوتها واجتماعها. وفي الغالب أن الجماعة في ذهن السامع الفاهم للعربية تعني: العدد الكثير، والطائفة من الناس التي يجمعها غرض واحد، سواء اجتمعت في زمان ومكان واحد، أو لم تجتمع، فقد تطلق الجماعة على من تفرقوا في البلاد، لكن اجتمعوا على أمر ما، كجماعة أهل السنة والجماعة. وقد تطلق الجماعة أيضاً على من كانوا على غرض واحد في أزمان متفرقة، وعلى هذا فإن الجماعة سميت جماعة؛ لأنها تعني الاجتماع، وضد ذلك الفرقة.

معاني الجماعة في الاصطلاح ومجالاتها

معاني الجماعة في الاصطلاح ومجالاتها أما معنى الجماعة في الاصطلاح الشرعي، فإن لها عدة معان في الشرع، لكن يجمع هذه المعاني إجمالاً تعريف شامل وهو: أن الجماعة هي جماعة المسلمين المجتمعين على الحق والسنة. هذا من أجمع التعريفات لمعنى الجماعة بمعناها العام، ومع ذلك فإن إطلاق الجماعة ورد في الشرع على عدة معان، من تأمل هذه المعاني عرف فقه النصوص في الأمر بالجماعة، والنهي عن الفرقة.

إطلاق الجماعة على جمهور الصحابة

إطلاق الجماعة على جمهور الصحابة الأول: من هذه المعاني: أن الجماعة تطلق على جمهور الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين بخاصة؛ لأنهم كانوا مجتمعين على الحق في سائر أمورهم، في العقيدة، والإمامة، والأحكام، والجهاد وسائر أمور الدنيا والدين، وتمثل معنى الجماعة في أحسن صورة وأمثل صورة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة. يقول الشاطبي في هذا المعنى: إن الجماعة هي الصحابة على الخصوص، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين، وأرسوا كتابه، وهم الذين لم يجتمعوا على ضلالة أصلاً، وقد يمكن فيمن سواهم ذلك، أي الإخلال بهذه الأصول. ولعل الجماعة هنا هي المقصودة بما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجمع الله هذه الأمة على ضلالة أبداً)، وقال: (يد الله على الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذ شذ في النار)، هذا حديث صحيح ما عدا عبارة: (فاتبعوا السواد الأعظم) فالأرجح أنها ضعيفة. والصحابة هم جماعة المسلمين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكرت، وفي عهد الخلفاء الراشدين، فهم أحسن وأمثل معنى ينطبق عليه معنى الجماعة.

إطلاق الجماعة على أهل العلم وأئمة الدين المقتدى بهم وأتباعهم

إطلاق الجماعة على أهل العلم وأئمة الدين المقتدى بهم وأتباعهم المعنى الثاني: تطلق الجماعة على أهل العلم وأئمة الدين المقتدى بهم وعلى أتباعهم، بمعنى أنهم الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة، خاصة بعد وجود الافتراق. نحن قلنا: إن أمثل معنى وأدق إطلاق للجماعة هو عهد الصحابة رضي الله عنهم، لكن هذا إطلاق قد يختلف فيمن بعدهم، حينما ظهرت الفرق، فعلى هذا يأتي تعريف أدق لحال المسلمين بعد الصحابة، يخصص الجماعة بمعنى يصف حال المسلمين بعد الافتراق، وهو أن كون الجماعة هم أهل العلم أئمة الدين والهدى المقتدى بهم، وأتباعهم الذين هم الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، أهل السنة والجماعة، الذين يعملون بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدعون إليها، ومن سلك نهجهم، واتبع سبيلهم، وهؤلاء هم المقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وبأصحابه الذين هم جماعة المسلمين الأولى، فمن كان على نهج جماعة المسلمين الأولى فهم الجماعة، وهم أهل السنة والجماعة، وكل جماعة هي امتداد لجماعة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأتباعهم، فهي أهل السنة والجماعة، وهي الفرقة الناجية التي نوه عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، في الحديث الذي رواه عوف بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما رضي الله عنهما قالا: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتين وسبعين في النار، وواحدة في الجنة، وهي الجماعة). وهذه هي الجماعة وإن قلَّت؛ لأنه لا اعتبار للكثرة بعد وجود الافتراق؛ لقول ابن مسعود رضي الله عنه: إنما الجماعة ما وافق طاعة الله عز وجل وإن كنت وحدك. وعلى هذا فإن الذي لم يكن على السنة لا يدخل في تعريف الجماعة مهما كثر عددهم. وفي هذا المعنى أيضاً يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله لما سئل عن الجماعة، قال: أبو بكر وعمر، فقيل: قد مات أبو بكر وعمر، قال: ففلان وفلان، قيل: قد مات فلان وفلان، قال ابن المبارك: أبو حمزة السكري جماعة، وهو يشير بذلك إلى هذا الرجل الذي عرف بالفضل والاستقامة، وأبو حمزة السكري هو محمد بن ميمون المروزي المتوفى سنة (162هـ) فقال عنه ابن المبارك: بأنه جماعة أي: أنه رجل مستقيم على السنة، وكان على منهج السلف الصالح، من المشهورين بتتبع سبيل السنة والجماعة أهل الحق. إذاً: فالعبرة ليست بكثرة العدد بعد الصحابة، إنما باتباع السنة، وترك الابتداع.

إطلاق الجماعة على المعتصمين بالحق التاركين للفرقة

إطلاق الجماعة على المعتصمين بالحق التاركين للفرقة المعنى الثالث للجماعة: إطلاق الجماعة على المجتمعين على الحق، التاركين للفرقة، فالجماعة بهذا المفهوم هي ما عليه عامة المسلمين وسوادهم في أمورهم ومصالحهم العامة، خاصة من كان على سبيل الصدر الأول، فقد جاء في حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والجماعة رحمة، والفرقة عذاب) فإن الاعتصام بما عليه الجماعة رحمة ونجاة، والفرقة والشذوذ عنهم هلكة وضلال، يوجب العذاب. والجماعة في هذا الحديث تعني: اجتماع أهل الحق على مصالحهم العليا، ويؤيد ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة؛ فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة). وقال أبو مسعود الأنصاري رضي الله عنه لما سئل عن الفتنة قال: عليك بالجماعة؛ فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، ثم قال: إياك والفرقة؛ فإن الفرقة هي الضلالة. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذي تحبون في الفرقة. وهذه قاعدة ذهبية عظيمة يجب أن يتوخاها طالب العلم، وأن يعلمها الناس، وأن يلقنها طلاب العلم؛ لأنها من أعظم القواعد التي تفيد عند الفتن والخلاف بين المسلمين، قال: (إن الذي تكرهون في الجماعة) أي: ما يحدث مما تكرهونه مما تجتمع عليه الكلمة، خير من الذي تحبون أو تميل إليه عواطفكم أو عقولكم، ما دام يؤدي إلى الفرقة، وما أحوج الناس وطلاب العلم بخاصة في هذا الوقت إلى هذه القاعدة العظيمة. إذاً: يجب أن تحافظوا على الجماعة، ولو حدث ما تكرهون، فاصبروا على ما تكرهون تفادياً للفرقة، ولو ظننتم أن في الفرقة وصولاً إلى ما تحبون. ليس المقصود ما تكرهون من الأمور التي لا تشتهي أنفسكم، أو ما تحبونه مما تشتهون، لا، إنما المقصود ما تحبونه في دين الله عز وجل، وما تكرهونه من الأمور التي تروا أنها ضد الدين، فيجب أن يكون هم المسلم أن تبقى الجماعة ولو على أدنى خيط من الاجتماع، فذلك خير من التهور، أو الوقوع في أمور قد تكون فاضلة ومطلوبة، وقد تكون محبوبة للنفس، لكنها لا تضمن معها الجماعة، وربما تؤدي إلى الفرقة. وكذلك يؤيد هذا قول علي رضي الله عنه في مسألة بيع أم الولد، يخاطب الصحابة في عهده، قال: اقضوا ما كنتم تقظون؛ فإني أكره الاختلاف، حتى يكون للناس جماعة. كأنه يقول: أنا أسلِّم لكم رغم أن لي رأياً أرى أنه هو الحق؛ لكن نظراً لأن الناس في فرقة، ويخشى عليهم الفتنة فقال: اقضوا ما كنتم تقضون، حتى يكون للناس جماعة. وكذلك يؤيد هذا قول عبيدة بن عمرو السلماني رحمه الله، لـ علي رضي الله عنه، يقول: رأيك ورأي عمر في الجماعة، أحب إلي من رأيك وحدك في الفرقة. وقد أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض الكلام عن طريق أهل السنة والجماعة، حيث قال: وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هي الاجتماع وضده الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين إلى آخر الكلام.

إطلاق الجماعة على مجموع المسلمين وعامتهم المجتمعين على السنة

إطلاق الجماعة على مجموع المسلمين وعامتهم المجتمعين على السنة المعنى الرابع من معاني الجماعة: تطلق الجماعة على مجموع المسلمين وعامتهم، الذين اجتمعوا على إمام أو أمر من أمور الدين التي لها أصل في الشرع، أو اجتمعوا على مصلحة من مصالحهم العظمى الكبرى، وهذا الإطلاق في مفهوم الجماعة ينبغي أن يقيد بقيد، وهو جمهور المسلمين المستمسكين بالسنة. وبعض الناس يظن أن الجماعة لا تكون إلا في أمر الدين، لا، بل الدين جاء لحفظ دنيا الناس ومصالحهم، فالأمور التي تحفظ دنيا الناس، وتحفظ أعراضهم وأموالهم، وتؤمن سبلهم إذا لم يتم الاجتماع عليها أدى ذلك إلى فتنة في أعراض الناس وأموالهم ودمائهم وأنفسهم ونحو ذلك. إذاً: فمصالح المسلمين الدنيوية والدينية كلها معتبرة في الجماعة، فإذا اجتمع عامة المسلمين أهل الحل والعقد على مصالحهم العظمى، وجب الخضوع لهذا الاجتماع وإن كان مرجوجاً، ووجب الاستمساك به، وعدم الفرقة عنهم في أي أمر من الأمور التي فيها مصالح، فإن الشذوذ عنهم ومخالفتهم هلكة وشقاق، وخروج عن الجماعة. ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري في الجامع الصحيح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني)، ثم ذكر شيئاً من الفتن فقال: حذيفة رضي الله عنه للرسول صلى الله عليه وسلم: (فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك) فأوصاه أولاً بأن يلزم جماعة المسلمين وإمامهم على كل حال، فإن فرض أن ليس هناك جماعة للمسلمين ولا إمام، فلا ينبغي للمسلم أن يتصدر وأن يبرز برأي تزيد به الفرقة؛ لأن الناس إذا كانوا في الفرقة، فالرأي الذي يتبناه الشخص دون أن يكون للمسلمين جماعة، يكون زيادة في الفرقة، فإذا كان للناس عشرة آراء وكان له رأي مخالف زادهم فرقة، فيكون الرأي الحادي عشر وهكذا. فإذاً: لا بد أن يبقى ولو أدنى حد من جماعة المسلمين، والاجتماع على أئمتهم، وهنا يكونون الجماعة، وأن المخالفة في هذه الأمور تؤدي إلى الفرقة، فإن لم يكن هناك جماعة للمسلم ولا إمام، فالمسلم يسعه الاعتزال، بل أمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة بالاعتزال في هذه الحال. وكذلك حديث أسامة بن شريك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يد الله على الجماعة) وحديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رأى من أميره ما يكره فليصبر عليه؛ فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات، مات ميتة جاهلية). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يد الله مع الجماعة) مثل حديث أسامة بن شريك. وحديث عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فجعل ترك الجماعة ومفارقتها مقارناً لترك الدين، وجعل حكمهما واحداً، سواءً اجتمعا أو افتراقا. والمراد به: أن من ترك جماعة المسلمين، فإنه يعاقب معاقبة التارك لدينه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن ثابت: (ثلاث خصال لا يغل عليهما قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لولاة الأمر، ولزوم الجماعة؛ فإن دعوتهم تحيط من ورائهم). وقال الطبري فيما حكاه عنه ابن حجر في فتح الباري: والصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره، فمن نكث بيعته خرج من الجماعة. فأكثر نصوص الجماعة التي وردت في السنة إنما تنصرف إلى هذه المعاني، أي: جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على مصلحة من مصالحهم العظمى، كالاجتماع على أمير، أو أمر من أمور دنياهم أو من أمور دينهم، فهم ممثلون بأغلبهم، أو بعلمائهم أو بأهل الحل والعقد بمجموعهم، وأهل الحل والعقد وأهل الرأي أحياناً يكونون من عدة أصناف، قد يكون أهل الحل والعقد هم العلماء، وقد يكون أهل الرأي والمشورة من أهل العلم، وأحياناً يكون أهل الحل والعقد في الأمة من الأمراء، ورؤساء العشائر، والتجار، وأصحاب المحسوبيات وغيرهم. فمعنى أهل الحل والعقد: هم الذين بأيديهم حل أمور الأمة وعقدها، في أمور دنياهم خاصة إذا ضعف الدين في الناس، فأهل الحل والعقد لا بد من اعتبار ما يجتمعون عليه؛ لأنه لا يمكن استقامة أمر الناس في دينهم ودنياهم إلا على ذلك؛ لأنه لا يمكن تحقيق الدين إلا بأمن واستقرار، ولا يمكن تحقيق الدين إلا بجماعة، ولا يمكن تحقيق الدين أيضاً إلا بطاعة على المنشط والمكره، على ما يحب الناس وما يكرهون. إذاً: من أعظم معاني الج

إطلاق الجماعة على أهل الحل والعقد خاصة

إطلاق الجماعة على أهل الحل والعقد خاصة خامساً: إطلاق الجماعة على أهل الحل والعقد أحياناً، فأهل الحل والعقد أحياناً يسمون جماعة، فكما تطلق الجماعة على العلماء، وعلى أهل العلم في العهود التي يكون فيها المسلمون على استقامة تامة، كما في عهد الصحابة، ويدخل فيهم غيرهم أحياناً، إذا ضعفت أحوال المسلمين، وضعف تمسكهم بالدين، أو كثر الخبث فيهم وكثرت الأهواء، فتطلق الجماعة على أهل الحل والعقد أحياناً بخصوصهم، من العلماء، والأمراء، والقواد، والولاة، والقضاة، والأعيان، فإذا اجتمعوا، أو تحققت المصلحة من بعضهم، ففي الفتن أحياناً لا يجتمع أهل الحل والعقد الاجتماع الكافي، فقد يكون الحل والعقد بثلاثة، يسددهم الله عز وجل فيصلون إلى حل يحفظ دماء الأمة ويحفظ أمنها، فيكون حلهم وعقدهم معتبراً، فإذا انعقد الأمر للمسلمين في مصلحة من مصالحهم العظمى، بأي صورة من الصور التي تؤدي إلى تحقيق مصلحتهم، فإن ذلك يكون من الاجتماع الذي هو الجماعة على يد أهل الحل والعقد وإن قل، فإذا اجتمع أهل الحل والعقد أو بعضهم أو غالبهم على أمر من مصالح المسلمين، كتولية إمام أو بيعته وعزله ونحو ذلك، كان أمرهم نافذاً، وأجدر من يكون من أهل الحل والعقد هم أهل الفقه في الدين، لكن قد يخرج الأمر عن الأنفع والأولى والأفضل والأفقه.

إطلاق الجماعة على الفريق والجماعة من الناس

إطلاق الجماعة على الفريق والجماعة من الناس سادساً: تطلق الجماعة أحياناً على الفريق من الناس، الذي يجتمعون على شيء ما دون الجماعة الكبرى، أحياناً تطلق الجماعة شرعاً على من هم دون الجماعة العظمى، الذين ذكرت صورهم، ويكون هذا الاعتبار مشروطاً بتحقيق نطاق الجماعة، وإن كان لا ينصرف هذا الوصف إلى الجماعة الكبرى، فمثلاً: كثيراً ما يرد في السنة وفي الأثر إطلاق كلمة الجماعة على أي مجموعة من الناس من المسلمين، فإذا اجتمعوا مثلاً على السفر، أو اجتمعوا على تجارة، أو اجتمعوا على الصلاة، فجماعة المسجد جماعة، وجماعة الحي جماعة، وجماعة البلد جماعة، وجماعة طلاب العلم جماعة، لكنهم جماعة دون الجماعة العظمى، ومع ذلك ورد تسميتهم بجماعة بالوصف المقيد في ألفاظ الشرع في الكتاب والسنة، فأي أمر من الأمور التي اجتمع عليها الناس دون مصالحهم الكبرى، من مصالحهم الجزئية في الدين والدنيا قد يسمى جماعة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلوا جميعاً ولا تفرقوا، فإن البركة مع الجماعة) يعني: مع الجماعة الذين يجتمعون على الأكل، وهذا ظاهر. وفي حديث جندب بن عبد الله قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة) يعني: إذا حزبك أمر تخاف منه فافزع إلى الجماعة من حولك، جيرانك، جماعة المسجد، جماعة الجهاد، جماعة الحسبة، أو من حولك ممن يطلق عليهم السنة والجماعة في النطاق الذي أنت فيه، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة، والصبر، والسكينة، إذا قاتلنا). وكذلك قول البخاري في الصحيح: (باب اثنان فما فوقهما جماعة) قصده في الصلاة، ويقاس عليها غيرها. إذاً: تطلق الجماعة على مجموع تلك المعاني أو بعضها أو أكثرها بحسب أحوال الأمة، لكن كما قلت: أغلب ما تنصرف ألفاظ الأمر بالجماعة والاعتصام بها إلى الجماعة الكبرى، وأغلب ما تنصرف ألفاظ النهي عن الشذوذ عن الجماعة، وأنها فرقة من الدين إلى الجماعة الكبرى، والجماعة الصغرى لا شك أن مخالفتها أحياناً تكون مكروهة، وأحياناً تكون محرمة ومن كبائر الذنوب، لكن لا تصل إلى حد الفرقة الكبرى، فمثلاً: المسلم إذا ترك جماعة المسجد، وصلى مع جماعة أخرى، يكون قد ارتكب ذنباً، أو ترك جماعة المسجد بالكلية يكون قد ارتكب كبيرة، لكن ما يعد من الفرق الضالة إلا إذا خالف في مفهومات الجماعة الكبرى، فأي مسلم يشذ عن الجماعة في مفهوم الجماعة الكبرى يكون عمله افتراقاً، لكن إذا شذ عن الجماعة في مفهوماتها الصغرى، في المصالح الجزئية، أو افترق عن جماعة المسجد يكون عمله بحسب حاله، قد يكون كبيرة من الكبائر التي يعزر عليها، لكن لا يصل إلى حد يوصف بأنه مفارق للجماعة المفارقة العقدية، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم استدلال أصحاب الجماعات الدعوية بالأحاديث الآمرة بلزوم الجماعة على وجوب لزوم جماعتهم

حكم استدلال أصحاب الجماعات الدعوية بالأحاديث الآمرة بلزوم الجماعة على وجوب لزوم جماعتهم Q استدلال أصحاب الجماعات الدعوية بالأحاديث الآمرة بلزوم الجماعة على وجوب لزوم جماعتهم، هل هو صحيح؟ A إذا كانت الجماعات تقصد بالاستدلال بهذه الأحاديث التي تنهى عن الفرقة وعن الجماعة، تقصد أن من شذ عن جماعتها فهو شاذ عن جماعة المسلمين، فلا شك أن هذا خطأ وانحراف، وهو من البدع، إذا اعتبروا أنفسهم الجماعة العظمى، أو أوردوا الأحاديث الواردة في الجماعة العظمى عليهم، فهذا خطأ، ويعتبر انحرافاً عند كثير من الجماعات التي ترفع شعارات الولاء لها في العصر الحاضر. فكونهم يأخذون نصوص التحذير من الفرقة، والتحذير من ترك الجماعة العظمى، ويطبقونها على أنفسهم فهذا خطأ، أما إذا كان المقصود إيراد النصوص التي تنهى عن ترك الجماعة بمعناها الذي هو دون ذلك، إذا كان اجتماعهم مشروطاً، كاجتماعهم في سفر، أو اجتماعهم على الصلاة، أو اجتماعهم على أمر من أمور الحسبة والدعوة إلى الله عز وجل، التي ليس فيها استقلالية في مناهج الدين أو شعارات أو حزبيات فهذا قد ترد فيه بعض النصوص التي تنهى عن ترك الجماعة، بمعانيها الصغرى لا بمعانيها الكبرى. أما المعاني الكبرى للجماعة التي الشذوذ عنها بدعة، فلا يجوز صرفها إلا لجماعة المسلمين أهل السنة والجماعة، وهؤلاء ليس لهم شعارات ولا أحزاب ولا جماعات ذات مناهج، ولا أيضاً جماعات ذات رايات دعوية يستقلون بها عن مفهوم السنة والجماعة. إذاً: فالغالب أن الجماعات التي تستدل بالأحاديث في ترك الجماعة لأنفسها أنها تخطئ بذلك، وينبغي التنبيه على هذا الأمر؛ لأنه قد يكون المخالف أحياناً لهذه الجماعات الجزئية الصغيرة الحزبية هو الذي على الحق.

شرح العقيدة الطحاوية [107]

شرح العقيدة الطحاوية [107] من سنن الله عز وجل في عباده أن جعلهم مختلفين، فكانوا في كثير من المسائل متنازعين، وقد وقع النزاع في هذه الأمة المرحومة، إلا أنهم أمروا أن يردوا ما اختلفوا فيه إلى الله ورسوله إذا لم يتبين لهم الحق في مسألة من المسائل، فإذا كانت من مسائل الأصول فالقول فيها واحد، وعلى من خالفه الرجوع إليه وقبوله، وإن كانت من مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضاً، ولا يبغي بعضهم على بعض، كما كان فعل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

وجوب رد المسائل المتنازع فيها إلى الله ورسوله

وجوب رد المسائل المتنازع فيها إلى الله ورسوله قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: ترك الناس العمل بهذه الآية، يعني قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم، كما أمر الله تعالى، فلما لم يعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية. وهكذا مسائل النزاع التي تتنازع فيها الأمة في الأصول والفروع، إذا لم ترد الى الله والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضاً، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد، فيقر بعضهم بعضاً، ولا يعتدي ولا يعتدى عليه، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض، إما بالقول، مثل: تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل، مثل: حبسه وضربه وقتله. والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن كانوا من هؤلاء، ابتدعوا بدعة، وكفروا من خالفهم فيها، واستحلوا منع حقه وعقوبته. فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول صلى الله عليه وسلم، إما عادلون وإما ظالمون، فالعادل فيهم: الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم: الذي يعتدي على غيره، وأكثرهم إنما يظلمون مع علمهم بأنهم يظلمون، كما قال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19]، وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل، أقر بعضهم بعضا، كالمقلدين لأئمة العلم الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نواباً عن الرسول، وقالوا: هذا غاية ما قدرنا عليه، فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعي أن قول مقلِّده هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من يخالفه مع أنه معذور].

الاختلاف نوعان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد

الاختلاف نوعان: اختلاف تنوع واختلاف تضاد قال رحمه الله تعالى: [ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد]. اختلاف التنوع المقصود به الاختلاف الذي يتعدد فيه القول والرأي على وجه شرعي، الاختلاف الذي كله سائغ، الاختلاف في الأمور الاجتهادية التي يسع فيها الخلاف، ويتنازع فيها في فهم الأدلة، وتكون فيها الأدلة أو الدلالة الاجتهادية غير واضحة، سواء دلالة المفهوم، أو دلالة المنطوق، أو دلالة اللغة، أو التقييد، أو النسخ إلى آخره، كل هذه الأمور تسمى اختلاف تنوع، أي: أن المسلمين عندما اختلفوا فيها، اختلفوا عن اجتهادات لها أصول في الشرع على ضوء الأدلة، بخلاف النوع الثاني الذي هو اختلاف التضاد، واختلاف التضاد: هو الاختلاف في أصول الدين، في قضايا العقيدة، في القطعيات، الاختلاف فيما يخالف الدليل القطعي، وفيما يخالف الدليل الصريح، سواء كان في الفروع فيما يتعلق بالأحكام، إذا كان الخلاف لا يوجد له مبرر، أو كان في العقائد وهو الأغلب، فأغلب صور اختلاف التنوع الاجتهادية في الأحكام، وأغلب صور اختلاف التضاد في العقائد، ومع ذلك يوجد اختلاف التضاد في الأحكام، مثل: خلاف الشيعة في مسألة المسح على الخفين، وخلافهم في غسل الرجلين، حيث قالوا: المشروع مسح الرجلين، هذا داخل في الفروع، لكن أصبح من اختلاف التضاد؛ لأنهم خالفوا النصوص الصريحة، رغم أنه في الفقه.

أوجه اختلاف التنوع وحقيقته

أوجه اختلاف التنوع وحقيقته قال رحمه الله تعالى: [ثم إن أنواع الافتراق والاختلاف في الأصل قسمان: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد. واختلاف التنوع على وجوه: منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً، كما في القراءات التي اختلفت فيها الصحابة رضي الله عنهم حتى زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (كلاكما محسن). ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان، والإقامة، والاستفتاح، ومحل سجود السهو، والتشهد، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد ونحو ذلك، مما قد شرع جميعه، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل. ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الاختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك! وهذا عين المحرم، وكذا تجد كثيراً منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع والإعراض عن الآخر والنهي عنه، ما دخل به فيما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم. ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر، لكن العبارتان مختلفتان، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود، وصوغ الأدلة، والتعبير عن المسميات ونحو ذلك. ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين، وذم الأخرى، والاعتداء على قائلها ونحو ذلك]. أغلب صور الخلاف الحاصل الآن بين أهل السنة من هذا النوع، هو من خلاف التنوع الذي يكون فيه اختلاف في العبارة، في حين أن المضمون واحد، أو يكون الاختلاف في مفهوم المسألة، يعني: تجد أن كثيراً من المختلفين الآن في قضايا خطيرة، يرجع اختلافهم إلى أنهم لم يحددوا مناط الاختلاف، أو حقيقة ما اختلفوا عليه، كل منهم في ذهنه مفهومه عن المسألة غير ما يفهمه الآخر، وهذا نوع من الإشكال والعبث بالألفاظ، وعلى هذا نجد في مسائل خطيرة الآن وكثيرة جداً، تنازع فيها أبناء المسلمين وطلاب العلم، ونجد أن سبب التنازع أن كلاً منهم يتكلم بمفهوم، والخلاف في الحقيقة خلاف على قضيتين مختلفتين. نأخذ أمثلة على ذلك: أولاً: كلام كثير من طلاب العلم في الآونة الأخيرة عن مسألة: هل يعذر المبتدع أو العاصي أو الفاجر أو الظالم إلى آخره بالجهل أو لا يعذر؟ أكثر الذين يتكلمون في هذه المسألة فيما يظهر لي لم يحددوا ما هو مفهوم العذر بالجهل، ولم يحددوا ضوابط العذر بالجهل، فكل منهم في ذهنه مفهوم يتكلم به، ويختلف عما في ذهن الآخر، ويظن أنه يخالفه، في حين أن هذا في واد وهذا في واد. خذوا مثالاً آخر: مسائل الدعوة ووسائلها، الآن القضية مرفوعة وحامية: هل وسائل الدعوة توقيفية، أو هي اجتهادية، الكثير ممن تكلموا عن وسائل الدعوة، ووسائل تعليم الدعوة مختلفون في تحديد معنى الوسائل والأساليب، تجد أن كل واحد قد حدد مفهومه في ذهنه خلاف المفهوم الذي عند الآخر، ومقصد أهل العلم أولاً أن يحددوا المفهوم والمقصود بالقضية التي فيها الخلاف، فإذا حررنا المفهوم، وكل واحد فهم القضية وفهم المقصود الآخر، فمن هنا ترجع القضية إلى أصولها الثلاثة كما وردت عند السلف. ولذلك ذكر الشيخ الفاضل حدود وصيغ الأدلة، والتعبير عن المسميات ونحو ذلك، ثم قال: (ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين، وذم الأخرى، والاعتداء على قائلها ونحو ذلك). وأمثلة هذا كثيرة، منها: الكلام في المذاهب الفقهية، وهل المذاهب بدعة من البدع؟ فنجد أن الذي يذم التمذهب يذم التعصب المذموم لا يذم الابتداع والاتباع، والذي يجيز التمذهب يقصد التمذهب الذي هو الاتباع والاقتداء بأئمة الدين، فأكثر المسائل هذه سببت الفرقة وسببت عداوات وسوء ظن بين المسلمين، وردود، وردود على الردود، واستنزفت جهوداً من الأمة وطاقات يحتاجونها في تقرير السنة واجتماع الكلمة في الدفاع عنها، لكن مع الأسف أصبح الخلاف في كثير من الأمور اختلاف تنوع، وأكثر المخالفين أو المختلفين لا يدرون ولا يشعرون، فحمل بعضهم على بعض، وطغى بعضهم على بعض، وجهل كثير منهم مقالة الآخر إلى آخره. أما مقولة: نتعاون على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فهذه مقولة فضفاضة مائعة ما لها قرار، وهي من الأمثلة التي يختلف عليها الناس من غير تحديد معنى. فإذا كان مقصود القائل لهذه الكلمة: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه في الاجتهاديات، فهذه قاعدة عظيمة من قواعد السلف، وإن كان قصده جميع ما يختلف فيه المسلمون، بما في ذلك البدع والضلالات، والشعارات والمناهج الخاطئة، والتيارات وغيرها، فهذا لا شك أنه خطأ وتفريط، ولا شك أنه منهج أهل البدع. والذي ينبغي الإشارة إليه أنه فيما علمت من خلال استقرائي لهذه الكلمة أن (الإخوان المسلمون) رفعوا هذه الكلمة كشعار لهم، وهم يقصدون بها مداهنة أهل البدع، فهذه مشكلة تجعل بعض الناس يسيء الظن بهم، ويحكم بأنهم قصدوا بها مداهنة أهل البدع وأهل الأهواء. وقد يكون منهم من يقصد المعنى الشرعي الصحيح، فمن هنا أقول: هذه الكلمة أصبحت الآن من الكلمات التي لا ينبغي رفعها كشعار؛ لأن أغلب الذين رفعوها رفعوها بقصد السكوت عن أهل البدع، وهذا واضح عند كث

حقيقة اختلاف التضاد

حقيقة اختلاف التضاد قال رحمه الله تعالى: [وأما اختلاف التضاد: فهو القولان المتنافيان، إما في الأصول، وإما في الفروع، عند الجمهور الذين يقولون: المصيب واحد، والخطب في هذا أشد؛ لأن القولين يتنافيان، لكن نجد كثيراً من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما، أو معه دليل يقتضي حقاً ما، فَيَرُدُّ الحقَّ مع الباطل، حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض، كما كان الأول مبطلاً في الأصل، وهذا يجري كثيراً لأهل السنة]. هذه من القواعد الذهبية التي ينبغي أن نستفيد منها، وهي مما تجاوزها كثير من المنتسبين للسنة، فتجد بعض المنتسبين للسنة يرد الحق الذي مع المخالف؛ لأن المخالف عنده شيء من الباطل، وهذا خطأ شنيع، الحق ينبغي أن يقبل ويرد إلى أصوله، وإذا كان المخالف معه شيء من الحق وعنده شيء من الباطل، فيجب على منازعه وعلى مخالفه أن يعترف بما عنده من الحق، ويرد ما عنده من الباطل، وإلا وقعت فتنة وفساد عظيم في الأمة، حتى إن هذا يحدث بين المتنازعين من أهل السنة، فقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا يحصل بين متبعي أئمة المذاهب الفقهية، في اختلافاتهم واجتهاداتهم، فنجد أن هناك من ينتسب للسنة من قاصري العلم والتأصيل، نجد أنهم متميزون برد الحق الذي مع المخالف، حتى وإن كان من أهل السنة، بمجرد أن يكون في القضية شيء من الباطل يرد الحق الذي معه، والناس قد يكون في أقوالهم حق وباطل، فالقول الواحد قد يتضمن شيئاً من الحق وشيئاً من الباطل، فالميزان الشرعي الصحيح أن نقبل الحق ونخضع له، وإن كان مع الخصم، ونرد الباطل دون أن نجعل الأمر ملتبساً. فأقول: إن كثيراً من الناس يرد قول المخالف جملة وتفصيلاً، دون أن ينظر ما فيه، وهذا أدى إلى سوء الظن بين الفريقين، وأدى أيضاً إلى الاعتداء، وإلى استعمال بعض الأساليب التي لا تجوز إلا مع أهل البدع المغلظة، فينبغي التنبه لهذا الأمر وتأصيله وبيانه للناس، خاصة لطلاب العلم الذين كلامهم له أثر في الناس، وله أثر في المتلقين والناشئة، ينبغي أن ترسم هذه القاعدة بوضوح وتنشر وتبين، وهو أنك إذا خالفت أحداً من أهل السنة فيجب أن تضع في بالك ونصب عينك ما معه من الحق، وتحمده عليه، وترد ما معه من الباطل، وتعتذر له؛ لأنه أخطأ، أما أن تتخذ الخطأ ذريعة للسب وذريعة للتجريح فهذا ليس هو منهج السلف، وقد يكون لبعض السلف بعض المواقف وبعض الكلمات، التي هي أشبه بنصوص الوعيد في حق المخالف، فلا تؤخذ على أنها منهج؛ لأن بعض السلف يكون قد قسا على قرين له، أو على عالم آخر، أو على طالب علم في وقته، وقال كلمات، لكن هذا ليس منهجاً، وإنما هذا من باب الوعيد والتحذير، لكن المنهج إذا رأيته وإذا تأملته فيما كتبوه وسطروه، خاصة في كتب الرجال التي كتبها السلف في التراجم، نجد أنهم منصفون فيما كتبوه، وهكذا ينبغي للناس أن ينصف بعضهم بعضاً. والكلام في أبي حنيفة يعتبر نموذجاً، فـ أبو حنيفة رحمه الله وقع في بدعة لا يبدع بها، لكنها تعتبر زلة عالم، وزلة العالم ينبغي التنبيه عليها، والتحذير منها، وعدم الدفاع عنها، وينبغي أيضاً أن يقال: إن هذه زلة وبدعة، لكن يعتذر له؛ لإمامته في الدين، وهذا يدل على أن العالم لا يبدع بها، أما من دونه يبدع بها. قال رحمه الله تعالى: [وأما أهل البدعة فالأمر فيهم ظاهر، ومن جعل الله له هداية ونوراً رأى من هذا ما يبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا، لكن نور على نور].

حكم اختلاف التنوع

حكم اختلاف التنوع قال رحمه الله تعالى: [والاختلاف الأول الذي هو اختلاف التنوع، الذم فيه واقع على من بغى على الآخر فيه، وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك، إذا لم يحصل بغي، كما في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5] قد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار، فقطع قوم وترك آخرون، وكما في قوله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء:78] {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] فخص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم، وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة، وكما في قوله: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر) ونظائر ذلك]. نقف على هذا المقطع، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم وسائل الدعوة

حكم وسائل الدعوة Q ما حكم وسائل الدعوة هل هي توقيفية أو اجتهادية؟ A يمكن أن نشير إلى بعض القواعد العامة في هذا الموضوع، ثم إن شاء الله تفصل هذه المسألة في الدرس القادم؛ لأنها من المسائل التي تثار الآن. وسائل الدعوة في الحقيقة حسب ما يفهم من معناها اللغوي ومن استقراء لنهج السلف المقصود منها الأدوات التي تستخدم في تحقيق الدعوة، سواء كانت أدوات مادية، مثل: الأجهزة، أو أدوات معنوية، مثل: الأساليب الإدارية والتنظيمية وغيرها، مثل المؤسسات والجمعيات، وما يكون من الأجهزة الحكومية والدوائر الحكومية والدوائر المؤسسية التي تخدم الدعوة، فهذه تسمى وسائل، فكذلك قد يدخل في مفهوم الوسائل بعض الأساليب العلمية التي تتعلق بالدعوة، كتأليف الرسائل والكتب، والوسائل المتاحة: من أشرطة، وأجهزة منظورة ومسموعة وغيرها، هذه أيضاً تدخل في باب الوسائل. فإذاً المقصود بالوسائل: هي أدوات الدعوة، سواءً كانت علمية، أو كانت إدارية ومعنوية، أو كانت مادية كالأجهزة. والوسيلة: هي الطريق إلى الوصول إلى الهدف، ليست هي المناهج؛ لأن المناهج هي القواعد العامة كقواعد الحلال والحرام، ما يجوز وما لا يجوز، ما يسوغ وما لا يسوغ استخدامه في الدعوة، هذه تسمى مناهج، ففرق بين الوسائل والمناهج. وعلى هذا فالكتاب أداة للدعوة ولنشر العلم، والشريط أداة وهكذا، فالأدوات الأصل فيها الإباحة، والأصل فيها التجديد بحسب مقتضيات العصر، ولذلك كان السلف لا يفرطون في استخدام أي وسيلة مباحة في الدعوة إلى الله عز وجل، كان في عهد الصحابة يدعون إلى الله عز وجل بالكلمة، وبالوسائل العادية البسيطة المتاحة، ثم في عهد الخلفاء الراشدين تطورت بعض الوسائل العادية البسيطة المتاحة، من ذلك: الحسبة على أحوال الناس، لما نشأت مثلاً الكوفة والبصرة في عهد عمر رضي الله عنه وضع فيها الحسبة؛ لتدبير أمور الناس في دينهم ودنياهم، فكانت هذه من وسائل الدعوة، ثم اضطر عمر رضي الله عنه إلى استخدام ما يسمى بالدواوين، وهذه من وسائل الدعوة، ثم اضطر الصحابة في آخر عهدهم أيضاً لبعض أنواع من المناظرات لم تكن معهودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض أنواع من الانتقادات والكتب والرسائل الصغيرة لم تكن معهودة في عهد أوائل الصحابة، ثم في عهد التابعين بدأ التأليف والتصنيف في خدمة الدعوة والدفاع عن العقيدة. ثم في القرن الثاني تجددت وسائل أخرى في التصنيف والتأليف، فبدأ التابعون يستخدمون وسائل الكتابة والمراسلات والردود، والردود على الردود، واستعمال المناظرات بشكل متوق، واستعمال المناظرات في مجالس الأمراء والوجهاء، وفي المساجد بشكل موسع، ثم أيضاً جدد التابعون وتابعوهم في الوسائل العلمية بنشر الدعوة، فبدءوا يؤلفون الكتب المعنصرة المبوبة، بدءوا يكتبون الآثار، بدءوا يكتبون رسائل مفردة في موضوعات، ورسائل عامة في السنة، بدءوا يكتبون الحديث، بدءوا يكتبون تفسير القرآن، بدءوا يكتبون بعض المقالات وغيرها، تجددت عندهم وسائل الدعوة بحسب أحوالهم. وفي عهد شيخ الإسلام ابن تيمية استحدث هو وغيره من أئمة المسلمين وسائل لم تكن معهودة في القرون الثلاثة الفاضلة في أسلوب التصنيف، وفي أسلوب الدعوة، وفي أسلوب التقاضي عند الأمراء وعند السلاطين والولاة وغير ذلك من الأساليب في الدعوة، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية أحياناً كان يستخدم أساليب ما كانت معهودة حتى في عصره، جدد فيها. وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أيضاً جدد وسائل في الدعوة، من ذلك: أسلوب الرسائل، وطريقة التعليم، وبعث الطلاب، واتخذت وسائل للدعوة في المسجد ما كانت معهودة في عهد السلف، من ذلك: تكليف أئمة المساجد بأن يلقنوا المسلمين في مساجدهم أصول الدين، وهذه الوسائل ما كانت معهودة بهذه الطريقة، لكنها وسيلة من الوسائل التي نفع الله بها. فإذاً: وسائل الدعوة إلى الله عز وجل من الوسائل الاجتهادية. أما الذين يقولون بأن الوسائل توقيفة، فيقصدون مناهج الدعوة، أي: ما يجوز وما لا يجوز في مناهج الدعوة إلى الله عز وجل، حتى القواعد الحديثية التي تحكم الأسانيد تدخل في المناهج وفي الأصول، وليست داخلة في الوسائل. فإذاً: الخلاف إنما هو عادة في الألفاظ، وهؤلاء يتنازعون على لا شيء، وإلا فلا أظن طالب علم يخالف في مسألة استخدام الوسائل التي ذكرناها في الدعوة، أو أن هذه الوسائل والأدوات محجورة لا تجوز، ما يخالف فيها إلا جاهل، وكذلك لا يمكن أن يقول أحد: إنه يجوز الابتداع في مناهج الدعوة إلى الله عز وجل بما يخالف مناهج السلف، فهذا لا شك أنه بدعة عند الجميع. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الطحاوية [108]

شرح العقيدة الطحاوية [108] وقع الاختلاف في الأمة بين من يقرون بالكتاب في أمرين: اختلاف على تنزيله، فضلت في ذلك طوائف ممن أنكروا صفة الكلام لله، فقالوا بأن الكلام معنى قائم بالنفس، وأن القرآن عبارة عن كلام الله، أو هو حكاية، واختلاف آخر وقعوا فيه وهو الاختلاف على تأويله، والمتضمن للإيمان ببعضه دون بعض، وكان الصراط القويم والسبيل المستقيم في ذلك ما انتهجه السلف الصالح في ذلك، من تأويل القرآن بالقرآن، أو تأويله بالسنة الصحيحة، ثم تأويله بفهم الصحابة الكرام، ثم تأويله بفهم الأئمة الأعلام.

اختلاف التضاد

اختلاف التضاد قال المصنف رحمه الله تعالى: [والاختلاف الثاني: هو ما حمد فيه إحدى الطائفتين وذمت الأخرى]. الاختلاف الثاني هو اختلاف التضاد واختلاف الافتراق. قال رحمه الله تعالى: [كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة:253]. وقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] الآيات. وأكثر الاختلاف الذي يئول إلى الأهواء بين الأمة -من القسم الأول- وكذلك إلى سفك الدماء، واستباحة الأموال، والعداوة والبغضاء؛ لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق، ولا تنصفها، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل، والأخرى كذلك، ولذلك جعل الله مصدره البغي، في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [البقرة:213]؛ لأن البغي مجاوزة الحق، وذكر هذا في غير موضع من القرآن؛ ليكون عبرة لهذه الأمة. وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم). فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به، معللاً بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال، ثم الاختلاف على الرسل بالمعصية].

الاختلاف في الكتاب

الاختلاف في الكتاب قال: [ثم الاختلاف في الكتاب من الذين يقرون به على نوعين: أحدهما: اختلاف في تنزيله. والثاني: اختلاف في تأويله، وكلاهما فيه إيمان ببعض دون بعض].

الاختلاف في تكلم الله بالقرآن وتنزيله

الاختلاف في تكلم الله بالقرآن وتنزيله قال: [فالأول: كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله، وطائفة قالت هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته لكنه مخلوق في غيره لم يقم به، وطائفة قالت: بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق، لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل، فآمنت ببعض الحق وكذبت بما تقوله الأخرى من الحق، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك]. هذا الكلام كله ليس بصحيح على إطلاقه، يعني: اختلافهم في تكلم الله عز وجل بالقرآن وتنزيله، قالت طوائف من المعتزلة وبعض الجهمية: إن كلام الله حصل بقدرة الله عز وجل، لكنه مخلوق في غيره فلم يقم به. وقالت الكلابية ومن سلك سبيلهم من الأشاعرة والماتريدية: إن كلام الله هو صفة قائمة بذاته، ليس بمخلوق، لكن البعض قال: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، وهؤلاء هم الكلابية ومن سلك سبيلهم. فالكلابية هم أول من قال هذا القول، زعموا أنهم أرادوا التوسط به بين قول المعتزلة وبين قول أهل الحديث، فهؤلاء زعموا أنهم أثبتوا كلام الله عز وجل، وأن كلامه صفة قائمة بذاته وأن الكلام ليس بمخلوق، لكنهم نفوا أن يكون كلام الله متعلقاً بقدرته ومشيئته، وهذه بدعة. والحق أن كلام الله عز وجل صفة لله قائمة بذاته، وأنه متعلق بقدرة الله ومشيئته، ولا يحد من مشيئته للكلام شيء، ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله هو معنى قائم بالنفس، ولا يجوز أن يقال: بأن القرآن حكاية عن كلام الله، ولا عبارة عن كلام الله، بل كلام الله عز وجل متعلق بمشيئته، فكما أنه موصوف بالكلام دائماً وأبداً، فكذلك أيضاً موصوف بأنه يتكلم متى شاء سبحانه، وقد ثبت أنه كلم آدم وكلم موسى وكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه يكلم الناس يوم القيامة ويناديهم ويناجيهم، وأنه يتكلم متى شاء وكيف شاء. إذاً: كل من القولين فيه خطأ وصواب، فالصواب عندهم أنهم أثبتوا كلهم أن الله متكلم، لكن الأولين أخطئوا في قولهم بأن القرآن مخلوق في غيره لم يقم به، أي: أن الله لم يتكلم بحرف وصوت على ما يليق به سبحانه، والآخرون وهم الكلابية ومن سلك سبيلهم أيضاً أصابوا في قولهم: إن الكلام صفة لله قائمة بذاته، وأنه ليس بمخلوق، لكنهم أخطئوا حينما قالوا: بأن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته، ولذلك اضطروا بأن يقولوا: بأن القرآن حكاية عن كلام الله، أو عبارة عن كلام الله، وهذه بدعة؛ لأن الحكاية والعبارة مثل الترجمة لا تعتبر كلاماً، بل لا بد أن تنسب إلى غير الله؛ لأنه إذا كان الحاكي بالقرآن والمعبر عن القرآن غير الله لم يصر كلامه إلا من باب المجاز، والمجاز لا يعبر عنه بالكلام الحقيقي، ولذلك يفرق بين من يتكلم حقيقة، وبين من لا يتكلم حقيقة، ولله المثل الأعلى، الإنسان القادر على الكلام يقال له: متكلم، بخلاف الأخرس لا يقال له: متكلم، مع أنه يمكن مجازاً أن يسمى تعبيره بالإشارات كلاماً، فهو حكاية وعبارة عن كلام الأخرس، لكنه لا يسمى كلاماً حقيقياً عند العقلاء، ولله المثل الأعلى، مع أن الله عز وجل يتكلم كما يشاء، وليس كلامه ككلام المخلوقين، فليس كمثله شيء، لكن نقصد أصل إثبات الصفة، ولا مانع من ضرب الأمثال في أصل إثبات الصفة لله لا في كيفيتها، ولله المثل الأعلى. فمن هنا نقول: إن كلاً من الطائفتين أخطأتا، وإن أصابتا في الأصل أو في بعض الأصل، والحق في هذا أن الله عز وجل متكلم موصوف بالكلام، وكلامه قائم بذاته سبحانه، وأيضاً كلامه متعلق بمشيئته، يتكلم متى شاء وكيف شاء كما يليق بجلاله، وكلامه بحرف وصوت، ويسمى نداء، ويسمى قولاً، ويسمى كلاماً إلى آخره. أما القول بأنه أقيمت الحجة على من قال: بأن كلام الله حكاية، أو أن القرآن عبارة عن كلام الله، أو أن الكلام معنى قائم بالنفس، فيكفر، فهذا غير صحيح؛ لأن أصل نزعة القول هذه ناتجة عن تأول، وإن كان يلزم من ذلك الكفر، لكن ما دام لا يلتزم، حتى لو كان في عدم التزامه شيء من المغالطة، أو البعد عند العقلاء، وعند أهل العلم والفقه في الدين، فما دام يتأول فإنه سيبقى مبتدعاً ولا يكفر.

الاختلاف في تأويل القرآن المتضمن للإيمان ببعضه دون بعض

الاختلاف في تأويل القرآن المتضمن للإيمان ببعضه دون بعض قال رحمه الله تعالى: [وأما الاختلاف في تأويله الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض فكثير، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر، هذا ينزع بآية، وهذا ينزع بآية، فكأنما فقئ في وجهه حب الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟ أم بهذا وكلتم؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ انظروا ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا). وفي رواية: (يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتاب بعضه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به). وفي رواية: (فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا، وإن المراء في القرآن كفر) وهو حديث مشهور مخرج في المسانيد والسنن. وقد روى أصل الحديث مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري أن عبد الله بن عمرو قال: (هجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف في وجهه الغضب، فقال: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب). وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله، مؤمنون ببعضه دون بعض، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات، وما يخالفه، إما أن يتأولوه تأويلاً يحرفون فيه الكلم عن مواضعه، وإما أن يقولوا: هذا متشابه لا يعلم أحد معناه، فيجحدوا ما أنزله من معانيه، وهو في معنى الكفر بذلك؛ لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب، كما قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]. وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة:78] أي: إلا تلاوة من غير فهم معناه، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القران فعمل به، واشتبه عليه بعضه فوكل علمه إلى الله، كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه) فامتثل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم]. قرر الشيخ في هذا المقطع قاعدة عظيمة من قواعد السلف، وهي من القواعد التي خالفت فيها جميع الفرق، وهي: أن السلف ومن تبعهم في مسألة تأويل القرآن وتفسيره يأخذون بأصول الاستدلال على وجهها الصحيح، فيستدلون في تأويل القرآن بتأويل القرآن بالقرآن، ثم تأويل القرآن بالسنة، ثم تأويل القرآن بفهم الصحابة، ثم بفهم السلف، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، وما ورد من نصوص القدر، أو نصوص العقيدة، أو غيبيات أو في أمر مشتبه عليهم، فما علمه المسلمون واستنبطوه عملوا به وآمنوا وقرروه، وما لم يتبين لهم معناه من أدلة العقائد والأحكام سلموا به، وهذه القاعدة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث، منها: (ما أمرتم به فاتبعوه، وما نهيتم عنه فانتهوا). ومنها: (ما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه فآمنوا به)، وهذه قاعدة عظيمة، بمعنى سلموا بالمتشابه؛ لأنه حق، وإنما قصرت أفهامكم عن إدراكه.

أنواع العقائد والأحكام المتعلقة بفهم الناس لها

أنواع العقائد والأحكام المتعلقة بفهم الناس لها إن نصوص الشرع سواء ما يتعلق منها بالعقائد أو الأحكام على درجات وأنواع: الأول: ما يفهمه جميع الناس، مثل: آقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فهذا يفهمه جميع الناس، وطلبه سهل ما يحتاج إلى آلة العلم أو التفقه. النوع الثاني: ما يعرفه عامة طلاب العلم والعلماء، وهو أغلب نصوص الشرع، الغالبية العظمى من نصوص الشرع مما يدركه العلماء وعامة طلاب العلم. النوع الثالث: ما لا يدركه إلا الراسخون، وهذا مما يجب أن ترجع فيه الأمة إلى الراسخين، ويبحث عند الإشكال فيه عن أهل الرسوخ والاختصاص، وقد يدرك الراسخ شيئاً ويخفى عليه شيء، وقد يكون أهل الرسوخ في العلم لكل منهم اختصاص وجانب من الإبداع والإجادة ما لا يجيده الآخر، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف الصحابة بأوصاف متباينة، وأسند لهم بعض الأمور فيما يتعلق بالعلم الشرعي، فمنهم من تميز بالقضاء، ومنهم من تميز بالفتوى، ومنهم من تميز بالمواريث إلى آخره، وكل من الصحابة الذين خصهم النبي صلى الله عليه وسلم أو أشار إلى علمهم ونحو ذلك، هؤلاء كلهم علماء، ولا يعني: أنهم لا يجيدون إلا ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، لكن عند كل واحد منهم مزية في جانب معين، وإلا فلا يكون العالم عالماً ولا الراسخ راسخاً إلا إذا كان علمه موسوعياً، لا يمكن أن يكون عالماً ترجع إليه الأمة وإن لم يكن متخصصاً في كل شيء، لكن لا يمكن أن يكون جاهلاً بأصول الحديث أو بأصول التفسير، أو جاهلاً بقواعد الفقه الأساسية وقواعد الاجتهاد، أو يكون جاهلاً باللغة العربية جهلاً يخرجه عن أهل العلم، هذا لا يمكن، وهذا الصنف هو الذي يدرك كثيراً مما لا يدركه الآخرون، ومع ذلك قد تبقى بعض مسائل الدين لم يدركها حتى الراسخون في العلم، ومنها ما يسمى أو بمشكل الآثار، كما سماها كثير من أهل العلم، بمعنى أنه لم يجزم أحد بشيء منها، وعلى هذا فهذه الأمور لا يتعلق فيها تكليف، فالأمور التي بقيت محل إشكال هي ليست من أمور العبادات، ولا من أمور العقائد القطعية، ولا من الأمور التي يتعلق بها أحكام الناس، التي فيها مصالحهم في دينهم ودنياهم، إنما هي من الأمور التي ابتلى الله بها الأمة؛ لينظر من يسلم ويذعن ممن لا يسلم ولا يذعن، وهي مسائل معدودة قليلة، لا يصل فيها الراسخون في العلم إلى جزم ويقين، ومع ذلك تبقى أنموذج لوجوب التسليم لله عز وجل، فما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم فيها حق، لا بد من التسليم به. ومع ذلك أيضاً قد تمر أحياناً أجيال لا يدركون شيئاً في بعض المسائل، فيخرج واحد من أهل العلم فيدرك شيئاً لم يدركه الأولون، وهذا ليس فيه مانع تصوراً وشرعاً، وإن كان هذا لا يعرف في مسائل الدين الكبرى جزماًَ، كالمسائل العظمى، ومسائل مصالح الأمة، وما يتعلق بقضايا العقيدة الأساسية، ليس هناك شيء يكتشف بعد، لكن ما يتعلق بالجزئيات، في الأحكام، قد توجد في أهل عصر دون الآخر، إما لأن الحاجة لم تحدث إلا في وقت معين، كبعض المستجدات التي انطبقت عليها النصوص في وقتنا، هذا لم تنطبق عليه النصوص قبل هذا الوقت. إذاً: أمور الدين هي على هذه الأنواع: منها ما يدركها جميع المسلمين عامة. ومنها ما يدركها عامة العلماء وطلاب العلم. ومنها ما لا يدركها إلا الراسخ في العلم. ومنها ما لا يدرك، وهذا لا يدخل في هذه الأصناف، لكن يبقى مما يجب التسليم به على أي حال، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

وجه جعل الشارح للخلاف الذي يئول إلى الاقتتال من خلاف التنوع

وجه جعل الشارح للخلاف الذي يئول إلى الاقتتال من خلاف التنوع Q قول الشارح: (وأكثر الاختلاف الذي يئول إلى الأهواء بين الأمة من القسم الأول) فهو جعل من القسم الأول الذي هو التنوع وقوع سفك الدماء وغير ذلك فكيف ذلك؟ A قصده أن أغلب الخلاف بين أصحاب المذاهب الفقهيه، أو بين أهل السنة وغيرهم في الخلافات التي لا تخرج عن الملة أو ليست من البدع المغلظة، أغلبها من النوع الأول من اختلاف التنوع، لكن لما دخل في اختلاف التنوع البغي والهوى والحسد اشتد فيه المتخاصمون، حتى وقع بينهم تقاتل وولاء وبراء ونحو ذلك، مع أنه من النوع الذي لا يجب أن يكون فيه تقاتل وولاء وبراء. وأهل السنة والجماعة عموماً يتجنبون الخلاف خلاف تضاد، فهذا لا يقع فيه إلا معاند أو صاحب هوى صريح في هواه، فلذلك تجد أن أهل السنة يكرهون الجدل فيه، لكن فيما يتعلق بالخلاف السائغ فالخلاف فيه كثير جداً، حتى في عهد الصحابة وما بعدهم، وما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم كان من الخلاف السائغ، لكن أوجب ما حدث من تلك الفتنة الكبرى والعظمى، ثم بعد ذلك أيضاً بقيت أكثر الخلافات التي أثارت الفتن بين المسلمين، الفتن التي استوجبت أن بعضهم يتكلم في بعض من أهل العلم وأهل الحق والعدل. إذاً: النوع الأول هو الخلاف الاجتهادي السائغ، لكنه انضاف إليه شيء من الهوى والبغي أو الجهل بما عند الطرف الآخر، أو سوء الظن، أو الحسد، أو التعصب إلى آخره، والله أعلم.

نوع الاختلاف في كلام الله بين أهل السنة وغيرهم

نوع الاختلاف في كلام الله بين أهل السنة وغيرهم Q قول الشارح: وقريب من هذا الباب، ثم ذكر حديث أبي هريرة، ثم بعده مباشرة ذكر أنواع الاختلاف، وذكر منها الاختلاف في كلام الله، فمن أي الأنواع جعل الاختلاف في كلام الله؟ A الشيخ رحمه الله قسم خلاف أهل الأهواء مع أهل السنة جميعها إلى نوعين: خلاف تأول وهو الأغلب، كخلاف أهل السنة مع المرجئة، وخلاف أهل السنة مع الأشاعرة المتكلمين، وهم الأكثرية عدداً، ويرى أن هذا الخلاف يدخل في النوع الأول ولا يدخل في النوع الثاني، أما خلاف أهل السنة مع الجهمية ومع الرافضة ومع غلاة المتصوفة وغلاة الفلاسفة فهو داخل في خلاف التضاد، هذا ما يبدو لي، وهذا الكلام منقول عن كتاب (الاقتضاء) لـ شيخ الإسلام، وفي سياق الشيخ في الاقتضاء أنه لا يعد كل ما بين أهل السنة وبين أهل البدع من خلاف التضاد، بينما يرى الشاطبي أن جميع الخلاف مع أهل البدع خلاف تضاد، أما شيخ الإسلام ابن تيمية فيرى أن أنواعاً كثيرة من الأمور التي خالف فيها أهلُ البدع أهلَ السنة تدخل في باب التأول، وهو من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد. هذا فيما يظهر لي، والمسألة تحتاج إلى مزيد تحقيق، لعله ينظر فيها إن شاء الله.

معنى ظل الله في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله)

معنى ظل الله في حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله) Q جاء في الحديث عند البخاري: (سبعة يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله) فهل هذا الظل هو ظل العرش أو يقال: من ظل الله العرش؟ A لا يجوز أن يقال: إنه ظل العرش، وإنما يثبت كما جاء عن الله عز وجل. والسؤال عن مثل هذه الأمور الأصل فيه أنه بدعة، كما ثبت عن مالك بن أنس وغيره من الأئمة، لكن سؤال طالب العلم لا حرج فيه، لكن بشروط: أن يكون بينه وبين المسئول، وأن يوجد للسؤال مبرر، يعني: من دفع شيء في نفسه، أو يكون هذا السؤال قد أثير في مجلس أو أثير كشبهة في بعض المناسبات، فيريد أن يرد على هذه الشبهة فلا حرج. أما ما ينقدح في الذهن فيجب على المسلم وعلى طالب العلم بخاصة أن يتورع عن مثل هذه الأسئلة ويتقي الله عز وجل، فلا يسأل إلا لحاجة، بأن يجد في نفسه ضرورة، يريد أن يدفع شيئاً في نفسه. أما مجرد الترف العلمي، وأن يعلم لمجرد العلم فينبغي له ألا يسأل فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، بل يجب على طالب العلم في الأمور الغيبية التسليم، إلا فيما يتعلق بأصل إثباتها فله أن يسأل، أو إذا كان الإنسان لم يفهم المعنى فله أن يسأل عنه، أما حديث: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) من حيث المعنى والحقيقة فهو واضح في أذن السامع، لكن تبقى الكيفية الله أعلم بها، والقول بأنه ظل العرش، أو ظل بعض خلق الله، أو ظل يحدثه الله، هذا كله من القول على الله بغير علم، ومن التأويل الذي لا أصل له، بل من اتباع المتشابه الذي نهى الله عنه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

شرح العقيدة الطحاوية [109]

شرح العقيدة الطحاوية [109] دين الإسلام واحد، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وأصول هذا الدين وفروعه موروثة عن الرسل، وهو ظاهر غاية الظهور، وتعلمه ميسور، وهو دين وسط في كل شيء، وما حاد أحد عن طريقته إلا ضل وزاغت به الأهواء، وتقطعت به السبل، وأسلمته نفسه وهواه إلى إفراط أو تفريط في أي جانب من الجوانب؛ في العقيدة أو العبادة أو المعاملة أو غيرها.

الإسلام هو دين الله وهو واحد في الأرض والسماء

الإسلام هو دين الله وهو واحد في الأرض والسماء قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ودين الله في الأرض والسماء واحد وهو دين الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19]. وقال تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينَاً} [المائدة:3]، وهو بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل، وبين الجبر والقدر، وبين الأمن والإياس)]. سيذكر المؤلف رحمه الله بعض الأحاديث الدالة على أن دين الله هو الإسلام، ومعنى ذلك، لكن قبل أن نقرأ الشرح أحب أن أشير إلى شبهة حدثت في هذا العصر، بل أصبحت الآن ليست مجرد شبهة بقدر ما تكون أصلاً من أصول الباطل، التي يروج لها كثير من المبطلين، وهي دعوى: أن الديانات السماوية يجب ألا يكون بينها فرق في العصر الحاضر، وأن أهل الديانات يجب أن يعترف بعضهم لبعض بصحة دياناتهم جميعاً، ورفعوا دعوى وحدة الأديان، ودعوى وحدة الديانات الإبراهيمية، ودعاوى كثيرة، كلها تدور على اعتبار أن كل الديانات الكتابية اليهودية والنصرانية والإسلام تمثل ديناً واحداً صحيحاً، لا فرق بين أصوله وفروعه، وهذا باطل. وسيأتي من خلال الشرح أن المقصود بأن دين الله واحد: أن الله بعث جميع الرسل بالتوحيد، وهذا حق، وأن الله بعث جميع الرسل بالشرائع، وهذا حق، لكن مما هو معلوم من الدين بالضرورة أن الأديان السابقة حرفت، بما فيها ديانات أهل الكتاب اليهودية والنصرانية، حرفت وبدلت، ثم نسخت من عند الله عز وجل، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء لجميع الأمم، بما في ذلك اليهود والنصارى، ويجب أن يؤمنوا به، وأما الديانات السابقة بما فيها دين موسى وعيسى، اشتملت على وجوب الخضوع لدين النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء به، والديانات الكتابية اشتملت على ضرورة أن يكون الإسلام هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، هذا أمر. والأمر الآخر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن اليهود بخصوصهم، وغيرهم من باب أولى، أنه لا يستقيم لليهود ولا للنصارى دين حتى يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم، فقال في الحديث الصحيح: (والله لا يسمع بي من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار) فهو صلى الله عليه وسلم أقسم بذلك: (والله)، وفي بعض الروايات بدون القسم، لكن المهم أن الحديث صحيح ورد في مسلم وفي غيره، فعلى هذا لا يصح أن يقال أن الديانات الإبراهيمية واحدة؛ لأنها حرفت وبدلت، ثم أن الله عز وجل ألزم باتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم جاء بشريعة غير الشرائع الأولى، هي أكمل وأوفى وأوفر وأصفى وأسمى وأسلم، ولم يدخلها التحريف ولا التبديل، وقد تكفل الله بحفظها إلى قيام الساعة، وأمر الله جميع الأمم، بل أمر الله الجن والإنس بأن يؤمنوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. وأشير إلى المسائل الخطيرة الواردة على الأمة، وهي دعاوى: أن من مات من أهل الكتاب فمصيره إلى الجنة، وأن من صدق بالنبي صلى الله عليه وسلم وقال بأنه رسول وإن لم يتبعه فهو مؤمن وهو مسلم إلى آخرها من الدعاوى التي بدأت تروج الآن، وقد كانت تروج في السابق، لكن في السابق كان عند المسلمين من حصانة العقيدة وقوة الإيمان والفقه في دين الله عز وجل -عامة وخاصة- ما يجعلهم لا يقبلون هذه الدعاوى، ولكن في العصر الحاضر عندما اختلفت الثقافات، وكثرت مصادر التلقي عند الناس، وتزعم المثقفون بغير فقه في دين الله الدعوة إلى الله عز وجل، وبدءوا يتكلمون باسم الدين، كثر هذا الهرج، وبدأ الخوض، ووقع كثير من المسلمين في هذه الشبهات، حتى إنها أحياناً تصدر هذه الإشكالات من طلاب العلم، كما يثار الآن مسألة الكافر واليهودي والنصراني إذا مات، وعندما مات بعض أعلام الكفار كأحد اليهود وأحد النصارى، خاض الناس خوضاً عجيباً يدل على جهلهم ببدهيات الدين، وحتى قال بعضهم: إنه يحكم على هؤلاء بالإسلام، وبعضهم يقول: نتورع بأن نقول: هم كفار وأنهم من أهل النار إلى غير ذلك من الأمور التي تدل على أن مسألة العقيدة بدأت تهتز في قلوب الناس اهتزازاً عظيماً، يخشى منه أن يقع بعض الناس في ردة وهو لا يشعر، نسأل الله العافية. قال رحمه الله تعالى: [ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد). وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينَاً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] عامٌّ في كل زمان؛ ولكن الشرائع تتنوع كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً} [المائدة:48]. فدين الإسلام هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة رسله، وأصول هذا الدين وفروعه موروثة عن الرسل، وهو ظاهر غاية الظهور، يُمْكِنُ كل مميز من صغير وكبير، وفصيح وأعجم، وذكي وبليد، أن يدخل فيه بأقصر زمان، وإنه يقع الخروج منه بأسرع من ذلك، من إنكار كلمة، أو تكذيب، أو معارضة، أو

ظهور دين الإسلام وسهولة تعلمه

ظهور دين الإسلام وسهولة تعلمه قال رحمه الله تعالى: [فقد دل الكتاب والسنة على ظهور دين الإسلام، وسهولة تعلمه، وأنه يتعلمه الوافد، ثم يولي في وقته]. في هذا إشارة إلى أن أصول الإسلام وقواعد الدين وأركانه وواجباته سهلة التعلم، وليس المقصود هنا تعلم شرائع الدين وأحكامه وفوائده على التفصيل، لا؛ لأنه لا يدرك ذلك أكثر الناس، بل يحتاج إلى التبحر في العلم، ولذلك كلف الله عز وجل طائفة من المؤمنين لتعلم دينه سبحانه وتعالى، لكن إدراك الإجماليات سهل على الجميع، كلف الله به الجميع، لم يعذر أحداً في أن يخل بمعرفة إجماليات الدين بحسب مداركه وبحسب فهمه. قال رحمه الله تعالى: [واختلاف تعليم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الألفاظ بحسب من يتعلم، فإن كان بعيد الوطن، كـ ضمام بن ثعلبة، والنجدي، ووفد عبد القيس، علمهم ما لا يسعهم جهله، مع علمه أن دينه سينتشر في الآفاق، ويرسل إليهم من يفقههم في سائر ما يحتاجون إليه، ومن كان قريب الوطن يمكنه الإتيان كل وقت، بحيث يتعلم على التدريج، أو كان قد علم فيه أنه قد عرف ما لا بد منه، أجابه بحسب حاله وحاجته، على ما تدل قرينة حال السائل، كقوله: (قل: آمنت بالله، ثم استقم). وأما من شرع ديناً لم يأذن به الله، فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن غيره من المرسلين؛ إذ هو باطل، وملزوم الباطل باطل، كما أن لازم الحق حق]. يعني: أن كل من شرع شيئاً وزعم أنه من الدين، سواء كان في العقيدة، أو في العبادة، أو في الأحكام، أو الأعياد أو نحو ذلك من التشريعات؛ فإنها تدخل في مفهوم الدين، بعض الناس قد لا يفهم من الدين إلا العقيدة، وبعض الناس قد لا يفهم من الدين إلا العقيدة والعبادة، لكن الصحيح أن كل من شرع ديناً، حتى وإن كان في أمور الأحكام البسيطة أو في مفردات الأحكام، فإنه يدخل في مفهوم مَنْ شرع ديناً، ما دام ادعى أنه من عند الله وليس من عند الله، ولذلك سمي هؤلاء الذين خالفوا في العقيدة: أهل بدع، والذين خالفوا في العبادة: أهل بدع، والذين شرعوا أحكاماً من دون شرع الله عز وجل: أهل بدع، والذين شرعوا أعياداً من دون الأعياد الشرعية: أهل بدع وهكذا.

دين الإسلام بين الغلو والتقصير

دين الإسلام بين الغلو والتقصير قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (بين الغلو والتقصير) قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171]، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالَاً طَيِّبَاً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [المائدة:87 - 88]. وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: (أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سألوا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر؟ فقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا؟! لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني). وفي غير الصحيحين: (سألوا عن عبادته في السر، فكأنهم تقالوها). وذُكر في سبب نزول الآية الكريمة عن ابن جريج عن عكرمة: أن عثمان بن مظعون، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالماً مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم في أصحابه تبتلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل، وصيام النهار، فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة:87]. يقول: لا تسيروا بغير سنة المسلمين، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس، وما أجمعوا له من قيام الليل، وصيام النهار، وما هموا به من الاختصاء، فنزلت فيهم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: (إن لأنفسكم عليكم حقاً، وإن لأعينكم حقاً، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا، فقالوا: اللهم سلَّمنا واتبعنا ما أنزلت)].

دين الإسلام بين التشبيه والتعطيل

دين الإسلام بين التشبيه والتعطيل قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وبين التشبيه والتعطيل): تقدم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يوصف بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تشبيه، فلا يقال: سمع كسمعنا، ولا بصر كبصرنا ونحوه، ومن غير تعطيل، فلا يُنفى عنه ما وصف به نفسه، أو وصفه به أعرف الناس به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك تعطيل، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى]. التعطيل يشمل تعطيل الجهمية ومن سلك مسلكهم، وهو إنكار أسماء الله وصفاته، وتعطيل المعتزلة وهو إنكار صفات الله عز وجل أو بعضها، ويشمل أيضاً التأويل؛ لأن التأويل هو نوع من التعطيل، التأويل لمعاني وحقائق أسماء الله وصفاته الواردة في ألفاظ الكتاب والسنة إلى معان وحقائق أخرى متوهمة، هذا التعطيل، ولكنه تعطيل بحيلة الاشتباه والمجاز ونحو ذلك، ويشمل ذلك تأويل الأشاعرة والماتريدية ومن سلك سبيلهم، فهو نوع من التعطيل. قال رحمه الله تعالى: [ونظير هذا القول قوله فيما تقدم: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه زَلَّ ولم يصب التنزيه). وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11]. فقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) ردٌّ على المشبهة، وقوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) ردٌّ على المعطلة].

دين الإسلام بين الجبر والقدر

دين الإسلام بين الجبر والقدر قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وبين الجبر والقدر): تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأن العبد غير مجبور على أفعاله وأقواله، وأنها ليست بمنزلة حركات المرتعش، وحركات الأشجار بالرياح وغيرها، وليست مخلوقة للعبد، بل هي فعل العبد وكسبه وخلق الله تعالى]. هذا فيه إشارة إلى مذهبين متفاضلين كلاهما في القدر، والحقيقة كل الأمر يرجع إلى القول في القدر، فمن أصول الجهمية الكبرى القول بالجبر، ويقصدون بالجبر أن الإنسان مجبور على أفعاله، ليس له فيها أي إرادة ولا حرية ولا تكليف، حتى يسقطون التكليف عن العباد، ومذهب الجهمية انتقل بعد القرن الثالث وما بعده إلى أكثر طرق الصوفية، وهو عند بعض أهل الأهواء، وبعض النزعات العقلانية ونحوها. ومذهب القدرية الأولى قضية معبد الجهني وغيلان الدمشقي، ثم قضية المعتزلة، والكلام كله يتعلق بالقدر، لكن سمي هذا بالجبر؛ لأنه يلغي اعتبار قدرة الإنسان، ويقول بأنه مجبور على الفعل، أما قول القدرية فهم يزعمون أن الإنسان مقدر أفعاله، أو أنه خالق أفعاله أو بعض أفعاله، بعضهم قد يقول: إن الإنسان يقدِّر جميع الأفعال، وبعضهم يقول: إن الإنسان هو الذي أوجد أفعال الشر، ولم يكن لله عز وجل فيها تقدير، وهذا ما عليه متأخرة المعتزلة وليس كلهم، لكن عليه عموم المعتزلة.

دين الإسلام بين الأمن والإياس

دين الإسلام بين الأمن والإياس قال رحمه الله تعالى: [وقوله: (وبين الأمن والإياس): تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى، وأنه يجب أن يكون العبد خائفاً من عذاب ربه، راجياً رحمته، وأن الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للعبد في سيره إلى الله تعالى والدار الآخرة]. يعني: الأمن من عقوبة الله عز وجل ومن بطشه وعذابه، أما الأمن المطلق فهو بمعنى ألا يخاف الإنسان من ذنوبه، وأنه بإمكانه أن يرتكب المعاصي ثم يطمئن على مصيره، فهذا الأمن الذي لا يجوز، وهو الذي قالت به الجبرية السابقة؛ لأن القول بالأمن نتيجة للقول بالجبر، والإرجاء الغالي نتيجة للقول بالجبر، فعلى هذا الآمنون من مكر الله عز وجل ومن بطشه وعقابه وعذابه هم غلاة الجهمية، وعلى هذا المذهب غلاة الصوفية كذلك، وأيضاً غلاة المرجئة عموماً في كل زمان، والإرجاء قد يكون مذهباً، وقد يكون مسلكاً شخصياً أو رأياً فردياً، وقد يوجد الإرجاء في أفراد لا يعرفون عقيدة المرجئة كعقيدة مفلسفة أو مقننة، لكنهم تميل طبائعهم إلى الإرجاء الغالي، فيهلكون بالأمن من مكر الله عز وجل ومن عذابه وعقابه. إذاً: الأمن المطلق هو نتيجة للقول بالإرجاء الغالي، ومن هنا زعم هؤلاء الأمن من مكر الله مطلقاً، فزعموا أنهم من أهل الجنة مطلقاً، وأنه لا يدخل النار أحد، وكذلك الإياس عكس ذلك، فالإياس هو مذهب الخوارج؛ لأنهم متنطعة ومتشددة، ويميلون إلى اليأس من رحمة الله عز وجل، ولذلك يضيقون على أنفسهم وعلى الناس، ثم قرن هذا المذهب بصنف النساك والعباد الأوائل، وأغلبهم امتداد للخوارج، الخوارج أينما واجهتهم الأمة انقسموا إلى قسمين: قسم قاتل بالسيف فهلك أو أهْلَك، وقسم مال إلى العزلة والعبادة، لكنه بقي على التنطع والتشدد، وهؤلاء غلاة العباد الذين حصل منهم الصعق عند قراءة القرآن، وحصل منهم شيء من اليأس من رحمة الله عز وجل، وتيئيس الناس من الرحمة، ثم صار مذهباً في العباد والنساك فيما بعد، ولا يزال مذهباً فردياً عند كثير من الناس، لكن الأصل فيه أنه موجود عند الخوارج والطوائف الغالية في الدين دائماً. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

الأسئلة

الأسئلة

حكم من يقول: إن العقيدة يمكن دراستها في دقائق

حكم من يقول: إن العقيدة يمكن دراستها في دقائق Q ما رأيك فيمن يقول: إن العقيدة يمكن دراستها في دقائق؟ A هذا كلام مجمل، إذا كان المقصود بدراسة العقيدة في دقائق، يعني: استعراض مجملات الدين، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبعض الصحابة، كما مر قبل قليل في الدرس، فهذا يمكن أن يحمل على أنه صحيح في الجملة، فالعقيدة في الجملة هي مجملات الدين، وقواعد الدين العامة، ويمكن أن يقول الإنسان: إن من جماع العقيدة أركان الإيمان، وأركان الإسلام، وكل هذا صحيح. وهذه يتم إفهامها وإبلاغها للناس في أقل من دقيقتين. إذاً: هذا الكلام مجمل، قد يصح من وجه، ولا يصح من وجه آخر.

شرح العقيدة الطحاوية [110]

شرح العقيدة الطحاوية [110] الأصل في المسلم البراءة من كل من خالف أصول العقيدة، ومن هؤلاء المشبهة الذين شبهوا الله بخلقه، ومنهم المعتزلة الذين قاسوا أفعال الله على أفعال العباد، وقالوا بأن الشر ليس من خلق الله ولا من تقديره، ومنهم الجهمية المعطلة الذين نفوا الصفات، ومنهم الجبرية الذين نفنوا الإرادة عن المخلوق مطلقاً، ومنهم القدرية الذين جاءوا بعكس عقيدة الجبرية فقالوا لا قدر، وأن الأمر أنف.

البراءة من الفرق الضالة

البراءة من الفرق الضالة قال المصنف رحمه الله تعالى: [(فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً، ونحن برآء إلى الله تعالى من كل مَن خالف الذي ذكرناه وبينّاه، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان، ويختم لنا به، ويعصمنا من الأهواء المختلفة، والآراء المتفرقة، والمذاهب الرديئة، مثل: المشبهة، والمعتزلة، والجهمية، والجبرية، والقدرية وغيرهم من الذين خالفوا الجماعة، وحالفوا الضلالة، ونحن منهم براء، وهم عندنا ضُلَّال وأردياء، وبالله العصمة والتوفيق). الإشارة بقوله: (فهذا): إلى كل ما تقدم من أول الكتاب إلى هنا]. أحب أن أشير إلى مسألة كثيراً ما يقولها السلف عند ذكر أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهي أولاً: أنهم يعدون هذه الأصول من الأمور المجمع عليها ومتفق عليها إجمالاً. ثانياً: أنهم يرتبون على هذا أن من خالف هذه الأصول التي أشار إليها الشارح بقوله: (فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً) أن من خالف هذه الأصول فهو الخارج عن جماعة المسلمين، فيكون من أهل الأهواء والضلالة والافتراق، سواء كان فرداً أو جماعة، إن كانوا جماعة سموا فرقة، وإن كان فرداً سمي خارجاً عن الجماعة، وكذلك الفرقة سميت فرقة لمفارقتها الجماعة. ومما ينبغي التنبيه عليه أيضاً في هذا المقام أنهم يقصدون الأصول في مثل هذه الكتب التي قرر فيها السلف العقيدة، تجدهم أنهم يشيرون في أولها أو في ثناياها أو في آخرها إلى مثل هذه الإشارة: أن هذا اعتقادنا، ثم يذكرون أن من خالف هذه العقيدة فهو من أهل الأهواء والافتراق، ثم يشيرون إلى الولاء لمن اعتصم بهذه العقيدة، والبراء ممن خالفها، والمقصود بذلك الأصول والقواعد والإجماليات، لا ما يندرج تحت المسائل الأصولية أحياناً من خلافيات، وهذا ينبغي التنبه له من قبل طلاب العلم، وهو أن السلف حينما يحكون عقائدهم على شكل أصول ومناهج، قد يدرجون تحتها بعض الخلافيات، فيكون الواحد منهم قد أخذ بما يترجح له في المسائل الخلافية في مسائل العقيدة، فلا تدخل هذه الخلافيات في لوازم الاعتقاد، من أنه يجب، وأن التزامه فرض، وأن من حاد عنه فهو مفارق، وأيضاً البراء ممن فارق، والتبرؤ منه وعداوته، كل ذلك إنما ينصرف إلى الأصول؛ لأن كثيراً من الأصول التي ذكرها السلف يدرجون تحتها جزئيات، ويدرجون تحتها مسائل خلافية في العقيدة، فالمسائل الخلافية لا تدخل في اللوازم التي ذكرها الطحاوي هنا، وعقيدة الطحاوي -التي نحن بصدد شرحها، وإن شاء الله ننتهي منها قريباً- تعتبر من أجمع كتب السلف التي تضمنت أصول السلف بعبارات قليلة، ولذلك هي من أفضل الكتب للحفظ، ومثلها: (لمعة الاعتقاد)، ومثلها: (عقيدة السلف أصحاب الحديث) إذا جرد من الأسانيد، لو جرد من الأسانيد ربما يكون أوفى من الطحاوية، وأجود عبارة وأوضح، ولكان حفظه سهلاً جداً، فهو من أسهل المتون.

المشبهة وأصل مذهبهم

المشبهة وأصل مذهبهم قال رحمه الله تعالى: [والمشبهة: هم الذين شبهوا الله سبحانه وتعالى بالخلق في صفاته، وقولهم عكس قول النصارى، فإن النصارى شبهوا المخلوق -وهو عيسى عليه السلام- بالخالق تعالى، وجعلوه إلهاً، وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق، كـ داود الجواربي وأشباهه]. داود الجواربي من الرافضة، وكذلك أشباهه البيانية أصحاب بيان بن سمعان، والمغيرية أصحاب المغيرة بن سعيد، والهشامية أصحاب هشام بن الحكم، فهؤلاء كلهم مشبهة، وكلهم من فرق الرافضة.

المعتزلة وأصولهم الخمسة

المعتزلة وأصولهم الخمسة قال رحمه الله تعالى: [والمعتزلة: هم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأصحابهما، سُمُّوا بذلك لما اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله تعالى في أوائل المائة الثانية، وكانوا يجلسون معتزلين، فيقول قتادة وغيره: أولئك المعتزلة، وقيل: إن واصل بن عطاء هو الذي وضع أصول مذهب المعتزلة، وتابعه عمرو بن عبيد تلميذ الحسن البصري، فلما كان زمن هارون الرشيد صنف لهم أبو الهذيل كتابين، وبيَّن مذهبهم، وبنى مذهبهم على الأصول الخمسة التي سَمَّوها: العدل. والتوحيد. وإنفاذ الوعيد. والمنزلة بين المنزلتين. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولبَّسوا فيها الحق بالباطل؛ إذ شأن البدع هذا، اشتمالها على حق وباطل]. الإشارة إلى أصول المعتزلة فيها بيان لمنهج أهل الأهواء عموماً، فإن أهل الأهواء وخاصة الفرق ذات الأصول والمناهج، كلهم وضعوا لأنفسهم أصولاً تختلف عن أصول أهل السنة والجماعة، أما أهل السنة والجماعة فليس عندهم في قواعد الدين وأصوله العامة إلا ما ثبت بالكتاب والسنة، ولذلك لا يسمون للدين أصولاً بالتحديد والتعيين إلا ما يندرج تحت أركان الإيمان، وأركان الإسلام، يعني: ليس عندهم أركان للدين ولا أصول غير أركان الإيمان الستة، وأركان الإسلام الخمسة، وما يندرج تحتها، ولذلك لا يزيدون في هذه الأركان ولا ينقصون، ومن هنا بدع السلف من ادعى أن للإيمان أركاناً غير الأركان الستة، أو أن للإسلام أركاناً غير الأركان الخمسة، بخلاف المخالفين من أهل الأهواء قديماً وحديثاً، فتجد عندهم أصولاً، الأصول الستة وغيرها من الأصول التي لا يقترن بها أصول الإيمان، أو الأصول الخمسة عند المعتزلة، أو الأصول العشرين، أو الثلاثين، أو العشرة، أو الثلاثة إلى آخره، كل ذلك من مناهج أهل الأهواء، والرافضة عندهم أصول محددة، والجهمية عندهم أصول محددة، والمعتزلة عندهم أصول محددة، وهكذا بقية أهل الأهواء. إذاً: من سمات أهل الأهواء أنهم يضعون أصولاً ويحددونها، ويجعلونها تخالف في الغالب أصول الدين المتقررة في الكتاب والسنة وعند السلف، وأيضاً تحكي مناهجهم التي خالفوا فيها أئمة الدين، فالأصول الخمسة هي من اختراع المعتزلة، ولم يخترعوها دفعة واحدة، إنما جاءت باستقراء أبي الهذيل العلاف ومن سلك سبيله، استقرأ أقوال شيوخه السابقين، فتبين له أن عامة ما تقول به المعتزلة يرجع إلى خمسة أصول، فلما سمى هذه الأصول، تعلق بها من بعده، وجعلوها من دينهم ومن شعاراتهم وفرحوا بها؛ لأنها تجعل لهم كياناً، وكأنها بزعمهم تجمع شملهم المتشتت. إذاً: فهذه الأصول مبتدعة، وليست مبنية على أصول الكتاب والسنة، وهي من اختراع المتأخرين منهم، ومما ينبغي التنبه له أن أهل البدع لا يتفقون على هذه الأصول، إنما قد يكون عليها الأغلب. قال رحمه الله تعالى: [وهم مشبِّهة الأفعال؛ لأنهم قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال عباده، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه، وما يقبح من العباد يقبح منه! وقالوا: يجب عليه أن يفعل كذا، ولا يجوز له أن يفعل كذا، بمقتضى ذلك القياس الفاسد! فإن السيد من بني آدم لو رأى عبيده تزني بإمائه ولا يمنعهم من ذلك، لعُدَّ إما مستحسناً للقبيح وإما عاجزاً، فكيف يصح قياس أفعاله سبحانه وتعالى على أفعال عباده؟! والكلام على هذا المعنى مبسوط في موضعه]. يشير المؤلف هنا إلى مقولة المعتزلة -والتي هي من أصولهم-: أن الله عز وجل لم يقدِّر الشر. ومذهب السلف أن الله عز وجل قدر كل شيء، قدر الخير والشر ابتلاءً وفتنة للعباد، وأن الله خالق كل شيء، والمعتزلة زعمت أن الشر ليس من خلق الله ولا من تقديره، زعماً منهم أن هذا من تنزيه الله، والسلف يقولون بأن الشر ليس إلى الله، بمعنى لا ينسب إليه نسبة محضة، إنما ينسب إليه تقدير الشر، وخلق ما يتعلق به من باب الابتلاء، ولحكمة يعلمها الله عز وجل، فهم زعموا أن نسبة الشر إلى الله عز وجل قدح في كماله، فمن هنا وصلوا إلى القول بأن العباد خالقون لأفعالهم، وأن الله لم يخلق أفعالهم، أو لبعض أفعالهم، فبعضهم يرون أن الله خالق أفعال الخير، وليس الشر من تقديره ولا من خلقه؛ لأن الشر لو كان من خلقه حسب زعمهم لرضي بالفساد ممن تحت ولايته.

معاني الأصول الخمسة عند المعتزلة ولوازمها

معاني الأصول الخمسة عند المعتزلة ولوازمها قال رحمه الله تعالى: [فأما العدل فَسَتَرُوا تحته نفي القدر، وقالوا: إن الله لا يخلق الشر، ولا يقضي به؛ إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جوراً! والله تعالى عادل لا يجور. ويلزمهم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يريده، فيريد الشيء ولا يكون، ولازمه وصفه بالعجز! تعالى الله عن ذلك. وأما التوحيد فسَتَرُوا تحته القول بخلق القرآن؛ إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء! ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة، أو التناقض! وأما الوعيد فقالوا: إذا أوعد بعض عبيده وعيداً فلا يجوز ألَّا يعذبهم ويُخلف وعيده؛ لأنه لا يخلف الميعاد، فلا يعفو عمن يشاء، ولا يغفر لمن يريد عندهم! وأما المنزلة بين المنزلتين فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج من الإيمان، ولا يدخل في الكفر! وأما الأمر بالمعروف، وهو أنهم قالوا: علينا أن نأمر غيرنا بما أُمِرنا به، وأن نلزمه بما يَلْزَمنا، وذلك هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وضمَّنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا! وقد تقدم جواب هذه الشُّبَه الخمس في مواضعها]. فسر المعتزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمرين: الأمر الأول عندهم: أن المعروف هو ما يدخل تحت عقائدهم، والمنكر ما يخالف عقائدهم. الثاني: أنهم اعتقدوا أن من أصول النهي عن المنكر، بل أول درجاته: الخروج على الأئمة، الخروج على الولاة. أما الأول: الذي هو إلزام الناس بما هم عليه، فإنهم حينما كانت لهم وزارة في عهد المأمون رأوا أن من الأمر بالمعروف إلزام الناس بالقول بعقائدهم، ومنها: القول بخلق القرآن، وأن من النهي عن المنكر إلغاء القول بأن القرآن منزل غير مخلوق، وفعلاً وصل الأمر إلى أن فتنوا المسلمين فتنة عظيمة، ورأوا أن ذلك هو غاية إقامة شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما الثاني: الذي بزعمهم أنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: الخروج على الولاة، فإنا نعلم أن ذلك مخالف للنصوص الصريحة الواردة في السنة، الدالة على ضرورة السمع والطاعة للولاة، وإن وقعوا في الكبائر، وإن ظلموا وإن فسقوا، كما هو معروف في الأحاديث، وربما يقول قائل: لم تجاهلت المعتزلة أحاديث الصبر على الجور، وأحاديث السمع والطاعة بالمعروف، وأحاديث وجوب التزام البيعة للولاة، وإن كانوا من الفجار والفساق والظلمة، أقول: لأنهم لا يعولون على السنة كثيراً، فالسنة عندهم ليس لها اعتبار إلا فيما يؤيد عقائدهم، ولذلك لا يستدلون بالنصوص إلا للاعتضاد، إذا وجدوا نصاً يعضد أقوالهم أخذوا به، وإذا لم يعضد أقوالهم تركوه ولا يبالون بذلك؛ لأن السنة عندهم منزلتها ليست كالقواعد الفلسفية والعقلية التي يدينون بها، وذلك راجع إلى اعتقادهم الفاسد في الصحابة، وراجع إلى اعتقادهم الفاسد في منهج الاستدلال، فهم لا يستدلون بأحاديث الآحاد، ويرون أن هذه الأمور العملية المتعلقة بالسنة ليست من الأمور الواجبة على الأمة، وأن الدين يمكن أن يكمل من خلال الاجتهاد العقلي وغير ذلك من الأمور التي صرحوا بها في كتبهم، وبعضهم اعتمدها من مناهجهم الأساسية. أما تعطيل الصفات فداخل في مفهوم التوحيد، والتوحيد عند المعتزلة يقصدون به نفي الصفات، لكن الشارح هنا أتى بنموذج فقط، وهو القول بخلق القرآن؛ لأنه هو الذي أثاروا فيه الفتنة، وألزموا المسلمين به بقوة السيف، وإلا فهم أدخلوا في مفهوم التوحيد نفي جميع الصفات التي يرون أنها تعني تعدد القديم؛ لأنهم زعموا أن إثبات الصفات لله عز وجل يعني التنوع، ونظرتهم إلى وجود الله عز وجل نظرة عجيبة، فهم يمنعون أن يكون هناك تنوع في صفات الله عز وجل، حتى إنهم يرون أن الأسماء -وهم يثبتونها- ما هي إلا تعبيرات عن أمر واحد، وسبب ذلك أن عقيدتهم في الله عز وجل راجعة إلى اعتقاد الفلاسفة، بأن وجود الله عز وجل وجود معنوي عقلي، وليس له وجود ذاتي، ومن هنا زعموا أن إثبات الصفات يعني تعدد الموصوف، ولا يقصدون بتعدد الموصوف أن يكون للموصوفين أفراد، لكن يقصدون بتعدد الموصوف تعدد أحوال الموصوف، وهم يرون أن الموصوف ليس له أحوال، ولذلك عبروا عنه بتعدد القدماء؛ لينفروا الناس من إثبات الصفات، قالوا: إذا قلنا بأن القرآن كلام الله، فهذا يعني أنه لا بد أن نقول: كلامه صفته، وإذا قلنا بأن كلامه صفته، أدى هذا إلى أن الله عز وجل له صفات متعددة، وهذا يؤدي إلى ثبوت الأحوال لله عز وجل، والأحوال لا بد أن ينتج عنها إثبات الذات وهكذا، بمعنى: أن عقيدتهم في الله تعود إلى القول بأن وجود الله وجود معنوي.

حقيقة التوحيد والعدل عند المعتزلة

حقيقة التوحيد والعدل عند المعتزلة قال رحمه الله تعالى: [وعندهم أن التوحيد والعدل من الأصول العقلية، التي لا يُعلم صحة السمع إلا بعدها، وإذا استدلوا على ذلك بأدلة سمعية إنما يذكرونها للاعتضاد بها، لا للاعتماد عليها، فهم يقولون: لا تثبت هذه بالسمع، بل العلم بها متقدم على العلم بصحة النقل! فمنهم من لا يذكرها في الأصول؛ إذ لا فائدة فيها عندهم، ومنهم من يذكرها ليبيِّن موافقة السمع للعقل، ولإيناس الناس بها، لا للاعتماد عليها. والقرآن والحديث فيه عندهم بمنزلة الشهود الزائدين على النصاب، والمدد اللاحق بعسكر مستغنٍ عنهم، وبمنزلة من يتبع هواه، واتفق أن الشرع ما يهواه! كما قال عمر بن عبد العزيز: لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه، ويخالفه إذا خالف هواه، فإذاً: أنت لا تثاب على ما وافقته من الحق، وتعاقَب على ما تركته منه؛ لأنك إنما اتبعت هواك في الموضعين. وكما أن الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، والعمل يتبع قصد صاحبه وإرادته، فالاعتقاد القوي يتبع أيضاً علم ذلك وتصديقه، فإن كان تابعاً للإيمان كان من الإيمان، كما أن العمل الصالح إذا كان عن نية صالحة كان صالحاً، وإلَّا فلا، فقول أهل الإيمان التابع لغير الإيمان، كعمل أهل الصلاح التابع لغير قصد أهل الصلاح. وفي المعتزلة زنادقة كثيرة، وفيهم من ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً]. ما ذكره الشارح من كلام عمر بن عبد العزيز فيه إشارة إلى فارق كبير بين منهج أهل السنة وبين مناهج أهل الأهواء، وهو أن أهل السنة يخضعون للحق أبداً ودائماً، ويدورون مع الحق حيث دار، بغض النظر عن رغباتهم وعن أهوائهم وعن ميولاتهم، هذا هو الأصل، وقد يشذ عن ذلك بعض من ينتسبون إلى السنة، والشذوذ لا عبرة به، لكن هذا هو الأصل الذي عليه عموم أهل السنة، وقد عصمهم الله عز وجل من أن يخلوا بهذا الأصل، الأصل في أهل السنة جميعاً أنهم يتبعون الحق، وأن هواهم مع الحق، بخلاف أهل الأهواء، فإن القاعدة عندهم سواء شعروا أو لم يشعروا أنهم يتبعون الحق إذا كان يوافق أهواءهم، وإذا خالف أهواءهم ردوه، إما بالإعراض المباشر كما عند غلاة الجهمية، وإما بصرفه عن معانيه حتى يلووا أعناق الأدلة بالتأويل، والقول بالمجازات، والتمحل والتلبيس، والبحث عن معاذير، ومحاولة التردد في قبول النص بالطعن فيه، أو برواته أو نحو ذلك كما عند غيرهم من أهل الأهواء. وأهل الأهواء إذا خالف الحق والدليل ما هم عليه تركوه وأعرضوا عنه بأي نوع من أنواع الإعراض، وأغلب وسائل الإعراض عندهم تكون ملبسة، لا تجد إلا النادر من أهل الأهواء من يرد النص رداً مباشراً صريحاً، بل يتأوله لصرفه عما هو عليه، وهذه من أعظم الأمور التي نخشى أن يقع فيها كثير من الناس اليوم؛ لأن الناس جهلوا هذه القاعدة، فصاروا يتكلفون بشعور أو بغير شعور، فتجد الواحد منهم في مؤلفاته قد يستقرئ مثلاً الأدلة في موضع معين، فيحاول أن يجلب الأدلة ويلوي أعناقها لتوافق ما يريد أن يصل إليه. وكذلك تجد كثيراً منهم يكتب في قضية شرعية معينة أو في منهج من المناهج، وفي نيته وعزمه المسبق أن يتوصل إلى نتيجة سبق أن قررها في نفسه، ومن هنا اختلط الأمر على كثير من شباب الأمة، خاصة أولئك الذين لا يسلمون من النزعات الحزبية والشعارات؛ فإنهم فتنوا الناس بمحاولة عرض ما هم عليه بالأدلة، وبدءوا يتكلمون عن مناهج الأنبياء ومناهج السلف، ومناهج الدعاة، ومناهج العلماء، وكل منهم يجر هذه المناهج إلى ما يريد، فهذا خلاف منهج السلف، وجر النصوص إلى ما يريده الشخص من أعظم سمات أهل الأهواء، التي فارقوا بها السنة، فعلى طالب العلم أن يتنبه لهذا الأمر وأن ينبه عليه، وأن يحذر هذه الخصلة التي وقع فيها كثير من الناس، ولذلك أرى ضرورة التمعن والتأني فيما يكتبه ويقوله الناس اليوم، فيما يتعلق بالتنويه عن مناهج السلف، وعن أصولهم، وعن مواقفهم، والارتكاز عليها في كثير مما يذهب إليه المختلفون من طلاب العلم، ومن المتنازعين في كثير من الأمور، ينبغي أن نتنبه، وقد يحدث هذا من أهل الصلاح والاستقامة، لا يلزم أن يكون صاحب هوى وممن عرف بالهوى؛ لأنه قد يدخل بنزعة معينة من النزعات التي وقع فيها غالب المسلمين الآن، لذا لا ينبغي أن يكون الميزان فقط هو صلاح الظاهر والاستقامة الظاهرة، ولا أن يكون الميزان هو مجرد حشد النصوص، ودعاوى أقوال السلف ومناهجهم، إنما ينبغي أن يكون الميزان الرجوع إلى الأصول التي قررها السلف مسبقاً، والتي عليها العلماء الراسخون، الذين لم يعرفوا بشيء من النزعات أو الميولات التي ابتلي بها كثير من المسلمين الآن.

حقيقة الجهمية وأصل مذهبهم

حقيقة الجهمية وأصل مذهبهم قال رحمه الله تعالى: [والجهمية: هم المنتسبون إلى جهم بن صفوان الترمذي، وهو الذي أظهر نفي الصفات والتعطيل، وهو أخذ ذلك عن الجعد بن درهم، الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط، فإنه خطب الناس في يوم عيد الأضحى وقال: أيها الناس! ضحوا تقبَّل الله ضحاياكم، فإني مُضحٍّ بـ الجعد بن درهم؛ فإنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً! ثم نزل فذبحه، وكان ذلك بعد استفتاء علماء زمانه، وهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى]. قصة قتل الجعد مشهورة ومستفيضة عند السلف، وأنها إنما تمت بسبب قوله بأصول الجهمية؛ بسبب إنكاره لأسماء الله عز وجل وصفاته، لا كما يدعي كثير من أهل الأهواء قديماً وحديثاً من أن قتل الجعد كان قتلاً سياسياً، هذه شنشنة لا نزال نسمعها من كثير من الذين في نفوسهم هوى أو جهل بمناهج السلف؛ فإن قتل الجعد وغير الجعد ممن قتلوا في ذلك الوقت من الذين جانبوا الحق، إنما كان من باب الردع وإقامة الحد، وخالد بن عبد الله القسري الذي قتل الجعد إنما فعل ذلك بعد استفتاء علماء زمانه، كما هو معروف، بل بوصية من العلماء؛ لأن الفتنة في أقوال الجعد كانت فتنة عظيمة، تتعلق بأصول الدين وقواعده الأساسية. قال رحمه الله تعالى: [وكان جهم بعده بخراسان، فأظهر مقالته هناك، وتبعه عليها ناس بعد أن ترك الصلاة أربعين يوماً شكاً في ربه! وكان ذلك لمناظرته قوماً من المشركين يقال لهم: السُّمَنية من فلاسفة الهند، الذين ينكرون من العلم ما سوى الحسيات، قالوا له: هذا ربك الذي تعبده هل يُرَى أو يُشَم أو يُذاق أو يُلْمَس؟ فقال: لا. فقالوا: هو معدوم! فبقي أربعين يوماً لا يعبد شيئاً، ثم لما خلا قلبه من معبود يألهه نقش الشيطان اعتقاداً نَحَته فكرُه، فقال: إنه الوجود المطلق! ونفى جميع الصفات، واتصل بـ الجعد. وقد قيل: إن الجعد كان قد اتصل بالصابئة الفلاسفة من أهل حران، وأنه أيضاً أخذ شيئاً عن بعض اليهود المحرفين لدينهم المتصلين بـ لبيد بن الأعصم الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم. فقُتل جهم بخراسان، قتله سلم بن أحوز؛ ولكن كانت قد فشت مقالته في الناس، وتقلدها بعض المعتزلة؛ ولكن كان الجهم أدخل في التعطيل منهم؛ لأنه ينكر الأسماء حقيقة، وهم لا ينكرون الأسماء، بل الصفات].

أصناف الجهمية وحكم كل صنف

أصناف الجهمية وحكم كل صنف قال رحمه الله تعالى: [وقد تنازع العلماء في الجهمية هل هم من الثنتين وسبعين فرقةً أم لا؟ ولهم في ذلك قولان، وممن قال: إنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقةً: عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط رحمهما الله]. الذي استقر عليه قول جمهور السلف في القرن الثالث وما بعده، بعدما ظهرت هذه الفرق وتبينت مناهجها بشكل جلي، الذي استقر قول السلف أن الجهمية على نوعين: جهمية خالصة وهم الذين تتوافر عندهم ثلاثة أصول: القول بالتعطيل المطلق، والقول بالإرجاء الغالي، والقول بالجبر الغالي، وهؤلاء الذين تتوافر عندهم هذه الأصول هم غلاة الجهمية، فهؤلاء بمقتضى أصولهم ليسوا من المسلمين. والجهمية الذين يقولون بالإرجاء الغالي هم الذين يقولون: إن الإيمان هو المعرفة فقط، وإنه لا يضر مع المعرفة ذنب، ولا تنفع مع المعرفة طاعة، فهؤلاء من البدهي ومن الضرورة أن قولهم هذا يستلزم الجبر، بل العكس هو الصحيح، الجبرية الخالصة وهي الجهمية الخالصة قالوا بأن الإنسان مجبور على أفعاله، ومن هنا تركز على هذا الجبر الإرجاء، وأنه ما دام مجبوراً فإنه لا يؤاخذ، ثم قالوا بأن الإيمان هو المعرفة، فمن هنا اجتمعت عند غلاة الجهمية هذه الأصول الثلاثة: التعطيل الخالص، الذي هو إنكار أسماء الله وصفاته، وهذا أول سمة لهم، ثم القول بالجبر المطلق، ثم القول بالإرجاء الغالي، فهذا الصنف هم الذين قصدهم عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط وجمهور السلف الذين قالوا: إنهم ليسوا من فرق المسلمين، وليسوا من الثنتين والسبعين فرقة المتوعدة بالنار، وليسوا من أهل القبلة. الصنف الثاني من الجهمية: هم كل من أخذ بقول من أقوال الجهمية غير الأقوال المغلظة؛ لأن بعض أهل العلم يلحق القائل بخلق القرآن بالغلاة، والصحيح أن القول بخلق القرآن كان نتيجة للتعطيل، فمن هنا لا يلحق القائل بخلق القرآن بالقائل بالتعطيل؛ لأن السلف الصالح يتوسعون في مفهوم التجهم، وعلى هذا فإن الجهمية غير الغلاة تدخل فيهم المعتزلة، فمن هنا لا يكونون من الخارجين من الملة، بل هم من فرق المسلمين، وأيضاً المعتزلة أهل الجهمية غير الغلاة يدخل فيهم المتكلمون، فالكلابية فيها تجهم، والأشاعرة كذلك بعض أصولها قائمة على أصول الجهمية، خاصة في عهد أبي المعالي الجويني والغزالي والرازي ومن جاء بعدهم، والماتريدية ابتداءً قامت أصولها على شيء من التجهم، منذ أن نشأت الماتريدية وأصولها قائمة على بعض أصول الجهمية، ومصطلحات الجهمية، ومناهج الجهمية، فلهذا هذا النوع من الجهمية يعتبرون من فرق المسلمين، لكنها من الفرق الضالة الخارجة عن السنة.

وقت اشتهار مقالة الجهمية

وقت اشتهار مقالة الجهمية قال رحمه الله تعالى: [وإنما اشتهرت مقالة الجهمية من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة، فإنه من إمارة المأمون قووا وكثروا، فإنه كان قد أقام بخراسان مدة، واجتمع بهم، ثم كتب بالمحنة من طرسوس سنة ثمان عشرة ومائتين، وفيها مات، وردوا الإمام أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين، وفيها كانت محنته مع المعتصم، ومناظرته لهم بالكلام، فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه، وبيَّن أنه لا حجة لهم في شيء من ذلك، وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم، وامتحانهم إياهم جهل وظلم، وأراد المعتصم إطلاقه، أشار عليه مَن أشار بأن المصلحة ضربُه؛ لئلا تنكسر حرمة الخلافة مرةً من بعد مرة! فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة، وخافوا فأطلقوه، وقصته مذكورة في كتب التاريخ]. المقصود بمقالة الجهمية هنا التعطيل بعامة، والقول بخلق القرآن بخاصة؛ لأنه نوع من التعطيل، والشهرة لا يقصد بها هنا شهرة الذيوع وكثرة الأتباع، أما شهرة المقالة فقد سبقت قبل ذلك، وعرفنا من خلال دروس سابقة أن الجهمية بدأت بذورها وظهرت مقالاتها وأصحابها الأولى في آخر القرن الأول، نجم مذهب الجهمية على يد غيلان الدمشقي، فقد كان عنده ميل إلى التعطيل، ونسبت إليه بعض مقالات التعطيل في الاستواء، وفي كلام الله عز وجل، لكن ليست صريحة كما حصل في المرحلة الثانية، المرحلة الثانية من مراحل ظهور الجهمية كانت في أول القرن الثاني الهجري، حيث بدأت مناهج الجهمية تشتهر على يد الجعد بن درهم، فقد عمم القول بالتعطيل، خاصة فيما يتعلق بالتكليم، والخلة، والاستواء، والعلو، والفوقية ونحو ذلك، وقد صرح الجهم بتعطيل صفات الله عز وجل وأسمائه في هذا الجانب بالذات، وأنكر عليه السلف أشد الإنكار، وغلظوا في تبديع مقولته، وحاوروه وأقاموا عليه الحجة، حتى حكموا بضرورة قتله؛ لأن قوله هذا من أعظم الفساد في الدين، فقتل. ثم جاءت المرحلة الثالثة من مراحل الجهمية على يد الجهم بن صفوان، والجهم أخذ بعض مقالات الجعد وزاد عليها، والجهم أعلن التعطيل وعممه في جميع أسماء الله عز وجل وصفاته، وأيضاً قال بالجبر الغالي وبالإرجاء الغالي، واستقرت أصول الجهمية ومناهجها العامة على يد الجهم بن صفوان، ثم بقيت من ضمن الفرق، وتلاقحت هي والمعتزلة مع الشيعة أيضاً في آخر القرن الثاني، ومع الخوارج أيضاً، تلاقحت هذه الفرق حتى صارت كثير من أصول الجهمية موجودة عند المعتزلة، وعند الإباضية، وعند الرافضة، ومما جعلها تشتهر بشكل أكثر في المرحلة الرابعة في عهد المأمون، والمأمون أشرب في قلبه بعض أصول الجهمية، وأعجب بأقوال المعتزلة وتلقى عنهم، وكان ميالاً إلى الكلاميات، وعنده نزعة حب الفلسفة، فأشهر مقالة الجهمية بقوة السيف وقوة الدولة، وحصلت الفتنة والمحنة العظمى التي امتحن بها المسلمون سنين عديدة، وانتهت -بحمد الله- بالنصر المبين لإمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل، وبعدها انكمشت الجهمية وانسابت وساحت بين الفرق، فلم تعد للجهمية راية مستقلة لها أصولها ورءوسها، إنما دخلت في الشيعة خاصة الرافضة، ودخولها في الإباضية وفي الزيدية من باب أولى، وكذلك دخولها في فرق أخرى، كذلك وجدت عقيدة التجهم وانتشرت في الطرق الصوفية في هذه المرحلة. ثم بعد ذلك ظهرت المعتزلة الجهمية في العصر الحديث، على يد بعض الجماعات بشكل صريح معلن، حيث تبنت أصول الجهمية تبنياً مستقلاً، وهي لا تتبع الفرق السابقة، إنما قامت على أنقاض الجهمية والمعتزلة، كحزب التحرير، وبعض الاتجاهات العقلانية والعصرانية، التي يدعي أصحابها أنهم أصحاب الفكر الإسلامي الحديث. ومن عوامل قوة الجهمية ترجمة العلوم، كترجمة الفلسفة اليونانية، وترجمة كتب الديانات الوثنية والفلسفية، وكتب الصابئة والمجوس، وكتب الديانات الهندية وغيرهم، وكلها ترجمت في عهد المأمون أو أكثرها، فكان لها الأثر في شيوع الجهمية، وفي امتداد أصولها إلى أصول جديدة، ومباحث جديدة كلامية وفلسفية.

عقيدة الجهم في الجنة والنار والإيمان والكفر

عقيدة الجهم في الجنة والنار والإيمان والكفر قال رحمه الله تعالى: [ومما انفرد به جهم: أن الجنة والنار تفنيان، وأن الإيمان هو المعرفة فقط، والكفر هو الجهل فقط، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس. ولقد أحسن القائل: عجبت لشيطان دعا الناس جهرةً إلى النار واشتُق اسمه من جهنم وقد نقل أن أبا حنيفة رحمه الله سئل عن الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: لعن الله عمرو بن عبيد هو فتح على الناس الكلام في هذا!].

حقيقة الجبرية وأصل مذهبهم

حقيقة الجبرية وأصل مذهبهم قال رحمه الله تعالى: [والجبرية: أصل قولهم من جهم بن صفوان كما تقدم، وأن فعل العبد بمنزلة طوله ولونه! وهم عكس القدرية نفاة القدر؛ فإن القدرية إنما نسبوا إلى القدر لنفيهم إياه، كما سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء، وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله؛ إما يعذبهم وإما يتوب عليهم، وقد تسمى الجبرية قدرية]. في هذا تجاوز في تعليل التسمية، أما كون القدرية سموا قدرية لنفيهم القدر فهذا واضح، أما المرجئة فسموا مرجئة لعدة أسباب بحسب حالهم، فمرجئة الفقهاء سموا مرجئة؛ لأنهم أخروا الأعمال عن الإيمان، ومرجئة المشككة -الذين سيأتي الكلام عنهم بعد قليل- سموا مرجئة؛ لأنهم أرجئوا أمر الحكم على العباد، خاصة أصحاب الذنوب، والجهمية سموا مرجئة؛ لأنهم قالوا بالإرجاء المطلق، غلَّبوا جانب الرجاء مطلقاً، ولم يعد للخوف ولا للوعيد عندهم أي اعتبار، وطائفة من الناس سميت مرجئة؛ لأنهم اختلفوا في بعض قضايا الدين، كاختلافهم فيما حدث بين الصحابة، أو كاختلاف بعضهم في المفاضلة بين علي وبين عثمان، فكل من هذه الطوائف قالوا: نرجئ الأمر ولا نبت فيه، يعني: نتوقف فيه، فسموا مرجئة؛ لأنهم أخروا الحكم فعلقوه بمشيئة الله عز وجل. إذاً: كل طائفة من المرجئة صار سبب تسميتها مرجئة راجعاً إلى حالها، فهم لا يتشابهون في سبب التسمية، وما ذكره الشارح هنا لعله من أضعف الأقوال في سبب تسمية المرجئة، وإذا أطلقت بدون تقييد وبدون ما يدل عليها السياق، فإنها تعني مرجئة الفقهاء الذين يقولون بأن الإيمان تصديق، وأن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، والإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولا استثناء في الإيمان، فهؤلاء هم المرجئة عند الإطلاق. قال رحمه الله تعالى: [وقد تسمى الجبرية: قدرية؛ لأنهم غلوا في إثبات القدر، كما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد، بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع، فلا يجزمون بثواب من تاب، كما لا يُجزم بعقوبة من لم يتب]. هؤلاء أيضاً يسمون مرجئة، وهنا لم يأت بجواب العبارة: (كما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعيد والعيد) كما يسمى المرجئة كذلك. وقوله: (بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع) يعني: الأنواع المتعلقة بالأحكام العامة البدهية، بعضهم يشكك فيها، مثل: الثواب على الطاعات، والعقاب على المعاصي مطلقاً، يوجد من يشكك ويرجئ الأمر مطلقاً، فهذا يعتبر نوعاً من الوسواس، أو نوعاً من الزندقة أحياناً، وكذلك الوعد والوعيد لا يقرون بوعد ولا بوعيد، ولا بثواب ولا بعقاب، أو يغلون في تعليق مصائر العباد، فلا ثواب ولا عقاب، ولا وعد ولا وعيد. إذاً: هذا معنى قوله: (في إرجاء كل أمر حتى الأنواع) يعني: أنواع الأحكام العامة من الثواب والعقاب، والوعد والوعيد ونحو ذلك. قال رحمه الله تعالى: [وكما لا يجزم لمعين. وكانت المرجئة الأولى يرجئون عثمان وعلياً ولا يشهدون بإيمان ولا كفر]. هنا أشار المؤلف رحمه الله إلى عدة أنواع من المرجئة، أولهم: المرجئة الجبرية الخالصة، المرجئة الغالية، مرجئة الجهمية، الذين يقولون: لا يضر مع المعرفة ذنب، وبعد ذلك تأتي بعدهم: مرجئة الكرامية، ولم يشر إليهم هنا، لكن يحسن ذكرها، وهم الذين يقولون بأن الإيمان قول اللسان فقط، وهم في الدرجة الثانية من حيث البدعة، أما المقولة الأولى فهي مقولة كفرية، وهي القول بأن الإيمان هو المعرفة فقط، والمقولة الثانية بدعية، وهي أن الإيمان هو قول اللسان فقط، وهم الكرامية. والنوع الثالث من المرجئة: مرجئة الفقهاء، الذين يقولون بأن الإيمان هو التصديق، أو التصديق والقول، فيخرجون الأعمال من مسمى الإيمان، ويمنعون زيادة الإيمان ونقصانه، ويمنعون الاستثناء في الإيمان. والمرجئة الرابعة: مرجئة الأحكام، الذين لا يجزمون بحكم، لا يجزمون بثواب ولا بعقاب، ولا بوعد ولا بوعيد، وهم فرع عن الجهمية، لكنهم أخف، وهؤلاء يكثرون في المتصوفة. والمرجئة الأخيرة: هم مرجئة أمر الصحابة، فهم الذين أرجئوا الأمر فيما حدث بين الصحابة، فلا يرون أن أحداً من الصحابة محق على سبيل الجزم، فيقولون: لا نجزم، وهذا خلاف رأي جمهور السلف، وتفرع عن هذه المرجئة أيضاً إرجاء أمر علي وعثمان، ترددوا في أيهما أفضل، ثم ترددوا في أيهما أحق بالخلافة، ثم نتج عن ذلك أيضاً التردد في أمر علي ومعاوية رضي الله عنهما وأصحابهما، ممن حدث بينهم شيء من الخلاف في صفين والجمل وغيرها، فترددوا في الأمر، وقالوا: نرجئ أمرهم إلى الله عز وجل، وهذا كله خلاف قول السلف. إذاً: التجهم الأول: كفري، والثاني: بدعي، والثالث: بدعي، والرابع: لم يتكلم السلف في حق من قاله؛ لأنه قول انتهى، قاله قوم من السلف إبان الفتنة وبعده بقليل، قبل أن يستقر القول عند السلف في تفضيل عثمان رضي الله عنه على علي، وقبل أن يستقر عند السلف أن الفئة المحقة هي فئة

النصوص الواردة في ذم القدرية

النصوص الواردة في ذم القدرية قال رحمه الله تعالى: [وقد ورد في ذم القدرية أحاديث في السنن، منها: ما روى أبو داود في سننه من حديث عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (القدرية مجوس هذه الأمة؛ إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم)، وروي في ذم القدرية أحاديث أخر كثيرة تكلم أهل الحديث في صحة رفعها، والصحيح أنها موقوفة، بخلاف الأحاديث الواردة في ذم الخوارج]. الأحاديث الواردة في المرجئة وفي القدرية لا تصح، لكن نسبة قول القدرية إلى المجوس وقول المرجئة إلى النصارى نسبة صحيحة، من حيث الأصول والمناهج؛ لأنه ثبت عند السلف بالاستقراء أن مقولة القدرية هي فرع عن مقولات الأمم الماضية، وهي أقرب إلى مقولة المجوس، وطوائف من الصابئة، وطوائف من اليهود، وطوائف من النصارى، القول بالقدر لم يكن وليد الأهواء عند المسلمين، بل كان امتداداً لما كان عليه الأمم السابقة خاصة المجوس؛ لأن المجوس جعلوا مع الله عز وجل إلهاً آخر، سموه: إله الشر، وشبهتهم في ذلك أنهم زعموا أنه لا يليق أن يكون الله عز وجل خالق الشر ولا مقدراً له، فمن هنا نشأ عن قولهم اعتقادهم بأن هناك إلهاً آخر قدر الشر وخلقه، هذه هي الفكرة والشبهة الموجودة عند المعتزلة، الذين زعموا أن الإنسان يستقل بأفعاله من دون تقدير الله لها. فمن هنا نقول: القول بالقدر أشبه ما يكون وأقرب ما يكون إلى قول المجوس، وهو امتداد لمقولة المجوس، وهذه المقولة موجودة عند كثير من الأمم أيضاً، وليست في المجوس فقط، فاليونان مثلاً: عندهم آلهة للخير وآلهة للشر، وكذلك عند كثير من الأمم الوضعية، لكن المجوس أقرب الناس تأثيراً في المسلمين، وأيضاً المجوس كانت صفتهم ظاهرة في هذا الأمر، فهم أثبت من غيرهم من الأمم في هذه المقولة. قال رحمه الله تعالى: [فإن فيهم في الصحيح وحده عشرة أحاديث: أخرج البخاري منها ثلاثة، وأخرج مسلم سائرها، ولكن مشابهتهم للمجوس ظاهرة؛ بل قولهم أردأ من قول المجوس؛ فإن المجوس اعتقدوا وجود خالقَينِ، والقدرية اعتقدوا خالقِينَ!! وهذه البدع المتقابلة حدثت من الفتن المفرقة بين الأمة كما ذكر البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب قال: وقعت الفتنة الأولى -يعني: مقتل عثمان - فلم تبق من أصحاب بدر أحداً، ثم وقعت الفتنة الثانية -يعني: الحرة- فلم تبق من أصحاب الحديبية أحداً، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طباخ. أي: عقل وقوة. فالخوارج والشيعة حدثوا في الفتنة الأولى، والقدرية والمرجئة في الفتنة الثانية، والجهمية ونحوهم بعد الفتنة الثالثة، فصار هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، يقابلون البدعة بالبدعة، أولئك غلوا في علي، وأولئك كفروه! وأولئك غلوا في الوعيد حتى خلدوا بعض المؤمنين، وأولئك غلوا في الوعد حتى نفوا بعض الوعيد -أعني: المرجئة-، وأولئك غلوا في التنزيه حتى نفوا الصفات، وهؤلاء غلوا في الإثبات حتى وقعوا في التشبيه، وصاروا يبتدعون من الدلائل والمسائل ما ليس بمشروع، ويعرضون عن الأمر المشروع، وفيهم من استعان على ذلك بشيء من كتب الأوائل: اليهود، والنصارى، والمجوس، والصابئين؛ فإنهم قرءوا كتبهم، فصار عندهم من ضلالتهم ما أدخلوه في مسائلهم ودلائلهم، وغيروه في اللفظ تارة، وفي المعنى أخرى، فلبسوا الحق بالباطل وكتموا حقاً جاء به نبيهم، فتفرقوا واختلفوا، وتكلموا حينئذ في الجسم والعرض والتجسيم نفياً وإثباتاً].

سبب ضلال الفرق العدول عن الصراط المستقيم الذي أمر الله باتباعه

سبب ضلال الفرق العدول عن الصراط المستقيم الذي أمر الله باتباعه قال رحمه الله تعالى: [وسبب ضلال هذه الفرق وأمثالهم عدولهم عن الصراط المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه، فقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]. وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108]، فوحد لفظ صراطه وسبيله وجمع السبل المخالفة له. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً، وقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره، وقال: هذه سبل، على كل سبيل شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153]). ومن هاهنا يعلم أن اضطرار العبد إلى سؤال هداية الصراط المستقيم فوق كل ضرورة، ولهذا شرع الله تعالى في الصلاة قراءة أم القرآن في كل ركعة، إما فرضاً أو إيجاباً على حسب اختلاف العلماء في ذلك؛ لاحتياج العبد إلى هذا الدعاء العظيم القدر، المشتمل على أشرف المطالب وأجلها، فقد أمرنا الله تعالى أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون). وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه. قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!). قال طائفة من السلف: من انحرف من العلماء ففيه شبه من اليهود، ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى]. ووجه الشبه ظاهر أن من انحرف من العلماء انحرف عن علم، ومن انحرف من العباد انحرف عن جهل، وأكثر من اشتهر انحرافهم بعد علم وإقامة حجة هم اليهود، وأكثر من اشتهر انحرافهم عن جهل هم النصارى، خاصة الرهبان منهم. قال رحمه الله تعالى: [فلهذا تجد أكثر المنحرفين من أهل الكلام من المعتزلة ونحوهم فيه شبه من اليهود؛ حتى إن علماء اليهود يقرءون كتب شيوخ المعتزلة، ويستحسنون طريقتهم، وكذا شيوخ المعتزلة يميلون إلى اليهود ويرجحونهم على النصارى، وأكثر المنحرفين من العباد من المتصوفة ونحوهم فيهم شبه من النصارى؛ ولهذا يميلون إلى نوع من الرهبانية والحلول والاتحاد ونحو ذلك، وشيوخ هؤلاء يذمون الكلام وأهله، وشيوخ أولئك يعيبون طريقة هؤلاء، ويصنفون في ذم السماع والوجد وكثير من الزهد والعبادة التي أحدثها هؤلاء].

طرق فرق الضلال في الوحي

طرق فرق الضلال في الوحي قال رحمه الله تعالى: [ولفرق الضلال في الوحي طريقتان: طريقة التبديل، وطريقة التجهيل، أما أهل التبديل فهم نوعان: أهل الوهم والتخييل، وأهل التحريف والتأويل. فأهل الوهم والتخييل: هم الذين يقولون: إن الأنبياء أخبروا عن الله، واليوم الآخر، والجنة والنار، بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه، لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به، ويتوهمون به أن الله شيء عظيم كبير، وأن الأبدان تعاد، وأن لهم نعيماً محسوساً، وعقاباً محسوساً، وإن كان الأمر ليس كذلك؛ لأن مصلحة الجمهور في ذلك، وإن كان كذباً فهو كذب لمصلحة الجمهور!! وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم على هذا الأصل. وأما أهل التحريف والتأويل: فهم الذين يقولون: إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما هو الحق في نفس الأمر، وإن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا، ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات. ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل، بل يقولون: يجوز أن يراد كذا، وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ. وأما أهل التجهيل والتضليل الذين حقيقة قولهم: إن الأنبياء وأتباع الأنبياء جاهلون ضالون، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء، ويقولون: يجوز أن يكون للنص تأويل لا يعلمه إلا الله، لا يعلمه جبريل ولا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا غيره من الأنبياء، فضلاً عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأن محمد صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10]. {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]، وهو لا يعرف معاني هذه الآيات؛ بل معناها الذي دلت عليه لا يعرفه إلا الله تعالى، ويظنون أن هذه طريقة السلف. ثم منهم من يقول: إن المراد بهذا خلاف مدلولها الظاهر المفهوم ولا يعرفه أحد، كما لا يعلم وقت الساعة. ومنهم من يقول: بل تجرى على ظاهرها وتحمل على ظاهرها، وهؤلاء يشتركون في القول بأن الرسول لم يبين المراد بالنصوص، التي يجعلونها مشكلة أو متشابهة؛ ولهذا يجعل كل فريق المشكل من نصوصه غير ما يجعله الفريق الآخر مشكلاً. ثم منهم من يقول: لم يعلم معانيها أيضاً. ومنهم من يقول: عَلِمَهَا ولم يبينها، بل أحال في بيانها على الأدلة العقلية، وعلى من يجتهد في العلم بتأويل تلك النصوص، فهم مشتركون في أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَعْلَم أو لم يُعلِّم، بل نحن عرفنا الحق بعقولنا، ثم اجتهدنا في حمل كلام الرسول صلى الله عليه وسلم على ما يوافق معقولنا، وأن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات، ولا يفهمون السميعات. وكل ذلك ضلال وتضليل عن سواء السبيل. نسأل الله السلامة والعافية من هذه الأقوال الواهية المفضية بقائلها إلى الهاوية سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين]. يقرر المؤلف رحمه الله هنا مناهج أهل الأهواء ومواقفهم مما جاء به الرسل، وتقرير المؤلف هذا منقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية في درء التعارض وفي غيره، وهذا لا يعني أن كل طائفة تمثل فرقة، أو كل منهج يمثله فرقة، هذه المناهج موزعة بين الفرق، فمثلاً: ما أشار إليه عند ذكر أهل الوهم والتخييل، الذين يقولون: إن الأنبياء أخبروا عن الله واليوم الآخر والجنة والنار بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه، إنما جاءوا بهذا الخطاب من أجل إقناع الجمهور، وأغلبها خيالات وتوهمات، فالقائلون بهذا القول هم طوائف من الفلاسفة ومن الجهمية ومن الباطنية. والقول الثاني الذي أشار إليه في قوله: (وأما أهل التحريف والتأويل) فهم الذين يقولون: إن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما هو الحق في نفس الأمر، وأن الحق في نفس الأمر هو ما علمناه بعقولنا، فهؤلاء أهل الكلام عموماً، سواء من كان عنده نزعة صوفية، أو كانوا من متكلمة الفرق الإسلامية، ومناهج أهل الكلام تقوم على هذا الأصل، على التحريف والتأويل. الصنف الثالث: هم أهل التجهيل والتضليل، وأغلبهم من الفلاسفة والباطنية، لكن نسب الشيخ إليهم المفوضة والواقفة، وأهل التفويض والوقف موجودون في جميع الفرق، في الفلاسفة والباطنية والجهمية وأهل الكلام، أيضاً أدخل في هذا الصنف طائفة من المتكلمين في المقطع الأخير، الذين قال فيهم: ثم منهم من يقول: لم يعلم معانيها أيضاً، هذا ما استقر عليه منهج أهل الكلام المتأخرين من القرن السادس وما بعده، بل من القرن الخامس من أيام الشهرستاني والبغدادي والجويني والغزالي والرازي وهو أشهرهم، ثم الإيجي والآمدي ومن سلك سبيلهم، فهؤلاء هم أصحاب القول الأخير، فأدخلهم في أهل التجهيل والتضليل من باب الإلزام؛ لأن التجهيل والتضليل من لوازم قولهم، وإلا ففي الفئة الأخيرة من يقول: يعلم معان

§1/1