شرح الطحاوية - عبد الرحيم السلمي

عبد الرحيم السلمي

العقيدة الطحاوية [1]

العقيدة الطحاوية [1] يتعلق بحادثة الإسراء والمعراج جملة من مسائل العقيدة, منها اعتقاد أهل السنة والجماعة كون الإسراء والمعراج كان بالجسد والروح, خلافًا لما ذهب إليه القائل بأن ذلك كان منامًا, أو أنه كان بالروح, أو أن المعراج كان بالروح دون الجسد, ومن مسائل هذه الحادثة العظيمة دلالتها على النبوة, وتحقق المعجزة الباهرة والحجة البالغة فيها, وغير ذلك مما يتصل بها من المسائل.

الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد

الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد روى سعيد بن منصور من طريق سفيان رحمه الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم: (هي رؤية عين وليست رؤية منام)، وهذا نص صريح في هذه المسألة، وكأن ابن عباس رضي الله عنهما كان يستشعر أنه سيأتي من يقول بهذا القول الضال، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أسري بروحه فقط ولم يسرَ بجسده، ولم يعرج به إلى السماء. والعجيب أن أهل التفسير نقلوا عن عائشة رضي الله عنها وعن معاوية رضي الله عنه: أنه كان يرى أن هذه الآية نزلت في الإسراء والمعراج، وأنها رؤيا عين وليست رؤيا منام، وهذا يدل على بطلان ما رواه ابن إسحاق رحمه الله عن عائشة ومعاوية.

مذاهب أهل البدع في الإسراء والمعراج والرد عليهم

مذاهب أهل البدع في الإسراء والمعراج والرد عليهم بقي أن نذكر أن بعض أهل البدع قالوا: إن الإسراء حصل بالروح والجسد، وأما المعراج فإنه حصل بالروح فقط؛ وذلك حتى يجمعوا بين العقل وما سمعوه من النصوص، فإنهم يقولون: إنه يمكن للإنسان أن ينتقل في ساعة واحدة من مكة إلى بيت المقدس ثم يعود، وهذا أثبته العلم الحديث؛ حيث ينتقل الإنسان من مكة -مثلاً- إلى بيت المقدس بطائرة ويمكن أن يعود في نفس اليوم، فالعلم الحديث أثبت هذا، قالوا: وأما المعراج الذي يكون فيه اختراق لهذا الفضاء الهائل الكبير فإنه لا يمكن أن يكون بالجسد، وإنما يكون بالروح. ثم بدءوا يتلمسون بعض الأدلة التي تدل على قولهم، ولا شك أن هذا منهج ضال، ومنهج منحرف؛ لأنه لم يُبنَ بناءً سليماً، لم يُبنَ أصلاً على النص، ولم يبنَ على الدليل الصحيح، وإنما بني على مسألة: هل هذا الأمر يوافق العلم الحديث أو لا يوافقه؟! وحتى النصوص فسروها بغير وجهها الصحيح، فمثلاً: فسر أبو زهرة قول الله عز وجل: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] قال: هذه رؤيا منامية؛ لأنه قال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، ورؤية الفؤاد رؤية معنوية، وليست رؤية حسية، ففهم من الآية فهماً باطلاً، فإن الآية: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] يعني: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكذب فؤاده ما رآه بعينه، هذا هو المعنى الصحيح في الآية، يعني: فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى بعينه ما رأى لم يكذب هذه الرؤية التي كانت بعينه، لكنه نسب الرؤية هنا إلى الفؤاد مباشرة. ولا شك أن هذا استدلال باطل، وكما قلت: إن مرجعه الأساسي هو تقديم العقل على النقل، ولهم قانون كلي في هذا الباب ذكره الرازي في كتابه (أساس التقديس)؛ فإنه ذكر: أن الدليل العقلي إذا عارض الدليل النقلي، فإما أن نأخذ بالدليلين معاً، وهذا جمع بين النقيضين وهو محال، وإما أن نرد الدليلين معاً، وهذا رد للأدلة ومحال أيضاً، وإما أن نأخذ بالدليل الشرعي وهذا فيه إبطال للعقل، والعقل هو أصل النقل، وبناء على هذا قال: لابد أن نأخذ بالعقل وأن نقدمه على النقل! وماذا يعمل بالنقل؟ قال: النقل إما أن نقول: إنه غير صحيح، يعني: إذا كان هذا كذباً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإما أن نؤوله على سبيل التورع، هكذا قال، وهكذا نص، قال: يؤوله على سبيل التورع؛ فإن الأصل عندهم العقل. ولا شك أن هذا إلغاء وطي لبساط الشرعية -والعياذ بالله-، وهذا إلغاء للدين بهذا الأسلوب، فإنه لا يوجد شيء واحد اسمه العقل، وإنما هي عقول عند الناس، والعقل الكلي لا وجود له في الخارج، وإنما له وجود في الذهن، ولا وجود له في الخارج على الحقيقة؛ ولهذا هؤلاء يعارضون العقل ويعارضون الشرع بأهوائهم وآرائهم، ويصورون أهواءهم وآراءهم أنها هي العقل الذي يجب أن يؤول الشرع بناءً عليه، وإلى هذه الدرجة أصبحت قيمة النصوص عند هؤلاء. مع أنه لو قال قائل لأحدهم: هذا النقل عمن جاء؟ عن الرب سبحانه وتعالى أو عن كلام النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى؟ والله عز وجل هو الذي خلق العقل الذي ترد به هذا النقل، وحينئذ يكون هذا إبطال حتى للعقل نفسه الذي امتدحته حيث إنك قدحت في خالقك خالق هذا العقل، قدحت فيه بهذه الطريقة. ولهذا مثل هؤلاء لا ينبغي أن يناقشوا إلا بالطريقة الشرعية الصحيحة، فإنه وجد من المنتسبين إلى السنة من ناقش هؤلاء بمناهجهم العقلية فألزموهم فالتزموا، فضلوا عندما التزموا بما ألزموهم به، لكن المنهاج الشرعي الصحيح هو أن نقول: إن العقل خلقه الله سبحانه وتعالى، والشرع أنزله الله عز وجل، ولا يمكن أن يحصل هناك تعارض بين العقل الذي خلقه الله وبين الشرع الذي نزله الله. ولهذا أي مسألة يكون فيها تعارض بين النقل والعقل إما أن يكون النقل غير صحيح أو فهمه غير صحيح، أو يكون العقل فاسداً، يعني: لا يتصور أبداً حصول التعارض بين النقل والعقل، مع أن خالق العقل هو الله، ومنزل النقل هو الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يقول: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك:14] فكيف لا يعلم سبحانه وتعالى من خلق؟! وهنا نحب أن ننبه إلى مسألة مهمة جداً وهي: أن النصوص الشرعية مليئة بالأدلة العقلية، يعني: عندما تقرأ في الآيات القرآنية تجد أنها مليئة بالأدلة العقلية، ولا حاجة لنا لعقول هؤلاء.

مسائل العقيدة في الإسراء والمعراج

مسائل العقيدة في الإسراء والمعراج بقي عندنا مسألة أخيرة وهي: مسائل العقيدة في الإسراء والمعراج: مسائل العقيدة في الإسراء والمعراج كثيرة جداً، يمكن أن نشير إليها إشارة: من مسائل العقيدة في الإسراء والمعراج: المعجزة، ودلائل النبوة، فإن هذه الحادثة تعتبر من الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه؛ ولهذا صدقه أبو بكر رضي الله عنه مباشرة؛ لأنه كان يؤمن به أصلاً كنبي، فإذا كان نبياً يأتيه خبر السماء فمن باب أولى أن نصدقه فيما يقوله من الإعجاز، وفيما يقوله من الدلائل. كما أن حادثة الإسراء والمعراج تدل على إثبات علو الله تعالى على خلقه. وهي تدل كذلك على إثبات الرؤية، وعلى إثبات صفة الكلام لله سبحانه وتعالى، كما تدل على إثبات الجنة والنار، وأنهما مخلوقتان الآن، كما تدل كذلك على إثبات الدجال، وتدل كذلك على خروج يأجوج ومأجوج، وتدل على مسائل كثيرة من مسائل العقيدة، لكن هذه بعض ما ذكرناه في هذا الموضوع. بقيت مسألة مذكورة في حادثة الإسراء والمعراج، وهي مسألة: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بعينه التي في رأسه؟ السلف رضوان الله عليهم ذكر عن بعضهم -ومنهم ابن عباس رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه، وثبت عن ابن عباس أيضاً أنه قال: رأى ربه بقلبه مرتين. كما ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها أنكرت رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه. والتحقيق في هذه المسألة هو ما ذكره عدد من أهل العلم كـ شيخ الإسلام رحمه الله: أن الآثار الواردة عن ابن عباس في مسألة إثباته لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه هي آثار مطلقة، ليس فيها تحديد هل كانت الرؤيا بالعين أم بالقلب؟ وهناك أيضاً آثار عن ابن عباس مقيدة، وهو أنه أثبت الرؤية بالقلب، والقاعدة: أنه إذا ورد المطلق والمقيد وموضوعهما واحد يحمل المطلق على المقيد، فالمطلق من كلام ابن عباس هو قوله: إن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه، فيحمل قوله هذا على المقيد، وهو أنه رآه بقلبه، وليس المقصود الرؤية البصرية. وأما إنكار عائشة رضي الله عنها لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، فالمقصود: أنها أنكرت رؤية العين التي في الرأس، وهذا لا يخالف ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وبهذا يمكن أن نقول: إن مذهب الصحابة رضوان الله عليهم في هذه القضية واحد. وهو: أنهم يرون أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه ولم يره بعينه التي في رأسه، وهذا هو التحقيق في هذه المسألة. وأما قوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13]، فإن بعضهم -مثل ابن عباس رضي الله عنهما- فسرها: بأن المقصود: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] يعني: رأى ربه. وقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13] يعني: رأى ربه. وكما قلنا: هذه رواية مطلقة تحمل على المقيدة، لكن التفسير الصحيح لهذه الآية هو ما روي عن جماعة من الصحابة: أن جبريل هو الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:5 - 7] هو المقصود بهذه الآيات، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل مرتين: مرة في الأرض، عندما رآه وقد سد الأفق وله ستمائة جناح. ومرة أخرى: وهو عند سدرة المنتهى كما ذكر ذلك العلماء، ذكر ذلك أبو هريرة وغيره من أهل العلم. وبهذا نكون قد انتهينا من هذه الفقرة التي اشتملت على قضية من قضايا الاعتقاد الطويلة، وهي قضية: الإسراء والمعراج، وسنناقش -إن شاء الله- في الدرس القادم الكلام على الحوض الذي أكرم الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

العقيدة الطحاوية [2]

العقيدة الطحاوية [2] مما يتصل بركن الإيمان باليوم الآخر إثبات الحوض الذي أكرم الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم غياثا لأمته, والتصديق بما ورد من صفاته في الأخبار الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم, خلافًا لمنكريه من الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم, ومما يتصل كذلك بالإيمان باليوم الآخر التصديق بالشفاعة الثابتة يوم القيامة للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره بأنواعها, العظمى منها فما دونها بشروطها المنصوصة في آيات الكتاب الكريم.

إثبات الحوض

إثبات الحوض الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، إنك أنت العليم الحكيم. أما بعد: قال الطحاوي رحمه الله تعالى: [والحوض الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته حق]. هذه الفقرة مشتملة على إثبات الحوض يوم القيامة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والحوض: هو مجمع الماء، والحوض ثبت بالأحاديث النبوية التي بلغت حد التواتر، فقد ذكر القاضي عياض في شرحه لصحيح مسلم المسمى: (إكمال المعلم) بأنه رواه خمسة وعشرون نفساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد عليه النووي في شرح مسلم ثلاثة، وزاد عليهم الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في شرحه لأحاديث الحوض في (فتح الباري) ما يقارب قدر ما ذكروه، فزاد عدد الذين رووا حديث الحوض على خمسين راوياً من الصحابة. بل إن الحافظ ابن حجر رحمه الله ذكر في شرحه: أن بعض المتأخرين أوصل عدد الصحابة الذين رووا أحاديث الحوض إلى ثمانين راوياً، وقد صنف الحافظ الضياء المقدسي صاحب المختارة كتاباً مستقلاً في أحاديث الحوض، كما أن أحاديث الحوض جمعها البيهقي رحمه الله في كتابه: (البعث والنشور)، ورواها جميعاً بأسانيدها، وممن جمع أحاديث الحوض أيضاً الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتابه (البداية والنهاية)، وكتاب (البداية والنهاية) يعتبر هو المرجع الأساسي لشارح العقيدة الطحاوية ابن أبي العز الحنفي رحمه الله، فإن ابن كثير هو شيخه، بل إنه ينقل عنه بالنص كما سيأتي في قضية الشفاعة بإذن الله. ومما ينبغي أن يتنبه له الإنسان: أن هناك فرقاً بين الكوثر والحوض، فالكوثر: هو نهر بالجنة، وهو الذي أعطاه ربنا سبحانه وتعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم، كما دلت عليه السورة المشهورة سورة الكوثر: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، ودل على أن هذا الكوثر نهر في الجنة حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في صحيح البخاري حيث قال: (لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟! قال: هذا الكوثر)، بل جاء في رواية للبخاري توضح هذه الرواية وهي قوله: (بينما أنا أسير في الجنة إذا أنا بنهر)، فهذا يدل على أن الكوثر نهر في الجنة، كما روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي حديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري في كتاب التفسير في تفسير سورة الكوثر قالت: (هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم)، وذكرت: (أن عليه دراً مجوفاً، وآنيته كعدد نجوم السماء)، وزاد النسائي: (في بطنان الجنة، قلت: وما بطنان الجنة؟ قالت: وسطها) الراوي عن عائشة سأل عن بطنان الجنة؟ فقالت: وسطها، يعني: أن نهر الكوثر في وسط الجنة. لكن روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الكوثر: (هو الخير الذي أعطاه الله إياه). فإن قيل: كيف يمكن أن نجمع بين ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن الكوثر نهر في الجنة وبين كلام ابن عباس الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم التفسير، وهو علم التأويل؟ ف A يمكن أن نجمع بما جمع به تلميذ ابن عباس سعيد بن جبير؛ فإنه سأله أبو بشر الراوية عنه فقال: إن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة! يعني: عندما سمع رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن الكوثر هو الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه، قال: إن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة؟ فقال سعيد بن جبير: (النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه) يعني: فلا إشكال. ويؤكد كلام سعيد بن جبير ما رواه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: (بينما نحن عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ غفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟! قال: نزلت علي سورة آنفاً، وقرأ عليهم سورة الكوثر، ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ فقلنا: الله ورسوله أعلم، قال: نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة). وهذا الحديث الذي

مكان الحوض ووقت الورود عليه

مكان الحوض ووقت الورود عليه أين ومتى يكون الحوض؟ ذكر بعض العلماء خلافاً في ذلك، وهو القرطبي رحمه الله في كتابه (التذكرة) ذكر أن بعض العلماء قال: إن الحوض يكون قبل الصراط وقبل أن توزن الأعمال، وقال آخرون: إن الكوثر يكون بعد الصراط، وهذا هو الصحيح، وطريقة البخاري رحمه في روايته لأحاديث الحوض تدل على ذلك، فإنه بوب في كتاب الرقاق (باب في الحوض) بعد ذكره الشفاعة والصراط، وهذه إشارة منه رحمه الله إلى أن الحوض يكون بعد الصراط، ويدل على ذلك ما رواه أحمد والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشفع لي، فقال: أنا فاعل، فقلت: أين أطلبك؟ قال: اطلبني أول ما تطلبني عند الصراط، قلت: فإن لم أجدك؟ قال: فأنا عند الميزان، قلت: فإن لم أجدك؟ قال: فأنا عند الحوض) وهذا يدل على أن الحوض يكون بعد الميزان وبعد الصراط. لكن قد يشكل على هذا القول الأحاديث التي وردت أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى بعض أصحابه ثم يذادون عنه فيقول: (أصيحابي أصيحابي! ثم يقال: إنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك). وإذا كان الحوض بعد الصراط فإن الذي يمر على الصراط إلى الحوض لا بد أن يكون ناجياً، فإنه لا يمكن أن يمر على الصراط ثم يأتي إلى الحوض ثم يذاد ويرجع به إلى النار، فإن من مر على الصراط ونجا منه لا يمكن أن يرجع إليه مرة أخرى. لكن هذا يجاب عنه: هؤلاء الذين يذادون عن الحوض يراهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد بقي لهم بقية من الصراط لم يتجاوزوه، ثم يذادون عنه، يعني: يؤخذون إلى النار، ثم ينادي ويقول: (أصيحابي أصيحابي!) وهم لم يتجاوزوا الصراط بأكمله، هذا ما أفاده الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى.

ذكر الخلاف في إثبات أحواض أخرى لبقية الأنبياء عليهم السلام

ذكر الخلاف في إثبات أحواض أخرى لبقية الأنبياء عليهم السلام هل الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أم أن لبقية الأنبياء أحواض؟ المشهور في هذه المسألة هو أن الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وورد في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما رواه الترمذي من حديث سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي حوضاً، وإنهم يتباهون أيهم أكثر وارداً، وإني أرجو أن أكون أكثرهم وارداً) لكن هذا الحديث في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف، كما أن فيه انقطاعاً بين الحسن البصري وسمرة بن جندب، وبناءً على هذا يكون هذا الطريق الذي رواه الترمذي طريقاً ضعيفاً، ثم إن الترمذي نفسه قال: إن الصحيح هو المرسل، يعني: المرسل عن الحسن، ورواه ابن أبي الدنيا مرسلاً وصححه الحافظ إلا أن فيه زيادة وهي قوله: (وهو قائم على حوضه بيده عصا يدعو من عرف من أمته، إلا أنهم يتباهون) إلى آخر الرواية التي سبق أن ذكرناها من رواية الترمذي، وقد رواه الطبراني أيضاً مرفوعاً عن سمرة لكن في إسناده ضعفاً، كما رواه أيضاً ابن أبي الدنيا من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً وفي إسناده ضعف أيضاً. ولعل الذين قالوا بأن الحوض خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم اعتمدوا على أنه لم يوجد دليل صحيح يثبت وجود أحواض أخرى للأنبياء لبقية الأنبياء، لكن هذه الأسانيد يقوي بعضها بعضاً، وتكون في مرتبة الحديث الحسن، وحينئذٍ يكون للأنبياء أيضاً أحواض أخرى، ولكن أكثرهم وارداً هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم، بينما الخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم هو الكوثر، فإن الكوثر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم لأمرين: الأمر الأول: أنه لم يثبت أنه أعطي أحد من الأنبياء مثله. الأمر الثاني: الامتنان الوارد في السورة، ولا سيما أنه جاء بأسلوب يشبه الحصر، عندما قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] فإنه لو كان الكوثر أو مثله قد أعطي لغير النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في هذا امتنان، فلما وجد الامتنان دل على الخصوصية، وأن الكوثر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.

صفة الحوض

صفة الحوض أما صفة الحوض فأجمع ما روي في وصفه هو ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها -يعني: من هذه الكيزان- فلا يظمأ أبداً)، وورد في بعض الألفاظ: (من شرب منه -يعني: من الحوض- لا يظمأ أبداً). فهذه مجموعة من الصفات: الأولى: في طوله، وأن مسيرة شهر. والثانية: في لونه، وأنه أبيض من اللبن. والثالثة: في ريحه، وأنه أطيب من المسك. والرابعة: فيما عليه من الأكواب والكيزان والأباريق، وأنها كنجوم السماء. والخامسة: وهي أثر هذا الماء الذي يشربه المؤمنون منه، وهو أنه من شرب منه لا يظمأ أبداً. ومن الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً في صحيح البخاري قال: (إن ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة، ثم قال: ومنبري على حوضي). والمقصود: قوله: (ومنبري على حوضي) يعني: أن مكان المنبر هو نفسه مكان الحوض بعد تبديل الأرض، فإن الله عز وجل يبدل الأرض غير الأرض والسماء كذلك تبدل بعد البعث، ثم يكون مكان الحوض هو في نفس مكان المنبر، كما دل عليه هذا الحديث. كما أن ابن أبي عاصم في (السنة) وابن أبي الدنيا في (الأهوال) رويا من حديث بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وألين من الزبد)، وزاد مسلم من حديث أبي ذر وثوبان: (وأحلى من العسل)، وزاد الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر وابن مسعود: (وأبرد من الثلج).

طول الحوض وعرضه

طول الحوض وعرضه هذه مجموعة من الصفات الثابتة في صفة الحوض، وقد وردت أحاديث متعددة في طوله وعرضه، وسنأتي على هذه الروايات جميعاً، وظاهرها أن بعضها يختلف عن بعض، لكن ورد في مسألة طوله وعرضه وأنهما سواء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في صحيح مسلم وأخرجه الإسماعيلي كذلك (في الجمع بين الصحيحين) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وزواياه سواء) زواياه: طوله وعرضه سواء، كما جاء في حديث النواس بن سمعان وجابر وأبي برزة وأبي ذر أنه قال: (طوله وعرضه سواء)، وهذا أوضح، قال: (طوله وعرضه سواء). أما الأحاديث الواردة في مسألة تشبيه طول الحوض، فوردت على ثلاثة أنواع: النوع الأول: ما يدل على أن مسيرة هذا الطول شهر كامل، ومن ذلك حديث أنس رضي الله عنه يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كما بين أيلة وصنعاء اليمن) وأيلة هي العقبة، وصنعاء اليمن هي المدينة المشهورة، وإنما أضافها إلى اليمن حتى يفرق بينها وبين صنعاء الشام، فإن أهل اليمن عندما غزوا في فتوح الشام سكن كثير منهم مكاناً في دمشق سمي بعد ذلك باسم مدينتهم صنعاء، وإضافة صنعاء اليمن هي إضافة من بعض الرواة كما يذكر ذلك بعض الشراح. وفي رواية حذيفة بدل صنعاء: عدن، وفي رواية: (ما بين عمان إلى إيلة) وهي نفسها العقبة، وجاء في رواية أبي بردة عند ابن حبان: (ما بين ناحيتي حوضي كما بين إيلة وصنعاء مسيرة شهر) وهذه المسافات كلها معروف أن مسيرتها مسيرة شهر للراحل بالإبل. وأما النوع الثاني من الأحاديث الواردة في مسألة الطول: ما يدل على أنها نصف شهر أو دونه، ومن هذه الأحاديث حديث عقبة بن عامر عند الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في طوله: (كما بين أيلة إلى الجحفة) ما بين أيلة إلى الجحفة أقل مما بين أيلة إلى صنعاء. وفي حديث جابر: (كما بين صنعاء إلى المدينة)، وفي حديث ثوبان: (كما بين عدن وعمان البلقاء) والبلقاء هي مدينة مشهورة في فلسطين، وعند عبد الرزاق في المصنف: (ما بين بصرى إلى صنعاء) وبصرى هي مدينة في أطراف الشام، أو: (ما بين أيلة إلى مكة)، وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه: (ما بين صنعاء إلى مكة) أو: (ما بين مكة إلى عمان)، وفي حديث الحسن عن أنس عند أحمد: (ما بين صنعاء ومكة) كما سبق أن أشرت.

الجمع بين الروايات التي وردت في ذكر مسافة طول الحوض وعرضه

الجمع بين الروايات التي وردت في ذكر مسافة طول الحوض وعرضه هذه المسافات التي ذكرناها متقاربة، وهي تدل على أن المسافة نصف شهر تقريباً أو أزيد بقليل أو أنقص بقليل، فهذه نصوص تدل على أن مسافة الحوض شهراً كاملاً، ونصوص أخرى تدل على أن مسافة الحوض نصف شهر فكيف يمكن أن نجمع بين هذه النصوص؟ جمع بينها أهل العلم بطرق متعددة من الجمع نذكر منها: القول الأول: جمع القاضي عياض رحمه الله في شرحه لـ مسلم؛ حيث قال: إن هذا الاختلاف هو اختلاف في التقدير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان في كل موضع يحدث فيه عن الحوض، يضرب لهم -يعني: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- مثلاً ببعد أقطار الحوض وسعته بما يسنح له من العبارة. فعند القاضي عياض ليس المقصود هو التحديد، وإنما المقصود هو مجرد التقدير وبيان السعة فقط، ولهذا قد يذكر بعض الأحيان أن مسافته مسافة شهر، وبعض الأحيان يذكر أقل، بحسب ما سنحت له العبارة، هذا جمع القاضي عياض رحمه الله، ولا شك أن في هذا نظراً، فإن ضرب المثل لا يكون تارة بشيء كثير وتارة بشيء قليل، وإنما يمكن أن يعبر بأنواع متعددة منه، لكن تجتمع في المقدار، فهذا القول فيه ضعف. القول الثاني في الجمع: هو أن هذا الاختلاف هو لاختلاف الطول والعرض، قالوا: إن بعض الروايات جاءت في الطول وبعضها جاءت في العرض، فما جاء من الروايات أنه يساوي مسيرة شهر فهذا المقصود به الطول؛ لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص السابق: (أن طوله مسيرة شهر)، وما جاء أقل من ذلك فهو في العرض، وهذا جمع بين الأدلة، ولا شك أن هذا أيضاً فيه نظر؛ لأنه سبق أن ذكرنا أن طوله وعرضه سواء. القول الثالث: هو أن الفرق بين هذه وتلك هو في مسألة السير البطيء والسير السريع، قالوا: إنه إذا نظر إلى السير السريع يكون التقدير ما بين أيلة إلى صنعاء، وإذا نظر إلى السير البطيء يكون أقل من ذلك، لكن هذا الكلام غير صحيح؛ لأن ظاهر الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد التفريق بينهما بالسير، وهذا جمع فيه تكلف. لكن الجمع الصحيح هو ما ذكره النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: فإن النووي رحمه الله عندما أراد الجمع بين هذه النصوص قال: إن الأحاديث التي ورد فيها ما بين أيلة إلى الجحفة مثلاً أو ما بين مكة إلى عمان، هذه المسافات القصيرة لا تخالف المسافات الطويلة، فإن المسافة الطويلة تشمل القصيرة وزيادة. وبناءً على هذا فيكون المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بداية الأمر يظن أن الحوض من أيلة إلى الجحفة، ثم بعد ذلك أخبر أنه أكثر، وليس هناك تعارض بين الأكثر والأقل، فإن الأقل يدخل في الأكثر، وهذه المسألة تشبه مسألة العام والخاص، فإن العام يشمل الخاص وزيادة، وكذلك الأكثر يشمل الأقل وزيادة، وهذا أيضاً ما رجحه الحافظ ابن حجر رحمه الله، وهو اختياره، وقال: إنه أقرب إلى الصواب. لكن يبقى أن نشير إلى أنه ورد في بعض الأحاديث في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن مسافته: (كما بين جرداء وأذرح) وجرداء وأذرح هي قريتان في الشام متقاربتان، يذكر أن بينهما مسافة ثلاثة ليال أو ثلاثة أيام، لكن هذه الرواية التي في البخاري بين الضياء المقدسي في كتابه الذي جمع فيه أحاديث الحوض أن فيها غلطاً، واستدل على وجود الغلط برواية أخرى ساقها بإسناد حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرضه مثل ما بينكم -يعني: في المدينة- وبين جرداء وأذرح)، وحينئذ فتكون رواية ابن عمر: (أنه ما بين جرداء وأذرح) غلط، وإنما الصحيح أنها: (ما بين المدينة إلى جرداء وأذرح)، فتكون متفقة مع بقية الروايات الأخرى، يقول المقدسي رحمه الله: فظهر بهذا أنه وقع في حديث ابن عمر حذف تقديره: (كما بين مقامي وبين جرداء وأذرح)، فسقط قوله: (مقامي وبين)، ودل على ذلك رواية أبي هريرة السابقة.

ذكر منكري الحوض وسبب إنكارهم له

ذكر منكري الحوض وسبب إنكارهم له أنكر الخوارج والمعتزلة الحوض، وممن أنكر الحوض كذلك عبيد الله بن زياد، وهو أحد أمراء العراق لـ معاوية وابنه يزيد، فقد أخرج أبو داود عن أبي برزة الأسلمي: أنه دخل على عبيد الله بن زياد فذكر ابن زياد الحوض، فقال: (هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيه شيئاً؟ فقال أبو برزة: نعم، لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثاً ولا أربعاً ولا خمساً، فمن كذب به فلا سقاه الله منه). ويزيد القصة وضوحاً حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي رواه أبو يعلى في مسنده قال -يعني: أنس -: دخلت على ابن زياد وهم يذكرون الحوض، فقال: هذا أنس، فقلت: (لقد كانت عجائز المدينة كثيراً ما يسألن ربهن أن يسقيهن من حوض نبيهن) وإسناده صحيح. وكذلك روى أبو داود من طريق يزيد بن حبان التيمي قال: شهدت زيد بن أرقم وبعث إليه ابن زياد -وهو عبيد الله بن زياد - فقال: (ما أحاديث تبلغني أنك تزعم أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم حوضاً في الجنة؟ قال: حدثنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم). وعبيد الله بن زياد هو من النواصب الذين كانوا يبغضون علي بن أبي طالب، بل ربما تكلم على بعض الصحابة، فلما جاءه عائذ بن عمرو رضي الله عنه وقال له: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن شر الرعاع الحطمة)، وإني أخشى أن تكون منهم، فقال: اجلس إنما أنت من نخالة أصحاب محمد، فقال له عائذ: وهل كان فيهم نخالة؟! إنما كانت النخالة فيمن بعدهم. يقصده. فهذه هي مسألة الحوض، والأقوال في هذه المسألة، وإنما أنكره الخوارج والمعتزلة لمخالفته للعقل في زعمهم، فإن لهم أصلاً في باب السمعيات الخبريات التي لا تقبل العقل: يؤولونها جميعاً، فيؤولون الميزان، ويؤولون الصراط، ويؤولون الحساب، ويؤولون الحوض وغير ذلك من السمعيات. وأما الأشاعرة فإنهم يثبتون الحوض، ويقولون: إن كل السمعيات بعد إثبات النبوة تكون مثبتة، هذا هو أصلهم في هذه القضية.

الشفاعة

الشفاعة قال المؤلف رحمه الله: [والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار]. الشفاعة: هي طلب الخير للغير بالتوسط عند من لديه حاجة المشفوع له.

أركان الشفاعة

أركان الشفاعة لها ثلاثة أركان: الركن الأول: الشافع وهو الذي يتوسط. الركن الثاني: المشفوع له، وهو المتوسط له. الركن الثالث: الشفاعة، وهي فعل الشافع.

أنواع الشفاعة وشروطها

أنواع الشفاعة وشروطها أنواعها نوعان: شفاعة مثبتة، وشفاعة منفية. وأما شروطها فشرطان: الشرط الأول: أن يأذن الله سبحانه وتعالى للشافع أن يشفع، كما يدل على ذلك قول الله عز وجل: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]. الشرط الثاني: الرضا عن المشفوع له بأن يكون من أهل التوحيد، ويدل على ذلك قول الله عز وجل: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28]، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله، مخلصاً من قلبه).

أنواع الشفاعة التي أثبتها الله سبحانه وتعالى

أنواع الشفاعة التي أثبتها الله سبحانه وتعالى والشفاعة التي أثبتها الله سبحانه وتعالى أنواع: النوع الأول: الشفاعة العظمى لأهل الموقف، وهي المقام المحمود الذي يقول الله سبحانه وتعالى فيه: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشمس لتدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ثم موسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فيشفع ليقضي بين الخلق أو ليقضى بين الخلق، فيومئذٍ يبعثه -يعني: الله عز وجل- مقاماً يحمده فيه أهل الجمع كلهم). أما حديث أبي هريرة الطويل فقد ذكر الشارح ابن أبي العز الحنفي رحمه الله أن سياق الحديث في بدايته يدل على أنه في الموقف، فإنهم يأتون إلى آدم ثم إلى نوح ثم إلى إبراهيم ثم إلى موسى ثم إلى عيسى يطلبون أن يحاسبهم الله سبحانه وتعالى، وأن يخرجهم من هذا الموقف، لكن في ختام الحديث ليس فيه شيء من ذلك، بل فيه أنه بعد أن يسجد ويقول الله عز وجل له: (ارفع رأسك، سل تعط واشفع تشفع، فيقول: يا رب! أمتي أمتي، يا رب! أمتي أمتي، يا رب! أمتي أمتي، فيقول: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من العذاب من الباب الأيمن من أبواب الجنة)، فليس فيه أنه شفع لهم في الموقف، مع أن أهل العلم يستدلون بهذا الحديث في مسألة الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا يقول: والعجب كل العجب من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه، ولا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، وهذا الكلام هو نص كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية. والصحيح أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يدل على الشفاعة العظمى، وقد استدل به ابن خزيمة في كتاب (التوحيد) على هذا الأمر، كما استدل به القرطبي في كتابه (التذكرة) على الشفاعة العظمى، ووجه الدلالة في هذه المسألة هي أن الحديث اشتمل في بدايته على طلب الشفاعة، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في حديث أبي هريرة -: (فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟) يعني: فيخرجكم من هذا الموقف، وليس في نهاية الحديث أنه شفع لهم للخروج من الموقف، لكن فيه أن الله عز وجل يقول: (أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة) وفيه بعد ذلك حصول الشفاعة لأهل الكبائر، وهذا يدل على أنهم حوسبوا، فيبدو أن في الحديث اختصاراً، وأن الصحيح هو أن سياق الحديث بأكمله أنه بعد أن جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم طلب الشفاعة من ربه فشفع للناس، فنزل سبحانه وتعالى فحاسب الناس، ثم شفع النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى لدخول من لا حساب عليه ولا عذاب الجنة. وحينئذٍ فلا حاجة للقول بما قال به الشارح من أن الدليل هو حديث الصور؛ فإن حديث الصور حديث طويل ساقه الشارح بأكمله، وفيه: فيقول سبحانه وتعالى: (شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينهم، قال: فأرجع فأقف مع الناس) يعني: النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر انشقاق السماوات وتنزل الملائكة بالغمام، ثم يجيء الله سبحانه وتعالى لفصل القضاء. وحديث الصور لا يكون مثل حديث أبي هريرة، فإن حديث أبي هريرة أقوى منه، فحديث أبي هريرة في الصحيحين وحديث الصور تكلم عليه العلماء وقالوا: إن فيه ضعفاً، وفي إسناده إسماعيل بن رافع المدني وهو قاص أهل المدينة، ويبدو أنه ركب الحديث من أحاديث مجموعة وجعلها في سياق واحد، ولهذا ضعف هذا الحديث أهل العلم، وذكروا أن ما وجد فيه من فقرات يشهد لها أحاديث أخرى في الصحيحين أو في غيرها مما ثبت إسناده فهي صحيحة، ووجد فيه ألفاظ منكرة ولا تكون ثابتة، ووجد فيه أشياء لا شواهد لها، وهذه لا تكون صحيحة؛ لضعف إسماعيل بن رافع القاص الذي سبق ذكره. النوع الثاني من الشفاعة: الشفاعة في دخول أهل الجنة فيها، وهذه الشفاعة ثابتة في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أول شفيع في الجنة). وكذلك روى الإمام مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (آتي باب الجنة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمد، فيقول: بك أمرت ألا أفتح لأحد من قبلك). وهاتان الشفاعتان -الشفاعة الأولى والشفاعة الثانية- خاصتان بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد. النوع الثالث من أنواع الشفاعة: الشفاعة بتخفيف العذاب عمن يستحق، وهذه الشفاعة هي شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في تخ

إثبات شفاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم

إثبات شفاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم أما شفاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم فقد وردت الأحاديث الصحيحة أن الملائكة والأنبياء والمؤمنين يشفعون، كما جاء ذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وهو حديث طويل وفيه: (فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة وشفع الأنبياء وشفع المؤمنون، ثم لم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين) إلى آخر الحديث، وهو يدل على أن الأنبياء وعلى أن الملائكة والمؤمنين يشفعون يوم القيامة. كما أنه ورد في الصحيح إثبات شفاعة الشهداء، وفي ذلك حديث المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله ست خصال: -ومنها- ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه) وهذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجة والإمام أحمد في مسنده والآجري في الشريعة، وهو صحيح. وورد كذلك شفاعة الصيام والقرآن، فقد ثبت من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب! منعته الطعام والشراب بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته من نومة بالليل فشفعني فيه، فيشفعان) وهذا الحديث إسناده صحيح رواه الإمام أحمد في مسنده والحاكم وصححه وقال: على شرط مسلم ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وصححه كذلك المنذري. هذه هي الشفاعة المثبتة.

الشفاعة المنفية

الشفاعة المنفية وأما الشفاعة المنفية: فهي الشفاعة الشركية، ويمكن أن نتحدث عن هذا الموضوع في نقاط، منها: حكم طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم.

حكم طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم والتوسل به

حكم طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم والتوسل به طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم هو أن يقول الإنسان: يا رسول الله! اشفع لي، فإن هناك فرقاً بين أن يقول الإنسان: اللهم شفع نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم في، وبين أن يقول: يا رسول الله! اشفع لي، فإذا قال: اللهم، هذا دعاء لله عز وجل وليس فيه إشكال، وإذا قال: يا رسول الله! اشفع لي، فإن طلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام بحسب الدور: ففي الدنيا يصح للإنسان أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه الشفاعة، والمقصود بالشفاعة حينئذ الدعاء، ولا إشكال في ذلك. وأما طلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم في البرزخ فإنه لا يجوز، وهو إما بدعة وإما شرك، فإنه طلب من الغائب أن يشفع له فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، فإن الشفاعة ملك لله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44]، فالشفاعة ملك خاص لله عز وجل لا يجوز أن تطلب إلا منه، لكن قد يقول قائل: إن الله أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة، فإذا أعطى الله عز وجل النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة فلماذا لا نطلبها منه الآن؟ والجواب على هذا هو أن يقال: إن الله عز وجل أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة في الآخرة بعد أحداث، وبعد أن يستأذن من الله عز وجل، وأما في الدنيا وفي البرزخ فلم يعطه شيئاً من الشفاعة، بل هي ملك لله عز وجل، فإذا طلبها الإنسان من غير الله فهو يدعو غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل، وهذا من الشرك. وأما الحالة الثالثة فهي أن يطلب الشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، وهذا لا إشكال فيه، فإنه يطلب الشفاعة والدعاء من حي ينظر إليه ويستطيع أن يدعو له، ولهذا لا يصح للقبوريين أن يستدلوا: بأن الناس يوم القيامة يأتون إلى آدم وإلى نوح وإلى إبراهيم وإلى موسى وعيسى ويأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيستغيثون به، فإن الاستغاثة هذه استغاثة فيما يقدرون عليه وهو الدعاء، ولا إشكال في ذلك، وهذا من جنس أن يطلب الإنسان من مخلوق في الدنيا ما يستطيع عليه، والشرك هو أن يطلب من غير الله عز وجل ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، فإذا طلب الإنسان من مخلوق شيئاً من الأشياء يقدر عليه المخلوق فلا إشكال في هذا، وهذه الصورة لا إشكال فيها، وإنما الذي يدخله الشرك أو هو الشرك بعينه أن يطلب من غير الله عز وجل ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى. والمسألة الثانية: التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، والتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم إذا أطلقه القبوريون فهم يريدون به استغاثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا قالوا: نحن نتوسل بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم يقصدون الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهي دعاؤه فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، وهذا من الشرك.

التوسل المشروع

التوسل المشروع وأما التوسل المشروع فإنه ثلاثة أنواع: النوع الأول: التوسل بأسماء الله تعالى كما قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180]. النوع الثاني: التوسل بالعمل الصالح، كما يدل عليه خبر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار، وكل واحد منهم سأل الله عز وجل بصالح عمله. النوع الثالث: التوسل بدعاء الصالحين، وهذا ما يدل عليه حديث الأعمى المشهور: (أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه أن يدعو له، فدعا له، ثم قال: اللهم شفعه في)، وهذا توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على جواز التوسل بدعاء الصالحين عموماً، وقد فعله الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. وأما الحديث المشهور الذي فيه الدعاء: (اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي) إلى آخر الحديث، فهذا الحديث لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل هو حديث ضعيف، يقول عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن العلماء أجمعوا على ضعفه، فإن في إسناده فضيل بن مرزوق وهو ضعيف، وفيه أيضاً عطية العوفي، قال ابن حبان: إنه كان يسمع من أبي سعيد الخدري، ثم لما مات أبو سعيد ذهب فأصبح يطلب العلم من الكلبي، والكلبي وضاع كذاب، فكناه بـ أبي سعيد، فإذا سأله أحد عن الحديث: من حدثك؟ قال: حدثني أبو سعيد، فيفهم المستمع أن أبا سعيد الخدري هو الذي حدثه، وفي الحقيقة أن الذي حدثه هو الكلبي، لكنه دلسه بهذه الطريقة، ولا يصح هذا الحديث بأي وجه من الوجوه. وبهذا نكون قد انتهينا من الكلام عن الشفاعة بشكل مجمل، وفي اللقاء القادم إن شاء الله سنتحدث عن مسائل أخرى بإذنه تعالى.

الأسئلة

الأسئلة

المقصود بقوله عليه السلام عن الحوض: (زواياه سواء)

المقصود بقوله عليه السلام عن الحوض: (زواياه سواء) Q هل المقصود بقوله: (زواياه سواء): أن الحوض مربع أو مستطيل؟ A المقصود به: أنه مربع؛ لأن تساوي الزوايا يدل على أنه مربع.

عموم الشفاعة العظمى لكل الناس

عموم الشفاعة العظمى لكل الناس Q الشفاعة العظمى هل هي عامة لجميع الخلق أم هي خاصة للمؤمنين الموحدين فقط؟ A الشفاعة العظمى عامة لجميع الناس، وهي من أجل أن يأتي الله سبحانه وتعالى لفصل القضاء، وهذه عامة للمسلمين والكفار.

عصمة الأنبياء

عصمة الأنبياء Q الأنبياء معصومون من الخطأ، ولكن في يوم القيامة كل نبي يعد خطأه، فما توجيه ذلك؟ A ليس هناك مانع من أن يخطئ النبي في غير الوحي، فإن الوحي لا يخطئ فيه النبي، لكن غير الوحي يمكن أن يحصل منه الخطأ، فإذا حصل منه الخطأ فإنه يتوب منه في الدنيا، وأما الكبائر فإنهم معصومون منها.

عموم الشفاعة لأصحاب الصغائر والكبائر

عموم الشفاعة لأصحاب الصغائر والكبائر Q هل الشفاعة تشمل أصحاب الكبائر أم هي فقط لأصحاب الصغائر؟ A الشفاعة تشمل أصحاب الكبائر وأصحاب الصغائر أيضاً.

حكم قول: اللهم أدخلني الجنة من دون شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم

حكم قول: اللهم أدخلني الجنة من دون شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم Q من يقول: اللهم أدخلني الجنة ولا تدخلني النار، وأدخلني الجنة من دون شفاعة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، هل هذا الدعاء صحيح، علماً أنه يقصد بذلك: أي بأعماله، وقبل ذلك برحمة الله؟ A ليس هناك داع للدعاء بهذه الطريقة السيئة، يعني: كونه يقول: اللهم أدخلني الجنة من دون شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا دعاء عجيب! وهو على كل حال من الاعتداء في الدعاء، والواجب أن يدعو الإنسان ربه سبحانه وتعالى بأن يدخله الجنة ويعيذه من النار، ولا يتشرط بهذا الأسلوب الغريب.

كيفية الرؤية القلبية

كيفية الرؤية القلبية Q كيف رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه بقلبه؟ وهل القلب يرى؟ A سبق أن بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه، والمقصود بالرؤيا هنا رؤيا قلبية، وهي نوع من أنواع الكشف؛ كشف قلبي يعرف الإنسان به ربه، وليس المقصود به رؤية بصرية كما سبق. وأما هل القلب يرى؟ فنعم يرى، له رؤية خاصة به وليست مثل رؤية العين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

العقيدة الطحاوية [3]

العقيدة الطحاوية [3] يعتقد أهل السنة والجماعة أخذ الله تعالى الميثاق من ذرية آدم واستنطاقهم وإشهادهم على ربوبيته لهم, كما يعتقدون وجوب الإيمان بالقدر ومراتبه وما تضمنته كل مرتبة من مسائل, خلافًا لمن ضل فيه وفي مراتبه من القدرية والجبرية والفلاسفة ونحوهم, وأنه سر الله تعالى في خلقه لا يخوض فيه إلا من زلت به القدم, كما يعتقدون إثبات العرش والكرسي وإثبات علو الله تعالى على خلقه, وإثبات صفة المحبة له تعالى, والإيمان بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة لهداية الخلق.

الميثاق الذي أخذه الله عز وجل من آدم وذريته

الميثاق الذي أخذه الله عز وجل من آدم وذريته الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين. أما بعد: قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق]. أخذ الله سبحانه وتعالى من ظهر آدم ذريته، وجمعهم في مكان واحد، واستنطقهم سبحانه وتعالى، وأشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [الأعراف:172] فقال الله عز وجل لهم: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، وهذا الميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على بني آدم من ظهر آدم هو قبل أن يخلق الناس، والميثاق فيه أربع مسائل كبار: المسألة الأولى: مسألة الفطرة، والمسألة الثانية: مسألة الأرواح، والمسألة الثالثة: مسألة القدر، والمسألة الرابعة: مسألة قيام الحجة. والشيخ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله أوردها في صدر الكلام على القدر، كأنه يشير إلى أن الميثاق نوع من أنواع القدر المكتوب، كما سيأتي ذكره. ويدل على الميثاق قول الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف:172 - 173]، والإشهاد والاستنطاق وأخذ الميثاق أمر متفق عليه بين السلف الصالح رضوان الله عليهم، إلا أنهم اختلفوا في مسألة: هل آية الأعراف تدل على هذا الأمر الذي هو أمر الميثاق وإخراج الذرية واستنطاقهم وإشهادهم، أو أنها لا تدل؟ أما استنطاقهم وإخراجهم وإشهادهم على أنفسهم فقد دلت عليه جملة من الأحاديث، منها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحديث ابن عمر رضي الله عنه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وكل هذه الأحاديث منصوصة في كتب أهل العلم في المسانيد والسنن والجوامع، وهي وإن كان كثير من طرقها فيه ضعف إلا أن بعضها يجبر بعضاً، وقد جمع طرقها الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة واستفاض في تخريجها وأطال رحمه الله تعالى. ويمكن أن نذكر من هذه الأحاديث حديث ابن عباس رضي الله عنه، وهو قوله: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: بعرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه، ثم كليهم قبلاً، قال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172] إلى آخر الآيات). وكذلك روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو ما رواه عن ابن عباس، إلا أنه زاد: (إن الله عز وجل مسح ظهر آدم بيمينه واستخرج منها ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار) ونحو ذلك من الأحاديث التي تدل على أن الله عز وجل استخرج من ظهر آدم ذريته، وأشهدهم على أنفسهم. لكن اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم في آية الأعراف، هل هي نفسها المقصودة في الأحاديث؟ يعني: هل الأحاديث وآية الأعراف شيء واحد، أم أن الآية تدل على معنى والأحاديث تدل على معنى آخر؟ جمهور أهل العلم يقولون: إن الآية هي نفسها المرادة في الأحاديث، ولهذا جاء نصها في حديث ابن عباس رضي الله عنه كما سبق. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم في كتابه الروح وأيضاً وافقهما الشارح يرون أن الآية التي في سورة الأعراف لا توافق الأحاديث الواردة في استخراج الذرية وإشهادهم على أنفسهم وإقرارهم بذلك. وهذه المسألة التي في تفسير الآية الخلاف فيها سهل وبسيط، لكن أهل العلم اتفقوا على مسائل الاعتقاد التي تضمنها هذا الميثاق الوارد في الأحاديث، فقد اتفقوا على أن الميثاق يدل على الفطرة، ويدل على أن الله عز وجل خلق كل ا

الإيمان بالقدر

الإيمان بالقدر ثم بعد ذلك شرع الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في الكلام على القدر فقال: [وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة وعدد من يدخل النار جملة واحدة، فلا يزداد في ذلك العدد ولا ينقص منه، وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه]. ثم ذكر بعد ذلك فقرات متعددة كل هذه الفقرات يجمعها أنها في موضوع القدر، يعني: من فقرة (50) إلى فقرة (60) تقريباً هذه كلها في موضوعات القدر، ويمكن أن نذكر الموضوعات الأساسية في القدر ثم نعرض لهذه الفقرات، ونطبقها على ما نذكره إن شاء الله. والإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، كما جاء ذلك في حديث جبريل عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)، فالقدر ركن من أركان الإيمان، كما أن القدر يعتبر من الإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ فإن خلاصة القدر هو: الإيمان بصفات الله سبحانه وتعالى؛ الإيمان بالعلم والقدرة والإرادة والخلق، وكل ذلك سيأتي بيانه وتفصيله. فالإيمان بالقدر متعلق بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، وبالذات بتوحيد الأسماء والصفات، ولهذا تساءل البعض: لماذا لم يرد ركن الإيمان بالقدر في القرآن؟ والجواب عن هذا: أنه ورد في القرآن مفرداً عن بقية الأركان، كما قال الله عز وجل: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49]، وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب:38] هذا أمر. والأمر الثاني: أنه حتى لو لم يرد هذا الركن منفصلاً فهو تابع لركن الإيمان بالله، فإن القدر كما سبق أن بينا متعلق بالإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله يتضمن الإيمان بربوبية الله والإيمان بإلوهية الله، والإيمان بأسماء الله وصفاته، ومن الإيمان بأسماء الله وصفاته الإيمان بالقدر، فإن القدر يعود إلى توحيد الأسماء الصفات، كما سيأتي في مراتبه إن شاء الله.

مراتب القدر

مراتب القدر القدر له أربع مراتب:

المرتبة الأولى: العلم

المرتبة الأولى: العلم المرتبة الأولى: مرتبة العلم، والعلم صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، عالم بما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، وهو سبحانه وتعالى عالم بآجال الناس وأعمالهم وأرزاقهم، وهو سبحانه وتعالى عالم بكل شيء ولا يغيب عنه شيء. والعلم من الصفات الثبوتية لله سبحانه وتعالى، فإن الصفات تنقسم إلى قسمين: الصفات السلبية: وهي التي نفاها الله عز وجل عن نفسه؛ كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255]. والصفات الثبوتية: وهي ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه. فصفة العلم هي من الصفات الثبوتية، والصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: صفات فعلية وصفات ذاتية، والضابط في التفريق بينهما هو: أن الصفات الفعلية هي ما تعلق بمشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته، وأما الصفات الثبوتية فهي الذي لا ينفك عن الله عز وجل بأي وجه من الوجوه، وليس متعلقاً بالإرادة. فصفة العلم صفة ثبوتية ذاتية متعلقة بالله سبحانه وتعالى، لكن قد يقول قائل: ما هو الدليل على تقسيم الصفات؟ فنقول: الدليل على تقسيم الصفات هو أن هذه الصفات أصلاً موجودة في القرآن بمعناها، فمعنى الصفات الفعلية هو موجود، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، فهذا يدل على أنه استوى وقبل ذلك لم يكن مستوياً، فلما خلق العرش استوى سبحانه وتعالى، وهذه صفة فعلية متعلقة بإرادته ومشيئته، وصفة العلم متعلقة بالله عز وجل؛ فإن العلم لا ينفك عنه بوجه من الوجوه، ولهذا لا يمكن أن يكون الله عز وجل يوماً من الأيام جاهلاً ومرة أخرى عالماً هذا لا يقوله أي مسلم، وصفة العلم يمكن أن نأخذها من اسم الله سبحانه وتعالى العليم، فإن القاعدة: أن كل اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى يتضمن صفة؛ فالعليم يتضمن صفة العلم، ومما يدل على هذه الصفة في القرآن قول الله سبحانه وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59]، فهذه الآية وغيرها من الآيات تدل على إثبات صفة العلم لله سبحانه وتعالى، وأهل السنة يثبتون هذه الصفة التي هي العلم، ويقولون: إنه عالم بالماضي والمستقبل، وإن علمه سبحانه وتعالى شامل لكل شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا يعتريه نسيان ولا جهل بأي وجه من الوجوه.

الفرق التي ضلت في إثبات مرتبة العلم والرد عليهم

الفرق التي ضلت في إثبات مرتبة العلم والرد عليهم أما المذاهب الضالة في موضوع العلم فهي على أنواع: الفرقة الأولى: الفلاسفة، والفلاسفة جمع فيلسوف، وفيلسوف كلمة يونانية مركبة من كلمتين: من (فيلا) و (سوف) يعني: محب الحكمة، والفلاسفة نوعان: فلاسفة اليونان: مثل أرسطو وأفلاطون وسقراط وجالينيوس وغيرهم من الفلاسفة. وهناك فلاسفة يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، والحقيقة أنه ليس في الإسلام فلسفة، لكن نسبوا إلى الإسلام؛ لأنهم ينتسبون إليه، مثل: ابن سينا والفارابي والكندي، فهؤلاء الفلاسفة ضلوا في صفة العلم، فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى إنما يعلم الكليات فقط، وأما الجزئيات فلا يعلمها، وهذا أحد الأسباب التي جعلت الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) يكفرهم بسببه، فإن الغزالي كفرهم في كتابه (تهافت الفلاسفة) بثلاثة أسباب: السبب الأول: أنهم قالوا: إن الله سبحانه وتعالى إنما يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات. السبب الثاني: إنكارهم للنبوة. السبب الثالث: أنهم أنكروا المعاد الجسماني، وقالوا: إن الناس لا يبعثون من قبورهم. ويمكن أن يرد عليهم بآية في كتاب الله عز وجل وهي قوله: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] يعني: عقلاً لا يتصور أن يخلق الله عز وجل خلقاً لا يعرفه، فإن من يخلق الشيء لابد أن يعرفه، فكيف يقال: إن الله خلق الخلق ثم لا يعرف ما فيه إلا الكليات؟! وهم أصلاً ضالون في صفة الخلق، فإنهم يقولون: إن الخلق لم يحصل بإرادة الرب سبحانه وتعالى، وإنما صدر الخلق عن الله عز وجل صدوراً مثل الشعاع عندما ينفصل عن الشمس، ولهذا يعتقدون أن الخلق قديم، وأن الخلق له جزء من صفة الباري! هكذا يعتقدون، وهم ضالون في ذلك، وكفرهم وضلالهم واضح. الفرقة الثانية: هم القدرية الأولى، فإن القدرية الأولى يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لا يعلم الفعل من العبد قبل وقوعه، وإنما يعلمه بعد أن يقع، وأول من قال بهذا رجل نصراني ظهر في البصرة في العراق يسمى سوسن النصراني أظهر الإسلام، ثم بعد ذلك تأثر به معبد الجهني، وأخذها عن معبد غيلان الدمشقي، والذي يدل على أن معبداً أخذها من سوسن النصراني هو حديث يحيى بن يعمر الثابت في صحيح مسلم وفيه: أنه ذهب هو وحميد بن عبد الرحمن الحميري والتقيا بـ ابن عمر رضي الله عنه في عرفة وكان حاجاً، فقالا له: إنه ظهر عندنا بالبصرة رجل يقال له: معبد، ينكر القدر ويقول: إن الأمر أنف، فـ معبد الجهني كان هو وغيلان وسوسن الذي قبله ينكرون علم الله سبحانه وتعالى بالفعل قبل وقوعه، وإنما يقولون: إنه يعلم الفعل بعد وقوعه، وهؤلاء كفرهم السلف رضوان الله عليهم، لكن هؤلاء انقرضوا، ولم يبقوا بعد ذلك. الفرقة الثالثة: المعتزلة: والمعتزلة أخذوا هذا الفكر عن القدرية، ولا شك أن عقيدة القدرية الذين ينكرون علم الله سبحانه وتعالى باطلة؛ لأن الله عز وجل يقول: {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه:98]، فقوله: ((وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا)) يدل على أنه عالم بالماضي والمستقبل، عالم سبحانه وتعالى بالفعل قبل وقوعه وبعد وقوعه، كما سيأتي في الكلام على عقيدة الأشاعرة في هذا الأمر. فالمعتزلة هم خلف القدرية، وجاء بعد معبد الجهني غيلان الدمشقي، ثم غيلان الدمشقي قتله هشام بن عبد الملك كما هو مشهور، وقيل: قتله عمر بن عبد العزيز. ثم بعد ذلك ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وأخذوا ضمن ما أخذوا إنكار القدر عن معبد، لكن بشكل أقل غلواً من أولئك؛ فقد أثبتوا صفة العلم لله سبحانه وتعالى، لكنهم أنكروا الكتابة، وأنكروا الإرادة، وأنكروا خلق أفعال العباد كما سيأتي مفصلاً بإذنه تعالى. والمعتزلة وإن كانوا يثبتون صفة العلم، إلا أنهم يقولون: إن الله عز وجل عليم بلا علم، كما يقولون: سميع بلا سمع، ويقولون: إن علمه هو ذاته، وقالوا بهذا القول هروباً من شبهة تعدد القدماء؛ فإنهم يعتقدون أن أخص وصف للإله أن يكون قديماً، والقديم لا يقبل التعدد عندهم، فإنهم يقولون: لو أثبتنا -مثلاً- للباري صفة العلم وأثبتنا له صفة الإرادة وأثبتنا له صفة الكلام فإنه يلزم في كل صفة من هذه الصفات أن تكون قديمة؛ لأن الإله قديم، ومادام يلزم أن تكون هذه الصفة قديمة فمعنى هذا: أنه لابد أن يكون لهذه الصفة سمع وبصر وعلم، فأصبحت إلهاً آخر، ولهذا أصبح عندنا آلهة متعددة، فيقولون: إذا أثبتنا الصفات أثبتن

المرتبة الثانية: الكتابة

المرتبة الثانية: الكتابة المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر: مرتبة الكتابة، وهذه المرتبة متعلقة بصفة القدرة، ويدل على هذه المرتبة من القرآن قول الله عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ} [الأنعام:38]، وللسلف رضوان الله عليهم في تفسير الكتاب هنا رأيان: الرأي الأول: أن المقصود بالكتاب: اللوح المحفوظ. والرأي الثاني: أن المقصود به: القرآن. لكن يبدو أن المقصود به اللوح المحفوظ كما ذكره غير واحد من السلف. ومما يدل على ذلك -وهو أوضح من الاستدلال السابق- قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج:70]، وهذا نص على أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض وأن ذلك في كتاب، ويقول الله عز وجل: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل:75]. ومرتبة الكتابة أنواع: النوع الأول: الكتابة العامة، ويدل عليها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء). النوع الثاني: التقدير أو الكتابة حين أخذ الميثاق، وقد ذكرنا ذلك في حديث عمر بن الخطاب. النوع الثالث: هي الكتابة العمرية أو التقدير العمري، ويدل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه عندما قال: حدثني الصادق المصدوق إلى أن قال: (ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد)، فهذه كتابة عمرية، يعني: متعلقة بعمر الإنسان كله. النوع الرابع: التقدير أو الكتابة التي تحصل في ليلة القدر، فإن الله عز وجل يقول عنها: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4]. النوع الخامس: الكتابة أو التقدير اليومي؛ كما قال الله عز وجل: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: (من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويخفض آخرين)، وهذه الكتابة كما تلاحظون ثابتة بالقرآن والسنة، والمكتوب في هذه الكتابة هو ما علمه سبحانه وتعالى، وعلمه لا يحده حد، فهو يعلم الماضي ويعلم المستقبل، يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فقد علم ما سيفعله العباد قبل أن يفعلوه، وكتب ما علمه من فعل العباد الذي سيفعلونه قبل أن يفعلوه، وهذا من علمه سبحانه وتعالى الشامل التام، وهذه المرتبة ينكرها المعتزلة القدرية، ويثبتها الجبرية بكل طوائفهم، وسيأتي الإشارة إلى هذه الطوائف في المرتبة الرابعة.

المرتبة الثالثة: المشيئة

المرتبة الثالثة: المشيئة المرتبة الثالثة: هي مرتبة المشيئة والإرادة، يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:6]، ويقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج:14]، وإثبات إرادة الله سبحانه وتعالى في النصوص كثيرة جداً، وأهل السنة والجماعة يثبتون أن الله سبحانه وتعالى مريد بإرادة شاملة عامة لا يحدها حد. وأما المعتزلة فإنهم يقولون: إن إرادة الله سبحانه وتعالى إنما تكون في الخير فقط، وأما الشر فإن الله لا يريده، والسبب في ضلال المعتزلة في هذه المسألة: هو أنهم لم يفرقوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فإن الإرادة الكونية هي ما أراده الله سبحانه وتعالى أن يكون في خلقه، ولا يمكن أن يحصل شيء في مخلوقات الله عز وجل وهو لم يرده، فهي موافقة لصفة الخلق، فكل شيء خلقه الله عز وجل فقد أراده قبل أن يخلقه. وأما الإرادة الثانية فهي الإرادة الشرعية، والإرادة الشرعية المقصود بها: ما أمر الله سبحانه وتعالى به العباد وأوجبه عليهم وما أراده الله عز وجل منهم، بمعنى: أحب أن يفعلوه، فلما لم يفرق المعتزلة بين هذين ظنوا أن الإرادة لابد أن تكون محبوبة لله عز وجل، فلما ظنوا هذا الظن قالوا: كيف إذاً يريد الكفر مع أنه سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7]؟ فلا يمكن أن يحصل منه أنه يريد الكفر وهو في نفس الوقت يكرهه، ولهذا يتساءلون بتساؤل مشهور وهو: كيف يريد الله تعالى أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يريده ثم يبغضه؟ يقولون: كيف يريد الله عز وجل شيئاً من الأشياء، ثم يبغض هذا الشيء؟ وكيف يريد الله عز وجل أمراً من الأمور ثم ينهى عنه وهو مريده؟ فلم يتصوروا أن المراد نوعان: نوع مراد لذاته، وهذه هي الإرادة الشرعية التي أرادها الله سبحانه وتعالى من العباد. ونوع مراد لغيره، يعني: ليس مراداً لذاته، وإنما هو مراد لغيره، وهذه هي الإرادة الكونية، فإن الله عز وجل خلق الكفر وخلق القبائح في الكون وقد أرادها سبحانه وتعالى، بمعنى: أنه خلقها، لكن جعلها للابتلاء والامتحان والاختبار، ولم يخلقها الله عز وجل وهو محب لها كما ظن المعتزلة، ولهذا ينقل كثير من أهل العلم مناظرات بين المعتزلة وبعض أئمة أهل السنة، وعندما يحصل النقاش بينهم إذا ذكر أحدهم هذا التساؤل وهو: كيف يريد الله عز وجل شيئاً ثم يبغضه؟ فيرد عليه السلفي بقوله: إنه لا يمكن أن يكون في كونه ما لا يريد؛ لأن المعتزلة يقولون: إن الله عز وجل لم يرد الشر ولم يرد الكفر، وأن الكفر حصل من الكفار بغير إرادة الله! هكذا يزعمون، ولا شك أن في هذا تنقيصاً لأفعال الله سبحانه وتعالى وقدرته؛ لأنهم يقولون: إن الكافر كفر بإرادته هو والله عز وجل لم يرد هذا، فكأن الكافر غلب الله عز وجل فحصلت إرادته! ولهذا سماهم السلف: مشبهة الأفعال؛ حيث شبهوا الله عز وجل بخلقه، وهذا قدح في التوحيد الذي يظنون أنهم يدافعون عنه بمثل هذه العقائد الفاسدة.

المرتبة الرابعة: الخلق

المرتبة الرابعة: الخلق المرتبة الرابعة: مرتبة خلق أفعال العباد، يقول الله عز وجل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الأنعام:102]، فقوله عز وجل: ((خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) يشمل أفعال العباد، ويقول الله عز وجل: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43]، ويقول: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:2] يعني: الذي خلق و (ما) موصولة تعم، وعقيدة أهل السنة: أن الله سبحانه وتعالى خالق العباد وأفعالهم، ومما خلق سبحانه وتعالى من أفعال العباد إرادتهم وأنهم يفعلون الفعل عن إرادة واختيار. وآراء الفرق في هذه المسألة يمكن أن نقسمها إلى رأيين مشهورين: الرأي الأول: رأي القدرية، وهم المعتزلة. والرأي الثاني: رأي الجبرية. فأما المعتزلة فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعال العباد، وإن العباد يحدثون أفعالهم، واختلفوا هل يصح أن نسمي العبد خالقاً لفعله أو أنه محدث له؟ فأما المتقدمون فلقربهم من عهد السلف كانوا يتجنبون اسم الخلق ويقولون: إنه محدث لفعله، وأما المتأخرون فإنهم ينصون على أنه خالق لفعله حقيقة، وقال المعتزلة بهذا بسبب هو أنهم يريدون أن يفروا من الجبر، وأن الله عز وجل لم يجبر العباد على شيء من الأعمال، ولهذا يسميهم كثير من الكتاب المعاصرين: أتباع حرية الإرادة، يعني: الذين يطالبون بأن يكون الإنسان حراً مختاراً مريداً، والحقيقة أن الله عز وجل خالق لأفعال العباد وليس في هذا جبر عليهم، فإن مما خلق إرادتهم التي يريدون بها والتي يختارون بها، فإرادتهم مخلوقة له سبحانه وتعالى، ومشيئتهم مخلوقة لله عز وجل، لكن طبيعة هذه الإرادة هي أنهم يختارون ما يشاءون من غير جبر، ويتركون ما يشاءون من غير جبر، وأما الكتابة السابقة فإنه لا يوجد فيها جبر، وإنما الكتابة التي كتبها الله عز وجل هي ما علمه سبحانه وتعالى، والله عز وجل علمه واسع يشمل السابق واللاحق ويشمل كل شيء، ومما علم سبحانه وتعالى هو أن العبد سيختار الكفر أو سيختار الإيمان، فكتب ما علمه، ولهذا لا حجة للجبرية في كون الله عز وجل خالق لأفعال العباد، ولا حجة للقدرية في كونه خالق لأفعال العباد فيما وصلوا إليه من القولين المتناقضين، فهما يعني: أصل دعواهما واحدة، لكن لكل طائفة قول غير قول الطائفة الأخرى. أما الجبرية فإنهم على نوعين: جبرية خالصة، وهم الجهمية الأولون. وجبرية تسمى جبرية جزئية وهم جبرية الأشاعرة. فأما الجبرية الخالصة فإنهم قالوا: إن العبد مجبور على فعل نفسه، كما قال جهم، وإن العبد مثل الريشة في مهب الريح، وإن أفعاله كلها اضطرارية، وليس فيها شيء اختياري، وإن العبد إذا فعل ما فعل إنما يفعله عن جبر وليس عن اختيار، وصار لهذا الرأي قبول عند المتأخرين من الصوفية ونحوهم؛ فإنهم يعتقدون أن العبد مجبور على فعل نفسه، وأنه ليس له اختيار فيما يفعله، ولهذا يعتقدون أن الأفعال التي يفعلها العبد هي أفعال صالحة؛ لأن الله يحبها، هكذا يظنون، فلما جاءت معها عقيدة وحدة الوجود، أصبح فعل العبد هو نفسه فعل الله عندهم، ولهذا يقول ابن عربي: وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه ويقول: العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف يعني: كيف يكلف؟ ولهذا كثير منهم يعتقد أن النصارى إنما وقع منهم الشرك لأنهم حددوا إلهاً معيناً، والواجب أن يكون كل شيء إلهاً! يعني: أنهم أكثر غلواً من النصارى وأكثر غلواً من اليهود، وهذه عقيدة ابن عربي وابن سبعين وغيرهم من الصوفية الملاحدة، وهم الذين يسمون بفلاسفة الصوفية. وأما الأشاعرة فكما هي حالهم في كثير من مسائل العقيدة: يأتون ويريدون التوسط، ثم يضطربون ويميلون في آخر المطاف إلى أحد المذاهب الباطلة، فهم أرادوا التوسط بين مذهب القدرية ومذهب الجبرية، فأثبتوا أن الله خالق لأفعال العباد، فوافقوا السلف في هذا، ثم أرادوا أن يثبتوا للعبد فعلاً معها فتورطوا كيف يجمعون بين كون الله عز وجل خالق لفعل العبد، وبين كون العبد له فعل، فتوصلوا في النهاية إلى أن العبد له شيء سموه كسباً، والكسب هذا عند التحقيق وعند تحرير مذهبهم لا شيء، وإنما هو اسم الفعل، ولهذا شبهه إمام من أئمتهم وهو أبو منصور البغدادي في كتابه (أصول الدين) بأنه مثل الرجل الكبير الذي يحمل صخرة ومعه طفل صغير يحمل معه هذه الصخرة، ولو أن الطفل الصغير ما حملها لحملها الكبير، فلما حملها معه الصغير سمي حاملاً؛ لأنه يحملها معه، لكنه في الحقيقة ليس بحامل، وهذه هي عقيدة الأشاعرة في موضوع الكسب، ولهذا يقول أحد أئمتهم وهو الأيجي في كتاب له اسمه (المواقف): الجبرية نوعان: جبرية خالصة، وهم ال

وجوب الإيمان بالقدر وعدم الخوض فيه

وجوب الإيمان بالقدر وعدم الخوض فيه ويمكن أن نمر على فقرات من موضوع القدر، ثم نعلق عليها، ثم ننتقل إلى الكلام في مسألة العلو. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله والشقي من شقي بقضاء الله]. وهذا سبق أن أشرنا إليه، وذكرنا أن الله عز وجل قد كتب أعمال العباد جميعها. ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه]. والسبب في كونه سر الله تعالى: أنه متعلق بصفة العلم، وصفة العلم لا نعلمها نحن، ولهذا الذين يحتجون بالقدر على المعائب ويقولون: إن الله كتب علينا الأخطاء، هؤلاء اعتقادهم اعتقاد فاسد وباطل، والسبب في هذا هو: أنهم لا يعلمون ماذا كتب لهم أصلاً؛ فهو سر من الأسرار. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان]. ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الذين كانوا يتناظرون في القدر، خرج عليهم وهو مغضب ووجهه أحمر كأنما فقع في وجهه حب الرمان، فقال: (أتضربون كتاب الله بعضه ببعض؟!) ونهاهم عن ذلك. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ودرجة الطغيان، الحذر كل الحذر! من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة؛ فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه، كما قال الله تعالى في كتابه: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين]. ومن الطرائف في الحقيقة التي تذكر في هذا: أن أعرابياً جاء إلى عمرو بن عبيد، وعمرو بن عبيد من المعتزلة الذين يقولون: إن الله عز وجل لم يرد الشر، وإنما حصل الشر بغير إرادته، فجاءه أعرابي وهو في بيته، وقال له: ضاعت إبلي فادع الله لي، وكان بين طلابه، فرفع يديه وقال: اللهم إنك لم ترد أن تضيع إبل فلان فردها إليه، فقال: لا حاجة لي بدعائك، قال: لماذا؟ قال: لأني أخشى أن يريد أن ترجع فلا ترجع، مادام أنه لم يرد أن تضيع فضاعت! قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود]. والمقصود بالعلم المفقود هو علم الغيب، مثل حقائق أسماء الله وصفاته، ومثل القدر، ومثل حقائق ما في الجنة والنار ونحو ذلك، فكل هذه ليست مرامة بالنسبة للإنسان في هذه الدنيا، وإنما عليه أن يؤمن بالقدر الذي جاء في الكتاب والسنة فقط. وفي هذه الفقرة مسألة من المسائل، وهي مسألة الأولياء، وسيذكرها الشيخ في آخر الكتاب، والأولياء بينهم الله عز وجل في قوله: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، فأولياء الله عز وجل هم أهل التقوى من أهل العقيدة الصحيحة، وأما ما يعتقده الصوفية في الولي وأنه أفضل من النبي فهذا اعتقاد باطل، حتى إنه قال بعضهم: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي يعني: النبوة أقل من الولاية، ويستدلون على ذلك بأن الخضر كان معلماً لموسى عليهما السلام، والخضر ولي، وبناء على هذا فالولي أفضل من النبي، وهذا استدلال فاسد؛ فإن الخضر نبي؛ لقوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] يعني: وإنما فعلته عن أمر الله عز وجل، فقولهم هذا لا شك في بطلانه. والباطنية لهم عقيدة خاصة في أولياء الله سبحانه وتعالى، لكن لا يكفي المجال لشرحها، حتى إن بعضهم يعتقد أن الولاية إنما تحصل بالكشف فقط، فقد نص الغزالي في إحياء علوم الدين على أن الكشف يمكن أن تؤول به النصوص الشرعية، وهذه علومهم، فعلومهم أنهم يجلسون في الأماكن القذرة والوسخة ويدعون أنهم تأتيهم كشوفات، حتى قال الشبلي: إذا بارزونا بعلم الورق خرجنا إليهم بعلم الخرق يعني: يعتقدون أن الخرقة -وهي الولاية التي تحصل لهم- لها إسناد. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم]. وهذه منزلة الكتابة، وهي الإيمان بما كتبه الله سبحانه وتعالى في اللوح، وهذه الكتابة بالقلم. وقد أنكر الفلاسفة اللوح والقلم، قال ابن سينا: إن اللوح هو النفس الكلية، وأما القلم فهو العقل الكلي، ورفض أن يؤمن باللوح والقلم كما أراده الله سبحانه وتعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه؛ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة]. وقد س

إثبات العرش والكرسي

إثبات العرش والكرسي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والعرش والكرسي حق]. فأما العرش فقد ورد في آيات كثيرة، منها قول الله عز وجل: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]، وقوله: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:7]، وقوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، فهذه الأدلة كلها وغيرها تدل على أن لله سبحانه وتعالى عرشاً، وأما الكرسي فهو الثابت في آية الكرسي، عندما قال الله عز وجل: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، فهو حق، لكن هنا مسألة: هل هناك فرق بين الكرسي والعرش؟ بعض أهل الكلام قالوا: إن الكرسي هو العرش، وهذا خطأ، فإن الكرسي هو موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى؛ لما روى ابن أبي شيبة في صفة العرش عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (الكرسي موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى، والعرش لا يقدر قدره إلا الله) وإسناده حسن، وهذا من المرفوع حكماً؛ لأنه مما لا يدخله الاجتهاد في الرأي، وقد فسر بعض أهل الكلام الكرسي بأنه الملك، وهذا تأويل باطل، لقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، فهل معنى هذا أنهم يحملون ملك الله عز وجل؟ ويقول الله عز وجل: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود:7] فهل كان ملكه على الماء؟ ولهذا لا يصح هذا التفسير للعرش، وإنما العرش هو: سرير الملك، وليس هو الملك، وهنا فرق بين السرير والملك نفسه. والكرسي لم يرد إلا في آية واحدة وهي آية الكرسي المشهورة، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض)، وهذا الحديث يدل على أن الكرسي غير العرش، وهو رد على من جعل الكرسي هو نفسه العرش، فيضاف إلى أثر ابن عباس السابق. وقد أول بعض السلف الكرسي بأنه العلم، وهذا خطأ، وربما يقع من بعض أهل العلم خطأ في مسألة من المسائل وهذا الخطأ لا يكون بدعة؛ لأن أصوله العقائدية وآراءه العقائدية هي ما أجمع عليه السلف رضوان الله عليهم، والذي قال: إن الكرسي هو العلم، هو ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، ولا يصح أن يقال: إنه العلم؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255]، ولا يمكن أن يكون العلم وسع السماوات والأرض فقط، وحينئذ فالكرسي هو موضع قدمي الرب كما ثبت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.

إثبات العلو

إثبات العلو قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو مستغن عن العرش وما دونه، محيط بكل شيء وفوقه، وقد أعجز عن الإحاطة خلقه]. وهو مستغن عن العرش لأنه سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، كما قال عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6]، وكما قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15]، واستواؤه على العرش لا يدل على حاجته له، فإن الله عز وجل استوى عليه وهو غير محتاج له، وإنما هو غني سبحانه وتعالى عنه، وهاتان الفقرتان ذكرهما المؤلف في بداية الكلام على موضوع من أهم الموضوعات العقائدية، وهو موضوع إثبات علو الله سبحانه وتعالى، وإثبات علو الله عز وجل على خلقه من أعظم العقائد السلفية الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة، والثابتة بالعقل والفطرة، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر أن علو الله عز وجل على خلقه عليه ألف دليل، وقد ذكر ابن القيم أكثر من ثلاثين دليلاً فطرياً على إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، وقد وزعها بعض العلماء إلى أنواع، وقبل ذلك صنف فيها بعض الأئمة كتباً مستقلة، مثل: الذهبي رحمه الله صنف كتاب (العلو للعلي الغفار) وقد اختصره الشيخ الألباني والأصل والمختصر كلاهما مطبوع، وقبل الذهبي ألف أبو محمد الموفق المقدسي كتاباً سماه (علو الله تعالى)، وممن ألف في علو الله تعالى الأستاذ موسى الدويش له رسالة ماجستير في إثبات علو الله تعالى على خلقه، وأسامة القصاص له جزءان في إثبات علو الله تعالى على خلقه. وذكروا أنواعاً من الأدلة على علو الله عز وجل، منها: أن الله عز وجل صرح بالعلو، كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، فهذا صريح في إثبات صفة العلو، ومنها قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4]، ومن الأدلة قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10]. ومن الأدلة قوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54]. ومن الأدلة كذلك المعراج، فإنه صلى الله عليه وسلم أعرج به إلى السماء، وهكذا هناك أدلة كثيرة تدل على إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، ومنها تنزل القرآن منه سبحانه وتعالى. وأما العقل فقد دل على إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، وقد استدل الإمام أحمد رحمه الله في كتابه (الرد على الجهمية والزنادقة) بدليل عقلي ظاهر، فإنه قال: إن الله عز وجل عندما خلق الخلق، هل خلق المخلوقات في نفسه أو خارجاً عنه؟ ثم قال: لا يخلو المعطل -يعني: لا يجيب المعطل- إلا بأحد ثلاثة أجوبة، إما أن يقول: خلق المخلوقات في نفسه، وهذا واضح الكفر، وإما أن يقول: خارجاً عنه، فإذا قال: خارجاً عنه، فنقول: هل هو خارج عنه ثم دخل فيه؟ فإن قال: هو خارج عنه ثم دخل فيه، فهذا كفر ظاهر؛ لأن فيه حصراً لله عز وجل ونسبة للأماكن القبيحة له سبحانه، فلا يبقى له إلا واحد وهو أن يقول: إن الله خلق الخلق وهو سبحانه وتعالى خارج عن هذه المخلوقات وهو في العلو سبحانه وتعالى.

الفرق التي ضلت في صفة العلو لله عز وجل

الفرق التي ضلت في صفة العلو لله عز وجل الفرق التي ضلت في مسألة علو الله سبحانه وتعالى فرقتان: الفرقة الأولى: الجبرية الحلولية، وهم الذين قالوا: إن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، ولا يخلو منه مكان، وهم الذين قالوا: إن أفعال العباد هي أفعال الله، بل كل شيء في هذا الكون هو من فعل الله عز وجل، هكذا ظنوا، وهكذا يقولون! وهم يستدلون على ذلك بآيات المعية، كقوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] وفهموا أن قوله تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) يعني: أنه مختلط بكم، وهذا فهم فاسد، فإن قوله: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) يعني: بعلمه وقدرته سبحانه وتعالى، فإن الذي قال: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)) قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16]، وهو سبحانه وتعالى الذي نزه نفسه عن القبائح، وهو نفسه سبحانه وتعالى الذي قال: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]، وهو الذي أوجد في فطر العباد أن الإله لابد أن يكون عالياً، ولهذا يذكر أن إمام الحرمين الجويني وهو من أئمة الأشاعرة النفاة للعلو كان في أحد دروسه يقرر نفي العلو، فقال له أحد التلاميذ -وهو الهمداني -: أرأيت الشيء والحاجة التي نجدها في صدورنا أثناء الدعاء بالاتجاه إلى العلو؟ فماذا تقول فيها؟ فسكت، ثم فكر قليلاً، وقال: إنها الحيرة! إنها الحيرة! وجعل يضرب على رأسه، ويقول: حيرني الهمداني؛ لأنه استدل عليه بدليل من نفسه، وهو وجود فطرة في نفس الإنسان أثناء الدعاء؛ حيث يجد الإنسان في نفسه الالتجاء إلى الله عز وجل، بل إنك لو أوقفت طفلاً صغيراً وسألته: أين الله؟ فإنه مباشرة يشير إلى السماء فهي فطرة موهوبة في نفس الإنسان. الفرقة الثانية التي ضلت: الجهمية الكلامية، وهم أهل الكلام من الجهمية، فهؤلاء قالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا في العلو ولا في السفل، ولا عن اليمين ولا عن الشمال، وهؤلاء في الحقيقة ينفون الإله، إلا أنهم لم يأتوا بالتصريح في نفي الإله؛ لأن هذا لا يجوز بتاتاً، فإن الذي لا داخل العالم ولا خارج العالم ولا في اليمين ولا في الشمال هو العدم. ويمكن مراجعة كتاب (الصواعق المرسلة) فقد شرح ابن القيم رحمه الله الرد على هؤلاء بالتفصيل.

إثبات صفتي المحبة والكلام لله عز وجل

إثبات صفتي المحبة والكلام لله عز وجل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونقول: إن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وكلم الله موسى تكليماً؛ إيماناً وتصديقاً وتسليماً]. الخلة: هي كمال المحبة، ويدل على ذلك قول الله عز وجل: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، وهذا يدل على إثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى. وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] هذه الآية تدل على إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وقد طلب بعض نفاة الصفات من أبي عمرو بن العلاء -وهو من الأئمة القراء- أن يقرأ: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) بالنصب، حتى يكون المتكلم هو موسى، فقال لهم: أرأيتم إن صنعت لكم ما تريدون ماذا تفعلون بقول الله عز وجل: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143] يعني: أن هذه ليس فيها خروج لهم، وليس فيها مهرب. وأهل البدع لا يثبتون صفة المحبة لله عز وجل، وإنما يفسرونها بإرادة الثواب، حتى محبة العبد لربه لا يقولون: إنها محبة حقيقة، وإنما يسمونها محبة عقلية ويقولون: إن الإله يتصور أن يُحب كما أنه لا يتصور أن يُحِب، ولهذا جعلوا العبد بعيد الصلة عن الله عز وجل، يعني: لا هو يحب الإله ولا الإله يحبه، ولهذا كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: هؤلاء غلاظ أخباث، يعني: لأنهم فصلوا العبد عن ربه، فلا العبد يحب ربه ولا الرب يحب عبده والعياذ بالله! وانظروا كيف الإنسان إذا ضل في الاعتقاد يكون بضلاله في الاعتقاد أثر في سلوكه وأثر في أخلاقه وفي آدابه وفي تعامله، فالضلال في الاعتقاد له آثار عظيمة جداً في حياة الإنسان، سواء في سلوكه وآدابه أو في دعوته، أو في فهمه للإسلام، فلذلك خطر كبير جداً على الإنسان، كما أن الاعتقاد الصحيح له أثر عظيم جداً على الإنسان في أخلاقه وسلوكه وآدابه، كما في الحديث: (جاء لقيط بن صبرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: يضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، فقال: يا رسول الله! أو يضحك الرب؟ قال: نعم، قال: لن نعدم من رب يضحك خيراً)، فاستفاد هنا فائدة سلوكية، فقال: (لن نعدم من رب يضحك خيراً) يعني: سيعطينا الخير مادام أنه يضحك سبحانه وتعالى. ولهذا يا إخوان! الكلام في الاعتقاد له آثار على السلوك وله آثار على الآداب وله آثار في التعامل الاجتماعي مع الناس، كما أن صحة الاعتقاد لها آثار إيجابية على الإنسان في سلوكه وآدابه وأخلاقه. وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] هذه الآية فيها إثبات صفة الكلام، وقد تقدم بحث الكلام مفصلاً في الفقرات السابقة.

الإيمان بالملائكة والكتب والرسل

الإيمان بالملائكة والكتب والرسل [ونؤمن بالملائكة والنبيين والكتب المنزلة على المرسلين، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين]. هذا فيه إثبات الإيمان بالملائكة والإيمان بالأنبياء والإيمان بالكتب المنزلة، وهذه ثلاثة أركان من أركان الإيمان، وهي الواردة في حديث جبريل؛ فإنه عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال له: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره). والإيمان بالملائكة يمكن أن يكون على نوعين: إيمان مجمل عام، وهو إثبات أن لله عز وجل ملائكة، وأن لهم عدة وظائف، وأنهم لا يحصون عدداً، ويمكن أن يكون الإيمان مفصلاً، وهو أن نؤمن بكل نبي على حدة، أي: أن نؤمن بكل ملك على حدة، ونؤمن بوظيفته التي أخبر الله سبحانه وتعالى عنها؛ فملك الموت موكل بقبض الأرواح، وإسرافيل موكل بالصور، وإن كان في اسم إسرافيل خلاف، وجبرائيل موكل بالوحي، وميكائيل موكل بالقطر وهكذا، ولهم أعمال غير هذه، وهم لا يحصون عدداً. والإيمان بالأنبياء أيضاً يكون مجملاً ومفصلاً، فالإيمان المجمل هو أن يؤمن الإنسان بأن لله عز وجل أنبياء، وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة، ويؤمن بهم على التفصيل بأسمائهم كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، والأنبياء بعضهم قص الله سبحانه وتعالى علينا في القرآن قصتهم، وبعضهم لم يقص سبحانه وتعالى قصتهم. وأما الكتب المنزلة فكذلك يمكن الإيمان بها مجملة أو مفصلة على نحو ما سبق. ثم بدأ المؤلف بعد ذلك في مسألة الإيمان وهي من أخطر المسائل، وأهمها، وسيكون إن شاء الله الكلام عليها تفصيلاً في الدرس القادم.

الأسئلة

الأسئلة

نوع صفة الكلام لله تعالى

نوع صفة الكلام لله تعالى Q هل صفة الكلام صفة فعلية؟ A صفة الكلام صفة فعلية، ويمكن أن تكون صفة ذاتية باعتبار، وتكون فعلية باعتبار آحاد الكلام، فإنه سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء وكيف شاء سبحانه وتعالى، يتكلم في الأزل وسيتكلم يوم القيامة، وهذا يدل على أنها فعلية؛ لأنها متعلقة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لكنها ذاتية باعتبار تعلقها بذات الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى يمكن أن يتكلم متى شاء كيف يشاء.

عقيدة أبي حامد الغزالي

عقيدة أبي حامد الغزالي Q ما رأيكم في عقيدة الغزالي؛ حيث إن كثيراً من الناس يقتنون كتبه ويقتنعون برأيه؟ A أبو حامد الغزالي مر بمراحل متعددة، مر بمرحلة التصوف حتى إنه وصل إلى درجة القول بعقائد الباطنيين؛ وذلك عندما اختبأ في منارة دمشق زمناً طويلاً، وكتب في أثناء تصوفه كتاب (معارج القدس) وكتاب (المضنون به على غير أهله) وكتب كتباً متعددة في هذه الفترة، وهو في هذه الفترة قد قال بعقائد الباطنية إلى درجة أنه كان يجيد السحر، كما في كتاب (المضنون به على غير أهله)، والغزالي كان يؤمن بالأسرار، ويتحدث كثيراً عن الأسرار، فيقول: قلوب الأحرار قبور الأسرار، ويتكلم عن مسألة السر، ويدندن حولها كثيراً من أجل أن يبين أن هناك شيئاً من الدين خاصاً بطائفة معينة، هذا الشيء الخاص في طائفة معينة لو خرج للعامة لأنكروه، هكذا كان يظن، ثم بعد ذلك ترك عقيدة الباطنية وألف رداً عليهم كتاب (تهافت الباطنية) بعد أن كلفه نظام الملك بهذا الكتاب عندما درس في مدرسته النظامية في بغداد، ثم بعد ذلك اهتم بعلم الكلام، وألف فيه رسالة (الاقتصاد في الاعتقاد)، ثم رقى بعلم الكلام في كتاب سماه (إلجام العوام عن علم الكلام)، وكان مضطرب العقيدة؛ حتى إنه صرح بالشك في بعض كتبه، في كتاب (ميزان العمل) يقول في آخر هذا الكتاب: إن من لم يشك ولم يحصل له الشك فإنه لم يصل إلى الحقيقة! ويعتقد أن طريق الوصول إلى الحقيقة هي عن طريق الشكوك، فيقول: إن فائدة كتابي -يعني: ميزان العمل- لو لم يثمر إلا أنه يشكك في الموروث من عقائدك، لكان هذا كافياً! يعني: في أن يكون قد أدى دوره. وبعض الباحثين يحاول أن يدافع عن الغزالي بأن هذا الشك يسمونه الشك المنهجي وليس الشك العقائدي، والحقيقة أن الشك المنهجي والشك العقائد متلازمان وهما شيء واحد في الحقيقة، فالذي يشك منهجياً لابد أن يشك عقائدياً، ولابد أن يشك في عقيدته. وأما كتابه (إحياء علوم الدين) فهو كتاب مليء بالخير والشر، ومليء بالأحاديث الصحيحة والضعيفة، وهو كتاب تربوي يمكن للمتخصص الذي يستطيع أن يميز أن يستفيد منه، لكنه لا ينفع لمن لا يستطيع التمييز؛ فإنه صرح فيه بعقائد باطلة، منها العقيدة التي ذكرتها وهي أنه يقول: إن الكشف الصوفي يمكن أن تؤول به النصوص الشرعية، وكما قلت: إنه ملأه بكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبعض الناس يعظم كتاب (إحياء علوم الدين) إلى درجة أنه يقول: إن الغزالي في هذا الكتاب استطاع أن يحيي الأمة الإسلامية في الجيل الذي ظهر قبل صلاح الدين الأيوبي، وإنه لما جاء صلاح الدين الأيوبي وجد أمة جاهزة للجهاد في سبيل الله، وهذا الكلام غير صحيح، فإن كتاب (إحياء علوم الدين) على ضخامته في أربعة مجلدات كبيرة لم يعقد فيه باباً للجهاد، ولم يتكلم عن الجهاد أبداً، وإنما كان يتكلم عن بعض السلوكيات، والحق يقال، ولا ينبغي كتم الحق، والواجب هو العدل، فالكتاب فيه الكثير من الجوانب الإيجابية والجوانب المفيدة، إلا أنه لا ينبغي لغير المتخصص ولغير الممحص أن يقرأه، فإنه إن قرأه تورط في بعض أخطائه.

قول الأشاعرة في العلو

قول الأشاعرة في العلو Q ما هو قول الأشاعرة في العلو؟ A المتقدمون من الأشاعرة كانوا يرون أن علو الله عز وجل ثابت، كـ أبي الحسن الأشعري والباقلاني والبغدادي وغيرهم من الأئمة السابقين من أئمة الأشاعرة، لكن من مرحلة الجويني أو قبله بقليل وما بعد الجويني بدءوا ينفون علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، تأثراً بالمعتزلة، واستحكم الأمر أكثر في زمن الرازي والأرنوي الذين رد عليهم شيخ الإسلام في كتابه الجليل (درء تعارض العقل والنقل)، فإنه خصصه في الرد على مقالات الرازي والأرنوي وفصل مقالاتهم ورد عليهم بشكل مفصل، ومن أكبر المسائل التي رد عليهم فيها مسألة العلو، وأفرد في المجلد الثاني وبعض الثالث أكثر من مائة صفحة من الكتاب كلها في الحديث عن مسألة علو الله سبحانه وتعالى والرد على شبه الرازي التي ذكرها في كتابه الأربعين في هذه المسألة. وأما المتأخرون منهم في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وفي أزماننا المعاصرة الآن فقد خلطوا بين نفي العلو وبين عقيدة الصوفية في وحدة الوجود، فأصبحوا يدندنون أن الله في كل مكان، حتى أن الشعراوي نص على أن الله عز وجل ليس في السماء وأنه في كل مكان، وصرح بهذه القضية، ونفى علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، بينما لو أنه رجع إلى عقائد السابقين من أئمة الأشاعرة لوجد أنهم يثبتون صفة العلو ولا ينفونها.

وقت انتهاء الكتابة في اللوح المحفوظ

وقت انتهاء الكتابة في اللوح المحفوظ Q هل الكتابة في اللوح المحفوظ إلى قيام الساعة فقط كما في الأحاديث، فإن الشيخ الطحاوي قال: حتى بعد الساعة؟ A الظاهر -والله تعالى أعلم- أنها إلى الساعة فقط، كما هو نص الأحاديث في هذه المسألة، وأما ما بعد الساعة فلم يرد أنها مكتوبة في اللوح المحفوظ؛ لأن التكليف انتهى.

حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي

حكم الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي Q ما حكم الاحتجاج بالقدر على فعل الذنوب؟ A لا شك أن الاحتجاج بالقدر على فعل الذنوب باطل ولا يصح، والشريعة جاءت بالأمر والنهي، والذي يحتج بالقدر على فعل الذنوب أعرض عن الأمر والنهي وأصبح فعله هو الذي يرى أنه القدر المكتوب عليه، ولا شك أن هذا قول فاسد، وأنه طي لبساط الشريعة كلها؛ لأنها جاءت بأمر ونهي وبيان للوعيد على من ترك الأمر وفعل النهي، وفي بيان الثواب لمن فعل الأمر وابتعد عن النهي وهكذا. فأقول: الذي يحتج بالقدر على فعل معاصيه هذا منتقص لهذه الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب، وأما محاجة آدم لموسى وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى)، فإنما هو احتجاج بالقدر على المصائب وليس على المعائب، فإن الذنب الذي فعله آدم عليه السلام ثم تاب منه وتركه أصبح في حقه مصيبة، ولامه موسى بعد أن تاب من الذنب.

العقيدة الطحاوية [4]

العقيدة الطحاوية [4] معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان أنه قول وعمل, وهو قول السلف وعلماء الأمصار الذين حكى إجماعهم عليه غير واحد من الأئمة, وخالفهم في ذلك مرجئة الفقهاء الذين أخرجوا العمل من مسمى الإيمان, وبعض المنتسبين إلى أهل السنة القائلين بأن العمل شرط كمال, فنتج عن خلافهم مفاسد في حياة المسلمين, كما خالفهم الأشاعرة والماتريدية وغيرهم ممن عدل عن دلالة النصوص في هذه المسألة العظيمة.

عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان

عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. أما بعد: فالقضية التي سندرسها في هذا الدرس إن شاء الله تعالى هي من أهم القضايا وأخطرها في العقيدة، وهي قضية الإيمان والكفر. وقضية الإيمان والكفر من أكبر القضايا التي اختلف فيها المسلمون، بل إن أول خلاف وقع في الأمة وفي حياة المسلمين هو الخلاف في مسألة الإيمان، وذلك عندما كفرت الخوارج عصاة المسلمين بالذنوب، ثم ظهرت المرجئة بعد ذلك وأصبحت كرد فعل للخوارج، فأخرجوا العمل عن حقيقة الإيمان وعن مفهومه. وقبل أن نتحدث عن مذاهب الناس في هذه المسألة واختلافهم فيها أحب أولاً أن نبدأ ببيان عقيدة أهل السنة رحمهم الله تعالى في هذا الموضوع المهم:

الإيمان قول وعمل واعتقاد

الإيمان قول وعمل واعتقاد أجمع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان قول وعمل، وكونه قولاً وعملاً مما اتفق عليه أهل السنة ودل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية. فمن القرآن قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، وقد نزلت هذه الآية للصحابة الذين كانوا يصلون في بداية الأمر إلى بيت المقدس، ثم أمرهم الله سبحانه وتعالى بالتوجه إلى البيت الحرام، فظن بعض الصحابة أن ما فات من صلاتهم إلى بيت المقدس غير مقبول، فأنزل الله عز وجل قوله وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] والمقصود بقوله: (إيمانكم) صلاتكم، وهذا يدل على أن الصلاة إيمان، ويدل على أن العمل من الإيمان، وقد بوب البخاري رحمه الله في كتابه الصحيح في كتاب الإيمان: باب من قال: إن الإيمان هو العمل، وذكر فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور)، وهذا الحديث واضح الدلالة في تسمية الإيمان بالله ورسوله عملاً، فإن السؤال هو: أي العمل أفضل؟ و A ( إيمان بالله ورسوله) وهو ظاهر. ومما يدل على أن العمل من الإيمان ما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الإيمان بضع وستون شعبة، فأعلاها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) قال: (فأعلاها قول: لا إله إلا الله) وهذا قول اللسان، (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) وهذا من عمل الجوارح، ثم قال: (والحياء شعبة من الإيمان) والحياء عمل قلبي. وكذلك دل على أن الإيمان يجمع القول والعمل الإجماع، فقد ذكر البخاري رحمه الله أنه لقي أكثر من ألف رجل من أهل العلم كلهم يقولون: إن الدين قول وعمل، واستدل على ذلك بقول الله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5]، فالعمل جزء أساسي من الإيمان، وقول السلف رحمهم الله تعالى: إن الإيمان قول وعمل، معناه: أن الإيمان مركب من القول والعمل، ومعنى القول: قول القلب وقول اللسان، فأما قول القلب فهو تصديقه بكل ما جاء عن الله سبحانه وتعالى وعن رسوله صلى الله عليه وسلم من الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، والملائكة، والقدر، ونحو ذلك مما أخبر الله به سبحانه وتعالى أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم، فتصديق القلب يسمى قولاً، وبعض السلف مثل أبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى في كتابه (الإيمان) سماه عملاً، ولا مشاحة في الاصطلاح؛ فالمعنى واحد، المهم هو أن تصديق القلب داخل في الإيمان، وتصديق القلب لا نزاع فيه أبداً بين طوائف المسلمين، بل كل طوائف المسلمين من أهل السنة والمرجئة والخوارج وغيرهم يقولون: إن تصديق القلب من الإيمان، إلا الكرامية، فإن الكرامية لم تعتبر تصديق القلب من الإيمان، وإنما جعلت حقيقة الإيمان هو إقرار اللسان فقط، وهم نظروا إلى الإيمان الظاهر الذي يحكم به على الناس في الدنيا. فتصديق القلب هو قول القلب، وأما قول اللسان فالمراد به: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، كما دل عليه حديث أبي هريرة رضي الله عنه الله، وكما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه في وفد عبد القيس، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: الإيمان: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة) إلى آخر الأركان المعروفة، إلا أنه قال: (وأن تؤدوا الخمس من المغنم). فالإيمان يشمل كذلك قول اللسان، هذا بالنسبة للقول. وأما بالنسبة للعمل فإن العمل المراد به عمل القلب وعمل الجوارح، فأما عمل القلب فهو يقين القلب وإخلاصه وخشوعه وانقياده وخضوعه واستسلامه ورجاؤه وخوفه ونحو ذلك من الأعمال التي يقوم بها القلب، وعمل الجوارح مثل: الصلاة، والصيام والجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الله ونحو ذلك من الأعمال التي تؤدى بالجوارح. فالإيمان مركب من هذه جميعاً: مركب من تصديق القلب وقول اللسان وعمل القلب وعمل الجوارح، فهذه أركانه الأربعة الأساسية، وهذه الأركان الأربعة المهم فيها هو أن تعرف حقائقها: لأنه قد يعبر عنها بأكثر من تعبير، فمثلاً: بعض العلماء يقسم الإيمان إلى قسمين: ظاهر، وباطن، ويقصد بالظاهر: قول اللسان وعمل الجوارح، ويقصد بالباطن: تصديق القلب وعمل القلب، وبعضهم يقول: هو قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان، وهي كلها

عمل القلب ومنزلته من الإيمان

عمل القلب ومنزلته من الإيمان بعد أن عرفنا أن الإيمان قول وعمل، وأنه مركب من القول ومن العمل نحب أن نأتي إلى عناصر الإيمان، ونذكر ما هو الأساس فيها الذي ترجع إليه جميع هذه العناصر. سبق أن بينا أن عناصر الإيمان الأساسية هي: أولاً: تصديق القلب، وثانياً: قول اللسان، وثالثاً: عمل القلب، ورابعاً: عمل الجوارح، ويمكن أن نعرف الأساس من هذه الأربعة من خلال حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي ربط فيه بين ظاهر الإنسان وباطنه عندما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب). فالعنصر الأساسي من عناصر الإيمان المؤثر في بقية العناصر: هو عمل القلب، فعمل القلب هو الذي يدفع اللسان للنطق وهو الذي يدفع الجوارح للعمل، فأساس الإيمان هو عمل القلب، والبقية التي تأتي بعده هي ترجع إليه في الحقيقة، وإن كان هذا المركب جميعاً يسمى الإيمان وهو حقيقة واحدة كما سبق أن بيناه. ولهذا لا يتصور أهل السنة والجماعة أن يكون إنسان مؤمناً في الباطن كافراً في الظاهر أبداً في حالة الاختيار، لا يتصور هذا؛ لأن العلاقة بين الباطن والظاهر علاقة تلازم وثيق؛ فقوله: (ألا وإن في الجسد مضغة) يعني: القلب، (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، ولا يمكن أن يوجد إنسان مؤمن في قلبه لكنه في ظاهره غير مؤمن إلا في حالة واحدة وهي حالة الإكراه، وحالة الإكراه حالة غير طبيعية، وليست هي الحالة الطبيعية في المجتمع وفي حالة الإنسان في وضعه الطبيعي، لكن يمكن أن يتصور إنسان يظهر العمل بالجوارح وهو كافر في الباطن، وهذه موجودة في صورة المنافق كما هو معروف، فإن المنافق يظهر الإسلام ويبطن الكفر في قلبه. فأساس الإيمان هو عمل القلب؛ ولهذا ستلاحظون من خلال مناقشتنا للطوائف الضالة في هذه المسألة أننا نحاول أن نبين ما هو موقف هذه الطائفة من عمل القلب؟ فإذا عرفنا موقفها من عمل القلب نستطيع أن نحدد وجهتها وطريقتها ومنهجها.

مرجئة الفقهاء ومذهبهم في الإيمان

مرجئة الفقهاء ومذهبهم في الإيمان الفرق في هذه المسألة يمكن أن نذكرها كالآتي: أولاً: مرجئة الفقهاء: مرجئة الفقهاء هم فرقة ظهروا في الكوفة، وذلك بعد ظهور الخوارج وتكفيرهم للصحابة رضوان الله عليهم وتكفيرهم لعصاة المسلمين، فعند الخوارج أن الذي يرتكب الزنا كافر، والذي يأكل الربا كافر، والذي يشرب الخمر كافر، ولكن هذا خروج عن السنن والصراط المستقيم، ولأجل هذا ظهرت طائفة من الفقهاء في الكوفة أخرجت العمل عن مسمى الإيمان، وقالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي والإقرار باللسان فقط، فحصروا الإيمان عندهم في التصديق القلبي. فما هي صورة التصديق القلبي؟ صورة التصديق القلبي هي: أنهم يثبتون أن الله صادق وما أخبر به صدق، يعني: مجرد تصديق بدون إذعان وبدون قبول وبدون رد وبدون أي عمل من الأعمال القلبية الأخرى، وإنما مجرد نسبة الصدق إلى الخبر أو المخبر، والمخبر هو الله أو الرسول، والخبر هو ما جاء عن الله أو جاء عن الرسول، فجعلوا الإيمان هو مجرد التصديق القلبي وإقرار اللسان فقط، وأخرجوا العمل عن مسمى الإيمان. ومرجئة الفقهاء هؤلاء هم من أمثال حماد بن أبي سليمان رحمه الله تعالى، ومن أمثال أبي حنيفة رحمه الله وغيرهم من فقهاء الكوفة الذين كانوا في تلك الفترة، لكن الشيء الذي يميز هؤلاء هو أنهم مع قولهم بأن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان إلا أنهم كانوا يشددون في الالتزام بالعمل وينبهون الناس على ذلك ويكفرون من ترك العمل كله، أي: جنس العمل، يعني: من ترك العمل القلبي والعمل الظاهر يرون أنه كافر، وهذا القول اختلف هل قال به أبو حنيفة رحمه الله أو لم يقل به؟ فيه خلاف كثير، لكن على كل حال ورد في التمهيد لـ ابن عبد البر أن أبا حنيفة رحمه الله استدل عليه بعض الناس بحديث في أن العمل يدخل في مسمى الإيمان فسكت، فقيل له: لماذا لا تجيب؟ قال: كيف أجيب وهو يستدل علي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم؟ والمظنون به أن يرجع في مثل هذه المسألة. وهذا القول الذي هو قول مرجئة الفقهاء لم يبق عليه أحد إلا أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى، وشارح العقيدة الطحاوية ابن أبي العز الحنفي رحمه الله تعالى، وهذا المذهب انقرض، وقد حاول ابن أبي العز الحنفي أن يقرب بين مذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم وبين مذهب مرجئة الفقهاء، واجتهد في ذلك إلا أنه أخطأ في مواضع من شرحه للعقيدة الطحاوية. والحقيقة أن مذهب مرجئة الفقهاء ليس هو مذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم، فإن الذي يرجع -مثلاً- إلى كتاب (السنة) لـ عبد الله بن الإمام أحمد أو كتاب (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) أو كتاب (الشريعة) للآجري يجد تشنيع السلف على الذين يخرجون العمل من الإيمان، وكان مقصود السلف رضوان الله عليهم بهذا التشنيع هم مرجئة الفقهاء، لأن المرجئة الحقيقيون أول ما بدءوا كانوا على طريقة جهم، وقد كان السلف يكفرون جهماً أصلاً، ولهذا لا داعي بأن يشتغلوا بالرد عليه، وإنما اشتغلوا بالرد على مرجئة الفقهاء؛ لأنهم هم أقرب إلى العلم، وتأثيرهم في الناس أكثر، ولهذا تكلموا في هذه المسألة وأطالوا فيها، ويمكن لمن أراد مراجعة (السنة) لـ عبد الله بن الإمام أحمد أن ينظر إلى مدى إنكار السلف الصالح رضوان الله عليهم لهذه البدعة التي ظهر بها مرجئة الفقهاء.

الفرق بين مذهب السلف ومرجئة الفقهاء في الإيمان

الفرق بين مذهب السلف ومرجئة الفقهاء في الإيمان الفرق بين مذهب السلف الصالح رضوان الله عليهم وبين مذهب مرجئة الفقهاء من عدة جوانب، منها: أولاً: أن مرجئة الفقهاء أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان، وهذا في حد ذاته بدعة، وحتى لو كان إخراجهم للعمل عن مسمى الإيمان هو مجرد إخراج لفظي، فإن هذا في حد ذاته بدعة؛ لأن الإيمان مصطلح شرعي، والمصطلح الشرعي هذا جاءت به النصوص، فكونهم خالفوا النصوص ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد). ثانياً: أن مرجئة الفقهاء يقولون: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولهذا سيأتي أن أبا جعفر الطحاوي رحمه الله يقول: (والناس في أصله سواء)، يقول: الإيمان واحد؛ لأنه يرى أن حقيقة الإيمان هي التصديق، وأن الإيمان واحد والناس في أصله سواء، وسيأتي التعليق على هذه العبارة وبيان التناقض فيها إن شاء الله. فأقول: إن السلف الصالح كانوا يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، بينما كان مرجئة الفقهاء لا يقولون: إن الإيمان يزيد وينقص. ثالثاً: أن بعض مرجئة الفقهاء كان يقول: إيماني كإيمان جبرائيل وميكائيل، ويقصد بإيمانه: التصديق المجرد، فإن التصديق المجرد عندهم لا يزيد ولا ينقص، فتصديقه مثل تصديق جبرائيل، هكذا كان يقول. أما السلف الصالح رضوان الله عليهم فإن أحدهم لا يقول: إن إيماني كإيمان جبرائيل وميكائيل. فالفرق كبير بين الطائفتين في حقيقة الإيمان أصلاً، فهؤلاء يفهمونه على طريقة، وهؤلاء يفهمونه على طريقة أخرى.

أول من قال بالإرجاء

أول من قال بالإرجاء وإذا تجاوزنا مرجئة الفقهاء قليلاً نجد أن الجهم بن صفوان الذي قتله سلم بن أحوز والي خراسان كان قد ابتدع الإرجاء، وكان كما يقول بعض المؤرخين: أول من ابتدع الإرجاء، وقيل: إن أول من ابتدع الإرجاء هو غيلان الدمشقي القدري الذي سبق أن تحدثنا عنه، المهم أن مذهب الإرجاء ظهر باسم جهم بن صفوان، فلما ظهر الإرجاء باسم جهم بن صفوان كان حقيقة مذهب جهم بن صفوان في المسألة هو أن الإيمان مجرد المعرفة، يعني: أن يعرف الله ويعرف الرسول، فمن عرف ذلك يصبح مؤمناً كامل الإيمان حتى لو لم يعمل شيئاً من أعمال القلب ولا أعمال الجوارح ولا نطق اللسان ولا شيء من هذه الأمور، بل مجرد أن يعرف، وإذا عرف حصل منه الإيمان وكفى، هكذا كان يقول جهم، وقد كفره السلف الصالح رضوان الله عليهم في قوله في الإيمان وفي قوله في الأسماء والصفات، ولهذا يقول عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى: لئن أحكي كلام اليهود والنصارى خير لي من أن أحكي كلام الجهمية. ويقصد بالجهمية: جهماً وأتباعه الذين جاءوا من بعده مباشرة مثل بشر المريسي وابن السجزي وابن أبي دؤاد وأمثال هؤلاء.

مذهب الأشاعرة والماتريدية في الإيمان

مذهب الأشاعرة والماتريدية في الإيمان ثم انقرضت الجهمية الأولى، فمن خلفهم؟ خلفهم الأشاعرة، فقد جاء الأشاعرة والماتريدية فوجدوا تراث الجهمية فأخذوه وقرروا أن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي فقط، وأن العمل خارج عن دائرة الإيمان، ثم اختلفوا في قول اللسان: هل هو داخل في حقيقة الإيمان أو ليس بداخل في حقيقة الإيمان؟ وأكثرهم يقول: إنه ليس داخلاً في حقيقة الإيمان على أنه ركن، وإنما هو شرط لإجراء أحكام الإسلام الظاهرة، حتى إنه يقول بعضهم: إن الإنسان إذا لم يقل: لا إله إلا الله، يمكن أن يكون ناجياً عند الله، لكن في الدنيا نتعامل معه على أنه غير مسلم، فيقول: إن قول: لا إله إلا الله، ليس شرطاً في حقيقة الإيمان بحيث نعتبر هذا الإنسان مؤمناً عند الله أو ليس بمؤمن، وإنما حقيقة الإيمان عنده هو تصديق القلب، وأما إقرار اللسان فهو شرط لإجراء أحكام الظاهر على الناس بحيث إنه يمكن التمييز بين الكفار وبين المسلمين في الدنيا؛ لأن الأحكام نوعان: أحكام دنيوية، وأحكام أخروية عند الله سبحانه وتعالى، فإقرار اللسان عندهم شرط وليس بركن، وعندهم أن الشرط خارج الماهية، يعني: حقيقة الإيمان نفسه لا يدخل فيه قول اللسان، لكنه شرط خارج عنها، وهذا الشرط لابد منه لإجراء أحكام الظاهر وإن كان قد يكون عند الله عز وجل ناجياً، كما نص عليه كثير منهم، وبهذه الطريقة أصبح الأشاعرة على سنن الجهمية وعلى طريقتهم. كيف يدافع الأشاعرة إذا قيل لهم: أنتم جهمية في هذا الأمر؟ قالوا: هناك فرق بيننا وبين الجهمية، فإذا قلنا لهم: وما الفرق بينكم وبين الجهمية؟ قالوا: الجهمية يقولون: الإيمان هو المعرفة فقط، وإبليس يعرف الله، ونحن نقول: الإيمان هو التصديق، وهناك فرق بين التصديق والمعرفة. لكن إذا جئت تحرر مذهبهم تجد أنه لا فرق بينهم وبين مذهب الجهمية، وإنما هو مذهب واحد؛ لأن التصديق الذي جاء به الأشاعرة ليس فيه قدر زائد على المعرفة، فإن التصديق هو مجرد الإخبار بأن كلام الله صدق، وأن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم صدق فقط، وهذا لا شك أنه هو نفسه مجرد معرفة كلام الله ومعرفة كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وهم يحاولون أن يفرقوا، ويقولون: إننا نحن ننسب الصدق والجهمية لا ينسبون، لكن حقيقة قول جهم عندما قال: إن الإيمان هو المعرفة لا يقصد به مجرد المعرفة حتى مع التكذيب، وإنما كان يقصد المعرفة التي تدل على أن هذا إله وهذا رسول، ولا يمكن لأحد أن يعرف أن هذا إله وهذا رسول ثم يكذبه، لا يمكن هذا حتى من أصحاب الملل الأخرى، لكن قد يكذب أن يكون هذا إله في بداية الأمر، لكن أن يعتقد أنه إله ثم يكذبه هذا لا يوجد في الناس، كما سيأتي بيانه إن شاء الله. وبناءً على هذا نجد أن الأشاعرة والماتريدية لم يقولوا بدخول عمل الجوارح في مسمى الإيمان، ولم يقولوا بدخول عمل القلب في مسمى الإيمان، ولم يقولوا بدخول قول اللسان في مسمى الإيمان، وإنما حصورا الإيمان في مجرد التصديق فقط.

قول بعض المنتسبين إلى السنة بأن العمل شرط كمال في الإيمان

قول بعض المنتسبين إلى السنة بأن العمل شرط كمال في الإيمان وأهل السنة كانوا يرون أن العمل ركن أساسي في الإيمان؛ بحيث يزول الإيمان بزواله، وسننقل نصوصاً كثيرة للسلف الصالح رضوان الله عليهم، وكيف أنهم يقولون: إنه لا ينفع أحداً الإيمان بدون العمل، ولا يكون ولا يصلح ولا يحصل إلى غير ذلك من التعبيرات التي سيأتي نقلها عنهم إن شاء الله. ووجدت طائفة في هذه العصور الأخيرة تقول: إن العمل شرط كمال فقط وليس ركناً في الإيمان، ويقولون: إن العمل شرط كمال وليس ركناً في الإيمان، واختلفوا مع السلف في مسألة: هل العمل يزول الإيمان بزواله أو لا يزول الإيمان بزواله؟ فقالوا: إن الإيمان لا يزول بزواله. وهذه طائفة ليسوا من الأشاعرة ولا من الجهمية ولا من مرجئة الفقهاء وإنما هي طائفة تنتسب إلى السنة، قالوا: إن الإيمان لا يزول بزوال العمل؛ لأنه شرط كمال، ومن المعلوم أن الكمال إذا زال لا يزول نفس الشيء الذي عندهم وهو الإيمان، وهنا حصلت الخطورة.

بيان ما يترتب على الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في الإيمان

بيان ما يترتب على الخلاف بين أهل السنة والمرجئة في الإيمان وقد يقال: ماذا يترتب على الخلاف بين أهل السنة من جهة وبين هذه الفرق التي ذكرتها من جهة أخرى؟ وما هي الفائدة؟ ولو حصل خلاف ماذا يعني؟ القضية بسيطة: نحن نجتمع فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، فلماذا نحدث مشكلة؟ ولماذا نحدث تفرقاً في الناس؟ ولماذا نقول: هذا قول السلف وهذا قول الجهمية وهذا قول الأشاعرة وهذا قول كذا؟ لماذا لا نجمع الناس كلهم وهذه أقوال بسيطة اجتهادية اختلفوا فيها والقضية سهلة جداً؟ فنقول: ببيان الأثر يتبين أن القضية ليست بسيطة، وأن القضية خطيرة، فماذا يترتب على خلاف هؤلاء للسلف الصالح في مسمى الإيمان؟ يترتب عليه ما يلي:

مخالفة المرجئة للسلف في مصطلح شرعي

مخالفة المرجئة للسلف في مصطلح شرعي أولاً: أنهم خالفوا السلف في مصطلح شرعي دلت النصوص على تفسيره، فالنصوص الشرعية فسرت الإيمان وجعلت العمل منه، فأقوال هؤلاء جميعاً مناقضة لهذه النصوص التي فسرت الإيمان، وهذا كما سبق أن ذكرته في حد ذاته بدعة خطيرة تكون مناقضة للعقيدة؛ لأنكم تعلمون أن البدع خط آخر غير خط السنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة) فلما سئل عنها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فهذه الفرق من أمة الإسلام؛ لقوله: (ستفترق هذه الأمة) وفي لفظ: (ستفترق أمتي) فهم المسلمون الذين يقول الله عز وجل عنهم: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118 - 119] ثم بين أن الناجية واحدة وهي أهل السنة، فالفرق هذه كلها ليست ناجية، وهذا لا شك أنه أثر خطير من آثار هذه المسألة.

انتشار الفسق والفجور والمعاصي

انتشار الفسق والفجور والمعاصي الأثر الثاني: أنه انتشر الفسق والفجور في الناس وانتشرت كثير من المعاصي؛ بسبب حصر الإيمان في مجرد التصديق، ولهذا أصبح كثير من الناس يعمل الذنوب ويعمل المعاصي ويعمل الفجور ويعمل الكبائر، فإذا سئل قال: التقوى هاهنا وأشار إلى صدره، يعني: الإيمان هاهنا؛ الإيمان في القلب، ولهذا هم عندما حصروا الإيمان في القلب جعلوا العبد كامل الإيمان لمجرد تصديقه. ولهذا كما ذكر أكثر من واحد من أهل العلم أنه بسبب ضلال المرجئة في مسألة الإيمان انتشرت الذنوب والمعاصي والفجور في حياة الأمة، وقد كانت الأمة قبل ذلك تخاف من هذه الذنوب وتخاف من هذا الفجور وتهرب منه، لكن المرجئة عندما فسروا الإيمان بأنه مجرد التصديق وصار كثير من المسلمين على هذا فحينئذٍ رأوا أن القضية سهلة وبسيطة، وأن الله غفور رحيم، وانتشرت الذنوب بهذه الطريقة، ولاشك أن الذين قالوا: إن الإيمان هو مجرد التصديق، ولم يقولوا: إن الذنوب حلال، ولم يقولوا: أيها الناس! افعلوا الذنوب، لكن من الناحية الاجتماعية عندما تقرر هذه الفرق هذه العقيدة وتنشرها في الناس وتدافع عنها الناس يفهمون أن الإيمان هو التصديق وحينئذٍ يتساهلون عملياً في الذنوب وفي المعاصي.

حصر المرجئة للكفر بالتكذيب

حصر المرجئة للكفر بالتكذيب الأمر الثالث الذي يترتب على هذه القضية: أن الكفر عند هذه الفرق أصبح محصوراً بالتكذيب، فأولاً الإيمان نقيضه الكفر، والإيمان عندهم هو التصديق، والكفر عندهم هو التكذيب فقط، فكما أن الإيمان هو التصديق فقط فالكفر هو التكذيب فقط، بينما أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والكفر كذلك قولي وعملي، وحينئذٍ اختلفت هذه الطوائف مع أهل السنة في قضايا كثيرة، فأهل السنة يقولون: هذا كفر، وهم يقولون: لا، ليس بكفر، وحينئذٍ أدخلوا طائفة كبيرة من المرتدين في الإسلام؛ بسبب هذا القول الذي جاءوا به. فمثلاً: قالوا: الذي يتولى عن الطاعة ولا يصلي ولا يصوم ولا يحج ولا يزكي ولا يخاف ولا يرجو هل هذا مسلم؟ عندهم مسلم، لكن عند أهل السنة هذا مشرك كافر ليس بمسلم، وحينئذٍ يختلفون في مثل هؤلاء. وأكبر قضية اختلفوا فيها هي قضية الصلاة، فأهل السنة يرون أن تارك الصلاة ليس بمؤمن وأنه كافر في الدنيا وفي الآخرة إذا ترك الصلاة تركاً كلياً، بينما يرى المرجئة أنه مسلم، وأنه مؤمن كامل الإيمان؛ لأنه مصدق، وإنما غاية ما هنالك أنه ترك الصلاة، فانظروا ما يترتب على هذا في المجتمع؟ يترتب على هذا في المجتمع: أن أهل السنة يعتبرون كل من ترك الصلاة كافر، ويتعاملون معه تعامل الكفار، ويستتيبونه فإن تاب وإلا قتل، وحينئذٍ كثير من هؤلاء الذين يتركون الصلاة في ميزان أهل السنة كفار، وفي ميزان المرجئة مسلمون، وهذا خلاف شنيع وليس خلافاً سهلاً. واختلفوا كذلك في قضايا الواقع المعاصر، فمثلاً: اختلفوا في القوانين الوضعية، والقوانين الوضعية جاءت لما ابتلي أهل الإسلام في الأزمان المتأخرة باستيلاء الكفار على بلاد المسلمين عسكرياً وعملياً، وأصبح الكفار هم الذين يديرون شئون المسلمين، وجاءوا بقوانينهم، وجاءوا بدساتيرهم، وقرروها على المسلمين، ثم لما خرجوا خروجاً صورياً وبقيت كثير من دساتيرهم وقوانينهم في حياة المسلمين اختلف فيها الإسلاميون: ما حكم هذه القوانين؟ وما حكم تطبيقها على الناس؟ أما أهل السنة فقالوا: هي كفر بالله رب العالمين، والسبب في ذلك: أنها مناقضة للعمل ومناقضة للالتزام بالإيمان بالله عز وجل، فالله عز وجل كما له الخلق له الأمر، والأمر الذي له أمر كوني وأمر شرعي، فالذي يسن للناس الشرائع والذي يقرر لهم قواعد التعامل في حياة الناس هو الله عز وجل، فإذا جاء أحد وقال: لا؛ الذي يسن للناس الشرائع هو أنا، وأطاعه قوم فقد اتخذوه رباً، نحن كما قال الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] جاء تفسيرها في حديث عدي بن حاتم -وإسناده حسن حسنه الشيخ الألباني - لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله! نحن لا نعبدهم، فقال: (أفلا يحلون لكم الحرام فتتبعونهم؟ قال: بلى، قال: ألا يحرمون عليكم الحلال فتتبعونهم؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم)، فهذا هو الحاصل في القوانين الوضعية، فمثلاً: الله عز وجل يشرع حكم الزنا سواء للمتزوج أو لغير المتزوج فيأتي هذا ويلغي هذا الحكم، ثم يشرع للناس حكماً جديداً ويطبقه عليهم ويلزمهم بالتعامل معه. وأقول: اختلف في هذه القضية الحساسة والخطيرة أهل السنة من جهة والمرجئة من جهة أخرى، فأهل السنة قالوا: هذا كفر، والمرجئة قالوا: هذا ليس بكفر؛ لأن الذي عمل هذا العمل ليس بمكذب، ولا يكون الإنسان عندهم كافراً إلا إذا كذب الله مباشرة، فإذا كذب الله فيكون كافراً، وأما إذا كان مصدقاً يقول: الله حق والرسول حق، لكن غير شرائع الناس وألزمهم بشرائع كفرية فعندهم لا يكفر ما دام أنه مصدق، وهذه القضية من أخطر القضايا التي يواجهها كثير من المسلمين.

إخراج المرجئة لتوحيد الألوهية من أقسام التوحيد بناء على إخراجهم العمل من الإيمان

إخراج المرجئة لتوحيد الألوهية من أقسام التوحيد بناءً على إخراجهم العمل من الإيمان وهناك قضية أخطر من هذه القضية، وهذه القضية هي أن الإيمان يدخل فيه التوحيد، والإيمان كما قلنا: قول وعمل، والتوحيد داخل فيه، كما هو معلوم. والتوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام باعتبار، وإلى قسمين باعتبار آخر، فهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام باعتبار النظر إلى الله عز وجل، وحينئذ يقسم إلى: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات. ويقسم إلى قسمين بالنظر إلى العبد، فهو ينقسم إلى قسمين: توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب. وإذا جئنا للمقارنة بين الإيمان وبين التوحيد نجد أن الإيمان هو التوحيد، فالإيمان قول وعمل، والتوحيد قول وعمل، الإيمان قول؛ لأن فيه تصديق القلب وإقرار اللسان، والتوحيد قول؛ لأن فيه الإيمان بربوبية الله عز وجل والإيمان بأسمائه وصفاته، وهذه مطابقة لهذه، فالإيمان عمل بالجوارح وعمل بالقلب، وكذلك التوحيد عمل بالجوارح وعمل بالقلب. وتوحيد الألوهية: هو التأله لله سبحانه وتعالى بالخوف والرجاء والحب والصلاة والصيام وأعمال الجوارح، وهذه هي حقيقة العمل في الإيمان، يعني: هذه هي نفسها العمل في الإيمان؛ إذا جئت تعرف العمل في الإيمان تجد أنه هو توحيد الألوهية، فهما شيء واحد، ولهذا لما ضلت المرجئة في الإيمان فأخرجت العمل عن الإيمان أخرجت كذلك توحيد الألوهية عن التوحيد، وحينئذٍ وقعت المصيبة، فلما أخرجوا توحيد الألوهية -وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة- عن التوحيد، ترتب على هذا أنهم فسروا لا إله إلا الله بتفسير بدعي ما كان يعرفه السلف الصالح رضوان الله عليهم، فقالوا: لا إله إلا الله، يعني: لا خالق إلا الله، وإله: فسروه بأنه هو القادر على الاختراع؛ وفسروا الإله بأنه القادر على الاختراع من أجل أن يخرجوا من الجانب العملي في التوحيد، ومن أجل أن يفسروا الإيمان بالتصديق فقط، فإنك إذا قلت: لا خالق إلا الله، يصير المطلوب من العبد هو أن يعتقد أنه لا خالق إلا الله فقط، لكن إذا فسرت الإله بأنه المعبود المألوه المحبوب، وهكذا فإن هذا يحتاج من العبد إلى عمل، وهي المحبة والتأله والخوف والرجاء الذي ينتج عنه أعمال الجوارح مثل: الكف عن الذنوب والمعاصي، ومثل: الإقبال على الطاعات والجهاد في سبيل الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يتبع ذلك من أعمال صالحة. فأقول: لما أخرج المرجئة العمل من الإيمان أخرجوا كذلك توحيد الألوهية من التوحيد، واضطروا لتفسير الإله وقول: لا إله إلا الله بمعنى يوافق قولهم في مسألة الإيمان، فقالوا: إنه لا قادر على الاختراع إلا الله، وإن المطلوب من العبد هو مجرد أن يعتقد أن الخالق هو الله وحده لا شريك له فقط، وحينئذٍ يكون موحداً.

ادعاء المرجئة أن الاستغاثة بغير الله والذبح والنذر لغير الله والطواف حول القبور ونحوها ليست شركا

ادعاء المرجئة أن الاستغاثة بغير الله والذبح والنذر لغير الله والطواف حول القبور ونحوها ليست شركاً وترتب على هذه القضية أن هؤلاء لا يرون الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك؛ لأنهم يقولون: إن المستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله يعتقد أن الله خالق ورازق، وإذا كان كذلك فقد جاء بالتوحيد وجاء بالإيمان. وترتب على هذا أن الذبح -والذبح عمل- لغير الله ليس بشرك عندهم، وترتب على هذا أن النذر لغير الله ليس بشرك، وترتب على هذا أن الطواف حول القبور ليس بشرك، وقد صرح بهذه القضية علماء المرجئة، وهم علماء الكلام في زمان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، وحصلت المصادمة الشديدة بين أهل السنة من جهة والمرجئة من جهة أخرى في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وكان الصدام قديماً بين أهل السنة من جهة والمرجئة من جهة صداماً علمياً، وكان يحصل بينهم الصدام في كثير من الأشخاص، فمثلاً: ابن عربي هل هو مسلم أو ليس بمسلم؟ والحلاج هل هو مسلم أو ليس مسلم؟ وتجد أن علماء أهل السنة يخرجونهم من الإسلام بكفرياتهم، بينما علماء الكلام من الأشاعرة والمرجئة هؤلاء لا يخرجونهم من الإيمان؛ لأنهم مصدقون عندهم. والشيخ محمد بن عبد الوهاب كانت دعوة عملية مارس فيها الجهاد، ومارس فيها أحكامه، ومارس فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملياً، فتصادم مع هؤلاء، ولهذا اتهموه بأنه من الخوارج، واتهموه بأنه يكفر المسلمين، وهذه الاتهامات ما جاءت عن فراغ، ولم يتهموا الرجل مباشرة، وإنما اتهموه لأنه يخالف عقائدهم؛ فهو يرى أن التوحيد قول وعمل، وهم يرون أن التوحيد قول فقط، وأن التوحيد تصديق بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت والتصديق بأسمائه وصفاته على عقيدتهم التي يعتقدون، لكن العمل ليس داخلاً في التوحيد كما أنه خارج عن الإيمان، وكما صرحوا بأن العمل خارج عن الإيمان كذلك صرحوا بأن العمل خارج عن التوحيد، فهم مرجئة في الإيمان ومرجئة في التوحيد، فتصادموا مع الشيخ وقالوا: هذا من الخوارج، وهذا يكفر المسلمين، وهذا أدخل في المكفرات ما ليس منها، وقالوا: إن هذا حروري، يعني: نسبة إلى حروراء، وهي قرية خرج منها الخوارج في بداية أمرهم. ولا يزال الخلاف قائماً إلى اليوم بين أهل السنة الذين هم أتباع الدعوة السلفية وبين هؤلاء المتصوفة والأشاعرة، ما زال الخلاف قائماً إلى اليوم في هذه المسألة، ويمكن أن أضرب لكم نماذج في الخلاف في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يرى أن الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك، ويرى -مثلاً- أن قول: مدد يا عبد القادر شرك، والشرك معناه: أن صاحبه يخرج من الإسلام، يعني: يكفر؛ لأن الكفر والشرك بابان لحقيقة واحدة، وكلاهما يجتمعان في مكان واحد وهو الخروج عن الإسلام. فالشيخ محمد بن عبد الوهاب يقول: الاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله شرك، ويقول الشيخ: إن قول: مدد يا عبد القادر! أو ممارسات الصوفية الموجودة في طبقات الشعراني مثلاً أو الموجودة في كتبهم السابقة من استغاثة بغير الله وطلب المدد وطلب مغفرة الذنوب من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من أحد من الصالحين والأولياء يقول الشيخ: هذا شرك يخرج عن الإسلام، وصاحبه تقام عليه الحجة فإن أبى وعاند يقاتل مقاتلة الكفار. وأما المرجئة فيقولون: لا، هؤلاء مسلمون، وهؤلاء ليسوا كفاراً، ولهذا صنف أحدهم -وهو يوسف بن إسماعيل النبهاني، وهو من أئمتهم في بلاد الشام في تلك الفترة- كتاباً سماه: (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق) وحشد فيه من الاستغاثات بالرسول صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنه أكبر مشرك، وهذا لاشك فيه، وقد رد على النبهاني الشيخ: محمود شكري الألوسي في كتاب سماه (غاية الأماني في الرد على النبهاني) وطبع الكتاب أول ما طبع باسم مستعار باسم عبد الله السندي؛ لأنهم كانوا في تلك الفترة في زمن الدولة العثمانية، وكانت الدولة العثمانية حامية لمثل هؤلاء ومدافعة عنهم؛ لأنها كانت على طريقة الماتريدية وعلى طريقة أئمة الصوفية في تلك الفترة، لاسيما أواخر الدولة العثمانية، فكتبه بالبداية باسم مستعار، ثم بعد ذلك لما سنحت له الفرصة أخرجه باسمه الصريح، وهو كتاب مطبوع وموجود الآن اسمه (غاية الأماني في الرد على النبهاني). وكذلك ألف أحمد زيني دحلان -وقد كان مفتي الشافعية في مكة- كتاباً سماه: (الدرر السنية في الرد على الوهابية) والدرر السنية هذا الذي هو في الرد على الوهابية رد عليه أيضاً أحد أهل السنة بكتاب سماه (صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان) وهو كتاب مطبوع وموجود، وهؤلاء يدعون إلى هذه العقيدة التي سبق أن ذكرناها والتي فيها أن الذبح لغير الله ليس شركاً عندهم، والنذر

رد قول من يقولون بأن العمل شرط كمال في الإيمان

رد قول من يقولون بأن العمل شرط كمال في الإيمان وبقي أن نبين قضية مهمة جداً وهي قضية أن بعض المنتسبين إلى السنة قالوا: إن العمل شرط كمال وليس ركناً في الإيمان، وقد ترتب على هذه القضية أنهم يعتبرون القوانين الوضعية ليست كفراً مخرجاً عن الملة إلا إذا استحلها سواء المشرع أو الحاكم أو الراضي بها إذا كان محكوماً. وهذه القضية التي هي قضية أن العمل هل هو ركن أساسي في الإيمان أو أنه شرط كمال من الإيمان قضية محسومة كانت عند السلف الصالح رضوان الله عليهم لكن كثيراً ممن كتب في هذه المسألة من أهل السنة أو بعض هؤلاء كتبوا وهم تحت ضغوط الواقع، ولهذا أصبح بعضهم يردد دعاوى المرجئة وهو لا يشعر، فمثلاً: أنا اطلعت على كتاب لرجل من أهل السنة اسمه (إحكام التقرير في أحكام التكفير)، ضبط الكفر بأنه التكذيب بالله أو بالرسول صلى الله عليه وسلم فقط، وهذه قضية لا شك يا إخوان أنها خطيرة؛ فإنه إذا ضبط الكفر بأنه التكذيب يصير هذا فيه موافقة للمرجئة، وأنا أعلم أن مثل هؤلاء من أهل السنة لا يقولون: إن الطواف حول القبور ليس من الشرك، وإنما هم يدعمون دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه القضية، ويقولون: إن الطواف حول القبور شرك، وإن النذر لغير الله شرك، ويقولون بأن العمل من الإيمان على اعتبار أنه شرط كمال وليس ركناً فيه، ويقولون: إن الإيمان يزيد وينقص، لكن عندهم مشكلة في مسألة القوانين الوضعية، ولهذا ترتب على هذه القضية أنهم جعلوا العمل شرط كمال، وأنه لا يزول الإيمان بزواله.

أقوال السلف بأن العمل ركن في الإيمان

أقوال السلف بأن العمل ركن في الإيمان ويمكن أن أذكر نصوصاً لأئمة السلف السابقين التي تدل على أنهم كانوا يقولون بأن الإيمان يزول إذا زال العمل، وهؤلاء لاشك أنهم كما قلت عندهم اضطراب، فصاحب (إحكام التقرير) وأمثاله عندهم اضطراب في مسألة العمل، يعني: لا يميزون بين عمل القلب وعمل الجوارح، فتجده يقول: العمل شرط كمال، وإذا سألته: ماذا تقصد بالعمل الذي هو شرط كمال؟ هل تقصد عمل القلب؟ فإنه لا يقول أحد من السلف: إن عمل القلب شرط كمال أبداً، ولا يقول بأن عمل القلب شرط كمال إلا مرجئي، بل إن طوائف الإرجاء السابقة قبل ظهور الجهم وقبل أخذ الأشاعرة لعقيدة الجهم ما كانوا يقولون بأن عمل القلب شرط كمال، لكنهم اضطربوا في هذه المسألة، وبعضهم استعجل، وبعضهم لم يحرر القضية ولم يعطها حقها من البحث والتتبع. يقول الفضيل بن عياض: لا يصلح قول إلا بعمل. رواه عبد الله بن الإمام أحمد في (السنة) وروى مثله عن محمد بن مسلمة الطائفي وسفيان الثوري. ويقول سفيان بن عيينة: الإيمان قول وعمل أخذناه ممن قبلنا قول وعمل، وأنه لا يكون قول إلا بعمل. فانظروا إلى هذه التعبيرات: لا يصلح، لا يكون، ولو كان شرط كمال فلن يعبر عنه بهذه التعبيرات القوية: لا يصلح، لا يكون، لا يقبل، وهكذا. ويقول الأوزاعي: لا يستقيم الإيمان إلا بالقول، ولا يستقيم الإيمان والقول - والقول يشمل قول القلب وقول اللسان، يعني: تصديق القلب وقول اللسان- إلا بالعمل، ولا يستقيم الإيمان والقول والعمل إلا بنية موافقة للسنة. وهذه الأقوال كلها مخرجة في (الشريعة) للآجري وفي (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) للالكائي، وفي (السنة) لـ عبد الله بن الإمام أحمد، لكن للاختصار لا داعي أن نذكر التخريجات. ويقول الحسن البصري: الإيمان كلام وحقيقته العمل، فإن لم يحقق القول بالعمل لم ينفعه القول. ويقول الآجري رحمه الله تعليقاً على أثر الحسن هذا: وأنا بعد هذا أذكر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جماعة من أصحابه، وعن كثير من التابعين: أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، ومن لم يقل عندهم بهذا فقد كفر. كذلك بوّب ابن بطة العكبري رحمه الله في كتابه (الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية) باباً بعنوان: باب بيان الإيمان وفرضه وأنه تصديق بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالجوارح والحركات؛ لا يكون العبد مؤمناً إلا بهذه الثلاثة. ويقول ابن بطة أيضاً: قد تلوت عليكم من كتاب الله عز وجل ما يدل العقلاء من المؤمنين أن الإيمان قول وعمل، وأن من صدق بالقول وترك العمل كان مكذباً وخارجاً من الإيمان، وأن الله لا يقبل قولاً إلا بعمل ولا عملاً إلا بقول.

مناقشة الإمام أبي ثور للمرجئة

مناقشة الإمام أبي ثور للمرجئة ويمكن أن ننقل هنا أثراً لـ أبي ثور رحمه الفقيه المشهور ناقش فيه المرجئة مناقشة لطيفة جداً ورائعة، قال رحمه الله: فأما الطائفة التي زعمت أن العمل ليس من الإيمان -يعني: المرجئة- فيقال لهم: ما أراد الله عز وجل من العباد إذ قال لهم: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) إلا الإقرار بذلك أو الإقرار والعمل؟ ويعتقد المرجئة أن مجرد الإقرار بالصلاة والصيام والحج والزكاة إيمان حتى ولو لم يعمل منها أي شيء، وأن الإقرار بالخوف من الله ونحو ذلك إيمان حتى ولو لم يعمل أي شيء، ويمكن أن نبطل دليلهم هذا بقصة الحبرين اللذين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأيا ما عنده وعرفا أنه رسول الله فقالا: إنك رسول الله، أو قالا: نشهد أنك رسول الله، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وما يمنعكما أن تتبعاني؟) قالا: تقتلنا يهود، فقوله صلى الله عليه وسلم: (ما يمنعكما أن تتبعاني؟) دليل على أنه لا يكفي مجرد الشهادة، بل لابد من عمل ولابد من اتباع؛ ولهذا لم تنقلهم هذه الشهادة إلى الإسلام، بل بقوا على اليهودية وعلى حالهم كما كانوا. ويدل على هذا أيضاً قصة هرقل التي رواها البخاري في كتاب الوحي من حديث ابن عباس أنه لما سأل أبا سفيان وأجابه أبو سفيان في سؤالات طويلة يمكن مراجعتها في كتاب بدء الوحي في أول صحيح البخاري، وذلك عندما جمع الروم في دسكرة واحدة قال لهم: هل لكم في النجاح؟ هل لكم في الفلاح؟ إنه رسول الله، يعني: عرف أنه رسول الله وأيقن في نفسه أنه رسول الله، فحاص الروم كما تحيص الحمر، واتجهوا إلى الأبواب ووجدوها موصدة مغلقة، فقال لما يئس من إسلامهم: ردوهم علي، ولما صار عنده تعارض بين الإسلام أو الملك قدم الملك ورجحه على الإسلام، وترجيحه في ذلك فاسد. المهم أنه لما يئس من الإسلام قال: ردوهم علي، ثم قال لهم: إنما كنت أختبر التزامكم بدينكم! وقال للقرشيين: والله! إنه رسول الله، وإنه سيملك موضع قدمي هاتين، حتى إنه قال أحد هؤلاء القرشيين: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: لقد عظم حتى صارت ملوك الروم تخافه، فاستغرب من ذلك، وهذا يدل على أن الرجل كان موقناً، لكن ما نفعه يقينه ما دام أنه لم يعمل بقلبه وبجوارحه. قال أبو ثور: فإن قالت -يعني: هذه الطائفة-: إن الله أراد الإقرار ولم يرد العمل فقد كفرت عند أهل العلم. يعني: فقد كفر عند أهل العلم من قال: إن الله لم يرد من العباد أن يصلوا وأن يؤتوا الزكاة. قال: فإن قالت: أراد منهم الإقرار والعمل، قيل: فإذا أراد منهم الأمرين جميعاً، لم زعمتم أنه يكون مؤمناً بأحدهما دون الآخر وقد أرادهما جميعاً؟ أرأيتم لو أن رجلاً قال: أعمل جميع ما أمر الله ولا أقر به، أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: لا، قيل لهم: فإن قال: أقر بجميع ما أمر الله به ولا أعمل منه شيئاً أيكون مؤمناً؟ فإن قالوا: نعم، قيل لهم: ما الفرق؟ وقد زعمتم أن الله عز وجل أراد الأمرين جميعاً، فإن جاز أن يكون بأحدهما مؤمناً إذا ترك الآخر جاز أن يكون بالآخر إذا عمل ولم يقر مؤمناً، ولا فرق بين ذلك، فإن احتج فقال: لو أن رجلاً أسلم فأقر بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أيكون مؤمناً بهذا الإقرار قبل أن يجيء وقت العمل؟ قيل له: إنما نطلق له الاسم بتصديقه وبقوله أنه يعمله في وقته إذا جاء، وليس عليه في هذا الوقت إلا الإقرار بجميع ما يكون به مؤمناً، ولو قال: أقر ولا أعمل، لم نطلق له اسم الإيمان. يعني: اعترضوا بشبهة وقالوا: إذا قال الإنسان: أنا أقر لكنني لا أعمل، هل يكون مؤمناً؟ وذكر هذه الشبهة أبو عبيد القاسم بن سلام في (الإيمان) ورد عليها؛ لأنهم يحتجون ويقولون: العمل ليس من الإيمان، والدليل على أن العمل ليس من الإيمان أن الصحابة رضوان الله عليهم كانت هناك فروض وأعمال كثيرة ما كانوا يعملونها في المرحلة المكية، وبناءً على هذا يصبح العمل ليس من الإيمان، وهذا قول فاسد، ودليل فساده هو: أن الصحابة عندما أقروا بنبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وأقروا بالتوحيد لله عز وجل أقروا بما يأتي عنهما من عمل في وقته إذا جاء، فلم يتضمن هذا الإقرار الإباء والامتناع عن العمل، وإنما تضمن الخضوع للعمل إذا أمروا به في أي وقت من الأوقات، وقد أمروا بعد ذلك فالتزموا، فهذا لاشك أنه قول فاسد من أقوال المرجئة، وهذا رواه اللالكائي في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)، وذكره أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

تكفير السلف لتارك العمل بالكلية

تكفير السلف لتارك العمل بالكلية ومما يوضح أن العمل ركن أساسي في الإيمان: أن السلف رضوان الله عليهم كفروا من ترك العمل، فالذي يترك العمل عند السلف كافر، فلو كان شرط كمال ما كان يترتب عليه كفر، لكن هذا يدل على أنه ركن أصلي في الإيمان، ولهذا إذا ترك يكفر. قال سفيان بن عيينة عن الإرجاء: يقولون -يعني: المرجئة-: الإيمان قول، ونحن نقول: الإيمان قول وعمل. والمرجئة أوجبوا الجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله مصراً بقلبه على ترك الفرائض، وسموا ترك الفرائض ذنباً بمنزلة ركوب المحارم، وليسا بسواء؛ لأن ركوب المحارم من غير استحلال معصية، وترك الفرائض -يعني: جميعاً: فرائض القلب وفرائض الجوارح- تعمداً من غير جهل ولا عذر كفر، وبيان ذلك في أمر آدم صلوات الله عليه وإبليس وعلماء اليهود: أما آدم فنهاه الله عز وجل عن أكل الشجرة وحرمها عليه فأكل منها متعمداً ليكون ملكاً أو يكون من الخالدين، فسمي عاصياً من غير كفر. وأما إبليس لعنه الله فإن الله فرض عليه سجدة واحدة فجحدها متعمداً، فسمي كافراً. وأما علماء اليهود فعرفوا مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وأنه نبي رسول كما يعرفون أبناءهم وأقروا به باللسان ولم يتبعوا شريعته، فسماهم الله عز وجل كفاراً. فركوب المحارم مثل ذنب آدم عليه السلام وغيره من الذنوب، وأما ترك الفرائض جحوداً فهو ككفر إبليس لعنه الله، وتركها على معرفة من غير جحود هو كفر مثل كفر علماء اليهود. وهذا رواه عبد الله بن الإمام أحمد في (السنة) وإسناده صحيح. ويقول الحميدي رحمه الله: أخبرت أن قوماً يقولون: إن من أقر بالصلاة والزكاة والصوم والحج ولم يفعل من ذلك شيئاً حتى يموت أو يصلي مسنداً ظهره مستدبر القبلة حتى يموت فهو مؤمن ما لم يكن جاحداً إذا علم أن تركه ذلك في إيمانه إذا كان يقر الفروض واستقبال القبلة. يعني: ما دام أنه يقر أن الله أوجب عليه هذه الفروض حتى ولو لم يعملها، حتى ولو أسند ظهره للقبلة ولم يصل إليها وصلى إلى أي قبلة أخرى، فعندهم ليس بكافر ما دام أنه مقر بالفروض. يقول: فقلت: هذا الكفر بالله الصراح، وخلاف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفعل المسلمين، قال الله عز وجل: {حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] رواه الخلال في (السنة). وبهذا يتبين لنا أن العمل ركن أساسي في الإيمان يزول الإيمان بزواله وليس بشرط كمال كما يردد البعض، فإن القول بأنه شرط كمال قريب من قول المرجئة إن لم يكن هو حقيقة قول المرجئة، لكن نعلم أن مثل هؤلاء الذين قالوا بهذا القول لا يقصدون قول المرجئة ولا يعتقدونه، فإنهم يقولون: إن العمل داخل في الإيمان، ويقولون كذلك: إن الإيمان يزيد وينقص، وعندهم الطواف حول القبور والنذر لها والذبح لها شرك بالله رب العالمين. وإنما أحببت أن أبين هذا القول والرد عليه؛ لانتشاره ورواجه عند بعض الدعاة وبعض المصلحين في هذا الوقت بالذات بسبب الخلاف في مسألة القوانين الوضعية هل هي كفر أو ليست بكفر؟ والحقيقة: أن مذهب أهل السنة في هذه القضية واضح، وهو: أن القوانين الوضعية كفر مخرج عن الإسلام؛ لأن ذلك تولٍ عن الالتزام بشريعة الله عز وجل وإعراض عن الشريعة وتبديل لأحكام الدين وتغيير لأحكام الشريعة، ولاشك أن صاحب الأمر في هذا هو الله عز وجل، ولا يصح لأحد أن يدعي أنه صاحب أمر في هذه القضية ويلزم الناس باتباعها، وكما ذكر الله عز وجل عن عامة اليهود أنهم اتخذوا علماءهم واتخذوا عبادهم أرباباً من دون الله بسبب طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح.

الأسئلة

الأسئلة

حكم تارك الصلاة

حكم تارك الصلاة Q أنت قلت: إن تارك الصلاة عند أهل السنة كافر بالإجماع، ولكن قرأتُ أن تارك الصلاة له حالتان: إما أن يتركها جحداً بوجوبها وكفراً بها فذاك كافر، وإما أن يتركها تهاوناً وتكاسلاً ففيه قولان: يكفر ولا يكفر، والراجح هو الأول؟ A مسألة الصلاة هي من أهم المسائل؛ لأنها متعلقة بمسألة الإيمان، وأهل السنة رحمهم الله مجمعون على تكفير تارك الصلاة، وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على أن تارك الصلاة كافر، كما روى ذلك شقيق عندما أخبر أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة، فانعقد الإجماع في زمن الصحابة رضوان الله عليهم واتفقوا على أن ترك الصلاة كفر، وهو مجرد ترك؛ أما إذا انضاف إليه الجحد فهذا كفر بالإجماع حتى عند أهل البدع، ولكن الكلام في الترك المجرد عن الجحود. أقول: هذا مما أجمع عليه الصحابة رضوان الله عليهم، فإذا وجد مخالف بعد الصحابة رضوان الله عليهم فلا يعتبر خلافه خرقاً للإجماع مادام أن الإجماع سبق، وقد اتفقوا على ذلك، ولهذا نص شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه (الإيمان) على أن الذين قالوا بأن ترك الصلاة ليس بكفر جاءتهم شبهة من المرجئة، وقد ذكر ذلك رحمه الله في (الإيمان)، فالراجح كما قلت هو: أن ترك الصلاة كفر بالله رب العالمين، وهو مخرج من الإسلام بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، ولا يخرق الإجماع ما حصل من الخلاف بعده.

مدى صحة الاستدلال بحديث الجهنميين على عدم كفر تارك الصلاة

مدى صحة الاستدلال بحديث الجهنميين على عدم كفر تارك الصلاة Q قرأت: أنه عندما يقضي الله سبحانه وتعالى بين الخلق فيدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، أن الله سبحانه وتعالى يخرج من النار من كان في قلبه ذرة من إيمان، وأن تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً كذلك إذا كان يؤمن بالله وبرسوله ولكنه متكاسل، فهل يصح أن نكفره؟ A الحديث الوارد في ذلك حديث صحيح، ويسمى بحديث الجهنميين، وقد كنت أحب أن أعرض له أثناء الدرس، لكن لم نستطع أن نعرض ذلك، فحديث الجهنميين رواه مجموعة من الصحابة منهم أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، ومنهم أبو هريرة وغيرهم ممن رووا حديث الجهنميين، وحديث الجهنميين رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد في المسند، وروي بألفاظ متعددة، فمن الألفاظ التي روي بها: (أن الله عز وجل يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، وهذا لا إشكال فيه عند أهل السنة، فإن المقصود بمثقال الذرة من الإيمان: عمل القلب، فإن عمل القلب هو المقصود بمثقال الذرة، والدليل على ذلك: أن حديث الجهنميين جاء في الصحيح عن أبي هريرة وعن أبي سعيد الخدري وفيه: (إن الملائكة تأخذهم من النار وتعرفهم بآثار السجود)، فهذا يدل على أنهم كانوا من أهل الصلاة، ولهذا عرفتهم الملائكة فأخرجتهم، وهذا ثابت في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم، وهذا يدل على أن مثقال الذرة التي في القلب هي عمل القلب، فإن المؤثر في جوارح الإنسان هو عمل القلب وليس التصديق المجرد، فإن التصديق المجرد لا تأثير له في جوارح الإنسان، وكما قلنا: اليهود وإبليس ونحو هؤلاء كانوا على تصديق لكن ما نفعهم ذلك في جوارحهم، فمثقال الذرة من الإيمان الذي وجد عند الجهنميين هو جزء بسيط من عمل القلب دفعهم إلى الصلاة فأصبحوا من أهل الصلاة، كما دلت عليه رواية أبي سعيد الخدري في صحيح البخاري وفيها: (أن الملائكة تخرجهم وتعرفهم بآثار السجود) فهؤلاء الجهنميون يخرجهم الله عز وجل من النار، ثم يلقيهم في نهر في الجنة، وجاء في بعض الروايات: (أنه نهر الحياة) بالتاء، وفي بعض الروايات: (أنه نهر الحياء)، وفيه: (أنهم ينبتون على أطراف هذا النهر كما تنبت الحبة في حميل السيل، ويعرفون بأنهم عتقاء الله سبحانه وتعالى) فهؤلاء من أهل الصلاة، ومثقال الذرة هو عمل القلب الذي لابد منه لكل مؤمن، ومن ليس في قلبه عمل أبداً فهذا ليس بمسلم، وليس من الجهنميين أصلاً، فهذه قضية ينبغي التنبه لها. وقد ورد في بعض روايات حديث أبي سعيد الخدري وهي رواية عطاء بن يسار أنه قال: (إن الله عز وجل يخرج من النار من لم يعملوا خيراً قط)، فظن بعض الناس أن المقصود بقوله: (لم يعملوا خيراً قط): أنهم ما عملوا شيئاً لا صلاة ولا صياماً ولا حجاً، لا في القلب ولا في الظاهر، وهذا فهم غير سليم، فإن من منهج أهل السنة في الاستدلال: أنه إذا وردت رواية من الروايات تضم إلى غيرها من الروايات الأخرى، وبناءً عليه يكون الفهم الصحيح: أن هذه الرواية: (لم يعملوا خيراً قط) تضم إلى رواية: (أنهم يعرفون بآثار السجود)، وتضم إلى رواية: (يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، وحينئذٍ نخلص إلى أن الجهنميين من أهل الصلاة في عملهم الظاهر، ومن أهل عمل القلب في الباطن، وهذا العمل القليل جداً دفعهم إلى الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، فعلى قدر صلاح هذه المضغة يكون صلاح الجسد، فإذا كان صلاح الجسد بسيطاً يكون الصلاح للمضغة بسيطاً، فلما كان في قلوبهم مثقال ذرة فقط دفعهم هذا إلى الصلاة فقط. وأما قوله: (لم يعملوا خيراً قط) فإن هذا فسره ابن خزيمة رحمه الله في كتابه (التوحيد) حيث قال: إن هذا من استخدام العرب، فإن العرب تنفي الشيء لانتفاء تمامه وكماله، وذكر بعض النصوص: مثل قول الإنسان لولده: أنت لست بولدي؛ عندما يغضب عليه، وهو في الحقيقة ولده، لكنه يقصد: لست بولدي الطائع، وهذا استخدام عربي دارج، فيمكن بناءً على هذا أن نفهم هذه النصوص مجتمعة، لكن إذا أخذ أحد نصاً واحداً وقال: إنهم ما عملوا خيراً قط، وبناءً عليه كل الأعمال ليست من الإيمان، فهذا فهم فاسد؛ لأنه ترك أحاديث أخرى، وعطل أحاديث أخرى، لكن الجمع بينها تجتمع به الأدلة، ويفهم به النص على وجهه الصحيح، وحينئذ: فإن الجهنميين من أهل الصلاة، وليسوا -كما يظن الأخ- تاركين للصلاة.

خطورة الحكم على أي أحد بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار

خطورة الحكم على أي أحد بأنه من أهل الجنة أو من أهل النار Q قيل: إنه لا يصح أن نحكم على المرء أنه من أهل النار أو من أهل الجنة حتى ننظر في خاتمته فما تعليقكم؟ A هذا ليس بصحيح، فإننا لا نحكم على أحد بأنه من أهل النار ولا من أهل الجنة، لكن نحكم على القضاء وعلى المسائل في الدنيا، فنقول: هذا العمل كفر وهذا توحيد، هذا إيمان وهذا شرك وهكذا؛ حتى يعمل الموحد بالتوحيد ويجتنب الشرك؛ لأنه لو لم نبين هذه القضايا ونوضحها للناس فسيحصل اضطراب عند الإنسان، وقد يقع في الشرك وهو لا يدري أنه شرك، ويقع في الكفر وهو لا يدري أنه كفر، ولهذا فمن منهج الدعوة الإسلامية الأساسي هو تحرير هذه القضايا وتبيينها للناس، ودعوة الناس إليها، وحمل الناس على الإيمان والتوحيد، ومنعهم عن الكفر والشرك بكل أنواعه وصوره.

نبدة عن ابن بطة رحمه الله تعالى

نبدة عن ابن بطة رحمه الله تعالى Q من هو ابن بطة؟ وما عقيدته؟ وما أشهر كتبه ومؤلفاته؟ A ابن بطة هو عبيد الله بن بطة العكبري رحمه الله، مؤلف (كتاب الإبانة الصغرى)، وله كتاب اسمه (الإبانة) تعارف عليه العلماء باسم (الإبانة الكبرى)، وعقيدته هي عقيدة أهل السنة والجماعة، ويمكن أن تراجع هذين الكتابين وتجد تعريفاً أطول.

الرد على من يقول إن الشهادة تكفر جميع الذنوب

الرد على من يقول إن الشهادة تكفر جميع الذنوب Q يقول الأخ: كيف نرد على المرجئة إذا قالوا: إن الشهادة تكفر جميع الذنوب؛ بدليل حديث: (من قال: لا إله إلا الله، خالصاً من قلبه دخل الجنة على ما كان من العمل) فالعمل ليس شرطاً في الإيمان؟ A سبحان الله! وقوله: (خالصاً من قلبه) ما معناها؟ وخالص هذا ما هو؟ خالص هذا هو عمل القلب، فإن الإخلاص من عمل القلب، وكما قلت: مما يستدل به المرجئة: الأحاديث الواردة في الشهادة: (من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة) يأخذ بعض الناس هذا الحديث على إطلاقه، ويجعل كل من قال: لا إله إلا الله، دخل الجنة؛ حتى المنافقين وحتى الذين لا يعملون من أعمال الإسلام شيئاً، وهذا خطأ في الفهم، وإنما يجمع هذا الحديث مع بقية الأحاديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله) هذا شرط، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله) وهذا شرط ثانٍِ، وهكذا في أحاديث الشهادة نجد شروطاً: منها ترك الشرك، ومنها الإخلاص، ومنها اليقين: أن يكون موقناً غير شاكٍ، كما في بعض الروايات وهكذا، وحينئذ يستقيم الفهم.

موقف الإمام الطحاوي من الإرجاء

موقف الإمام الطحاوي من الإرجاء Q في قولكم: إن الإمام الطحاوي رحمه الله من مرجئة الفقهاء، وبعض أهل العلم في زماننا يقولون: إن هذه العبارة مكذوبة عليه، أما الشارح فهو من مرجئة الفقهاء، ويقولون أيضاً: إن الإمام الطحاوي رحمه الله ذكر أن هذه العقيدة هي ما يعتقده الإمام أبو حنيفة رحمه الله، فلو قلنا: إن الإمام الطحاوي من مرجئة الفقهاء فإذاً الإمام أبو حنيفة منهم، وحاشا وكلا، فلا نريد أن نفتح باباً لمن يتهم أبا حنيفة بالإرجاء، فما تعليقكم؟ A أولاً: ادعاء أن هذه الفقرة ليست من كلام الطحاوي ادعاء بدون دليل، فهذه الفقرة من عقيدة الطحاوي وقد ذكرها. وأما مسألة أن الطحاوي رحمه الله قال في بداية العقيدة: هذا ما يعتقده أبو حنيفة رحمه الله فيدل هذا على أن أبا حنيفة من مرجئة الفقهاء، ولكن نحن نقول: إن أبا حنيفة رحمه الله رجع عن هذا الإرجاء، وقد ذكرنا قصته السابقة، وكون أحد أهل العلم يجتهد في قضية ويخطئ فيها فهذا لا يدل على التشنيع عليه أو الإيذاء له أو نحو ذلك، فينبغي أن تفهم هذه القضية.

أهم الكتب التي ألفت في موضوع الإيمان

أهم الكتب التي ألفت في موضوع الإيمان Q ما أهم الكتب التي كتبت في موضوع الإيمان وفصلت في خلاف الناس فيه؟ A من أفضل الكتب التي كتبت في موضوع الإيمان: كتاب (الإيمان) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فهو من أنفع الكتب وأفضلها وأجمعها، كما كتب بعض السلف كتباً مثل: (الإيمان) لـ أبي عبيد القاسم بن سلام، و (الإيمان) لـ أبي يعلى، ويمكن مراجعة كتب الإيمان ضمن الصحيحين وضمن السنن الأربع، ومن أفضل من تكلم على الإيمان من المتأخرين أئمة الدعوة السلفية؛ فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه هم من أفضل من كتب عن الإيمان من المتأخرين، فقد أوضحوه وبينوه بياناً شافياً، وربطوا بينه وبين التوحيد ربطاً لا نظير له، وهم يعتبرون من أهل التجديد في هذا الباب العظيم.

مدى صحة تفسير لا إله إلا الله بالحاكمية

مدى صحة تفسير لا إله إلا الله بالحاكمية Q هل تفسير لا إله إلا الله بالحاكمية صحيح؟ A ماذا يُقصد بالحاكمية؟ إذا كان المقصود بالحاكمية: الخضوع لله سبحانه وتعالى والائتمار بأمره والخضوع له فلا شك أنه داخل في معنى لا إله إلا الله، وكذلك إذا كان المقصود بالحاكمية: أن يحكم بما أنزل الله وأن يكون الحكم لله عز وجل؛ فإن الله عز وجل يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [يوسف:40]؛ ولهذا هذه الآية يمكن أن نستدل بها على أن الحاكمية من العبادة بهذا المفهوم، فالحاكمية من العبادة إذا كان المقصود بها إفراد الله عز وجل في الحكم، فلا نتلقى الأحكام إلا من الله، ولا ننفذها إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، فتصبح الحاكمية بهذا الاعتبار من العبادة كما هو نص الآية: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] فقوله: {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] تفسير لقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:40]، وهذا واضح ولا إشكال فيه.

نبذة عن كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية

نبذة عن كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية Q ما هو الكتاب الذي يوضح لنا وظائف القلب وتعلقها بالجوارح مع ربط هذا باللسان وأعمال الشرك والكفر كما وضحتم لنا في الدرس؟ A حقيقة من أفضل الكتب وأنفعها هو كتاب شيخ الإسلام رحمه الله (الإيمان)، لكن بعض الناس يمل من كتاب الإيمان؛ لأن الكتاب غير منظم، يعني: طريقة الشيخ هو أنه يتكلم على قضية ثم يستطرد فيذكر قضية ثم يستطرد فيذكر قضية أخرى، فمثلاً: موضوع المجاز بحثه شيخ الإسلام في أكثر من ثلاثين صفحة تقريباً عندما تكلم على مسألة قول القلب: هل قوله قول حقيقي أو غير حقيقي؟ ثم استطرد في المسألة وتكلم على قضية المجاز وغيرها، فالذي يصبر على الكتاب ويلخص ما فيه من الفوائد ويدقق فيه ينتفع ويستفيد، إذا استطاع أن يرتب الموضوعات الذي في الكتاب، لكن الذي يمل منه من أول لحظة لا يستطيع أن يستفيد منه.

أنواع الفرق المنتسبة إلى الإسلام وحكمها

أنواع الفرق المنتسبة إلى الإسلام وحكمها Q أشكل علي قولك: إن هذه الفرق الضالة تعتبر من الأمة الإسلامية، فهل هم مخلدون في النار أم يعذبون حسب معاصيهم ثم يدخلون الجنة؟ A الفرق نوعان: فرق تنتسب إلى الإسلام وفرق إسلامية، فالفرق التي تنتسب إلى الإسلام وهي من الفرق الكافرة مثل: الباطنية، والإسماعيلية، والبهرة، والأغخانية، والنصيرية، والدروز، وهكذا غيرهم من أصحاب العقائد الباطنية، فهؤلاء كفار ولا إشكال في ذلك، فيهم وليسوا من المسلمين أصلاً، فهؤلاء فرق منتسبة إلى الإسلام وهم غير مسلمين. وهناك فرق تسمى فرقاً إسلامية، يعني: أنها فرق ظهرت في المسلمين، لكن ظهرت ببدع، هذه البدع لم تخرجهم عن دائرة الإسلام، ويدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ستفترق هذه الأمة -وفي رواية: أمتي- على ثلاث وسبعين فرقة) هذه الثلاثة والسبعون هم هؤلاء الفرق الضالة الذين هم من هذه الأمة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الناجية منها واحدة فقط، وهي كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). وأما هل الفرق هذه الواردة في الحديث مخلدون في النار؟ فالجواب: ليسوا مخلدين في النار؛ لأنهم من المسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ستفترق هذه الأمة) يعني: المسلمين، ولا يخلد في النار مسلم، فينبغي التفريق بين هاتين القضيتين.

الخلاف بين أهل السنة وغيرهم من الفرق في مسألة العمل

الخلاف بين أهل السنة وغيرهم من الفرق في مسألة العمل Q هل الفرق جميعاً تشترك مع المرجئة في مسألة العمل في الخلاف مع السلف؟ A الخلاف كله أو أكثره على مسألة العمل، والنزاع كله في موضوع الإرجاء هو في مسألة العمل، فأكثر هذه الطوائف تخالف أهل السنة في مسألة العمل، وللعمل قيمة عظيمة عند أهل السنة. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

العقيدة الطحاوية [5]

العقيدة الطحاوية [5] من جملة مسائل العقيدة عند أهل السنة والجماعة اعتقاد إسلام أهل القبلة ومجانبة تكفيرهم بغير مكفر, وترك الخوض في الله تعالى والمراء في دين الله, واعتقاد أن القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق, ومخالفة الخوارج في الحكم على أهل الكبائر, واعتقاد أن المؤمنين كلهم أولياء الله تعالى, والتفاضل بينهم بحسب أعمالهم, وأن أهل الكبائر إلى مشيئة الله تعالى, وأنهم لا يخلدون في النار, كما يعتقدون الصلاة خلف كل بر وفاجر من المسلمين والصلاة على من مات منهم, وغير ذلك من مسائل العقيدة المتصلة بهذه الجملة.

أهل القبلة مسلمون مؤمنون

أهل القبلة مسلمون مؤمنون الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم. أما بعد: تحدثنا في الدرس الماضي عن موضوع الإيمان وعن أركانه الأساسية، وعما يتبع ذلك من الكلام في أدلته، وخلاف الفرق فيه لا سيما المرجئة الذين هم من أضل الطوائف في هذا الباب. ويمكن في هذا الدرس أن نقرأ الفقرات التي تحدث فيها الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في موضوع الإيمان ونعلق عليها بتعليق موجز، وما سبق أن تحدثنا فيه عن الإيمان فيه الغنية والكفاية بإذنه تعالى. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين]. هذه الفقرة فيها من الفوائد: أن المسلم يثبت له الإسلام بأعماله الظاهرة، مثل الإقرار بالشهادتين والإقرار كذلك بما يلزم من أحكام الإسلام وفعل الصلاة ونحو ذلك، والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا) ومما يبين أن الإنسان إذا أقر بالشهادة فإنه يكون من أهل الإسلام ويكف عنه ويكون معصوم الدم والمال ما جاء في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه في كان في غزاة، فانطلق أحد المشركين هارباً، فلحقه أسامة، فلما أدركه ورفع السيف عليه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقتله أسامة، فلما قتله أسامة رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد بلغه الخبر، فقال له: (أقتلته بعد ما قالها؟) يعني بعد ما قال: لا إله إلا الله، فقال: نعم إنما قالها تعوذاً، يعني: إنما قالها يتقي بها السيف لا يريد القتل، فقال هذه الكلمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف قتلته بعد ما قالها؟) وأصبح يرددها كثيراً، حتى إن أسامة رضي الله عنه قال: تمنيت أنني لم أسلم إلا في تلك اللحظة، أي: من شدة إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه. وهذا الحديث يؤخذ منه فائدة وهي: أن الإنسان يثبت له الإسلام ابتداءً بإقراره بالشهادتين وقوله: لا إله إلا الله محمداً رسول الله، ثم يطالب بعد ذلك بالعمل. فثبوت الإسلام على نوعين: النوع الأول ثبوت ابتدائي، وهو أن يثبت له الإسلام ابتداءً، فهذا يثبت له الإسلام ابتداءً بالإقرار بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. أما ثبوت الإسلام من ناحية استمرار هذا الوصف فإنه يطالب بالعمل، فإن عمل بأعمال الإسلام كالصلاة والخوف من الله ونحو ذلك فإنه يكون مسلماً، وإن جحدها وأنكرها أو أعرض عنها جملة فإنه يقتل ويكون كافراً، ويرتفع عنه هذا الوصف كما سبق أن بينا ذلك في مسألة تارك الصلاة. وهذا فيه الرد على طائفة من الطوائف تقول: لا يثبت الإسلام للإنسان المستور إلا إذا تبينا، فهم يتوقفون في هذا الشخص حتى يتبين لهم إسلامه أو عدم إسلامه. فمثلاً: إذا رأوا رجلاً لا يعرفون ما هو موقفه، وبالذات من قضية الحاكمية؛ لأن هؤلاء يدندنون على هذه القضية كثيراً، فإذا رأوا شخصاً لا يدرون ما موقفه من قضية الحاكمية، قالوا: حتى ولو كان ينطق الشهادتين وحتى لو كان يصلي مع الناس فلا نثبت له الإسلام حتى نتبين موقفه من هذا، ولا شك أن هذا هو رأي الخوارج، وعليه طائفة من الناس اليوم؛ فإنهم يتوقفون في مستور الحال ولا يثبتون له الإسلام حتى يتعرفوا عليه ويعرفوا موقفه من قضية الحاكمية، ثم بعد ذلك يثبتون له وصف الإسلام أو ينفونه عنه بحسب آرائهم وعقائدهم في هذا الباب.

خطر الخوض والجدل في الله وفي دين الله

خطر الخوض والجدل في الله وفي دين الله قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا نخوض في الله، ولا نماري في دين الله]. يعني: لا نخوض فيه بالباطل كما خاضت الفرق الضالة، ولا نماري في دين الله يعني: لا نجادل في دين الله، ولهذا نهى السلف الصالح رضوان الله عليهم عن المجادلة، وعن مجادلة أهل البدع، فقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرجل يجادل أهل البدع فنهاه، ثم قيل له: حتى ولو كان يدافع عن السنة، فقال: حتى ولو كان يدافع عن السنة. ويقصد بذلك: أن الجدل ليس هي الطريقة الشرعية في الدعوة والإصلاح وفي الرد على أهل البدع، وإنما الطريقة الصحيحة هي تبيين الحق وتوضيح الحق للناس، أما الاشتغال بمجادلة أهل البدع لا سيما إذا كان ذلك بطرقهم ومسالكهم الكلامية والفلسفية ونحو ذلك فإن هذا من الجدال الذي نهى عنه السلف الصالح رضوان الله عليهم.

خطر الجدل في القرآن

خطر الجدل في القرآن قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا نجادل في القرآن]. قوله: (ولا نجادل في القرآن) يحتمل أن يكون المعنى: ولا نجادل في مسألة القرآن، وإنما نقول: إنه كلام الله، فالقضية لا تحتاج إلى جدال، وإنما القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، كما سبق أن شرحنا ذلك سابقاً، ويحتمل أن يكون المقصود: ولا نجادل في القرآن يعني: لا نضرب القرآن بعضه ببعض، فنأتي بالآية ثم نضرب بها تلك الآية ثم ننتقل إلى آية أخرى وهكذا، فهذا منهج عقيم، وهو منهج أهل البدع؛ فإن منهجهم المجادلات والمخاصمات ونحو ذلك. ولهذا الذي يرجع إلى كتب الاعتقاد المسندة مثل (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) لللاكائي و (الشريعة) للآجري و (السنة) لـ عبد الله بن الإمام أحمد وغيرها من الكتب يجد أن السلف رضوان الله عليهم بينوا أن الجدال سمة من سمات أهل البدع والعياذ بالله! ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: إذا أراد الله بقوم شراً منعهم العمل وألزمهم الجدل، وروي مرفوعاً: (أنه إذا أراد الله عز وجل بقوم شراً يمنعهم من العمل ويلزمهم الجدل) ولهذا كان السلف رضوان الله عليهم يكرهون من الكلام ما ليس تحته عمل، فالكلام الذي ليس تحته عمل ولا فائدة منه يكرهونه ويذمونه. فكثرة الخصومات والمجادلات مذمومة لا سيما في قضايا العقائد وفي قضايا أصول الدين، ولهذا يتميز أهل السنة باتباع السنة، وأنهم لا يثبتون عقيدةً ولا عملاً إلا بسنة وبأثر إما من كتاب الله عز وجل أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو مما أجمع عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.

الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق

الإيمان بأن القرآن كلام الله غير مخلوق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونشهد أنه كلام رب العالمين]. يعني القرآن، وقد سبق أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى وأنه بحرف وصوت، وهذا الكلام منه القرآن، القرآن من كلام الله، وليس هو كلام الله، فإن كلام الله لا يمكن أن يحصى، ولا يمكن أن يحد، فكلامه سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء وكيف شاء وهي من صفاته الفعلية وقد سبق الحديث عن موضوع الكلام مفصلاً. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [نزل به الروح الأمين]. يعني: جبريل عليه السلام. قال رحمه الله: [فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم]. وهذا فيه الرد على عقيدة الأشاعرة في موضوع الكلام، فإن مما انتشر عند الناس أن الأشاعرة يثبتون صفة الكلام لله عز وجل، وهم يثبتون صفة الكلام اسماً، أما حقيقة الكلام فلا يثبتونها لله عز وجل، وإنما يقولون عن الكلام: إنه معنى نفسي في الله سبحانه وتعالى، وإن هذا المعنى النفسي ليس بحرف ولا صوت، وإن هذا القرآن الموجود بين أيدينا هو إما من كلام جبريل على قول بعضهم أو من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا ضلال، وهو وقول المعتزلة واحد، فالمعتزلة قالوا: إن القرآن مخلوق، وهؤلاء قالوا: إن كلام الله معنى، وإن هذا القرآن الذي بين أيدينا مخلوق. ولهذا يقول شيخ المتأخرين منهم البيجوري في كتابه (تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد): إنه يمكن لنا أن نقول: إن القرآن مخلوق، لكن على سبيل التعليم، يعني: في حلقات التعليم، وأما أمام الناس فلا نستطيع أن نقول هذا! يعني: لأنهم إذا قالوا: إن القرآن مخلوق، ألزمهم الناس بمذهب المعتزلة، وقالوا: أنتم على مذهب المعتزلة، وهم لا يريدون ذلك، ولهذا فروا من مذهب المعتزلة بطريقة ملتفة. وعموماً هذه هي طريقتهم وهذا هو أسلوبهم ومنهجهم؛ يحاولون أن يجمعوا بين المنهج الفلسفي والمنهج القرآني ويوفقون بينهما، وفي النهاية يميلون للفلسفة، يعني: في النهاية عند التحقيق تجد أنهم يميلون للفلسفة ويتركون المنهج القرآني. يقول: [وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين]. وكذلك كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، وينهى عن القول بخلق القرآن. وقوله: (لا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين) لأن جماعة المسلمين اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وقد أفل نجم المعتزلة عندما أظهر الله سبحانه وتعالى السنة على يد إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله؛ فإن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فتن وامتحن في قضية خلق القرآن، وكان عمره في تلك الفترة ثمانية وخمسين سنة تقريباً، وكان هذا الإمام قد ظهر علمه، وتبنى هذه العقيدة المأمون، وامتحن الناس عليها، وصبر الإمام أحمد رحمه الله وجلد وسجن وأوذي بكل أنواع الإيذاء، لكنه صبر وكانت النتيجة - ولله الحمد - ظهور الحق، كما قال الله عز وجل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، فانتصر الإمام أحمد رحمه الله وانهزمت المعتزلة في الجانب العلمي وضعفت واضمحلت؛ حتى إنه اختفى الاعتزال كفرقة مجتمعة، وذابت في الفرق الأخرى، فأصبح الشيعة معتزلة والخوارج الإباضية معتزلة، ولا يوجد الآن في الواقع فرقة متكاملة تدعي الأصول الخمسة التي عندهم وتسمى المعتزلة، وإن كان يوجد في بعض بلاد الشام وبعض إفريقيا من يدعي ذلك، لكنهم قلة وليسوا مثل ما كانوا في بداية أمرهم.

مذهب أهل السنة في باب التكفير والرد على المخالفين

مذهب أهل السنة في باب التكفير والرد على المخالفين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله]. وأهل القبلة هم: المسلمون الذين يصلون إلى القبلة في الظاهر؛ لأن الإيمان نوعان: إيمان الظاهر، وإيمان الحقيقة، والذي سبق أن تحدثنا عنه وقلنا: إنه مركب من قول وعمل، هو الإيمان الحقيقي النافع عند الله عز وجل، لكن الذي سبق أن أشار إليه الشيخ في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين) هذا في الإيمان الظاهر الذي تبنى عليه الأحكام العملية في الظاهر، فإن الأحكام العملية مثل التوارث والنكاح وأحكام المسلمين الظاهرة وحقوقهم مثل قضايا الجنائز ونحو ذلك، هذه تبنى على الإسلام الظاهر، حتى ولو كان الإنسان في نفسه منافقاً ما دام أنه لم يظهر نفاقه ويعلنه للناس، لكن إذا أظهر نفاقه وأعلنه للناس فإنه يكون مرتداً، ويكون مثله مثل اليهود والنصارى، لكن ما دام أن نفاقه مستتر وظاهره الإسلام فإنه يعامل معاملة المسلمين في الدنيا، وإن كنا نقول: إنه في الآخرة يكون في الدرك الأسفل من النار، كما أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك.

الرد على الخوارج الذين يكفرون بالذنب

الرد على الخوارج الذين يكفرون بالذنب وقوله: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة) يعني: ممن ينتسب إلى الإسلام بالظاهر. وقوله: (بذنبٍ ما لم يستحله) هذا يدل على أن أبا جعفر الطحاوي رحمه الله يرى أن الذنوب ليست بمكفرة للإنسان، وإنما يبقى له الإسلام حتى مع وجود هذه الذنوب، إلا إذا استحلها، فإنه إذا استحلها ورأى أنها حلال فهو تكذيب لله سبحانه وتعالى الذي حرمها، وحينئذٍ يكون كافراً، وهذا الكلام فيه رد على الخوارج الذي كفروا الناس بالذنوب، فالزاني يقولون عنه: كافر، والسارق يكفرونه، ومن يشرب الخمر يكفرونه، فيكفرون الناس بالذنوب؛ حتى إنهم كفروا أكثر المسلمين، وأما الخوارج المتأخرون من جماعة التكفير والهجرة فهؤلاء كفروا أغلب أهل التاريخ الإسلامي تقريباً بسبب أن نظرتهم إلى التاريخ على أن هناك انحرافات وهناك ضلالات كانت موجودة، وحينئذٍ حصل منهم الكفر فهم كفار، والعياذ بالله! فهذا فيه الرد على الخوارج. ولا شك أن الخوارج فرقة من فرق الضلال، سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم كلاب أهل النار، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن خروجهم وأنهم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقرءون القرآن لا يبلغ تراقيهم، ثم قال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (من لقيهم فقاتلهم فله أجر يوم القيامة) ولهذا لما ظهر هؤلاء قاتلهم الصحابة رضوان الله عليهم مع انتسابهم للإسلام، وعرفوا أنهم الذين أرادهم الرسول صلى الله عليه وسلم بحديثه، وقاتلوهم واجتمعوا على قتالهم، فإن الفتنة كانت في بداية الأمر بين أهل العراق وأهل الشام، لكنهم اجتمعوا على قتالهم؛ لأن هذا مما اجتمع عليه أهل السنة، فإنهم اجتمعوا على قتال الخوارج الضالين الذين ظهروا بهذه العقائد الضالة.

التكفير بالاستحلال

التكفير بالاستحلال لكن الشيخ أخطأ في مسألة مهمة وهي قوله: (ولا نكفر أحداً من المسلمين بذنب ما لم يستحله) فجعل قوله (بذنب) عاماً، والصحيح أن الذنوب على نوعين: ذنوب مكفرة، فهذه لا يشترط فيها الاستحلال، وذنوب ليست بمكفرة، وهذه لا يكفر صاحبها إلا إذا استحل. ومن الذنوب المكفرة ما لا يشترط أن يكون صاحبها مستحلاً لها؛ لأنها هي كفر في ذاتها، مثل الطواف حول القبور والنذر لها والذبح، ومثل دعاء غير الله سبحانه وتعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومثل السجود للصنم، ومثل القوانين الوضعية، ونحو ذلك فذلك كله من جملة المكفرات التي لا يشترط فيها الاستحلال، لكن بقية الذنوب والمعاصي لا يكفر صاحبها إلا إذا استحل مثل الزنا وشرب الخمر وقتل النفس ونحو ذلك، فهو على الإيمان وعلى الإسلام إلا إذا استحل ذلك الفعل. وفي قصة قدامة بن عبد الله رضي الله عنه - وكان صحابياً جليلاً - أنه كان هو وبعض الصحابة استحلوا شرب الخمر ورأوا أنه حلال، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93] فقالوا: ليس علينا جناح في أن نشربها ما دمنا متقين، فاستحلوا شرب الخمر، فاستتابهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال لـ قدامة: أخطأت استك الحفرة، إنك إذا اتقيت لا تشرب الخمر، فأجمع الصحابة على أنهم يستتابون فإن لم يتوبوا يقتلون، وهذا ما أفتى به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واتفق عليه الصحابة جميعاً، والسبب في ذلك أنهم استحلوا المحرم، فالله عز وجل يحرم شيئاً وهم يقولون: هو حلال، وهذا فيه تكذيب، إلا إذا كان عند الإنسان شبهة فإنها تزال، تزال عن طريق الاستتابة، كما فعل الصحابة مع قدامة بن عبد الله ومن كان معه، فإن ترك صاحبها ورجع إلى حكم الله عز وجل فإنه يكون مسلماً ولا يكون كافراً، فإن عاند فهو كافر. ولهذا لا بد أن يفرق الإنسان في الذنوب بين أمرين: الأمر الأول: من يفعل الذنب، والأمر الثاني: من يستحل الذنب، فمن يفعل الذنب هذا لا يعتبر كافراً، لكن من يستحل الذنب هذا يعتبر كافراً حتى ولو لم يفعل الذنب، ولو أنه رأى أنه حلال؛ فهذا يعتبر - والعياذ بالله - كافراً حتى لو لم يفعله، ولهذا من الأمور الخطيرة حقيقة أن يأتي إنسان فيستحل المحرمات بهذه الطريقة، وهذا لا شك أنه مكفر من المكفرات. فقول الشيخ: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب)، جعل الذنب هنا عاماً، فهو يشمل الذنوب المكفرة وغير المكفرة، والحقيقة أن الذنوب المكفرة لا يشترط فيها الاستحلال، ولهذا ما كان ينبغي أن تكون العبارة بهذه الطريقة، ولو كانت العبارة: لا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب ما لم يستحله، لكان هذا أصوب، ولكان هذا أدق. لكن المشكلة هي أن الإمام أبا جعفر الطحاوي رحمه الله طريقته هي طريقة مرجئة الفقهاء، وطريقة مرجئة الفقهاء - كما سبق - هي تأخير العمل عن مسمى الإيمان، وحينئذٍ يصبح الكفر عندهم هو مجرد التكذيب فقط، والاستحلال تكذيب، وحينئذٍ يمكن أن يتبين لنا أثر تأخير العمل عن الإيمان في مسألة التكفير، فإذا أخر الإنسان العمل عن الإيمان أصبح لا يكفر بالذنوب المكفرة في الحقيقة إلا إذا استحل، وهذه هي الطريقة التي أتخذها أبو جعفر الطحاوي ومن معه من مرجئة الفقهاء مثل ابن أبي العز وغيره.

الرد على المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب

الرد على المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب وقوله: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله). هذا فيه الرد على المرجئة، والمرجئة على نوعين: النوع الأول: مرجئة الجهمية الأوائل، وهؤلاء هم الذين كانوا يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذه الفرقة انقرضت، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان يقول: لا يعرف بهذه الكلمة قائل، يعني: لا يعرف لها قائل محدد، وإن أثرت عن الجهمية، يعني: أثرت عن الجهمية بشكل عام، لكن لا يعرف من قائلها على التحديد. وهذا القول هو الذي من أجله كفر السلف الصالح الجهمية وقالوا: إنهم كفار؛ لأنهم قالوا: لا يضر مع الإيمان - الذي هو التصديق عندهم - معصية، فكل المعاصي التي يعملها الإنسان ما دام أنه يصدق ولم يكذب فهي لا تضره أبداً، وإنما يدخل الجنة بدون حساب ولا عذاب، وحينئذٍ أصبحت الجنة عندهم يدخلها كل العصاة، وكل من انتسب إلى التصديق يدخل الجنة، ولا يدخل النار إلا من كان مكذباً، وهذا يدل على أن كثيراً من الكفار سيدخلون الجنة بناءً على هذا؛ لأن الكفار ليسوا كلهم مكذبين، بل بعضهم مصدق، كما قال الله عز وجل عن فرعون: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14] يعني: جحدوا بسبب الظلم والعلو، ولم يجحدوا بسبب التكذيب الداخلي، فهم كانوا مصدقين، لكنهم جحدوا ظلماً وعلواً، وكما هو حال المشركين أيضاً؛ فإنهم كانوا يعرفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، كما قال الله عز وجل عنهم: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] وحينئذٍ سيدخل جماعات أيضاً من المشركين الجنة على مذهب الجهمية، ولهذا كفرهم السلف رضوان الله عليهم، وسبق أن نقلت قول عبد الله بن المبارك رحمه الله فيهم. النوع الثاني من المرجئة: مرجئة الأشاعرة الذين يقولون: إن الإنسان إذا أذنب الذنب فإنه يعاقب به، لكن العمل ليس داخلاً في الإيمان، فلا يترتب على تركه كفر، وهذا القول هو قول مرجئة الأشاعرة، ومرجئة الأشاعرة عندما قالوا: إن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، ما قصدوا أن أصحاب الذنوب لا يعذبون، وإنما أرادوا أن العمل ليس من حقيقة الإيمان الذي يترتب على تركه كفر، فعندهم مثلاً: لو أن إنسان زنى يعذب، ولو إنسان شرب الخمر يعذب، ولو إنسان أكل الربا يعذب. لكن الخلاف الذي بينهم وبين أهل السنة هو في مسألة لو أن أحداً ترك العمل كله فلم يصل ولم يصم ولم يحج ولم يزك، كما أنه ترك أعمال القلب جميعاً، مثل الخوف والرجاء ونحو ذلك، فهم لا يعتبرون هذا كافراً وإنما يعتبرونه عاصياً، وكذلك الحال فيمن يطوف حول القبور وينذر ويذبح لها ويستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ونحو ذلك من هذه المكفرات، لا يعتبرون ذلك كفراً، وإنما يعتبرونه من الذنوب والمعاصي. بل إن بعضهم مثل صاحب كتاب (مصباح الظلام) الذي يقال له: الحداد قال: إن الأنبياء والصالحين لهم احترام في نفوسنا، والمبتدع محمد بن عبد الوهاب - كما يزعم - أظهر أن الاستغاثة بهؤلاء الصالحين شرك، فحينئذٍ - على قوله - يلزم أهل العلم والصالحين أن يستغيثوا بالأنبياء وأن يستغيثوا بالصالحين؛ حتى يبقوا للصالحين كرامتهم! انظروا كيف أوجب الشرك بهذه الطريقة! أوجب الشرك لأنه يعتقد أن الاستغاثة بهم إكرامٌ لهم وإكرامهم واجب، وحينئذٍ يجب الاستغاثة بهم، في الوقت الذي يرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه يقول: هذا شرك. فإلى هذه الدرجة حصل الخلاف والصدام بين أهل السنة من جهة وبين الأشاعرة والصوفية من جهة أخرى. ولأجل هذا فالخلاف ليس بيسير ولا بسطحي، ولا يصح أن يقول أحد: نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضٌ فيما اختلفنا فيه، إذ كيف نعذر مثل هذا الذي اختلفنا فيه؟ فعندما يأتي شخص من هؤلاء ويجمع عشرات الأشخاص ويطوف بهم حول القبور، ويطلب منهم أن يستغيثوا بالله، ويطلب منهم أن يذبحوا لغير الله ويذبحوا للأولياء ويقول: هذا من إكرامهم وهذا واجب، في الوقت الذي أنت ترى أن هذا شرك، فكيف تقول: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه؟ لا يمكن أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه في مثل هذه المسائل، لكن الذي يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه هي المسائل الفقهية التي لا يترتب على الخلاف فيها بدعة أو شرك أو نحو ذلك، فالمسائل الفقهية التي تحتمل الاجتهاد وقد اختلف فيها الصحابة هي التي يعذر بعضنا بعضاًَ فيها، لكن مسائل الاعتقاد لا يعذر بعضنا بعضاً فيها. فكيف يمكن حصول العذر في شخص هذا حاله وهذه طريقته؟ وبناءً على هذا نعلم أن قول الشيخ: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله)، يعني به: الرد على مرجئة الجهمية الأوائل، لكنه لم يرد على مرجئة الفقهاء ومرجئة الأشاعرة. وأئمة الأشاعرة المتقدمين مثل الشهرستاني ومثل البغدادي في (الفرق بين الفرق) وغيرهما يذكرون المرجئة و

ضرورة الموازنة بين الخوف والرجاء

ضرورة الموازنة بين الخوف والرجاء قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته، ولا نأمن عليهم، ولا نشهد لهم بالجنة، ونستغفر لمسيئهم ونخاف عليهم، ولا نقنطهم، والأمن واليأس ينقلان عن ملة الإسلام وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة]. وهاتان الفقرتان فيهما التأكيد على عملين من أعمال القلب وهما: الخوف والرجاء، ولا بد أن يكون الخوف مع الرجاء، وأن يكونا كالجناحين للطائر، كما ذكر ذلك الأئمة. وقوله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة) يدل على ذلك قول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء:57] فجمع في هذه الآية بين الخوف والرجاء. ولهذا صح عن مكحول وغيره من السلف أنهم كانوا يقولون: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري - يعني: من الخوارج -، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئي، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف والرجاء والحب فهو الموحد. رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء) وإسناده صحيح. ولا شك أن تغليب الخوف على الرجاء يوصل إلى اليأس والقنوط من رحمة الله، وتغليب الرجاء على الخوف يوصل إلى الأمن من مكر الله، وتغليب المحبة على الخوف والرجاء يوصل إلى ترك طلب الجنة، ولهذا صرح بعض الصوفية فقال: إننا لا نطلب من الله عز وجل الجنة، ولا نعبد الله عز وجل طلباً للجنة وخوفاً من النار، وإنما نعبده محبة فيه، وهذا خطأ، وهو من الضلال، ولهذا يقول الله عز وجل عن الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] رغباً يعني: رغبة في الجنة، ورهباً يعني: خوفاً من النار، وهم أكمل الموحدين، والأنبياء أكمل الأولياء. فالشاهد من هذا هو: أن الخوف والرجاء والمحبة لا بد أن تكون متوازية، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يسمون غلاة الصوفية زنادقة، ولهذا قال مكحول: ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق؛ لأن أصل دين التصوف ليس من ملة الإسلام، فأصل دين التصوف الذي عليه غالب المتصوفة المتأخرين ليس من دين الإسلام، وإنما أصله دين هندي كان موجوداً في الهند، وكان أولئك الهنود يريدون أن يصلوا إلى الكشف عن طريق بعض الرياضات التي يقومون بها، فكان بعضهم يقف على رأسه وقتاً طويلاً، وبعضهم يتعرض للشمس، وبعضهم يتعرض للهواء البارد، وبعضهم يجري في الصحراء ويعيش مع الوحوش ونحو ذلك! وكانوا يدعون أنهم إذا قاموا بهذه الرياضات التي عندهم فإنهم يصلون إلى مرحلة من الكشوفات، وتأتيهم بعض الروحانيات، والهنود الذين كانوا على هذا الدين وثنيون، وكانوا هؤلاء يسمون عند الهنود ثيوصوفية. وقد ذكرهم البيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في الذهن أو مرذولة)، ذكر دينهم وطريقتهم ومنهجهم، وهذا هو نفسه الذي يقرره الشعراني في كتابه (الأنوار القدسية)، فإنه عندما يذكر الرياضة التي توصل الإنسان إلى الكشف الذي هو الغاية عندهم الذي يطلبونه ويتمنونه ذكر من الرياضات عندهم ما تشبه رياضات الهنود، مثل: الوقوف على الرأس والتعرض للشمس ونحو ذلك من إيذاء البدن؛ لأنه كانت عندهم فلسفة المسألة، وهي: أن البدن إذا أوذي وأتعب ترتفع الروح، لكن إذا لم يؤذ البدن وإنما غلب الجانب الجسدي في الإنسان فإن الروح تكون ضعيفة ومنخفضة، وهذا هو أصل دين البوذية الذين يقولون: إنه بالرياضات يمكن أن نصل إلى مرحلة النربانا. الشاهد من الموضوع هو: أن السلف كانوا يسمون هؤلاء زنادقة، والذي يقرأ في طبقات الشعراني عن بعض كرامات هؤلاء يجد عجباً، فمثلاً: يذكر من كراماتهم فيقول: ومن كرامات سيدي أحمد الرفاعي أن رجلاً - سماه -كان عنده فرأى رجلاً طائراً في الهواء حتى جاء إلى سيدي أحمد الرفاعي، فقال له: أهلاً بوفد المشرق، ثم قال: أريد منك يا سيدي أحمد! أن تعطيني حاجتي، قال: وما هي حاجتك؟ قال: حاجتي في كذا وفي كذا، وبدأ يعدد أصنافاً من الأكل، قال: فأخذ حصاة فحركها فانقلبت كوزاً فيه ماء، ثم نظر إلى السماء فإذا بعض الطيور تطير في السماء فأشار إليها فنزلت مشوية على طبق، ثم بعد ذلك أكل منها حتى شبع! الشاهد هو أنه أكل منها حتى شبع، ثم بعد ذلك طار من حيث جاء هذا الرجل، فلما طار أشار إلى كوب الماء فرده حجراً، ثم أشار إلى هذه الطيور فعادت تطير في السماء كما كانت وكأنها لم تؤكل ولم يحصل لها شيء! وهذا إن ثبت فهو سحر واضح. وشمس المعارف الكبرى، كتاب معروف من كتب السحر، صاحبه اسمه محمد البوني، والبوني هذا ترجم له النبهاني في كتاب له اسمه جامع كرامات الأولياء

ضابط الكفر عند الإمام الطحاوي

ضابط الكفر عند الإمام الطحاوي قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحوده ما أدخله فيه]. انظروا كيف ضبط الكفر! ضبط الكفر بالجحود فقط، يقول: (ولا يخرج العبد من الإيمان)، يعني: إلى الكفر، (إلا بجحوده ما أدخله فيه)، ولو أنه لم يجحد ولكنه أعرض عن العمل أو طاف بقبر أو ذبح لغير الله لا يكفر، ولهذا هذا يدلكم على أنهم لما ضبطوا الإيمان على أنه مجرد التصديق ضبطوا الكفر على أنه مجرد التكذيب فقط.

تعريف الإيمان عند الإمام الطحاوي

تعريف الإيمان عند الإمام الطحاوي ثم يقول: [والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق]. هنا قضية لا بد أن ننتبه لها، وهي أن هناك فرقاً بين طريقة الشيخ الطحاوي وبين طريقة الأشاعرة، فالشيخ الطحاوي الخلاف معه أخف بكثير من الخلاف مع مرجئة الأشاعرة، والسبب في هذا هو: أنه عند النقاش والتحقيق تجد أن الطحاوي رحمه الله يكفر الذي يعرض عن العمل جملة، لكن وقعت الشبهة عنده في التعريف، وسبق أن قلنا: إن الخلاف ليس لفظياً؛ لأن التعريف هذا تعريف شرعي، فإذا خالف فيه تكون مخالفته مخالفة للنصوص، ومخالفة النصوص خطأ وبدعة، لكن ليس هو كحال مرجئة الأشاعرة الذين بنوا على هذه العقيدة قضايا خطيرة سبق أن تحدثنا عنها، مثل: الطواف حول القبور والنذر لها ونحو ذلك. وقوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان). قد سبق أن بينا أن الوقوف على هذين الركنين فقط خطأ، وإنما الصواب زيادة: (والعمل بالأركان). وقوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق والإيمان واحد)، الإيمان واحد يعني: لا يزيد ولا ينقص، وإنما هو شيء واحد، والسبب في هذا القول هو: أنه تصور أن الإيمان هو التصديق فقط، وأما قوله: (والإقرار باللسان)، فإنهم يرون أن الإقرار باللسان ركن زائد لإجراء الأحكام الظاهرة على الإنسان فقط، وأما حقيقة الإيمان فلا يدخل فيه حتى الإقرار باللسان. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى]. قوله: (وأهله في أصله سواء) يعني: وأهل الإيمان في أصل الإيمان سواء، ويقصد بأصل الإيمان: التصديق، ولكن هذه العبارة مضطربة؛ لأن قوله: (الإيمان واحد)، ثم قوله: (في أصله) يدل على أن هناك فرعاً له، فهو على هذا يرى أن الإيمان أصل وفرع، وإذا كان له أصل وفرع فكيف يقول: والإيمان واحد؟ فمعنى هذا: أن الإيمان اثنان وليس بواحد، وأن الفرع يزيد على الأصل، فقوله: (وأهله في أصله سواء) مناقض لقوله: (والإيمان واحد)، والسبب في المناقضة هذه هو أنه كان يرى رأي مرجئة الأحناف، وهذه من الفقرات التي أخذت على أبي جعفر الطحاوي رحمه الله. ومن الأمور التي تبين الفرق بين مرجئة الفقهاء ومرجئة الأشاعرة: أن مرجئة الفقهاء يرون أن ترك العمل بالكلية كفر يخرج عن الإسلام، ولهذا يقول ابن أبي العز رحمه الله في شرحه للطحاوية: والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري؛ فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزءاً من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه نزاع لفظي، يعني: أنه يرى أن قول الأحناف: إن العمل لازم لإيمان القلب، وأن قول السلف: إن العمل من إيمان القلب، يرى أن هذا نزاع لفظي، والصحيح كما سبق أن بينا أنه ليس نزاعاً لفظياً. وقد أطال الشيخ ابن أبي العز رحمه الله في شرح هذه الفقرة والتقريب بين مذهب أهل السنة ومرجئة الفقهاء في هذه المسألة.

حقيقة الولاية والرد على مذهب الصوفية فيها

حقيقة الولاية والرد على مذهب الصوفية فيها ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن]. وقد سبق الحديث مختصراً عن الولاية، واستدللنا عليها بقول الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] وأبطلنا فيها مذهب الصوفية في الولاية، وذكرنا أنهم يقولون: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي فيرون أن النبوة والرسالة دون الولاية، ويستدلون عليها كما سبق أن بينا بقصة الخضر مع موسى، وسبق أن أبطلناها بأن الخضر كان نبياً، وأنه إن فضل على موسى في قضية فإن موسى أفضل منه في قضايا أخرى. وأكرم المؤمنين عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن، فأكرم المؤمنين هو المتبع لما جاء عن الله والمتبع للقرآن الكريم، وفي هذا رد على منهج الصوفية في مسألة الولاية، فإن الصوفية لهم طريق في السلوك غير طريقة أهل السنة، فأهل السنة طريقتهم في السلوك: أن الإنسان يزيد إيمانه عن طريق الأعمال الصالحة المشروعة: عن طريق الذكر المشروع عن طريق الصلاة المشروعة مثل النوافل وغيرها عن طريق الصيام المشروع عن طريق الجهاد في سبيل الله عن طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والإصلاح عن طريق العبادة والخشوع والخوف وتنمية أعمال القلب، هكذا يزيد الإيمان عند المؤمن حتى يبلغ أعلى الدرجات الممكنة، لكن الصوفية لهم خط آخر غير خط أهل السنة في مسألة الحصول على الولاية، فإنهم يرون أن الحصول على الولاية يكون بالإعراض عن القتال والجهاد، ولا يرون أن الجهاد يمكن أن يوصل إلى الولاية بأي وجه من الوجوه. فمثلاً: يقول أبو حامد الغزالي في (إحياء علوم الدين): ينبغي على السالك إذا جاء إلى خلوته ألا يشتغل في خلوته بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، ولا بشيء من ذلك! انظروا كيف يرون أن قراءة القرآن وأن دراسة الحديث لا توصل إلى السلوك، ولهذا كانوا يرون أن أهل الحديث قساة في القلوب، وهذه وجهة نظرهم، كانوا يرون أن أهل الحديث من قساة القلوب؛ لأنهم لا يشتغلون بالطريقة التي هم يشتغلون بها، ولا يأخذون الولاية كما يأخذها هؤلاء، فهم يأخذون اسماً من الأسماء يردده الواحد منهم، فيقول مثلاً: الله الله، ويردده آلاف المرات حتى يحصل له كشوفات، ثم يشترطون له شروطاً مثل الجوع وألا يكون ممتلئاً، ويذكرون فضل الجوع ونحو ذلك بذكر الأدلة في الفقر ونحوه. الشاهد: أنهم يطيلون في مسألة كيف يبدأ السالك بالذكر، وهو ذكر مبتدع يشتغل فيه أحدهم حتى تحصل له الكشوفات، فإذا حصلت له الكشوفات فقد حصلت له الولاية، وكشوفات أكثرهم ولاية، وهم يستدلون على وجود الولاية عند أحدهم بالكشوفات وكثرة الإغراء، ولهذا يقولون: من كرامات إبراهيم العريان - وهو من أوليائهم - أنه كان يخطب بالناس عرياناً، ويوم من الأيام قال: أشهد أن محمداً عدو الله وأن إبليس نبي الله! وخرج على الناس بسيف وهرب الناس جميعاً، وقالوا: هذه من كراماته رحمه الله تعالى! ويقولون: ربما وجد هذا التصرف منه في وقت واحد بأكثر من مكان، وهذه من كراماته! وهكذا يشتغلون بالخرافات والخزعبلات ويعتقدون أن هذا هو الطريق المنجي عند الله سبحانه وتعالى. بل إن الشعراني في كتابه (الأنوار القدسية في الآداب الصوفية) يقول: إن الإنسان إذا سلم نفسه للشيخ فيكون بين يديه كالميت بين يدي مغسله، فهم يقولون: إن الذي ليس له شيخ فشيخه الشيطان، فلا بد أن يكون للواحد شيخ محدد يدرس عليه هذا الطريق، ولا يمكن عندهم أبداً أن يدرس إنسان هذا الطريق من غير هذا الشيخ، ثم إذا جاءوا إلى آداب التعامل مع الشيخ يذكرون شيئاً لا يطيقه العقل، ومن ذلك: ألا يكتم عن شيخه سراً، فإن الشيخ إذا كتم عنه هذا الإنسان سراً فإنه أولاً يكتشفه الشيخ، وهذه أكبر ورطة، والثانية أنه لا يصل إلى درجة الولاية المطلوبة، فإذا جاء الإنسان وعنده رغبة في الولاية فلا بد أنه يبوح بكل أسراره وكل فضائحه التي عملها في الدنيا، ولا شك أن هذا من كشف الأسرار التي ما أمر الله سبحانه وتعالى بها. وكما سبق أن بينت أن طريقة مبتدعة، وهي طريقة الضالين، يذكرون أنه ينبغي للمريد عند شيخه أن يكون مثل الميت بين يدي مغسله، هكذا نص الشعراني، فإنه قال: يجلس بين يدي شيخه كما يكون الميت بين يدي مغسله لا يحرك شيئاً! ولهذا يا إخوان هؤلاء الصوفية عبثوا في الأمة عبثاً كبيراً، وكانوا سبباً في ترك كثير من المشركين لهذا الإسلام، فبعض النصارى - مثلاً - إذا أراد أن يسلم ورأى هؤلاء قال: خرافات النصارى أحب إلي من خرافات المسلمين، يعني: خرافات جماعتي أفضل من خرافات ناس ما أعرفهم، فأصبحوا فتنة والعياذ بالله! وأصبحوا سبباً للصد عن سبيل الله، وصاروا فتنة للذين كفروا؛ بحيث إنهم امتنعوا عن الدخول في الإسلام بسببهم.

ميزان الولاية

ميزان الولاية قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن]. هذا يدل أن العبرة في الإنسان هو بكونه طائعاً لله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى). إذاً: التقوى هي الميزان في الولاية والميزان في الكرامة، ولهذا لما اختلف السلف: هل الأفضل الفقير الصابر أو الغني الشاكر؟ كان أقوى الأقوال في هذه المسألة أن الأفضل هو الأتقى من أي الجانبين. وإن كان ابن القيم رحمه الله في (بدائع الفوائد) له ترجيح آخر، وهو أنه يقول: إن التفضيل لا يصح بإطلاق، وإنما يمكن أن يكون الشيء فاضلاً باعتبار ومفضولاً باعتبار آخر، فذكر - مثلاً - هل الأفضل عائشة رضي الله عنها أو خديجة؟ فقال: خديجة رضي الله عنها أفضل من عائشة باعتبار مؤازرتها للنبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة، وعائشة أفضل منها باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها، وكان يقدمها على بقية نسائه بعد موت خديجة، وهكذا في الأعمال الصالحة، فإن الأعمال الصالحة كل عمل منها أفضل باعتبار وغيره أفضل باعتبار آخر.

وجوب الإيمان بالرسل

وجوب الإيمان بالرسل قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والإيمان هو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره حلوه ومره من الله تعالى]. وهذا سبق أن تحدثنا عنه في الكلام على حديث جبريل وسبقت الإشارة إليه مفصلة. ثم قال رحمه الله: [ونحن مؤمنون بذلك كله، لا نفرق بين أحدٍ من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به]. ومما يدل على أن الإيمان بالرسل جميعاً واجب وأنه لا يجوز أن يؤمن الإنسان ببعض الرسل ويكفر ببعض أن الله عز وجل يقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] فكل الرسل جاءوا بدين واحد وهو الإسلام، كما أن الله عز وجل يقول عن قوم نبي واحد أو رسول واحد وهو أول الرسل: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105] ونوح هو أول رسول، فكيف كذبت المرسلين وهم لم يبعثوا؟ لكن لما كذبوا نوحاً ونوح طريقته هي طريقة المرسلين كان هذا تكذيباً لبقية المرسلين.

عقيدة أهل السنة في مصير أهل الكبائر الموحدين

عقيدة أهل السنة في مصير أهل الكبائر الموحدين قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون]. وهذه هي عقيدة أهل السنة، وأما الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون: إن أهل المعاصي من أهل الكبائر مخلدون في النار لا يخرجون منها أبداً، والخلاف بين المعتزلة وبين الخوارج هو في الحكم عليه في الدنيا، فإن الخوارج قالوا: أصحاب الكبائر كفار، وأجروا عليهم أحكام الكفر، وأما المعتزلة فقالوا: إنهم يخرجون من الإيمان بالكبيرة، لكنهم لا يدخلون في الكفر، وإنما يبقون في منزلة بين المنزلتين، وهي بدعة غريبة لم تعرف إلا عنهم. وأما أهل السنة فإنهم يقولون: إن أهل الكبائر من أهل الوعيد قد يعذبهم الله سبحانه وتعالى في النار ثم يخرجون منها بالشفاعة أو بانتهاء العذاب أو برحمة الله سبحانه وتعالى، المهم: أنه لا يخلد أحد من أهل المعاصي في النار أبداً، وإنما تبقى النار للكفار الخالدين فيها، وأما في الدنيا فإن الله عز وجل وصف أهل المعاصي بالإيمان كما وصفهم في بعض النصوص بالكفر. وهذا يدل يا إخوان على أن الكفر ينقسم إلى قسمين: كفر يخرج من الإسلام، وكفر لا يخرج من الإسلام، فأما الكفر الذي يخرج من الإسلام فهو الشرك، مثل: عبادة غير الله سبحانه وتعالى، أو التولي والإعراض، أو الاستكبار أو نحو ذلك من أنواع الكفر وأصنافه. وأما الكفر الذي لا يخرج عن الإسلام فهو بعض الذنوب والمعاصي التي وصفها الله بالكفر وهي لا تخرج عن الإسلام، مثل قتال المسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) وليس المقصود بالكفر في قوله: (وقتاله كفر) الكفر الذي يخرج عن الإسلام، والدليل على هذا قول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] فمع أنهم اقتتلوا سماهم الله عز وجل مؤمنين، وكذلك يقول الله عز وجل في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178] قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) وصفه بالأخوة، ولا تنزع الأخوة الإسلامية إلا بالكفر، فإذا كان كافراً فإنه لا يكون أخاً له، وأما قوله تعالى في بعض الأنبياء: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65] وغيرها من الآيات التي تشبهها فليس المقصود بأنه أخوهم في الولاية، وإنما المقصود بالأخ هنا: صاحب عاد، يعني: من قومهم ومن جماعتهم ومن أقربائهم. وأما الدليل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار فهو حديث الشفاعة الذي سبق أن أشرنا إليه، فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، وجاء في رواية: (من كان في قلبه أدنى من مثقال الذرة من الإيمان)، وجاء في بعضها: (يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من الإيمان)، وهذا يدل على أن أهل الذنوب لا يخلدون في النار ما دام أنهم من أهل التوحيد. وقول الشيخ: [وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون]. القيد هنا في قوله: (من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) فيه إشكال؛ لأنه قد يفهم منه بعض الناس: أن أهل الكبائر من أصحاب الأمم الأخرى يخلدون في النار، وهذا ليس بصحيح، فإن أصحاب الكبائر عموماً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو من غيرها من الأمم لا يخلدون في النار؛ بدليل العموم في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، وهذا عموم يشمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويشمل غيرها من الأمم، وقد جاء في بعض نسخ متن العقيدة الطحاوية بحذف (أمة محمد) يعني: جاء بلفظ: (وأهل الكبائر في النار لا يخلدون) بهذا العموم. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]]. وهذه الآية آية النساء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] دليل أيضاً على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار؛ لأنهم تحت المغفرة وتحت المشيئة. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته]. سبق أن تحدثنا عن الشفاعة، وأن المعتزلة لا يقرون بها، لا سيما شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وغيرهم من الملائكة والأنبياء لأهل الكبائر، فإن عندهم قاعدة: أنه إذا دخل أحد النار لا يخرج منها أبداً، وهذه مبنية على قاعدتهم في حكم مرتكب الكبيرة، فإن حكم مرتكب الكبيرة عندهم كافر، ويصبح من أهل النار، وحينئذٍ لا يخرج منها؛ لأنه كافر، ولا يدخل النار إلا الكفار وأهل ال

الصلاة خلف البر والفاجر

الصلاة خلف البر والفاجر قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وذلك بأن الله تعالى مولى أهل معرفته، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته، الذين خابوا من هدايته، ولم ينالوا من ولايته، اللهم يا ولي الإسلام وأهله! ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به. ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم]. الصلاة المقصود بها: صلاة الجماعة، يعني: أن الصلاة تصلى خلف البر والفاجر، وفي هذه الفقرة يمكن أن نبحث مسألة وهي: ما هو حكم الصلاة خلف المبتدع وخلف الفاسق؟ الأصل أن صلاة المبتدع والفاسق في ذاتها صحيحة، فما دام أنه يأتي بأركانها ويأتي بشروطها وواجباتها فهي صلاة صحيحة، ولكن الأولى هو ألا يصلى خلف المبتدع والفاسق، وهذا لا لأن صلاته باطلة؛ وإنما للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يجب على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بإنكار البدعة والذنوب والمعاصي، ومن إنكارها ترك الصلاة خلف أهلها، ولهذا فالمبتدع إذا صلى بالناس وأنت حاضر في المسجد لا بد أن تصلي وراءه؛ لأن صلاته صحيحة ولا إشكال فيها، والانصراف من الصف بسبب وجود مبتدع يصلي بالناس هذا بدعة في حد ذاتها. والسلف الصالح رضوان الله عليهم بدعوا الذي يترك الجمعة والجماعة بسبب ترك الصلاة خلف الفاسق والمبتدع فإن هذه بدعة في ذاتها، فقد ثبت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة خلف المبتدع وخلف الفاسق، فأما خلف الفاسق فيمكن الاستدلال بما رواه البخاري أن ابن عمر وأنس بن مالك صليا خلف الحجاج بن يوسف الثقفي وكان فاسقاً سفاحاً قتالاً للصالحين، ولم يكونوا يتركون صلاة الجماعة أو الجمعة لأن الحجاج هو الذي يصلي بالناس، فلا تترك الصلاة جماعة أو تترك الجمعة بسبب مبتدع يصلي بالناس. وأما إذا وجد مبتدع فالدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه جاء في يوم العيد فرقى مروان بن الحكم من أجل أن يخطب قبل الصلاة في يوم العيد، فأنكر عليه أحد الحضور وقال: ما هكذا السنة يا مروان! فقال له: يا فلان قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أما هذا فقد برئ يعني: أعذر إلى الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان) لكن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان بعد أن انتهى من خطبته ولم يترك الصلاة، وهذا مما يدل على أن السلف الصالح رضوان الله عليهم يرون أن المبتدع يصلى خلفه ويصلى خلف الفاسق؛ لأن صلاته صحيحة، ولا تترك الجمعة والجماعة بسبب صلاة المبتدع، وإذا تركها أحد أو خرج من الصف بعد أن كبر الإمام وهو مبتدع أو فاسق فهو مبتدع، فهذه بدعة لم يكن عليها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا إذا كانت بدعته مكفرة، فإذا كانت بدعته مكفرة فلا يجوز الصلاة خلفه؛ لأنه لا يكون مسلماً، والصلاة يشترط لها الإسلام، وحينئذٍ إذا كانت بدعته مكفرة لا تكون الصلاة خلفه جائزة أصلاً، ولا تكون صلاته هو نفسه صحيحة، وإنما صلاته باطلة. وهنا أحب الإشارة إلى قضية مهمة جداً وهي: قضية أن البدعة نوعان: بدعة مكفرة وبدعة ليست مكفرة، فالبدعة المكفرة هذه تدخل في عموم الكفريات، وأما البدعة غير المكفرة فهذه يكون صاحبها مسلماً له حق الإسلام والمسلمين؛ من رد السلام ومن تشميت العاطس ومن عيادته إذا مرض ونحو ذلك، لكن السلف الصالح رضوان الله عليهم عندما تكلموا عن أهل البدع ذكروا أنه لا يرد عليهم السلام، ولا يشمتون إذا عطسوا، ولا يعاد مرضاهم، ولا تتبع جنائزهم، ومقصودهم من ذلك هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والهجر قاعدته: أنه إذا كان الهجر نافعاً فإنه يهجر، لكن إذا كان الهجر ليس بنافع فلا يهجر، فمثلاً: بعض الناس قد يمر بمبتدع وهو لا يدري عنه أصلاً فلا يرد عليه السلام، يعني المبتدع مثلاً أشعري أو صوفي يسلم، فإذا سلم لا يرد عليه السلام، ويحتج بأقوال السلف، وهذا غير سليم وغير صحيح، نعم إذا كنت لم ترد عليه السلام قد يتأثر ويترك بدعته نقول: لا ترد عليه؛ حتى يتأثر ويترك بدعته، لكن إذا كان لا يتأثر ولا يعرفك ولا يدري من أنت ولا يدري لماذا أنت لم ترد فهذا ليس بصحيح أنك لا ترد السلام، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: - وذكر منها - عيادة المريض ورد السلام) وهذا مسلم، فلا يجوز أن يمتنع الإنسان من رد السلام أو من عيادة المريض أو نحو ذلك لهذا السبب، وبهذه الطريقة يفهم الإنسان نصوص السلف الصالح رضوان الله عليهم في هذا الباب. وقد أشرت في كلامي السابق إلى أن صلاة المبتدع في ذاتها صحيحة، وكذلك صلاة الفاسق في ذاتها صحيحة، وذكرنا أن الصلاة خلف المبتدع صحيحة، والصلاة خلف الفاسق صحيحة، لكن ترك الصلاة خلف المبتدع وخلف الفاسق أولى وأح

حكم هجر المبتدع

حكم هجر المبتدع وبالنسبة لقضية هجر المبتدع سبق أن بينت أن البدعة نوعان: بدعة مكفرة، وبدعة غير مكفرة، والمبتدع الذي بدعته مكفرة يتعامل معه معاملة الكفار، وأما إذا كانت بدعته ليست مكفرة فإنه يكون من المسلمين، فإذا كان من المسلمين فإنه ينطبق عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم خمس) فإن قوله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم خمس) يشمل الطائع ويشمل الفاسق ويشمل المبتدع، لكنه لا يشمل الكافر أو صاحب البدعة المكفرة، وحينئذٍ فيسلم على المبتدع ويرد عليه السلام، ويشمت إذا عطس، ويعاد إذا مرض، وكذلك يصلى على جنازته ما دام أنه مسلم؛ لهذا الدليل الذي سبق أن بيناه وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (حق المسلم على المسلم خمس) وهو مسلم، لكن إذا كان في هجره خير كرجوعه عن البدعة أو عزوف الناس عنه أو نحو ذلك فيهجر، فإذا كان في هجره خير للدين فإنه يهجر فمثلاً: إذا جاء إلى عالم من العلماء مبتدع أمام الناس ويريد أن يسلم عليه فأعرض عنه، فنظر الناس في هذه الصورة وتعجبوا وقالوا: أكيد أن هذا على ضلالة، وإلا فلن يعرض عنه فلان من العلماء، فيتركون عقيدته وما يقوله من أقوال، هذا العمل يعتبر عملاً جليلاً، وهو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا شيء فيه، بل إن الإنسان إذا كان مسموع الصوت مثل إنسان داعية أو مسموع الكلام وله تأثير على الناس ووجد مبتدعاً وأخذه بالأحضان وهو يعلم أنه إن فعل ذلك قد يغرر به أشخاص آخرين فنقول: هذا لا يجوز في حقه أن يعمل هذا؛ لأنه ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل إنه أغرى هؤلاء الناس باتباع سبيله، وطريقه وسبيله هي البدعة والعياذ بالله! فهذه قاعدة في هذه المسألة. وأذكر أني استمعت إلى محاضرة لأحد العلماء، وسأله أحد الشباب الذين يرون أن المبتدع بهذا العموم لا يسلم عليه ولا يعاد إذا مرض ولا يصلى على جنازته ولا يصلى وراءه، فقال له هذا الشاب: هل يجوز أن يترحم على فلان من أهل البدع؟ سمى شخصاً، فقال: أنا أريد أن أسألك هل هو مسلم؟ ففكر قليلاً، ثم قال: نعم مسلم، فقال: طيب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حق المسلم على المسلم خمس: - منها - رد السلام). فانظروا إلى الفقه العجيب عند هذا العالم، وانظروا تمام العلم وتمام الفقه عند هذا الشيخ وهذا الإمام؛ لأن بعض الناس تأخذه الحماسة عندما يقرأ في كتب السلف نصوصاً في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) لللاكائي، ويقرأ نصوصاً في (الشريعة) للآجري ولا يعرف ظروفها، ولا يعرف طبيعتها، ولا متى حصلت وكيف حصلت، ولا يعرف تفسيرها، ويريد أن يقلدها فيخطئ، فيحمل المسلم ما لا يحتمل، ويخالف النصوص الشرعية الصحيحة، وهذه قضية ينبغي أن تفهم على وجهها الصحيح، وألا ينفخ فيها، وألا يبالغ في شيءٍ من ذلك.

الحكم على المعين بالجنة والنار

الحكم على المعين بالجنة والنار قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً]. قوله: (ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً) المقصود بقوله: (منهم) يعني: من المسلمين من أهل القبلة، فلا يجوز لأحد أن يقول لأحد من أهل القبلة مات: هذا من أهل النار، كما لا يجوز أن يقول: هذا من أهل الجنة؛ لأن هذا من التعدي، فإنه ادعاء لما لم يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. إلا أن السلف رضوان الله عليهم اختلفوا في مسألة الشهادة بالجنة، فإن للسلف فيها أقوالاً، فبعضهم قال: نشهد بالجنة للأنبياء، ومن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهذا هو الصحيح، وهو الذي عليه الأكثر. وبعضهم قال: إن من شهد له المسلمون بالصلاح والتقوى فنشهد له كذلك، ويستدل على ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءت الجنازة الأولى فأثنوا عليها خيراً فقال: وجبت، فلما جاءت الثانية أثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقالوا: ما وجبت؟ فقال: (هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار؛ أنتم شهداء الله في أرضه). وأما الكفار الذين لا شبهة في كفرهم، يعني: لا ينتسبون إلى الإسلام بوجه من الوجوه مثل اليهود والنصارى والوثنيين فهؤلاء إذا ماتوا يصح للإنسان أن يشهد لهم بالنار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار) ويقول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] ثم قال: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114] يقول ابن عباس: تبين له أنه عدو لله لما مات، لكن قبل أن يموت كان يدعو له؛ لعل الله عز وجل أن يهديه، فلما مات تبين له أنه عدو لله، فترك الدعاء له.

الكلام على التكفير والتفسيق

الكلام على التكفير والتفسيق قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق]. يعني: أهل القبلة، فلا ينبغي للإنسان أن يتعجل، فبمجرد أن يفعل أحد من أهل القبلة فعلاً أو يقول قولاً يتعجل في تكفيره أو تفسيقه أو تبديعه أو نحو ذلك، فالتعجل لا شك أنه خطأ، ولا ينبغي للإنسان أن يتعجل في الحكم على الناس، وإنما عليه التأني، وعليه إحسان الظن في المسلمين، وأما البدعة في ذاتها فهي تنكر، فتنكر البدعة في ذاتها وينكر الشرك في ذاته، سواءً قال به فلان أو لم يقل به، لكن المقصود هنا: الحكم على الناس، وإن كان الحكم على الناس أصلاً ليس مقصوداً للمصلح، وإنما المقصود هو تبيين الصراط المستقيم للناس وحملهم عليه، وتبيين صراط الضالين وتنفير الناس منه، وفي هذا تكثير لأهل الصراط المستقيم وتقليل لأهل الباطل، وهذا هو حق أصل الدعوة التي ينبغي أن يكون عليها الدعاة والمصلحون. قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيءٌ من ذلك]. يعني: فإذا ظهر ذلك ووجدت شروطه وانتفت موانعه فإنه تحصل الشهادة عليهم بأي واحدة من هذه، لكن بالضوابط الشرعية بعيداً عن الاستعجال ونحوه. قال رحمه الله: [ونذر سرائرهم إلى الله تعالى]. يعني: لا يجوز أن يحكم أحد على نيات الناس، فلا يجوز أن يحكم أحد على نية فلان أنه يريد كذا، وأن فلاناً يريد كذا، وإنما يحكم على الإنسان إما بقوله الصريح، وإما بلازم قوله الواضح الذي ليس فيه إشكال.

مذهب أهل السنة في قتال المسلم

مذهب أهل السنة في قتال المسلم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا نرى السيف على أحدٍ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من وجب عليه السيف]. يعني: لا نرى القتل والقتال إلا على من وجب عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فالثيب الزاني يقتل بالرجم، والنفس بالنفس يقتل؛ لأنه قاتل، والتارك لدينه المفارق للجماعة يقتل لهذا السبب، ومن التارك لدينه المفارق للجماعة تارك الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم) هذه رواية ابن عمر؛ وهي أتم رواية في هذا الباب.

مذهب أهل السنة في التعامل مع الحكام والولاة

مذهب أهل السنة في التعامل مع الحكام والولاة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة]. وهذا يدل عليه قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ} [النساء:59] ومن أوفى الأدلة في هذا الموضوع حديث عوف بن مالك الذي رواه مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيار أئمتكم - يعني: حكامكم - الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم) والمقصود بقوله: (تصلون عليهم): تثنون عليهم وتمدحونهم ويمدحونكم بالحق وليس بالباطل، قال: (وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، فقلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟) يعني: نخرج عليهم بالسيف ونقاتلهم ما دام أنهم أشرار وما دام أنهم فجار، فقال: (لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة) والخروج على الولاة الذين يخطئون لا يجوز؛ لدلالة هذه النصوص، ويجب طاعة ولاة الأمر إلا في معصية الله، فإنهم إذا عصوا الله عز وجل لا يجوز طاعتهم، ولا يجوز الاستماع لهم بأي وجه من الوجوه، كما هو ظاهر الحديث الذي سبق أن بيناه. وأما الخروج عليهم بالسيف بسبب فسق فإنه لا يجوز، وهي طريقة غير سليمة، وهي مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

الطوائف التي ترى الخروج على الولاة

الطوائف التي ترى الخروج على الولاة والذين يرون الخروج على الولاة ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: الخوارج، وهم الذين يكفرون الولاة بسبب ذنب من الذنوب، ويكفرون المسلمين، وهؤلاء الخوارج الذين يكفرون بسبب الذنوب لا شك أنهم من أهل البدع، وقد سبق أن بينا أنهم كلاب أهل النار، كما في الحديث. الطائفة الثانية: قطاع الطرق الذين يخرجون على الحاكم إذا كانت لهم شوكة من أجل الفساد في الأرض، وهؤلاء تنطبق فيهم آية المحاربين المشهورة، وعقوبتهم بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، كما أخبر الله سبحانه وتعالى. الطائفة الثالثة: البغاة، والبغاة هم طائفة لهم شوكة ولهم قوة ولهم منعة يخرجون على السلطان بتأويل، يعني: بسبب من الأسباب؛ إما لمظلمة من المظالم أو لأنه عصى أو لأنه جائر أو لأنه ظالم أو لأنه فاسق أو لأي سبب من الأسباب، فهؤلاء يسمون البغاة، وهؤلاء ترفع عنهم شبهتهم ويناقشون، فإن لم يرجعوا يقاتلون، وهؤلاء يشملهم قول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9]. وهناك فرق بين الخوارج وبين البغاة؛ فإن الخوارج هم الذين يخرجون ويكفرون الناس بالذنوب، وهؤلاء فرقة ضالة مبتدعة، وأما البغاة فهم الذين يخرجون وهم من أهل السنة، لكن عندهم تأويل سائغ كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري)، فمثل هؤلاء تنطبق عليهم آية الحجرات التي سبق أن بيناها.

وجوب لزوم السنة ومجانبة الشذوذ والخلاف والفرقة

وجوب لزوم السنة ومجانبة الشذوذ والخلاف والفرقة قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونتبع السنة والجماعة، ونجتب الشذوذ والخلاف والفرقة]. والكلام في هذا يطول، وربما سبق شيءٌ منه، والواجب أن يتبع الإنسان السنة لا يتعصب إلا للسنة، ولا يتحمس إلا لها ولا يجتهد إلا لها، ويبتعد كل البعد عن الفرقة وعن الاختلاف وعن الشذوذ ونحو ذلك.

محبة أهل العدل وبغض أهل الجور

محبة أهل العدل وبغض أهل الجور ثم قال رحمه الله تعالى: [ونحب أهل العدل والأمانة، ونبغض أهل الجور والخيانة]. وحقيقة أن هذه الفقرات فيها معان عظيمة، لكن المقام لا يكفي لتفصيل ما فيها، وإنما يكفي ما أشرنا إليه.

خطر التجرؤ على أحكام الله عز وجل بغير علم

خطر التجرؤ على أحكام الله عز وجل بغير علم قال رحمه الله: [ونقول: الله أعلم، فيما اشتبه علينا علمه]. يعني: لا يتجرأ الإنسان على أحكام الله عز وجل فيتكلم فيها بغير وجه حق، فإن الله عز وجل قرن بين الشرك وبين القول على الله بغير علم، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].

مذهب أهل السنة في المسح على الخفين

مذهب أهل السنة في المسح على الخفين قال رحمه الله تعالى: [ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر، كما جاء في الأثر]. والمسح على الخفين يعتبر من قضايا الاعتقاد، ولهذا يذكر في كتب الاعتقاد؛ لأن الروافض والشيعة لا يرون المسح على الخفين، وإنما يخالفون ذلك ويرون مسح الرجل مباشرة، والمسح على الخفين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، ولهم شبهة في ذلك لا يتسع المجال لشرحها.

§1/1