شرح الزركشي على مختصر الخرقي

الزركشي، شمس الدين

كتاب الطهارة

[كتاب الطهارة] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ اللهم صل على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم، اللهم يسر، وأعن يا كريم. قال الشيخ الإمام، العالم العلامة، المحقق المتقن، شيخ الإسلام والمسلمين، وحيد دهره، وفريد عصره، ناصر السنة، وقامع البدعة، أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عبد الله الزركشي الحنبلي تغمده الله تعالى برحمته [وأسكنه فسيح جنته] : كتاب الطهارة «كتاب» خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا كتاب الطهارة. وهو مصدر سمي به المكتوب، كالخلق سمي به المخلوق، والكتب في اللغة الجمع، قال سالم بن دارة: لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكتبها بأسيار

أي اجمعها بأسيار، والقلوص في الإبل بمنزلة الجارية في الناس، فكتاب الطهارة هو الجامع لأحكام الطهارة، من بيان ما يتطهر به، وما يتطهر له، وما يجب أن يتطهر منه إلى غير ذلك. والطهارة في اللغة النظافة والنزاهة عن الأقذار، ومادة (نزه) ترجع إلى البعد: 1 - وفي الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل على مريض قال: «لا بأس طهور إن شاء الله» أي مطهر من الذنوب، والذنوب أقذار معنوية. وفي اصطلاح الفقهاء - قال أبو محمد -: رفع ما يمنع الصلاة

من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتراب. وأورد على عكسه الحجر وما في معناه في الاستنجاء، ودلك النعل، وذيل المرأة، على قول، فإن تقييده بالماء والتراب يخرج ذلك، وأيضا نجاسة تصح الصلاة معها فإن زوالها طهارة ولا تمنع الصلاة، وأيضا الأغسال المستحبة، والتجديد، والغسلة الثانية، والثالثة، فإنها طهارة ولا تمنع الصلاة، ثم يحتاج أن يقيد الماء والتراب بكونهما طهورين، وقد أجيب عن الأغسال المستحبة ونحوها بأن الطهارة في الأصل إنما هي لرفع شيء، إذ هي مصدر: طهر. وذلك يقتضي رفع شيء، فإطلاق الطهارة على الوضوء المجدد، والغسل المستحب مجاز لمشابهته الوضوء الرافع في الصورة، وابن أبي الفتح لما استشعر هذا زاد بعد «ما يمنع الصلاة» وما أشبهه. لتدخل الأغسال المستحبة ونحوها، وهو على ما فيه من الإجمال يوهم أن: من حدث أو نجاسة. بيان لما أشبهه، وليس كذلك وإنما هو لبيان ما يمنع الصلاة، وحدها بعض متأخري البغاددة بأنها: استعمال الطهور في محل التطهير على الوجه المشروع. ولا يخفى

باب ما تكون به الطهارة من الماء

أن فيه زيادة، مع أنه حد للتطهير، لا للطهارة، فهو غير مطابق للمحدود، وقد حدت بحدود كثيرة يطول ذكرها والكلام عليها، والله أعلم. قال: [باب ما تكون به الطهارة من الماء] ش: أي هذا باب. و «كان» هنا تامة، لأنها بمعنى الحصول والحدث، أي ما تحصل به الطهارة، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] على القراءة المشهورة، أي إن وجد ذو عسرة، أو حصل ذو عسرة، والباب ما يدخل منه إلى المقصود، ويتوصل به إلى الاطلاع عليه. قال: والطهارة بالماء الطاهر المطلق، الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره، مثل ماء الباقلاء، وماء الحمص، وماء الورد، وماء الزعفران، وما أشبهها مما لا يزايل اسمه اسم الماء في وقت ش: الألف واللام للاستغراق، والجار والمجرور خبر الطهارة، وهو متعلق بمحذوف، وذلك المحذوف في الحقيقة هو الخبر، والتقدير: كل طهارة حاصلة أو كائنة بالماء. والطاهر «ما ليس بنجس» ، «والمطلق» غير المقيد، وقد بينه وأوضحه بقوله: الذي لا يضاف إلى اسم شيء غيره ثم مثل للذي يضاف إلى اسم شيء

غيره بماء الباقلاء، وهو الفول، وماء الورد، وماء الحمص، وماء الزعفران، وما أشبه هذه الأشياء، كماء القرنفل، وماء العصفر، ونحو ذلك مما لا يفارق اسمه اسم الماء في وقت. واحترز بذلك عن إضافة مفارقة في وقت كماء النهر و [ماء] البحر ونحو ذلك، لأن إضافته تزول بمفارقته، فوجود هذه الإضافة كعدمها، هذا حل لفظه. وأما الأحكام المستنبطة منه فقد (دل منطوقه) على أن كل طهارة - سواء كانت طهارة حدث أو خبث - تحصل بكل ماء هذه صفته سواء نزل من السماء، أو نبع من الأرض على أي صفة خلق عليها، من بياض وصفرة، وسواد، وحرارة وبرودة، إلى غير ذلك، قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] وهذا وإن كان نكرة في سياق الإثبات لكنه في سياق الامتنان، فيعم كل ماء. 2 - وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سأل رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» رواه الخمسة وصححه غير واحد من الأئمة.

3 - «وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - في بئر بضاعة: «الماء طهور لا ينجسه شيء» قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح. 4 - «وأمر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسماء بنت عميس أن تغسل دم الحيض بالماء» . 5 - وقال: «صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء» . ودل مفهومه على مسائل: (الأولى) أن جميع الطهارات لا تجوز بغير الماء، من دهن، وخل، ونبيذ، ونحو ذلك، أما في طهارة الأحداث فلقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] فنقلنا عند عدم الماء إلى التيمم.

6 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته» رواه أحمد والترمذي وصححه. 7 - وأما في طهارة الأنجاس فلما «روى أبو ثعلبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا رسول الله إنا بأرض أهل كتاب، فنطبخ في قدورهم ونشرب بآنيتهم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء» . رواه الترمذي وصححه والرحض الغسل وأمر أسماء أن تغسل دم الحيض بالماء. (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على زوال النجاسة بكل مائع طاهر مزيل، كالخل ونحوه، إذ المقصود زوال العين، (وعنه) زوالها بالطاهر غير المطهر، نظرا لإطلاق حديثي أبي ثعلبة وأسماء. وعلى الأولى - وهي المذهب بلا ريب - يجوز استعماله في النجاسة تخفيفا لها، ويستثنى من هذا المفهوم ما يتيمم به، فإنه مطهر وليس بماء، وكذلك ما يستنجى به، وأسفل الخف إذا دلك، وذيل المرأة على قول في الثلاثة وقد يقال: لا يرد عليه التيمم، لأن كلامه في طهارة رافعة للحدث، وطهارة التيمم مبيحة، لا رافعة،

حكم الماء إذا تغير أحد أوصافه

والحجر في الاستنجاء ونحوه ليس بمطهر على المشهور، ويكون ذلك مأخوذا من كلام الخرقي وظاهر كلامه. (المسألة الثانية) أن الطهارة لا تصح بماء نجس لتقييده الماء بالطاهر، وهو واضح. (المسألة الثالثة) أن الطهارة لا تصح بغير الماء المطلق، فلا تصح بماء مضاف إضافة لازمة، ويأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك في المسألة الآتية بعد، والله أعلم. [حكم الماء إذا تغير أحد أوصافه] قال: وما سقط فيه مما ذكرنا أو غيره، وكان يسيرا فلم يوجد له طعم، ولا لون ولا رائحة كثيرة حتى ينسب الماء إليه توضئ به ش: ما سقط في الماء مما ذكره من الباقلاء، والزعفران، والورد، والحمص، أو غيره من الطاهرات كالعصفر، والملح الجبلي، وورق الشجر إذا وضع فيه قصدا، ونحو ذلك، وكان الواقع يسيرا، فلم يوجد للواقع في الماء طعم، ولا لون، ولا رائحة، حتى أنه بسبب ذلك يضاف الماء إليه، فيقال: ماء زعفران، ونحو ذلك، فهو باق على إطلاقه فيتوضأ به، لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ونحو ذلك. 8 - وقد ثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل هو وزوجته من جفنة فيها أثر عجين» . ومفهوم كلام الخرقي أنه متى وجد للواقع لون، أو طعم أو رائحة كثيرة، بحيث صار الماء يضاف إليه، زالت طهوريته، ومنع التوضؤ به، وهو إحدى الروايات، اختارها أكثر

الأصحاب لخروجه عن الماء المطلق، فلم يتناوله قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ودليل ذلك لو وكله أن يشتري له ماء، فاشترى له هذا الماء المتغير لم يكن ممتثلا. (والرواية الثانية) - وهي الأشهر نقلا، وإليها ميل أبي محمد - هو باق على طهوريته، لأن (ماء) من قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] نكرة في سياق النفي، فيشمل كل ماء، إلا ما خصه الدليل، (والرواية الثالثة) أنه طهور بشرط أن لا يجد غيره، وحيث أثر التغيير فإنما هو إذا كان كثيرا، فإن كان يسيرا فثلاثة أوجه، ثالثها - وهو اختيار الخرقي - يعفى عن يسير الرائحة، لأن تأثيرها عن مجاورة، بخلاف غيرها، وإنما قيد الخرقي الواقع بكونه يسيرا إجراء على الغالب، إذ الغالب أن الواقع متى كان كثيرا أثر في الماء، وأزال طهوريته على مختاره، ومحل الخلاف مع بقاء اسم الماء، أما مع زوال الاسم - كما إذا صيره الواقع حبرا، أو خلا، أو طبيخا، ونحو ذلك - فإن طهوريته تزول بلا ريب. ويدخل في عموم المفهوم التراب المطروح فيه عمدا، وهو أحد الوجهين (والثاني) - وبه قطع العامة - لا يؤثر شيئا، (نعم) إن ثخن بحيث لا يجري على الأعضاء أثر، لخروجه عن اسم الماء، وأجرى ابن حمدان الوجهين في الملح البحري أيضا.

الوضوء بالماء المستعمل

ويدخل فيه أيضا إذا كان الواقع لا يخالط الماء، كقطع العود، والكافور والخشب والدهن والشمع، ونحو ذلك، وهو أحد الوجهين، واختيار أبي الخطاب في انتصاره وأبي البركات (والثاني) - وهو اختيار جمهور الأصحاب - لا يؤثر وقوعه ولو غير الماء، لأنه تغيير مجاورة لا مخالطة، أشبه ما لو تغير بجيفة إلى جنبه. ويستثنى من مفهوم كلام الخرقي واقع يشق الاحتراز عنه، كورق الشجر، وما تلقيه الرياح والسيول من العيدان ونحو ذلك، فإنه لا يؤثر وقوعه في الماء وإن غير جميع أوصافه، صرح به الشيرازي وكذلك الملح البحري، والله أعلم. [الوضوء بالماء المستعمل] قال: ولا يتوضأ بماء قد توضئ به ش: هذا هو المشهور من المذهب، وعليه عامة الأصحاب. 9 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» فقال الراوي: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولا. رواه مسلم والنسائي

ولولا أن الغسل فيه لا يجزئ، وأن طهوريته تزول لم ينه عن ذلك، ولأنه أزال به مانعا من الصلاة، أشبه الماء المزال به النجاسة، أو استعمل في عبادة على وجه الإتلاف، أشبه الرقبة في الكفارة، وعلى هذه الرواية هو طاهر في نفسه، يجوز شربه والعجن به، والطبخ به. 10 - لأن في الصحيحين «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ وصب على جابر من وضوئه» والأصل المساواة، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه نجس، نص عليها، وتأولها القاضي وبعد ابن عقيل تأويله، والحق امتناعه و (عنه) رواية ثالثة: أنه باق على طهوريته. 11 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «اغتسل بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جفنة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت: يا رسول الله إني كنت جنبا. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الماء لا يجنب» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي.

وقال بعض المتأخرين: ظاهر كلام الخرقي أنه طهور في إزالة الخبث فقط لأنه إنما منع من الوضوء به. وليس بشيء، وحكم ما اغتسل به من الجنابة ونحوها حكم ما توضئ به. وقد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما توضئ به في طهر مستحب، كتجديد ونحوه، وهو إحدى الروايتين، واختيار ابن عبدوس بناء

على أن العلة ثم استعماله في عبادة، (والثانية) - واختارها أبو البركات - أنه باق على طهوريته، بناء على أن العلة ثم إزالة المانع، وعكس ذلك المنفصل من غسل الذمية، في حيض ونحوه، هل يخرجه عن طهوريته لإزالته المانع وهو الوطء، أو لا يخرجه، لعدم استعماله في عبادة؟ على روايتين. واعلم أن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خرج على الغالب، إذ يندر أن الإنسان يتوضأ بقلتي ماء، فلو اتفق ذلك لم يخرجه عن طهوريته بلا نزاع، والله أعلم. قال: وإذا كان الماء قلتين - وهو خمس قرب - فوقعت فيه نجاسة، فلم يوجد لها طعم ولا لون ولا رائحة، فهو طاهر. ش: القلة اسم لكل ما ارتفع وعلا، ومنه «قلة الجبل» وهي هنا الجرة الكبيرة، سميت قلة لعلوها وارتفاعها، وقيل: لأن الرجل العظيم يقلها بيده أي يرفعها، ثم المراد هنا القلال المنسوبة إلى هجر. 12 - لأن في بعض ألفاظ الحديث: «إذا كان الماء قلتين بقلال هجر» ذكره الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في مسنده، والدارقطني مرسلا

ولأنها كانت مشهورة معلومة، فالظاهر وقوع التحديد بها. 13 - ولهذا في حديث المعراج قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم رفعت لي سدرة المنتهى، فإذا ورقها مثل آذان الفيلة، وإذا نبقها مثل قلال هجر» واختلف في مقدار القلة من ذلك، فقال الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو المشهور من الروايات، والمختار للأصحاب -: إنها قربتان ونصف. 14 - لأن ابن جريج قال: رأيت قلال هجر، فرأيت القلة منها تسع قربتين، أو قربتين وشيئا فالاحتياط إثبات الشيء، وجعله نصفا، لأنه أقصى ما ينطلق عليه اسم (شيء) منكرا. (والرواية الثانية) أنها قربتان. 15 - لأن يحيى بن عقيل قال: رأيت قلال هجر، وأظن أن القلة

تأخذ قربتين. رواه الجوزجاني ونحوه عن ابن جريج. (والثالثة) قربتان وثلث، جعلا للشيء ثلثا، ومقدار القربة عند القائلين بتحديد الماء بالقرب - مائة رطل عراقية، والرطل العراقي مائة وثمانية وعشرون درهما، قاله في المغني القديم، وعزاه إلى أبي عبيد وقيل: وثلاثة أسباع درهم؛ ذكره في التلخيص

وقيل: وأربعة أسباع. قاله في المغني الجديد، وهو المشهور وقيل: وثلاثون درهما. إذا تقرر هذا فقد دل منطوق كلام الخرقي على أن النجاسة إذا وقعت في القلتين المذكورتين، ولم يتغير وصف من أوصاف الماء فهو طاهر، ولا نزاع عندنا في ذلك في غير البول والعذرة المائعة. 16 - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الماء وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال: «إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث» وفي لفظ: «لم ينجسه شيء» رواه الخمسة، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني. وقال الحاكم: إنه على شرط الشيخين.

17 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل: يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر - يلقى فيها الحيض، والنتن، ولحوم الكلاب - قال: «إن الماء طهور لا ينجسه شيء» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، وأحمد وصححه. ودل مفهومه على مسألتين (إحداهما) أن الماء ينجس بتغير وصف من أوصافه وإن كثر، ولا نزاع في ذلك، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا.

18 - وقد روى أبو أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه» رواه ابن ماجه، والدارقطني، ولفظه: «إلا ما غير ريحه أو طعمه» إلا أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: هذا الحديث لا يثبت أهل العلم مثله، إلا أنه قول العامة، لا أعرف بينهم فيه خلافا، وكذلك قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس فيه حديث، ولكن الله تعالى حرم الميتة، فإذا صارت الميتة في الماء فتغير طعمه أو ريحه، فذلك طعم الميتة أو ريحها، فلا تحل له. وقال أبو حاتم الرازي: الصحيح أنه مرسل قلت: وإذا يسهل الأمر.

وظاهر كلام الخرقي (أنه) لا فرق بين يسير التغير وكثيره وشذ ابن البنا فحكى وجها في العفو عن يسير الرائحة. (المسألة الثانية) ، أن ما دون القلتين ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه وإن لم يتغير، وهو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، لمفهوم خبر القلتين، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بإراقة الإناء الذي ولغ فيه الكلب ولم يعتبر التغير، (والثانية) : لا ينجس إلا بالتغير، اختارها ابن عقيل، وابن المثنى وأبو العباس، وابن الجوزي فيما أظن لخبر بئر بضاعة، ويرشحه

حديث أبي أمامة، وخبر القلتين قد تكلم فيه ابن عبد البر وابن عدي وغيرهما، وعلى تقدير صحته فالتقدير بهما - والله أعلم - بناء على الغالب، إذ الغالب أن ما دون القلتين يظهر فيه الخبث، ويؤثر فيه فيغيره، بخلاف القلتين فإن الغالب عدم تأثرهما وتغيرهما بورود الدواب والسباع ونحو ذلك عليهما. وعموم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يشمل الراكد والجاري، وهو إحدى الروايات، واختارها السامري وغيره، فعلى هذا إن بلغ مجموع الجاري قلتين لم ينجس إلا بالتغير، وإلا نجس، (والرواية الثانية) أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير، اختارها

الشيخان (والثالثة) وهي اختيار الأكثرين، القاضي وأصحابه تعتبر كل جرية بنفسها، فإن كانت يسيرة نجست وإلا فلا، ثم الجرية عند الأكثرين ما أحاط بالنجاسة، فوقها وتحتها إلى قرار النهر، وعن يمينها وشمالها ما بين جانبي النهر، وزاد أبو محمد: ما قرب من النجاسة أمامها وخلفها. ولابن عقيل في فنونه أنها ما فيه النجاسة، وقدر مساحتها فوقها وتحتها، ويمينها ويسارها. انتهى. وقول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فوقعت فيه نجاسة. يخرج به ما إذا كانت النجاسة إلى جنبه كميتة ونحوها، فإنها لا تؤثر فيه شيئا، إذ ذاك تغير مجاورة لا مخالطة، ويخرج بذلك أيضا ما إذا سخن بنجاسة، ولم يعلم وصول شيء من أجزاء النجاسة إليه، فإن طهوريته باقية بلا خلاف نعلمه، نعم في كراهيته روايتان (إحداهما) واختارها ابن حامد: لا يكره نظرا للأصل (والثانية) - واختارها الأكثرون - يكره، ولها

حكم الطهارة بالماء الذي خالطه مائع

مأخذان (أحدهما) احتمال وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء، وإذا يرتاب فيه. 19 - فيدخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» فعلى هذا إذا كان الحائل حصينا، وعلم عدم وصول شيء من أجزاء النجاسة إلى الماء لم يكره، وهذا اختيار أبي جعفر، وابن عقيل، (والثاني) استعمال الوقود النجس، لأن هذه الصفة التي حصلت فيه، حصلت بفعل محرم أو مكروه، على اختلاف الأصحاب في استعمال ذلك، فأثرت فيه منعا، وعلى هذا يكره وإن كان الحائل حصينا، وهو اختيار القاضي، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أومأ إلى التعليل بكل منهما. (تنبيه) : قد تقدم بيان القلة و «لم يحمل الخبث» ، أي يدفعه عن نفسه، كما يقال: فلان لا يحمل الضيم. إذا كان يأباه ويدفعه عنه، (والريب) الشك، تقول: وابني فلان. إذا علمت منه الريبة، وأرابني. إذا أوهمني الريبة والله أعلم. [حكم الطهارة بالماء الذي خالطه مائع] قال: إلا أن تكون النجاسة بولا أو عذرة مائعة فإنه ينجس، إلا أن يكون الماء مثل المصانع التي بطريق مكة، وما أشبهها

من المياه الكثيرة التي لا يمكن نزحها، فذلك الذي لا ينجسه شيء. ش: هذا مستثنى من منطوق المسألة السابقة، وهو أن الماء إذا كان قلتين فوقعت فيه نجاسة لم ينجس إلا بالتغير، فاستثنى من ذلك إذا كانت النجاسة بولا أو عذرة مائعة، فإنه ينجس وإن لم يتغير، إن لم يبلغ الماء حدا يشق معه نزحه، وهذا أشهر الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقلا، واختارها الأكثرون. قال القاضي: اختارها الخرقي، وشيوخ أصحابنا. وقال أبو العباس: اختارها أكثر المتقدمين. قلت: وأكثر المتوسطين، كالقاضي، والشريف وابن البنا، وابن عبدوس، وغيرهم. 20 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه» وفي رواية: «ثم يغتسل منه» متفق عليه، وهو شامل للقليل والكثير، خرج منه ما يشق نزحه اتفاقا، فما عداه يبقى على قضية العموم، ويحمل خبر القلتين على غير البول. (والثانية) أن حكم البول والعذرة حكم غيرهما، اختارها ابن عقيل، وأبو الخطاب والشيخان، وقال أبو العباس: اختارها أكثر المتأخرين وقال السامري: وعليها التفريع، لحديثي القلتين،

وبئر بضاعة، أما ما يشق نزحه فلا ينجس إلا بالتغير إجماعا. (تنبيهان) : (أحدهما) قال أبو محمد: لم أجد عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا عن أحد من أصحابه تقدير ذلك بأكثر من المصانع التي بطريق مكة. وقال الشيرازي: ذكر المحققون من أصحابنا أن ذلك يقدر ببئر بضاعة، وكان قدر الماء فيها ستة أشبار في ستة أشبار. انتهى. قال أبو داود: قدرت بئر بضاعة بردائي، فمددته عليها ثم ذرعته، فإذا عرضها ستة أذرع. ومراد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالبول بول الآدميين، بقرينة ذكره العذرة، فإنها خاصة بالآدميين، مع أن لنا وجها أن غير بول الآدمي كبوله، وحكم العذرة الرطبة حكم المائعة، لاشتراكهما في السريان. (الثاني) : «الماء الدائم» الواقف، لأنه قد دام في مكانه وسكن، والله أعلم.

قال: وإذا مات في الماء اليسير ما ليست له نفس سائلة - مثل الذباب، والعقرب، والخنفساء، وما أشبهها - فلا ينجسه. ش: النفس السائلة الدم السائل، قال ابن أبي الفتح: سمي الدم نفسا لنفاسته في البدن. وقال الزمخشري: النفس ذات الشيء وحقيقته، يقال: عندي كذا نفسا. ثم قيل للقلب نفسا لأن النفس به، ألا ترى إلى قولهم: المرء بأصغريه. وكذا الروح والدم نفس لأن قوامها بالدم انتهى. والحيوانات على ضربين (أحدهما) ما ليس له نفس سائلة، كالذباب، والعقرب، والخنفساء، والزنبور، والنمل، والقمل، والسرطان، ونحو ذلك، وكذلك الوزغ، ودود القز في وجه فيهما، فلا ينجس الماء إذا مات فيه، ما لم يكن متولدا من النجاسات، لأنه لا ينجس بالموت على المشهور المعروف من الروايتين، وإذا لم ينجس بالموت لا ينجس الماء بالموت فيه. 21 - ودليل عدم نجاسته بالموت ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاء، وفي الآخر داء» رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، ولأحمد، والنسائي، وابن

ماجه، من حديث أبي سعيد نحوه والظاهر أنه يموت بغمسه لا سيما إذا كان الطعام حارا فإنه لا يكاد يعيش غالبا، ولو نجس الطعام لأفسده، فيكون أمرا بإفساد الطعام، وهو خلاف ما قصده الشارع، إذ قصد بغمسه دفع مضرة حصلت فيه، كما شهد به التعليل، لا إفساده بالكلية، ولأن الله تعالى إنما حرم الدم المسفوح، وهذا ليس بمسفوح (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى بنجاسة ذلك بالموت، فيكون حكمه إذا مات في الماء حكم غيره من النجاسات، وقيد ابن حمدان ذلك

بما إذا أمكن التحرز منه غالبا، وفيه نظر، أما إن تولد من النجاسات - كصراصير الكنيف - فهو نجس حيا وميتا، بناء على المذهب من أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة، ولا يرد هذا على الخرقي، لأن موته لم يؤثر فيه شيئا، بل هو باق على ما كان عليه. (الضرب الثاني) ، ما له نفس سائلة، وهو على ضربين أيضا (أحدهما) ما كان نجسا في حال الحياة، وهو واضح، إذ موته لا يزيده إلا خبثا (الثاني) ما كان طاهرا في الحياة، وهو على ثلاثة أنواع: (أحدها) السمك وما في معناه مما لا يعيش إلا في الماء، فإن ميتته طاهرة، وإن كان طافيا على المعروف، وكذلك الجراد وإن لم يكبس ولم يطبخ، على المذهب. 22 - بدليل ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أحلت لنا ميتتان ودمان، السمك والجراد، والكبد والطحال» . (الثاني) الآدمي، وميتته طاهرة على الصحيح من الروايتين.

23 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن المؤمن لا ينجس» . 24 - وفي حديث حذيفة: «إن «المسلم لا ينجس» وكلاهما في الصحيح وهما شاملان للحياة والموت. 25 - وقال البخاري: قال ابن عباس: المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا. (والثانية) نجسة ما عدا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتنجس الماء اليسير، قياسا على غيرها مما له نفس سائلة، وقيل بتنجيس ميتة الكافر دون المؤمن، عملا بقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلم لا ينجس» وهذان النوعان يردان على مفهوم كلام الخرقي على المذهب، وقد يقول بنجاسة الآدمي بالموت، فيرد عليه النوع الأول فقط. (النوع الثالث) ما عدا هذين من حيوانات البر الطاهرة، مأكولا كان أو غير مأكول، وحيوانات البحر الذي يعيش في البر، فإن ميتته نجسة، فينجس الماء اليسير، لعموم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} [البقرة: 173] . وتقييد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الماء باليسير لأنه الذي ينجس بمجرد الملاقاة على المذهب، أما لو كان كثيرا فإنه لا ينجس إلا بالتغير، والغالب أن مجرد موت الحيوان في الماء الكثير لا يغيره.

الوضوء بسؤر غير مأكول اللحم

(تنبيه) : «الذباب» هذا الحيوان المعروف، مفرد، جمع القلة منه أذبة، والكثير ذباب، ولا يقال: ذبابة. قاله غير واحد، والله أعلم. [الوضوء بسؤر غير مأكول اللحم] قال: ولا يتوضأ بسؤر كل بهيمة لا يؤكل لحمها، إلا السنور، وما دونها في الخلقة. ش: السؤر - مهموز - بقية طعام الحيوان وشرابه، وسؤر الحيوان مبني عليه، فإن كان الحيوان طاهرا فهو طاهر، وإن كان نجسا فهو نجس، وإن لم يتغير، بناء على المذهب من تنجيس الماء القليل بمجرد الملاقاة، وهو الغالب على السؤر، ولهذا أطلق الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. أما إذا كان السؤر كثيرا فإنه لا ينجس إلا بالتغير. إذا عرف هذا فالحيوان على ضربين (بهم) جمع بهيمة وهو ما عدا الآدمي (والآدمي) وهذا الضرب لم يتعرض الخرقي للحكم عليه بنفي ولا إثبات، وحكمه أنه طاهر في الجملة، مسلما كان أو كافرا، طاهرا أو محدثا، وكذلك سؤره، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن المؤمن لا ينجس» . 26 - وفي الصحيح «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت تشرب من الإناء، فيضع فاه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على موضع فيها.» ويستثنى من ذلك سؤر المجوسي والوثني ومن في معناهما من ذمي يتظاهر بشرب الخمر أو أكل الخنزير، أو من مسلم مدمن لشرب الخمر، أو لتناول النجاسات، فإن سؤر هؤلاء نجس، على رواية مشهورة، مختارة لكثير من الأصحاب تغليبا للظاهر على حكم الأصل.

27 - وعليه يحمل حديث أبي ثعلبة المتقدم، وقد جاء ذلك مصرحا فيه وحكى في التلخيص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى بتنجيس سؤر الكافر مطلقا. والضرب الأول الذي حكم عليه الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ضربين أيضا، مأكول وغير مأكول، فالمأكول كله طاهر في الجملة إجماعا حكاه ابن المنذر وغيره، فيكون سؤره كذلك، كما اقتضاه مفهوم كلام الخرقي. وهل يستثنى من ذلك الجلالة - وهي التي تأكل العذرة - بناء على نجاستها إذا أولا - وهو مقتضى عموم مفهوم كلام الخرقي - نظرا لأصلها؟ على روايتين. وغير المأكول على ثلاثة أضرب (أحدها) طاهر، وهو السنور - ويسمى الضيون - بضاد معجمة، وياء مثناة من تحتها، ونون - والهر والقط - وما دونه في الخلقة، كابن عرس والفأرة ونحو ذلك، فهو طاهر، وكذلك سؤره كما شهد بذلك النص.

28 - «فعن كبشة بنت كعب بن مالك - وكانت تحت ابن أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن أبا قتادة دخل عليها، فسكبت له وضوءا، فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم. فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات» رواه الخمسة، وصححه الترمذي وهذا يدل على طهارة الهر بالنص والتعليل، ويدل على طهارة ما دونها بالتعليل وإذا لا عبرة بوجه ضعيف بنجاسة سؤر ما دون الهرة، نعم يكره سؤر ذلك على إحدى الروايتين بخلاف الهرة. (تنبيه) : لو أكلت الهرة أو نحوها نجاسة، ثم شربت من ماء، فثلاثة أوجه مشهورات ثالثها: إن شربت بعد غيبتها - وقيل: قدر ما يطهر فمها بريقها - فسؤرها طاهر، وإلا فنجس. (الضرب الثاني) نجس بلا نزاع عندنا، وكذلك سؤره، وهو الكلب والخنزير، وما تولد منهما أو من أحدهما. 29 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا» ولمسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع

مرات، أولاهن بالتراب» » . والخنزير شر منه، والمتولد من الخبيث خبيث، وحكى ابن حمدان رواية بطهارة سؤر الكلب والخنزير واستغربها واستبعدها وإنها لجديرة بذلك. (الضرب الثالث) سباع البهائم، وجوارح الطير، والبغل، والحمار، وفيها روايتان (إحداهما) - وهي المشهورة عند الأصحاب، وظاهر كلام الخرقي - نجاستها، فكذلك سؤرها، لظاهر حديث القلتين وإلا لم يكن للتحديد بهما فائدة. (والثانية) طهارتها، واختارها أبو محمد في البغل والحمار، لعموم البلوى بهما، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه كانوا يركبونها مع حرارة بلادهم، والظاهر أنهم لا يسلمون من ملاقاتها. 30 - ويدل على ذلك في السباع ما روى مالك في الموطأ عن يحيى بن عبد الرحمن، أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج في ركب فيهم عمرو بن العاص، حتى وردوا حوضا، فقال عمرو: يا صاحب الحوض هل ترد حوضك السباع؟ فقال عمر بن الخطاب: لا تخبرنا، فإنا نرد على السباع، وترد علينا. قال رزين: زاد بعض الرواة في قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لها ما أخذت في بطونها، ولنا ما بقي طهور

تطهير ما لاقته نجاسة الكلب والخنزير

وشراب» اهـ وإمامنا اعتمد على قول عمر، فالظاهر عدم صحة الزيادة عنده، وعلى هذه: سؤرها طاهر. (وعن أحمد) رواية ثالثة بالشك في سؤر البغل والحمار، فيتيمم معه إن لم يجد ماء طهورا، وينوي بتيممه الحدث والنجاسة احتياطا لاحتمالها، وقيل: يتيمم ويصلي، ثم يتوضأ به ويصلي. واعلم أن المنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية الشك والنجاسة على ما ذكره القاضي في روايتيه، وأبو الخطاب في خلافه، أما رواية الطهارة فذكرها أبو الخطاب مخرجة، والطاهر من سباع البهائم والله أعلم. [تطهير ما لاقته نجاسة الكلب والخنزير] قال: وكل إناء حلت فيه نجاسة من ولوغ كلب، أو بول، أو غيره، فإنه يغسل سبع مرات، إحداهن بالتراب ش: لا خلاف عن إمامنا فيما نعلمه أن الإناء يجب غسله من نجاسة الكلب والخنزير سبعا إحداهن بالتراب، فكذلك ما تولد منهما أو من أحدهما.

30 - م - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا» متفق عليه، ولمسلم: «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات، أولاهن بالتراب» » وله في أخرى: «فليرقه، ثم ليغسله سبع مرات» والخنزير شر منه، نص الشارع على تحريمه، وحرمة اقتنائه، فالحكم يثبت فيه من طريق التنبيه، وإنما لم ينص الشارع عليه - والله أعلم - لأن العرب لم يكونوا يعتادونه، بخلاف الكلب، فإنهم كانوا يعتادونه كثيرا، والمتولد من الخبيث خبيث. (وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجب الغسل ثمانيا) . 31 - لما روى عبد الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب» رواه مسلم وغيره وحمل على أنه عد التراب ثامنة، جمعا بين الأحاديث، وفي أي موضع جعل التراب أجزأه. 31 - م - لأن في مسلم من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أولاهن بالتراب» وفي أبي داود فيه: «السابعة» وفي الترمذي فيه:

«أولاهن أو أخراهن» فدل على أن المقصود حصول التراب في الغسلات، إلا أن الأولى جعله في الأولى، ليأتي الماء عليه فينظفه، ويكفي هم التراب لو انتضح من الغسلات على شيء على الأشهر (وعنه) : أن غسل ثمانيا جعله في الآخرة، لحديث ابن مغفل (وعنه) بل في الآخرة مطلقا، (وعنه) : حيث شاء، وهل يقوم الأشنان [ونحوه، أو الغسلة الثامنة مقام التراب، أو لا يقومان، وهو ظاهر كلام الخرقي، أو يقوم الأشنان] ونحوه دون الماء، أو إن تعذر التراب أو تضرر المحل به أجزأ الأشنان وإلا فلا. أو إن فسد المحل به كثوب حرير ونحوه سقط اعتباره رأسا، على خمسة أوجه. وحكم غير الإناء من الثياب والفرش ونحوها حكم الإناء، إلا أن في وجوب التراب فيه قولان، أصحهما يجب، وإنما نص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الإناء والله أعلم - لورود النص فيه، (أما الأرض) وما اتصل بها من الحيطان، والأحواض

ونحو ذلك، فالواجب مكاثرتها بالماء حتى تزول عين النجاسة، أي نجاسة كانت، وإن كانت نجاسة كلب أو خنزير على المذهب، وقد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا في غير هذا الموضع. واختلف عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نجاسة غير الكلب والخنزير، وما تولد منهما في غير الأرض وما اتصل بها، فعنه ثلاث روايات مشهورات. (إحداهن) - وهي اختيار الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور الأصحاب - أنها تغسل سبعا، كنجاسة الكلب قياسا عليها، لأنه إذا وجب السبع في ولوغ الكلب، مع الخلاف في طهارته وفي أكله ففي بول الآدمي ونحوه، مع الاتفاق على نجاسته أولى وأخرى. 32 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: «أمرنا بغسل الأنجاس سبعا» وعلى هذه الرواية وقيل: بل حيث

اشترط العدد، وهو ظاهر ما في التلخيص والرعاية - هل يجب التراب - وهو اختيار الخرقي، إلحاقا له بنجاسة الكلب - أو لا يجب - وهو اختيار أبي البركات قصرا له على مورد النص، أو لأن ذلك للزوجة في ولغ الكلب، فيه وجهان. (والثانية) يجب غسلها ثلاثا، اختارها أبو محمد في العمدة. 33 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا انتبه أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده» علل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوهم النجاسة، ولا يزيل وهمها [إلا ما يزيل] حقيقتها. (والثالثة) تكاثر بالماء حتى تزال، من غير اعتبار عدد، لأن النبي أمر أسماء بغسل دم الحيض، ولم يأمرها بعدد، وأمر أن يصب على بول الأعرابي ذنوبا من ماء ولم يأمر بعدد. 34 - وقد روى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كانت الصلاة خمسين، والغسل من الجنابة سبع مرات والغسل من البول سبع مرات فلم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل، حتى جعلت الصلاة خمسا، والغسل من الجنابة مرة، والغسل من البول مرة» . رواه أحمد

تنبيهات

وأبو داود، وهو نص لكن في إسناده ضعف وروي أن السبع لا تعتبر في [غير] محل الاستنجاء من البدن، وتعتبر في محل الاستنجاء [وسائر المحال، قال الخلال: وهي وهم، وروي الاجتزاء بثلاث في محل الاستنجاء] واعتبار السبع في غيره، وضعفت أيضا. [تنبيهات] (أحدها) قد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - محل الاستنجاء، فعلى المشهور عند الأصحاب: يغسل سبعا كغيره. وقد صرح بذلك القاضي في التعليق والشيرازي، وابن عقيل، وابن عبدوس ونص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية صالح، واختار أبو محمد في المغني أنه لا يجب العدد فيه، اعتمادا على أنه لم يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك عدد، لا من فعله، ولا من قوله وتمسكا بإطلاق أحمد في رواية أبي داود وقد سئل عن حد الاستنجاء بالماء فقال: ينقي. ويؤيد هذا أنه لا

اشتباه الماء الطاهر بالنجس

يشترط له تراب، كما نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: يجزئه الماء وحده، وقطع به أبو محمد، وابن تميم، وغيرهما. (الثاني) : حيث اشترط التراب فهل من شرطه كونه طهورا يجوز التيمم به، أو يكتفى بكونه طاهرا، وهو ظاهر ما في التلخيص، قولان، ثم شرط ابن عقيل أن يكون بحيث تظهر صفته، ويغير صفة الماء. (الثالث) : (ولغ يلغ) - بفتح اللام فيهما، وحكى ابن الأعرابي كسرها في الماضي - إذا شرب مما في الإناء بطرف لسانه، (والتعفير) التمريغ في العفر وهو التراب [والله أعلم] . [اشتباه الماء الطاهر بالنجس] قال: وإذا كان معه في السفر إناءان نجس وطاهر، واشتبها عليه] أراقهما وتيمم ش: صورة هذه المسألة إذا لم يجد طهورا غيرهما، ولم يمكن تطهير أحدهما بالآخر، أما إذا كان ذلك فإنه يجب اعتماده، وإنما ترك الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيان ذلك لوضوحه، ولذلك قيد بالسفر، لأنه حال مظنة عدم الماء، ووجود إناء يسع قلتين، وإلا فالحكم لا يختص بالسفر، وبالجملة إذا اشتبه طاهر بنجس والحال ما تقدم واستويا، فإنه لا خلاف في المذهب أنه يعدل إلى التيمم، ولا يتحرى.

35 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دع ما يريبك، إلى ما لا يريبك» ولأنه اشتبه المباح بالمحظور، فيما لا تبيحه الضرورة، أشبه اشتباه أخته بأجنبية، أو ميتة بمذكاة، وإن كثر عدد الطاهر على عدد النجس، فكذلك على المشهور، المختار للأكثرين، لما تقدم. وأومأ الإمام في موضع إلى أنه يتحرى، فما يغلب على ظنه أنه طهور استعمله، وهو اختيار أبي بكر، وابن شاقلا، والنجاد ولأن إصابة الطهور والحال هذه أغلب، ثم هل يكتفى بمطلق الكثرة [أو لا بد من كثرة] عرفا - وحكي عن القاضي في التعليق - أو لا بد وأن يكون النجس عشر الطهور وهو المشهور، فيه أوجه. وظاهر كلام الخرقي أن (صحة) تيممه موقوف على إراقتهما، وهو إحدى الروايتين، بشرط أن يأمن العطش، واختاره أبو البركات، ليصير عادما للماء بيقين فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . (والثانية) - واختارها أبو بكر وأبو محمد -: لا يشترط، لأنه ممنوع من

باب الآنية

استعمالهما شرعا، أشبه الجريح، وحكم الخلط حكم الإراقة. وإطلاق الخرقي يقتضي أنه إذا صلى بالتيمم لا إعادة عليه بعد، ولو علم عين الطاهر، وهو المعروف من الوجهين، [والله سبحانه أعلم] . [باب الآنية] قال: باب الآنية ش: (الآنية) جمع إناء، كسقاء وأسقية، وجمع الآنية أواني، والأصل: ءآني. أبدلت الهمزة الثانية واوا، كراهة اجتماع همزتين، ومثله: آدم وأوادم. قال: وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس ش: مراد الخرقي - والله أعلم - الميتة النجسة، وقد تقدم بيان الميتة النجسة من الطاهرة، وجلد الميتة قبل الدبغ نجس، أما بعد الدبغ ففيه روايتان: أشهرهما: - وهي اختيار الخرقي وعامة الأصحاب - أنه نجس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] والجلد جزء منها، وهذا على القول بعمومها، كما هو ظاهر كلام إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأنه استدل بها على ذلك، وكثير من أصحابنا، منهم القاضي في الكفاية، وعلى هذا إما

أن يمنع صحة الأحاديث الواردة في الدباغ، كما أشار إليه أحمد كما سيأتي، أو يلتزم صحتها ويمنع تخصيص عام القرآن بالسنة على أنا نلتزم أن الآية الكريمة ليست عامة، وإنما المحرم تحريم الفعل المقصود من كل جزء منها، والمقصود من الجلد الانتفاع به، كما أن المقصود من اللحم الأكل. 36 - ويؤيد ذلك حديث عبد الله بن عكيم قال: كتب إلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن: «لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» وفي رواية أبي داود: قبل موته بشهر: «أن لا تنتفعوا» وفي رواية للترمذي: بشهرين. رواه الخمسة وحسنه الترمذي، وقال أحمد: ما أصلح إسناده. وفي رواية ابنه صالح: قال: ليس عندي في الدباغ حديث صحيح، وحديث ابن عكيم أصحها. وفي لفظ للدارقطني: «كنت رخصت لكم في جلود الميتة، فإذا جاءكم كتابي هذا فلا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب» وهو مشعر بنهي بعد رخصة، وأن ما ورد من

الرخصة كان أولا. ولا يقال الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ. قاله النضر بن شميل وغيره، لأنا نمنع ذلك، كما قاله طائفة من أهل اللغة ويؤيد قولهم أنه لم يعلم من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه قبل الدبغ رخصة، ولا عادة الناس الانتفاع به. فعلى هذه - وقيل: وإن لم يدبغ - هل يجوز استعماله في اليابس ونحوه؟ على روايتين، أما في المائع فقال كثير من الأصحاب: لا ينتفع بها رواية واحدة، قال ابن عقيل: ولو لم ينجس الماء، بأن كانت تسع قلتين. قال: لأنها نجسة العين، أشبهت جلد الخنزير، وجوز أبو العباس في فتاويه الانتفاع بها في ذلك إن لم ينجس الماء، وقيل: يجوز الانتفاع بها في اليابس انتهى. فعلى رواية الجواز يجوز الدبغ، وعلى رواية المنع فيه (وجهان) . (والثانية) أن الدباغ مطهر في الجملة، اختارها أبو العباس، وإليها ميل جده في المنتقى، وابن حمدان في الكبرى، وقيل: إنها آخر قولي أحمد، قال أحمد بن الحسن الترمذي كان أحمد يذهب إلى هذا الحديث لما ذكر: قبل وفاته بشهرين. ويقول: هذا آخر الأمرين من

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم تركه للاضطراب في إسناده، حيث روى بعضهم: عن عبد الله بن عكيم، عن أشياخ من جهينة. 37 - وذلك لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «تصدق على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمر بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» . 38 - (وعنه أيضا) قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أيما إهاب دبغ فقد طهر» رواهما مسلم وغيره وفي رواية في الصحيح أيضا: «إنما حرم أكلها» » . 39 - – ولأحمد، وأبي داود، والنسائي، والدارقطني - وصححه - في حديث شاة ميمونة: «يطهرها الماء والقرظ» . 40 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جلد الميتة قال: «إن دباغة ذهب بخبثه أو رجسه أو نجسه» رواه البيهقي

في سننه وصححه وإذاً يمنع العموم في الآية الكريمة، ويدعى فيها إما الإجمال كما قاله القاضي في العدة، أو أن المحرم تحريم الأكل، لأنه المقصود منها عرفا، أو يلتزم العموم ويدعى تخصيصه بما تقدم، وحديث ابن عكيم لا يقاوم حديث ابن عباس. 41 - ثم قد ورد نحوه من حديث عائشة، وعالية بنت سبيع، وسلمة بن المحبق، وكلها في السنن على أن حديث ابن عكيم يحمل على ما قبل الدبغ، جمعا بين الأحاديث. وعلى هذه الرواية هل الدباغ يصيره كالحياة، بدليل رواية ابن عباس التي رواها البيهقي، وهو اختيار أبي محمد، وصاحب التلخيص فيه، فيطهر جلد كل ما حكم بطهارته في الحياة كالهر

آنية عظام الميتة

ونحوها، ما سوى الكلب والخنزير، والمتولد منهما على رواية، أو كالذكاة. 42 - لأن في رواية: «ذكاتها دباغها» وهو اختيار أبي البركات فلا يطهر إلا ما تطهره الذكاة، فيه وجهان، وقد يخرج عليهما جلد الآدمي، فإن في طهارته - إن قيل بنجاسته بالموت - بالدبغ وجهان، والله أعلم. [آنية عظام الميتة] قال: وكذلك آنية عظام الميتة. ش: يعني أنها نجسة إذا كانت من ميتة نجسة؛ لما تقدم من حديث عبد الله بن عكيم. 43 - وفي بعض ألفاظه: «أن «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» رواه البيهقي في سننه، ولأن الحياة تحله فينجس بالموت كالجلد، ودليل الوصف قَوْله تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]

الوضوء في آنية الذهب والفضة

الآية، وحكى أبو الخطاب ومن تبعه قولا بالطهارة، وهو مختار أبي العباس. 44 - لما روى أبو داود عن ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اشتر لفاطمة سوارين من عاج» والعاج عظم الفيل، وحكم القرن، والظفر، والحافر، كالعظم، إن أخذ من مذكى فهو طاهر، ومن حي طاهر في الحياة ينجس بالموت فهو نجس، وكذلك ما سقط عادة من قرون الوعول ونحوها، ولأبي محمد (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) فيه احتمال بالطهارة، والله أعلم. [الوضوء في آنية الذهب والفضة] قال: ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة. ش: أراد بالكراهة (كراهة) التحريم، كما هو دأب السلف كثيرا، وقد صرح بذلك في غير هذا الموضع، فقال: والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص، وفيها الزكاة وإذا حرم الاتخاذ

فالاستعمال أولى، وقال: والشرب في آنية الذهب والفضة حرام. 45 - وذلك لما روى حذيفة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا» وفي رواية: «ولكم في الآخرة» متفق عليه. 46 - وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» متفق عليه وفي رواية لمسلم: «الذي يأكل ويشرب» » وغير الأكل والشرب في معناهما. وعموم كلام الخرقي يشمل الرجل والمرأة، وهو كذلك، لعموم الدليل، وتخصيصه المنع بالذهب والفضة يقتضي إباحة ما عداهما، وهو كذلك في الجملة. 47 - لأن في «حديث عبد الله بن زيد: أتانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخرجنا له ماء في تور (من صفر) فتوضأ» . رواه البخاري. 48 - وجاء «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ هو وأصحابه من مخضب من حجارة، ومن قدح من زجاج، وأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له قدح من خشب يشرب فيه ويتوضأ» . ويدخل في المفهوم الثمين، وهو ما

كثر ثمنه، قال أبو البركات: هو ما كان جنسه أكثر قيمة من جنس النقدين، كالجوهر والبلور، ونحوهما وهو كذلك، لتخصيص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النهي بالذهب والفضة، ومفهومه إباحة ما عداهما، فمفهوم اللقب حجة عندنا على الأشهر، ثم العلة فيهما الخيلاء، وكسر قلوب الفقراء، وهي غير موجودة هنا، إذ الجوهر ونحوه لا يعرفه إلا خواص الناس، ولا عبرة بكراهة الشيرازي الوضوء من الصفر والنحاس لما تقدم. ويستثنى من العموم النجس، كآنية عظام الميتة ونحو ذلك، وقد

يؤخذ من كلامه ثم، والمحرم، كالمغصوبة ونحوها، والمضبب والمطعم بالذهب أو الفضة. 49 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من شرب من إناء ذهب، أو فضة، أو إناء فيه شيء من ذلك، فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم» رواه البيهقي في سننه وقال: والمشهور عن ابن عمر في المضبب من قوله، وعن عمرة قالت: ما زلنا بعائشة حتى رخصت لنا في الحلي، ولم ترخص لنا في الإناء المفضض. رواه البيهقي أيضا. ويستثنى من المضبب [المضبب] بضبة من الفضة، ويأتي الكلام على هذا - إن شاء الله - في كتاب الأشربة، أبسط من هذا. [تنبيهان: (أحدهما) : «يجرجر في بطنه» أي يحدر، جعل الشرب جرجرة، وهو صوت وقوع الماء في الجوف] (الثاني) : «التور» شبه الطست، وقال ابن الأثير: إناء صغير

«والمخضب» مثل الإجانة التي تغسل فيها الثياب. والله أعلم. قال: فإن فعل أجزأه ش: إذا خالف وتوضأ فيها أجزأه عند الخرقي، وأبي محمد، إذ استعمال الماء في الوضوء حصل بعد فعل المعصية، وبهذا فارق الصلاة في البقعة الغصب، ولم يجزه عند أبي بكر، وأبي الحسين، وأبي العباس لإتيانه بالعبادة على وجه المحرم، أشبه الصلاة في المحل الغصب، ودليل الوصف وصف الشارع الأكل والشرب بالتحريم، مع حصولهما بعد فعل الأكل والشرب، حيث توسل إليهما بالمحرم. وقول الخرقي: يتوضأ في آنية الذهب والفضة. يحتمل أنه غطس فيها وكانت تسع قلتين، ووجد الترتيب، بأن أخرج وجهه أولا، ثم يديه، ثم مسح رأسه، أو غسله وقلنا: يجزئ عن المسح، ثم أخرج رجليه، وعلى هذا يصح فيما إذا توضأ منها، أو بها، أو جعلها مصبا للماء بطريق الأولى، ويحتمل أن يريد أنه جعلها مصبا للماء، وعلى هذا لا يلزم الصحة فيما إذا توضأ فيها، أو بها، أو منها، لأنا إذا قلنا بعدم الصحة في

صوف الميتة وشعرها

هذه الصور، ففي جعلها مصبا احتمالان، أصحهما الصحة، والله أعلم. [صوف الميتة وشعرها] قال: وصوف الميتة وشعرها طاهر ش: يعني من الميتة الطاهرة في الحياة، وإلا فالنجسة في الحياة؛ الموت لا يزيدها إلا خبثا، وهذا هو المعروف المشهور من نص أحمد، وعليه أصحابه، لقول الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا} [النحل: 80] الآية. ساقه - سبحانه وتعالى - في سياق الامتنان، فالظاهر شموله لحالتي الحياة والموت، وفي الصحيح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجد شاة ميتة فقال: «هلا انتفعتم بجلدها» ؟ فقالوا: إنها ميتة. فقال: «إنما حرم أكلها» (وعن أحمد) رواية أخرى أنها نجسة، أومأ إليها في شعر الآدمي الحي - ومن ثم يعلم أن حكاية صاحب التلخيص الخلاف في شعر غير الآدمي، والقطع فيه بالطهارة ليس بشيء - وذلك لما تقدم من حديث عبد الله بن عكيم: «لا تنتفعوا من الميتة بشيء» ولعموم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]

باب السواك وسنة الوضوء

(وأجيب) : بأن المراد بالآية الحياة الحيوانية، ومن خاصيتها الحس والحركة الإرادية، وهما منتفيان في الشعر، وحكم الوبر والريش حكم الشعر. وقد دخل في قولنا: من الميتة الطاهرة في الحياة شعر الهرة ونحوها، وهو اختيار أبي محمد وابن عقيل، وقيل بنجاسة شعر ذلك بعد الموت، إذ طهارته في الحياة لعلة مشقة الاحتراز منه، وقد زالت بالموت وجعل القاضي الخلاف في المنفصل في حياته أيضا، وألحق ابن البنا بذلك سباع البهائم ونحوها، على القول بطهارتها - والله أعلم -. [باب السواك وسنة الوضوء] ش: «السواك» والمسواك العود الذي يتسوك به، يذكر ويؤنث، سمي بذلك لكون الرجل يردده في فيه ويحركه، يقال: تساوكت الإبل إذا مشت مشيا في لين، «والسنة» الشريعة والطريقة. 50 - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فمن رغب عن سنتي فليس مني» .

51 - وقال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» وإذا أطلقت في مقابلة الواجب أريد بها المستحب. 52 - ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله فرض صيام رمضان، وسننت لكم قيامه» الحديث، ورسمت بأنها ما رسم للتحدي، وهو ما يكون المتأسي فيه مماثلا للأول لا مخالفا له، والله أعلم. قال: والسواك سنة. 53 - ش: عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السواك مطهرة للفم مرضاة للرب» رواه أحمد والنسائي، والبخاري تعليقا مجزوما به، وابن حبان ورواه أيضا من طريق أبي هريرة، ورواه أحمد من طريق أبي بكر، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

أوقات استحباب السواك

54 - ولأحمد عن واثلة.. «لقد أمرت بالسواك، حتى خشيت أن يكتب علي» . 55 - وفي الصحيحين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» .. وهو لأبي داود، والترمذي من حديث زيد بن خالد الجهني. والحكم الذي حكم به الخرقي يشمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو اختيار ابن حامد، واختيار القاضي وابن عقيل الوجوب عليه، بخلاف أمته، والله أعلم. [أوقات استحباب السواك] قال: يستحب عند كل صلاة ش: يتأكد استحباب السواك في مواضع (منها) عند الصلاة، لما تقدم من حديث أبي هريرة، «وعند المضمضة» في الوضوء. 56 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء» رواه

أحمد بإسناد صحيح. «وعند القيام» من نوم الليل. 57 - لأن في الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك» . «وعند دخول» المسجد والمنزل، وقراءة القرآن، وإطالة السكوت، وخلو المعدة من الطعام، واصفرار الأسنان، وتغير رائحة الفم، والله أعلم. قال: إلا أن يكون صائما، فيمسك من وقت الزوال إلى أن تغرب الشمس ش: هذا هو المشهور في المذهب، حتى أن ابن عقيل قال: لا يختلف المذهب في ذلك. 58 - وذلك لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» والخلوف إنما يظهر غالبا بعد الزوال، ولأنه أثر عبادة، مستطاب شرعا، أشبه دم الشهيد، وهذا الإمساك على سبيل الاستحباب، فلو خالف ففي الكراهة روايتان. وحكى القاضي وغيره رواية بالاستحباب، وهي أظهر. 59 - لما «روى عامر بن ربيعة قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما لا أحصي يتسوك وهو صائم» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه.

60 - قال البخاري: وكان ابن عمر يستاك أول النهار وآخره ولأن مرضاة الرب أطيب من ريح المسك، والقياس نقول بموجبه، ونمنع أن الخلوف في محل السواك إنما هو من المعدة والخلو على أنه لو صح القياس للزم أن لا يزال بعد الغروب، وحيث سن السواك ففي كراهته بعود رطب خشية تحلل جزء روايتان، والله أعلم. (تنبيه) : «يشوص» أي يغسل، قاله الهروي: وقيل: يدلك. قال ابن الأعرابي وقيل: ينقي وقيل: هو أن يستاك عرضا. وعن ابن دريد. الشوص هو الاستياك من سفل إلى علو، ومنه الشوصة - ريح ترفع القلب عن موضعه اهـ. «والموص» بمعناه، وقيل لا، (والخلوف) : بضم الخاء، هكذا الرواية الصحيحة ورواه من لا يحقق بفتحها وخطأ ذلك الخطابي.. قال الهروي: خلف فوه، إذا تغير، يخلف خلوفا - والله

أعلم - قال: وغسل اليدين إذا قام من نوم الليل، قبل أن يدخلهما في الإناء ثلاثا ش: لا إشكال في مطلوبية الغسل والحال هذه. 60 - م - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده» متفق عليه.. هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: «إذا استيقظ أحدكم من نومه، فليغسل يده قبل أن يدخلها في وضوئه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده» » .. وللترمذي وصححه: «إذا استيقظ أحدكم من الليل» » . وهل تنهض المطلوبية للوجوب؟ فيه روايتان (إحداهما) نعم، واختارها أبو بكر، والقاضي، وعامة أصحابه، بل وأكثر الأصحاب، لما تقدم من الأمر بذلك، والنهي عن عدمه، ومقتضى ذلك الوجوب، وعلى هذه: غسلهما شرط لصحة الصلاة، قاله ابن عبدوس وغيره، وهل هو تعبد، فيجب وإن

شدت يده، أو جعلت في جراب ونحو ذلك، أو معلل بوهم النجاسة، فلا يجب من نحو ما تقدم، فيه وجهان. ويتعلق الحكم بالنوم الناقض على الأشهر، لا بنوم أكثر الليل، وهل تجب النية والتسمية لغسلهما؟ أوجه ثالثها: تجب (النية) دون التسمية. (والرواية الثانية) : لا تنهض لذلك، اختارها الخرقي والشيخان، قال أبو العباس: اختارها الخرقي وجماعة، لأن قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] شمل القائم من النوم. 61 - لا سيما وقد فسره زيد بن أسلم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالقيام من الليل ولم يذكر سبحانه وتعالى غسل اليدين، والأمر السابق للندب، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل بوهم النجاسة، وذلك يقتضي الندبية لا الوجوب استصحابا للأصل.

التسمية عند الوضوء

واعلم أن السنة لا تختص بنوم الليل بل يسن له أن يغسل يديه عند الوضوء وإن لم يقم من نوم أصلا، حتى لو تيقن طهارتهما، على المذهب المنصوص، لأن الواصفين لوضوئه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: وغسل كفيه ثلاثا. وإنما نص الخرقي على نوم الليل دون غيره لتأكده، ولينص على محل الخلاف، والغسل المطلوب إلى الكوع، والله أعلم. [التسمية عند الوضوء] قال: والتسمية عند الوضوء ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أبي محمد، وقال الخلال: إنه الذي استقرت عليه الروايات. 62 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «توضؤا بسم الله» ولم يجب، لقوله سبحانه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ولم يذكر التسمية، ولأنها طهارة، فلم تجب لها التسمية كطهارة الخبث. (والرواية الثانية) : تجب. واختارها أبو بكر، وابن شاقلا وأبو جعفر، وأبو الحسين، وأبو الخطاب. قال أبو العباس: اختارها القاضي وأصحابه، وكثير من أصحابنا بل أكثرهم.

63 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لا يذكر اسم الله عليه» رواه أحمد وأبو داود، ولأحمد وابن ماجه من حديث سعيد بن زيد [وأبي سعيد مثله قال البخاري: أحسن شيء

المبالغة في الاستنشاق

في هذا الباب حديث سعيد بن زيد] وكذلك قال إسحاق: إنه أصحها، وعلى هذه تسقط بالسهو على رواية اختارها القاضي في التعليق، وابن عقيل، وأبو محمد، ولا تسقط في أخرى، اختارها ابن عبدوس، وأبو البركات، وقال الشيرازي، وابن عبدوس: متى سمى في أثناء الوضوء أجزأه على كل حال. (تنبيه) : محل التسمية اللسان، وصفتها: بسم الله. فإن قال: بسم الرحمن: أو القدوس، لم يجزئه على الأشهر، كما لو قال: الله أكبر. ونحوه، على المحقق وتكفي الإشارة بها من الأخرس ونحوه، والله أعلم. [المبالغة في الاستنشاق] قال: والمبالغة في الاستنشاق، إلا أن يكون صائما. 64 - ش: أي تسن لما «روى لقيط بن صبرة قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء. قال: «أسبغ الوضوء، وخلل بين

الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما» رواه أبو داود، والنسائي وصححه الترمذي، وابن خزيمة، والحاكم وإنما لم تجب على المشهور لسقوطها بصوم النفل، والواجب لا يسقط بالنفل، وقال ابن شاقلا - ويحكي رواية - تجب. لظاهر الأمر، وقيل: في الكبرى فقط. واقتصر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الاستنشاق تبعا للحديث، ولنص أحمد: فإنه إنما نص على ذلك وصرح بذلك ابن الزاغوني فقال: يبالغ في الاستنشاق دون المضمضة، وعامة المتأخرين على أنه يبالغ فيهما، وقد روي في بعض ألفاظ لقيط: «وبالغ في المضمضة والاستنشاق» . وظاهر كلام الخرقي أن المبالغة للصائم لا تسن، وصرح به أبو محمد، وأبو العباس، وقال الشيرازي: لا يجوز. وينبغي أن يقيد قوله بصوم الفرض.

تخليل اللحية

(تنبيه) : المبالغة في الاستنشاق اجتذاب الماء بالنفس إلى أقصى الأنف، ولا يصيره سعوطا، وفي المضمضة إدارة الماء في أقاصي الفم، ولا يصيره وجورا والله أعلم. [تخليل اللحية] قال: وتخليل اللحية ش: تخليل اللحية من سنن الوضوء، على المذهب المعروف. 65 - لما «روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه توضأ وخلل لحيته، حين غسل وجهه، ثم قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الذي رأيتموني فعلت» . رواه الترمذي، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وحسنه البخاري وهذا إذا كانت كثيفة، أما إذا كانت خفيفة تصف البشرة، فإنه يجب غسلها، وحكم بقية الشعور كذلك كما سيأتي. وصفة التخليل من تحتها بأصابعه، نص عليه، أو من جانبيها. 66 - وفي السنن عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فيدخله تحت حنكه، ويخلل به

تجديد الماء للأذنين ظاهرهما وباطنهما

لحيته، ويقول: «بهذا أمرني ربي عز وجل» ومن ثم قيل بوجوب التخليل، كما ذكره ابن عبدوس وقيل أيضا: يخلل بماء جديد وقيل: بل بماء الوجه. ونص أحمد على أنه إن شاء خللها مع وجهه، وإن شاء إذا مسح رأسه، والله أعلم. [تجديد الماء للأذنين ظاهرهما وباطنهما] قال: وأخذ ماء جديد للأذنين ظاهرهما وباطنهما ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار ابن أبي موسى، والقاضي في الجامع الصغير، وابن عقيل، وابن عبدوس , والشيرازي، وابن البنا، وصاحب التلخيص. 67 - لما «روي عن حبان بن واسع، أن أباه حدثه، أنه سمع عبد الله بن زيد، يذكر أنه رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ، فأخذ لأذنيه ماء خلاف الذي أخذ لرأسه» . رواه البيهقي في سننه، وقال: إسناده صحيح. (والثانية) : واختارها القاضي في تعليقه، وأبو الخطاب في خلافه الصغير، وأبو البركات: لا يسن. لأن غالب من وصف وضوء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر أنه مسح رأسه وأذنيه بماء واحد.

تخليل الأصابع في الوضوء

68 - وصفة مسحهما أنه يدخل سباحتيه في صماخي أذنيه، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما، كذلك وصف ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه النسائي. [تخليل الأصابع في الوضوء] قال: وتخليل ما بين الأصابع ش: لا إشكال في مسنونية تخليل أصابع الرجلين. 69 - وفي السنن عن «المستورد بن شداد، قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره» . وفي أصابع اليدين (روايتان) أشهرهما - كما اقتضاه كلام الخرقي - يسن لعموم حديث لقيط. 70 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له:

غسل الميامن قبل المياسر فى الوضوء

«إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك» . (والثانية) : لا يسن. إذ تفريجهما يغني عن تخليلهما، وتخليل أصابع رجليه بخنصره - كما في حديث المستورد - اليسرى، لأنها المعدة لإزالة الوسخ والدرن، ونحو ذلك، من باطن رجله، لأنه أبلغ في التخليل، يبدأ بخنصر رجله اليمنى، ويختم بخنصر اليسرى، تأسيا بمحبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التيمن، وأصابع يديه إحداهما بالأخرى، والله أعلم. [غسل الميامن قبل المياسر فى الوضوء] قال: وغسل الميامن قبل المياسر ش: أي يبدأ باليد اليمنى قبل اليسرى، وكذلك في الرجلين، وكذلك إذا بدأ بإحدى أذنيه، ونحو ذلك. 71 - لما في الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله» ، ولا يجب. قال أحمد: لأن مخرجهما في الكتاب واحد. يعني أن الله تعالى قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] ولم يقل: واليد اليمنى، واليد اليسرى - وشذ

الفخر الرازي فحكى في تفسيره عن أحمد الوجوب، وهو منكر، فقد قال ابن عبدوس: هما في حكم اليد الواحدة، حتى أنه يجوز غسل إحداهما بماء الأخرى. (تنبيه) : ظاهر كلام الخرقي أنه لا يسن مسح العنق، لأنه لم يذكره، وهو الصحيح من الروايتين. 72 - لعدم ثبوت ذلك في الحديث. وظاهر كلامه أيضا أنه لا يسن غسل داخل العينين، وهو اختيار القاضي في تعليقه والشيخين، نظرا إلى أن الضرر المتوقع كالمتحقق، واستسنه صاحب التلخيص وغيره، بشرط أمن الضرر، وغالي بعضهم فحكى رواية بالوجوب، مخرجة من وجوب ذلك في الغسل، فإن فيه عن أحمد روايتان منصوصتان، المختار منهما عند الشيخين، عدم الوجوب، بل

باب فرض الطهارة

وعدم الاستحباب أيضا، وعلى الروايتين خرج غسلهما من النجاسة، والله أعلم. قال: [باب فرض الطهارة] ش: الفرض والشرط يشتركان في توقف الماهية عليهما، ويفترقان في أن الشرط يكون خارج الماهية، والفرض داخلها، وأيضا فالشرط يجب استصحابه في الماهية، من أولها إلى آخرها، والفرض ينقضي ويأتي غيره، واعتبر ذلك بالطهارة، وغسل الوجه، ونحو ذلك، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر إلى المعنى الأول، فسمى الماء الطاهر، وإزالة الحدث، والنية فروضا، وهي بالمعنى الثاني شرائط. ومراد الخرقي (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) هنا بالطهارة طهارة الحدث، لا طهارة الخبث والله أعلم. قال: وفرض الطهارة ماء طاهر ش: أراد بالماء الطاهر الطاهر غير المضاف، الذي صدر به كتاب الطهارة، وترك التنبيه على ذلك للاستغناء بما تقدم، ولعله دل عليه بقرينة التنكير، وأراد به التنويع، وقد تقدم أن الطهارة لا تكون إلا بالماء الطاهر، والله أعلم.

الاستنجاء بالماء

[الاستنجاء بالماء] قال: وإزالة الحدث ش: أي الاستنجاء بالماء، أو الأحجار على ما نبين في موضعه - إن شاء الله تعالى - إن وجد منه ما يقتضي ذلك، وقد اختلفت الرواية عن أحمد في ذلك، فروي عنه - وهو اختيار الخرقي والجمهور - أن من شرط صحة الوضوء إزالة ذلك. 73 - لأن في حديث المذي: «يغسل فرجه ثم يتوضأ» و (ثم) للترتيب. 74 - ولأن المنقول عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعن أصحابه الاستنجاء قبل الوضوء وروي عنه - وهو اختيار أبي محمد - لا يشترط ذلك، لأنها نجاسة، فصح الوضوء قبلها، كالنجاسة على سائر البدن، أو على المخرج غير خارجة منه، فإن ذلك محل وفاق، والقاضي في موضع جعل ذلك كالنجاسة على المخرج منه، فعلى هذه الرواية يستفيد مس المصحف، واللبث في المسجد إن كان

النية في الطهارة

جنبا، ولبس الخف، والصلاة إذا عجز عن الاستنجاء، أما مع القدرة فيستنجي بحائل، أو ينجيه غيره، بشرطه، أو هو بلا حائل إن قيل: مس الفرج لا ينقض، ثم يصلي. وحكم التيمم حكم الوضوء، فيصح على هذه الرواية، والحال هذه، اختاره ابن حامد، واختار القاضي، وأبو البركات، وابن حمدان البطلان - بخلاف الوضوء - في التيمم، لأنه مبيح، ولا استباحة قبل الاستنجاء. وحكم النجاسة على غير المخرج في التيمم، حكمها على المخرج، وعند ابن عقيل - والأشبه عند أبي محمد، وصححه ابن حمدان - الفرق، كما لو كانت على الثوب، والله أعلم. [النية في الطهارة] قال: والنية للطهارة ش: أي لطهارة الأحداث، ولا خلاف عندنا في ذلك، لقوله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] والإخلاص محض النية. 75 - وثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما الأعمال بالنيات» وأكد ذلك

غسل الوجه فى الوضوء

بقوله: «وإنما لكل امرئ ما نوى» وقوله: «لا عمل إلا بنية» اهـ. والنية في اللغة القصد يقال: نواك الله بخير. أي قصدك به، وفي الشرع: قصد رفع الحدث، أو الطهارة، لما لا يباح إلا بالطهارة، كمس المصحف، والطواف، ونحو ذلك، فأما قصد ما تسن له الطهارة، كقراءة القرآن، والأذان - فقيل: يحصل به رفع الحدث، اختاره أبو حفص، والشيخان وقيل: لا، اختاره ابن حامد والشيرازي، وأبو الخطاب ومحل النية القلب، فالعبرة به دون اللسان، نعم: الأولى عند كثير من المتأخرين الجمع بين القصد والتلفظ والله أعلم. [غسل الوجه فى الوضوء] قال: وغسل الوجه ش: هذا بالإجماع، وبنص كتاب الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] .

قال: وهو من منابت شعر الرأس، إلى ما انحدر من اللحيين والذقن، وإلى أصول الأذنين، ويتعاهد المفصل، وهو ما بين اللحية والأذن ش: حد الوجه طولا من منابت شعر الرأس غالبا - فلا عبرة بالأقرع، الذي ينبت شعره في بعض جبهته، ولا بالأجلح، الذي انحسر شعره عن مقدم رأسه - إلى ما انحدر من اللحيين والذقن، وعرضا ما بين أصول الأذنين، لأن جميع ذلك تحصل به المواجهة، فدخل تحت الآية الكريمة، وقد دل كلام المصنف على [أن] الأذنين ليسا من الوجه، وسنصرح بذلك إن شاء الله، ودل أيضا على أن البياض الذي بين العذار والأذن من الوجه، وقد أكد ذلك بقوله: ويتعاهد المفصل. ونص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك، لأنه من الوجه في حق الصبي، فكذلك في حق غيره. تنبيهان: (أحدهما) : يدخل في الوجه (العذار) وهو الشعر الذي على العظم الناتئ المسامت صماخ الأذن، وما انحط عنه، إلى وتد الأذن (والعارض) وهو النازل عن حد العذار على اللحيين، قال الأصمعي ما جاوز وتد الأذن عارض. (والذقن) وهو مجمع

اللحيين، والحاجبان، وأهداب العينين، والشارب، والعنفقة، وفي (الصدغ) - وهو الشعر الذي بعد انتهاء العذار، يحاذي رأس الأذن، وينزل عن رأسها قليلا - (والتحذيف) - وهو الشعر الخارج إلى طرفي اللحيين، في جانبي الوجه، بين النزعة ومنتهى العارض - ثلاثة أوجه: يدخلان، لا يدخلان، واختاره أبو محمد في الكافي وأبو البركات، زاعما أنه ظاهر كلام أحمد، (الثالث) : يدخل التحذيف دون الصدغ، واختاره ابن حامد، وأبو محمد في المغني، ولا يدخل فيه (النزعتان) ، وهما ما انحسر عنه الشعر من الرأس، متصاعدا من جانبي الرأس، عند أبي محمد، ويدخلان عند ابن عقيل، والشيرازي، وحكم ما دخل في الوجه من هذه الشعور وجوب غسلها إن كانت خفيفة، تظهر معها البشرة، مع ما ظهر من البشرة، ووجوب غسل الظاهر منها إن كانت كثيفة، لا تصف البشرة كلحية الرجل سواء، نص عليه أحمد، وقيل في لحية المرأة، وما عدا لحية الرجل: يجب غسل باطنه مطلقا، لندرة كثافة ذلك، فعلى المذهب: إن خف بعض، وكثف بعض فلكل حكمه. (الثاني) : قد يقال: ظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب غسل المسترسل من اللحية، وهو إحدى الروايتين، فلا يجب غسل

الفم والأنف من الوجه فى الوضوء

ما خرج منها عن محاذاة محل الفرض، كالنازل من الرأس عنه، (والرواية الثانية) - وهي المذهب عند الأصحاب بلا ريب - يجب غسل المسترسل مطلقا. 76 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم يغسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته، مع الماء» ولأن اللحية تشارك الوجه في معنى التوجه والمواجهة، وخرج ما نزل من الرأس عنه، لعدم مشاركته للرأس في الترأس، ونقل بكر بن محمد، عن أبيه، أنه سأل أحمد أيما أعجب إليك غسل اللحية، أو التخليل؟ فقال: غسلها ليس من السنة، وإن لم يخلل أجزأه، فأخذ من ذلك الخلال أنها لا تغسل مطلقا، فقال: الذي ثبت عن أبي عبد الله، أنه لا يغسلها، وليست من الوجه البتة، وامتنع من ذلك القاضي في تعليقه، والشيخان وغيرهم، فقالوا: معنى قوله: ليس من السنة أي غسل باطنها، [والله أعلم] . [الفم والأنف من الوجه فى الوضوء] قال: والفم والأنف من الوجه ش: يعني فيجب غسلهما مع غسل الوجه، ويعبر عن ذلك

بالمضمضة والاستنشاق، والمذهب المشهور الوجوب في الطهارتين الصغرى والكبرى، لأن الله سبحانه [وتعالى] أمر بغسل الوجه، وأطلق. 77 - وفسره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفعله وتعليمه، فمضمض واستنشق، ولم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أخل بذلك، مع اقتصاره على المجزئ، وهو الوضوء مرة مرة، وقوله: «هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به» وفعله إذا خرج بيانا كان حكمه حكم ذلك المبين، وأيضا حديث لقيط بن صبرة المتقدم، وهو يدل من جهة اللازم، وفي رواية لأبي داود فيه: «إذا توضأت فمضمض» . 78 - وللدارقطني عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمضمضة والاستنشاق» . وقد روي مسندا ومرسلا ولأنها في حكم الظاهر، ألا ترى أن وضع الطعام، واللبن، والخمر فيهما لا يوجب فطرا، ولا ينشر حرمة، ولا يوجب حدا، وحصول النجاسة فيهما يوجب غسلهما، وينقض الوضوء بشرطه. (وعنه) الواجب الاستنشاق فقط فيهما. 79 - لأن في الصحيح: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم

لينتثر» » وفي لفظ: «من توضأ فليستنشق» وإذا أمر بذلك في الوضوء ففي الغسل أولى. (وعنه) يجبان في الكبرى، لأنه يجب وصول الماء فيها إلى باطن الشعور، ونحو ذلك، ولا يجبان في الصغرى، لأن المأمور به فيها غسل الوجه، والوجه ما تحصل به المواجهة، وليسا كذلك، فأشبها باطن اللحية الكثة (وعنه) يجب الاستنشاق وحده في الوضوء فقط، جمودا على قوله: «من توضأ فليستنشق» (وحيث) قيل بالوجوب، فتركهما أو أحدهما ولو سهوا، لم يصح وضوءه، قاله الجمهور، وقال ابن الزاغوني: إن قيل: إن وجوبهما بالسنة صح مع السهو، وحكى عن أحمد في ذلك روايتين، إحداهما بالكتاب، والثانية بالسنة. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب تقديمهما على سائر الوجه، لأنهما منه، وأنه يجب الترتيب والموالاة بينهما وبين سائر الأعضاء، كما يجب في الخد ونحوه وهو إحدى الروايتين، قال أبو البركات: - وهي أقيسهما، كبقية أجزائه، والرواية الثانية - واختارها أبو البركات -: لا يجب فلو تركهما ثم صلى أتى بهما، وأعاد الصلاة دون الوضوء، نص عليه أحمد، ومبناه (على) أن وجوبهما بالسنة، والترتيب إنما وجب بدلالة

غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء

القرآن معتضدا بالسنة، ولم يوجد ذلك فيهما، بل قد وجد في السنة ما يقتضي عدم الوجوب. 80 - فعن المقدام بن معد يكرب قال: «أتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بوضوء فتوضأ، فغسل كفيه ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثلاثا، ثم تمضمض واستنشق ثلاثا، ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما» . رواه أبو داود، وأحمد وزاد: «وغسل رجليه ثلاثا» والله أعلم. (تنبيه) :: المضمضة دوران الماء بالفم، والاستنشاق إدخال الماء في الأنف، قال أبو محمد: ولا تجب الإدارة في جميع الفهم ولا الإيصال إلى جميع باطن الأنف، وهو مشعر بوجوب الإدارة والوصول في الجملة، وصرح بذلك الشيرازي، وقال ابن أبي الفتح: المضمضة في اللغة تحريك الماء في الفم، وفي الشرع وضع الماء في فيه، وإن لم يحركه. وليس بشيء، والله أعلم. [غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء] قال: وغسل اليدين إلى المرفقين] ش: هذا بالإجماع، والآية الكريمة، وكلامه شامل لما إذا نبتت

له يد أو أصبع زائدة في محل الفرض، فإنه يجب غسلها معه، وهو كذلك فلو كان النابت في العضد، أو المنكب ولم تتميز الأصلية، غسلا معا، وإن تميزت لم يجب غسل ما لم يحاذ محل الفرض، وفيما حاذاه وجهان، الوجوب اختيار القاضي، والشيرازي، وعدمه اختيار ابن حامد وابن عقيل، والشيخين، والله أعلم. قال: ويدخل المرفقين في الغسل. 81 - ش: لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا توضأ أمر الماء على مرفقيه» . رواه الدارقطني وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج بيانا للآية الكريمة، إذ (إلى) في الآية الكريمة يجوز أن تكون الغائية، كما هو الغالب فيها، ويجوز أن تكون بمعنى (مع) كما في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها للمعنى الثاني، أو يقال: اليد تطلق حقيقة إلى المنكب و (إلى) أخرجت ما عدا المرفق اهـ. ومن لا مرفق له يغسل إلى قدر المرفق، في غالب الناس.

مسح الرأس في الوضوء

(تنبيه) : المرفق بكسر الميم وفتح الفاء والعكس لغة، والله أعلم. [مسح الرأس في الوضوء] قال: ومسح الرأس ش: وجوب مسح الرأس في الجملة ثابت بالنص والإجماع، والخلاف في القدر الواجب من ذلك، وعن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك ثلاث روايات، إحداهن - وهي ظاهر كلام الخرقي، والمختار لعامة الأصحاب -: وجوب استيعاب جميع الرأس بالمسح، لأنه سبحانه أمر بمسح الرأس، وبمسح الوجه في التيمم، ثم في التيمم يجب الاستيعاب، فكذلك في مسح الرأس، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح جميع رأسه، وفعله وقع بيانا لكتاب ربه سبحانه. 82 - وما جاء عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنه مسح مقدم رأسه، فمحمول على أن ذلك مع العمامة، كما جاء مفسرا في الصحيح، في حديث المغيرة بن شعبة، وموقع الباء - والله أعلم - إلصاق الفعل بالمفعول، إذ المسح إلصاق ماسح بممسوح، فكأنه قيل: ألصقوا المسح برءوسكم أي المسح بالماء، وهذا بخلاف ما لو قيل: امسحوا رءوسكم. فإنه لا يدل على أنه ثم شيء

ملصق، كما يقال: مسحت رأس اليتيم. وما قيل: إن الباء للتبعيض. فغير مسلم، دفعا للاشتراك، ولإنكار الأئمة قال أبو بكر عبد العزيز: سألت ابن دريد وابن عرفة عن الباء تبعض؟ فقالا: لا نعرف في اللغة أنها تبعض. وقال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء أهل اللغة بما لا يعرفونه. وأما قوله سبحانه وتعالى: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] فمن باب التضمين، والله أعلم، فكأنه قيل: يروى بها عباد الله. وكذلك قول الشاعر: شربن بماء البحر والثانية: الواجب مسح البعض، وقد فهم دليل ذلك مما تقدم، من أن الباء تبعض، ومما روي من أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح البعض. (وعنه) بل في حق المرأة فقط، واختاره الخلال، وأبو

محمد، دفعا للحرج والمشقة عنها، بوجوب مسح الكل. والرواية الرابعة: الواجب الأكثر، إذ إيجاب الكل قد يفضي إلى الحرج والمشقة غالبا، وأنه منفي شرعا. فعلى الأولى: يجب مسح الأذنين معه على رواية، واختارها الأكثرون، لأنهما من الرأس كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولا يجب في أخرى، وهي أشهر نقلا: واختارها الخلال، وأبو محمد، وقال الشيرازي: لو مسح وتخلل مواضع يسيرة، عفي عنها للمشقة، وظاهر كلام الأكثرين بخلافه. وعلى الثانية والثالثة: البعض مقدر بالناصية، قاله القاضي، وعامة من بعده، لكن لا تتعين على المعروف ولابن عقيل احتمال بتعينها، وصرح ابن أبي موسى بعدم تحديد الرواية فقال: وعنه يجب مسح البعض من غير تحديد. واتفق الجمهور على أنه لا يجزئ مسح الأذنين عن ذلك البعض، وكذلك مسح ما نزل عن الرأس من الشعر، ولو كان معقوصا على الرأس، وللقاضي في شرحه الصغير وجه بإجزاء مسح الأذنين عن البعض. وعلى الرابعة حد الكثير الثلثان، واليسير الثلث، فما دون، قاله القاضي في تعليقه، وأبو الخطاب في خلافه الصغير، وأطلق ذلك جماعة. وقول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومسح الرأس. يدخل فيه ولو مسح بأصبع أو بأصبعين وهو الصحيح من الروايتين، ويدخل أيضا ما لو مسح بخرقة أو خشبة، وهو أصح القولين عند أبي البركات، ويدخل أيضا ما إذا وقف تحت مطر ونحوه، قاصدا

للطهارة، وأمر يده، لوجود المسح، أما إن لم يمرها، ولم يجر الماء، فإنه لا يجزئه على أشهر القولين، وإن جرى الماء خرج على روايتي غسله كما سيأتي، ولو لم يقصد الطهارة فأصابه ماء فمسح قاصدا لها فإنه يجزئه، على إحدى الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي، ومختار أبي البركات، (والثانية) - وبها قطع صاحب التلخيص، وابن عقيل زاعما بأنها تحقيق المذهب - لا يجزئه. ويخرج من كلامه ما لو وضع يده على رأسه ولم يمرها، فإنه لا يجزئه، لعدم المسح، وبه قطع أبو البركات وغيره، ولأبي محمد فيه احتمال بالإجزاء، وما لو غسل رأسه بدل مسحه، وهو الصحيح من الروايتين، عند أبي البركات، وابن عقيل، نعم: إن أمر يده أجزأه، على المعروف المشهور، وقيد ابن حمدان إجزاء الغسل عن المسح بما إذا نواه به، والله أعلم. تنبيهات (أحدها) : حد الرأس من المقدم، بحيث لا يسمى وجها، وقد تقدم حد الوجه، وبه يعرف حد الرأس، ومن المؤخر بحيث لا يسمى قفا، والناصية مقدم الرأس، قاله القاضي وغيره. (الثاني) : الواجب مسح ظاهر الشعر، فلو مسح البشرة لم يجزئه، كما لو غسل باطن اللحية دون أعلاها، نعم لو حلق البعض، فنزل عليه شعر ما لم يحلق أجزأه المسح عليه. (الثالث) : صفة المسح أن يضع أحد طرفي سبابتيه على طرف الأخرى ويضعهما على مقدم رأسه، ويضع الإبهامين

غسل الرجلين في الوضوء

على الصدغين، ثم يمرهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى مقدمه، نص عليه أحمد، وهو المشهور، والمختار. 83 - لحديث عبد الله بن زيد وغيره، وفيه خلاف كثير، أعرضنا عنه اختصارا، والله أعلم. [غسل الرجلين في الوضوء] قال: وغسل الرجلين. 84 - ش: للآية الكريمة، فإن جماعة منهم علي، وابن مسعود، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قرءوا: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] بالنصب، عطفا على المغسول، وهو قوله: {وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] وقراءة الخفض قيل: عطف على المغسول، والخفض للمجاورة، كما قالوا: جحر ضب خرب. فخرب. خفض بمجاورة

الضب، مع أنه صفة للمرفوع، وهو الحجر. وقيل: منه قوله سبحانه وتعالى: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 156] (فعظيم) خفض بمجاورة اليوم وهو صفة للعذاب، ورد بأن الإعراب بالمجاورة شاذ، فلا ينبغي حمل الكتاب العزيز عليه. وقيل: بل المعطوف على الممسوح، ثم قيل: المراد مسح الخفين. وعلى قراءة النصب غسل الرجلين، تكثيرا لمعنى الآية الكريمة، وقيل: بل أطلق المسح وأريد خفيف الغسل، فمعنى القراءتين واحد، وهو أولى، إذ الأصل توافق القراءتين، ويشهد لذلك ما قاله أبو علي الفارسي، فإنه قال: العرب تسمي خفيف الغسل مسحا، يقولون: تمسحت للصلاة، أي توضأت لها، ونحوه قال أبو زيد وغيره، وخصت الأرجل بذلك - والله أعلم - دون بقية الأعضاء لأنها تقصد بصب الماء كثيرا، فهي مظنة الإسراف المنهي عنه، فلذلك عطف على الممسوح، تنبيها على الاقتصاد في صب الماء، وقيل: (إلى الكعبين) ليزول وهم من يظنها ممسوحة، إذ المسح لم يحدد في كتاب الله عز وجل، بخلاف الغسل. ويؤيد أن المراد من الآية الغسل بيان من له البيان، وهو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

85 - فإن الواصفين لوضوئه - كعثمان، وعلي، وعبد الله بن زيد، وغيرهم - أخبروا أنه غسل رجليه. 86 - وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: «تخلف عنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأدركنا وقد أرهقنا العصر - ويروى: أرهقتنا العصر. فجعلنا نتوضأ، ونمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين، أو ثلاثا» . 87 - وفي مسلم «عن عمرو بن عبسة قال: قلت يا نبي الله حدثني عن الوضوء. قال: «ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيمضمض ويستنشق فينتثر إلا خرت خطايا وجهه، وفيه وخياشيمه، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله، إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلى: فحمد الله، وأثنى عليه، ومجده بالذي هو له أهل، وفرغ قلبه لله، إلا انصرف من خطيئته كيوم ولدته أمه» وفي رواية أحمد - رحمه

الله - وابن خزيمة في صحيحه، كما أمر الله تعالى بعد غسل الرجلين. 88 - على أن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على غسل القدمين. (تنبيه) : «أرهقنا العصر» أخرناها عن وقتها، حتى كدنا نغشها، ونلحقها بالصلاة التي بعدها، «وأرهقتنا العصر» أي قاربتنا العصر. والله أعلم. قال: إلى الكعبين ش: أي حد الغسل إلى الكعبين، وهذا يوهم أنه لا يجب إدخالهما في الغسل، وليس كذلك، بل حكمهما حكم اليدين، وقد قيل: إن الرجل من أصل الفخذ إلى القدم، وكأن الخرقي إنما ترك التنبيه على ذلك، اكتفاء بما تقدم له في اليد، والله أعلم. قال: وهما العظمان الناتئان. 89 - ش: أي الكعبين هما العظمان الناتئان، إذ في الحديث أن الصحابة كان أحدهم يلصق كعبه بكعب من إلى جنبه في الصلاة، والله أعلم.

قال: ويأتي بالطهارة عضوا بعد عضو، كما أمر الله تعالى ش: أي يبدأ بغسل الوجه، ثم اليدين، ثم يمسح الرأس، ثم يغسل الرجلين، وهذا هو المذهب بلا ريب، للآية الكريمة، فإنه سبحانه وتعالى أدخل ممسوحا بين مغسولين، وقطع النظير عن نظيره، أما على قراءة النصب فواضح، وكذلك على قراءة الخفض، لأن مع تأخير الرجلين أدخلا في حيز المسح، وأريد به الغسل، ولا يقطع النظير عن نظيره، ويفصل بين الأمثال في الكلام العربي، إلا لفائدة، والفائدة هنا - والله أعلم - الترتيب. 90 - على أنه قد روى النسائي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما دنا من الصفا قال: «ابدءوا بما بدأ الله به» » بصيغة الأمر، وظاهر الأمر البداءة بكل ما بدأ الله به، وأيضا فإن فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج بيانا للآية

الكريمة، ولم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه توضأ إلا مرتبا، ولو جاز عدم الترتيب لفعله ولو مرة، تبيينا للجواز، وقد توضأ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة مرة، على عادة وضوئه، وقال: «هذا الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة إلا به» وهذا كله على المذهب، من أن الواو ليست للترتيب، كما هو المذهب، أما إن قلنا إنها له - على رواية - فواضح، فعلى هذا لو بدأ بشيء من الأعضاء الأربعة قبل غسل وجهه لم يحسب له، نعم: إن توضأ منكسا أربع مرات، صح وضوءه إن قرب الزمن، لأنه حصل له من كل مرة غسل عضو اهـ. (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية تقدمت باغتفار الترتيب بين المضمضة والاستنشاق، وبين بقية أعضاء الوضوء، فأخذ منها أبو الخطاب - في انتصاره، وابن عقيل في فصوله - رواية بعدم وجوب الترتيب رأسا، وتبعهما بعض المتأخرين، منهم أبو البركات في محرره، وغيره، وأبي ذلك عامة الأصحاب، متقدمهم ومتأخرهم، ومنهم أبو محمد، وأبو البركات في شرحه. واعلم أن الواجب عندنا الترتيب، لا عدم التنكيس، فلو

وضأه أربعة في حالة واحدة لم يجزئه، ولو انغمس في ماء جار، ينوي رفع الحدث، فمرت عليه أربع جريات، أجزأه إن مسح رأسه، أو قيل بإجزاء الغسل عن المسح ولو لم يمر عليه إلا جرية واحدة لم يجزئه، ولو كان انغماسه في ماء كثير راكد فمنصوصه - وبه قطع ابن عقيل، وأبو محمد - أنه إن أخرج وجهه، ثم يديه، ثم مسح برأسه، ثم خرج من الماء أجزأه، مراعاة للترتيب، إذ الحدث إنما يرتفع بارتفاع الماء، عن العضو، وقيل - وقواه أبو البركات -: إن مكث فيه قدرا يتسع للترتيب، وقلنا: يجزئ غسل الرأس عن مسحه، أو مسحه ثم مكث برجليه قدرا يسع غسلهما أجزأه. (تنبيه) : لم ينص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الموالاة فقيل: ظاهر كلامه أنها لا تجب. وإلا لم يهملها، وهو رواية حنبل عن أحمد. 91 - اقتداء بابن عمر، فإنه روي عنه أنه توضأ في المسجد، أو في السوق، فأعوز الماء، فأكمله في البيت. وقيل: بل ظاهره الوجوب، لقوله في مسح الخفين: فإن خلع قبل ذلك، أعاد الوضوء. ولو لم تجب لكفاه غسل القدمين، إذ قوة كلامه أن الخلع بعد مدة، وهذا رواية الجماعة عن أحمد، وعليها الأصحاب، لظاهر الآية الكريمة إذ قوله

سبحانه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6] إلى آخرها يقتضي الفورية على قاعدتنا، ثم (إذ قمتم إلى الصلاة) شرط و (فاغسلوا) جوابه، [وإذا وجد الشرط، وهو القيام وجب أن لا يتأخر عنه جوابه] وهو غسل الأعضاء الأربعة. 92 - وعن خالد بن معدان، عن بعض أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه رأى رجلا يصلي، وفي ظهر قدمه لمعة، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالوضوء والصلاة» . رواه أبو داود، وأحمد وجود إسناده، ولم يستفصله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل فرط أم لا؟ ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه أنه توضأ إلا مرتبا متواليا، وفعله - كما تقدم - خرج بيانا للآية الكريمة. وفي المذهب قول ثالث، اختاره أبو العباس، وزعم أنه الأشبه بأصول الشريعة. وأصول أحمد، اعتمادا على قوله سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .

93 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» والتارك لعذر قد فعل ما استطاع، ونظرا إلى أن التتابع في صوم شهري الكفارة واجب بالنص والإجماع ثم لو تركه لعذر لم ينقطع، وكذلك الموالاة في قراءة الفاتحة، ثم لو تركها (ولو) كثيرا - لاستماع قراءة [الإمام] ونحو ذلك أتمها، وكذلك الموالاة في الطواف والسعي، لا تبطل بفعل المكتوبة، وصلاة الجنازة، وطرد ذلك هنا أنه لو أنقذ غريقا، أو أمر بمعروف، ونحو ذلك في أثناء الوضوء، لم يضره وإن طال، وكذلك الصلاة تجب الموالاة فيها، بحيث لا يفرق بين أبعاضها بما ينافيها، ثم لو فرق لضرورة لم يضره. 94 - كما ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر في صلاة الخوف: أن الطائفة الأولى تذهب بعد صلاة ركعة، وجاه العدو، ثم ترجع إلى صلاتها بعد أن تصلي الطائفة الثانية الركعة الثانية، وتذهب جهة العدو، وكذلك من سبقه الحدث، يتوضأ ويبني، على أحد القولين، ما لم يبطل صلاته بكلام عمد ونحوه. 95 - ثم ما وقع للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ذي اليدين، من الكلام، والقيام والمشي، إلى غير ذلك، ومثله يبطل الصلاة لولا العذر.

وأجاب عن حديث خالد بن معدان بأن أمره بالإعادة كان لتفريطه، وهو عدم معاهدته الوضوء، ثم طرد ذلك في الترتيب، وقال: لو قيل بسقوطه للعذر، كما إذا ترك غسل وجهه فقط لمرض ونحوه، ثم زال قبل انتقاض وضوئه فغسله لتوجه اهـ. فعلى الأولى: لا أثر للتفريق، لكن يحتاج إلى استئناف نية، قاله ابن عقيل، وأبو البركات، معللين بأن النية الحكمية تبطل بالفصل الطويل، كما تبطل به قبل الشروع. وعلى الثانية: المؤثر تفريق يفحش عادة، في رواية حكاها ابن عقيل، إذ ما لا حد له في الشرع، المرجع فيه إلى ذلك، كالحرز، والقبض، والمشهور عند الأصحاب: المؤثر أن يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله. زاد أبو البركات: أو أخر عضوا عن أوله إلى أن ينشف أوله اهـ في الزمن المعتدل شتاء وصيفا، وهواء أو قدر ذلك، ولعل هذا أضبط للعرف المتقدم، فيتحد القولان، وحكى ابن عقيل وجها أن المؤثر بنشاف عضو (ما) فلو نشف وجهه قبل غسل رجليه بطل وضوءه، (ويستثنى) مما تقدم ما إذا كان الجفاف لسنة، من تخليل أو إسباغ، أو إزالة شك، ونحو ذلك، فإنه لا يؤثر،

عدد مرات الوضوء

فلو كان لعبث، أو إسراف، أو زيادة على الثلاث أثر، وكذلك إن كان لإزالة وسخ لغير طهارة، وإن كان لوسوسة، أو إزالة نجاسة: فوجهان، وإن كان لعوز الماء، أو للاشتغال بتحصيله أثر، وعنه متى كان في علاج الوضوء فلا بأس والله أعلم. [عدد مرات الوضوء] قال: والوضوء مرة مرة يجزئ، والثلاث أفضل ش: المرة هي التي عمت المحل بالغسل، ولا إشكال في الاجتزاء بها. 96 - لما صح أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ مرة مرة، وتوضأ مرتين مرتين، وتوضأ ثلاثا ثلاثا. 97 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «توضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرة مرة، ثم قال: «هذا وضوء من لا تقبل له صلاة إلا به» ، ثم

توضأ مرتين مرتين، ثم قال: «هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرتين» ثم توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي» رواه البيهقي في السنن، وفي رواية: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» . 98 - ولابن ماجه نحوه عن أبي بن كعب. والثلاث أفضل بلا ريب، لأنه الذي واظب عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه. واقتصار المصنف على الثلاث يقتضي أنه لا يستحب الزيادة على ذلك ولا إشكال فيه، وقد صرح بعضهم بالكراهة. 99 - لأن في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «توضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: «هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم، أو ظلم وأساء» رواه أبو داود، وهذا لفظه، ورواه أحمد , والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وفي

صلاة الفريضة بوضوء النافلة

رواية لأحمد، والنسائي مختصرا: «فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى، وظلم» وليس في رواية أحد منهم «أو نقص» غير أبي داود، وقد تكلم فيه مسلم وغيره، وأوله البيهقي على نقصان العضو، قال الذهبي: وكذلك ينبغي أن تفسر الزيادة والله أعلم. [صلاة الفريضة بوضوء النافلة] قال: وإذا توضأ لنافلة، صلى بها فريضة ش: هذا يلتفت إلى ما تقدم من أن النية في الاصطلاح الشرعي هي قصد رفع الحدث، أو استباحة ما لا يباح إلا بالطهارة، والنافلة لا تباح إلا بالطهارة، والله أعلم. [قراءة القرآن للجنب والحائض والنفساء] قال: ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء. 100 - ش: لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقضي حاجته، ثم يخرج فيقرأ القرآن ويأكل معنا اللحم، ولا

يحجبه. وربما قال: ولا يحجزه شيء من القرآن ليس الجنابة» . رواه الخمسة، وصححه الترمذي. 101 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئا من القرآن» رواه أبو داود وحكم

النفساء حكم الحائض إذ دم النفاس هو دم الحيض «حقيقة» . 102 - مع أنه قد روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقرأ الحائض ولا النفساء من القرآن شيئا» رواه الدارقطني. وقول الخرقي: القرآن. الألف واللام للجنس، فيتناول القليل والكثير، وهو إحدى الروايات، واختارها أبو البركات، لظواهر النصوص المتقدمة، (وعنه) : يجوز لهم قراءة بعض آية، كما لو لم يقصد بذلك القرآن، (وعنه) : تجوز قراءة الآية ونحوها حكاها الخطابي وأشار إليها في التلخيص فقال: وقيل: يتخرج من تصحيح خطبة الجنب جواز قراءة الآية مع اشتراطها، ويستثنى من ذلك قول: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) تبركا، وعلى الغسل والوضوء، والذبيحة، ونحو ذلك، و (الحمد لله رب العالمين) عند تجدد نعمة ونحوه، بشرط عدم قصد القراءة، نص عليه، وهذا يخرج من كلام الخرقي - رحمه

لا يمس المصحف إلا طاهر

الله - لانتفاء القراءة والحال هذه، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر الجنب والحائض، والنفساء، وبعض المتأخرين كأبي الخطاب، ومن تبعه يقول: ومن لزمه الغسل. فيدخل في كلامهم الكافر إذا أسلم، على المذهب من: لزوم الغسل له. والله أعلم. [لا يمس المصحف إلا طاهر] قال: ولا يمس المصحف إلا طاهر (والله أعلم) . 103 - ش: لما روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر - وهو ابن محمد بن عمرو بن حزم - أن في الكتاب الذي كتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمرو بن حزم: «أن لا يمس القرآن إلا طاهر» وكذلك رواه أحمد، وأبو داود مرسلا، ورواه النسائي، والدارقطني، من رواية الزهري، عن أبي بكر بن محمد، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

104 - وعن ابن عمر أنه قال: لا يمس المصحف إلا على طهارة. احتج به أحمد [واستدل] بقوله تعالى: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] على أن المراد بالكتاب المصحف بعينه وأن {لَا يَمَسُّهُ} [الواقعة: 79] خبر بمعنى النهي، أو أنه نهي علي بابه، وحرك بالضم لالتقاء الساكنين، ورد بأن المشهور عن السلف، وأهل التفسير أن الكتاب اللوح المحفوظ، وأن {الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] الملائكة، ويؤيده الآية الأخرى: {كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ - فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ - فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ - مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ - بِأَيْدِي سَفَرَةٍ - كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 11 - 16] وأيضا الإخبار بأنه: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] أي مصون، لا تناله أيدي الضالين، وهذه صفة اللوح المحفوظ وأيضا: {الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] من طهرهم غيرهم، ولو أريد طهارة بني آدم لقيل: المتطهرون. كما قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] ويمكن توجيه الاستدلال بالآية على وجه آخر، وهو أن يقال: القرآن الذي في اللوح المحفوظ هو الذي في المصحف، وإذا كان من حكم الذي في السماء أن {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] فكذلك الذي في الأرض، لأنه هو هو.

وقول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يمس. يشمل مسه بيده، وسائر جسده، ويقتضي أن له حمله بعلاقته، أو بحائل له، منفصل عنه، ولا يتبعه في البيع كعلاقة، أو بحائل تابع للحامل، كحمله في كمه، أو ثوبه، أو تصفحه بعود، ونحو ذلك، وهو المشهور من المذهب، قطع به أبو الخطاب، وابن عبدوس، وصاحب التلخيص، واختاره القاضي وأبو محمد، اعتمادا على مفهوم الحديث (وعنه) : المنع من تصفحه بكمه، وخرجه القاضي والمجد إلى بقية الحوائل، وأبى ذلك طائفة منهم أبو محمد في المغني مشيرا إلى الفرق، بأن كمه وثيابه متصلة به، أشبهت أعضاءه. ويقتضي أيضا أن له الكتابة من غير مس، وبه جزم أبو محمد، وقيل: بل هو كالتقليب بالعود، وقيل: لا يجوز وإن جاز التقليب. ولأبي البركات احتمال بالجواز للمحدث دون الجنب، ومحل الخلاف إذا لم يحمله، على مقتضى ما في التلخيص، والرعاية. وقوله: مصحف. المصحف معروف، مثلث الميم، وهو شامل لما يسمى مصحفا من الكتاب، والجلد، والحاشية، والورق الأبيض المتصل به، ويخرج منه: كتب الفقه والتفسير والإعراب، ورسالة فيها قرآن، ونحو ذلك، وهو المذهب، نظرا لمفهوم الحديث.

105 - وفي الصحيحين «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى هرقل: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» ، من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، وفيه و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية إلى {مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64] » وحكى القاضي وغيره رواية بالمنع، ويخرج منه المنسوخ، وهو المشهور من الوجهين، وكذلك مس الأحاديث المأثورة عن الرب سبحانه وتعالى. ويستثنى من مفهوم كلامه: إذا كتب بعض القرآن مفردا عن تفسير وغيره، فإنه لا يجوز مسه، وإن لم يسم مصحفا، نعم في مس الصبيان ألواحهم - قيل: والمصحف، ومس الدراهم المكتوب عليها القرآن، وثوب طرز به - قولان، ظاهر كلامه الجواز. وقوله: إلا طاهر. يعني من الحدثين الأكبر والأصغر، أما طهارة الخبث فلا يشترط انتفاؤها، نعم العضو المتنجس يمنع من المس (به) على المذهب، وقد يدخل في كلامه طهارة التيمم، وقد يخرج، وبالجملة يجوز المس بها، وإن لم يكن (به) حاجة إلى ذلك، على المقدم. ويخرج من كلامه الذمي، لانتفاء الطهارة منه، بل وعدم تصورها، وهو كذلك، نعم له نسخه بدون حمل ومس، على ما قاله القاضي في تعليقه وغيره، وقال أبو بكر (إنه) لا يختلف قوله في ذلك، وقد ذكر أحمد أن نصارى الحيرة كانوا يكتبون المصاحف، لقلة من كان يكتبها، قيل له:

باب الاستطابة والحدث

يعجبك هذا؟ قال: لا يعجبني. فأخذ من ذلك ابن حمدان - والله أعلم - رواية بالمنع، وقال القاضي في تعليقه: يمكن (حملها) على أنهم حملوا المصاحف في حال كتابتها. ويخرج من كلامه أيضا إذا طهر بعض عضو، فإنه لا يجوز المس به، لأن الماس غير طاهر على المذهب، والله أعلم. [باب الاستطابة والحدث] قال: باب الاستطابة والحدث ش: أي (هذا) باب حكم الاستطابة، وحكم الحدث، فحكم الاستطابة: كيف يستطيب بالماء أو بالحجر؟ وأي حجر يستطيب به، ونحو ذلك، وحكم الحدث الذي يوجب الاستنجاء، والذي لا يوجبه. (والاستطابة) تكون بالحجر وبالماء، سميت بذلك لأنه يطيب جسده بخروج ذلك. والله أعلم. [ما يكون منه الاستنجاء] قال: وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء ش: المعروف في المذهب أنه لا يجب من الريح استنجاء. 106 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من استنجى من الريح فليس منا» رواه الطبراني، وإذا لم يجب من الريح، فمن النوم الذي هو مظنته أولى، [والله أعلم] .

قال: والاستنجاء لما يخرج من السبيلين ش: أي ما عدا الريح، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، تقديره: والاستنجاء واجب أو ثابت، أو يثبت أو يجب، لما يخرج من السبيلين، وهما طريقا البول والغائط. 107 - والأصل في وجوب الاستنجاء [في الجملة] ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار، فإنها تجزئ عنه» رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، والدارقطني، وقال إسناد حسن صحيح. والإجزاء غالبا إنما يستعمل في الواجب. 108 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» رواه الجماعة، وفي رواية للبخاري: «وما يعذبان في كبير» ثم قال: «بلى، كان أحدهما» . وقد شمل كلام الخرقي النادر، والمعتاد، والطاهر،

والنجس، وهو ظاهر كلام الأصحاب، وخالفهم أبو البركات فقال: لا يجب من الطاهر، كالمنى على المذهب، والدواء الذي تحملت به المرأة، إن قيل بطهارة فرجها، والمذي على رواية، (وشمل) أيضا الرطب واليابس، حتى لو أدخل ميلا في ذكره، ثم أخرجه، وجب عليه الاستنجاء وهو المشهور، ربطا للحكم بالمظنة، وهي استصحاب الرطوبة، وقال في المغني: القياس أنه لا يجب من يابس لا يلوث المحل، وحكى ابن تميم ذلك وجها. (تنبيه) : «لا يستنزه» أي لا يطلب البعد من البول، والمادة - كما تقدم - للبعد وهو معنى الرواية الأخرى: «لا يستبرئ» أي لا يتبرأ من البول، أي (لا) يتباعد منه، أما رواية: «لا يستتر» فمن الاستتار، أي لا يبالي بكشف عورته، ويحتمل أنه من المعنى الأول، أي لا يجعل بينه وبين بوله سترة، حتى يتحفظ منه، (والنميمة) من: نم الحديث ينمه وينمه، بكسر النون وضمها، نما. إذا نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض، على جهة الإفساد بينهم، وعرفها بعضهم بأنها المقالة التي ترفع عن قائلها، ليضربها قائلها في دينه، أو نفسه، أو ماله، وهذا التعريف أشمل، لدخول إفشاء السر فيه، ثم قوله: ترفع عن قائلها. يعم كل ما يحصل به الرفع، ولو بكتابة، أو رمز، ونحو ذلك. وهي كبيرة عندنا على الأشهر، وكيف لا. وقد جعلها

الله تعالى صفة لمن اعتدى وكذب، فقال تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ - هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 10 - 11] الآيات. 109 - وأخبر نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن فاعلها لا ينظر الله تعالى إليه، ولا يدخله الجنة فقال: «لا ينظر الله إلى ذي الوجهين» . 110 - وفي الصحيحين: «لا يدخل الجنة قتات» » أي نمام، كما جاء في رواية أخرى. 111 - ولقد أجاد كعب الأحبار، وقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أي شيء في التوراة أعظم إثما؟ قال: النميمة. فقال عمر: هي أقبح من القتل؟ فقال: وهل يولد [القتل] وسائر الشرور إلا من النميمة؟ قلت: ومصداق ذلك في الكتاب العزيز

ما يكون به الاستنجاء

قَوْله تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] وهذا كله إذا تضمنت مفسدة، أما إذا كان فيها مصلحة شرعية، فلا منع فيها، بل ربما وجبت، كما إذا عزم إنسان على قتل إنسان، ونحو ذلك، وعلم ذلك منه، بجور منه، فإنه ينم (عليه) والحال هذه، وكذلك من سعى في الأرض بالفساد، فإنه يخبر به من له ولاية، ونحو ذلك، قال بعضهم: يجوز إذا كان القائل للمقالة ظالما، وللمقول له فيها تحذيرا ونصحا، ولا ريب أن المرجع في ذلك (إلى) المقاصد، قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] والله أعلم. [ما يكون به الاستنجاء] قال: فإن لم يعد مخرجهما أجزأه ثلاثة أحجار، إذا أنقى بهن، فإن أنقى بدون الثلاثة لم يجزه حتى يأتي بالعدد، فإن لم ينق بثلاثة أحجار زاد حتى ينقي ش: إذا لم يتجاوز الخارج مخرج البول - وهو ثقب الذكر - ومخرج الغائط - وهو ثقب الدبر - أجزأه الاستجمار بالحجر، ثم المشترط شيئان: (أحدهما) : العدد، وهو ثلاثة أحجار، لما تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.

112 - «وقيل لسلمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نبيكم علمكم كل شيء حتى الخراءة. قال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة بغائط أبو بول، وأن نستنجي باليمين، وأن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن نستنجي برجيع أو عظم» . أخرجه مسلم وغيره. 113 - وما في سنن أبي داود عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» » محمول إن صح على ما زاد على الثلاثة، جمعا بين الأدلة، لأن رواية الصحيحين «من استجمر فليوتر» (والثاني) : الإنقاء إجماعا، وصفته أن يعود الحجر الآخر ولا شيء عليه، أو عليه شيء لا يزيله إلا الماء، فعلى

هذا إن أنقى بثلاثة، فقد حصل الشرطان، وإن أنقى بدون الثلاثة أتى ببقيتها، تحصيلا لشرط العدد، وإن لم ينق بالثلاثة زاد حتى ينقي، تحصيلا لشرط الإنقاء، ويستحب أن يقطع على وتر، لما تقدم من الحديث. وقول الخرقي: فإن لم يعد مخرجهما. يحتمل أن يريد المخرج المعتاد وإذا لا يكون في كلامه تعرض لما [إذا] انسد المخرج، وانفتح غيره، ويحتمل أن يريد أعم من ذلك، فيدخل ذلك، وبالجملة ففي المسألة وجهان، الإجزاء، وهو قول القاضي، والشيرازي، وعدمه، وهو قول ابن حامد، واختيار أبي محمد وحينئذ يتعين الماء، وسواء انفتح فوق المعدة أو تحتها، صرح بذلك الشيرازي، وقيد أبو البركات، المسألة - تبعا لابن عقيل - بما إذا انفتح أسفل المعدة، قال ابن تميم: ظاهر كلام [بعض] الأصحاب إجزاء الوجهين مع بقاء المخرج أيضا، اهـ. وقوة قوله: أجزأه ثلاثة أحجار. يفهم أن الماء أفضل، وهو المشهور، والمختار من الروايات، لزوال الجسم والأثر، ولهذا طهر المحل، والحجر لا يزيل الأثر ومن ثم لم يطهر على الأشهر، (والثانية) - واختارها ابن حامد -: الحجر أفضل لإجزائه إجماعا. 113 - م - وعمل السلف عليه، ولهذا أنكر الماء طائفة منهم،

(والثالثة) : يكره الاقتصار على الماء، حذارا من مباشرة النجاسة، مع عدم الحاجة إلى ذلك، وبكل حال جمعهما أفضل. 114 - لما روت معاذة «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم منه، وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يفعله» . رواه الترمذي، والنسائي. 115 - وعن «عويم بن ساعدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاهم في مسجد قباء، فقال: «إن الله [تعالى قد] أحسن عليكم الثناء في الطهور، في قصة مسجد قباء، فما هذا الطهور الذي تتطهرون به؟» قالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئا، إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، يغسلون أدبارهم، فنغسلها كما

غسلوها» . رواه أحمد، وابن خزيمة في صحيحه، وظاهر كلام ابن أبي موسى أن الجمع في محل الغائط فقط، ويستثنى من قول الخرقي ما إذا خرجت أجزاء الحقنة فإن الحجر لا يجزئ في ذلك، قاله ابن عقيل.

تنبيهان حول الاستنجاء

[تنبيهان حول الاستنجاء] (تنبيهان) : «أحدهما» : قال الشيخان وغيرهما: كيفما حصل الإنقاء جاز، إلا أن المستحب في الدبر - كما قال القاضي وغيره - أن يمر الأول من صفحته اليمنى، إلى مؤخرها، ثم يديره على اليسرى، حتى يرجع إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يمر الثاني من مقدم اليسرى كذلك، ثم يمر بالثالث على المسربة والصفحتين، فإن أفرد كل جهة بحجر فوجهان، (الاجزاء) ، وهو رواية، حكاها ابن الزاغوني. 116 - لما روى سهل بن سعد عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن الاستطابة، فقال: «أو لا يجد أحدكم حجرين للصفحة، وحجرا للمسربة» رواه الدارقطني وحسن إسناده. (وعدمه) قاله أبو

جعفر، وابن عقيل، لأنه تلفيق لا تكرار، أما في القبل فيأخذ ذكره بشماله، ويمسحه بالأرض، أو بالحجر ونحوهما، فإن كان الحجر صغيرا، ولم يمكنه أن يجعله بين عقبيه، أو بين أصابعه، فهل يمسكه بيمينه، ويمسح بشماله، أو بالعكس، فيه وجهان، أصحهما الأول. 117 - لئلا يدخل تحت: «لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه» والأفضل أن يبدأ الرجل بالقبل، وتخير المرأة، في وجه قطع به ابن عقيل، وأبو محمد، وتبدأ بالدبر في آخر، قطع به الشيرازي وابن عبدوس. (الثاني) : الخراءة بكسر الخاء، ممدود مهموز، اسم فعل الحدث، وأما الحدث نفسه فبغير تاء، ممدود، مع فتح الخاء وكسرها، قاله القرطبي، وقال الجوهري: خرئ خراءة مثل كره كراهة. فجعل الحدث بالفتح والمد، «والغائط» المكان المطمئن من الأرض، سمي الخارج به، تسمية للحال باسم المحل، لكثرة قصد ذلك «والرجيع» الروث والعذرة، سمي رجيعا لرجوعه عن حاله الأولى، بعد أن كان

الاستنجاء بالخشب والخرق وكل ما أنقى

طعاما أو علفا، وكل شيء من قول أو فعل رد فهو رجيع، إذ معناه: مرجوع أي مردود وقيل: المراد بالرجيع هنا الحجر الذي قد استنجي به، و «أجل» أي نعم، قال الأخفش: إلا أنه أحسن من «نعم» في الخبر، و «نعم» أحسن منه في الاستفهام، و «المسربة» بفتح الراء وضمها - مجري الغائط، مأخوذ من: سرب الماء. والله أعلم. [الاستنجاء بالخشب والخرق وكل ما أنقى] قال: والخشب والخرق وكل ما أنقى به فهو كالأحجار ش: هذا هو المشهور، والمختار من [الروايتين] . 118 - لما روى خزيمة بن ثابت قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الاستطابة فقال: «بثلاثة أحجار ليس فيها رجيع» فلولا أن اسم الأحجار يعم الجوامد لم يكن لاستثناء الرجيع معنى، وإنما خص الحجر - والله أعلم - بالذكر لأنه أعم الجامدات وجودا، وأسهلها تناولا. 119 - وقد روي عن طاوس، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى أحدكم البراز، فليذهب معه بثلاثة أحجار، أو ثلاثة أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب، ثم ليقل: الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني، وأمسك علي ما ينفعني» رواه الدارقطني، والبيهقي، موقوفا ومرفوعا، وقال: الموقوف أرجح.

120 - وعن مولى عمر، قال: كان عمر إذا بال قال: ناولني شيئا أستنجي به. فأناوله العود، والحجر، أو يأتي حائطا يتمسح به، أو يمسه الأرض، ولم يكن يغسله. رواه البيهقي وقال: إنه أصح ما في الباب وأعلاه. (والثانية) واختارها أبو بكر: تتعين الأحجار، جمودا على ظواهر النص. تنبيهان: (أحدهما) : إذا استجمر بجلد سمك أو مذكى، فحكى ابن عقيل عن الأصحاب أنهم خرجوه على الروايتين، قال: ويحتمل عندي المنع مطلقا، لأنه مطعوم، والأصحاب غفلوا عن هذه الخصيصة. قلت: لم يغفلوا عن ذلك، بل قد قطع ابن أبي موسى بالمنع، معللا بأنه طعام.

الاستنجاء بالرجيع والعظم والطعام

121 - وروى أبو داود والنسائي، والترمذي واللفظ له، عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام، فإنه زاد إخوانكم من الجن» » ، وإذا نهينا عن الاستنجاء بطعام الجن، فبطعامنا أولى. (الثاني) : «البراز» بفتح الباء: موضع قضاء الحاجة، وفي الأصل: الفضاء الواسع من الأرض، وأكثر الرواة يروونه بكسر الباء، وهو غلط [والله أعلم] . [الاستنجاء بالرجيع والعظم والطعام] قال: إلا الروث، والعظام، والطعام. ش: هذا استثناء من كل ما أنقى، وقد تقدم حديث سلمان في النهي عن الاستنجاء بالرجيع، والعظم. واعلم أنه يشترط في المستجمر به شروط: (أحدها) : أن يكون جامدا؛ لأن المائع إن كان ماء فهو استنجاء وليس باستجمار، وإن كان [غير] ماء لم يجز كما تقدم. (الثاني) : أن يكون طاهرا، لما تقدم من حديث سلمان وغيره.

122 - «وعن ابن مسعود قال: أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الغائط، فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فوجدت حجرين، والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت روثة فأتيته بها، فأخذ الحجرين، وألقى الروثة، وقال: «إنها ركس» رواه البخاري وغيره، والركس النجس. (الثالث) : أن يكون منقيا، فلا يجوز بالفحم الرخو، ولا بالزجاج ونحوه، إذ المقصود الإنقاء، ولم يحصل. (الرابع) : أن لا يكون محترما، فلا يجوز بطعامنا، ولا بطعام دوابنا، وكذلك طعام الجن ودوابهم، وكذلك كتب الفقه والحديث، وما فيه اسم الله تعالى، ونحو ذلك، وتجل الكتب المنزلة أن تذكر إذا، وما اتصل بحيوان، كذنبه وصوفه، ونحو ذلك. (الخامس) : أن لا يكون محرما، فلا يجوز بمغصوب ونحوه، وهذا الشرط قد أهمله المصنف، (والأربعة) الباقية قد

تؤخذ من كلامه، (أما) الجامد فلتمثيله بالخشب والخرق، (وأما) المنقي فلقوله: وكل ما أنقى [به] (وأما) الطاهر فلأنه استثنى الروث والعظام، وذلك شامل للطاهر منهما والنجس، فيلحق بالنجس منهما كل نجس، (وأما) المحترم فلأنه منع من الطعام، وغيره في معناه، ومتى خالف واستجمر بما نهي عنه، لم يجزئه على المذهب، لارتكابه النهي. 123 - وفي الدارقطني وصححه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يستنجى بعظم أو روث، وقال: «إنهما لا يطهران» » وخرج بعضهم الإجزاء في الحجر المغصوب ونحوه من رواية صحة الصلاة في بقعة غصب ونحوها، ورد بأن الاستجمار رخصة، والرخص لا تستباح على وجه محرم. واختار أبو العباس في قواعده الإجزاء في ذلك، وفي المطعوم ونحوه، ومن مذهبه زوال النجاسة بغير الماء من المزيلات، كماء الورد ونحوه، نظرا إلى أن إزالة النجاسة من باب التروك المطلوب عدمها، ولهذا لا يشترط لزوالها قصد، حتى لو زالت بالمطر ونحوه، أو بفعل مجنون، حصل المقصود، والنهي تأثيره في العبادات، إذ القصد المتقرب به إلى الله سبحانه [وتعالى] لا يكون على وجه محرم. (قلت) :

وهذا جيد إن لم يصح ما رواه الدارقطني، أما مع صحته - وقد قال: إن إسناده صحيح. - فمردود. وحيث قيل بعدم الإجزاء فإنه يتعين الماء في الشرط الأول، وهو ما إذا استجمر بمائع غير الماء، وكذلك في الثاني، على ما قطع به أبو البركات، وأبو محمد في الكافي، وفي المغني احتمال بإجزاء الحجر، وهو وهم، وفي الثالث: يعدل إلى حجر منق، وفي الرابع والخامس: هل يجزئه الحجر جعلا لوجود آلة النهي كعدمها، أو يعدل إلى الماء، لعدم فائدة الحجر إذا لنقاء المحل، وإذا يتعين الماء، نظرا «لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الروث والعظم: «إنهما لا يطهران؟» فيه وجهان [والله أعلم] . (تنبيه) : الروث للدواب - قاله أبو عبيد - كالعذرة للآدميين، والركس قال أبو عبيد: شبيه بالرجيع، يقال: ركسه وأركسه. إذا ردده، وقوله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88] أي ردهم إلى حكم الكفار. [والله أعلم] .

قال: والحجر الكبير الذي له ثلاث شعب يقوم مقام الثلاثة الأحجار. ش: هذا هو المشهور، المعمول به من الروايتين، إذ الشعب الثلاثة يحصل بها ما يحصل بالأحجار، من كل وجه، فلا معنى للجمود على التعداد. 124 - وقد روى البيهقي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استجمر أحدكم فليستجمر ثلاثا» » ولأحمد عنه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا تغوط أحدكم فليمسح ثلاث مرات» » . (والرواية الثانية) - واختارها أبو بكر، والشيرازي - لا بد من تعداد الأحجار، جمودا على عامة النصوص الصحيحة، وعلى هذه: لو كسر ما تنجس من الحجر، أو غسله ثم استجمر به، أو استجمر بثلاثة أحجار ذي شعب، أو مسح بالأرض أو بالحائط [في] ثلاثة مواضع، فوجهان في الجميع، الصحيح منهما الإجزاء [والله أعلم] .

قال: وما عدا المخرج فلا يجزئ فيه إلا الماء. ش: قد تقدم أن من شرط الاستجمار بالحجر] أن لا يتجاوز الخارج المخرج، أما إن تجاوز الخارج المخرج فلا يجزئ فيه إلا الماء، لأن الأصل وجوب إزالة النجاسة بالماء، رخص في الاستجمار لتكرر النجاسة على المخرج، دفعا لمشقة تكرار الغسل، فإذا جاوزت المخرج، خرجت عن حد الرخصة، فغسلت كسائر المحال. وإطلاق الخرقي يقتضي غسل ما جاوز المخرج مطلقا، وهو ظاهر كلام بعضهم، قال ابن عقيل والشيرازي: لا يستجمر في غير المخرج. قال في الفصول: وحد المخرج نفس الثقب، واغتفر الشيخان، وصاحب التلخيص، والسامري، وغيرهم ما تجاوزه تجاوزا جرت العادة به، وحده أبو العباس في شرح العمدة بأن ينتشر الغائط إلى نصف باطن الألية فأكثر، والبول إلى نصف الحشفة فأكثر، فإذا يتعين الماء، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية، وحكى الشيرازي وجها أنه يستجمر في المتعدي إلى الصفحتين. وقول الخرقي: لا يجزئ فيه إلا الماء. أي: فيما جاوز المخرج إلا الماء، فظاهره أن الحجر يجزئ في نفس المخرج، وبه قطع ابن تميم وقال بعضهم: لا يجزئ في الجميع إلا الماء. وهو ظاهر كلام الشيخين، وفي الوجيز لابن الزاغوني روايتان

باب ما ينقض الطهارة

كالقولين، وقد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط عدد - والحال هذه - ولا تراب، لعدم ذكره لذلك. وليس بشيء، إذ بساط هذه المسألة أن المتجاوز عن المخرج لا يجزئ فيه الحجر، أما ما يشترط لزوال النجاسة بالماء فله محل آخر قد تقدم. والله أعلم. قال: [باب ما ينقض الطهارة] ش: نقضت الشيء إذا أفسدته، فنواقض الطهارة مفسدات الطهارة، والمراد [الطهارة] الصغرى. قال: والذي ينقض الطهارة ما خرج من قبل أو دبر ش: الذي ينقض الطهارة أشياء: (أحدها) كل شيء خرج من قبل أو دبر، لقول الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] . 125 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» فقال رجل من أهل حضر موت: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط. متفق عليه.

وكلام الخرقي يشمل القليل والكثير، لعموم ما تقدم، ويشمل أيضا النادر، كالدود، والحصا والشعر، ونحو ذلك. 126 - لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «في المذي الوضوء، وفي المني الغسل» رواه أحمد والترمذي وصححه وهو شامل للدائم، وهو نادر. 127 - وعن عروة، عن فاطمة بنت أبي حبيش، أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان دم الحيض - فإنه أسود يعرف، فإذا كان كذلك - فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر، فتوضئي وصلي، فإنما هو دم عرق» رواه أبو داود والنسائي، ودم الاستحاضة نادر.

128 - ويشمل أيضا الطاهر كالمني، والريح، وإن خرجت من القبل، لعموم حديث أبي هريرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وضوء إلا من صوت أو ريح» رواه الترمذي وصححه، ولمسلم وأبي داود معناه، وهذا المنصوص المشهور، وقال أبو الحسين: قياس مذهبنا النقض بالريح من قبل المرأة دون الرجل، وكذلك قال ابن عقيل: إنه الأشبه، لأن قبل المرأة ينفذ إلى الجوف، دون قبل الرجل، وريح الدبر إنما نقض لاستصحابه جزءا لطيفا من النجاسة، بدليل نتنها، قال أبو البركات: ومن قال هذا من الأصحاب التزم نجاسة المني، وقال: إذا أحدث في مائع، أو ماء يسير نجسه، حذارا من النقض بطاهر. ويشمل أيضا إذا قطر في إحليله دهنا ثم سال، أو احتشى قطنا ثم خرج منه ولا بلة معه، أو كان في وسط القطن ميل فسقط بلا بلة، وهو أحد الوجوه، إناطة بالمظنة، (والثاني) : لا ينقض، لانتفاء الخارج، فإن تيقن خروج بلة نقض على الأعرف، وأبعد من قال: لا نقض حتى يخرج بول.

خروج الغائط والبول من غير مخرجهما

(والثالث) : ينقض الدهن خاصة، لاستصحابه بلة غالبا، بخلاف غيره. وخرج من كلامه إذا استرخت مقعدته، فخرجت مع بلة لم ينفصل عنها، ثم عادت، وما إذا احتقن، ولم يخرج شيء من الحقنة، أو وطئ في الفرج أو دونه، فدب ماؤه فدخل فرجها ولم يخرج، وهو أحد الوجهين [في الجميع] . ومراد الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -]- والله أعلم - بالقبل المتيقن، نظرا للغالب، لئلا يرد عليه خروج النجاسة من أحد فرجي الخنثى المشكل، إذا لم يكن بولا، ولا غائطا، فإنه لا ينقض إلا كثيرها على المذهب، [والله أعلم] . [خروج الغائط والبول من غير مخرجهما] قال: وخروج الغائط والبول من غير مخرجهما. ش: الثاني من النواقض في الجملة خروج النجاسة من غير السبيلين المعتادين، ولا يخلو إما أن يكون بولا أو غائطا، أو غيرهما، فإن كان بولا أو غائطا، نقضت وإن قلت، لعموم [قَوْله تَعَالَى] : {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [النساء: 43] . 129 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث صفوان: «ولكن من غائط وبول ونوم» وإن كانت (من) غيرهما فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

زوال العقل من نواقض الوضوء

[زوال العقل من نواقض الوضوء] قال: وزوال العقل، إلا أن يكون النوم اليسير جالسا أو قائما. ش: الناقض الثالث: زوال العقل في الجملة، لأن الحس يذهب معه، وذلك مظنة خروج الخارج، والمظنة تقوم مقام الحقيقة، ولحديث صفوان المتقدم، والمزيل للعقل على ضربين، نوم وغيره، فغيره كالجنون والإغماء، ونحو ذلك، ينقض إجماعا، حكاه ابن المنذر في الإغماء وعممه أبو محمد، وأما النوم فينقض في الجملة على المذهب بلا ريب، لما تقدم. 130 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «العين وكاء السه، فمن نام فليتوضأ» رواه أحمد، وأبو داود، ولأحمد عن معاوية نحوه، وقد

سأله ابن سعيد عنهما فقال: حديث علي أثبت وأقوى. ونقل عنه الميموني: لا ينقض بحال لكن نفاها الخلال، ولا تفريع عليها، أما على المذهب فالكثير ينقض على أي حال

كان، لما تقدم، ولتحقيق المظنة، وقيل عنه بعدم النقض في غير الاضطجاع، واليسير ينقض في حال الاضطجاع لما تقدم، ولا ينقض في حال القعود على الأعرف، وحكي عنه النقض. 131 - وهي مردودة بأن في الصحيحين أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا ينامون، ثم يصلون ولا يتوضئون. والجلوس منهم متيقن. 132 - ولأبي داود عن أنس: «كان أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينتظرون العشاء الآخرة، حتى تخفق رؤوسهم، ثم يصلون ولا يتوضئون» . وفي القائم، والراكع، والساجد روايات، (إحداهن) : النقض في الجميع، لعموم ما تقدم، خرجت منه حالة الجلوس بفعل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لتيقنها، ففيما عداها يبقى على قضية العموم. (الثانية) : النقض إلا في القائم، وهو اختيار

المصنف، وأبي محمد، والخلال إلحاقا للقائم بالقاعد، بل أولى، لاعتماد القاعد بخلاف القائم (الثالثة) : النقض إلا في القائم والراكع، لشبه الراكع بالقائم، (الرابعة) : عدم النقض في الجميع، وهو اختيار القاضي، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل، وابن البنا، قال أبو العباس: اختارها القاضي وأصحابه، وكثير من أصحابنا. 133 - لما روى أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الزهد عن الحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نام العبد وهو ساجد يباهي الله به الملائكة، يقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي، وهو ساجد لي» فسماه ساجدا مع نومه، ولأن

التقاء الختانين من نواقض الوضوء

الأصل الطهارة، فلا تزول بالشك، وهل يلحق المستند، والمحتبي، والمتكئ، بالمضطجع أو بالقاعد؟ فيه قولان، أشهرهما الأول. (تنبيهان) : «أحدهما» : المرجع في اليسير والكثير إلى العرف، لعدم حد الشارع له، قاله الشيخان وغيرهما، فإذا سقط الساجد عن هيئته، أو القائم عن قيامه، ونحو ذلك، بطلت طهارته، لأن أهل العرف يعدون ذلك كثيرا، وكذلك إن رأى حلما، نص عليه، وقطع به جماعة، والأشبه عند أبي البركات عدم تأثير ذلك، وحد أبو بكر اليسير بركعتين، وظاهر كلام أحمد خلافه، ولا بد في النوم الناقض من الغلبة على العقل، فمن سمع كلام غيره وفهمه فليس بنائم، فإن سمعه ولم يفهمه فيسير. (الثاني) : «الوكاء» في الأصل الخيط الذي تشد به القربة ونحوها، جعلت اليقظة للاست كالوكاء للقربة، «والسه» حلقة الدبر، وكني بالعين عن اليقظة لأن النائم لا عين له تبصر، «وتخفق رؤوسهم» . من الخفوق وهو الاضطراب، وقيل: معناه ينامون وهم قعود، حتى تسقط ذقونهم في صدورهم [والله أعلم] . [التقاء الختانين من نواقض الوضوء] قال: والتقاء الختانين. ش: هذا الناقض الرابع، وأكثر الأصحاب لا يعدونه ناقضا، لما استقر عندهم - والله أعلم - من أن ما أوجب الغسل نقض الطهارة الصغرى، وقد أشار إلى ذلك القاضي في الجامع الكبير، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بعد، من أن التقاء الختانين

الردة من نواقض الوضوء

يوجب الغسل، وإن كان بحائل، كما هو [ظاهر] إطلاق الأكثرين، وممن صرح بأن موجبات الغسل ناقضات للطهارة - وإن لم يوجد خروج خارج، ولا ملامسة - السامري، وابن حمدان. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر ذلك ليشعر بهذين الأصلين، وإنما قيل بالنقض بذلك قياما للمظنة مقام الحقيقة، وقد حكى ابن حمدان وجها في الكافر يسلم: لا يجب عليه الوضوء، وإن وجب عليه الغسل، وهذا غير ما تقدم، إذ الكلام ثم في أن ما أوجب الغسل نقض الطهارة، لأن ما أوجب الكبرى أوجب الصغرى والله أعلم. [الردة من نواقض الوضوء] قال: والارتداد عن الإسلام. ش: الناقض الخامس: الارتداد عن الإسلام - والعياذ بالله - على المحقق المعروف. 134 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطهور شطر الإيمان» وإذا بطل الإيمان فكيف بشطره، نظرا إلى أن الإيمان تركب من طهارة الظاهر، وطهارة الباطن كما سيأتي. 135 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الحدث حدثان، حدث اللسان، وحدث الفرج، وحدث اللسان أشد من حدث الفرج. ورواه ابن شاهين مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

واستدل بقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] بناء على الإحباط بمجرد الردة، والموت في قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] شرط للخلود، وفيه نظر. إذ المشهور أن الإحباط مشروط بالموت على الردة، ولهذا صح الحج في الإسلام السابق، ولزمه قضاء ما تركه فيه من صلاة وزكاة، وصوم، على المشهور، ثم الإحباط إنما ينصرف للثواب، دون نفس العمل، بدليل [صحة صلاة] من صلى خلفه وهو مسلم، ولم يعد القاضي في جامعه، وخصاله - وأبو الخطاب في هدايته، وابن البنا، وابن عقيل في التذكرة، وصاحب التلخيص، والسامري - الردة في النواقض، فقيل: لأنها لا تنقض عندهم، وقيل: إنما تركوها لعدم فائدتها، لأنه إن لم يعد إلى الإسلام فظاهر، وإن عاد إلى الإسلام وجب عليه الغسل،

مس الفرج من غير حائل من نواقض الوضوء

ويدخل فيه الوضوء، وقد أشار إلى ذلك القاضي في الجامع الكبير فقال: لا معنى لجعلها من النواقض، مع وجوب الطهارة الكبرى. واستدل أبو العباس عليه [فقال] : إن فائدة ذلك تظهر فيما إذا عاد، فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل، فإن نواهما بالغسل أجزأه، ولو لم ينقض لم يجب عليه [إلا] الغسل. (قلت) : ومثل هذا لا يخفى على القاضي، وإنما أراد القاضي - والله أعلم - أن وجوب الغسل ملازم لوجوب الطهارة الصغرى كما تقدم، وممن صرح بأن موجبات الغسل تنقض الوضوء، السامري، وابن حمدان حكى وجها بأن الوضوء لا يجب بالالتقاء بحائل، ولا بالإسلام، وإذا ينتفي الخلاف بين الأصحاب في المسألة. وتخصيص المصنف للنقض بالردة مشعر بعدم النقض بغيرها من الكلام، وهو صحيح، نعم: يستحب من الكلام المحرم، وهل يستحب من القهقهة؟ فيه وجهان. (تنبيه) : «الشطر» النصف، وجعل الطهور - والله أعلم - شطر الإيمان لأنه يطهر الظاهر، والإيمان يطهر الباطن، والله أعلم. [مس الفرج من غير حائل من نواقض الوضوء] قال: ومس الفرج [من غير حائل] ش: السادس من النواقض مس الفرج، والفرج مأخوذ من

الانفراج، وهو اسم لمخرج الحدث، ويتناول الذكر، والدبر وفرج المرأة، ومناط المسألة الذكر، وغيره مبني ومفرع عليه، فلنتكلم على الذكر أولا فنقول: المذهب المشهور الذي عليه عامة الأصحاب: أن مسه ينقض الوضوء في الجملة. 136 - لما روت بسرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مس ذكره فليتوضأ» رواه الخمسة، وصححه أحمد والترمذي، وقال البخاري: إنه أصح ما في الباب.

137 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه، ليس دونها حجاب، فقد وجب عليه الوضوء» رواه أحمد، والطبراني وهذا لفظه، وابن حبان، والحاكم وصححه وللنسائي، من حديث بسرة نحوه، مع أن عمل الصحابة عليه. 138 - فقد رواه مالك في الموطأ، عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر وحكاه إمامنا عن عمر وابنه وابن عباس، وأنس،

وابن عبد البر عن زيد بن خالد الجهني، والبراء، وجابر، والخطابي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: يستحب الوضوء من مسه ولا يجب. اختارها أبو العباس في فتاويه. 139 - لما «روى قيس بن طلق، عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قدمنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجاءه بدوي فقال: يا رسول الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما توضأ؟ فقال: «وهل هو إلا مضغة منه، أو بضعة منه» رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي. ويحمل ما تقدم على الاستحباب، جمعا بين

الأدلة، ومن نصر الأول ضعف الحديث، ثم ادعى نسخه على تقدير صحته. 140 - بدليل أن وفادة طلق كانت في سنة الهجرة [وهم يؤسسون المسجد، وإسلام أبي هريرة كان في السنة السابعة من الهجرة] وهذا إن لم يكن نصا في النسخ لكنه ظاهر فيه، ثم يؤيده أن حديث طلق موافق للأصل، ودعوى الاستحباب مردودة بقوله: «وجب عليه الوضوء» ومنهم من حمل حديث طلق على المس من وراء حائل، لأنه قد جاء أن السؤال عن المس في الصلاة، وتعليله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرده.

ولا تفريع على هذه الرواية، أما على الأولى فقد شمل كلام الخرقي ذكر نفسه، وذكر غيره، وهو المعروف، لأن في حديث بسرة - في رواية لأحمد والنسائي - أنها سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ويتوضأ من مس الذكر» وحكى ابن الزاغوني رواية باختصاص النقض بذكر نفسه، جمودا على أنه المعروف من الرواية: «من مس ذكره» (وشمل) [أيضا] ذكر الصغير والكبير، وهو المذهب المنصوص عليه، نظرا لعموم ما سبق، وعنه: لا ينقض ذكر الطفل. حكاها الآمدي. (وشمل) أيضا ذكر الحي والميت، وهو المذهب المنصوص أيضا، لما تقدم، وقيل: لا ينقض ذكر الميت. (وشمل) أيضا المتصل والمنقطع المنفصل، وهو أحد الوجهين، وبه قطع الشيرازي، تعليقا بالعموم، (والثاني) : لا ينقض المنقطع لعدم حرمته، وانتفاء مظنة خروج الخارج، (وشمل) أيضا أصل الذكر ورأسه، وهو المذهب لما تقدم، وعنه: تخصيص النقض بالحشفة، وعنه بالثقب. وكلاهما بعيدان. وقول الخرقي: مس الفرج. المس اللمس باليد، فالنقض مختص بها وإن كان بزائدة منها، لحديث أبي هريرة المتقدم، والمراد باليد على المذهب: إلى الكوع، كما في آية التيمم، والسرقة، وعنه: [بل إلى] المرفق،

كما في آية الوضوء. وعنه: بل يختص النقض ببطن الكف، وعليها في حرفها وجهان، وقال الأصحاب: النقض أيضا يحصل بمس الفرج، لأنه أدعى إلى الحدث، ومال أبو البركات إلى عدم النقض به، لأن النقض بمس الذكر تعبد عند المحققين. وقد شمل كلام الخرقي المس سهوا، ولغير شهوة، وهو المشهور، لظواهر النصوص، (وعنه) : لا ينقض مسه سهوا. 141 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» الحديث،

ولا لغير شهوة، نظرا إلى أنه معلل بخروج الخارج، كلمس النساء. وشرط الخرقي أن يكون اللمس من غير حائل، وهو المذهب. 142 - لما تقدم من حديث أبي هريرة، ولأحمد فيه: «ليس دونه ستر» وحكى عنه القاضي في شرح المذهب النقض مع الحائل. إذا عرف هذا ففي النقض بمس حلقة الدبر روايتان، (إحداهما) - وقال الخلال: إنها الأشيع في قوله وحجته، وقواها أبو البركات -: لا ينقض، لأن غالب الأحاديث مقيدة بالذكر، (والثانية) : - وهي ظاهر كلام الخرقي واختيار

الأكثرين، الشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي وابن عقيل، وابن البنا، وابن عبدوس -: ينقض. 143 - لما روت أم حبيبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» رواه ابن ماجه، والأثرم، وصححه أحمد، وأبو زرعة. والفرج اسم جنس مضاف، فيعم، وذكر الذكر لا يخصص، لأنه بعض أفراده، وفي مس المرأة فرجها، أيضا روايتان (إحداهما) : لا ينقض لما تقدم من أن أكثر الأحاديث مقيدة بالذكر، (والثانية) : وصححها أبو البركات - ينقض، لعموم «من مس فرجه فليتوضأ» وذكر الذكر لا يخصص، لما تقدم، والمفهوم غير مراد، لأن الخطاب كان جواب سؤال سائل للرجال.

القيء والدم والدود من نواقض الوضوء

144 - وقد روى أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل مس فرجه فليتوضأ، وأيما امرأة مست فرجها فلتتوضأ» ولا فرق بين مس فرجها وفرج غيرها، وفي التلخيص: ينقض مس فرج المرأة، وفي مسها فرج نفسها وجهان. وفيه نظر. وظاهر كلام الأصحاب أنه لا يشترط للنقض بذلك الشهوة، وهو مفرع على المذهب، وشرطها ابن أبي موسى، وهو جار على الرواية الضعيفة. (تنبيه) : المضغة، قدر اللقمة من اللحم، «والبضعة» قطعة أكبر من المضغة. والله أعلم. [القيء والدم والدود من نواقض الوضوء] قال: والقيء الفاحش، والدم الفاحش، والدود الفاحش، يخرج من الجروح. ش: قد تقدم في الثاني من النواقض أن النجاسة الخارجة من غير السبيلين تنقسم إلى بول وغائط وغيرهما [وقد تقدم الكلام على البول والغائط، والكلام هنا فيما عداه] ولا يخلو إما أن يكون فاحشا أو غير فاحش. فإن كان غير فاحش لم ينقض على المشهور من الروايتين.

145 - لأن عبد الله بن أبي أوفى بصق دما، فمضى في صلاته، وابن عمر عصر بثرة فخرج منها دم فلم يتوضأ، ذكرهما البخاري. 146 - وعن أبي هريرة أنه أدخل أصبعه في أنفه، فخرج عليها دم، فلم يتوضأ، ذكره أحمد وقال: قال ابن عباس في الدم: إذا كان فاحشا أعاد الوضوء. وقال: الدم القليل لا أرى فيه الوضوء، لأن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخصوا فيه. وغير ذلك ما عدا البول، والغائط في معناه، والرواية الثانية: ينقض لعموم ما يأتي. وإن كان فاحشا نقض على المعروف - ولا عبرة برواية أثبتها

بعضهم، ونفاها أبو البركات: أن القيح والصديد، والمدة لا ينقض مطلقا. 147 - لما روى معدان بن أبي طلحة، «عن أبي الدرداء، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قاء فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق، فذكرت ذلك له فقال: صدق، أنا صببت له وضوءه» . رواه أحمد والترمذي وقال: هو أصح شيء في الباب. وقال الأثرم لأحمد: اضطربوا في [هذا] الحديث. فقال: حسين المعلم يجوده. وقيل له: حديث ثوبان يثبت عندك؟ قال: نعم.

148 - ولابن ماجه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أصابه قيء، أو رعاف، أو قلس، أو مذي، فلينصرف فليتوضأ» فيحمل هذا والذي قبله على الفاحش عملا بالدليلين، ويؤيد ذلك قول ابن عباس المتقدم، وقد اعترض على هذا الحديث بأنه مرسل ولا يضر على قاعدتنا، على أنه قد أيد بعمل الصحابة.

149 - فحكى أحمد الوضوء من الرعاف عن علي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عبد البر عن عمر: ثم حديث معدان يوافقه. إذا عرف هذا فاختلف عن إمامنا في الفاحش اختلافا كثيرا، نحو عشرة أقوال أو أكثر، والمشهور منها، المعمول عليه، أنه: ما يفحش في النفس، ولا عبرة بما قطع به ابن عبدوس، وحكى عن شيخه: أن اليسير قطرتان، لما تقدم عن ابن عباس، ولا يعرف عن صحابي خلافه، ثم المعتبر في حق كل إنسان بما يستفحشه في نفسه، نص عليه، وقال الخلال: إنه الذي استقر عليه قوله، ومال إليه أبو محمد، وقال أبو العباس في شرح العمدة، إنه ظاهر المذهب، وحده أنه الأولى، إلا أنه استثنى القطرة والقطرتين، فعفى عن ذلك مطلقا، إذ العفو لدفع المشقة، فإذا لم يستفحشه شق عليه غسله وإن استفحشه هان عليه غسله، وقال ابن عقيل في

أكل لحم الجزور من نواقض الوضوء

فصوله، وشيخه أظنه في المجرد: والمعتبر نفوس أوساط الناس، فلا عبرة بالقصابين، ولا المتوسوسين، كما رجع في يسير اللقطة إلى نفوس الأوساط، وفي الأحراز والقبوض إلى عادة الأكثر، وتبعهما على ذلك صاحب التلخيص وأبو البركات في محرره. (تنبيه) : القلس بالتحريك - وقيل بالسكون - ما خرج من الجوف، ملء الفم أو دونه، وليس بقيء، فإن عاد فهو القيء. والله أعلم. [أكل لحم الجزور من نواقض الوضوء] قال: وأكل لحم الجزور. ش: السابع من النواقض أكل لحم الجزور، على المذهب، المختار لعامة الأصحاب. 150 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: «إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ» قال: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: «نعم توضئوا من لحوم الإبل» قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: «نعم» قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: «لا» رواه أحمد ومسلم، وقال ابن خزيمة: لم نر خلافا بين علماء الحديث أن هذا الخبر صحيح، لعدالة ناقليه.

151 - وعن البراء بن عازب قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الوضوء من لحوم الإبل، فقال: «توضئوا منها» وسئل عن لحوم الغنم، فقال: «لا تتوضئوا منها» وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل، فقال: «لا تصلوا فيها، فإنها من الشياطين» وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: «صلوا فيها، فإنها بركة» رواه أحمد وأبو داود، والترمذي، وصححه والذي قبله أحمد وإسحاق، وظاهر الأمر الوجوب، والوضوء إذا أطلقه الشارع حمل على الشرعي، لا سيما وقد قرنه بالصلاة، وفرق بينه وبين لحم الغنم، مع مطلوبية الوضوء اللغوي فيه، وهو غسل اليد والفم.

152 - وكذا فهم جابر راوي الحديث وغيره الوضوء الشرعي فقال: كنا نتمضمض من ألبان الإبل، ولا نتمضمض من ألبان الغنم، وكنا نتوضأ من لحوم الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم، ذكره البيهقي في السنن. 153 - وقال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نتوضأ من لحوم الإبل، ولا نتوضأ من لحوم الغنم» ، رواه ابن ماجه، وله نحوه عن ابن عمر، وكذا لأحمد من حديث أسيد بن الحضير والمعنى في ذلك إن قيل: [إنه] معلل ما أشار إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأنها من الشياطين، إذ كل عات متمرد شيطان، فالكلب الأسود شيطان الكلاب، والإبل شياطين الأنعام.

154 - وفي الحديث «على ذروة كل بعير شيطان» والأكل منها يورث حالا شيطانية، والشيطان من نار والماء يطفئها. 155 - ودعوى النسخ بقول جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[في الصحيح] : «كان آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك الوضوء مما مست النار» ، ودعوى النسخ مردودة بأن هذه قضية عين، ولا عموم لها، ولو سلم عمومها - كما قاله أصحابنا، أو ورد لفظ عام - لم ينسخ العام الخاص، بل الخاص يقضي على العام، ثم لو سلم اندراج المطبوخ [منه] في العموم، فإنما يدل على نفي الوضوء بسبب مس النار، لا نفي الوضوء من جهة

أخرى، وإذا نقول: الوضوء من المطبوخ كان لعلتين، مس النار، وكونه لحم إبل، فإذا زالت إحداهما لا يلزم زوال الأخرى. وقد شمل كلام الخرقي النيء وهو كذلك، لما تقدم. وعن أحمد (رواية أخرى) : لا ينقض مطلقا، وقد فهم دليلها [وجوابه] مما تقدم، وعنه (ثالثة) : إن طالت المدة وفحشت، كعشر سنين لم يعد، بخلاف ما إذا قصرت، وعنه (رابعة) - وقال الخلال: إن عليها استقر قوله -: يفرق بين الجاهل وغيره، لأنه خبر آحاد فيعذر بالجهل به - كما يعذر بالجهل بالزنا ونحوه - الحديث العهد بالإسلام، والجاهل هنا من لم يبلغه الحديث، قاله أبو العباس، أما من بلغه فلا يعذر، وعنه: بلى مع التأويل، وعنه: مع طول المدة. وقد خرج من كلام الخرقي ما عدا اللحم من لبنها، وسنامها، وكرشها، وكبدها، ومرقها، ونحو ذلك، وهو إحدى الروايتين في اللبن، وأحد الوجهين، أو الروايتين المخرجتين في غيره، واختيار الأكثرين فيهما، لأن الصحيح من الأحاديث ليس فيه ذكر اللبن.

156 - ثم في ابن ماجه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مضمضوا من اللبن، فإن له دسما» وظاهره الاكتفاء بالمضمضة في كل لبن، (والقول الثاني) : يجب في جميع ذلك. 157 - لأن في بعض الأحاديث: «توضئوا من لحوم الإبل وألبانها» رواه أحمد. وغير اللبن في معناه، من السنام ونحوه، والمعتمد أن الوضوء من لحوم الإبل هل هو معلل، فيلحق به ذلك، أو غير معلل، وهو المشهور؟ على قولين. وخرج من كلامه أيضا ما عدا لحم الإبل من اللحوم، وهو المشهور من الروايتين في اللحوم المحرمة أما غير المحرمة فلا

غسل الميت من نواقض الوضوء

تنقض اتفاقا، نعم في استحباب الوضوء مما مست النار وجهان. (تنبيه) : «مرابض الغنم» اسم لمواضع ربضها، أي إقامتها، «ومبارك» اسم لموضع البروك. [غسل الميت من نواقض الوضوء] قال: وغسل الميت. ش: (الثامن) من النواقض غسل الميت مطلقا، على المنصوص، المختار للجمهور. 158 - لما روي عن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء. 159 - وقال أبو هريرة: أقل ما فيه الوضوء، وقال التميمي، وأبو محمد: لا ينقض، كما لو يممه. 160 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس عليكم في ميتكم غسل إذا غسلتموه، فإن ميتكم ليس

بنجس، فحسبكم أن تغسلوا أيديكم» رواه الدارقطني، قال بعض الحفاظ: إسناده جيد. وقد دخل في كلام الخرقي ما إذا غسله في قميصه، وهو ظاهر كلام غيره، وفيه احتمال، وخرج من كلامه ما إذا غسل بعضه، وهو أظهر الاحتمالين عند ابن حمدان، وخرج أيضا ما إذا يممه، وهو المعروف، وقيل: فيه احتمال. (تنبيه) : قيد ابن حمدان المسألة بما إذا قيل: إن مس فرجه ينقض اهـ. والغاسل من يقلبه ويباشره، لا من يصب الماء ونحوه، و «حسبكم» . أي يكفيكم. والله أعلم. قال: وملاقاة جسم المرأة لشهوة. ش: هذا خاتمة النواقض، وهو ملاقاة جسم الرجل [جسم] المرأة لشهوة، على المشهور، المعمول به من الروايات، لقول الله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة: 6] الآية والمفهوم منه في العرف المس المقصود منهن، وهو المس للتلذذ، أما المس لغرض آخر فلا فرق بينهن وبين غيرهن في ذلك، ولأن اللمس بشهوة هو المظنة لخروج المني والمذي، فأقيم مقامه، كالنوم مع الريح.

161 - وعلى هذا يحمل قول ابن مسعود: من قبلة الرجل امرأته الوضوء. ونحوه عن ابن عمر، أخرجهما مالك في الموطأ. 162 - وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن القبلة من اللمس، فتوضئوا منها. رواه البيهقي، فتخصيصه القبلة بذلك قرينة الشهوة. 163 - وعن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل فقال: يا رسول الله ما تقول في رجل أصاب [من] امرأة لا تحل له، فلم يدع شيئا يصيب الرجل من المرأة إلا قد أصاب منها، إلا أنه لم يجامعها؟ فقال: «توضأ وضوءا حسنا ثم قم فصل» فأنزل الله تعالى هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فقال معاذ: هي له خاصة، أم للمسلمين عامة؟ فقال: «بل هي للمسلمين

عامة» رواه أحمد والدارقطني، مع أن فيه انقطاعا، فإن راويه عن معاذ عبد الرحمن بن أبي ليلى ولم يدركه. 164 - وما روي من أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل ولم يتوضأ، إن صح أيضا محمول على التقبيل ترحما ونحوه، ولو أريد بالآية الجماع

لاكتفى بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا} [المائدة: 6] . (والثانية) : ينقض مطلقا لظاهر [إطلاق] الآية الكريمة، وما تقدم من حديث معاذ ونحوه، ويؤيد ذلك أنه قد ورد في لسان الشارع، وأريد به ذلك. 165 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ماعز «لعلك قبلت أو لمست» ؟ 166 - ونهى عن بيع الملامسة وقد حكي عن أحمد أنه رجع عن هذه الرواية. (والثالثة) : لا ينقض مطلقا، وهو اختيار أبي العباس في فتاويه، وهو قول الحبر ابن عباس، حملا للآية على الجماع. 167 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إن الله حيي كريم، يكني بما شاء عما شاء، وإن مما كنى به عن الجماع الملامسة. ويؤيد ذلك ما روي من تقبيله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما تقدم يحمل على الاستحباب، جمعا بين الأدلة اهـ. وقد شمل كلام الخرقي الأجنبية، وذات المحرم، والعجوز، وهو كذلك، وشمل أيضا الحية والميتة، وهو اختيار القاضي

وابن عبدوس، وابن البنا، وصاحب التلخيص وغيرهم نظرا للعموم، وقياسا على وجوب الغسل بوطئها، وخالفهم أبو جعفر، وابن عقيل، وأبو البركات، لأنها ليست محلا للشهوة، أشبهت البهيمة، وشمل أيضا مسها بعضو زائد، ومس عضو زائد منها، لأن جسمه لاقى جسمها، وصرح به غيره. وقوله: المرأة. قد يخرج به الطفلة. وصرح به أبو البركات، مقيدا بالتي لا تشتهى، وصرح أبو محمد، وصاحب التلخيص، والسامري، وغيرهم بأنه لا فرق بين الصغيرة والكبيرة. وقوله: المرأة. أي لجسم المرأة، فيحتمل أن يدخل تحته الشعر والسن، والظفر، وهو قويل، والمذهب عدم النقض بذلك. وخرج من كلامه اللمس بحائل وهو المعروف المنصوص وحكي عنه النقض مع الحائل أيضا وبعدت. وقوله: ملاقاة جسم الرجل للمرأة، قد يدخل فيه ما إذا مسته المرأة ووجدت منه الشهوة، أن وضوءه ينتقض، وهذا

ينبني على أصلين: (أحدهما) : أن المرأة هل حكمها حكم الرجل إذا مسته، وهو المشهور، أم لا؟ فيه روايتان. (الثاني) : أن اللامس حيث انتقض وضوءه هل ينتقض وضوء الملموس، وهو اختيار ابن عبدوس، أو لا ينتقض، وهو اختيار أبي البركات؟ على روايتين أيضا، ثم محلها - وفاقا للشيخين - فيما إذا وجدت الشهوة من الملموس، فيكون كلام الخرقي ينبني على أن حكم المرأة حكم الرجل، وأن وضوء اللامس ينتقض إذا انتقض وضوء الملموس. واعلم أن عامة الأصحاب يعد النواقض كما عدها الخرقي، عدا التقاء الختانين كما تقدم، وزاد بعض المتأخرين: زوال عذر المستحاضة ونحوها بشرطه، وخروج وقت صلاة تيمم لها، وبطلان المسح بفراغ مدته، أو خلع حائله، ونحو ذلك، وبرء محل الجبيرة، ورؤية الماء للمتيمم العادم له ونحو ذلك، وهذا وإن [كان] مناقشا فيه، لكن الحكم متفق عليه اهـ. (تنبيه) : {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114] أي ساعة بعد ساعة. واحدتها: زلفة [والله أعلم] . قال: ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة، فهو على ما تيقن منهما.

168 - ش: روى عبد الله بن زيد قال: «شكي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ قال: «لا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا» متفق عليه. 169 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا، فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا» رواه مسلم وغيره، والمعنى في ذلك أن الشيء إذا كان على حال، فانتقاله عنها يفتقر إلى زوالها، وحدوث غيرها، وبقائها، وبقاء الأولى لا يفتقر [إلا] إلى مجرد [بقائها] ويكون أولى. واعلم أن كلام الخرقي يشمل صورا، منها ما تقدم، (ومنها) إذا تيقن الطهارة والحدث، وشك في السابق منهما، فإنه على ضد حاله قبلهما، مثاله: إذا تيقن بعد الزوال مثلا أنه كان متطهرا ومحدثا، فإنه ينظر إلى ما قبل الزوال فإن كان محدثا فهو الآن متطهر، لأنه قد تيقن زوال ذلك الحدث بطهارة بعد الزوال، والحدث الموجود بعد الزوال، يحتمل أن يكون ذلك الحدث واستمر، ويحتمل أنه حدث متجدد، فهو متيقن للطهارة، شاك في الحدث، وإن كان قبل الزوال متطهرا فهو الآن محدث، وبيانه مما تقدم (ومنها) إذا تيقن فعل الطهارة والحدث، وصورته أنه تيقن بعد الزوال أنه تطهر طهارة رفع بها حدثا، وأحدث

باب ما يوجب الغسل

حدثا نقض به طهارة، فيكون على مثل حاله قبل الزوال، فإن كان قبله متطهرا فهو الآن متطهر، لأن الطهارة التي قبل الزوال، قد تيقن زوالها بالحدث، وتيقن أيضا زوال الحدث بالطهارة التي بعد الزوال، والأصل بقاؤها، وإن كان قبل الزوال محدثا، فهو الآن محدث، وبيانه مما تقدم، والضابط كما قال الخرقي العمل بالأصل. (تنبيه) : الشك في كلام الخرقي خلاف اليقين، وإن انتهى إلى غلبة الظن، وفاقا للفقهاء واللغويين كما قاله الجوهري، وابن فارس وغيرهما، وفي اصطلاح الأصوليين هو تساوي الاحتمالين والله سبحانه وتعالى أعلم. قال: [باب ما يوجب الغسل] ش: قال القاضي عياض: الغسل بالفتح الماء، وبالضم الفعل، وقال ابن مالك: [الغسل] بالضم الاغتسال،

والماء الذي يغسل به. وقال الجوهري: غسلت الشيء غسلا. بالفتح، والاسم الغسل. بالضم، والغسل بالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره، [والله أعلم] . قال: والموجب للغسل خروج المني. ش: خروج المني في الجملة موجب للغسل اتفاقا، وقد قال [الله] تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] . 170 - وثبت أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما الماء من الماء» . 171 - وفي الصحيحين «عن أم سلمة، أن أم سليم قالت: يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق، هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: «نعم إذا رأت الماء» فقالت أم سلمة: أو تحتلم المرأة؟ فقال: «تربت يداك، وبم يشبهها ولدها» ؟» 172 - وفي رواية لمسلم: «ماء الرجل غليظ أبيض، وماء المرأة رقيق أصفر، فمن أيهما علا أو سبق يكون الشبه منه» .

والألف واللام في كلام الخرقي يجوز أن تكون لمعهود ذهني وهو المني المعتاد، وهو الخارج على وجه الدفق واللذة، فلا يجب الغسل لمني خرج بغير ذلك كالخارج لمرض أو إبردة أو كسر ظهر، أو نحو ذلك، وهو المشهور المعروف. 173 - لما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت رجلا مذاء، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خذفت الماء فاغتسل، وإن لم تكن خاذفا فلا تغتسل» رواه أحمد. والخذف خروجه بسرعة، وفي رواية أبي داود: «إذا فضخت الماء فاغتسل» والفضخ قال إبراهيم الحربي: خروجه بالغلبة.

174 - «وعنه أيضا قال: كنت رجلا مذاء، فلما رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الماء قد آذاني، قال: «إنما الغسل من الماء الدافق» رواه البيهقي في سننه. ويحتمل أن تكون للجنس، أي خروج كل مني، فعلي هذا يجب الغسل وإن خرج بلا دفق وشهوة، وهو تخريج كما سيأتي، وقيل: رواية حكاها ابن عبدوس، لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الماء من الماء» وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نعم إذا رأت الماء» وقوله: «في المذي الوضوء، وفي المني الغسل» ويجاب بالقول بموجب هذه الأحاديث وأن الألف واللام لمعهوده ذهني، كما تقدم. ومقتضى كلام الخرقي أن الغسل لا يجب بالانتقال، لتعليقه الحكم على الخروج، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد، والشريف فيما حكاه عنه الشيرازي، لما تقدم في النصوص، إذ الحكم في الجميع مرتب على الرؤية، (والرواية الثانية) : وهي المنصوصة المشهورة عن أحمد،

والمختارة لعامة أصحابه، حتى أن جمهورهم جزموا بها - يجب بذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] والجنابة أصلها البعد، قال سبحانه: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء: 36] أي البعيد وسمي من جامع جنبا لبعده عن الصلاة وموضعها حتى يطهر، ومع الانتقال قد باعد الماء محله، فصدق عليه اسم الجنب، وإناطة للحكم [بالشهوة] وتعليقا له على المظنة، إذ بعد انتقاله يبعد عدم خروجه، كما قد أشار إليه أحمد، ومحل الروايتين - وفاقا لابن حمدان - فيما إذا لم يخرج إلى قلفة الأقلف، وفرج المرأة، فعلى الأولى إذا خرج بعد ذلك وجب الغسل، وإن خرج لغير شهوة، لأن انتقاله كان لشهوة، وتترتب الأحكام المتعلقة بخروج المني، من إفساد صوم ونحوه، ويعيد ما صلى من وقت انتقاله، قاله ابن حمدان، وعلى الثانية تترتب الأحكام بمجرد الانتقال، من إفساد صوم، ووجوب بدنة في الحج، حيث وجبت بخروج المني، قاله القاضي في تعليقه التزاما، وجعله ابن حمدان وجها وبعده.

وهل يجب عليه - إن كان قد اغتسل - غسل ثان؟ حكمه حكم مني اغتسل له، ثم خرجت بقيته، وفيه روايات (إحداها) - وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار الخلال، وابن أبي موسى، وأبي البركات وغيرهم - لا غسل عليه، حذارا من أن يلزمه بمني واحد غسلان، وتبعا لعلي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (والثانية) : عليه الغسل، إناطة بخروج المني، (والثالثة) - وهي اختيار القاضي في تعليقه - إن خرج قبل البول فعليه الغسل، لأنه بقية مني دافق بلذة، وإن خرج بعد البول فلا، لأن الظاهر أنه غير الأول، وقد تخلف عنه شرطه وهو الدفق واللذة، وهي اختيار القاضي في التعليق، (وعنه رابعة) : عكس الثالثة، حكاها القاضي في المجرد: إن خرج قبل البول لم يجب الغسل، لأنه بقية الأول، وقد اغتسل له، وإن خرج بعده وجب، لأنه مني جديد، ومنها خرج أبو البركات الوجوب فيما إذا خرج المني لغير شهوة. أما إن انتقل ولم يغتسل له ثم خرج بعد فإنه يغتسل بلا نزاع نعلمه. ومقتضى كلام الخرقي أيضا أن الغسل لا يجب بمجرد الاحتلام وهو المذهب بلا ريب، وقد حكاه ابن المنذر وغيره إجماعا، وأغرب ابن أبي موسى في حكايته رواية

بالوجوب، فعلى المذهب إن خرج بعد شهوة اغتسل له، وإلا فروايتا الانتقال، قاله ابن، حمدان والمنصوص عن أحمد الوجوب، وهو أظهر لئلا يلزم انتقال مني وخروجه من غير اغتسال، ثم ينبغي أن يقول بروايات الانتقال. ومقتضى كلام الخرقي أيضا أنه إذا وجد المني في النوم، ولم يذكر احتلاما، أن عليه الغسل، وهو كذلك. 175 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر احتلاما؟ قال «يغتسل» : وعن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولا يجد البلل؟ قال: «لا غسل عليه» فقالت أم سلمة: يا رسول الله فالمرأة ترى ذلك أعليها غسل؟ قال: «نعم، إنما النساء شقائق الرجال» رواه أبو داود والترمذي، أما إن وجد بللا، وشك هل هو مني أم لا؟ فإن وجد سبب المني - وهو الاحتلام أنيط الحكم عليه وعمل به، وإن وجد سبب المذي - وهو الملاعبة ونحوها، أو كانت به إبردة تعلق الحكم

بذلك، وعمل عليه وإن لم يوجد واحد منهما فهل يحكم بأنه مني - وهو المشهور وبه قطع بعضهم، لظاهر حديث عائشة، ولانتفاء سبب صالح لغيره، أو للمذي لأن الأصل عدم وجوب الغسل، وإلى هذا ميل أبي محمد؟ فيه روايتان، فعلى الأول: يتوضأ مرتبا متواليا، ويغسل يديه وثوبه احتياطا، وعلى الثاني: يستحب [الغسل احتياطا] . وقد شمل كلام الخرقي - إذا جعل الألف واللام للجنس - إذا وطئ دون الفرج، فدب منيه فدخل فرج المرأة ثم خرج، أو وطئ في الفرج، ثم خرج منيه من فرجها بعد غسلها، أو خرج ما استدخلته [من مني] بقطنة، ولم يخرج منيها، وهو وجيه في الكل، والمنصوص المقطوع به عدم الغسل على المرأة والحال هذه، ولا نزاع فيما نعلمه أن الغسل لا يجب بخروج المني من غير مخرجه، وإن وجد شرطه. (تنبيه) : قد تقدم بيان الخذف والفضخ، «وتربت يداك» أي افتقرت، في الصحاح: ترب الشيء. بالكسر إذا أصاب التراب، ومنه ترب الرجل. إذا افتقر، كأنه لصق بالتراب، وأترب، إذا استغنى، كأنه صار ماله - من الكثرة - بقدر التراب، وتأول مالك، وعيسى بن دينار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الحديث على الاستغناء والمقام يأباه.

وقال الأصمعي: معناه الحظ على تعلم مثل هذا، كما يقال: أنج ثكلتك أمك. وذهب أبو عبيد والمحققون إلى أن هذا اللفظ وشبهه يجري على ألسنة العرب من غير قصد الدعاء، فينظر في القول وقائله، فإن كان وليا فهو الولاء وإن خشن، وإن كان عدوا فهو البلاء وإن حسن، ولقد أحسن بعضهم في قوله: قد يوحش اللفظ وكله ود، ويكره الشيء وما من فعله بد، هذه العرب تقول: لا أبا لك للشيء إذا أهم، وقاتلك الله. لا يريدون به الذم، وويل أمه. للأمر إذا تم. 176 - ثم على تقدير كونه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أراد بذلك أصله من الدعاء عليها فهو لها قربة ورحمة، كما جاء في الحديث. «والمني» مشدد، وفعله رباعي على الأشهر، وبهما جاء القرآن، قال سبحانه: {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] وقال: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58]

التقاء الختانين من موجبات الغسل

وحكي فيه التخفيف على وزن العمي، وفعله «منى» بالتخفيف، «ومنى» بالتشديد، وسمى بذلك لأنه يمنى أي يصب «والمذي» مخفف بمعجمة، على الأفصح فيهما، وحكي فيه التشديد والإهمال، ومن يحذف لامه كيد، وقالوا في فعله: مذي وأمذى ومذى. بالتشديد، «وشقائق» . جمع شقيقة، تأنيث: شقيق، وهو المثل والنظير، كأنه اشتق هو ونظيره من شيء واحد، فهذا شق وهذا شق، ومنه قيل للأخ شقيق، والله أعلم. [التقاء الختانين من موجبات الغسل] قال: والتقاء الختانين. ش: الختانان واحدهما ختان، والختان في الأصل قطع جلدة حشفة الذكر، وفي المرأة: قطع بعض جلدة عالية مشرفة على محل الإيلاج، ثم عبر بذلك عن موضع الختن، والتقاؤهما تقابلهما وتحاذيهما، ولما كان الموجب هو التقاء الختانين لا المس، وكان ذلك لا ينفك عن تغييب الحشفة أو قدرها، جعل ذلك هو الضابط، فقال الفقهاء، تغييب الحشفة. 177 - إذا عرف هذا فالأصل في وجوب الغسل بذلك في الجملة ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها - وفي لفظ - ثم اجتهد - فقد وجب الغسل» متفق عليه.

وفي لفظ لأحمد ومسلم: «وإن لم ينزل» . 178 - وعن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار، فقال الأنصاريون: لا يجب الغسل إلا من الدافق، أو من الماء. وقال المهاجرون: بل إذا خالط فقد وجب الغسل. قال: فقلت أنا أشفيكم. فقمت فاستأذنت على عائشة فأذنت لي، فقلت لها: إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحييك. فقالت: لا تستحي أن تسألني عن ما كنت سائلا عنه أمك. فإنما أنا أمك. قلت: فما يوجب الغسل؟ قالت: على الخبير سقطت، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جلس بين شعبها الأربع، ومس الختان الختان، فقد وجب الغسل» رواه أحمد ومسلم.

179 - «وعن رافع بن خديج قال: ناداني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا على بطن امرأتي، فقمت ولم أنزل، فاغتسلت وخرجت، فأخبرته فقال: «لا عليك، الماء من الماء» قال رافع: ثم أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغسل» ، رواه أحمد، وبهذا يعلم نسخ ما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الماء من الماء» ونحوه، وقد صرح بذلك رافع بن خديج [كما تقدم] . 180 - وكذلك سهل بن سعد فقال: حدثني أبي أن الفتيا التي كانوا يفتون: «إن الماء من الماء» رخصة رخصها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدء الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعد ذلك، رواه أبو داود، وفي لفظ: ثم أمرنا. وصرح بذلك جماعة من العلماء، ويعلم وهم من ظن أنها تخصيص عموم مفهوم «إنما الماء من الماء» حذارا من النسخ، إذ ذاك إنما يتمشى له قبل العمل، أما بعد العمل فيتعين النسخ، ورد قول من قال: إنه من باب تعليق

الحكم على المظنة، بعد تعليقه على الجملة لخفائها، إذ لا ريب أن الإنزال ليس بخاف. 181 - ثم في سنن أبي داود من حديث أبي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل ذلك رخصة للناس في أول الإسلام لقلة الثياب، ثم أمرنا بالغسل، ونهى عن ذلك. فذكر أن السبب قلة الثياب. 182 - وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يؤول: «إنما الماء من الماء» على الحلم في المنام، من غير رؤية ماء، لكن عامة الصحابة على خلاف ذلك. إذا تقرر هذا فاعلم أنا قد أنطنا الحكم بتغييب الحشفة في الفرج أو قدرها، ولا بد من كونهما أصليين، فلو أولج الخنثى المشكل حشفته، ولم ينزل في فرج أصلي، أو أولج غير الخنثى ذكره في قبل الخنثى، فلا غسل على واحد منهما، لاحتمال كون الحشفة أو القبل خلقة زائدة. ثم بعد ذلك هو شامل لكل واطئ وموطوءة، ولو مع إكراه ونوم، أو كانت المرأة ميتة، نص عليه، أو كانا غير بالغين، نص عليه أيضا، واستدل على أنه لا يشترط البلوغ باغتسال عائشة.

183 - وفي مسلم عنها «أن رجلا سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل - وعائشة جالسة - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني لأفعل ذلك أنا وهذه ثم نغتسل» وعن القاضي منع الوجوب مع الصغر، نظرا إلى عدم تكليف الصغير، وكأن الخلاف لفظي، إذ مراد القاضي - والله أعلم - بعدم الوجوب انتفاء تحتم الغسل على الصغير، وإلزامه بذلك، ومراد أحمد - والله أعلم - بالوجوب اشتراطه للصلاة ونحوها، لا التأثيم بالتأخير، وهذا متعين، إذ التكاليف الخطابية لا تتعلق بغير بالغ، والصلاة ونحوها لا تصح بلا طهارة، وقد أشار القاضي إلى ذلك في تعليقه فقال: إن الصبي والمجنون إذا أولجا في الفرج وجب الغسل عليهما بعد البلوغ والإفاقة، إذا أراد الصلاة، فإن ماتا قبل وجوب الصلاة عليهما وجب غسلهما، وكان عن الجنابة والموت. إذا عرف هذا فشرط تعلق الغسل بغير البالغ أن تكون ممن يوطأ مثلها على ظاهر كلام أحمد في رواية ابن إبراهيم، قال - وقد سئل عن الجارية متى يجب عليها الغسل؟ . قال -: إذا كان مثلها يوطأ. وأصرح منه ما حكي عنه أنه قال: إذا

إسلام الكافر من موجبات الغسل

وطئ جارية لا يوطأ مثلها فلا غسل عليه، حذارا من أن تكون جنابة، وصرح بذلك ابن عقيل، وصاحب التلخيص فيه، أبو البركات في الشرح، والسامري مقيدا الجارية ببنت تسع سنين، والغلام بابن عشر، وظاهر إطلاق كثيرين عدم الاشتراط، ومن ثم أورده ابن حمدان مذهبا. وشامل أيضا للوطء في كل فرج أصلي كما تقدم وإن كان دبرا، أو لميتة، وحيوان بهيم، حتى السمكة، ذكرها القاضي في التعليق. (تنبيه) : «شعبها الأربع» بين رجليها وشفريها، الخطابي: أسكتيها وفخذيها. عياض: نواحي الفرج. وقيل: رجليها ويديها. «وجهدها» قيل: أتعبها. وقيل: بلغ جهده منها. وهو يوافق رواية: «ثم اجتهد» والجهد الطاقة والإشارة بذلك - والله أعلم - إلى الحركة، ويمكن صورة العمل، وهو قريب من قول الخطابي: حفرها. قال: والجهد اسم من أسماء النكاح، وعلى هذا معناه: ثم نكحها. و «على الخبير سقطت» . أي صادفت مخبرا يخبرك بحقيقة ما سألت عنه، حاذقا فيه و «يكسل» مضارع أكسل. إذا جامع ولم ينزل. والله أعلم. [إسلام الكافر من موجبات الغسل] قال: وإذا أسلم الكافر. ش: هذا هو المنصوص المختار لعامة الأصحاب.

184 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ثمامة بن أثال أسلم فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهبوا به إلى حائط بني فلان، فمروه أن يغتسل» رواه أحمد. 185 - وفي الصحيحين أنه اغتسل، وليس فيه أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وفي البخاري أنه اغتسل قبل الإسلام، وإذا الحديثان لم يتواردا على محل واحد، فاغتساله كان قبل إسلامه، وأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك كان بعد الإسلام. 186 - «وعن قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يغتسل بماء وسدر» . رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وحسنه الترمذي، ولأنه لا يسلم غالبا من جنابة، فأقيمت المظنة مقام الحقيقة كالنوم، وتردد أبو بكر فوافق الأصحاب في التنبيه، وخالفهم في غيره فقال: يستحب، ولا يجب، وأغرب أبو محمد في الكافي، فحكى ذلك رواية.

187 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر به في حديث معاذ، ولو وجب لأمر به، إذ هو أول الواجبات بعد الإسلام، ولأن ذلك يقع كثيرا، وتتوفر الدواعي على نقله، فلو وقع لاستفاض، وحديث أبي هريرة في إسناده مقال [ما] ، على أنه قد يحمل على الاستحباب، وكذلك حديث قيس، وقرينته ذكر السدر فيه، جمعا بين الأدلة (ويجاب) بأنه إنما ذكر في حديث معاذ أصول العبادات لا شرائطها، ولا نسلم عدم استفاضة ذلك، بل قضية ثمامة تقتضي استفاضته، وظاهر

الطهر من الحيض والنفاس من موجبات الغسل

الأمر الوجوب (فعلى الأول) إذا أجنب في حال كفره ثم أسلم تداخلا، وأنيط الحكم بغسل الإسلام، وعلى قول أبي بكر: يجب عليه الغسل للجنابة وإن اغتسل في كفره، لعدم صحة نيته. وقد شمل كلام الخرقي المرتد، ومن لم يوجد منه جنابة، وهو الأعرف فيهما، ومن اغتسل في حال كفره، وهو كذلك، وقد قيد ابن حمدان المسألة بالبالغ، والأكثرون أطلقوا، لكن قد يؤخذ من تعليلهم ما قاله، وقد يوجه الإطلاق بأن المذهب صحة إسلام من لم يبلغ، ومقتضى كلامهم أن الغسل والحال هذه شرط لصحة الصلاة، كما صرح به أبو بكر في التنبيه، وإذا يصير بمنزلة وطء الصبي، والتحقيق تعلق الغسل به كما تقدم، والله أعلم. [الطهر من الحيض والنفاس من موجبات الغسل] قال: والطهر من الحيض والنفاس. ش: لا خلاف في وجوب الاغتسال بذلك في الجملة، لإشارة النص وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] أي اغتسلن، أوقف سبحانه حق الزوج من الوطء على الاغتسال، فدل على وجوبه. 188 - وقد صرح بذلك المبين لكتاب ربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لفاطمة بنت أبي حبيش وقد سألته عن استحاضتها، فقال: «ذلك عرق

وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا ذهبت فاغتسلي وصلي» رواه البخاري. 189 - وقال لأم حبيبة - وسألته أيضا عن ذلك - فقال لها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذا عرق، فاغتسلي وصلي» رواه مسلم، والبخاري ولفظه: «ثم اغتسلي وصلي» ودم النفاس هو دم حيض يجتمع ثم يخرج. وظاهر كلام الخرقي أن الغسل إنما يجب بالانقطاع، وهو أحد الوجهين وظاهر الأحاديث، (والثاني) - وصححه أبو البركات وغيره - يجب بالخروج، إناطة للحكم بسببه، لكن الانقطاع شرط لصحته اتفاقا، وفائدة الوجهين إذا استشهدت الحائض، فعلى قول الخرقي لا تغسل، إذ الانقطاع الشرعي الموجب للغسل لم يوجد، وعلى قول غيره تغسل للوجوب بالخروج، وقد حصل الانقطاع حسا، فأشبه ما لو طهرت في أثناء عادتها، وقال أبو محمد: لا يجب على الوجهين، لأن الطهر شرط في صحة الغسل، أو في السبب الموجب له [ولم يوجد] .

وقد ينبني أيضا على قول الخرقي [أنه لا يجب] ، بل ولا يصح غسل ميتة مع قيام حيض ونفاس، وإن لم تكن شهيدة، وهو قويل في المذهب، لكن لا بد أن يلحظ فيه أن غسلها للجنابة قبل انقطاع دمها لا يصح، لقيام الحدث، كما هو رأي ابن عقيل في التذكرة، وإذا لا يصح غسل الموت لقيام الحدث كالجنابة، وإذا لم يصح لم يجب، حذارا من تكليف ما لا يطاق، والمذهب صحة غسلها لها قبل ذلك، فينتفي هذا البناء. واعلم أن ظاهر ترجمة الخرقي أولا يقتضي أنه لا يجب الغسل بغير تلك الخمسة المذكورة، لأنه قال: والموجب للغسل خروج المني. إلى آخره، وظاهره حصر الوجوب في هذه الخمسة دون غيرها. فلا يجب بولادة عرية عن دم، وهو أحد الوجهين أو الروايتين، على ما في الكافي، واختيار الشيخين، لعدم المقتضي لذلك، وهو النفاس أو المني، (والثاني) - واختاره ابن أبي موسى، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا، وغيرهم، يجب قياما للمظنة مقام الحقيقة، ولأنه مني منعقد، ورد بخروج العلقة، فإنها لا توجب الغسل بلا

نزاع، وينبني على التعليلين الفطر بذلك، وتحريم الوطء قبل الاغتسال، فمن علل بالأول يلزمه ذلك، لا من علل بالثاني اهـ. ولا يجب أيضا بغسل ميت، بل يستحب، (وعنه) : يجب من تغسيل الكافر. 190 - لما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه لما مات أبو طالب أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: إن عمك الشيخ الضال قد مات. قال: «اذهب فوار أباك، ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني» فواريته فجئته فأمرني فاغتسلت فدعا لي» . رواه أبو داود والنسائي، وقد يجب مطلقا.

191 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من غسل ميتا فليغتسل» رواه أبو داود، والمذهب الأول بلا ريب، نظرا للأصل، وحملا لما تقدم على الاستحباب، لعموم «حديث صفوان: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام إلا من جنابة. » 192 - وفي مالك في الموطأ أن أسماء غسلت أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين توفي، ثم خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين، فقالت: إني صائمة، وإن هذا يوم شديد البرد، فهل علي من غسل؟ فقالوا: لا. على أنه ليس في حديث علي أنه غسله، مع أن الأحاديث لم تثبت، قاله أحمد وغيره،

ومن ثم قال ابن عقيل: ظاهر كلام أحمد عدم الاستحباب رأسا. اهـ. ولا يجب أيضا على من أفاق من إغماء أو جنون لم يتيقن معه حلم، وإن وجد بلة على المعروف من الروايتين، لأنه معنى يزيل العقل فلا يوجب الغسل كالنوم، ولأنه مع عدم البلة يبعد احتمال الجنابة، ومع وجودها يحتمل أن ذلك لغير شهوة، ويحتمل أنه [حصل] عن المرض المزيل للعقل، فلا يجب الغسل مع الشك، (والثانية) : يجب وإن لم يجد بلة. 193 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغتسل من الإغماء، وفعله على وجه القربة دليل على الوجوب، وتوسط أبو الخطاب فأوجبه مع البلة كالنائم. ولا يجب أيضا على من أراد الجمعة، وسيأتي إن شاء الله تعالى. ويرد على حصر الخرقي [الموت] فإنه موجب في الجملة بلا نزاع. والله أعلم.

غمس الحائض والجنب والمشرك أيديهم في الماء

[غمس الحائض والجنب والمشرك أيديهم في الماء] قال: والحائض، والجنب، والمشرك إذا غمسوا أيديهم في الماء فهو طاهر ش: لا إشكال أن مجرد غمس الحائض أو الجنب يده أو غيرها من أعضائه في الماء لا يزيل طهارته، لطهارة بدنيهما. 194 - لما في الصحيحين «عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقيه في بعض طرق المدينة وهو جنب، قال: فانخنست منه. الحديث إلى قوله: «سبحان الله إن المؤمن لا ينجس» . » 195 - ولمسلم من حديث حذيفة نحوه. 196 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أشرب وأنا حائض، فأناوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيضع فاه على موضع فيها» . رواه مسلم وغيره، أما لو غمس الجنب أو الحائض الذي انقطع حيضها يده في الإناء قاصدا رفع الحدث عنها والماء قليل، فإن طهوريته تزول على المذهب المنصوص، ولم يرتفع حدثه على المعروف، وهل زوالها بأول جزء لاقاه، أو بأول جزء انفصل عنه؟ فيه وجهان، أشهرهما الثاني، وإن نويا الاغتراف

فهو باق على طهوريته، وإن غمسا بعد نية الاغتسال ذاهلين عن نية الاغتراف، وعن رفع الحدث عن اليد بالوضع فروايتان. أنصهما عن الإمام، وأصحهما عند عامة الأصحاب: زوال طهوريته، لحصول الغمس بعد نية رفع الحدث. 197 - وفي سنن سعيد عن ابن عمر: من اغترف من ماء وهو جنب فما بقي فهو نجس. (والثانية) - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي البركات - بقاء طهوريته. 198 - لأن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إنه يتناوله تناولا ولأنه لما قصد بأخذه استعماله خارج الإناء فقد صرف عنه النية، هذا هو التحقيق في التقسيم، وظاهر ما في المغني عن بعض الأصحاب أنه قال بالمنع أيضا فيما إذا نويا الاغتراف، وفيه نظر، ولو وضع الجنب رجله بعد نية الغسل أثر على الأصح، قاله ابن تميم، وعاكسه ابن حمدان فقال: إنه طاهر في الأصح، ولأبي محمد في المغني في إلحاق الرجل باليد منعا وتسليما.

وقد دخل في كلام الخرقي - بطريق التنبيه - المحدث إذا غمس يده في الإناء أنه لا يؤثر، وهو كذلك، [إلا إذا اغترف بعد نية الطهارة، وبعد غسل وجهه، قاصدا لرفع الحدث عنها بالغمس، فإن طهوريته تزول، كما في الجنب، وكذا إن] ذهل عن رفع الحدث عنها والحال ما تقدم، على قويل، والمذهب عدم تأثير ذلك، بخلاف الجنب على الأشهر كما تقدم، نظرا إلى أن الوضوء يتكرر، فلو أثر لشق، بخلاف الجنب. 199 - ثم إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغترف في الوضوء بعد غسل وجهه، كما ثبت في الصحيح، ولم يثبت أنه في الجنابة اغترف إلا بعد غسل يديه، إذا عرف حكم الحائض والجنب، فحكم المشرك أنه إن كان ممن تحل ذبيحته، ولم يتظاهر بشرب الخمر، وأكل الخنزير، ونحو ذلك، فإن غمسه لا يؤثر شيئا. 200 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ من مزادة مشركة، وأضافه يهودي بخبز شعير، وإهالة سنخة، ولأن الكفر في قلبه لا يؤثر في

بدنه، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28] ليس المراد به - والله أعلم - النجاسة الحقيقية على الأشهر الأعرف، بل الاستقذار، وفاقا لأبي عبيدة والزجاج. 201 - وعن قتادة: قيل لهم ذلك لأنهم يجنبون ولا يغتسلون، ويحدثون ولا يتوضئون. ومن هذه حاله جدير بأن يوصف بالتنجيس، ويمنع من قربان مسجد له على غيره شرف وتعظيم. وإن كان ممن لا تحل ذبيحته، أو ممن يتظاهر بأكل الخنزير، ونحو ذلك فيخرج في نجاسة الماء بغمسه روايتان، بناء على الروايتين فيما استعملوه هؤلاء من آنيتهم، هل تباح

وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة

مطلقا، أو لا تباح إلا بعد غسل، وأصلهما يعارض الأصل والغالب. (تنبيهات) : [أحدها] مراد الخرقي بالطاهر الطاهر غير المقيد، المذكور في صدر كتاب الطهارة. (الثاني) : «انخنست» [من] . انفعلت، مطاوع خنس، من (الخنوس) وهو التأخر والاختفاء، ومنه سميت الكواكب الخمسة - زحل، والمشتري، والمريخ، والزهرة، وعطارد - الخنس. في قوله سبحانه: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15] على قول بعضهم، لأنها تتأخر في رجوعها، بينا تراها في مكان من السماء، حتى تراها راجعة إلى وراء جهتها التي كانت تسير إليها، وقيل: الخنس النجوم كلها، لاختفائها نهارا. (الثالث) : المزادة بفتح الميم، التي يسميها الناس الراوية، والسطيحة أصغر منها، «وإهالة سنخة» شحم متغير. والله أعلم. [وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة] قال: ولا يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت بالماء.

ش: معنى الخلوة أن لا يستعمل الرجل الماء معها، في إحدى الروايتين، لعموم حديث الحكم الآتي، خرج منه حالة الاستعمال. 202 - لحديث «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كنت أغتسل أنا ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد، تختلف أيدينا فيه من الجنابة» . فما عداه على المنع. (والثانية) : - وهي المختارة – أن لا يشاهدها حال طهارتها رجل مسلم. 203 - لأن في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ بفضل وضوء ميمونة بعد فراغها» ، فيحمل على أنه كان شاهدها وقضية النهي على عدمها، جمعا بين الدليلين، وعلى هذه إن شاهدها صبي مميز، أو امرأة، أو كافر فهل يخرج عن أن تكون خالية به، كما في خلوة النكاح؟ وهو اختيار الشريف، والشيرازي، أو لا يخرج إلا بالرجل المسلم، لأن الحكم يختص به؟ وهو اختيار القاضي في المجرد، فيه وجهان، وألحق السامري المجنون بالصبي ونحوه. إذا عرف [هذا] فحيث حكم بخلوتها بالماء فهو باق على طهوريته، يجوز لها الطهارة به، على المعروف المشهور، حتى

قال أبو البركات: [إنه] لا خلاف في ذلك، وفي خصال ابن البنا، والمذهب لابن عبدوس: أنه طاهر غير مطهر. وحكى صاحب التلخيص، وابن حمدان المسألة على روايتين، ولقد أبعد السامري حيث اقتضى كلامه الجزم بطهارته، مع حكايته الخلاف في طهارة الرجل به: والعمل على القول بطهوريته، وإذا يجوز لها بلا ريب الطهارة به، وكذلك لامرأة أخرى على الأعرف. وهل يجوز للرجل الوضوء به؟ فيه روايتان (أشهرهما) - وهي اختيار الخرقي، وجمهور الأصحاب -: لا يجوز نص عليه. 204 - لما روى الحكم بن عمرو الغفاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. وفي رواية: وضوء المرأة» . رواه الخمسة، وحسنه الترمذي.

205 - وعن عبد الله بن سرجس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، رواه البيهقي في السنن. 206 - وقال أحمد: أكثر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولون: إذا خلت بالماء فلا يتوضأ منه. وهو أمر لا يقتضيه القياس، فالظاهر أنهم قالوه عن توقيف، (والثانية) - واختارها أبو الخطاب، وابن عقيل وإليها ميل المجد في المنتقى -: يجوز مع الكراهة.

207 - لما روى عمرو بن دينار قال: علمي، والذي يخطر على بالي أن أبا الشعثاء أخبرني، أن ابن عباس أخبره «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل بفضل ميمونة» . رواه مسلم. 208 - وعن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: «اغتسل بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في جفنة، فجاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت: يا رسول الله إني كنت جنبا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن الماء لا يجنب» رواه أحمد وأبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه هو وابن خزيمة، والحاكم، وابن حبان، لكن أحمد قال: أتقيه لحال سماك، ليس أحد يرويه غيره، وحديث الحكم قيل عن البخاري أنه قال:

ليس بصحيح. وعنه في حديث ابن سرجس أنه قال: قد أخطأ من رفعه. ولمن نصر الأول أن يقول: حديث ابن عباس الأول لم يجزم عنه أبو الشعثاء، والثاني - وهو حديث سماك - قد تقدمت الإشارة من أحمد على تضعيفه، ويؤيد ذلك اختلاف ألفاظه، فرواه الثوري وقال فيه: «إن الماء لا ينجس» ثم لو صحا حملا على عدم الخلوة، جمعا بين الدليلين، ثم على تقدير التعارض يرجح الأول بأنه حاظر، ثم ناقل عن الأصل، إذ الأصل الحل اهـ. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خص المنع بالوضوء تبعا للحديث، وغيره ممن علمت من الأصحاب يسوي بين الحدثين بمعنى أن لا فارق، فهو في معنى المنصوص، ولهم في إلحاق طهارة الخبث

بذلك وجهان، (الإلحاق) اختيار القاضي، وأبي البركات، وحكاه الشيرازي عن الأصحاب ما عدا ابن أبي موسى، إذ كل مائع لا يزيل الحدث لا يزيل النجاسة. (وعدمه) اختيار ابن أبي موسى، وأبي محمد، وأبي البركات في المحرر، اقتصارا على مورد النص، وقوله: لا يتوضأ الرجل. يخرجها وامرأة سواها وقد تقدم. وكذا الخنثى لعدم تحقق ذكوريته، وقد يخرج الصبي وهو مقتضى تعليل أبي البركات. وقوله: بفضل. ربما أشعر بقلة الباقي، فلو كان ما خلت به كثيرا لم تؤثر خلوتها، وهذا هو المذهب، إذ النجاسة لا تؤثر في الكثير، فهذا أولى وأحرى. وطرد ابن عقيل الحكم في اليسير والكثير، نظرا للتعبد به. وقوله: «بفضل» وهو يشمل المستحب، وهو أحد الوجهين، (ويخرج) منه ما خلت به لإزالة النجاسة، وهو أحد الوجهين أيضا، وبه قطع ابن عبدوس، إذ الطهارة تنصرف إلى طهارة الحدث، (والثاني) - وصححه أبو البركات -: حكمه حكم ما خلت به لطهارة حدث، نظرا لعموم: نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. (ويخرج) منه أيضا ما خلت به لرفع طهارة كبرى، والأصحاب على التسوية بينهما كما تقدم، ولفظ الحديث يشهد لذلك أيضا، (ويخرج) منه أيضا ما خلت به للتبريد

والتنظيف، وهو واضح لأن ذلك ليس بطهارة، وكذلك ما خلت به للشرب، نعم هل يكره؟ . 209 - لأن في بعض ألفاظ الحكم بن عمرو: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن سؤر المرأة» ، أو لا يكره، وهو اختيار أبي البركات، لأن اللفظ المشتهر «وضوء المرأة، أو طهور المرأة» ؟ على روايتين، وظاهر كلام ابن تميم حكايتهما في الجواز وعدمه. وقول الخرقي: المرأة. يشمل الكافرة، وهو أحد الوجهين، ويخرج الرجل وهو واضح، وكذلك الخنثى، إذ المانع الأنوثية [ولم تتحقق] ، وقد يخرج الصغيرة، ويحتمل: إن صحت طهارتها وجهان، (التأثير) لأنها من أهل الطهارة، والحديث خرج على الغالب (وعدمه) اعتمادا على الحديث. (تنبيه) : لم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لعكس هذه المسألة، وهو فضل ما خلى به الرجل للنساء، وقوة كلامه يعطي أن ذلك لا يؤثر منعا، ونص أحمد على ذلك في رواية الجماعة، لمفهوم حديث الحكم، وعن بعض الأصحاب أنه منعهن من ذلك.

باب الغسل من الجنابة

210 - لما روى حميد الحميري قال: لقيت رجلا صحب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربع سنين، كما صحبه أبو هريرة، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تغتسل المرأة بفضل الرجل، أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعا» . رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وصححه الحميدي، وقال البيهقي: رجاله كلهم ثقات. والرجل المبهم قيل: إنه الحكم، وقيل: إنه عبد الله بن سرجس، وقيل: ابن مغفل. والله أعلم. قال: [باب الغسل من الجنابة] ش: الجنابة معروفة، وقد تقدم أن أصلها البعد، ويقال: أجنب الرجل - كما قال الخرقي -[يجنب] ، فهو جنب، وجنب يجنب، فهو مجنب، ويقال للواحد والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنث، بلفظ واحد، [والله أعلم] .

كيفية الغسل من الجنابة

[كيفية الغسل من الجنابة] قال: وإذا أجنب الرجل] غسل ما به من أذى، وتوضأ - وضوءه للصلاة، ثم أفرغ [الماء] على رأسه ثلاثا، يروي بهن أصول الشعر، ثم يفيض الماء على سائر جسده [ثلاثا] . ش: هذا على نحو ما في الصحيحين وغيرهما. 211 - فعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء، فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب الماء على رأسه بثلاث غرف، ثم يفيض الماء على جلده كله. وفي رواية: قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه، ثم يفرغ بيمينه على شماله، فيغسل فرجه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يأخذ الماء فيدخل أصابعه في أصول الشعر، حتى إذا رأى أن قد استبرأ، حفن على رأسه ثلاث حفنات، ثم أفاض [الماء] على سائر جسده، ثم غسل رجليه. وفي رواية للنسائي، بعد غسل الفرج: ثم يمضمض ويستنشق. » 212 - «وعن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: وضع للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماء يغتسل به، فأفرغ على يديه، فغسلهما مرتين أو ثلاثا، ثم

أفرغ بيمينه على شماله، فغسل مذاكيره، ثم دلك يده بالأرض، ثم تمضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ويديه، ثم غسل رأسه ثلاثا، ثم أفرغ على جسده، ثم تنحى عن مقامه فغسل قدميه، فناولته خرقة فلم يردها، وجعل ينفض الماء بيده» . واعلم أن مراد الخرقي بهذه الصفة صفة الكمال، كما يدل عليه كلامه بعد، وقد قال كثير من متأخري الأصحاب: إن الكمال بعشرة أشياء، النية، والتسمية، وغسل يديه ثلاثا، وغسل ما به من أذى، والوضوء، ويحثي على رأسه ثلاث حثيات، يروي بهن أصول الشعر، ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثا، ويبدأ بشقه الأيمن ويدلك بدنه بيديه، وينتقل من موضعه فيغسل قدميه. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص من ذلك على أربعة، وتقدم له غسل يديه إذا قام من نوم الليل، إدخالهما الإناء ثلاثا، وتقدم التنبيه على أنه لا فرق في أصل المسنونية بين نوم الليل ونوم النهار، وغير ذلك، وهذه الخمسة هي التي في الحديثين، ويأتي له النية والكلام عليها، وإنما لم تذكر في الحديثين لأن متعلقها القصد، وعائشة وميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إنما حكيا ما شاهداه من أفعاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وقد يؤخذ من كلام الخرقي البداءة بشقه الأيمن قبل الأيسر من قوله ثم: وغسل الميامن قبل المياسر، وفي بعض روايات حديث عائشة المتقدم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر، ثم أخذ بكفيه، فقال بهما على رأسه، وأما التسمية، والدلك فلم يتعرض الخرقي لهما نظرا للحديثين، وكذلك غسل قدميه أخيرا اعتمادا على حديث عائشة، وإنما استحب الأصحاب التسمية. 213 - لعموم «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أجذم» الحديث، وقياسا لإحدى الطهارتين على الأخرى، أو نقول: الكبرى صغرى وزيادة. اهـ. والدلك لأنه أحوط، وأعون على إيصال الماء إلى جميع البشرة، وخروجا من الخلاف، إذ [قد] أوجبه بعض العلماء، مع أن كلام أحمد قد يحتمله، قال أبو داود: سأل رجل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن إمرار اليد، فقال: إذا اغتسل بماء بارد في الشتاء أمر يده، لأن الماء ينزلق عن البدن في الشتاء، لكن تعليله يقتضي المسنونية.

214 - ويدل على المسنونية المبالغة في إيصال الماء إلى جميع البشرة في الجملة ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من ترك موضع [شعرة] من جنابة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا من النار» قال علي: فمن ثم عاديت شعري. وكان يجزه، رواه أحمد، وأبو داود، ومن ثم قال الأصحاب: يتعاهد معاطف بدنه، وسرته، وتحت إبطه ونحو ذلك، وما ينبو عنه الماء. اهـ. والانتقال لغسل قدميه لحديث ميمونة، وقد اختلف عن إمامنا في ذلك، فقال في رواية: أحب إلي أن يغسلهما بعد الوضوء، لحديث ميمونة، وفي أخرى قال: العمل على حديث عائشة. وفي ثالثة قال: يخير لورود الأمرين. وظاهر

إحدى روايات حديث عائشة - وقد تقدمت - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بينهما، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب. تنبيهات: (أحدها) مراد الخرقي هنا بالأذى والله أعلم. ما يستقذر وإن لم يكن نجسا، كالمني ونحوه، بخلاف مراد أبي محمد بالأذى في المجزئ كما سيأتي، فإنه النجاسة. اهـ. (الثاني) : ينوي بالوضوء المتقدم رفع الحدث، ذكره السامري، وقول الخرقي وغيره: يروي بهن أصول الشعر. ظاهره: بالغرفات الثلاث، وفي المستوعب: يروي بكل مرة. ثم ظاهر كلامه وكلام قليل من الأصحاب أن الإفاضة على سائر الجسد لا تثليث فيها، وهو ظاهر الأحاديث، واختيار أبي العباس، ولعل عامة الأصحاب استحبوا التثليث قياسا لإحدى الطهارتين على الأخرى، أو اطلاع على نص بذلك وقد استحب أبو محمد زيادة على ما تقدم،

وهو أن يخلل أصول شعر رأسه ولحيته قبل إفاضة الماء، كما في حديث عائشة، ولا ريب أنه أعون على إصابة الماء البشرة، وقد تقدم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر، ثم جمع بينهما، فينبغي أن يعتمد [على] ذلك. (الثالث) : قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: رأى أن قد استبرأ. أي: استقصى وخلص من عهدة الغسل، وبرئ منها كما يبرأ من الدين وغيره، و «حفن» أخذ وصب، والحفنات جمع حفنة، وهو ملء الكفين من طعام أو نحوه، أصلها من الشيء اليابس كالدقيق، والرمل ونحوه، «وغرف» جمع غرفة وهو ملء الكف، وغرفة بالفتح أي مرة، والله أعلم. قال: وإن غسل مرة، وعم بالماء رأسه وجسده، ولم يتوضأ أجزأه، بعد أن يتمضمض ويستنشق، وينوي به الغسل والوضوء، وكان تاركا للاختيار. ش: هذه صفة الغسل المجزئ، والأصل فيها في الجملة قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وقوله: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ظاهره الاجتزاء بالتطهير، وبالاغتسال من غير اشتراط وضوء ولا غيره.

215 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن ناسا قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألوه عن غسل الجنابة، وقالوا: إنا بأرض باردة. فقال: «إنما يكفي أحدكم أن يحفن على رأسه ثلاث حفنات» وفي لفظ أنه قال: «أما أنا فأفرغ على رأسي ثلاثا» رواهما مسلم، وظاهرهما الاجتزاء بذلك من غير وضوء. وإنما اشترطت النية المذكورة لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الأعمال بالنيات» «لا عمل إلا بالنية» . واشترط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المضمضة والاستنشاق، لما تقدم له من أن الفم والأنف من الوجه، وقد تقدم بيان ذلك والخلاف فيه، فلا حاجة إلى إعادته وهذا هو المذهب المعروف، أعني الاجتزاء بالغسل عن الوضوء، بالشرط المذكور، لظاهر ما تقدم، (وعنه) لا بد أن يأتي بالوضوء. قال أبو الخطاب في هدايته، والسامري، وصاحب التلخيص وغيرهم: وإن لم

يوجد ما يقتضيه، كما إذا أوجبنا الغسل بالانتقال، وهو يلتفت لما تقدم في النواقض. تأسيا بفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويجاب بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الكامل، بدليل الاتفاق على أنه لا يجب الوضوء قبل، وتوسط أبو بكر، والشيرازي فقالا: يتداخلان فيما يتفقان فيه، ولا يسقط ما ينفرد به الوضوء عن الغسل من الترتيب والموالاة والمسح وإن لم يقل بإجزاء الغسل عن المسح كما لا يسقط ما ينفرد به الغسل من تعميم البدن ونحوه. (تنبيه) : في معنى نية الوضوء والغسل، إذا نوى استباحة الصلاة، أو أمرا لا يباح إلا بهما، كلمس المصحف، لا قراءة القرآن. اهـ. وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يشترط للغسل (ترتيب) ، وهو كذلك، لظاهر ما تقدم، ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر «إذا وجدت الماء فأمسه جلدك» ولم يأمره بترتيب، ولا موالاة، وهو المعروف في المذهب، لظاهر ما تقدم أيضا. 216 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يغتسل من الجنابة، فيخطئ الماء بعض جسده؟

فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يغسل ذلك المكان، ثم يصلي» رواه البيهقي في سننه، (ولا دلك) ، وهو كذلك، لظاهر ما تقدم أيضا، (ولا تسمية) ، وهو بناء على قاعدته من أن التسمية لا تجب في الوضوء، أما إن قلنا: تجب ثم. وجبت هنا، وجزم صاحب التلخيص، والسامري وغيرهما بالوجوب هنا، نظرا منهم إلى أن ذلك المذهب ثم. ومقتضى كلام الخرقي أيضا أن المجزئ لا يتوقف على إزالة ما به من أذى، وإن كان نجاسة، وهو ظاهر كلام طائفة من الأصحاب، فعلى هذا يرتفع الحدث مع بقاء النجاسة، وصرح بذلك ابن عقيل، ومنصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الحدث لا يرتفع إلا مع آخر غسلة طهرت المحل، وعلى هذا يتوقف صحة الغسل على الحكم بزوال النجاسة، وهو ظاهر كلام أبي محمد في المقنع، فقال في المجزئ: يغسل ما به من أذى. والله أعلم. أي من نجاسة وينوي، لكنه يوهم زوال ما به من أذى أولا، وهذا الإيهام ظاهر ما في المستوعب، فإنه قال في المجزئ: يزيل ما به من أذى، ثم ينوي. وتبعا في ذلك - والله أعلم - أبا الخطاب في الهداية لكن لفظه في ذلك أبين من لفظيهما، وأجرى على المذهب، فإنه قال: يغسل

مقدار ماء الوضوء والغسل

فرجه ثم ينوي. وكذلك قال ابن عبدوس في المجزئ: ينوي بعد كمال الاستنجاء، وزوال نجاسته إن كانت ثم، وقد يحمل كلام أبي محمد والسامري على ما قاله أبو الخطاب، ويكون المراد بذلك الاستنجاء بشرط تقدمه على الغسل، كالمذهب في الوضوء، لكن هذا [قد] يشكل على أبي محمد، فإن مختاره ثم أنه لا يجب تقديم الاستنجاء، وعلى الخرقي، فإن مذهبه تقديم الاستنجاء، فكان من حقه أن ينبه على ذلك. ويتلخص لي أنه يشترط لصحة الغسل تقديم الاستنجاء على الغسل إن قلنا: يشترط تقديمه ثم. وإن لم نقل ذلك، أو كانت [النجاسة] على غير السبيلين، أو عليهما غير خارجة منهما، لم يشترط التقديم، ثم هل يرتفع الحدث مع بقاء النجاسة، أو لا يرتفع إلا مع الحكم بزوال النجاسة؟ فيه قولان، ثم محل الخلاف إذا لم تكن النجاسة كثيفة، تمنع وصول الماء، أما إن منعته فلا إشكال في توقف صحة الغسل على زوالها، وهذا واضح والله أعلم. [مقدار ماء الوضوء والغسل] قال: ويتوضأ بالمد، وهو رطل وثلث بالعراقي] ، ويغتسل بالصاع، وهو أربعة أمداد. ش: لا نزاع فيما نعلمه في صحة الوضوء والغسل بذلك.

217 - لما في مسلم وغيره عن سفينة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل بالصاع، ويتطهر بالمد» . 218 - وفي الصحيحين عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، ويتوضأ بالمد» . وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن المد ربع الصاع، ولا نزاع في ذلك، ويقتضي أن الصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي، وهو المذهب المشهور، كصاع الفطرة والزكاة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى (وعنه) ما يدل - واختاره القاضي، وأبو البركات - أن الصاع هنا ثمانية أرطال. 219 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ بماء يكون رطلين ويغتسل بالصاع» . رواه أحمد وأبو داود. 220 - «وعن موسى الجهني قال: أتي مجاهد بقدح، حزرته ثمانية أرطال، فقال: حدثتني عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل بمثل هذا» . رواه النسائي و «كان» في مثل هذا المقام تقتضي المداومة، والله أعلم. قال: وإن أسبغ بدونهما أجزأه. ش: الإسباغ تعميم العضو بالماء، بحيث يجري عليه، ولا يكون مسحا، فإذا حصل ذلك بدون المد في الوضوء، وبدون الصاع في الغسل حصل الواجب، على المشهور، المعروف من الروايتين، لظاهر الآية. 221 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثا» ونحو ذلك. 222 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها كانت تغتسل هي والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من إناء واحد، يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك» . رواه مسلم.

223 - وعن أم عمارة بنت كعب، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ من إناء قدر ثلثي المد.» رواه أبو داود والنسائي، (والثانية) : لا يجزئ دون المد في الوضوء، ولا دون الصاع في الغسل. 224 - لظاهر ما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجزئ من الغسل الصاع، ومن الوضوء المد» رواه أحمد، والله أعلم.

قال: وتنقض المرأة شعرها لغسلها من الحيض، وليس عليها نقضه [لغسلها] من الجنابة، إذا روت أصوله. [والله أعلم] . ش: هذا منصوص أحمد في الصورتين، ومختار كثير من الأصحاب. 225 - لما روي عن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها - وكانت حائضا - «انقضي شعرك واغتسلي» رواه ابن ماجه، قال صاحب المنتقى: بإسناد صحيح. 226 - وفي مسلم: «أن أم سلمة سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: «أفأنقضه لغسل الجنابة» .

227 - وأصرح من ذلك ما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها، واغتسلت بالخطمي والأشنان، [وإذا اغتسلت من الجنابة لم تنقضه، ولم تغتسل بالخطمي والأشنان] » رواه البيهقي في السنن، لكن في إسناده محمد بن يونس، قال: وليس بثقة. والمعنى في ذلك أن مدة الحيض تطول، فيتلبد الشعر، فشرع النقض، طريقا موصلا إلى وصول الماء إلى أصول الشعر، بخلاف غسل الجنابة، فإنه لا يطول غالبا، فلا حاجة إلى النقض، لوصول الماء بدونه غالبا، فلذلك لم يطلب النقض رفعا لكلفته. وحكى ابن الزاغوني رواية أخرى في الحيض، أنه لا يجب النقض، وهو اختيار أبي محمد، وابن عبدوس، وابن عقيل في التذكرة. 228 - لأن في مسلم: «أن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله إني امرأة أشد ظفر رأسي، أفأنقضه للحيض والجنابة؟ قال: «لا، إنما يكفيك أن تفرغي عليك ثلاث حفنات، ثم قد طهرت»

وحديث أنس لا يصح، وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قضية عين فيحتمل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى عليها ما يمنع وصول الماء، لكن ذكرها للحيض ظاهره أن العلة ذلك، والأولى حمل الحديثين على الاستحباب، جمعا بين الأدلة. وقرينة ذلك ذكر الخطمي والأشنان في حديث أنس. ولنا قول آخر بالوجوب في الجنابة، قياسا على الحيض، والنص يرده، وابن الزاغوني قيده بما إذا طالت المدة، قال: بناء على أن العلة في النقض في الحيض طول المدة أما إن جعل المناط النص تعبدا فلا. وقول الخرقي: إذا روت أصوله. فيه إشعار على أنه يشترط إيصال الماء إلى أصول الشعر والبشرة، وهو كذلك، وإن كانت كثيفة، بخلاف ما تقدم في الوضوء. 229 - وقد شهد لذلك قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تحت كل شعرة جنابة، فاغسلوا الشعر، وأنقوا البشرة» وإذا أوجب الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تروية

باب التيمم

أصول الشعر، ويلزم من ذلك غسل البشرة، فما بالك بالشعور نفسها، فيؤخذ من ذلك وجوب غسلها وإن استرسل، وهو المذهب، وحكى أبو محمد وجها أنه لا يجب غسل المسترسل، وقال: إنه يحتمله كلام الخرقي. فلا يظهر لي وجه احتمال كلام الخرقي لذلك، والله أعلم. قال المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: [باب التيمم] ش: التيمم في اللغة القصد، قال سبحانه وتعالى: {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2] أي قاصدين، وقال الشاعر [العذري] : وما أدري إذا يممت أرضا ... أريد الخير أيهما يليني أالخير الذي أنا مبتغيه ... أم الشر الذي هو يبتغيني

يقال: يممت فلانا وتيممته وأممته. إذا قصدته، وقد قرئ بالثلاثة في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] أي لا تقصدوا الخبيث للإنفاق منه، فقرأ الجمهور (ولا تيمموا) بالفتح، وقرأ عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (ولا تأمموا) وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (ولا تيمموا: بضم التاء. وهو في العرف الشرعي عبارة عن: قصد شيء مخصوص - وهو التراب الطاهر - على وجه مخصوص - وهو مسح الوجه واليدين - من شخص مخصوص، وهو العادم للماء، أو من يتضرر باستعماله، وتحقيق ذلك كله له محل آخر، وقد يطلق ويراد به مسح الوجه واليدين وسمي المقصود بالتيمم تيمما. وهو جائز بالإجماع، وقد شهد له قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء: 43] الآية، وحديث عمار وغيره كما سيأتي إن شاء الله

التيمم في السفر

تعالى، وهو من خصائص هذه الأمة ومما فضلت به على غيرها، توسعة عليها، وإحسانا إليها. 230 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي، نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة» [والله أعلم] . [التيمم في السفر] قال: ويتيمم في قصير السفر وطويله. ش: هذا هو المعروف في المذهب المقطوع به، اعتمادا على شمول الآية المتقدمة بإطلاقها لحالتي السفر، ثم شرع التيمم يقتضي ذلك، إذ السفر القصير يكثر، فيكثر عدم الماء فيه، فلو لم يجز التيمم إذا لأفضى إلي حرج ومشقة، وذلك ينافي أصل مشروعية التيمم، وقد بالغ الأصحاب في ذلك فقالوا: لو خرج من المصر إلى أرض من أعماله لحاجة: كالحراثة، والاحتطاب، والاحتشاش ونحو ذلك، ولا يمكنه حمل الماء منه، ولا الرجوع للوضوء إلا بتفويت حاجته، فله التيمم، ولا إعادة عليه على الأشهر، وقيل: بلى لأنه

كالمقيم، إذ هو في عمل المصر، ومن ثم لو كانت الأرض التي يخرج إليها من عمل قرية أخرى فلا إعادة عليه. وقد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - سفر المعصية، وهو المعروف، لأنه عزيمة لا يجوز تركه، وعليه لا يعيد على المشهور. ومفهوم كلامه أنه لا يجوز التيمم في الحضر، ولو خاف فوات الصلاة، وهو المذهب وعن أبي العباس جواز ذلك، ولأحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] رواية بالجواز في الجواز في الجنازة خاصة. وأنه لا يجوز التيمم في الحضر لعدم الماء، كما إذا حبس في المصر ولم يجد ماء، أو انقطع الماء عن أهل البلد، ونحو ذلك، وهو إحدى الروايتين، واختيار الخلال، لظاهر الآية الكريمة فإن ظاهرها اختصاص جواز التيمم بحالة [عدم] الماء في السفر، وإلا لم يكن للتقييد بالسفر فائدة، [والثانية] : - وهي المشهورة، وعليها جمهور الأصحاب -: يجب عليه التيمم - والحال هذه - والصلاة، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي ذر «إن الصعيد [الطيب] طهور المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته» ، رواه أحمد والترمذي وصححه، وحديث «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبل» وغير ذلك، والتقييد بالسفر في الآية خرج

شروط التيمم

- والله أعلم - مخرج الغالب، إذ السفر محل العدم غالبا، وهذا كاختصاص الخلع بحال الخوف، وشهادة الرجل والمرأتين بحالة تعذر الرجلين، ومثل ذلك لا يكون مفهوم حجة اتفاقا. فعلى هذا إذا صلى بالتيمم هل يعيد؟ فيه قولان، أشهرهما لا. لفعله المأمور به، وإذا يخرج عن العهدة لندرة ذلك، ولأبي محمد احتمال بالتفرقة بين عذر يزول عن قريب، كالضيف إذا أغلق عليه الباب، ونحو ذلك، فهذا يعيد لأنه بمنزلة المتشاغل بطلب الماء، وبين عذر يمتد، كالحبس، وانقطاع الماء عن القرية، فهذا لا إعادة عليه، قلت: وهذا التعليل منه إنما يبيح عدم التيمم والحال هذه، والله أعلم. [شروط التيمم] قال: إذا دخل وقت الصلاة، وطلب الماء فأعوزه. ش: ذكر الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] لجواز التيمم [في السفر] ثلاثة شروط، (أحدها) دخول وقت الصلاة، فلا يجوز التيمم لصلاة قبل وقتها، وهذا هو المشهور، والمختار للأصحاب، لأن الله تعالى أمر بالوضوء أو التيمم عند إرادة القيام إلى الصلاة، وإنما يكون ذلك بعد دخول الوقت، وظاهر الخطاب: كلما أراد القيام إلى الصلاة.

231 - خرج الوضوء، لصلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلوات الخمس يوم الفتح بوضوء واحد، وبقي التيمم على مقتضى ظاهرها. 232 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت» مختصر، رواه أحمد، وللبيهقي في سننه عن أبي أمامة نحوه، وظاهره تقييد طهورية التراب بحال إدراك الصلاة، وإنما يتحقق ذلك بدخول الوقت، وأيضا فالتيمم قبل الوقت لا حاجة إليه، فهو كالتيمم مع وجود الماء، وقد أشار الله سبحانه [وتعالى] إلى اشتراط الحاجة بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] . (وعن أحمد) [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] ما يدل على جواز ذلك، وهو اختيار أبي العباس. 233 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وجعلت تربتها طهورا إذا لم نجد الماء» وشمله قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد

الماء عشر سنين» ونظرا إلى أنه بدل فيساوي مبدله، إلا ما خرج بالدليل كالإطعام مع العتق في الكفارة، ونحو ذلك ولقد تخرج عبد العزيز في حكايته الإجماع على منع التيمم قبل الوقت. (تنبيه) : وقت المكتوبة المؤداة زوال الشمس، أو غروبها ونحو ذلك، والفائتة كل وقت، وكذلك المنذورة على المذهب، وصلاة الاستسقاء باجتماع الناس في الصحراء، والصلاة على الميت بنجاز غسله، وصلاة الكسوف بالكسوف إن أجزنا ذين في وقت النهي، وإن لم نجزهما فيه

فبذلك مع خروج وقت النهي، وكذلك جميع التطوعات وقتها وقت جواز فعلها اهـ. (الشرط الثاني) : طلب الماء، على المشهور المختار من الروايتين لظاهر الآية، فإنه سبحانه [وتعالى] شرط لجواز التيمم عدم الوجدان، ولا يقال: ما وجد. إلا بعد الطلب، ولا يرد قوله سبحانه: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} [الأعراف: 44] مع انتفاء الطلب منهم. 234 - وكذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد لقطة» لأن كلامنا في جانب النفي، أما جانب الوجود فسلم أنه [لا] يقتضي الطلب، (فإن قيل) : فيرد قوله سبحانه: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] لاستحالة الطلب على الله سبحانه، (قيل) : الله سبحانه [وتعالى] طلب منهم الثبات على العهد، أي أمرهم بذلك، فهو سبحانه يطلب منهم ما قدمه إليهم من العهد، فلذلك قيل: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ} [الأعراف: 102] . ولأنه بدل، شرط له عدم مبدله، فلم يجز إلا بعد طلب المبدل، كالصيام مع الرقبة في الكفارة، وكالقياس مع النص في الحادثة، يحقق ذلك أن البدل من شرطه الضرورة، وهي بعد الطلب متحققة حسب الإمكان، أما قبله فمشكوك فيها، فلا تثبت الرخصة.

(وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى - واختارها أبو بكر -: يستحب الطلب ولا يجب. اعتمادا على ظاهر الحال، كالفقير لا يلزمه طلب الرقبة، ومحل الخلاف - وفاقا لأبي البركات، وصاحب التلخيص - إذا احتمل وجود الماء، ولم يكن ظاهرا، أما مع الجزم بعدم الماء فلا يجب بلا ريب، ومع ظن وجوده - إما في رحله، أو بأن رأى خضرة، ونحو ذلك -: يجب بالإجماع. وصفة الطلب أن يفتش من رحله ما يحتمل أن الماء فيه، ويسعى يمنة ويسرة، وأماما ووراء، ما العادة أن المسافر يسعى إليه لطلب الماء، والمرعى والاحتطاب، ونحو ذلك، لا فرسخا ولا ميلا ولا ما يلحقه فيه الغوث على الأشهر، ويشترط للسعي الأمن على نفسه، وأهله، وماله، لسبب يقتضيه، لا جبنا، وأمن فوت الوقت، وفوت الرفقة، ولقد أبعد

ابن عبدوس في اشتراط ذلك للقرب دون البعد، وابن أبي موسى في حكايته وجها بوجوب الإعادة [على المرأة] إذا خافت الفجور في القصد، فإن رأى خضرة أو موضعا يتساقط عليه الطير قصده، لأن ذلك مظنة الماء، بالشرط السابق، وكذلك إن كان بقربه مانع من انبساط [النظر]- كجبل ونحوه - قصده بالشرط السابق، فصعد عليه، وهل يلزمه المشي خلفه؟ على وجهين، ويسأل رفقته عن مظانه، فإن دله عليه ثقة قصده بالشرط السابق أيضا، (ومحل الطلب) عند دخول وقت كل صلاة، كما أشار إليه الخرقي بقوله: إذا دخل وقت الصلاة. فإن طلب قبل الوقت لم يعتد به. (الشرط الثالث) : إعواز الماء، بأن يطلب الماء فلا يجد، كما نص الله تعالى عليه بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] وحصل الاتفاق عليه، وفي معنى العادم إذا وجد الماء وتعذر عليه استعماله، لعدم قدرته على النزول إليه، أو الاستقاء منه، أو غلبة الواردين عليه، أو إحالة سبع ونحو دونه. ثم الإعواز له حالتان (إحداهما) : ما تقدم، وهو أن يكون عادما للماء، إما حسا، وإما حكما، (الثانية) : وجد ماء ولكن لا يكفيه لطهره، والمعروف والحال هذه - حتى قال القاضي في روايتيه: إنه لا خلاف فيه في المذهب - أنه

يلزمه استعماله إن كان جنبا، ثم يتيمم لما بقي، وكذلك إن كان محدثا، على أشهر الوجهين، أو الروايتين على ما في الرعاية، (والثاني) : - واختاره ابن أبي موسى، وأبو بكر، مع حكايته له عن بعض الأصحاب - لا يلزمه استعماله ويتيمم، وعلى هذا في إراقته قبله - قلت: إن لم يحتج إليه لعطش - روايتان، حكاهما ابن حمدان، ونظيرهما الروايتان في الطهور المشتبه بنجس، والله أعلم. قال: والاختيار تأخير التيمم إلى [آخر الوقت] . ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار ابن عبدوس. 235 -[اعتمادا على] ما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: إذا أجنب الرجل في السفر: تلوم ما بينه وبين آخر الوقت، فإن لم يجد الماء تيمم وصلى. رواه الدارقطني والبيهقي، لكنه من رواية الحارث عنه، وهو ضعيف، واحتياطا للخروج من الخلاف، إذ بعض العلماء - وهو رواية عن إمامنا،

حكاها أبو الحسين - لا يجوز التيمم إلا عند ضيق الوقت، (والثانية) - وهي المختارة للجمهور - إن رجا وجود الماء فالأفضل التأخير، إذ طهارة [الماء] في نفسها فريضة، وأول الوقت فضيلة، ولا ريب أن انتظار الفريضة أولى، وإن علم أن ظن عدمه فالأفضل التقديم، وكذلك إن تردد، على أحد الوجهين، إذ فضيلة الوقت متيقنة، فلا تترك لأمر مأيوس أو مشكوك [فيه] والله أعلم. قال: فإن تيمم في أول الوقت وصلى أجزأه، وإن أصاب الماء في الوقت. ش: هذا هو المذهب المشهور، وإن تيقن وجود الماء في الوقت، ولا عبرة بالرواية التي حكاها أبو الحسين. 236 - لما روى عطاء بن يسار، عن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «خرج رجلان في سفر، فحضرت الصلاة، وليس معهما ماء، فتيمما صعيدا طيبا فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فأعاد أحدهما الصلاة والوضوء، ولم يعد الآخر، ثم أتيا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرا ذلك له، فقال للذي لم يعد «أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك» وقال للآخر: «لك

الأجر مرتين» رواه أبو داود وقال: ذكر أبي سعيد فيه وهم، وليس بمحفوظ، وهو مرسل، وللنسائي بمعناه. 237 - وعن نافع قال: تيمم ابن عمر على رأس ميل أو ميلين من المدينة، فصلى العصر، فقدم والشمس مرتفعة، ولم يعد [الصلاة] رواه البيهقي، وللموطأ معناه، واحتج به أحمد. 238 - وعن ابن أبي الزناد عن أبيه، قال: كل من أدركت من فقهائنا - فذكر الفقهاء السبعة - كانوا يقولون: من تيمم فصلى، ثم وجد الماء [وهو] في الوقت، أو [في] غير الوقت، فلا إعادة عليه، ويتوضأ لما يستقبل من الصلوات ويغتسل،

كيفية التيمم

والتيمم من الجنابة والوضوء سواء. رواه البيهقي والله أعلم. [كيفية التيمم] قال: والتيمم ضربة واحدة. ش: أي التيمم المشروع، أو الواجب، أو المجزئ ضربة واحدة، لا نزاع عندنا فيما نعلمه أن الواجب في التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين. 239 - لما «روى عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أجنبت، فلم أصب الماء، فتمعكت في الصعيد ثم صليت، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إنما يكفيك هذا» وضرب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكفيه الأرض، ونفخ فيهما، ثم مسح بها وجهه وكفيه. متفق عليه، وفي لفظ: لم يجاوز الكوع وفي لفظ للدارقطني «إنما [كان] يكفيك أن تضرب بكفيك [في] التراب، ثم تنفخ فيهما، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين» .

240 - وعن عمار أيضا، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في التيمم «ضربة للوجه والكفين» رواه أحمد، والترمذي بمعناه وصححه. ولقد أنصف الشافعي (- رَحِمَهُ اللَّهُ -) حيث قال في رواية الزعفراني [إن] ابن عمر تيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، وبهذا رأيت أصحابنا يأخذون، وقد روي فيه شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لو علمته ثابتا لم أعده، ولم أشك فيه، وقد قال عمار: تيممنا مع [النبي]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المناكب، وروي عنه الوجه والكفين. فكأن قوله: تيممنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المناكب. لم يكن عن أمر الرسول [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، فإن ثبت عن عمار، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوجه واليدين، ولم يثبت عنه: [إلى] «المرفقين» فالثابت أولى. اهـ ولا ريب في ثبوت ذلك عند أهل العلم بهذا الشأن، وأنه أثبت من «إلى المرفقين» بل لم يثبت في ذلك شيء، قال الإمام أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] :

من قال ضربتين. إنما هو شيء زاده. اهـ. وهل تسن زيادة على ضربة؟ المنصوص - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد وغيره - لا تسن، لما تقدم، إذ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في التيمم: «ضربة للوجه والكفين» ظاهره أن التيمم ليس إلا هذا، وقال القاضي، والشيرازي، وابن الزاغوني، وأبو البركات: يسن ضربتان، ضربة للوجه، وأخرى لليدين إلى المرفقين احتياطا، للخروج من الخلاف، إذ بعض [العلماء] يوجبه، مع أنه قد ورد.

241 - فعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التيمم ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين» رواه الدارقطني، وروى أيضا نحوه من حديث ابن عمر وغيره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي وإن كان في أسانيدها مقال، لكن ورودها من طرق يفيد ظنا بصحتها، على أن الدارقطني - فيما أظن - صحح بعضها، ويحمل ما تقدم على الإجزاء، جمعا بين الكل، ولا نزاع فيما نعلمه أنه لا يسن زيادة على ضربتين إذا حصل الاستيعاب بهما. . (تنبيه) : الرصغ والرسغ مفصل اليد، والله أعلم. قال: يضرب بيديه على الصعيد الطيب وهو التراب. ش: صفة الضربة في التيمم المشروع [أو الواجب] أن

يضرب بيديه على ما أمر الله سبحانه [وتعالى به] وهو الصعيد الطيب، ثم فسر الصعيد بأنه التراب، وهذا أشهر الروايات عن أحمد، واختيار عامة أصحابه لظاهر قول الله سبحانه: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] فدل على أنه شيء يمسح منه، والصخر ونحوه ليس بشيء يمسح به. 242 - ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: الصعيد تراب الحرث، والطيب الطاهر. 243 - (وعن حذيفة) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جعلت لنا الأرض كلها مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» رواه مسلم 8. 244 -[وعن علي]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء، نصرت بالرعب، وأعطيت مفاتيح الأرض، [وسميت أحمد] ، وجعل لي التراب

طهورا، وجعلت أمتي خير الأمم» رواه أحمد، فعم الأرض بحكم المسجدية، وخص ترابها بحكم الطهارة، وذلك يقتضي نفي الحكم عما عداه، (وقول الخليل) : إن الصعيد وجه الأرض. وكذلك الزجاج، مستدلا بقوله سبحانه: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف: 40] وقائلا: بأنه لا يعلم فيه خلافا بين أهل اللغة. يعارضه قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، على أن قولهما يرجع إلى التفسير اللغوي، وقول ابن عباس يحمل على التفسير الشرعي، ويؤيده بيان صاحب الشرع حيث قال: «وترابها لنا طهورا» (وقول من قال) : إن (منه) لابتداء الغاية، ليكن ابتداء الفعل بالأرض، وانتهاء المسح بالوجه. مردود بأن ابتداء المسح بإمرار اليد على الوجه [لا] بالأخذ من الأرض، وقد قال الزمخشري: إن هذا قول متعسف، وإن

الإذعان للحق أحق من المراء، (والثانية) - أومأ إليها في رواية أبي داود وغيره - يجوز التيمم بالرمل، والأرض السبخة، لعموم الحديث الصحيح «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» . 245 - وقوله في الحديث الآخر: «أيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره» وما تقدم بعض أفراد هذا، وذكر بعض الأفراد لا يخصص، وهذا وإن شمل كل الأرض لكن قَوْله تَعَالَى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] خصصه بما في معنى التراب من الرمل ونحوه (ويجاب) : بأن التخصيص بالمفهوم، لا بذكر بعض الأفراد، وهو وإن كان مفهوم اللقب، فهو حجة عندنا على المذهب (والرواية الثالثة) : يجوز التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من الجص، والنورة، والرمل، ونحو ذلك، عند عدم التراب، حملا للنص المقيد بالتراب على حال وجدانه، والنص المطلق على حالة العدم، جمعا بينهما.

إذا تقرر هذا (فعلى الأولى) يجوز [التيمم] بكل تراب، على أي لون كان، بشرط كونه له غبار يعلق باليد، ومن ثم لو ضرب بيده على لبد أو [على] شجرة، ونحو ذلك، فحصل على يده غبار تراب أجزأه، وكذلك لو سحق الطين وتيمم به أجزأه، وإن كان مأكولا كالطين الأرمني، نعم: إن كان بعد طبخه لم يجزه على أشهر الوجهين، فإن خالط ما يتيمم به ما لا يتيمم به، كالزعفران ونحوه، فهل هو كالماء إذا خالطه الطاهرات، وهو قول القاضي، وأبي الخطاب وغيرهما: إن غيره منع هنا قولا واحدا، وهو اختيار ابن عقيل، وأبي البركات، على طريقتين، ومحلهما فيما يعلق باليد كما مثلنا، أما ما لا يعلق باليد فلا يمنع، لنص

أحمد على جواز التيمم (وعلى الرواية الثانية) فظاهر كلام أحمد الجواز مطلقا، والقاضي يحمل قوله بالجواز على ما إذا كان له غبار، وقوله بالمنع على عدم الغبار، فلا خلاف عنده [وعلى] الثالثة) هل يعيد إذا وجد الماء أو التراب؟ فيه روايتان. وقول الخرقي: يضرب بيديه. ليست حقيقة الضرب شرطا، بل لو وضع يده على تراب ناعم أجزأه، إذ القصد إغبار الراحتين، وقد وجد، لكنه قد يحترز بذلك عما إذا وصل التراب إلى وجهه ويديه بغير ضرب، نحو أن سفت عليه الريح ترابا يعمه، وله حالتان (إحداهما) إذا نوى بعد حصول التراب عليه، فإنه لا يجزئه، لانتفاء قصد التراب رأسا، نعم لو مسح وجهه بما حصل على يديه أجزأه، (الثانية) : نوى وعمد للريح فحصل عليه تراب، فهنا ثلاثة أوجه (الإجزاء) وهو مختار أبي جعفر، وأبي البركات وصاحب التلخيص، والسامري (وعدمه) ، وهو ظاهر كلام الخرقي، (والثالث) إن مسح أجزأه، وإلا فلا، والله أعلم. قال: وينوي به المكتوبة. ش: لا نزاع عندنا في اشتراط النية في التيمم في الجملة، لقوله

تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» «لا عمل إلا بنية» ونحو ذلك، ثم كيفية النية قد بناه جماعة على أصل، فلنتعرض له وهو: أن التيمم هل يرفع الحدث أم لا؟ وفيه قولان للعلماء، أشهرهما أنه لا يرفع الحدث، وهو المختار لأصحابنا، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقل عنه الفضل، وبكر بن محمد أنه يصلي [به] ما لم يحدث، فأخذ من ذلك أبو الخطاب وغيره أنه يرفع الحدث، ونقل عنه أنه لا يصح التيمم لفريضة قبل وقتها، وأنه يتيمم لوقت كل صلاة، بل وأنه لا يجمع به بين فرضين، فأخذ من ذلك أنه لا يرفع الحدث. وبالجملة قد جاء في الباب حديثان مشهوران. 246 -[أحدهما] «حديث عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة، في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب» ؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله عز وجل يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29]

فضحك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقل شيئا» . رواه أبو داود، وظاهره أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقره على أن صلى وهو جنب، وإلا لم يبين لهم أنه ليس بجنب. 247 - (والثاني) : حديث أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته، فإن ذلك خير» رواه الترمذي، وأبو داود، والنسائي، وفي رواية «طهور» فدل على أنه عند عدم الماء طهور بمنزلة [الماء] ، وإذا يعطى حكم الماء، فيرفع الحدث، والحق أنه لا تعارض بين الحديثين، إذ (في الأول) غايته أنه لم يمنع من إطلاق الحدث عليه، لأن بزوال البرد، أو بوجود الماء ونحو ذلك يظهر حكم الحدث، ويبطل التيمم، فدل على أن المانع لم يزل رأسا، (وفي الثاني) جعل التراب طهورا عند عدم الماء، لأنه يستبيح به ما يستبيح بالماء والحال ما تقدم.

وقد قال أبو العباس: إن ذلك ينبني على قاعدة أصولية، وهي أن المانع المعارض للمقتضي هل يرفعه أم لا؟ فإن المقتضي للحدث موجود، وقد عارضه عدم الماء، مع الحاجة إلى الصلاة، وقيام الشارع التراب مقام الماء، فهل يقال: استبيحت الصلاة والحال هذه، مع قيام السبب المانع منها وهو الحدث، أو أن السبب والحال هذه لم يبق حاضرا، فكأن لا حدث؟ ونظير ذلك الاختلاف في الميتة عند الضرورة، هل أبيحت مع قيام سبب الحظر، وهو ما فيها من [خبث] التغذية، أو [أن] عند الضرورة زال المقتضي للحظر، مع بقاء] قيام السبب وهو التحريم. وكشف الغطاء من ذلك أنه إن أريد بالسبب الحاضر السبب التام، وهو مجموع ما يستلزم الحكم من العلة، والشرط، وعدم المانع، فلا ريب في ارتفاع هذا عند المخمصة، وعند الصلاة بالتيمم، لوجود الحل وإباحة الصلاة، وإن أريد بالسبب ما يقتضي الحكم وإن توقف على وجود شرط، أو انتفاء مانع، فلا ريب في وجود هذا هنا، لولا المعارض الراجح، وهو المخمصة، وعدم الماء، فالقائل الأول التفاته إلى هذا السبب، والقائل الثاني التفاته إلى السبب التام، وإذا فالفريقان مجمعان على إباحة الصلاة والحال ما

تقدم، وعلى منع الصلاة عند وجود الماء حتى يتطهر، ومن ثم قال القاضي في تعليقه: الخلاف في عبارته، قال: إذ فائدة قولنا: إنه لا يرفع الحدث. أنه إذا وجد الماء لزمه استعماله في رفع الحدث، وهذا اتفاق. ومن هنا يعرف خطأ ابن حمدان في قوله: وعنه يصلي به ما لم يحدث. وقيل: أو يجد ماء. فإنه يقتضي أنه على النص يصلي وإن وجد الماء، وهو خلاف الإجماع، والنصوص الصريحة، والذي أوقعه في ذلك - والله أعلم - أن النص عن أحمد مطلق، لكن نصوصه المتوافرة بالبطلان بوجود الماء حتى وهو في الصلاة، تقيد ذلك، لا سيما مع النصوص الصريحة فكيف يظن بأحمد مخالفتها. وقول أبي البركات: وعنه: يصلي به ما لم يحدث كالماء. وكأن أبا البركات أراد [أن] على هذه الرواية أشبه الماء، فيعطى حكمه، من جواز التيمم قبل الوقت، ونحو ذلك، كما صرح به. اهـ وظاهر ما قاله القاضي من أن الخلاف في عبارته، أنه لم يبن على ذلك فائدة شرعية، وكذا صرح به أبو العباس في قواعده فقال: ليس بين القولين نزاع شرعي عملي، بل عليهما لم يبق الحدث مانعا مع

وجود طهارة التيمم، فيكون طاهرا قبل الوقت وبعده وفيه، وبنى البطلان بخروج الوقت، [وكونه لا يجمع به بين فرضين، على القول بأنه لا يتيمم قبل الوقت] وبين كونه يصلي به ما يشاء، ولا يبطل بخروج الوقت على القول بجواز التيمم قبل الوقت، والقاضي خرج رواية جواز التيمم قبل الوقت من قوله: إنه يصلي به ما لم يحدث. فعلى هذا يكون أبو العباس قد جعل الأصل فرعا، والفرع أصلا، أما أبو الخطاب، وجماعة فقالوا: إنا إذا قلنا: لا يرفع الحدث. اشترط أن ينوي استباحة الصلاة من الحدث الذي عليه ثم إذا نوى شيئا استباحه وما دونه، ولا يستبيح ما هو أعلى منه، كما يأتي بيانه، ولا يجوز إلا بعد الوقت، ويبطل بخروجه، وإن قلنا: يرفع. جاز أن ينوي رفع الحدث، وإذا نوى فعل الصلاة استباح فرضها، وجاز قبل الوقت، ولم يبطل بخروجه، كالماء سواء. إذا تقرر هذا فقول الخرقي: ينوي به المكتوبة. ظاهره - والله أعلم -[أنه] لحظ ما تقدم، من أن التيمم مبيح لا رافع، فيحصل له إباحة ما نواه، ويدخل فيه بطريق الضمن ما دونه، ولا شيء أعلى من المكتوبة، فلذلك نص الخرقي عليها، وقد نص أحمد في رواية البرزاطي في من تيمم

لسجود القرآن، أو للقراءة في المصحف، وصلى به فريضة أنه يعيد، وعلى هذه القاعدة: لو نوى صلاة الجنازة استباح النافلة، لا المكتوبة، ولا يستبيح الجنازة بنية النافلة، ويستبيح مس المصحف بنيتهما، ولا تباح هي بنيتهما، ويستبيح قراءة القرآن واللبث في المسجد، بنية الطواف، لأنه أعلى منهما، لشبهه بالصلاة، ولا يباح هو بنية أحدهما، ولو [نوى] قراءة القرآن، لكونه جنبا، أو اللبث في المسجد، أو مس المصحف، فقال أبو محمد: لا يستبيح غير ما نواه، وقال أبو البركات: إن نوى القراءة، أو اللبث استباح الآخر، دون ما يقتضي الطهارتين، [من صلاة، ومس مصحف، إذ تيممه هذا كالغسل وحده، ويستبيح بنية النافلة، ومس المصحف اللبث والقراءة، لأن تيممه والحال هذه بمنزلة الطهارتين] . هذا كله على ما هو عندهم المذهب كما تقدم، أما على القول الآخر فالتيمم كالماء، فتباح الفريضة بنية النافلة، كما نص عليه الخرقي ثم، وتوسط ابن حامد فقال: يباح الفرض بنية مطلقة، [دون نية النفل] . والله أعلم. قال: فيمسح بهما وجهه وكفيه. ش: يمسح بالضربة التي ضربها بيديه وجهه وكفيه، لما تقدم من حديث

عمار، والواجب في مسح الوجه ظاهره مما لا يشق، فلا يمسح باطن الفم والأنف، ولا باطن الشعور الخفيفة، وظاهر ما في المستوعب استثناء باطن الفم والأنف فقط، وفي مسح اليدين إلى الرسغين، كما في الحديث، وكما يقطع السارق، فلو قطع منهما، فهل يجب مسح موضع القطع؟ وهو المنصوص، ومختار ابن عقيل، وصاحب التلخيص، كما لو بقي من الكف بقية، أو لا يجب، وهو قول القاضي، بل يستحب، كما لو قطع من فوق الكوع على منصوصه، فيه قولان. وقوله: يمسح بهما وجهه. يخرج به ما إذا معك وجهه في التراب، أو أوصله إليه بخرقة، أو خشبة، وهو أحد الوجهين. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط التسمية، ولا الموالاة، ولا الترتيب، وهو لم يشترط التسمية في الوضوء الذي فيه النص، فالتيمم الذي هو بدل عن الوضوء أولى. وكذلك ظاهر كلامه عدم اشتراط الموالاة ثم، كما سبق، فكذلك هنا، والأصحاب حكوا في المسألتين روايتين من الروايتين ثم، أما الترتيب فقال: ثم باشتراطه، وظاهر كلامه هنا عدم الاشتراط، وهو أحد الأقوال، وإن اشترطناه في الوضوء، نظرا لظواهر الأحاديث، والثاني: يجب حتى في الطهارة الكبرى، لأنه صفة واحدة، بخلاف الغسل والوضوء، فإن صفتيهما مختلفة، وهو قول أبي الحسين، والمذهب إعطاء حكم التيمم في ذا المحل حكم الماء، فيجب

الترتيب في الوضوء على المذهب، ولا يجب في الغسل، [والله أعلم] . قال: وإن كان ما ضرب بيديه غير طاهر لم يجزئه ش: قد تقدم أنه يضرب بيديه على الصعيد الطيب، وأشار هنا إلى أن الطيب [هو] الطاهر، ويروى عن ابن عباس. 248 - وقال ابن المنذر: ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا» فعلى هذا لا يجوز بأرض نجسة، ولا مقبرة تكرر نبشها، لاختلاط ترابها بصديد الموتى، وإن لم يتكرر النبش فوجهان، (الأجزاء) ، وبه قطع أبو محمد، واختاره أبو البركات، نظرا للأصل، (وعدمه) ، لأنه رخصة في الأصل، فلا يستباح مع الشك. وقول الخرقي: طاهر. يحتمل أن يحترز به عن النجس كما تقدم، فيدخل في عمومه ما يتيمم به، ويحتمل أن يريد به الطاهر المطلق، كما قال في الماء ثم، فيخرج المستعمل،

وبالجملة في المستعمل هنا - إن قيل بخروج الماء عن طهوريته ثم، وأن التيمم لا يرفع الحدث، قولان (أحدهما) : بقاؤه على ما كان عليه، لأنه لم يرفع حدثا، (والثاني) : خروجه عن الطهورية، وبه قطع صاحب التلخيص، والسامري، لاستعماله في طهارة أباحته الصلاة ومحل الخلاف [في] المتناثر عن أعضاء المتيمم، أما ما ضرب بيديه عليه فهو كفضل الوضوء. بقي: هل خلوة المرأة في التيمم كخلوتها في الوضوء؟ لم أر المسألة منقولة، والقياس ذلك، لكن المسألة المنع فيها تعبد، فليقتصر على مورد النص ثم، وبعض العلماء قال: المراد بالطيب هو الحلال. وهذا لا ريب في اشتراطه عنده على المذهب، كالوضوء بماء مغصوب بل أولى، إلا أن في أخذه من هنا نظرا، نعم الطيب يطلق ويراد به الحلال، كما في قَوْله تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267] ونحو ذلك، وبعضهم قال: المراد بالطيب المنبت. مستندا لقوله سبحانه وتعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] وهذا قول من لا يجوز التيمم بغير التراب، كما هو المشهور من مذهبنا، والله أعلم. قال: وإن كان به قرح أو مرض مخوف، وأجنب فخشي

على نفسه [إن أصابه] الماء، غسل الصحيح من جسده، وتيمم لما لم يصبه الماء. ش: لما انتهى الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] من الكلام على التيمم لعدم الماء، طفق يتكلم على التيمم للمرض ونحوه، ولا إشكال في جواز ذلك في الجملة، وقد دل على ذلك قوله سبحانه [وتعالى] : {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] وبها استدل أحد فقهاء الصحابة عبد الله بن عمرو بن العاص، لما تيمم في ليلة باردة، لجنابة أصابته، وأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك. إذا عرف هذا فالمريض ونحوه إذا [كان] حاله ما تقدم، فإنه يغسل الصحيح ويتيمم للجريح ونحوه، سواء كان المتيمم له [هو] القليل أو بالعكس، لقول الله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . 249 - «وعن جابر (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا حجر، فشجه في رأسه، ثم احتلم، فقال لأصحابه: هل تجدون لي رخصة؟ قالوا: ما نجد لك

رخصة، وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبر بذلك، فقال: [قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذا لم يعلموا، إنما شفاء العي السؤال] ، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصر أو يعصب - شك موسى - على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده» رواه أبو داود، والدارقطني، وهو نص، لكنه من رواية الزبير بن خريق قال البيهقي: وليس ممن يحتج به. 250 - وقد روي أيضا نحوه عن عطاء، أنه سمع ابن عباس يخبر «أن رجلا أصابه جرح في عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم أصابه احتلام، فأمر بالاغتسال، فاغتسل فكز فمات، فبلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «قتلوه قتلهم الله، ألم يكن شفاء العي السؤال؟» قال عطاء: فبلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو غسل جسده، وترك رأسه حيث أصابه الجرح» .

إذا تقرر هذا فشرط جواز التيمم للمرض أو الجرح أن يخشى على نفسه من إصابة الماء، إذ لا ريب في أن الماء هو الأصل، والأصل لا يعدل عنه إلا لضرورة، كما في الإطعام مع الصيام، والصيام مع العتق في الكفارة، وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] الآية أي - والله أعلم - مرضنا يتضرر معه باستعمال الماء، وإلا يكون ذكر المرض لغوا. 251 - وقد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحمى من فيح جهنم، فأطفئوها بالماء» والحمى نوع من المرض، ثم هل الخشية المشترطة هي تلف النفس، أو العضو، أو يكتفي بخشية الضرر، من زيادة مرض، أو تباطؤ برء، ونحو ذلك؟ فيه روايتان، المذهب منهما الثاني. وصورة هذه المسألة إذا

خشي على نفسه من إصابة الماء مسحا وغسلا، أما إن خشي غسلا لا مسحا فثلاث روايات (إحداهن) - واختارها القاضي - فرضه التيمم [كما تقدم، إذ الواجب الغسل، وقد تعذر عليه، فوجب الانتقال إلى التيمم] ، لعجزه عن الواجب، (والثانية) : فرضه المسح، لأنه أقرب إلى المعنى المأمور به وهو الغسل (والثالثة) : يجمع بين التيمم والمسح، فالتيمم للعجز عن الغسل، والمسح لقدرته على إيصال الماء إلى العضو في الجملة. وكلام الخرقي محتمل للقولين الأولين، ومحل الروايات [إذا لم يكن] الجرح نجسا [أما إن كان نجسا] فإنه قال في التلخيص: لا يمسح ويتيمم. ثم إن كانت النجاسة معفوا عنها ألغيت، واكتفى بنية الحدث، وإلا نوى الحدث والنجاسة إن شرطنا فيها النية، وهل يكتفي بتيمم واحد؟ على وجهين، وفي البلغة احتمال أنه لا يجزئه إلا تيمم واحد، قال: لتحصل الإباحة المنوية. وقد فهم من كلام الخرقي جواز التيمم للجنب، وهو قول العامة، لما تقدم من حديث عمار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وصاحب الشجة، وأبي ذر.

252 - وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «رأى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا معتزلا، لم يصل في القوم، فقال: «يا فلان ما منعك أن تصلي في القوم» ؟ فقال: يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء. قال: «عليك بالصعيد فإنه يكفيك» متفق عليه. واعلم أن الحكم المتقدم لا يختص بالجنابة، بل الوضوء كذلك وإنما نص الخرقي على الجنابة لينبه على مذهب الخصم. (تنبيهان) : (أحدهما) : يخير الجنب الجريح ونحوه بين البداءة بالغسل أو بالتيمم، لوجود سببهما، وعدم اعتبار الترتيب لطهارته، وهذا بخلاف الجنب الواجد لماء يكفي بعض بدنه، فإنه لا يصح تيممه حتى يستعمل ما وجده، ليتحقق شرط التيمم وهو العدم، أما الجريح المتوضئ، فعند عامة الأصحاب يلزمه أن لا ينتقل إلى ما بعده حتى يتيمم للجرح، نظرا للترتيب، وأن يغسل الصحيح، مع التيمم لكل صلاة إن اعتبرت الموالاة، واختار أبو البركات - وإليه ميل أبي محمد - سقوط الترتيب والموالاة في ذلك، دفعا

ما يباح به التيمم

للحرج والمشقة، مع عدم النص في ذلك، وإذا كان الجرح في أعضاء التيمم أمر التراب عليه. (الثاني) : القرح بفتح القاف وضمها لغتان بمعنى الجراح وألمها، كالضعف والضعف، وقد قرئ بهما في قوله سبحانه: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] ، وقيل: بالفتح الجراح، وبالضم ألمها، «والعي» قصور الفهم، وشفاء هذا المرض بالسؤال عما جهله ليعرف، والله أعلم. [ما يباح به التيمم] قال: وإذا تيمم صلى الصلاة التي [قد] حضر وقتها، وصلى به فوائت - إن كانت عليه - والتطوع، إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى. ش: هذا هو المذهب المشهور، المعمول به - عند الأصحاب - من الروايات. مع أن القاضي في التعليق لم يحك [به] نصا، وإنما قال: أطلق أحمد القول في رواية الجماعة، أبى طالب، والمروذي، وأبي داود، ويوسف بن موسى، أنه يتيمم لكل صلاة، ومعناه: لوقت كل صلاة. قال: وقد ذكره

الخرقي على هذا. اهـ. (والثانية) أنه يصلي به ما لم يحدث، نص عليها في رواية الفضل، وبكر بن محمد، (والثالثة) - وهي المشهورة في نصه - لا يجمع [به] بين فرضين، وقد تقدمت الإشارة إلى توجيه الخلاف، وأن أبا الخطاب وغيره بنو ذلك على أن التيمم هل يرفع الحدث أم لا؟ وأبا العباس بنى على جواز التيمم قبل الوقت، وعدم جوازه، ونزيد هنا بأن المنقول عن الصحابة التيمم لكل صلاة. 253 - فعن ابن عمر بإسناد صحيح: يتيمم لكل صلاة، وإن لم يحدث. وعن الحارث، عن علي قال: يتيمم لكل صلاة. وعن قتادة أن عمرو بن العاص كان يحدث لكل صلاة تيمما، وكان قتادة يأخذ به، رواهن ابن المنذر والبيهقي في سننه. 254 - وروي أيضا عن ابن عباس أنه قال: لا يصلي بالتيمم إلا صلاة

واحدة ولهذا والله أعلم جاءت غالب نصوص أحمد على ذلك، تبعا للصحابة. 255 - وقد روى [أيضا] «عن ابن عباس أنه قال: من السنة أن لا يصلي الرجل بالتيمم إلا صلاة واحدة، ثم يتيمم للأخرى» ، وهذا أقوى في اشتراط التيمم لكل صلاة، لكنه من رواية الحسن بن عمارة، وهو ضعيف. 256 - مع أن حربا روى بإسناده عن ابن عباس أنه قال: التيمم بمنزلة الوضوء، يصلي به الصلوات كلها ما لم يحدث، وبالجملة لا تفريع على الرواية الوسطى، أما على الثالثة فيستبيح إذا تيمم لصلاة [الفرض] الطواف، ومس المصحف، واللبث في المسجد إن كان جنبا، والوطء إن كانت حائضا، وذكر ابن عقيل أن الوطء يحتاج إلى تيمم، والتنفل قبل الصلاة وبعدها، [على] مختار القاضي وغيره، وظاهر كلام أحمد

في رواية علي بن سعيد: أنه لا يستبيح إلا السنة الراتبة قبل، وحكى أبو الخطاب وجها في الانتصار: أن كل نافلة تحتاج إلى تيمم، لظاهر قول الصحابة المتقدم، وهو ظاهر نصوص أحمد السابقة، وقد روى البرزاطي عنه فيما وجد بخط ابن بطة: رجل تيمم في السفر، وصلى على جنازة، ثم جيء بأخرى فصلى عليها بذلك التيمم، فقال: إن جيء بالأخرى حين سلم من الأولى صلى عليها بذلك التيمم، وإن كان بينها مقدار ما يمكنه التيمم لم يصل على الأخرى حتى يعيد التيمم. قال القاضي: وهذا يحتمل وجهين (أحدهما) أن وقت الأولى إلى تمام فعلها، فإذا جاء بعد ذلك فقد خرج الوقت. (والثاني) [أن الثانية] إذا جاءت عقب الأولى لحقت المسبقة في التيمم، لتفاوت الزمن، بخلاف ما إذا تراخت. قلت: وهذا من القاضي يقتضي أن وقت صلاة الجنازة يخرج بفعلها، وقوة كلام الإمام يقتضي أنه لا يصلي بتيمم واحد نافلتين، لأنه أطلق، مع أن من الجائز أن صلاة الجنازة نافلة في حقه اهـ. وعلى المذهب: يصلي الصلاة التي تيمم لها، وما عليه من منذورة وفائتة، ويجمع بين الصلاتين،

ويتطوع، ويصلي على الجنازة، إلى أن يدخل وقت التي تليها فيبطل، وهل يبطل الفجر بخروج وقتها، أو بدخول [وقت] التي تليها؟ فيه وجهان، ظاهر كلام الخرقي الثاني، وقال أبو محمد في المغني: [إن] المذهب الأول، وحمل كلام الخرقي عليه، وظاهر كلامه نفي الخلاف، ولو كان تيمم في غير وقت صلاة، كالمتيمم بعد طلوع الشمس يبطل بزوال الشمس، ولو نوى الجمع بين الصلاتين في وقت الثانية من يباح له، فتيمم في وقت الأولى لها، أو لفائتة، لم يبطل تيممه بدخول وقت الثانية، لأن الوقتين قد صارا للصلاتين وقتا واحدا. (تنبيهان) : (أحدهما) : ظاهر كلام الأصحاب أن التيمم يبطل بخروج الوقت، ولو كان في صلاة، وصرح به في المغني، وعن ابن عقيل: لا يبطل وإن كان الوقت شرطا، كما قلنا في الجمعة، وخرجه السامري على روايتي وجود الماء في الصلاة. (الثاني) : إذا خرج الوقت ولم يصل الحاضرة التي تيمم لها، فعند أبي البركات: له قضاؤها، وقضاء

النوافل، والفوائت، ومس المصحف، والطواف، لاستباحة ذلك، وعند الأصحاب ليس له ذلك، وكذا لو تيمم لنافلة قبل الزوال، جاز فعلها [عنده دونهم، وعكس هذا لو تيمم لحاضرة، ثم نذر صلاة، لم يجز عنده فعلها] [بذلك] ، لعدم سبق وجوبها، وظاهر قول الأصحاب الجواز، وملخص الأمر أن الأصحاب أناطوا الحكم بالوقت، وأبا البركات بما استباحه. ومما خالف فيه الأصحاب أيضا (لو) تيمم الجنب لقراءة، أو لبث في مسجد، أو الحائض لوطء، أو استباحوا ذلك بالتيمم لصلاة، لم يبطل تيممهم بدخول وقت الصلاة عنده، وعندهم يبطل، وأبطله أبو البركات بأن وقت الصلاة لا تعلق له بذلك والله أعلم. قال: وإذا خاف العطش حبس الماء وتيمم وصلى، ولا إعادة عليه. 257 - ش: لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرجل يكون في السفر، فتصيبه الجنابة، ومعه الماء القليل، يخاف أن يعطش،

قال: يتيمم ولا يغتسل. رواه الدارقطني، وروى البيهقي أيضا عنه نحوه. 258 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا كنت مسافرا وأنت جنب أو محدث، فخفت إن توضأت تموت من العطش، فلا تتوضأ، واحبس لنفسك. رواه البيهقي في سننه وقال أحمد: عدة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانوا يتيممون ويحبسون الماء لشفاههم ولأنه يخشى الضرر على النفس، فأشبه المريض بل أولى، وحكم خشية العطش على رفيقه أو بهيمة محترمة له أو لرفيقه، حتى كلب صيد - لا خنزير ونحوه - حكم خشية العطش على نفسه. (تنبيه) : هل دفع الماء إلى عطشان يخشى تلفه واجب أو

الحكم لو وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة

مستحب؟ على وجهين، هذا نقل أبي محمد، وصاحب التلخيص، وفي الغاية - وهو أصوب - هل حبس الماء لعطش الغير المتوقع واجب أو مستحب؟ على وجهين، ويقرب من النقل الأول: إذا مات من له ماء، ورفقته عطاش، فهل ييمموه ويغرموا الثمن للورثة، أو يكون الميت أولى به؟ قال أبو بكر في التنبيه: على قولين، أظهرهما الأول، والله أعلم. قال: وإذا نسي الجنابة، وتيمم للحدث لم يجزئه. ش: وكذلك بالعكس، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وكطهارة الماء بل أولى، لأن ثم رافع، وهذا مبيح على الأشهر، ومفهوم كلامه أنه لو نواهما أجزأه، وهو كذلك لما تقدم، وإذا أحدث إذا بطل تيممه عن الحدث دون الجنابة، والله أعلم. [الحكم لو وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة] قال: وإذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة خرج فتوضأ، أو اغتسل إن كان جنبا، واستقبل الصلاة. ش: إذا وجد المتيمم الماء وهو في الصلاة فإنه يلزمه الخروج منها، على المشهور المعمول عليه في المذهب، لقوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي ذر: «إن الصعيد الطيب وضوء المسلم - وفي رواية طهور المسلم - عشر سنين، ما لم يجد الماء، فإذا وجد الماء فليمسه

بشرته» فجعل طهوريته مقيدة بعدم وجدان الماء، فإذا وجد الماء فليس بوضوء ولا طهور، ولذلك أوجب عليه استعمال الماء إذا قدر [عليه] ، ولأن تيممه قد بطل، بدليل أنه لو لم يفرغ من الصلاة حتى عدم الماء لم يجز له التنفل حتى يجدد التيمم، صرح به ابن عقيل وغيره، وكذا لو كان في نافلة، ولم ينو عددا، لم يزد على ركعتين، بل ولا على ركعة إن صح التطوع بها، وأبو محمد يختار عدم البطلان إن لم يقل ببطلان الصلاة برؤية الماء، وإذا له التنفل بعد، إن عدم الماء قبل كمال الصلاة، ولأنه معنى يبطل به التيمم خارج الصلاة، وكذلك فيها، كانقطاع دم الاستحاضة. وعن أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] رواية أخرى نص عليها في رواية الميموني وغيره: أنه يمضي فيها، حذارا من بطلان العمل المنهي عن إبطاله، واستدل بعضهم بعموم «لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا» وليس بشيء، لأن معنى الحديث إذا خيل إليه بشيء فلا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا، فليس في الحديث تعرض لغير التخييل،

وقد رجع أحمد عن هذه الرواية في رواية المروذي، فقال: كنت أقول: يمضي في صلاته، ثم تدبرت، فإذا أكثر الأحاديث على أنه يخرج ويتوضأ. ومن ثم أسقطها ابن أبي [موسى] وطائفة من الأصحاب، ولم يعتبر ذلك ابن حامد، وطائفة معه، بل أثبتوها رواية، وكذلك القولان في كل رواية علم رجوع الإمام عنها. اهـ. (فعلى رواية الميموني) : هل الخروج أفضل، للخروج من الخلاف - وهو رأي أبي جعفر - أو يمتنع الخروج - وهو ظاهر كلام الإمام - لقوله سبحانه: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ؟ على قولين: (وعلى المذهب) يخرج ويتطهر، ويستأنف الصلاة كما قال الخرقي، ونص عليه أحمد، وخرج القاضي وطائفة من الأصحاب منهم المجد في المحرر - البناء من رواية البناء في من سبقه الحدث، وأبى ذلك أبو محمد، أبو البركات في الشرح، [مفرقين] بأن بوجود الماء ظهر حكم الحدث السابق على الصلاة، قبل كمال المقصود بالتيمم، فصار كافتتاح الصلاة مع الحدث، بخلاف من سبقه الحدث في الصلاة، فإنه لم يتقدم ذلك حدث.

وقول الخرقي: وهو في الصلاة. يحترز به عما إذا وجد الماء بعد الصلاة، فإن صلاته ماضية، وإن أصابه في الوقت، وقد نص على ذلك فيما تقدم، نعم: هل تستحب له الإعادة والحال هذه؟ فيه وجهان، وفيه تنبيه على ما إذا وجده قبل الدخول في الصلاة، فإن تيممه يبطل بلا ريب، لحديث أبي ذر المتقدم، حتى لو وجده ثم عدم من ساعته، فإنه يلزمه استئناف التيمم. وقول الخرقي: إذا وجد الماء. ظاهره أنه لا بد من وجود حقيقة الماء، وهو كذلك، فلو وجد ركبا وغلب على ظنه وجود الماء فيه لم يبطل تيممه، نعم إن تيقن وجود الماء فيه بطل، وهذا بخلاف ما لو كان خارج الصلاة، فإنه إذا وجد ركبا] أو نحوه مما يظن معه وجود الماء، فإن تيممه [يبطل على الصحيح] . وهذا كله إذا كان تيممه لعدم الماء، وهو آمن [من] العطش، أما إن كان لمرض ونحوه، أو كان عطشان، فإن تيممه] لا يبطل بوجوده ولو داخل الصلاة، والله أعلم. قال: وإذا شد الكسير الجبائر، وكان طاهرا، ولم يعد بها موضع الكسر، مسح عليها كلما أحدث، إلى أن يحلها. ش: جواز المسح على الجبيرة إجماع في الجملة، وقد دل عليه حديث صاحب الشجة.

259 - وروى البيهقي في سننه، وأحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم، بإسناديهما عن ابن عمر، أنه كان يقول: من كان به جرح معصوب عليه، توضأ ومسح على العصابة، ويغسل ما حول العصابة، وإن لم يكن عليه عصابة مسح ما حوله. 260 - وقد روي المسح على الجبائر عن علي، وابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكن بأسانيد ضعاف. 261 - ومن ثم قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «روي حديث عن علي أنه انكسر إحدى زندي يديه، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يمسح على الجبائر ولو عرفت إسناده بالصحة قلت به» . اهـ.

وظاهر كلام الخرقي وجوب المسح عليها، وهو كذلك، [لما تقدم، وظاهره أيضا أنه لا إعادة عليه مع المسح، وهو كذلك] لظاهر ما تقدم، ولأنها طهارة عذر، فأسقطت الفرض، كطهارة المستحاضة والتيمم، وقد حكى ابن أبي موسى، وابن عبدوس، وغيرهما رواية بوجوب الإعادة، لكنهم بنوها على ما إذا لم يتطهر لها، وقلنا بالاشتراط، والذي يظهر لي عند التحقيق أن هذا ليس بخلاف كما سيأتي. وظاهر كلامه [أيضا] الاجتزاء بالمسح، وهو المشهور المقطوع به من الروايتين، لظاهر ما تقدم عن ابن عمر، ولأنه مسح على حائل، فأجزأ من غير تيمم، كمسح الخف بل أولى، إذ صاحب الضرورة أحق بالتخفيف، (والثانية) : لا بد من التيمم مع المسح، لظاهر حديث صاحب الشجة، وقد تقدم تضعيفه، مع أنه يحتمل أن الواو فيه بمعنى «أو» أي: إنما يكفيه أن يتيمم، أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها. ويحتمل أن [التيمم في] الحديث لشد العصابة على طهارة، واقتصر الشارع على ذكر التيمم، نظر لحال

الشاج، لكن يلزم من هذا الاكتفاء بطهارة التيمم في شد الجبيرة ونحوها، والأصحاب على عدم الاكتفاء بذلك، بناء منهم على أن التيمم لا يرفع الحدث، فعلى هذه [الرواية] لا يمسح الجبيرة بالتراب، فلو استوعبت محل التيمم سقط. اهـ. واشترط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لجواز المسح على الجبيرة شرطين (أحدهما) : أن يشدها وهو طاهر، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي في روايتيه، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عبدوس، وابن البنا، لأنه مسح على حائل، فاشترط له تقدم الطهارة كالخف، ودليل الأصل الإجماع والنص كما سيأتي، (والثانية) : لا تعتبر الطهارة لها قبل الشد بحال، اختارها الخلال وصاحبه، وابن عقيل في التذكرة، وصاحب التلخيص فيه، وإليها ميل الشيخين لما تقدم عن ابن عمر وبه احتج أحمد، ولأن الجبيرة بمنزلة العضو، بدليل دخولها في الطهارتين، وعدم توقيتها، فهو كجلدة انكشطت، والتحمت على حدث، وتفارق الخف، إذ الكسر يقع بغتة، ويبادر إلى إصلاحه في الحال عادة، فلو اشترطت الطهارة والحال هذه لأفضى إلى حرج ومشقة، وهما منفيان شرعا (فعلى الأولى) حكمها حكم الخف في الطهارة،

فلو غسل موضعها، ثم شدها، ثم كمل طهارته، لم يجز له المسح، على المذهب من اشتراط كمال الطهارة، ولو شد على غير طهارة خلع ما لم يضر به، ومع خوف الضرر يتيمم لها كالجرح، وقيل: ويمسحها أيضا ليخرج من الخلاف، فإن ترك الخلع مع أمن الضرر، أو التيمم مع الضرر أعاد، وعلى هذا يحمل ما حكاه ابن أبي موسى وغيره من الإعادة إذا اشترطنا الطهارة. (الشرط الثاني) : أن لا يعدو بها موضع الكسر، أي لا يتجاوز بها [موضع] ذلك، ومراده - والله أعلم - تجاوزا لم تجر العادة به، فإن الجبيرة إنما توضع على طرفي الصحيح، لينجبر الكسر، وفي معنى ذلك ما جرت العادة به من التجاوز لجرح، أو ورم، أو رجاء برء، أو سرعته، وإذا لم يجد إلا عظما كبيرا، أو لم يجد ما يصغره به، ونحو ذلك، أما إن تجاوز من غير حاجة ولا ضرورة، فهذا الذي يحمل عليه كلام الخرقي، ومقتضى كلامه أنه لا يجوز له المسح والحال هذه، وهو كذلك في الجملة، وبيانه بأنه إن لم يخف الضرر إذا لزمه النزع، وإلا يكون تاركا لغسل ما أمر بغسله من غير ضرر، وفي كلام أبي محمد عن الخلال ما يقتضي عدم اللزوم وليس بشيء، وإن خاف التلف بالنزع سقط عنه بلا ريب، وكذلك إن خاف الضرر على المذهب،

وخرج من قول أبي بكر فيمن جبر كسره بعظم نجس عدم السقوط. وحيث سقط النزع مسح قدر الحاجة، وتيمم للزائد، ولم يجزئه مسحه على المشهور من الوجهين، اختاره القاضي وابن عقيل، وأبو محمد وغيرهم، لعدم الحاجة إلى الزائد. (والوجه الثاني) : يجزئه المسح على الزائد، اختاره الخلال وأبو البركات، لأنه قد صارت ضرورة إلى المسح عليه، أشبه موضع الكسر، ولأن المجاوزة إنما تقع غالبا لسهو أو غفلة، أو دهشة فمنع الرخصة مع ذلك، ومع الخوف من النزع فيه حرج ومشقة، وتعمد ذلك نادر، فلا يفرد بحكم، (وفي المذهب قول ثالث) : يجمع في الزائد بين المسح والتيمم. وقول الخرقي: شد الكسير الجبائر. ذكره على سبيل المثال، إذ لا فرق بين الكسر والجرح في موضع الجبيرة، نص عليه أحمد، وقصة صاحب الشجة كانت في الجرح، وفي معنى ذلك لو وضع على جرحه دواء وخاف من نزعه، فإنه يمسح عليه، وكذا لو ألقم إصبعه مرارة.

262 - كما روى الأثرم والبيهقي بإسناديهما عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة، فألقمها مرارة، وكان يتوضأ عليها، أما لو كان برجله شق، فجعل فيه قارا، وتضرر بنزعه، (فعنه) - واختاره أبو بكر -: لا يجزئه المسح، ولأنه في معنى الكي المنهي عنه، لأنه لا يستعمل إلا مغليا بالنار، (وعنه) - واختاره أبو البركات -؛ يجزئه، كالمرارة ونحوها، والكي المنهي عنه يحمل على ما فيه خطر، أو لم يغلب على الظن نفعه. 263 - لأنه [قد] صح عنه أنه كوى أبي بن كعب، وسعد ابن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

وكلام الخرقي يشمل المسافر وإن كان عاصيا، وهو كذلك، بخلاف ماسح الخف إذا كان عاصيا بسفره، فإنه يمتنع من المسح في وجه، وفي المشهور: يلغى حكم السفر، ويمسح مسح مقيم (ويشمل) الحدثين المسح، لأن مسحها للضرورة، والضرورة توجد معها، بخلاف الخف، (ويشعر) بأن مسحها لا يتأقت بمدة، وهو كذلك، لأنه مسح للضرورة، فيبقى ببقائها، بخلاف الخف، إذ مسحه رخصة، وعن ابن حامد: أنها تتوقت كالخف، (وبأنه) لا يشترط سترها لمحل الفرض، وهو كذلك، إذا لم تكن حاجة، لما تقدم، بخلاف الخف، (وبأن) شدها مختص بحال الضرورة، وهو كذلك، بخلاف الخف. وإذا انتهينا إلى ذلك فقد عرفت أنها تفارق الخف فيما تقدم، وتفارقه أيضا في أنها تستوعب بالمسح كالتيمم، بخلاف الخف، إذ استيعابه يوهنه، ويضعفه، ويتلفه، فلذلك اجتزئ ببعضه، (وأنها) تجوز من خرق ونحوها، بخلاف الخف (وأنها) لو كانت من حرير ونحوه صح المسح عليها، على رواية صحة الصلاة في ذلك، بخلاف [الخف] على المحقق، (وأنها) لا تشترط لها الطهارة رأسا في رواية، بخلاف الخف (وأنه) لو لبس الخف على طهارة مسح فيها

باب المسح على الخفين

عليها جاز له أن يمسح عليه، ولو لبسه على طهارة مسح فيها على عمامة (أو عمامة) على طهارة مسح فيها على الخف، لم يجز المسح على وجه (فهذه عشرة) أشياء، ومرجعها أو معظمها على أن مسح الجبيرة عزيمة، ومسح الخف ونحوه رخصة، والله سبحانه أعلم. قال: [باب المسح على الخفين] ش: جواز المسح على الخفين في الجملة ثابت بالسنة الصريحة الصحيحة. 264 - فعن جرير: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بال ثم توضأ، ومسح على خفيه.» قال إبراهيم النخعي: وكان يعجبهم هذا، لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. متفق عليه، وفي رواية النسائي: وكان أصحاب عبد الله يعجبهم قول جرير، وكان إسلام جرير قبل موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيسير. ولأحمد «عن جرير: ما أسلمت إلا بعد أن أنزلت المائدة، وأنا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح بعد ما أسلمت» .

265 - «وعن عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالمسح على الخفين في غزوة تبوك، ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم» . رواه أحمد وقال: هذا من أجود حديث في المسح، لأنه في غزوة تبوك، وهي آخر غزوة غزاها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو آخر فعله. وقال في رواية الميموني: سبعة وثلاثون نفسا يروون المسح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال في رواية أخرى: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما رفعوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما وقفوا.

266 - وروى ابن المنذر عن الحسن البصري أنه قال: حدثني سبعون من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه مسح على الخفين. 267 - وقال ابن المبارك: ليس في المسح على الخفين عندنا خلاف أنه جائز، وإن الرجل ليسألني عن المسح، فأرتاب به أن يكون صاحب هوى. وقد استنبط ذلك بعض العلماء من الكتاب العزيز، من قَوْله تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] على قراءة الجر، وحمل قراءة النصب على الغسل، حذارا من أن تخلو إحدى القراءتين من فائدة. 268 - ويرشح ذلك ما روى «عن المغيرة بن شعبة قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فقضى حاجته ثم توضأ، ومسح على خفيه، قلت: يا رسول الله أنسيت؟ قال: «بل أنت نسيت، بهذا أمرني ربي» رواه أحمد، وأبو داود. ولقد بالغ إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اتباع السنة كما هو دأبه، فجعل المسح أفضل من الغسل في رواية، وإليها ميل الشيخين، أخذا بالرخصة، ومخالفة لأهل البدع المانعين من ذلك، وسوى

شروط صحة المسح على الخفين

بينهما في أخرى، لورود الشريعة بهما والله أعلم. [شروط صحة المسح على الخفين] قال: ومن لبس خفيه وهو كامل الطهارة، ثم أحدث مسح عليهما ش: يشترط لجواز المسح على الخفين أن يلبسهما بعد كمال الطهارة، على المشهور، المعول عليه من الروايتين. 269 - لما روى صفوان بن عسال قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نمسح على الخفين، إذا نحن أدخلناهما على طهر، ثلاثا إذا سافرنا، ويوما وليلة إذا أقمنا، ولا نخلعهما من غائط، ولا بول، ولا نوم، ولا نخلعهما إلا من جنابة.» رواه أحمد، والدارقطني، وابن خزيمة والطهر المطلق ينصرف إلى الكامل. 270 - وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه رخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة، إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما.» رواه الدارقطني، وابن خزيمة، والطبراني والأثرم، وصحح الخطابي إسناديهما،

ولأن ما اشترطت له الطهارة اشترط له كمالها، كمس المصحف. (والثانية) : لا يشترط كمال الطهارة، فلو غسل رجلا وأدخلها الخف، ثم الأخرى وأدخلها الخف [الآخر] أو غسل رجليه وأدخلهما الخف، ثم تمم طهارته وصح ذلك، بأن يشترط الترتيب، جاز له المسح مع الكراهة. 271 - لما «روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأهويت لأنزع خفيه، فقال: «دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين» فمسح عليهما» مختصر متفق عليه، ولأبي داود «دع الخفين، فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان» . 272 - وعنه أيضا قال: «قلنا: يا رسول الله: أيمسح أحدنا على الخفين؟ قال: «نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان» رواه الدارقطني، والحميدي في مسنده [وقد وجد طهارتهما والحال هذه] وكونهما طاهرتين أعم من أن يوجد ذلك

معا، أو واحدة بعد الأخرى، وحمل ذلك على طهارتهما بطهر كامل، توفيقا بين الأحاديث، على أنا نمنع الطهاة قبل كمالها حكما، بدليل المنع من مس المصحف. وقد تضمن دليل الروايتين اشتراط تقدم الطهارة، وهو المعروف بلا ريب، وحكى الشيرازي رواية بعدم الاشتراط رأسا، فلو لبس محدثا، ثم توضأ وغسل رجليه جاز له المسح، وهو غريب بعيد. وقد يحترز الخرقي بكمال الطهارة أيضا عما إذا لبس على طهارة تيمم، فإنه لا يجوز له المسح، لعدم كمال الطهارة، إذ التيمم لا يرفع الحدث على المذهب، ويتخرج الجواز بناء على أنه رافع، وقد أشار إليه أحمد [قال] أبو العباس، وهذا في من تيممه لعدم الماء، أما من تيممه لمرض كالجريح ونحوه فينبغي أن يكون كالمستحاضة، قال: وتعليل أصحابنا يقتضيه. اهـ. ومما يلحظ فيه البناء على رفع الحدث وعدمه إذا لبس خفا على طهارة مسح فيها على عمامة، أو عمامة على طهارة مسح فيها على خف، أو ماسح أحدهما إذا شد جبيرة وشرطنا لها الطهارة، فإن في جواز المسح في جميع ذلك وجهان،

مدة المسح على الخفين

أصحهما عند أبي البركات الجواز، جريا على قاعدته، من أن المسح يرفع الحدث، أما المستحاضة ومن به سلس البول، ونحوهما فلهم المسح، نص عليه أحمد، لأن طهارتهم كاملة في حقهم، ثم هل حكمهم حكم الصحيح في التوقيت، وهو منصوص الإمام، وظاهر كلام ابن أبي موسى وغيره يتوقت المسح في حقهم، أو بوقت كل صلاة، وهو قول القاضي في الجامع - فيه قولان. وقول الخرقي: ثم أحدث. يريد الحدث الأصغر، إذ جواز المسح مختص به، بدليل حديث صفوان المتقدم، والله أعلم. [مدة المسح على الخفين] قال: يوما وليلة للمقيم، وثلاثة أيام ولياليهن للمسافر. ش: لما ذكر [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] جواز مسح الخف بشرطه، بين أن ذلك موقت بيوم وليلة للمقيم، وبثلاثة للمسافر، لما تقدم من حديث عوف بن مالك، وقد جوده أحمد، وصفوان. 273 - وعن «شريح بن هانئ: سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عن المسح على الخفين، فقالت: سل عليا فإنه أعلم بهذا مني، وكان يسافر مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته فقال: قال رسول الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوما وليلة» رواه مسلم والنسائي وأحمد. 274 - وعن خزيمة بن ثابت «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن المسح على الخفين فقال: «للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يوم وليلة» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه وقال مثنى: سئل أحمد عن أجود الأحاديث في المسح فقال: حديث شريح

بن هانئ، وخزيمة بن ثابت، وعوف بن مالك؛ وقال في رواية الأثرم: هو صحيح مرفوع، قال: نعم. وقول الخرقي: للمسافر. أي المسافر سفرا يبيح القصر لأنه الذي تتعلق [به] الرخص، أما المسافر في معصية فكالمقيم، يمسح يوما وليلة، على أصح الوجهين، إلغاء للسفر، وقيل: لا يمسح أصلا عقوبة له. والله أعلم. قال: فإن خلع قبل ذلك أعاد الوضوء ش: يعني قبل اليوم والليلة، بعد (المسح) ، أو قبل الثلاثة أيام، وهذا أشهر الروايتين، وعليها العمل، (والثانية) : يجزئه غسل قدميه. 275 - وقد روى (ذلك) البيهقي في سننه عن أبي بكرة، ورجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد تأول الخلال هذه الرواية، وخالفه العامة، وبنوها على أن الطهارة تتبعض، وأنه يجوز تفريقها كالغسل، وإذا إما [أن] نقول: الحدث لم يرتفع عن الرجلين، فيغسلان بحكم الحدث السابق، أو نقول: ارتفع وعاد إليهما فقط، أما المذهب فهو مبني - عند ابن الزاغوني، وأبي محمد - على المذهب في اشتراط الموالاة، وبنيا عليه أن

الخلع إذا كان عقب المسح كفاه غسل رجليه، وارتفع الخلاف، وهو مفرع على أن طهارة المسح لا ترفع الحدث، وإنما تبيح الصلاة كالتيمم، فإذا ظهرت الرجلان ظهر حكم الحدث السابق، وقد وقع ذلك أيضا للقاضي في التعليق، في توقيت المسح، مصرحا بأن طهارة المسح ترفع الحدث إلا عن الرجلين، وبناه أبو البركات على شيئين (أحدهما) : أن المسح يرفع حدث الرجلين رفعا مؤقتا، وقد نص أحمد على ذلك في رواية أبي داود، وقاله القاضي في التعليق في هذه المسألة، وصاحب التلخيص فيه. (والثاني) : أن الحدث لا يتبعض، وقد صرح بذلك القاضي أيضا وغيره، وإذا إذا خلع عاد الحدث إلى الرجلين، فيسري إلى بقية الأعضاء، وعلى هذا يستأنف وإن قرب الزمن، كما هو ظاهر كلام أحمد، لإطلاقه القول بالاستئناف، بل قيل: إنه منصوصه، وقد قال القاضي: لو سلمنا أن المسح لا يرفع الحدث عن الرجلين لا يضر، لأن نزعهما أبطل حكم المسح في الرجلين، وأوجب غسلهما، فيجب بطلانها في جميع الأعضاء، لأنها لا تتبعض، وحاصل هذا البناء على شيء واحد اهـ وهكذا الخلاف في انقضاء المدة وهو على طهارة. وقوله: خلع. يشمل الخفين أو أحدهما، وهو كذلك، ويخرج منه ما إذا انكشطت ظهارة الخف، وبقيت بطانته،

فإنه ليس كالخلع على المذهب، وقيل: بلى. وحكم ظهور بعض القدم حكم ظهور جميعه، أما إن خرج القدم إلى الساق فعنه - وهو المشهور - أنه كالخلع، وعنه - ويحتمله كلام الخرقي لترتيبه الحكم على الخلع -: لا أثر لذلك، (فعلى الأول) - وهو المذهب - إن خرج بعض القدم إلى الساق فروايتان، أصحهما أنه كما لو خرج القدم جميعه، هذا نقل القاضي في التعليق، وأبي الخطاب، تبعا لأبي حفص البرمكي، وقال أبو البركات: إن خرج البعض إلى الساق، خروجا لا يمكن المشي معه، فكالخلع، نص عليه، وعنه: إن جاوز العقب حد موضع الغسل فكالخلع، وما دونه لا يؤثر. (تنبيه) : إذا حدث ما تقدم من الخلع أو انقضاء مدة المسح وهو في الصلاة، فظاهر كلام الخرقي وكثير من الأصحاب أنه كما لو كان خارجها، نظرا لإطلاقهم، وبناه ابن عقيل على وجود المتيمم الماء وهو في الصلاة، وكأنه لحظ أن المسح لا يرفع الحدث، والسامري على من سبقه

الحدث وهو في الصلاة، وهو أقعد على المنصوص من أن المسح يرفع الحدث. والله أعلم. قال: ولو أحدث وهو مقيم، فلم يمسح حتى سافر، أتم على مسح مسافر، منذ كان الحدث ش: أما كونه يمسح [مسح] مسافر والحال ما تقدم فلظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمسح المسافر» وهذا مسافر فدخل في ذلك، ولأنه لم يمسح في الحضر، فأشبه من لبس فيه ولم يحدث. وأما كون ابتداء مدة المسح من حين الحدث فلأن «قول صفوان [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، أمرنا أن لا ننزع خفافنا ثلاثا، من بول، وغائط، ونوم.» مقتضاه أنها تنزع لثلاث يمضين من ذلك، وفيه بحث، إذ قد يقال: إن (من) للسببية، أي ننزع بعد الثلاث، بسبب حدث وجد قبل ذلك، ولأن المسح عبادة مؤقتة، فاعتبر وقتها بجواز فعلها، لا بفعلها كالصلاة، (وهذا) أشهر الروايتين، واختيار الأصحاب. (والثانية) : ابتداء المدة من المسح بعد الحدث، لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمسح المسافر ثلاثا» ولو كان أوله الحدث لم يتصور ذلك، إذا الحدث لا بد أن يسبق المسح، وهو محمول على وقت جواز المسح، والله أعلم.

قال: ولو أحدث مقيما، ثم مسح مقيما ثم سافر، أتم على مسح مقيم [ثم خلع] ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار ابن أبي موسى، وأبي محمد، والقاضي، وجمهور أصحابه، منهم أبو الخطاب في خلافه الصغير، إذ المسح عبادة وجد أحد طرفيها في الحضر، والآخر في السفر، فغلب جانب الحضر كالصلاة، (والثانية) : يتم مسح مسافر. اختارها الخلال وصاحبه، وأبو الخطاب في الانتصار، لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمسح المسافر» وهذا مسافر، وكما لو أحدث وهو مقيم، فلم يمسح حتى سافر، ولقد غالى الخلال حيث جعل المسألة رواية واحدة، فقال: نقل عنه أحد عشر نفسا أنه يتم مسح مسافر، ورجع عن قوله: يتم مسح مقيم. وظاهر كلام الخرقي والأصحاب أنه لا فرق بين أن يصلي في الحضر أو لا يصلي، وقال أبو بكر: يتوجه أن يقال: إن صلى بطهارة المسح في الحضر غلب جانبه، رواية واحدة. والله أعلم.

قال: وإذا مسح مسافرا أقل من يوم وليلة، ثم أقام، أو قدم، أتم على مسح مقيم وخلع. ش: لا خلاف في هذا نعلمه، لما تقدم من تغليب جانب الحضر، والله أعلم. قال: [وإذا مسح مسافر يوما وليلة فصاعدا ثم أقام أو قدم خلع] . ش: هذا المعروف في المذهب، حتى قال ابن تميم: رواية واحدة. لما تقدم من تغليب جانب الحضر، وقد تنقضي المدة فيلزمه الخلع، وشذ الشيرازي فقال: إذا مسح أكثر من يوم وليلة، ثم أقام أو قدم أتم على مسح مسافر. والله أعلم. قال: ولا يمسح إلا على خفين، أو ما يقوم مقامهما، من مقطوع، أو ما أشبه مما يجاوز الكعبين. ش: يمسح على الخفين لورود السنة بذلك كما تقدم، وعلى ما يقوم مقام الخفين مما يستر محل الفرض، ويثبت بنفسه، إذ ما يقوم مقام الشيء يعطى حكمه، وذلك كالخف المقطوع

الساق، وما أشبه المقطوع. كالخف القصير الساق، ولعله يريد الجرموق. 276 - وقد روى بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه» ، رواه أحمد، وأبو داود، والموق هو الجرموق، فارسي معرب، قاله الجوهري، وهو خف واسع يلبس فوق الخف في البلاد الباردة، ولا يمسح على ما عدا ذلك، إذ الأصل [الغسل] ، خرج من ذلك ما وردت فيه السنة وما في معناه. واعلم أنه يشترط لجواز المسح على الخف وما ألحق به - كما اقتضاه كلام الخرقي - من حوائل الرجل شروط (أحدها) : كونه ساترا لمحل الفرض، وإلا فحكم ما ظهر الغسل، وحكم ما استتر المسح، وإذا يغلب الغسل، لأنه الأصل، وسواء كان ظهور محل الفرض لقصر ذلك، أو لسعته، أو خفته، أو صفائه، كالزجاج الرقيق ونحوه،

أو خرق فيه وإن صغر، ومال أبو البركات إلى العفو عن خرق لا يمنع متابعة المشي، نظرا إلى ظاهر خفاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 277 - وقال قال عبد الرزاق: سمعت الثوري يقول: يمسح على الخف ما تعلق بالقدم وإن تخرق؛ قال: وكذلك كانت خفاف المهاجرين والأنصار، مخرقة مشققة. وبالغ أبو العباس فقال في قواعده بالجواز على المخرق، ما لم يظهر منه أكثر القدم، فإن ظهر أكثر القدم فهو عنده كالنعل، أو الزربول الذي لا يستر القدم مما في نزعه مشقة، بأن لا يخلع بمجرد خلع الرجل [بل] إنما يخلع بالرجل الأخرى، أو باليد، والذي يميل إليه في جميع ذلك أنه يغسل ما ظهر من القدم، ويمسح النعل، أو يمسح الجميع، وكلامه في ذلك فيه اضطراب، ثم ظاهر كلامه أن المسح والحال

هذه لا يكون بدلا، بل أصلا مكملا بغيره فلا يتوقت، ومعتمده في ذلك على أحاديث وآثار. 278 - (منها) : ما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا ابن عباس ألا أتوضأ لك كما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتوضأ؟ قلت: بلى. وفيه: فأخذ حفنة من ماء فضرب بها رجله، وفيها النعل، فغسلها به، ثم الأخرى مثل ذلك.» رواه أحمد وأبو داود، والترمذي. 279 - (ومنها) : ما «روي عن ابن عباس أيضا قال: توضأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخذ ملء كفه ماء، فرش به على قدميه وهو منتعل» .

280 - «وعن ابن عمر أنه كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه، ويقول: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع هكذا» وغير ذلك من أحاديث وآثار. وغيره من العلماء أشار إلى ضعف ما ورد من ذلك، إذ أعلاها الحديث المصدر به، وقد سئل عنه البخاري فضعفه، وقال: ما أدري ما هذا. وكذلك البيهقي ضعف جملة من ذلك، ثم الحديث الأول لا حجة فيه، إذ

فيه أنه غسلها في النعل، [والنعل لا يمنع الغسل] ، وعلى ذلك حمل البيهقي ما ورد من ذلك، والطحاوي حملها على أنها كانت تحتها جوربان، أو على أنه في الوقت الذي كان يجوز فيه المسح على القدمين، وأن ذلك كان هو الفرض، والمسح على النعلين فضلا، وادعى الإجماع على عدم جواز [مسح] ما تقدم، وأبو العباس يضعف هذه الأجوبة ويقول: إن هذا رد للآثار بإجماع لا نعلم حقيقته اهـ. (الثاني) : [من الشروط] ثبوته بنفسه، إذ الرخصة وردت في الخف المعتاد، وهو ثابت بنفسه، وما لا يثبت بنفسه ليس في معناه، فلا يلحق به، وإذا لا يجوز المسح على ما يسقط من الرجل، أو لا يثبت إلا بالشد، وفي معنى ذلك اللفافة على المنصوص، والمجزوم به عند الأصحاب، حتى إن أبا البركات جعل ذلك إجماعا، لعدم ثبوتها بنفسها، وحكى ابن عبدوس رواية بالجواز بشرط قوتها وشدتها، وبعض الأصحاب تخريجا بشرط مشقة النزع، وابن تميم وجها

مطلقا. اهـ. أما إن ثبت الخف ونحوه بنفسه لكن لولا الشد أو الشرج لبدا بعضه، فوجهان (الجواز) اختيار ابن عبدوس، وأبي البركات، (والمنع) اختيار الآمدي، وفي معنى ذلك الزربول الذي له آذان. (الشرط الثالث) : إمكان المشي فيه، فلو تعذر لضيقه، أو ثقل حديده، أو تكسيره كرقيق الزجاج ونحو ذلك، لم يجز المسح، إذ ليس بمنصوص عليه، ولا في معنى المنصوص. (الشرط الرابع) : كونه مباحا، فلا يصح على حرير، ومغصوب، وخرج القاضي، وابن عبدوس، والشيرازي، والسامري الصحة على الصلاة في ذلك، وأبى ذلك الشيخان، وصاحب التلخيص، وقال: إنه وهم، إذ الرخص لا تستباح بمحرم، نعم من اضطر إلى ذلك، كمن كان في بلد ثلج، وخاف سقوط أصابعه، أجزأه المسح عليها، قاله السامري واختلف في شرطين آخرين (أحدهما) : هل من شرطه كونه معتادا فلا يجوز على الخشب، والزجاج، والنحاس؟ وهو اختيار الشيرازي، أو لا يشترط، وهو اختيار القاضي، وأبي الخطاب، وأبي البركات؟ على قولين، (الثاني) : هل يشترط طهارة عينه؟ فيه وجهان،

يظهر أثرهما فيمن لبس جلد كلب أو ميتة في بلد ثلج، وخشي سقوط أصابعه، (أحدهما) - وهو ظاهر كلام أبي محمد - لا يشترط، للإذن فيه إذا، ونجاسة الماء حال المسح لا تضر، كالجنب إذا اغتسل وعليه نجاسة لا تمنع وصول الماء، على أحد القولين، (والثاني) - وهو اختيار ابن عقيل، وابن عبدوس، وأبي البركات - يشترط، لأنه منهي عنه في الأصل، وهذه ضرورة نادرة، وإذا يتيمم للرجلين، فإن كان طاهر العين، لكن بباطنه أو بقدمه نجاسة لا تزال إلا بنزعه، فقال كثيرون: يخرج على روايتي الوضوء قبل الاستنجاء، وفرق أبو البركات بأن نجاسة المحل ثم لما أوجبت الطهارتين جعلت إحداهما تابعة للأخرى، وهذا معدوم هنا، وهذه الشروط قد تؤخذ من كلام الخرقي، لخروج كلامه على خف معتاد، ماعدا شرطي الحل، وطهارة العين، والله أعلم. قال: وهما العظمان الناتئان ش: قد تقدم أن الكعبين هما العظمان النائتان] ، في «باب فرض الطهارة» وتقدم الدليل عليه، فلا حاجة إلى إعادته، والله أعلم. قال: وكذلك الجورب الصفيق، الذي لا يسقط إذا مشى فيه

ش: لما كان الخف المعتاد من شأنه أن يكون صفيقا، لا يسقط إذا مشى فيه، لم يصرح بذكر هذين الشرطين فيه، ولما كان الجورب - وهو غشاء من صوف، يتخذ للدفء - يستعمل تارة وتارة كذا، صرح باشتراط ذلك فيه، وقد تقدم بيان هذين الشرطين عن قرب، والكلام الآن في جواز المسح على الجورب في الجملة. 281 - والأصل فيه ما روى المغيرة بن شعبة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - توضأ ومسح على الجوربين والنعلين» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، لكن الأكابر قد أشاروا إلى شذوذه ورده، فقال ابن المديني: رواه هزيل، وخالف الناس وقال ابن معين: الناس كلهم يروونه على الخفين غير أبي قيس ونحوه قال إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابنه عبد الله،

وقال مسلم: أبوقيس، وهزيل - يعني راويا الحديث - لا يحتملان هذا مع مخالفتهما للأجلة الذين رووا عن المغيرة، فقالوا: مسح على الخفين. وقال أبو داود: وكان ابن مهدي لا يحدث به، لأن المعروف عن المغيرة الخفين. (قلت) : وهذا كله لا ينبغي أن يرد به الحديث، إذ لا مانع من رواية المغيرة اللفظين معا، ولهذا قال به أحمد، وبنى عليه مذهبه، ثم قد عضده فعل الصحابة، فقال أحمد [في رواية

الميموني] : قد فعله سبعة أو ثمانية من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 282 - وقال ابن المنذر: يروى عن تسعة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علي، وعمار، وابن مسعود، وأنس، وابن عمر، والبراء، وبلال، وابن أبي أوفى، وسهل بن سعد، وقال أبو داود: روى عن [عمر و] ابن عباس. وقال البيهقي: روي عن أبي أمامة، وعمرو بن حريث، فهؤلاء ثلاثة عشر صحابيا، غالبهم من أكابر فقهاء الصحابة المعتبرين. اهـ.

وقد شمل كلام الخرقي المجلد والمنعل [وغيرهما] ، وصرح به غيره، وشمل -أيضا - جورب الخرق، وهو المشهور من الروايتين، واختيار الشيخين، (والثانية) : - وجزم بها في التلخيص - ليس له ذلك في جورب الخرق، والله أعلم. قال: فإن كان يثبت بالنعل مسح عليه، فإذا خلع النعل انتقضت الطهارة ش: إذا كان الجورب لا يثبت إلا بالنعل جاز له المسح، لأن الشرط الثبوت وقد وجد، مع أن ذلك قد روى عن بعض الصحابة، وقد يتخرج المنع من قول الآمدي في الخف المشرج، وقد تقدم، ومتى خلع [النعل] انتقضت الطهارة، لزوال الشرط، والأولى أن يمسح على الجورب والنعل، كما هو ظاهر الحديث، ويمسح من النعل سيوره التي

كيفية المسح على الخفين

على ظهر القدم، دون أسفله وعقبه كالخف، فإن اقتصر على قدر الواجب من أحدهما فقال القاضي - وهو ظاهر كلام صاحب التلخيص فيه -: لا يجزئه، لمخالفته ظاهر الحديث، وظاهر كلام أحمد - على ما قال أبو البركات - الإجزاء لأنهما [قد] جعلا كالشيء الواحد، وقيل بالإجزاء على الجورب دون النعل، والله أعلم. قال: وإذا كان في الخف خرق يبدو منه بعض القدم لم يجزه المسح عليهما ش: قد تقدم هذا الشرط عن قرب، ونزيد هنا بأن مقتضى كلام الخرقي أن ظهور بعض القدم كظهور القدمين، ثم قوله: خرق يبدو منه بعض القدم. يخرج منه خرق لا يبدو شيء من القدم لانضمامه ونحو ذلك، فإنه لا يمنع من المسح، ونص عليه أحمد، والله أعلم. [كيفية المسح على الخفين] قال: ويمسح على ظاهر القدم. 283 - ش: لما «روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على الخفين، على ظاهرهما.» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه.

284 - «وعن علي - كرم الله وجهه -: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمسح على ظاهر خفيه.» رواه أبو داود، وقدر الواجب في المسح جميع ظاهر الخف، وهو مشط القدم، إلى ظهر العرقوب، قاله الشيرازي، وقدر ذلك ابن البنا بقدر الناصية، وظاهر كلام أحمد - وعليه الجمهور - أن الواجب أكثر ظهر القدم. 285 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجل وهو يغسل خفيه، فقال بيديه، كأنه دفعه: «إنما أمرت بالمسح هكذا» من أعلى أطراف الأصابع، إلى أصل الساق، خططا بالأصابع، ورواه ابن ماجه، وقال: وفرق الأصابع وصفة المسح المسنون أن يضع يده مفرجة الأصابع، على أطراف أصابع رجليه ثم يجرهما إلى ساقه مرة واحدة، اليمين

باليمين، واليسرى باليسرى، قال في البلغة: ويسن تقديم اليمين. 286 - وقد روى البيهقي في سننه بسنده، «عن المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مسح على خفيه، وضع يده [اليمين] على خفه الأيمن، ويده اليسرى على خفه الأيسر، ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة، كأني أنظر إلى أصابع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الخفين» . وظاهر هذا أنه لم يقدم إحداهما على الأخرى، وكيفما مسح أجزأه، كما في الرأس، نعم لو مسح بخرقة أو خشبة ففي الأجزاء احتمالان، والله أعلم. قال: فإن مسح أسفله دون أعلاه لم يجزئه ش: لظاهر ما [تقدم] من الأحاديث قبل، وظاهر كلام الخرقي أنه لو مسح أسفله وأعلاه أجزأه، وهو كذلك، لإتيانه بالمقصود وزيادة، نعم هل يسن ذلك - وهو ظاهر قول ابن أبي موسى - أو لا يسن - وهو ظاهر كلام الخرقي، ومنصوص الإمام، وعليه العامة، [اتباعا] لظواهر الأحاديث؟ على قولين ومن ثم لا يسن استيعابه، ولا تكرار مسحه، وكره غسله، وبالغ القاضي فقال بعدم الأجزاء مع الغسل، لعدوله عن المأمور، وشيخه نظر إلى أنه أتى

باب الحيض

بالأبلغ، فاجتزى بذلك، وتوقف الإمام والحال هذه، والله أعلم. قال: والرجل والمرأة في ذلك سواء ش: أي فيما ذكر من المسح على الخف: والجورب، ونحوهما، وشرائطهما، لأن ذلك معتاد لها، فكان حكمها فيه حكم الرجل، وخرج بذلك العمامة، ولأنه مسح أقيم مقام الغسل، فاستويا فيه كالتيمم، والله أعلم. [باب الحيض] قال: باب الحيض ش: الحيض مصدر: حاضت المرأة تحيض، حيضا ومحاضا ومحيضا، فهي حائض، وحائضة في [لغة] ، وتحيضت: قعدت أيام عادتها عن الصلاة. وأصله [من] السيلان، يقال: حاض الوادي؛ إذا سال، والحيض دم يرخيه الرحم عند البلوغ، في أوقات معلومة، لحكمة تربية الولد، فعند الحمل ينصرف ذلك الدم بإذن الله تعالى إلى تغذية الولد، ولذلك لا تحيض الحامل، وعند الوضع يخرج ما فضل عن غذاء

أقل الحيض

الولد من ذلك الدم، ثم يقلبه الله تعالى لبنا يتغذى به الولد، ولذلك قل ما تحيض المرضع، فإذا خلت من حمل ورضاع بقي ذلك الدم لا مصرف له في محلة، ثم يخرج غالبا في كل شهر ستة أيام أو سبعة، وقد يزيد على ذلك ويقل، ويطول ويقصر، على حسب ما ركبه الله في الطباع، والله أعلم. [أقل الحيض] قال: وأقل الحيض يوم وليلة ش: هذا [هو] المشهور من الروايتين، والمختار للعامة. قال ابن الزاغوني: اختارها عامة المشايخ. والثانية: أقله يوم. اختارها أبو بكر على ما حكاه [عنه] جماعة، والذي في التنبيه يوم وليلة، وقد قيل يوم، والأصل في ذلك عدم التقدير من الشرع، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب قدرها فاغتسلي [وصلي] » ولم يقيد ذلك بقدر، بل وكله إلى ما تعرفه من عادتها، وما لا تقدير فيه من الشرع المرجع فيه إلى العرف، إذ الشارع إنما ترك تقديره لذلك، وإلا يكون أهمل حكمه، وأنه لا [يجوز] وأهل العرف قد ورد عنهم ذلك.

287 - (فعن) [عطاء] : رأيت من النساء من كانت تحيض يوما، ومن كانت تحيض خمسة عشر يوما. (وعن: الشافعي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] : رأيت امرأة قالت: إنها لم تزل تحيض [يوما لا يزيد] ، وقال لي عن نساء: إنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام، (وعن) ابن مهدي، عن امرأة أنها قالت: حيضي يومان. وعن إسحاق: صح في زماننا عن غير واحدة أنها قالت: حيضي يومان فثبت بنقل هؤلاء الأئمة الأعلام أن في النساء جماعة يحضن يوما، ويومين، فمن قال باليوم دون ليلته أخذ بظاهر [إطلاق] اليوم، ويؤيده قول الأوزاعي: عندنا امرأة تحيض بكرة، وتطهر عشية. ومن اعتبر اليوم مع ليلته قال: إنه المفهوم من إطلاق اليوم، ومن ثم قال القاضي في الروايتين: يمكن حمل قول أحمد: أقله يوم. [أي] : بليلته، فتكون المسألة رواية واحدة، وهذه طريقة الخلال، وما حكاه الأوزاعي فعن امرأة واحدة، ومثله

لا يثبت حكما شرعيا في حق سائر النساء، وما نقل من التقدير بثلاثة أيام، (فإما) صريح غير صحيح. 288 - كما روى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة أيام» رواه الدارقطني وغيره من طرق وروي - أيضا - عن بعض الصحابة، لكن كلها ضعيفة، بل فيها ما قيل: إنه موضوع. قال أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] في رواية الميموني:) ما صح عن أحد من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في الحيض: عشرة أيام، أو خمسة عشرة. (وإما) صحيح

أكثر الحيض

غير صريح، كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمستحاضة: «لتنظر قدر الليالي والأيام التي كانت تحيضهن» . 289 - وقوله لفاطمة بنت أبي حبيش: «اجتنبي الصلاة أيام حيضك» رواه أحمد وأقل الجمع ثلاثة، فهذا ونحوه مما خرج على الغالب، إذ الغالب أن حيض النساء أكثر من اليوم، بل ومن الثلاثة أيام، والله أعلم. [أكثر الحيض] قال: وأكثره خمسة عشر يوما ش: هذا هو المذهب - أيضا - والمشهور من الروايتين، لما تقدم عن عطاء، ونقل ذلك [أيضا] عن الشافعي، وإسحاق، ويحيى بن آدم، وشريك.

290 - ويرشحه ما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما رأيت ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، وأما نقصان دينها فإنها تمكث شطر عمرها لا تصلي» قال القاضي: رواه عبد الرحمن بن أبي حاتم في سننه. والشطر النصف، والظاهر أنه أراد منتهى نقصانهن، وقول البيهقي: إنه لم يجده في شيء من كتب الحديث يرده ما حكاه القاضي، لكن قال ابن منده: لا يثبت هذا بوجه من الوجوه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (والثانية) : أكثره سبعة عشر يوما، لأن ذلك يحكى

عن نساء الماجشون، وحكاه ابن مهدي عن غيرهن، اهـ. ولم يذكر الخرقي أقل الطهر، فيحتمل أنه لا حد لأقل الطهر عنده، وهو إحدى الروايات عن أحمد، رواها عنه جماعة، قاله أبو البركات، واختاره بعض الأصحاب، ولا عبرة بحكاية ابن حمدان ذلك [قولا] ثم تخطئته، (والمختار) في المذهب أن أقله ثلاثة عشر يوما.

291 - لما رواه أحمد واحتج به - عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن امرأة جاءت إليه قد طلقها زوجها، زعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض، طهرت عند كل قرء وصلت، فقال علي لشريح: قل فيها. فقال شريح: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها، ممن يرضى دينه وأمانته، شهدت أنها حاضت في شهر ثلاثا، وإلا فهي كاذبة. فقال علي: قالون. أي جيد، بالرومية، وثلاث حيض في شهر دليل على أن الثلاثة عشر طهر صحيح يقينا أما على الاثني عشر وما دونها فمشكوك فيه. (والرواية الثالثة) : أقله خمسة عشر يوما، لما تقدم من حديث «تمكث إحداكن شطر دهرها لا تصلي» وزعم أبو بكر في روايتيه أن هاتين الروايتين مبنيتان على أكثر الحيض، [فإذا] قيل: أكثره خمسة عشر. فأقل الطهر خمسة عشر، وإن قيل: أكثره سبعة عشر. فأقل الطهر ثلاثة عشر. والمشهور عند الأصحاب خلاف هذا، إذ المشهور أن أكثر الحيض خمسة عشر وأقل الطهر ثلاثة عشر. ثم إنما يلزم هذا [أن] لو كانت المرأة تحيض في كل شهر حيضة، لا تزيد على ذلك ولا تنقص، وليس كذلك.

علامات إقبال الحيض وإدباره

(تنبيه) : غالب الطهر بقية الشهر، «واللب» العقل، والله أعلم. [علامات إقبال الحيض وإدباره] قال: فمن طبق بها الدم، وكانت ممن تميز، فتعلم إقباله، بأنه أسود ثخين منتن، وإدباره بأنه رقيق أحمر، تركت الصلاة في إقباله، فإذا أدبر اغتسلت، وتوضأت لكل صلاة وصلت، وإن لم يكن دمها منفصلا، وكانت لها أيام من الشهر تعرفها، أمسكت عن الصلاة فيها، واغتسلت إذا جاوزتها، وإن كانت لها أيام أنسيتها، فإنها تقعد ستا أو سبعا في كل شهر ش: لما ذكر - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أكثر الحيض، أراد أن يبين حكم المرأة إذا زاد دمها على ذلك، فقال: من طبق بها الدم. أي استمر بها، وجاوز الخمسة عشر يوما، وهذه هي المستحاضة، التي قال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن ذلك عرق، وليس بالحيضة» أي أن دمها يسيل من عرق، وليس هو دم الحيض، وهذا العرق يسمى «العاذل» بالمعجمة، ويقال بالمهملة، حكاهما ابن سيده، «والعاذر» لغة فيه.

والمستحاضة على ضربين، مبتدأة [ومعتادة] وغيرهما لها أربعة أحوال، وهذه التي كلام الشيخ فيها (الحال الأولى) المميزة، وهي التي [لها] دمان، أحدهما أقوى من الآخر، كأن [يكون] أحدهما ثخين منتن، والآخر رقيق أحمر، أو أحدهما أحمر مشرق، والآخر دونه، ونحو ذلك. (الثانية) أن تكون معتادة، وهي التي لها أيام من الشهر تعرفها، وشهر المرأة ما اجتمع لها فيه حيض وطهر، وأقل ذلك على المذهب أربعة عشر يوما. (الحالة الثالثة) أن تكون معتادة ومميزة، بأن يكون لها أيام من الشهر تعرفها، ثم استحيضت، فصار لها دمان، أحدهما أقوى من الآخر. (الحال الرابعة) عكسها، وهي من لا عادة لها ولا تمييز. إذا عرف هذا فلا نزاع عندنا أنه متى انفرد التمييز عمل به، فتجلس زمن الدم الأقوى. 292 - لما في الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: «لا، إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة

، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي» وظاهره إناطة الحكم بإقبال الحيضة وإدبارها، من غير نظر إلى عادة. 293 - وأصرح من ذلك ما روي عن عروة بن الزبير، «عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان دم الحيض، فإنه أسود يعرف، فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو عرق» رواه أبو داود، والنسائي. 294 - وروى البيهقي في سننه عن مكحول، عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دم الحيض أسود خاثر، تعلوه حمرة، ودم المستحاضة أصفر رقيق» لكنه مرسل، إذ مكحول لم يسمع من أبي أمامة، قال الدارقطني: مع أن في سنده مجهولا وضعيفا، نعم ذكر ذلك أبو داود عن مكحول من قوله، وأيضا فإن مع الاشتباه يرجع إلى الصفات، كما لو اشتبه المني بالمذي، ونحو ذلك، (ويشترط) للعمل بالتمييز أن لا ينقص الأقوى عن أقل الحيض، ولا يزيد على

أكثره، وأن يكون بين الدمين القويين أقل الطهر. قلت: إن قلنا: لأقله حد. وهل يشترط كون مجموع الدمين الأقوى والأضعف لا يزيدان على أكثر من شهر؟ فيه وجهان، أصحهما: لا يشترط، إذ أكثر الطهر لا حد له، والثاني: يشترط، نظرا لغالب عادات النساء، ومتى اختل شرط من ذلك فكأن لا تمييز. اهـ. ولا نزاع أيضا أنه متى انفردت العادة عمل بها. 295 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أن أم حبيبة بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدم، فقال لها: «امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي» فكانت تغتسل عند كل صلاة» ، رواه مسلم. 296 - «وعن أم سلمة أنها استفتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة تهراق الدم، فقال: «لتنظر قدر الأيام والليالي التي كانت تحيضهن، وقدرهن من الشهر، فتدع الصلاة، ثم لتغتسل، ولتستثفر ولتصل» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وقال

أحمد في رواية المروذي، وإسحاق بن إبراهيم، وغيرهما: الحيض يدور عندي على ثلاثة أحاديث، حديث فاطمة بنت أبي حبيش، وحديث حمنة بنت جحش، وحديث سليمان ابن يسار، وهو حديث أم سلمة. اهـ. ولا تثبت العادة إلا بتكرار مرتين على رواية، لوجود المعاودة، وعلى أخرى - وهي المذهب، واختيار الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] ، وقال ابن الزاغوني: إنها اختيار عامة المشايخ - لا بد من تكرار ثلاثا، لظاهر ما تقدم، إذ «كان» في مل هذا التركيب إنما تستعمل في ما دام وتكرر، وهل يعتبر التكرار في التمييز، حيث يعمل به؟ فيه وجهان (أحدهما) - وهو اختيار القاضي، والآمدي - نعم، كالعادة بل أولى، إن قلنا: تقدم عليه. لأنه إذا اعتبر في الأقوى، ففي الأضعف أولى (والثاني) : وهو ظاهر كلام الإمام والخرقي واختيار ابن عقيل - لا، لأن النص دل على الرجوع إلى صفة الدم مطلقا. اهـ. وإن اجتمعت العادة والتمييز فروايتان (إحداهما) يقدم التمييز على العادة، فتعمل عليه وتتركها، وهي ظاهر كلام الخرقي، لقوله: وكانت ممن تميز. وهو شامل لما إذا كان لها عادة، ثم قال: وإن لم يكن دمها منفصلا. أي بعضه من بعض، بل كان كله شيئا واحدا، فلم ينقلها للعادة إلا عند عدم

التمييز، وذلك لأن التمييز أمارة قائمة في نفس الدم، موجودة حال الاشتباه، فقدم على العادة لانقضائها، وتحمل أحاديث العادة على من لا تمييز لها (والثانية) تقدم العادة، وهو اختيار الجمهور، لورودها في غالب الأحاديث من غير تفصيل، وجعلهن كلهن غير مميزات فيه بعد، ولم يرد العمل بالتمييز إلا في حديث فاطمة المتقدم، وحديثها الذي في الصحيح ليس فيه تصريح بذلك. 297 - بل في الصحيح من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها، ثم اغتسلي وصلي» فردها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى العادة، وقد نقل حرب عن أحمد أنها نسيت أيامها فالظاهر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردها للتمييز حين ذكرت أنها ناسية. اهـ. وإن عدمت العادة والتمييز، وهي التي كانت لها أيام فأنسيتها ودمها غير متميز، وتلقب «بالمتحيرة» ، وهي التي قد تحيرت في حيضها، ولها ثلاثة أحوال (أحدها)

أن تنسى وقتها وعددها، وهذه [التي] قال الخرقي: إنها تجلس ستا أو سبعا، نظرا لغالب عادات النساء. 298 - كما قد صرح بذلك في حديث حمنة بنت جحش، وسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن استحاضتها، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام، أو سبعة أيام في علم الله تعالى، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أن قد طهرت، واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة، أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها، وصومي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن، لميقات حيضهن [وطهرهن] » مختصر، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وقال: حسن صحيح (وهذا) إحدى الروايتين، وهو المختار للأصحاب (والثانية) : تجلس الأقل، لأنه المتيقن، وخرج القاضي فيها (رواية ثالثة) من المبتدأة أنها تجلس الأكثر (ورابعة) من المبتدأة - أيضا - تجلس عادة نسائها، وهي

الرواية الثانية التي في الكافي، وجعل الأقل مخرجا، وهو سهو، وإنما الأقل منصوصا، وكذلك الأول. وعلى كل حال ففي وقت إجلاسها وجهان (أحدهما) - وهو المشهور - أنها تجلس من أول [كل] شهر، لظاهر حديث حمنة [والثاني) - واختاره أبو بكر، وابن أبي موسى - تجلس بالتحري، لأنه أمارة مغلبة على الظن، ورؤوس الأهلة لا تأثير لها عقلا ولا عرفا، بل ولا شرعا في ابتداء الحيض، وفصل أبو البركات فقال: إن طال عهدها بزمن افتتاح الدم، ونسيته، جلست بالتحري، في أصح الوجهين، وإن ذكرت زمن افتتاح الدم، كمعتادة انقطع عنها الحيض، ثم جاءها الدم في خامس يوم من الشهر، واستمر، فهذه تحيض من خامس الشهر لا بالتحري على أصح الوجهين. (الحال الثاني) : من أحوال الناسية أن تذكر العدد وتنسى الوقت، كأن قالت: حيضي خمسة أيام [من] النصف الأول، ولا أعلم هل هي الأولى أو الثانية، أو الثالثة، فهذه تجلس خمسة [أيام] بلا ريب، لكن هل تجلسها بالتحري، أو بالأولوية؟ وصححه أبو البركات، فيه وجهان، ومتى تعذر أحدهما عمل بالآخر. اهـ. وكل موضع أجلسناها بالتحري، أو بالأولوية فإنها تحيض من كل

شهر حيضة، لخبر حمنة، إلا أن تذكر لها وقتا من الطهر بين الحيضتين يخالفه، فإنها تبنى عليه. (الحال الثالث) تذكر الوقت وتنسى العدد كأن تقول: كنت أحيض من خامس الشهر، لكن لا أعرف قدر ذلك. فإنها تحيض من الخامس الغالب أو الأقل، على الروايتين المنصوصتين، والأكثر أو عادة نسائها على المخرجتين، وحيث قلنا: تجلس الناسية ستا أو سبعا. فإن ذلك تخيير اجتهاد أو تحر، على أصح الوجهين، كما في قَوْله تَعَالَى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وعلى الثاني تخيير مطلق، نظرا لظاهر (أو) كما في كفارة اليمين ونحوها. إذا عرف هذا فالمستحاضة [في] الأيام المحكوم بحيضها فيها حكمها [فيها] حكم الحيض في جميع أحكامها، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة: «إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة» فإذا انقضى ما حكم بحيضها فيه فهي إذا في حكم الطاهرات فيلزمها الغسل، والعبادات وغير ذلك، كما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة أيضا: «فإذا ذهب قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي» وفي رواية «فاغتسلي وصلي» إلا أن في وطئها خلافا كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

ويلزمها أن تتوضأ لوقت كل صلاة، على المشهور من الروايتين والمختار لجمهور الأصحاب. 299 - لأن في «حديث حمنة: أنها كانت تهراق الدم، وأنها سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تتوضأ لوقت كل صلاة» . رواه ابن بطة بإسناده، وتصلي بوضوئها ما شاءت من فرائض ونوافل، ما لم يخرج الوقت، كما تجمع بين فرض ونفل اتفاقا، (والثانية) وهي ظاهر كلام الخرقي تتوضأ لكل فريضة. 300 - لأن في حديث فاطمة: «وتوضئي لكل صلاة» رواه البيهقي مرسلا ومتصلا، وقال: الصحيح أنه من قول عروة.

301 - وعن عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المستحاضة «تدع الصلاة أيام أقرائها. ثم تغتسل وتصلي، والوضوء عند كل صلاة» رواه الترمذي، وأبو داود وضعفه، ورواه البيهقي، وقال: «وتتوضأ لكل صلاة» . 302 - وعن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة» ، وقد جاء عن عائشة - أيضا - أنها قالت: «تتوضأ لكل صلاة» . وفي رواية عنها: «عند كل صلاة» . رواهما البيهقي (فعلى الأولى) يبطل وضوءها بخروج الوقت ودخوله، على ظاهر كلام أحمد، واختيار القاضي، وعلى اختيار أبي البركات لا يبطل إلا بالدخول وتنوي استباحة الصلاة، لا رفع الحدث، فإن نوته فقال في التلخيص: لا أعلم لأصحابنا فيه قولا، وقياس المذهب أنه لا يكفي، لتعذر رفعه للحدث الطارئ ولا يشترط تعيين النية للفرض، على ظاهر قول

الأصحاب، قاله أبو البركات، إذ هذه الطهارة ترفع الحدث الذي أوجبها. ويلزمها قبل الوضوء أن تغسل فرجها وتعصبه، وتسد محل الدم ما أمكن. 303 - لما تقدم من «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم سلمة في حق المستحاضة «لتستثفر بثوب» . 304 - «وقال لحمنة: «أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب الدم» قالت: إنه أكثر من ذلك. قال: «فاتخذي ثوبا» قالت: هو أشد من ذلك. قال: «فتلجمي» فإن غلب الدم، وخرج بعد إحكام [الشد] والتلجم لم يضرها ذلك. 305 - لأن في حديث فاطمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «اجتنبي الصلاة أيام محيضك، ثم اغتسلي، وتوضئي لكل صلاة، وصلي وإن قطر الدم على الحصير» رواه أحمد، وابن ماجه، وهل يلزمها إعادة الشد، وغسل الفرج لوقت كل صلاة كما في الوضوء؟ فيه وجهان، أصحهما لا يجب، والأولى أن تصلي عقب الطهارة، نعم لها التأخير لبعض مصالح الصلاة، من انتظار جماعة، وأخذ سترة ونحو ذلك، فإن أخرت لغير مصلحة فوجهان.

أحكام المبتدأة في الحيض

(تنبيه) : قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما ذلك عرق» قد تقدم أن هذا العرق يسمى: «العاذل» «والعاذر» ، قال القرطبي: أي عرق انقطع. وقوله: «خاثر» . أي ثخين. «وتهراق الدم» أي يجري دمها كما يجري الماء وقوله: «ركضة» من ركضات الشيطان، أي أن الشيطان قد حرك هذا الدم الذي ليس بدم حيض، و «الكرسف» القطن، «وتلجمي» ، التلجم كالاستثفار، وهو أن تشد المرأة فرجها بخرقة عريضة، توثق طرفيها في شيء آخر قد شدته على وسطها، بعد أن تحتشي قطنا، فتمنع بذلك الدم أن يجري أن يقطر، «والاستثفار] مأخوذ من ثفر الدابة، لأنه يكون تحت ذنب الدابة، قيل: وأصله للسباع، وإنما استعير، «وتحيضي» أي اقعدي أيام حيضتك، والله أعلم. [أحكام المبتدأة في الحيض] قال: والمبتدأ بها الدم تحتاط، فتجلس يوما وليلة [وتغتسل] وتتوضأ لكل صلاة وتصلي، فإن انقطع الدم في خمسة عشرة يوما اغتسلت عند انقطاعه، وتفعل مثل ذلك ثانية وثالثة، فإن كان بمعنى واحد عملت عليه، وأعادت الصوم إن كانت صامت - في هذه الثلاث مرات - لفرض ش: الجارية إذا رأت الدم في زمن يصلح لكونه حيضا - وأقله استكمال تسع سنين على المذهب أو اثنتي عشرة سنة على رواية - فإنها تترك له الصوم والصلاة، وغيرهما مما تشترط له الطهارة، ويعطى حكم الحيض، لأن الحيض دم جبلة وعادة، وهو «شيء كتبه الله على بنات آدم» ، وقد وجد سببه

فاعتمد ذلك، وكونه دم فساد الأصل عدمه، ثم إن انقطع لأقل من أقل الحيض، فقد تبين أنه دم فساد، فتعيد ما تركته من الصلاة، وإن انقطع لأقل الحيض - وهو يوم على رواية، ويوم وليلة على المذهب - فهو حيض جزما فتغتسل إذا، وتفعل ما تفعله الطاهرات بلا ريب، وإن جاوز الأقل فإنها تجلس يوما وليلة فقط، على المشهور والمنصوص في رواية صالح، وعبد الله، والمروذي، والمختار للأصحاب، احتياطا للعبادة، كما أشار إليه الخرقي، إذ الزائد على الأقل محتمل للحيض والاستحاضة، ولم يوجد تكرار يرجح أحدهما، فالأحوط أن لا يجعل حيضا. (وعنه) : تجلس الزائد ما لم يجاوز [أكثر] الحيض، لصلاحيته لذلك، (وعنه) : تجلسه إلى تمام ست أو سبع، عملا بغالب عادة النساء، (وعنه) : تجلسه إلى تمام عادة نسائها، كأختها، وأمها، وعمتها، وخالتها، إذ الظاهر شبهها بهن، هذه طريقة أبي بكر، وابن أبي موسى، وابن الزاغوني، والشيخين في شرحيهما، وغير واحد من الأصحاب، وهي ظاهر كلام أحمد في رواية جماعة، وطريقة القاضي وابن عقيل في تذكرته، والشيخين في مختصريهما، وطائفة أن المبتدأة لا تجلس فوق الأقل بلا نزاع، وإنما محل الخلاف فيما إذا تبين أنها مستحاضة، (وشذ أبو محمد) في الكافي، فجعل [في] المبتدأة أول ما ترى الدم الروايات

الأربع، وقال فيما إذا تبين أنها مستحاضة أنها تجلس غالب الحيض، ثم قال: وذكر أبو الخطاب فيها الروايات الأربع. (وهو سهو) فإنه لا نزاع نعلمه بين الأصحاب في جريان الروايات الأربع في المبتدأة المستحاضة، وإنما النزاع في جريانهن فيها أول ما ترى الدم.

إذا عرف هذا، وقلنا على المذهب: إنها [إنما] تجلس الأقل. فإنها تغتسل عقبه، وتصوم، وتصلي، ولا يطؤها زوجها احتياطا، ثم إن انقطع لأكثر الحيض فما دون اغتسلت غسلا ثانيا عند انقطاعه، لجواز كون الجميع حيضا، وتفعل مثل ذلك في الشهر الثاني، والثالث، فإذا كان في الأشهر الثلاثة بمعنى واحد، أي على أسلوب واحد، وقدر واحد، تبينا أن الجميع عادة لها، وأنه حيض، وإذا تجلسه جميعه في الشهر الرابع، وهذا على المذهب كما تقدم [من] كون العادة لا تثبت إلا بثلاث، أما على الرواية الأخرى فتجلسه في الشهر الثالث، لوجود شرط العادة وهو التكرار، ثم قد تبينا أنها كانت حائضا في تلك الأيام، فلا تعتد بما فعلته فيها مما يشترط له الطهارة، من صلاة، وصوم، واعتكاف، وطواف، وإذا يلزمها قضاء الواجب من ذلك لتبين عدم

صحته، وبقائه في ذمتها، عدا الصلاة فإنها لا تجب على حائض، والله أعلم. قال: فإن استمر بها الدم، ولم يتميز قعدت من كل شهر ستا أو سبعا، لأن الغالب من النساء هكذا يحضن ش: إذا استمر بالمبتدأة الدم، بأن جاوز أكثر الحيض، فهذه هي المستحاضة المبتدأة، ولها حالتان (إحداهما) : أن يكون لها تمييز معتبر، فتعمل عليه بلا ريب، لكن في اشتراط التكرار له - كما يشترط للعادة - (وجهان) تقدما، (الثانية) لا تمييز لها أصلا، أو لها تمييز غير معتبر، فهذا في قدر ما تجلسه الروايات الأربع السابقة، والمذهب منهن - الذي اختاره الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي، وجمهور أصحابه، والشيخان، وغير واحد - أنها تجلس غالب الحيض ستا أو سبعا كما تقدم، عملا بالغالب، وللاتفاق على أنها ترد إلى غالب الحيض وقتا، بأن تحيض من كل شهر حيضة، فلذلك ترد إلى الغالب قدرا، وتفارق المبتدأة أول ما ترى الدم في كونها تجلس الأقل، من حيث إنها أول ما ترى الدم ترجو انكشاف أمرها عن قرب، ولم يتيقن لها دم فاسد، وإذا

الصفرة والكدرة في أيام الحيض

تبين استحاضتها فقد اختلط الحيض بالفاسد يقينا، ولا حالة لها قريبة تنتظر، فلذلك ردت إلى الغالب، اعتمادا على الظاهر، واختار أبو بكر، وابن عقيل في تذكرته أنها تجلس الأقل، كقوليهما، وقول غيرهما من الأصحاب في حال الابتداء. ثم هل تثبت استحاضتها بدون التكرار، فيه وجهان، (أحدهما) : وهو اختيار القاضي - لا تثبت، وإذا تجلس قبل التكرار [الأقل على المذهب، وعند القاضي بلا خلاف، (والثاني) - وهو اختيار أبي البركات - تثبت بمجرد مجاوزة الدم الأكثر، لظاهر حديث حمنة، وعلى هذا تجلس في الشهر الثاني غالب الحيض على المختار، وأما الشهر الأول فلا تجلس منه إلا] الأقل على المذهب بلا ريب، لأن استحاضتها فيه غير معلومة، والله أعلم. [الصفرة والكدرة في أيام الحيض] قال: والصفرة والكدرة في أيام الحيض من الحيض ش: الصفرة والكدرة في أيام الحيض - وهو زمن العادة - من الحيض، لعموم قول الله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ومن رأت صفرة أو كدرة في [أيام] العادة صدق عليها أنها لم تطهر. 306 - وعن مرجانة - مولاة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كانت النساء يبعثن إلى عائشة بالدرجة، فيها الكرسف، فيه الصفرة من دم

الحيضة، يسألنها عن الصلاة. فتقول: لا تعجلن، حتى ترين القصة البيضاء. تريد بذلك الطهر من الحيض. رواه مالك في الموطأ. ومفهوم كلام الخرقي أن الصفرة والكدرة بعد زمن العادة ليس بحيض، وهو كذلك. 307 - لقول أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا. رواه أبو داود، والنسائي. 308 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - – «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر قال: «إنما هو عرق، أو إنما هو عروق» رواه أحمد، وأبو داود، والبيهقي في سننه.

وعموم مفهوم كلام الخرقي يقتضي عدم الالتفات إلى الصفرة والكدرة بعد العادة وإن تكرر ذلك، وهو المنصوص، والمختار للشيخين، اعتمادا على العادة، وعنه ما يدل - وهو اختيار القاضي، وابن عقيل، وصاحب التلخيص [فيه]- على أنه إن تكرر بعد العادة فهو حيض، لأن التكرار يجعله كالموجود في العادة. (تنبيهان) . (أحدهما) : إذا ابتدئت البكر بصفرة أو كدرة فهل تلتفت إليه - وهو اختيار القاضي، كما لو رأته في العادة - أو لا تلتفت إليه - وهو اختيار أبي البركات، وظاهر كلام الإمام - اعتمادا على أنه قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -؟ قال الخطابي: على وجهين. (الثاني) : «الدرجة» - بكسر الدال وفتح الراء والجيم - وعاء يحط فيه حق المرأة وطيبها، والجمع أدراج، وقيل: هي بضم الدال، وسكون الراء، وأصلها شيء يدرج أي يلف، «والقصة» معناه أن تخرج الخرقة أو القطنة التي

الاستمتاع بالمرأة في مدة الحيض

تحتشي بها المرأة كأنها قصة، لا يخالطها صفرة ولا كدرة، وقيل: إن القصة شيء كالخيط [الأبيض] ، يخرج بعد انقطاع الدم كله، والله أعلم. [الاستمتاع بالمرأة في مدة الحيض] قال: ويستمتع من الحائض بدون الفرج. ش: لقول الله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] والمحيض اسم لمكان الحيض، كالمبيت، والمقيل، ومصدر: حاضت المرأة حيضا ومحيضا، والمراد هنا والله أعلم - الأول، بقرينة التعليل بكونه أذى، وذلك يختص بالفرج، وللإجماع على جواز القربان في حال الحيض في الجملة، وقد شهد لذلك النص. 309 - فعن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض» . 310 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في تفسير الآية: اعتزلوا نكاح فروج النساء، رواه عنه أبو بكر في تفسيره.

وطء الحائض

311 - ولما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسأل أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] الآية، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اصنعوا كل شيء إلا النكاح» رواه الجماعة إلا البخاري، ولفظ النسائي، وابن ماجه «إلا الجماع» واللام فيه لمعهود ذهني، وهو الوطء في الفرج، للإجماع على جواز القربان فيما عدا محل الإزار. 312 - وقد روى أبو داود عن عكرمة، عن بعض أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد من الحائض شيئا، ألقى على فرجها ثوبا» . ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يستمتع [بها] في الفرج] ولا ريب في ذلك لما تقدم، والله أعلم. [وطء الحائض] قال: فإن انقطع دمها فلا توطأ حتى تغتسل ش: لقوله سبحانه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أي من الحيض {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] أي اغتسلن. 313 - كذلك فسرها ابن عباس. رواه عنه البيهقي، وإبراهيم

وطء المستحاضة

الحربي، وحملا لكل من التطهيرين على فائدة، على أن الإمام إسحاق بن راهويه قال: أجمع أهل العلم من التابعين أن لا يطأها حتى تغتسل. وإذا حصل الإجماع من التابعين فلا عبرة بمن بعد اهـ. ويقوم مقام الاغتسال التيمم، لعدم الماء، ثم إذا وجد الماء حرم [عليه] الوطء، والله أعلم. [وطء المستحاضة] قال: ولا توطأ مستحاضة إلا أن يخاف على نفسه العنت، [وهو الزنا] ش: أما مع خوف العنت وهو الزنا فلا نزاع في حل وطء المستحاضة، دفعا لأعلى المفسدتين بارتكاب، أدناهما، ولما فيه من الضرر المستدام، وألحق ابن حمدان بخوف العنت خوف الشبق. اهـ. وأما مع أمن [ذلك] فروايتان (إحداهما) : يجوز.

314 - لما روى عكرمة عن حمنة أنها كانت تستحاض، فكان زوجها يجامعها. 315 - وأن أم حبيبة كانت تستحاض، وكان زوجها يغشاها، رواهما أبو داود. 316 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أباح وطأها ثم إن أم حبيبة كانت تحت عبد الرحمن بن عوف - كذا في مسلم - وقد سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن حكم الاستحاضة فبينها لها ولم يذكر لها تحريم الجماع، ولو كان حراما لبينه لها. 317 - وفي حديث مكحول الذي رواه البيهقي عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المستحاضة يغلبها الدم في الصلاة «فلا تقطع الصلاة وإن قطر، ويأتيها زوجها» إلا أنه مرسل وضعيف كما تقدم وعلى هذه هل يكره وطؤها لما فيه من الخلاف، أو لا يكره إذ الأصل عدم الكراهة، فيه روايتان. (والثانية) : وهي المشهورة عند الأصحاب، اختارها الخرقي، وأبو حفص، وابن أبي موسى، وغير واحد - لا يجوز لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]

ما له حكم الاستحاضة

فمنع سبحانه من الوطء معللا بكونه أذى وهذا أذى. 318 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: المستحاضة لا يغشاها زوجها. وما روى من وطء أم حبيبة ومن وطء حمنة ففعل لا عموم له، إذ يحتمل أن ذلك عند خوف العنت، وحديث أبي أمامة لا تقوم بمثله حجة، على أنه قد يحمل على ذلك، وتأخيره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للبيان لعدم الحاجة إليه. والذي يظهر الأول، إذ الآية الكريمة لا دليل فيها، إذ دم الاستحاضة غير دم الحيض، كما نص عليه صاحب الشريعة، ولا يلزم من كون دم الحيض أذى أن يكون غيره من الدماء أذى، وما روى عن عائشة فقد قال البيهقي: الصحيح أنه من قول الشعبي. والله سبحانه أعلم. [ما له حكم الاستحاضة] قال: والمبتلى بسلس البول أو كثرة المذي فلا ينقطع كالمستحاضة، يتوضأ لكل صلاة بعد أن يغسل فرجه ش: قد تقدم أن المستحاضة تتوضأ لكل صلاة أو لوقت كل [صلاة] بعد أن تغسل فرجها وتحكم شده، وحكم المبتلى بسلس البول، أو كثرة المذي، أو الرعاف الدائم، والمجروح

الذي لا يرقأ دمه ونحوهم، حكم المستحاضة في ذلك، لتساويهما معنى، وهو عدم التحرز من ذلك، فيتساويان حكما. 319 - وقد روى الإمام أحمد، والبيهقي، والدارقطني عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما طعن كان يصلي وجرحه يثعب دما. 320 - وقال إسحاق بن راهويه: كان بزيد بن ثابت سلس البول، وكان يداويه ما استطاع، فإذا غلبه صلى، ولا يبالي ما أصاب ثوبه. وقوله: فلا ينقطع. هذا الشرط في المستحاضة ومن لحق بها، وهو أن لا ينقطع حدثها زمنا يسع الطهارة والصلاة، إذ ما دونه لا يفيد، فهو كالعدم، فإن كان من عادتهم انقطاعه زمنا يسع لذلك لزمهم تحريه والطهارة فيه، لتمكنهم بالإتيان بالعبادة بشرطها، ولو عرض هذا الانقطاع المتسع لمن عادته الاتصال، أبطل الطهارة، فإن حصل انقطاع قبل الشروع في الصلاة لم يجز الدخول فيها، لاحتمال دوامه، فإن خالف ودخل واستمر الانقطاع قدرا يسع

الطهارة والصلاة فصلاته باطلة، وإن عاد الحدث قبل ذلك فطهارته صحيحة، وفي بطلان صلاته وجهان، أصحهما تبطل، لمخالفته الأمر، ولو وجد الانقطاع المتسع في الصلاة أبطلها وأبطل الوضوء، وخرج ابن حامد عدم البطلان من رواية مضي المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة، وفرق أبو البركات بأن الحدث هنا متجدد، ولم يوجد عنه بدل. وإذا بطلت الصلاة استأنفها كالمتيمم، وينصرف من الصلاة بمجرد الانقطاع عند الأصحاب، إذ الظاهر الدوام، فلو خالف فعاد الحدث قبل مدة الاتساع فالوجهان في الانقطاع قبل الشروع، واختار المجد أنه لا ينصرف ما لم تمض مدة الاتساع حذارا من إبطال متيقن بموهوم، ولو توضأ من له عادة من هؤلاء بانقطاع غير متسع فاتصل حتى اتسع أو برأت بطلت طهارته إن وجد منه حدث معه أو بعده، وإلا فلا، ولو كثر الانقطاع واختلف فتقدم وتأخر، ووجد مرة وعدم أخرى فهذه كمن عادتها الاتصال عند الأصحاب، في بطلان وضوئها بالانقطاع المتسع دون ما دونه، وفي الأحكام إلا في شيء واحد، وهو أنها لا تمنع من الدخول في الصلاة والمضي فيها بمجرد الانقطاع، قبل تبين اتساعه، واختار أبو البركات - مدعيا أنه ظاهر كلام الإمام - أنه لا عبرة ها هنا بهذا الانقطاع، بل يكفي وجود الدم

أكثر النفاس

في شيء من الوقت، دفعا للحرج والمشقة. والله أعلم. [أكثر النفاس] قال: وأكثر النفاس أربعون يوما ش: هذا هو المذهب المختار والمعروف من الروايات. 321 - لما روى عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين يوما، وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وقال الخطابي: أثنى محمد بن إسماعيل على هذا الحديث ومعناه: كانت تؤمر أن تجلس، وإلا كان الخبر كذبا، إذ محال - عادة - اتفاق عادة نساء عصر في نفاس أو حيض، مع أن هذا إجماع سابق أو كالإجماع.

322 - وقد حكاه إمامنا، وابن المنذر عن عمر، وابن عباس، وأنس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو، وأم سلمة ولا يعرف لهم مخالف في عصرهم، ومن ثم قال الطحاوي: لم يقل بالستين أحد من الصحابة، وإنما قاله من بعدهم وقال أبو عبيد: وعلى هذا جماعة الناس. وقال إسحاق: هو السنة المجتمع عليها. (والثانية) أن أكثره ستون اتباعا للوجود. وأول المدة من [حين] الوضع، لأن في رواية أبي داود في حديث أم سلمة: تجلس بعد نفاسها وإن خرج بعض

أقل النفاس

الولد فالدم قبل انفصاله نفاس، يحسب من المدة وخرج أنه كدم الطلق، بناء على عدم إرثه إذا استهل والحال هذه، أما إن ولدت توأمين فأول النفاس من الأول وآخره منه، على المشهور والمختار لجمهور الأصحاب من الروايات، فعلى هذا لو كان بين الولدين أربعون يوما فلا نفاس بعد الثاني (وعنه) : أوله من الأول وآخره من الثاني، فعلى هذه فقد يجيء جلوسها ستين يوما وأكثر (وعنه) : هما - الأول والآخر - من الثاني فعلى هذا ما بين الولدين ليس بنفاس، وإن بلغ أربعين يوما إلا أن يكون يومين أو ثلاثة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. (تنبيه) : الورس نبت أصفر يصبغ به، ويتخذ منه غمرة للوجه، يحسن اللون «والكلف» لون يعلو الوجه، يخالف لونه، يضرب إلى السواد والحمرة، والله أعلم. [أقل النفاس] قال: وليس لأقله حد، أي وقت رأت الطهر اغتسلت وهي طاهر. 323 - ش: لما روى «عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كم تجلس المرأة إذا ولدت؟ قال: «أربعين يوما لا أن ترى الطهر قبل ذلك» .

وطء النفساء

324 - وعن معاذ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مضى للنفساء سبع ثم رأت الطهر فلتغتسل ولتصل» رواهما الدارقطني وقد حكى ذلك الترمذي إجماعا فقال: أجمع أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك. 325 - وحكى البخاري في تأريخه أن امرأة ولدت بمكة، فلم تر دما، فلقيت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - – فقالت: أنت امرأة طهرك الله. اهـ فعلى هذا أي وقت رأت الطهر اغتسلت للنفاس وهي طاهر، والله أعلم. [وطء النفساء] قال: ولا يقربها زوجها في الفرج حتى تتم الأربعين استحبابا ش: إذا رأت المرأة الطهر قبل تمام الأربعين واغتسلت جاز وطؤها على المشهور من الروايتين، لظاهر ما تقدم، ولأن المانع من الوطء الدم ولا دم (والثانية) لا يجوز. 326 - لما روي عن علي، وابن عباس، وعثمان بن أبي العاص، وعائذ بن عمرو أنهم قالوا: لا توطأ نفساء. وعلى المذهب لا

حكم من كانت لها أيام حيض فزادت على ما كانت تعرف

يستحب لاحتمال عود الدم، وهل يكره؟ فيه روايتان، أشهرهما نعم، يكره حملا لما روي عن الصحابة على ذلك (والثانية) لا يكره نظرا للأصل. وقوله: لا يقربها في الفرج. مفهومه أن له أن يقربها في غير الفرج، وهو كذلك كالحائض، إذ دم النفاس في الحقيقة دم حيض كما تقدم، يجتمع لغذاء الولد، ثم يخرج بقيته عند الولادة. (تنبيه) : الولد الذي يتعلق به أحكام النفاس الولد الذي تصير به المستولدة أم ولد والله أعلم. [حكم من كانت لها أيام حيض فزادت على ما كانت تعرف] قال: ومن كانت لها أيام حيض فزادت على ما كانت تعرف، لم تلتفت إلى الزيادة إلا أن تراه ثلاث مرات، فتعلم حينئذ أن حيضها قد انتقل، فتصير إليه وتترك الأول، وإن كانت صامت في هذه الثلاث مرات أعادته إذا كان صوما واجبا ش: إذا زادت عادة المرأة بأن كانت تحيض مثلا خمسة

أيام من كل شهر أو من كل عشرين يوما، فحاضت ستة أو سبعة، فإنها لا تلتفت إلى الزيادة على المذهب المعروف والمنصوص من الروايتين، لما تقدم من حديث عائشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهر «إنما هو عرق» أو قال: «عروق» وقول أم عطية: كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئا. (والثانية) : أومأ إليها في رواية ابن منصور - تلتفت إليه، فتجلسه من أول مرة، وهو اختيار أبي محمد، اعتمادا على عادات النساء في ذلك، ولما تقدم من قول عائشة: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. 327 - ولأن عائشة لما حاضت في حجة الوداع لم يسألها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هل ذلك في زمن عادتك أم لا؟ وما تقدم إنما يدل على ما بعد الطهر لا على ما إذا استمر وهي مسألتنا، فعلى المذهب متى تكرر ثلاثا على المذهب أو مرتين على رواية - علمنا إذا أن عادتها قد تغيرت فتجلس في الشهر الرابع أو الثالث، وتقضي ما صامته أو اعتكفته أو طافته من واجب في مدة التبين، لتبين حيضها فيه، فإن يئست قبل التبين أو ارتفع حيضها لمرض ونحوه ولم يعد [إليها] لم يلزمها

القضاء على الأصح، لعدم تحقق الفساد، ولا يحل لزوجها وطؤها في مدة التبين، والله أعلم. قال: وإذا رأت الدم قبل أيامها التي كانت تعرف فلا تلتفت إليه حتى يعاودها ثلاث مرات ش: المسألة السابقة فيما إذا زادت العادة، وهذه فيما إذا تقدمت، وتحتها صورتان (إحداهما) : تتقدم جملة بأن تكون تحيض الخمسة الثانية من الشهر، فتصير تحيض الخمسة الأول (الثانية) : أن يتقدم بعضها بأن تكون تحيض اليوم السادس، فتحيض اليوم الخامس أو الرابع ونحو ذلك، وبالجملة هذه المسألة والتي قبلها من مسلك واحد، والكلام على إحداهما كالكلام على الأخرى، والله أعلم. قال: ومن كانت لها أيام حيض، فرأت الطهر قبل ذلك فهي طاهر، تغتسل وتصلي ش: إذا كانت للمرأة عادة كأن كانت تحيض عشرة أيام [مثلا] من كل شهر، فرأت الطهر قبل انقضائها، فإن رأته بعد مضي ستة أيام ونحو ذلك فهي طاهر، لظاهر ما تقدم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - للنسوة: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء. وهذه قد رأت القصة البيضاء. 328 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أما ما رأت الدم البحراني فإنها

لا تصلي، وإذا رأت الطهر ساعة فلتغتسل ولتصل. رواه أبو داود. وظاهر قول الخرقي والأصحاب أنه لا فرق بين قليل الطهر وكثيره، لما تقدم عن ابن عباس، واختار أبو محمد أنها لا تعتد بما دون اليوم، من رواية في النفاس أنها لا تلتفت إلى ما دون اليوم، ولم يعتبر ابن أبي موسى النقاء الموجود بين الدمين، وأوجب عليها فيه قضاء ما صامته فيه من واجب ونحوه، قال: لأن الطهر الكامل لا يكون أقل من ثلاثة عشر يوما. إذا تقرر هذا فتغتسل وتصلي للحكم بطهارتها. (تنبيه) : «البحراني» قال أبو السعادات) الشديد الحمرة، كأنه قد نسب إلى قعر الرحم وهو البحر، وزادوه في النسبة ألفا ونونا للمبالغة. وقال الخطابي: يريد الدم الغليظ الواسع، ونسب إلى البحر لكثرته وسعته والله أعلم. قال: فإن عاودها الدم فلا تلتفت إليه حتى تجيء أيامها. ش: إذا طهرت المرأة قبل تمام عادتها ثم عاودها الدم، فلا يخلو إما أن يعاودها في العادة أو بعدها ثم إذا عاودها في العادة فلا يخلو إما أن يجاوزها أو لا يجاوزها، فإن عاودها في العادة ولم يجاوزها فهل تلتفت إليه بمعنى أنها تجلسه من غير تكرار

- وهو اختيار القاضي في روايته، وأبى محمد في الكافي، لمصادفته زمن العادة أشبه ما لو لم ينقطع - أو لا تلتفت إلهي حتى يتكرر - وهو اختيار الخرقي، وابن أبي موسى، وقال أبو بكر: إنه الأغلب عنه، لعوده بعد طهر صحيح، فأشبه ما لو عاد بعد العادة -؟ على روايتين فعلى الثانية تصلي وتصوم وتقضي الصوم احتياطا، قاله ابن أبي موسى، ونص عليه أحمد. وإن عاد في العادة وجاوزها لم يخل من أن يجاوز أكثر الحيض أم لا، فإن جاوز الأكثر فليس بحيض إذ بعضه ليس بحيض يقينا، والبعض الآخر متصل به، فأعطي حكمه لقربه منه وإن انقطع لأكثر الحيض فما دون فمن قال: إنما لم يعبر العادة ليس بحيض. فهذا أولى، ومن قال: إنه حيض. ففي هذا إذا ثلاثة أوجه (أحدها) : جميعه حيض، بناء على مختار أبي محمد في أن الزائد على العادة حيض ما لم يعبر الأكثر (والثاني) : ما وافق العادة حيض، لموافقته العادة، وما زاد عليها ليس بحيض، لخروجه عنها (والثالث) : الجميع ليس بحيض لاختلاطه - على المذهب - بما ليس بحيض. وإن عاودها بعد العادة فلا يخلو إما أن يمكن جعله حيضا، بأن يكون تضمه مع الأول لا يكون بين طرف فيهما أكثر من أكثر الحيض، فيلفقا ويجعلا حيضة واحدة، ويكون

بينهما أقل الطهر ثلاثة عشر يوما على المذهب، وكل من الدمين يصلح أن يكون حيضا، فيكونان حيضتين، أو لا يمكن جعل الثاني حيضا، لمجاوزته مع الأول أكثر الحيض، وليس بينه وبين الأول أقل الطهر، ويظهر ذلك بالمثال فنقول: إذا كانت العادة عشرة أيام مثلا، فرأت منها خمسة دما، ثم طهرت الخمسة الباقية، ثم رأت خمسة دما، فإن الخمسة الأولى والثالثة حيضة واحدة بالتلفيق، ولو كانت رأت يوما دما، ثم ثلاثة عشر طهرا، ثم يوما دما، فهما حيضتان، لوجود طهر صحيح بينهما، ولو كانت رأت يومين دما، ثم اثني عشر يوما طهرا، ثم يومين دما، فهنا لا يمكن جعلهما حيضة واحدة، لزيادة الدمين مع ما بينهما من الطهر على أكثر الحيض، ولا جعلهما حيضتين على المذهب، لانتفاء طهر صحيح بينهما، وإذا الحيض منهما ما وافق العادة، والآخر استحاضة، وعلى هذا، وشرط الالتفات إلى ما رأته بعد الطهر فيما خرج عن العادة التكرار المعتبر بلا نزاع. (تنبيه) : اختلف الأصحاب في مراد الخرقي بقوله: فإن عاودها الدم. فقال التميمي، والقاضي، وابن عقيل: مراده إذا عاود بعد العادة، وعبر أكثر الحيض، بدليل أنه منعها أن تلتفت إليه مطلقا، ولو أراد غير ذلك لقال: حتى يتكرر. وقال أبو حفص: مراده المعاودة في كل حال، في العادة وبعدها، وهذا اختيار أبي محمد، وهو الظاهر اعتمادا على الإطلاق، وسكت عن التكرار، لتقدمه له فيما إذا زادت العادة أو تقدمت، وعلى هذا إذا عبر أكثر الحيض فإنه لا يكون

الحامل إذا رأت الدم

حيضا، وإن تكرر، لما تقدم له من أن الدم إذا جاوز أكثر الحيض لا يكون حيضا، والله أعلم. [الحامل إذا رأت الدم] قال: والحامل إذا رأت الدم فلا تلتفت إليه، لأن الحامل لا تحيض. 329 - ش: الأصل في كون الحامل لا تحيض ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في سبايا أوطاس «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجود الحيض علما عرى براءة الرحم من الحبل، ولو اجتمعا لم يكن علما على انتفائه.

330 - واستدل إمامنا [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» مع منعه لطلاقه لها في حال الحيض [فعلم أن الحيض] لا يجامع الحمل. 331 - وقد روى ابن شاهين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: إن الله رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم رزقا للولد. 332 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: الحامل لا تحيض. رواه الدارقطني. 333 - وما روي عنها من أنها لا تصلي إذا رأت الدم فمحمول على ما قبل الولادة، وعلى هذا إذا رأت دما لم تلتفت إليه، ويكون حكمها فيه حكم دم الاستحاضة على ما تقدم، والله أعلم. . قال: إلا أن تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس

ش: لما ذكر أن ما تراه الحامل من الدم يكون دم فساد، استثنى من ذلك ما تراه قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة، فإنه يكون دم نفاس، لأنه خارج بسبب الولادة، أشبه ما بعد الولادة، ولا يحسب من مدة النفاس، لما تقدم في حديث أم سلمة: أن النفساء كانت تقعد بعد نفاسها. (تنبيه) : يعلم ذلك بأماراته من المخاض ونحوه، أما مجرد رؤية الدم من غير علامة فلا تترك له العبادة، عملا بالأصل من غير معارضة ظاهر له، ثم إن تبين قربه من الوضع بالمدة المذكورة أعادت ما صامته فيه من صوم واجب [ونحوه ولو رأته مع العلامة فتركت العبادة ثم تبين بعده عن الوضع أعادت ما تركت فيه من واجب] ونحوه والله أعلم. قال: وإذا رأت الدم ولها خمسون سنة فلا تدع الصوم ولا الصلاة وتقضي الصوم احتياطا، وإذا رأته بعد الستين فقد زال الإشكال، وتيقن أنه ليس بحيض، فتصوم وتصلي ولا تقضي ش: لا نزاع عندنا فيما نعلمه - أن ما تراه المرأة من الدم بعد الستين دم فساد، وليس بدم حيض، وأن ما رأته قبل

الخمسين دم حيض بشرطه، واختلف فيما بينهما (فعنه) - وهو اختيار الشيرازي، وقال ابن الزاغوني: إنه اختيار عامة المشايخ أنه دم فساد مطلقا. 334 - لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد الخمسين سنة؛ ومن لا تحبل لا تحيض. رواه الدارقطني وفي لفظ - ذكره أحمد عنها في رواية حنبل - إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض. (وعنه) أنه حيض مطلقا، اختاره أبو الخطاب في خلافه الصغير، وأبو محمد، لأنه [قد] وجد بنقل نساء ثقات، فرجع إليهن فيه، كما رجع إليهن في أقل الحيض [وأكثره] (وعنه) أنه حيض في حق العربيات، لأنهن أشد جبلة دون العجميات. 335 - وقد روى الزبير بن بكار في كتاب النسب عن بعضهم أنه قال: لا تلد لخمسين إلا عجمية، ولا تلد لستين إلا قرشية وكأن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعارضت عنده هذه الأقوال

أحكام المستحاضة

فأعرض عنها وقال: إن ما بينهما مشكوك فيه، فتصوم وتصلي، لاحتمال كونه دم فساد، وتقضي الصوم لاحتمال كونه دم حيض، وأداء الصلاة لا يلزمها، والصوم الواجب ونحوه تقضيه لعدم صحته منها على هذا التقدير، والله أعلم. [أحكام المستحاضة] قال: والمستحاضة إن اغتسلت لكل صلاة فهو أشد ما قيل فيها، وإن توضأت لكل صلاة أجزأها، [والله أعلم] . ش: قد تقدم حكم المستحاضة في أنها هل تتوضأ لكل صلاة أو لوقت كل صلاة، والكلام الآن في اغتسالها، ولا ريب أنه يجب عليها الاغتسال عقب الأيام التي حكم بحيضها فيها [ثم] عندنا وعند الجمهور يستحب لها أن تغتسل لكل صلاة. ولا يجب. 336 - ولأن «أم حبيبة استحيضت فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فأمرها أن تغتسل، فكانت تغتسل [لكل صلاة] » . متفق عليه. ففهمت من الأمر بالاغتسال الاغتسال لكل صلاة. وفي رواية في غير الصحيح: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها بالاغتسال لكل صلاة» .

337 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن زينب بنت جحش استحيضت، فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اغتسلي لكل صلاة» . رواه أبو داود. وإنما لم يجب ذلك لأن الروايات الصحيحة في حديث أم حبيبة، وفاطمة، وزينب وغيرهم ليس فيها أمر من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالاغتسال لكل صلاة، ولو وجب ذلك لبينه. 338 - مع أن في أبي داود، والترمذي في «حديث حمنة: وقالت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إني أستحاض؛ فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر، وإن قويت عليهما فأنت أعلم، تحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي، حتى إذا رأيت أن قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثا وعشرين ليلة أو أربعا وعشرين ليلة وأيامها وصومي، فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي كل شهر، كما تحيض النساء وكما يطهرن، لميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت عليه أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر، فافعلي وصومي إن قدرت على

ذلك» . قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وهذا أعجب الأمرين إلي» . اهـ. ثم أشد ما قيل في المستحاضة أنها تغتسل لكل صلاة، تمسكا بما تقدم من الأمر بذلك لأم حبيبة، وأختها زينب. ويحكى هذا رواية عن أحمد، وهو قول طائفة من الصحابة، والتابعين، وإحدى الروايتين عن علي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (ثم) الاغتسال لوقت كل صلاة، (ثم) لكل

صلاتي جمع في وقت الثانية و [للصبح] قاله بعض التابعين. 339 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت، فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن ذلك، فأمرها بالغسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب والعشاء بغسل» ، رواه أحمد، وأبو داود (ثم) لكل يوم مرة. روي ذلك عن ابن عمر، وأنس، وهو إحدى الروايتين عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقول بعض التابعين.

340 - وقد جاء في حديث رواه البيهقي «في قصة المستحاضة قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ثم تغتسل في كل يوم عند كل طهر وتصلي» . والجمهور على ما تقدم [أولا] نعم يستحب ذلك لا أنه واجب. والله أعلم.

كتاب الصلاة

[كتاب الصلاة] «كتاب الصلاة» ش: قد اشتهر في لسان الفقهاء وغيرهم أن أصل الصلاة في اللغة الدعاء، مستدلين بقوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103] وإنما عدي بعلى لتضمنه - والله أعلم - (معنى) الإنزال أي: أنزل عليهم رحمتك. 341 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان صائما فليصل» وقول الشاعر: تقول بنتي وقد قربت مرتحلا ... يا رب جنب أبي الأوصاب والوجعا عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... نوما فإن لجنب المرء مضطجعا

ولهم في اشتقاقها أقوال كثيرة، أشهرها: أنها مشتقة من الصلوين واحدهما (صلى) «كعصى، وهما عرقان من جانبي الذنب، وقيل: عظمان ينحنيان في الركوع والسجود. والصلاة في الشرع: عبارة عن هيئة مخصوصة، مشتملة على ركوع، وسجود، وذكر، وسميت بذلك لاشتمالها على الدعاء، وقال الزمخشري: حقيقة «صلى» حركة الصلوين لأن المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده. قال: وقيل للداعي مصل تشبيها في تخشعه بالراكع والساجد، فعكس ما يقوله الجماعة، ونحو هذا قول السهيلي قال: معنى اللفظة حيث تصرفت ترجع إلى الحنو والعطف، من قولهم: صليت. أي حنيت صلاك وعطفته. وهي مما علم وجوبه من دين الله بالضرورة. وقد تظافرت الأدلة: من الكتاب، والسنة، والإجماع على ذلك. قال سبحانه: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] . 342 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بني الإسلام على خمس، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» » .

343 - وقال (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة» . وأجمع المسلمون إجماعا قطعيا على ذلك، وجوبها في ليلة المعراج. 344 - ففي الصحيحين في قصة المعراج قال: «وفرضت علي خمسون صلاة في كل يوم، قال: فجئت حتى أتيت على موسى، فقال لي: بم أمرت؟ قلت: بخمسين صلاة كل يوم، قال: إني قد بلوت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. فرجعت، فحط عني خمس صلوات، فما زلت أختلف بين ربي وبين موسى، كلما أتيت عليه قال لي مثل مقالته، حتى رجعت بخمس صلوات كل يوم، فلما أتيت على موسى قال لي: بم أمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إني قد بلوت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا يطيقون ذلك، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك. قلت: لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم، قال: فنوديت. أو نادى مناد - الشك من بعض الرواة -: أن قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وجعلت بكل حسنة عشر أمثالها» . اهـ.

باب المواقيت

واختلف في زمن الإسراء: فعن الزهري: أنه بعد مبعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخمس سنين. وعن الحربي: كان ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر، قبل الهجرة بسنة. وقيل: بعد مبعثه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخمسة عشر شهرا. وبين هذين القولين تباين كثير، وأوسطها قول الزهري. والله سبحانه أعلم. [باب المواقيت] ش: لما كانت الصلوات إنما تجب بدخول الوقت، بدأ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ببيان ذلك، وقد أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بأوقات معلومة، والسند في ذلك قول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الإسراء: 78] الآية، فعن ابن

وقت صلاة الظهر

عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: دلوك الشمس: إذا فاء الفيء، وغسق الليل: اجتماع الليل وظلمته. 345 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] إنه الصبح. 346 - وما اشتهر من «حديث جبريل، حيث أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلوات الخمس، ثم قال له: «يا محمد هذا وقت الأنبياء من قبلك» . وغير ذلك من الأحاديث، والله أعلم. [وقت صلاة الظهر] قال: وإذا زالت الشمس وجبت الظهر. ش: سميت الظهر ظهرا؛ اشتقاقا لها من الظهور، إذ هي ظاهرة في وسط النهار، وتسمى أيضا: «الهجير» ؛ لفعلها في وقت الهاجرة " والأولى " لأن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حين أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلما له في اليومين [بدأ بها] ، ولهذا بدأ الخرقي

وكثير من الأصحاب بها، وبدأ ابن أبي موسى، والشيرازي، وأبو الخطاب بالصبح؛ لأنها أول النهار. 347 - ولبداءة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها حين سئل عن وقت الصلاة، وكان ذلك بالمدينة، وكأنه أشار بذلك إلى أن العمل عليه لتأخره، لا على الأول. وأول وقتها: إذا زالت الشمس، إجماعا، وقد فسر ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - دلوك الشمس بزوالها، ولما أم جبريل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معلما له، صلى به الظهر حين زالت الشمس. 348 - وفي صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن وقت الصلاة، فقال: «وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول، ووقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس عن بطن السماء، ما لم يحضر العصر، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس، وسقط قرنها الأول، ووقت المغرب إذا غابت الشمس، ما لم يسقط الشفق، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل» .

وآخره، إذا صار ظل كل شيء مثله، لأن في حديث جبريل أنه صلى به الظهر في اليوم الثاني، حين صار ظل كل شيء قدر ظله، وقال: «الوقت فيما بين هذين» ، وكأن المعنى - والله أعلم - أنه فرغ من صلاة الظهر في المرة الثانية حين صار ظل كل شيء مثله. [وأنه أحرم بالعصر في المرة الثانية، حين صار ظل كل شيء مثليه] . 349 - بدليل ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر» . رواه أحمد وأبو داود. 350 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت الظهر إذا زالت الشمس، وكان ظل الرجل كطوله،

ما لم يحضر وقت العصر» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي. ولا بد أن يلحظ في قوله: إن آخر الوقت إذا صار ظل كل شيء مثله. بعد فيء الزوال، وذلك أن الشمس إذا زالت؛ يكون للشيء ظل في غالب البلاد، فيعتبر مثل ذلك الشيء سوى ذلك الظل. وقوله: إذا زالت الشمس وجبت الظهر. ظاهره وجوب الصلاة بأول الوقت وجوبا مستقرا موسعا، وهو المذهب، لظاهر قول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] . 351 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفق: الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة» رواه الدارقطني، وشرط أبو عبد الله بن بطة وابن أبي موسى لاستقرارها مضي زمن يسع لأدائها، حذارا من تكليف ما لا يطاق، وأجيب بأنه لا يكلف بالفعل قبل الإمكان، حتى يلزم [تكليف] ما لا يطاق، وإنما يثبت في ذمته بفعله إذا قدر كالمغمى عليه.

وقت صلاة العصر

(تنبيه) : معنى زوال الشمس: ميلها عن كبد السماء، ويعرف ذلك بظل الشمس [من كل] شاخص، فما دام يتناقض فالشمس لم تزل، فإذا وقف نقصه فهو الاستواء، فإذا زاد الظل أدنى زيادة فهو الزوال، والله أعلم. [وقت صلاة العصر] قال: [فإذا صار ظل كل شيء مثله فهو آخر وقتها] ، فإذا زاد شيئا وجبت [صلاة] العصر. ش: إذا صار ظل كل شيء مثله سوى فيء الزوال، فهو آخر وقت الظهر، وبصيرورة ظل كل شيء مثله يزيد أدنى زيادة، وذلك أول وقت العصر، فلا فاضل بين الوقتين، هذا هو المعروف، وأن بخروج وقت [الظهر] يدخل وقت العصر. ويحتمل ظاهر كلام الخرقي، وصاحب التلخيص أن بينهما فاصلا، إذ ظاهر كلامهما أن العصر لا تجب إلا بعد الزيادة، وكذا فهم ابن حمدان، فحكى ذلك قولا، وبالجملة الأصل في أول وقت العصر حديث جبريل المشهور: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله، وفي اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه، ثم قال: «ما بين هذين وقت» والله أعلم. قال: فإذا صار ظل [كل] شيء مثليه خرج وقت الاختيار.

ش: الصلوات على ضربين، [منها] ما ليس له إلا وقت واحد، وهي الظهر، والمغرب والصبح على المختار، ومنها ما له وقتان، وهي العصر والعشاء، والفجر على قول. اهـ. فالعصر آخر وقتها المختار - وهو الذي يجوز تأخير الصلاة إليه من غير عذر - صيرورة ظل كل شيء مثليه، على إحدى الروايتين، واختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي، وكثير من أصحابه، نظرا لحديث جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فإنه ورد بيانا لتعلم أوقات الصلوات، ثم قوله: «ما بين هذين وقت» ، ظاهره أن جميع هذا الوقت الصلاة فيه جائزة دون غيره. (والرواية الثانية) - واختارها الشيخان -: آخر الوقت المختار اصفرار الشمس. 352 - لما في مسلم وسنن أبي داود، والنسائي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» » . 353 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «آخر وقت العصر حين تصفر الشمس» . رواه أبو داود والترمذي، وهذا يتضمن زيادة، مع أنه قول، فيقدم على الفعل. 354 - وعن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه سائل فسأله عن مواقيت الصلاة، فلم يرد عليه شيئا، قال: وأمر

بلالا فأقام الفجر حين انشق الفجر، والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضا، ثم أمره فأقام الظهر حين زالت الشمس، والقائل يقول: قد انتصف [النهار] ، وهو [كان] أعلم منهم، [ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة] ، ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق [الأحمر] ، ثم أخر الفجر من الغد، حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت. ثم أخر الظهر حتى كان قريبا من وقت العصر بالأمس، ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول: قد احمرت الشمس؛ ثم أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق، ثم أخر العشاء حتى كان ثلث الليل الأول، ثم أصبح فدعا السائل فقال: «الوقت بين هذين» . رواه أبو داود، والنسائي، ومسلم، وهذا لفظه. وهو أيضا متضمن لزيادة ومتأخر، إذ حديث جبريل كان بمكة، وهذا بالمدينة، والعمل بالمتأخر متعين، وقطع صاحب التلخيص بأن الوقت المختار إلى صيرورة ظل كل شيء مثليه، وجعل من ذلك [إلى] الاصفرار وقت جواز، فكأنه جمع بين الأحاديث، فحمل حديث جبريل على الوقت المطلوب المرغوب فيه، وغيره على الوقت الجائز، الذي يجوز التأخير إليه من غير عذر بلا إثم، والله أعلم.

قال: ومن أدرك منها ركعة قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدركها. 355 - ش: لما في الصحيحين عن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فقد [أدرك] الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك العصر» » . وظاهر كلام الخرقي، وكذلك ابن أبي موسى، وابن عبدوس: أن الإدراك لا يحصل بأقل من ركعة، وهو إحدى الروايتين، وظاهر الحديث المتقدم (والثانية) - وعليها العمل عند القاضي، وكثير من أصحابه - أنه يحصل بتكبيرة. 356 - لأن في الصحيح من حديث أبي هريرة أيضا: «من أدرك سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فليتم صلاته» . وفي النسائي: «فقد أدركها» ، لا يقال: عبر عن الركعة بالسجدة، لأنا نتمسك بالحقيقة. ومعنى الإدراك بركعة أو بتكبيرة أنه متى أدرك ذلك؛ كان مؤديا للصلاة، لا قاضيا على المشهور من الوجهين، والثاني:

ما وقع في الوقت يكون أداء، وما وقع بعده يكون قضاء، والله أعلم. قال: [وهذا] مع الضرورة. ش: ظاهر هذا، وكذلك ظاهر كلام ابن أبي موسى: أن إدراك العصر بما تقدم مختص بمن له ضرورة؛ كحائض طهرت، وصبي بلغ، ومجنون أفاق، ونائم استيقظ، ومريض برأ، وذمي أسلم، وكذلك خباز، أو طباخ، أو طبيب فصد، وخشوا تلف ذلك، قاله ابن عبدوس، وعلى هذا من لا عذر له لا يدركها بذلك، بل تفوت بفوات وقتها المختار، وتقع منه بعد ذلك قضاء، وهذا قول بعض العلماء، وأحد احتمالي ابن عبدوس، وهو متوجه، إذ قول جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وكذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الوقت ما بين هذين» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس» يقتضي أن ما بعد ذلك ليس بوقت لها، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس؛ فقد أدرك العصر» يحمل على من له عذر، ولذلك جعل الصلاة في ذلك الوقت - ممن لا عذر له - صلاة المنافق. 357 - فقال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا» . رواه مسلم

وقت صلاة المغرب

وغيره، لأن فعله فعل المنافق، لتهاونه بها، وتضييعها. والمعروف عند الأصحاب وعند عامة العلماء: أن وقت العصر مبقى إلى الغروب، في حق المعذور وغيره، حملا لحديث جبريل ونحوه، على أن المراد بذلك وقت الاختيار، أو وقت الجواز، وحديث أبي هريرة على وقت الإدراك، ويسمون هذا الوقت - أعني من وقت الاختيار، أو وقت الجواز، إلى غروب الشمس - وقت إدراك، ووقت ضرورة، ولا يفترق المعذور عندهم وغيره إلا في الإثم وعدمه؛ فالمعذور له التأخير، وغيره ليس له ذلك، ويأثم إذا أخر، وقد يحمل كلام الخرقي على هذا، على أن في الكلام حذفا، والإشارة إليه تقديره: و [هذا]- أي جواز التأخير - مع الضرورة، أما من لا ضرورة له فلا يجوز له التأخير وإن أدرك الوقت بركعة. [والله أعلم] . [وقت صلاة المغرب] قال: فإذا غابت الشمس؛ فقد وجبت [صلاة] المغرب. ش: أول وقت المغرب إذا غابت الشمس إجماعا، والأحاديث قد استفاضت أو تواترت بذلك، وغيبوبة الشمس: سقوط قرصها. والله أعلم.

قال: إلى أن يغيب الشفق. ش: يعني أن وقتها يمتد إلى غيبوبة الشفق، لما تقدم في حديث أبي موسى، «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق» ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وأحمد، وقال في رواية مهنا: حديث عبد الله بن عمرو حديث معروف. ولا يرد حديث جبريل [- عَلَيْهِ السَّلَامُ -] أنه صلاها في اليومين في وقت واحد، لتضمنها زيادة، مع تأخر حديث أبي موسى، وكون حديث ابن عمرو [قولا] ، على أن يحتمل أن جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنما فعلها في وقت واحد؛ ليبين أن ذلك هو الأولى بها، ولذلك اتفقت الأئمة [على] أفضلية تقديمها، بخلاف غيرها، وكره تأخيرها، والله أعلم.

قال: ولا يستحب تأخيرها. ش: بل يكره، قاله القاضي في التعليق. 358 - لما روى عقبة بن عامر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تزال أمتي بخير - أو على الفطرة - ما لم يؤخروا المغرب حتى تشتبك النجوم» . رواه أحمد وأبو داود. 359 - وفي الصحيحين عن سلمة بن الأكوع: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس، وتوارت بالحجاب» . وفي أبي داود: ساعة تغرب الشمس، إذا غاب حاجبها. ولأن التأخير محظور عند البعض، فالتقديم أحوط، وهذا في غير ليلة جمع، أما في ليلة جمع، فالمستحب التأخير للمحرم إن قصدها، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأن الفعل قبل المزدلفة في طريقها لا يجزئه عند بعض، فالتأخير [أحوط] عكس ما

وقت صلاة العشاء

تقدم، ويستحب التأخير أيضا مع الغيم على المنصوص، وسيأتي [ذلك] إن شاء الله تعالى، والله أعلم. [وقت صلاة العشاء] قال: فإذا غاب الشفق - وهو الحمرة في السفر، وفي الحضر البياض؛ لأن في الحضر قد تنزل الحمرة، فتواريها الجدران، فيظن أنها قد غابت، فإذا غاب البياض فقد تيقن، ووجبت عشاء الآخرة. ش: قد تقدم أن آخر وقت المغرب غيبوبة الشفق، والشفق يطلق على الحمرة، و [على] البياض، بالاشتراك اللفظي، واختلف في المراد هنا، والمعروف المشهور عندنا - حتى إن الشيخين وغيرهما لم يذكروا خلافا - أن المراد بالشفق هنا هو الحمرة، لما روى عبد الله بن عمرو، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وقت المغرب ما لم يسقط ثور الشفق» . رواه مسلم، وأبو داود، ولفظه: «فور الشفق» وفور الشفق: فورته وسطوعه، وثوره: ثوران حمرته، قالهما الخطابي وغيره، مع أنه قد ورد ذلك صريحا.

360 - أ - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة» . رواه الدارقطني والبيهقي، وقال: الصحيح أنه موقوف، ثم هو قول جماعة من الصحابة. 360 - ب - روي عن ابن عمر، وابن عباس، وعبادة بن الصامت، وشداد، رواه البيهقي عنهم، قال: ورويناه عن عمر، وعلي، وأبي هريرة. وقد حكى بعضهم الإجماع على ذلك، في قَوْله تَعَالَى: {فلا أقسم بالشفق} [الانشقاق: 16] على أنه قد حكي عن الخليل بن أحمد وغيره أنهم قالوا: إن البياض لا يغيب إلا عند طلوع الفجر. وحكي عن أحمد أن المراد بالشفق هنا هو البياض. 360 - ج - لما روي «عن النعمان بن بشير قال: أنا أعلم الناس بوقت هذه الصلاة - يعني العشاء - كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها

لسقوط القمر لثالثة» . رواه أحمد، والنسائي والترمذي، ولا دليل فيه إذ ليس فيه: أن ذلك أول وقتها، فإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يؤخر العشاء، بل هو دليل لنا، (إذ) سقوط القمر لثالثة يكون عند تمكن البياض على ما قيل، (وعنه) رواية ثالثة كما قاله الخرقي في الشفق: في السفر الحمرة، وفي الحضر البياض الذي يعقب الحمرة، نظرا للمعنى الذي ذكره الخرقي، ولما كان عند أبي محمد أنه لا خلاف أن الشفق [الحمرة] قال: إنه يعتبر غيبة البياض للدلالة على غيبوبة الأحمر، لا لنفسه. (إذا عرف هذا) فإذا غاب الشفق خرج وقت المغرب، وعقبه وقت العشاء بالإجماع، والأحاديث متظافرة على ذلك، والله أعلم. قال: إلى ثلث الليل، فإذا ذهب ثلث الليل ذهب [وقت] الاختيار.

ش: أي أن وقت العشاء المختار يمتد إلى ثلث الليل، وهذا إحدى الروايتين واختيار أبي بكر في التنبيه، والقاضي في الجامع، لما تقدم من حديث أبي موسى وحديث جبريل كذلك أيضا، والثانية، واختارها القاضي في روايتيه، وابن عقيل في تذكرته، والشيخان - يمتد إلى نصفه، لحديث عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وقت العشاء إلى نصف الليل» رواه مسلم وغيره، ونحوه من حديث أبي هريرة، رواه أبو داود، والترمذي. 361 - «وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أخر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء إلى نصف الليل، ثم صلى، ثم قال: «قد صلى الناس وناموا، أما إنكم في صلاة ما انتظرتموها» . رواه البخاري وغيره، وقول صاحب التلخيص: إن من الثلث إلى النصف من الليل وقت جواز، لا وقت اختيار. ولا ضرورة. . وقول الخرقي: وجبت عشاء الآخرة. يقتضي جواز تسمية المغرب بالعشاء. وهو كذلك بلا كراهة، نعم: الأولى تسميتها بالمغرب، وكذلك العشاء الأولى أن لا تسمى

العتمة، ويجوز ذلك بلا كراهة على الأصح، وظاهر كلام ابن عبدوس المنع [من ذلك] ، والله أعلم. قال: ووقت الضرورة [مبقى] إلى أن يطلع الفجر الثاني، وهو البياض الذي يبدو من قبل المشرق فينتشر، ولا ظلمة بعده. ش: قد تقدم أن آخر وقت العشاء المختار ثلث الليل أو نصفه، ثم من ذلك إلى طلوع الفجر الثاني وقت ضرورة، ووقت إدراك على ما تقدم. 362 - لظاهر ما روى أبو قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى» . رواه مسلم، قال البيهقي: وروينا عن ابن عباس: وقت العشاء إلى الفجر.

363 - أ - وعنه، وعن عبد الرحمن بن عوف أنهما قالا في الحائض: إذا طهرت قبل طلوع الفجر صلت المغرب والعشاء. رواه أحمد. 363 - ب - وعن أبي هريرة مثل ذلك، رواه حرب. 363 - ج - وعنه أيضا [وسئل] : ما إفراط صلاة العشاء؟ قال: طلوع الفجر، وهذا كله يدل على أن ذلك وقت العشاء. 364 - قال البيهقي: وروينا «عن عائشة قالت: أعتم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ذهبت عامة الليل» . اهـ. والفجر الثاني هو البياض الذي يبدو من قبل المشرق فينتشر، ولا ظلمة بعده، ويسمى: «الفجر الصادق» ؛ لأنه صدق عن الصبح وبينه، «والمستطير» ؛ لأنه طار في الأفق وانتشر فيه، والفجر الأول هو الفجر المستطيل، الذي يبدو معترضا كذنب السرحان، ثم تعقبه الظلمة، ومن ثم سمي الفجر الكاذب والفجر الثاني هو الذي تتعلق به الأحكام.

وقت صلاة الصبح

365 - وقد روي عن جابر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الفجر فجران، فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة، ولا يحرم الطعام، [وأما الذي يذهب مستطيلا في الأفق فإنه يحل الصلاة، ويحرم الطعام] » رواه البيهقي وقال: الأصح إرساله. (تنبيه) : السرحان الذئب، والله أعلم. [وقت صلاة الصبح] قال: فإذا طلع الفجر الثاني وجبت [صلاة] الصبح. ش: هذا إجماع ولله الحمد، والنصوص شاهدة بذلك. (تنبيه) : الفجر هو انصداع البياض من المشرق، سمي بذلك لانفجاره، أي لظهوره وخروجه كما ينفجر النهر، والله أعلم. قال: وآخره إذا طلعت الشمس. ش: قد حكى ابن المنذر ما يدل على أن هذا إجماع أيضا، وفي حديث عبد الله بن عمرو الذي رواه مسلم وغيره عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «وقت الفجر ما لم تطلع الشمس» . ومقتضى كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] أن جميع وقتها وقت اختيار، كما في المغرب، والظهر، وهو المذهب، وجعل

القاضي في المجرد، وابن عقيل في التذكرة وابن عبدوس لها وقتين، اختيار وهو الإسفار، وضرورة وإدراك، وهو إلى طلوع الشمس. (تنبيه) : وتسمى بالفجر أيضا، قال تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] روي عن أبي هريرة أن المراد به صلاة الفجر، وفي حديث جبريل: «وصلى بي الفجر حين حرم الطعام» ولا يكره تسميتها بالغداة على الأصح، والله أعلم. قال: ومن أدرك منها ركعة قبل أن تطلع [الشمس] فقد أدركها. ش: لما تقدم من حديث أبي هريرة، وظاهر كلام الخرقي أن الإدراك لا يحصل إلا بركعة، والمشهور عند الأصحاب خلافه، كما تقدم في العصر، وهذا الحكم - أعني الإدراك [بركعة] أو بما دونها - لا يختص بالعصر والصبح، بل الحكم كذلك في جميع الصلوات.

366 - لما في مسلم عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها كلها» . ومقتضى كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] أن صلاة الصبح لا تبطل بطلوع الشمس وهو فيها، وهو كذلك، لما تقدم، وفي البخاري عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أدرك أحدكم [أول سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس، فليتم صلاته، وإن أدرك] أول سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس؛ فليتم صلاته» . 367 - وعنه أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صلى من صلاة الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فطلعت؛ فليصل إليها أخرى» رواه أحمد، والبيهقي، والله أعلم. قال: [وهذا] مع الضرورة. ش: ظاهر هذا أن هذا الإدراك أيضا مختص بمن له ضرورة، كما تقدم في العصر، وكذلك قال ابن أبي موسى. ولا يتمشى التأويل الذي تأولناه في العصر بأن جواز التأخير مختص بوقت

أداء الصلاة في أول الوقت

الضرورة، إذ جميع وقت الصبح وقت اختيار على المذهب. نعم على قول القاضي يجيء التأويل، ومن هنا أخذ القاضي أن للصبح وقتين، والله أعلم. [أداء الصلاة في أول الوقت] قال: والصلاة في أول الوقت أفضل، إلا عشاء الآخرة، وفي شدة الحر الظهر. ش: هذا منصوص أحمد في رواية الأثرم، والأصل [فيه] في الجملة [عموم] قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة: 148] {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133] والصلاة من الخيرات، ومن أسباب المغفرة، وقَوْله تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المحافظة على الشيء تعجيله. 368 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «ما صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة لوقتها الأخير مرتين، حتى قبضه الله» . رواه أحمد، والترمذي، والدارقطني، وفي لفظ: إلا مرتين.

369 - وعن أم فروة - وكانت ممن بايعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصلاة لأول وقتها» رواه أحمد والترمذي، وأبو داود. 370 - «وعن ابن مسعود قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة في أول وقتها» مختصر، رواه ابن خزيمة في مختصر المختصر. 371 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوقت الأول من الصلاة رضوان الله، والآخر عفو الله» رواه الترمذي، لكن قال الإمام أحمد: من يروي هذا؟ ليس [هذا] يثبت. وكذلك ضعفه غيره.

إذا عرف هذا فلنشر إلى صلاة صلاة على الانفراد. فأما الظهر فالمستحب تقديمها، لما تقدم. 372 - وفي الصحيح عن أبي برزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الظهر إذا زالت الشمس» . 373 - «وعن عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] : ما رأيت إنسانا كان أشد تعجيلا بالظهر من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ما استثنت أباها. ولا عمر» ، رواه البيهقي والترمذي ولفظه: ولا من أبي بكر، ولا من عمر. ويستثنى من ذلك الوقت الشديد الحر، فإن المستحب التأخير فيه. 374 - لما في الصحيحين وغيرهما، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» . 375 - وفي الصحيحين أيضا عن أبي ذر نحوه، وفي لفظ: «أبردوا بالظهر» .

376 - «وعن المغيرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الظهر بالهاجرة، فقال لنا: «أبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم» رواه أحمد، والترمذي وقال: سألت محمدا عن هذا فعده محفوظا. ثم هل ذلك مطلقا، وهو ظاهر كلام أحمد، والقاضي في الجامع، والخرقي، وابن أبي موسى، وابن عقيل في التذكرة، وصاحب التلخيص، وإليه ميل أبي محمد، نظرا لظواهر الأحاديث. أو مختص بمن أراد الخروج إلى الجماعة، وهو قول أبي الخطاب، وطائفة تعليلا بالمشقة، [والمشقة] إنما تحصل بذلك. وشرط القاضي في موضع مع الخروج إلى الجماعة [كونه في البلدان الحارة] . وابن الزاغوني كونه في مساجد الدروب. هذا كله في الظهر، أما الجمعة فيسن تقديمها مطلقا. 377 - قال سهل بن سعد: ما كنا نقيل، ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. 378 - أ - وقال سلمة بن الأكوع: «كنا نجمع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم نرجع نتتبع الفيء» . متفق عليهما.

ويستثنى أيضا من أفضلية تقديم الظهر - مع تيقن دخول وقتها حال الغيم، فإنه يستحب تأخيرها فيه، وتقديم العصر، وتأخير المغرب، وتقديم العشاء، نص على ذلك أحمد. 378 - ب - لما روى ابن منصور في سننه، عن إبراهيم قال: كانوا يؤخرون الظهر ويعجلون العصر، ويؤخرون المغرب في اليوم المتغيم، ولأن ذلك مظنة عارض من مطر ونحوه، فاستحب تأخير الأولى من المجموعتين لتقرب من الثانية، لكي يخرج لهما خروجا واحدا، طلبا للأسهل المطلوب شرعا. وظاهر كلام الخرقي، وأحمد في رواية الأثرم - وإليه ميل أبي محمد - عدم استحباب ذلك، إذ مطلوبية التأخير في عامة الأحاديث إنما وردت في الحر، وظاهر كلام أبي الخطاب استحباب تأخير الظهر لا المغرب، وحيث استحب التأخير فهل ذلك مطلقا، أو لمن يريد الجماعة؟ فيه خلاف. (تنبيه) : التأخير في الحر قال أبو محمد: حتى تنكسر، ولا يؤخر إلى آخر الوقت. قال ابن الزاغوني: حتى ينكسر الفيء ذراعا، أو نحو ذلك، وفي التلخيص: إلى رجوع الظل

الذي يمشي فيه الساعي إلى الجماعة؛ وفي الغيم قال ابن الزاغوني: يؤخر إلى قريب من وسط الوقت. اهـ. أما العصر فالمستحب تقديمها على المذهب بلا ريب، لما تقدم، [وفي الصحيح] من «حديث أبي برزة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية» . 379 - وفي الصحيح أيضا «عن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة حية، ويذهب الذاهب إلى العوالي والشمس مرتفعة حية» ، وحكي عنه أن الأفضل مع الصحو التأخير احتياطا للخروج من الخلاف، إذ عند البعض لا يدخل وقتها إلا بصيرورة كل شيء مثليه.

وأما المغرب، فقد تقدم الكلام عليها. وأما العشاء، فإن الأفضل تأخيرها لما تقدم، وفي «حديث أبي برزة: وكان يستحب أن يؤخر العشاء التي تدعونها العتمة» . 380 - وفي الصحيح من حديث ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: «أعتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعشاء، فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله، رقد النساء والصبيان. فخرج ورأسه يقطر يقول: «لولا أن أشق على أمتي - أو على الناس - لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة» . 381 - وفيه أيضا من حديث «ابن عمر: مكثنا ليلة ننتظر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعشاء الآخرة، فخرج علينا حين ذهب ثلث الليل أو نحوه» . مختصر. 382 - وعن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتموا بهذا الصلاة، فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، ولم تصلها أمة قبلكم» مختصر، رواه أبو داود، ثم هل يستحب التأخير مطلقا، وهو ظاهر كلام الخرقي، وأبي

الخطاب، وصاحب [التلخيص] ، لظاهر حديث أبي برزة، ومعاذ، وغيرهما، أو أن ذلك معتبر بحال المأمومين، بحيث لا يشق عليهم غالبا، وهو اختيار أبي محمد، لحديث ابن عباس. 383 - وفي حديث جابر الصحيح: «إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا أخر» . فيه روايتان. وأما الصبح فالأفضل تقديمها مطلقا على إحدى الروايات، واختيار الخرقي وأبي محمد وطائفة، لما تقدم، وفي حديث جابر: «والصبح كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصليها بغلس» . 384 - وفي الصحيحين من حديث عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] : «لقد كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي الفجر فيشهد [معه] نساء من المؤمنات متلفعات بمروطهن، ثم يرجعن إلى بيوتهن، لا يعرفهن أحد من الغلس» . وعلى هذا يكره التأخير إلى الإسفار بلا عذر. (والثانية) : الإسفار بها أفضل مطلقا. 385 - لما روى رافع بن خديج [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» رواه

أبو داود والترمذي وصححه، والنسائي، وحمل على أن المراد مطلوبية إطالة القراءة [فيها] ، بحيث يفرغ منها مسفرا، كما جاء عنه في الصحيح أنه كان ينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه، لا أنه يفتتحها مسفرا. وقيل: المراد التأخير حتى يتبين طلوع الفجر ويمضي زمن الوضوء ونحوه؛ ويعين تأويل الحديث مواظبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على التغليس كما تقدم، وفي حديث ابن عباس لما وصف صلاة جبريل بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثم كانت صلاته بعد التغليس، لم يعد إلى أن يسفر بها. (والثالثة) - واختارها الشيرازي -: الاعتبار بحال أكثر المأمومين، فإن غلسوا غلس، وإن أسفروا أسفر، توقيرا [للجميع] إذ ما كثر فهو أحب إلى الله [تعالى] كما ورد في الحديث، وقياسا على ما فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العشاء، فإنه

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رآهم اجتمعوا عجل، وإذا رآهم أبطؤوا أخر. 386 - «وعن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، فقال: «يا معاذ إذا كان في الشتاء فغلس بالفجر، وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس، ولا تملهم، وإذا كان في الصيف فأسفر بالفجر، فإن الليل قصير، والناس ينامون، فأمهلهم حتى يدركوا» رواه الحسين بن مسعود الفراء في سننه. ومحل الخلاف فيما إذا كان الأرفق على المأمومين الإسفار مع حضورهم، أو حضور بعضهم، أما لو تأخر الجيران كلهم فالأولى هنا التأخير بلا خلاف، على مقتضى ما قال القاضي في التعليق، وقال: نص عليه في رواية الجماعة. واعلم أنا وإن شركنا بين الفجر والعشاء في مراعاة حال الجيران، إلا أن بينهما فرقا [لطيفا] ، وهو أن التقديم في الفجر أفضل إلا إذا تأخروا، والتأخير في العشاء أفضل إلا إذا تقدموا

وتظهر فائدة ذلك في المصلي وحده، وفي جماعة تقدموا ولم يشق عليهم التأخير، فإن الأفضل إذا تقديم الفجر، وتأخير العشاء. (تنبيهان) : (أحدهما) : تحصل فضيلة [أول] الوقت بأن يشتغل بأسباب الصلاة إذا دخل الوقت، قال في التلخيص، ويقرب منه قول المجد: قدر الطهارة، والسعي إلى الجماعة، ونحو ذلك. (الثاني) : «أبردوا بالصلاة» أي: أخروها عن ذلك الوقت، وأدخلوها في وقت البرد، وهو الزمن الذي ينكسر فيه الحر، فيوجد فيه برود [ما] ، يقال: أبرد الرجل أي صار في برد النهار «فيح جهنم» شدة حرها، وشدة غليانها، يقال: فاحت القدر تفيح إذا هاجت وغلت. وقوله: والشمس حية. قال الخطابي: حياتها ضياء لونها قبل أن تصفر أو تتغير، وقال غيره: حياتها بقاء حرها (والعوالي) فسرها مالك بثلاثة أميال من المدينة، وقال غيره: هي مفترقة، فأدناها ميلان، وأبعدها ثمانية أميال، والله أعلم.

حكم طهارة الحائض وإسلام الكافر وبلوغ الصبي قبل غروب الشمس

[حكم طهارة الحائض وإسلام الكافر وبلوغ الصبي قبل غروب الشمس] قال: وإذا طهرت الحائض، وأسلم الكافر، وبلغ الصبي، قبل أن تغرب الشمس صلوا الظهر والعصر، وإن بلغ الصبي، وأسلم الكافر وطهرت الحائض قبل أن يطلع الفجر؛ صلوا المغرب وعشاء الآخرة. ش: إذا أدرك واحد من هؤلاء من وقت صلاة قدر تكبيرة وجبت تلك الصلاة، لما تقدم من حديث أبي هريرة: «من أدرك ركعة من الصلاة؛ فقد أدرك الصلاة» ، «ومن أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس» الحديث. والصلاة التي قبلها إن كانت تجمع إليها. 387 - لما روي عن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] ، وعبد الرحمن بن عوف [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أنهما قالا: إذا طهرت الحائض قبل مغيب الشمس صلت الظهر والعصر، وإذا رأت الطهر قبل أن يطلع الفجر صلت المغرب والعشاء. رواه أحمد وغيره. وعن أبي هريرة: إذا طهرت قبل أن يطلع الفجر صلت المغرب والعشاء. رواه حرب، وكذلك رواه البيهقي عن عبد الرحمن بن عوف، ولم يعرف لهم مخالف، وقد روى البيهقي في سننه عن أبي الزناد [قال] : كان من أدركت

من فقهائنا يقولون - فذكر أحكاما وفيها -: والذي يغمى عليه فيفيق قبل الغروب، يصلي الظهر والعصر، فإن أفاق قبل طلوع الفجر صلى المغرب والعشاء، قالوا: وكذلك تفعل الحائض إذا طهرت قبل الغروب، أو قبل طلوع الفجر، ولأن الشارع نزل وقتي المجموعتين حال العذر - وهو الجمع - منزلة الوقت الواحد، وما نحن فيه أقوى الأعذار، وحكم المجنون يفيق حكم من تقدم، ويحصل الوجوب بإدراك قدر تكبيرة كما تقدم، ولا يشترط ركعة، ولا زمن يتسع للطهارة، نص عليه. ومقتضى كلام الخرقي أن الصلاة لا تجب (على حائض) ، وهو إجماع، ولا (على كافر) أصلي أو غيره؛ أما الأصلي فواضح، إذ لا يجب عليه الأداء في حال كفره، ولا يجوز له إلا إن أتى بالشرط، و [لا] القضاء إذا أسلم اتفاقا، ومعنى خطابه بالفروع: زيادة العقاب على ذلك في الآخرة، أو كون ذلك وسيلة إلى إسلامه، إذا كان ممن يصح منه فعله في حال كفره، كما لو أعتق ونحو ذلك، أو حصول الثواب له إذا أسلم. وأما غيره فهل تجب عليه العبادات في حال ردته فيقضيها إذا أسلم؟ فيه روايتان: إحداهما: نعم، فتنتفي هذه المسألة، لأنه إذا لم يتجدد عليه وجوب بالإدراك، بل الوجوب موجود من أول الوقت.

ما يقضي المغمى عليه من الصلوات

(والثانية) - وهي ظاهر كلام الخرقي -: لا، وعليها تجيء هذه المسألة. اهـ. (ولا على) صبي مطلقا، وهو المذهب. (وعنه) : تجب على من بلغ عشرا، وسيأتي [ذلك] إن شاء الله تعالى. وعلى هذا أيضا تنتفي هذه المسألة، والله أعلم. [ما يقضي المغمى عليه من الصلوات] قال: والمغمى عليه يقضي جميع الصلوات التي كانت [عليه] في إغمائه. [والله أعلم] . ش: لأن الصلاة عبادة، فلا تسقط بالإغماء كسائر العبادات، وذلك لأن الإغماء لا ينقطع التكليف به، بدليل جوازه على الأنبياء. 387 - م - وقد روي أن عمارا [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] غشي عليه أياما لا يصلي، ثم استفاق بعد ثلاث فقال: هل صليت؟ فقالوا: ما صليت منذ ثلاث. فقال: أعطوني وضوءا فتوضأ ثم صلى تلك الليلة. 388 - وعن سمرة بن جندب [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: المغمى عليه يترك الصلاة، يصلي مع كل صلاة مثلها. قال: قال عمران: ولكن يصليهن جميعا. رواهما الأثرم ورواه البيهقي عن عمار، ولفظه: أنه أغمي عليه في الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، فأفاق نصف الليل، فصلى الأربع.

389 - وما روي «عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرجل يغمى عليه، فيترك الصلاة اليومين والثلاثة، قال: «ليس لشيء من ذلك قضاء إلا أن يغمى عليه في صلاته فيفيق وهو فيها فيصليها» . ويدخل في كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] الإغماء بتناول المباح، وهو الصحيح من الوجوه. «والثاني» : لا قضاء عليه بذلك؛ لاحتمال امتناعه منه، خوفا من مشقة القضاء فتفوت مصلحته. «والثالث» إن تطاول الإغماء والحال ما تقدم؛ أسقط القضاء قياسا على الجنون، وإلا لم يسقط، ولا إشكال أن زوال العقل بمرض أو سكر لا يسقط القضاء. نعم قيل بسقوط القضاء مع سكر بشرط الإكراه. وهذا كله على المذهب المقطوع به، من أن المجنون لا قضاء عليه. 390 - اعتمادا على قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» الحديث، أما إن قيل بوجوب القضاء عليه - على رواية حنبل الضعيفة - فإن من تقدم يجب عليه القضاء بلا ريب، والله أعلم.

باب الأذان

[باب الأذان] ش: الأذان في اللغة: هو الإعلام، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أي: وإعلام، وأصله من الأذن، وهو الاستماع، فإنه يلقي في آذان الناس بصوته، ما إذا سمعوه علموا أنهم ندبوا لذلك. و [هو] في الشرع: إعلام بدخول وقت الصلاة، بذكر مخصوص، [في وقت مخصوص] ، من شخص مخصوص، ويحصل به أيضا: الإعلام بالدعاء إلى الجماعة، [و] بإظهار شعائر الإسلام، ويطلق على الإقامة أيضا؛ لأنها إعلام بإقامة الصلاة. 391 - والأصل فيه ما روى محمد بن إسحاق، من حديث محمد بن إبراهيم التيمي، «عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، حدثني أبي، قال: لما أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالناقوس، يعمل ليضرب به للناس في الجمع للصلاة، أطاف [بي]- وأنا نائم - رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت له: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة. قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قلت: بلى. قال: تقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله،

أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. ثم استأخر غير بعيد، قال: ثم تقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته ما رأيت، فقال: «إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال، فألق عليه ما رأيت، فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك» . فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه وهو يؤذن به، فسمع ذلك عمر وهو في بيته، فخرج يجر رداءه، ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد رأيت مثل ما رأى. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فلله الحمد» . رواه أحمد، وأبو داود. وفي رواية كرر التكبير أربعا، قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا - يعني حديث محمد بن إبراهيم التيمي - فقال: هو عندي صحيح. وقال محمد بن يحيى الذهلي: ليس في أخبار عبد الله بن زيد في الأذان خبر أصح من هذا.

392 - وفي الصحيحين، «عن ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] ، قال: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون، فيتحينون الصلاة، وليس ينادي لها أحد، فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم: نتخذ ناقوسا، مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل قرنا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أفلا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بلال، قم فناد بالصلاة» . متفق عليه. 393 - وروى البيهقي في سننه عن أنس، قال: «كانت الصلاة إذا حضرت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعى رجل في الطريق، فنادى: الصلاة، الصلاة. فاشتد ذلك على الناس، فقالوا: لو اتخذنا ناقوسا يا رسول الله، فقال: «ذلك للنصارى» ، فقالوا: لو اتخذنا بوقا. قال: «ذلك لليهود» ، قال: فأمر بلالا أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة» . اهـ. وبهذا يحصل الجمع بين حديثي ابن زيد، وابن عمر، بأن يكون النداء الأول: الصلاة الصلاة. ثم رأى عبد الله بن زيد الأذان، فأمر بلالا أن يؤذن به، واستقر العمل عليه.

ألفاظ الأذان

(تنبيه) : «يتحينون» يعني: يقدرون أحيانا، ليأتوا إليها فيها، والحين: الوقت والزمان، والله أعلم. [ألفاظ الأذان] قال: ويذهب أبو عبد الله [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] إلى أذان بلال [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] وهو: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. ش: هذا هو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين لما تقدم، إذا هو الذي كان يفعل بحضرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضرا وسفرا، وعليه عمل أهل المدينة. قال الأمام أحمد: [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] هو آخر الأمرين، وكان بالمدينة، وقيل [له] : إن أذان أبي محذورة بعد حديث عبد الله بن زيد، لأن حديث أبي محذورة بعد فتح مكة. فقال: أليس قد رجع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المدينة، فأقر بلالا على أذان عبد الله بن زيد؟ . ونقل عنه حنبل: أذان أبي محذورة أعجب إلي، وعليه عمل أهل مكة إلى اليوم، وأذان أبي محذورة يرجع فيعيد الشهادتين بعد ذكرهما، بصوت أرفع من الصوت الأول. 394 - «قال أبو محذورة: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه الأذان تسع عشرة كلمة، والإقامة سبع عشر كلمة» ، رواه الخمسة وصححه الترمذي. وفي لفظ: ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله

ألفاظ الإقامة

[أشهد أن محمدا رسول الله تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك: أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين، أشهد أن محمدا رسول الله] والخلاف في الاختيار، ولا خلاف في جواز الأمرين من غير كراهة، على المذهب المعروف، وحكي عنه: كراهة الترجيع، والله أعلم. [ألفاظ الإقامة] قال: والإقامة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. ش: لما تقدم من حديث عبد الله بن زيد، وقد تقدم ما يقتضي ترجيحه. 395 - وفي الصحيحين «عن أنس بن مالك [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: أُمِر بلال أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة» ، وإن ثنى الإقامة فلا بأس، لما تقدم من حديث أبي محذورة، والله أعلم. [يترسل في الأذان ويحدر الإقامة] قال: ويترسل في الأذان، ويحدر الإقامة. ش: الترسل: التمهل والتبين، والإحدار: الإسراع.

396 - وقد جاء ذلك من حديث جابر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لبلال: «إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر» مختصر، رواه الترمذي، وقال: إسناده مجهول. والبيهقي من رواية أبي هريرة، وقال: إسناده مظلم. 397 - وعن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرنا أن نرتل الأذان، ونحذف الإقامة» . رواه الدارقطني. 398 - وروى أيضا هو والبيهقي عن أبي الزبير مؤذن بيت المقدس قال: جاء عمر بن الخطاب فقال: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحدر. وفي رواية: فاحذم، قال الأصمعي: الحذم قطع التطويل. وقد استنبط الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من مطلوبية رفع الصوت في الأذان - كما قد ثبت في الصحيح - ترتيل

التثويب في أذان الفجر

الأذان. والله أعلم. [التثويب في أذان الفجر] قال: ويقول في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم. مرتين. 399 - ش: في رواية لأحمد وأبي داود في حديث عبد الله بن زيد: قال: ثم أمر بالتأذين، فكان بلال مولى أبي بكر يؤذن بذلك، ويدعو رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إلى الصلاة] . قال: فجاء فدعاه ذات غداة إلى الفجر، فقيل له: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نائم. [قال] : فصرخ بلال بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم. قال سعيد بن المسيب: فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر.

400 - وعن أنس قال: «من السنة إذا قال المؤذن في أذان الفجر: حي على الفلاح. قال: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله.» رواه البيهقي في سننه، وقال: إسناده صحيح. وموضع ذلك بعد: حي على الفلاح. كما في حديث أنس، ولما يأتي في حديث أبي محذورة، وهذا والذي قبله على سبيل الاستحباب، ولهذا قال الخرقي [بعد] : وإن أذن لغير الفجر قبل دخول الوقت أعاد. وقيل: بالوجوب في التثويب. 401 - لأن في حديث أبي محذورة: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علمه الأذان، وفيه [إن] كان في الصبح فقل - بعد حي على الفلاح -: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، وهذا أمر. اهـ. وتخصيص الخرقي ذلك بالصبح يقتضي أنه لا يطلب في غيره، وهو كذلك.

الأذان قبل دخول الوقت

402 - لما روي «عن بلال قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا أثوب إلا في الفجر» . رواه أحمد وابن ماجه، وفيه إرسال، قاله البيهقي. 403 - وعن مجاهد: كنت مع ابن عمر، فثوب رجل في الظهر أو العصر، قال: اخرج بنا فإنها بدعة. رواه أبو داود، والله أعلم. [الأذان قبل دخول الوقت] قال: وإن أذن لغيره الفجر قبل دخول الوقت أعاد [إذا دخل الوقت] .

ش: لا يعتد بالأذان قبل دخول الوقت لغير الفجر، على المذهب المعروف، لفوات المقصود منه، وهو الإعلام بدخول الوقت، ولما في ذلك من التغرير الممنوع منه شرعا، ومخالفته الأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وما كان عليه. 404 - ففي الصحيحين «عن مالك بن الحويرث، قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان بنا [برا] رحيما رفيقا، فلما رأى شوقنا إلى أهلينا قال: «ارجعوا فكونوا فيهم، وعلموهم، وصلوا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم» . 405 - وفي صحيح مسلم، «عن جابر بن سمرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: كان بلال يؤذن إذا دحضت، ثم لا يقيم حتى يرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإذا رآه أقام حين يراه» . وفي الرعاية حكاية رواية بالكراهة، وظاهرها مع الاعتداد [به] وليست بشيء، لإطباق الناس على خلافها. اهـ. ويعتد بالأذان للفجر قبل دخول وقتها على المذهب. 406 - لما في الصحيحين وغيرهما، عن ابن عمر وعائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] ، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» .

407 - وعن ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره، فإنه يؤذن - أو قال: ينادي - بليل، ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم» متفق عليه أيضا. وفيه إشارة إلى علة اختصاص الفجر بذلك، وهو قيام النائم ليقضي حاجته، فيأتي الصلاة في أول الوقت، ورجوع القائم ليأتي بالعبادة على وجه النشاط. وقاس الشيرازي على الصبح الجمعة، فأجاز الأذان لها قبل وقتها ليدركها من منزله فيه بعد ونحو ذلك، وهو أجود من قول [ابن] حمدان: وقيل: وللجمعة قبل الزوال. لعموم الأول. واستثنى ابن عبدوس مع الفجر الصلاة المجموعة، وليس بشيء لأن الوقتين صارا وقتا واحدا. (وعنه) : رواية بالمنع في التأذين قبل الوقت بالفجر أيضا، فغيرها أحرى. 408 - لما روي «عن ابن عمر، أن بلالا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرجع فينادي: «ألا إن العبد نام، ألا إن العبد نام» ثلاثا، فرجع فنادى: ألا إن العبد نام» . رواه أبو داود، لكن قال ابن المديني: إنه غير محفوظ، أخطأ فيه

حماد. وقال محمد بن يحيى الذهلي: خبر حماد شاذ، غير واقع على القلب، [هو] خلاف ما رواه الناس عن ابن عمر. فعلى المذهب شرط الاعتداد بالأذان للفجر قبل وقتها أن يكون بعد منتصف [الليل] ، قاله طائفة من الأصحاب، لأن قبل النصف وقت يختص بالعشاء اختصاصا كليا، لكونه وقتها المختار، وما بعده بخلافه، والخرقي وجماعة من الأصحاب لم يقيدوا على ذلك، فيحتمل أنهم أحالوا على العادة. ولا إشكال أنه لا يستحب تقدم ذلك على الوقت كثيرا، قاله الشيخان وغيرهما.

409 - لأنه في الصحيح من حديث عائشة: قال القاسم الراوي عنها: لم [يكن] بين أذانهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا. 410 - وفي حديث رواه الطيالسي وغيره قال: «فكنا نحتبس ابن أم مكتوم عن الأذان، ونقول: كما أنت حتى نتسحر، كما أنت حتى نتسحر. ولم يكن بين أذانهم إلا أن ينزل هذا ويصعد هذا» . ومن ثم قال البيهقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: [مجموع] ما روي في تقديم الأذان قبل الفجر إنما هو بزمن يسير، لعله لا [يبلغ] مقدار قراءة الواقعة، بل أقل منها، ففضيلة التقديم بهذا، لا بأكثر، وأما ما يفعل في زماننا من الأذان للفجر من الثلث الأخير، فخلاف السنة، إن سلم جوازه، ويستحب لمن أذن قبل الفجر أن يكون معه من يؤذن في الوقت، لقضية النص، وأن يتخذ ذلك عادة، لئلا يغر الناس، وفي الكافي ما يقتضي اشتراط ذلك. اهـ. إذا تقرر أنه يعتد بالأذان للفجر قبل وقتها، ولا يعتد بالأذان لغيرها قبل الوقت على المذهب فيهما، فهل يجوز ذلك أم لا؟

ما يستحب في المؤذن

أما لغير الفجر فلا يجوز ذلك، على المعروف من الروايات، وقد تقدم حكاية رواية بالكراهة، وظاهرها مع الجواز. وحكي رواية ثالثة بالكراهة، إلا أن يعيده بعد الوقت، وأما للفجر فهل يباح ذلك أو يسن؟ على قولين، ثم هل ذلك في جميع السنة، أو يستثنى من ذلك رمضان، فيكره الأذان فيه قبل الفجر، حذارا من منع كثير من الناس من السحور، ولعدم معرفتهم بالوقت، واعتمادهم على الأذان، فيه روايتان: أشهرهما: عند الأصحاب الثاني، وعليه: هل ذلك مطلقا، أو إذا لم تجر عادة بذلك، نظرا للمعنى المتقدم، وحذارا من تعطيل السنة الصريحة، لورودها بذلك، وهو قول أبي البركات؟ فيه قولان. (تنبيه) : الوقت منوط بنظر المؤذن، والإقامة وقتها منوط بنظر الإمام، والله أعلم. [ما يستحب في المؤذن] قال: ولا يستحب أبو عبد الله أن يؤذن إلا طاهرا، فإن أذن جنبا أعاد. ش: المستحب أن يؤذن ويقيم وهو طاهر من الحدثين. 411 - لما روي عن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يؤذن إلا متوضئ» رواه الترمذي، والبيهقي،

مرفوعا وموقوفا على أبي هريرة، وصححا الموقوف، ولأنه ذكر، فاستحبت له الطهارة، كبقية الأذكار، فإن أذن أو أقام محدثا أجزأ. 412 - قال النخعي: كانوا لا يرون بأسا أن يؤذن الرجل على غير وضوء. ذكره البيهقي، لكن يكره ذلك في الإقامة دون الأذان، نص عليه، وكرهه صاحب التلخيص، والسامري فيهما لكن الكراهة في الإقامة أشد. وإن أذن جنبا (فعنه) - كما حكاه جماعة من الأصحاب، واختاره الخرقي، وابن عبدوس - لا يعتد به فيعاد، لأنه ذكر يختص فاعله أن يكون من أهل القرب، فلم يعتد به من الجنب كالقراءة. (وعنه) - وهو اختيار الأكثرين، ومنصوصه في رواية حرب -: يعتد به، إذ العمومات الواردة في الأذان لم يرد في شيء منها اعتبار الطهارة من الجنابة، ولأنه أحد الحدثين فأشبه الآخر. فعلى هذا إن كان أذانه في مسجد، فإن كان مع جواز اللبث فيه، إما بوضوء على المذهب، أو بحبس، ونحو ذلك صح، ومع

الصلاة بلا أذان ولا إقامة

تحريم اللبث فيه هو كالأذان والزكاة في موضع غصب، وفي ذلك قولان، المذهب منهما عند أبي البركات وطائفة: صحته لعدم اشتراطه البقعة له. والمذهب عند ابن عقيل في التذكرة: البطلان. وهو مقتضى قول ابن عبدوس، وغالى فقطع باشتراط الطهارة له، كمكان الصلاة، والله [سبحانه] أعلم. [الصلاة بلا أذان ولا إقامة] قال: ومن صلى [صلاة] بلا أذان ولا إقامة؛ كرهنا له ذلك، ولا يعيد. ش: أما كراهة ذلك، فلأنه خلاف فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، وأما عدم إعادة الصلاة. 413 - فلما روي عن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل سها عن الأذان والإقامة قال: «إن الله يتجاوز لأمتي [عن] الخطأ والنسيان» . 414 - وعن معاذ بن جبل أنه قيل له: رجل نسي الإقامة والأذان؟ قال: مضت صلاته، ليس الإقامة والأذان من فروض الصلاة، إنما هو من فضل يوجد به، وشيء يدعى إليه. رواهما حرب بإسناده.

415 - وفي مسلم [عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أنه صلى بعلقمة والأسود في داره، بغير أذان ولا إقامة. 416 - وقد استنبط الشافعي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] ذلك من الحديث الصحيح: «إذا أقيمت الصلاة فامشوا وعليكم السكينة، فصلوا ما أدركتم، واقضوا ما فاتكم» قال: فمن أدرك آخر الصلاة فقد فاته أن يحضر أذانا وإقامة، مع أنه لم يؤذن لنفسه، ولم يقم، قال: ولم أعلم مخالفا أنه إذا جاء المسجد [وقد خرج الإمام من الصلاة] كان له أن يصلي بلا أذان ولا إقامة. هذا من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فقول الخرقي: «ومن» عام أريد به خاص، وهو الرجال، لعدم مشروعية الأذان والإقامة للنساء، على المشهور من الروايات فضلا عن كراهة تركهما منهن. 417 - لما روي عن أسماء [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على النساء أذان، ولا إقامة، ولا جمعة، ولا اغتسال جمعة، ولا تتقدمهن امرأة، ولكن تقوم في وسطهن» .

رواه البيهقي في سننه وضعفه، [قال: ورويناه أيضا في الأذان والإقامة عن أنس مرفوعا ولم يصح، بل الأشبه موقوف على أنس] . اهـ. 418 - كذلك يروى عن ابن عمر [وابن عباس] وعن علي: المرأة لا تؤم، ولا تؤذن، ولا تنكح، ولا تشهد النكاح.

وقال حرب: قال إسحاق: مضت السنة من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ليس على النساء أذان، ولا إقامة في حضر ولا سفر. (والثانية) : إن أذن وأقمن فلا بأس، وإن لم يفعلن فجائز. 419 - لما روى الشافعي في مسنده عن عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] أنها كانت تؤذن، وتقيم وتؤم النساء، وتقوم وسطهن. (والثالثة) : يستحب لهن الإقامة، ويروى عن جابر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] وحيث شرع ذلك للمرأة فإنها تخفض صوتها، وحكم الخنثى مثلها. اهـ. وقوله: ومن صلى صلاة. يريد [به] نوعا من الصلاة، وهي صلاة الخمس، لأن الأذان لا يشرع لغيرهن، نعم كلام ابن حمدان، كما سيأتي يقتضي مشروعيته للمنذورة، تشبيها لها بالواجب بأصل الشرع، وصرح الشيرازي - وهو ظاهر كلام غيره - أنه لا يشرع لها. ويسن أن ينادى للعيد، والكسوف، والاستسقاء: «الصلاة جامعة» على المذهب المعروف.

420 - لثبوت ذلك في الكسوف، ووروده مرسلا في العيد والاستسقاء، في معناهما. وألحق القاضي بهن التراويح، والمنصوص: أنه لا ينادى لها أصلا، كصلاة الجنازة [على المعروف] . اهـ. وقوله: كرهنا له ذلك. قد يؤخذ منه أن الأذان والإقامة سنتان؛ سنة في السفر، والحضر، لإطلاقه الكراهة على تاركها، والظاهر: أن مراده كراهة تنزيه، [وذلك] لما تقدم من أن تاركهما لا يعيد الصلاة، ولأنه دعاء إلى الصلاة فلم يجب، كقوله: «الصلاة جامعة» وهذا إحدى الروايات. (والثانية) - وهي المشهورة وعليها أكثر الأصحاب -: أنهما سنتان للمسافرين. 421 - لما ذكره ابن المنذر، والبيهقي عن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] في المسافر: إن شاء أذن وأقام، وإن شاء أقام.

422 - وعن ابن عمر أنه كان لا يزيد على الإقامة في السفر في صلاة، إلا في صلاة الصبح، ويقول: إنما الأذان للأمام الذي يجتمع إليه الناس. رواه مالك في موطئه، وسعيد في سننه، فرضا كفاية على المقيمين، لما تقدم من حديث [مالك] بن الحويرث: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم، وليؤمكم أكبركم» . 423 - وعن أبي الدرداء [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من ثلاثة في قرية لا يؤذن، ولا تقام فيها الصلاة، إلا استحوذ عليهم الشيطان» . رواه أحمد. (والثالثة) - وهو ظاهر إطلاق طائفة من الأصحاب -: أنهما فرض كفاية مطلقا، لأنهما من أعلام الدين الظاهر، فأشبها الجهاد. 424 - وفي الصحيح «عن مالك بن الحويرث قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنا وابن عم لي، فقال: «إذا سافرتما فأذنا، وأقيما، وليؤمكما أكبركما» . ولا نزاع فيما نعلمه في وجوبهما للجمعة، لاشتراط الجماعة لها، فكذلك النداء لها، ولا في

أنهما ليسا بشرط لصحة الصلاة كما تقدم. (واختلف) - إذا قيل بفرضيتهما - هل يجري ذلك في القضاء والمنفرد، والمنذورة؟ فيه وجهان، حكاهما ابن حمدان. ثم إذا قيل بالفرضية فاتفق أهل بلد على تركهما قاتلهم الأمام، وإذا قام بهما من يحصل به الإعلام غالبا أجزأ عن الكل، وإن كان واحدا، قلت: وينبغي أن يأثم أهل البلد كلهم إن تركوهما. اهـ. . وقول الخرقي: ومن صلى صلاة بلا أذان ولا إقامة كرهنا له ذلك. يشمل حالتي الحضر والسفر، والجماعة والانفراد، والمؤداة والمقضية، وغير ذلك وقد استثنى من ذلك أبو محمد ما إذا دخل مسجدا قد صلي فيه، فإنه يخير؛ إن شاء أذن وأقام، وإن شاء تركهما من غير كراهة، وحكى ابن حمدان ذلك قولا. ثم إن الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] إنما حكم بالكراهة على من تركهما، فلو أتى بأحدهما فهو مسكوت عنه في كلامه، وقد صرح أبو البركات بأن المنفرد والمسافر إذا اقتصرا على الإقامة من غير أذان، فإنه يجوز من غير كراهة، نص عليه أحمد. اهـ. وكذلك الثانية من المجموعتين، وما عدا الأولى من المقضيات، إن شاء أذن لها، وإن شاء لم يؤذن، بل صرح ابن عقيل، والشيرازي بأنه: لا يشرع أذان والحال هذه، ويقتصر على الإقامة، والله أعلم.

قال: ويجعل أصابعه مضمومة على أذنيه. ش: نقل ابن بطة أنه سأل الخرقي عن صفة ذلك، فضم أصابعه على راحتيه، ثم جعلهما على أذنيه، وهذا إحدى الروايات واختيار ابن عبدوس، وابن البنا، وصاحب البلغة فيها. 425 - لأن ذلك يروى عن ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] . (والثانية) : يجعل أصابعه مضمومة، مبسوطة على أذنيه. 426 - لأن ذلك يروى عن أبي محذورة، حكاه عنه أحمد. (والثالثة) - وهي اختيار ابن عقيل والشيخين -: يجعلهما في أذنيه. 427 - لما روى «أبو جحيفة قال: رأيت بلالا يؤذن، وإصبعاه في أذنيه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قبة له حمراء» . رواه [أحمد] ، والترمذي وصححه.

428 - وعن عبد الرحمن بن سعد، عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بلالا أن يدخل أصبعيه في أذنيه» . رواه البيهقي في سننه، والله أعلم. قال: ويدير وجهه عن يمينه إذا قال: حي على الصلاة. وعن يساره إذا قال: حي على الفلاح، ولا يزيل قدميه. 429 - ش - «روى أبو جحيفة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في قبة له حمراء من أدم، فخرج وتوضأ، فأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه ها هنا وها هنا، يقول يمينا وشمالا: حي على الصلاة، حي على الفلاح» . متفق عليه. وفي رواية أبي داود: لوى عنقه يمينا وشمالا ولم يستدر، وكلام الخرقي يشمل الأذان في المنارة وغيرها، وهو إحدى الروايتين. (والثانية) : له أن يدور في المنارة الواسعة، والصومعة الكبيرة ونحو ذلك، لأنه أبلغ في سماع الصوت، وهو المقصود الأصلي بالأذان. 430 - وقد روى البيهقي في سننه، بسنده في حديث أبي جحيفة، أن بلالا استدار، لكنه من رواية الحجاج بن أرطأة، ولا يحتج

ما يستحب لمن سمع الأذان

به، على أنه يحمل على أنه أراد بالاستدارة التفاته، توفيقا بين ألفاظ الحديث، والله أعلم. [ما يستحب لمن سمع الأذان] قال: ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول. 431 - ش: في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، قال: قال رسول لله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول» [المؤذن] ، ويجعل موضع الحيعلة الحولقة: «لا حول ولا قوة إلا بالله» قاله غير واحد من الأصحاب. 432 - لما روى عمر بن الخطاب [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله. قال: أشهد أن لا إله إلا الله. [ثم] قال: أشهد أن محمدا رسول الله. قال: أشهد أن محمدا رسول الله. ثم قال: حي على الصلاة. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: حي على الفلاح. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. ثم قال: الله

أكبر، [الله أكبر] . قال: الله أكبر [الله أكبر] . ثم قال: لا إله إلا الله. قال: لا إله إلا الله. من قبله؛ دخل الجنة» رواه أحمد، ومسلم وأبو داود. 433 - ونحوه روي من حديث معاذ، ورافع بن خديج [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] وقال بعض الأصحاب يجمع [بين] الحولقة والحيعلة، ليأتي بمجموع الأحاديث، والأول المذهب. (تنبيه) : يقول في الإقامة: أقامها الله وأدامها، اتباعا. 434 - لما في سنن أبي داود، «أن بلالا أخذ في الإقامة، فلما قال: قد قامت الصلاة. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أقامها الله وأدامها» . قال بعض الأصحاب: ويقول في التثويب:

باب استقبال القبلة في الصلاة

صدقت وبررت. قياسا على ما تقدم، ويسن جميع ذلك للمؤذن خفية، وكذلك غير المؤذن يخفيه. والله سبحانه أعلم. [باب استقبال القبلة في الصلاة] باب استقبال القبلة ش: استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة في الجملة، لقول الله سبحانه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ} [البقرة: 144] أي: نحوه. 435 - وعن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم، له ذمة الله، وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته» . رواه البخاري، والله أعلم. [استقبال القبلة في صلاة الخوف] قال: وإذا اشتد الخوف وهو مطلوب ابتدأ الصلاة إلى القبلة، وصلى إلى غيرها راجلا أو راكبا، يومئ إيماء على قدر الطاقة، [ويجعل سجوده أخفض من ركوعه] .

ش: استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة كما تقدم، إلا في موضعين: (أحدهما) : حال المسايفة، وهو حال اشتداد الخوف، وما في معناه؛ كالخوف من سبع، أو سيل، أو هرب مباح من عدو، ونحو ذلك، فله أن يصلي على قدر طاقته؛ راجلا، أو راكبا، إلى القبلة إن أمكن، وإلى غيرها إن عجز، بركوع وسجود مع القدرة، وبالإيماء مع عدمها، على قدر الطاقة، ليأتي بما استطاع، وإن عجز عن الإيماء سقط، وإن احتاج إلى الكر والفر والضرب والطعن؛ فعل، ولا يؤخر الصلاة عن وقتها، لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] . 436 - «وعن نافع عن ابن عمر، أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها، ثم قال: فإن كان خوف [هو] أشد من ذلك صلوا رجالا، قياما على أقدامهم، مستقبلي القبلة وغير مستقبلها» . قال نافع: ولا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه البخاري، وعن أحمد رواية أخرى بالتخيير بين الفعل والتأخير إلى الأمن وإن خرج الوقت. 437 - لما في الصحيحين عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة» . فصلى قوم في الطريق، وقالوا: لم يرد بنا تفويت الصلاة، وأخر قوم الصلاة، حتى وصلوا إلى بني قريظة وقد فاتتهم الصلاة، فلم

يعب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدة من الطائفتين، وجه ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرهم على التأخير، لمصلحة الجهاد» . وأظن عن أحمد رواية أخرى بالتأخير. استدلالا بتأخير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الخندق، والمذهب الأول، وما تقدم قيل: منسوخ بقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ونحوه، (وعلى الأول) ظاهر كلام الخرقي أنه يلزمه افتتاح الصلاة إلى القبلة إن أمكنه ذلك، وهو إحدى الروايتين. 439 - لما روى أنس بن مالك [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أراد أن يصلي على راحلته تطوعا، استقبل القبلة، فكبر للصلاة، ثم خلى عن راحلته، فيصلي حيث [ما] توجهت به» . رواه أحمد، وأبو داود. (والثانية) : لا يلزمه، اختارها أبو بكر، لأنه جزء من أجزاء الصلاة، أشبه بقية أجزائها، والله أعلم.

قال: وسواء كان مطلوبا أو طالبا يخشى فوات العدو، وعن أبي عبد الله [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] رواية أخرى، أنه إذا كان طالبا فلا يجزئه أن يصلي إلا صلاة أمن. ش: حكم الطالب لعدو يخشى فواته حكم المطلوب في إحدى الروايتين، لأن فوات الكافر ربما أدى إلى ضرر عظيم، فأشبه المطلوب. 440 - «وعن عبد الله بن أنيس قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عرفة أو عرفات، قال: «اذهب فاقتله» فرأيته وحضرت الصلاة، فقلت: إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة، فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماء، فلما دنوت منه قال [لي] : من أنت؟ قلت: رجل من العرب، بلغني أنك تجمع لهذا الرجل، فجئتك لذلك، [فقال] : إني لعلى ذلك. فمشيت معه ساعة، حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتى برد» . والظاهر أنه أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو علم جواز ذلك. والرواية (الثانية) - واختارها القاضي -: لا يجوز له أن

صلاة التطوع في السفر على الراحلة

يصلي إلا صلاة أمن، لأن الله تعالى شرط لهذه الصلاة الخوف، وهذا ليس بخائف. والله أعلم. [صلاة التطوع في السفر على الراحلة] قال: وله أن يتطوع في السفر على الراحلة، على ما وصفنا من صلاة الخوف. ش: هذه الحال الثانية [التي] لا يشترط لها الاستقبال، وهي التطوع في السفر [في الجملة] بالإجماع. 441 - وسنده ما روى ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسبح على [ظهر] راحلته، حيث كان وجهه، يومئ برأسه» ، وكان ابن عمر يفعله. وفي رواية: وكان يوتر على بعيره. ولمسلم: غير أنه لا يصلي عليها المكتوبة. متفق عليه، وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] . 442 - قال ابن عمر: نزلت في التطوع في السفر. رواه مسلم وغيره. إذا تقرر هذا فكلام الخرقي يشمل قصير السفر وطويله، وهو صحيح، لعموم ما تقدم. وظاهر كلامه اختصاص الحكم بالمسافر، وهو المذهب من الروايتين، لما تقدم من الآية الكريمة. و (قد) قال ابن عمر: إنها في السفر.

443 - وعن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر، ثم صلى حيث كان وجهة ركابه» . رواه أحمد، وأبو داود، فقيد ذلك بالسفر. (والرواية الثانية) : يجوز ذلك للمقيم السائر في مصره، لأنها رخصة تجوز في قصر السفر، فشرعت في المصر، كالتيمم، وأكل الميتة. وظاهر كلام الخرقي [أيضا] أن الحكم يختص بمن هو على الراحلة، فلا يجوز ذلك للماشي، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، ونصبها أبو محمد للخلاف، لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعل ذلك إلا في حال الركوب، وليس الماشي في معناه، لاحتياجه إلى عمل كثير، ويعضده عموم {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] . (والرواية الثانية) : يجوز ذلك للماشي كالراكب، وبها قطع أبو الخطاب في الهداية، ونصبها أبو البركات، لعموم {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} [البقرة: 115] الآية، ولأنه مسافر سائر، أشبه الراكب، وعلى هذا يستقبل القبلة في الافتتاح، وفي الركوع، وفي السجود، ويسجد بالأرض لتيسر ذلك عليه، ويفعل ما عدا ذلك إلى جهة مسيره، اختاره القاضي، واختار أبو البركات

والآمدي: جواز الإيماء بالكوع والسجود إلى جهة سيره، دفعا لمشقة التوجه، يكررها في كل ركعة. وحكم الصلاة في السفر حكم صلاة الخوف، في أنه إن شق عليه استقبال القبلة كمن جمله مقطور، أو من يعسر عليه الاستدارة بنفسه، أو الركوع والسجود، سقط ذلك عنه، وأومأ كما تقدم. 444 - «قال جابر: بعثني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حاجة، فجئت وهو يصلي على راحلته نحو الشرق، السجود أخفض من الركوع» . رواه أبو داود. وإن تيسر عليه الاستقبال لزمه في ظاهر كلام الخرقي، وبه قطع أبو الخطاب، وقال أبو البركات: إنه ظاهر المذهب، لما سبق من حديث أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، وخرج أبو محمد رواية بعدم اللزوم، من المسألة السابقة، واختاره أبو بكر، لما تقدم من أنه جزء من أجزائها، أشبه بقيتها، ثم يتم إلى جهة سيره، لأنها قبلته، وكذلك إن تيسر عليه الركوع والسجود على ظهر المركوب لزمه ذلك، كما إذا

تمكن من الاستقبال في جميع الصلاة، كالراكب في المحفة الواسعة ونحو ذلك، قال الآمدي: ويحتمل أن لا يلزم شيء في ذلك [لأن] الرخصة تعم، والله أعلم. قال: ولا يصلي في غير هاتين الحالتين فرضا ولا نافلة إلا متوجها إلى الكعبة، فإن كان يعاينها فبالصواب، وإن كان غائبا عنها فبالاجتهاد بالصواب إلى جهتها. ش: قد تقدم أن استقبال القبلة شرط لصحة الصلاة إلا في الحالين السابقين، ثم إن كان يعاينها ففرضه إصابة عينها، لقدرته على ذلك، فيحاذيها بجميع بدنه، بحيث لا يخرج شيء منه عنها، وحكم من كان بمسجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم من كان بمكة، لأن قبلته [متيقنة] الصحة، وإن كان غائبا عن الكعبة [أو عن مسجد الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففرضه الاجتهاد إلى جهة الكعبة] على المشهور من الروايتين، واختاره الخرقي، والشيخان وغيرهما.

445 - لما روى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» رواه ابن ماجه، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. 446 - وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها، ولكن شرقوا أو غربوا» وهذا يدل على أن ما بينهما قبلة. (والرواية الثانية) : يجب الاجتهاد إلى عين الكعبة. اختاره أبو الخطاب في الهداية. 447 - لما روي عن ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل البيت ثم خرج، فركع ركعتين في قبل الكعبة، وقال: «هذه القبلة» متفق [عليه] . فعلى هذه الرواية من تيامن أو تياسر عن سو اجتهاده بطلت صلاته. وعلى الثانية: لا يضر ذلك ما لم يخرج عنها. ويستثنى من قوله: وإن كان غائبا [عنها] إذا كان بالقرب

الاختلاف في تحديد القبلة

منها، كمن بمكة أو قريب منها، والحائل بينهما [حادث] ، كالدور ونحوها، فإن فرضه [تيقن] إصابة عينها إما بنفسه، كمن نشأ بمكة، أو بخبر عالم بذلك كغيره، والله أعلم. [الاختلاف في تحديد القبلة] قال: وإذا اختلف اجتهاد رجلين لم يتبع أحدهما صاحبه. ش: لأن كلا منهما يعتقد خطأ الآخر، أشبها العالمين المجتهدين في الحادثة إذا اختلفا، ولذلك لا يجوز لمن يجتهد منهما اتباع من اجتهد، نعم: إن ضاق الوقت ففيه وجهان. والله أعلم. [تقليد الأعمى والعامي في استقبال القبلة] قال: ويتبع الأعمى [والعامي] أوثقهما في نفسه. ش: هذا المذهب المشهور، لأن الأوثق أقرب وأظهر إصابة في نظره، ولا مشقة عليه في اتباعه، وقد كلف الإنسان في ذلك بغلبة ظنه، وخرج [بعض] الأصحاب [رواية] بتقليد أيهما شاء، بناء على تخيير العامي بين أحد المجتهدين، وفرق أبو البركات بأن لزوم تقليد الأعلم يفضي إلى كلفة ومشقة، بخلاف ما تقدم، ومتى أمكن [الأعمى] الاجتهاد - كأن يعرف مهب الرياح، أو بالشمس ونحو ذلك - فإنه يجتهد ولا يقلد. وحكم البصير [وهو] جاهل بأدلة القبلة -

الحكم لو صلى إلى جهة ثم تبين خطؤها

وإن شرحت له - حكم أعمى البصر. أما إن أمكن الجاهل التعلم والوقت متسع، فإنه يلزمه ذلك، ولا يجوز له التقليد ما لم يضق الوقت، والله أعلم. [الحكم لو صلى إلى جهة ثم تبين خطؤها] قال: وإذا صلى بالاجتهاد إلى جهة، ثم [علم] أنه قد أخطأ القبلة، لم يكن عليه إعادة. ش: لأنه تعذر عليه الوصول إلى جهة الكعبة، أشبه حال المسايفة. 448 - وأهل قباء، [فإنهم] لما بلغهم النسخ في صلاة الصبح استداروا إلى الكعبة، وبنوا على فعلهم، لانتفاء علمهم بالنسخ. 449 - وقد روى «عامر بن ربيعة عن أبيه قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندر أين القبلة، فصلى كل رجل حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنزلت: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] » رواه ابن ماجه، والترمذي وحسنه، والله أعلم.

قال: وإذا صلى البصير في حضر فأخطأ، أو الأعمى بلا دليل أعادا. ش: أما إذا صلى البصير ولو بدليل فأخطأ، فإن كان بمكة، أو بمدينة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعاد، لتركه النص المقطوع به، وكذلك إن كان بغيرهما، على المشهور من الروايتين لتفريطه، إذ يمكنه علم ذلك؛ إما بخبر مخبر [عن يقين] ، أو بمحاريب المسلمين، فهو كتارك النص للاجتهاد. (والرواية الثانية) : لا يجوز له العمل بمحاريب المسلمين ونحو ذلك، بل يلزمه الاجتهاد، حكاها ابن الزاغوني في الوجيز. وأما الأعمى إذا صلى بلا دليل فإن كان مع القدرة على [الدليل] فواضح، وإن أصاب، لأنه ترك فرضه وهو التقليد، وإن عجز عن الدليل فقيل: يعيد لندرة تعذر الدليل، وقيل: لا؛ لأنه لم يترك فرضا مقدورا عليه، [أشبه الغازي، وقيل: إن أخطأ أعاد لما تقدم، وإن أصاب فلا. إذ المقصود الإصابة وقد حصلت، والله أعلم] .

باب صفة الصلاة

قال: ولا يتبع دلالة مشرك بحال. ش: أي وإن كان عالما في دينه، لأنه غير مأمون في ديننا. 450 - ولهذا قال عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : لا تأمنوهم بعد أن خونهم الله. وكذلك الفاسق المسلم، ويقبل خبر الأنثى، ومستور الحال، وفي الصبي المميز وجهان [والله أعلم] . [باب صفة الصلاة] قال: وإذا قام إلى الصلاة قال: الله أكبر. 451 - ش: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «إذا قمت [إلى] الصلاة [فكبر» ] .

اشتراط النية في الصلاة

452 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريمها التكبير» وهو ينصرف إلى التكبير المعهود، وهو: الله أكبر. 453 - وقد روى الترمذي، وابن ماجه عن أبي حميد الساعدي قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه وقال: «الله أكبر» وهذا إخبار عن دوام فعله. 454 - وروى أحمد في مسنده، عن أبي سعيد الخدري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] : «إذا قمتم إلى الصلاة فاعدلوا صفوفكم، وأقيموها، وسدوا الفرج، وإذا قال إمامكم: الله [أكبر] فقولوا: الله أكبر» والتكبير ركن، لما تقدم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريمها التكبير» ولا يصح بغير هذا اللفظ، بألله الأكبر، أو: الكبير أو أكبر الله. ونحو ذلك [والله أعلم] . [اشتراط النية في الصلاة] قال: وينوي بها المكتوبة.

ش: أما اشتراط [أصل] نية الصلاة فمجمع عليه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] والإخلاص محض النية، وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه] قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» ولا بد من تعيين الصلاة [فتعين] أنها ظهر، أو عصر، أو غير ذلك لتتميز عن غيرها، هذا منصوص أحمد، وعليه الأصحاب، وإذا، الألف واللام في كلام الخرقي للعهد، أي ينوي بالتكبيرة المكتوبة [أي] المفروضة الحاضرة، ويجوز أن يريد جنس المكتوبة، أي المفروضة، فيكون ظاهره أنه لا يشترط نية التعيين، بل متى نوى فرض الوقت، وكانت عليه صلاة، لا يدري هل هي ظهر أو عصر، فصلى أربعا ينوي بها ما عليه أجزأه، وقد روي عن أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] ما يدل على ذلك، لكن المذهب الأول. وهل يفتقر مع نية التعيين إلى نية الفرضية، ونية القضاء أو الأداء؟ فيه وجهان: أشهرهما: لا. قال: فإن تقدمت النية قبل التكبير، وبعد دخول الوقت - ما لم يفسخها - أجزأه. ش: لما كان كلامه السابق يقتضي أن النية تقارن التكبير،

رفع اليدين عند افتتاح الصلاة

أردف ذلك ما يدل على أن ذلك على سبيل الاستحباب، وأن النية إذا تقدمت على التكبير أجزأه، وذلك لأن الصلاة عبادة يشترط لها النية، فجاز تقديمها عليها كالصوم، ولأن التكبير جزء من الصلاة، فكفى فيه استصحاب النية حكما لا ذكرا كالصلاة. وشرط الخرقي لذلك شرطين: (أحدهما) : أن يكون ذلك بعد دخول الوقت، وعلى هذا شرح ابن الزاغوني، معللا بأنها ركن، فلا يفعل قبل الوقت كبقية الأركان، وأكثر الأصحاب لا يشترطون هذا الشرط، فإما لإهمالهم له، أو اعتمادا منهم على الغالب. (الشرط الثاني) : أن يستصحب النية حكما، فلو فسخها، أي: قطعها لم يجزئه، لخلو التكبير بل الصلاة عن نية، قال ابن الزاغوني: وكذلك لو اشتغل بفعل يعرض به عن السعي إلى الصلاة. وحكم فسخ النية بعد التكبير حكم الفسخ قبله، ولو تردد في الفسخ فوجهان. ومقتضى كلام الخرقي: أنه لا يشترط كون التقدم بزمن يسير، وعامة الأصحاب على اشتراط ذلك، والله أعلم. [رفع اليدين عند افتتاح الصلاة] قال: ويرفع يديه إلى فروع أذنيه، أو إلى حذو منكبيه. ش: لا خلاف في رفع اليدين [عند افتتاح الصلاة، لما سيأتي من الأحاديث، واختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في منتهى

الرفع، فروي عنه - وهو المشهور - أن الأفضل الرفع إلى حذو المنكبين] . 455 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد» وكان لا يفعل ذلك في السجود» . متفق عليه. 456 - «وعن أبي حميد الساعدي أنه قال في عشرة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنا أعلمكم بصلاته، كان إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه. قالوا: [صدقت] .» رواه أبو داود [والترمذي وصححه] . (وعنه) : الأفضل الرفع إلى فروع أذنيه، أي يبلغ بأطراف أصابعه أعلى أذنيه. 457 - لما روى مالك بن الحويرث «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا كبر رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه، [وإذا ركع رفع يده حتى يحاذي بهما أذنيه] وإذا رفع رأسه من الركوع رفع وقال: «سمع الله لمن حمده» فعل مثل ذلك» . رواه مسلم وغيره

وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة

وهذا يشتمل على زيادة، فالأخذ به أولى. (والثالثة) : أنه يخير بين هاتين الصفتين، اختارها الخرقي، لصحة الرواية بهما، فدل على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مرة يفعل هذا، وتارة يفعل هذا، والله أعلم. [وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة] قال: ثم يضع يده، اليمنى على كوعه [اليسرى] . 458 - ش: لما «روى وائل بن حجر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أنه رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع يديه حين دخل في الصلاة، ثم التحف بثوبه، ثم وضع اليمنى على اليسرى» ، رواه أحمد ومسلم وفي لفظ لأحمد وأبي داود: وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى، والرسغ والساعد. قال: ويجعلهما تحت سرته. ش: هذا إحدى الروايات عن أحمد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] .

دعاء الاستفتاح في الصلاة

459 - لما روى أحمد، وأبو داود، «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من السنة وضع الأكف في الصلاة تحت السرة» . والسنة المطلقة تنصرف إلى سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (والرواية الثانية) : الأفضل جعلهما تحت صدره. 460 - لما «روى قبيصة بن هلب، عن أبيه قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضع يده على صدره» - ووصف يحيى بن سعيد - اليمنى على اليسرى، فوق المفصل، رواه أحمد. (والثالثة) : التخيير بين الصفتين، اختارها ابن أبي موسى، وأبو البركات، لورود الأمر بهما. قال أبو البركات: وعلى الروايات فالأمر [في الأمرين] واسع، لا كراهة لواحد منهما، [والله أعلم] . [دعاء الاستفتاح في الصلاة] قال: ويقول: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» .

461 - ش: لما روى أبو سعيد الخدري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا افتتح الصلاة قال: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك» . رواه الخمسة. 462 - وروي من حديث عمر، وأنس، وعائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -] . 463 - واحتج أحمد بأن عمر كان إذا افتتح الصلاة قال: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك. ويسمع ذلك.

الاستعاذة في الصلاة

464 - وروي عن أبي بكر، وعثمان، وابن مسعود ولو استفتح بغير هذا مما روي وصح؛ جاز، نص عليه، [والله أعلم] . [الاستعاذة في الصلاة] قال: ثم يستعيذ. ش: لقول الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] أي: إذا أردت القراءة. 465 - يبينه ما روى أحمد والترمذي عن أبي سعيد الخدري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا قام إلى الصلاة استفتح، ثم يقول: «أعوذ بالله [السميع العليم] ، من الشيطان الرجيم، [من] همزه، ونفخه، ونفثه» . وصفة الاستعاذة: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. (في رواية) اختارها القاضي في الجامع الصغير، وأبو محمد في المقنع، لظاهر الآية، وقال ابن المنذر: جاء عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول قبل القراءة: «أعوذ بالله من الشيطان

الرجيم» . (وفي أخرى) : «أعوذ بالله السميع العليم، من الشيطان الرجيم» لحديث أبي سعيد. (وفي ثالثة) : «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم» . واختارها أبو بكر في التنبيه، والقاضي في المجرد، وابن عقيل، جمعا بين قَوْله تَعَالَى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] وقوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] . وفي رواية [رابعة] : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم؛ لأن قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] لا بد أن يقدر فيه: من الشيطان. ويجوز أن يقدر قبل، وأن يقدر بعد، فجمعنا بينهما، عملا بما قال الشيخان، والأمر في هذا واسع، ومهما استعاذ به جاز بلا كراهة. (تنبيه) : والاستفتاح والاستعاذة مسنونان، نص عليه، محتجا بأن ابن مسعود وأصحابه كانوا لا يعرفون الافتتاح،

القراءة في الصلاة

يكبرون ويقرءون، وذهب ابن بطة إلى وجوبهما. [والله أعلم] . [القراءة في الصلاة] قال: ثم يقرأ: " الحمد لله رب العالمين ". 466 - ش: في الصحيحين عن عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين» . ولا خلاف في أن القراءة ركن في الصلاة، واختلف في تعيين الفاتحة، فالمعروف المشهور، وعليه الأصحاب تعيينها.

467 - لما روى عبادة بن الصامت [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . رواه الجماعة. وفي لفظ: «لا يجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» . رواه الدارقطني، وقال: إسناده صحيح. 468 - وعن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب؛ فهي خداج، هي خداج غير تمام» رواه الجماعة إلا البخاري. والخداج: النقصان في الذات، حكاه أبو عبيد عن الأصمعي. (وعنه) : لا تتعين، بل يجزئ قراءة آية، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20] وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للأعرابي: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» . وتتعين القراءة في كل ركعة

على المذهب بلا ريب، وعنه: تجب في ركعتين لا غير، [والله أعلم] . قال: يبتدئها ببسم الله الرحمن الرحيم. 469 - ش: لما روى «نعيم المجمر قال: صليت وراء أبي هريرة فقرأ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، ثم قرأ بأم القرآن، حتى إذا بلغ {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين. وقال الناس: آمين. ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس من الثنتين: الله أكبر. ثم يقول إذا سلم: والذي نفسي بيده، إني لأشبهكم صلاة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه النسائي، ورواه ابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي، والخطيب، وصححوه. 470 - «وعن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم» . رواه أحمد، والنسائي، وابن خزيمة والدارقطني، وفي لفظ لابن خزيمة، والطبراني: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وأبو بكر، وعمر» ، زاد ابن خزيمة في الصلاة.

الجهر بالبسملة في الصلاة

(تنبيه) : الإجماع على أن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) بعض آية في سورة النمل واختلف هل هي آية مفردة في أول كل سورة، وفيه روايتان، المنصوص عنه - وعليه عامة أصحابه - نعم، ولا خلاف عنه نعلمه أنها ليست آية من أول كل سورة إلا في الفاتحة، على رواية اختارها ابن بطة، وصاحبه أبو حفص، والمشهور خلافها، والله أعلم. [الجهر بالبسملة في الصلاة] قال: ولا يجهر بها. ش: لا يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وإن قلنا: إنها من الفاتحة، لما تقدم من حديث أنس. 471 - وفي لفظ البخاري عنه: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» . وفي رواية مسلم: لا يذكرون (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) في أول قراءة ولا في آخرها. وعن الدارقطني: لم يصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجهر حديث، أما عن الصحابة فمنه صحيح، ومنه ضعيف. وزعم بعض الأصحاب أنا إذا قلنا: إنها من

التأمين بعد قراءة الفاتحة في الصلاة

الفاتحة [جهر بها كما يجهر بالفاتحة] (ونص أحمد) على [أن] من صلى بالمدينة جهر بها، ليبين أنها سنة، لأن أهل المدينة ينكرونها. 472 - كما جهر ابن عباس بقراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، والله أعلم. [التأمين بعد قراءة الفاتحة في الصلاة] قال: فإذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين. ش: إذا قال المصلي: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: آمين؛ سواء كان منفردا، أو إماما، أو مأموما، قالها إمامه أو لم يقلها. 473 - لما روى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمن الإمام فأمنوا، فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه» متفق عليه، والمنفرد في معناهما، ويجهر بها فيما يجهر به. 474 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا تلا: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] قال: «آمين» حتى يسمع من يليه من الصف الأول» . رواه أبو داود، وابن ماجه، وقال: حتى يسمعها أهل الصف الأول، فيرتج [بها] المسجد.

قراءة السورة بعد الفاتحة في الصلاة

والسنة أن يؤمن المأموم والإمام معا، ليوافقا تأمين الملائكة. 475 - وفي النسائي والمسند من حديث أبي هريرة: «إذا قال الإمام {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7] فقولوا: آمين. فإن الملائكة تقول: آمين. وإن الإمام يقول: آمين. فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه» . (وقوله) : إذا أمن الإمام فأمنوا. أي: إذا شرع، أو إذا أراد، جمعا بين الحديثين والمعنى، والله أعلم. [قراءة السورة بعد الفاتحة في الصلاة] قال: ثم يقرأ سورة في ابتدائها (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . ش: أما قراءة السورة بعد الفاتحة فسنة مجمع عليها. 476 - لما روى أبو قتادة الأنصاري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، يسمع الآية أحيانا، وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين، يطول في الأولى ويقصر في الثانية، وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح، ويقصر في الثانية، وفي الركعتين الأخيرتين

بأم الكتاب» . متفق عليه، في أحاديث أخر، وأما كونه يبتدئها ببسم الله الرحمن الرحيم، فقد نص عليه أحمد. 477 - محتجا بأن ابن عمر كان لا يدع بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لأم القرآن، وللسورة التي بعدها. والله أعلم. قال: فإذا فرغ كبر للركوع. 478 - ش: لما روى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: «سمع الله لمن حمده» حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: «ربنا ولك الحمد» ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في صلاته كلها حتى يقضيها، ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس» . متفق عليه. وهذا التكبير واجب في رواية مشهورة، وفي أخرى فرض، وفي ثالثة فرض إلا في حق المأموم فواجب، وفي رابعة سنة، أما الركوع فركن بالإجماع، قال سبحانه:

رفع اليدين عند الركوع

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] الآية. [رفع اليدين عند الركوع] قال: ويرفع يديه كرفعة الأول. ش: يعني إلى حذو منكبيه، أو إلى فروع أذنيه، وقد تقدم ذلك والخلاف فيه، والأصل في الرفع (هنا) حديث ابن عمر، ووائل بن حجر وقد تقدما. 479 - «وعن أبي حميد الساعدي أنه قال في عشرة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحدهما أبو قتادة: أنا أعلمكم بصلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قالوا: ما كنت أقدمنا له صحبة، ولا أكثرنا له إتيانا. قال: بلى. قالوا: فاعرض. فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائما، ورفع يديه حتى يحاذي منكبيه، فإذا أراد أن يركع رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم قال: " الله أكبر " وركع، ثم اعتدل، فلم يصوب رأسه ولم يقنعه، ووضع يديه على ركبتيه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده» ورفع يديه واعتدل، حتى يرجع كل عظم موضعه معتدلا، ثم هوى إلى الأرض ساجدا، ثم قال: «الله أكبر» ، ثم ثنى رجليه وقعد عليها، واعتدل، حتى يرجع كل عظم موضعه، ثم نهض، ثم صنع في الركعة الثانية مثل ذلك، حتى إذا قام من السجدتين كبر، ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما صنع حين افتتح الصلاة، ثم صنع ذلك، حتى إذا كانت الركعة التي تنقضي فيها الصلاة أخر رجله

صفة الركوع

اليسرى، وقعد على شقه متوركا، ثم سلم. قالوا: صدقت، هكذا صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وسمى أبو داود في رواية من العشرة أبا هريرة، وأبا أسيد، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة. [صفة الركوع] قال: ثم يضع يديه على ركبتيه، ويفرج أصابعه. ش: لحديث أبي حميد [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] . 480 - وعن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: إن الركب سنت لكم، فخذوا بالركب. رواه النسائي والترمذي وصححه. قال: ويمد ظهره، ولا يرفع رأسه ولا يخفضه. ش: لحديث أبي حميد. 481 - وفي الصحيح عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا ركع لم يشخص رأسه ولم يصوبه، ولكن بين ذلك» .

التسبيح في الركوع

482 - وعن وابصة بن معبد، قال: «رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي، وكان إذا ركع سوى ظهره، حتى لو صب عليه الماء لاستقر» . رواه ابن ماجه. وقدر الإجزاء الانحناء، بحيث يمكنه مس ركبتيه بيديه، لأنه لا يسمى راكعا [بدونه] ، والاعتبار بمتوسطي الناس، لا بطويل اليدين، ولا بقصيرها، قال أبو البركات: وضابط الإجزاء الذي لا يختلف أن يكون انحناؤه إلى الركوع المعتدل أقرب منه إلى القيام المعتدل، والله أعلم. [التسبيح في الركوع] قال: ويقول [في ركوعه] : سبحان ربي العظيم. ثلاثا، وهو أدنى الكمال، وإن قال مرة أجزأه. 483 - ش: عن «حذيفة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: صليت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان يقول في ركوعه: «سبحان ربي العظيم» ، وفي سجوده: «سبحان ربي الأعلى» رواه الجماعة إلا البخاري. 484 - وعن عقبة بن عامر قال: «لما نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجعلوها في ركوعكم» ، فلما نزلت:

{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجعلوها في سجودكم» رواه أحمد، وأبو داود. 485 - وعن ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ركع أحدكم فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم. ثلاث مرات، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا سجد فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى. ثلاث [مرات] ، فقد تم سجوده، وذلك أدناه» . رواه أبو داود، والترمذي، وهو مرسل، وإنما أجزأت المرة لظاهر حديث عقبة. وقد تضمن كلام الخرقي وجوب التسبيح [في الرجوع] وسيصرح به، وهو المشهور لما تقدم. (وعنه) : أنه فرض، (وعنه) : أنه سنة. (تنبيه) : غاية الكمال لا حد لها عند القاضي، ما لم يطل ما يخاف عليه منه السهو، وقال بعض الأصحاب: غايته أن

رفع الرأس من الركوع وقول سمع الله لمن حمده

يسبح قدر قيامه، لصحة ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقيل: الكمال عشر تسبيحات. هذا كله في المنفرد. أما الإمام فظاهر كلام أحمد واختاره أبو البركات: [أن يستحب] أن يزيد على [أدنى] الكمال قليلا، فيسبح ما بين الخمس إلى العشر، وقال القاضي: لا يستحب الزيادة على الثلاث، حذارا من المشقة على المأمومين. والله أعلم. [رفع الرأس من الركوع وقول سمع الله لمن حمده] قال: [ثم يرفع رأسه] ، ثم يقول: سمع الله لمن حمده. [ويرفع يديه كرفعه الأول] . ش: أي ثم يقول: سمع الله لمن حمده. حين يرفع رأسه من الركوع، أما قوله: سمع الله لمن حمده. فقد تقدم في حديث أبي هريرة، وأبي حميد، وابن عمر، وأما الرفع إذا فتقدم أيضا في حديث ابن عمر، وأبي حميد، ومالك بن الحويرث، وقوله: سمع الله لمن حمده. واجب في المشهور، (وعنه) : سنة، أما الرفع من الركوع والاعتدال عنه ففرضان، لحديث المسيء في صلاته. قال: ثم يقول: ربنا ولك الحمد. ش: يعني إذا اعتدل قائما، لما تقدم من حديث أبي هريرة،

وابن عمر، وحكم التحميد في الوجوب حكم التسميع، ويخير بين إثبات الواو وحذفها، والأفضل إثباتها نص عليه. 486 - للاتفاق عليه من رواية أنس، وأبي هريرة، وابن عمر. والأفضل مع تركها: اللهم ربنا لك الحمد. نص عليه. 487 - لأنه متفق عليه من حديث أبي هريرة، ويجوز: ربنا لك الحمد. 488 - لما روى مسلم من حديث أبي سعيد.

489 - و «اللهم ربنا ولك [الحمد] » كما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه، [والله أعلم] . قال: ملء السماء، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد. فإن كان مأموما لم يزد على قوله: ربنا ولك الحمد. ش: هذا الذكر مشروع في هذه الحال في الجملة. 490 - لما روى علي بن أبي طالب [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا رفع رأسه من الركوع قال: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما

بينهما، وملء ما شئت من شيء بعد» رواه مسلم وغيره. 491 - وعن ابن أبي أوفى مثل ذلك، رواه مسلم. واختلف عن أحمد لمن شرع هذا الذكر، ولا خلاف عنه أن الإمام يقوله، وكذلك ما قبله. 492 - لحديث علي، وابن أبي أوفي وغيرهما (واختلف عنه) في المنفرد، فالمشهور عنه - وهو اختيار الأصحاب -: أنه يقول الجميع كالإمام، إذ الأصل التأسي بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

493 - لا سيما وقد عضده قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . (وعنه) : يقتصر على التسميع والتحميد، ولا يقول: ملء السماء. إلى آخره، حطا له عن رتبة الأمام، ورفعا له عن رتبة المؤتم، لأنه أكمل منه، لعدم تبعيته. (وعنه) : يقتصر على التحميد فقط، وفيها ضعف. أما المؤتم فالمشهور عنه - وعليه جمهور الأصحاب الخرقي وغيره -: أنه يقتصر على التحميد، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا ولك الحمد» وظاهره أن التحميد وظيفة المؤتم. (وعنه) - واختاره أبو البركات -: أنه يأتي بالتحميد، وملء السماء، إلى آخره، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . خرج منه التسميع لأنه أمره بالتحميد عقب تسميع إمامه، ولو شرع له التسميع لأمر به عقب تسميع إمامه، كما أمر بالتكبير عقب تسميع إمامه، وهذا اختيار أبي الخطاب، وكلامه محتمل لأنه يسمع أيضا، وعليه اعتمد أبو البركات فقال: ظاهر كلامه أنه يأتي بالتسميع وما بعده، ونفى ذلك أبو محمد فقال: لا أعلم خلافا في المذهب أن المؤتم لا يسمع. والله أعلم.

التكبير للسجود

[التكبير للسجود] قال: ثم يكبر للسجود، ولا يرفع يديه. ش: أما التكبير [للسجود] فقد تقدم في حديث أبي هريرة وغيره، وأما عدم الرفع في السجود فلحديث ابن عمر وغيره، وعنه يسن الرفع، والمذهب الأول، وحكم التكبير في السجود والرفع منه حكم التكبير في الركوع، وقد تقدم، [والله أعلم] . [صفة السجود] قال: ويكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه، ثم يداه، ثم جبهته وأنفه. ش: هذا المشهور عن أحمد، وعليه عامة أصحابه. 494 - لما «روى وائل بن حجر قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه» . رواه الخمسة إلا أحمد، وقال الحاكم:

على شرط مسلم. (وعن أحمد) : يضع يديه قبل ركبتيه.

495 - لما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه» . رواه الخمسة إلا ابن ماجه وقد ضعف. والسجود على

هذه الأعضاء فرض، لا يكون ساجدا بدونها، أعني الركبتين واليدين، والجبهة، وكذلك القدمين. 496 - لما روى عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، على الجبهة - وأشار بيده على أنفه - واليدين، والركبتين وأطراف القدمين» متفق عليه، ولمسلم «أمرت أن أسجد على سبع؛ الجبهة، والأنف، واليدين، والركبتين، والقدمين» وقيل عنه: لا

يجب السجود على غير الجبهة، لأنه يسمى ساجدا بوضعها، وإن أخل بغيرها، أما الأنف ففيه روايتان مشهورتان: إحداهما: فرضيته كالجبهة، قال القاضي: اختاره أبو بكر، وجماعة من أصحابنا، لما تقدم من عد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له في المأمور به. 497 - وعن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة لمن لم يضع أنفه على الأرض» رواه الدارقطني. (والثانية) : ليس بفرض. اختارها القاضي، لأنه صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أعضاء السجود سبعة، وعدها في الصحيح بدونه، وقال: «سبعة أعظم» . وطرف الأنف الذي يسجد عليه ليس بعظم، فعلم أن الإشارة إليه أو عده تنبيه على تبعيته، واستحباب السجود عليه جمعا بين الأدلة، وإلا فيلزم كونها ثمانية، وهو خلاف النص، واستيعاب العضو الواحد بذلك، وهو خلاف الإجماع، فإنه لو سجد على بعض يده - حتى على بعض أطراف أصابعها، أو ظهرها، أو ظهر قدميه - أجزأه. ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يجب عليه مباشرة المصلى بشيء من أعضاء سجوده، وهو إجماع في القدمين، والركبتين، وقول الجمهور في اليدين.

498 - ويدل عليه ما روى أحمد، وابن ماجه «، عن عبد الله بن عبد الرحمن قال: جاءنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بنا في مسجد بني عبد الأشهل، فرأيته واضعا يديه في ثوبه إذا سجد» . أما الجبهة ففي المباشرة بها قولان مشهوران، هما روايتان عن أحمد، أصحهما عند أبي البركات - واختارها أبو بكر والقاضي - لا يجب. 499 - لما روى «أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شدة الحر، فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر مكان السجود» . رواه البخاري. (والثانية) : تجب المباشرة إلا من عذر. 500 - لما روى «خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا» .

التسبيح في السجود

(ومحل الروايتين) فيما إذا سجد على كور عمامته أو ذؤابتها، أو ذيله، ونحو ذلك مما هو حامل له منفصل عنه، وأصل السجود فرض بالإجماع، وبنص الكتاب، والله أعلم. قال: ويكون في سجوده معتدلا. 501 - ش: في الصحيحين عن أنس [رضي لله عنه] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب» . قال: ويجافي عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويكون على أطراف أصابعه. 502 - ش: لما روى أبو حميد الساعدي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض، من الأرض، ونحى يديه عن جنبيه، ووضع كفيه حذو منكبيه» ، رواه الترمذي وصححه، ولأبي داود: كان إذا سجد فرج بين فخذيه، غير حامل بطنه على شيء من فخذيه، [والله أعلم] . [التسبيح في السجود] قال: ثم يقول: سبحان ربي الأعلى. ثلاثا، وإن قال مرة أجزأه. ش: حكم التسبيح في السجود حكم التسبيح في الركوع، وقد تقدم [ذلك] ودليله.

رفع الرأس من السجود

[رفع الرأس من السجود] قال: ثم يرفع رأسه مكبرا. ش: أما التكبير فلما تقدم من حديث أبي هريرة وغيره، وأما الرفع والاعتدال عنه، فلحديث الأعرابي: «ثم ارفع حتى تطمئن جالسا» ، وهما فرضان كذلك، والله أعلم. قال: فإذا جلس واعتدل يكون جلوسه على رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى. ش: لما تقدم من حديث أبي حميد الساعدي، في عشرة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي الصحيح عن عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] ، «وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى» . والله أعلم. [الدعاء بين السجدتين] قال: ويقول: رب اغفر لي، رب اغفر لي. ش: ظاهر كلام الخرقي أن السنة أن يقول رب اغفر لي، مرتين فقط، وهو قول ابن أبي موسى. 503 - لما روى حذيفة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول بين السجدتين: «رب اغفر لي، رب اغفر لي» رواه الخمسة، إلا الترمذي، والمشهور أن حكم: رب اغفر لي، حكم

التسبيح، في أن المرة تجزئه، وأن أدنى الكمال ثلاث، وأن كماله نحو قيامه، أو ما لم يخف منه السهو، أو عشرا على ما تقدم، وحديث حذيفة أراد به التكرار في الجملة لأن في أوله من رواية أبي داود: كان يقعد بين السجدتين نحوا من سجوده. (وهل) سؤال المغفرة والحال هذه واجب أو مسنون؟ فيه روايتان؛ المشهور الأول. والله أعلم. قال: ثم يكبر ويخر ساجدا. ش: أما السجدة الثانية ففرض مجمع عليه، وأما التكبير فلما سبق، ويقول فيها ما يقول في السجدة الأولى من التسبيح. [ولله أعلم] . قال: ثم يرفع رأسه مكبرا، ويقوم على صدور قدميه، معتمدا على ركبتيه. ش: أما التكبير حال الرفع فلما تقدم. 504 - وأما القيام على هذه الصفة؛ فلأن في «حديث وائل بن حجر في

لفظ لأبي داود: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نهض نهض على ركبتيه، واعتمد على فخذيه» . 505 - وعن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يعتمد الرجل على يديه إذا نهض في الصلاة» . رواه أبو داود. [والله أعلم] . قال: إلا إن يشق ذلك عليه فيعتمد بالأرض. 506 - ش: لأن في حديث مالك بن الحويرث «في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لما رفع رأسه من السجدة الثانية جلس، ثم قام واعتمد بالأرض» . رواه النسائي، والبخاري بمعناه، فحملناه على حال العذر لكبر ونحوه، جمعا بينه وبين ما تقدم.

وقد اقتضى كلام الخرقي أنه لا يجلس جلسة الاستراحة، وهو المختار من الروايتين عند ابن أبي موسى، [والقاضي] ، وابنه أبي الحسين، قاله ابن الزاغوني، وجماعة من المشايخ. 507 - لأنه قول عمر، وعلي، وابن مسعود، حكاه أحمد عنهم، وذكره ابن المنذر عن ابن عباس، قال أحمد: وأكثر الأحاديث على هذا. وقال أبو الزناد: تلك السنة. وقال

الترمذي: العمل عليه عند أهل العلم. (والرواية الثانية) : أنه يجلس للاستراحة، اختارها أبو بكر عبد العزيز وشيخه أبو بكر الخلال، وزعم أن أحمد رجع عن الأولى لما تقدم

من حديث أبي حميد ومالك بن الحويرث، وحملا على

أنه فعله لما بدن وكبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكذلك نقول جمعا بين الأدلة، وإلا فمثل هذا لا [يخفى عن] عمر، وعلي، وغيرهما. وعلى هذه الرواية يجلس على قدميه وإليتيه، ويمس بهما الأرض، نص عليه في رواية المروذي، لتفارق الجلسة بين السجدتين.

508 - وعليه يحمل قول ابن عباس في الإقعاء على القدمين: هو سنة نبيكم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للاتفاق على أنه لا يستحب في غير هذه الصورة، وقال الآمدي: يجلس على قدميه ولا يلصق إليتيه بالأرض، وزعم أن الأصحاب لا تختلف في ذلك، قال القاضي: ويحتمل أنه يجلس مفترشا، لحديث أبي حميد المتقدم، والله أعلم. قال: ويفعل في الثانية مثل ما فعل في الأولى. ش: لأن في حديث الأعرابي: «وافعل ذلك في صلاتك كلها، حتى تقضيها» ويستثنى من ذلك الافتتاح بالتكبير، لأنه وضع للدخول في الصلاة، وكذلك الاستفتاح. 509 - وفي مسلم من حديث أبي هريرة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا نهض إلى الركعة الثانية استفتح القراءة بالحمد لله

كيفية الجلوس للتشهد

رب العالمين، ولم يسكت» . واختلف في الاستعاذة، فعنه: لا تستثنى، فيستعيذ في كل ركعة، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] (وعنه) : استثناؤها، اكتفاء بالاستعاذة في أول مرة، جعلا لقراءة الصلاة وإن تفرقت كالقراءة الواحدة، ولظاهر خبر أبي هريرة، نعم لو نسي التعوذ في الأولى أتى به في الثانية، على كلتا الروايتين. واستثنى أبو الحطاب تجديد النية، لاستصحابها حكما، قال أبو البركات: وترك استثنائها أحسن، لأنها شرط لا ركن، ويجوز أن تتقدم الصلاة اكتفاء بالدوام الحكمي، والله أعلم. [كيفية الجلوس للتشهد] قال: فإذا جلس فيها للتشهد يكون كجلوسه بين السجدتين. ش: يعني إذا صلى الركعة الثانية، وجلس فيها للتشهد، جلس كما جلس بين السجدتين، لما تقدم في حديث أبي حميد الساعدي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] والله أعلم.

قال: ثم يبسط كفه اليسرى على فخذه اليسرى. 510 - ش: لما روى ابن عمر، قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه التي تلي الإبهام، فدعا بها ويده اليسرى على ركبته، باسطها عليها» . رواه مسلم وغيره، وقوله: على فخذه اليسرى. أي لا يخرج بها عنها، بل يجعل أطراف أصابعه [مسامتة] للركبة [والله أعلم] . قال: ويده اليمنى على فخذه اليمنى، ويحلق الإبهام مع الوسطى. ش: أي ويضع يديه اليمنى بقرينة: ويحلق. 511 - لما «روى وائل بن حجر في صفة صلاة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه وضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد من أصابعه الخنصر والذي يليها، وحلق حلقة بإصبعه الوسطى على الإبهام، ورفع السبابة يشير بها» . رواه أحمد، وأبو داود. (وعن أحمد) أنه يقبض الثلاث، ويعقد الإبهام كعقد الخمسين، واختارها أبو البركات، والأول اختيار أبي محمد.

ألفاظ التشهد

512 - لما روى ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في التشهد وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثا وخمسين، وأشار بالسبابة» . رواه أحمد ومسلم. (وعنه) رواية ثالثة أنه يبسط الجميع، ليستقبل بهن القبلة كما في حال السجود. [والله أعلم] . قال: ويشير بالسباحة. ش: سميت مسبحة لأنه يشار بها للتوحيد، فهي منزهة مسبحة، وتسمى سبابة لأنهم كانوا يشيرون بها إلى السب، والأصل في الإشارة بها ما تقدم، وموضع الإشارة بها عند ذكر الله تعالى، للتنبيه على الوحدانية. 513 - وقد روى أبو هريرة أنه رجلا كان يدعو بأصبعيه فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحد أحد» . رواه النسائي. [والله أعلم] . [ألفاظ التشهد] قال: ويتشهد فيقول: «التحيات لله، والصلوات،

والطيبات، والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله» . وهو التشهد الذي علمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الله بن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] . 514 - ش: في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «كنا إذا جلسنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[في الصلاة] قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان. فسمعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم فليقل: التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو» . وفي لفظ: «علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التشهد كفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن» ، وهذا التشهد هو المختار عند أحمد. 515 - ولو تشهد بغيره مما ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كتشهد ابن عباس، وابن عمر، وأبي موسى الأشعري وغيرهم جاز، نص عليه،

وإنما اختار ما تقدم لاتفاق الشيخين عليه، واتفاق ألفاظه، وكون أكثر أهل العلم عليه، وكون الأمر بخلاف ذلك في غيره، ولأنه اختص بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتعليمه، ففي مسند أحمد أنه أمر ابن مسعود أن يعلمه الناس وهذا التشهد، والجلوس لو واجبان لا سنة على المشهور من الروايتين. (تنبيه) : قال جماعة من الأصحاب - منهم ابن حامد وغيره -: إنه لو ترك حرفا من تشهد ابن مسعود أعاد الصلاة. واختار القاضي والشيخان أنه متى ترك شيئا ثابتا في جميع التشهدات أعاد، وإن ترك شيئا ساقطا في بعضها أجزأه

التورك في الجلوس للتشهد الأخير

فعلى هذا المجزئ [التحيات] لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، أو عبده ورسوله» . ومعنى «التحيات» : الملك لله، قاله أبو عمرو وجماعة من أئمة اللغة، وقيل: البقاء. وقيل غير ذلك. والله أعلم. قال: ثم ينهض مكبرا كنهوضه من السجود. ش: يعني قائما على صدور قدميه، معتمدا على ركبتيه مكبرا، وقد تقدم التكبير في حديث أبي هريرة وغيره، والله أعلم. [التورك في الجلوس للتشهد الأخير] قال: فإذا جلس للتشهد الأخير تورك. ش: مذهبنا أنه يجلس مفترشا في جميع جلسات الصلاة إلا

في التشهد الأخير من صلاة فيها تشهدان أصليان، فإنه يتورك، والعمدة في ذلك حديث أبي حميد في عشرة من الصحابة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فإنه وصف جلسته بين السجدتين، وفي التشهد الأول مفترشا، وفي الثاني متوركا. [والله علم] . قال: فينصب رجله اليمنى، وجعل باطن رجله اليسرى تحت فخذه اليمين، وجعل إليتيه على الأرض. ش: هذا اختيار القاضي وأبي البركات. 516 - لأن في حديث ابن الزبير: «كان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا قعد في الصلاة جعل قدمه اليسرى تحت فخذه اليمنى وساقه» . ونقل عنه الأثرم أنه يفرش رجله اليسرى، وينصب اليمنى، ويخرجهما من تحته إلى جانب يمينه، واختاره أبو الخطاب لأن في حديث أبي حميد الساعدي: فإذا كان في الرابعة أفضى بوركه اليسرى إلى الأرض، وأخرج قدميه من ناحية واحدة. قال أبو محمد: وأيهما فعل فحسن. وهذا التشهد والجلوس من أركان

الصلاة، أما الأول وجلسته فمن الواجبات، لا من السنن على الصحيح، والله أعلم. قال: ولا يتورك إلا في صلاة فيها تشهدان، في الأخير منهما. ش: قد تقدم ذلك، والله أعلم. قال: ويتشهد بالتشهد الأول. 517 - ش: روى أحمد والنسائي من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات لله» . وذكره، والتشهد الأخير والجلوس له ركنان، لهذا الحديث، ولما تقدم أيضا من حديث ابن مسعود. 518 - وقد روى الدارقطني - وقال: إسناده صحيح. «عن ابن مسعود قال: كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقولوا هكذا، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا التحيات لله» .

الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير

519 - وروى سعيد عن عمر أنه لا تجزئ صلاة إلا بتشهد، ولا يعرف له مخالف، والله أعلم. [الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير] قال: ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ش: لا إشكال في مطلوبية الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التشهد الأخير، واختلف في حكمها، فعنه أنها فرض، وعنه أنه سنة، وعنه أنها واجبة، وهي اختيار الخرقي، وأبي البركات، ونقل عنه أبو زرعة رجوعه عن الثانية. [والله أعلم] . قال: فيقول: «اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد» ش؛ هذا هو المشهور من الروايتين، واختيار أكثر الأصحاب. 520 - لما روى كعب بن عجرة قال: قلنا: «يا رسول الله قد علمنا، أو عرفنا، كيف السلام عليك؛ فكيف الصلاة؟ قال: «قولوا

اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد، وآل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد» ، متفق عليه، وفي لفظ لمسلم «وبارك» . (والثانية) يقول: «كما صليت على إبراهيم، وآل إبراهيم» ، وكذلك: «كما باركت على إبراهيم، وآل إبراهيم» ، اختارها ابن عقيل. 521 - وكذلك روي في حديث كعب، رواه النسائي وأحمد. وقدر المجزئ من ذلك، الصلاة عليه وعلى آله وآل إبراهيم، وذكر البركة كذلك، إلى «حميد مجيد» اختاره ابن حامد، وأبو الخطاب، لظاهر الأمر بذلك في حديث كعب، واختار القاضي والشيخان أن المجزئ الصلاة عليه فقط، لأنه الذي اتفقت عليه أحاديث الأمر بها، وما عداه سقط في بعضها. 522 - وفي الترمذي - وصححه - عن فضالة بن عبيد قال: «سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته، ولم يصل عليه، فقال النبي

الدعاء في التشهد الأخير

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عجل هذا» ، ثم دعاه فقال له، أو لغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ليدع بعد بما شاء» . والسنة تقديمه على الصلاة، وترتيبه فإن لم يفعل، بل نكس من غير تغيير ولا إخلال ففي الإجزاء وجهان، وكذلك في إبدال لفظة الآل بالأهل وجهان، والله أعلم. [الدعاء في التشهد الأخير] قال: ويستحب أن يتعوذ من أربع فيقول: أعوذ بالله من عذاب جهنم، وأعوذ بالله من عذاب القبر، وأعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بالله من فتنة المحيا والممات. 523 - ش: في صحيح مسلم وغيره، من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال» .

524 - وفي الصحيح أيضا أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدعو بذلك. قال: فإن دعا في تشهده بما ذكر في الأخبار فلا بأس. 525 - ش: نحو ما روي «عن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» ، متفق عليه. 526 - (وعن علي) [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان من آخر ما يقول بين التشهد والتسليم: «اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت» ، رواه الترمذي وصححه. 527 - «وعن معاذ) بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إني أوصيك بكلمات تقولهن في كل صلاة، اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك» ، رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود.

528 - «وعن عاصم) بن كليب، عن أبيه، عن جده قال: دخلت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يصلي وقد قبض أصابعه وبسط السبابة، وهو يقول: «يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك» ، رواه الترمذي. 529 - (وعن شداد) بن أوس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في صلاته: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، وأسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، ولسانا صادقا، وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفر لما تعلم» ، رواه النسائي. ولا يتعين [غير] ما ورد به الخبر، بل ما في معناه، مما يعود إلى أمر الآخرة، ويتضمن قربة وطاعة، كالدعاء

بالرزق الحلال، ونحو ذلك، نص عليه، واختاره وذكره القاضي، واختاره الشيخان، لتضمنه معنى ما ورد به الأثر. 530 - وفي أبي داود أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: «كيف تقول في الصلاة» ؟ قال: أتشهد ثم أقول: اللهم إن أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، أما إني لا أحسن دندنتك، ولا دندنة معاذ. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حولها ندندن» . وقال أبو محمد: إن ظاهر كلام الخرقي وجماعة من الأصحاب أنه لا يجوز الدعاء بغير مأثور، ولا إشكال أنه لا يجوز على المذهب الدعاء بما يرجع إلى محض طلب الدنيا وشهواتها، نحو: اللهم ارزقني جارية حسناء، وحلة خضراء. 531 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الآدميين، إنما هي التكبير، والتسبيح وقراءة القرآن» ، رواه مسلم وغيره، خرج منه ما ورد، وما في معناه، فيبقى فيما عدا ذلك على مقتضى العموم. (وعن أحمد) جواز

السلام من أركان الصلاة

ذلك، قال: إذا دعا في صلاته بحوائجه أرجو أن لا يضره. وذلك لما تقدم من حديث ابن مسعود، والله أعلم. [السلام من أركان الصلاة] قال: ثم يسلم عن يمينه، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، وعن يساره كذلك. ش: لا نزاع عندنا في تعيين السلام للخروج من الصلاة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» ، وظاهره أن لا تحليل لها سواه. 532 - وفي الصحيحين من حديث عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «وكان يختم الصلاة بالتسليم» . وقد قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، إذا تقرر هذا فالمشروع أن يسلم كما ذكر الخرقي، تسليمة عن يمينه، وتسليمة عن يساره. 533 - لما روى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسلم عن يمينه، وعن يساره: «السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله» ، حتى يرى بياض خده. ورواه الخمسة ومسلم بمعناه.

534 - «وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت أرى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم عن يمينه وعن يساره، حتى يرى بياض خده» . رواه مسلم وأحمد والنسائي. والسلام ركن في الجملة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم» ، فإن كان في فريضة وفيت التسليمتان، في رواية اختارها أبو بكر، والقاضي. وفي أخرى: الثانية سنة. اختارها أبو محمد. أما صلاة الجنازة، والنافلة، فإن الثانية لا تجب فيهما، قال القاضي: رواية واحدة. وهل يكفي (السلام عليكم) - اختاره القاضي وأبو البركات - أو لا بد مع ذلك من (ورحمة الله) - اختاره أبو الخطاب، وابن عقيل - فيه وجهان، ونص أحمد على الاستجزاء بالسلام في صلاة الجنازة وفيه احتمال، ولا يجزئ: «سلام عليكم» ، منكرا، ولا: «عليكم السلام» ، منكسا، على أصح الوجهين. ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يشترط أن ينوي بسلامه الخروج في الصلاة، وهو المنصوص، المشهور، إذ هو بعض الصلاة، فشملته نية الصلاة كبقية الأجزاء، واشترطه ابن حامد، قياسا لأحد الطرفين على الآخر، وعلى قوله لو أتى

بنية الخروج مضيفا إليه نية السلام على الحفظة والمصلين جاز، ولم يستحب، نص عليه، وحكى ابن حامد وجها بالبطلان، وعلى الأول لو ترك نية الخروج، ونوى الحاضرين، بطلت صلاته، وجها واحدا عند ابن حامد، والصحيح عند أبي البركات - وزعم أنه المنصوص -: عدم البطلان، والله أعلم. قال: والمرأة والرجل في ذلك سواء. ش: لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وغيره من العمومات. [والله أعلم] . قال: إلا أن المرأة تجمع نفسها في الركوع والسجود، وتجلس متربعة، أو تسدل رجليها، فتجعلهما في جانب يمينها. 535 - ش: روى يزيد بن أبي حبيب، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر على امرأتين تصليان فقال: «إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى بعض، فإن المرأة ليست في ذلك كالرجل» ، رواه أبو داود في مراسيله. 536 - وقال ابن عمر: تقعد المرأة في الصلاة متربعة.

537 - وعن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : إذا سجدت المرأة فلتحتفز، ولتضم فخذيها. والسدل أفضل من التربع، نص عليه، واختاره الخلال، لأنه يروي عن عائشة، وظاهر كلامه أنه يسن لها رفع اليدين كالرجل، وهو إحدى الروايات. 538 - لما روى سعيد، عن أم الدرداء، أنها كانت ترفع يديها في الصلاة حذو منكبيها. (والثانية) : لا يسن. لإخلاله بالانضمام اللائق بها. (والثالثة) : ترفع دون رفع الرجل قال أبو البركات: وهو أوسط الأقوال. [والله أعلم] . قال: والمأموم إذا سمع قراءة الإمام فلا يقرأ بالحمد ولا بغيرها، لقول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ، ولما روى أبو هريرة [رضي

الله عنه] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما لي أنازع القرآن» ، فانتهى الناس أن يقرءوا فيما جهر فيه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ش: إذا سمع المأموم قراءة الإمام لم يقرأ مطلقا، لما استدل به الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] من الآية والحديث. 539 - (أما الآية) فقال أبو العالية، وزيد بن أسلم: كانوا يقرءون خلف الإمام، فنزلت هذه الآية فتركوا. 540 - ويروى نحوه عن أبي هريرة، وابن المسيب، والحسن، والزهري، والنخعي والقرظي وغيرهم، وقال أحمد في

رواية أبي داود: أجمع الناس على أن هذه الآية في الصلاة. 541 - (وأما الحديث) فلما روى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: «هل قرأ أحد منكم معي آنفا؟» فقال رجل: نعم يا رسول الله. فقال: «ما لي أنازع القرآن؟» قال: فانتهى الناس عن القراءة معه، فيما جهر فيه من الصلوات، حين سمعوا ذلك منه» . رواه مالك في الموطأ، والخمسة إلا ابن ماجه، ولأبي داود: وقال أبو هريرة: فانتهى الناس. وظاهر المنع في كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - التحريم، وبه جزم القاضي في التعليق، وهو ظاهر كلام أحمد، وجعل أبو الخطاب في الهداية - والشيخان - المنع للكراهة.

ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يقرأ وإن لم يمكنه القراءة في حال، وعليه الأصحاب، واختار أبو البركات قراءة الفاتحة لمن تعذرت عليه القراءة في السكتات. 542 - لما روى عبادة بن الصامت قال: «صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: «إني أراكم تقرءون وراء إمامكم» ، قلنا: إي والله. قال: «فلا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها» ، رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، ولأبي داود والنسائي: «فلا يقرأ بشيء من القرآن إذا جهرت به إلا بأم القرآن» ، ورواه الدارقطني وقال: كلهم ثقات. ومفهوم كلام الخرقي أن المأموم يقرأ إذا لم يسمع قراءة الإمام، ولا يخلو من أن يكون ذلك لبعده أو لطرشه، فإن كان لبعده قرأ على المنصوص، والمختار للأصحاب، لظاهر الآية الكريمة (وعن أحمد) : لا يقرأ. لما تقدم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقرؤوا بشيء في القرآن إذا جهرت به» ، فعلى الأولى هل يقرأ من سمع الهمهمة من غير فهم؟ على روايتين. وإن كان عدم سماعه لطرشه فقد توقف، فيخرج على وجهين،

ولعل مبناهما على أن علة المنع الاستماع أو التشويش [على الإمام] والذي ينبغي أن يكونا كلاهما، لورود المنع منهما، وإذا يقرأ إن لم يشوش على الإمام، بل والمأمومين، والله أعلم. قال: والاستحباب أن يقرأ في سكتات الإمام، وفيما لا يجهر فيه. ش: لظاهر ما تقدم من حديث أبي هريرة، وعبادة [بن الصامت] (- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) . 543 - وعن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : «اقرءوا في الركعتين الأوليين من الظهر والعصر خلف الإمام بفاتحة الكتاب وسورة» ، رواه الدارقطني وصححه. ومقتضى كلام الخرقي أن للإمام سكتات، قال أبو البركات: وهما سكتتان على سبيل الاستحباب، إحداهما تختص بأول ركعة للاستفتاح، والثانية سكتة يسيرة بعد القراءة كلها، ليرد إليه نفسه، لا لقراءة الفاتحة خلفه، على ظاهر كلام أحمد. 544 - وقد روى الحسن عن سمرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت له سكتتان، سكتة حين يفتتح الصلاة، وسكتة إذا فرغ من

السورة الثانية، قبل أن يركع، فكتب ذلك لعمران بن حصين فأنكره، فكتب ذلك إلى أبي بن كعب فقال: صدق سمرة، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وفي رواية لهم: سكتة إذا كبر، وسكتة إذا فرغ من قراءة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] قال أبو البركات: والصحيح في الرواية الأولى، وعلى تقدير ثبوت الثانية فيحمل على سكتة يسيرة لقدر البسملة، وتصوير ما يقرأ من السورة، ونحو ذلك [والله أعلم] . قال: فإن لم يفعل فصلاته تامة، لأن من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة. ش: هذا تصريح منه بأن القراءة لا تجب على المأموم مطلقا، وهو المنصوص، المعروف عند الأصحاب، لما تقدم من الآية وحديث أبي هريرة. 545 - (وعنه) أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما جعل الإمام

ليؤتم به فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا» ، رواه الخمسة إلا الترمذي، وصححه أحمد ومسلم، فأمر بالقراءة والاستماع، وهو شامل، وإن لم يسكت الإمام. 546 - وروى عبد الله بن شداد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة» ، رواه سعيد، وأحمد في مسائل ابنه عبد الله، والدارقطني، وروي مسندا من طرق [ضعاف] والصحيح أنه مرسل، وذلك لا يضر عندنا.

الجهر والإسرار في مواضعه في الصلاة

وحكى ابن الزاغوني رواية بوجوب القراءة على المأموم، لما تقدم من حديث عبادة في الصحيحين عنه: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وحملا على الاستحباب، مع أن الأول قال أحمد: لا يصح عندنا. وقال: لم يرفعه إلا ابن إسحاق، وظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث وجوب القراءة حال السر فقط، قال: إذا جهر الإمام فأنصت، وإذا لم يجهر فاقرأ الحمد وسورة؛ وهو نص حديث عبادة، وبه تجتمع الأدلة، والله أعلم. [الجهر والإسرار في مواضعه في الصلاة] قال: ويسر القراءة في الظهر والعصر، ويجهر بها في الأوليين من المغرب والعشاء، وفي الصبح كلها. ش: هذا مجمع عليه، وقد ثبت ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنقل الخلف عن السلف، وهل الجهر والإخفات في محليهما سنة أو واجب؟ فيه وجهان، المذهب الأول، ومراد الخرقي

القراءة في صلاة الصبح

- والله أعلم - الإمام، فلا يسن الجهر للمنفرد، وهو المذهب، إذ المقصود إسماع نفسه، نعم يباح له ذلك، وعنه: يسن له. وقوة كلامه يقتضي أن هذا في الصلاة المؤداة، أما المقضية فإن قضى صلاة سر أسر وإن قضاها ليلا، وإن قضى صلاة جهر؛ جهر إن قضى ليلا، وأسر إن قضى نهارا، على ما قطع به أبو البركات، وفي المغني احتمال بالجهر [إذا] ، وقال: إن ظاهر كلام أحمد التخيير، والله أعلم. [القراءة في صلاة الصبح] قال: ويقرأ في الصبح بطوال المفصل. ش: المفصل أوله قيل: القتال. وقيل: الفتح، وقيل: الحجرات. وقيل: (ق) وهو الصحيح. 547 - لما روى أبو داود عن أوس بن حذيفة، قال: سألت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل، ورواه أحمد، والطبراني، وفي آخره: وحزب المفصل من (ق) . والأصل في استحباب قراءة طواله في الصبح.

القراءة في صلاة الظهر

548 - لما «روى جابر بن سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الفجر بـ (قاف والقرآن المجيد) ونحوها، وكانت صلاته بعد إلى التخفيف» ، رواه مسلم وغيره. 549 - وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقرأ في الصبح بالستين إلى المائة، وفي الظهر بنحو الثلاثين آية، وفي العصر على النصف من ذلك. [والله أعلم] . [القراءة في صلاة الظهر] قال: وفي الظهر [في الركعة الأولى] بنحو من الثلاثين آية، وفي الثانية بأيسر من ذلك، وفي العصر على النصف من ذلك. 550 - ش: اتباعا لفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما استحب أن يقرأ في الثانية بأيسر من الأولى.

القراءة في صلاة المغرب

551 - لما ثبت عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يطول الأولى، ويقصر الثانية، ولا اختصاص للظهر بهذا، بل المستحب في جميع الصلوات تطويل الأولى، وتقصير الثانية. [القراءة في صلاة المغرب] قال: وفي المغرب بسور آخر المفصل. 552 - ش: روي عن (ابن) عمر قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ في المغرب بـ (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) » ، رواه ابن ماجه. [القراءة في صلاة العشاء] قال: وفي العشاء الآخرة نحو «الشمس وضحاها» ، وما أشبهها. 553 - ش: عن بريدة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في العشاء بـ (الشمس وضحاها) ، وأشباهها من السور» ، رواه أحمد، والترمذي. 554 - و «في الصحيح أنه قال لمعاذ - لما طول في العشاء - «فلولا

صليت بـ سبح اسم ربك الأعلى» و «الشمس وضحاها» . قال: ومهما قرأ به بعد أم الكتاب في ذلك كله أجرأه. ش: يعني أن التفصيل المتقدم على سبيل الاستحباب، ولو زاد على ذلك أو نقص فلا بأس. 555 - فقد صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قرأ في المغرب بالطور، وبالمرسلات، وبالأعراف، وقرأ في الصبح بالمعوذتين، وفي العشاء وهو مسافر بـ (التين والزيتون) ومقتضى كلامه أن قراءة

الفاتحة واجبة، وقد تقدم ذلك، وكلامه موهم - ويدفع (هذا) الوهم ما يذكره بعد في الأركان - لا بد له من قراءة شيء بعد الفاتحة. قال: ولا يزيد على قراءة أم الكتاب في الأخريين من الظهر، والعصر، وعشاء الآخر، والركعة الأخيرة من المغرب. 556 - ش: في الصحيحين عن أبي قتادة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الظهر والعصر، في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الركعتين [الأخريين] بفاتحة الكتاب» ، وعن علي أنه كان يأمر بذلك، وقال ابن

ستر العورة في الصلاة

سيرين: لا أعلمهم يختلفون في ذلك. ثم هل النفي لعدم الاستحباب، أو للكراهة؟ فيه روايتان، أصحهما عند أبي البركات الأول، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد جاء عنه أنه زاد أحيانا على قراءة الفاتحة في الأخريين، والله أعلم. [ستر العورة في الصلاة] [عورة الرجل] قال: ومن كان من الرجال، وعليه ما يستره ما بين سرته وركبته، أجزأه ذلك. ش: هذا يتضمن أن عورة الرجل ما بين سرته وركبته، وهذا المشهورة، من الروايات، وعليه العامة. 557 - لما روي عن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» ، رواه أبو داود وابن ماجه.

558 - «وعن جرهد الأسلمي قال: مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلي بردة، وقد انكشف فخذي فقال: «غط فخذك، فإن الفخذ عورة» ، رواه أحمد، ومالك في الموطأ، وأبو داود، والترمذي وحسنه. 559 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما بين السرة إلى الركبة عورة» ، رواه الدارقطني. (والرواية الثانية) : أن السرة والركبة عورة أيضا. (والثالثة) : - وإليها ميل أبي البركات - أن العورة الفرجان فقط.

560 - لما روت عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان جالسا كاشفا عن فخذه، فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو وعلى حاله، ثم استأذن عمر، فأذن له وهو على حاله، ثم استأذن عثمان، فأرخى عليه ثيابه، فلما قاموا قلت: يا رسول الله استأذن أبو بكر وعمر، فأذنت لهما وأنت على حالك، فلما استأذن عثمان أرخيت عليك ثيابك. فقال: «يا عائشة ألا أستحيي من رجل والله إن الملائكة تستحيي منه؟» ، رواه أحمد، ومسلم، لكن قال: كاشفا [عن] فخذيه أو ساقيه. 561 - «وعن أنس أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر انحسر الإزار عن فخذه، وقال: حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه أحمد والبخاري، وقال: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط. وقد تضمن كلام الخرقي أن ستر العورة شرط لصحة الصلاة.

562 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يطوفن بالبيت عريان» ، متفق عليه، مع تشبيه الطواف بالصلاة. 563 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» . 564 - «وقوله (عليه [الصلاة] والسلام لما سأل: أتصلي المرأة في درع وخمار؟ فقال: «إذا كان واسعا يغطي ظهور قدميها» . ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يعفى عن يسير شيء من العورة، وكلامه بعد في عورة المرأة، أصرح من هذا، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، والمشهور والمختار للأصحاب أنه يعفى عن اليسير في جميع الصلاة، كما يعفى عن جميعها في الزمن اليسير. 565 - «لما صح عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للنساء: «لا ترفعن

رؤوسكن حتى يستوي الرجال [جلوسا]- لا ترين عورات الرجال - من ضيق الأزر» ، والمرجع في اليسير إلى العرف، لأنه لم يرد فيه تقدير، والعرف أن المغلظة يفحش منها ما لا يفحش من غير المغلظة، والله أعلم. قال: إذا كان على عاتقه شيء من اللباس. ش: يعني [أنه] لا بد للرجل مع ستر عورته من أن يضع على عاتقه شيئا من اللباس فإجزاء الصلاة متوقف على كليهما. 566 - لما روى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» ، رواه البخاري، ومسلم [وقال: عاتقيه] وهذا نهي، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. ومقتضى كلام الخرقي أنه لو ستر أحد المنكبين وأعرى الآخر أجزأه، ونص عليه أحمد في رواية مثنى بن جامع،

وزعم القاضي وجماعة أنه لا يكفي ستر أحدهما، وخرج القاضي ومن وافقه من رواية مثنى صحة الصلاة مع كشف المنكبين، وأبى ذلك الشيخان، إجراء لنص أحمد على ظاهره، موافقة للدليل. ومقتضى كلام الخرقي أن المشترط أن يضع شيئا من اللبس، ولا يشترط ستر جميعه، ولا يكفي وضع حبل ونحوه، وهذا اختيار الشيخين لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على عاقته منه شيء» ، وهذا على عاتقه منه شيء، واختار القاضي وجوب ستر جميعه، وعاكسه بعضهم فقال: يجزئ ولو حبل أو خيط. وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين الفرض والنفل، وهو إحدى الروايتين، لعموم ما تقدم، والرواية الثانية يختص ذلك بالفرض، وهو المشهور، واختاره القاضي وغيره. 567 - «لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد بعضه على عاتقه. رواه أبو داود»

والغالب أن الثوب الواحد لا يسع لذلك مع ستر المنكب، ولأن النفل سومح [فيه] ما لم يسامح في الفرض، والله أعلم. قال: ومن كان عليه ثوب واحد بعضه على عاتقه أجزأه ذلك. ش: لا إشكال في صحة الصلاة في الثوب الواحد إذا ستر العورة، وكان على العاتق منه شيء. 568 - وقد «سأل رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في الثوب الواحد فقال: «أولكم ثوبان؟» متفق عليه. 569 - وفي الصحيح أيضا عن جابر بن عبد الله [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان الثوب واسعا فالتحف به، وإذا كان ضيقا فاتزر به» . 570 - وفي الصحيح عنه أيضا «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في ثوب واحد متشحا به» . وأشعر كلام الخرقي بأن الثوبين أفضل، وهو واضح، لأن سؤال الرجل له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة في الثوب الواحد يدل على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان من عادته الصلاة في ثوبين.

571 - وفي بقية الحديث من [رواية] البخاري: ثم سأل رجل عمر فقال: إذا وسع الله فأوسعوا. والأفضل من الثوبين ما كان أسبغ، والله أعلم. قال: ومن لم يقدر على ستر العورة صلى جالسا [يومئ إيماء] . 572 - ش: لما روى سعيد بن منصور بإسناده عن نافع عن ابن عمر - في قوم انكسرت بهم مراكبهم في البحر، فخرجوا عراة - قال يصلون جلوسا، يومئون إيمان. ولم ينقل عن صحابي خلافه. وظاهر كلام الخرقي أن الجلوس على طريق الوجوب، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب، قال: لا يصلون قياما، إذا ركعوا أو سجدوا بدت عوراتهم. لكن عامة الأصحاب على أن الجلوس على سبيل الاستحباب، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم، إذ الستر آكد من القيام والركوع والسجود،

كيفية صلاة العراة

بدليل وجوبه على الراحلة، وفي النافلة، وخارج الصلاة، واشتراط دوامه في جميعها، وهذه الأركان آكد، للإجماع عليها، ولأن الركن من ذات العبادة، والشرط خارج عنها ولأن المحافظة على ثلاثة أركان أولى من المحافظة على بعض شرط، وإذا تقرر أن كل واحد منهما آكد من وجه، خيرناه بينهما، واستحببنا الستر، لأنه أحسن وأليق [بالأدب] وحمل الشيرازي وجها في المنفرد أنه يصلي قائما، قال: بناء على أن الستر كان لمعنى في غير العورة، وهو عن أعين الناس، وأما ما حكاه في المقنع من وجوب القيام، على رواية، فمنكر لا نعرفه، والله أعلم. [كيفية صلاة العراة] قال: فإن صلى جماعة عراة كان الإمام معهم في الصف. [وسطا] . ش: الجماعة مشروعة للعراة كغيرهم، للعمومات، والسنة

أن يقفوا صفا واحدا، والإمام وسطهم، لأنه أستر لهم، ولذلك كانت إمامة النساء في وسطهن. قال: يومئون إيماء، ويكون سجودهم أخفض من ركوعهم، و [قد روي] عن أبي عبد الله [- رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى] أنهم يسجدون بالأرض. ش: المختار لمن عدم السترة أن يومئ بالركوع والسجود لما تقدم، ويكون السجود أخفض من الركوع، محاكاة للبدل بالمبدل، ولو ركعوا وسجدوا جاز، كما تقدم في القيام، وعن أحمد، [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] أنه يلزمهم الركوع والسجود بالأرض، اختارها ابن عقيل، لئلا يسقط فرضين بتحصيل واحد، والله أعلم. قال: ومن كان في ماء وطين أومأ إيماء. ش: هذا [المشهور] المعروف من الروايتين، لأنه إن سجد على الماء فالماء لا قرار له، وإن سجد على الطين لحقته مشقة وضرر، وذلك منفي شرعا، وقد صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته بالإيماء كذلك كما سيأتي إن شاء الله (والرواية الثانية) أن يسجد على متن الماء، محافظة على ما أمكن من

السجود، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . وقد شمل كلام الخرقي الراكب، فإنه يصلي على مركوبه - إذا خشي الأذى بالمطر أو الوحل - بالإيماء، إن تعذر عليه الركوع والسجود على ظهر المركوب. 573 - «لما روى يعلى بن مرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى إلى مضيق، ومعه أصحابه، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فصل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته، وأصحابه على [ظهور] دوابهم، يومئون إيماء، يجعلون السجود أخفض من الركوع» . رواه الترمذي وغيره (وعنه) المنع.

عورة المرأة

574 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صل قائما» ، وغيره وعلى هذا ينزل بالأرض ويصلي كما تقدم. (تنبيه) : زعم أبو محمد أن المومئ للمطر لا يترك الاستقبال، وفيه نظر، بل ينبغي أنه إذا صلى على الراحلة فحكمه حكم المتطوع عليها، والله أعلم. [عورة المرأة] قال: وإذا انكشف من المرأة الحرة شيء سوى وجهها أعادت [الصلاة] ش: لا خلاف أن للمرأة كشف وجهها في الصلاة لما سيأتي، وقد أطلق أحمد [رحمة الله] القول بأن جميعها عورة وهو محمول على ما عدا الوجه، أو على غير الصلاة، أما ما عدا الوجه، (فعنه) عورة إلا يديها، اختارها أبو البركات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] .

575 - قال ابن عباس: وجهها وكفاها. 576 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا بلغت المرأة المحيض فلا تكشف إلا وجهها ويدها» ، ذكره أحمد في رواية عبد الله، ورواه أبو داود، ولفظه: «إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا [وهذا» ] ، وأشار إلى وجهه وكفيه» . 577 - «وعن أم سلمة أنها سألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتصلي المرأة في درع وخمار، [ليس] عليها إزار؟ قال: «إذا كان الدرع سابغا، يغطي ظهور قدميها» ، رواه أبو داود، (وعنه) : ويديها

صلاة الأمة مكشوفة الرأس

أيضا، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي في التعليق، لأنه لا يلزم كشفها في الإحرام، أشبها سائر بدنها. هذا كله في الحرة البالغة، أما المراهقة فكالأمة على ما سيأتي إن شاء الله [تعالى] لمفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» ، والله أعلم. [صلاة الأمة مكشوفة الرأس] قال: وصلاة الأمة مكشوفة الرأس جائزة. 578 - ش: قال ابن المنذر: ثبت أن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال لأمة رآها مقنعة: اكشفي رأسك لا تتشبهي بالحرائر. ولقد بالغ بعض الأصحاب فقال: لو صلت مغطاة الرأس لم تصح صلاتها. أما ما عدا الرأس فقال ابن حامد وابن عقيل، وأبو الخطاب، والشيرازي، وغيرهم: عورتها كعورة الرجل. وظاهره إجراء روايتي الرجل فيها، وصرح بذلك ابن البنا في الخصال في النكاح، والحلواني، وزعم أبو البركات

أن ما بين السرة والركبة منها عورة إجماعا، وكأنه حمل إطلاق الأصحاب على أنهم فرعوا على المذهب عندهم. 579 - وذلك لما روى أبو داود، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا زوج أحدكم خادمه [عبده أو] أجيره، فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة» ، والمراد بالخادم الأمة، وقال القاضي في [الجامع] : ما عدا رأسها، وساقها، وما يظهر غالبا عورة، وحكاه أبو الحسين نصًّا عن أحمد، إذ الأصل كونها كالحرة لعموم «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» ، ونحوه، لكن ترك ذلك فيما يظهر غالبا، لمشقة احترازها عنه، وشهد له قصة عمر. 580 - وعن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] : تصلي الأمة كما تخرج. رواه الأثرم. 581 - وفي الصحيحين أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أَوْلَمَ على صفية قال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين، أو ما ملكت يمينه؟ فقالوا: إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين، وإن لم يحجبها فهي ما

حكم من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى

ملكت يمينه، فلما ارتحل وطأ لها خلفه، ومد الحجاب. وقد انتضم من هذا أن [ظاهر] كلام الخرقي في أن ما عدا رأسها عورة لا قائل به فالظاهر أن الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] إنما نص على الرأس لقصة عمر. وقد شمل كلام الخرقي المدبرة، والمعلق عتقها بصفة، والمكاتبة، وخرج من كلامه المعتق بعضها، فإنها كالحرة على الصحيح من الروايتين، والله أعلم. قال: ويستحب لأم الولد أن تغطي رأسها في الصلاة. ش: للخروج من الخلاف، إذ قد نقل عن أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] فيها روايتان، (إحداهما) أن حكمها حكم الحرة اختاره أبو بكر، فيما نقله عنه أبو الحسين، احتياطا للعبادة، إذ قد وجد [فيها] سبب الحرية وجودا لازما، (والثانية) أن حكمها حكم الأمة، وهي اختيار الأكثرين؛ الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي وغيرهم، لأنها رقيقة لم يعتق منها شيء، أشبهت المكاتبة، والله أعلم. [حكم من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى] قال: ومن ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى، أتمها وقضى

المذكورة، وأعاد [الصلاة] التي كان فيها إذا كان الوقت مبقى. ش: قضاء الصلوات يجب عندنا على الفور حسب الإمكان، ما لم تلحقه مشقة. 582 - لما روى أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» ، متفق عليه. 583 - وعن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] » ، رواه مسلم وغيره، وفي لفظ «فوقتها إذا ذكرها» . 584 - ويجب مرتبا لما «روي عن ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن المشركين شغلوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذن،

ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء» . رواه أحمد، والنسائي، وفعله ورد مبينا للصلاة المؤداة وغيرها، ويعضده قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي» . إذا تقرر هذا فإذا نسي أن عليه صلاة فلم يذكرها [مثلا] حتى شرع في أخرى - كأن ترك صلاة الظهر مثلا، ولم يذكرها حتى شرع في صلاة العصر - فالمشهور الذي عليه الخرقي وجمهور الأصحاب أن الترتيب لا يسقط، لإمكان اعتباره. (وعن) أحمد يسقط في المأموم خاصة، لئلا تفوت الجماعة في الفريضة المؤداة. واختار أبو البركات سقوطه رأسا.

585 - لما روى ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نسي أحدكم صلاة، فذكرها وهو في صلاة مكتوبة، فليبدأ بالتي هو فيها، فإذا فرغ منها صلى التي نسي» ، [رواه الدارقطني] ولأن الحاضرة بالشروع فيها صارت كالمضيقة للوقت، بدليل تحريم الخروج منها لغير غرض. (فعلى هذا) يتم التي هو فيها وتجزئه، ثم يقضي الفائتة، (وعلى المذهب) ظاهر كلام الخرقي أنه يتمها، إماما كان أو مأموما، أو منفردا، والمنصوص عن أحمد أن الإمام يقطعها، معللا بأنهم مفترضون خلف متنفل، وإذا إن صحت صلاة المفترض خلف المتنفل أتمها إمام كغيره. (وعنه في المأموم والمنفرد روايات (أشهرها) : أنهما يتمونها نفلا إما ركعتين وإما أربعا، حذارا من بطلان العمل، وجمعا بين المصلحتين. (والثانية) : يتمها المأموم دون المنفرد. 586 - لما روى الدارقطني عن ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نسي أحدكم صلاة، فذكرها وهو مع الإمام فليصل مع الإمام، فإذا فرغ من صلاته فليصل [الصلاة]

التي نسي، ثم ليعد صلاته التي صلى مع الإمام» . (والثالثة) : عكس الثانية: يتمها المنفرد دون المأموم، حكاها أبو محمد. هذا كله بشرط سعة الوقت، كما صرح به الخرقي، أما إن ضاق الوقت فإن الترتيب يسقط كما سيأتي إن شاء الله [تعالى] ثم الأصحاب يشترطون بقاء قدر يسع الإتمام التي هو فيها، وقضاء الفائتة، ثم إعادة الحاضرة، وأبو البركات يقول: إنما يشترط ما يسع عقب الذكر للقضاء، ثم لفعل الحاضرة، إذ إتمام الأولى نفل، فلا يسقط بضيق الوقت عنه ترتيب واجب.

ومقتضى كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] أنه لو لم يذكر حتى فرغ من الصلاة التي صلاها فإنها تصح وتجزئه، وهو المشهور من الروايتين. 587 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» الحديث (والثانية) : لا تجزئه، مراعاة للترتيب مطلقا، حكاها ابن عقيل. 588 - لما روي عن أبي جمعة حبيب بن سباع «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الأحزاب صلى المغرب، فلما فرغ قال: «هل علم أحد منكم

أني صليت العصر؟» قالوا: يا رسول الله ما صليتها. فأمر المؤذن فأقام فصلى العصر، ثم أعاد المغرب» . رواه أحمد، وقد ضعف، والله أعلم. قال: فإن خشي فوات الوقت اعتقد وهو فيها أن لا يعيدها، وقد أجزأته، ويقضي التي عليه. ش: كأن اعتقاد صيرورتها نفلا إذا ذكر وهو فيها صار لازما، فقال: إذا ضاق الوقت يعتقد أن لا يعيدها، وإلا فالشرط بقاء نيته، والأصل في سقوط الترتيب مع ضيق الوقت، سواء كان في صلاة، أو لم يكن. 589 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما التفريط في اليقظة، أن يؤخر صلاة حتى يدخل وقت الأخرى» ، ولأن في الترتيب تفويتا

للصلاتين، وفي تركه تحصيلا لإحداهما، فكان أولى، ولأن فعل الصلاة في وقتها فريضة، وتأخيرها عنه محرم إجماعا وأصل الترتيب في القضاء على الفور مختلف في وجوبهما، وإذا عند التزاحم مراعاة المجمع عليه أولى، وعلى هذا يقضي [إلى] أن يبقى من وقت الحاضرة بقد فعلها، فإذا يأتي بها، ولا تصح منه قبل ذلك. (وعن أحمد) رواية أخرى: لا يسقط الترتيب، بل تلزمه الموالاة في الفوائت قدر الطاقة، ولا تحسب له حاضرة ما دام عليه فائتة، اختارها الخلال وصاحبه، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نسي صلاة فليصليها إذا ذكرها» . 590 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا صلاة لمن عليه صلاة» إلا أن أحمد قال: لا أعرفه؛ وقد أنكر القاضي هذه الرواية، وحكى عن أحمد ما يدل على رجوعه عنها، وكذلك أبو حفص قال: إما أن يكون قولا قديما أو غلطا، (وعنه) رواية

تأديب الولد على الطهارة والصلاة

ثالثة: إن ضاق وقت الحاضرة عن قضاء كل الفوائت سقط ترتيبهن عليها، وكان له فعلها في أول الوقت. حكاها أبو حفص إذا التأخير عن أول الوقت لا تحصل به براءة الذمة بما فيها، فاغتنام التقديم أولى. والأول هو المشهور، اختاره القاضي وغيره، وعليه: لو خالف وصلى الفائتة إذا فهل يصح؟ فيه وجهان. (تنبيه) : خشية خروج الوقت الاختياري كخشية خروج الوقت بالكلية، فإذا خشي الاصفرار فعل الحاضرة، والله أعلم. [تأديب الولد على الطهارة والصلاة] قال: ويؤدب الغلام على الطهارة والصلاة إذا تمت له عشر سنين. 591 - ش: لما روى عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع» ، رواه أحمد، وأبو داود، وأمره بذلك واجب على الولي، نص عليه لظاهر الأمر.

سجود التلاوة

وقوة كلام الخرقي يقتضي أن الصلاة لا تجب عليه، وهو المشهور، المختار من الروايتين. 592 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» ، الحديث. والثانية: تجب على من بلغ عشرا. اختارها أبو بكر، لأنه معاقب إذًا. وهو دليل الوجوب، والله أعلم. [سجود التلاوة] [عدد سجدات التلاوة في القرآن] قال: وسجود القرآن أربع عشرة [سجدة] . ش: سجدة [في] الأعراف آخرها، وفي الرعد عند: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] (15) ، وفي النحل: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] (50) ، وفي سبحان: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] (109) ، وفي مريم: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] (58) ، وفي [أول] الحج: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] (18) ، وفي الفرقان: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] (60) ، وفي النمل: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] (26) ، وفي [الم] (تنزيل) السجدة: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] (15) ، وفي حم فصلت: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] (37) ،

اختاره ابن أبي موسى، وقيل عند: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] (38) ، اختاره الأكثرون، فظاهر كلام أحمد التخيير بينهما، وفي آخر الحج: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77] (77) ، وفي النجم: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] ، وفي الانشقاق: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] (21) ، وفي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] آخرها. فأما العشر الأول فبالإجماع، وأما ثانية الحج. 593 - فلما «روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج بأن فيها سجدتين؟ قال: «نعم، ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما» ، رواه أحمد وأبو داود، واحتج به أحمد في رواية عبد الله. وأما سجدة النجم. 594 - فلما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون، والجن والإنس» . رواه البخاري وغيره. 595 - «وعن ابن مسعود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ {وَالنَّجْمِ} [النجم: 1] فسجد فيها، وسجد من كان معه، غير أن شيخا أخذ كفا من حصباء أو

تراب، فرفعه إلى جبهته وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا» . متفق عليه. وأما سجدة الانشقاق، و (اقرأ باسم ربك) . 596 - فلما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سجدنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] » . رواه مسلم وغيره. وظاهر كلام الخرقي أن سجدة (ص) وهي عند: {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] ، ليست من عزائم السجود، وهو المشهور، المختار من الروايتين. 597 - لما «روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: ليست (ص) من عزائم السجود، وقد رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسجد فيها» . رواه البخاري وغيره. 598 - وعنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد في (ص) وقال: «سجدها داود توبة، وسجدناها شكرا» ، رواه النسائي، وعلى هذا إن

شروط صحة سجود التلاوة

سجد خارج الصلاة سجد تأسيا، وإن سجد في الصلاة ففي الجواز وجهان. (والرواية الثانية) هي من عزائم السجود، يسجد لها في الصلاة وغيرها. 599 - لما «روى عمرو بن العاص أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل، وفي الحج سجدتان» . رواه أبو داود، وفيه ضعف، مع أنا نقول بموجبه لأنا نسميها سجدة، والله أعلم. قال: في الحج منها اثنتان. ش: قد تقدم هذا [والله أعلم] . [شروط صحة سجود التلاوة] قال: ولا يسجد إلا وهو طاهر. ش: لأنه صلاة، فيدخل في عموم الأدلة المقتضية لذلك، ولأنه سجود

كيفية سجود التلاوة

أشبه سجود السهو، وحكمه في بقية [شرائط] الصلاة - من الستارة، واستقبال القبلة - حكم صلاة التطوع، والله أعلم. [كيفية سجود التلاوة] قال: ويكبر إذا سجد. ش: يكبر إذا سجد، في صلاة كان أو غيرها، لعموم، «تحريمها التكبير» . 600 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه» ؛ رواه أبو داود. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يزيد على ذلك، لظاهر حديث ابن عمر، وقال غيره: يكبر إذا رفع، قياسا على سجود السهو والصلب، وغالى أبو الخطاب فقال: يكبر للإحرام أيضا. قال: ويسلم إذا رفع. ش: يجلس ويسلم على المشهور، المختار من الروايتين، لعموم: «تحليلها التسليم» ، (والثانية) : لا يسلم فيه، لأنه لم

يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويكتفي بتسليمة واحدة عن يمينه، نص عليه، وعنه: بل اثنتان. 601 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روايتان. قال: ولا [يجوز أن] يسجد في الأوقات التي لا يجوز أن يصلي فيها تطوعا. ش: هذا فرع أن ذات السبب لا تفعل في وقت النهي، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى. قال: ومن سجد فحسن، ومن ترك فلا شيء عليه. ش: السجود للتلاوة سنة، لا يأثم تاركه على المشهور. 602 - لما «روى زيد بن ثابت قال: قرأت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (والنجم) فلم يسجد فيها. رواه الجماعة» ، وفي لفظ للدارقطني: فلم يسجد منا أحد.

الحكم لو حضرت الصلاة والعشاء

603 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجد، وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه، ولم يسجد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه البخاري، ومالك في الموطأ، وقال فيه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء. وهذا الذي قاله بمحضر من الصحابة، ولم ينكره أحد، فصار إجماعا، وعن أحمد ما يدل على وجوبه في الصلاة، والله أعلم. [الحكم لو حضرت الصلاة والعشاء] قال: وإذا حضرت الصلاة والعشاء بدئ بالعشاء. 604 - ش: لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدءوا بالعشاء» متفق عليه. 605 - وعنها أيضا قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا صلاة بحضرة الطعام، ولا هو يدافعه الأخبثان» والمنع على سبيل الكراهة عند الأصحاب، فلو خالف وصلى صحت صلاته إجماعا، ولا بد في الكراهة أن تطلبه نفسه، أما إن لم تطلبه فلا كراهة، والله أعلم.

الحكم لو حضرت الصلاة وهو محتاج إلى الخلاء

[الحكم لو حضرت الصلاة وهو محتاج إلى الخلاء] قال: وإذا حضرت الصلاة وهو محتاج إلى الخلاء بدأ بالخلاء [والله أعلم] . ش: لحديث عائشة المتقدم. 606 - وعن عبد الله بن الأرقم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء» رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه، فإن خالف وصلى صحت صلاته، على المنصوص، والمختار للأكثرين، [إذ غايته] اشتغال سره، وهذا لا يمنع الصحة، كما لو كان له مال خشي تلفه، ونحو ذلك، وحملا للنص على الكراهة، ونقل عنه حرب يعيد، عملا بظاهر النص، وقال ابن أبي موسى: إن أشغل عن الصلاة، أو عن إتمامها أعاد في الظاهر من قوله، وظاهر كلام الخرقي أنه يبدأ بالعشاء والخلاء وإن خشي فوات الجماعة، وهو صحيح، لعموم ما تقدم، والله أعلم.

باب ما يبطل الصلاة إذا ترك عامدا أو ساهيا

[باب ما يبطل الصلاة إذا ترك عامدا أو ساهيا] قال: باب ما يبطل الصلاة إذا ترك عامدا أو ساهيا ش: يعرف من هذا الباب أركان الصلاة، وواجباتها، وسننها. [والله أعلم] . قال: ومن ترك تكبيرة الإحرام، أو قراءة الفاتحة، وهو إمام أو منفرد، أو الركوع، أو الاعتدال بعد الركوع، أو السجود، أو الاعتدال بعد السجود، أو التشهد الأخير، أو السلام، بطلت صلاته، عامدا كان أو ساهيا. ش: الصلاة تشتمل على ثلاثة أشياء: أركان، وواجبات، وسنن. وبدأ الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] بذكر الأركان لأنها أهم، وعدها ثمانية: تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والركوع والاعتدال بعده، والسجود والاعتدال بعده، والتشهد الأخير، والسلام، وقد تقدم ذكر ذلك والدليل عليه. 607 - ويدل على أكثرها حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا دخل المسجد فصلى، ثم جاء فسلم على النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] فقال: «ارجع فصل فإنك لم تصل» فرجع فصلى كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] فقال: «ارجع فصل فإنك لم تصل»

ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق نبيا لا أحسن غيره فعلمني. قال: «إذا قمت [إلى] الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، وافعل ذلك في صلاتك كلها» متفق عليه. وبقي على الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] القيام في الفريضة مع عدم العذر، فإنه ركن، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن حصين: «صل قائما» ، الحديث رواه البخاري وغيره، وقد يؤخذ من كلامه في صلاة المريض. (وبقي عليه) أيضا الجلوس للتشهد الأخير، (وبقي عليه) أيضا الطمأنينة في هذه الأفعال، الركوع، والاعتدال عنه، والسجود، والاعتدال عنه، فإنها فرض بلا نزاع، لحديث الأعرابي وقد تقدم، وقدر الطمأنينة أدنى سكون بين الخفض والرفع في وجه، وفي آخر - وقواه أبو البركات - بقدر الذكر الواجب فيه، وفائدة الخلاف لو نسي تسبيح الركوع والسجود، ونحو ذلك، واطمأن قدرا لا يتسع له، صحت صلاته على الأول دون الثاني، ولا بد من مراعاة ترتيب الأركان، بأن يأتي بالقيام، ثم الركوع، على ما تقدم، فبعضهم يعده ركنا،

وبعضهم يقول: هو مقوم للأركان، لا تعتبر إلا به، كما أن قراءة الفاتحة ركن، ولا يعتبر إلا بترتيبها، والسجود ولا يعتبر إلا على الأعضاء السبعة، كما تقدم. وقول الخرقي: أو قراءة الفاتحة وهو إمام أو منفرد. احترازا من المؤتم، فإن القراءة لا تجب عليه كما تقدم، وقوله: بطلت صلاته عامدا كان أو ساهيا. أما إذا ترك ذلك عمدا فواضح، وأما سهوا فإن ذكره في الصلاة قبل أن يشرع في قراءة ركعة أخرى أتي به وبما بعده، لأنه مرتب عليه، وبعد الأخذ في قراءة أخرى تصير عوضا عن الفائت ركنها، وتبطل تلك، وإن ذكره وقد سلم بطلت الصلاة على رأي أبي الخطاب، ومن كلام ابن أبي موسى: والمذهب - وهو المنصوص في رواية الجماعة - اختصاص البطلان بطول الفصل، ثم إن كان المتروك سلاما أتى به فحسب، وإن كان تشهدا أتى [به] وسلم، وإن كان غيرهما أتى بركعة تامة، والله أعلم. قال: ومن ترك شيئا من التكبير غير تكبيرة الإحرام، أو التسبيح في الركوع، أو التسبيح في السجود، أو قول: سمع الله لمن حمده، أو قول: ربنا ولك الحمد. أو قول: رب اغفر لي، أو التشهد الأول، أو الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

في التشهد الأخير، عامدا بطلت صلاته، ومن ترك شيئا منها ساهيا أتى بسجدتي السهو قد صحت صلاته [والله أعلم] . ش: هذا النوع الثاني مما اشتملت الصلاة عليه، وهو الواجبات، وهو عبارة هنا عما أبطل الصلاة عمده دون سهوه، وهذا لدليل خاص دال عليه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى وإلا [فلا] فرق [بينا] عندنا بين الفرض والواجب على الصحيح، وقد تقدم ذكر هذه الواجبات، والخلاف فيها، ونشير هنا إلى دليل المذهب، أما التكبير غير التحريم. 608 - فلما روى أبو موسى الأشعري، في حديث له عن النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، قال: «فإذا كبر الإمام وركع فكبروا واركعوا، وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا» رواه مسلم وغيره، وظاهر الأمر الوجوب. 609 - وروى رفاعة بن رافع، أن النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قال في قصة الرجل الذي أمره بإعادة الصلاة: «إنها لن تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله، ثم يكبر الله، ويحمده ويمجده، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ثم يكبر ويركع، حتى تطمئن مفاصله

وتسترخي، ثم يقول: سمع الله لمن حمده. ثم يستوي قائما، حتى يقيم صلبه، ثم يكبر ويسجد، حتى يمكن وجهه، أو قال: جبهته، حتى تطمئن مفاصله وتسترخي، ويكبر فيرفع، حتى يستوي قاعدا على مقعدته، ويقيم صلبه، ثم يكبر فيسجد حتى يمكن وجهه، ويسترخي ويطمئن، فإذا لم يفعل هكذا لم تتم صلاته» ، رواه النسائي وأبو داود. والظاهر أن المراد بنفي التمام نفي الصحة، لأنه ذكره بيان لما تعاد منه الصلاة، وإنما سقط بالسهو. 610 - لما احتج به أحمد من أنه [صح] عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قام إلى ثالثة ناسيا، وسجد للسهو ولم يعد، وقد ترك بسهوه تكبيرة، مع التشهد، وجلسته. وأما التسبيح في الركوع والسجود فللأمر به في حديث عقبة بن عامر المتقدم، ولقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة: 15]

فأخبر أنه لا يؤمن إلا من سجد إذا ذكر بالآيات، وسبح بحمد ربه، واستدل لذلك أيضا بقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] والمراد الصلاة، وذلك يدل على لزوم التسبيح فيها، كما في قَوْله تَعَالَى: {قُمِ اللَّيْلَ} [المزمل: 2] فإنه يدل على وجوب القيام، وقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] يدل على وجوب القراءة، وفيه نظر، وإنما سقط بالسهو قياسا على تكبيرات الخفض. (وأما) قول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، وقول: رب اغفر لي. فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك، وواظب عليه، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده. فقولوا: ربنا ولك الحمد» ، وسقط بالسهو قياسا على التكبيرات. (وأما) التشهد الأول فلما تقدم في التشهد الأخير، وإنما قلنا بسقوطه هنا لأنه ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تركه، ولم يعد له، وحكم جلسته حكمه. وأما الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما تقدم من حديث كعب ابن عجرة، ولظاهر قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56] . 611 - وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أنه قال: «لا صلاة لمن لم يصل على نبيه [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ] رواه ابن ماجه والدارقطني.

612 - وإنما سقط بالسهو لما روى فضالة بن عبيد، قال: «سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته، ولم يصل عليه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عجل هذا» ثم دعاه فقال له أو لغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد الله، والثناء عليه، ثم ليصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم ليدع بعد بما شاء» رواه الترمذي وصححه، ولم يأمره بالإعادة، وكان جاهلا، والجاهل والناسي فيه سواء. قال أبو البركات: وعد غير الخرقي مع ذلك نية الخروج، وبعضهم التعوذ والاستفتاح، وقد تقدم ذلك، وعد أبو

باب سجود السهو

محمد في المقنع والمغني التسليمة الثانية، في إحدى الروايتين، وفي الأخرى أنها سنة، وأبو الخطاب، وأبو البركات وغيرهما على الخلاف هل الثانية ركن أو سنة، بل المذهب عند أبي بكر، والقاضي والأكثرين أنها ركن، وقد أشعر كلام الخرقي بأن ما عدا ذلك سنة، والله سبحانه أعلم. [باب سجود السهو] قال: باب سجدتي السهو ش: لا إشكال في مشروعية ذلك في الجملة، والأحاديث مستفيضة بذلك. قال: ومن سلم وقد بقي عليه شيء من صلاته أتى بما بقي عليه من صلاته وسلم، ثم [كبر و] سجد سجدتي السهو، ثم تشهد وسلم، لما روى أبو هريرة، وعمران بن الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه فعل ذلك. ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم ودليله، وهو حديث أبي هريرة، وحديث عمران بن حصين.

613 - أما حديث أبي هريرة ففي الصحيحين، «عن ابن سيرين، عنه، قال: صلى بنا رسول الله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] إحدى صلاتي العشي، فصلى بنا ركعتين، ثم سلم، فقام إلى خشبة معروضة في المسجد، فاتكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشبك بين أصابعه، ووضع خده الأيمن على ظهر كفه اليسرى، وخرجت السرعان من أبواب المسجد، فقالوا: أقصرت الصلاة؟ وفي القوم أبو بكر وعمر، فهاباه أن يكلماه، وفي القوم رجل يقال له: ذو اليدين، فقال: يا رسول الله، أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال «لم أنس، ولم تقصر» فقال: «أكما يقول ذو اليدين؟» فقالوا: نعم. فتقدم فصلى ما ترك، ثم سلم، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه فكبر، ثم كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع رأسه وكبر، فربما سألوه: ثم سلم؟ فيقول: نبئت أن عمران بن حصين قال: ثم سلم.» 614 - وأما حديث عمران فرواه مسلم وغيره، ولفظه: «أن رسول الله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلى العصر، فسلم في ثلاث ركعات، ثم دخل منزله - وفي لفظ - فدخل الحجرة، فقام إليه رجل يقال له: «الخرباق» وكان في يده طول، فقال: يا رسول الله. فذكر له صنيعه، فخرج غضبان، يجر رداءه، حتى انتهى إلى الناس، فقال: «أصدق هذا؟» قالوا: نعم. فصلى ركعة، ثم سلم، ثم سجد سجدتين ثم سلم» .

615 - وعن عمران بن حصين أيضا «، أن النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] صلى بهم فسهى، فسجد سجدتين، ثم تشهد، ثم سلم» . رواه أبو داود والترمذي. وقول الخرقي: ومن سلم. أي ساهيا، إذ كلامه في السهو، لأنه لو فعل ذلك عامدا بطلت صلاته، وقوله: وقد بقي عليه شيء. يشمل القليل والكثير، وكذا أطلق أبو الخطاب، وأبو محمد، وغيرهما، وشرط أبو البركات أن يكون ذلك من نقص ركعة تامة فأكثر، أما لو كان النقص سجدة ونحوها فإنه يسجد له قبل السلام، وقد نص أحمد على ذلك، في رواية حرب، وهو موجب الدليل، لأن قاعدة أحمد أن السجود كله قبل السلام، إلا في هذين الموضعين

لورود النص بهما، والنص إنما ورد في نقص ركعة تامة أو ركعتين، فإن كان الخرقي أراد الإطلاق فلعله يقول: لا فرق بين نقص ركعة وسجدة، فهو من باب لا فارق. وقوله: أتى بما بقي عليه. مشعر بأن صلاته لا تبطل بالسلام، وهو صحيح إن كان سلامه ظنا منه أن صلاته قد انقضت، أما لو كان السلام من العشاء [يظن] أنها التراويح، أو من الظهر يظن أنها جمعة، أو فجر فائتة، فإن الأولى تبطل، ولا بناء، نص عليه، لاشتراط دوام النية ذكرا أو حكمه، وقد زالت باعتقاد صلاة أخرى. وقوله: أتى بما بقي عليه. شرطه أن لا يطول الفصل، ولا يشترط البقاء في المسجد، نص أحمد على ذلك في رواية ابن منصور، محتجا بحديث عمران بن حصين المتقدم، وشرط أبو محمد أيضا أن لا ينتقض وضوءه، والذي ينبغي أن يكون حكم الحدث هنا حكم الحدث في الصلاة هل يبني معه، أو يستأنف، أو يفرق بين حدث البول والغائط، وغيرهما؟ على الخلاف، وقول الخرقي يشمل وإن دخل في صلاة أخرى،

وهو المشهور عنه، فعلى هذا يبني ما لم يطل الفصل، وعنه: يستأنفها، كذا أطلق الرواية أبو البركات، وفي المغني اختصاص الرواية بما إذا كانت الثانية تطوعا، وقال الشيرازي: يجعل ما عمل في الثانية تماما للأولى. (تنبيه) : يتشهد كالتشهد الأخير، قاله السامري، والله أعلم. قال: ومن كان إماما فشك فلم يدر كم صلى، تحرى، فبنى على أكثر وهمه، ثم سجد [أيضا] بعد السلام، كما روى عبد الله بن مسعود عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ش: إذا شك الإمام أو المنفرد في عدد الركعات، بنيا على اليقين، على إحدى الروايات، اختارها أبو بكر، والقاضي، وأبو الخطاب، وأبو البركات. 616 - لما روى عبد الرحمن بن عوف، قال: سمعت النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يقول: «إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر: واحدة صلى أم اثنتين؟ فليجعلها واحدة، وإن لم يدر: ثنتين صلى أو

ثلاثا. فليجعلها اثنتين، وإن لم يدر: ثلاثا صلى أم أربعا. فليجعلها ثلاثا، ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس، قبل أن يسلم سجدتين» رواه أحمد والترمذي وصححه. وروى ذلك من حديث أبي سعيد، رواه مسلم وغيره، ويحمل تحري الصواب في خبر عبد الله بن مسعود على استعمال اليقين، لأنه أحوط، فهو أقرب إلى الصواب (والرواية الثانية) يبنيان على غلبة ظنهما. 617 - لما روى ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قال: «إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه، ثم ليسلم، ثم ليسجد سجدتين» متفق عليه، ويحمل ما تقدم على استواء الأمرين، فإنه لا خلاف إذا في البناء على اليقين.

(والرواية الثالثة) يبني الإمام على غالب ظنه، والمنفرد على اليقين، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالتحري لما جرى عليه السهو في حال إمامته، فحملناه على من كان مثل حاله، وحملنا النص باليقين على المنفرد، جمعا بين الأحاديث، والمعنى في ذلك أن الإمام يبعد غلطه، إذ وراءه من ينبهه، فمتى سكتوا عنه علم أنه على الصواب، بخلاف المنفرد، وهذه الرواية اختيار الخرقي، وأبي محمد، وقال: إنها المشهورة. أما المأموم فإنه يرجع إلى فعل الإمام والمأمومين، بناء على [أن] الإمام إذا سبح به المأمومون أنه يرجع إليهم، كذلك المأموم، وحيث قلنا بالبناء على غلبة الظن، فإن السجود له بعد السلام، لنص حديث عبد الله بن مسعود، والله أعلم. قال: وما عدا ذلك من السهو فسجوده قبل السلام، مثل المنفرد إذا شك في صلاته فلم يدر كم صلى فبنى على اليقين، أو قام في موضع جلوس، أو جلس في موضع قيام، أو جهر في موضع تخافت، أو خافت في موضع جهر، أو صلى خمسا، أو ما عداه من السهو فكل ذلك يسجد له قبل السلام. ش: ما عدا الصورتين المتقدمتين - وهو ما إذا سلم وقد بقي عليه شيء من صلاته، وما إذا كان إماما فبنى على غلبة

ظنه، وقد تقدما مع دليلهما من صور سجود السهو، فإن السجود له قبل السلام، لما تقدم من حديث عبد الرحمن بن عوف، وعن أبي سعيد نحوه. 618 - وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لما ترك التشهد الأول سجد له قبل أن يسلم. 619 - وعن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «إذا صلى أحدكم فلم يدر أزاد أم نقص، فليسجد سجدتين وهو جالس، قبل أن يسلم» » وهذا يشمل كل سهو، وهو مقتضى القياس، خرج منه الصورتان المتقدمتان، لحديث أبي هريرة، وعمران بن حصين، قال أحمد: لولا ما جاء عنه - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكان السجود كله قبل السلام، لأنه من تمام الصلاة (وعن أحمد) رواية أخرى أن السجود كله قبل السلام، لما تقدم من حديث أبي هريرة، (وعنه) : ما

كان من زيادة فهو بعد السلام، وما كان من نقص فهو قبله، والأول هو المذهب، وعلى رواية أن الإمام يبني على اليقين، فالسجود كله قبل السلام إلا في صورة، فيكون في المسألة أربع روايات. وقول الخرقي: مثل المنفرد إذا شك فبنى على اليقين. قد تقدم ذلك، وأن المنفرد يبني على اليقين، على الصحيح بلا نزاع. وقوله: أو قام في موضع جلوس. كما إذا قام عن التشهد الأول، أو عن الأخير، أو عن جلسة الفصل بين السجدتين، وقوله: أو جلس في موضع قيام. كما إذا جلس عقب الأولى أو الثالثة في الرباعية، نعم إن كان جلوسه يسيرا فلا [سجود عليه] . وقوله: أو جهر في موضع تخافت. كالجهر في الظهر ونحوها، أو خافت في موضع جهر، كأن خافت في الصبح وهو إمام، ونحو ذلك، وقد اختلف عن أحمد [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] هل يسن السجود لهاتين الصورتين وما في معناهما من السنن. 620 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لكل سهو سجدتان» أم الأولى تركه.

621 - لأن أنسا [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] جهر في موضع تخافت فلم يسجد، ثم أبو محمد يخص الروايتين بالسنن القولية دون الفعلية، وأبو الخطاب وأبو البركات يجريانهما في جميع السنن. وقوله: أو صلى خمسا. يعني إذا كان في رباعية، وكذا أربعا إذا كان في ثلاثية، وثلاثا إذا كان في ثنائية، ولهذه الصور التي ذكره الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] تفاريع وتقاسيم تحتاج إلى بسط وتطويل. (تنبيه) قال أبو البركات: الخلاف في محل السجود، وهل هو قبل السلام أو بعده في الاستحباب، أما الجواز فإنه لا خلاف فيه، ذكره القاضي، وأبو الخطاب في خلافيهما، وظاهر كلام أبي محمد وأكثر الأصحاب خلاف هذا، وفي المستوعب فيما أظن أو غيره: وكل السهو يوجب السجود قبل السلام، إلا في موضعين، وقد حكى ابن تميم المسألة على وجهين، والله أعلم.

كلام الخرقي، لما تقدم من حديث عمران بن حصين، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد للسهو بعد أن دخل الحجرة، وتلخص أربعة أقوال، اشتراط المسجدية، وقرب الفصل، وإلغاؤهما، واشتراط الأول دون الثاني، وعكسه. وقول الخرقي: كبر. وكذلك يكبر في الرفع من السجدتين، لأن في حديث أبي هريرة: كبر وسجد مثل سجوده أو أطول، [ثم رفع رأسه ثم سجد مثل سجوده أو أطول] . وقوله: وتشهد وسلم. قد تقدم التشهد في حديث عمران بن الحصين، وتقدم السلام في ما تقدم من الأحاديث، ويسلم تسليمتين، والله أعلم. قال: وإذا نسي أربع سجدات من أربع ركعات، وذكر وهو في التشهد، سجد سجدة تصح له ركعة، ويأتي بثلاث ركعات، ويسجد للسهو، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله، والرواية الأخرى، قال: كأن هذا يلعب، يبتدئ الصلاة من أولها. ش: الرواية الأولى هي المشهورة، وهي مبنية على أصل لنا،

نسي أن عليه سجود سهو وسلم

[نسي أن عليه سجود سهو وسلم] قال: وإذا نسي أن عليه سجود سهو وسلم، كبر وسجد سجدتي السهو وتشهد وسلم، ما كان في المسجد وإن تكلم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بعد السلام والكلام. ش: إذا نسي سجود السهو، فلم يذكر حتى سلم فإنه يسجد لذلك بعد السلام، لما سيأتي من الأحاديث، لكن بشرط بقائه في المسجد، إذ حكم المسجد حكم البقعة الواحدة، فكأنه باق في مصلاه، ولهذا لو اقتدى بالإمام في المسجد جاز، وإن لم تتصل الصفوف، والخارج عنه بخلافه، ولا يشترط ترك الكلام. 622 - لما استدل به الخرقي، وهو لفظ رواية ابن مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد بعد السلام والكلام» . رواه أحمد ومسلم. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط عدم طول الفصل، والمذهب اشتراطه، لأن سجود السهو تكملة للصلاة، فلم يجز بناؤه عليها مع طول الفصل، كسائر أفعالها بعضها على بعض، وكما لو سلم من نقص ركعة، ولم يذكر حتى طال الزمان، فإنه لا يبني، كذلك هنا، (وعن أحمد) أنه يسجد وإن خرج وبعد، لأنه جبران بعد التحلل من العبادة، فجاز وإن طال الزمان كجبران الحج، واختار أبو البركات اعتبار قرب الفصل، وإلغاء البقاء في المسجد، عكس ظاهر

وهو أن من ترك ركنا من ركعة، فلم يذكره حتى شرع في قراءة ركعة أخرى، فإن المنسي ركنها تلغو، وتصير التي شرع في قراءتها أولاه، ففي هذه الصورة إذا ترك سجدة من الأولى، فبشروعه في قراءة الثانية بطلت، وصارت الثانية أولاه، ثم لما ترك من الثانية سجدة، وشرع في قراءة الثالثة، بطلت الثانية أيضا، وصارت الثالثة أولاه، ثم لما ترك من الثالثة سجدة، وشرع في قراءة الرابعة بطلت الثالثة أيضا، وصارت الرابعة أولاه، ثم لما ترك من الرابعة سجدة وذكر [وهو] في التشهد، فإنه يسجد سجدة، لعدم المقتضي لبطلان الرابعة، وإذا تصح له ركعة، ويأتي بثلاث (والرواية الثانية) تبطل الصلاة رأسا، وقد علله أحمد بأن هذا كان يلعب، لحصول عمل كثير ملغى في صلاته. وقول الخرقي: وذكر وهو في التشهد. يخرج ما إذا ذكر بعد السلام، فإن ابن عقيل قال: تبطل صلاته. وكذلك قال أبو محمد، زاعما أن أحمد نص على ذلك، في رواية الأثرم. وقال أبو البركات: إنما يستقيم قول ابن عقيل على قول أبي الخطاب في من ترك ركنا فلم يذكره حتى سلم، أن صلاته تبطل، فأما على منصوص أحمد في البناء إذا ذكر قبل أن يطول الفصل، فإنه يصنع كما يصنع إذا ذكر [وهو] في التشهد. (قلت) : وقياس المذهب قول ابن عقيل، لأن من

ليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه

أصلنا أن من ترك ركنا من ركعة فلم يذكره حتى سلم، أنه كمن ترك ركعة، وهنا الفرض أنه لم يذكر إلا بعد السلام، وإذا كان كمن ترك ركعة، والحاصل له من الصلاة ركعة، فتبطل الصلاة رأسا، والله أعلم. [ليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه] قال: وليس على المأموم سجود سهو إلا أن يسهو إمامه فيسجد معه. ش: هذا إجماع حكاه إسحاق بن راهويه. 623 - ويشهد له قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا» ، وصح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لما سجد لترك التشهد الأول سجد الناس معه. 624 - ولما تكلم معاوية بن الحكم خلفه جاهلا لم يأمره بسجود.

625 - وقد روى الدارقطني، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «ليس على من خلف الإمام سهو، فإن سهى فعليه وعلى من خلفه السهو» ، إلا أن إسناده ضعيف. وظاهر كلام الخرقي أن المسبوق يسجد لسهو إمامه، وإن كان سهوه في غير ما أدركه فيه، وهو صحيح، لعموم ما تقدم، ولأن صلاته تنقص بمتابعة إمام في صلاة ناقصة. ومقتضى كلام الخرقي أن الإمام سهى ولم يسجد أن المأموم لا يسجد، وهو إحدى الروايتين واختاره أبو بكر وأبو البركات، لأن المأموم إنما سجد تبعا للإمام، فإذا لم يسجد الإمام لم يسجد المأموم، لعدم المقتضي. (والرواية الثانية) : يسجد إن يئس ظاهرا من سجود إمامه، اختارها القاضي في التعليق، وفي الروايتين، وابن عقيل، إذ

صلاته نقصت بنقص صلاة إمامه، فلزمه جبرانها، كما لو انفرد عن إمامه لعذر، قال أبو البركات: ومحل الروايتين إذا ترك الإمام السجود سهوا، أما إن تركه عمدا، وهو مما محله قبل السلام، فإن صلاته تبطل، على ظاهر المذهب، وهل تبطل صلاة من خلفه على روايتين، نعم إن تركه عمدا لاعتقاده عدم وجوبه، فهو كتركه سهوا عند أبي محمد، والظاهر أنه يخرج على ترك الإمام ما يعتقد المأموم وجوبه، [والله أعلم] . قال: ومن تكلم عامدا أو ساهيا بطلت صلاته، إلا الإمام خاصة، فإنه إذا تكلم لمصلحة الصلاة لم تبطل صلاته [والله أعلم] . ش: إذا تكلم عمدا - وهو من يعلم أنه في صلاة، وأن الكلام محرم لغير مصلحة الصلاة - بطلت صلاته بالإجماع، قاله ابن المنذر، وإن تكلم عمدا لمصلحتها فروايات، أشهرها - واختارها الخلال، وصاحبه، والقاضي، وأبو الحسين، والأكثرون - البطلان مطلقا.

626 - لما روى زيد بن أرقم، قال: «كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام.» متفق عليه، وللترمذي فيه [قال] : «كنا نتكلم خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصلاة» . وزيد مدني، وهو يدل على أن نسخ الكلام كان بالمدينة، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» . (والثانية) : عدم البطلان مطلقا، لما تقدم في حديث أبي هريرة من قصة ذي اليدين، وفيها [في] رواية متفق عليها، لما قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لم أنس، ولم تقصر» قال: بلى قد نسيت يا رسول الله. فتكلم ذو اليدين بعد ما علم النسخ، بكلام ليس بجواب سؤال، وفي رواية لمسلم، قال: بينما أنا أصلي. وهذا يدل على أن القصة كانت بحضرته، بعد إسلامه، [وإسلامه] كان

عام فتح خيبر، وتحريم الكلام كان قريبا من الهجرة قبلها، في قول أبي حاتم بن حبان أو بعدها بقليل، وأيما كان فإسلام أبي هريرة بعد ذلك بسنين. (والثالثة) تبطل إلا صلاة الإمام خاصة، اختارها الخرقي، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكلم وكان إماما، فتأسينا به، وبقينا في المأموم على عمومات النهي، إذ إلحاقه بذي اليدين متعذر، لظنه النسخ في وقت يحتمله، وغيره تكلم مجيبا له [- عَلَيْهِ السَّلَامُ -] وإجابته واجبة حتى في الصلاة. 627 - وروى البخاري «عن أبي سعيد بن المعلى، قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم أجبه، ثم أتيته، وقلت: يا رسول الله، كنت أصلي. فقال: «ألم يقل الله [سبحانه] : {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] » ثم بعض الأصحاب يخص البطلان بمن ظن تمام صلاته، كمن

سلم عن نقصان، ثم تكلم في شأن الصلاة، لمورد النص، وهو اختيار أبي محمد، والقاضي يجعل الخلاف مطلقا، وهو اختيار أبي البركات، لأن الحاجة إلى الكلام هنا قد تكون أشد، كإمام نسي القراءة ونحوها، فإنه يحتاج أن يأتي بركعة، فلا بد له من إعلام المأمومين. وإن تكلم [سهوا] فروايات أيضا، أشهرها - وهو اختيار ابن أبي موسى، والقاضي وغيرهما - البطلان لعمومات النهي، وكما في العقود المنهي عنها، الملامسة، والمنابذة، ونكاح المرأة على عمتها، ونحو ذلك، (والثانية) : عدم البطلان، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تكلم معتقدا أنه ليس في صلاة، وكذلك أصحابه، لظنهم النسخ، فكان كلامهم اعتقادا منهم لإباحته وإلا لما أقرهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك (والثالثة) : إن كان لمصلحة الصلاة لم تبطل، وإلا بطلت، اختاره [أبو البركات] لأن كلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكلام أصحابه جمع الأمرين، فيبقى فيما

باب الصلاة بالنجاسة وغير ذلك

سواه على قضية عموم التحريم والفساد، ثم هل شرط مالا يبطل كونه يسيرا، وهو اختيار الشيخين، والقاضي في المجرد، زاعما أنه رواية واحدة، أو لا يشترط، وهو اختيار القاضي في الجامع الكبير، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد؟ وجهان، [والله أعلم] . [باب الصلاة بالنجاسة وغير ذلك] قال: وإذا لم تكن ثيابه طاهرة، وموضع صلاته طاهرا أعاد. ش: اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة في الجملة. 628 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنزهوا من البول» وقوله في حديث أسماء: «ثم اغسليه ثم صلي فيه» . 629 - وفي حديث النعلين: «فإن رأى فيهما خبثا فليمسحه، ثم ليصل فيهما» .

630 - وعن جابر بن سمرة قال: «سمعت رجلا يسأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي؟ فقال: «نعم، إلا أن ترى فيه شيئا فتغسله» رواه أحمد، وابن ماجه. وقال ابن المنذر: «ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جعلت لي كل أرض طيبة مسجدا وطهورا» والطيبة الطاهرة، والتقييد يقتضي

الصلاة بالمقبرة أو الحش أو الحمام أو أعطان الإبل ونحوها

الاختصاص، وقد قيل في قَوْله تَعَالَى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] أي اغسل. إذا تقرر هذا فيجب اجتناب النجاسة في ثوبه، وموضع صلاته، وكذلك بدنه بطريق الأولى، وكذلك يجتنب حملها، أو حمل ما يلاقيها، وقال ابن عقيل - فيمن [ألصق ثوبه إلى نجاسة يابسة، على ثوب إنسان بجنبه -: لا تبطل صلاته، وإن] لاقاها ثوبه إذا سجد فاحتمالان، قال أبو البركات: والصحيح البطلان، على ظاهر كلام القاضي، وأبي الخطاب، والله أعلم. [الصلاة بالمقبرة أو الحش أو الحمام أو أعطان الإبل ونحوها] قال: وكذلك إن صلى بالمقبرة، أو الحش، أو الحمام، أو أعطان الإبل أعاد. ش: المشهور من المذهب أن الصلاة في هذه المواضع محرمة، فلا تجزئه. 631 - لما روى أبو سعيد الخدري [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة، والحمام» رواه الخمسة إلا النسائي.

632 - وعن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل» رواه أحمد، والترمذي، وصححه. 633 - وعن عبد الله بن المغفل، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلوا في أعطان الإبل، فإنها خلقت من الشياطين» رواه أحمد وغيره، وإذا منع من الصلاة في المقبرة فالحش أولى، لأن كونه مظنة للنجاسة أظهر. 634 - وقد صح عن الصحابة كراهة الصلاة إليه، فالصلاة فيه أولى بالمنع. (وعن أحمد) : تكره وتصح.

635 - لما روى جابر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل حيث أدركته» متفق عليه. 636 - ورأى عمر أنسا يصلي عند قبر، فقال: القبر القبر. ولم يأمره بالإعادة، ذكره البخاري في صحيحه، (وعنه) إن علم النهي لم تصح، وإلا صحت، إناطة بالعذر، وألحق عامة الأصحاب بهذه المواضع المجزرة والمزبلة، ومحجة الطريق. 637 - لما روي عن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سبع مواطن لا تجوز الصلاة فيها: ظاهر بيت الله، [والمقبرة] ، والمزبلة، والمجزرة، والحمام، وعطن الإبل، ومحجة الطريق» رواه ابن ماجه، وروي أيضا عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

وقال الترمذي: إنه أشبه وأصح. وظاهر كلام الخرقي صحة الصلاة في هذه المواضع، وهو اختيار أبي محمد. «تنبيه» : لا فرق في المقبرة بين الحديثة والعتيقة، وبين المنبوشة وغيرها، وشرط أبو محمد أن يكون فيها ثلاثة قبور وأزيد، أما لو كان فيها قبر أو قبران فإن الصلاة تصح فيها، (والحش) المرحاض، ولا فرق فيه بين موضع التغوط وغيره، (وأعطان الإبل) هي التي تقيم فيها، وتأوي إليها، نص عليه أحمد.

638 - لأن في بعض ألفاظ الحديث: أنصلي في مبارك الإبل؟ وقيل: مواضع اجتماعها عند المصدر من المنهل، ولا فرق في الحمام بين مسلخه وجوانبه، لشمول الاسم لذلك، أما الأتون فلا يصلى فيه، لكونه مزبلة. (والمجزرة) الموضع المعد للذبح، ولا فرق بين البقعة الطاهرة منه والنجسة، وكذلك لا فرق في المزبلة أن يرمي [فيها] زبالة طاهرة أو نجسة. (ومحجة الطريق) هو الطريق الذي تسلكه المارة،

حكم من صلى وفي ثوبه نجاسة

نعم إن كثر الجمع، واتصلت الصفوف، صحت الصلاة فيه للحاجة، أما الصلاة على ما علا عن جادة المسافر يمنة أو يسرة، فتصح الصلاة فيه [للحاجة] ولا تكره، لأنه ليس بمحجة. والنهي عن الصلاة في هذه المواضع تعبدي عند الأكثرين، وقيل: بل معلل بكونها مظنة للنجاسات والقاذورات، لعدم صيانتها عن ذلك غالبا، فعلى الأول لا تصح الصلاة في أسطحة هذه المواضع، إذ الهواء يتبع القرار، بدليل تبعه له في مطلق البيع، وتصح على الثاني، والله أعلم. [حكم من صلى وفي ثوبه نجاسة] قال: وإن صلى وفي ثوبه نجاسة وإن قلت أعاد. ش: لعموم ما تقدم، وإنما نص الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] على هذه المسألة، لينبه على مخالفة مذهب الغير، ولما يستثنى منه، وهو قوله: إلا أن يكون ذلك دما أو قيحا يسيرا، مما لا يفحش في القلب. 639 - ش: لأن ذلك يروى عن جماعة من الصحابة، قال أحمد: جماعة من الصحابة تكلموا فيه.

640 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قد كان يكون لإحدانا الدرع فيه تحيض، فإن أصابها شيء من دمها بلته بريقها، ثم قصعته بريقها. رواه أبو داود، والريق لا يطهره، ومثل هذا لا يخفى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والقيح ونحوه بمنزلة الدم، قال أحمد: هو أسهل من الدم. واختلف في حد اليسير اختلافا كثيرا، والمشهور أنه ما يفحش في القلب، والظاهر من قول الخرقي [أنه] ما يفحش في قلب كل إنسان بحسبه، وهو اختيار الخلال، وقال: إنه الذي استقر عليه قوله، وإليه ميل الشيخين في كتابيهما الكبيرين، وقال ابن عقيل وأبو البركات في محرره: إنه ما يفحش في نفوس متوسطي الناس، فلا عبرة بالقصابين، ولا

المتوسوسين. وكلام الخرقي يشمل كل دم، والعفو مختص بدم الطاهر، وهو واضح، وكلامه شامل لدم الحيض، وهو أحد الوجهين، وبه قطع أبو محمد، (والثاني) : لا يعفى عن دم الحيض مطلقا، اختاره أبو البركات، وكذلك الوجهان في الدم الخارج من السبيل، والله أعلم. قال: وإذا خفي عليه] موضع النجاسة من الثوب استطهر، حتى يتيقن أن الغسل قد أتى على النجاسة. ش: لأنه قد تيقن نجاسة الثوب، فلا بد من غسل ما يتيقن معه طهارته، إذ اليقين لا يزيله إلا يقين مثله، وصار هذا كمن تيقن الطهارة، وشك في الحدث، أو بالعكس، فلو وقعت النجاسة في أحد الكمين، أو أحد الثوبين، ونحو ذلك، ولم يعلم عينه، لم يحكم بطهارتهما إلا بغسلهما. وتقييد الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] بالثوب احترازا مما إذا خفي موضع النجاسة بفضاء واسع، ونحو ذلك، فإنه يتحرى،

بول الآدمي وبول الحيوان غير مأكول اللحم

ويصلي حيث شاء، دفعا للحرج والمشقة، [والله أعلم] . [بول الآدمي وبول الحيوان غير مأكول اللحم] قال: وما خرج من الإنسان أو البهيمة التي لا يؤكل لحمها، من بول أو غيره فهو نجس. ش: الخارج من الإنسان ثلاثة [أقسام] : (طاهر) بلا نزاع، وهو الدمع، والعرق والريق والمخاط، والبصاق. 641 - وفي الصحيح «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى نخامة في قبلة المسجد، فأقبل على الناس فقال: «ما بال أحدكم يقوم مستقبل ربه، فيتنخع [أمامه؟ أيحب أن يستقبل فيتنخع] في وجهه، فإذا تنخع أحدكم فليتنخع عن يساره، أو تحت قدمه، فإن لم يجد فليقل هكذا» ووصف القاسم، فتفل في ثوبه، ثم مسح بعضه ببعض. (ونجس) بلا نزاع، وهو البول [والغائط] والودي والدم وما في معناه، والقيء، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تنزهوا من البول» . وقال: «صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء» ، وقال: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه

القاذورات» وقد حكى بعضهم الإجماع على نجاسة البول. (ومختلف فيه) وهو المني، وسيأتي إن شاء الله تعالى، والمذي لتردده بين البول - لكونه لا يخلق منه آدمي - والمني [لكونه ناشئا عن الشهوة، وبلغم المعدة، لتردده بين القيء ونخامة الرأس] . وما عدا الآدمي على ضربين: مأكول، وغيره. (فالمأكول) بوله وروثه طاهر، على الصحيح المشهور من الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي. 642 - لأنه أمر العرنيين بشرب أبوال الإبل ولم يأمرهم بغسل أفواههم، وأباح الصلاة في مرابض الغنم. (وعنه) نجس، لعموم «تنزهوا من البول» ونحوه، وحكم منيه،

وقيئه حكم بوله، أما عرقه، ودمعه، وريقه، ولبنه فطاهر بلا نزاع، وعكسه دمه، وما تولد منه نجس بلا نزاع. (وغير المأكول) على ثلاثة أضرب: (نجس) بلا نزاع، وهو الكلب، والخنزير، وما تولد منهما، أو من أحدهما، فجميع فضلاته نجسة بلا ريب. (ومختلف فيه) وهو البغل، والحمار، وسباع البهائم وجوارح الطير، فإن حكم بنجاستها فهي كالكلب والخنزير، وإن حكم بطهارتها فكالآدمي. (وطاهر) بلا نزاع، وهو الهر وما دونها في الخلقة. وما لا نفس له سائلة، فالهر وما دونها في الخلقة حكم الخارج [منها حكم الخارج] من الآدمي، إلا منيه فإنه نحبس، وما لا نفس له سائلة الخارج منه طاهر. وإذ قد علمت هذا فكلام الخرقي إن حمل على عمومه في أن كل خارج من الإنسان أو البهيمة التي لا يؤكل لحمها نجس، وردت عليه صور كثيرة قد تقدمت، وإن حمل على أنه عنى بالخارج: الخارج من السبيلين - كما فسره أبو محمد -

بول الغلام

فاتته أحكام كثيرة مع أنه يرد عليه الخارج من سبيل ما لا نفس له سائلة، وقد يقال: مراده العموم، وسلم له في الكلب والخنزير، وما تولد منهما، والبغل والحمار، وسباع البهائم والطير، على المذهب. وأما الهرة فهو قد استثنى سؤرها، ولا شك أن عرقها في معناه، أما لبنها فأظن في نجاسته خلاف، فلعله اختار النجاسة، وأما الآدمي فيرد عليه سؤره، وعرقه، ولبنه، ومخاطه ولعله ترك التنبيه على طهارة ذلك لوضوحه، والله أعلم. [بول الغلام] قال: إلا بول الغلام الذي لم يأكل الطعام، فإنه يرش عليه الماء. ش: ظاهر هذا أن بول الغلام طاهر، وأنه يرش عليه الماء تعبدا [للأثر] ، وحكي هذا عن أبي إسحاق بن شاقلا، والمشهور المعروف في المذهب نجاسته لعموم الأدلة الدالة على نجاسة البول، وإنما اكتفي برشه وهو نضحه، بحيث يغمر، ولا يشترط انفصال الماء عنه، ولا تجفيفه.

643 - لما روت عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] ، قالت: «أتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بصبي فبال على ثوبه، فدعا بماء فأتبعه بوله» - ولمسلم - «فأتبعه بوله، ولم يغسله» . والاستثناء [في كلام الخرقي] ، قال أبو محمد: [قيل] بمعنى «لكن» والأحسن أنه استثناء من مقدر، والتقدير: وما خرج من الإنسان يجب غسله إلا بول الغلام، [فالاستثناء من قوله: يجب غسله. وقرينة هذا التقدير قوله بالرش في بول الغلام] . وتقييد الخرقي بالغلام ليخرج الخنثى والأنثى، إذ الرخصة إنما وردت في الغلام، والحكمة فيه أن العرب كانوا يكثرون حمل الذكر، فلو كلفوا بالغسل لأفضى ذلك إلى حرج ومشقة، بخلاف الأنثى فإنهم لم يكونوا يعتادون حملها، أو أن بول الغلام يظهر بقوة فينتشر ويعم الحاضرين، بخلاف بول الأنثى، فإنه لا يتجاوز محله. 644 - وفي المسند، والترمذي وحسنه، عن علي [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بول الغلام الرضيع ينضح، وبول الجارية يغسل» ، قال قتادة: هذا ما لم يطعما، فإذا طعما غسل بولهما.

طهارة المني

وقوله: لم يأكل الطعام. احترازا مما إذا أكل الطعام، والطعام الذي يترتب عليه الغسل الذي يأكله تغذيا واشتهاء، فلا عبرة بلعقة العسل، ونحو ذلك، والله أعلم. [طهارة المني] قال: والمني طاهر، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه كالدم. ش: المشهور المعروف في المذهب أن المني طاهر. 645 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[فركا] فيصلي فيه» ، ولو كان نجسا لما أجزأ فركه، كالودي، والمذي.

646 - ولأحمد عنها، «قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلت المني من ثوبه بعرق الإذخر، ثم يصلي فيه، ويحته من ثوبه يابسا ثم يصلي فيه» . 647 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن المني يصيب الثوب، فقال: «إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقة أو بإذخرة» رواه الدارقطني، وروي موقوفا على ابن عباس، (وعن أحمد) رواية أخرى أنه نجس، لأنه يشترك مع البول في مخرجه، وعلى هذا فيجزئ فرك يابسه لمكان النص. 648 - وفي الدارقطني، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يابسا، وأغسله إذا كان رطبا» ، لكن قال أحمد: إنما يجزئ الفرك في الرجل دون

كيفية تطهير الأرض المتنجسة

المرأة، لأن النص إنما ورد فيه، ولا يحسن إلحاق المرأة به، إذ مني الرجل يذهب غالبه بالفرك لغلظه، بخلاف مني المرأة لرقته، وهل يعفى عن يسيره؟ فيه روايتان، والعفو اختيار الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لجعله كالدم، وهو ظاهر النص، والله أعلم. [كيفية تطهير الأرض المتنجسة] قال: والبولة على الأرض يطهرها دلو من الماء. ش: المذهب المشهور - المختار للشيخين وغيرهما - أن الأرض تطهر إذا عمت بالماء، ولم يبق للنجاسة أثر، وإن لم ينفصل الماء. 649 - لما «روى أنس [بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، قال: بينما نحن في المسجد، مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مه مه. قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزرموه [دعوه] » فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعاه، ثم قال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن» أو كما قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه» ، متفق عليه، واللفظ لمسلم. (وعن أحمد) رواية

أخرى أن النجاسة إذا كانت قائمة، لم تنشفها الأرض لم تطهر إلا بشرط الانفصال، ويكون المنفصل نجسا، اختاره أبو بكر، والقاضي، وظاهر الخبر خلاف ذلك. وقول الخرقي: دلو من ماء. اتبع فيه الحديث، وإلا فالمقصود ذهاب النجاسة، وكذلك تقييده بالبول، وخرج بذكر الماء الشمس والريح، والاستحالة، فإنها لا تطهر، والله أعلم. قال: وإذا نسي فصلى بهم أعاد وحده. [والله أعلم] . 650 - ش: لما روي عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى بالناس الصبح، ثم خرج إلى الجرف، فأهراق الماء فوجد في ثوبه احتلاما، فأعاد ولم يعد الناس، رواه مالك في الموطأ وغيره. 651 - وكذلك [روي] عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

652 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: إذا صلى الجنب بالقوم فأتم بهم الصلاة آمره أن يغتسل ويعيد، ولا آمرهم أن يعيدوا. وهذه قضايا اشتهرت ولم تنكر فتنزل منزلة الإجماع، والمعنى في ذلك أن الجنابة مما يخفى على المأمومين، ويتعذر عليهم معرفتها، ويقع كثيرا فصح الاقتداء معها، بخلاف الستارة ونحوها لظهورها، وبخلاف ترك القراءة ونحوها سهوا لندرة ذلك، وحكى أبو الخطاب في الانتصار رواية [أخرى] بإعادة المأمومين كالإمام، قياسا على بقية الشروط، والأول المذهب. وشرط المسألة أن لا يعلم الإمام ولا المأمومون [بالحدث] إلا بعد الفراغ، فإن علم الإمام والمأمومون في الصلاة بطلت وفسدت صلاتهم، واستأنفوا، نص عليه، وقيل عنه فيما إذا علم المأمومون أنهم يبنون، ولو علم بعض المأمومين دون بعض، اختص البطلان بالعالم عند أبي محمد، والمنصوص [أن] البطلان يعم الجميع. وتقييد الخرقي الحكم بالجنب [يحتمل لاختصاص الحكم

باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها

به، ويحتمل لأن قضاء الصحابة ورد به، وقد ألحق الأصحاب بالجنب] المحدث الحدث الأصغر. 653 - وروي ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وألحق أبو محمد النجاسة بذلك، إن قيل ببطلان الصلاة بها مع السهو، نظرا إلى أن جميع ذلك يخفى على المأمومين، والله أعلم. [باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها] قال: ويقضي الفوائت من الصلوات الفرض، ويركع للطواف، ويصلي على الجنائز، ويصلي إذا كان في المسجد وأقيمت الصلاة وقد كان صلى، في كل وقت نهى عن الصلاة فيه، وهو ما بعده الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس. ش: المعروف المشهور في المذهب أن أوقات النهي خمسة، بعد طلوع الفجر، حتى تطلع الشمس، وبعد الطلوع، حتى ترتفع قيد رمح، وعند قيامها حتى تزول، وبعد العصر حتى تشرع في الغروب، وإذا شرعت [في الغروب] ، حتى تتكامل.

654 - لما روى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بعد الفجر، حتى تطلع الشمس، وبعد العصر، حتى تغرب الشمس» . 655 - وعن أبي هريرة مثله. 656 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد [صلاة] الصبح حتى تطلع الشمس] » متفق عليهن. 657 - «وعن عمرو بن عبسة، قال: قلت: يا رسول الله، أخبرني عن الصلاة. قال: «صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار، ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى يستقل الظل بالرمح، ثم أقصر عن الصلاة، فإنه حينئذ تسجر جهنم، فإذا أقبل الفيء [فصل] فإن الصلاة مشهودة محضورة، حتى تصلي العصر، ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني الشيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار» رواه أحمد ومسلم. 658 - ولأحمد من «حديث كعب بن مرة، أو مرة بن كعب السلمي،

قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الليل أسمع؟ قال: «جوف الليل الآخر، ثم الصلاة مقبولة حتى يصبح الصبح، ثم لا صلاة حتى تطلع الشمس، وترتفع قيد رمح أو رمحين» مختصر. 659 - «وعن عقبة بن عامر، قال: ثلاث ساعات نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نصلي فيهن، أو نقبر فيهن موتانا، حين تطلع الشمس بازغة، حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة، وحين تضيف للغروب حتى تغرب» ، رواه مسلم وغيره.

وظاهر كلام الخرقي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أوقات النهي ثلاثة، بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب [الشمس] ، وهذا الوقت يشتمل على وقتين كما تقدم، ولعله اعتمد في ذلك على أحاديث عمر، وأبي هريرة، وأبي سعيد المتفق عليهن، فإن المذكور فيهن ذلك، لكن قد صح النهي - من رواية مسلم وغيره - عن الصلاة بعد الطلوع حتى ترتفع، ومن رواية عمرو بن عبسة، وعقبة بن عامر، ويحتمل أنه عبر عن الارتفاع بالطلوع لاتصاله به، فإذا أسقط وقت الزوال لحديث ابن عمر. 660 - لأن ابن عمر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: أصلي كما رأيت أصحابي يصلون. لا أنهى أحدا يصلي بليل أو نهار ما شاء، غير أن لا يتحرى طلوع الشمس ولا غروبها. رواه البخاري.

والمذهب المعمول عليه الأول، لحديث عقبة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] . إذا تقرر هذا فيستثنى من النهي عن الصلاة في هذه الأوقات أمور. (منها) قضاء ما عليه من الفوائت المفروضات [بلا نزاع] . 661 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» ثم تلا: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] » وهذا وإن كان عاما من وجه، خاصا [من وجه] ، كما أن أحاديث النهي كذلك، لكن يرجح عليها، لما فيه من الاحتياط لأداء الواجب، وبراءة الذمة، ويلحق بذلك المنذورات، على أشهر الروايتين لاشتراكهما في الوجوب، (ومنها) ركعتا الطواف. 662 - لما روي «عن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا بني عبد المطلب - أو يا بني عبد مناف - لا تمنعوا أحدا يطوف بالبيت أو يصلي، فإنه لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلا عند هذا البيت، يطوفون ويصلون» رواه الدارقطني، ولأن الطواف

جائز في كل وقت، مع كونه صلاة [كما] ورد فكذلك ركعتاه، لأنهما تبع له. (ومنها) الصلاة على الجنائز، بالإجماع فيما بعد الفجر والعصر، قاله ابن المنذر، ولأنها فرض في الجملة أشبهت قضاء الفوائت. 663 - «وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ثلاث يا علي لا تؤخرهن، الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها

كفؤا» . (ومنها) إعادة الجماعة، إذا أقيمت، وهو في المسجد. 664 - لما «روى يزيد بن الأسود العامري، قال: شهدت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجته، فصليت معه صلاة الفجر في أول مسجد الخيف، فلما قضى صلاته، إذا هو برجلين في آخر المسجد لم يصليا [معنا] ، فقال: «علي بهما» فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: «ما منعكما أن تصليا معنا» ؟ قالا: يا رسول الله إنا قد صلينا في رحالنا. فقال: «فلا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه. وشرط الخرقي وكذلك غيره لإعادة الجماعة في وقت النهي أن يكون في المسجد، وشرط القاضي، وأبو البركات وغيرهما أن يكون المقيم إمام الحي، إذ قضية النص وردت في ذلك، ولم يشترط ذلك أبو محمد، وزعم أنه ظاهر كلام أحمد، وكلام الخرقي محتمل، قال أبو البركات: وهذا إذا منعنا التنفل بما له سبب في وقت النهي، أما إن جوزناه فإنه يجوز إعادة

الفجر والعصر، مع إمام الحي وغيره، ولا يكره له الدخول إذا كان خارج المسجد، لأنه نفل له سبب، أشبه تحية المسجد. واعلم أن الموضع الذي يجوز فيه صلاتا الطواف، والجنازة، وإعادة الجماعة - بلا نزاع - هو ما بعد الفجر والعصر، أما عند طلوع الشمس وقيامها، وغروبها، ففيه روايتان. (تنبيه) : أول وقت النهي المتعلق بالفجر طلوعه، على المشهور من الروايتين. 665 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر» احتج به في رواية صالح، ورواه [هو و] أبو داود من حديث ابن عمر. (والرواية الثانية) - واختارها أبو محمد التميمي -

نفس الصلاة، لأن النهي ورد مقيدا بذلك في حديث أبي سعيد وعمر وغيرهما وهي أصح إسنادا، فعلى الأولى تستثنى ركعتا الفجر بلا خلاف [للحديث] (وآخره) ما لم يبد شيء من الشمس. (وأول الوقت الثاني) بدو شيء من قرص الشمس، إذا ارتفعت قيد رمح، أي قدر رمح. (وأول [الوقت] الثالث) إذا وقف الظل عن التناقص في أعيننا، إلى أن يأخذ في الزيادة. وأما الوقت الرابع فيتعلق في حق كل إنسان بفراغه من العصر الحاضرة، لا بفعل غيره ولا بفعله عصرا فائتة، ولا بشروعه، ولو صلاها في وقت الظهر جمعا دخل وقت النهي في حقه، وفي المذهب قول آخر فيما أظن أنه بدخول وقت العصر، كما في الفجر، وهو ظاهر كلام الخرقي،

(وآخره) يعرف بأول الوقت الخامس، وهو إذا أخذت الشمس في الغروب عند العامة، وعند الشيخين: إذا اصفرت، (وآخره) كمال غروبها، والله أعلم. قال: ولا يبتدئ في هذه الأوقات صلاة يتطوع بها. ش: ما عدا ما تقدم من التطوع على ضربين. (أحدهما) النفل المطلق، ولا خلاف أنه لا يجوز ابتداؤه في أوقات النهي، لما تقدم من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأمره بالإمساك عن ذلك في هذه الأوقات. (الثاني) النفل المقيد، وهو ما له سبب، كتحية المسجد، وصلاة الكسوف، وسجود التلاوة، وقضاء السنن الراتبة، ونحو ذلك، فهل يجوز ابتداؤه في هذه الأوقات؟ فيه روايتان مشهورتان: (إحداهما) : [الجواز] ، اختارها أبو الخطاب. 666 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» .

667 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نام عن وتره أو نسيه، فليصله إذا ذكره» . 668 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموها فصلوا» وهذا وإن كان عاما من وجه، خاصا من وجه، فيترجح على أحاديث النهي. 669 - بما «روت أم سلمة، قالت: دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم بعد العصر، فصلى ركعتين، فقلت: يا رسول الله، صليت صلاة لم أكن أراك تصليها؟ فقال: «إني كنت أصلي ركعتين

بعد الظهر، وإنه قدم وفد بني تميم، فشغلوني عنهما، فهما هاتان الركعتان» متفق عليه. 670 - وعن «قيس بن عمرو، قال: رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يصلي بعد الصبح ركعتين، فقال له: «أصلاة الصبح مرتين؟» فقال له الرجل: إني لم أكن صليت الركعتين قبلهما، فصليتهما الآن. فسكت عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه الخمسة إلا النسائي، وإذا ثبت

ذلك في قضاء السنة، مع أنها لا تفوت بالتأخير، فما له سبب مما يفوت بالتأخير أحرى. (والثانية) المنع، واختارها القاضي، والخرقي، لقوله: [ولا يجوز أن يصلي في الأوقات التي لا يجوز أن يصلي فيها تطوعا. وقوله] : وإذا كان الكسوف في غير وقت صلاة، جعل [مكان] الصلاة تسبيحا. وهو ظاهر إطلاقه هنا، وتقييده الفوائت بالفرائض، إذ مفهومه أنه لا يقضي الفوائت النوافل، والأصل في ذلك أحاديث النهي، فإنها عامة في كل صلاة، وإنما يرجح عمومها على أحاديث التحية ونحوها لأنها حاضرة، وتلك مبيحة أو بادئة، وكم بينهما. 671 - وأيضا فروى أبو تميمة الهجيمي، قال: كنت أقص بعد صلاة الصبح فأسجد، فنهاني ابن عمر ثلاثا فلم أنته، ثم عاد فقال: [إني] صليت خلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومع أبي بكر، وعمر، وعثمان، فلم يسجدوا حتى تطلع الشمس. رواه أبو داود.

(وأما) صلاته [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] بعد العصر فمن خصائصه، بدليل ما روى أحمد فيه، «أن أم سلمة قالت: يا رسول الله، أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: «لا» . (وأما) حديث قيس بن عمرو ففي إسناده سعد بن سعيد، وقد ضعفه أحمد، وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج به. مع أن الترمذي قال: ليس بمتصل. واستثنى ابن أبي موسى من الروايتين قضاء، ورده ووتره بعد طلوع الفجر، حتى يصلي الصبح، وهو حسن، وتابعه أبو محمد، وزاد عليه ركعتي الفجر بعد صلاة الصبح، وقضاء الراتبة بعد العصر، لحديثي قيس وأم سلمة، وفيه جمود.

كيفية صلاة التطوع

وقول الخرقي: ولا يبتدئ مفهومه أنه لو كان في صلاة تطوع أتمها ولم يقطعها، وهو صحيح، لكنه يخففها، وحيث منع من الصلاة فخالف وصلى، لم تنعقد لمكان النهي، إلا أن يكون جاهلا ففيه روايتان، [والله أعلم] . [كيفية صلاة التطوع] قال: وصلاة التطوع مثنى مثنى، وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس. ش: الأولى في تطوع الليل والنهار كونه مثنى مثنى، أي يسلم من كل ركعتين. 672 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «سأل رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو قائم على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: «مثنى مثنى» وفي لفظ «صلاة الليل مثنى مثنى» متفق عليه. 673 - وعنه أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلاة الليل والنهار مثنى مثنى» رواه [الخمسة واحتج به] أحمد وجود إسناده في رواية الميموني، وعن البخاري أنه صححه، وليس بمعارض لما قبله لوقوعه جواب سؤال، ولا مفهوم له اتفاقا. وإن تطوع في النهار بأربع فلا بأس.

674 - لما روى أبو أيوب «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي قبل الظهر أربعا، لا يفصل بينهن بتسليم» . رواه أبو داود. فلو زاد على أربع

بالنهار، وركعتين بالليل لم يجز عند أبي محمد، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار بعض الأصحاب، مصرحا بالبطلان، لظاهر ما تقدم. مع أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يثبت عنه في التطوع المطلق خلاف ذلك، ولو جاز لبينه ولو مرة، والمشهور جواز ذلك مع الكراهة، اختاره القاضي، وأبو الخطاب، وأبو البركات. 675 - لما ثبت من صلاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوتر خمسا، وسبعا، وتسعا، بسلام واحد، وهو تطوع، فيلحق به غيره من التطوعات. 676 - وقد روي في حديث أم هانئ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الضحى يوم الفتح ثمان ركعات، لم يفصل بينهن، إلا أنه مخالف لروايتها

المشهورة أنه سلم بين كل ركعتين، إذ القصة واحدة، مع أن أحمد أنكر هذا، وذكر قول أبي حنيفة: لو أن رجلا صلى ثماني ركعات، لم يسلم إلا في آخرها كان مصيبا، لحديث أم هانئ «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى ثمان ركعات لم يسلم إلا في آخرهن» ، قيل لأبي حنيفة: ليس في الحديث لم يسلم. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز التطوع بركعة، وهو إحدى الروايتين، ونصبها أبو محمد، لظاهر حديث ابن عمر المتقدم، (والثانية) يجوز، ونصبها أبو البركات. 677 - لأن عمر دخل المسجد فصلى ركعة، فتبعه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنما صليت ركعة، قال: هو تطوع، فمن شاء زاد، ومن شاء نقص.

678 - وصح عن اثني عشر من الصحابة نقض الوتر بركعة، وهي تطوع، وكذلك الخلاف في التطوع بالأفراد كالثلاث ونحوها، والله أعلم. قال: ويباح له أن يتطوع جالسا. 679 - ش: لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لما بدن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثقل كان أكثر صلاته جالسا» . متفق عليه. 680 - «وعن عمران بن حصين، أنه سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الرجل قاعدا، قال: «إن صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى قاعدا فله

نصف أجر القائم، ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد» رواه البخاري وغيره. ومفهوم كلامه شيئان: (أحدهما) : أن الفرض لا يباح جالسا، وهو الركن الذي أهمله، [ثم] (الثاني) : [أنه] لا يباح التطوع مضطجعا، وهو أحد الوجهين، حكاهما في التلخيص، وظاهر كلام الأصحاب، لعموم أدلة فرضية الركوع، والاعتدال [عنه] ، والثاني يباح، وحسنه أبو البركات، لحديث عمران، والله أعلم. قال: ويكون في حال القيام متربعا، ويثني رجليه في الركوع والسجود. ش: الأولى لمن صلى جالسا التربع. 681 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

يصلي متربعا» . رواه الدارقطني. وثني رجليه إذا سجد بلا نزاع، لمخالفة هيئة الساجد لهيئة القائم، وكذلك إذا ركع في الأشهر عنه، اعتمادا على [أن] أنسا فعل ذلك [واختاره] الأكثرون، وعنه - واختاره أبو محمد، وحكاه عن أبي الخطاب - لا، لاتفاق حالتي القيام والركوع، والله أعلم. قال: والمريض إذا كان القيام يزيد في مرضه صلى قاعدا. ش: من عجز عن القيام صلى جالسا بالإجماع. 682 - «وعن عمران بن حصين]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كانت بي بواسير، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة، فقال: «صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك» رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وزاد «فإن لم

تستطع فمستلقيا، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها» وكذلك إن قدر على القيام، لكن مع ضرر يلحقه، إما بزيادة مرضه، أو بتباطئ برئه، ونحو ذلك، دفعا للحرج والضرر المنفيين شرعا، [والله أعلم] . قال: فإن لم يطق جالسا] فنائما. ش: أي مضطجعا، شبهه بالنائم [لأنه] على هيئته، وكأنه اقتدى بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عمران المتقدم «ومن صلى نائما فله نصف أجر القاعد» والأصل في ذلك ما تقدم من حديث عمران، والأولى أن يصلي على جنبه الأيمن، ووجهه إلى القبلة، ولو صلى على الأيسر كذلك صح، لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يعين جنبا، وكذلك إن صلى مستلقيا ورجلاه إلى القبلة على الأشهر، لأن المقصود التوجه، واختار أبو محمد المنع.

صلاة الوتر

683 - لما روى الدارقطني، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «يصلي المريض قائما إن استطاع، فإن لم يستطع صلى قاعدا، فإن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه، فإن لم يستطع أن يصلي قاعدا صلى على جنبه الأيمن، مستقبل القبلة، فإن لم يستطع أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيا، رجلاه [مما] يلي القبلة» ويومئ بالركوع والسجود إن عجز عنهما [لما تقدم، والله أعلم] . [صلاة الوتر] قال: والوتر ركعة، يقنت فيها، مفصولة مما قبلها. ش: لا إشكال [عندنا] في جواز كون الوتر بركعة. 684 - لما روى أبو أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الوتر حق على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي.

685 - «وعن ابن عمر أن رجلا من أهل البادية سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صلاة الليل، فقال بأصبعيه: [هكذا] «مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل» رواه مسلم وغيره. لكن هل يكره إن لم يكن قبلها شفع، وتسمى البتيراء، لحديث ورد بذلك. 686 - أو لا يكره لأنه قد روى عن عشرة من الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، [وعلي] ، وعائشة، وغيرهم: الوتر بركعة.

687 - وحديث البتيراء ضعيف؟ فيه روايتان. وقوله: والوتر ركعة. يحتمل أن يريد: وأقل الوتر ركعة. فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، ويحتمل أن يريد أنه حاصل بركعة، أو جائز بركعة، وهذا أظهر، وهذا إذا أوتر بثلاث، أو بإحدى عشرة، أما لو أوتر بخمس، أو بسبع، أو بتسع، فإن الجميع وتر كما ثبت في الأحاديث، وكما نص عليه أحمد، لكن في الخمس يسردها، وفي التسع يجلس عقب الثامنة، فيتشهد، ثم يأتي بالتاسعة ويسلم، وكذلك حكم السبع عند أبي محمد، وعند

أبي البركات، وهو المنصوص حكمها حكم الخمس. وقوله: مفصولة مما قبلها. هذا كما تقدم فيما إذا أوتر بثلاث، أو بإحدى عشرة. 688 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى أن ينصدع الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ثنتين، ويوتر بواحدة، ويمكث في سجوده قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية. مختصرة» رواه الشيخان. 689 - وروى أبو هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «لا توتروا بثلاث، أوتروا بخمس، أو سبع، ولا تشبهوا بصلاة المغرب» رواه الدارقطني، وقال: إسناده ثقات. وإذا كان لم يفصل أشبه المغرب. 690 - «وعن ابن عمر، أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «افصل بين الواحدة والثنتين بالسلام» رواه الدارقطني أيضا، ولو لم

يفصل بين الثلاث بسلام جاز، لأنه ورد أيضا إلا أنه يسردها من غير تشهد لتخالف المغرب، فإن جلس في الثانية ففي البطلان وجهان، وله سرد الإحدى عشرة أيضا كالتسع، حتى إن ابن عقيل حكى وجها، أن ذلك هو الأفضل، وليس بشيء. ويقنت في آخر وتره، على المذهب المشهور. 691 - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في آخر وتره: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» رواه الخمسة. 692 - «وعن ابنه الحسن [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: علمني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلمات أقولهن في قنوت الوتر «اللهم اهدني في من هديت، وعافني في من عافيت، وتولني في من توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت [ولا يعز من عاديت]

تباركت ربنا وتعاليت» رواه الخمسة، وقال الترمذي: لا نعرف عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في القنوت شيئا أحسن من هذا. وفي النسائي «وصلى الله على النبي» ، (وعن أحمد) يختص القنوت بالنصف الأخير من رمضان، ومحل القنوت بعد الركوع، ويجوز قبله وقد وردا، والأشهر الأول، ودعاؤه ما تقدم. وتخصيصه القنوت بالوتر يدل على أنه لا يقنت في غيره من الصلوات، وهو صحيح.

693 - لما «روى أبو مالك الأشجعي، قال: قلت لأبي: قد صليت خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وخلف أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ها هنا قريب خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بني محدث» . رواه أحمد، والترمذي وصححه. نعم يقنت في النوازل. 694 - لما «روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قنت شهرا ثم تركه» ، رواه أحمد، وأبو داود. 695 - وعنه: «بعث النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] سبعين رجلا لحاجة، يقال لهم القراء، فعرض لهم حيان من سليم: رعل وذكوان، فقتلوهم، فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليهم شهرا في صلاة الغداة، وذلك بدو القنوت» ، رواه البخاري. ويختص القنوت بالإمام الأعظم، وبأمير الجيش، لا بكل إمام [على المشهور] وهل محل القنوت الفجر خاصة، أو الفجر والمغرب، أو جميع الصلوات؟ ثلاث روايات، [والله أعلم] .

قيام شهر رمضان

[قيام شهر رمضان] قال: وقيام [شهر] رمضان عشرون ركعة، [والله أعلم] . ش: قيام رمضان - والمراد هنا التراويح - سنة. 696 - لما روى عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله عز وجل فرض عليكم صيام رمضان، وسننت لكم قيامه، فمن صامه [وقامه] إيمانا، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» رواه أحمد والنسائي. 697 - وفي الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى الثانية فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم، فلما أصبح قال: «قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج

إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم» وذلك في رمضان. وقدر ذلك عشرون ركعة. 698 - لما روى يزيد بن رومان، قال: كان الناس في زمن عمر بن الخطاب [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] يقومون في رمضان بثلاث وعشرين ركعة. وهذا بحضرة الصحابة، ولم ينقل إنكاره، فكان ذلك إجماعا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب الإمامة

[باب الإمامة] قال: ويصلي بهم أقرؤهم، فإن استووا فأفقههم، فإن استووا فأسنهم [فإن استووا فأشرفهم، فإن استووا فأقدمهم هجرة] . ش: المعروف المشهور عندنا أن القارئ إذا عرف ما يعتبر للصلاة مقدم على الفقيه. 699 - لما روى أبو مسعود البدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا، ولا يؤمن [الرجل] الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه» . 700 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم» رواهما مسلم وغيره.

701 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليؤذن لكم خياركم، وليؤمكم أقرؤكم» رواه أبو داود. 702 - وعن عمرو بن سلمة، عن أبيه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنا» [مختصر] رواه البخاري [وغيره] ، وحكى ابن الزاغوني عن بعض الأصحاب أنه رأى تقديم الفقيه على القارئ. وعلى المذهب لو كان القارئ جاهلا بما يحتاج إليه [في الصلاة] بأن لا يميز بين مفروضها ومسنونها، ونحو ذلك، ففيه وجهان: (أحدهما) : - وهو ظاهر كلام أحمد، والخرقي، والأكثرين - يقدم على الفقيه [أيضا] نظرا لظواهر النصوص، ولأن القراءة ركن في الصلاة، بخلاف الفقه، فكان اعتبارها أولى. [والثاني] : - وهو اختيار ابن عقيل، وبه قطع أبو البركات في محرره، وحسنه في شرحه - أن الفقيه إذا أقام الفاتحة - والحال هذه - مقدم لامتيازه بما لا يستغنى عنه

في الصلاة إذ الجاهل قد يترك الفرض لظنه سنيته. ثم لا نزاع أنه يقدم بعد الأقرأ الأفقه، لحديث أبي مسعود [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] ، واختلف في من يقدم بعد الفقيه، فقال الخرقي، وتبعه أبو الخطاب: يقدم بعده الأسن، ثم الأشرف، ثم الأقدم [هجرة] ، لأن الأسن مظنة الخشوع، وهو مقصود في الصلاة قطعا، قال سبحانه: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 2] فقدم به على الشرف والهجرة، إذ لا تعلق لهما بمعنى في الصلاة، وقدم الشرف على الهجرة إلحاقا للإمامة الصغرى بالعظمى، إذ للشرف تأثير في التقديم في العظمى بخلاف الهجرة، وقال ابن حامد: يقدم الأشرف، ثم الأقدم هجرة، ثم الأسن، لما تقدم من اعتبار الشرف في الإمامة العظمى، بخلاف الهجرة. 703 - يعضده ما روى الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مسنده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قدموا قريشا ولا تقدموا عليها» وقدم الأقدم

هجرة على الأسن لحديث أبي مسعود المتقدم، وظاهر كلام أحمد في رواية ابنه عبد الله أنه يقدم الأقدم هجرة، ثم الأسن، ثم الأشرف، وهو اختيار الشيخين، لحديث أبي مسعود، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم فيه بعد القراءة والفقه الأقدم هجرة، ثم الأسن، فعلم تأخير الأشرف وغيره عنهما، وقال أبو محمد في المقنع: يقدم الأسن، ثم الأشرف، ثم الأقدم هجرة، وهو وجه حكاه في التلخيص، ووجهه يعرف مما تقدم، فإن استووا في جميع ما تقدم قدم أتقاهم وأورعهم. 704 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم» رواه الدارقطني، ولأبي محمد احتمال

بتقديم هذا على الأشرف، لقوله سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] فإن استووا قدم أعمرهم للمسجد، وما رضي به الجيران أو أكثرهم، لأن رضاهم [به] مظنة امتيازه بمرجح، فإن استووا فالقرعة كالأذان، ولا يرجح بحسن الوجه، ولا بنظافة الثوب. (تنبيهان) : «أحدهما» [هذا] التقديم تقديم أولوية لا إيجاب، فلو تقدم الأفقه على الأقرأ جاز، قاله أبو محمد، وقال: لا أعلم فيه خلافا، إذ الأمر فيه أمر إرشاد. (الثاني) : الأقرأ الأكثر قرآنا، كما في حديث عمرو بن سلمة، أو الأجود، وإن كان غير أحفظ منه، قال الشيخان، والأقدم هجرة أن يهاجر مسلمان من دار الحرب ويسبق أحدهما بالهجرة، أو يكونا من أولاد المهاجرين، فيقدم من سبق أبوه، وفي معنى ذلك الأقدم إسلاما، لسبقه إلى الطاعة، وفي حديث أبي مسعود في رواية

الصلاة خلف المبتدع

لمسلم «فأقدمهم سلما» يعني إسلاما، ومعنى الأشرف أن يكون قرشيا، قاله أبو البركات، وقال أبو محمد: أشرفهم أعلاهم نسبا، وأفضلهم في نفسه، وأعلاهم قدرا (والتكرمة) الفراش، كذلك فسره بعض الرواة في رواية أبي داود، والله أعلم. [الصلاة خلف المبتدع] قال: ومن صلى خلف من يعلن ببدعة أو يسكر أعاد. ش: لا إشكال في فسق المعلن بالبدعة ومن يسكر، وإذا في صحة إمامتهما روايتان: (إحداهما) : تصح إمامته، قال أحمد في رواية حرب: يصلي خلف كل بر وفاجر. وسئل: هل يصلي خلف من يغتاب الناس؟ فقال: لو كان كل من عصى الله لا يصلي خلفه، من يؤم الناس؟ 705 - وذلك لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها «صلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا» .

706 - وعن مكحول، عن أبي هريرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برا كان أو فاجرا، وإن عمل الكبائر» . 707 - وعن عقبة بن عامر، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أم الناس فأصاب الوقت فله ولهم، ومن انتقص من ذلك شيئا فعليه ولا عليهم» رواهما أبو داود.

708 - وعن عبيد الله بن عدي أنه دخل على عثمان وهو محصور، فقال: إنك إمام العامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة، ونتحرج من الصلاة معه، فقال: الصلاة أحسن ما يعمل لناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم. رواه البخاري، ولأن العدالة لو كانت شرطا لاعتبر العلم بها كالإمامة العظمى، ولا يعتبر. (والثانية) : - وهي المشهورة، واختيار ابن أبي موسى، والقاضي، والشيرازي، وجماعة - لا يصح.

709 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قال: «لا يؤمن فاجر مؤمنا، إلا أن يقهره بسلطانه، أو يخاف سوطه وسيفه» رواه ابن ماجه. 710 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: اجعلوا أئمتكم خياركم، فإنهم وفدكم فيما بينكم وبين ربكم عز وجل. رواه الدارقطني، ولأنها إحدى الإمامتين، فنافاها الفسق كالكبرى، ولأن الفاسق لا يؤمن أن يترك شرطا أو ركنا، وحديث الأمراء قال القاضي: تأوله أحمد على حضور الجمعة في رواية المروذي، ومكحول لم يلق أبا هريرة، فالحديث منقطع، وقد سئل [عنه] أحمد في رواية يعقوب بن بختان، فقال: ما سمعنا بهذا. ثم يحمل إن صح على الجمعة أو على

غيرها عند البقية لحديث جابر، جمعا بين الأدلة، وعلى هذا لا تصح إمامته وإن لم يعلم بحاله، نص عليه في رواية صالح والأثرم [حتى] إذا صلى خلف من لا يعرف، ثم تبين أنه صاحب بدعة يعيد، وقال ابن عقيل: لا يعيد من [لم] يعلم بحاله، كما قلنا في من نسي فصلى بهم محدثا، وأومأ أحمد في مواضع أنه إن كان متظاهرا بالفسق والبدعة أعاد المقتدي به لتفريطه، وإن كان جاهلا مستورا لا يعيد، وهذا اختيار الشيخين. وكلام الخرقي يشمل الفرض والنفل، وكذا إطلاق جماعة من الأصحاب. وزعم أبو البركات في شرحه أن الخلاف إنما هو في الفرض، [فقال في حديث الأمراء: إنما يدل على إمامته في النفل، ونحن نقول بذلك، وإنما الروايتان في الفرض] (ويشمل) أيضا الجمعة وغيرهما، وهو صحيح فتعاد على المذهب ظهرا، إلا أنها لا تترك خلف الفاسق على الروايتين، بخلاف غيرها، لئلا يؤدي ذلك إلى فتنة. 711 - وفي ابن ماجه [عن جابر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] «إن الله افترض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي، أو بعد موتي، وله إمام عادل أو جائر، فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في عمره» نعم: لو أقيمت في موضعين، والإمام في أحدهما

عدل، وفي الآخر فاسق لزم فعلها وراء العدل. (ويشمل) أيضا الفاسق إذا ائتم بفاسق أنه يعيد، وهو ظاهر إطلاق غيره، وقد أورد هذا على القاضي في التعليق، فأجاب: لا نعرف الرواية فيه، قال: ولا يمنع أن نقول لا يصح، بخلاف الأمي، لأن الأمي لا يمكنه رفع ما هو عليه من النقص، بخلاف الفاسق، لإمكانه زوال فسقه بالتوبة. وخرج من كلام الخرقي إذا كان المباشر [له] عدلا، والمولي له فاسقا، فإن صلاته تصح على [الصحيح من] الروايتين. (تنبيه) : الإعلان الإظهار، ضد الإسرار، هذا تفسير أبي محمد، [فعلى] هذا يختص البطلان - على قول الخرقي - بمن يظهر بدعته ويدعو إليها، ويناظر عليها، وقد نص أحمد في الرافضي الذي يتكلم ببدعته أن الصلاة خلفه تعاد، بخلاف من سكت، وإذا يكون قول الخرقي موافقا لاختيار الشيخين في أن البطلان مختص بظاهر الفسق دون خفيه. وعلى هذا قول الخرقي: أو يسكر. يجوز أن يكون بالباء الموحدة، عطفا على: ببدعة. ويجوز أن يكون بالياء

المثناة، ويكون من باب قولهم: الخطيب يشرب ويطرب. أي: هذا دأبه وسجيته، وظاهر كلام أبي محمد أنه بالمثناة، وقال: إنما نص الخرقي عليه من بين الفساق لنص أحمد عليه. قلت: وقد نص أحمد على غيره من الفساق. كما نص عليه، ويحتمل أن الخرقي إنما قال ذلك ليخرج من شرب من النبيذ ما لا يسكره، معتقدا لحله، فإن الصلاة خلفه تصح. انتهى، وقال القاضي: المعلن بالبدعة من يعتقدها بدليل، وضده من يعتقدها تقليدا، وقال: إن المقلد لا يكفر ولا يفسق، وعلى هذا فالخرقي إنما خص المعلن بالبدعة، لأنه الذي يفسق أو يكفر، وإذا يتعين قراءة: أو يسكر بالياء المثناة. واعلم أن المظهر للبدعة، المناظر عليها، (تارة) تكفره، كالقائل بخلق القرآن، أو بأن علم الله مخلوق، أو بأنه لا يرى في الآخرة، أو بأن الإيمان مجرد الاعتقاد من غير قول ولا عمل، أو يسب الصحابة تدينا، ونحو ذلك، نص أحمد على ذلك، حتى لو وقف رجل إلى جنبه خلف الصف، ولم يعلم حتى فرغ أعاد الصلاة، وهل تفعل الجمعة خلف هؤلاء؟ فيه روايتان، (وتارة) تفسقه، كمن يفضل عليا على غيره من

إمامة العبد والأعمى

الصحابة، أو يقف عن تكفير من كفر ببدعة ونحو ذلك، والمقلد لهذا القسم لا يفسق، والأول فيه قولان، واستقصاء ذلك موضعه الكتب الأصولية، والله أعلم. [إمامة العبد والأعمى] قال: وإمامة العبد والأعمى جائزة. ش: لدخولهما في عموم «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» ونحو ذلك. 712 - وفي البخاري أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كان يؤمها عبدها ذكوان من المصحف. 713 - وعن أنس، قال: «استخلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن أم مكتوم، يؤم الناس وهو أعمى» . رواه أحمد، وأبو داود، وكان ابن عباس يؤم وهو أعمى، (نعم) الحر أولى من العبد، لأنه أكمل منه، والبصير أولى من الأعمى، اختاره أبو الخطاب، وأبو البركات، لأنه أقرب لاجتناب النجاسة، وإصابة القبلة، وسوى القاضي بينهما، لأنه يقابل ذلك أمنه من النظر

إمامة الأمي

إلى محرم، وما يلهيه، فيكون أتقى وأخشع، والله أعلم. [إمامة الأمي] قال: وإن أم أمي أميا وقارئا أعاد القارئ وحده. ش: الأمي في عرف الفقهاء [هو] من لا يحسن فرض الفاتحة إن قيل بركنيتها، وإن [قيل] : الفرض آية. فالأمي [من] لا يحسن آية، والمعروف من مذهبنا أن إمامته تصح بمثله، لأنه أهل لتحمل ما يلزم مأمومه لو انفرد، فصار كالقارئ مع القارئ، وعن بعض الأصحاب: لا تصح إمامته بمثله، لعدم أهليته لتحمل القراءة، ولا تصح بقارئ بلا نزاع، لعموم «ليؤمكم أقرؤكم» رواه أبو داود. 714 - وروى النجاد بإسناده، عن الزهري، قال: مضت السنة أن لا يؤم الناس من ليس معه من القرآن شيء. وقد دل كلام الخرقي من طريق الإشارة على ما قلناه من أن الأمي يؤم بمثله، ولا يؤم قارئا، ومن طريق الدلالة على أن الأمي إذا أم قارئا وأميا أن الفساد يختص القارئ، وعند أبي حنيفة [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] يعمهما، وهذا الذي ألجأ الخرقي

إمامة المشرك والمرأة والخنثى المشكل

إلى ذكر هذه الصورة، وبهذا يعرف أنه ليس مراده أن الأمي تصح صلاته مطلقا، إذ ذلك مشروط بأن يكون عن يمين الإمام، أو يكون معه أمي آخر، أما لو كان هو والقارئ فقط خلف الإمام فإن صلاتهما تفسد، لأن الأمي - وإن انعقد إحرامه فذا - لكن فسدت صلاته بدوام فذوذيته، وهل تبطل صلاة الإمام والحال هذه؟ فيه احتمالان، أشهرهما البطلان، وفي المذهب وجه آخر حكاه ابن الزاغوني أن الفاسد يختص بالقارئ، ولا تبطل صلاة الأمي، قال ابن الزاغوني: واختلف القائلون به في تعليله، فقال بعضهم: إن القارئ تكون صلاته نافلة، فما خرج من الصلاة فلم يصر الأمي بذلك فذا. وقال بعضهم: صلاة القارئ باطلة على الإطلاق، لكن اعتبار معرفة هذا على الناس أمر يشق، ولا يمكن الوقوف عليه، فعفي عنه للمشقة، اهـ. ويحتمل أن الخرقي اختار هذا الوجه، فيكون كلامه على إطلاقه، والله أعلم. [إمامة المشرك والمرأة والخنثى المشكل] قال: وإن صلى خلف مشرك، أو امرأة، أو خنثى مشكل أعاد الصلاة. ش: أما المشرك فلا يجوز أن يؤتم به، ومن ائتم به أعاد الصلاة، وإن لم يعلم حاله [غالبا] لأن صلاته لا تصح لنفسه، فلا تصح لغيره، ولعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن فاجر مؤمنا» والكفر لا يخفى غالبا، فالجاهل به مفرط، هذا

هو المعروف في النقل، وفي المذهب، وحكى ابن الزاغوني [رواية] بصحة صلاته، بناء على صحة إسلامه بها، وبنى على صحة صلاته صحة إمامته، على احتمال، وهو بعيد. (وأما المرأة) فلا يجوز أن تؤم رجلا، ولا خنثى مشكلا، لما روى جابر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «لا تؤمن امرأة رجلا» رواه ابن ماجه، والخنثى يحتمل أن يكون رجلا، ويصح أن يؤم المرأة، كما نص عليه الخرقي بعد. وكلامه يشمل الفرض والنفل، ولا نزاع في الفرض، أما في النفل فظاهر كلام الخرقي أيضا المنع، وهو رواية حكاها ابن أبي موسى [وهو اختيار أبي الخطاب] وأبي محمد، عملا بإطلاق الحديث، ومنصوص أحمد - في رواية المروذي، وهو اختيار عامة الأصحاب - أنها يجوز أن تؤمهم في صلاة التراويح، وتكون وراءهم. 715 - لما «روي أن أم ورقة سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالت: إني أصلي ويصلي بصلاتي أهل داري وموالي، وفيهم رجال ونساء، يصلون بقراءتي، ليس معهم قرآن. فقال: «قدمي الرجال أمامك وقومي مع النساء، ويصلون بصلاتك» رواه المروذي بإسناده، ورواه أبو داود، ولفظه: وكانت قرأت القرآن، واستأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تتخذ في دارها مؤذنا [فأذن لها]

وأمرها أن تؤم أهل دارها. مختصر. (وشرط هذه المسألة) أن تكون قارئة وهم أميون، أو يحسنون الفاتحة أو شيئا يسيرا معها. وقال القاضي في الخلاف: إنما تجوز إمامتها في القراءة خاصة، دون بقية الصلاة. معتمدا على ما رواه أبو طالب عنه، قال: تؤم المرأة الرجل، والمرأة تقرأ، فإذا قرأت ركع وركعت، يكون هذا في التطوع ولا يكون في الفرض. قال القاضي: فقدم ركوعه على ركوعها، فعلم أنه الإمام فيه، وذلك لأن هذا مقصود الرخصة [انتهى] . وهل حكمي غير التراويح من النفل حكمها، قياسا عليها، وهو ظاهر رواية أبي طالب، أو يختص ذلك بالتراويح، وهو ظاهر رواية المروذي، واختيار القاضي في المجرد، للحاجة إلى استماع القرآن في الصلاة؟ فيه قولان.

وأما الخنثى المشكل فلا يصح أن يؤم رجلا، لاحتمال كونه امرأة، ولا خنثى مشكلا لاحتمال كون المؤتم رجلا والخنثى امرأة، والفرض لا يسقط بالشك، وحكى ابن الزاغوني احتمالا بصحة إمامته بمثله للتساوي. انتهى، ويجوز أن يؤمهما فيما يجوز للمرأة أن تؤم فيه الرجل على ما تقدم، ويجوز أن يؤم النساء، لأن للرجل أن يؤمهن، وكذلك للمرأة أن تؤمهن، وهو لا يخلو من إحداهما، ويقفن خلفه، حذارا من أن يكون رجلا واقفا إلى جنب امرأة، وقال القاضي: رأيت لأبي حفص البرمكي أن الخنثى لا تصح صلاته في جماعة، لأنه إن قام مع الرجال احتمل أن يكون امرأة، وإن قام مع النساء، [أو] وحده، أو ائتم بامرأة، احتمل أن يكون رجلا، وإن أم الرجال احتمل أن يكون امرأة [وإن أم النساء فقام وسطهن احتمل أنه رجل، وإن قام بين أيديهن احتمل أن يكون امرأة] قلت: وهذا ظاهر إطلاق الخرقي، ولعله يبني على أن المرأة إذا خالفت موقفها فوقفت بين يدي النسوة أن صلاتها تبطل، وهو احتمال، أو وجه

إمامة المرأة للنساء

حكاه ابن عبدوس فيما أظن، والمشهور خلافه، والله أعلم. [إمامة المرأة للنساء] قال: وإن صلت امرأة بالنساء قامت معهن في الصف وسطا. 716 - ش: كذا فعلت أم سلمة، وعائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] . 717 - وعن أسماء بنت يزيد، قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ليس على النساء أذان ولا إقامة، وتصلي معهن في الصف، ولا تقدمهن» رواه النجاد. وقد دل كلام الشيخ [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] على أن للمرأة أن تصلي بالنساء جماعة، ولا نزاع في ذلك، لكن هل يستحب لهن ذلك؟ فيه روايتان.

الأحق بالإمامة

718 - أشهرهما نعم، لأن عائشة وأم سلمة فعلتا ذلك، رواه الدارقطني، ولما تقدم من حديث أم ورقة، ولذلك حكاه إمامنا عن الثلاثة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -] ، (والثانية) لا. 719 - لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: المرأة لا تؤم، ولا تؤذن، ولا تنكح، ولا تشهد النكاح. رواه النجاد [والله أعلم] . [الأحق بالإمامة] قال: وصاحب البيت أحق بالإمامة، إلا أن يكون بعضهم ذا سلطان. ش: صاحب البيت أحق بالإمامة من غيره، وإن فضله الغير بقراءة أو فقه أو غير ذلك، بشرط أو تصح إمامته بهم. 720 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤمن الرجل في بيته، ولا [في] سلطانه] » رواه أحمد ومسلم.

موقف المأموم من الإمام

721 - «وعن مالك بن الحويرث «من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، فإن كان الغير ذا سلطان فإنه يقدم على صاحب البيت، في اختيار الخرقي، وأبي محمد، لعموم «ولا يؤمن الرجل في سلطانه» واختار ابن حامد أن صاحب البيت يقدم عليه، لعموم «من زار قوما فلا يؤمهم» ويقدم صاحب البيت تارة بملك العين، وتارة بملك المنفعة، فإن اجتمع المؤجر والمستأجر فالمستأجر أولى، لأنه المتصرف المنتفع، ولو اجتمع المعير والمستعير فالمعير أولى، [قلت] : ويتخرج العكس إن قلنا: العارية هبة منفعة. (تنبيه) : وحكم إمام المسجد حكم إمام البيت فيما تقدم، [والله أعلم] . [موقف المأموم من الإمام] قال: ويأتم بالإمام من في أعلى المسجد وغير المسجد إذا اتصلت الصفوف. ش: يجوز أن يأتم بالإمام من [في] أعلى المسجد، كمن على سطحه، ونحو ذلك، من غير كراهة. 722 - لأن أبا هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] كان يصلي في ظهر المسجد

بصلاة الإمام. حكاه أحمد وابن المنذر. وعن أنس نحوه، رواه سعيد. 723 - ويروى أيضا عن ابن عباس [وابن عمر]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن المتابعة حاصلة، أشبهت العلو اليسير، (وعن أحمد) اختصاص الجواز بالضرورة، قال في رواية صالح - في الرجل صلى فوق البيت بصلاة الإمام - إن كان في موضع ضيق يوم الجمعة كما فعل أنس، والأول المذهب. ويجوز أن يأتم بالإمام من في غير المسجد، بشرط أن تتصل الصفوف، على ظاهر كلام الخرقي، وتبعه أبو محمد. 724 - لظاهر أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدنو من الإمام. خولف ذلك فيما

إذا كانا في المسجد، أو اتصلت الصفوف للإجماع، فيبقى فيما سواهما على العموم، وظاهر [كلام] غير الخرقي من الأصحاب أنه لا يشترط اتصال الصفوف إلا أن يكون بينهما طريق، لأن المتابعة حاصلة، أشبه ما لو كانا في المسجد، أما إن كان بينهما طريق فيشترط لصحة الاقتداء اتصال الصفوف على المذهب. 725 - لما يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال: من صلى وبينه وبين الإمام نهر، أو جدار، أو طريق فلا يصلي مع الإمام. 726 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رأى قوما في الرحبة، فقال: من هؤلاء؟ فقالوا: ضعفة الناس. فقال: لا صلاة إلا في المسجد. 727 -[وعن أبي هريرة: لا جمعة لمن صلى في رحبة المسجد» . 728 - وعن أبي بكرة أنه رأى قوما يصلون في رحبة المسجد، فقال: لا جمعة لهم. رواهن أبو بكر من أصحابنا. وحكاه ابن المنذر عن أبي هريرة، وهذه الآثار وإن كانت عامة، لكن خرج منه صورة الاتصال بالإجماع، ولقوة الحاجة إليه.

729 - وما يروى عن أنس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أنه كان يصلي في غرفة له يوم الجمعة، بصلاة الإمام، فحمله أحمد - في رواية أبي طالب - على أن الصفوف اتصلت. وعن أحمد: يصح الاقتداء، وإن [كان] ثم طريق لم تتصل فيه الصفوف، محتجا بأن أنسا فعل ذلك، وهو اختيار أبي محمد، لإمكان المتابعة، (وعنه) : يصح مع الضرورة، محتجا أيضا بفعل أنس، وهو اختيار أبي حفص، (وعنه) : يصح في النفل تسهيلا فيه، دون الفرض. ومعنى اتصال الصفوف تقاربها المسنون، أو ما زاد عليه يسيرا، فإن فحش، بأن [كان] بينهما ما يصلي فيه صف آخر فلا اتصال، كذا قال أبو البركات، وقيده صاحب التلخيص بثلاثة أذرع [ونحوها] . انتهى، وهذا فيما إذا تواصلت الصفوف للحاجة، لأن البلوى تعم بذلك في الجمع والأعياد ونحوهما، أما لغير حاجة - بأن وقف قوم في طريق وراء المسجد، وبين أيديهم من المسجد أو غيره ما يمكنهم فيه الاقتداء - فإن صلاتهم لا تصح، على المشهور [في الصلاة] في قارعة الطريق، وحكم من وراءهم حكم من اقتدى بالإمام وبينهما طريق خال، وإن قلنا بالصحة ثم، صحت صلاتهم هنا، إن امتلأ بهم الطريق، أو وقفوا فيما قرب منهم إلى المسجد، أما إن تركوا منه بينهم وبين المسجد ما يسع صفا

فأكثر، فهم كمن صلى وبينه وبين الإمام طريق، وكل موضع حكم فيه بصحة الصلاة في الطريق، وملأته الصفوف، فإن صلاة من وراءهم تصح، وإن بعدوا عنهم على المذهب، إن وجدت المشاهدة المعتبرة، وعلى قول الخرقي لا تصح إلا باتصالهم به الاتصال المعتاد، ولو وقف في بيت عن يمين الإمام، فاتصال الصفوف بتواصل المناكب، ولو كان في علو والإمام في سفل، فالاتصال موازاة رأس أحدهما [ركبة] الآخر، قال ذلك صاحب التلخيص. وحكم النهر الذي تجري فيه السفن حكم الطريق فيما تقدم، إن اقترنت سفينة الإمام والمأموم صح الاقتداء، وإلا فلا يصح، لأن الماء طريق، وكذلك حكم ما يمنع الاستطراق من نار، أو سبع، قاله الشيرازي، وقال صاحب التلخيص: لا يمنع الشباك على الأظهر. (تنبيهات) : (أحدها) : قد علم مما شرحناه أن قول الخرقي: إذا اتصلت الصفوف. إنما يرجع لما إذا كان المقتدي في غير المسجد على ما فيه، أما إن كان المؤتم في المسجد والإمام فيه، فإنه لا يشترط اتصال الصفوف، بلا خلاف في المذهب، قاله الآمدي، وحكاه أبو البركات إجماعا، لأنه

في حكم البقعة الواحدة. (الثاني) : إطلاق الخرقي بصحة الاقتداء في المسجد و [في] غير المسجد بشرطه ظاهره: ولو وجد ما يمنع مشاهدة من وراء الإمام، وهو إحدى الروايات عن أحمد، لأن الاقتداء حاصل، أشبه ما لو شاهده، وعلى هذه الرواية لا بد من سماع التكبير لتحصل المتابعة بلا نزاع [واختارها القاضي] (والثانية) لا يصح مطلقا. 730 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها قالت لنساء كن يصلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في الحجاب. رواه ابن حامد، فعللت منع الاقتداء بالحجاب، (والرواية الثالثة) [اختارها القاضي] تصح في المسجد، لأنه في حكم البقعة الواحدة، لأنه مبني كله للجماعة، ولا تصح في غيره، لما تقدم، (والرواية الرابعة) يصح ذلك في التطوع، دون الفريضة، حكاها ابن حامد. 731 - وقال علي بن سعيد: سألت أحمد عن حديث عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي في الحجرة، والناس يأتمون به من وراء الحجرة» . قال: كأنه على صلاة الليل أو تطوع، وهذا الحديث رواه أبو داود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «صلى

رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجرته، والناس يأتمون به من وراء الحجرة» ، ورواه البخاري مطولا، ذكر ذلك في صلاة الليل، وبه استدل أيضا للرواية الأولى، إذ الأصل مساواة الفرض والنفل. وقد نص أحمد على أن المنبر إذا قطع الصف يوم الجمعة لا يضر، فمن الأصحاب من قال: هذا على رواية عدم اعتبار المشاهدة، ومنهم من خص الجمعة ونحوها، فقال: يجوز [فيها] ذلك على الروايتين، نظرا للحاجة، ومنهم من ألحق بذلك كل بناء لمصلحة المسجد، والمشاهدة المعتبرة أن يشاهد الإمام أو من وراءه، فإن حصلت المشاهدة في بعض أحوال الصلاة فقال أبو محمد: الظاهر الصحة. (الثالث) : الطريق ما العادة استطراقه، فلو كان الإمام والمأموم في صحراء، ليس فيها قارعة [طريق] ، وبعدوا عنه، أو تباعدت صفوفهم جاز ذلك مع سماع التكبير، ووجود المشاهدة إن اعتبرت، [والله أعلم] . قال: ولا يكون الإمام أعلى من المأموم. 732 - ش: لما روى الدارقطني، عن أبي مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال:

«نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقوم الإمام فوق شيء، والناس خلفه» ، يعني أسفل منه. 733 - وروي «أن عمار بن ياسر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أم الناس بالمدائن وهو على دكان، والناس أسفل منه، فتقدم حذيفة إليه فأخذه بيده، فاتبعه عمار، حتى أنزله حذيفة، فلما فرغ عمار من صلاته قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا أم الرجل القوم فلا يقوم في مكان أرفع من مقامهم» أو نحو ذلك؟ قال عمار: لذلك اتبعتك حين أخذت على يدي» . 734 - وعن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه أم الناس بالمدائن [على دكان] ، فأخذ أبو مسعود بقميصه فجذبه، فلما فرغ من صلاته قال: ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك؟ قال: بلى، قد ذكرت حين مددتني، رواهما أبو داود. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يكون أعلى وإن أراد تعليمهم،

وصرح به أبو الخطاب والشيخان، وقال ابن الزاغوني: إن أراد تعليمهم لم يكره. 735 - لما روى سهل بن سعد الساعدي، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلس على المنبر في أول يوم وضع، فكبر وهو عليه [ثم ركع] ثم نزل القهقري فسجد، وسجد الناس معه، ثم عاد حتى فرغ، فلما انصرف قال: «يا أيها الناس، إنما فعلت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي» متفق عليه، وحكى أبو محمد، عن أحمد رواية بعدم الكراهة مطلقا، أخذا لها من قول علي بن المديني: سألني أحمد عن حديث سهل بن سعد، وقال: إنما أردت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أعلى من الناس، فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس بهذا الحديث. انتهى، وأجاب الأولون عن حديث سهل بأن الظاهر أنه كان في الدرجة السفلى، لئلا يكثر عمله في صعوده ونزوله، وذلك علو يسير، يعفى عنه وعما يكون نحوه بلا نزاع. وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، وهو ظاهر النهي، ومقتضى قول ابن حامد، وابن أبي موسى فإنهما أبطلا الصلاة بذلك، وصرح أبو الخطاب

صلاة المنفرد خلف الصف

وغيره بالكراهة، وهو مقتضى قول شيخه، فإنه قال بعدم البطلان، وصححه أبو البركات، مستمسكا بأن عمارا صلى وأقره على ذلك حذيفة، وكذلك حذيفة وأقره أبو مسعود، وبأن النهي عن ذلك لإفضائه إلى رفع البصر، بدليل عدم كراهة اليسير، ورفع البصر لا يبطل فما كره لأجله أولى. (تنبيه) : يشترك الإمام والمأموم في النهي إن انفرد الإمام بالعلو، فإن كان معه أحد صحت صلاته وصلاة من معه، واختص من أسفل منه بالنهي، على ما جزم به أبو البركات، وحكى أبو محمد احتمالا بأن النهي يتناول الإمام أيضا، فتبطل صلاة الجميع إن قيل بالبطلان، والله أعلم. [صلاة المنفرد خلف الصف] قال: ومن صلى خلف الصف وحده، أو قام بجنب الإمام عن يساره أعاد الصلاة. ش: أما [كون] من صلى خلف الإمام وحده يعيد الصلاة.

736 - فلما «روى وابصة بن معبد، أن رجلا صلى خلف الصف وحده، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعيد الصلاة» ، رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي. وقال ابن المنذر: ثبت أحمد وإسحاق هذا الحديث. 737 - «وعن علي بن شيبان، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى رجلا يصلي خلف الصف [وحده] فوقف حيث انصرف الرجل، فقال له: «استقبل صلاتك، فلا صلاة لفذ خلف الصف» رواه ابن ماجه وأحمد، وقال: هذا حديث حسن. (ولا فرق) بين

الفرض والنفل على ظاهر كلام الخرقي، وهو المشهور، لعموم النص، وقال القاضي في تعليقه: يحتمل أن تصح صلاة الفذ في النفل، لأن أحمد نص [على] أنه يجوز أن يقف مع الصبي في النفل دون الفرض، وليس من أهل الموقف، ورد بأن إمامته لما صحت في النفل فكذلك موقفه (ولا فرق) أيضا بين صلاة الجنازة وغيرها، واستثنى ابن عقيل صلاة الجنازة إذا كانوا خمسة، نظرا لتحصيل ثلاثة صفوف، ومراد الخرقي بهذه المسألة إذا صلى جميع الصلاة خلف الصف [أما لو أحرم خلف الصف] ثم دخل في الصف، فتأتي المسألة إن شاء الله تعالى. وأما كون من صلى بجنب الإمام عن يساره يعيد الصلاة. 738 - فلما روى جابر بن عبد الله، قال: «قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي المغرب، فجئت فقمت عن يساره، فنهاني فجعلني عن يمينه، ثم جاء صاحب لي فصففنا خلفه» . رواه أحمد وغيره، والنهي دليل الفساد.

739 - وثبت «أن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما قام عن يسار النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي] أخذ برأسه فجعله عن يمينه» . وهو بيان لمجمل {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [الأنعام: 72] ونحوه فيحمل على الوجوب، لا سيما وقد لزم منه مشيا وعملا لغير حاجة، ومثل هذا [لا] يرتكب لمخالفة فضيلة. (وعن بعض) الأصحاب صحة الصلاة، استدلالا بقصة ابن عباس، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يبطل تحريمته، وأجيب بأنه لم يكن ركع، ومثل ذلك يعفى عنه، كما في إحرام الفذ، ولأبي محمد احتمال بأنه تجوز الصلاة عن يساره إذا كان وراءه صف، اعتمادا على « [أن] النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف في مرضه عن يسار أبي بكر، وكان أبو بكر [وهو] الإمام» ، وأجيب بالمنع، بل كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الإمام. ومراد الخرقي إذا لم يكن عن يمين الإمام أحد، أما إن كان عن يمينه أحد فتصح الصلاة على يساره بلا نزاع. 740 - لما «روى عن علقمة والأسود أنهما استأذنا على ابن مسعود، قال الأسود: وقد كنا أطلنا القعود على بابه، فخرجت الجارية

فاستأذنت لهما، ثم قام فصلى بيني وبينه، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل» . رواه أبو داود وغيره، والله أعلم. قال: وإذا صلى إمام الحي جالسا صلى من وراءه جلوسا، فإن ابتدأ بهم الصلاة قائما ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياما. ش: أما إذا ابتدأ إمام الحي [الصلاة] جالسا - يعني لمرض به - فإن من وراءه يصلون جلوسا. 741 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «صلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيته وهو شاك، فصلى جالسا، وصلى وراءه قوم قياما، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما انصرف قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا» متفق عليه. 742 - وروى نحو ذلك جابر، وأنس، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأحاديثهم في الصحيح. وصورة المسألة أن يكون الإمام إمام الحي كما ذكر الخرقي، وأن يكون المرض مرجو الزوال،

لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان [هو] إمام الحي، وكان مرضه مرجو الزوال، أما لو لم يكن كذلك فإنه لا تصح إمامته عندنا بالقادر على القيام على المذهب، كما لو كان [عاجزا] عن الركوع والسجود فإنه لا تصح إمامته بقادر عليه، (وعن أحمد) أن إمامته تصح، وإن لم يكن إمام حي، أو كان آيسا من زوال مرضه، لكن والحال هذه يصلون وراءه قياما. وظاهر كلام الخرقي أن جلوس المأمومين - والحال ما تقدم - على سبيل الوجوب، فلو صلوا قياما لم تصح صلاتهم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، قال ابن الزاغوني: واختارها أكثر المشايخ، لأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجلوس، فإذا قام فقد خالف الأمر، بل وارتكب النهي. 743 - فإن في مسلم وغيره [عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: «اشتكى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلينا وراءه وهو قاعد، وأبو بكر يسمع الناس تكبيره، فالتفت إلينا فرآنا قياما، فأشار إلينا فقعدنا، فصلينا بصلاته قعودا، فلما سلم قال: «إن كدتم آنفا تفعلون فعل فارس والروم، يقومون على ملوكهم وهو قعود، فلا تفعلوا، ائتموا بأئمتكم، إن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا» . (والرواية الثانية) : أن الجلوس على سبيل الرخصة، فلو أتوا

بالعزيمة، وصلوا قياما صحت صلاتهم، اختارها عمر بن بدر المغازلي، وهو الذي أورده أبو الخطاب مذهبا، وصححه أبو البركات، وجزم به القاضي في التعليق فيما أظن، لأن النبي [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لم يأمر من صلى خلفه وهو قائم بالاستئناف. 744 - ففي البخاري، عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صرع من فرسه، فجحش شقه أو كتفه، فأتاه أصحابه يعودونه، فصلى بهم جالسا وهم قيام، فلما سلم قال: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإن صلى قائما فصلوا قياما، وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا» ولأن سقوط القيام عن إمامهم رخصة [له] فليكن عنهم مثله، وحكى أبو محمد احتمالا بالصحة مع الجهل [دون العلم] . وأما إذا ابتدأ [بهم] الصلاة قائما ثم اعتل فإنهم يصلون وراءه قياما. 745 - لما في الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: «لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مروا أبا بكر أن يصلي بالناس» فلما

دخل في الصلاة وجد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفسه خفة، فقام يهادى بين رجلين، فلما سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر، فأومأ إليه، فجاء فجلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائما، ورسول الله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] يصلي جالسا، يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] ، والناس بصلاة أبي بكر. فلما ابتدؤا الصلاة قياما وراء إمام قائم أتموا قياما» ، بخلاف ما تقدم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابتدأ بهم الصلاة جالسا، فلذلك أمرهم بالجلوس، فالنصان وردا على حالين مختلفين، فيستعملان على ما وردا عليه. ونظير ذلك لو افتتح مسافر الصلاة خلف مسافر، فإنه يقصر، ولو افتتحها خلف مقيم ثم استخلف المقيم مسافرا لم يدخل معه، فدخل في الصلاة بنية القصر، فإنه لا يجوز للمأموم القصر وإن جاز لإمامه، حيث افتتحها خلف مقيم، وهذا أولى من دعوى النسخ، لأنه خلاف الأصل، ويعضد ذلك ويعينه أن الصحابة فعلت ما قلناه من صلاتهم جلوسا خلف إمام جالس حيث ابتدأ بهم [الصلاة] كذلك. 746 - قال أحمد وإسحاق: فعل ذلك أربعة من الصحابة. والأربعة أبو هريرة، وجابر، وأسيد بن حضير، وقيس بن قهد،

وفعلهم ذلك يدل على ثبوت الحكم، لا سيما وفيهم [اثنان] من رواة الحديث. (فائدة) قال أبو البركات: لا تختلف الرواية عن أحمد أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خرج من مرض موته بعد دخول أبي بكر في الصلاة أنه صار إماما لأبي بكر، وأبو بكر بقي على إمامته لجماعة المسلمين، [والله أعلم. قال: ومن أدرك الإمام راكعا فركع دون الصف، ثم مشى حتى دخل في الصف، وهو لا يعلم بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكرة «زادك الله حرصا ولا تعد» قيل له: لا تعد. وقد أجزأته صلاته [فإن عاد بعد النهي لم تجزئه صلاته] .

ش: إذا أدرك الإمام راكعا، فخشي إن دخل مع الإمام في الصف أن تفوته الركعة، فركع دونه، أو لم يجد فرجة في الصف فأحرم دونه ونحو ذلك، ثم دخل في الصف قبل رفع الإمام من الركوع، أو وقف معه آخر، فإن صلاته تصح على المنصوص المشهور، المجزوم به. 747 - لما يروى «عن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] ، قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر الليل فصليت خلفه، فأخذ بيدي فجرني حتى جعلني حذاءه» . رواه أحمد. ولحديث أبي بكرة فإنه أحرم خلف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذاد، ولم يأمره بالإعادة. 748 -[وكان ابن مسعود إذا أعجل] يدب إلى الصف راكعا، وزيد ابن ثابت مثله، أخرجه مالك في الموطأ، وعن ابن الزبير أنه قال: ذلك من السنة. ولإدراكه في الصف ما تدرك به

الركعة، وحصوله فذا في القيام لا أثر له، بدليل إحرام الإمام وحده، أو المأموم الواحد خلفه، ومن عادة الجماعة التلاحق. وظاهر كلام الخرقي أنه متى أخذ في الركوع فذا وهو عالم بالنهي أن صلاته لا تصح، لظاهر حديث أبي بكرة الآتي إن شاء الله تعالى، وحكى ذلك أبو البركات في محرره رواية، وهو ظاهر نقل أبي حفص ولم يذكر أبو البركات في شرحه بذلك نصا، وإنما حكى الظاهر من كلام الخرقي، وأما أبو محمد فصرف كلام الخرقي عن ظاهره، وحمله على ما بعد الركوع، ليوافق المنصوص، وجمهور الأصحاب. وإن لم يدخل مع الإمام في الصف حتى رفع من الركوع ففيه ثلاث روايات (إحداها) يصح مطلقا، لأنه [زمن] يسير، فعفي عن الفذوذية فيه [كما قبل الركوع] . 749 - وروى سعيد في سننه، عن زيد بن ثابت، أنه كان يركع قبل أن يدخل في الصف [ثم] يمشي راكعا ويعتد بها، وصل إلى الصف أو لم يصل. (والثانية) : إن علم بالنهي عن ذلك لم يصح.

750 - لما «روى أبو بكرة أنه دخل المسجد ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكع، قال: فركعت دون الصف ومشيت إلى الصف، فلما قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «أيكم الذي ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصف؟» قلت: أنا. قال: «زادك الله حرصا ولا تعد» رواه أحمد، والبخاري، والنسائي، وأبو داود، وهذا لفظه، وهذا نهي فيقتضي الفساد، لكن ترك في الجهل لمكان العذر، ولذلك لم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة. (والرواية الثالثة) لا يصح مطلقا، نص عليه أحمد، مفرقا بينه وبين ما إذا أدرك الركوع في الصف، واختارها أبو البركات، لأنه [لم يدرك] في [الصف] ما يدرك به الركعة، أشبه ما لو أدركه في السجود، وحديث أبي بكرة واقعة عين، والظاهر منها أنه أدرك الركوع مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصف، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[له]

«لا تعد] نهي تنزيه عن العجلة، كذا حمله أبو حفص، وأبو البركات. 751 - ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود وزيد من فعل ذلك، وقول ابن الزبير: إنه من السنة. 752 - وروى البخاري في كتاب القراءة خلف الإمام «عن أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى صلاة الصبح فسمع نفسا شديدا من خلفه أو بهرا. فلما قضى الصلاة قال لأبي بكرة: «أنت صاحب النفس؟» قال: نعم، خشيت أن تفوتني ركعة معك، فأسرعت المشي. فقال [له] : «زادك الله حرصا ولا تعد، صل ما أدركت، واقض ما سبقت» قلت: وعلى هذا فالرواية «ولا تعد» بسكون العين، وضم الدال، من العدو، وعلى الأولى الرواية «ولا تعد» بضم

العين وسكون الدال، من العود، ورأيت في بعض كتب الحنفية - أظنه النسفي - أن فيه رواية ثالثة «ولا تعد» بضم التاء وكسر العين وسكون الدال، من الإعادة، أي لا تعد الصلاة انتهى. وإن لم يدخل مع الإمام في الصف حتى سجد لم تصح تلك الركعة بلا نزاع، لكن [هل] يختص البطلان بها حتى أنه لو دخل في الصف بعد الركوع أو انضاف إليه آخر فإنه يصح له ما بقي من صلاته، ويقضي [تلك] الركعة، أو لا تصح الصلاة رأسا؟ فيه روايتان منصوصتان، حكاهما أبو حفص، واختار هو أنه يعيد ما صلى خلف الصف فقط، لأنه صلى [بعض] الصلاة منفردا فلم تبطل جميعها، كالتكبيرة، والركوع من غير سجود، والمشهور بطلان جميع الصلاة، لأن القياس البطلان مطلقا، كالمتقدم في الصف

وإنما عفي عن التحريمة ونحوها لقصة أبي بكرة. وقد تبين لك بهذا أن صور المسألة أربع (إحداها) إذا أحرم فذا ثم زالت فذوذيته قبل الركوع، فإن الصلاة تصح بلا نزاع. (الثانية) : زالت بعد الركوع، فكذلك على المعروف، خلافا لظاهر قول الخرقي. (والثالثة) : زالت بعد الرفع، ففيها الخلاف المشهور. (والرابعة) : زالت بعد السجود، لم تصح تلك الركعة، وفي البقية الخلاف السابق. هذا كله إذا [كان] قد فعل ذلك لغرض كما تقدم، أما إن فعله لغير غرض، كما إذا أدرك الإمام في أول الصلاة، ووجد فرجة ونحو ذلك، وركع فذا، فإن تحريمته لا تنعقد على المختار من الوجهين لأبي الخطاب والشيخين، لأنه بمثابة من أحرم قدام الإمام [ثم صافه] ، وإنما ترك هذا حال الفرض نظرا للنص. (والثاني) : تنعقد، لأنه حصل فذا في زمن يسير، فأشبه ما لو فعله لغرض، وقيل: تنعقد صلاته وتصح إن زالت فذوذيته قبل الركوع [وإلا فلا] . 753 - لما يروى عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف» ذكره الطحاوي، وابن عبد البر، وذكره إمامنا عن أبي هريرة موقوفا، والله أعلم.

حكم السترة في الصلاة

[حكم السترة في الصلاة] قال: وسترة الإمام سترة لمن خلفه. ش: قال الترمذي: قال العلماء: سترة الإمام سترة لمن خلفه، ومعنى ذلك أن المأمومين لا يستحب لهم اتخاذ سترة مع سترة الإمام، ومتى مر بينهم وبين الإمام ما يقطع الصلاة لم تبطل صلاتهم، ولو مر بين يدي الإمام بطلت صلاة الكل. 754 - وذلك لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [كان] يصلي إلى العنزة، والبعير وغيرهما مما جاء في الأخبار، ولم يأمر من يصلي خلفه باتخاذ سترة، ولما أرادت البهمة أن تمر بين يديه دارأها حتى مرت من خلفه، أمام أصحابه.

755 - وكذلك [مر] ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين يدي بعض الصف بالأتان، فلم يعب عليه. وفي كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ -] إشارة إلى مطلوبية السترة، ولا إشكال في ذلك. 756 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يجد فليخط خطا، ثم لا يضره ما مر أمامه» رواه أبو داود، وأحمد وصححه هو وابن المديني.

757 - وعن سبرة الجهني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا صلى أحدكم فليستتر لصلاته ولو بسهم» رواه أحمد. 758 - وفي الصحيحين عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعرض راحلته، ويصلي إليها» . وقدر السترة مثل مؤخرة الرحل. 759 - قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: «كمؤخرة الرحل» رواه مسلم. فإن لم يجد فعصا أو خطا كما في الحديث، وصفة الخط مثل الهلال نص عليه، والعصا ينصبها، فإن لم يمكنه ألقاها عرضا لا طولا، نص عليه، والله أعلم. قال: ومن مر بين يدي المصلي فليردده. 760 - ش: لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه، [فإن أبى فليقاتله، فإن معه القرين» رواه أحمد ومسلم. 761 - ولمسلم أيضا وغيره عن أبي سعيد، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه] ، وليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان» » ويرد

المار وإن لم يكن آدميا، و «من» يتناول ما لا يعقل بالتغليب. 762 - وذلك لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى إلى جدار، فجاءت بهيمة تمر بين يديه، فما زال يداريها حتى ألصق بطنه بالجدار، ومرت من ورائه» ، أو كما قال مسدد؛ [مختصر] رواه أبو داود. وظاهر كلام الخرقي أنه يرد من مر بين يديه وإن لم يكن سترة، وهو كذلك، لما تقدم من حديث ابن عمر، وأبي سعيد، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره فأراد أحد أن يمر من بين يديه فليدفعه» بعض أفراد ما تقدم فلا يقتضي التخصيص. وقد أشعر كلام الخرقي بأنه ليس لأحد أن يمر بين يدي

المصلي، ولا إشكال في ذلك مع نصب سترة، فليس لأحد أن يمر دونها، ويعصي بذلك. 763 - لما روى أبو جهيم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه، لكان أن يقف أربعين خيرا له من أن يمر بين يديه» قال أبو النضر: لا أدري قال: أربعين يوما، أو شهرا، أو سنة. وفي مسند البزار «أربعين خريفا» . 764 -[قال الترمذي] : وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لأن يقف أحدكم مائة عام خير له [من] من أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي» وهذا اللفظ لأحمد، وابن ماجه من حديث أبي هريرة [والذي قاله أبو البركات أنه يعصي إدا مر دون السترة وجه] [ومع عدم السترة] هو أهون، فيكره، كذا قال أبو البركات ولا يختص ذلك بمحل السجود، بل

ما يقطع الصلاة

وبما قرب منه، وفي قدر القريب وجهان (أحدهما) تحديده بما لو مشى إليه لدفع مار، أو فتح باب، ونحو ذلك لم تبطل صلاته، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار مطلقا، خرج منه بالإجماع بعيد، تبطل الصلاة بالمشي إليه، فيبقى ما عداه على الظاهر، وهو اختيار أبي محمد. (والثاني) : أنه محدود بثلاثة أذرع، وهو الأقوى عند أبي البركات، نظرا إلى أن ذلك منتهى المسنون في وضع السترة والله أعلم. [ما يقطع الصلاة] قال: ولا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود البهيم [والله أعلم] . ش: هذا [إحدى] الروايتين عن أحمد، وأشهرها على ما قال أبو محمد. 765 - لما «روى عبد الله بن الصامت قال: سمعت أبا ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: [سمعت] رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا صلى الرجل وليس بين يديه كآخرة الرحل، قطع صلاته الكلب الأسود، والحمار، والمرأة» فقلت لأبي ذر: ما بال الكلب الأسود، من الأحمر، من الأبيض؟ فقال: يابن أخي سألتني عما سألت عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «الكلب الأسود شيطان» رواه الجماعة إلا البخاري.

766 - وعن أبي هريرة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] : «يقطع الصلاة المرأة، والكلب، والحمار، ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل» رواه مسلم. 767 - وعن عبد الله بن مغفل مثله، رواه أحمد، وابن ماجه، وهذا نص في القطع بالثلاث ترك [العمل به] في المرأة والحمار. 768 - لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لما قيل لها ذلك قالت: بئس ما عدلتمونا بالكلاب والحمر، ولقد رأيتني معه مضطجعة على سرير، فيجيء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيتوسط السرير فيصلي. وفي لفظ: «كان يصلي صلاته من الليل وأنا معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة» . 769 - «وعن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] قال: أقبلت راكبا على حمار أتان، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، [فنزلت] وأرسلت الأتان ترتع، فدخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد» . متفق عليهما. وهذان يعارضان ما روي [من] القطع

بالمرأة والحمار، فيجب التوقف فيهما. أما القطع بالكلب فلا معارض له، فيجب العمل به. 770 - وما روى الفضل بن عباس قال: «زار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عباسا في بادية لنا، ولنا كليبة وحمارة، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[العصر] وهما بين يديه، فلم يؤخرا ولم يزجرا» . رواه أحمد، والنسائي. ليس فيه بيان الكليبة ما هي، فيحمل على أنها لم تكن سوداء، جمعا بين الأحاديث. والرواية الثانية - وهي اختيار أبي البركات - يقطع الكلب، والمرأة، والحمار لما تقدم أولا، إذ كون المرأة والحمار يقطعان لا بد فيه من إضمار، والمرور فيه مضمر بيقين، فلا إيراد علينا، إذ الأصل عدم الإضمار، وإذا ثبت أن المرور فيه مضمر، فعائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] لم تمر بين يدي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما كانت لابثة، فالحديث لم يتناولها. 771 - يؤيد هذا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بدفع المار، ولو كان حيوانا، وجوز جعل البعير، وظهر الرجل سترة، وأقر [عائشة

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] على اضطجاعها أمامه، فبان بهذا أن المرور مفارق للبث، وحديث ابن عباس فيه أنه مر بين يدي بعض الصف، ولم يذكر أنه مر بين يدي الإمام. 772 - وما روي عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقطع الصلاة شيء، وادرؤوا ما استطعتم، فإنما هو شيطان» رواه أبو داود، وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف، ثم لو ثبت فهو عام فيخص بما تقدم. وقول الخرقي: الأسود البهيم. ليس في الحديث ذكر البهيم، لكن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل القطع بكونه شيطانا.

773 - وقد قال [النبي]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها [كل] أسود بهيم، فإنه شيطان» فبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الشيطان منها هو الأسود البهيم، فعلم أنه المراد في نص القطع، والبهيم هو الذي لا يخالط سواده شيء من البياض، في إحدى الروايتين، حتى لو كان بين عينيه بياض فليس ببهيم، كذا قال ثعلب. (والرواية الأخرى) - وهي الصحيحة عند أبي البركات - أنه بهيم وإن كان بين عينيه بياض. 774 - لما «روى جابر [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] قال: أمرنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب، ثم نهى عن قتلها، وقال: «عليكم بالأسود البهيم، ذي الطفيتين، فإنه شيطان» مختصر رواه مسلم والطفية

خوص المقل، شبه الخطين الأبيضين منه بالخوصتين. ولو كان البياض في غير هذا الموضع فليس ببهيم رواية واحدة، اعتمادا على قول أهل اللغة، من غير تعارض. وكلام الخرقي يشمل الفرض والنفل، وهو المشهور والمعمول به، وعنه [ما يدل على] أن النفل لا يبطل بذلك، اعتمادا على حديث عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] [فإنه ورد فيه، وحملا لأحاديث القطع على الفرض، ومن قال بالأول أخذ بالعموم] وقال: حديث عائشة لا يعارض ذلك لما تقدم، وقول: [الخرقي] لا بد فيه أيضا من إضمار المرور كما تقدم في الحديث، وقد يحمل على إطلاقه، وقد اختلف عن أحمد فيما يقطع الصلاة مروره، هل يقطع إذا كان واقفا؟ (فعنه) : يقطع، لعموم الحديث، نظرا إلى أن المضمر له عموم، ولأن عائشة [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -] فهمت التسوية بينهما، وإلا لم تعارض ذلك باضطجاعها بين يديه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى هذا فقضية عائشة كانت خاصة بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو واردة على الإباحة الأصلية، وحديث أبي ذر ونحوه ناقل. (وعنه) لا يقطع. تفرقة بين اللبث والمرور، كما فرق بينهما بالدفع كما

باب صلاة المسافر

تقدم، وقد تبين لك أن لأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجمع بين الأحاديث ثلاث طرق فتارة جمع بالفرق بين الفرض والنفل، وتارة بالفرق بين اللابث والجالس، [وتارة بدعوى التخصيص بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله سبحانه وتعالى أعلم] . [باب صلاة المسافر] ش: فعل الرباعية في السفر ركعتين في الجملة أمر مجمع عليه، لا نزاع فيه، حتى إن من العلماء من يوجبه، ومستند الإجماع قول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] الآية، وما تواتر من الأخبار أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر حاجا، ومعتمرا، وغازيا، وكذلك أصحابه من بعده. 775 - وقد «قال عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: صحبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان لا يزيد في السفر على ركعتين» ، وأبو بكر، وعمر، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كذلك، متفق عليه. (فإن قيل) : فظاهر الآية الكريمة التقييد بالخوف من الكفار؟ (قيل) : قد قال أبو العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن القصر قصران، قصر مطلق، وقصر مقيد، فالمطلق ما اجتمع فيه قصر الأفعال، وقصر العدد، كصلاة الخوف، حيث كان

مسافرا، فإنه يجتمع فيه القصران، قصر العدد، وقصر العمل، فإنه يرتكب فيها أمور لا تجوز في صلاة الأمن، والآية وردت على هذا، وما عدا هذا فهو قصر مقيد، كالمسافر فقط، يقصر العدد، والخائف فقط، يقصر العمل، وهذا توجيه حسن في الآية الكريمة. 776 - لكن يرد عليه ما روي «عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] فقد أمن الناس؟ فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» رواه الجماعة إلا البخاري. فظاهر ما فهمه عمر ويعلى تقييد قصر العدد بالخوف، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرهما على ذلك، وبين لهما أن جواز القصر من غير شرط الخوف صدقة من الله عليهم، والله أعلم.

المسافة التي يقصر فيها المسافر

[المسافة التي يقصر فيها المسافر] قال: وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخا، ثمانية وأربعين ميلا بالهاشمي، فله القصر إذا جاوز بيوت قريته، إذا كان سفره واجبا، أو مباحا. ش: إنما يجوز القصر بشروط. (أحدها) أن يقصد سفرا تبلغ مدته ستة عشر فرسخا، بلا خلاف نعلمه عن إمامنا، وهو اختيار عامة أصحابنا. 777 - لما روى ابن خزيمة في مختصر المختصر عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد، من مكة إلى عسفان» » . 778 - ونقله أحمد عن ابن عباس، وابن عمر قولا وفعلا، وعليه

اعتمد، وقال أبو محمد: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه، نظرا لظاهر الآية الكريمة. 779 - ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « «إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة» رواه أحمد. 780 - «وسئل أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قصر الصلاة، فقال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ - شعبة الشاك - صلى ركعتين» . رواه مسلم. وأقوال الصحابة قد اختلفت في ذلك. 781 - فعن ابن مسعود ما يدل على أنه لا يقصر إلا إذا قصد مسيرة ثلاثة أيام.

782 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خرج من قصره بالكوفة، حتى أتى النخيلة، فصلى بها الظهر والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه، وقال: أردت أن أعلمكم سنتكم. رواه سعيد. 783 - وقال ابن المنذر: ثبت أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يقصر الصلاة إذا خرج إلى أرض اشتراها من بني لجينة، وهي ثلاثون ميلا. 784 - قال: وكان الأوزاعي يقول: كان أنس بن مالك يقصر الصلاة فيما بينه وبين خمسة فراسخ. 785 - وقال الخطابي: روي عن ابن عمر أنه قال: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر وإذا اختلفت الصحابة وجب الرجوع إلى ظاهر الكتاب والسنة اهـ والفرسخ ثلاثة أميال، والميل اثنا عشر ألف قدم، وتعتبر المسافة في سفر البحر بالفراسخ المعتبرة

في سفر البر، والمعتبر بنية المسافة المقدرة، لا تحقيقها، فلو نواها ثم بدا له في أثنائها مضى ما صلاه، وفي العود هو كالمستأنف للسفر. وقول الخرقي: وإذا كانت مسافة سفره ستة عشر فرسخا. ظاهره أنه لا بد من تحقق ذلك، فلو سافر لبلد وشك هل مسافته المسافة المعتبرة لم يقصر، [لعدم الجزم بالنية، ولو خرج لطلب آبق ونحوه، على أنه متى وجده رجع لم يقصر] على مقتضى قول الخرقي، ونص عليه أحمد، لعدم نيته مسافة القصر، وقال ابن عقيل: إذا بلغ مسافة القصر قصر، وكذلك لو سمع به في بلد بعيد، ونوى أنه إن وجده دونه رجع، لعدم الجزم بالنية، ولو قصد البلد البعيد، ثم نوى في أثناء السفر أنه متى ما وجده رجع، قصر في قياس المذهب، قاله أبو البركات، لانعقاد سبب الرخصة، وقد يتخرج الإتمام، بناء على ما إذا انتقل من سفر مباح إلى محرم. ودخل في كلام الخرقي من لا تلزمه الصلاة ممن له قصد صحيح، كالكافر، والحائض، والصبي المميز، إذا قصد المسافة المعتبرة، ثم وجبت عليه الصلاة في أثناء السفر، فإنه يقصر وإن لم يبق من السفر المسافة المعتبرة. (الشرط

الثاني) أن يجاوز بيوت قريته، لقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101] الآية، ومن لم يفارق البيوت لم يضرب في الأرض، وحكم خيام قومه حكم بيوت قريته. ومقتضى قول الخرقي أنه يقصر إذا فارق البيوت، وإن كان بين المقابر والبساتين، وهو كذلك. وقوله: بيوت قريته. يحتمل أن مراده المعدة للسكنى، فعلى هذا لو خرب بعض البلد، وحيطانه قائمة، جاز له القصر فيه، وهو أحد الوجهين، كما لو صار فضاء، ويحتمل أن مراده مطلقا، فلا يقصر، وهو اختيار القاضي، اعتبارا بما كان. (الشرط الثالث) : أن يكون سفره واجبا، كالحج، والجهاد، ونحوهما، أو مباحا، كالتجارة، وزيارة صديق، ونحو ذلك، لعموم {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [النساء: 101] ولما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله وضع عن المسافر الصوم، وشطر الصلاة» . 786 - «وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صلاة المسافر ركعتان، تمام من غير قصر، على لسان محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه أحمد، والنسائي. 787 - وعن النخعي قال: «أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقال: إني أريد البحرين في تجارة، فكيف تأمرني في الصلاة؟ فقال: «صل ركعتين» رواه سعيد، (والظاهر) أن مراد الخرقي بالمباح

الجائز، فيدخل فيه سفر النزهة والفرجة، لعموم ما تقدم، وعن أحمد رواية [أخرى] لا يقصر في هذا، لأنه مجرد لهو، لا مصلحة فيه. (وخرج) من كلامه سفر المعصية، كالآبق، وقاطع الطريق، والتاجر في الخمر، ونحو ذلك، فإنهم لا يقصرون، إذ الرخص شرعت تخفيفا وإعانة على المقصد، فشرعها في سفر المعصية إعانة عليه وأنه لا يجوز، قال سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولأنه إذا لم يبح له أكل الميتة والحال هذه، مع كونه مضطرا، فلأن لا تخفف [عنه] بعض العبادة أولى، ودليل الأصل قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] . 788 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (غير باغ) على المسلمين، مخيفا لسبيلهم، (ولا عاد) بالسيف عليهم شاقا لهم. وقول الخرقي: إذا كان سفره واجبا [أو مباحا] . يحتمل ابتداءه، فلو قصد سفرا مباحا، ثم صار محرما قصر، وهو أحد الوجهين، كمن وجدت منه معصية في سفره، ويحتمل أن مراده جميع سفره، فلا يقصر والحال ما تقدم، وهو مختار أبي البركات، وقال القاضي في تعليقه: إنه ظاهر كلام أحمد. إذ المعصية تناسب قطع التخفيف، ولهذا لو نقل

سفر المعصية إلى مباح، وبقي من المدة مسافة القصر قصر، [والله أعلم] . قال: ومن لم ينو القصر في وقت دخوله إلى الصلاة لم يقصر. ش: هذا المجزوم به عند ابن أبي موسى، والمذهب عند القاضي، والشيخين وغيرهما، لأن القصر كما سيأتي رخصة، فإذا لم ينوها لم يأخذ بها، فيتعين الإتمام لأنه الأصل، وصار كالمنفرد، لا يحتاج أن ينوي الانفراد لأنه الأصل، والإمامة والائتمام لما تضمنتا تغييرا عن الأصل افتقرتا إلى النية، وقال أبو بكر: لا يحتاج القصر إلى نية، فيقصر وإن نوى الإتمام. قال أبو البركات: ووجه ذلك على أصلنا أنها رخصة، خير فيها قبل الدخول في العبادة، فكذلك بعده كالصوم (قلت) : وقد ينبني على ذلك هل الأصل في صلاة المسافر الأربع، وجوز له أن يترك ركعتين منها تخفيفا عليه، فإذا لم ينو القصر لزمه الأصل، ووقعت الأربع

الصلاة التي تقصر

فرضا، أو أن الأصل في حقه ركعتان، وجوز له أن يزيد ركعتين تطوعا، فإذا لم ينو القصر فله فعل الأصل، وهو الركعتان؟ فيه روايتان، المشهور منهما الأول، والثاني أظنه اختيار أبي بكر، وينبني على ذلك إذا ائتم به مقيم، هل يصح بلا خلاف، أو هو كالمفترض خلف المتنفل، [والله أعلم] . [الصلاة التي تقصر] قال: والصبح والمغرب لا يقصران. ش: إذ قصر الصبح يجحف بها، وقصر المغرب «يزيل وتريتها، مع أن هذا إجماع [والله أعلم] . قال: وللمسافر أن يتم ويقصر، [كما له أن يصوم ويفطر] . ش: لا خلاف عندنا فيما أعلمه أن للمسافر أن يتم ويقصر، لظاهر قول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] ورفع الجناح [ظاهره] يقتضي الإسقاط والتخفيف، دون الإيجاب.

789 - وقوله سبحانه: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] ورد على سبب، وهو تحرجهم الطواف بهما. 790 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: خرجت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عمرة رمضان، فأفطر وصمت، وقصر وأتممت، فقلت: بأبي وأمي أفطرت وصمت، وقصرت وأتممت. قال: «أحسنت يا عائشة» . » 791 - (وعنها) أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقصر في السفر ويتم ويفطر ويصوم» . رواهما الدارقطني، وحسن إسناد الأول وصحح الثاني. (وأيضا) ما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –

«إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة» وقوله: «تلك صدقة تصدق الله بها عليكم» وهذا ظاهر في أن القصر رخصة لا عزيمة. 792 - (وقد ثبت) أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتم بمنى، بمحضر من الصحابة وغيرهم، وفي رواية لأبي داود أنه أتم لأن الأعراب كثروا عامئذ، فصلى بالناس أربعا، ليعلمهم أن الصلاة أربع، وثبت أن ابن مسعود وابن عمر صليا خلفه أربعا، وفي أبي داود أنه قيل لابن مسعود: عبت على عثمان ثم صليت أربعا؟ قال: الخلاف شر. وهذا يدل على جواز ذلك وإنكارهما على عثمان كان على ترك الفضيلة، لأنهم كانوا ينكرون في

السنن، قال أبو البركات: ومن تأول إتمام عثمان على أنه أجمع الإقامة في الحج فقد أخطأ، لأن عثمان مهاجري، لا يحل له أن يقيم بمكة، والمعروف عنه أنه كان لا يطوف للإفاضة والوداع إلا وراحلته قد رحلت. انتهى. 793 - وقد روى ابن عبد البر عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسافر، فيتم بعضنا، ويقصر بعضنا، ويصوم بعضنا، ويفطر بعضنا، ولا يعيب أحد على أحد. (وقول) عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر. أي في الأجر والثواب. 794 - (وقول) عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أول ما فرضت الصلاة ركعتان، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر.

القصر والفطر في السفر

أي: أقرت في حكم الاجتزاء بها، لا في منع الزيادة، بدليل ظاهر القرآن، وما تقدم عنها وعن غيرها من الإتمام. وأما الأصل الذي قاس عليه الخرقي فلا نزاع فيه أيضا، لما تقدم. 795 - ولما في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لحمزة بن عمرو الأسلمي: «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» » . 796 - وقول أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الصحيح: «فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم» [والله أعلم] . [القصر والفطر في السفر] قال: والقصر والفطر أعجب إلى أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ش: لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» وهذا أمر. 797 - وعن [ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن] النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله يحب أن تؤخذ رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته» رواه أحمد.

798 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس من البر الصوم في السفر» . 799 - وقال: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله» ولأن هذا هو الغالب على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ولهذا أنكره أكابر الصحابة على عثمان لما أتم مع أنه إنما أتم والله أعلم لمعنى كما تقدم. 800 - قال ابن مسعود لما قيل له عن إتمام عثمان: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر ركعتين، ومع عمر ركعتين، ثم تفرقت بكم الطرق، فيا ليت حظي من أربع [ركعات] ركعتان متقبلتان. متفق عليه [والله أعلم] . قال: وإذا دخل وقت الظهر على مسافر وهو يريد أن يرتحل صلى الظهر وارتحل، فإذا دخل وقت العصر صلاها، وكذلك المغرب وعشاء الآخرة، وإن كان سائرا فأحب أن يؤخر الأولى فيصليها في وقت الثانية فجائز.

ش: قوله: دخل وقت الظهر على مسافر. أي مسافر له القصر، واعلم أن الصلوات التي تجمع هي الأربع التي مثل بها الخرقي، الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء. ثم الجمع على ضربين [جمع] تقديم، وهو أن يقدم الثانية إلى وقت الأولى، كأن يقدم العصر إلى وقت الظهر، والعشاء إلى وقت المغرب، وكل منهما على ضربين، تارة يكون نازلا، وتارة يكون سائرا، فالصور أربعة والمشهور المعمول به في المذهب جواز جميعها، وظاهر قول الخرقي اختصاص الجواز بصورة منها، وهو جمع التأخير إذا كان سائرا، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 801 - لما روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما، فإن زاغت الشمس قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب، وفي رواية: كان إذا عجل عليه السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر، فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء» . 802 - (وعن) ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين صلاتي الظهر والعصر إذا كان على ظهر سير، ويجمع بين المغرب والعشاء» .

803 - ( «وعن) ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أعجله السير في السفر يؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء. قال سالم: وكان عبد الله يفعله إذا أعجله السير» . متفق عليهن. وظاهرها اختصاص الجمع بجمع التأخير، وبحالة السير. 804 - ووجه المذهب - أنه يجوز في التقديم، وفي حال النزول - ما روى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشمس أخر الظهر حتى يجمعها إلى العصر، يصليهما جميعا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعا ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب» . رواه أبو داود، والترمذي وقال: حسن غريب. 805 - وروى أبو الزبير المكي، «عن أبي الطفيل، أن معاذا أخبره أنهم خرجوا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة تبوك، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فأخر الصلاة يوما، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعا، ثم دخل

ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعا.» رواه أحمد وأبو داود، وصححه ابن عبد البر. وقد اشتمل هذا الحديث على جواز [جمع] التقديم، وعلى جوازه في المنزل. 806 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ألا أحدثكم عن صلاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السفر؟ قالوا: بلى. قال: كان إذا زاغت الشمس في منزله جمع بين الظهر والعصر [قبل أن يركب، وإذا لم تزغ سار حتى إذا حانت العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر] ، وإذا حانت له المغرب في منزله جمع بينها وبين العشاء، وإذا لم تحن في منزله ركب حتى إذا حانت العشاء نزل فجمع بينهما» . رواه أحمد فهذا يبين أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعل الأمرين، وإن كان فعله للأول أكثر وأغلب، ولهذا كان منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي عليه أصحابه أن جمع التأخير أفضل. واعلم أن للجمع في وقت الأولى شروطا، (أحدها) تقديم

الأولى لتكون الثانية تابعة لها، لأنها لم يدخل وقتها. (الثاني) : نية الجمع على الصحيح، ليتميز التقديم المشروع على غيره، ثم هل يكتفى بالنية عند الفراغ، أو لا بد من وجودها عند الإحرام؟ فيه وجهان، أصحهما الثاني. (الثالث) : أن يوالي بينهما اتباعا لمورد النص، فإن فرق تفريقا كثيرا بطل الجمع، ومرده العرف، لأن الشرع لم يحده، وقد قرب تحديده بالإقامة والوضوء، لأنهما من مصالح الصلاة، فإن صلى سنة الصلاة بينهما ففي بطلان جمعه روايتان، أصحهما البطلان، ومحل الخلاف إذا لم يطل الصلاة، فإن أطالها بطل الجمع رواية واحدة، وكذلك لو أطال الوضوء، كأن كان الماء على بعد منه. (ويخرج) لجمع السفر شرط رابع وهو بقاء السفر إلى أن يفرغ من الثانية. أما الجمع في وقت الثانية فيشترط له شرطان. (أحدهما) نية الجمع في وقت الأولى، ما لم يضق الوقت عن فعلها، لأنه إذا لم ينوها عصى، لأنه لم يأت بالعزيمة في وقتها ولم يلتزم الرخصة، لأن قبولها بالعزم، فيكون إذًا مؤخرا، ووقت النية ما لم يضق الوقت عن فعل الأولى، لزوال فائدة الجمع، إذ فائدته التخفيف بالمقاربة بينهما، وهو حاصل هنا، لأنه

حكم من نسي صلاة في الحضر فذكرها في السفر

إذا فعل الأولى دخل وقت الثانية في الحال. (الشرط الثاني) الترتيب، وشرطه الذكر، كترتيب الفوائت، لأن الصلاتين قد استقرتا في ذمته واجبتين، فيسقط ترتيبهما بالنسيان كالفائتتين، بخلاف الجمع بينهما في وقت الأولى، فإن الترتيب لا يسقط بالنسيان، وهل يسقط الترتيب هنا بضيق الوقت، بأن لا يبقى من وقت الثانية ما لا يتسع إلا لواحدة؟ أسقطه القاضي في المجرد، ولم يسقطه في تعليقه، وهو مختار أبي البركات، وهل يشترط للجمع في وقت الثانية الموالاة؟ على وجهين أصحهما: لا يشترط. وقد أشعر كلام الخرقي بأن الجمع جائز، وليس بمندوب إليه، بخلاف القصر والفطر على ما تقدم، وهو المنصوص والمختار للأصحاب، خروجا من الخلاف، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يداوم عليه. 807 - ولهذا خفي على بعض الأكابر كابن مسعود، وعنه: الجمع أولى. نظرا للسهولة والتخفيف، والله أعلم. [حكم من نسي صلاة في الحضر فذكرها في السفر] قال: وإذا نسي صلاة حضر، فذكرها في السفر، أو

صلاة سفر، فذكرها في الحضر، صلى في الحالتين صلاة حضر. ش: أما إذا نسي صلاة حضر، فذكرها في سفر فصلاتها صلاة حضر بالإجماع، حكاه، أحمد، وابن المنذر، واعتبارا بما استقر في ذمته، وأما إذا نسي صلاة سفر، فذكرها في الحضر، صلاها صلاة حضر، قال أحمد: احتياطا. وذلك لأنه اجتمع ما يقتضي القصر والإتمام، فغلب جانب الإتمام، كما لو أقام المسافر، ولأن القصر رخصة فبزوال سببها يعود إلى الأصل كالمريض. وقد يفهم من كلام الخرقي بأنه إذا نسي صلاة سفر، فذكرها في السفر أيضا أنه يقصر، وهو كذلك، لشمول النصوص للمؤداة والفائتة، نعم لو ذكرها في سفر آخر فوجهان، أصحهما يقصر أيضا، والله أعلم. قال: وإذا دخل مع مقيم وهو مسافر أتم. ش: لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» الحديث. 808 - وعن ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذا دخل المسافر في صلاة المقيم صلى بصلاته. حكاه أحمد، وابن المنذر، ولا يعرف لهما مخالف.

صلاة المسافر والمقيم خلف المسافر

809 - وعن نافع، أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يصلي وراء الإمام أربعا، فإذا صلى بنفسه صلى ركعتين. رواه مالك في الموطأ، وللصحيحين معناه. وكلام الخرقي يشمل الإدراك القليل، حتى لو أدركه في التشهد أتم، وهذا إحدى الروايتين وأصحهما لما تقدم (والثانية) : أنه إذا لم يدرك معه ركعة قصر، جعلا له كالمنفرد، حيث لم يدرك ما يعتد به، كما في الجمعة، فعلى هذا لو أدرك المسافر تشهد الجمعة قصر، وعلى المذهب يتم، نص عليه أحمد [والله أعلم] . [صلاة المسافر والمقيم خلف المسافر] قال: وإذا صلى مسافر ومقيم خلف مسافر، أتم المقيم إذا سلم إمامه. ش: هذا إجماع من أهل العلم. 810 - «وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشهدت معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة،

لا يصلي إلا ركعتين، ويقول: «يا أهل البلد صلوا ركعتين فإنا سفر» رواه أبو داود. قال: وإذا نوى المسافر الإقامة في بلد أكثر من إحدى وعشرين صلاة أتم. ش: هذه إحدى الروايات، واختيار الخرقي، وأبي بكر، وأبي محمد. 811 - لما احتج به أحمد من حديث جابر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قدم مكة صبيحة رابعة من ذي الحجة، فأقام بها الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلى الصبح في اليوم الثامن، ثم خرج إلى منى، وكان يقصر في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها» . 812 - ( «وعن) أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من المدينة إلى مكة، فصلى ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قال: وأقمنا بها عشرا» . متفق عليه، قال أحمد: إنما وجه حديث أنس عندي أنه حسب مقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة ومنى، وإلا فلا وجه له غير هذا، وإذا حسبت هذه المدة

كانت إحدى وعشرين صلاة، فمن أقام مثل هذه الإقامة قصر، وإن زاد أتم، لأن القياس الإتمام في الحضر مطلقا، لأنه الأصل، وقد زال بسبب الرخصة. (والرواية الثانية) إن نوى إقامة أكثر من عشرين صلاة أتم، وإلا قصر، اختارها القاضي في تعليقه، لأن الذي تحقق أنه نواه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو إقامة أربعة أيام، لأنه كان حاجا، والحاج لا يخرج من مكة قبل يوم التروية، فثبت أنه نوى إقامة الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وأما أول الثامن فيحتمل أنه لم ينوه ابتداء، فلا يعتبر مع الشك. (والرواية الثالثة) : إن نوى إقامة أربعة أيام أتم، وإلا قصر. 813 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا» وقد كان حرم على المهاجر المقام بمكة، فلما رخص له في هذه المدة علم أنها ليست في حكم الإقامة. 814 - وما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسع عشرة يقصر الصلاة، فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسع عشرة قصرنا، وإن زدنا أتممنا» . رواه البخاري وغيره. محمول

على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينو المقام، قال أحمد: أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثماني عشرة زمن الفتح، لأنه أراد حنينا، ولم يكن ثم إجماع على المقام، [قال: وأقام بتبوك عشرين يوما يقصر، ولم يكن ثم إجماع على المقام] . وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن ينوي الإقامة ببلد مسلمين أو كفار، وهو كذلك. (تنبيه) : يحتسب عندنا بيوم الدخول والخروج، والله أعلم. قال: وإن قال: اليوم أخرج، أو غدا أخرج. قصر وإن أقام شهرا [والله أعلم] . ش: لما تقدم في حديث عمران «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقام في الفتح ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين» . 815 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة» . رواه أحمد، وأبو داود. 816 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يقصر الذي يقول: أخرج اليوم، أخرج غدا. شهرا. 817 - وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أقام في بعض قرى

الشام أربعين يوما يقصر الصلاة. رواهما سعيد. ولا فرق إذا لم ينو الإقامة، أو نواها مدة لا تمنع القصر بين أن يكون البلد منتهى قصده أو لم يكن، على ظاهر كلام الخرقي، وهو المنصوص، واختيار الأكثرين، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قصر في حجه مدة إقامته بمكة، وكانت منتهى قصده، وكذلك خلفاؤه بعده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقال بعض أصحابنا: إذا كان منتهى قصده لم يقصر حتى يخرج منه، لانتهاء سفره. وهذا كله إذا كان البلد غير وطنه أما وطنه فيمنع القصر بمجرد دخوله إليه، وكذلك إذا كانت له فيه زوجة، أو تزوج فيه، ونقل عنه ابن المنذر: أو مر ببلد ماشية كانت له فيه، وعنه رواية أخرى يتم إلا أن يكون مارا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب صلاة الجمعة

[باب صلاة الجمعة] ش: الجمعة مثلثة الميم حكاه ابن سيده، والأصل الضم، واشتقاقها قيل: من اجتماع الناس للصلاة. قاله ابن دريد، وقيل: بل لاجتماع الخليقة فيه وكمالها. 818 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها سميت بذلك لاجتماع آدم فيه مع حواء في الأرض. 819 - وروى الدارقطني بإسناده عن سلمان الفارسي، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما سميت الجمعة لأن آدم جمع فيها خلقه» . 820 - ولأحمد في مسنده معناه من رواية أبي هريرة. وقيل: إن

أول من سماه يوم الجمعة كعب بن لؤي، واسمه القديم يوم العروبة، قيل: سمي بذلك لأن العرب كانت تعظمه، قال الله تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37] . والأصل في فرضية الجمعة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] الآية. 821 - (وعن) أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك ثلاث جمع تهاونا بها طبع الله على قلبه» رواه الخمسة. 822 - وفي الموطأ عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال مالك: لا أدري أعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أم لا - نحوه.

823 - (وعن) الحكم بن ميناء أن عبد الله بن عمر، وأبا هريرة حدثاه أنهما سمعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على منبره: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين» . 824 - (وعن) صفوان بن سليم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقوم يتخلفون عن الجمعة «لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم» رواهما مسلم، والنصوص في الباب كثيرة، سيأتي منها إن شاء الله تعالى جملة [والله أعلم] .

وقت صلاة الجمعة

[وقت صلاة الجمعة] قال: وإذا زالت الشمس يوم الجمعة صعد الإمام على المنبر. ش: لما كان المقصود بالذات هو بيان صفة الصلاة بدأ به الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى فقال: وإذا زالت الشمس، والمراد بهذا على طريق الأولوية، أما الجواز فسيأتي له أنه في السادسة أو الخامسة، وإنما كان الأولى فعلها إذا زالت الشمس. 825 - لما «روى سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كنا نجمع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبع الفيء. متفق عليه، وفي رواية: نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ننصرف وليس للحيطان ظل يستظل به» . 826 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» ، رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، ولأن فيه خروجا من الخلاف، فإن الإجماع على أن ما بعد الزوال وقت للجمعة. وفي كلام الخرقي إشعار بأنها تفعل عقب الزوال صيفا وشتاء، وذلك لما تقدم.

827 - وقد «قال سهل بن سعد: كنا نصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم تكون القائلة، وفي رواية: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة» . متفق عليه، ولأن الجمعة يجتمع لها الناس، فلو انتظر لها الإبراد شق عليهم. وقول الخرقي: صعد الإمام على المنبر. فيه استحباب المنبر، ولا نزاع في ذلك. 828 - وقد ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ منبرا، وخطب عليه ولذلك توارثته الأمة بعده، ولأن ذلك أبلغ في الإعلام، وهو حكمة مشروعية المنبر. 829 - قال أبي بن كعب: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب إلى جذع إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع، فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله هل لك أن نجعل لك شيئا تقوم عليه يوم الجمعة، حتى يراك الناس، وتسمعهم خطبتك؟ قال: «نعم» فصنع له ثلاث درجات، فلما صنع المنبر وضع في موضعه الذي وضعه فيه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما

أراد أن يأتي المنبر مر عليه، فلما جاوزه خار الجذع حتى تصدع وانشق، فرجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فمسحه بيده حتى سكن، ثم رجع إلى المنبر» . رواه أحمد. قال: فإذا استقبل الناس سلم عليهم. 830 - ش: لما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر سلم» . رواه ابن ماجه. 831 - وعن أبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وابن الزبير كذلك، رواه عنهم الأثرم، وكذلك روى النجاد عن عثمان، ولا نزاع فيما نعلمه أن يسلم عليهم إذا خرج عليهم كغيره. وقول الخرقي: إذا استقبل [الناس] فيه إشارة إلى استحباب استقبال الخطيب: الناس، وهو كالإجماع قاله ابن المنذر، وينحرف الناس إليه.

832 - «قال ابن مسعود: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا» . رواه الترمذي، ومنصوص أحمد أن الاستقبال وقت الخطبة، وقال أبو بكر في التنبيه: يستقبل إذا خرج. [والله أعلم] . قال: وردوا عليه [السلام] . ش: الرد عليه واجب كما في غيره، ويجزئ رد البعض. 833 - قال زيد بن أسلم: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يسلم الراكب على الماشي، وإذا سلم أحد من القوم أجزأ عنهم» رواه مالك في الموطأ. قال: وجلس. ش: لما سيأتي إن شاء الله تعالى من حديث السائب. قال: وأخذ المؤذنون في الأذان. 834 - ش: لما روى السائب بن يزيد قال: «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر، وعمر، فلما كان في خلافة عثمان وكثروا أمر عثمان

البيع وقت أذان الجمعة

يوم الجمعة بالأذان الثالث، فأذن به على الزوراء، فثبت الأمر على ذلك» . رواه البخاري، وأبو داود، والنسائي. [البيع وقت أذان الجمعة] قال: وهذا الأذان الذي يمنع البيع، ويلزم السعي، إلا لمن منزله في بعد فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون فيه مدركا للجمعة. ش: الأذان للجمعة في الجملة يمنع البيع، ويلزم السعي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] الآية. والمؤثر في ذلك هو الأذان الذي بين يدي الإمام على المنبر، لأنه هو الذي كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالآية وردت عليه، فيتعلق الحكم به. (وعن أحمد) رواية أخرى أن المنع من البيع ولزوم السعي يتعلق بالأذان الأول، الذي أحدثه عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لعموم الآية. 835 - مع الأمر باتباع سنة خلفائه الراشدين من بعده، رضي الله

عنهم. (وعنه) رواية ثالثة أن المنع يتعلق بالزوال، لأنه أمر منضبط، لا يختلف، بخلاف الأذان، ولدخول وقت الوجوب، قال أبو البركات: وقياس هذا وجوب السعي إذا للتمكن، والأول المذهب. ووجوب السعي بالأذان في حق من منزله قريب، يدرك بذلك، أما من منزله بعيد فعليه أن يسعى في الوقت الذي يكون به مدركا للجمعة، لأن ما لا يتم الواجب إلا به واجب، والجمعة واجبة، ولا تتم إلا بالسعي إليها قبل النداء، فيجب السعي إذ ذاك، وهذا في السعي الواجب، أما المسنون فمن طلوع الفجر عندنا. 836 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « «من اغتسل يوم الجمعة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر» متفق عليه، ولمالك في الموطأ «ثم راح

في الساعة الأولى» » وذكر الساعات بالألف واللام ينصرف إلى المعهودات. 837 - ولقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - « «من غسل واغتسل يوم الجمعة، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنى من الإمام، واستمع ولم يلغ، كان له بكل خطوة عمل سنة، أجر صيامها وقيامها» رواه الخمسة. وما قيل: من أن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال مؤول بأن المراد بالرواح القصد إليها، كما يقال للخارج للحج حاج، والله أعلم. وقول الخرقي: وهذا الأذان الذي يمنع البيع [أي] في حق من تلزمه الجمعة، لأنه هو المأمور بالسعي، فلا يحرم على امرأة، وعبد، ونحوهما، نعم يكره ذلك [منهما] في الأسواق ونحوها، حذارا من الاستخفاف بحرمة الأذان، ولما فيه من تغرير من لا علم عنده بذلك، وحكى ابن أبي موسى

رواية في بيع من لا تلزمه الجمعة من المقيمين أنه لا يصح، والأول المذهب. وقوله: يمنع البيع. أي يمنعه بالكلية، فلا يصح، نظرا لقاعدة النهي في اقتضائه الفساد، وقيل: يصح مع التحريم. وقد شمل كلام الخرقي جميع أنواع البيع، من الصرف، والسلم، والتولية، والإقالة إن قيل: إنها بيع، ونحو ذلك، وكذلك الإجارة، قاله ابن عقيل، وشمل بيع القليل والكثير، وهو كذلك، حتى شرب الماء ونحوه، [وقوله لشخص: أعتق عبدك عني. قاله ابن عقيل] . واستثني من كلام الخرقي إذا اضطر إلى البيع في ذلك الوقت، لجوع، أو عطش شديد، يخاف منه الهلاك، أو التضرر في نفسه تضررا يباح [في] مثله استعمال الأبدال، فإنه يجوز له الشراء، ويجوز للمالك البيع. وكذلك يستثنى شراء كفن، وحنوط لميت يخشى عليه الفساد، وكذلك شراء أبيه ليعتق [عليه] وشراء ما يستعين به على حضور الجمعة، كشراء أعمى عبدا يأخذ بيده، ونحو ذلك، على احتمال فيهما ذكره ابن عقيل. [ومقتضى كلامه أنه لو جاء وقت النداء ولم يناد - لعذر

للإمام، أو لفتنة، ونحو ذلك - لم يمنع البيع، وهو كذلك، وأن النداء لغيرها من الصلوات لا يمنع. وهو أحد احتمالي ابن عقيل، وظاهر كلام الأصحاب. والثاني: يمنع النداء لغيرها، كما يمنع لها، وينبغي أن يكون المراد بهذا النداء الإقامة] . وخرج منه غير البيع، من النكاح ونحوه، وهو أصح [الوجهين أو] الروايتين، وقيل: الصحيح العكس. وكذلك خرج فسخ العقد، وإمضاؤه، وهو كذلك، إذ ليس ببيع [قال ابن عقيل، وقد يتخرج فيه ما يخرج في الرجعة في حق المحرم، وأن فيها روايتين، وأشار بأن الخيار [قد] يفضي إلى المنع من الجمعة، كما أن الرجعة قد تفضي إلى النكاح، ثم أشار أيضا إلى أنا إذا جعلنا الرجعة كالعقد، فأولى أن نجعل الارتجاع كالبيع، لأن الرجعية ملكه، بخلاف المبيع، ثم قال: والصحيح الأول] . (تنبيه) : لو وجد أحد شقي العقد قبل النداء، والآخر بعده، أو كان أحد العاقدين لا جمعة عليه، لم يصح العقد، لأن بعض المنهي ككله، قاله صاحب التلخيص، وابن عقيل، وبالغ فقال: لو نودي بالصلاة بعد ما شرع في

الخطبة من شروط صحة الجمعة

القبول لم يتمه، وأورد أبو محمد المذهب أنه يحرم في حق من تلزمه الجمعة، [ويكره في حق غيره، ولو كان للبلد جامعان يصح إقامة الجمعة] فيهما، فسبق النداء في أحدهما، فهل يحرم البيع مطلقا، أو لا يحرم إلا إذا كان الجامع الذي نودي فيه من جنب داره، أما لو كان من الجانب الذي داره ليس فيه فلا يحرم؟ فيه احتمالان، ذكرهما ابن عقيل، والله سبحانه أعلم. [الخطبة من شروط صحة الجمعة] قال: فإذا فرغوا من الأذان خطبهم قائما. ش: لا إشكال في مشروعية الخطبة، إذ ذاك مما استفاضت به السنة الصحيحة، ومذهبنا ومذهب الجمهور أن الخطبة شرط لصحة الجمعة، لأن الله أمر بالسعي إلى ذلك بقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] والمراد به - على ما قال المفسرون - الخطبة، وظاهر الأمر الوجوب، والسعي الواجب لا يكون إلا إلى واجب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - داوم على ذلك، مع قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صلوا كما رأيتموني أصلي» . 838 - ولأن الخطبتين بدل عن الركعتين، كذا روي عن عمر، وابنه، وعائشة، وغيرهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

وقول الخرقي: قائما. ظاهره الوجوب، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. 839 - لما روى جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم فيخطب قائما، فمن قال: إنه كان يخطب جالسا. فقد كذب، فلقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة» . رواه مسلم وغيره. 840 - ودخل كعب بن عجرة، وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا، فقال: انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا، قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] رواه مسلم والنسائي، وبهذا استدل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (والرواية الثانية) - وهي المشهورة عند الأصحاب - يجوز أن يخطب جالسا، والقيام سنة، لظاهر الآية الكريمة، فإن الذكر قد أطلق ولم يقيد، والمقصود حاصل بدونه، وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحمل على الفضيلة، والله أعلم.

قال: فحمد الله [عز وجل] وأثنى عليه، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وقرأ شيئا من القرآن ووعظ] . 841 - ش: أما الحمد والثناء على الله تعالى، فلما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» رواه أبو داود. 842 - وعن جابر بن عبد الله قال: «كانت خطبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الجمعة يحمد الله، ويثني عليه بما هو أهله» . وذكر الحديث رواه مسلم، (وأما الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فلأن الخطبة اشترط فيها ذكر الله تعالى، فيشترط فيها ذكر رسوله كالأذان. 843 - «وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذكر إسراء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر فيه قول الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قال: «فلا أذكر إلا ذكرت معي، وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي» رواه الخلال في كتاب العلم، وكتاب السنة.

844 - (وأما قراءة شيء من القرآن) فلما روى جابر بن سمرة قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب قائما، ويجلس بين الخطبتين، ويقرأ آيات، ويذكر الناس» . رواه أحمد ومسلم. قال: ثم جلس. ش: [لا إشكال] في سنية هذا الجلوس بين الخطبتين، اقتداء بفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما تقدم في حديث جابر بن سمرة. 845 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب خطبتين وهو قائم، يفصل بينهما بجلوس» ، ولا يجب على المذهب المشهور، لحصول المقصود بدونه. 846 - وعن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لم يجلس بين الخطبتين. ذكره أحمد، وابن المنذر.

847 - وروى النجاد عن أبي إسحاق قال: رأيت عليا يخطب على المنبر، فلم يجلس حتى فرغ، والظاهر أنه قد حضرهما جماعة من الصحابة، ولم ينقل إنكار، وذهب أبو بكر النجاد من أصحابنا إلى وجوبه، لمداومته على ذلك، والله أعلم. قال: وقام فأتى أيضا بالحمد لله، والثناء عليه، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقرأ ووعظ. ش: قوله: قام. يعني يخطب خطبة ثانية، ولا إشكال أن المذهب وجوب الثانية كالأولى، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخطب خطبتين، وفعله وقع بيانا لمجمل الذكر المأمور به في الآية الكريمة، ولأن الخطبتين بدل الركعتين، فليكونا واجبتين كهما. (وقيل) : عن أحمد ما يدل على أن الواجب خطبة واحدة، ولا عمل عليه. (ثم) الثانية تشتمل على ما اشتملت عليه الأولى من الحمد، والصلاة، والقراءة، لما تقدم، وزاد الخرقي في الثانية الموعظة، لحديث جابر بن سمرة: ويذكر الناس. ولأنه المقصود من الخطبة، والمهتم به.

واعلم أن هذه الأربع من الحمد، والصلاة، والقراءة، والموعظة، أركان للخطبتين، لا تصح واحدة من الخطبتين إلا بهن، [إلا أن القراءة لا تجب إلا في خطبة واحدة، ومن الأصحاب من يشترط الإتيان بلفظ الحمد] ، وقد تقدمت الإشارة إلى دليل ذلك، ولأبي محمد احتمال بأنه لا يجب إلا الحمد والموعظة. وظاهر كلام الخرقي أن الموعظة لا تجيء إلا في الثانية، وفي المذهب قويل: أن القراءة لا تجب إلا في خطبة، ومن الأصحاب من يعين الأولى. 848 - لما روي عن الشعبي أنه قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس، وقال: «السلام عليكم» ويحمد الله ويثني عليه ويقرأ سورة ثم يجلس» ، ثم يقول: فيخطب، وكان أبو بكر وعمر يفعلانه. رواه الأثرم. وظاهره أن القراءة في الأولى، والموعظة في الثانية، والأول المذهب (ولا يشترط) الإتيان بلفظ الوصية، بل إذا قال: أطيعوا الله. ونحو ذلك أجزأه، ولهذا قال الخرقي: ووعظ. (ويتشرط) الإتيان بلفظ الصلاة على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند العامة، وعند أبي البركات، يكتفي بنحو: وأن محمدا عبده ورسوله. فالواجب عنده ذكر الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا لفظ الصلاة، اعتمادا

على ظاهر حديث أبي هريرة في {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] . والواجب في القراءة قراءة آية على المشهور، وعنه يكتفى بقراءة بعض آية، وهو ظاهر كلام الخرقي، ونظر أبو البركات إلى المعنى، فاكتفى ببعض آية يحصل المقصود، نحو {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] ولم يكتف بآية لا تحصله، نحو {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] و {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] ولا يعبر عن القراءة بغيرها كـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] في الصلاة، نعم من لا يحسنها، ولم يوجد غيره، فهل يبدلها بفضل ذكر، كما في الصلاة، وكما يأتي ببقية الأركان بلغته، أو تسقط عنه القراءة رأسا، لحصول معناها من بقية الأركان؟ فيه احتمالان. ويبدأ بالحمد، ثم بذكر الرسول ثم بالموعظة، ثم بالقراءة، فإن نكس فوجهان (ويشترط) للخطبتين أيضا تقديمهما على الصلاة، اقتداء بفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحضور العدد المعتبر للجمعة، لسماع أركانهما، لأنهما بدل الركعتين، فإن فات السماع لنوم، أو ضجة، أو غفلة لم يؤثر، وإن فات لبعدهم عنه، أو لخفض صوته أثر، وكان كما لو خطب وحده، وإن فات لصمم بهم وهم بقربه، ووراءه من لا

يسمعه للبعد، ولا صمم به فوجهان، ويشترط لهما أيضا الوقت، لأنهما كبعض الصلاة، ويشترط أيضا الموالاة في الخطبة، وبين الخطبتين، وبينهما وبين الصلاة، على الأصح، بأن لا يفرق بينهما تفريقا فاحشا. وهل يشترط النطق للخطبة؟ فيه قولان، أصحهما نعم، فلو كانوا كلهم خرسا صلوا ظهرا، والثاني: لا. فيخطب أحدهم بالإشارة. (وهل) يشترط أن يتولاهما من يتولى الصلاة؟ فيه ثلاث روايات: أصحها عند أبي البركات عدم الاشتراط، وأشهرها عند صاحب التلخيص الاشتراط، والثالثة يجوز للعذر كالحدث والحصر والعزل دون غيره فحيث جاز فهل يشترط أن يكون المستخلف ممن شهد الخطبة؟ فيه روايتان أصحهما لا؛ هذا إن كان العدد تاما بدون المستخلف الذي لم يشهد الخطبة، أما إن لم يتم إلا به فإن التجميع لا يجوز لهم بحال. وهل يشترط لهما الطهارة؟ أما الطهارة الصغرى فلا تشترط، على ما جزم به الأكثرون، القاضي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وأبو البركات وغيرهم، وحكى أبو محمد رواية بالاشتراط، وأخذها من قول أبي الخطاب في الهداية: ومن سننهما الطهارة، وأن يتولاهما من يتولى الصلاة، وعنه أن ذلك من شرائطهما، فرجع بالإشارة إلى المسألتين وأما أبو البركات فرجع

بالإشارة إلى الثانية، وجعل الأولى محل وفاق، وهذا أولى، توفيقا بين كلام الأصحاب، إذ لم نر أحدا حكى الخلاف في ذلك إلا صاحب التلخيص، فإن كلامه ظاهر في حكاية قول بالاشتراط. (وأما الطهارة الكبرى) فمنصوص أحمد أيضا في رواية صالح صحة الخطبة مع فقدها، قال: إذا خطب بهم جنبا، ثم اغتسل وصلى بهم، أرجو أن تجزئه. وتبع إطلاق المنصوص الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وقيده القاضي في جامعه، وفي تعليقه، وصاحب التلخيص فيه: بأن يكون المنبر خارج المسجد، لأن لبثه فيه معصية تنافي العبادة، وقال صاحب التلخيص، وأبو محمد: لا تصح خطبته مطلقا، بناء على الصحيح في اعتبار الآية للخطبة، ومنع الجنب منها، وقال الشريف: إنه [قياس] قول الخرقي، وكأنه أخذ ذلك من عدم اعتداده بأذان الجنب، وأبو البركات خرج المنع من الصلاة في الدار المغصوبة، حيث حرمت القراءة، أما لو اغتسل ثم قرأ الآية، أو نسي الجنابة، فإن الخطبة تصح، لعدم تحريم القراءة، ولا أثر عنده للبث، لأنه قد يتوضأ فيباح له، وقد ينسى جنابته، وحيث حرم عليه لا أثر له في شيء من واجبات العبادة، فهو كما لو أذن جنبا في المسجد. والله أعلم.

قال: وإن أراد أن يدعو لإنسان دعا. ش: أي للسلطان ونحوه، لأن صلاحه صلاح المسلمين، ولأن الدعاء للمعين يجوز في الصلاة على الصحيح، فكيف بالخطبة، ولا يستحب ذلك، لما فيه من مخالفة السبب، نعم دعاؤه للمسلمين مستحب. 849 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا في خطبة الجمعة مستسقيا. ويستحب رفع اليد في الدعاء عند ابن عقيل، لعموم مطلوبية رفع الأيدي في الدعاء، وهو بدعة عند أبي البركات. 850 - لما «روى عمارة بن رؤيبة، أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه، فقال: قبح الله تينك اليدين، لقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما كان يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بأصبعه المسبحة» ، رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. قال: [ثم تقام الصلاة] وينزل. ش: كذلك توارثه الخلف، عن السلف، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمراد بثم هنا الترتيب، وأن الصلاة تتأخر عن الخطبة، وليس المراد التراخي، بل الموالاة شرط كما تقدم، وهل ينزل عند قول المؤذن: قد قامت

عدد ركعات الجمعة والقراءة فيها

الصلاة. أو يبادر بحيث يصل إلى المحراب عند قولها؟ فيه احتمالان، حكاهما في التلخيص. [عدد ركعات الجمعة والقراءة فيها] قال: فيصلي بهم الجمعة ركعتين. ش: هذا إجماع معلوم بالضرورة، وقد قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر. قال: يقرأ في كل ركعة منهما بالحمد، وسورة. ش: لا نزاع في ذلك، وقد استفاضت السنة بذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والمستحب أن تكون السورة في الأولى الجمعة، وفي الثانية المنافقين، على المشهور من الروايتين. 851 - لما روى ابن عباس «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في الفجر [يوم الجمعة] {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] في الأولى، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1] وفي صلاة الجمعة بسورة الجمعة والمنافقين» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي. 852 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ بهما. مختصر، رواه مسلم أيضا وغيره. (والرواية

الثانية) : يقرأ في الثانية بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] اختارها أبو بكر في التنبيه. 853 - لما روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: أخبرت «عن ابن مسعود قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صلاة الجمعة يقرأ بسورة الجمعة، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وفي صلاة الصبح يوم الجمعة {الم - تَنْزِيلُ} [السجدة: 1 - 2] و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1] .» 854 - وقد جاء في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالغاشية» . 855 - «وأنه قرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بالغاشية» . 856 - وجاء في سنن سعيد «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ مع سورة الجمعة {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] » والله أعلم. قال: ويجهر بالقراءة.

ما تدرك به الجمعة

ش: هذا أمر متوارث من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى زماننا هذا، والله أعلم. [ما تدرك به الجمعة] قال: ومن أدرك معه منها ركعة يسجد فيها أضاف إليها أخرى، وكانت له جمعة. 857 - ش: لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة» . 858 - ويؤيده ما روى النسائي عن ابن عمر قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فقد تمت صلاته» . 859 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] : «من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك» رواه النسائي أيضا.

قال: ومن أدرك معه أقل من ذلك بنى على ظهر، إذا كان قد دخل بنية الظهر. ش: إذا أدرك مع الإمام أقل من ركعة بسجدتيها فله صورتان (إحداهما) أن يدرك معه ما لا يعتد له به، كما إذا أدركهم في التشهد، أو بعد الركوع في الثانية، والمذهب المعروف هنا أن الجمعة لا تحصل له. 860 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: « «من أدرك من الجمعة ركعة أضاف إليها أخرى، ومن أدركهم جلوسا صلى الظهر أربعا» ، رواه الدارقطني وغيره من طرق فيها مقال، إلا أن أحمد، قال: لولا الحديث الذي يروى في الجمعة، لكان ينبغي أن يصلي ركعتين إذا أدركهم جلوسا. وظاهر هذا أنه يعتمد عليه.

861 - ولأن هذا قول الصحابة، حكاه أبو بكر عنهم في التنبيه إجماعا، وقال مهنا: قلت لأحمد: إذا أدركت التشهد مع الإمام يوم الجمعة كم أصلي؟ قال: أربعا، كذلك قال ابن مسعود، وكذلك فعل أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وحكى بعضهم رواية عن أحمد أن الجمعة تدرك ولو بتكبيرة، كبقية الصلوات. 862 - ولعموم «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» ومنع بعض الأصحاب من صحة الصلاة مع الإمام والحال هذه رأسا، لأن الجمعة فاتته، والظهر لا تصح خلف من يؤدي الجمعة لاختلاف النيتين، والمذهب الأول، وعليه إذا لم تصح له جمعة فتصح له ظهرا، ولكن بشرط أن ينويه بإحرامه،

على قول الخرقي، فلو نوى جمعة لم تصح، وهو ظاهر كلام أحمد، لأنه قال: يصلي الظهر أربعا، واختيار أبي البركات، وذلك لظاهر قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ومن أدركهم جلوسا صلى الظهر أربعا» ولأنه إن نوى جمعة فما هي فرضه، فقد ترك فرضه، ونوى غيره، فأشبه من عليه الظهر فنوى العصر، وقال أبو إسحاق ابن شاقلا - وزعم القاضي في التعليق في موضع أنه المذهب - ينوي جمعة، ويبني على ظهر لئلا تخالف نيته نية إمامه، وقيل: إن مبنى الوجهين أن الجمعة هل هي ظهر مقصورة، أم صلاة على حيالها؟ فيه وجهان ذكرهما ابن شاقلا، وعلى الوجهين شرط صحة الظهر إحرامه بعد الزوال، فإن كانت قبله كانت نفلا، ولم يجزئه جمعة لفواتها، ولا ظهرا لفوات شرطها وهو الوقت. والصورة الثانية أن يدرك معه ما يعتد به، كمن أدرك الركوع في الثانية، وزحم عن السجود، أو أدرك القيام، وزحم عن الركوع والسجود، أو سبقه الحدث ففاته ذلك

بالوضوء - وقلنا: يبني - حتى سلم الإمام. ففيه روايات (إحداها) يتمها جمعة، (اختارها) الخلال، لأنه أدرك ما يعتد به، أشبه مدرك الجمعة (والثانية) : لا يدرك الجمعة. وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، [والقاضي، وظاهر قول ابن أبي موسى] وأبي الخطاب، لما تقدم في الصورة الأولى من النص والإجماع. (والرواية الثالثة) : إن أدرك الركوع، وزحم عن السجود، أو نسيه أتمها جمعة، وإن فاته الركوع والسجود لم يصل جمعة، لأنه فاته معظم الركعة. وحيث قيل: لا يصلي جمعة. فهل يصلي ظهرا، أو يستأنف؟ يبنى على الخلاف، واختيار [الخرقي] وأبي البركات عدم البناء، لأن شرط البناء الدخول بنية الظهر، وقد فات ذلك، وعلى قول بأنه لا يدرك الجمعة لو أدرك السجدتين في التشهد قبل سلام الإمام فقد تمت ركعته، وأدرك بها الجمعة على رواية صححها أبو البركات، وعلى أخرى لا، ومبناهما أن الإدراك الفعلي هل هو كالحكمي؟ والله أعلم.

قال: ومتى دخل وقت العصر وقد صلوا ركعة أتموا بركعة أخرى، وأجزأتهم جمعة. ش: آخر وقت الجمعة آخر وقت الظهر بالاتفاق فإذا خرج وقت الظهر وقد أحرموا بالجمعة أتموها جمعة، وأجزأتهم عند جمهور الأصحاب، أبي بكر، وابن أبي موسى، وابن حامد، والقاضي وأصحابه، حتى إن أبا البركات حكاه عن ما عدا الخرقي، لأنها صلاة مؤقتة، فلا يمنع خروج وقتها إتمامها، كبقية الصلوات. وظاهر كلام الخرقي أنهم إن أدركوا ركعة أتموها جمعة، وإن أدركوا أقل من ذلك فلا، وبه قطع أبو محمد في المقنع، لمفهوم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك ركعة من الجمعة فقد أدرك» «ومن أدرك ركعة من الجمعة أو غيرها فقد تمت جمعته» وعلى هذا إذا لم يصلوا ركعة فهل يتمون ظهرا، أو يستأنفون ظهرا؟ على وجهين سبقا. وليس عن أحمد في المسألة نص إلا فيما قبل السلام، فإنه قال في رواية صالح وعبد الله: إذا صلى الإمام الجمعة فلما تشهد قبل أن يسلم دخل وقت العصر، فإنه تجزئه صلاته.

حكم من دخل والإمام يخطب

فأخذ أبو محمد من هذا أن ظاهر كلام أحمد أن الوقت يشترط لجميع الصلاة لا السلام وأن الوقت إن خرج قبل ذلك صلوا أو استأنفوا، ولم يعرج أحد من الأصحاب فيما علمت على ذلك، ودعوى أبي محمد أن هذا ظاهر النص يتنازع فيه، فإن ظاهره أنه وقع جواب سؤال كما هو دأب أحمد، وإذا فلا مفهوم له اتفاقا، وإن لم يكن جواب سؤال فقد يسلم الظاهر بناء على المفهوم، وقد ينازع فيه، والله أعلم. [حكم من دخل والإمام يخطب] قال: ومن دخل والإمام يخطب لم يجلس حتى يركع ركعتين يوجز فيهما. 863 - ش: في الصحيحين عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: «صليت يا فلان» ؟ قال: لا. قال: «قم فاركع ركعتين» وفي رواية أبي داود قال له: «يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما» ثم قال: «إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما» » ويقتصر من عليه فائتة عليها، وكذلك من لم يصل سنة الجمعة، إن قيل لها سنة، لأن الصلاة تحصل بكل صلاة يصليها، ولو كانت الجمعة في غير مسجد كدار وصحراء لم يصل شيئا، على ظاهر كلام الأصحاب، لأن الركعتين تحية المسجد، وقد عدم سببهما.

وقد أشعر كلام الخرقي بمنع الصلاة في حال الخطبة، وهو كذلك، ينقطع النفل المبتدأ بجلوس الإمام على المنبر. 864 - لما روى نبيشة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المسلم إذا اغتسل يوم الجمعة، ثم أقبل إلى المسجد، لا يؤذي أحدا، فإن لم يجد الإمام قد خرج [صلى ما بدا له، وإن وجد الإمام قد خرج] جلس فاستمع وأنصت حتى يقضي الإمام جمعته وكلامه، إن لم يغفر له في جمعته تلك ذنوبه كلها أن تكون كفارة للجمعة التي تليها» رواه أحمد. 865 - وعن عمر: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام. ويستوي في المنع من النفل من يسمع الخطبة ومن لا يسمعها على الصحيح لما تقدم.

العدد الذي تصح به الجمعة

866 - وعن ثعلبة بن أبي مالك القرظي أنهم كانوا في زمن عمر يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، فإذا خرج عمر وجلس على المنبر، وأذن المؤذنون، جلسنا نتحدث، حتى إذا سكت المؤذن، وقام عمر سكتوا، فلم يتكلم أحد. رواه مالك في الموطأ. وقال ابن عقيل: يتطوع الذي لا يسمع بما شاء، معللا بأن المنع كان لأجل السماع وقد انتفى. والله أعلم. [العدد الذي تصح به الجمعة] قال: وإذا لم يكن في القرية أربعون رجلا عقلاء لم تجب عليهم الجمعة، وإن صلوا أعادوها ظهرا. ش: يشترط لصحة الجمعة وانعقادها حضور أربعين رجلا، حرا [مكلفا] ، مستوطنا، مقيما، في المشهور من الروايات، قال ابن الزاغوني: اختاره عامة المشايخ. 867 - لما روى عبد الرحمن بن كعب بن مالك - وكان قائد أبيه بعد ما ذهب بصره - عن أبيه كعب أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، قال: فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة؟ قال: لأنه أول من جمع بنا، في هزم النبيت من حرة بني بياضة، في بقيع يقال له بقيع الخضمات. قلت: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعون رجلا رواه أبو داود.

868 - وقال أحمد في رواية الأثرم: «بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصعب بن عمير إلى أهل المدينة، فلما كان يوم الجمعة جمع بهم وكانوا أربعين» وكانت أول جمعة جمعت، ويقال: إن هذه

الجمعة هي المنسوبة إلى أسعد بن زرارة، وهذا صريح في انعقاد الجمعة بأربعين، فاقتصرنا عليه، إذ التجميع تغيير فرض، فلا يصار إليه إلا بنص أو اتفاق، ولم يثبت ذلك. 869 - وقد روي عن جابر قال: «مضت السنة أن في كل [أربعين] فما فوق [ذلك] جمعة، وأضحى، وفطرا» . رواه الدارقطني لكنه ضعيف (والرواية الثانية) لا تنعقد إلا بخمسين. 870 - لما روي عن أبي أمامة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على الخمسين جمعة، وليس فيما دون ذلك» رواه الدارقطني. (والرواية الثالثة) : تنعقد بثلاثة. لإطلاق {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] وهذا جمع، وأقله ثلاثة. (والرواية الرابعة) تنعقد بسبعة، حكاها ابن حامد، وعلى جميع الروايات هل يشترط كون الإمام زائدا على العدد المعتبر؟ فيه روايتان، أصحهما: لا.

تعدد الجمعة في البلد الواحد

إذا تقرر هذا فمتى كان في القرية دون العدد المعتبر فإن الجمعة لا تجب عليهم، لفقد الشرط، ومتى صلوا جمعة أعادوا ظهرا، لأنه الواجب عليهم، لا ما فعلوه. وقد أشعر كلام الخرقي بجواز إقامة الجمعة في القرى، وأنه لا يشترط لها المصر، وهو كذلك لما تقدم من حديث أسعد بن زرارة، ولأجل هذا الحديث جوز أصحابنا إقامتها فيما قارب البنيان من الصحراء، [والله أعلم] . [تعدد الجمعة في البلد الواحد] قال: وإذا كان البلد كبيرا يحتاج إلى جوامع، فصلاة الجمعة في جميعها جائزة. ش: لا خلاف في المذهب أنه لا يجوز إقامة جمعتين في بلد من غير حاجة، لأنه خلاف فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه من بعده، واختلف هل يجوز مع الحاجة، كما إذا كان البلد كبيرا، يشق على أهله التجميع في مكان واحد، أو لا يسعهم جامع واحد، أو يخشى من الإقامة بمكان واحد فتنة ونحو ذلك، فعنه: لا يجوز لما تقدم، قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: هل علمت أن أحدا جمع جمعتين في مصر واحد؟ قال: لا أعلم أحدا فعله. (وعنه) - وهو المشهور، واختيار الأصحاب - يجوز قياسا على العيد، بجامع مشروعية الاجتماع لهما، والخطبة. 871 - ودليل الأصل ما حكاه الإمام أحمد عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كان يأمر رجلا يصلي بضعفة الناس في المسجد صلاة العيد، ويخرج هو إلى الجبانة ولأن منع ذلك يفضي إلى

صلاة الجمعة للمسافر

منع خلق كثير من التجميع، وهو خلاف مقصود الشارع. 872 - ولأن صلاة الجمعة في الخوف جائزة على الصفة التي صلاها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذات الرقاع، إذا كمل العدد في كل طائفة، والطائفة الثانية قد استفتحت الصلاة بعدما صلاها غيرهم، وجواز ذلك كان لحاجة عارضة، فمع الحاجة الدائمة أولى، [والله أعلم] . [صلاة الجمعة للمسافر] قال: ولا تجب الجمعة على مسافر، ولا امرأة، ولا عبد، وإن حضروها أجزأتهم، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - في العبد روايتان، إحداهما أن الجمعة واجبة عليه، والأخرى ليست بواجبة عليه. ش: اعلم أن لوجوب الجمعة شروطا، ثم من تجب عليه تارة [تجب عليه] بنفسه وتارة تجب عليه بغيره، فمن تجب عليه بنفسه يشترط له شروط. (أحدها) أن يكون ممن يكلف بالمكتوبة، وهو المسلم، العاقل، البالغ، فلا تجب على كافر، ولا مجنون، ولا صبي، وفي كلام الخرقي ما يدل على ذلك حيث قال: وإذا لم يكن في القرية أربعون رجلا عقلاء لم تجب عليهم الجمعة. ذلك لأنها صلاة مكتوبة، أشبهت بقية

المكتوبات. وهل تلزم الجمعة ابن عشر إن قلنا: تجب عليه المكتوبة؟ فيه وجهان، أصحهما: لا. 873 - لأن في النسائي عن حفصة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رواح الجمعة واجب على كل محتلم» » (الشرط الثاني) الذكورية فلا تجب على امرأة، وقد صرح به الخرقي هنا. 874 - لما روى طارق بن شهاب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة، إلا أربعة، عبد مملوك، أو امرأة أو صبي أو مريض» رواه أبو داود، وقال: طارق رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يسمع منه. وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن لا جمعة على النساء، ولا تجب على خنثى مشكل، لأن ذكوريته لم تتحقق. الشرط الثالث: الحرية فلا تجب على عبد، في أشهر الروايات وأصحها عند الأصحاب. 875 - لما تقدم من حديث طارق، وروي نحوه من حديث جابر، رواه الدارقطني (والرواية الثانية) تجب عليه، لدخوله في

الآية الكريمة، لأنه من الذين آمنوا، (والرواية الثالثة) إن أذن له سيده وجبت عليه، وإلا فلا تجب عليه، لأن المنع ملحوظ فيه كونه لحق السيد، لاشتغاله بالخدمة، فإذا أذن له زال المانع، والمكاتب والمدبر كالقن، وكذلك المعتق بعضه، لتعلق حق المالك بباقيه، وقيل: تلزمه الجمعة في يوم نوبته إن كان ثم مهايأة، تغليبا لجانب العبادة، ويحتمل هذا كلام الخرقي، لأنه إنما نفى الوجوب عن العبد. (الشرط الرابع) : الإقامة، فلا تجب على مسافر، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وافى عرفة يوم جمعة، فجمع بين الظهر والعصر، ولم يجمع، ومعه الخلق الكثير، ولم يزل هو وخلفاؤه يسافرون للنسك والجهاد، ولم يصلوا في أسفارهم جمعة، وكما لا يلزم المسافر جمعة بنفسه، فكذلك بغيره، نص عليه. 876 - لما روي عن جابر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة، إلا مريض أو مسافر، أو امرأة، أو صبي، أو مملوك» رواه الدارقطني. (الشرط الخامس) : الاستيطان. فلا جمعة على أهل قرية يسكنونها شتاء، ويظعنون عنها صيفا، وكذلك بالعكس، وكذلك المقيم إقامة تمنع القصر، لتجارة، أو علم، لا جمعة عليه إن لم يكن أهل البلد ممن تلزمهم الجمعة، لعدم

الاستيطان، وكذلك المسافر إلى بلد دون مسافة القصر، وأهله ليسوا من أهل الجمعة. 877 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان بعرفة يوم الجمعة ومعه خلق كثير من أهل مكة، ولم يأمرهم بجمعة، وهذا الشرط أهمله الخرقي. (الشرط السادس) الوطن وهي القرية المبنية مما جرت العادة به، من حجر، أو قصب، أو خشب، فلا جمعة على أهل الحلل والخيام، لأن المدينة كان حولها حلل [وخيام] وأبيات من العرب، ولم ينقل أنهم أقاموا جمعة، ولا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم بذلك. (الشرط السابع) إذا بلغوا أربعين، وقد تقدم هذا الشرط والكلام عليه (فالتكليف) شرط للوجوب [والصحة، إلا البلوغ فإنه شرط للوجوب] والانعقاد، [ (والذكورية) شرط للوجوب والانعقاد] وكذلك الحرية والإقامة، فالمسافر والعبد والمرأة لا تجب عليهم الجمعة، ولا تنعقد بهم، ولا تصح إمامتهم فيها، وتصح منهم إجماعا، لأن السقوط عنهم رخصة، وأما الاستيطان، والوطن والعدد فشروط أيضا للانعقاد والوجوب [على المكلف] بنفسه. وقد تجب عليه بغيره، وهو ما إذا سمع النداء كأهل الحلل، والخيام، والقرية التي فيها دون العدد المعتبر، أو التي

يرتحل عنها أهلها بعض السنة، فهؤلاء إذا كانوا من البلد الذي يجمع فيه بحيث يسمعون النداء لزمهم السعي إلى الجمعة، نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولا تنعقد بهم الجمعة، وهل تصح إمامتهم؟ فيه احتمالان، فالصحة للزوم الجمعة له، وعدمها لعدم انعقادها به، وحكم فاقد الاستيطان - كالمقيم في مصر لعلم، أو شغل ونحو ذلك - كذلك على أصح الوجهين، وقيل: لا تجب [عليه] أصلا، لأنه عن وطنه على مسافة تمنع النداء، أشبه المسافر، وإنما اعتبرنا سماع النداء لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9] الآية. 878 - مع ما روى عبد الله بن عمرو عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الجمعة على من سمع النداء» رواه أبو داود والدارقطني، وفي لفظ للدارقطني «إنما الجمعة على من سمع النداء» » وإذا عدم سماع النداء انتفى وجوب الجمعة بنفسه وبغيره، لكنهم إذا حضروها صحت منهم، أما إن أقاموها بأنفسهم فلا تصح

منهم، وقد تقدم ذلك للخرقي في دون الأربعين، والمعتبر في حق من تلزمه بسماع النداء أن يكون بمكان يسمع منه النداء غالبا إذا كان المؤذن صيتا، والرياح ساكنة، والأصوات هادئة والموانع زائلة، إذ اعتبار حقيقة السماع لا تمكن، لاختلافه باختلاف حال المنادي، والسامع، ومكانهما، ثم إن أحمد في رواية الأثرم اعتبر سماع النداء وأطلق، وفي رواية صالح، وإسحاق بن إبراهيم قيده بالفرسخ، فاختلف أصحابه فمنهم من لم يقدر النداء بحد على ظاهر رواية الأثرم، وجعل التحديد بالفرسخ رواية أخرى، فتكون [المسألة] على روايتين، ومنهم من حده بالفرسخ قال: لأنه الذي ينتهي إليه النداء غالبا، وهو ظاهر كلام الإمام [أحمد] في رواية صالح، قال: تجب الجمعة على من يبلغه الصوت، والصوت يبلغ الفرسخ، فعلى هذا تكون المسألة رواية واحدة، وأبو الخطاب جعل كل واحدة من سماع النداء ومسافة الفرسخ فما دونهما موجبا، فقال: يسمع النداء أو بينه وبين موضع تقام فيه الجمعة فرسخ، فجعل أيضا المسألة رواية واحدة، إعمالا لنصيه جميعا. واعلم أن الجمعة إذا وجبت قد تسقط بأعذار، كالمرض

الشديد، والمطر الذي يبل الثياب وغير ذلك مما يبلغ نحو عشرة أشياء، وليس هذا محل بيانها، فيسقط الوجوب إذا، ومتى حضرت والحال هذه وجبت، وانعقدت بمن حضر، وصحت إمامته فيها، والله أعلم. قال: ومن صلى الظهر يوم الجمعة ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام، أعادها بعد صلاته ظهرا. ش: لأنه صلى الظهر قبل وجوبها عليه، أشبه من صلاها قبل الزوال، ودليل الوصف أن فرض الوقت عندنا هو الجمعة، وإنما الظهر بدل عنه عند التعذر، بدليل الأمر بالسعي في الآية الكريمة. 879 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله افترض عليكم الجمعة» . وقوله: «الجمعة حق واجب على كل مسلم» ولأنه بفعل الجمعة يكون طائعا مثابا، فدل على أنها الأصل، وبتركها إلى الظهر من غير عذر يكون عاصيا بالإجماع. وقول الخرقي: قبل صلاة الإمام. أي قبل فراغ الإمام من صلاته، كذا صرح به غيره. وقوله: أعادها بعد صلاته ظهرا. هذا إذا تعذر عليه التجميع، أما إن أمكنه فيلزمه، لأن ذلك فرضه.

آداب صلاة الجمعة

وقد أفهم كلام الخرقي شيئين. (أحدهما) أن من صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة بعد صلاة الإمام أن صلاته تصح، ولا إشكال في ذلك، لتعذر التجميع، وهذا بشرطه وهو أن يدخل وقت الظهر. (الثاني) : أن من لا حضور عليه كالمسافر، والعبد والمرأة، ومن له عذر، ونحوهم من لا حضور عليه، إذا صلى الظهر قبل صلاة الإمام أن صلاتهم تصح، ولا تلزمهم الإعادة، وهذا هو المذهب المنصوص، المختار للأصحاب، لأنه لا يلزمه الجمعة، أشبه الخارج من المصر، حيث لا يسمع النداء، ودليل الوصف قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة» الحديث، وذهب أبو بكر [إلى] أن صلاتهم لا تصح قبل الإمام بحال، كمن تجب عليه الجمعة، لاحتمال زوال العذر، وحكى ذلك ابن عقيل، وابن الزاغوني رواية، وينتقض التعليل [بالمرأة] وعلله ابن عقيل بخشية اعتقاد افتياتهم على الإمام، أو كونهم لا يرون صلاة الجمعة، وهو أيضا منتف غالبا في حق المرأة، ثم إن مثل ذلك لا يعطي المنع الجازم، والله أعلم. [آداب صلاة الجمعة] قال: ويستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل. ش: لا إشكال في مطلوبية غسل الجمعة واستحبابه.

880 - لما روى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «غسل الجمعة واجب على كل محتلم، والسواك، وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه» . 881 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام، يغسل رأسه وجسده» متفق عليهما. 882 - وعن حفصة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «على كل محتلم رواح الجمعة، وعلى من راح إلى الجمعة الغسل» رواه أبو داود وهل يجب؟ فيه روايتان (إحداهما) يجب. اختارها أبو بكر، لهذه الأحاديث، لكن لا يشترط لصحة الصلاة اتفاقا. (والثانية) : لا يجب. وهي اختيار الخرقي، وجمهور الأصحاب. 883 - لما روى سمرة بن جندب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل» رواه الخمسة إلا ابن ماجه. 884 - وعن ابن عمر أن عمر بينا هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين، فناداه عمر: أية ساعة

هذه؟ فقال: إني شغلت، فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزد على أن توضأت. قال: والوضوء أيضا، وقد علمت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمر بالغسل. متفق عليه. 885 - وهذا الرجل هو عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كذا في مسلم وهذا كالإجماع من الصحابة على أن الغسل غير واجب، لأن عثمان تركه، ولم يعدله، وقد أقره عمر وغيره من الصحابة على ذلك، وإنكار عمر على ترك السنة، كما أنكر عليه عدم التبكير، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «غسل الجمعة واجب» محمول على تأكيد الاستحباب، كما يقال: حقك علي واجب. جمعا بين الأدلة، ويرشحه اقترانه بالسواك والطيب، وهما غير واجبين إجماعا. وقول الخرقي: يستحب لمن أتى الجمعة أن يغتسل. يخرج منه من لم يأتها ممن لا تجب عليه كالمسافر، والعبد، وغيرهما، فإنه لا يستحب له الاغتسال، ونص عليه أحمد، لحديث حفصة. 886 - وفي الصحيح «إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل» » . ويدخل في كلامه من أتى الجمعة [وإن] لم تجب عليه، كالمسافر ونحوه، فإن الغسل مستحب [له] لما تقدم، إلا المرأة على ظاهر كلام أحمد.

887 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وليخرجن تفلات» . ومقتضى كلام الخرقي أن الغسل لأجل الجمعة، فيختص الغسل بما قبلها، ولا نزاع عندنا في ذلك، وأول الوقت من طلوع الفجر يومئذ، والمستحب عند الرواح، والله أعلم. قال: ويلبس ثوبين نظيفين. 888 - ش: لما روى عبد الله بن سلام أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على المنبر في يوم الجمعة «ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبي مهنته» رواه أبو داود وابن ماجه. 889 - وعن جعفر بن محمد، عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتم ويلبس برده الأحمر في العيدين، والجمعة» ، رواه أحمد في مسائل ابنه صالح.

صلاة الجمعة قبل الزوال

قال: ويتطيب. ش: لما تقدم من حديث أبي سعيد وغيره، والله أعلم. [صلاة الجمعة قبل الزوال] قال: وإن صلوا الجمعة قبل الزوال في الساعة السادسة أجزأتهم. ش: المذهب المعروف [والمشهور] المنصوص أنه يجوز فعل الجمعة قبل الزوال. 890 - لما روى جابر بن عبد الله «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي الجمعة ثم نذهب إلى جمالنا فنزيحها حين تزول الشمس، يعني النواضح» . 891 - «وعن سهل بن سعد الساعدي قال: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواهما أحمد

ومسلم» قال ابن قتيبة: لا يسمى قائلة ولا غداء إلا ما كان قبل الزوال. لإجماع الصحابة. 892 - فروى عبد الله بن سيدان السلمي قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت صلاته وخطبته قبل نصف النهار وشهدتها مع عمر بن الخطاب فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان بن عفان فكانت صلاته وخطبته إلى أن أقول: زال النهار. فما رأيت أحدا عاب ذلك ولا أنكره. رواه الدارقطني وأحمد محتجا به. 893 - وعن ابن مسعود أنه كان يصلي الجمعة ضحى ويقول: إنما عجلت بكم خشية الحر عليكم. رواه أحمد.

894 - وعن معاوية نحوه، رواه سعيد، وقال أحمد: روي عن ابن مسعود، وجابر، وسعد، ومعاوية أنهم صلوا قبل الزوال، وإذا صلى هؤلاء مع من يحضرهم من الصحابة ولم ينكر فهو إجماع، وما روي من الفعل بعد الزوال لا ينافي هذا، لأن سائر المسلمين لا يمنعون ذلك بعد الزوال. (وعن أحمد) - رواية أخرى حكاها أبو الحسين عن والده: لا يجوز قبل الزوال. 895 - لما «روى سلمة بن الأكوع قال: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة إذا زالت الشمس، ثم نرجع فنتتبع الفيء» . متفق عليه. 896 - «وعن أنس: كنا نصلي مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجمعة حين تميل الشمس» . رواه البخاري وغيره، ولأنها ظهر مقصورة، فكان وقتها كالمقصورة في السفر. والأول المذهب،

والأحاديث قد تقدم الجواب عنها، وكونها ظهرا مقصورة لنا فيه منع، وإن سلم لا يمنع افتراقهما هنا كما افترقا في كثير من الشروط. وعلى هذا فهل يختص فعلها بما يقارب الزوال، أو يجوز فعلها في وقت صلاة العيد؟ فيه قولان، (والأول) : اختيار الخرقي وأبي محمد، لأن الثابت من فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة قبل الزوال قريبا [منه] ، فاقتصرنا عليه، واختلفت نسخ الخرقي، ففي بعضها: الخامسة، وكذا حكاه عنه أبو إسحاق بن شاقلا، وأبو الخطاب، وفي أكثرها «السادسة» وهو الذي صححه القاضي، وأبو البركات، لأنه المتيقن، وغيره مشكوك فيه. (والثاني) : منصوص أحمد، واختيار عامة الأصحاب، لأن ابن مسعود، ومعاوية صلياها ضحى كما تقدم. 897 - وفعلها ابن الزبير في وقت العيد، وصوبه ابن عباس وأبو هريرة، ولأنها صلاة عيد، فجازت قبل الزوال كبقية الأعياد.

898 - ويدل على الوصف قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد اجتمع في يومكم هذا عيدان» الحديث انتهى، وهل من قبل الزوال وقت لوجوبها؟ فيه روايتان إحداهما: نعم، والثانية: لا، وإنما وقت الوجوب الزوال، وهذا اختيار الأصحاب لعموم {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] والتقديم [ثم] ثبت رخصة بالسنة والآثار، والله أعلم. قال: وتجب الجمعة على من بينه وبين الجامع فرسخ والله أعلم. ش: قد تقدمت هذه المسألة والخلاف في تحديد الوجوب هل هو بالفرسخ، أو بسماع النداء، وأن هؤلاء هم الذين تجب الجمعة عليهم بغيرهم، لا بأنفسهم، ونزيد هنا أن ظاهر كلام الخرقي أن الفرسخ أو سماع النداء يعتبر من الجامع، لأن السعي الذي تختلف المشقة باختلافه إليه ينتهي، وظاهر كلام أحمد - وهو الذي صححه أبو البركات - أنه معتبر من طرف البلد. 899 - لما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «هل عسى أحدكم أن يتخذ الغنم على رأس ميل، أو ميلين، أو ثلاثة من المدينة، فتأتي

باب صلاة العيدين

الجمعة فلا يجمع، فيطبع الله على قلبه، فيكون من الغافلين» رواه أبو بكر النجاد، وفي ابن ماجه نحوه ولأن طرف البلد قد يكون عن الجامع أكثر من فرسخ، أو بحيث لا يسمع النداء، فيفضي اعتبارهما إلى سقوط الجمعة عن من قرب من المصر، وهو ممتنع، والله أعلم. [باب صلاة العيدين] ش: سمي العيد عيدا لأنه يعود ويتكرر لأوقاته، وقيل: لأنه يعود بالفرح والسرور، وقيل: تفاؤلا بعوده، كما سميت القافلة قافلة في ابتداء خروجها، تفاؤلا بقفولها سالمة أي رجوعها، والأصل في مشروعيتها، الإجماع، وما تواتر من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه صلوها. 900 - وقد قيل في قول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] أن المراد صلاة العيد، واختلف عن أحمد في حكمها، فعنه أنها فرض عين، (وعنه) سنة، (وعنه) وهي المذهب: فرض كفاية، كصلاة الجنازة، والجهاد.

التكبير في العيدين

[التكبير في العيدين] قال: ويظهرون التكبير في ليالي العيدين، وهو في الفطر آكد، لقول الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] . ش: يسن التكبير في ليالي العيدين، لأن ابن عمر كبر فيهما. 901 - قال أحمد: كان ابن عمر يكبر في العيدين جميعا، ويعجبنا ذلك، وهو في الفطر آكد، للآية الكريمة. 902 - وقد قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيره: هو تكبيرات ليلة الفطر ويسن إظهار التكبير، أي رفع الصوت به، إظهارا للشعار وتنبيها للغافل. 903 - وكان عمر يكبر في قبته بمنى، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، ويكبر أهل الأسواق، حتى ترتج منى تكبيرا.

آداب صلاة العيدين

وظاهر كلام الخرقي أن التكبير لا يتقيد بأوقات الصلوات، بل يكبرون في ليالي العيدين مطلقا، وهو كذلك والله أعلم. [آداب صلاة العيدين] قال: فإذا أصبحوا تطهروا. ش: دل هذا على شيئين (أحدهما) : أنه يسن التطهير أي الاغتسال للعيدين، لأنه يوم عيد يجتمع الناس فيه، فسن الغسل فيه كيوم الجمعة. 904 - وقد روى الفاكه بن سعد - وكانت له صحبة - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغتسل يوم الجمعة، ويوم عرفة، ويوم الفطر، ويوم النحر» وكان الفاكه بن سعد يأمر أهله بالغسل في هذه الأيام، رواه عبد الله بن أحمد في المسند، وابن ماجه، ولم يذكر الجمعة، (الثاني) : أن وقت الغسل بعد الفجر، وهو قول القاضي وغيره، وظاهر الحديث، إذ اليوم إنما يدخل بذلك، وجوزه ابن عقيل بعد نصف ليلته، نظرا إلى [أن] المقصود التنظيف وهو حاصل بذلك، ولأنه وقت ضيق، فلو

تقيد الاغتسال بالفجر لفات غالبا، بخلاف الجمعة فإن وقتها متسع. قال: وأكلوا إن كان فطرا. ش: قد تضمن منطوق كلام المصنف الأكل في الفطر، ومفهومه الإمساك في الأضحى. 905 - والأصل في ذلك ما روى بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل، ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع» . رواه الترمذي، وابن ماجه والإمام أحمد وزاد: «فيأكل من أضحيته» . 906 - وعن أنس قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهن وترا» . رواه البخاري وليأت بالمأمور به في عيد الفطر [حسا] ، وإن وجد شرعا، وليفطر على أضحيته في الأضحى، وقد اقتضى ما تقدم أنه لا يسن له

التأخير في الأضحى إلا إذا كانت له أضحية، ونص عليه أحمد، والله أعلم. قال: ثم غدوا إلى المصلى، مظهرين التكبير. ش: السنة فعل العيد في المصلى. 907 - لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى» . ولم ينقل عنه أنه صلاهما في المسجد لغير عذر، وكذلك خلفاؤه، من بعده، وقد اشتهر عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه استخلف من يصلي بضعفة الناس في المسجد. 908 - وفي أبي داود وغيره «عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلى بهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاة العيد في المسجد» . 909 - وقد ذكر أحمد في رواية أبي طالب عن مخنف بن سليم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الخروج إلى المصلى يوم الأضحى يعدل حجة، ويوم الفطر يعدل عمرة. ويسن التكبير وإظهاره في الرواح إلى المصلى.

وقت صلاة العيدين وكيفيتها

910 - لما روى ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى» ، رواه الدراقطني. 911 - وعن ابن عمر أنه كان إذا غدا يوم الفطر ويوم الأضحى يجهر بالتكبير، حتى يأتي المصلى، ثم يكبر حتى يأتي الإمام، رواه الدارقطني. 912 - وروي التكبير في العيد عن علي، وأبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وينتهي التكبير بالوصول إلى المصلى في رواية، وفي أخرى بخروج الإمام إلى الصلاة، وفي ثالثة - وهي اختيار القاضي وأصحابه - بفراغ الخطبة، والله أعلم. [وقت صلاة العيدين وكيفيتها] قال: وإذا حلت الصلاة تقدم الإمام فصلى بهم ركعتين. ش: يحتمل أن اللام في الصلاة للعهد، و «حلت» من الحلول أي إذا حلت صلاة العيد، أي جاء ودخل وقتها.

ويحتمل أن اللام [في الصلاة] للجنس، أي جنس الصلاة النافلة، و «حل» من الحل وهو الإباحة، كقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 157] أي إذا أبيحت صلاة النافلة، وهو إذا ارتفعت الشمس قيد رمح كما تقدم، وهذا أجود، لتضمنه معرفة أول وقت الصلاة، وهو - كما قلنا - إذا خرج وقت [النهي] . 913 - لما روى يزيد بن خمير الرحبي قال: خرج عبد الله بن بشر صاحب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إنا كنا قد فرغنا ساعتنا هذه، وذلك حين التسبيح، رواه أبو داود، وابن ماجه أي وقت صلاة النافلة، وآخر وقتها إذا قام قائم الظهيرة، وهي ركعتان بالإجماع، والسنة المستفيضة، والله أعلم. قال: بلا أذان ولا إقامة. 914 - ش: في الصحيحين «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: شهدت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العيدين، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، بلا أذان ولا إقامة» .

915 - وصح ذلك [أيضا] من حديث ابن عباس وغيره والله أعلم. قال: ويقرأ في كل ركعة منهما بالحمد الله وسورة. ش: أما قراءة الحمد فلما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وأما قراءة السورة فلا نزاع في استحبابها لما سيأتي، والمستحب أن يقرأ في الأولى بسبح، وفي الثانية بالغاشية، على أشهر الروايات. 916 - لما روي عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] » رواه الإمام أحمد، وهو لابن ماجه من حديث النعمان بن بشير، وابن عباس، ويرشح هذا عمل الصحابة. 917 - فروى النجاد عن أنس وعمر أنهما كانا يقرآن بهما.

(والثانية) : يقرأ في الأولى بقاف، وفي الثانية باقتربت. 918 - لما في مسلم والسنن عن أبي واقد الليثي، «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقرأ بقاف واقتربت» . (والثالثة) : ليس فيهما سورة يتعين استحبابها، وهو ظاهر كلام الخرقي، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تارة قرأ بتين وتارة قرأ بتين، كما تقدم، فدل على أنه لا يتعين. قال: ويجهر بالقراءة. ش: هذا إجماع توارثه الخلف عن السلف، وفي قولهم: إنه كان يقرأ في الأولى بكذا، وفي الثانية بكذا، دليل على ذلك، والله أعلم. قال: ويكبر في الأولى سبع تكبيرات، منها تكبير الافتتاح. 919 - ش: روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر ثنتي عشرة تكبيرة، سبعا في الأولى، وخمسا في الأخرى، ولم يصل قبلها ولا بعدها» ، رواه أحمد وابن

ماجه. قال أحمد: أنا أذهب إلى هذا، وكذلك ذهب إليه ابن المديني وصحح الحديث، نقله عنه حرب، ورواه أبو داود ولفظه: أن نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الأخرى، والقراءة بعد كليهما» ولحديث عمرو بن عوف المزني وسيأتي. 920 - مع أنه روي عن جماعة من الصحابة، وإنما عدت تكبيرة الافتتاح من السبع لأنها تفعل في القيام، بخلاف تكبيرة القيام

في الثانية، فإنها لم تعد من الخمس، لأنها تفعل مع القيام. قال: ويرفع يديه مع كل تكبيرة، [كتكبيرة الإحرام] . ش: يرفع [يديه] مع جميع التكبيرات يبتديه مع ابتدائه، وينهيه مع انتهائه، اتباعا. 921 - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة، في الجنازة، وفي العيد، وعن زيد بن ثابت مثله رواهما الأثرم. قال: ويستفتح في أولها. ش: هذا المشهور من الروايتين، لأن الاستفتاح يراد للدخول في الصلاة، والرواية الثانية: يؤخره إلى أن يفرغ من جميع

التكبيرات، اختارها الخلال وصاحبه، لتليه الاستعاذة، كبقية الصلوات، ولتوالي التكبيرات والله أعلم. قال: ويحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين كل تكبيرتين، وإن أحب قال: الله أكبر كبيرا، والحمد الله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلوات الله على محمد النبي الأمي، وعليه السلام وإن أحب قال غير ذلك. 922 - ش: [ذكر ابن المنذر - واحتج به أحمد - عن ابن مسعود أنه [قال] : بين كل تكبيرتين يحمد الله [ويثني عليه] ، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويدعو وهذا الذي ذكره الخرقي يشتمل على هذا، وإن أحب قال نحو ذلك] كسبحان الله، والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر، وصلى الله على محمد، أو ما شاء من الذكر، قال أحمد في رواية حرب: ليس بين التكبيرتين شيء مؤقت. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يقول ذلك بعد الأخيرة، وقاله القاضيان، أبو يعلى وأبو الحسين، وظاهر كلام أبي الخطاب

أنه يقوله بعد الأخيرة، وهو الذي صححه أبو البركات، وقد اختلف النقل في ذلك عن ابن مسعود والله أعلم. قال: ويكبر في الثانية خمس تكبيرات، سوى التكبيرة التي يقوم بها من السجود، ويرفع يديه مع كل تكبيرة. ش: قد تقدم هذا فلا حاجة إلى إعادته، وظاهر كلام الخرقي [أن القراءة تكون] بعد التكبير في الركعتين، وهو المشهور من الروايتين، واختيار القاضي وعامة أصحابه، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب. 923 - وعن عمرو بن عوف المزني «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة، وفي الثانية خمسا قبل القراءة» ، رواه الترمذي [وحسنه] قال: هو أحسن شيء في الباب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصححه البخاري هو وحديث عمر بن شعيب.

الخطبة في صلاة العيدين

(والرواية الثانية) : يوالي بين القراءتين، ويكون التكبير في الثانية بعد القراءة، اختارها أبو بكر. 924 - لما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التكبير في العيدين سبعا قبل القراءة، وخمسا بعد القراءة» رواه أحمد (وعن أحمد) رواية ثالثة بالتخيير، قال في رواية الميموني: اختلف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في التكبير، وكل جائز. والله أعلم. [الخطبة في صلاة العيدين] قال: وإذا سلم خطب بهم خطبتين، يجلس بينهما. ش: قد تضمن هذا الكلام أن خطبة العيد [تكون] بعد الصلاة، وهذا كالإجماع، وقد استفاضت به الأحاديث عن صاحب الشرع، وعن خلفائه الراشدين. 925 - ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر، وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة» . 926 -[ «وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شهدت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم العيد، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة] بلا أذان ولا إقامة» .

927 - وتقديم عثمان لهما في أواخر خلافته - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لكثرة الناس، ليدرك عامتهم الصلاة، فإنها أهم من الخطبة المتفق على كونها سنة، والسنة أن يخطب خطبتين، يجلس بنيهما. 928 - لما روى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: «السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين، يفصل بينهما بجلوس» ؛ رواه الشافعي في مسنده.

929 - وقال جابر: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر أو أضحى، فخطب قائما، ثم قعد قعدة، ثم قام» . رواه ابن ماجه [وصفة هذه الخطبة كخطبة الجمعة، إلا أنه يستفتح الأولى بتسع تكبيرات متواليات، وفي الثانية بسبع] وهل يجلس عند صعوده المنبر كالجمعة، وهو ظاهر كلام أحمد، أو لا يجلس، لأن الجلوس ثم للأذان ولا أذان هنا؟ وجهان. والقيام فيها مستحب وإن وجب في الجمعة في رواية فلو خطب قاعدا، أو على راحلته فلا بأس، لأنها أشبهت صلاة التطوع. 930 - وقد روي عن عثمان، وعلي والمغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم خطبوا على رواحلهم، وتفارق الجمعة [أيضا في

الطهارة و] في كونها يليها من يلي الصلاة، وفي الجلسة بين الخطبتين، فإن ذلك وإن وجب للجمعة لا يجب لها، ولا يعتبر لها العدد، وإن اعتبرناه للجمعة والله أعلم. قال: فإن كان فطرا حظهم على الصدقة، وبين لهم ما يخرجون، وإن كان أضحى رغبهم في الأضحية، وبين لهم ما يضحى به. ش: يذكر في كل خطبة ما يليق بها، ففي عيد الفطر يرغبهم في الصدقة، ويبين لهم حكمها، وما اشتملت عليه من الثواب، وقدر المخرج، وجنسه وعلى من تجب، ونحو ذلك وفي الأضحى يرغبهم في الأضحية، ويبين لهم حكمها، والمجزئ فيها، ووقت ذبحها، ونحو ذلك. 931 - وقد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر في خطبة الأضحى كثيرا من أحكام الأضحية من رواية أبي سعيد، والبراء وغيرهما، والله أعلم.

التنفل قبل صلاة العيدين وبعدها

[التنفل قبل صلاة العيدين وبعدها] قال: ولا يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها. ش: لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب. 932 - وفي الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فطر، فصلى ركعتين، لم يصل قبلها، ثم أتى النساء ومعه بلال، فأمرهن بالصدقة، فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها» . 933 - وللبخاري [عنه] أنه كره الصلاة قبلها.

934 - واستخلف علي أبا مسعود على الناس، فخرج يوم عيد فقال: يا أيها الناس إنه ليس من السنة أن يصلي قبل الإمام. رواه النسائي. 935 - وعن ابن سيرين، أن ابن مسعود وحذيفة قاما، أو قاما أحدهما، فنهيا أو نهى الناس أن يصلوا يوم العيد قبل خروج الإمام، رواه سعيد. 936 - وقال الزهري: لم أسمع أحدا من علمائنا يذكر أن أحدا من سلف هذه الأمة كان يصلي قبل تلك الصلاة، ولا بعدها. رواه الأثرم. 937 - وعن مطر الوراق قال: ما صلى في العيد قبل الإمام بدري. رواه سعيد.

وكلام الخرقي يشمل المسجد وغيره، وصرح به القاضي وغيره، لكن كلام الخرقي مقيد بمصلى العيد، وأما لو صلى في غيره فلا بأس، فعله أحمد، وذكره الأصحاب. 938 -[وقد روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] «أنه كان لا يصلي قبل العيد شيئا، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين.» رواه ابن ماجه، وأحمد بمعناه، والله أعلم. قال: وإذا غدا من طريق رجع في غيرها. 939 - ش: قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا كان يوم عيد خالف الطريق» . رواه البخاري. 940 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا خرج

حكم من فاتته صلاة العيدين

إلى العيد يرجع من غير الطريق الذي خرج فيه» . رواه مسلم وغيره. واختلف لأي شيء فعل ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقيل: لتشهد له الطريقان، وقيل: ليتصدق على أهلهما. وقيل: ليغيظ المنافقين، ويريهم كثرة المسلمين، وقيل ليساوي بينهما في التبرك به، والمسرة بمشاهدته والانتفاع بمساءلته. وقيل: لأن الطريق الذي كان يغدو فيه أطول، والثواب [يكثر] بكثرة الخطا إلى الطاعة. وقيل غير ذلك، وبالجملة يقتدى به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لاحتمال وجود المعنى في حقنا، وتستحب المخالفة في الجمعة أيضا نص عليه، والله أعلم. [حكم من فاتته صلاة العيدين] قال: ومن فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات كصلاة التطوع [يسلم في آخرها] وإن أحب فصل بسلام بين كل ركعتين. ش: من فاتته صلاة العيد استحب له قضاؤها.

941 - لأن ابن مسعود وأنسا قضياها. ويقضيها أربعا، على المشهور من الروايات واختارها الخرقي، والقاضي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافاتهم، وأبو بكر فيما حكاه عنه القاضي والشريف. 942 - لأن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من فاته العيد فليصل أربعا. رواه سعيد. 943 - قال أحمد: يقوي ذلك حديث علي أنه أمر رجلا يصلي بضعفه الناس أربعا، ولا يخطب، وعلى هذه الرواية يصلي بلا تكبير، وقد أشار إليه الخرقي بقوله: كصلاة التطوع. ثم إن أحب صلى الأربع بسلام واحد، وإن شاء بسلامين، على

إحدى الروايتين، والرواية الأخرى بسلام واحد. (والرواية الثانية) : يقضيها ركعتين لا غير، اختارها الجوزجاني، وأبو محمد في العمدة، وأبو بكر في التنبيه، فيما حكاه عنه أبو الحسين. 944 - لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا لم يحضر العيد مع الناس جمع أهله وولده وصلى ركعتين، يكبر فيهما، وعلى هذه الرواية يكبر فيها. (والثالثة) يخير بين ركعتين بتكبير، وأربع بلا تكبير، لأن كليهما ثبت عن الصحابة فخيرناه بينهما. وقول الخرقي: ومن فاتته الصلاة. ظاهره أنه فاتته جميع الصلاة، فلو أدركهم بعد الركوع في الثانية فإنه يقضيهما ركعتين بلا نزاع، وهذه طريقة الشيخين وغيرهما، وفي التعليق الكبير أنه على الخلاف في القضاء، وقاسه على الجمعة وقد نص أحمد على الفرق في رواية حنبل، وقال: إذا أدرك التشهد في العيد يصلي ركعتين، وإن أدرك مثله في الجمعة صلى أربعا، ومع تصريح الإمام بالفرق يمتنع الإلحاق. قال: ويبتدئ التكبير يوم عرفة من صلاة الفجر، ثم لا

يزال يكبر [في] دبر كل صلاة مكتوبة صلاها في جماعة، وعن أبي عبد الله - رحمة الله عليه - رواية أخرى أنه يكبر لصلاة الفرض وإن كان وحده، حتى يكبر لصلاة العصر من آخر أيام التشريق ثم يقطع. والله أعلم. ش: قد تضمن هذا الكلام مشروعية التكبير عقب الصلوات في عيد النحر ولا نزاع في ذلك في الجملة، وقد قال الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] . 945 - وقد فسرت بأيام التشريق مع يوم النحر، ثم الكلام في وقته، ومحله، وصفته. أما وقته ففي حق المحل من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى العصر من آخر أيام التشريق، لما تقدم من الآية الكريمة [إذا ظاهرها الذكر في جميع الأيام] . 946 - ويؤيده ما في صحيح مسلم وغيره عن نبيشة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل» » .

947 - وقد روى الدارقطني من طرق عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا فقال: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله [ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق. وفي بعض الطرق أنه لا إله إلا الله] والله أكبر، الله أكبر والله الحمد» » . 948 - وقيل للإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: بأي حديث تذهب إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى آخر أيام التشريق؟ [قال: بإجماع عمر وعلي، وابن عباس، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وفي حق المحرم من صلاة الظهر يوم النحر، إلى آخر أيام التشريق] العصر، لأنه قبل ذلك مشتغل بالتلبية، وعن أحمد: ينتهي بصلاة الفجر من آخر أيام التشريق، والأول المذهب.

وأما محله فعقب الصلوات المفروضات في جماعة، بالإجماع الثابت بنقل الخلف عن السلف، لا النوافل، وإن صليت في جماعة، وفي الفريضة إذا صلاها وحده روايتان، المشهور منهما - وهو اختيار أبي حفص، والقاضي، وعامة الأصحاب - لا يكبر. 949 - لأن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: التكبير على من صلى في جماعة. رواه حرب وغيره. 950 - وقال أحمد: أعلى شيء في الباب حديث ابن عمر أنه صلى وحده ولم يكبر، [وإليه نذهب، (والثانية) : - وهي ظاهر كلام ابن أبي موسى - يكبر] نظرا لإطلاق الآية الكريمة والحديث، وفي التكبير عقيب صلاة عيد الأضحى قولان، [أحدهما] : - وهو اختيار أبي بكر، وظاهر كلام الخرقي - يكبر، لشبهها بفرض العين في اشتراك الجميع في الخطاب، والثاني: لا، لشبهها بالنافلة في سقوطها عن المكلفين في ثاني الحال. وكلام الخرقي يشمل المقيم والمسافر، والرجل والمرأة، وهو المشهور، وعن أحمد: لا تكبر المرأة كالأذان، نعم إن صلت مع الرجال كبرت معهم تبعا، ويشمل المسبوق ببعض الصلاة فإنه صلى في جماعة.

وأما صفته فالله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، [ولله الحمد. لما تقدم في حديث جابر. 951 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يكبر أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر] ولله الحمد، وعليه اعتمد أحمد، وروي ذلك أيضا عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والله سبحانه أعلم.

كتاب صلاة الخوف

[كتاب صلاة الخوف] ش: الإضافة بمعنى اللام، أي الصلاة للخوف، أو بمعنى «في» أي الصلاة في الخوف، وهي ثابتة بنص الكتاب وبالسنة قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] الآية واستفاضت السنة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي صلاة الخوف، وأجمع العلماء على ذلك، وعامتهم على ثبوت ذلك بعد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن ما ثبت في حقه ثبت في حقنا. 952 - مع أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -[قد] فعلوها بعد موته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنهم علي، وأبو موسى الأشعري، وحذيفة، وهو دليل على بقاء الحكم.

كيفية صلاة الخوف

[كيفية صلاة الخوف] قال: وصلاة الخوف إذا كانت بإزاء العدو، وهو في سفر، صلى بطائفة ركعة [وثبت قائما] وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة، ثم ذهبت تحرس وجاءت الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو فصلت معه ركعة، وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد الله [وسورة] ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد ويسلم بهم. ش: ورد في صفة صلاة الخوف أحاديث صحاح جياد، قال أحمد: ستة أو سبعة وقيل: أكثر من ذلك. وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على قاعدته، يجوز جميع ما ورد، إلا أن المختار عنده إذا كان العدو في غير جهة القبلة هذه الصفة التي ذكرها الخرقي واقتصر عليها.

953 - وهو ما «روى صالح بن خوات عمن صلى مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم ذات الرقاع، أن طائفة صفت معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائما، وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا فصفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبت جالسا فأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم» . رواه الجماعة إلا ابن ماجه، وفي رواية أخرى للجماعة: عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمثل هذه الصفة، وإنما اختار أحمد هذه الصفة على غيرها قال: لأنها أنكأ للعدو، إذ الطائفة التي تقف تجاه العدو تقف مستيقظة للعدو، إذ ليست في صلاة لا حسا ولا حكما، ولموافقتها لظاهر القرآن، لأن الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} [النساء: 102] فجعل سبحانه السجود لهم خاصة، فعلم أنهم يفعلونه منفردين، وقال سبحانه: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102] [وظاهره أن جميع صلاتهم تكون معه] وكذا في هذه الصفة، لأن

الطائفة الأولى تصلي معه ركعة، ثم تفارقه فتصلي الركعة الثانية وحدها، والثانية تصلي معه الركعة الثانية، ثم ينتظرها في التشهد حتى تأتي بالركعة الأخرى فيسلم بها فإتمامها به لم يزل إلا بالسلام. وقول الخرقي: وصلاة الخوف إذا كان بإزاء العدو، أي بحضرة العدو، يعني أن الصلاة للخوف لا يكون إلا بحضرة العدو، فلا تفعل في غير ذلك، وهو شامل لما إذا كان العدو في جهة القبلة، أو في غير جهتها، ونص عليه أحمد، إلا أن هذه الصفة تختار إذا كان العدو في [غير] جهة القبلة، وجعله القاضي، وأبو الخطاب شرطا. 954 - لأنه إذا كان في جهتها فيستغني عن هذه الصلاة بصلاة عسفان، التي هي أقل مخالفة للأصل من هذه الصلاة، وأبو البركات في الحقيقة يختار هذا القول، لأنه قال: عندي أن كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - محمول على ما إذا لم تمكن صلاة عسفان، لاستتار العدو، أو خوف كمين له، وكلام القاضي

وأبي الخطاب على ما إذا أمكنت صلاة عسفان، وهو ظاهر كلام طائفة من الأصحاب. وقوله: وهو في سفر. يحترز به عن الحضر كما سيأتي. وقوله: صلى بطائفة ركعة. ظاهره إطلاق الطائفة، وهو اختيار أبي محمد، نظرا إلى [أن] الطائفة تقع على القليل والكثير، وقال أبو الخطاب - وتبعه صاحب التلخيص، وأبو البركات - شرط الطائفة أن تكون ثلاثة فصاعدا لقوله سبحانه: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا} [النساء: 102] وهذا جمع، وأقل الجمع ثلاثة، لكن على القولين لا بد وأن تكون الطائفة التي بإزاء العدو ممن تحصل الثقة بكفايتها وحراستها. وقوله: وأتمت لأنفسها [أخرى. يعني إذا قام إلى الثانية نوت مفارقته، وأتمت لأنفسها] ركعة أخرى ويقف الإمام ينتظر الطائفة الثانية وهو يقرأ، فإذا جاءت الطائفة الثانية دخلت

معه في الركعة الثانية، فإذا جلس للتشهد قامت فأتت بركعة أخرى، وهم في حكم الائتمام به، ويكرر هو التشهد حتى تدركه فيه فيسلم بهم. واعلم أن من شرط صلاة الخوف بلا نزاع عندنا أن يكون العدو يحل قتاله، ويخاف هجومه، والله أعلم. قال: وإن خاف وهو مقيم صلى بكل طائفة ركعتين، وأتمت الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى تتم بالحمد لله وسورة. ش: قد دل هذا على أن صلاة الخوف تفعل في الحضر، كما تفعل في السفر، وذلك لعموم {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} [النساء: 102] الآية، ودل مع ما تقدم على أن الخوف لا أثر له في قصر الصلاة، وإنما له تأثير في قصر الصفة، أي نقصها، والسفر له تأثير في قصر العدد، ولهذا قيل: إذا اجتمعا وجد القصر المطلق، ولهذا قيدت الآية الكريمة بالخوف، لأنه مع الضرب في الأرض يجتمع الأمران، فالمراد بالآية الكريمة - والله أعلم - القصر المطلق، لا المقيد، وقيل: عن أحمد ما يدل [على] جواز فعلها ركعة، والأول المشهور. ودل كلامه أيضا على أن ما يدركه المسبوق آخر صلاته، وما يقضيه أولها، لأنه جعل الطائفة الأولى تتم بالحمد لله

فقط، لأنها أدركت أول الصلاة بلا ريب، والطائفة الثانية تتم بالحمد لله وسورة، لأن ما أدركته آخر صلاتها، فالذي تقضيه أولها، وهذا هو المشهور من الروايتين، وعليه الأصحاب. 955 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا» رواه أحمد، والنسائي، ولمسلم «فصل ما أدركت، واقض ما سبقك» والحجة فيه من ثلاثة أوجه (أحدهما) : قوله: «ما أدركتم فصلوا» والذي أدركه مع الإمام آخر صلاته، فوجب أن يصليه معه، (والثاني) : قوله: «وما فاتكم» و «ما

سبقك» والذي فاته وسبقه به أول الصلاة، فعلم أنه الذي يفعله بعد مفارقته، (والثالث) : قوله: «فاقضوا» والقضاء إنما يكون لما فات وقته، وانقضى محله، لأن المأموم تابع، فلا يشتغل بغير ما يفعله إمامه. (والرواية الثانية) : أن ما يدركه المسبوق أول صلاته، وما يقضيه آخرها. 956 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا» والإتمام إنما يكون لما فعل أوله، فيتم آخره، وأجيب بأن الإتمام إنما يستدعي النقصان، أولا كان أو آخرا، فإذًا يحمل قوله: «فأتموا» أي فأتموا قضاء، جمعا بين الروايتين.

وللخلاف فوائد (منها) الاستفتاح، لا يستفتح على المذهب إلا في أول ركعة يقضيها، لحكمنا أنها أول صلاته، وعلى الثانية إذا افتتح الصلاة (ومنها) التعوذ، إذا قلنا: يختص بأول ركعة لا يتعوذ إلا إذا قام يقضي، على المختار، وعلى الثانية مع التحريمة. (ومنها) الجهر والإسرار، إذا فاته الأولتان من المغرب جهر في قضائهما إن شاء، وعلى الثانية لا يجهر. (ومنها) [قدر] القراءة، إذا فاتته الركعتان، من الرباعية قرأ في قضائها بالحمد وسورة على المذهب، وعلى الرواية الأخرى يقرأ بالحمد فقط، وهذه مسألة الخرقي. (ومنها) قنوت الوتر إذا أدركه المسبوق خلف من يصلي الثلاث بسلام واحد، فإنه إذا قضى لم يعد القنوت إلا على الرواية الضعيفة. (ومنها) تكبيرات العيد الزوائد، إذا أدرك منها ركعة فإنه يكبر مع إمامه [فيها] فإذا قام يقضي الركعة التي فاتته فإنه يكبر فيها التكبير المشروع في الأولى، نص عليه، وقياس الرواية الثانية أنه لا يكبر إلا المشروع في الثانية، (ومنها) محل التشهد الأول، فإذا أدرك ركعة من المغرب، ثم قام يقضي، فإنه يتشهد عقب ركعة، على الرواية المرجوحة، وعلى المشهور، وفيه عن أحمد روايتان (إحداهما) أنه يأتي بركعتين متواليتين، ثم يتشهد عقيبهما، لأن الذي فاته كذلك، (والثانية) يتشهد عقيب ركعة منه، وإن كانت أول صلاته.

957 - لأن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ذلك. ولا يعرف له مخالف من علماء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وإذا يكون ما أدركه أول صلاته حكما لا فعلا، والله علم. (تنبيه) : هل تفارقه الطائفة الأولى إذا أنهى تشهده وينتظر الثانية وهو جالس، أو تكون المفارقة والانتظار في الثالثة؟ فيه وجهان، والله أعلم. قال: وإن كانت الصلاة مغربا صلى بالطائفة الأولى ركعتين، وأتمت لأنفسها ركعة، تقرأ فيها بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ويصلي بالطائفة الأخرى ركعة، وأتمت لأنفسها ركعتين، تقرأ فيهما بالحمد لله، وسورة. ش: لأنه إذا لم يكن بد من [أن] إحدى الطائفتين تصلي ركعة، فالحمل لنا على الطائفة الثانية أولى، لأن الأولى تميزت بالسبق، والله أعلم.

قال: وإذا كان الخوف شديدا، وهو في [حال] المسايفة. صلوا رجالا وركبانا، إلى القبلة - أو إلى غيرها [يومئون إيماء] يبتدئون بتكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا، [وإلا إلى غيرها] . ش: قد تضمن هذا الكلام أن الصلاة حال المسايفة والتحام الحرب لا تسقط، ولا نزاع في ذلك، وأنه لا يجوز تأخيرها إن لم تكن الأولى من المجموعتين، على المشهور من الروايتين، لقول الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] أي: فصلوا رجالا أو ركبانا. وظاهره الأمر بالصلاة على هذه الصفة والحال هذه، والأمر للوجوب والفور عندنا. 958 - (وعن) ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصف صلاة الخوف، وقال: «فإن كان خوفا أشد من ذلك فرجالا أو ركبانا» رواه ابن ماجه.

(والرواية الثانية) : - حكاها ابن أبي موسى - يجوز التأخير حال الالتحام. 959 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخر الصلاة يوم الخندق. 960 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: نادى فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم انصرف عن الأحزاب «أن لا يصلي أحد العصر إلا في بني قريظة» فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة، وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن فاتنا الوقت. قال: فما عنف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحدا من الفريقين» . رواه مسلم وغيره.

961 - (وأجيب) بأن تأخير الصلاة يوم الأحزاب كان قبل أن ينزل قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] كذا رواه أحمد والنسائي، من رواية أبي سعيد وقال ابن عبد البر: هو حديث ثابت، ويجوز أن يكون لعذر من نسيان أو غيره. 962 - يؤيد ذلك ما رواه أحمد «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: «هل علم أحد منكم أني صليت العصر؟» قالوا: لا. فصلاها» . وفي ادعاء النسخ نظر، لأن الجمع بينهما ممكن، بأن تحمل الآية والحديث على الجواز، وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وإذا يحصل الجمع، وهو أولى مع النسخ. وبالجملة الأول المذهب، وعليه: يصلون كيف ما أمكنهم، رجالا وركبانا، إلى القبلة وغيرها، يومئون إيماء على قدر طاقتهم، ويكون إيماؤهم بالسجود أخفض من إيمائهم بالركوع، يضربون، ويكرون ويفرون على حسب المصلحة، ولا يشترط الاضطرار إلى ذلك، ولا يلزمهم الافتتاح إلى القبلة إن عجزوا عنه، وإن أمكنهم فروايتان، المشهور - وهو الذي قاله الخرقي - اللزوم.

وظاهر كلام الخرقي - وقاله الأصحاب - أن لهم أن يصلوا جماعة، ومال أبو محمد إلى المنع، حذارا من تقدم الإمام والله أعلم. قال: ومن أمن وهو في الصلاة أتمها صلاة آمن، وكذلك إن كان آمنا فاشتد خوفه أتمها صلاة خائف. والله أعلم. ش: الحكم يوجد بوجود علته، وينتفي بانتفائها، والمقتضي لهذه الصلاة هو الخوف، فإذا أمن زال الخوف، فيصلي صلاة آمن، بواجباتها وصفتها المعروفة، وما صلاه وهو خائف على صفته محكوم بصحته، وإن كان آمنا فخاف فقد وجدت العلة فيوجد الحكم، والله أعلم.

كتاب صلاة الكسوف

[كتاب صلاة الكسوف] ش: الكسوف والخسوف واحد، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، قال المنذري: روى حديث الكسوف تسعة عشر نفسا، بعضهم بالكاف، وبعضهم بالخاء، وبعضهم باللفظين جميعا. انتهى، وقيل: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، وقيل: الخسوف في الكل، والكسوف في البعض، وقيل: الكسوف تغيرهما، والخسوف تغيبهما في السواد. والأصل في سنيتها ومطلوبيتها السنة المستفيضة الصحيحة، ففي الصحيح في غير حديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها وأمر بها. 963 - قال أبو مسعود البدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم منها شيئا فصلوا، وادعوا حتى ينكشف ما بكم» متفق عليه، ومتفق على نحوه من حديث ابن عمر، وعائشة وابن عباس، وأبي موسى، وغيرهم، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

كيفية صلاة الكسوف

[كيفية صلاة الكسوف] قال: وإذا خسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة، إن أحبوا جماعة، وإن أحبوا فرادى [بلا أذان، ولا إقامة] . ش: أي فزع الناس مما وقع، ومضوا إلى الصلاة. 964 - وفي الصحيح قال: «خسفت الشمس في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة، حتى أتى المسجد، فقام فصلى بأطول قيام، وركوع، وسجود، ما رأيته يفعل في صلاة قط، ثم قال: «إن هذه الآيات التي يرسلها الله، لا تكون لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره، ودعائه واستغفاره» . ثم إن شاءوا صلوا جماعة، وإن شاءوا فرادى، لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فصلوا وادعوا» الحديث، وهو مطلق يصدق على ما إذا صلوا جماعة أو فرادى والأفضل فعلها في جماعة، اقتداء بفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكلام الخرقي شامل للرجل والمرأة والمسافر والمقيم. وظاهر كلامه أنه لا يشترط لها إذن الإمام، وهو المذهب قال أبو بكر: في إذن الأمام روايتان، والله أعلم. قال: ويقرأ في الأولى بأم الكتاب وسورة طويلة،

ويجهر بالقراءة، ثم يركع فيطيل الركوع، ثم يرفع فيقرأ ويطيل القيام، وهو دون القيام الأول ثم يركع فيطيل الركوع وهو دون الركوع الأول ثم يسجد سجدتين طويلتين، فإذا قام فعل مثل ذلك، فيكون أربع ركعات وأربع سجدات، ثم يتشهد ويسلم. ش: المستحب والمختار في صلاة الكسوف - كما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يصلي ركعتين، تشتمل كل ركعة منهما على ركوعين وسجدتين، على الصفة المذكورة. 965 - لما في الصحيحين «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: خسفت الشمس على حياة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى المسجد، [فقام] فكبر وصف الناس وراءه، فاقترأ قراءة طويلة، ثم كبر، فركع ركوعا طويلا، هو أدنى من القراءة الأولى، ثم رفع رأسه فقال: «سمع الله لمن حمده، ربنا ولك [الحمد» ثم قام فاقترأ قراءة طويلة، هو أدنى من القراءة الأولى، ثم كبر فركع ركوعا طويلا هو أدنى من الركوع الأول، ثم قال: «سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد] » ثم سجد، ثم فعل في الركعة [الأخرى] مثل ذلك، حتى استكمل أربع ركعات، وأربع سجدات، وانجلت الشمس قبل أن ينصرف، ثم قام فخطب [الناس] فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز

وجل، لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموها فافزعوا إلى الصلاة» . 966 - وفي الصحيحين أيضا عنها «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جهر في صلاة الكسوف بقراءته فصلى أربع ركعات، في ركعتين وأربع سجدات» وقد تبين من الحديث السابق أنه إذا قام من الركوع أنه يسمع ويحمد، ثم يقرأ، ونص على ذلك الأصحاب، والخرقي أهمل ذكر ذلك. 967 - واعلم أنه قد جاء في صحيح مسلم وغيره أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى في كل ركعة بثلاث ركوعات، وأربع ركوعات.

968 - وفي السنن بخمس وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على قاعدته يجوز الجميع، وإن كان مختاره الصفة الأولى.

969 - بل وجاء أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاها بركوع واحد، ولهذا عندنا أن الركوع الثاني سنة، يجوز تركه. وظاهر كلام الخرقي أنه لا خطبة لها، وهو المشهور من الروايتين، وعليه الأصحاب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر لها بخطبة، وخطبته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ليعلمهم حكمها. ولم يعين الخرقي قدر القراءة، ولا قدر الركوع، ذلك على [نحو] ما تقدم من حديث عائشة وغيرها، وقال أبو الخطاب وغيره: يقرأ في الأولى بقدر سورة البقرة، ثم في كل قيام كمعظم قراءة الذي قبله. 970 - وذلك لأن في الصحيح من حديث ابن عباس قال: «خسفت الشمس، فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقام قياما طويلا، نحوا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول» . الحديث. 971 - وفي حديث «لعائشة قالت: وأطال القيام في صلاته، قالت:

فأحسبه قرأ بسورة البقرة. رواه أحمد، والنسائي» ، ولو قرأ بدون ذلك جاز. 972 - فقد «جاء أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ في الركوع الأول بالعنكبوت، وفي الثانية بالروم» ، رواه الدارقطني، وقال القاضي، وأبو الخطاب، وغيرهما: يسبح في الركوع الأول بقدر مائة آية ثم بعده في كل ركوع كمعظم الذي قبله. وقال ابن أبي موسى: يسبح في كل ركوع بقدر معظم القراءة في القيام الذي قبله. وهذا اختيار أبي البركات، لما تقدم من حديث عائشة، وليس لأحمد في ذلك نص، وظاهر كلام كثير من الأصحاب أن الجلسة بين السجدتين وقيام الرفع من الركوع لا يطيلهما، وهو ظاهر حديث عائشة المتقدم، وقال صاحب التلخيص: يطيل الجلسة. والله أعلم.

قال: وإذا كان الكسوف في غير وقت صلاة جعل مكان الصلاة تسبيحا والله أعلم. ش: إذا وجد الكسوف في غير وقت صلاة - وهو الوقت المنهي عن الصلاة فيها وقد تقدمت - جعل مكان الصلاة تسبيحا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالصلاة والذكر، وإذا تعذرت الصلاة تعين الذكر، وهذا بناء من الخرقي على أن ذوات الأسباب لا تفعل في وقت النهي، وقد تقدم الكلام على ذلك. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يصلي [لغير] الكسوفين، وهو صحيح، إلا أن الأصحاب استثنوا الزلزلة الدائمة، فإنه يصلي [لها] . 973 - لأن ابن عباس رضي لله عنهما صلى لها، وقال ابن أبي موسى: يصلى لجمع الآيات. وهو ظاهر كلام أحمد، والله أعلم.

كتاب صلاة الاستسقاء

[كتاب صلاة الاستسقاء] ش: الاستسقاء طلب السقي، والصلاة لذلك سنة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلها، وكذلك خلفاؤه من بعده. [سبب صلاة الاستسقاء] قال: وإذا أجدبت الأرض، واحتبس القطر، خرجوا مع الإمام. ش: سبب صلاة الاستسقاء الجدب الذي [هو] ضد الخصب، وقلة المطر. 974 - وقد «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: شكى الناس إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قحوط المطر، فأمر بمنبر فوضع له في المصلى، ووعد الناس يوما يخرجون فيه، قالت: فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين بدا حاجب الشمس، فقعد على المنبر، فكبر وحمد الله عز وجل، ثم قال: «إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه عنكم، وقد أمركم الله عز وجل أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم» ، ثم قال: «الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت قوة وبلاغا إلى حين» ثم رفع يديه، فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض أبطيه، ثم حول إلى الناس ظهره، وقلب أو حول رداءه وهو رافع

يديه، ثم أقبل على الناس، ونزل فصلى ركعتين فأنشأ الله سبحانه سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطر بإذن الله تعالى، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكن ضحك حتى بدت نواجذه، فقال: «أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله» رواه أبو داود. قال: وكانوا في خروجهم كما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان إذا أراد الاستسقاء خرج متواضعا، متبذلا، متخشعا، متذللا، متضرعا. ش: لا شك أن المقام يناسب الخروج على هذه الصفة. 975 - وفي المسند وسنني النسائي وابن ماجه أن ابن عباس سئل عن الصلاة في الاستسقاء فقال: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متواضعا متبذلا، متخشعا، متضرعا، فصلى ركعتين كما يصلي العيد، لم يخطب خطبكم هذه» .

كيفية صلاة الاستسقاء

[كيفية صلاة الاستسقاء] قال: فيصلي بهم ركعتين. ش: لا نزاع في أن الصلاة للاستسقاء ركعتان، والأحاديث صريحة في ذلك. وظاهر كلام الخرقي [أنه] يصلي بلا تكبير ولا جهر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأن كثيرا من الأحاديث ليس فيها ذكر التكبير (والرواية الثانية) - وهي المشهورة عند الأصحاب - يكبر فيها كصلاة العيد ويجهر، لما تقدم من حديث ابن عباس. 976 - وفي البخاري وغيره من حديث عبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستسقي، فحول رداءه، وصلى ركعتين، جهر فيهما بالقراءة» . قال: ثم يخطب. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار أبي البركات، والقاضي، في الروايتين، وأبي بكر، وزعم أن الرواة اتفقوا عن أحمد على ذلك [وكذلك] قال في المغني

إنه المشهور، لما تقدم من حديث عائشة. 977 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوما يستسقي فصلى بنا ركعتين، بلا أذان ولا إقامة، ثم خطبنا، ودعا الله عز وجل، وحول وجهه نحو القبلة، رافعا يديه، ثم قلب رداءه، فحول الأيمن على الأيسر، والأيسر على الأيمن» . رواه أحمد وابن ماجه (والرواية الثانية) لا يخطب للاستسقاء، وهي الأشهر عن أحمد نقلا، واختيار القاضي في التعليق، وغالى فحمل الرواية الأولى، وقول الخرقي على الدعاء، لما تقدم من حديث ابن عباس. (فعلى الأولى) يخطب بعد الصلاة، كما ذكره الخرقي، وهو المشهور، واختيار القاضي في روايتيه وأبي محمد في المغني، لحديث أبي هريرة. (وعنه) بل قبلها، لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، (وعنه) يخير بين الأمرين، وهو

اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى، وأبي البركات، لورود الأمرين عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وظاهر كلام الخرقي أنه يخطب خطبة واحدة، وهو المنصوص، لحديث ابن عباس المتقدم: لم يخطب خطبكم. [الحديث] وقيل: بل ثنتين، ويفتتحها بالتكبير كخطبة [العيد على المشهور، وقال القاضي في الخصال بالحمد كخطبة] الجمعة، وقال أبو بكر في الشافي: بالاستغفار، لأنه في الاستسقاء أهم، والله أعلم. قال: ويستقبل القبلة ويحول رداءه ويجعل اليمين يسارا، واليسار يمينا. ش: لما تقدم من حديثي عائشة [وعبد الله بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] وفعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك قيل: تفاؤلا ليتحول الجدب خصبا، وقيل: بل أمارة بينه وبين ربه عز وجل لا تفاؤلا، إذ شرط التفاؤل أن لا يكون بقصد، وإنما قيل له: حول رداءك، ليتحول حالك. والله أعلم. قال: ويفعل الناس كذلك. ش: أي يحولون أرديتهم، كما يحول الإمام رداءه.

978 - لأن في حديث عبد الله بن زيد: وتحول الناس معه. رواه أحمد. قال: فيدعو ويدعون، ويكثرون في دعائهم الاستغفار. ش: قد تقدم حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في الدعاء. 979 - وفي الصحيحين من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الاستسقاء قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا» مختصر ويكثرون في دعائهم الاستغفار، لأنه سبب نزول المطر، قال الله سبحانه وتعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا - يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10 - 11] . 980 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عجبت ممن يبطئ عنه الرزق ومعه مفاتيحه. قيل [له] : وما مفاتيحه؟ قال: استغفار. قال: فإن سقوا وإلا عادوا في اليوم الثاني والثالث. ش: لأن الحاجة داعية إلى ذلك، وقد جاء «إن الله يحب الملحين في الدعاء» .

خروج أهل الذمة مع المسلمين لصلاة الاستسقاء

[خروج أهل الذمة مع المسلمين لصلاة الاستسقاء] قال: وإن خرج معهم أهل الذمة لم يمنعوا، وأمروا أن يكونوا منفردين عن المسلمين والله أعلم. ش: أما كون أهل الذمة لا يمنعون من الخروج، لأنهم يطلبون رزقهم والله ضمن لهم ذلك، قال الله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] الآية وقال ابن أبي موسى: لا يمنعون، ولكن خروجهم في يوم مفرد أجود، وأما انفرادهم عن المسلمين فلاحتمال أن ينزل عليهم عذاب فيصيب المسلمين، قال الله سبحانه: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال: 25] . وظاهر كلام الخرقي أن الإمام لا يخرجهم، وهو كذلك، بل يكره إخراجهم على المشهور، وظاهر كلام أبي بكر أنه لا بأس به، والله أعلم.

باب الحكم فيمن ترك الصلاة

[باب الحكم فيمن ترك الصلاة] قال: ومن ترك الصلاة وهو بالغ عاقل، جاحدا لها، أو غير جاحد، دعي إليها في وقت كل صلاة، ثلاثة أيام، فإن صلى وإلا قتل والله أعلم. ش: التارك للصلاة قسمان: (جاحد) لها، كمن قال: الصلاة غير واجبة، أو غير واجبة علي، (وغير جاحد) ، فالجاحد [لها] لا إشكال في كفره، ووجوب قتله، لأنه مكذب لله تعالى ولرسوله، وحكمه حكم غيره من المرتدين، في أنه يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب بأن أقر بالوجوب وإلا قتل. وأما التارك لها غير جاحد - بأن يتركها تهاونا أو كسلا - فإنه يقتل عندنا بلا نزاع، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] إلى قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فأباح سبحانه القتل إلى غاية، فما لم توجد الغاية فهو باق على الإباحة. 981 - وفي الحديث: «نهيت عن قتل المصلين» .

982 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث علي وهو باليمن إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذهيبة، فقسمها بين أربعة، فقال رجل: يا رسول الله اتق الله. فقال: «ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله» ثم ولى الرجل. فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال: «لا، لعله أن يكون يصلي» فقال خالد: فكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم» فجعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العلة في منع القتل الصلاة. 983 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» متفق عليهما.

984 - وأما قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل دم امرئ مسلم» الحديث فمخصوص بما تقدم، على أنا نقول بموجبه، إذ هذا تارك لدينه، ولا يقتل حتى يدعى إليها، لاحتمال أن يتركها [لعذر] أو لما يظنه عذرا. واختلف بماذا يحكم بقتله، فروي: بترك صلاة واحدة، وبضيق وقت الثانية، وهو المشهور، وظاهر كلام الخرقي. 985 - لما [روى] معاذ بن جبل، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك صلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله» رواه أحمد، ولأنه إذا دعي إليها في وقتها فقال: لا أصلي. ولا عذر له فقد ظهر إصراره، فإذا تعين إهدار دمه، زجرا له، وإنما اعتبر ضيق وقت الثانية لأن القتل لها دون الأولى، لأنه لما خرج وقت الأولى، ودعي إليها صارت فائتة والفائتة وقتها موسع

عند جماعة من العلماء، والقتل لا يجب بمختلف في إباحته وحظره، وعلى هذا لو دعي إلى صلاة في وقتها فامتنع حتى فاتت، قتل وإن لم يضق وقت الثانية، نص عليه. وروي: بترك ثلاث صلوات، وبضيق وقت الرابعة، ليتحقق الإصرار، لأن الصلاة والصلاتين ربما تركا كسلا وضجرا، وقال ابن شاقلا: يقتل بترك الواحدة، إلا إذا كانت الأولى [من المجموعتين، فلا يقتل حتى يخرج وقت الثانية، لأن وقتها وقت الأولى] في حال الجمع، فأورث شبهة هاهنا، وتغالى بعض الأصحاب فقال: يقتل لترك الأولى، ولترك كل فائتة، إذا أمكنه من غير عذر، بناء على أن القضاء عندنا على الفور. وإذا حكم بقتله فلا بد وأن يستتاب بعد ذلك ثلاثة أيام ويضيق عليه، كي يرجع على المذهب (وعنه) تستحب الاستتابة ولا تجب. وإذا قتل قتل بالسيف في عنقه. وهل يقتل حدا أو لكفره؟ فيه روايتان (إحداهما) : - وهي اختيار أبي عبد الله بن بطة، وابن عبدوس، وأبي محمد - يقتل حدا.

986 - لما روي عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «خمس صلوات كتبهن الله تعالى على العباد، من أتى بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» رواه أحمد. 987 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة، فإن أتمها، وإلا قيل: انظروا هل له من تطوع؟ فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه، ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك» رواه أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه. (والثانية) : وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار الأكثرين - يقتل كفرا -.

988 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة» رواه أحمد، [ومسلم، وأبو داود، والترمذي وصححه. 989 - وعن بريدة الأسلمي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» رواه أحمد» ] والنسائي، والترمذي وصححه. 990 - وقال عمر: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. ذكره أحمد في رسالته.

991 - وقال علي: من لم يصل فهو كافر. رواه البخاري في تأريخه. وعلى هذه الرواية هو كالمرتد، لا يغسل، ولا يصلى عليه ولا يرثه ورثته من المسلمين، إلى غير ذلك من أحكام المرتد. وعلى الأولى كالزاني والقاتل، فتنعكس هذه الأحكام، ويحكم بكفره حيث يحكم بقتله، ذكره القاضي والشيرازي، وهو مقتضى نص أحمد، وإنما يحكم بالكفر والقتل إذا دعي إليها في وقتها، وخوف وهدد، فامتنع مصرا، من غير عذر، أما من تركها في وقتها ولم يدع إليها، وقضاها فيما بعد، أو كان في نفسه قضاؤها، فلا نزاع في عدم تكفيره وقتله، والله أعلم.

كتاب الجنائز

[كتاب الجنائز] ش: الجنائز جمع جنازة، بفتح الجيم وكسرها، وقيل: بالفتح الميت، وبالكسر الأعواد التي يحمل عليها، وقيل عكسه، وحكاه صاحب المطالع، مشتق من: جنز يجنز إذا ستر، قاله ابن فارس. [ما يفعل بالمحتضر قبل موته] قال: وإذا تيقن الموت وجه إلى القبلة. 992 - ش: «روى عبيد بن عمير [عن أبيه] وكانت له صحبة أن رجلا قال: يا رسول الله ما الكبائر؟ [قال: سبع] فذكر منها «استحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا» رواه أبو داود. 993 - وعن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: وجهوني. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يستحب توجيهه قبل تيقن موته.

994 - وقد أنكر ذلك سعيد بن المسيب. والمشهور في المذهب أن الأولى التوجيه. 995 - لأن فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فعلت ذلك ولأنه الذي عليه الناس

سلفا وخلفا والأفضل فيه الاستلقاء على ظهره، ورجلاه إلى القبلة، في رواية اختارها أبو الخطاب، لأنه أسهل في خروج روحه. وعنه - وهو المشهور وصححه أبو البركات - أن الأفضل أن يكون على جنبه الأيمن، لأن فاطمة كذلك فعلت. وعنه يخير بينهما، وبه قطع أبو البركات في محرره والله أعلم. قال: وغمضت عيناه. ش: إذا تيقن موته استحب تغميض عينيه، لئلا يقبح منظره. 996 - وعن شداد بن أوس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح، وقولوا خيرا، فإنه يؤمن على ما قال أهل الميت» رواه ابن ماجه وأحمد، قال أحمد: يقول إذا غمضه: بسم الله، وعلى وفاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: وشد لحياه، لئلا يسترخي فكه.

غسل الميت

997 - ش: عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لما حضرته الوفاة قال لابنه عبد الله: إذا رأيت روحي بلغت لهاتي، فضع كفك اليمنى على جبهتي، واليسرى تحت ذقني. ولأنه إذا ترك قد تدخل الهوام في فيه. قال: وجعل على بطنه مرآة أو غيرها، لئلا يعلو بطنه. 998 - ش: وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه مات مولى له فقال: ضعوا على بطنه شيئا من حديد. انتهى، وإذا لم يكن حديد فطين مبلول والله أعلم. [غسل الميت] قال: وإذا أخذ في غسله ستر من سرته إلى ركبته. ش: إذا [أريد] غسله وجب ستر عورته، وهو ما بين سرته وركبتيه على المذهب، أو السوأتان فقط على رواية، حذارا من النظر إليها. 999 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي: «لا تبرز فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت» واستحب تجريده على ظاهر كلام الخرقي وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار ابن أبي موسى، والشيرازي، وأبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد، لأنه

أمكن في غسله، وأبلغ في تطهيره، إذ يحتمل أن يخرج منه شيء فينجس الثوب به، ثم قد ينجس الميت. 1000 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت تقول: لما أرادوا غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا أوقع الله عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا وذقنه في صدره، ثم كلمهم مكلم من ناحية البيت لا يدرون من هو: أن اغسلوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعليه ثيابه. فقاموا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغسلوه وعليه قميص، يصبون الماء فوق القميص، ويدلكونه بالقميص. رواه أحمد وأبو داود. وهذا يدل على أن عادتهم في الموتى كان هو التجريد، ومعلوم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم ذلك، وغسله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثوب من خصائصه، ثم المفسدة وهي احتمال تنجس الثوب منتفية في حقه - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لأنه طيب حيا وميتا (والرواية الثانية) الأفضل أن يغسل في ثوب، مستدلا بأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غسل وعليه ثوب، وبه قطع القاضي في الجامع الصغير، وفي التعليق، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن البنا، ونصره أبو البركات، لأنه هو الذي اختاره الله لنبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان أولى.

قال: والاستحباب أن] لا يغسل تحت السماء. ش: حذارا من أن يستقبل السماء بعورته. 1001 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: غسلنا بعض بنات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرنا أن نجعل بينها وبين السقف ثوبا» . قال: ولا يحضره إلا من يعين في أمره ما دام يغسل. ش: أي والاستحباب أن لا يغسل بحضرة أحد إلا معاون في أمره، بأن يصب الماء، أو يناول حاجة، ونحو ذلك، لأن الحاجة داعية إلى المعاون دون غيره، ولاحتمال عيب كان به وهو يستره، أو يظهر منه ما يستنكر في الظاهر. قال: ويلين مفاصله إن سهلت عليه وإلا تركها. ش: ليسهل غسله وتكفينه ونحو ذلك، ويفعل ذلك عقب موته، قبل أن يبرد، هذا إن سهل ذلك، أما إن عسر التليين فإنه يترك، لاحتمال كسر بعض أعضائه. 1002 - وقد روى عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي» .

قال: ويلف على يده خرقة فينقي ما به من نجاسة. ش: يلف على يده خرقة لئلا يمس عورته الممنوع من مسها، كما منع من النظر إليها بطريق الأولى، ودليل الأصل حديث علي المتقدم. 1003 - وذكر المروذي عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن علي بن أبي طالب حين غسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لف على يده خرقة، حين غسل فرجه. وصفة ذلك أن يلف على يده خرقة، فيغسل بها أحد الفرجين، ثم ينحيها ويأخذ أخرى للفرج الآخر، وفي المجرد أنه يكفي خرقة واحدة للفرجين، وحمل على أنها غسلت وأعيدت، لأن الأصحاب قالوا: إن كان خرقة خرج عليها شيء لا يعيدها.

قال: ويعصر بطنه عصرا رفيقا. ش: يعصر بطنه ليخرج ما في بطنه من فضلة، مخافة أن يخرج بعد الغسل والتكفين. قال: ويوضئه وضوءه للصلاة. ش: قياسا على غسل الحي. 1004 - وفي الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأم عطية في غسل ابنته «ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها» . قال: ولا يدخل الماء في فيه ولا أنفه فإن كان فيهما، أذى أزاله بخرقة. ش: لما قال: إنه يوضئه [وضوءه] للصلاة اقتضى أن يمضمضه وينشقه، فاستثنى ذلك، فقال: لا يدخل الماء في فيه ولا أنفه، وذلك لاحتمال دخوله بطنه، ثم يخرج فيفسد وضوءه، وربما حصل منه انفجار، وبهذا علل أحمد، واستحب أحمد وعامة الأصحاب أن يدخل أصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه، فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظفهما، لأمن ما تقدم، مع قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا أمرتكم بأمر» وأوجب ذلك أبو الخطاب في خلافه للحديث، والأولى أن يكون ذلك بخرقة نص عليه، صيانة لليد عن الأذى، وإكراما للميت.

قال: ويصب عليه الماء، فيبدأ بميامنه، ويقلبه على جنبيه، ليعم الماء سائر جسده. ش: يصب عليه الماء بعد الوضوء، فيبدأ برأسه، ثم بسائر جسده، ويبدأ بميامنه، كما يفعل بالحي، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأن بميامنها» الحديث، ويقلبه على جنبيه ليعم بقية بدنه، المطلوب تعميمه شرعا، وصفة ذلك أن يغسل رأسه ولحيته أولا، ثم يده اليمنى من منكبه إلى كفه، وصفحة عنقه اليمنى، وشق صدره، وفخذه، وساقه يغسل الظاهر من ذلك وهو مستلق، ثم يغسل الأيسر كذلك، ثم يرفعه من جانبه الأيمن ولا يكبه لوجهه، فيغسل الظهر، وما هناك من وركه، وفخذه، وساقه، ثم يغسل شقه الأيسر كذلك، ذكره أبو محمد تبعا للقاضي، وإذا يفرغ من غسله مرة في أربع دفعات، قال أبو البركات: وظاهر كلام أحمد - في رواية حرب، وابن منصور، وأبي الخطاب -[أنه] يفعل ذلك [في] دفعتين، فيحرفه أولا على جنبه الأيسر، فيغسل شقه الأيمن من جهتي ظهره وصدره كما وصفنا. ثم يحرفه على جنبه الأيمن، ويغسل الأيسر كذلك، قال أبو البركات: وهو أقرب إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأن بميامنها» وأشبه بغسل الجنابة، وما ذكره القاضي أبلغ في النظافة، وكيفما فعل أجزأه، والله أعلم. قال: ويكون في كل المياه شيء من السدر، ويضرب [السدر] فيغسل برغوته رأسه ولحيته.

1005 - ش: في الصحيحين «في حديث أم عطية، في غسل ابنته، أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا» . 1006 - وفي «حديث ابن عباس في المحرم اغسلوه بماء وسدر» . وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط كون السدر يسيرا، ولا يجب الماء القراح بعد ذلك، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في الأول، ونصه في الثاني، قال في رواية صالح: يغسل بماء وسدر الثلاث غسلات. وقال [له] أبو داود: أفلا يصبون ماء قراحا ينظفه؟ قال: إن صبوا فلا بأس. واحتج بحديث أم عطية، وشرط ابن حامد كون السدر يسيرا، وقيل عنه: يكون درهما ونحوه، لئلا يخرجه عن الطهورية، وقال القاضي، وأبو الخطاب، وطائفة ممن تبعهما: يغسل أولا بثفل السدر، ثم عقب ذلك بالماء القراح، فيكون الجميع غسلة واحدة، والاعتداد بالآخر دون الأول، سواء زال السدر أو بقي منه شيء، لأن أحمد شبه غسله بغسل الجنابة، والجنب كذا يفعل، وحذارا من زوال طهورية الماء بكثير السدر، وعدم تأثيره بقليله، وهذا من الأصحاب بناء على المذهب عندهم، من أن الماء تزول طهوريته بتغيره بالطاهرات، وأبو محمد لما كان يميل إلى عدم زوال الطهورية والحال هذه احتج لظاهر كلام أحمد

لكن قد يغلب على أجزائه، فيسلبه الطهورية بلا خلاف، فلهذا حمل أبو البركات كلام الخرقي على قول القاضي وغيره. ومنصوص أحمد والخرقي أن السدر يكون في الغسلات الثلاث، وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يختص بالأولى، والثانية، لتكون الثالثة للكافور، وجعله أبو الخطاب مختصا بالأولى، لئلا يبقى من جرمه شيء، والله أعلم. قال: ويستعمل في كل أموره الرفق به. ش: من تقليبه وتليين مفاصله، وعصر بطنه، ونحو ذلك، لأن حرمته كحرمة الحي، وحذارا من أن ينفصل بعض أعضائه، فيفضي إلى المثلة [به] وعنه: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي» . قال: والماء الحار، والأشنان، والخلال، يستعمل إن احتيج إليه. ش: إذا احتيج إلى الماء الحار لبرد، أو لإزالة وسخ، أو إلى الأشنان للوسخ، [أو إلى الخلال، لإزالة شيء من بين الأسنان] ونحو ذلك استعمل نظرا للحاجة، وإلا فالأولى ترك

ذلك، لأن الماء الحار يرخي الميت، والأشنان لم يرد، والخلال ربما حصل به تأذية الميت، ولهذا استحب أن يكون من شجرة لينة، والله أعلم. قال: ويغسل الثالثة بماء فيه كافور وسدر، ولا يكون فيه سدر صحيح. ش: يجعل في الغسلة الثالثة مع السدر كافورا، لحديث أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «واجعلن في الأخيرة كافورا» والحكمة فيه أنه يصلب الجسد ويبرده، ويمنع الهوام برائحته، ولا يكون في الماء سدر صحيح، لعدم الفائدة في ذلك، إذ الحكمة في السدر التنظيف، والتنظيف، إنما هو بالمطحون، قال القاضي: ويجعل الكافور في الماء، لأنه لا يسلبه الطهورية، واختار أبو البركات أنه يجعل مع سدر الأخيرة على ما تقدم، لحصول المقصود، وفرارا من أن يتغير الماء، فيزول على وجه. وقد اقتضى كلام الخرقي أنه يغسل ثلاثا وهذا هو المسنون بلا ريب، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته «اغسلنها ثلاثا» الحديث.

قال: فإن خرج منه شيء غسله إلى خمس، فإن زاد فإلى سبع. ش: يعني إذا خرج منه شيء بعد تغسيله، وقبل تكفينه فإنه يغسل إلى خمس، ثم إن خرج بعد غسل إلى سبع، نص عليه أحمد، وعليه جمهور الأصحاب، لإطلاق قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ابنته «اغسلنها ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك» وفي رواية «أو سبعا» وليكون آخر أمره الطهارة الكاملة، واختيار أبي الخطاب في الهداية أنه لا يعاد غسله، بل يغسل موضع النجاسة ويوضأ، كالجنب إذا أحدث بعد غسله، والخارج من غير السبيل كالخارج منه في إعادة الغسل له، نص عليه في رواية الأثرم، وقال في رواية أبي داود: هو أسهل. فيحتمل أن لا يعاد له الغسل مطلقا، ويحتمل أن لا يعاد إذا كان يسيرا، كما لا ينقض الوضوء يسيره. وقد اقتضى كلام الخرقي - والمسألة التي تأتي بعد - أنه لا يعاد غسله بعد السبع، ونص عليه أحمد والأصحاب، لما في الإعادة من الحرج والمشقة، ولئلا يفسد باسترخائه.

قال: فإن زاد حشاه بالقطن. ش: أي إذا زاد الخارج بعد السبع فإنه لا يعاد غسله كما تقدم، وإنما يحشى محل الخارج بالقطن ليمتنع الخارج، وكالمستحاضة، وقال أبو الخطاب في الهداية، وصاحب النهاية فيها: يلجم المحل بالقطن، فإن لم يمنع حشاه به، إذ الحشو فيه توسيع للمحل ومباشرة له، فلا يفعل إلا عند الحاجة إليه. ولم يذكر الخرقي الوضوء حذارا من الحرج والمشقة، وقال جماعة من الأصحاب: إنه يوضأ كالجنب إذا أحدث بعد الغسل، وهما روايتان منصوصتان. قال: فإن لم يستمسك فبالطين الحر. ش: إن لم يستمسك الخارج بالقطن حشاه بالطين الحر أي الخالص، لأنه له قوة تمنع الخارج. قال: وينشفه بثوب. ش: لئلا يبتل الكفن فيسرع تلفه، وربما أسرع إلى إفساد الميت. 1007 - ويروى أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما غسل جفف» . رواه أحمد.

«تنبيه» الفرض في الغسل غسل مرة واحدة، بالماء القراح، كغسل الجنابة، والنية على الصحيح، لأنه تطهير أشبه تطهير الحي، وقيل: لا تشترط، لأن المقصود التنظيف، أشبه غسل النجاسة، ويظهر أو يتعين إن قيل: غسله لتنجيسه بالموت. وفي التسمية وجهان، وقيل: روايتان، وهل يشترط الفعل؟ فيه وجهان، فلو وضعه تحت ميزاب، ونوى غسله حتى غمره الماء انبنى على الخلاف، أما الغريق فإن لم يشترط الفعل ولا النية لم يحتج إلى غسل، وإن اشترطا احتيج إلى إخراجه وغسله، وإن اشترط أحدهما عمل على ذلك، كغسل الجنابة، وشرط غاسله أن يكون ممن تصح طهارته، فلا يصح من كافر، لأنه عبادة وليس من أهلها، وخرج الصحة بناء على عدم اشتراط النية، وعلى الأول هل يصح إن حضر المسلم وأمر الكافر؟ فيه قولان، ولا من مجنون بل من مميز، وخرج عدم الصحة كأذانه، لأنه فرض وليس من أهله، والله أعلم. قال: وتجمر أكفانه. ش: أي تبخر. 1008 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا جمرتم الميت فأجمروه ثلاثا» رواه أحمد.

تكفين الميت

1009 - وعن أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنها قالت لأهلها: أجمروا ثيابي إذا مت، ثم حنطوني، ولا تذروا في كفني حنوطا، ولا تتبعوني بنار. رواه مالك في الموطأ. [تكفين الميت] قال: ويكفن من ثلاثة أثواب، يدرج فيها إدراجا. 1010 - ش: قالت عائشة رضي لله عنها: «كفن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثلاثة أثواب بيض سحولية، من كرسف، ليس فيها قميص ولا عمامة» . متفق عليه، وقال أحمد: إنه أثبت الأحاديث وأصحها، لأنها أعلم من غيرها. وفي رواية: أدرج فيها إدراجا. «تنبيه» سحولية نسبة إلى سحول - بفتح السين - قرية باليمن، وقيل: السحولية المقصورة، كأنها نسبت إلى السحول وهو القصار، لأنه يسحلها أي يغسلها. قال: ويجعل الحنوط فيها بينها.

ش: يحنط كفن الميت، لأن الحنوط مشروع، بدليل قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المحرم «ولا تحنطوه» والمستحب في التحنيط أن يذر بين اللفائف، حتى على اللفافة [التي تلي جسد الميت، قال في المجرد: التي تفرش أولا لا يذر فوقها حنوط. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجعل الحنوط فوق اللفافة] . ونص عليه أحمد والأصحاب، لما تقدم عن أسماء. 1011 - وعن عمر، وابنه وأبي هريرة أنهم كرهوا ذلك. 1012 - وعن الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا تجعلوا على أكفاني حنوطا. «تنبيه» الحنوط ما تطيب به أكفان الميت خاصة. قال: وإن كفن في قميص، ومئزر، ولفافة، جعل المئزر مما يلي جلده، ولم يزر. ش: الأولى التكفين في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص كما تقدم، ويجوز التكفين في قميص ومئزر، ولفافة، بالإجماع. 1013 - وروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: الميت يقمص

ويؤزر، ويلف بالثوب الثالث، فإن لم يكن إلا ثوب واحد كفن فيه. رواه مالك في الموطأ. 1014 - وثبت «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى قميصه لعبد الله بن أبي ليكفن فيه» . 1015 - وعن ابن عباس «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كفن في قميص وحلة نجرانية، الحلة ثوبان» ، رواه أحمد وأبو داود، لكن الثابت في تكفينه هو الأول، ويجعل المئزر مما يلي جلده كما يفعل بالحي، وهل يزر القميص؟ فيه [روايتان] : إحداهما - وهي اختيار الخرقي -: لا يزر عليه القميص، نظرا لحال الحي في نومه، بل وهو الأفضل له مطلقا إلا لحاجة. 1016 - لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قميصه مطلقا، (والثانية) : يزر عليه نظرا لحال الحي في زينته. والله أعلم.

قال: ويجعل الذريرة في مفاصله، ويجعل الطيب في مواضع السجود والمغابن، ويفعل به كما يفعل بالعروس. ش: يجعل الطيب في مفاصل الميت ومغابنه، وما ينثني من الإنسان، كطي الركبتين وتحت الإبطين، وأصول الفخذين. 1017 - لأن أحمد روى في مسائل صالح أن ابن عمر كان يتتبع مغابن الميت ومرافقه بالمسك. وفي مواضع سجوده تكريما لها. 1018 - ويفعل به كما يفعل بالعروس، كذا يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1019 - ويروى أن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ما طلي بالمسك، من قرنه إلى قدميه.

1020 - وعن ابن عمر أنه طلا ميتا [بالذريرة] . قال: ولا يجعل في عينيه كافورا. ش: لأن الكافور يفسدهما. قال: وإن أحب أهله أن يروه لم يمنعوا. 1021 - ش: «قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل عثمان بن مظعون وهو ميت، حتى رأيت الدموع تسيل» . 1022 - وقبل الصديق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم بكى، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لن يجمع الله عليك موتتين. قال: وإن خرج منه شيء يسير وهو في أكفانه لم يعد إلى الغسل. وحمل. ش: [إذا خرج من الميت شيء يسير بعد وضعه في أكفانه لم

كفن المرأة

يعد إلى الغسل] بلا خلاف نعلمه بين أصحابنا، لما في ذلك من الحرج والمشقة، والتأخير المخالف للسنة، مع أن الخارج لا يبطل الغسل، إنما ينقض الوضوء. وفي الكثير روايتان، أشهرهما - وهي المختارة عند الأكثرين - أن حكمه حكم اليسير لما تقدم، قال الخلال: روى جماعة أنه لا يعاد، وما رواه ابن منصور يمكن أن يكون. قاله مرة (والثانية) : - وهي أنصهما، وظاهر كلام الخرقي - أنه يعاد، بخلاف اليسير، لفحشه، ولأن مثله يؤمن في المرة الثانية، لتحفظهم، واحترازهم بالتلجم، قال ابن الزاغواني: قال بعض الأصحاب: إنما يعاد إذا كان قبل السبع، أما بعدها فلا، وهو حسن. وإذا قلنا: لا يعاد. ففي غسل الكفن وجهان، الغسل لعدم المشقة في ذلك، وعدمه تبعا للميت. [كفن المرأة] قال: والمرأة تكفن في خمسة أثواب، قميص ومئزر، ولفافة، ومقنعة، وخامسة تشد بها فخذاها. ش: لأن الكمال في حق الحية كذلك.

1023 - وقد روي «عن ليلى [بنت قانف] الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان أول ما أعطانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحقو ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعد في الثوب الآخر. قالت: ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند الباب، معه كفنها يناولنا ثوبا [ثوبا] » . رواه أحمد وأبو داود. ولأنها تزيد على الرجل في اللباس في الحياة، فكذلك بعد الموت، وتلبس المخيط في الإحرام، فكذلك بعد الموت. واعلم أن ظاهر الحديث أنها تكفن في «مئزر» [وهو الحقو] «وقميص» وهو الدرع «وخمار» وهو المقنعة، «ولفافتين» وهذا اختيار القاضي، وأبي محمد وجمهور الأصحاب، والخرقي جعل الخامسة تشد بها فخذاها، يعني تحت المئزر، وهو منصوص أحمد، واختيار أبي بكر. 1024 - لحديث يروى في ذلك رواه حرب، لتنضم بذلك، وحكى ابن الزاغوني وجها آخر أنها تستثفر بها، وهو أن تشد في

حمل الجنازة

وسطها خرقة، ثم يؤخذ أخرى فيشد أحد طرفيها مما يلي ظهرها، والآخر مما يلي السرة، ويكون لجاما على الفرجين، ليؤمن بذلك خروج خارج، وقال: إنه الأشهر عند الأصحاب، وشذ ابن حمدان، في الصغرى فزاد على الخمسة ما يشد فخذيها، واختيار أبي البركات أنه يشد فخذيها بالإزار تحت الدرع، وتلف فوق الدرع والخمار باللفافتين. ومفهوم كلام الخرقي أن الصغيرة تخالف المرأة، ونص أحمد على أن الصبي يكفن في خرقة، والجارية التي لم تبلغ في لفافتين وقميص، ثم اختلف في حد البلوغ، فقيل عنه: إنه البلوغ المعتاد، وقيل - وهو الأكثر عنه - إنه بلوغ تسع سنين، وإذا تساوي المرأة. والله أعلم. قال: ويضفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل من خلفها. ش: لأن في حديث أم عطية في غسل ابنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قالت: وضفرنا شعرها ثلاثة قرون، فألقيناها خلفها. [حمل الجنازة] قال: والمشي بالجنازة الإسراع. ش: المشي بالجنازة المسنون فيه الإسراع. 1025 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:

«أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم» متفق عليه. 1026 - وقال أبو بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لقد رأيتنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنا نكاد نرمل بالجنازة رملا. قال القاضي: والمستحب لا يخرج عن المشي المعتاد. قال أبو البركات: يمشي أعلى درجات المشي المعتاد، وقد منع أحمد من شدة السير، وأمر بالرفق، بل ونقل عنه أنه يسار مع الجنازة كيف سارت. 1027 - «وعن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: [مرت] برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جنازة تمخض مخض الزق، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عليكم القصد» رواه أحمد. قال: والمشي أمامها أفضل. 1028 - ش: لما روى الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، وعمر يمشون أمام الجنازة. رواه الخمسة، واحتج به أحمد في رواية أبي طالب ومهنا، لكن

قال في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث: ما أراه محفوظا، عدة أرسلوه، وما أراه إلا من كلام الزهري. قيل له: فتذهب إلى المشي أمام الجنازة؟ فقال: نعم. 1029 - ابن المنكدر سمع ربيعة [يقول] : رأيت عمر يقدم الناس أمام الجنازة؟ . وكذا قال الترمذي: إن أهل الحديث يرون أن

المرسل أصح. وهذا لا يخرج الحديث عن الحجية على قاعدة أحمد في المرسل، [وقد] قال ابن المنذر: [ثبت] أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر، وعمر كانوا يمشون أمام الجنازة ولأن المصلين شفعاء للميت. 1030 - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين، يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه» رواه مسلم وغيره. والشفيع يتقدم المشفوع له. ومفهوم كلام الخرقي أن الراكب يخالف الماشي، وهو صحيح، فإنه السنة له أن يكون خلفها، قال الخطابي: لا أعلمهم اختلفوا في أن الراكب خلفها. 1031 - وقد روى المغيرة بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الراكب يمشي خلف الجنازة، والماشي كيف شاء منها، والطفل يصلى عليه» رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه. وكذلك أحمد في

رواية أحمد بن أبي عبدة. قال: والتربيع أن توضع على كتفه اليمنى إلى الرجل، ثم الكتف اليسرى إلى الرجل. ش: يحتمل أن يكون معطوفا على ما تقدم، أي والمشي أمامها أفضل، والتربيع أفضل، ثم بين صفته فقال: أن توضع أي وصفته أن توضع، وهذا هو المقصود، وإن كان ظاهر كلامه بيان صفة التربيع فقط، أما أفضلية التربيع. 1032 - فلما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من اتبع جنازة فليحمل من جوانب السرير كلها، فإنه من السنة، ثم إن شاء فليتطوع، وإن شاء فليدع. رواه ابن ماجه. ولا بأس بالحمل بين العمودين، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور. 1033 - لأنه «يروى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين» .

1034 - وأن سعد بن أبي وقاص حمل عبد الرحمن بن عوف بين العمودين. 1035 - وأن عثمان حمل سرير أمه بين العمودين، فلم يفارقه حتى وضع، وسأل أبو طالب أحمد عن الحمل بين العمودين فقال: لا. قال القاضي: معناه لا أختاره. وحمل ابن الزاغوني النص على ظاهره فجعل في [الكراهة روايتين، و [قد] قال [أحمد] : إن عمر كرهه. وأما صفته فأن يأخذ بجوانب] السرير الأربع، كما ذكر الخرقي، فيضع قائمة النعش اليسرى - وهي التي تلي يمين الميت - على الكتف اليمنى، ثم ينتقل إلى المؤخرة، ثم يضع قائمة النعش اليمنى على الكتف اليسرى، ثم ينتقل إلى المؤخرة، هذا اختيار الخرقي وغيره، وهو المشهور عن أحمد، كما في الغسل يبدأ بشقه الأيمن إلى رجله، ثم بالأيسر كذلك، ونقل عنه حنبل: يبدأ بالرأس، ويختم بالرأس. 1036 - معتمدا على أن ابن عمر فعله والله أعلم.

أحق الناس بالصلاة على الميت

[أحق الناس بالصلاة على الميت] قال: وأحق الناس بالصلاة عليه من أوصى أن يصلي عليه. ش: هذا إجماع أو كالإجماع. 1037 - فعن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أوصى أن يصلي عليه عمر، قال أحمد. قال: وعمر أوصى أن يصلي عليه صهيب، وأم سلمة أوصت أن يصلي عليها سعيد بن زيد، وأبو بكرة أوصى أن يصلي عليه أبو برزة، وقال غير أحمد: وعائشة أوصت أن يصلي عليها أبو هريرة، وابن مسعود أوصى أن يصلي عليه الزبير. 1038 - وأوصى أبو سريحة أن يصلي عليه زيد بن أرقم، فجاء عمرو بن حريث - وهو أمير الكوفة - ليتقدم فيصلي عليه، فقال ابنه: أيها الأمير إن أبي أوصى أن يصلي عليه زيد بن أرقم. فقدم زيدا. وهذه قضايا اشتهرت من غير إنكار ولا مخالف، فكانت إجماعا.

وشرط الوصي أن يكون مستور الحال، فلا تصح لفاسق، لأنه غير مؤتمن، ولأن ذلك نوع ولاية، والفاسق ليس أهلا للولاية. قال: ثم الأمير. ش: أحق الناس بالصلاة عليه] بعد الوصي غير الفاسق الأمير، لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يؤمن الرجل في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه» رواه مسلم وغيره، وخرج منه الوصي لما تقدم، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه من بعده كانوا يصلون على الموتى، ولم ينقل أنهم استأذنوا العصبة. 1039 - وعن أبي حازم قال: شهدت حسينا حين مات الحسن، وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص، أمير المدينة، وهو يقول: لولا السنة ما قدمتك.

1040 - وقال الحسن البصري أدركت الناس وأحقهم بالصلاة على جنائزهم، من رضوه لفرائضهم. ذكره البخاري في صحيحه. قال: ثم الأب وإن علا، ثم الابن وإن سفل، ثم أقرب العصبة. ش: يقدم بعد الأمير في الصلاة على الميت الأب، ثم الجد وإن علا على الابن، لأنه شارك [الابن] في العصوبة، وزاد عليه بالحنو والشفقة، وبهما يحصل كمال الدعاء، الذي هو مقصود صلاة الجنازة، فقدم كالنكاح، ثم الابن وإن سفل، لتقدمه في النكاح والإرث جميعا على الأخ ومن بعده، ثم أقرب العصبة، على ترتيب الميراث، هذا اختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي في التعليق، وأبي محمد وغيرهم، وقال صاحب التلخيص فيه، وأبو البركات: يقدم بعد الأمير أقرب العصبة. فيحتمل أنهما أرادا أن الابن يقدم على الأب، لأنه أقرب العصبة بدليل الميراث، ويحتمل أنهما أرادا ما أراد الأصحاب، وغايته أن الأقرب يختلف باختلاف الأبواب، وهذا أولى، توفيقا

بين كلام الأصحاب، يؤيده أن أبا البركات في شرحه لم يحك خلافا في تقديم الأب على الابن، إنما حكى رواية بتقديم الابن على الجد، والأخ وابنه أيضا عليه، كما في النكاح. انتهى، وفي تقديم الأخ للأبوين على الأخ للأب أو التسوية بينهما قولان، من الروايتين في النكاح. وظاهر كلام الخرقي أن العصبة [يقدم] على الزوج، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار الخلال وأبي محمد. 1041 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لقرابة امرأته: أنتم أحق بها. ذكره أحمد في رواية حنبل، ومحمد بن جعفر، محتجا به، ولأن النكاح يزول بالموت، والقرابة باقية، وعلى هذا إن لم يكن عصبة فالزوج أولى نص عليه، (وعن أحمد) رواية أخرى - اختارها القاضي في التعليق، وأبو الخطاب في الخلاف، وأبو البركات - يقدم الزوج على العصبة. 1042 - لأن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: الرجل أحق بغسل امرأته، وبالصلاة عليها. إلا أن أحمد قال: هذا منكر. 1043 - واحتج أحمد بقضية رويت عن أبي بكرة، تدل على أن الزوج أحق. والله أعلم.

كيفية الصلاة على الميت

[كيفية الصلاة على الميت] قال: والصلاة عليه يكبر الأولى، ثم يقرأ الحمد لله، ثم يكبر الثانية ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما يصلي عليه في التشهد، ويكبر الثالثة ويدعو لنفسه، ولوالديه، ويدعو للمسلمين، ويدعو للميت، وإن أحب أن يقول: اللهم اغفر لحينا، وميتنا، وشاهدنا، وغائبنا، وصغيرنا، وكبيرنا، وذكرنا، وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا، إنك على كل شيء قدير، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم إنه عبدك، وابن أمتك، نزل بك، وأنت خير منزول به، ولا نعلم إلا خيرا، اللهم إن كان محسنا فجازه بإحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله. ويكبر الرابعة. ش: أما كونه يكبر أربع تكبيرات - كما تضمنه كلامه -: 1044 - فلما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وجابر، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على أصحمة النجاشي، فكبر عليه أربعا» . 1045 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر بعد ما دفن، فكبر أربعا» . وأما كونه يقرأ الحمد في الأولى فلعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» .

1046 - وعن ابن عباس أنه صلى على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنه من السنة. رواه البخاري وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي ولفظه: قرأ بفاتحة الكتاب وسورة، وجهر، فلما فرغ قال: سنة وحق. 1047 - وقال مجاهد: سألت ثمانية عشر رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القراءة على الجنازة، فكلهم قال: يقرأ. رواه الأثرم، ونقل عنه [البرزاطي] : إذا صلى على القبر يقرأ، كما يقرأ [إذا صلى] على الجنازة؟ قال: لا يقرأ على القبر شيئا من القرآن. قال القاضي: المذهب الصحيح وجوبها على القبر، لأن الجماعة رووا عنه جواز الصلاة على القبر، من غير منع القراءة. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يستفتح، ولا يتعوذ، وهو إحدى الروايات، لبناء هذه الصلاة على التخفيف، والثانية: يستفتح،

ويتعوذ كغيرها، والثالثة: يتعوذ ولا يستفتح، وبها قطع أبو البركات في محرره، وصححها في شرحه، للأمر بالتعوذ، والاستفتاح لم يرد فيها. «تنبيه» يسر بالقراءة، نص عليه وقال: إنما جهر ابن عباس ليعلمهم. وأما كونه يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الثانية: 1048 - فلما روي عن أبي أمامة بن سهل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبره أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى، سرا في نفسه، ثم يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويخلص الدعاء للجنازة، والتكبيرات لا يقرأ في شيء منهن، ثم يسلم سرا في نفسه. رواه الشافعي في مسنده. 1049 - وقال أبو هريرة: إذا وضعت - يعني الجنازة - كبرت، وحمدت الله، وصليت على نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. مختصر، رواه مالك في الموطأ، [وصفة الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في التشهد،

لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] لما سألوه: كيف نصلي عليك؟ علمهم ذلك، قال أبو محمد: وإن أتى بالصلاة على غير ذلك فلا بأس، لأن القصد مطلق الصلاة، وقال أحمد في رواية عبد الله: يصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى الملائكة المقربين. وقال القاضي: يدعو عقيب الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمؤمنين والمؤمنات فيقول: اللهم صل على ملائكتك المقربين، وأنبيائك والمرسلين، وأهل طاعتك أجمعين، من أهل السماوات وأهل الأرضين، إنك على كل شيء قدير. وأما كونه يدعو في الثالثة لنفسه، ولوالديه، وللمسلمين، وللميت. 1050 - فلما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا صلى على جنازة قال: «اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه وزاد «اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تضلنا بعده» .

1051 - وعن عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى على جنازة يقول: «اللهم اغفر له، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وقه فتنة القبر وعذاب النار» قال عوف: فتمنيت لو كنت أنا الميت، لدعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لذلك الميت. رواه مسلم والنسائي، والترمذي وصححه.

1052 - وعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء» رواه أبو داود، وابن ماجه. وقوله: لا نعلم إلا خيرا. إنما يقوله لمن لا يعلم منه شرا، لئلا يكون كاذبا. 1053 - وقد ذكر القاضي حديثا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال فيه: «ولا نعلم إلا خيرا» فقال بعض الصحابة: يا رسول الله وإن لم أعلم خيرا؟ قال: «لا تقل إلا ما تعلم» . 1054 - وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « «ما من مسلم يموت فيشهد له ثلاثة أبيات من جيرانه الأدنين، إلا قال الله تعالى: قد قبلت شهادة عبادي على ما علموا، وغفرت له ما أعلم» رواه أحمد.

قال: ويرفع يديه مع كل تكبيرة. 1055 - ش: لأنه يروى عن ابن عمر، رواه الشافعي، وعن ابن عباس، رواه سعيد، وعن عمر، وزيد بن ثابت، رواه الأثرم. قال: ويقف قليلا. ش: يقف بعد التكبيرة الرابعة قليلا من غير دعاء، على ظاهر كلام الخرقي، وهو إحدى الروايتين، قال أحمد: لا أعلم فيه شيئا، والثانية: يدعو فيها كالثالثة، اختارها أبو البركات في شرحه. 1056 - لما روي «عن عبد الله بن أبي أوفى أنه ماتت ابنة له فكبر عليها أربعا، وقام بعد الرابعة قدر ما بين التكبيرتين يدعو، ثم قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصنع في الجنازة هكذا» . رواه أحمد، واحتج

به في رواية الأثرم، وقال: لا أعلم شيئا يخالفه. وفي صفة ما يدعو به وجهان (أحدهما) أنه يقول: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] اختاره ابن أبي موسى، وأبو الخطاب، وحكاه ابن الزاغوني عن الأكثرين. 1057 - لأنه [قد] صح عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان لا يدعو بدعاء إلا ختمه بهذا الدعاء. (والثاني) : يقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده. اختاره أبو بكر، والمنصوص عن أحمد أنه يخلص الدعاء في الرابعة للميت، بل قد نص في رواية جماعة أنه يدعو في الثالثة للمسلمين والمسلمات، وفي الرابعة للميت، ومن هنا قال الأصحاب: لا تتعين الثالثة للدعاء، بل لو أخر الدعاء للميت إلى الرابعة جاز. والله أعلم. قال: ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه. ش: المشهور المختار المنصوص أنه يسلم تسليمة واحدة. 1058 - لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة

فكبر أربعا، وسلم تسليمة واحدة» ، رواه الدارقطني، إلا أن أحمد قال: هذا عندي موضوع. والعمدة لأحمد فعل الصحابة. 1059 - وقال أحمد: التسليم على الجنازة تسليمة واحدة عن يمينك عن ستة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس فيه اختلاف إلا عن إبراهيم. وفيه رواية أخرى أنه يسلم ثنتين كبقية الصلوات، وجعل القاضي الثنتين للاستحباب، والواحدة للجواز، وصفة التسليم أن يكون عن يمينه على المذهب، ولو سلم تلقاء وجهه جاز، نص عليه، وجعله بعض الأصحاب الأولى، وكماله: السلام عليكم ورحمة الله [وإن لم يقل: ورحمة الله. أجزأه] على المنصوص وفيه احتمال. «تنبيه» الواجب مما ذكره الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - القيام في فرضها، فلا تصح من القاعد، ولا على الراحلة إلا لعذر، والتكبيرات،

وقراءة الحمد، والصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إن أوجبناها في التشهد] ، وأدنى دعاء للميت، ويسقط بعض واجباتها عن المسبوق كما سيأتي، وتجب لها أيضا النية، ولا يشترط معرفة عين الميت، ولا ذكوريته وأنوثيته، بل تكفي نية الصلاة على الميت الحاضر، ومن شرطها تطهير الميت بالغسل، أو بالتيمم عند تعذره، مع بقية شروط الصلاة. والله أعلم. قال: ومن فاته شيء من التكبير قضاه متتابعا. ش: من فاته شيء من التكبير حتى سلم الإمام، قضاه بعد سلام إمامه متتابعا، على منصوص أحمد، واختيار الخرقي، وابن عقيل في التذكرة، وأورده أبو البركات مذهبا، لأنه بصدد أن ترفع الجنازة، فتحصل صلاة بلا جنازة، وقال أبو الخطاب في الهداية متابعة للقاضي، وتبعهما أبو محمد في المقنع -: يقضيه على صفته، إلا أن ترفع الجنازة فيقضيه متواليا، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وما فاتكم فاقضوا» والقضاء يحكي الأداء، قال أبو البركات: ومحل الخلاف فيما إذا خشي رفع الجنازة، أما إن علم بعادة أو قرينة - أنها تترك حتى يقضي فلا تردد أنه يقضي التكبيرات بذكرها، على مقتضى تعليل أصحابنا، والمراد بالقضاء على الصفة أن يأتي بالتكبير والذكر المشروع في محله، فإذا أدرك الإمام في الدعاء تابعه فيه، ثم قام فأتى بالحمد، ثم أتى بالصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على المذهب في أن ما أدركه مع

الإمام آخر صلاته، وما يقضيه أولها، وعلى القول بالعكس إذا دخل المسبوق قرأ الفاتحة، ثم بني على ذلك، والله أعلم. قال: فإن سلم مع الإمام ولم يقض فلا بأس. ش: المنصوص عن أحمد - وهو اختيار الخرقي، والقاضي وأصحابه، والشيخين - أن قضاء ما فات المأموم من التكبير على سبيل الاستحباب، فلو سلم مع الإمام ولم يقض فلا بأس. 1060 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: يا رسول الله إني أصلي على الجنازة، ويخفى علي بعض التكبير. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما سمعت فكبري، وما فاتك فلا قضاء عليك» . 1061 - واعتمد أحمد على ما رواه العمري، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: لا يقضي. وفي المذهب رواية أخرى، اختارها أبو بكر، أن القضاء على سبيل الوجوب، فلو سلم ولم يقض بطلت صلاته، قياسا على بقية الصلوات، إذ التكبيرات بمنزلة الركعات، ولعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فاقضوا» .

كيفية دفن الميت

[كيفية دفن الميت] قال: ويدخل القبر من عند رجليه، إن كان أسهل عليهم. 1062 - ش: لما روى أبو إسحاق قال: أوصى الحارث أن يصلي عليه عبد الله بن يزيد، فصلى عليه، ثم أدخله القبر من عند رجلي القبر، وقال: هذا من السنة. رواه أبو داود. 1063 - وعن أنس أنه كان في جنازة، فأمر بالميت فسل من عند رجلي القبر، رواه أحمد. 1064 - وعنه قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « «يدخل [الميت] من قبل رجليه ويسل سلا» رواه ابن شاهين.

وقوله: إن سهل عليهم. احترازا مما إذا شق ذلك، فإنه يفعل ما هو الأسهل إذ المقصود الرفق بالميت. والله أعلم. قال: والمرأة يخمر قبرها بثوب. ش: التخمير التغطية، أي: يغطى قبرها بثوب. 1065 - لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يغطي قبر المرأة. 1066 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه مر بقوم قد دفنوا ميتا، وبسطوا على قبره الثوب، فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء، ولأنها عورة، فربما ظهر منها شيء. وخرج من كلام الرجل، لما تقدم، وليخرج عن مشابهة النساء. قال: ويدخلها محرمها. ش: يدخل المرأة القبر محرمها، وهو من كان يحل له النظر إليها، والسفر بها، وهذا مما لا خلاف فيه والحمد لله، ولأن امرأة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما توفيت قال لأهلها: أنتم أحق بها. وظاهر كلام الخرقي [أن] المحرم يقدم على الزوج، وهو بناء على قاعدته في تقديمه عليه في الصلاة، وإذا قلنا ثم: إن الزوج يقدم، قدم هنا. والله أعلم.

قال: فإن لم يكن فالنساء. ش: إذا عدمت المحارم فإن النساء يدخلنها القبر، لأنهن أحق بغسلها، ولهن النظر إليها، فكن أحق من غيرهن، وعلى هذا يقدم الأقرب منهن فالأقرب، وحملها أبو البركات على ما إذا لم يكن في دفنهن محذور، من اتباع الجنازة، أو التكشف بحضرة الرجال، لأن منصوص أحمد كذلك، قال حرب: قيل لأحمد: امرأة ماتت في طريق مكة، فغسلها النساء، وليس معها إلا محرم واحد، يدفنها الرجال؟ قال: إن دفنها النساء أعجب إلي، وإن اضطروا إلى ذلك دفنوها. وعن أحمد: النساء لا يستطعن أن يدخلن القبر، ولا يدفن. قال أبو محمد: وهذا أصح وأحسن. 1067 - لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين ماتت ابنته أمر أبا طلحة فنزل في قبرها» . 1068 - «ورأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نسوة في جنازة فقال: «هل تحملن؟» قلن: لا. قال: «هل تدلين فيمن يدلي؟» قلن: لا. قال: «فارجعن مأزورات غير مأجورات» رواه ابن ماجه. وهو استفهام إنكار،

فيدل على أنه غير مشروع لهن بحال، وعلى كلا الروايتين لا يكره للرجال دفنها، وإن كان محرمها حاضرا، والله أعلم. قال: فإن لم يكن فالمشايخ. ش: إذا لم يكن محارم ولا نساء، فالمشايخ والخصيان، لأنهم أقل شهوة، وأبعد من الفتنة، وكذلك يليهم أهل الستر والصلاح. «تنبيه» أولى الناس بدفن الرجل أولاهم بالصلاة عليه من أقاربه. قال: ولا يشق الكفن في القبر، وتحل العقد حلا. ش: لا يجوز شق الكفن [في القبر] لأنه إتلاف مستغنى عنه، ولم يرد الشرع به. 1069 - بل ورد بتحسين الكفن، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه» وتخريفه يذهب بحسنه، ويستحب حل العقد [إذ عقده كان] للخوف من انتشاره، وقد أمن ذلك بدفنه. قال: ولا يدخل القبر آجرا، ولا خشبا، ولا شيئا مسته النار. ش: لا يدخل القبر شيئا مسته النار، تفاؤلا بأن لا تمسه النار. 1070 - وقد روي عن أبي بردة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أوصى أبو موسى حين

حضره الموت فقال: لا تتبعوني بجمر. فقالوا له: أوسمعت فيه شيئا؟ قال: نعم من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه ابن ماجه، ولا آجرا، لأنه مما مسته النار. 1071 - وعن النخعي: أنهم كانوا يكرهون الآجر، والبناء بالآجر. رواه الأثرم. 1072 - وعن زيد بن ثابت أنه منع منه، وهذان الأثران - والله أعلم -[هما] اللذان حديا الخرقي على ذكر الآجر، وإلا فهو مما مسته النار. ولا يدخله خشبا، لأنه معد لمس النار. 1073 - وعن عمرو بن العاص: لا تجعلوا في قبري خشبا ولا حجرا. رواه أحمد. ويستحب أن ينصب على اللحد اللبن. 1074 - قال سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الحدوا لي لحدا، وانصبوا عليه اللبن

حكم من فاتته صلاة الجنازة

نصبا، كما صنع برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أحمد، ومسلم، والنسائي، ويلحق باللبن القصب، واختلف عن أحمد أيهما أفضل، قال الخلال: كان أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يميل إلى اللبن، ثم مال إلى القصب، وهذا اختيار أبي بكر، والأول اختيار أبي البركات، والله أعلم. [حكم من فاتته صلاة الجنازة] قال: ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر. 1075 - ش: في الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر بعد ما دفن، فكبر عليه أربعا» . 1076 - وفي الصحيح أيضا عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا، ففقدها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات. فقال: «أفلا كنتم آذنتموني؟» قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: «دلوني على قبره» فدلوه فصلى عليه، ثم قال: «إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليها» . 1077 - وقال أحمد: يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ستة أوجه، أنه صلى على قبر [بعد] ما دفن.

وقد دل كلام الخرقي على أن الميت وإن صلي عليه، يجوز لمن لم يصل عليه أن يصلي عليه، وهو كذلك، لما تقدم، بل قد قال ابن حامد - واختاره أبو البركات -: إن من صلى عليه أيضا [يجوز] أن يصلي عليه تبعا لمن لم يصل عليه، كما في إعادة الجماعة تعاد مع الغير، ولا تستحب ابتداء، والمنصوص - وعليه الأكثرون - أن من صلى عليه مرة لا يصلي عليه مرة أخرى، كما أن من سلم مرة، لا يسلم ثانية، نعم الأفضل أنها إذا صلى عليها ورفعت لا توضع لأحد، ويصلي من فاتته على القبر، طلبا للمبادرة إلى دفنه، وإن وضعت وصلى عليها ولم يطل الزمان جاز، والله أعلم. قال: وإن كبر الإمام خمسا كبر بتكبيره. ش: نص كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الإمام إذا كبر خمسا تابعه المأمون في الخامسة، وظاهر كلامه أنه لا يتابعه فيما زاد على ذلك، وهذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بل أشهرها. 1078 - لما «روى عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: [كان] زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا، وأنه كبر على جنازة خمسا، فسألته فقال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يكبرها» ، رواه الجماعة إلا البخاري.

1079 - وعن حذيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على جنازة فكبر خمسا» . مختصر رواه أحمد. (والرواية الثانية) : يتابع [يعني] إلى سبع ولا يزيد على ذلك، اختارها عامة الأصحاب، الخلال، وصاحبه أبو بكر وابن بطة وصاحبه أبو حفص، والقاضي، وجمهور أصحابه، الشريف، وأبو الخطاب، وولده أبو الحسين، وأبو البركات. 1080 - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كبر على [سهل بن حنيف يعني ستا رواه البخاري.

1081 - وعنه أيضا أنه كبر على] أبي قتادة سبعا، وقال: إنه شهد بدرا. ذكره أحمد محتجا به. 1082 - وعن الحكم بن عتيبة أنه قال: كانوا يكبرون على أهل بدر خمسا، وستا، وسبعا. رواه سعيد في سننه. واعتمد أحمد على عموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما جعل الإمام ليؤتم به» . 1083 - وعلى قول ابن مسعود: كبروا ما كبر إمامكم. هذا اللفظ رواه

سعيد والأثرم وفيه: لا وقت، ولا عدد، (والرواية الثالثة) : لا يتابع في الزيادة على أربع. اختارها ابن عقيل، لأن هذا هو الأكثر من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فالظاهر أنه آخر الأمرين. 1084 - يؤيده ما روى الأثرم بسنده عن ابن عباس قال: «آخر جنازة صلى عليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كبر أربعا» . 1085 - وعن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا على الميت أربع تكبيرات بالليل والنهار سواء» رواه أحمد. وهذا أمر فيتعين، إلا أن في السند ابن لهيعة وفيه ضعف. وعلى جميع الروايات فالمختار أربع، نص عليه أحمد في رواية الأثرم لأنه الغالب على فعله، ولهذا اتفق الشيخان على إخراجه، والزائد فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليبين الجواز، وقصة زيد بن أرقم

موقف الإمام في صلاة الجنازة

تدل على ذلك، ولا خلاف أنه لا يتابع في الزائد على سبع، قال أحمد: هو أكثر ما جاء فيه، فلا يزاد عليه. «تنبيه» كل تكبيرة قلنا: يتابع الإمام فيها. فله وللمنفرد فعلها، وهل يدعو فيها؟ قولان، وكل تكبيرة قلنا: لا يتابع فيها [الإمام] . فليس له ولا للمنفرد فعلها، ومن خالف فزادها عمدا بطلت صلاته على وجه، إذ التكبيرة هنا بمنزلة الركعة، ولم تبطل على المنصوص، لأنه ذكر مشروع، أشبه تكرار الفاتحة، وعلى هذا فالمأموم لا يسلم قبله، بل ينتظره حتى يسلم معه، نص عليه والله أعلم. [موقف الإمام في صلاة الجنازة] قال: والإمام يقوم عند صدر الرجل، وعند وسط المرأة. ش: نص أحمد على هذا في رواية عشرة من أصحابه، وعليه عامة أصحابه، حتى أن أبا محمد في المغني قال: لا يختلف المذهب أنه يقف عند صدر الرجل أو عند منكبيه. 1086 - لما «روي عن أبي غالب الخياط - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: شهدت أنس بن مالك صلى على جنازة رجل، فقام عند رأسه، فلما رفعت أتي بجنازة امرأة فصلى عليها، فقام وسطها، وفينا العلاء بن زياد العدوي، فلما رأى اختلاف قيامه على الرجل والمرأة فقال: يا أبا حمزة هكذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقوم من الرجل حيث قمت، ومن المرأة حيث قمت؟ قال: نعم» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وابن ماجه، وفي لفظ

رواه أحمد: قال أبو غالب: صليت خلف أنس على جنازة، فقام حيال صدره. وذكر الحديث. 1087 - «- وفي الصحيحين عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها» . ونقل عنه حرب: رأيته قام عند صدر المرأة. إلا أن الخلال قال: سهى فيما حكى عنه. والعمل على ما رواه الجماعة، وروي عنه أنه يقف عند رأس الرجل، وهو الذي قاله أبو محمد في المقنع، والكافي، وهو المشهور في حديث أنس، قال أبو البركات: والقولان متقاربان، فإن الواقف عند أحدهما يمكن أن يكون عند الآخر لتقاربهما، فالظاهر أنه وقف بينهما، وقد قال أحمد في رواية الأثرم وذكر الحديث: يقف من الرجل عند منكبيه، ونحو هذا قال أبو محمد في المغني.

وظاهر كلام الخرقي [أنهما] إذا اجتمعا وقف منهما كذلك، وهو إحدى الروايات عنه، واختيار أبي الخطاب في خلافه، والشيرازي قياسا على حال الانفراد. (والثانية) : - وهي المنصوصة عنه، وبها قطع القاضي في التعليق، وفي الجامع، والشريف أبو جعفر - يسوى بين رأسيهما، ويقف حذاء صدريهما. 1088 - لما روي عن الشعبي أن أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر توفيا جميعا، فأخرجنا جنازتهما، فصلى عليهما أمير المؤمنين، فسوى بين رؤوسهما وأرجلهما حين صلى عليهما. رواه سعيد في سننه، وقيل: إن هذه الجنازة حضرها ثمانون صحابيا، وفعله ابن عمر، وعليه اعتمد أحمد. (والثالثة) : التخيير، مع اختيار التسوية. والله أعلم. قال: ولا يصلى على القبر بعد شهر. ش: هذا هو المشهور في المذهب، لأنه لا يعلم بقاء الميت أكثر من ذلك، والذي ورد في الصحيح كان قرب

الدفن، وجعل أبو محمد ما قارب الشهر في حكم الشهر، وكذلك قال القاضي، وحده باليوم واليومين. 1089 - لما «روى سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غائب، فلما قدم صلى عليها، وقد مضى لذلك شهر» ، رواه الترمذي واحتج به أحمد. 1090 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قبر بعد شهر» ، رواه الدارقطني، وأول أبو بكر هذا على الشهر، قال: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] يريد حينا. وقيل: يجوز ما لم يبل الميت. وعن ابن عقيل الجواز مطلقا، لقيام الدليل على الجواز، وما وقع من الشهر فاتفاق. 1091 - ويؤيده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين، رواه البخاري وغيره. وابتداء الشهر من الدفن على المشهور، لأنه إذا يصير مقبورا، وقال ابن عقيل: من الموت. وهو ظاهر حديث أم سعد. والله أعلم.

قال: وإن تشاح الورثة في الكفن جعل بثلاثين درهما، فإن كان موسرا. فبخمسين. ش: - الكفن معتبر بحال الميت، فإن كان موسرا كان كفنه رفيعا حسنا، على حسب ما يلبس في الحياة، وإن لم يكن موسرا [فعلى حسب حاله] قال أبو محمد: وقول الخرقي ليس على سبيل التحديد، إذ لا نص في ذلك ولا إجماع، ولعل الجيد والمتوسط كان يحصل في زمنه بما ذكره، والكفن يجب في رأس المال، مقدما على الدين وغيره. ولم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هل الواجب ثوب واحد أو أكثر من ذلك؟ والمشهور أن الواجب [ثوب] ساتر لجميع الميت، رجلا كان أو امرأة، اختاره ابن عقيل، وأبو محمد، وقيل - وعزي إلى القاضي -: يجب في حقهما ثلاثة، وجعل صاحب التلخيص محل الوجهين في نفوذ وصية الميت بإسقاط الثوبين، قال: وعلى كليهما لا يملك الغرماء ولا الورثة المضايقة فيهما، وقيل: تجب الثلاثة: إلا مع الدين المستغرق، وهذا اختيار أبي البركات في الشرح، وقيل: بل ثلاثة في حق الرجل، وخمسة في حق المرأة، ويتلخص

الصلاة على السقط

خمسة أوجه، واعلم أن أبا البركات جوز وصية الميت بالثوب الواحد بالإجماع، والله أعلم. [الصلاة على السقط] قال: والسقط إذا ولد لأكثر من أربعة أشهر غسل وصلي عليه. ش: لأنه ميت فيه روح، أشبه المولود، ودليل الوصف يأتي إن شاء الله تعالى. 1092 - وقد روى المغيرة بن شعبة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الراكب يمشي خلف الجنازة، والماشي كيف شاء منها، والسقط يصلى عليه» رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وصححه [وكذلك أحمد في رواية أحمد بن أبي عبدة] . وشرط الخرقي الموت بعد أربعة أشهر، وهو منصوص أحمد في رواية حرب وصالح، وعليه الشيخان وغيرهما، لأن من لم يستكملها فليس بميت، [لعدم نفخ الروح فيه، والغسل والصلاة إنما شرعا لميت] .

1093 - والدليل على ذلك قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حدثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وهو] الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، يكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح» متفق عليه، وعليه اعتمد أحمد، وظاهر كلام أحمد - في رواية صالح، في موضع آخر - تعليق الحكم بكونه تبين فيه خلق الإنسان، من غير نظر إلى الأربعة أشهر، وكذلك ذكره ابن أبي موسى، وأبو بكر في التنبيه، وأبو الخطاب في الهداية، وابن حمدان، والله أعلم. قال: وإن لم يتبين أذكر هو أم أثنى سمي اسما يصلح للذكر والأنثى. ش: يستحب تسمية السقط باسم الذكر إن تبين أنه ذكر، وباسم الأنثى إن تبين [أنه أنثى، وبما يصلح لهما - كقتادة، وطلحة، ونحوهما - إن لم يتبين] حاله. 1094 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه] قال: «سموا أسقاطكم فإنهم أفراطكم» رواه أبو بكر، وقيل: الحكمة في ذلك ليدعوا بأسمائهم يوم القيامة.

تغسيل أحد الزوجين للآخر

[تغسيل أحد الزوجين للآخر] قال: وتغسل المرأة زوجها. ش: هذا هو المشهور المنصوص، الذي قطع به جمهور الأصحاب، وقد حكاه الإمام أحمد، وابن المنذر، وابن عبد البر إجماعا. 1095 - ويشهد له قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا نساؤه. رواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه. 1096 - وأوصى الصديق أن تغسله زوجته أسماء فغسلته، وحكى أبو

الخطاب في الهادية - وتبعه صاحب التلخيص فيه، وأبو محمد في المقنع - رواية بالمنع، إذ البينونة حصلت بالموت، فتزول عصمة النكاح، المبيحة للنظر واللمس، وإذا لا يجوز لها غسله كالأجنبية، وقد حكى أبو البركات أن الرواية أثبتها ابن حامد وغيره، آخذين لها من رواية صالح الآتية وغيرها، ولم يثبتها هو رواية، [قال] : لأن منطوق أحمد لا يدل على المنع، ومفهومه كما يحتمل التحريم يحتمل الكراهة، فيحمل عليه، موافقة للإجماع. وقول الخرقي: وتغسل المرأة زوجها. يدخل فيه وإن لم تكن في عدة حال غسله، كما إذا وضعت عقب موته، وهو كذلك، ويدخل فيه [أيضا] المطلقة الرجعية، لأنها امرأته، وخرج المنع، بناء على تحريمها، ويخرج من كلامه المبتوتة في مرض موته، لا تغسله، لأنها ليست زوجته، وفيه احتمال، بناء على الإرث. قال: وإن دعت الضرورة إلى أن يغسل الرجل زوجته فلا بأس. ش: كذلك قال ابن أبي موسى، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية صالح، وقد سئل: هل يغسل الرجل زوجته، والمرأة زوجها؟ قال: كلاهما واحد، إذا لم يكن من يغسلها، فأرجو

أن لا يكون به بأس. وذلك لما تقدم من أن البينونة حصلت بالموت، وإنما جاز مع الضرورة، لأن الضرورات تبيح المحظورات، ولأنه ورد فيه نوع رخصة [فحمل على الضرورة، جمعا بين الأدلة، والفرق بين المرأة تغسل زوجها، والرجل لا يغسل زوجته إلا عند الضرورة، أن المرأة لها نوع رخصة] في النظر للأجنبي، بخلاف الرجل، إذ محذور الشهوة فيها أخف من الرجل، (وعنه) [يجوز مطلقا] وهو المشهور عند الأصحاب، حتى أن القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبا الخطاب، في خلافيهما، [والشيرازي] لم يذكروا خلافا، قياسا له عليها. 1097 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: رجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من جنازة بالبقيع، وأنا أجد صداعا في رأسي، وأقول: وارأساه. فقال: «بل أنا وارأساه، ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك، وكفنتك، ثم صليت عليك ودفنتك» رواه أحمد، وابن ماجه. 1098 - وعن علي أنه غسل فاطمة، إلا أن أحمد قال: ليس له إسناد.

تغسيل الشهيد والصلاة عليه

ومرة قال: روي من طريق ضعيف. واحتج به في رواية حنبل. 1099 - وقال في قول ابن عباس: الرجل أحق بغسل امرأته: إنه منكر. وقيل عنه رواية بالمنع مطلقا، وتلخص أن في المسألة ثلاث روايات، الجواز مطلقا وهو المشهور، والمنع مطلقا والجواز عند الضرورة، واعلم أن أبا محمد قد نفى هذا القول، وحمل كلام الخرقي على التنزيه، وحمله ابن حامد والقاضي على ظاهره، وهو أوفق لنص أحمد. والله أعلم. [تغسيل الشهيد والصلاة عليه] قال: والشهيد إذا مات في موضعه لم يغسل، ولم يصل عليه، ودفن في ثيابه. ش: أما كون الشهيد لا يغسل: 1100 - فلما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثواب الواحد، ثم يقول: «أيهم أكثر أخذا للقرآن» ؟ فإذا أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد، وأمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا، ولم يصل عليهم» ، رواه البخاري، والنسائي، والترمذي وصححه.

1101 - ولأحمد «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في قتلى أحد «لا تغسلوهم، فإن كل جرح، أو كل دم، يفوح مسكا يوم القيامة» ولم يصل عليهم» . وقول الخرقي: لا يغسل. [يعني] للموت، فلو كان به ما يقتضي الغسل من جنابة أو غير ذلك، فإنه يغسل. 1102 - لما روى ابن إسحاق في المغازي، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن صاحبكم لتغسله الملائكة» يعني حنظلة «فاسألوا أهله ما شأنه؟» فسئلت صاحبته [عنه] فقالت: خرج وهو جنب، حين سمع الهائعة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لذلك غسلته الملائكة» » .

وأما كونه لا يصلى عليه - وهو المشهور من الروايات، واختيار القاضي، وعامة أصحابه - فلما تقدم. 1103 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. والرواية الثانية: يصلى عليهم. اختارها الخلال، وعبد العزيز في التنبيه، وأبو الخطاب. 1104 - لما روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خرج يوما فصلى على قتلى أحد، صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: «إني فرطكم، وأنا شهيد عليكم، وإني والله لأنظر

إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض - أو مفاتيح الأرض - وإني والله لا أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، ولكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها» متفق عليه واللفظ للبخاري. 1105 - وله أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قتلى أحد، بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات. 1106 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على قتلى أحد» . 1107 - «وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى على حمزة» ، وقد ضعف حديث ابن عباس من قبل رواته، وأنكر أحمد قضية حمزة، في رواية مهنا، وقال: ليس له إسناد. وأما حديث عقبة

فقيل: خاص بقتلى أحد، توديعا للأحياء والأموات، وفيه شيء، فإن الذي ورد أنه لم يصل عليهم هم قتلى أحد، فإما أن يكون آخر الأمرين من فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الصلاة، أو فعل ذلك ليبين الجواز، وهذا هو (الرواية الثالثة) : أنه يخير في الصلاة وتركها، لورود الأمرين بهما، لكن الفعل أفضل، وعنه: الترك أفضل. وأما كونه يدفن في ثيابه التي استشهد فيها - أي يكفن فيها - فلما تقدم. 1108 - وعن عبد الله بن ثعلبة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زملوهم بدمائهم، فإنه ليس أحد يكلم في سبيل الله إلا أتى يوم القيامة جرحه يدمأ، لونه لون الدم، وريحه ريح المسك» رواه النسائي، وأحمد ولفظه «زملوهم في ثيابهم» . وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل الوجوب، وهو المنصوص، وعليه جمهور الأصحاب، منهم القاضي في الخلاف، وشذ في المجرد، فجعل ذلك مستحبا، وتبعه على ذلك أبو محمد.

1109 - محتجا «بأن صفية أرسلت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثوبين، ليكفن فيهما حمزة، فكفنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أحدهما، وكفن في الآخر رجلا» . قال يعقوب بن شيبة: هو صالح الإسناد. وأجاب القاضي في الخلاف بأنه يحتمل أن ثيابه سلبت، أو أنهما ضما إلى ما كان عليه. 1110 - قلت: وقد روي في المسند ما يدل على ذلك. (تنبيهان) (أحدهما) : المراد بالشهيد هنا الذي قتل بأيدي الكفار، في معركتهم، أما المقتول ظلما - كقتيل اللصوص

ونحوه - فهل يلحق بالشهيد، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، وهو اختيار القاضي وعامة أصحابه، لأنه شهيد، أشبه شهيد المعركة، أو لا يحلق به، فيغسل، ويصلى عليه، وهو اختيار الخلال، لأن عمر، وعليا، والحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قتلوا ظلما، وغسلوا، وصلي عليهم؟ فيه روايتان. واختلف في العادل إذا قتله الباغي، فقيل: حكمه حكم قتيل اللصوص، وهو اختيار أبي بكر، والقاضي، وقيل: بل حكم قتيل الكفار، وهو المنصوص، واختيار الشيخين. 1111 - لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يغسل من قتل معه، وعمار أوصى أن لا يغسل. أما الشهيد غير القتيل، كالمبطون، والمطعون، والنفساء، ونحوهم، فحكمهم حكم بقية الموتى بلا نزاع، «وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها» . (الثاني) : عدم غسل الشهيد قيل: دفعا للحرج والمشقة، لكثرة الشهداء في المعترك، وقيل: لأنه لما لم يصل عليه لم يغسل، وقيل - وهو الصحيح -: لئلا يزول أثر العبادة المطلوب بقاؤها، كما دل عليه حديث عبد الله بن ثعلبة، وعدم الصلاة عليه قيل: لأنهم أحياء عند ربهم، والصلاة إنما شرعت على الأموات، وقيل: لغناهم عن الشفاعة.

1112 - فإن الشهيد شفيع في سبعين من أهله. (وفرط القوم) المتقدم عليهم في السير، السابق إلى الماء، أي أني متقدم بين أيديكم، فإذا قدمتم علي تروني وتجدوني لكم منتظرا (والمنافسة) المغالبة على تحصيل الشيء، والانفراد به، «وزملوهم» لفوهم. والله أعلم. قال: وإن كان عليه شيء من الجلود أو السلاح [نحي عنه. ش: قد تقدم أن الشهيد يدفن في ثيابه، فلو كان عليه شيء من الجلود والسلاح] فإنه يزال عنه. 1113 - لما روى عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد بالشهداء أن تنزع عنهم الحديد، والجلود، وقال: «ادفنوهم بدمائهم وثيابهم» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه.

تغسيل المحرم وتكفينه

قال: وإن حمل وبه رمق غسل وصلي عليه. ش: هذا الذي احترز عنه الخرقي في قوله: الشهيد إذا مات في موضعه. فلو حمل وبه رمق، أي حياة مستقرة، ثم مات، فإنه يغسل، ويصلى عليه. 1114 - «لأن سعد بن معاذ أصابه سهم يوم الخندق، فحمل إلى المسجد، ثم مات بعد ذلك، فغسله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصلى عليه» . وظاهر كلام الخرقي [أنه] لا يشترط لغسله والصلاة عليه طول الفصل، بل [لو] مات عقب الحمل، وقد كانت فيه حياة مستقرة، فإنه يغسل، ويصلى عليه، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا. وقيل: يشترط طول الفصل، وهو مختار أبي محمد، فلو لم يطل الفصل لم يغسل، والله أعلم. [تغسيل المحرم وتكفينه] قال: والمحرم يغسل بماء وسدر، ولا يقرب طيبا، ويكفن في ثوبيه، ولا يغطى رأسه ولا رجلاه. 1115 - ش: في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «بينما رجل واقف مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ وقع عن راحلته فأوقصته، وفي لفظ - فوقصته، فذكر ذلك لرسول الله -

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبيا» وفي رواية «في ثوبيه» وفي أخرى «لا تغطوا وجهه، ولا تقربوه طيبا» » وفي رواية لأبي داود: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اغسلوا المحرم في ثوبيه اللذين أحرم فيهما، واغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه طيبا، [ولا تخمروا رأسه] فإنه يبعث يوم القيامة محرما» » وهذا يبين أن المراد ليس ذلك المحرم بعينه، وأن حكم الإحرام باق بعد موته. وقول الخرقي: لا تغطى رجلاه. هو رواية حنبل عن أحمد، [وقد] أنكره الخلال، وقال: لا أعرف هذا في الأحاديث، ولا رواه أحمد عن أبي عبد الله غير حنبل. قال: وهو عندي وهم من حنبل، والعمل على أن يغطى جميع المحرم، إلا رأسه، لأن الإحرام لا يتعلق بالرجلين، ولهذا لا يمنع من تغطيتهما في حياته، فكذلك بعد مماته. قلت: قد يقال: كلام الخرقي وأحمد خرج على المعتاد، إذ في الحديث أنه يكفن في ثوبيه، أي الرداء، والإزار [والإزار] العادة أنه لا يغطى من سرته إلى رجليه، فخرج كلامهما على ذلك. وظاهر كلام الخرقي أنه يغطى وجهه. وهو المشهور من الروايتين بناء على المشهور [من] أنه يجوز تغطيته في حال

الحياة، ونظرا إلى أن الأكثر والأشهر في الروايات ذكر الرأس فقط، وهذا إذا كان المحرم رجلا، أما إن كان امرأة فحكمها بعد الموت حكمها في الحياة، لا تمنع من لبس المخيط، وتغطي رأسها لا وجهها، والله أعلم. قال: وإن سقط من الميت شيء غسل وجعل معه في أكفانه. ش: إذا سقط من الميت شيء أو كان ساقطا - كبعض أعضائه - فإنه يغسل، ويجعل في أكفانه، لأن بعضه جزء من أجزائه، [فأعطي حكم كله، ولما فيه من جمع أجزاء الميت] في موضع واحد، وأنه أولى، والله أعلم. قال: وإن كان شاربه طويلا أخذ وجعل معه في أكفانه. ش: أما أخذه فلأن ذلك يراد للتنظيف، ويسن في حياته، من غير ضرر فيه، فكذلك بعد وفاته، وأما جعله معه فلما تقدم، وفي معنى أخذ الشارب قلم الظفر، لأنه في معناه، وعنه يكره قلم الظفر، لأنه من الجملة، ولهذا ينجس بالموت، بخلاف الشعر. واقتصار الخرقي على ذكر أخذ الشارب يقتضي أنه لا يختن، ونص عليه أحمد، وحذارا من إزالة بعض أعضائه، ولأن المقصود من الختان التطهير من النجاسة، وقد زال ذلك، والجنة لا بول فيها ولا تغوط.

حكم التعزية

ويقتضي كلامه أيضا أن عانته لا تؤخذ، وهي اختيار أبي محمد، حذارا من كشف العورة ومسها، وهتك حرمة الميت، ونص أحمد - في رواية صالح - على أخذها. 1116 - محتجا بأن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غسل ميتا، فدعى بموسى. ولأنه من الفطرة، أشبه قلم الظفر، وهذا مختار الجمهور، والقاضي في التعليق، وأبي الخطاب وصاحب التلخيص، وغيرهم، ثم قال القاضي في شرح المذهب: تزال بنورة، نظرا إلى الأسهل، وحذارا من المس، وقال أحمد: تأخذ بموسى أو بمقراض، نظرا لقصة سعد، والنورة ربما أتلفت الجسد، وخير أبو الخطاب في الهداية بينهما. والله أعلم. [حكم التعزية] قال: ويستحب تعزية أهل الميت. 1117 - ش: عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى مصابا فله مثل أجره» . 1118 - وعن أبي برزة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عزى ثكلى كسي بردافي الجنة» رواهما الترمذي.

البكاء على الميت

«تنبيه» «ثكلى» المرأة تفقد ولدها ومن يعز عليها، والله أعلم. [البكاء على الميت] قال: والبكاء عليه] غير مكروه، إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة. ش: إذا تجرد البكاء عن الندب والنياحة لم يكره. 1119 - لما «روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: شهدنا بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: «هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا. فقال: «انزل في قبرها» رواه البخاري.

1120 - «وعن ابن عمر قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى، فأتاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعوده، مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخلوا عليه، وجده في غشية، فقال: «قد قضى؟» فقالوا: لا يا رسول الله. فبكى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رأى القوم بكاءه بكوا، فقال: «ألا تسمعون، إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم» . 1121 - «وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أصيب أبي يوم أحد، فجعلت أبكي، فجعلوا ينهوني ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا ينهاني، فجعلت عمتي فاطمة تبكي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تبكين أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه» متفق عليهما. 1122 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن سعد بن معاذ لما مات، حضره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر وعمر، قالت: فوالذي نفسي بيده إني لأعرف بكاء أبي بكر، من بكاء عمر، وأنا في حجرتي» رواه أحمد. أما إن كان مع البكاء ندب - وهو تعداد محاسن الميت،

نحو: واسيداه، وارجلاه، ونحو ذلك، أو نوح - فإنه يحرم، لما اشتمل عليه من ذلك. 1123 - ففي الترمذي وغيره عن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه، واسيداه، إلا وكل الله به ملكين يلهزانه، ويقولان: أهكذا كنت؟» . 1124 - «وعن أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: أخذ علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع البيعة أن لا ننوح» . مختصر، متفق عليه. 1125 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النائحة، والمستمعة» . رواه أبو داود، وقال أحمد - في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] إنه النياحة، وقد ورد ذلك مرفوعا. 1126 - «فعن أسماء بنت يزيد قالت: قالت امرأة من النسوة: ما هذا المعروف الذي لا ينبغي لنا أن نعصيك فيه؟ قال: «لا تنحن» مختصر، رواه الترمذي.

وقيل: إذا تجرد الندب والنياحة عن اللطم، ونتف الشعر، وذكر الميت بما ليس فيه، ونحو ذلك، كره ولم يحرم، وهو ظاهر كلام الخرقي، وقيل عن أحمد ما يحتمل الإباحة، واختاره الخلال وصاحبه. 1127 - لأنه روي عن واثلة بن الأسقع، وأبي وائل أنهما كانا يستمعان النوح ويبكيان، رواه حرب، والمذهب الأول. 1128 - وعليه حمل أبو محمد ما في الصحيح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» وفي رواية «ليعذب ببكاء الحي عليه» وفي رواية «بما نيح عليه» فحمله على بكاء معه ندب أو نياحة، وقيل: بل ما ورد محمول على من أوصى

بذلك، وهو قول الخطابي، وابن حامد من أصحابنا كقول طرفة: إذا مت فانعيني بما أنا أهله ... وشقي علي الجيب يا ابنة معبد وقيل: بل يحمل على من أوصى بذلك، وقيل: محمول على من عادتهم وسنتهم النوح، ولم يوصهم بترك ذلك. اختاره أبو البركات [لتفريطه، أما مع الوصية باجتناب ذلك فلا، وهذا قول صاحب التلخيص] وقد حمل ذلك على ظاهره راويا الحديث عمر وابنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأنكرت ذلك عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.

1129 - ففي الصحيحين عنها أنها قالت: يرحم الله عمر وابنه، ما حدث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، ولكن قال: «إن الله يزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه» وقالت: حسبكم القرآن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] قال ابن أبي مليكة: فما قال ابن عمر شيئا. 1130 - وقالت أيضا: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكن نسي أو أخطأ. وفي رواية وهم - إنما مر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على يهودية [يبكي عليها] فقال: «إنه ليبكى عليها لتعذب في قبرها» . 1131 - وعن ابن عباس نحو هذا، وقال: والله أضحك وأبكى. انتهى. ولا بأس باليسير من الكلام في صفة الميت، إذا كان صدقا، ولم يخرجه مخرج النوح، قال أحمد: إذا ذكرت المرأة مثل ما حكي عن فاطمة، في مثل الدعاء لا يكون مثل النوح.

صنع طعام لأهل الميت

1132 - والذي «حكي عن فاطمة ما رواه أنس قال: لما ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل يتغشاه الكرب، فقالت فاطمة: واكرب أبتاه، فقال: «ليس على أبيك كرب بعد اليوم» فلما مات قالت: يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه إلى جبريل ننعاه» . رواه البخاري. «تنبيه» «يقارف» . 1133 - «في مسند أحمد أن رقية لما ماتت، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله» فلم يدخل عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - القبر» ، «والوزر» الإثم والذنب المثقل للظهر، والمراد: لا يحمل أحد من المذنبين ذنب أحد، «واللهز» الدفع في الصدر بجميع الكف، والله أعلم. [صنع طعام لأهل الميت] قال: ولا بأس أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم، ولا يصلحون هم طعاما للناس. ش: أما إباحة ذلك لغير أهل الميت: 1134 - فلما روي «عن عبد الله بن جعفر قال: لما جاء نعي جعفر حين قتل، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اصنعوا لآل جعفر طعاما، فقد أتاهم

موت المرأة وفي بطنها جنين

ما يشغلهم» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه. وأما عدم إباحته لهم فلما علل به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، من أنهم في شغل بمصابهم. 1135 - وعن جرير بن عبد الله البجلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصنعة الطعام بعد دفنه من النياحة. رواه أحمد. وظاهر كلام الخرقي أنه يباح لغير أهل الميت صنيع الطعام، ولا يباح لأهل الميت، وقال غيره: ويسن لغير أهل الميت، ويكره لأهله، والله أعلم. [موت المرأة وفي بطنها جنين] قال: والمرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك، فلا يشق بطنها، وتسطو القوابل عليه فيخرجنه. ش: المذهب المنصوص - والذي عليه الأصحاب - أن المرأة إذا ماتت وفي بطنها ولد يتحرك، أن بطنها لا يشق، لأن في الشق هتك حرمة متيقنة لإبقاء حياة موهومة، إذ الغالب

والظاهر أن الولد لا يعيش، واحتج أحمد - في رواية أبي داود - بما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كسر عظم الميت ككسر عظم الحي» رواه أبو داود، وابن ماجه، ورواه ابن ماجه من رواية أم سلمة، وزاد «في الإثم» وتوقف أحمد عن ذلك في رواية الأثرم، ولم يجزم بحجية [الحديث] بل قال: قيل: كسر عظم الميت ككسر عظم الحي. وحكى أبو الخطاب في الهداية ومن بعده احتمالا بالشق، إذا غلب على الظن أن الولد يعيش لأن حفظ حرمة الحي أولى، وكما لو خرج بعضه حيا، وتعذر إخراج باقيه من غير شق، [فإنه يشق] . فعلى الأول تسطو عليه القوابل، أي يدخلن أيديهن في فرجها. فيخرجنه إن غلب على ظنهن حياته، بحركته مع قرب ولادتها، ونحو ذلك. فإن لم تقدر عليه النساء، أو لم يوجدن فهل يسطو عليه الرجال؟ فيه روايتان (إحداهما) : لا يسطون ويترك حتى يموت، اختاره القاضي،

حضور صلاة الجنازة مع صلاة أخرى

وصاحب التلخيص، وأبو محمد، وغيرهم، ويحتمله كلام الخرقي، لما فيه من هتك حرمتها مع الرجال، مع بعد احتمال الحياة (والثانية) : - وهي المنصوصة عنه، واختيار أبي بكر، وأبي البركات - يسطون، لأن ذلك يحتمل في حق الأحياء، فالأموات أولى، ولم يقيد أحمد الرجل بالمحرم، وقيده ابن حمدان بذلك، وحيث تعذر إخراجه فإنها تترك حتى يتيقن موته، قال أحمد: ينتظرنها ما دام حيا، والله أعلم. [حضور صلاة الجنازة مع صلاة أخرى] قال: وإذا حضرت الجنازة، وصلاة الفجر، بدئ بالجنازة. ش: لأنا إذا قدمنا الجنازة فعلناها في غير وقت نهي، أو في وقت اختلف فيه، أما إن أخرناها، فإننا نفعلها في وقت نهي بلا نزاع، فكانت البداءة بها أولى، وكذلك إذا حضرت [الجنازة] وصلاة العصر، بدئ بالجنازة بطريق الأولى، إذ وقت النهي إنما يدخل بفعل الصلاة على المذهب، بخلاف الفجر، فإن وقت النهي فيها يدخل بطلوع الفجر على المذهب، والله أعلم. قال: وإن حضرت وصلاة المغرب بدئ بالمغرب. ش: إذا حضرت الجنازة وصلاة المغرب، بدئ بالمغرب، لتأكد المغرب، ولكراهة تأخيرها، ولا محذور في تأخير الجنازة، إذ لا نهي بعد الغروب، وكذا إذا حضرت وصلاة الظهر أو العشاء، بدئ بالعشاء والظهر، لتأكدهما. والله أعلم.

صلاة الجنازة على مرتكب الكبيرة

[صلاة الجنازة على مرتكب الكبيرة] قال: ولا يصلي الإمام على الغال، ولا على من قتل نفسه. ش: الغال هو الذي يكتم الغنيمة أو بعضها، فلا يصلي الإمام عليه، ولا على من قتل نفسه عمدا. على المنصوص، والمذهب بلا ريب. 1136 - لما روى جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جاءوه برجل قد قتل نفسه بمشاقص، فلم يصل عليه» . رواه مسلم وغيره. 1137 - وفي السنن عن زيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «توفي رجل من جهينة يوم خبير، فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «صلوا على صاحبكم» فتغيرت وجوه القوم، فلما رأى ما بهم قال: «إن صاحبكم غل في سبيل الله» ففتشنا متاعه، فوجدنا فيه خرزا من خرز اليهود، ما يساوي درهمين» . رواه الخمسة إلا الترمذي واحتج به أحمد، فامتنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الصلاة عليه، وهو الإمام، وأمر غيره بالصلاة عليه، وكذلك روي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –

فيمن قتل نفسه، قال أحمد وسئل: من قتل نفسه يصلى عليه؟ - قال: - أما الإمام فلا يصلي عليه، وأما الناس فيصلون عليه، «هكذا فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالذي قتل نفسه، لم يصل عليه، وأمرهم أن يصلوا عليه» ، وإذًا يلحق به غيره من الأئمة، إذ ما ثبت في حقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثبت في حق غيره، ما لم يقم دليل يخصه، وجعل أبو البركات ترك صلاة الإمام استحبابا، من باب الردع والزجر، وعدى ذلك إلى كل معصية ظاهرة، مات عنها صاحبها من غير توبة. (تنبيه) الإمام هنا هو أمير المؤمنين خاصة، قاله الخلال وغيره، ونقل عنه حرب أن الإمام هو الوالي، وأن إمام كل قرية واليهم، وخطأ الخلال حربا، وقال: إن الذي عليه العمل من قوله هو الأول. قاله أبو البركات: وهذا تحكم، والصحيح تصويبه، وجعل ذلك رواية. قال: وإذا حضرت جنازة رجل وامرأة، وصبي، جعل الرجل مما يلي الإمام، والمرأة خلفه، والصبي خلفهما. ش: لا خلاف في المذهب أن الرجل الحر يلي الإمام، لشرفه بالذكورية، والحرية، والتكليف، ثم بعده هل يقدم الصبي لشرفه بالحرية، وهو اختيار الخلال، أو العبد البالغ، لشرفه بالتكليف، وهو اختيار القاضي في التعليق، وأبي محمد، وظاهر كلام الخرقي؟ فيه روايتان منصوصتان، ثم [من] بعد الصبي المرأة، لشرفه بالذكورية، فيقدم عليها،

نص عليه أحمد في رواية صالح، وأبي الحارث. 1138 - ويشهد له ما «روى عمار مولى بني هاشم، قال: شهدت جنازة صبي وامرأة، فقدم الصبي مما يلي القوم، ووضعت المرأة وراءه، وفي القوم أبو سعيد الخدري، وابن عباس، وأبو قتادة، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقلنا لهم: فقالوا: السنة» . وقال الخرقي: يؤخر الصبي عن المرأة، لشرف المرأة بالتكليف، وهذا الذي نصبه القاضي في التعليق، ولم يذكر به نصا، والخنثى يقدم على المرأة لاحتمال ذكوريته، والله أعلم. قال: وإن دفنوا في قبر واحد جعل الرجل مما يلي القبلة، والمرأة خلفه، والصبي خلفهما، ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب. ش: لا إشكال أن جهة القبلة في الدفن هي الجهة الفاضلة، فيقدم الأفضل ثم الذي يليه إليها، على ما تقدم في تقديمهم إلى الإمام، ويشهد لذلك ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وقد تضمن كلام الخرقي أنه يجوز دفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وهو صحيح، نص عليه أحمد والأصحاب. 1139 - لما روى هشام بن عامر قال: «شكونا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد، فقلنا، يا رسول الله، الحفر علينا لكل إنسان شديد. فقال: «احفروا، وأعمقوا، وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد» قالوا: فمن نقدم يا رسول الله؟ قال: «قدموا أكثرهم قرآنا» وكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد» . رواه النسائي، والترمذي بنحوه وصححه. فإن اختلفت أنواعهم - كرجال ونساء - قدم إلى القبلة من [يقدم] إلى الإمام عند الصلاة عليه، هذا كله مع الضرورة، لكثرة الموتى ونحو ذلك، أما مع [عدم] الضرورة فالذي عليه عامة الأصحاب أنه لا يدفن في القبر إلا واحد، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدفن كل واحد في قبر» ، وعلى ذلك استمر فعل الصحابة، ومن بعدهم من السلف والخلف، ونقل عنه أبو طالب إذا ماتت امرأة وقد ولدت ولدا ميتا، فدفن معها، جعل بينها وبينه حاجز من تراب، أو يحفر له في ناحية منها، وإن لم يدفن معها فلا بأس، فظاهر هذا جواز

دفن الاثنين في قبر من غير ضرورة بلا كراهة، وهو ظاهر إطلاق الخرقي، ويحتمل أن يختص كلام أحمد [بما] إذا كانا أو أحدهما ممن لا حكم لعورته لصغره، كحالة النص. وحيث دفن في القبر اثنان فأكثر جعل بين كل اثنين حاجز من تراب، ليجعل كأن كل واحد منهما منفرد بقبر، والله أعلم. قال وإذا ماتت نصرانية وهي حامل من مسلم، دفنت بين مقبرة المسلمين والنصارى. ش: لأنها إن دفنت في مقبرة المسلمين تأذوا بعذابها، وإن دفنت في مقبرة النصارى تأذى الولد بعذابهم، فتدفن وحدها، وقد حكى هذا أحمد عن واثلة بن الأسقع. فإن قيل: فالولد على كل حال يتأذى بعذابها؟ (قيل) : هذا محل ضرورة، وهو أخف من عذاب المجموع. انتهى، ويجعل ظهرها إلى القبلة، على جنبها الأيسر، لأن الولد إذًا يكون إلى القبلة، على جنبه الأيمن، لأن وجهه إلى ظهرها. والله أعلم.

قال: ويخلع النعال إذا دخل المقابر. ش: يستحب خلع النعال في المقبرة، ويكره المشي فيها إذًا. 1140 - لما «روى بشير مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال: (بينما أنا أماشي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] مر بقبور المشركين، فقال: «لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا» ثلاثا، ثم مر بقبور المسلمين فقال: «لقد أدرك هؤلاء خيرا كثيرا» ثم حانت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نظرة، فإذا رجل يمشي عليه نعلان، فقال له: «يا صاحب السبتيتين ألقهما» فنظر الرجل فلما عرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خلعهما، فرمى بهما) » . رواه أبو داود، والنسائي، واحتج به أحمد في رواية حنبل وغيره، وقال: هذا أمر من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصححه في رواية محمد بن الحكم، ونقل عنه ما يدل على جواز ذلك من غير كراهة.

زيارة القبور

ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يخلع ما عدا النعال من الخفاف، والتمشكات، وغيرهما، ولذلك قال القاضي: لا تتعدى الكراهة إلى التمشكات، ولا إلى غيرها، قصرا للنص على موضعه، وقيل بتعديه إلى التمشكات، لأنه في معنى النعل، لا إلى الخف؛ لأن في الخلع مشقة، ولهذا كان أحمد يلبس الخفاف في المقابر. (تنبيه) السبتية نسبة إلى السبت، جلود مدبوغة بالقرض، يتخذ منها النعال، والله أعلم. [زيارة القبور] قال: ولا بأس أن يزور الرجال المقابر. ش: تستحب للرجال زيارة القبور، على المنصوص، والمشهور عند الأصحاب. 1141 - لما روى بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث، فأمسكوا ما بدا لكم، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء، فاشربوا في الأسقية كلها، ولا تشربوا مسكرا» رواه مسلم وغيره.

وقيل: يباح ولا يستحب، وهو ظاهر كلام الخرقي؛ لأن في رواية أحمد والنسائي عن بريدة «ونهيتكم عن زيارة القبور فمن أراد أن يزور فليزر، ولا تقولوا هجرا» وهو الغالب في الأمر بعد الحظر، لا سيما وقد قرنه بما هو مباح، وهو ادخار لحوم الأضاحي، والانتباذ في كل سقاء. قال: ويكره للنساء. والله أعلم. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: لا تخرج المرأة إلى المقابر، ولا [إلى] غيرها. 1142 - وذلك لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن زوارات القبور» رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي وصححه. 1143 - وروي أيضا من حديث حسان، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -

وهذا النهي خاص بالنساء، وذلك النهي والأمر يحتمل أنهما خاصان بالرجال، ويحتمل أنهما لهما، ويحتمل أن هذا الحديث بعد الإذن في الزيارة، وإذا دار الأمر بين الحظر والإباحة، فأقل الأحوال الكراهة، بل لو قيل بالحظر لم يكن بعيدا، لا سيما والمرأة قليلة الصبر، فالظاهر تهييج حزنها، برؤية قبور أحبتها، فقد يقع منها ما لا ينبغي. 1144 - وقد روي عن عبد الله بن عمرو قال: «بينما نحن نسير مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ بصر بامرأة لا نظن أنه عرفها، فلما توسط الطريق وقف، حتى انتهت إليه، فإذا هي فاطمة بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال لها: «ما أخرجك من بيتك يا فاطمة؟» فقالت: أتيت أهل هذا البيت فرحمت إليهم، وعزيتهم بميتهم. قال: «لعلك بلغت معهم الكدى؟» قالت: معاذ الله أن أكون بلغتها، وقد سمعتك تذكر في ذلك ما تذكر. فقال: «لو بلغتها معهم، ما رأيت الجنة، حتى يراها جد أبيك» رواه أحمد، والنسائي، وهذا لفظه، وقد صحح وضعف. وحسن.

والرواية الثانية: يباح لها ذلك، قال أحمد: أرجو أن لا يكون به بأس، وذلك لعموم حديث بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 1145 - وعن عبد الله بن أبي مليكة «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين، من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن. فقلت لها: أليس كان نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى عن زيارة القبور، ثم أمر بزيارتها» . رواه الأثرم في سننه، واحتج به أحمد في رواية إبراهيم بن الحارث، ففهمت دخولهن في العموم. واعلم أن الخلاف السابق حكاه أبو الخطاب في الهداية، والشيخان وغيرهم في الكراهة، وحكاه صاحب التلخيص في التحريم، ولعله أوفق لنص أحمد، وجمع ابن حمدان الطريقتين، فحكى ثلاث روايات، الإباحة، والكراهة، والتحريم. وعلى جميع الروايات متى علمت من نفسها أنها متى زارت بدا منها ما لا يجوز، لم تجز لها الزيارة قولا واحدا.

آداب زيارة القبور

[آداب زيارة القبور] «تنبيهان» (أحدهما) يقول الزائر لها، والمار عليها: 1146 - ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كلما كان ليلتها من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخرج من آخر ليلتها إلى البقيع، فيقول: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون، غدا مؤجلون، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد» . 1147 - وعن بريدة قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر وكان قائلهم يقول: «السلام على أهل الديار - وفي لفظ - السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون، أسأل الله لنا ولكم العافية» رواهما مسلم. ويخير في السلام بين التنكير والتعريف، للأحياء والأموات؛ لأن السنة وردت بذلك، وقال ابن عقيل: في الأحياء التنكير، وفي الأموات التعريف. ورد بالسنة، وبأن أحمد نص في رواية أبي طالب في السلام على الأحياء معرفا، ونص في السلام على الأموات على التعريف والتنكير. (الثاني) : «الهجر» بالفتح الهذيان، وهو النطق بما لا يفهم، «والكدى» جمع كدية وهي الأرض الصلبة، لأن مقابرهم كانت في مواضع صلبة، والله أعلم.

كتاب الزكاة

[كتاب الزكاة] ش: الزكاة في اللغة النماء، والزيادة، والتطهير، قال الواحدي: الأظهر أنها مشتقة من: زكى الزرع يزكو زكاء بالمد إذا زاد. قال: والزكاة أيضا الصلاح يقال: رجل زكي - أي زائد الخير - من قوم أزكياء: وزكى القاضي الشهود. إذا بين زيادتهم في الخير، فسمي المال المخرج زكاة؛ لأنه يزيد في المخرج منه، ويقيه الآفات. وفي عرف الشرع اسم لإخراج شيء مخصوص، من مال مخصوص، على وجه مخصوص. وهي مما علم وجوبها من دين الله بالضرورة، وقد قال عز من قائل {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] . 1148 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم» مختصر متفق عليه.

زكاة الإبل

[في آي وأخبار سوى هذين] ، وأجمع الصحابة على وجوبها، وعلى قتال مانعيها، والله أعلم. [زكاة الإبل] قال: وليس فيما دون خمس من الإبل سائمة صدقة. ش: اعلم أن الذي تجب فيه الزكاة في الجملة أربعة أنواع (بهيمة الأنعام) ، وهي الإبل والبقر، والغنم (والخارج) من الأرض، (والأثمان) ، (وعروض التجارة) ، وأكثر هذه، وأعمها عند العرب، بهيمة الأنعام، وأنفس بهيمة الأنعام عندهم الإبل، فلذلك بدأ بها الخرقي، وقد انعقد الإجماع على وجوب الزكاة في الإبل في الجملة، وأن أقل نصاب الإبل خمس، فما دون الخمس لا شيء فيها، وقد جاءت السنة مصرحة بذلك. 1149 - ففي الصحيحين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس فيما دون خمس ذود صدقة» مع ما يأتي إن شاء الله تعالى، والذود: ما بين الثلاث إلى العشر من الإبل، وقيل: ما بين الثنتين إلى التسع، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، والله أعلم. قال: فإذا ملك خمسا من الإبل، فأسامها أكثر السنة ففيها شاة، وفي العشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه. ش: هذا أيضا مجمع عليه بحمد الله تعالى.

1150 - والأصل في الباب ما «روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، [أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] لما استخلف كتب له، حين وجهه إلى البحرين هذا الكتاب، وكان نقش الخاتم ثلاثة أسطر «محمد» سطر، «ورسول» سطر، «والله» سطر، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذه فريضة الصدقة، التي فرضها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط، في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين، إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض، فإن لم يكن بنت مخاض فابن لبون، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان، طروقتا الفحل، فإذا زادت على عشرين ومائة، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، ومن لم يكن عنده إلا أربع من الإبل فليست فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، فإذا بلغت خمسا من الإبل ففيها شاة، وصدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين، إلى عشرين ومائة شاة شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى ثلاث مائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة، فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان

بينهما بالسوية، ولا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس إلا أن يشاء المصدق، وفي الرقة ربع العشر، فإن لم تكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليس عنده جذعة، وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهما، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده الحقة، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا ابنة لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون ويعطي شاتين، أو عشرين درهما، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وعنده حقة، فإنها تقبل منه الحقة، ويعطيه المصدق عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وليست عنده، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهما أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون فإنها تقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين [درهما] أو شاتين فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها وعنده ابن البون فإنه يقبل منه وليس معه شيء، وفي رواية «ابن لبون ذكر» رواه البخاري. قال الحميدي: في عشرة مواضع من كتابه، بإسناد واحد مقطعا، والنسائي، وأبو داود، وأحمد، وقال في رواية ابن مشيش - وسئل أي الأحاديث أثبت عندك في الصدقات؟ فقال -: ما أصح حديث ثمامة بن أنس يرويه حماد بن سلمة وقال في رواية الميموني: لا أعلم في الصدقة أحسن

منه. انتهى، وهو أصل عظيم يعتمد، وقد قال فيه: «إن في أربع وعشرين من الإبل فما دونها من الغنم، في كل خمس شاة» . «تنبيه» وهذا الشاة. . وقول الخرقي: فأسامها. نص في أن من شرط وجوب الزكاة في الإبل أن تكون سائمة، فلا تجب الزكاة في المعلوفة، وهو صحيح، لا إشكال فيه، لأن في الحديث السابق «وصدقة الغنم في سائمتها» أي يجب في سائمتها، أو الواجب في سائمتها، فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوجوب مختصا بالسائمة، والإبل في معنى الغنم. 1151 - مع أن في السنن عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في كل سائمة إبل في كل أربعين بنت لبون» ولأن المعلوفة مال غير معد للنماء، أشبه ثياب البذلة،

والمشترط السوم في أكثر السنة، إقامة للأكثر مقام الكل، إذ اعتباره في جميع الحول يمنع الوجوب إلا نادرا. ويستثنى من كلام الخرقي العوامل، فإن الزكاة لا تجب فيهن وإن كن سائمة، نص عليه أحمد في رواية جماعة، وقال: أهل المدينة يرون فيها الصدقة، وليس عندهم في هذا أصل. 1152 - وقد روى الحارث الأعور عن علي، قال زهير - وهو ابن

معاوية -: أحسبه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر حديثا وفيه «وليس على العوامل شيء» رواه أبو داود، لكن الحارث فيه كلام.

1153 - وقد روي أيضا من حديث ابن عباس، وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواهما الدارقطني. والمعنى في ذلك أن القصد منها الانتفاع بظهرها، لا الدر والنسل، أشبهت البغال والحمير. وقوله: فأسامها. ظاهره أنه وجد منه فعل السوم، فيكون من مذهبه اشتراط نية السوم، وهو أحد الوجهين، والوجه الآخر: لا يشترط، فلو سامت بنفسها، أو أسامها غاصب، وقلنا بوجوب الزكاة في المغصوب، وجبت الزكاة. «تنبيه» السائمة عبارة عمن رعت المباح، والله أعلم. قال: فإذا صارت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض، إلى خمس وثلاثين، فإن لم تكن ابنة مخاض فابن لبون ذكر، فإذا بلغت ستا وثلاثين، ففيها ابنة لبون، إلى خمس وأربعين، فإذا بلغت ستا وأربعين ففيها حقة طروقة الفحل، إلى ستين، [فإذا

بلغت إحدى وستين ففيها جذعة، إلى خمس وسبعين، فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون، إلى تسعين، فإذا بلغت إحدى وتسعين] ففيها حقتان، طروقتا الفحل، إلى عشرين ومائة. ش: هذا كله مجمع عليه بحمد الله، وما تقدم من كتاب أبي بكر نص فيه. وقول الخرقي: فإن لم يكن فيها بنت مخاض - يعني في إبله - فابن لبون. يعني إن وجده في إبله، فشرط إجزاء ابن اللبون عدم بنت المخاض في إبله، ووجود ابن اللبون، أما إن عدمه فإنه يلزمه شراء بنت مخاض، وهذا ظاهر ما تقدم «فإن لم تكن عنده بنت مخاض على وجهها، وعنده ابن لبون فإنه يقبل منه» ولأن العدول عن بنت المخاض كان للرفق به، ومع الشراء قد زال الرفق، فيرجع إلى الأصل، وحكم وجودها معيبة في إبله حكم ما لو عدمها، إذ الممنوع منه شرعا كالمعدوم حسا، ولهذا قال في الحديث «على وجهها» أي على الوجه الشرعي، أما إن وجدها أعلى من الواجب عليه، فإنه لا يجزئه إخراج ابن اللبون، بل يخير بين إخراجها، وبين شراء بنت مخاض، على صفة الواجب، كما هو ظاهر الخبر وكلام الخرقي.

«تنبيه» : بنت المخاض من الإبل وابن المخاض ما استكمل سنة، ثم هو كذلك إلى آخر الثانية، سمي بذلك لأن أمه من المخاض أي الحوامل، والمخاض اسم الحوامل، لا واحد له من لفظه، وليس [كون] أمها من المخاض شرطا فيها، وإنما ذكر ذلك اعتبارا بغالب حالها، وكذلك بنت اللبون، إذ الغالب أن من بلغت سنة تكون أمها حاملا، ومن بلغت سنتين تكون أمها ذات لبن. «وبنت اللبون» وابن اللبون ما استكمل الثانية، ثم هو كذلك إلى تمام الثالثة سمي بذلك لأن أمه ذات لبن. «والحقة» والحق ما استكمل الثالثة، ثم هو كذلك إلى آخر الرابعة، سمي بذلك لاستحقاقه أن يحمل، أو يركبه الفحل، ولهذا قال: «طروقة الفحل» أي يطرقها ويركبها «والجذعة» والجذع ما استكمل الرابعة، ثم هو كذلك إلى آخر الخامسة، سمي بذلك لأنه يجذع إذا سقط سنه. وقول الخرقي: فابن لبون ذكر. تبع فيه لفظ الحديث، وإلا فابن لبون هو ذكر، وهو تأكيد، كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] . 1154 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان»

وهو كثير، وتنبيه لرب المال والمصدق، ليطيب رب المال نفسا بالزيادة المأخوذة منه، إذا علم أنه كان قد أسقط عنه ما كان بإزائه من فضل الأنوثة، وليعلم المصدق أن هذا مقبول من رب المال. والله أعلم. قال: فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. ش: ظاهر هذا أنها إذا زادت واحدة على العشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون، وهو المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، لظاهر كتاب أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون» وبالواحدة قد حصلت الزيادة. 1155 - وفي كتاب الصدقات الذي كتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عند آل عمر وفيه «فإذا زادت واحدة - أي على التسعين - ففيها حقتان، إلى عشرين ومائة، فإذا كانت الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، ورواه أبو داود عن سالم [مرسلا] ،

وفيه «فإذا كانت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون» . (والرواية الثانية) : لا يتغير الفرض إلى مائة وثلاثين، فيجب حقة وبنتا لبون. نقلها عنه القاضي البرثي، واحتج له بحديث ثمامة بن أنس.

1156 - وبحديث عمرو بن حزم، وقال: هو عن كتاب وهو صحيح، وفي هذا النقل عنه نظر، لأن حديث أنس المشهور ليس فيه ذلك، بل أحمد قد احتج به في رواية النيسابوري على الرواية الأولى، وأما حديث عمرو بن حزم فلعل فيه ذلك، لكن لم أرهم نقلوا ذلك، وقد يستدل لهذه الرواية

بأن في بعض ألفاظ حديث ابن عمر رواه أحمد «فإذا كثرت

الإبل ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين ابنة لبون» والواحدة لا تكثر بها الإبل. 1157 - وفي سنن ابن بطة عن الزهري قال: هذه نسخة كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التي كتب في الصدقة، وهي عند آل عمر وقال فيه: «فإذا كانت إحدى وتسعين ففيها حقتان، طروقتا الفحل، حتى تبلغ عشرين ومائة، فإذا كانت ثلاثين ومائة، ففيها حقة وبنتا لبون» ويجاب بأن هاتين الروايتين فيهما إجمال وما تقدم يفسرهما. وعلى كلتا الروايتين متى بلغت الفريضة مائة وثلاثين ففيها حقة وبنتا لبون، وفي مائة وأربعين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وخمسين ثلاث حقاق، وفي مائة وستين أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون، وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون، وفي مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون، وفي مائتين أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، لأن المائتين أربع خمسينات، وخمس أربعينات هذا ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي بكر، وابن حامد، وأبي محمد، والقاضي، قال في الروايتين: [إنه] الأشبه. وقال الآمدي: إنه ظاهر المذهب. ويحتمله كلام أحمد في

رواية صالح وابن منصور وذلك لظاهر حديث أبي بكر، إذ فيه «في كل أربعين ابنة لبون، وفي كل خمسين حقة» وعن الزهري قال: نسخة كتاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي كتبه في الصدقة، أقرأنيه سالم بن عبد الله بن عمر. وفيه «فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق، أو خمس بنات لبون، أي السنين وجدت أخذت» . ونقل علي بن سعيد عن أحمد: يأخذ من المائتين أربع حقاق. فمن الأصحاب من فسر ذلك بأن فيها أربع حقاق بصفة التخيير، ويكون القصد أن تسعين ومائة [فيها] ثلاث حقاق وبنت لبون، فإذا بلغت مائتين ففيها أربع حقاق، ومنهم من أقره على ظاهره، وقال: تتعين الحقاق، إلا أن لا يكون فيها إلا بنات لبون فتجزئ بنات اللبون وهذا قول ابن عقيل. وظاهر كلام أحمد تتعين الحقاق مطلقا، نظرا لحظ الفقراء، إذ هي أنفع لهم، لكثرة درها ونسلها. هذا كله إذا لم يكن المال ليتيم، فإن كان ليتيم أو مجنون تعين على الولي إخراج الأدون المجزئ من الفرضين اعتمادا

على أن ذلك هو الأحظ، وإنما يتصرف في ماله بذلك، والله أعلم. قال: ومن وجبت عليه حقة وليست عنده، وعنده ابنة لبون أخذت منه ومعها شاتان أو عشرون درهما، ومن وجبت عليه ابنة لبون، وليست عنده، وعنده حقة، أخذت منه وأعطي الجبر من شاتين أو عشرين درهما والله أعلم. ش: قد تقدم هذا مصرحا به في حديث أبي بكر [الصديق]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكذلك إذا وجبت عليه ابنة مخاض، فعدمها ووجد ابنة لبون، [فإنه] يدفعها ويأخذ شاتين أو عشرين درهما، [وكذلك إن وجب عليه حقة وليست عنده، وعنده جذعة، فإنها تؤخذ منه ومعها شاتان أو عشرون درهما] ، وكل هذا في حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وليس له أن ينزل عن بنت مخاض أصلا، إذا هي أدنى أسنان الإبل المجزئة في الزكاة، وللمالك أن يصعد إلى [الثنية] بلا جبران؛ لأنها أعلى. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجبر بشاة وعشرة دراهم، وهو أحد الوجهين

حذارا من تخيير ثالث، والثاني يجوز؛ لأن الشارع جعل العشرة في مقابلة الشاة. وقد يقال: إن ظاهر كلامه أيضًا أنه إذا عدم السن التي تلي الواجب أنه ليس له أن ينتقل إلى ما هو أدنى منها، أو إلى ما هو أعلى منها، وذلك كما لو وجبت عليه ابنة لبون، فعدمها وعدم الحقة، فليس له أن ينتقل إلى الجذعة، ويأخذ أربع شياه، أو أربعين درهما، [أو وجبت عليه حقة فعدمها، وعدم بنت اللبون، لم يخرج بنت مخاض، ويدفع أربع شياه، أو أربعين درهما] ، إذ النص لم يرد به، والزكاة فيها شائبة التعبد، وهذا اختيار أبي الخطاب، وابن عقيل، وقال صاحب النهاية فيها: إنه ظاهر المذهب. وأومأ أحمد إلى جواز ذلك، وهو اختيار القاضي، وأورده الشيخان مذهبا، لأن الشارع جوز الانتقال إلى الذي يليه مع الجبران، [وجوز العدول عن ذلك أيضا إذا عدم مع الجبران] ، إذا كان هو الفرض، فهاهنا لو كان موجودا أجزأ، فإذا عدمه جاز العدول عنه إلى ما يليه كما لو كان هو الفرض، والله أعلم.

باب زكاة البقر

[باب زكاة البقر] 1158 - ش: الأصل في وجوب زكاة البقر ما في الصحيح عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما من صاحب إبل، ولا بقر، ولا غنم، لا يؤدي حقها إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها جماء ولا مكسورة القرن» قلنا: يا رسول الله وما حقها؟ قال: «إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله» مختصر، رواه مسلم، والنسائي، وإذا ثبت هذا الوعيد العظيم في هذا الحق، فالزكاة أولى، ونسخ الأصل لا يلزم منه نسخ الفحوى على الأشهر. 1159 - وعن مسروق «عن معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة، ومن كل حالم دينارا، أو عدله معافر» . رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين. وإنما لم يذكر زكاة البقر في حديث أبي بكر الصديق، وفي

الكتاب الذي كان عند آل عمر لقلة البقر في الحجاز، إذ يندر ملك نصاب منه، بل لا يوجد، فلما بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –

معاذا إلى اليمن، ذكر له حكم البقر، لوجودها عندهم، مع أن وجوب الزكاة في البقر قد حكي إجماعا. «تنبيه» «القاع» [المكان] المستوي من الأرض الواسع، وجمعه قيعة وقيعان، كجيرة وجيران، و «قرقر» بفتح القافين الأملس، قاله أبو السعادات، «والظلف» للبقر، والغنم، والظباء، «والقدم» للآدمي «والحافر» للفرس، والبغل، والحمار «وتنطحه» بفتح الطاء وكسرها وهو أفصح «والجماء» الشاة التي لا قرن لها، «وإطراق الفحل» إعارته للضراب: طرق الفحل الناقة. إذا ضربها «والمنحة» العطية، والمنيحة الشاة أو الناقة تعار لينتفع بلبنها ثم ترد، «وحلبها على الماء» بفتح اللام، لا بسكونها على الأشهر، وهذا كان - والله أعلم - قبل وجوب الزكاة، أو في موضع تتعين فيه المواساة، «والحالم» البالغ، «وعدل الشيء» بفتح العين - مثله في القيمة، وهو المراد هنا، وبكسرها مثله في الصورة «والمعافري» منسوب إلى ثياب باليمن، ينسب إلى معافر، حي من همدان، لا ينصرف كدراهم والله أعلم.

قال: وليس فيما دون ثلاثين من البقر سائمة صدقة. ش: أقل نصاب البقر ثلاثون، لحديث معاذ، «فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب في الثلاثين» ، والأصل عدم الوجوب فيما دون ذلك، فليس فيما دون ثلاثين شيء. قال: فإذا ملك ثلاثين من البقر فأسامها أكثر السنة ففيها تبيع أو تبيعة، إلى تسع وثلاثين، فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة، إلى تسع وخمسين، فإذا بلغت ستين ففيها تبيعان، إلى تسع وستين، فإذا بلغت سبعين ففيها تبيع ومسنة، فإذا زادت ففي كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة. ش: [الأصل في هذا كله خبر معاذ، فإنه جعل في كل ثلاثين تبيعا، وفي كل أربعين مسنة] ، واعتبار السوم فيها قياسا على الإبل والغنم، وإذا بلغت مائة وعشرين اتفق الفرضان، فإن شاء أخرج ثلاث مسنات أو أربع تبائع، وقد تقدم منصوص أحمد على ذلك. والله أعلم. قال: والجواميس كغيرها من البقر والله أعلم. ش: الجواميس أحد نوعي البقر فحكمها حكمها. والله أعلم.

باب صدقة الغنم

[باب صدقة الغنم] ش: الأصل في وجوبها الإجماع، وسنده ما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره، والله أعلم. قال: وليس فيما دون أربعين من الغنم سائمة صدقة. ش: أقل نصاب الغنم أربعون، فليس فيما دونها صدقة، لحديث أبي بكر: «فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة شاة واحدة، فلا شيء فيها، إلا أن يشاء ربها» والله أعلم. قال: فإذا ملك أربعين من الغنم فأسامها أكثر السنة ففيها شاة، إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان، إلى مائتين، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه، إلى ثلاثمائة. ش: الأصل في هذه الجملة ما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو نص في ذلك، والله أعلم. قال: فإذا زادت ففي كل مائة شاة شاة. ش: ظاهر هذا أنه بعد الثلاثمائة يستأنف الفريضة، فيجب في كل مائة شاة شاة، فعلى هذا لا يجب شيء إلى أربع مائة، فيجب أربع شياه، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي وجمهور الأصحاب، لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي الكتاب الذي كان عند آل عمر نحو ذلك.

(والرواية الثانية) : في ثلاثمائة وواحدة أربع شياه، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ خمسمائة، فتكون خمس شياه، اختارها أبو بكر، كذا حكى الرواية أبو محمد، وأبو العباس، وغيرهما، وقال القاضي في الروايتين بعد أن حكى الرواية الأولى: ونقل حرب: لا شيء في زيادتها حتى تبلغ ثلاثمائة، فإذا زادت عليها شاة ففيها أربع شياه، وعلى هذا كلما زادت على مائة شاة ففيها شاة، قال: وهو اختيار أبي بكر. وظاهر هذا أن في أربع مائة وواحدة خمس شياه، وفي خمس مائة وواحدة ست شياه، وعلى هذا، وحكى ابن حمدان هذا رواية ثالثة. والله أعلم. قال: ولا يؤخذ في الصدقة تيس، ولا هرمة، ولا ذات عوار، ولا الربى، ولا الماخض، ولا الأكولة.

ش: قد جمع الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذا بين (ما لا يؤخذ) لدناءته وهو التيس، والهرمة وذات العوار، وذلك لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إذ فيه «لا يخرج في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار، ولا تيس، إلا أن يشاء المصدق» وقال سبحانه: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] (وما لا يؤخذ) لشرفه وهو الربى، والماخض والأكولة، وذلك لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث معاذ المتفق عليه «وإياك وكرائم أموالهم» . 1160 - وفي حديث لأبي داود فيه طول، عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه] قال: «ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره» . 1161 - وعن سفيان بن عبد الله أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعثه مصدقا، فكان يعد على الناس بالسخل، فقالوا: أتعد علينا بالسخل ولا تأخذ منه؟ فلما قدم على عمر بن الخطاب ذكر ذلك له فقال: نعم تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي، ولا تأخذها ولا تأخذ الأكولة، ولا الربى، ولا الماخض، ولا فحل

الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وذلك عدل بين غذاء المال وخياره، رواه مالك في الموطأ. «تنبيهان» (أحدهما) ما لا يؤخذ لدناءته لا يدفع في الزكاة مطلقا، وما لا يؤخذ لشرفه إن رضي رب المال بإخراجه جاز، لأن الحق له، وإلا فلا. (الثاني) : (الهرمة) الكبيرة الطاعنة في السن، (والعوار) بفتح العين على الأفصح العيب، ويجوز الضم، (والمصدق) بتخفيف الصاد، وتشديد الدال - عامل الصدقة، وهو الساعي أيضا، وكان أبو عبيد يرويه «المصدق» بفتح الدال، يريد صاحب الماشية، وخالفه عامة الرواة، فقالوا: بكسرها. يريدون العامل فعلى قول أبي عبيد المراد بالتيس فحل الغنم، فهو من كرائم الأموال، فلا يؤخذ إلا أن يشاء رب المال، فالاستثناء راجع إليه فقط. وعلى قول الجمهور التيس هو الكبير، فلا يؤخذ لدناءته، وهذا هو المشهور عند أصحابنا

فيما أظن، وعلى هذا يخير الساعي. قيل: إما لأن الجميع على صفته، فله أخذ ذلك، لأن الجميع على صفة النقص، وفيه نظر؛ لأن الساعي يجب عليه إذًا الأخذ من غير تخيير. وقيل: لأنه اجتمع فيه صفتان، صفة الإطراق، وهي صفة شرف، وصفة الكبر وهي صفة دنيئة، فخير الساعي، لأنه إنما يختار الأصلح، فمهما ترجح عنده فعله، وهذا أجود من الذي قبله. والاستثناء أيضا راجع إلى التيس فقط، وجوز كثير من العلماء رجوع الاستثناء إلى الثلاثة، ويخير الساعي، فإن رأى الخير للفقراء أخذ، وإلا فلا. «والكرائم» جمع كريمة وهي النفيسة. «والأكولة» المعدة للأكل، أو التي تأكل كثيرا فتكون سمينة، «والربى» قال أحمد: التي وضعت وهي تربي ولدها، وقيل: هي التي في البيت لأجل اللبن. «وغذاء المال» جمع غذي وهو الحمل أو الجدي. أي لا يأخذ الساعي خيار المال ولا رديئه، وإنما يأخذ عدلا بين الكبير والصغير، [والله أعلم] . قال: وتعد عليهم السخلة، ولا تؤخذ منهم. ش: يعني أن النصاب إذا نتج في أثناء الحول فإن حوله حول الأمهات، وإذًا يعد الساعي السخال [فيأخذ عن الجميع] ، لكن لا يأخذ من السخال، وكذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وظاهر كلام الخرقي أن هذا إنما هو في نصاب فيه صغار

وكبار، أما لو كان النصاب كله صغارا كما لو أبدل الكبار بصغار في أثناء الحول، أو ماتت الأمهات وقد كانت نتجت نصابا فحال الحول عليها وهي صغار، فإن المنصوص والمختار عند القاضي وأصحابه، والشيخين جواز أخذ الصغيرة. 1162 - لقول الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقاتلتهم عليه. وبالإجماع لا تؤخذ العناق في الكبار، فيتعين حمله على كون النصاب كله عناقا، ولأن الزكاة مواساة، والمواساة، إنما تكون مما أنعم الله عليه. وقال أبو بكر في الخلاف: لا يؤخذ [من] المراض مريضة، ولا يؤخذ إلا ما يجوز في الأضاحي، [معتمدا على قول أحمد في رواية أحمد بن سعيد: لا يأخذ إلا ما يجوز في الأضاحي] قال القاضي: ويجيء على قوله لا يؤخذ من الصغار صغيرة. فعلى قوله تجب كبيرة صحيحة على قدر المال.

«تنبيه» : (السخلة) من ولد المعز بفتح السين على الأشهر، ويجوز كسرها. (والعناق) الجذعة من المعز التي قاربت الحمل، وقيل: [هي] ما لم يتم سنة من الإناث خاصة، وقيل: ليس المراد في الحديث حقيقة العناق، إنما المراد بالتنكير التقليل، أي: لو منعوني شيئا ما من الزكاة بدليل أن في الرواية الأخرى: لو منعوني عقالا. والعقال على أحد الأقوال الحبل الذي يعقل به البعير، وهو غير واجب في الزكاة على قول، [والله أعلم] . قال: ويؤخذ من المعز الثني، ومن الضأن الجذع. ش: يعني إذا كان النصاب كله كبارا، أو فيه كبار وصغار، والأصل في هذا ما تقدم من قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 1163 - «وعن سعر بن ديسم قال: جاءنا رجلان على بعير، فقالا: إنا رسولا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليك، لتؤدي صدقة غنمك. فقلت: ما علي فيها؟ قالا: شاة. فأعمد إلى شاة قد عرفت مكانها، ممتلئة مخضا وشحما، فأخرجتها إليهما، فقالا: هذه شاة الشافع. وقد نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نأخذ شافعا، فقلت:

فأي شيء تأخذان؟ قالا: عناقا جذعة أو ثنية» . مختصر، رواه أبو داود، والنسائي. «تنبيه» : «الجزع» من الضأن ما له ستة أشهر، «والثني» من المعز ما له سنة، قاله أصحابنا، وقال ابن الأثير: الجذع من المعز ما له سنة، والثني منه ما له سنتان، ولنا وجه آخر أن الجذع من الضأن ما له ثمانية أشهر. انتهى. «والمخض»

اللبن، أي ممتلئة لبنا وشحما. (والشافع) قال ابن الأثير: التي معها ولدها. وفي رواية لأبي داود: التي في بطنها ولدها. وشاة الشافع من إضافة الموصوف إلى الصفة، كصلاة الأولى، والله أعلم. قال: فإن كانت عشرين ضأنا، وعشرين معزا أخذ من أحدهما ما يكون قيمته نصف شاة ضأن، ونصف [شاة] معز. ش: قوله أخذ. أي الساعي، وذلك لأنه يأخذ الوسط، وهذا هو الوسط، وقال أبو بكر: لا تعتبر القيمة كما لو كانا نوعا واحدا، فإنه لا تعتبر القيمة، كذلك هنا، فعلى هذا يخرج وسطا من أيهما شاء، وعلى الأول [ينظر] فإذا كانت الشاة الوسط من الضأن تساوي عشرين درهما، والشاة الوسط من المعز تساوي عشرة دراهم، أخرج من أحدهما ما قيمته خمسة عشر درهما، وكذلك الحكم في البقر والإبل. وقد تضمن كلام الخرقي أنه يضم نوعا الغنم بعضه إلى بعض في إكمال النصاب، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا، وتضمن أيضا أنه

زكاة الخليطين

يخرج من أيهما شاء، وأنه لا يخرج من كل [واحد، ولكل] ما لحقه، والله أعلم. [زكاة الخليطين] قال: وإن اختلط جماعة في خمس من الإبل أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم، وكان مرعاهم، ومسرحهم، ومبيتهم، ومحلبهم، وفحلهم واحدا أخذت منهم الصدقة، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص. ش: الخلطة تؤثر في بهيمة الأنعام، وهي الإبل، والبقر، والغنم، فتجعل المالين كالمال الواحد في الزكاة، وفي أخذ الساعي الفرض من مال أي الخليطين شاء، والأصل في ذلك ما تقدم في حديث أبي بكر [الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -] «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، خشية الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية» . وعن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر، قال: كتب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [كتاب الصدقة] فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض، فقرنه بسيفه، فعمل به أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى قبض، ثم عمل به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حتى قبض، فذكره وفيه «ولا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع ين متفرق، مخافة الصدقة، وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية» رواه أبو داود وابن ماجه، والترمذي وحسنه، وقال البخاري: أرجو أن يكون محفوظا.

(وفيه دليلان) أحدهما: - قوله «ولا يجمع بين متفرق» أي لا يجمع الرجلان النصابين من الغنم، ليجب عليهما في الثمانين شاة واحدة، ولا يجمع الساعي مالي الرجلين ليوجب عليهما الزكاة، كما إذا كان لكل واحد عشرون من الغنم، وقوله: «ولا يفرق بين مجتمع» أي لا يفرق الرجلان ماليهما، لتقل عليهما الزكاة، كما إذا كان لكل واحد [منهما مثلا] مائة [و] شاة، وخلطه فإنه يجب عليهما ثلاث شياه، فإذا فرقاه وجب على كل واحد [منهما] شاة، أو لا يفرق الساعي الثمانين مثلا ليوجب على كل واحد شاة. ومقتضى هذا كله أن للخلطة تأثيرا. (الدليل الثاني) : - قوله: «وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان [فيما] بينهما بالسوية» والتراجع إنما هو في خلطة الأوصاف. إذا تقرر هذا، فقول الخرقي: وإن اختلط جماعة. أراد بالجماعة الاثنين فصاعدا، من الجمع وهو الضم.

وشرط الخليطين أن يكونا من أهل الزكاة، [فلو كان أحدهما من غير أهل الزكاة] فوجوده كعدمه. وقوله: [في] خمس من الإبل، أو ثلاثين من البقر، أو أربعين من الغنم إشارة إلى أن الخلطة [إنما تؤثر في نصاب، وهو واضح، وتنبيه على مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومن وافقه، من أن الخلطة إنما] تؤثر إذا كان لكل واحد نصابا، وعندنا لا يشترط، بل كما يؤثر إذا كان لكل واحد نصابا، يؤثر فيما دونه. وقوله: وكان مرعاهم، ومسرحهم، ومبيتهم، ومحلبهم، وفحلهم واحدا. تنصيص على شروط الخلطة، وأنها إنما تصير المالين بمنزلة المال الواحد بهذه الشروط. 1164 - والأصل في هذه الشروط ما روي عن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[يقول] : «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة، والخليطان ما اجتمعا في الحوض، والفحل، والراعي» . رواه الدراقطني.

وبقية الشروط في معنى هذه الثلاثة، ولأن هذه الشروط تؤثر في الرفق بالخلطاء، فوجب اعتبارها، كالراعي، والفحل، (والمرعي) معروف: الشيء الذي يرعى ويلزم من اتحاده اتحاد موضعه، (والمسرح) فسره أبو محمد بالموضع الذي ترعى فيه الماشية، ويلزم من اتحاده اتحاد المرعى، فلذلك قال أبو محمد وسبقه إلى ذلك ابن حامد: إنهما شيء واحد، وفسره صاحب التلخيص بموضع جمعها عند خروجها للمرعى وهذا أولى، دفعا للتكرار. «والمبيت» موضع مبيتها، «والمحلب» - بفتح الميم -[الموضع] الذي تحلب فيه، قال صاحب التلخيص: مع تمييز [لبن] كل واحد منهما، فإن الشركة فيه ربا، «والفحل» معروف، ومعنى اتحاده أن لا يكون فحولة أحد المالين لا تطرق الآخر. وهذه الشروط لا نزاع في المذهب في اشتراطها فيما أعلمه، وعليها اقتصر أبو البركات، وزاد أبو الخطاب، وصاحب التلخيص، وأبو محمد، وغيرهم: اتحاد المشرب، يعني أن يكون موضع مشربها واحدا وزاد أبو الخطاب، وأبو محمد

وغيرهما: اتحاد الراعي، «وهو منصوص أحمد والحديث. قال أبو محمد: ويحتمل أن يفسر المرعى] في كلام الخرقي بذلك، ليوافق للنص، ويندفع [به] التكرار. ثم بعد هذا هل يشترط فيه الخلطة؟ فيه وجهان مشهوران. وقوله: أخذت منهم الصدقة، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص. يقتضي بعمومه أن للساعي أن يأخذ من مال [أي] الخليطين شاء، مع الحاجة [وعدمها] وهو صحيح، نص عليه أحمد والأصحاب، وإطلاق الحديث يقتضيه، فعلى هذا لو اختلط من له ثلاثون تبيعا، مع شخص له أربعون مسنة، فأخذ الساعي مسنة من الثلاثين وتبيعا من الأربعين، فإن له ذلك، ويرجع صاحب الثلاثين على صاحب الأربعين [بقيمة أربعة أسباع مسنة، وصاحب الأربعين على صاحب الثلاثين] بقيمة ثلاثة أسباع مسنة. وقوله: أخذت منهم الصدقة، وتراجعوا فيما بينهم بالحصص. يعني [في] الصدقة المأخوذة، وقد تقدم مثاله، فلو أخذ الساعي شيئا ظلما لم يرجع المأخوذ منه على خليطه بحصته، إذ من ظلم لا يظلم غيره، نعم لو أخذ غير الفرض بتأويل - كما لو أخذ القيمة، أو أخذ

الصحاح، أو الكبار عن المراض أو الصغار - فإنه يرجع على خليطه بحصته، لأن الساعي فعل ما له فعله، إذ مستنده الاجتهاد، أو تقليد من يسوغ تقليده، وإذًا يصير المأخوذ هو الواجب. واعلم أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نبه بالتأثير في خلطة الأوصاف - وهو أن يكون مال كل واحد [منهما] متميزا بصفة، فخلطاه واشتركا فيما تقدم - على التأثير في خلطة الأعيان، وهو أن يكون أعيان أموالهما مختلطة، كأن ورثا نصاب، أو اشترياه ونحو ذلك بطريق الأولى، نعم الشروط المذكورة مختصة بشركة الأوصاف، والله أعلم. قال: فإن اختلطوا في غير هذا أخذ من كل واحد [منهم] على انفراده، إذا كان ما يخصه [تجب] فيه الزكاة. ش: يعني [أن] الخلطة لا تؤثر في غير بهيمة الأنعام وإذا لم تؤثر فإن الساعي يأخذ من كل واحد منهم على انفراده، بشرط أن يكون ما يخص كل واحد منهم نصابا، وهذا هو المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، مخافة الصدقة» وأرباب الأموال مرادون منه بلا نزاع، وإنما يفرقون أو يجمعون حذارا [من الصدقة] في الماشية، إذ غيرها لا وقص فيه. ثم ما روي من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد «والخليطان ما اجتمعا في الحوض، والفحل،

والراعي» ظاهره حصر الخليطين فيمن هذه صفتهم، وأيضا فالخلطة في الماشية تارة يحصل الرفق فيها لأرباب الأموال، كرجلين لكل واحد منهما أربعون فخلطاها، وتارة للفقراء [كرجلين لكل واحد منهما عشرون، أما غير الماشية فتأثير الخلطة نفع للفقراء] دائما، وضرر على أرباب الأموال، والضرر منفي شرعا، ولهذا قلنا: لا تخرج الصحيحة عن المراض. (والرواية الثانية) تؤثر الخلطة. قال أبو الخطاب في خلافه الصغير: وهو أقيس. 1165 - لمفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» مفهومه أنه إذا بلغهما [أن] فيه صدقة، ولم يفرق بين أن يكون المال لواحد أو لاثنين. وقد يستدل له بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجمع بين متفرق» بناء على أن الخطاب للساعي أيضا، فلا يجمع مائة ومائة ليأخذ زكاتهما، وعلى هذه تؤثر [الخلطة] في شركة الأعيان. وهل تؤثر في شركة الأوصاف؟ فيه وجهان، حكاهما ابن عبدوس وغيره (أحدهما) : لا، اختاره أبو محمد، وابن حمدان (والثاني) : نعم، وهو ظاهر كلام الأكثرين، لإطلاقهم الرواية، وعليه:

شروط وجوب الزكاة

يشترط في الدراهم ونحوها اتحاد الخازن والمخزن، وفي الزروع والشجر اتحاد المشرب والفلاح، والله أعلم. [شروط وجوب الزكاة] قال: والزكاة لا تجب إلا على الأحرار المسلمين. ش: من شرط وجوب] الزكاة الحرية، فلا تجب الزكاة على عبد، على المذهب المعروف المقطوع به، لأنه لا يملك، وإن قلنا يملك فملكه غير تام، أشبه المكاتب، ودليل الأصل يأتي إن شاء الله تعالى. (وعنه) تجب عليه، لدخوله في عموم الخطاب، (وعنه) : بإذن السيد، ونظير هذا الخلاف في وجوب الجمعة عليه، وهو ثم أشهر. ومن شرط الوجوب الإسلام أيضا، بلا نزاع أي وجوب الأداء، إذ الزكاة قربة وطاعة، والكافر ليس من أهلها، ولافتقارها إلى نية، وهي ممتنعة من الكافر، أما الوجوب في الذمة بمعنى العقاب في الآخرة فنعم، بناء على أن الكافر مخاطب بالفروع ويسقط عنه ذلك بإسلامه.

1166 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما قبله» (وعنه) لا تسقط عن المرتد، لالتزامه ذلك بإسلامه] نعم إن زال ملكه بردته سقطت لذلك، والله أعلم. قال: والصبي والمجنون يخرج عنهما وليهما. ش: قد تضمن هذا أن الزكاة تجب في ماليهما، وعموم المسألة السابقة يقتضيه. 1167 - والأصل في ذلك ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناس فقال: «من ولي يتيما له مال فليتجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقة» رواه الترمذي مرفوعا وموقوفا على عمر، ورواه الدراقطني عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من طرق لكنها ضعيفة، قال أحمد في رواية مهنا وسئل عن هذا

الحديث فقال: ليس بصحيح، يرويه المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال له: فرواه غير المثنى؟ قال: نعم. ابن جريج يقول: قال عمرو بن شعيب. مرسلا كذا، ولم يسمعه من عمرو بن شعيب. انتهى. وهذا لا يقدح على قاعدة أحمد، إذ المرسل عنده حجة.

واعتمد أحمد على أقوال الصحابة، فقال في رواية الأثرم: خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزكون مال اليتيم. 1168 - وفي الموطأ: بلغه أن عمر بن الخطاب قال: اتجروا في مال اليتيم لا تأكله الصدقة. 1169 - وفيه أيضا عن القاسم بن محمد قال: كانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تليني أنا وأخا لي يتيمين في حجرها، فكانت تخرج من أموالنا الزكاة. 1170 - وروى الأثرم نحو ذلك عن علي، وابن عمر، وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة.

1171 - إلا رواية عن ابن عباس، وهي معارضة بروايته الأخرى، ولأن الزكاة من حقوق المال، فوجبت على الصبي والمجنون، كنفقة قريبهما وزوجتيهما، وبهذا فارقت الصلاة والحج، لتعلقهما بالبدن، ونية الصبي تضعف عنها. 1172 - «ورفع القلم عن ثلاثة» لا يرد، إذ المخاطب بالإخراج الولي، وتعلق الوجوب [إن قيل] بالعين فلا كلام، وإن قيل بالذمة فكثبوت الصلاة في ذمة النائم. إذا ثبت هذا فالمخاطب هو الولي، لأنه المخاطب بالحقوق [المتعلقة] بهما، بدليل أنه ينفق على قريبهما وزوجتيهما، ويؤدي ما لزمهما من إتلاف ونحو ذلك، والله أعلم.

قال: والسيد يزكي عما في يد عبده، لأنه مالكه. ش: قد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العبد لا يملك، وأن ما في يد العبد ملك للسيد، فإذا كان ملكا له وجبت عليه الزكاة، لدخوله في العمومات المقتضية لذلك، أما إن قلنا [أن] العبد يملك فإن الزكاة لا تجب على السيد، لانتفاء الملك، ولا على العبد لضعف الملك، وقد تقدم ذلك، [والله أعلم] . قال: ولا زكاة على مكاتب. ش: [هذا المذهب بلا ريب] . 1173 - لما روي عن أبي الزبير، عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق» رواه الدارقطني، ورواه أبو بكر موقوفا على جابر. 1174 - وعن ابن عمر: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وليس في ماله زكاة. (وعنه) يزكي بإذن سيده.

وقد دخل في كلام الخرقي. وجوب العشر عليه، وصرح [به] الأصحاب، لأنه عندنا زكاة، فيدخل فيما تقدم. قال: فإن عجز استقبل سيده بما في يده من المال حولا وزكاه إن كان نصابا] . ش: إذا عجز المكاتب فقد استقر ملك سيده على ما في يده، فيستقبل به حولا [كالذي] ورثه، أو اتهبه، ونحو ذلك والله أعلم. قال: وإن أدى وبقي في يده منصب للزكاة استقبل به حولا. ش: إذا أدى المكاتب فقد عتق، فإن فضل في يده نصاب فإن الحول ينعقد عليه حينئذ، لاستقرار ملكه عليه، والله أعلم.

قال: ولا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول. 1175 - ش: روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» رواه ابن ماجه. 1176 - وعن الحارث عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا كانت لك مائتا درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، وليس عليك في الذهب شيء حتى يكون لك عشرون دينارا، فإذا كانت لك عشرون دينارا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك» قال الحارث: فلا أدري أعلي يقول ذلك أو رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ «وليس في مال زكاة حتى يحول عليه الحول» رواه أبو داود.

1177 - وعن القاسم أن أبا بكر [الصديق]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يكن [يأخذ] من مال زكاة حتى يحول عليه الحول. مختصر رواه مالك في الموطأ. واعلم أن كلام الخرقي عام في جميع الأموال، وكذلك الحديث، ويستثنى من ذلك الخارج من الأرض، وما في معناه من حب، وثمر، ومعدن، وركاز، وعسل، أما في الحب والثمر فلقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وإيجاب

الحق يوم الحصاد ينافي اشتراط الحول، ولأن نماءه يتناهى بجعله في الجرين، فوجب أن تستقر الزكاة إذًا، إذ الحكمة في اشتراط الحول [تكامل النماء، وهذا قد تكامل نماؤه، ولهذا قلنا: لا يشترط الحول] للمعدن، والركاز، والعسل؛ لأن بوجودها حصل النماء. وقد نص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من ذلك على المعدن، والبقية كلامه فيه محتمل. ويستثنى أيضا نتاج السائمة، وربح التجارة، فإن حولهما حول أصلهما إن كان نصابا، وإلا فمن كمال النصاب، وقد نبه الخرقي على النتاج بقوله: وتعد عليهم السخلة. وقد تقدم ذلك، والدليل عليه، ولأن الماشية تختلف وقت ولادتها فإفراد كل واحدة بحول يؤدي إلى حرج ومشقة [وهما منتفيان شرعا، وربح التجارة في معنى النتاج، لعدم ضبط حولها] ، وقد نص عليه الخرقي فيما بعد، وشرط النتاج السوم في بقية السنة، فإن كان بشرب اللبن فوجهان. وقد دخل في كلام الخرقي المستفاد بإرث أو عقد، في اشتراط الحول له، [من غير ضم إلى ما معه] وهو صحيح، لعموم ما تقدم.

تعجيل الزكاة

1178 - وفي الترمذي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من استفاد مالا فلا زكاة عليه حتى يحول عليه الحول» زاد في رواية «عند ربه» . قال الترمذي: وقد روي موقوفا على ابن عمر. وقال أحمد - في رواية أبي طالب: - الحديث «ليس على مال [استفيد] زكاة حتى يحول [عليه الحول] » فإن قيل: «اللام للعهد» ، أي حول المال الذي كان معه. قيل: [بل] للعهد العام الذي هو اثنا عشر شهرا. «تنبيه» : قد يقال: [ظاهر] كلام الخرقي أن مضي الحول على جميع النصاب شرط [فلو نقص] الحول نقصا يسيرا أثر، وهذا ظاهر كلام القاضي، لكنه ذكر ذلك فيما إذا وجد النقص في أثناء الحول، وقال أبو بكر: ثبت أن نقص الحول ساعة أو ساعتين معفو عنه، وكذلك قال أبو البركات: لا يؤثر نقصه دون اليوم. قال أبو محمد: ويحتمل أن أبا بكر أراد النقص في طرف الحول، والقاضي قال ذلك في أثنائه، فيرتفع الخلاف، والله أعلم. [تعجيل الزكاة] قال: ويجوز تقدمة الزكاة. ش: يجوز تقدمة الزكاة في الجملة.

1179 - لما روى حجية عن علي «أن العباس سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تعجيل صدقته قبل أن تحل، فرخص له في ذلك» ، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. وفي رواية أخرى للترمذي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعمر: «إنا قد أخذنا زكاة العباس عام الأول للعام» لكن حجية قال أبو حاتم: شيخ لا يحتج بحديثه شبيه بالمجهول. وقال البيهقي: اختلف في هذا الحديث، والمرسل فيه أصح، واختلف عن أحمد فيه، فضعفه في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث، ونقل عنه أيضا إبراهيم بن الحارث، أنه احتج به، وهو يدل على أن الضعف الذي فيه لم يزل الاحتجاج به.

1180 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عمر بن الخطاب على الصدقة، فمنع ابن جميل، وخالد بن الوليد، والعباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد بن الوليد فإنكم تظلمون خالدا، وقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله، وأما العباس عم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي علي ومثلها» ثم قال: «يا عمر، أما شعرت أن [عم] الرجل صنو أبيه؟» رواه الشيخان وغيرهما. والحجة في قوله: «فهي علي ومثلها معها» وهذا لفظ مسلم وأبي داود، ومعناه أنه قد تسلف منه صدقة سنتين، فصارت دينا عليه، وقيل: قبض منه صدقة عامين،

العام الذي شكا فيه العامل، وتعجيل صدقة عام ثان، وقيل: بل ضمن أداءها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عنه سنتين، وعلى هذا لا حجة فيه. ولفظ البخاري والنسائي في هذا الحديث: «هي عليه صدقة له ومثلها معها» قال البيهقي: يبعد أن يكون محفوظا، لأن العباس هاشمي، تحرم عليه الصدقة. وقال غيره: إلا أن يكون [قبل] تحريم الصدقة عليهم، ورأى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إسقاط الزكاة عنه عامين. وقال أبو عبيد: أرى والله أعلم أنه أخر عنه الصدقة عامين لحاجة عرضت للعباس. إذا تقرر هذا فشرط تقدمة الزكاة عن الحول تمام النصاب، ليوجد سبب الزكاة فتصير في سلك تقديم الحكم بعد وجود سببه، وقبل وجود شرطه،

كالكفارة تقدم بعد اليمين، وقبل الحنث، وكفارة القتل، تقدم بعد الجرح وقبل الزهوق، وفدية الأذى تقدم بعد الأذى وقبل الحلق، ونحو ذلك. ويشترط أيضا وجود الحرية والإسلام. والفرق على ما قاله القاضي وغيره أن الحرية والإسلام لا يختصان بالزكاة، بل هما شرطان للحج وغيره، أما الحول فيختص بها، ويرد على هذا الفرق السوم في الماشية، فإن وجوده شرط للإخراج، وهو مختص بالزكاة. وقد يقال: [في الفرق] بين الحول وهذه الشروط: أن الأصل بقاء الحياة، والظاهر مضي الحول، فأقمنا الظاهر مقام الحقيقة أما في هذه الشروط فإن الأصل عدمها، فبقينا على الأصل، ومن جهة النص أن الشارع إنما رخص في هذا الشرط، ولم يرد الترخيص في غيره. ثم اعلم أنه يجوز تقدمة زكاة عام واحد، بلا خلاف عندنا، وفي تعجيلها لأكثر من ذلك روايتان، كذا في كتب أبي محمد، تبعا لأبي الخطاب في الهداية، وقيدهما أبو البركات، وابن الزاغوني [بعامين] ونص أحمد ورد على ذلك، والله أعلم.

«تنبيه» : نقم ينقم، ونقم ينقم، «وأعتده» جمع «عتد» بفتح العين والتاء القوس الصلب، وقيل: المعد للركوب، وقيل: السريع الوثب ورواه جماعة «وأعبده» بالباء الموحدة جمع قلة للعبد، وروى «عقاره» بالقاف والعقار الأرض، والضياع والنخل، ومتاع البيت، وروي «أعتاده» والعتاد ما أعد من سلاح وآلة ومركوب للجهاد «والصنو» المثل أي مثل أبيه، وأن أصله وأصل أبيه واحد، وأصل الصنو [أن] تطلع النخلتان والثلاث من عرق واحد، والله أعلم. قال: ومن قدم زكاة ماله، فأعطاها لمستحقيها فمات المعطى قبل الحول أو بلغ الحول وهو غني منها أو من غيرها، أجزأت [عنه] . ش: المعتبر عندنا حال الإخراج، فإذا دفع الزكاة المعجلة إلى مستحقها فمات قبل الحول أو ارتد، أو وصل الحول وهو غني، أجزأت عنه، ولو دفعها إلى غني أو عبد، فصار عند الحول فقيرا أو حرا لم تجزئه، كما اقتضاه مفهوم

اشتراط النية في الزكاة

[كلام] الخرقي، وصرح به غيره، لأن الله سبحانه جعل الصدقة للأصناف المذكورة، فمن دفعها إليهم فقد خرج عن العهدة لظاهر الآية، ومن دفعها إلى غيرهم لم يخرج عن العهدة، إذ المدفوع لم يخرج عن كونه صدقة، ولأن ما جاز تقديمه على وقت وجوبه فالمراعى فيه حال التعجيل، دون حال الوجوب، أصله الرقبة في الكفارة، إذا أعتقها قبل الموت، أو قبل الحنث، ثم عمي العبد، أو حدث به ما يمنع الإجزاء، فإنه لا يؤثر، كذلك [ها] هنا، [والله أعلم] . [اشتراط النية في الزكاة] قال: ولا يجزئ إخراج الزكاة إلا بنية، إلا أن يأخذها الإمام منه قهرا. ش: الزكاة عبادة، فلا بد لها من النية كالصلاة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» . وقال: «لا عمل إلا بنية» ولا نزاع عندنا في هذا إذا كان المخرج هو المالك، أو النائب عنه، كولي الصبي والمجنون، أما إن أخذها الإمام من غير نية رب المال فإنها

من لا يجوز إعطاؤه من الزكاة

تجزئه في الظاهر بلا نزاع، بمعنى أنه لا يؤمر بأدائها ثانيا. وهل تجزئه في الباطن؟ فيه ثلاثة أوجه: (أحدها) : تجزئه مطلقا، وهو قول القاضي أظنه في المجرد، لأن للإمام ولاية عامة، ولذلك يأخذها من الممتنع، فأشبه ولي الصبي والمجنون، ولأن أخذه يجري مجرى القسم بين الشركاء. (والثاني) : لا تجزئه مطلقا، وهو اختيار أبي الخطاب، وابن عقيل، وأبي العباس في فتاويه إذ الزكاة عبادة، فلا تجزئ بغير نية من وجبت عليه كالصلاة. (والثالث) : يجتزئ بنية الإمام إن أخذها قهرا، لأن له [إذًا] ولاية على الممتنع، فقامت نيته مقام نيته، كولي الصبي والمجنون، ولا يجتزئ بنيته إن أخذها طوعا، لعدم ولايته، وهذا اختيار الخرقي، والله أعلم. [من لا يجوز إعطاؤه من الزكاة] قال: ولا يعطي الصدقة المفروضة للوالدين وإن علوا، ولا للولد وإن سفل. ش: لا يعطي من الصدقة المفروضة للوالدين وإن علت درجتهم، وكانوا من ذوي الأرحام، كأبي أبي أمه، ولا للولد وإن سفل، وكان من ذوي الأرحام، كبنت بنت بنت بنته، نص عليه أحمد والأصحاب، لأن ملك أحدهما في حكم ملك الآخر، بدليل أنه لا يقطع أحدهما بسرقة مال الآخر، ولا تقبل شهادة أحدهما لصاحبه، وإذا كان في حكم ملكه فكأنه

لم يزل ملكه عنه، ومن شرط الزكاة زوال الملك، ولأن الإجماع قد انعقد على أنه لا يجوز دفع الزكاة إلى والديه في الحال التي تجب عليه نفقتهما فنقول: قرابة أثرت [في] منع الزكاة، فوجب أن تؤثر مطلقا، دليله قرابة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تؤثر في المنع وإن كان الخمس معدوما. ومفهوم كلامه أن يجوز دفع صدقة التطوع إليهم، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، ومفهومه أن يجوز دفع الصدقة المفروضة إلى سائر الأقارب، ولا يخلو القريب [من غير عمودي النسب] إما أن تجب نفقته على الدافع أو لا، فإن لم تجب نفقته [عليه] جاز الدفع إليه بلا نزاع، وإن وجبت نفقته ففيه روايتان مشهورتان: (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي، ذكره في باب قسم الفيء والغنيمة، والقاضي في التعليق، وصاحب التلخيص - المنع، قال القاضي: وهي أشهرهما. قلت: وأنصهما. نظرا إلى أن من تلزمه نفقته غني بوجوب النفقة له، فأشبه الغني، ولأن نفع الزكاة والحال هذه يعود إلى الدافع، لأنه يسقط عنه [النفقة] لغنى المدفوع إليه بها، فأشبه ما لو دفعها لعبده. 1181 - وقد روى الأثرم في سننه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا كان ذو قرابة لا تعولهم فأعطهم من زكاة مالك، وإن كنت

تعولهم فلا تعطهم، ولا تجعلها لمن تعول. (والثانية) - وقال أبو محمد في المغني: إنها الظاهرة عنه - الجواز: 1182 - لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصدقة على المسكين صدقة، وهي لذي الرحم ثنتان، صدقة وصلة» . رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه، والصدقة والرحم عامان. 1183 - وعن أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح» رواه أحمد. «تنبيه» : اعلم أن عامة الأصحاب على حكاية الروايتين، وقال القاضي في التعليق في النفقات: وهاهنا يمكن حملها على

اختلاف حالين، فالموضع الذي منع إذا كانت النفقة واجبة، والموضع الذي أجاز إذا لم تجب [كما] إذا لم يفضل عنه ما ينفق عليهم، والله أعلم. قال: ولا للزوج ولا للزوجة. ش: عطف على الوالدين، أما الزوجة فبالإجماع، قاله ابن المنذر، ولأن نفقتها واجبة عليه، وبها تستغني عن الزكاة، وأما الزوج ففيه روايتان منصوصتان: (إحداهما) - وهي اختيار القاضي في التعليق - الجواز، لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية. 1184 - «وعن زينب امرأة عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن» قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليد، وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يجزئ عني، وإلا صرفتها إلى غيركم. قالت: فقال عبد الله: بل ائتيه أنت. قالت: فانطلقت فإذا امرأة [من الأنصار] بباب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجتها حاجتي، قالت:

وكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ألقيت عليه المهابة، قالت: فخرج علينا بلال، فقلنا له: ائت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره أن امرأتين بالباب يسألانك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما، ولا تخبر من نحن. قالت: فدخل [بلال] فسأله، فقال له: «من هما» ؟ قال: امرأة من الأنصار، وزينب. قال: «أي الزيانب؟» قال: امرأة عبد الله. فقال: «لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة» متفق عليه، وللبخاري: أتجزئ عني أن أنفق على زوجي، وأيتام لي في حجري، انتهى. لا يقال: السياق يقتضي التطوع، لأنا نقول الاعتبار باللفظ لا بالسبب. (والثانية) : - وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر - المنع، قياسا لأحد الزوجين على الآخر، ولأن النفع يعود لها، لأنها تتمكن إذًا من أخذ نفقة الموسرين منه أو من أصل النفقة مع العجز

الكلي. وحديث زينب تأوله أحمد في رواية ابن مشيش على غير الزكاة، والله أعلم. قال: ولا الكافر. ش: عطف أيضا على ما تقدم، وهذا إجماع حكاه ابن المنذر. 1185 - وفي الصحيحين في حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أخبرهم أن [الله قد فرض] عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» والصدقة إنما تؤخذ من أغنياء المسلمين، والذمي ليس من فقرائهم، والله أعلم. قال: ولا المملوك. ش: لأن العبد يجب على سيده نفقته، فهو غني بغناه، وقد قال أبو محمد: لا أعلم فيه خلافا. قال: إلا أن يكونوا من العاملين [عليها] ، فيعطون بحق ما عملوا.

ش: هذا الاستثناء راجع إلى الوالدين، والمولودين، والزوجة، والزوج، والكافر والمملوك، وبه يتم الكلام على ما تقدم، وإنما جاز لمن تقدم أن يأخذ من الزكاة إذا كان عاملا لأن الذي يأخذه أجرة عمله، لا زكاة، فلذلك يقدر ما يأخذه بقدر عمله، قال أحمد: يأخذ على قدر عمالته. واعلم أن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تضمن أمورا: (أحدها) : أن قوله: الصدقة المفروضة. يدخل فيه الزكاة، والكفارة، والنذر، وقد يخرج منه النذر بالنظر إلى أصله. وقد نص الخرقي على الكفارة في بابها، مصرحا بأن حكمها حكم الزكاة. ونص أبو الخطاب في الهداية أيضا على ذلك. وخرج بقوله: المفروضة. التطوع، فإنه يجوز لمن تقدم الأخذ منه، ولا ريب في ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] والأسير يومئذ هو الكافر. 1186 - «وعن أسماء بنت أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالت: قدمت علي أمي [وهي مشركة] فقلت: يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة، أفأصلها؟ قال: «نعم صلي أمك» . (الثاني) : أن ظاهر كلامه أن العامل يجوز أن يكون كافرا أو عبدا، أو أبا، وهو مبني على ما تقدم من [أن] الذي يأخذه العامل يأخذه أجرة لا زكاة، لكن اختلف عن أحمد هل من شرطه الإسلام؟ على روايتين: (إحداهما) : لا، وهي اختيار

الخرقي، والقاضي في الجامع الصغير، وفي التعليق الكبير، وابن البنا وجماعة، لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] . ولما تقدم من أن الذي يأخذه العامل يأخذه أجرة لا زكاة، وتجوز إجارة الكافر. (والثانية) : نعم، اختاره القاضي فيما حكاه عنه أبو الخطاب، وكأنه في المجرد، نظرا إلى أن من شرط العامل الأمانة بالاتفاق والكافر ليس بأمين. وأجاب القاضي في التعليق بأنا نشترط أمانته، كما نشترط عدالته في الوصية في السفر. (الأمر الثالث) أن الخرقي إنما جوز دفع الزكاة [لمن تقدم] إذا كانوا عمالا فقط، لأنه إنما استثنى العامل [لا غير] وقال: [أبو الخطاب] وصاحب التلخيص، وأبو البركات: يجوز دفع الزكاة لمن تقدم إذا كانوا عمالا، أو غزاة، أو مؤلفة، أو غارمين لإصلاح ذات البين، وهو مقتضى كلام القاضي في التعليق، لأنهم إنما يأخذون لمصلحتنا، لا لحاجتهم. 1187 - وفي سنن أبي داود، والموطأ عن عطاء بن يسار، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحل الصدقة لغني إلا [لخمسة] ، لغاز في سبيل

الله، أو لعامل عليها، أو لغارم، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل كان له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني» . ولأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معناه، قاله أبو داود، ورواه أحمد، والحاكم، وقال: على شرطهما وحكى أبو محمد في المغني عن الأصحاب أنهم جوزوا الدفع إلى الغارم لمصلحة نفسه، وإن كان من ذوي القربى، وحكى هو احتمالا بالمنع، والله أعلم. قال: ولا لبني هاشم ولا لمواليهم. ش: أي ولا يدفع من الصدقة المفروضة لبني هاشم، ولا لمواليهم. 1188 -[أما بنو هاشم] فلما «روى المطلب بن ربيعة بن الحارث بن [عبد] المطلب، أنه و [الفضل] بن العباس انطلقا إلى رسول الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله، جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات، فنصيب ما يصيب الناس من المنفعة، ونؤدي إليك ما يؤدي الناس. فقال: «إن الصدقة لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس» مختصر، رواه أحمد ومسلم، وأبو داود، والنسائي. 1189 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أخذ الحسن تمرة من تمر الصدقة، فجعلها في فيه، فقال رسول الله: «كخ كخ [ارم بها] أما علمت أنا لا نأكل الصدقة؟» وفي رواية: «أنا لا تحل لنا الصدقة» متفق عليه. 1190 - وأما مواليهم فلما «روى أبو رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا على الصدقة من بني مخزوم، قال أبو رافع: فقال [له] : اصحبني فإنك تصيب منها معي، قلت: حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فانطلق إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «مولى

القوم من أنفسهم، وإنا لا تحل لنا الصدقة» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. ومقتضى كلام الخرقي أنه يجوز دفع صدقة التطوع إليهم، وهو المشهور والمختار من الروايتين. 1191 - نظرا إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المعروف كله صدقة» متفق عليه، ولا خلاف في إباحة المعروف إلى الهاشمي. 1192 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة، فقلت له: أتشرب من الصدقة؟ فقال: إنما

حرمت علينا الصدقة المفروضة. «والرواية الثانية» لا يجوز، لعموم ما تقدم، ورد بأن التعريف للعهد لا للعموم. (فعلى الأولى) : يجوز لهم الأخذ من الوصايا والنذور، قال أبو محمد: لأنهما تطوع وفي الكفارة قولان. ومقتضى كلامه أيضا [أنه لا يجوز أن يأخذوا لعمالتهم، وظاهر كلامه] في قسم الفيء والغنيمة - بل نصه - إباحة ذلك، وهي مسألة: هل من شرط العامل كونه من [غير] ذوي القربى؟ وفيها قولان، المشهور منهما، والمختار لجمهور الأصحاب عدم الاشتراط، نظرا إلى إطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] وبأن ما يأخذه أجرة لا زكاة، وحديث أبي رافع محمول على التنزيه. (والقول الثاني) : وهو اختيار أبي محمد يشترط، لما تقدم من حديث أبي رافع. ويجوز أن يعطوا [أيضا لكونهم] غزاة، أو غارمين لإصلاح ذات البين. قال القاضي: في قياس المذهب، لأنهم يأخذون لمصلحتنا، لا لحاجتهم [وفقرهم] وكذلك قال صاحب التلخيص، وأبو البركات، وزاد: أو مؤلفة.

ومقتضى كلامه أيضا أن لبني المطلب الأخذ من الصدقة المفروضة، لأنه خص المنع ببني هاشم، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لدخولهم تحت قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] خرج [منه] يقينا - بنو هاشم، فما عداه يبقى على مقتضى الأصل، ولأن بني المطلب في درجة بني أمية، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلتقي في النسب مع بني أمية وبني المطلب. 1193 - ولهذا قال عثمان وجبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وإنما بنو المطلب [ونحن في القرابة سواء.؟ وبنو أمية لا

تحرم عليهم الصدقة، فكذلك بنو المطلب] . (والرواية الثانية) : يمنعون كبني هاشم، اختارها القاضي في التعليق، نظرا إلى أنهم يأخذون من الخمس، فمنعوا كبني هاشم. 1194 - يؤيده ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال للعباس: «أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أخذ أوساخ الناس» ؟ فعلل المنع من الأخذ بالخمس، وبنو المطلب يأخذون من الخمس فعلى هذا ما حكم مواليهم؟ قال القاضي: لا نعرف فيه رواية، ولا يمتنع أن نقول فيهم ما نقول في موالي بني هاشم. «تنبيه» : «كخ كخ» زجر للصبيان، وردع عما يلابسونه من الأفعال [قال في اللباب: كخ كخ. ليس بعربي] والله تعالى أعلم. قال: ولا لغني. ش: لا تحل صدقة الفرض لغني في الجملة، لأن الله سبحانه

وتعالى حصرها في الفقراء بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية. 1195 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال] : «لا تحل الصدقة لغني، [ولا لذي مرة سوي» رواه أبو داود، والترمذي وفي رواية لأبي داود: «ولا لذي مرة قوي» . وللنسائي عن أبي هريرة نحوه. 1196 - «وأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا حظ فيها لغني] ، ولا لقوي مكتسب» ويستثنى من ذلك العامل، والمؤلف [والغازي] ، والغارم لإصلاح ذات البين، فإن الغنى لا يمنع من الدفع إليهم، لما

تقدم من أن الدفع لمصلحتنا، لا لحاجتهم، ويجوز للغني أن يأخذ من صدقة التطوع لما تقدم. «تنبيه» : «المرة» القوة والشدة، و «السوي» المستوي الخلق، التام الأعضاء، والله أعلم. قال: وهو الذي يملك خمسين درهما، أو قيمتها من الذهب. ش: اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في حد الغنى، فنقل عنه منها أن يكون له كفاية على الدوام، إما من تجارة، أو من صناعة، أو أجرة عقار، أو غير ذلك، فالحكم على هذه الرواية منوط بالحاجة وعدمها، فمن كان محتاجا حلت له الزكاة وإن ملك نصبا، ومن لم يكن محتاجا لم تحل له وإن لم يملك شيئا، وهذه الرواية اختيار أبي الخطاب، وابن شهاب العكبري. 1197 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقبيصة بن مخارق: «يا قبيصة لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة» وذكر الحديث إلى أن قال: «ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة. فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش، أو سدادا من عيش» رواه مسلم وغيره. فأباح - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –

المسألة حتى يصيب القوام أو السداد، فمن ملك خمسين درهما ولم يصب القوام ولا السداد حل له بمقتضى النص الأخذ، ولأن في العرف أن من كان محتاجا فهو فقير، فيدخل في عموم النص. ونقل عنه جماعة أن من ملك خمسين درهما أو قيمتها من الذهب وإن كان حليا فهو غني وإن لم تحصل له الكفاية، وإن ملك عقارا قيمته عشرة آلاف درهم أو يحصل له من غلته مثل ذلك، أو أقل، أو أكثر، ولا يقوم بكفايته يأخذ من الزكاة، وهذا هو المذهب عند الأصحاب، حتى إن عامة متقدميهم لم يحكوا خلافا. 1198 - وذلك لما روي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من سأل وله ما يغنيه جاءت يوم القيامة خدوشا أو كدوشا في وجهه» قالوا: يا رسول الله وما غناه؟ قال: «خمسون درهما أو حسابها من الذهب» رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وأحمد في رواية الأثرم، فقال: حسن بين وإليه نذهب. انتهى.

1199 - وقال في رواية عبد الله: روي عن سعد، وابن مسعود، وعلي. يعني اعتبار الخمسين، وهذا نص في أن من ملك خمسين درهما أو حسابها من الذهب أنه غني، وما عداه يبقى فيه على قصة قبيصة، وعلى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب» .

مصارف الزكاة

«تنبيه» : «الحجى» العقل، والله أعلم. [مصارف الزكاة] قال: ولا تعطى إلا في الثمانية الأصناف التي سمى الله عز وجل. ش: لأن الله سبحانه وتعالى حصرها في الثمانية بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] الآية. 1200 - «وعن زياد بن الحارث الصدائي قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبايعته. فذكر حديثا طويلا، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة. فقال [له] رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات، حتى حكم فيها، فجزأها ثمانية أجزاء، فإن كنت منهم أعطيتك» رواه أبو داود. وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يعطى منها لبناء قنطرة ولا سقاية، ونحو ذلك، وهو صحيح لما تقدم.

وتضمن أيضا أن حكم المؤلفة باق، وهذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار الأصحاب، لأن الله تعالى ذكرهم، وكذلك المبين لكتابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأعطاهم، فالأصل بقاؤهم، إلا أن يدل دليل على النسخ ولا دليل عليه، واحتماله غير كاف. (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن حكمهم انقطع للاستغناء عنهم. 1201 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا لا نعطي على الإسلام شيئا، (فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) . «تنبيه» : مقتضى كلام الشيخين جريان الخلاف على الإطلاق، ومقتضى كلام [صاحب] التلخيص تبعا لأبي الخطاب في الهداية أن الخلاف مختص بالكافر منهم، أما المسلم فالحكم باق في حقه بلا نزاع، وكلام القاضي في التعليق يحتمل ذلك، والله أعلم. قال: إلا أن يتولى الرجل إخراجها بنفسه، فيسقط العامل.

ش: لما دل كلامه السابق على أنه يجوز دفعها في الثمانية، استثنى من ذلك [ما] إذا تولى الرجل إخراجها بنفسه، فإن العامل يسقط للاستغناء عنه إذًا، إذ هو إنما يأخذ أجر عمله ولا عمل، والله أعلم. قال: وإن أعطاها كلها في صنف واحد أجزأه إذا لم يخرجه إلى الغنى. ش: المشهور والمختار عند جمهور الأصحاب من الروايتين أنه يجوز لرجل دفع زكاته إلى صنف واحد من الأصناف بشرطه، بناء على أن اللام في الآية الكريمة للاختصاص، ولبيان جهة المصرف، ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] [فاقتصر سبحانه على الفقراء بعد ذكر الصدقات وهو عام] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] فجعل الحق - والظاهر أنه الزكاة - لصنفين فقط. 1202 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمعاذ: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد في فقرائهم» فلم يذكر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا صنفا واحدا.

1203 - ويروى «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لسلمة بن صخر: «اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فقل له فليدفعها إليك» . 1204 - «وعن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» مختصر، رواه مسلم وغيره. (وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رواية أخرى: يجب أن يستوعب الأصناف إلا أن يخرجها بنفسه فيسقط العامل، اختارها أبو بكر في تعاليق أبي حفص، بناء على أن اللام في الآية الكريمة للملك، ولحديث زياد بن الحارث الصدائي فإنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جَزَّأَها ثمانية أجزاء» وحمل على بيان وجه المصرف.

وقول الخرقي: ما لم يخرجه إلى الغنى. بيان لشرط الدفع، وهو أنه إذا دفع إلى صنف أو أكثر إنما يدفع ما تحصل به الكفاية والاستغناء، وتزول به الحاجة، إلا أن قول الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذا لم يخرجه إلى الغنى. ظاهره أن شرط الإعطاء أن لا يوصله إلى الغنى، [بل لا بد أن ينقص عنه، ونص أحمد والأصحاب يقتضي أنه يوصله إلى الغنى] لكن لا يزيد عليه، وإذًا فلنتعرض إلى ما يدفع إلى كل واحد من الأصناف، على سبيل الاختصار. فيدفع إلى الفقير والمسكين أدنى ما يغنيهما، فإن كان المدفوع إليهم غير الذهب والفضة دفع إليهما [تمام] كفايتهما لسنة، قاله القاضي، وأبو البركات، وغيرهما، نظرا إلى أن ظاهر كلام أحمد اعتبار كفاية العمر [وكفاية العمر] تحصل بذلك، إذ في كل سنة يدفع إليهما، [فتحصل لهما] الكفاية الأبدية، فإن كان المدفوع إليه ذا حرفة، واحتاج إلى ما يعمل به من عدة ونحو ذلك، دفع إليه ما يحصل ذلك، وكذلك الحكم إن كان المدفوع إليهما ذهبا أو فضة، وقلنا: المعتبر في الغنى الكفاية، من غير نظر إلى قدر من المال. وإن قلنا: الغنى يحصل بخمسين درهما، أو قيمتها من الذهب. لم يدفع إليهما أكثر من ذلك، نص عليه أحمد في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث، ومحمد بن الحكم، وينبغي

نقل الزكاة

أنه إذا كان معهما قدر من ذلك أنه يكمل لهما تمام الخمسين، أو قيمتها من الذهب. ويدفع إلى العامل أجرة مثله، ويدفع إلى المؤلف ما يحصل به التأليف، قاله أبو محمد، وقال صاحب التلخيص فيه: يدفع إليه ما يراه الإمام، وهو قريب من الأول، ويدفع في الرقاب بأن يعطى المكاتب ما عليه إن لم يجد وفاءه، أو يفتدي أسيرا، ونحو ذلك، على ما سيأتي [بيانه] إن شاء الله تعالى، ويدفع إلى الغارم قدر دينه. وإلى الغازي ما يحتاج إليه لغزوه. وإلى الفقير ما يحج به في رواية، ويدفع إلى ابن السبيل ما يوصله بلده، ولا يزاد أحد منهم على ذلك، والله أعلم. [نقل الزكاة] قال: ولا تخرج الصدقة من بلدها إلى بلد تقصر في مثله الصلاة. ش: المذهب أنه لا يجوز نقل الزكاة من بلدها إلى بلد تقصر في مثله الصلاة، مع القدرة على دفعها في بلدها، هذا المعروف في النقل، وظاهر كلام أحمد [والخرقي] وإن كان القاضي في روايتيه، وجامعه الصغير، وتعليقه الكبير، ترجم المسألة بلفظ الكراهة، واحتج أحمد بحديث معاذ المتفق عليه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم» .

لا يقال: المراد فقراء المسلمين. لأنا نقول: الضمير راجع إلى أهل اليمن، إذ هم المبعوث إليهم، أي صدقة تؤخذ من أغنياء مسلمي اليمن، فترد في فقراء مسلمي اليمن، (فإن قيل) : اليمن بلاد كثيرة، فعموم الحديث يقتضي الدفع إلى جميع فقرائها؟ (قيل) : لكنه ظاهر في منع الدفع في إقليم آخر، وإذًا فيتعارض ظاهران، والحمل على جانب العموم أولى، لتطرق التخصيص إليه غالبا، ثم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فترد في فقرائهم» في معنى الأمر، فلو حمل على جميع [بلاد] اليمن لحمل على المكروه، وحمل الأمر على المكروه ممتنع. 1205 - واحتج أحمد أيضا بما روى الأثرم في سننه، عن طاوس [قال: في كتاب] معاذ بن جبل: «من انتقل من مخلاف إلى مخلاف فإن صدقته وعشره في مخلاف عشيرته» انتهى. 1206 - وعن عمران بن حصين، أنه استعمل على الصدقة، فلما رجع قيل له: أين المال؟ قال: وللمال أرسلتني؟ أخذناه من حيث

كنا نأخذه على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ووضعناه حيث كنا نضعه. 1207 - ولما بعث معاذ الصدقة إلى عمر من اليمن، أنكر ذلك عمر، وقال: لم أبعثك جابيا، ولا آخذ جزية، ولكن بعثتك لتأخذ من أغنياء الناس، فترد في فقرائهم. فقال معاذ: ما بعثت إليك بشيء وأنا أجد من يأخذه مني. رواه أبو عبيد في الأموال ولأن في النقل ضياع فقراء تلك البلد، وهو عكس مشروعية الزكاة. (وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رواية [أخرى] : يجوز النقل مطلقا، لظاهر قوله سبحانه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية، ولم يفرق سبحانه بين فقراء وفقراء، «ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لقبيصة: «أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها» فدل على أن الصدقة كانت تنقل. (وأجيب) عن الآية بأن المراد منها بيان المصرف، وعن الحديث بأنه محمول على الفاضل من الصدقات.

1208 - وبهذا أجاب أحمد عما روي من نقل الصدقات إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى أبي بكر، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. (وعنه) رواية ثالثة - نص عليها في رواية جماعة - أنه يجوز نقلها إلى الثغور خاصة، وقال في هذا غير شيء، وذلك لأن المرابط قد لا يمكنه الخروج [من] الثغر، فالحاجة داعية إلى البعث إليه، لا سيما وما هم عليه فإنه من أعظم أمور الدين، بل هو أصلها. فعلى الأولى إن خالف ونقل فهل يجزئه؟ فيه روايتان، حكاهما أبو الخطاب وأتباعه، وعن القاضي أنه قال: لم أجد عنه نصا في المسألة. واختار هو وشيخه المنع لأنه دفعها إلى غير من أمر بدفعها إليه، أشبه ما لو دفعها إلى غير الأصناف. واختار أبو الخطاب الجواز؛ لأن الأدلة في المسألة متقاربة، وقد وصلت إلى الفقراء، فدخلت في عموم الآية، ولعل قصة عمر المتقدمة تشهد لذلك.

وقول الخرقي: ولا تخرج الصدقة. اللام في الصدقة للعهد المتقدم، وهو الزكاة، ويشمل زكاة المال والبدن، أما صدقة التطوع فيجوز نقلها بلا كراهة، وأما الكفارات، والنذور، والوصايا، فيجوز نقلها، قاله في التلخيص، [قال] : وخرج القاضي وجها في الكفارات بالمنع، فيخرج في النذور والوصية مثله. (قلت) : ومراد صاحب التلخيص بالوصية؛ الوصية المطلقة، كالوصية للفقراء [مثلا] أما الوصية لفقراء بلد فإنه يتعين صرفها في فقرائه، نص عليه أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم. وقوله: من بلدها. أي [من] البلد الذي وجبت فيه، أو الذي المال فيه، فلو كان ماله غائبا عنه زكاه في بلده، نص عليه في رواية بكر بن محمد، فقال: أحب إلي أن تؤدي حيث يكون المال، فإن كان بعضه حيث

هو، وبعضه في بلد آخر، يؤدي زكاة كل مال حيث هو. وظاهر كلامه أنه ولو في نصاب من السائمة، وفيه وجه آخر أنه في السائمة - والحال هذه - يجزئ الإخراج في بعضها، حذارا من التشقيص، ولو كان ماله تجارة يسافر به، فقال أحمد في رواية يوسف بن موسى: يزكيه في الموضع الذي مقامه فيه أكثر. (وعنه) أنه سهل في إعطاء البعض في بلد، والبعض في البلد الآخر. وعن القاضي: يخرج زكاته حيث حال [عليه] حوله. أما زكاة البدن فيزكي حيث البدن. وقوله: إلى بلد تقصر في مثله الصلاة. [مفهومه أنها تنقل إلى بلد لا تقصر في مثله الصلاة] ، ونص عليه أحمد والأصحاب، لأن ما قارب البلد في حكمه. وكلام الخرقي [وغيره] شامل للساعي، ولرب المال، وهو ظاهر كلام أحمد، وشامل لما إذا كان في البلد البعيد أقارب محاويج أو لم يكن، وصرح به غيره، ويستثنى مما تقدم ما إذا

استغنى فقراء بلده، فإنه يفرقها في أقرب البلاد إليه وكذلك إن كان ماله ببادية فرق زكاته في أقرب البلاد إليه. «تنبيه» : «المخلاف» والله أعلم. قال: وإذا باع ماشية قبل الحول بمثلها زكاها إذا تم حوله من وقت ملكه الأول. ش: إذا باع ماشية - وهي الإبل، والبقر، والغنم - في أثناء الحول بمثلها، بأن باع إبلا بإبل، أو بقرا ببقر، أو غنما بغنم، فإن حوله لا ينقطع، فيزكيه إذا تم الحول، نظرا إلى أنه لم يزل في ملكه نصاب من الجنس، أشبه ما لو نتج النصاب نصابا، ثم ماتت الأمات فإن الحول لا ينقطع، كذلك هاهنا، وخرج أبو الخطاب قولا بالانقطاع، ولم يلتفت لذلك أبو محمد في المغني، والله أعلم.

قال: وكذلك إن باع مائتي درهم بعشرين دينارا، أو عشرين دينارا بمائتي درهم، فلا تبطل الزكاة بانتقالها. ش: لما كان قياس ما تقدم أنه لو باع نصابا بجنسه أن الحول لا ينقطع، وأنه لو باعه بغير جنسه [أن الحول ينقطع، أراد أن ينبه على أن الدراهم والذهب يخالفان ذلك، فلو باع نصابا من الفضة بنصاب] من الذهب [أو نصابا من الذهب] بنصاب من الدراهم، لم ينقطع الحول، لأنهما في حكم الجنس الواحد، إذ هما قيم المتلفات، وأروش الجنايات، والنفع بأحدهما كالنفع بالآخر. وفي معنى ما ذكره الخرقي إذا باع عرضا للتجارة [بأحدهما] أو اشتراهما به، فإن الحول لا ينقطع، إذ الزكاة في قيمتها، وهي أحدهما. واعلم أن الذي ذكره الخرقي - من أن الحول لا ينقطع ببيع أحد النقدين بالآخر - يحتمل أنه بناء منه على ما سيأتي له إن شاء الله تعالى من ضم أحد النقدين للآخر، وهي طريقة أبي محمد، وطائفة من الأصحاب، وصححها أبو العباس.

وطريقة القاضي وجماعة منهم أبو البركات أن الحول لا ينقطع [مطلقا] وإن لم نقل بالضم، والله أعلم. قال: ومن كانت عنده ماشية، فباعها قبل حلول] الحول بدراهم، فرارا من الزكاة، لم تبطل الزكاة عنه. ش: إذا باع ماشية قبل الحول بدراهم، فلا يخلو إما أن يفعل ذلك فرارا من الزكاة أو لا، فإن فعله فرارا من الزكاة، لم تسقط [الزكاة] عنه، لأن سبب الوجوب - وهو انعقاد الحول، مع ملك النصاب - قد وجد، فلا تسقط [عنه] بفعل محرم، وهذه قاعدة لنا: أن الحيل كلها - لإسقاط واجب، أو لارتكاب محرم - باطلة. ويأتي إن شاء الله تعالى الكلام عليها في غير هذا الموضع. وقد عاقب الله سبحانه من فر من الصدقة وقصد منع المسكين، قال الله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] إلى قوله: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم: 23] {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} [القلم: 24] الآية. وإن لم يفعل ذلك فرارا من الزكاة فقد انقطع الحول، ولا زكاة عليه، لأن الحول لم يحل على مال، ولا على ما [هو] في معناه.

هلاك المال الزكوي

واعلم أن الذي ذكره الخرقي على سبيل المثال، والضابط على سبيل التقريب والاختصار أنه إن باع نصابا بجنسه لم ينقطع الحول، وبغير جنسه فارا فكذلك، وغير فار ينقطع، إلا في بيع العرض بأحد النقدين، وبيع أحد النقدين بالآخر على ما تقدم. «تنبيه» : ظاهر كلام الخرقي أنه يشترط أن يكون البيع فرارا في آخر الحول، وهو الغالب على كلام كثير من المتقدمين، واختيار طائفة من المتأخرين، كابن عقيل، وأبي البركات، وغيرهما، وكان القاضي قديما، وأبو الخطاب، وطائفة من الأصحاب، ومنهم أبو محمد، يخصصون ذلك بما إذا [كان البيع] فعله في آخر الحول، كالنصف الثاني من الحول، أما لو كان في أوله، أو وسطه، فإن الحول ينقطع، والله أعلم. [هلاك المال الزكوي] قال: والزكاة تجب في الذمة بحلول الحول] ، وإن تلف المال، فرط أو لم يفرط. ش: هذا الكلام دل على أحكام: (أحدها) أن الزكاة تجب في الذمة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار صاحب

التلخيص، وأبي الخطاب في الانتصار، وغالى فزعم أن المسألة رواية واحدة، ورد مأخذ شيخه في التعليق بالعين، لأنها زكاة واجبة فكان محلها الذمة كزكاة الفطر، ولأنها لو وجبت في المال لامتنع ربه من التصرف فيه بالبيع والهبة كالمرهون، ولامتنع من الأداء من غيره، ولملك الفقراء جزءا منه مشاعا، بحيث يختصون بنمائه، واللوازم باطلة، وإذا بطلت بطل الملزوم. والرواية الثانية - وهي المشهورة، حتى إن القاضي في التعليق وفي الجامع لم يذكر غيرها، واختارها أبو الخطاب في خلافه الصغير، والشيرازي وصححها أبو البركات في الشرح. 1209 - لظاهر قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في أربعين شاة شاة، وفيما سقت السماء العشر، فإذا كان لك مائتا درهم، وحال عليها الحول، ففيها خمسة دراهم، فإذا كانت لك عشرون دينارا، وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار» فأثبت الزكاة في المال.

وفائدة الخلاف - على ما قاله القاضي في التعليق، وأبو الخطاب، والشيخان، وغير واحد - لو مضى حولان على نصاب لم يؤد زكاته (فإن قلنا) : الزكاة تتعلق بالعين. لم يجب إلا زكاة واحدة، لأن النصاب قد تعلق للفقراء به حق، فنقص الملك في ذلك القدر، ومن شرط وجوب الزكاة استقرار الملك في جميع النصاب وتمامه، وهذا الملك غير تام في جميعه. (وإن قلنا) : الزكاة تتعلق بالذمة. وجبت زكاته لأن النصاب لم يتعلق به شيء، فالملك في جميعه تام، اللهم إلا إذا قلنا: إن دين الله يمنع كدين الآدمي. فإنه لا تجب إلا زكاة واحدة، قاله القاضي وغيره، ومنع ذلك صاحب التلخيص، متابعة لابن عقيل، وقال هنا: لا يمنع، لأن الشيء لا يمنع مساويه. ثم منع أصل البناء وقال: إنه مناقض لما فسروا به الوجوب في العين، [إذ قد فسروه بأنه كتعلق الجناية بالمجني لا كتعلق المرتهن بالرهن، ولا كتعلق الشريك بالعين] المشتركة، ولهذا صح البيع قبل الأداء، نص عليه، وتبقى الزكاة على البائع، لاختياره الإخراج من غيره، نعم للبائع فسخ البيع في قدر الزكاة، مع إعسار البائع، ثم لو كان كتعلق الجناية بالعبد المجني، لسقط [بتلف] المال، كما تسقط الجناية بتلف العبد المجني [عليه] قال: وإذًا تتكرر الزكاة

بتكرار الأحوال على كلتا الروايتين، وتكون فائدة الوجوب في العين انتهاؤه إذا استأصلت المال، بخلاف الوجوب في الذمة، وتقديم الزكاة على الرهن - قلت: وما تقدم من التعليل لا يرد عليه شيء إن شاء الله تعالى، وقول القاضي وغيره: إنه كتعليق الجناية بالعبد المجني. هو معنى ما قلناه، إذ لا شك أن تعلق الجناية بالمجني ينقص الملك فيه [ويزلزله] مع أن الملك باق، لا يمتنع بيعه، ولا هبته، ونحو ذلك. وقوله: إنه يلزم سقوط الزكاة بتلف المال، كما تسقط الجناية بموت المجني. قلنا: الغرض من التشبيه بالعبد الجاني نقصان الملك مع بقائه لا التشبيه به في جميع أحكامه، والزكاة وإن تعلقت بالعين، فهي مع ذلك لها تعلق بالذمة قطعا، فإذا وجبت لا تسقط، كما لا تسقط الصلاة إذا دخل الوقت، وإن لم يتمكن المكلف من الأداء، ثم قوله: إن فائدة الوجوب في العين انتهاؤه إذا استأصلت المال، وهو معنى ما قالوه، فالذي فر منه وقع فيه. واعلم أن محل الخلاف والتردد فيما عدا شياه الإبل، أما في شياه الإبل فإنها تجب في الذمة بلا تردد، ولأن الواجب من غير الجنس، وشذ السامري فقال بالتعليق بالعين على روايتها، قال: لأن التعليق حكمي.

(الحكم الثاني) : مما دل عليه كلام الخرقي أن الزكاة لا تسقط بتلف المال وإن لم يفرط في الإخراج، وهذا المذهب المعروف المشهور، إذ الزكاة حق آدمي، أو مشتملة عليه، فلا تسقط بعد وجوبها كدين الآدمي، أو زكاة واجبة، فلا تسقط بتلف المال، كزكاة الفطر (وحكى) الشيخان رواية بالسقوط قبل إمكان الأداء، وذكرها في المغني نصا من رواية الميموني، واختارها، لأن الزكاة في يده أمانة كالوديعة، والذي في التعليق من رواية الميموني وجوب الزكاة فرط أو لم يفرط. (وحكي) من رواية النيسابوري ما يدل على أنه في الماشية تسقط الزكاة، وفي الدراهم لا تسقط، قال أبو حفص: وهو خلاف ما روى الجماعة، ولعل مدرك هذه الرواية أن السعاة كانوا يعتبرون ما وجدوا [لا غير] ولهذا لم يمنع الدين في الأموال الظاهرة، وقد منع القاضي أنها أمانة، وفرق بأن [في] الأمانة لا يلزمه مؤنة التسليم، وهنا يلزمه.

ويستثنى المعشرات، فإنها إذا تلفت بآفة سماوية بعد الوجوب تسقط، إذ استقراره منوط بالوضع في الجرين. (الحكم الثالث) : أن الزكاة تجب بحلول الحول، ولا يشترط في الوجوب إمكان الأداء وهو صحيح، لمفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» ولأنه لو اشترط إمكان الأداء لم ينعقد الحول الثاني حتى يتمكن من الأداء، وليس كذلك، والله أعلم. قال: ومن رهن ماشية فحال عليها الحول أدى منها إذا لم [يكن] له مال يؤدي عنها، والباقي رهن. ش: قد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحكام (أحدها) : أن الزكاة تجب في العين المرهونة، وهو واضح، لأن الملك فيها تام. (الثاني) : أنه إذا كان معه ما يؤدي منه الزكاة غير الرهن لزمه الإخراج، إذ الزكاة بمنزلة مؤونة الرهن، [ومؤونة الرهن] على الراهن، ولا يجوز له الإخراج من الرهن، لتعلق حق المرتهن به. (الثالث) : إذا لم يكن له ما يؤدي منه الزكاة غير الرهن، فإنه

باب زكاة الزروع والثمار

يخرج منه، بناء على ما تقدم من أن تعلق الزكاة بالنصاب، كتعلق الجناية بالعبد المجني، وحق الجناية مقدم على حق المرتهن، فكذلك حق الزكاة، وهذا واضح على القول بتعلق الزكاة بالنصاب، أما على القول بتعلقها بالذمة ففيه نظر، لأن حق الراهن يتعلق بالرهن والذمة، وحق الفقراء - والحال هذه - لا يتعلق إلا بالذمة، وما له تعلق بالعين، آكد مما لا تعلق له بها. [وقد يقال: إن المرتهن دخل على ذلك، لأنه دخل على حكم الشرع، ومن حكم الشرع وجوب الزكاة] . واعلم أن عموم كلام الخرقي هنا يقتضي أن الدين لا يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة لأن كلامه يشمل ما [إذا] كان الفاضل عن الدين نصابا، وما إذا نقص عن النصاب، وسيأتي ذلك إن شاء الله سبحانه وتعالى. [باب زكاة الزروع والثمار] ش: الأصل في وجوب الزكاة في ذلك في الجملة قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . 1210 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال [في] حقه: الزكاة المفروضة. وقَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]

وقد استفاضت السنة بذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأجمع المسلمون عليه في البر، والشعير، والتمر، والزبيب، والله أعلم. قال: وكل ما أخرج الله عز وجل من الأرض مما ييبس ويبقى، مما يكال ويدخر، ويبلغ خمسة أوسق فصاعدا، ففيه العشر، إن كان سقيه من السماء والسيوح، وإن كان يسقى بالدوالي والنواضح وما فيه الكلف فنصف العشر. ش: يشترط [في] وجوب الزكاة في الخارج من الأرض شروط: (أحدها) : أن يكون مما ييبس، فلا تجب في الخضراوات كالقثاء، والخيار، ونحو ذلك. 1211 - لما «روي أن معاذا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخضراوات، [فكتب] : «ليس فيها شيء» رواه الترمذي وضعفه.

1212 - وعن عطاء بن السائب قال: «أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضراوات صدقة، فقال له موسى [بن طلحة] : ليس لك ذلك إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «ليس في ذلك صدقة» رواه الأثرم في سننه، وهو قوي في المراسيل، لاحتجاج من أرسله به. (الشرط الثاني) : أن

يكون مما يبقى، أي يدخر عادة، فلا تجب في التين ونحوه، لعدم ادخاره، لأن غير المدخر لم تكمل ماليته، لعدم التمكن من الانتفاع به في المآل، أشبه الخضر. 1213 - وقد روى الأثرم بإسناده أن عامل عمر كتب إليه في كروم فيها من الفرسك ما هو أكثر من الكرم أضعافا مضاعفة، فكتب إليه عمر: ليس عليها عشر، هي من العضاه. (الشرط الثالث) : أن يكون مما يكال، فلا تجب في الجوز، والأجاص، والتين، ونحوها، لانتفاء كيلها.

1214 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدر ذلك بالكيل فقال: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» متفق عليه. وفي لفظ لمسلم وأحمد: «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة» والتقدير بالكيل يدل على إناطة الحكم به. (الشرط الرابع) : أن يبلغ ذلك خمسة أوسق لما تقدم، ثم لا بد مع ذلك أن يكون أنبتته أرض مملوكة له. وقد شمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما كان من القوت كالحنطة، والشعير، والقطنيات كالباقلا، والعدس، والماش، ونحو ذلك، ومن البزور كبزر القثاء، والخيار [ونحوهما] ومن الأبازير، كالكزبرة، والكمون، ونحوهما [ومن الحبوب كحب البقول، وحب الفجل، وسائر الحبوب بالشروط السابقة] وخالف في ذلك ابن حامد، فلم يوجب

الزكاة في الأبازير وحب البقول [انتهى] . وكذلك جميع الثمار كالتمر، واللوز، والفستق ونحوها. وشمل أيضا ما أنبته الآدميون كما تقدم، وما نبت بنفسه كبزر قطونا [ونحوه] وهو اختيار القاضي، وصاحب التلخيص، وغيرهما، بشرط أن يكون قد نبت في أرضه كما تقدم. وشرط ابن حامد أن يكون مما أنبته الآدمي، فلو نبت بنفسه فلا زكاة، وهو اختيار أبي محمد. وشمل أيضا ما كان حبا أو ثمرا كما تقدم، وما ليس كذلك كالأشنان، والصعتر ونحوهما، وهو اختيار العامة. وشرط أبو محمد أن يكون حبا أو ثمرا، تمسكا بما تقدم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة» . ويتلخص الخلاف في ثلاثة شروط: (أحدها) : هل من شرطه أن لا يكون أبازير؟

(الثاني) : هل من شرطه أن يكون مما أنبته الآدمي؟ (الثالث) : هل من شرطه أن يكون حبا أو ثمرا؟ إذا تقرر هذا فالواجب فيما سقي بغير كلفة - كالسيوح، والسماء، ونحو ذلك - العشر، وفيما سقي بكلفة - كالدوالي، والنواضح - نصف العشر. 1215 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فيما سقت الأنهار والغيم العشر، وفيما سقي بالسانية نصف العشر» رواه مسلم وغيره. 1216 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريا العشر وما سقي بالنضح نصف العشر» رواه البخاري وغيره.

1217 - «وقال معاذ: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى اليمن، فأمرني أن آخذ مما سقت السماء العشر، وما سقي بالدوالي نصف العشر» . رواه النسائي. ثم اعلم أنه قد خرج من كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الزيتون، لأنه لا ييبس، ولا يدخر على حاله، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أبي بكر، والقاضي في التعليق، لفوات الشروط السابقة. (والرواية الثانية) : تجب فيه الزكاة. اختارها الشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، نظرا إلى أنه مكيل ولهذا اعتبر نصابه بالأوسق نص عليه، ولأن ما يخرج منه يدخر، ولأن الله تعالى قال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] بعد ذكر الزيتون. 1218 - والمراد بالحق الزكاة، كذا روي عن ابن عباس وغيره، والصحيح أن هذه الآية مكية، نزلت قبل فرض الزكاة.

وخرج من كلامه القطن أيضا والزعفران، لعدم كيلهما، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر والقاضي في التعليق، وأبي محمد، لفوات الشرط. (والرواية الثانية) : يجب فيها الزكاة. وهو اختيار الشيرازي، وابن عقيل، قياسا على الأشنان ونحوه. وفي العصفر، والورس وجهان، بناء على الروايتين، ونصاب هذه - حيث أوجبنا الزكاة فيهما - أما الزيتون فبالكيل، نص عليه، وأما القطن، والزعفران، وما لحق بهما، فاختلف كلام القاضي، فقال في المجرد: يعتبر نصاب ذلك بالوزن، فلا بد وأن يبلغ الواحد منها ألفا وستمائة رطل. وتبعه على ذلك أبو محمد. وقال في التعليق: لم يقع لي عن أحمد مقدار النصاب. قال: ويتوجه أن يقدر بما تكون قيمته خمسة أوسق، من أدنى نبات يزكى، وتبعه على ذلك أبو البركات، وجعل القاضي في التعليق العصفر تبعا للقرطم، فإن بلغ القرطم خمسة أوسق وجبت الزكاة، وإلا فلا.

«تنبيه» : «الفرسك» هو الخوخ، و «العضاه» . و «الأوسق» والأوساق جمع وسق بفتح الواو وكسرها. و «السواني» جمع سانية، وهي الناقلة التي يستقى عليها. 1219 - ومنه حديث البعير الذي يشكي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال أهله: كنا نسنو عليه. أي نسقي. و «العثري» . . . و «الدوالي» جمع دالية، وهي الدولاب تديره البقر، والناعورة يديرها الماء و «النواضح» جمع ناضح وناضحة، وهما البعير والناقة، ويستقى عليها و «السيوح» جمع سيح، قال الجوهري: هو الماء الجاري على وجه الأرض، والمراد الأنهار ونحوها، والله أعلم. قال: والوسق ستون صاعا. ش: «الوسق» بفتح الواو وكسرها، والأشهر في اللغة [أنه] كما قال الخرقي، وأطبق علماء الشريعة على ذلك.

1220 - وفي المسند، وسنن ابن ماجه، عن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الوسق ستون صاعا. والله أعلم. قال: والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراقي. ش: قد تقدم قدر الرطل العراقي، وتقدم صاع الماء هل هو خمسة أرطال أو ثمانية؟ أما ما عداه فلا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه خمسة أرطال وثلث. 1221 - لما روى الدارقطني عن إسحاق بن سليمان الرازي، قال: قلت لمالك بن أنس: أبا عبد الله كم قدر صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي أنا حزرته. فقلت: أبا عبد الله خالفت شيخ القوم، قال: من هو؟ قلت: أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ثمانية أرطال. فغضب غضبا شديدا، ثم قال لجلسائه: يا فلان هات صاع جدك، ويا فلان هات صاع جدك، ويا فلان هات صاع جدك. قال إسحاق: فاجتمعت آصع، فقال: ما تحفظون في هذا؟ فقال هذا: حدثني أبي

عن أبيه، أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال هذا: حدثني أبي، عن أخيه، أنه كان يؤدي بهذا الصاع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال الآخر: حدثني أبي، عن أمه، أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال مالك: أنا حزرت هذه، فوجدتها خمسة أرطال وثلثا. 1222 - وروي أن أبا يوسف سأل مالك بن أنس بحضرة الرشيد عن مقدار صاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستمهله إلى الغد، ثم جاء من الغد، ومعه أولاد المهاجرين والأنصار، ومع كل واحد منهم صاعه الذي ورثه عن مورثه، الذي كان يؤدي به الزكاة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. «تنبيهات» : «أحدها» : ظاهر كلام الخرقي هنا أن النصاب هنا تحديد، فلو نقص يسيرا فلا زكاة فيه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» وهو قول القاضي، قال: إلا أن يكون نقصا يدخل [في] المكاييل، كالأوقية ونحوها فلا

تؤثر، وهذا إحدى الروايتين، (والثانية) : أنه تقريب، وعليها قال في التلخيص: لا تسقط إلا بمقدار لو وزع على الخمسة أوسق لظهر النقصان. (الثاني) : النصاب معتبر بالكيل، [وإنما ذكر الوزن ليضبط ويحفظ، ولذلك تعلقت الزكاة بالمكيل] دون الموزون، والمكيل يختلف [فيه] وزنه، ونص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة. قال في التلخيص: لا تعويل على الوزن إلا في البر، ثم مكيل ذلك من جميع الحبوب. انتهى. (وعنه) أنه قدر ذلك بالعدس. (الثالث) : تعتبر الخمسة الأوسق بعد التصفية في الحبوب بلا نزاع، وبعد الجفاف في الثمار على المذهب، عند أبي محمد، وصاحب التلخيص، وابن عقيل في التذكرة، وصححه القاضي [في التعليق] ، وأبو الخطاب في الهداية. وقال في الروايتين: إنها الأشبه في المذهب. 1223 - لأن في حديث أبي سعيد المتقدم «ليس فيما دون خمسة أوساق من تمر ولا حب صدقة» رواه مسلم وأحمد، والنسائي، لكن في رواية أخرى لمسلم «ثمر» بالثاء ذات

النقط الثلاث. 1224 - وفي الدارقطني في «حديث عتاب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يخرص العنب زبيبا، كما تخرص التمر» . (وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -) رواية أخرى: أنه يعتبر نصاب ثمرة النخل والكرم رطبا وعنبا، ويؤخذ منه مثل عشر الرطب، أو نصف عشره، تمرا أو زبيبا، وهذا نص عنه، واختيار الخلال، وصاحبه أبي بكر في الخلاف ونصبها الشريف، وأبو الخطاب، وشيخهم في خلافاتهم، مع أن شيخهم صحح الأولى وذلك لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» مفهومه [أنه] إذا بلغها وجبت، ولم يعتبر الجفاف. 1225 - وعن عتاب بن أسيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يخرص العنب كما يخرص النخل، فتؤخذ زكاته زبيبا، كما تؤخذ صدقة النخل تمرا» . رواه أبو داود، والترمذي. فأمر

بخرص العنب ولم يشترط الجفاف، (وحمل أبو محمد) هذه الرواية على أنه [أراد أن] يؤخذ عشر ما يجيء منه من التمر إذا بلغ رطبا خمسة أوسق. قال: لأن إيجاب قدر عشر الرطب من التمر، إيجاب لأكثر من العشر، وذلك يخالف النص والإجماع. (وهذا) التأويل لا يصح، فإن أحمد قال في رواية الأثرم: قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يخرص ما يؤول إليه، وإنما هو على ظاهر الحديث، قيل له: فإن خرص عليه مائة وسق رطبا، يعطي عشرة أوسق تمرا؟ فقال: نعم هو على ظاهر الحديث، وهذا نص صريح في مخالفة التأويل، وقوله: إنه يخالف النص والإجماع مردود إذ لا نص صريح، وأحمد قد خالف، فأين الإجماع، والله أعلم. قال: والأرض أرضان، صلح وعنوة، فما كان من صلح ففيه الصدقة.

ش: يعني إذا صالحنا الكفار على أرض كانت بأيديهم، فيقع ذلك تارة على أن الأرض لنا، ونقرها معهم بالخراج، وتارة على أن الأرض لهم، ولنا الخراج عنها، فالخراج والحال هذه في حكم الجزية، متى أسلموا سقط عنهم، وإن انتقلت إلى مسلم فلا خراج عليه، وإن زرعها المسلم فعليه الزكاة بشرطها، بالإجماع، قاله ابن المنذر. والغرض من ذكر هذه [المسألة] أن أرض الصلح، ليس فيها إلا العشر، بخلاف أرض العنوة، على ما سيأتي إن شاء الله، والله أعلم. قال: وما كان عنوة أدى عنها الخراج، وزكى ما بقي إذا بلغ خمسة أوسق، وكان لمسلم. ش: العنوة هي ما أجلي عنها أهلها بالسيف، وهي أرض كثيرة فتحها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ووقفها على المسلمين، وضرب عليها خراجا معلوما، يؤخذ ممن هي في يده في كل عام، فهذه إذا زرعت اجتمع الخراج والعشر بشرطه، وهذا الغرض من ذكر هذه المسألة، أن العشر والخراج يجتمعان، لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]

وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فيما سقت السماء العشر» ولأن الخراج بمنزلة الأجرة، فجاز اجتماعه مع العشر، كالأرض المؤجرة، ولأنهما حقان يجبان عن عين، فلم ينف أحدهما الآخر، دليله قيمة الصيد والجزاء، وأجرة الدكان وزكاة التجارة. 1226 - وما يروى عن أبي حنيفة عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجتمع العشر والخراج على مسلم في أرضه» فيرويه عن أبي حنيفة يحيى بن عنبسة وهو هالك. قال ابن حبان: ليس هذا الحديث من كلام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحيى بن عنبسة دجال يضع الحديث، وهو كذب على أبي حنيفة ومن بعده، إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقال ابن عدي: لم يصل هذا الحديث غير يحيى، وهو مكشوف الأمر، ورواياته عن الثقات الموضوعات.

وقول الخرقي: وكان لمسلم؛ لأن الزكاة لا تجب إلا على مسلم، ونبه على هذا وإن كان فهم من قوله السابق: الأحرار المسلمين؛ لئلا يتوهم [متوهم] أن اختصاص هذه المسألة بالذكر لاختصاصها بحكم غير ما تقدم. وقوله: أدى عنها [الخراج] وزكى ما بقي إن كان خمسة أوسق؛ لأن الزكاة لا تجب إلا في هذا القدر، وهو صريح في أن الخراج مقدم على الزكاة، فتمتنع الزكاة في قدره. وأصل هذا أن الدين يمنع الزكاة في الأموال الباطنة، كالنقدين، والعروض، على المذهب بلا ريب. وهل يمنع في الأموال الظاهرة، كالزروع، والماشية؟ (فيه روايتان) ، أشهرهما - وهي اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي، وأكثر الأصحاب، يمنع؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث معاذ:

«أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم» والمدين ليس بغني. 1227 - يرشحه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» ولأن الزكاة مواساة، ولا مواساة مع الدين. 1228 - واعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خطب الناس فقال: هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤد دينه، ثم ليزك ما بقي. فلم يأمر بإخراج الزكاة عن المؤدى في الدين، وهذا قاله بمحضر من الصحابة، ولم ينقل مخالفته، فيكون إجماعا (والثانية) : لا يمنع لعموم «في خمس من الإبل شاة، وفيما سقت السماء العشر» ؛ ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث [السعاة] إلى أرباب الأموال الظاهرة، وكذلك خلفاؤه بعده، ولم ينقل [عنهم] أنهم سألوا أربابها: هل عليكم دين؟ ولأن أنفس

[الفقراء] تتشوف إليها، بخلاف الباطنة، وعلى هذه الرواية ما لزمه لمؤنة الزرع، من أجرة كحصاد، وكراء أرض، ونحو ذلك يمنع، نص عليه أحمد، وذكره ابن أبي موسى، وقال: رواية واحدة، وتبعه صاحب التلخيص، وحكى أبو البركات رواية أخرى: أن الدين لا يمنع في الظاهرة مطلقا. قال أبو العباس: ولم أجد بها نصا عن أحمد. إذا تقرر هذا فقول الخرقي في الخراج: إنه يؤديه، ويزكي الباقي إن بلغ خمسة أوسق. يحتمل أن يتعدى هذا إلى كل دين، فيكون من مذهبه أن الدين يمنع مطلقا، كما هو المشهور، ويكون غرضه من المسألة السابقة فيما إذا رهن ماشية، أن الزكاة تؤدى من عين الرهن، إذا لم يكن له ما يؤدي [عنه] ، وهذا أوفق للمذهب ويحتمل أن يريد أن الدين لا

يمنع في الظاهرة، بناء على [ظاهر] إطلاقه ثم، وعلى مقتضى كلامه في باب زكاة الدين، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، لكن يستثنى من ذلك ما لزمه من مؤنة الزرع، كما نص عليه أحمد، وقال ابن أبي موسى: إنه رواية واحدة، والله أعلم. قال: وتضم الحنطة إلى الشعير، وتزكى إذا كانت خمسة أوسق، وكذلك القطنيات. ش: اختلفت الرواية عن أحمد: هل تضم الحبوب بعضها إلى بعض؟ . (فعنه) : لا تضم مطلقا، وإليها ميل أبي محمد، لأنهما جنسان، فلا يضم أحدهما إلى الآخر، كالتمر، والزبيب، لكن قد نقل إسحاق بن إبراهيم أن أحمد رجع عن هذا، فقال بعد أن نقل عنه القول بعدم الضم: قد رجع أبو عبد الله عن هذه المسألة، وقال: يضم الذهب إلى الفضة ويزكى، وكذلك الحنطة إلى الشعير، يضم بعضه إلى بعض، وضم القليل إلى الكثير هو أحوط. قال القاضي: وظاهر هذا الرجوع عن منع الضم. (وعنه) : يضم بعضها إلى بعض مطلقا، اختارها أبو بكر، والقاضي في التعليق على ما رأيت في النسخة المنقول منها، لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة فيما دون خمسة أوساق من حب ولا تمر» مفهومه أنه إذا بلغ خمسة أوساق من حب

ففيه الصدقة، وهو شامل بظاهره كل حب، [وكذا] علل أحمد بأنه يطلق عليها اسم حبوب، واسم طعام. (وعنه) : تضم الحنطة إلى الشعير، والقطنيات بعضها إلى بعض. اختارها الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وحكيت عن القاضي، وهي ظاهر كلام الخرقي، لأن الحنطة والشعير في حكم الجنس الواحد، لاتفاقهما في المنبت، والمحصد، والاقتيات، فجرى ذلك مجرى أنواع الحنطة، كالبر، والعلس، وكذلك القطاني تتفق في المنبت، والمحصد وكونها تؤكل أدما وطبخا. «تنبيه» : القطنيات بكسر القاف وفتحها، مع تخفيف الياء وتشديدها، فيهما، جمع قطنية، ويجمع أيضا [على] قطاني، فعليه من: قطن يقطن في البيت. أي يمكث فيه، وهي حبوب كثيرة، فمنها الحمص، والعدس، والماش، والجلبان، واللوبيا، والدخن والأرز، والباقلا، فهذه وما يطلق عليه هذا الاسم يضم بعضه إلى بعض، أما البزور فلا تضم إليها، لكن يضم بعضها إلى بعض على هذه الرواية، كالكزبرة والكراويا ونحو ذلك، وحبوب البقول لا تضم إلى القطاني،

ولا البزور، وما تقارب منها ضم بعضه إلى بعض، وما شككنا فيه فلا يضم، وحيث قيل بالضم فإنه يؤخذ من كل جنس ما يخصه، ولا يؤخذ من جنس عن غيره إلا في الذهب والفضة، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: وكذلك الذهب والفضة، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه لا يضم، ويخرج من كل صنف [على انفراده] إذا كان منصبا للزكاة، والله أعلم. ش: أي وكذلك الذهب والفضة يضم بعضها إلى بعض، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه لا يضم، ويخرج من كل صنف إذا كان منصبا للزكاة، أي محلا للزكاة، بأن يبلغ نصابا بانفراده، وقد تقدمت هذه الرواية في الحبوب، أما الذهب والفضة ففي ضم أحدها إلى الآخر -[إذا لم يبلغ كل منهما نصابا، أو بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر] روايتان مشهورتان: (إحداهما) : يضمان. اختارها الخلال، والقاضي، وولده، وعامة أصحابه، كالشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا، لأنهما في حكم الجنس الواحد، إذ هما قيم المتلفات، وأروش الجنايات، ويجمعهما لفظ الأثمان، واستدل القاضي بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الآية قال: فظاهرها وجوب الزكاة فيهما في

عموم الأحوال، وأجاب عن إفراد الضمير بأن العرب تذكر المذكر، وتعطف عليه المؤنث، ثم تكني عن المؤنث وتريدهما، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] (والثانية) : لا يضمان. اختارها أبو بكر في التنبيه، مع اختياره في الحبوب الضم، وهو ظاهر رواية الميموني، وقال لأحمد: إذا كنا نذهب في الذهب والفضة إلى أن لا نجمعهما [لم لا نشبه الحبوب بهما؟ قال: هذه يقع عليها - إذا لم يبلغ كل منهما نصابا، أو بلغ أحدهما ولم يبلغ الآخر - اسم طعام، واسم حبوب. قال: ورأيت أبا عبد الله في الحبوب يحب جمعها] ، وفي الذهب، والبقر، والغنم، والفضة لا يجمع، وذلك لأنهما جنسان فلا يجمعان، كالتمر، والزبيب، ولظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما [دون] خمس أواق صدقة» .

1229 - وفي حديث عمرو بن شعيب: «ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب شيء» انتهى. وحيث قلنا بالضم فإنه بالأجزاء لا بالقيمة، على ظاهر رواية الأثرم، وسأله عن رجل عنده ثمانية دنانير، ومائة درهم، فقال: [إنما قال] : من قال فيها الزكاة إذا كانت عشرة دنانير، ومائة درهم. وهذا اختيار القاضي في جامعه وفي تعليقه، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما وأبي محمد، نظرا إلى أنه لو وجب التقويم في حال الانفراد لوجب في حال الاجتماع، دليله العبد في التجارة، يقوم منفردا، ومع غيره من العروض، وعن القاضي - أظنه في المجرد - أنه قال: قياس المذهب أنه يعتبر الأحظ للمساكين [من الأجزاء والقيمة، قال في التعليق: وقد أومأ إليه أحمد في رواية المروذي، فقال: أذهب إلى الضم، هو أحظ للمساكين] ، فاعتبر الاحتياط قياسا على الثوبين في التجارة. «تنبيه» : مما يتعلق بالضم: هل يخرج أحد النقدين عن الآخر؟ فيه روايتان مشهورتان، اختار أبو بكر منهما المنع، كما اختار عدم الضم، ووافقه أبو الخطاب هنا، وخالفه

باب زكاة الذهب والفضة

ثم، فاختار الضم، وأبو محمد صحح [هنا] الجواز. ولم يصحح [ثم] شيئا، والله سبحانه أعلم. [باب زكاة الذهب والفضة] ش: الأصل في زكاة الذهب والفضة قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الآية، فظاهر هذا الوعيد أنه عن واجب، وفي البخاري في حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وفي الرقة ربع العشر» . وفي الصحيحين في حديث أبي سعيد: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» » . 1230 - وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى به جنبه، وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي الله بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار» مع أن هذا إجماع في الجملة.

«تنبيه» : «الرقة» : الهاء فيها بدل من الواو في الورق؛ والورق بكسر الراء وإسكانها الفضة المضروبة، وقيل: وغيرها، كما هو المراد بالحديث. «والأواقي» : بتشديد الياء [وتخفيفها، جمع أوقية بضم الهمزة، وتشديد الياء] ، وأنكر الجمهور «وقية» وحكى اللحياني الجواز. وجمعها وقايا. والأوقية الشرعية أربعون درهما بلا نزاع، وخص «الجنب، [والجبين] والظهر» بالذكر دون بقية الأعضاء، نظرا لحال البخيل المسؤول لأنه إذا سئل قطب وجهه، وجمع أساريره، فيتجعد جبينه، ثم إن تكرر الطلب ناء بجنبه، ثم إن ألح عليه في الطلب ولى بظهره، وهي النهاية في الرد. و «فيرى» يروى على البناء للفاعل والمفعول، والله أعلم.

قال: ولا زكاة فيما دون المائتي درهم، إلا أن يكون في ملكه ذهب أو عروض للتجارة، فيتم به. ش: نصاب الفضة مائتا درهم، بلا نزاع بين أهل العلم، وقد ثبت ذلك بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ففي الصحيحين [ما تقدم] من حديث أبي سعيد: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» . 1231 - وفي البخاري من حديث أنس: «فإن لم يكن إلا تسعين ومائة، فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها» ، فإذا كان عنده دون المائتي درهم، فلا زكاة [عليه] ، إلا أن يكون عنده ذهب فيتم به [لما تقدم - على المذهب - من أن كل واحد من النقدين يضم إلى الآخر، أو يكون عنده عروض للتجارة فيتم به] إذ عرض التجارة يضم إلى كل واحد من النقدين، ويكمل به نصابه بلا نزاع، لأن الزكاة تجب في قيمتها، وهي تقوم بكل واحد منهما، فتضم إلى كل واحد منهما، والله أعلم. قال: وكذلك دون العشرين مثقالا. ش: يعني من الذهب، لا زكاة فيها إلا أن تكون عنده فضة أو عروض، فيتم به، وإنما قلنا: نصاب الذهب عشرون مثقالا. 1232 - لما تقدم في حديث علي: «وليس عليك شيء -[يعني] في

الذهب - حتى يكون لك عشرون دينارا، [فإذا كانت لك عشرون دينارا] وحال عليها الحول، ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك» قال الحارث: فلا أدري أعلي يقول: بحساب ذلك، أم رفعه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أبو داود. 1233 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ليس في أقل من عشرين مثقالا من الذهب، ولا في أقل من مائتي درهم صدقة» رواه أبو عبيد. وظاهر كلام الخرقي أن النصاب [في النقدين] تحديد، فلو نقص يسيرا لم تجب الزكاة، وهو اختيار أبي الفرج والشيرازي، وأبي محمد، اعتمادا على الأصل واستصحابا [للبراءة] الأصلية، حتى يتحقق [الموجب] ، وتمسكا بظاهر قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» . والمشهور عند الأصحاب أنه لا يعتبر النقص [اليسير] كالحبة والحبتين، لاختلاف الموازين بذلك، ثم بعد ذلك يؤثر نقص ثمن، في رواية اختارها أبو بكر، وفي أخرى في الفضة ثلث درهم، وفي أخرى في الذهب نصف مثقال، ولا يؤثر الثلث. «تنبيه» : لا فرق بين التبر والمضروب، كما اقتضاه كلام الخرقي، وشرط النصاب أن يكون خالصا، فلو كان مغشوشا فلا زكاة حتى يبلغ النقد الخالص فيه نصابا، لأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –

: «ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة» إنما ينصرف للخالص، والدراهم المعتبرة هنا، وفي نصاب السرقة، وغير ذلك، هي التي كل عشرة فيها سبعة مثاقيل بمثقال الذهب، وكانت الدراهم في الصدر الأول صنفين (طبرية) ، وهي أربعة دوانيق (وسوداء) وهي ثمانية دوانيق، فجمعا وجعلا درهمين متساويين، كل درهم ستة دوانيق، فعل ذلك بنو أمية، فصارت عدلا بين الصغير والكبير، ووافقت سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرهمه الذي قدر به المقادير الشرعية، أما المثقال فلم يختلف في جاهلية ولا إسلام، والله أعلم. قال: فإذا تمت ففيها ربع العشر. ش: أي إذا تمت الفضة مائتي درهم ففيها ربع العشر، وإذا تمت العشرون دينارا ففيها ربع العشر، لما تقدم من حديثي أبي سعيد وعلي، قال أبو محمد: ولا نعلم فيه خلافا؛ والله أعلم. قال: وفي زيادتها وإن قلت. ش: أي في زيادة المائتي درهم وإن قلت ربع العشر، وفي زيادة العشرين دينارا وإن قلت ربع العشر، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وفي الرقة ربع العشر» خرج منه ما دون المائتي درهم بالنص،

زكاة الحلي وآنية الذهب والفضة

فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم، وما تقدم من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والله أعلم. [زكاة الحلي وآنية الذهب والفضة] قال: وليس في حلي المرأة زكاة إذا كان مما تلبسه أو تعيره. ش: المذهب المنصوص، المختار للأصحاب أنه لا زكاة في الحلي في الجملة، قال أحمد في رواية الأثرم: فيه عن خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1234 - وقد رواه مالك في الموطأ عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وابن عمر. 1235 - ورواه الدارقطني عن أسماء بنت أبي بكر، وأنس بن مالك.

1236 - وقال أبو يعلى: أنبأنا القاضي أبو الطيب الطبري، قال: ثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبد الباقي، قال: ثنا أبو الحسين أحمد بن المظفر الحافظ، قال: ثنا أحمد بن عمير بن جوصا، قال: ثنا إبراهيم بن أيوب [قال: ثنا عافية بن أيوب] عن ليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس في الحلي زكاة» وهذا نص، إلا أنه ضعيف من قبل عافية» .

ولأنه عدل به عن النماء إلى فعل مباح، أشبه ثياب البذلة، وعبيد الخدمة، ودور السكنى، أو نقول: معد لاستعمال مباح، أشبه ما ذكرنا. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى حكاها ابن أبي موسى: تجب فيه الزكاة، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] الآية، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر» ولعموم مفهوم: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» . 1237 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن [جده] قال: «إن امرأة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعها ابنة لها، وفي يد ابنتها مسكتان غليظتان

من ذهب، فقال: «أتعطين زكاة هذا؟» قالت: لا. قال: «أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار؟» [فخلعتهما] ، فألقتهما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت: هما لله ولرسوله» . رواه الترمذي، والنسائي، وأبو داود، وهذا لفظه. 1238 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأى في يدي فتخات من ورق، فقال: «ما هذا يا عائشة» ؟ فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله. قال: «أتؤدين زكاتهن؟» فقلت: لا. أو ما شاء الله. قال: «هو حسبك من النار» . رواه أبو داود. وقد أجيب عن عموم الآية،

والحديثين الأولين بدعوى تخصيصهما بما تقدم. وعن الحديثين الآخرين بأن فيهما كلاما، وقد قال الترمذي بعد ذكر حديث عمرو بن شعيب: لا يصح في هذا الباب شيء وعلى تسليم الصحة بأن ذلك حين كان الحلي بالذهب حراما على النساء، فلما أبيح لهن سقطت منه الزكاة، قاله القاضي وغيره. 1239 -[أو] بأن المراد بالزكاة عاريته، هكذا روي عن سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وغيرهما، ويجوز التوعد على المندوبات، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 7] أو بأن المراد ما صنع بعد وجوب الزكاة فيه. إذا تقرر هذا فقد تقدمت الإشارة بأن الأصل وجوب الزكاة في الذهب والفضة، إلا حيث عدل به عن جهة النماء، إلى فعل مباح مطلوب، كما إذا صيره للبس، أو للعارية.

أما الحلي المحرم - قال أبو العباس: وكذلك المكروه، وما أعد للكراء، أو التجارة أو النفقة عند الحاجة [إليه]- فهو باق على أصله في وجوب الزكاة. وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين قليل الحلي وكثيره، وهو المذهب. نعم يقيد ذلك بما جرت عادتهن بلبسه، كالسوار، والتاج، والخلخال، بخلاف ما لم تجر عادتهن به، كمنطقة الرجل، واتخاذ قبقاب [من ذهب] ونحو ذلك، فإنه يحرم، وتجب فيه الزكاة. وجعل ابن حامد ما بلغ ألف مثقال يحرم [في حقها مطلقا، وحكاه في التلخيص رواية، وتوسط ابن عقيل فقال: إن بلغ الحلي الواحد ألف مثقال حرم] وإن زاد المجموع على ألف فلا. «تنبيه» : «المسكة» بالتحريك السوار من الذبل، وقيل: هي من قرن الأوعال، وإذا كانت من غير ذلك أضيف إلى ما هي منه، فيقال: من ذهب، أو من فضة. أو غير ذلك «والفتخة» بالتحريك، وجمعها فتخات بفتحتين، حلقة من فضة لا فص لها، فإذا كان فيها فص فهي خاتم. وقال

عبد الرزاق: هي الخواتم، وتجعل في الأرجل، وقيل في الأيدي، والله أعلم. قال: وليس في حلية سيف الرجل، ومنطقته، وخاتمه زكاة. ش: إنما سقطت [الزكاة] من ذلك لإباحتها للرجال، فهي كحلية النساء، [إذ قد صرفت عن جهة النماء إلى فعل مباح، أشبهت ثياب البذلة] والدليل على إباحة ذلك. 1240 - أما السيف فلأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كانت قبيعة سيف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فضة» .

1241 - وقال هشام بن عروة: كان سيف الزبير محلى بالفضة. رواهما الأثرم. وأما المنطقة فلأن ذلك معتاد للرجل، أشبه الخاتم، وهذا المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كرهها، لما فيها من الفخر، والخيلاء. 1242 - وأما الخاتم فلأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ خاتما من ورق؛» متفق عليه. «تنبيهات» : «أحدها» : قول الخرقي يشمل التحلية بالذهب والفضة، وينبغي أن يحمل كلامه على الفضة، لأن الذهب لا يباح منه إلا حلية السيف، على المشهور [من الروايتين] ولا يلحق به كل سلاح على قول العامة، خلافا للآمدي، وما دعت إليه الضرورة كشد الأسنان به، ولا يباح اليسير منه مفردا كالخاتم، بلا خلاف أعلمه ولا تبعا لغيره على المذهب، فلو حمل كلامه على الذهب لزم فساده في الخاتم قطعا، وفي المنطقة على المذهب. (الثاني) : قول الخرقي: حلية السيف. يشمل القبيعة، وهي ما على طرف مقبضه وغيرها، وأكثر الأصحاب يخص ذلك بالقبيعة، وكان أبو العباس كتب في شرح العمدة فيما يباح من

الذهب قبيعة السيف، ثم ضرب عليه، وكتب: حلية السيف. وهذا مقتضى كلام أحمد. 1243 - لأنه قال: روي أنه كان في سيف عثمان بن حنيف مسمار من ذهب. وقال: إنه كان لعمر سيف فيه سبائك من ذهب. [والمنطقة] تجعل في الوسط، وتسميها العامة الحياصة. (الثالث) : ظاهر كلام الخرقي [أنه] لا يباح للرجل تحلية غير هذه الثلاثة. وقد خرج القاضي في الجوشن، والدرع، والخوذة، والمغفر وجهين. (أحدهما) : أنها كالمنطقة، وهو قول الأكثرين، أبي الخطاب، وابن عقيل، والمتأخرين؛ (الثاني) : المنع رواية واحدة، كما هو ظاهر كلام الخرقي، والخف، والران، عند القاضي، والآمدي، وأبي الخطاب، والأكثرين كالجوشن، وعند ابن عقيل لا يباح، ففيه الزكاة، وكذلك الحكم عنده في الكمران، والخريطة قال أبو العباس: وعلى قول غيره هما كالخف. وقال التميمي: يكره عمل خفين

زكاة الركاز

من فضة كالنعلين، ولا يحرم، وألحق أبو الخطاب وجماعة حمائل السيف - وهي علائقه -[بالمنطقة] وجزم القاضي بالمنع، وحكاه عن أحمد. والله أعلم. قال: والمتخذ آنية الذهب والفضة عاص، وفيها الزكاة. ش: هذا المشهور المعروف، المنصوص [عليه] من الروايتين، حتى أن القاضي في التعليق، وجمهور الأصحاب لم يحكوا خلافا، إذ الاتخاذ يراد للاستعمال، والاستعمال محرم، فكذلك الاتخاذ، دليله آلات اللهو، كالطنبور، والعود. (والرواية الثانية) : يباح الاتخاذ، نظرا [إلى] أن المحرم الاستعمال، أما الاتخاذ فإنه تغيير المال من صفة إلى صفة، فلا يؤثر والله أعلم. [زكاة الركاز] قال: وما كان من الركاز - وهو دفن الجاهلية، قل أو كثر - ففيه الخمس لأهل الصدقات، وباقيه فله. ش: عرف الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الركاز بأنه دفن الجاهلية، ويعرف ذلك بأن توجد عليه أسماء ملوكهم، أو صلبانهم، ونحو ذلك. قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الموطأ: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، والذي سمعت أهل العلم يقولون، أن الركاز إنما هو

دفن يوجد من دفن الجاهلية، ما لم يطلب بمال، ولم يتكلف فيه بنفقة، ولا كبير عمل ولا مؤنة. انتهى أما ما وجد عليه علامة المسلمين كأسماء ملوكهم، وأنبيائهم، أو آية من القرآن، أو نحو ذلك، أو على بعضه، فليس بركاز، لأن ذلك قرينة صيرورته إلى مسلم، وكذلك لو لم يوجد عليه علامة، لانتفاء الشرط، وهو علامة الكفار. إذا تقرر [ذلك] فما حكم بأنه ركاز ففيه الخمس. 1244 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العجماء جبار، والبئر جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس» رواه الجماعة، ولا فرق بين القليل والكثير، لعموم الحديث، ولأنه مال مخمس من مال الكفار، أشبه الغنيمة، ومصرف الخمس لأهل الزكاة، في إحدى الروايتين، اختارها الخرقي، نظرا إلى أنه مستفاد من الأرض، أشبه المعدن. 1245 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أمر صاحب الكنز أن يتصدق به على المساكين، حكاه الإمام أحمد. (والرواية الثانية) –

وهي اختيار ابن أبي موسى، والقاضي في تعليقه وجامعه وابن عقيل، وأبي محمد - أن مصرفه مصرف الفيء، لأنه مال كافر مخموس، أشبه الغنيمة. 1246 - ويروى ذلك عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والباقي بعد الخمس لواجده، وله صور: (إحداها) : إذا وجده في موات، أو في أرض لا يعلم مالكها، أو في ملكه الذي ملكه بالإحياء، ونحو ذلك، فهذا يكون له بلا نزاع. (الثانية) : وجده في ملك انتقل إليه بهبة أو بيع، أو غير ذلك، [فهو] لواجده أيضا، في أنص الروايتين، واختيار القاضي في التعليق، نظرا إلى أنه يملك بالظهور عليه، أشبه الغنيمة. (والرواية الثانية) : يكون لمن انتقل عنه إن اعترف به، وإلا فلأول مالك، قال أبو محمد: فإن لم يعرف أول مالك فكالمال الضائع، نظرا إلى أنه يملك بملك الأرض كأجزائها

ولهذه المسألة التفات إلى مسألة المباح من الكلأ ونحوه، هل يملك بملك الأرض، أو لا يملك إلا بالأخذ؟ فيه روايتان، كذا أشار إليه القاضي وغيره. (الثالثة) : وجده في ملك آدمي معصوم، كأن دخل دار إنسان فحفر فوجد ركازا، فحكمه حكم الذي قبله، فيه الروايتان عند أبي البركات، وأبي محمد في المقنع وقطع صاحب التلخيص هنا تبعا لأبي الخطاب في الهداية أنه لمالك الأرض، وقد أورد على القاضي هذه المسألة، فقال: لا يمتنع أن يقول: [إنه] لواجده، كما لو وجد طائرا أو ظبيا. انتهى. وقد نص أحمد فيمن استأجر إنسانا ليحفر له بئرا، فوجد ركازا، أنه لصاحب الدار، ونص في رواية الكحال في الساكن إذا وجد كنزا أنه له، ومن مسألة الأجير أخذ القاضي وغيره الرواية في الملك المنتقل إليه [أنه يكون لمن انتقل إليه] قالوا: لأنه لم يجعله للأجير بالظهور، بل جعله لمالك الأرض، ثم إن القاضي في التعليق كلامه يقتضي أنه سلم مسألة الأجير، فقال لما أورد عليه الأجير: عمله لغيره. وهذا التسليم يمنع من جريان الخلاف، ويشعر بتقرير النصوص على ظواهرها.

(الرابعة) : وجده في أرض الحرب بنفسه، فهو ركاز، وإن وجده بجماعة لهم منعة فهو غنيمة. واعلم أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق [بين] أن يكون الركاز ذهبا، أو عروضا، أو غير ذلك، ونص عليه أحمد. وظاهر كلامه أيضا أن هذا الخمس لا يجب إلا على مسلم، فإنه قال: يصرف لأهل الصدقات. فيكون صدقة، وقد قال: إن الصدقة لا تجب إلا على الأحرار المسلمين. وكذا قال في التلخيص، إن قلنا: إنه زكاة. لم تجب على الذمي، [وإن قلنا: إنه فيء. وجب عليه، وقدم في المغني أنه يجب على الذمي] ثم قال: ويتخرج أن لا يجب عليه بناء على أنه زكاة، قال: والأول أصح. «تنبيه» : العجماء: الدابة، والجبار: الهدر، يعني أن الدابة إذا أتلفت شيئا فلا شيء فيه، وهذا له موضع يذكر فيه إن شاء الله تعالى، وكذا المعدن والبئر إذا تلف بهما أجير فلا شيء فيه، والله أعلم. قال: وإذا أخرج من المعادن [من الذهب] عشرين مثقالا، أو من الورق مائتي درهم، أو قيمة ذلك من الرصاص، أو الزئبق أو الصفر، أو غير ذلك مما يستخرج من الأرض، فعليه الزكاة من وقته والله أعلم.

ش: المعادن جمع معدن بكسر الدال، قال الأزهري: سمي معدنا لعدون ما أنبته الله سبحانه وتعالى فيه، أي لإقامته يقال: عدن بالمكان، يعدن عدونا، والمعدن المكان الذي عدن فيه الجوهر من جواهر الأرض، أي ذلك كان. انتهى، وصفة المعدن الذي تتعلق به الزكاة ما يخرج من الأرض، مما يخلق [فيها] من غيرها، سواء كان أثمانا أو غيرها، ينطبع أو لا ينطبع، لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] والأصل في وجوب الزكاة فيه في الجملة هذه الآية الكريمة. 1247 - وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن غير واحد، أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية» ، وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها [إلا] الزكاة إلى اليوم. رواه أبو داود، ومالك في الموطأ. قال أبو عبيد:

القبلية بلاد معروفة في الحجاز. وإنما تجب الزكاة إذا أخرج نصابا من الذهب، أو الفضة، أو ما يبلغ أحدهما من غيرهما، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس فيما دون خمس أواق صدقة» ليس عليك شيء [يعني] في الذهب، حتى يكون لك عشرون دينارا وإنما لم يلحق بالركاز لأن الركاز مال كافر، أشبه الغنيمة، وهذا وجب مواساة، وشكرا لنعمة الغنى، فاعتبر له النصاب كسائر الأموال، ولا يعتبر له الحول كما تقدم، ولأنه مستفاد من الأرض، أشبه الزروع والثمار، وقدر الواجب فيه ربع العشر، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في الرقة ربع العشر» ولأن الواجب زكاة، بدليل قصة بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإذا كان زكاة كان الواجب فيه ربع العشر بلا ريب، وإنما ترك

باب زكاة التجارة

الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم - التنبيه على ذلك اكتفاء بذكر نصاب الذهب والفضة، إذ بذلك ينتبه الناظر، على أن الواجب فيه كالواجب فيهما. وقد شمل كلام الخرقي [- رَحِمَهُ اللَّهُ - ما أخرجه من أرض مباحة، أو مملوكة، وهو صحيح، وشمل أيضا] الإخراج على أي صفة كان، وقد شرط الأصحاب في الإخراج أن يخرجه في دفعة أو دفعات، لم يترك العمل بينهما ترك إهمال، والله سبحانه أعلم. [باب زكاة التجارة] ش: الأصل في وجوب زكاة التجارة عموم قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] الآية وقوله: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] . 1248 - وروى سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أما بعد «فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع» . رواه أبو داود.

1249 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ليس في العروض زكاة إلا ما كان للتجارة. رواه البيهقي. مع أن ذلك قد حكاه ابن المنذر إجماعا، وإن كان قد حكي فيه خلاف شاذ عن داود ونحوه، والله أعلم. قال: والعروض إذا كانت للتجارة قومها إذا حال [عليها] الحول وزكاها. ش: العروض جمع عرض بسكون الراء، ما عدا الأثمان، كأنه سمي بذلك لأنه يعرض ليباع ويشترى، تسمية للمفعول باسم المصدر، كتسمية المعلوم علما. والحكم الذي حكم به الخرقي، وجوب الزكاة في عروض التجارة، وقد تقدم [دليل] ذلك، واشترط لذلك حولان الحول. 1250 - وذلك لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول» [وظاهر] إطلاق الخرقي يقتضي [وجوب] الزكاة لكل حول، وهو كذلك، خلافا لمالك في اقتصاره على وجوب الزكاة في الحول الأول.

وقوله: قومها، إشعار بأنه لا يعتبر ما اشتريت به، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وفيه إشارة بأن الزكاة تجب في القيمة لا في العين، وأن الإخراج يكون منها. وقوله: إذا كانت للتجارة. صيرورتها للتجارة بأن يملكها بفعله، بنية التجارة بها، ولا يشترط أن يملكها بعوض على الأصح، فلو ملكها بغير فعله - كأن ملكها بإرث - أو بفعله لكن لم ينو التجارة بها لم تصر للتجارة، وكذا إن ملكها بفعله لكن بلا عوض كأن اتهبها، أو غنمها على وجه، نعم لو نواها للتجارة بعد ففيه روايتان يأتي بيانها إن شاء الله تعالى. «تنبيه» : وقدر الواجب ربع العشر بلا نزاع، والله أعلم. قال: ومن كانت له سلعة للتجارة، ولا يملك غيرها، وقيمتها دون المائتي درهم، فلا زكاة عليه حتى يحول [عليه] الحول من يوم ساوت مائتي درهم. ش: يشترط لوجوب الزكاة فيما أعد للتجارة أن تبلغ قيمته نصابا [بلا نزاع، ويعتبر وجود النصاب في جميع الحول كالأثمان، فعلى هذا لو كانت عنده سلعة للتجارة لا تبلغ قيمتها نصابا] فلا زكاة فيها حتى تبلغ قيمتها نصابا، فينعقد عليها الحول إذا على المذهب، حتى جعله [جماعة] رواية

واحدة، وقيل عنه إذا كمل النصاب بالربح، فحوله [من] حين ملك الأصل كالماشية في رواية. وقوله: ومن كانت له سلعة للتجارة ولا يملك غيرها، احترازا مما إذا ملك غيرها من الدراهم أو الدنانير، فإنه يضم إليها، فإن بلغا نصابا انعقد الحول عليهما، وإلا فلا. وقوله: ساوت مائتي درهم؛ وكذا إذا ساوت عشرين مثقالا، لما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: وتقوم السلع إذا حال عليها الحول بما هو أحظ للمساكين من عين أو ورق، ولا يعتبر ما اشتريت به. ش: لأنه قد وجب تقويمه لحق المساكين شرعا، فاعتبر الأحظ لهم، كما لو اشترى سلعة بعرض فحال عليها الحول ولها نقدان مستعملان، فإنها تقوم بما هو أحظ للمساكين، [فكذلك ههنا] فعلى هذا إذا بلغت قيمتها نصابا بالدراهم دون الدنانير قومت به، وإن كان اشتراها بالدنانير، وكذلك بالعكس، فإن بلغت بكل منهما نصابا، قومت بالأحظ منهما أيضا للفقراء عند القاضي، وأبي محمد في الكافي، وصاحب التلخيص وغيرهم. وقال في المغني: تقوم بأيهما شاء، لكن الأولى أن تقوم بنقد البلد، والله أعلم.

قال: وإذا اشتراها للتجارة، ثم نواها للاقتناء، ثم نواها للتجارة، فلا زكاة فيها حتى يبيعها، فيستقبل بثمنها حولا. ش: أما إذا اشتراها للتجارة ثم نواها للاقتناء، فلا إشكال في انقطاع الحول، وسقوط الزكاة، لأنه نوى ما هو الأصل وهو القنية، فوجب اعتباره، كما لو نوى المسافر الإقامة، فإذا عاد فنواها للتجارة لم تصر للتجارة، على أنص الروايتين، [وأشهرهما] واختارها الخرقي، والقاضي، وأكثر الأصحاب، لأن ما لا تتعلق به الزكاة من أصله، لا يصير محلا لها بمجرد النية، كالمعلوفة إذا نوى فيها السوم. (والثانية) : تصير للتجارة اختارها أبو بكر، وابن أبي موسى، وابن عقيل، وأبو محمد في العمدة، لعموم حديث سمرة المتقدم، ولأنها تصير للقنية بمجرد النية، فكذا للتجارة بل أولى، تغليبا للإيجاب، وفرق بأن القنية هي الأصل، فالنية ترد إليها، بخلاف التجارة، فعلى الأولى لا زكاة حتى يبيع العرض فيستقبل بثمنه حولا، والله أعلم.

باب زكاة الدين والصدقة

قال: وإذا كان في ملكه منصب للزكاة، فاتجر فيه، أدى زكاة الأصل مع النماء إذا حال [عليه] الحول، والله أعلم. ش: حول النماء في التجارة حول الأصل، إذ لو اعتبر لكل جزء حول لأفضى ذلك إلى حرج ومشقة، وهما منتفيان شرعا، ولأنه نماء جار في الحول، تابع لأصله في الملك، فضم إليه في الحول كالنتاج، ودليل الأصل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لساعيه: اعتد عليهم بالسخلة، ولا تأخذها منهم. والله سبحانه أعلم. [باب زكاة الدين والصدقة] ش: الصدقة بفتح الصاد وضم الدال، لغة في الصداق بفتح الصاد وكسرها، وفيه لغتان أخريان، صدقة بسكون الدال، مع فتح الصاد وضمها، والله أعلم. قال: وإذا كان معه مائتا درهم وعليه دين فلا زكاة عليه. ش: قد تقدمت هذه المسألة مبسوطة في باب زكاة الزروع

[والثمار] ، ونزيد هنا أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يكون الدين لآدمي أو لله تعالى كالكفارة ونحوها، وفي دين الله تعالى حيث منع دين الآدمي [روايتان أصحهما أنه كدين الآدمي. (والثانية) : لا يمنع وإن منع دين الآدمي] ، ومبنى ذلك عند القاضي وأتباعه على أن الدين هل يمنع وجوب الكفارة؟ وفيه روايتان، فإن قيل: [يمنع. لم تمنع الكفارة ونحوها الزكاة، لضعفها عن الدين، وإن قيل] : لا يمنع. منعت الكفارة الزكاة، لأنها إذا أقوى من الدين، وإذا منع الضعيف فالقوي [من باب] أولى. واختلف في الخراج، فقال القاضي وغيره هو من ديون الله تعالى وقال أبو العباس: بل من ديون [الآدميين] ، كديون بيت المال، والزكاة دين الله تعالى، فيمنع الزكاة عند الأكثرين، كالكفارة، وعند ابن عقيل، وصاحب التلخيص: لا يمنع. قالا: لأن الشيء لا يمنع مساويه، والله أعلم. قال: وإذا كان له دين على مليء فليس عليه زكاة حتى يقبضه، فيؤدي لما مضى. ش: دل كلام الخرقي على مسائل: (إحداها) : أن الزكاة

تجب في الدين على المليء، وهذا مقتضى ما روي عن علي، وعائشة، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كما سيأتي، وذلك لعموم النصوص «في الرقة ربع العشر» «فإذا كان لك عشرون دينارا، وحال عليها الحول ففيها نصف دينار» ونحو ذلك، ولأنه مال ممكن الاستيفاء، تام الملك، فوجبت فيه الزكاة، كبقية الأموال. (المسألة الثانية) : أنه لا يجب أداء الزكاة حتى يقبض، فيؤدي عنه إذا، على المذهب المعروف المنصوص، إذ الزكاة مواساة، وليس من المواساة إخراج زكاة مال لم يقبضه. 1251 - وقد روى أحمد بسنده عن عائشة وعلي [وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -] أنهم كانوا لا يرون في الدين زكاة حتى يقبض. ذكر ذلك أبو بكر. وحكى الشيرازي رواية أخرى أن الأداء يجب قبل القبض، لأنه نصاب مقدور على أخذه بالطلب، أشبه الوديعة. (المسألة الثالثة) : أنه إذا قبض زكي لما مضى من الأحوال، على المذهب المشهور أيضا، لأنه في جميع الأحوال على حال [واحد] فترجيح بعضها بالوجوب [ترجيح] بلا

زكاة المال المغصوب

مرجح، وقيل عنه (رواية أخرى) أن الزكاة تجب لحول واحد فقط. وقوله: على مليء. أي بماله وقوله وبدنه. فيخرج منه المعسر، والجاحد، والمماطل، والحكم في ذلك كالحكم في المال المغصوب على ما سيأتي. وشمل كلام الخرقي المؤجل، وبه قطع صاحب التلخيص، وأبو محمد في كتابيه، معتمدا على أنه ظاهر كلام أحمد، وفي بعض نسخ المقنع إجراء روايتي الدين على المعسر فيه، وهي طريقة القاضي والآمدي، وفرق بأن الأجل ثابت باختياره، وله في التأخير فائدة، فأشبه ما لو دفعه إلى آخر مضاربة. وقوله: حتى يقبضه. لا مفهوم له، بل لو قبض البعض زكى بحسابه على المذهب، وقيل: إن قبض دون نصاب فلا شيء عليه إلا أن يكون بيده ما يتمه به، والله أعلم. [زكاة المال المغصوب] قال: وإذا غصب مالا زكاه إذا قبضه لما مضى، في إحدى الروايتين [عن أبي عبد الله] والرواية الأخرى قال: ليس هو كالدين الذي [متى] قبضه زكاه لما مضى، وأحب [إلي] أن يزكيه.

ش: الرواية الأولى نقلها مهنا، و [أبو] الحارث، واختارها القاضي، وأبو بكر وأبو الخطاب، وابن عقيل، وابن عبدوس، وأكثر الأصحاب، لعموم ما تقدم في التي قبلها، والمنع [من] التصرف لا أثر له، بدليل المال المرهون. (والرواية الثانية) : نقلها إبراهيم بن الحارث وغيره، واختارها أبو محمد في العمدة، إذ الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، بدليل أنها لا تجب إلا في مال نام، فلا تجب في العقار ونحوه، وحقيقة النماء ومظنته منتفية ههنا، لعدم القدرة على التصرف. 1252 - وقد روي عن عثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا: لا زكاة في مال الضمار. وهو المال الذي لا يعرف مالكه

زكاة المال الملتقط

موضعه. (وفي المذهب رواية ثالثة) : أن ما لا يؤمل رجوعه - كالمسروق، والمغصوب، والمجحود - لا زكاة فيه، وما يؤمل رجوعه - كالدين على المفلس، أو الغائب المنقطع خبره - فيه الزكاة. قال أبو العباس: وهذه أقرب إن شاء الله تعالى، (وفيه رواية رابعة) : أن الذي عليه الدين إن كان يؤدي زكاته فلا زكاة على ربه، وإلا فعليه الزكاة؛ [نص عليه في المجحود] حذارا من وجوب زكاتين في مال واحد. «تنبيه» : وكذا الخلاف في المال المسروق، والضال، والدين على معسر [أو جاحد] أو مماطل ونحو ذلك، والله أعلم. [زكاة المال الملتقط] قال: واللقطة إذا صارت بعد الحول كسائر مال الملتقط استقبل بها حولا ثم زكاها. ش: إنما تصير اللقطة كسائر مال الملتقط إذا كانت مما يملك بعد الحول، على ما سيأتي [إن شاء الله تعالى] وإذا يستقبل بها حولا، فإذا مضى الحول زكاها، ولا يحتسب بحول التعريف، لعدم الملك إذا، وهذا منصوص أحمد، لأنه ملكها ملكا تاما، فوجبت فيها الزكاة كبقية أمواله، وكون لمالكها انتزاعها إذا عرفها لا يضر، بدليل ما وهبه الأب لابنه، وعن القاضي: لا زكاة فيها، نظرا إلى أنه ملكها مضمونة عليه

زكاة صداق المرأة

بمثلها أو قيمتها، فهي دين عليه في الحقيقة، وكذلك عن ابن عقيل، [لكن] نظر إلى عدم استقرار الملك فيها، ورد الأول بأن البدل إنما يثبت بظهور المالك، والثاني بما وهبه الأب لابنه، والله أعلم. قال: فإن جاء ربها زكاها للحول الذي كان الملتقط ممنوعا منها. ش: هذه صورة من صور المال الضال، وقد تقدم الخلاف فيه، وأن المذهب وجوب الزكاة، ولو لم يملكها الملتقط بعد الحول زكاها مالكها لجميع الأحوال على المذهب، والله أعلم. [زكاة صداق المرأة] قال: والمرأة إذا قبضت صداقها زكته لما مضى. ش: ينعقد الحول على الصداق على المذهب المشهور المعروف، حتى أن القاضي جعله في التعليق رواية واحدة [وذلك لعموم ما تقدم في غيره من الديون] (وقيل عنه) : لا ينعقد، لأن الملك فيه غير تام، إذ هو بصدد أن يسقط أو يتنصف، وقيل: محل الخلاف فيما قبل الدخول، فعلى المذهب إن كان الصداق على مليء زكي عند القبض لما مضى، وإن كان على غير مليء جرى فيه الخلاف السابق، هذا كله إن كان الصداق في الذمة، أما إن كان معينا - كأن أصدقها هذه الخمس من الإبل ونحو ذلك - فإن الحول

ينعقد عليها من حين الملك بلا ريب، نص عليه أحمد، وقال القاضي: رواية واحدة، ولو لم تقبض الصداق فإن كان لجحد [الزوج] أو فلسه ونحو ذلك فلا شيء على المرأة، إذ لا مواساة مع انتفاء القبض، وكذلك ما سقط لطلاق الزوج، إذ لا صنع لها في ذلك، أما إن سقط لفسخها فاحتمالان (الوجوب) ، لأنه سبب من جهتها (وعدمه) لعدم تصرفها، ومن هنا اختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا وهبت المرأة [زوجها] صداقها، (فعنه) - وهو الصحيح عند القاضي - عليها زكاته، وعلله أحمد بأنه كان في ملكها، يعني وقد تصرفت فيه بالهبة، فأشبه ما لو أحالت به أو قبضته، (وعنه) : الزكاة على الزوج، لأنه ملك ما ملك عليه قبل قبضه منه، فكأنه لم يزل [ملكه] عنه، ولأبي محمد في الكافي احتمال بنفي الزكاة عنهما، المبرئ لعدم قبضه، والمدين لأن ذلك سقط عنه فلم يملكه، والله أعلم. قال: والماشية إذا بيعت بالخيار فلم ينقض الخيار حتى ردت استقبل البائع بها حولا، سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري، لأنه تجديد ملك، والله أعلم.

باب زكاة الفطر

ش: هذا مبني على أصل، وقد أشار إليه الخرقي، وهو أن البيع ينقل الملك إلى المشتري بمجرد العقد، إن لم ينقض الخيار، على المشهور من الروايتين. 1253 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من باع عبدا وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع» جعله للبائع بمجرد البيع. (والرواية الثانية) لا ينتقل الملك إلا بانقضاء مدة الخيار، فعلى الأولى إذا كان المبيع مما تجب فيه الزكاة فقد انتقل الملك فيه بمجرد العقد، فينقطع حول البائع، فإذا رد عليه فقد تجدد له الملك بعد زواله، فيستقبل به حولا، وعلى الرواية الأخرى الملك باق له، فكذلك الحول، وقول الخرقي: إذا بيعت بالخيار، وكذلك لو ردت في مدة خيار المجلس، والله أعلم. [باب زكاة الفطر] ش: [هذا] من باب إضافة الشيء إلى سببه، إذ سبب وجوبها الفطر من رمضان، أما «الفطرة» فكلمة مولدة، وقد عدها بعضهم مما يلحن فيه العامة، وإن كان قد استعمل كثيرا من كلام الفقهاء وغيرهم. والأصل في وجوبها قيل: قَوْله تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] . 1254 - فعن سعيد بن المسيب، وعمر بن عبد العزيز أنها زكاة الفطر.

حكم زكاة الفطر

1255 - والمعتمد في الوجوب على ما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة» . متفق عليه واللفظ للبخاري. ودعوى أن: فرض. بمعنى: قدر. مردود بأن كلام الراوي - لا سيما الفقيه - محمول على الموضوعات الشرعية. 1256 - وبأن في الصحيح أيضا في حديثه: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بزكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير» . قال عبد الله: فجعل الناس مكانه مدين من حنطة، واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في زكاة الفطر هل تسمى فرضا؟ على روايتين، مبناهما على أنه لا يسمى فرضا إلا ما ثبت في الكتاب، وما ثبت بالسنة يسمى واجبا، أو أن كل ثابت وإن كان بالسنة يسمى فرضا، والله أعلم. [حكم زكاة الفطر] قال: وزكاة الفطر واجبة على كل حر وعبد، ذكر وأنثى من المسلمين.

مقدار زكاة الفطر

ش: هذا نص رواية ابن عمر المتقدم، فاعتمد الخرقي عليها، وكفى بذلك معتمدا، وقد دخل في الحديث - وفي كلام الخرقي - اليتيم، فتجب في ماله، وخرج الكافر، وإن كان عبدا، أو صغيرا [وفي المذهب وجه أنها لا تجب على من لم يكلف بالصوم، نظرا إلى أنها طهرة للصائم كما ورد، ومن لا يكلف بصوم، لا حاجة إلى تطهير صومه] . «تنبيه» : لو هل هلال شوال على عبد مسلم ملكا لكافر فهل تجب على سيده الكافر فطرته؟ فيه وجهان، مبناهما على أن السيد هل هو متحمل أو أصيل؟ فيه قولان، إن قلنا: إنه متحمل وجبت عليه، وإن قلنا: أصيل، لم تجب عليه، والله أعلم. [مقدار زكاة الفطر] قال: صاع بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو خمسة أرطال وثلث بالعراقي، من كل حبة وثمرة تقتات. ش: الواجب في الفطرة صاع، لما تقدم من حديث ابن عمر. 1257 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من زبيب، أو صاعا من أقط، فلم نزل نخرجه حتى كان معاوية، فرأى أن مدين من بر تعدل صاعا من تمر. قال أبو سعيد: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه

ما عشت. متفق عليه، (وخرج) إجزاء نصف صاع بر كما في الكفارات، ويشهد له فعل معاذ. 1258 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث مناديا في فجاج مكة «ألا إن صدقة الفطر واجبة على كل مسلم، ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير، مدان من قمح أو سواه صاع من طعام» رواه الترمذي انتهى. والصاع

بصاع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسة أرطال وثلث، لما تقدم في باب زكاة الزروع. وصفة المخرج أن يكون من كل حبة وثمرة تقتات على قول الخرقي، وأبي بكر، إذ المتفق عليه في الحديث بلا ريب البر، والشعير، والتمر، والزبيب، [وذلك حب أو ثمرة تقتات] فاعتبر ما شابهها في الوصفين، ولم يعتبر ابن حامد، وصاحب التلخيص إلا القوتية فقط. 1259 - نظرا إلى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» وبالقوت يحصل الغنى لا بغيره، ولأن الشارع قد نص على الأقط، وليس بحب، ولا ثمر، فعلى هذا يجزئ اللحم وإن كان سمكا، واللبن ونحو ذلك لمن كان قوته، وعلى الأول لا يجزئ ولأبي الحسن ابن عبدوس [احتمال] أنه لا يجزئ غير الخمسة المنصوص عليها، وتبقى الفطرة عند عدمها في ذمته، والله أعلم. قال: وإن أعطى أهل البادية الأقط صاعا أجزأ إذا كان قوتهم.

[ش: نقل بكر بن محمد، وحنبل عن أحمد ما] يدل على أن الأقط أصل بنفسه، فقال: - وقد سئل عن صدقة الفطر - صاع من شعير، أو تمر، أو أقط، أو زبيب، أو حنطة. فعلى هذا يجزئ مع وجود الأربعة المذكورة وإن لم يكن قوته، وهذا اختيار أبي بكر، وجزم به ابن أبي موسى، والقاضي وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل، وابن عبدوس، وابن البنا، والشيرازي وغيرهم. 1260 - لأن في رواية النسائي - في حديث أبي سعيد المتقدم - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر صاعا من طعام، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر، أو صاعا من أقط» . مع أن اقترانه بالأربعة في الروايات الصحيحة، مشعر بأنه كهي. ونقل عنه ابن مشيش [ما يدل على أنه بدل، فقال في رواية ابن مشيش] : إذا لم يجد التمر فأقط، هذا نقل القاضي في روايتيه، ولفظه في تعليقه عن ابن مشيش: إذا أعطى الأعرابي صاعا من البر أجزأ عنه، والأقط أعجب إلي، على حديث أبي سعيد؛ ونحو هذا اللفظ نقل حنبل، وبكر بن محمد، وهذا لا يعطي رواية، إنما يدل على أن الأقط لأهل البادية أفضل، لكن أبا الخطاب في الهداية، وصاحب التلخيص والشيخين، وغيرهم، على حكاية رواية البدلية، وذلك لأنه [لا] يجزئ في الكفارة، أشبه اللحم، والمشهور من رواية أبي سعيد: كنا

نخرج. وقد يكون ذلك لكونه قوتهم، واختلف الحاكون لهذه الرواية، فقال صاحب التلخيص، وأبو محمد، تبعا لأبي الخطاب: لا يجزئ إلا عند عدم الأربعة. وقال أبو البركات: لا يجزئ إلا لمن هو قوته. وظاهره: وإن وجدت، وهذا مقتضى قول الخرقي، وإنما ذكر أهل البادية نظرا إلى الغالب. انتهى، فعلى الأول - وهو المذهب - في إجزاء اللبن والجبن وجهان. «تنبيه» : الأقط فيه أربع لغات، تثليث الهمزة مع سكون القاف، وفتح الهمزة مع كسر القاف، وهو شيء يعمل من اللبن المخيض، وزعم ابن الأعرابي أنه يعمل من ألبان الإبل [خاصة، والله أعلم. قال: واختيار أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - إخراج التمر.

ش: أفضل الخمسة المنصوص عليها التمر، وإن كان قوت] البلد غيره، نص عليه أحمد في رواية أبي داود، وظاهر إطلاقه: وإن كان غيره أعلى [منه] قيمة، وصرح به القاضي، لما تقدم من حديث ابن عمر، فإنه لم يذكر البر فيما فرضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما ذكر التمر والشعير، ثم هو راوي الحديث، وقد كان يواظب على إخراج التمر. 1261 - ففي النسائي، والموطأ، وغيرهما أنه كان لا يخرج في زكاة الفطر إلا التمر، إلا مرة واحدة فإنه أخرج شعيرا، وفي لفظ: فأعوز أهل المدينة التمر عاما، فأعطى الشعير. 1262 - وقد روى الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي مجلز قال: قلت لابن عمر: إن الله قد أوسع، والبر أفضل من التمر، قال: إن أصحابي سلكوا طريقا، وأنا أحب أن أسلكه. وظاهر هذا أن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كانوا يداومون على إخراجه، ولأنه ساوى غيره في القوتية، وزاد عليه بالحلاوة، وقرب التناول. وحكى ابن حمدان [رواية] أن الأقط أفضل لمن هو قوته، ولعل

يعتمدها رواية ابن مشيش ونحوها المتقدمة، وهي إنما تعطي أنه أفضل من البر. واختلف في الأفضل بعد التمر، فعند الأكثرين الزبيب، ثم البر، ثم الشعير، لأنه يساوي التمر في القوتية، والحلاوة، وقرب التناول، فألحق به، وإنما قدم التمر عليه لاتفاق الأحاديث [عليه] ولمداومة الصحابة [عليه] ولأنه أقوى في القوتية، وعند أبي محمد في كتابيه: الأفضل بعد التمر البر، لأنه أبلغ في الاقتيات، فيكون أوفق لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» وأفضل، ولهذا جعل معاوية مدا منه يعدل مدين، وإنما عدل عنه إلى التمر لفعل الصحابة، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل، وله احتمال في المغني أن الأفضل بعد البر ما كان أغلى قيمة، وأكثر نفعا، وهو ظاهر قوله في المقنع، وقد تقدم نص أحمد أن الأقط لمن هو قوته أفضل من البر، والله أعلم. قال: ومن قدر على البر أو التمر، أو الشعير أو الزبيب أو الأقط فأخرج غيره لم يجزئه.

ش: هذا هو المذهب المعروف المشهور لظاهر حديث ابن عمر وأبي سعيد، إذ ظاهرهما أنه لم يفرض غير ذلك، فالعدول عن ذلك عدول عن المنصوص عليه، أشبه ما لو عدل إلى القيمة، وخرج أبو بكر قولا آخر أنه يعطي ما قام مقام الخمسة على ظاهر الحديث «صاعا من طعام» ، والطعام قد يكون برا أو شعيرا، أو ما دخل فيه الكيل، ويجاب بأنه قد جاء «صاعا من بر» مكان «طعام» ، فدل على أن المراد بالطعام البر. وقد دل كلام الخرقي على أنه متى أخرج التمر ونحوه أجزأه، وإن كان القوت في غيره، ودل على أن ما تقدم من قوله: (من كل حبة وثمرة تقتات) أنه مع عدم الخمسة. وقد يقال: إن ظاهر كلامه أنه لا يجزئ الدقيق ولا السويق مع وجود أصليهما، لأن الروايات الصحيحة ليسا فيها والمنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إجزاؤهما. 1263 - لأن سفيان بن عيينة ذكر في حديث أبي سعيد «أو صاعا من

إخراج القيمة في زكاة الفطر

دقيق» وهو ثقة فتقبل زيادته، وقد اعتمد أحمد على ذلك في رواية مهنا، فقال: سفيان بن عيينة يقول: عن محمد بن عجلان، عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح، عن أبي سعيد [يقول: دقيقا. قلت له: أي شيء مذهبك في هذا؟ فقال: حديث عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» ولا ريب أن الغنى يحصل بالدقيق أكثر من الزبيب ونحوه، وقال ابن أبي موسى: لا يجزئ السويق، لأنه خرج عن الاقتيات لعموم الناس، بخلاف الدقيق. «تنبيه» يعتبر صاع الدقيق [والسويق] بوزن حبهما، ولا يشترط نخل الدقيق، والله أعلم. [إخراج القيمة في زكاة الفطر] [قال: ومن أعطى القيمة لم تجزئه] . ش: نص على هذا أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - معتمدا على قول ابن

وقت إخراج زكاة الفطر

عمر: فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الحديث، ومن دفع القيمة لم يعط ما فرضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1264 - وعن معاذ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له حين بعثه إلى اليمن: «خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقر من البقر» رواه أبو داود، وظاهره وجوب ذلك، والله أعلم] . [وقت إخراج زكاة الفطر] قال: ويخرجها إذا خرج إلى المصلى. ش: لا إشكال في مطلوبية إخراج زكاة الفطر عند الخروج إلى صلاة العيد تحقيقا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» . 1265 - لأن في البخاري في حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر. الحديث وقال فيه: وأن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» ، ولمسلم: «أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة» ، ولأبي داود: وكان ابن عمر يؤديها قبل خروج الناس إلى الصلاة. أما إن قدمها على ذلك فسيأتي [بيان ذلك] إن شاء الله تعالى، فإن أخرها عن الصلاة ففي بقية اليوم تجوز، وتقع إذا، لحصول الغنى في ذلك اليوم، لكن

يكره ذلك عند أبي محمد، لعدم حصول الغنى في جميع اليوم، ولم يكرهه القاضي، وشدد بعض الأصحاب فجعلها بعد الصلاة قضاء لظاهر ما تقدم. 1266 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين، من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات» . رواه أبو داود، وبعد يوم العيد يأثم، وهي قضاء بلا ريب. والله أعلم. قال: وإن قدمها قبل ذلك بيوم أو يومين أجزأه. ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وقول أصحابه، لا أعلمهم يختلفون في ذلك. 1267 - لأن [في] حديث ابن عمر في الصحيح: «وكانوا يعطون قبل العيد بيوم أو يومين» .

وهذا إشارة إلى جماعتهم، فيكون كالإجماع، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» لا يدفع ذلك، إذ ما قارب الشيء أعطي حكمه. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز تقديمها أكثر من ذلك وهو المذهب بلا ريب، إذ ظاهر الأمر بأدائها قبل الصلاة، والإغناء عن السؤال في يوم العيد، ونحو ذلك [يقتضي] أن لا يجوز التقديم مطلقا، خرج منه التقديم باليوم واليومين لما تقدم فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل، (وقيل عنه) : يجوز تقديمها بثلاث. 1268 - لأن في رواية الموطأ أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة. (وقيل عن أحمد) : رواية ثالثة: يجوز تقديمها بعد نصف الشهر، كما يجوز تقديم أذان الفجر بعد نصف الليل. (وفي المذهب قول رابع) : تجوز من أول الشهر، لدخول سبب الوجوب، أشبه تقديم زكاة المال بعد النصاب، وقبل تمام الحول الذي به الوجوب، والدليل على أن الصيام سبب الوجوب قول ابن عباس المتقدم: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر طهرة للصائم» الحديث.

1269 - وفي الصحيح في حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر من رمضان» . فأضافها إلى الفطر من رمضان. 1270 - وفي سنن أبي داود، والنسائي عن الحسن البصري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خطب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في آخر رمضان، على منبر البصرة فقال: أخرجوا صدقة صومكم. انتهى وفرق بين هذا وبين صدقة المال، بأنه إذا خرج هنا من أول الشهر لم يحصل المقصود الذي قصده الشارع بالإغناء عن السؤال في يوم العيد، بخلاف ثم. «تنبيه» : وقت الوجوب [على الصحيح المنصوص] يدخل بغروب شمس آخر يوم من رمضان، على الصحيح [المنصوص] المشهور من الروايتين، لما تقدم من حديث ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[صدقة الفطر من رمضان» ، «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زكاة الفطر،

طهرة للصائم» والفطر من رمضان في الحقيقة يحصل بغروب الشمس من آخر] يوم من رمضان، فوجب أن يتعلق الوجوب به « [والرواية] الثانية» تجب بطلوع فجر يوم العيد، لأن الفطر من رمضان على الإطلاق [يقع] على يوم الفطر. 1271 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فطركم يوم تفطرون» فأضاف الفطر على الإطلاق إلى اليوم. 1272 - «ونهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام يومين «يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم» ، ورد بأن الفطر في الحقيقة إنما هو بخروج وقت الصوم كما تقدم، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفطر يوم تفطرون» أي الفطر بالنهار يوم تفطرون. وينبني على ذلك أنه لو ملك عبدا، أو ولد له ولد، أو تزوج

أو أسلم قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان وجب عليه له ولهم وبعد طلوع فجر يوم العيد لا تجب، وفيما بينهما الروايتان، ولو كان معسرا فأيسر قبل الغروب وجبت، [وبعد طلوع الفجر لا تجب، وفيما بينهما الخلاف. (وعنه) رواية أخرى: إن أيسر يوم العيد وجبت] : اختارها أبو العباس، لحصول اليسار في وقت الوجوب، فهو كالمتمتع إذا قدر على الهدي يوم النحر، (وعنه) إن أيسر في أيام العيد وجبت، وإلا فلا، فيحتمل أن يريد أيام النحر، ويحتمل أن يريد الستة من شوال، لأنه قد نص في رواية أخرى أنه إذا قدر بعد خمسة أيام يخرج (وعن أحمد) رواية أخرى: تبقى في ذمته ككفارة الظهار ونحوها، والأول اختيار الأكثرين، والله سبحانه أعلم. قال: ويلزمه أن يخرج عن نفسه وعن عياله، إذا كان عنده فضل عن قوت يومه وليلته. ش: يلزمه أن يخرج عن نفسه بلا ريب، والأحاديث صريحة بذلك، وعن عياله وهم من يمونه. 1273 - لأنه يروى في بعض طرق حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفطر عن كل صغير، وكبير، حر وعبد، ممن تمونون» . رواه الدارقطني.

1274 - ولإطلاق قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» ويشترط في وجوبها أن يكون عنده فضل عن قوت يوم العيد وليلته، لأن صاحب الشرع أمر بإغناء السؤال في يوم العيد، ومن لم يكن عنده فضل عن قوت يوم العيد هو أحق بإغناء نفسه، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك» أما إن فضل عنده فضل فيلزمه الإخراج، وإن لم يملك نصابا، لأنه قد حصل له غناء هذا اليوم، فاحتمل ماله المواساة. 1275 - ولعموم حديث ابن عمر: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[زكاة الفطر] صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين» .

1276 - وعن عبد الله بن ثعلبة أو ثعلبة بن عبد الله بن أبي صعير، عن أبيه، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زكاة الفطر صاع من بر، أو قمح، عن كل صغير أو كبير، حر أو عبد، ذكر أو أنثى، أما غنيكم فيزكيه الله، وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطاه» رواه أبو داود، وقال أحمد في رواية حنبل: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: [صدقة الفطر] على الغني والفقير» . وظاهر هذا صحة هذا الحديث [عنده] (وقد دخل) في كلام الخرقي زوجته، وعبده ووالداه وولده، وكل من تلزمه نفقته، لأنهم في عياله، وحكمهم في التقديم يأتي في النفقات إن شاء الله تعالى، (ودخل) في كلامه [كل] من تبرع بمؤنته في شهر رمضان،

فإنه تلزمه فطرته، لأنه قد مانه حقيقة فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ممن تمونون» وهذا منصوص أحمد، وقول عامة أصحابه، وخالفهم أبو الخطاب في الهداية، وتبعه أبو محمد، فقالا: فطرته على نفسه. وجعلا الاعتبار بلزوم المؤنة، وحكى ذلك ابن حمدان رواية، (فعلى الأولى) تعتبر المؤنة في جميع الشهر على المشهور، وقال ابن عقيل: قياس المذهب أنه إذا مانه آخر ليلة وجبت فطرته، كما لو ملك عبدا عند الغروب، فلو مانه جماعة فعلى قول ابن عقيل فطرته على من مانه آخر ليلة، وعلى المشهور هل تجب على جميعهم بالحصص، لاشتراكهم في سبب الوجوب، أو لا تجب عليهم، لأن الوجوب على كل واحد منوط بمؤنة جميع الشهر ولم يوجد؟ فيه احتمالان. «تنبيه» : يعتبر مع كفاف يوم العيد وليلته سد حوائجه

الأصلية، من دار يسكنها، ودابة يحتاج إلى ركوبها، وثياب يتجمل بها ونحو ذلك، على ما قاله صاحب التلخيص، وأبو محمد وغيرهما، وأورد ابن حمدان المذهب بعدم اعتبار ذلك، ولعله ظاهر كلام الخرقي، والله أعلم. قال: وليس عليه في مكاتبه زكاة. ش: لأنه لا يمونه، فلا يدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ممن تمونون» ولأنه لا يلزمه مؤنته، فأشبه الأجنبي. قال: وعلى المكاتب أن يخرج عن نفسه زكاة الفطر. ش: لأنه تلزمه نفقة نفسه، فلزمه فطرتها كالحر، والله أعلم. قال: وإذا ملك جماعة عبدا أخرج كل واحد منهم صاعا، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى صاعا عن الجميع. ش: تجب فطرة العبد المشترك على مواليه، نص عليه أحمد، لعموم ما تقدم من الأحاديث (ثم هل على الجميع صاع) يقسم بينهم على قدر حصصهم، وهو الظاهر عن أحمد، بل قيل: إنه الذي رجع إليه آخرا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوجب على كل واحد صاعا، ولم يفرق بين مشترك وغيره، ولأن الفطرة تتبع النفقة، والنفقة تقسم عليهم بالحصص، فكذلك

مصارف زكاة الفطر

الفطرة (أو على كل [واحد] صاع) وهو اختيار أبي بكر. قال القاضي والخرقي: لأنها طهرة، فوجب تكميلها على كل واحد من الشركاء، ككفارة القتل؟ فيه روايتان، والله أعلم. [مصارف زكاة الفطر] قال: ويعطي صدقة الفطر لمن يجوز أن يعطي صدقة الأموال. ش: لأنها صدقة، فتدخل تحت قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] . الآية، وتحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لمعاذ: «أخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم» إلى غير ذلك. ويمنع منها من يمنع من صدقة الأموال كالذمي، والعبد، والزوجة، والولد ونحوهم، لأنها صدقة واجبة، فحكم عليها بما يحكم على بقية الصدقات، والله أعلم. قال: ويجوز أن تعطى الجماعة، ما يلزم الواحد. ش: لإطلاق {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60] الآية، مع أن أبا محمد قال: لا أعلم فيه خلافا والله أعلم.

قال: ويعطي الواحد ما يلزم الجماعة. ش: لأنها صدقة واجبة، فجاز أن يدفع للواحد فيها ما يلزم الجماعة كصدقة المال، وقد تقدم الدليل على الأصل، فلا حاجة إلى إعادته، والله أعلم. قال: ومن أخرج عن الجنين فحسن، وكان عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يخرج عن الجنين. 1276 - م ش: المشهور المعروف من الروايتين أن إخراج زكاة الفطر عن الجنين مستحب، لفعل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا يجب، لأن هذا حكم من أحكام الدنيا، فلم يتعلق به كبقية الأحكام. ونقل عنه يعقوب بن بختان وجوبها اتباعا لفعل عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه آدمي تصح الوصية له وبه، ويرث، أشبه المولود، والله أعلم. قال: ومن كان في يده ما يخرج صدقة الفطر، وعليه دين مثله، لزمه أن يخرج، إلا أن يكون مطالبا به فعليه قضاء الدين ولا زكاة عليه، والله أعلم.

ش: أما مع عدم المطالبة فلتغاير التعلق إذ هذه زكاة بدن، وتلك زكاة مال، ومع الدين قد نقص المال، فلذلك أثر ثم بخلاف هنا، ولأن زكاة الفطر آكد وجوبا من زكاة المال، بدليل وجوبها على الفقير، فلا يلزم من المنع ثم المنع هنا، وأما مع المطالبة فقد وجب الصرف إلى الغريم، فصار وجود المال كعدمه، فيكون معسرا، هذا هو المذهب المجزوم به عند الشيخين وغيرهما، وقيل: لا يمنع الدين مطلقا لما تقدم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الصيام

[كتاب الصيام] ش: الصيام والصوم مصدر «صام» وفي اللغة: عبارة عن الإمساك، قال الله سبحانه: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] وقال الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما أي ممسكة عن الصهيل. وفي الشرع: إمساك مخصوص، في وقت مخصوص، [على وجه مخصوص] وهو من أركان الإسلام المعلومة من دين الله تعالى بالضرورة، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] إلى قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] الآية. 1277 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» الحديث إلى غير ذلك من الأحاديث، والله أعلم. [ما يثبت به هلال رمضان] قال: وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما طلبوا الهلال.

ش: يستحب للناس أن يتراءوا الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، احتياطا لصومهم، وحذارا من الاختلاف. 1278 - وقد روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتحفظ من شعبان ما لا يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤية رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام» . رواه أحمد وأبو داود، والدارقطني وقال: هذا إسناد صحيح. والله أعلم. قال: فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم. ش: أي طلب الناس الهلال، فإن رأوه وجب صيامه، وهذا إجماع، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . وإن لم يروه فإن كانت السماء مصحية [لم يصوموا ذلك اليوم] لأنه (إما يوم شك) وهو منهي عن صيامه. 1279 - قال صلة بن زفر: كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه، فأتي بشاة، فتنحى بعض القوم، فقال عمار: من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أبو داود، والنسائي،

وابن ماجه [والترمذي] وصححه. (أو غير شك) وقد نهي عنه أيضا. 1280 - فروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقدموا رمضان بيوم ولا يومين، إلا أن يكون صوم يصومه رجل، فليصم ذلك اليوم» رواه الجماعة. 1281 - وعن حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقدموا الشهر، حتى تروا الهلال، أو تكملوا العدة، ثم تصوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة» رواه النسائي وأبو داود. وهذا المنع على طريق [الكراهة] عند القاضي وأبي الخطاب، والأكثرين.

ولأبي محمد في الكافي احتمال بالتحريم، وهو ظاهر كلام الخرقي، وكلام صاحب التلخيص في يوم الشك [قال: صيام يوم الشك] منهي عنه، وفي صحته مع النهي ما في الصلاة في أوقات النهي. انتهى وهو مقتضى نصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في رواية أبي داود: الشك على ضربين، فالذي لا يصام إذا لم يحل دون منظره سحاب ولا قتر، والذي يصام إذا حال دون منظره سحاب أو قتر، وفي رواية المروذي: سئل عن نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيام [يوم] الشك، فقال: هذا إذا كان صحوا لم يصم، وأما إن كان في السماء غيم [صام] . وفي رواية الأثرم: ليس ينبغي أن يصبح صائما إذا لم يحل دون منظر الهلال شيء من سحاب ولا غيره. انتهى وذلك لظواهر النصوص.

ويستثنى من المنع النذر، والورد، كمن عادته صوم يوم الخميس فوافق آخر الشهر، أو صوم يوم وفطر يوم للحديث. «تنبيه» : يوم الشك [قال بعض المتأخرين] : اليوم الذي يتحدث الناس برؤيته ولا يثبت، وحرر القاضي ذلك في تعليقه بأن يكون في الصحو، وزاد عليه: إذا لم يتراء الناس الهلال [حتى جاوز وقت الرؤية أو لم تكن السماء مصحية، وقلنا: لا يجب الصوم] أما إن قلنا بوجوبه فليس بشك [عند القاضي، وهو شك] عند الخلال فيما أظن، وهما روايتان عن أحمد، والله أعلم. قال: وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه، وقد أجزأ إن كان من شهر رمضان. ش: هذا هو المذهب المشهور، المختار لعامة الأصحاب، الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي وأكثر أصحابه. 1282 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا رأيتموه فصوموا، وإن رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له» متفق عليه. أي فضيقوا له العدد، من

قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] الآية أي ضيق عليه رزقه {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد: 26] أي يضيق عليه {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] أي ضيق {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] أي لن نضيق عليه. وتضييق العدد، بأن يجعل شعبان تسعة وعشرين. 1283 - ويدل على هذا ما في سنن أبي داود وغيره عن نافع قال: وكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له، فإن رؤي فذاك، وإن لم ير، ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر، أصبح مفطرا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما، قال: وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب وهو راوي الحديث وأعلم بمعناه فيرجع إلى تفسيره، كما رجع إلى

تفسيره في «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» فكان إذا بايع رجلا بشيء مشى خطوات لا سيما وهو من أتبع الناس [للسنة] ، ويجوز أن يكون معنى «فاقدروا له» أي اقدروا طلوعه. 1284 - يدل عليه أن في مسلم وسنن أبي داود في الحديث: «إنما الشهر تسع وعشرون، فإذا رأيتموه فصوموا» ، فقوله: «الشهر تسع وعشرون» كالتوطئة [لقوله] : «فاقدروا له» . أي لا تظنوا أن الشهر ثلاثون، إنما هو تسع وعشرون، فإذا مضى تسع وعشرون وغم عليكم، فاقدروا طلوعه، وهذا معنى الذي قبله، لأنا إذا قدرنا طلوعه، فقد ضيقنا شعبان. 1285 - (فإن قيل) : ففي هذا الحديث في مسلم: «فإن أغمي عليكم فاقدروا ثلاثين» ؛ وفي البخاري: «فأكملوا العدة ثلاثين» .

(قيل) : يحمل الأول [على] فضيقوا عدة شعبان، أو قدروا طلوع الهلال، لتصوموا ثلاثين. والثاني [على] فأكملوا عدة رمضان ثلاثين، لأنه أقرب مذكور، فالألف واللام بدل من المضاف إليه، جمعا بين الأدلة. 1286 - ويؤيده أن في الصحيح كما سيأتي إن شاء الله تعالى: «فصوموا ثلاثين» . 1287 - وعلى هذا ما في الصحيحين وغيرهما عن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: «هل صمت من سرر هذا الشهر شيئا؟» قال: لا. قال: «فإذا أفطرت فصم يوما» ، وفي رواية: «يومين» ؛ وسرار الشهر: آخره. سمي بذلك لاستسرار القمر فيه فلا يظهر، محمول على حال الغيم ونحوه. وحديث أبي هريرة: «لا تقدموا رمضان» على الصحو. ليتوافقا [إذ] في حال الغيم لا يعلم أنه تقدم رمضان بيوم ولا يومين، فلا يدخل تحت النهي، ولأن هذا قول جماعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 1288 - فعن مكحول: أن عمر كان يصوم يوم الشك إذا كانت السماء

في تلك الليلة متغيمة، ويقول: ليس هذا بالتقدم، ولكنه بالتحري. رواه أبو حفص بسنده. 1289 - وكانت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تقول إذا غم: لأن أصوم يوما من شعبان، أحب إلي من أن أفطر يوما من رمضان. وقد تقدم عن ابن عمر أنه كان يصوم يوم [الغيم. 1290 - وعلى هذا يحمل ما روي عن أسماء، وأبي هريرة، وعمرو بن العاص، ومعاوية، وعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من صوم يوم] الشك على وجود الغيم ونحوه، وهؤلاء من أكابر الصحابة، وعلمائهم، وهم رواة أحاديث الباب، فلا يظن بهم مخالفتها، ولا مخالفة ظاهرها، ولأن الصوم في ذمته بيقين، ولا يبرأ منه بيقين إلا بصوم ذلك، كما لو كانت عليه صلاة من يوم لا يعلم عينها، وجب عليه أن يصلي خمس صلوات. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - (رواية ثانية) : لا يصام هذا اليوم، بل

ينهى عنه، لأنه يوم شك، وقيل: إن هذا اختيار ابن عقيل، وأبي الخطاب، في خلافيهما، والذي نصره أبو الخطاب في الخلاف الصغير هو الأول، فلعل هذا في الكبير وذلك لما تقدم [من] أنه يوم شك، ويوم الشك منهي عنه لما تقدم، ولما تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فإن فيه: عد ثلاثين يوما ثم صام. وحديثي أبي هريرة، وحذيفة، في النهي عن التقدم. 1291 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» رواه البخاري. ولمسلم: «فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين» . وقوله في حديث ابن عمر: «فاقدروا له» أي قدروا له عدد ثلاثين حتى تكملوها. يدل عليه بقية الروايات، وكون [التقدير] التضييق ممنوع، إنما هو غير التضييق والتوسيع. 1292 - كما قيل في قوله: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ: 11] لا توسع الحلقة ولا تضيقها، ولا ترقق المسامير ولا تغلظها، وفي {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي جعل بقدر لا ينقص، ولا يفضل عن حاجته. وفي

{فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} [الأنبياء: 87] أي نضيق عليه. وفعل الصحابة لعله عن اجتهاد وظن، كما ظنه غيرهم. 1293 - ثم قد روي عن بعضهم [وعن غيرهم] خلاف ذلك، والاحتياط في الوجوب إنما يكون فيما علم وجوبه، أما ما شك فيه فلا يجب، وإلا يلزم الوجوب بالشك، وعلى هذا فهل النهي نهي تحريم أو تنزيه على قولين. ومن نصر الأول قال: لا نسلم أن هذا يوم شك، مع أن عمارا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم ينقل لنا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفظا، فيجوز أن يكون قاله عن اجتهاد، بناء على النهي عن التقدم، وأما حديثا أبي هريرة وحذيفة في التقدم فتقدم الجواب عنهما، وهو غلط من الراوي، وأن سائر الرواة لم يذكروا ذلك، مع أن في المسند ومسلم والنسائي في هذا الحديث: «فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين» ، وفي لفظ لأحمد والترمذي وصححه، «فعدوا

ثلاثين ثم أفطروا» ؛ والحديث واحد فتتعارض الروايتان ويتساقطان. ثم على تقدير صحة الأول فيحمل على ما إذا غم رمضان، بعد أن غم شعبان، فإنا لا نفطر، ونعد شعبان إذا ثلاثين يوما ورمضان ثلاثين يوما، ويكون الصوم أحدا وثلاثين. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية ثالثة: الناس تبع للإمام في الصوم والفطر. 1294 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم يضحي الناس» رواه الترمذي وصححه. قال أحمد: السلطان أحوط في هذا، وأنظر للمسلمين، وأشد تفقدا، ويد الله على الجماعة. وقيل عن أحمد رواية أخرى باستحباب الصوم، لا بإيجابه، ولا بالمنع منه، وهذا اختيار أبي العباس، وقال: إن المنقول

عن أحمد أنه كان يصومه، أو يستحب صيامه، اتباعا لابن عمر، قال: ولم أقف من كلام أحمد على ما يقتضي الوجوب، وحملا للأوامر بإتمام شعبان، ونحو ذلك على بيان الواجب، وما ورد من صيام ذلك على الاستحباب، لا سيما وفيه احتياط لعبادة، وأصول الشريعة لا تمنع من ذلك. وقيل عنه رواية بالإباحة، قال بعضهم: تحكى فيه الأحكام الخمسة. وقول سادس وهو التبعية. فعلى الأولى: يشترط له النية من الليل، على أنه من رمضان حكما، فإن تبين أنه من رمضان أجزأه، وإلا فهو نفل، وهل تصلى التراويح ليلته؟ فيه وجهان: قال صاحب التلخيص: أظهرهما لا. وحكي عن أحمد وعن التميمي أنه ينويه جزما، وإذا تصلى التراويح. ولو نوى: إن كان غدا من رمضان فهو فرض، وإلا فهو نفل، لم يجزئه إن قيل باشتراط التعيين في النية لفواته، وإلا أجزأه بطريق الأولى، لمكان العذر هنا، وهل تثبت بقية الأحكام من الأجل المعلق برمضان، والطلاق المعلق به، ونحو ذلك؟ فيه احتمالان، ذكرهما القاضي في التعليق، فالثبوت للحكم برمضانيته، والمنع لأنه حق لآدمي.

«تنبيه» : «الغيم» قال ابن سيده: الغيم السحاب. وقيل: أن لا ترى شمسا من شدة الدجى. وجمعه غيوم وغيام. و «القتر» جمع قترة وهي الغبار، ومنه قَوْله تَعَالَى: {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 41] . 1295 - قال ابن زيد: الفرق بين الغبرة والقترة أن القترة ما ارتفع من الغبار فلحق بالسماء، والغبرة ما كان أسفل في الأرض. و «فاقدروا له» قد تقدم معناه والصواب عند أهل اللغة والتفسير المعنى الثاني، وهو بالوصل، وكسر الدال وضمها، و «سرر الشهر» و «سراره» وسراره ثلاث لغات، قال الفراء: والفتح أجود. ويقال فيه أيضا: سر الشهر. وجاءت به السنة، وقد تقدم معناه، وقيل: سره وسطه، وسر كل شيء جوفه ويدل عليه أن في بعض الروايات «أصمت من سرة هذا الشهر؟» وفسر ذلك بأيام البيض والله أعلم.

النية في الصوم

[النية في الصوم] قال: ولا يجوز صيام فرض حتى ينويه أي وقت كان من الليل. ش: أما أصل النية في الصوم وإن كان تطوعا فمجمع عليها، لأنه عبادة فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وعمل فيدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنما الأعمال بالنيات» ، ثم إن كان [الصوم] فرضا كرمضان وصوم الكفارة والنذر اشترط أن ينويه من الليل. 1296 - لما روي عن ابن عمر عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له» رواه الخمسة، وفي لفظ: «من لم يجمع الصيام» ، وروي موقوفا على ابن عمر.

1297 - وعن عمرة عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالت: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له.» رواه الدارقطني وقال: إسناده كلهم ثقات. وما يورد من صوم عاشوراء فوجوبه كان في النهار فلذلك أجزأت فيه النية. 1298 - – [على أن أبا حفص قد قال] : إنه لم يكن واجبا، بدليل حديث معاوية سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وإني صائم فمن شاء فليصم» ورد بأن معاوية إنما أسلم عام الفتح. 1299 - ووجوب عاشوراء كان في الثانية من الهجرة، يوما واحدا ثم

نسخ بصوم رمضان في ذلك العام فهو إنما سمع ذلك بعد النسخ، ولا شك أنه إذ ذاك غير مكتوب. انتهى. وفي أي وقت نوى من الليل أجزأه، لإطلاق الحديث، وسواء وجد بعد النية مناف للصوم، كالجماع والأكل، أو لم يوجد [على المذهب] عملا بإطلاق الحديث، وقيل: يبطله المنافي من الأكل، ونحوه، كما لو فسخ النية، ولا بد مع النية من تعيين ما يصومه، فينوي الصوم عن كفارته، أو نذره، أو فرض رمضان، على ظاهر كلام الخرقي هنا، لقوله: ولا يجوز صيام فرض حتى ينويه. أي ينوي ذلك الفرض، وهو إحدى الروايتين، وأنصهما عن أحمد، وهي اختيار أبي بكر، وأبي حفص، والقاضي، وابن عقيل، والأكثرين، لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال بالنيات» ومن أطلق لم ينو صوم رمضان، وكذلك من نوى تطوعا بطريق الأولى (والرواية الثانية) : لا يشترط تعيين النية لرمضان، حكاها أبو حفص عن بعض الأصحاب، وهي اختيار الخرقي في شرح المختصر، قال في صوم يوم الشك: إن قيل: كيف يجوز أن ينويه [من رمضان] وهو غير متحقق؟ قيل: ليس يحتاج أن ينوي من رمضان ولا غيره، لأن

من أصلنا: لو نوى أن يصوم تطوعا فوافق رمضان أجزأه، لأنه يحتاج أن يفرق بين الفرض والتطوع، لما يصلح لها، وشهر رمضان لا يصلح أن يصام فيه تطوع. انتهى. وذلك لما أشار إليه الخرقي بأن هذا الزمن متعين لصوم رمضان، لا يتأتى فيه غيره، فلا حاجة إلى النية، وصار هذا كمن عليه حجة الإسلام فنوى تطوعا، وفرق بأن الحج آكد حكما، بدليل المضي في فاسده، وانعقاده مع الفساد، فلذلك لم يعتبر له تعيين النية، بخلاف الصوم ثم نص الرواية إنما هو في من نوى وأطلق، والقاضي وجماعة يحكون الرواية في من أطلق، أو نوى تطوعا. وفي المسألة قول ثالث اختاره أبو العباس: أنه مع العلم يجب عليه تعيين النية، وألا يكون عاصيا لله بقصد ما لا يحل له، ومع عدم العلم كمن لم يعلم أن غدا من رمضان، ونوى صوما ما مطلقا أو مقيدا، فتبين أنه من رمضان، لا يجب التعيين، بل يجزئ الإطلاق [ونية غير رمضان عنه] لمكان العذر، ونص الخرقي في شرحه، وكذلك كلام أحمد [في] رواية: الإجزاء إنما هو في مثل هذا. انتهى. وهل يكفي نية من أول الشهر عن جميعه؟ فيه روايتان: أشهرهما عن أحمد - وأصحهما عند الأصحاب - لا، والله أعلم.

قال: ومن نوى من الليل، فأغمي عليه قبل طلوع الفجر، فلم يفق حتى غربت الشمس، لم يجزه صيام ذلك اليوم. ش: لأن الصوم الشرعي مركب من إمساك مع النية. 1300 - بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه، وشرابه من أجلي» متفق عليه؛ فأضاف ترك الطعام والشراب إليه، ومن أغمي عليه جميع النهار لم يضف إليه إمساك النية، فلم يصح صومه، إذ المركب ينتفي بانتفاء جزئه. وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو أفاق قبل غروب الشمس أجزأه، وهو صحيح، لوجود الإمساك في الجملة. ودل كلامه على أن المغمى عليه يجب عليه الصوم، ولا نزاع في ذلك، لأن الولاية لا تثبت عليه، فلم يزل به التكليف كالنوم، ولهذا جاز على الأنبياء، والله أعلم. قال: ومن نوى صيام التطوع من النهار - ولم يكن طعم - أجزأه. 1301 - ش: لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «دخل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فقال: «هل عندكم شيء؟» قلنا: لا. قال: «فإني إذا صائم» ؛ مختصر رواه مسلم. وفيه دليلان (أحدهما)

طلبه الأكل، والظاهر أنه كان مفطرا، وإلا يلزم إبطال العمل المطلوب إتمامه. (والثاني) : قوله: «إني إذا» ؛ و (إذا) للاستقبال، وبهذا يتخصص قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من لم يبيت الصيام قبل الفجر. . .» الحديث، وشرط هذا أن لا يوجد مناف غير نية الإفطار، اقتصارا على مقتضى الدليل، ونظرا إلى أن الإمساك هو المقصود الأعظم، فلا يعفى عنه أصلا. وظاهر كلام الخرقي والإمام أحمد أنه لا فرق بين [قبل] الزوال وبعده، وهو اختيار ابن أبي موسى، والقاضي في الجامع الصغير، وأبي محمد، لأن ما صحت النية في أوله، صحت في آخره كالليل، وعن أحمد: لا يجزئه بعد الزوال، واختاره القاضي في المجرد، وابن البنا في الخصال، لأنه قد مضى معظم اليوم، ومعظم الشيء في حكم كله في كثير من الأحكام، فكذلك ها هنا. «تنبيه» : يحكم له بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية، على المنصوص والمختار لأبي محمد وغيره، إذ «ليس لامرئ إلا ما نوى» بنص الرسول، وعند أبي الخطاب يحكم له بالصوم من أول النهار نظرا إلى أن الصوم لا يتبعض، وهو ممنوع، والله أعلم.

صوم المسافر

[صوم المسافر] قال: وإذا سافر إلى ما تقصر فيه الصلاة فلا يفطر حتى يترك البيوت وراء ظهره. ش: يجوز الفطر في السفر بنص الكتاب، قال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس من البر الصوم في السفر» . ومن شرط الفطر أن يكون [سفره] تقصر في مثله الصلاة، وهو ستة عشر فرسخا فأزيد، إذ ما دون ذلك في حكم المقيم لما تقدم في قصر الصلاة، وأن يترك البيوت وراء ظهره، أي يتجاوزها [لأنه ما لم يتجاوزها] فهو حاضر غير مسافر، فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] والله أعلم. [ما يوجب القضاء ولا يوجب الكفارة في الصيام] قال: ومن أكل، أو شرب، أو احتجم، أو استعط، أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان، أو قبل فأمنى أو

أمذى، أو كرر النظر فأنزل، أي ذلك فعل [عامدا] وهو ذاكر لصومه، فعليه القضاء بلا كفارة، إذا كان صومه واجبا، وإن فعل ذلك ناسيا فهو على صومه، ولا قضاء عليه. ش: أما الفطر بالأكل والشرب فبدلالة قَوْله تَعَالَى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] أباح سبحانه الأكل إلى غاية هي تبين الخيط الأبيض، من الخيط الأسود ثم أمر سبحانه بالإمساك عنهما إلى الليل، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله تعالى: كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه من أجلي» ، فدل على أن الصوم حالته هذه، ولا فرق بين مغذ وغيره، لظاهر إطلاق الكتاب. 1302 - وأما الفطر بالاحتجام فلما «روى شداد بن أوس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى على رجل وهو بالبقيع، وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي، لثمان عشرة خلت من رمضان فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه والحاكم وصححه، وصححه أيضا الإمام أحمد وإسحاق، وابن المديني، والدارمي وغيرهم.

1303 - وعن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أفطر الحاجم والمحجوم» رواه أحمد، والترمذي، وقال أحمد: إنه أصح حديث في الباب. وفي رواية: إسناده جيد.

1304 - ولأحمد وأبي داود من حديث ثوبان مثله. وقال ابن المديني: إنه وحديث شداد أصح شيء في الباب. وقال الأثرم: ذكرت لأبي عبد الله حديث ثوبان وشداد بن أوس صحيحان هما عندك؟ [قال: نعم] . 1305 - ولأحمد وابن ماجه من حديث أبي هريرة مثله.

1306 - ولأحمد من حديث عائشة، وأسامة بن زيد مثله. 1307 - «وعن الحسن عن معقل بن يسار الأشجعي، أنه قال: مر علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أحتجم في ثماني عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم» .

1308 - وروى أحمد بسنده مثل ذلك من حديث مصعب بن سعد، عن أبيه. 1309 - ومن حديث بلال، ومن حديث صفية، ومن حديث أبي موسى الأشعري، ومن حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده ذكر ذلك ابنه عبد الله في مسائله [عنه] فهؤلاء اثنا عشر صحابيا رووا هذا الحديث، وهذا يزيد على رتبة المستفيض، قال الإمام ابن خزيمة: ثبتت الأخبار عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه

قال: «أفطر الحاجم والمحجوم» . انتهى. وما يذكر من أنهما كانا يغتابان، بعيد، لأنهما من الصحابة، إذ الظاهر تنزيههما عن ذلك، وقد ذكر هذا لأحمد فقال: لو كان للغيبة ما كان لنا صوم. أي أنا لا نسلم من ذلك، فكيف يحمل الحديث على أمر يغلب وقوعه، ثم إن هذه الأحاديث كلها ليس فيها ذكر الغيبة، فكيف يجوز أن يترك من الحديث ما الحكم [منوط] به، ثم لو قدر وجودها في الحديث فالاعتبار بعموم اللفظ. 1310 - ثم قد روى أحمد في مسائل ابنه عبد الله الإفتاء بهذا اللفظ عن علي، وعائشة، وأبي هريرة، وصفية، وابن عمر.

1311 - وعن الحسن عن عدة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا يدل على تثبته والأخذ بعمومه عندهم. 1312 - وما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو صائم، واحتجم وهو محرم» رواه البخاري، وفي لفظ: «احتجم وهو محرم صائم» رواه أبو داود والترمذي وصححه،

وقد طعن فيه أحمد في رواية الأثرم فقال: هو ضعيف، لأن [راويه محمد بن عبد الله] الأنصاري ذهبت كتبه [في الفتنة] فكان يحدث من كتب غلامه أبي حكيم، ثم لو صح فلا

حجة فيه، لأنه كان محرما، فهو مسافر، إذ لم يثبت أنه كان محرما مقيما قط، والمسافر يجوز له الفطر، ويجوز أن يكون صومه تطوعا، ويجوز أن يكون به عذر، وكلاهما مبيح للإفطار. 1313 - وقد روى أبو بكر بإسناده عن ابن عباس قال: «احتجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من شيء كان وجده» . 1314 - وروى أيضا بسنده عن جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث إلى أبي طيبة أن يأتيه ليحجمه عند فطر الصائم، وأمره أن يضع محاجمه عند غيبوبة الشمس» . وهذا يدل على أنه وضع المحاجم نهارا وحجمه ليلا، وبدون هذه الاحتمالات يسقط الاستدلال، ثم على تقدير انتفاء الاحتمالات فتلك الأحاديث أكثر رواة، وقد عضدها عمل الصحابة، فتقدم على الفذ الواحد، ثم لو سلم التساوي فحديث ابن عباس فعل، وتلك قول، والقول مقدم بلا ريب، لعدم عموم الفعل، واحتمال خصوصيته به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[ثم] على تقدير عمومه لنا بدليل دعوى النسخ، نسخ حديث ابن عباس

أولى، لأنه موافق لحكم الأصل، فنسخه يلزم منه مخالفة الأصل [مرة واحدة، ونسخ «أفطر الحاجم والمحجوم» يلزم منه مخالفة الأصل] مرتين، لأن هذا القول خلاف الأصل، ونسخه خلاف الأصل. انتهى. ويفطر الحاجم كما يفطر المحجوم بنص الحديث، وكان حق الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ينبه على ذلك، والحجم في الساق كالحجم في القفا، نص عليه أحمد، ولا يشترط خروج الدم، بل يناط الحكم بالشرط، وفي الفصد وجهان. أصحهما - وبه قطع القاضي في التعليق - لا يفطر. وعلى الوجه الآخر في الشرط احتمالان. والله أعلم. وأما الفطر بالاستعاط - وهو أن يجعل في أنفه سعوطا، وهو دواء يجعل في الأنف، والمراد هنا ما يدخل في الأنف من دواء وغيره: 1315 - فلقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق [إلا أن تكون صائما» فلولا أن المبالغة في الاستنشاق] تؤثر في الصوم لم ينه عنه. وأما الفطر بكل ما دخل إلى الجوف من أي موضع كان، سواء وصل من الفم على العادة أو على غير العادة كالوجور، أو من الأنف كالسعوط، أو دخل من الأذن إلى الدماغ، أو

دخل من العين إلى الحلق كالكحل الحاد، أو دخل إلى الجوف من الدبر كالحقنة، أو وصل من مداواة جائفة أو مأمومة إلى جوفه، أو [إلى] دماغه ونحو ذلك، وسواء كان ذلك [الداخل] مغذيا أو غير مغذ، حتى لو أوصل إلى جوفه سكينا أفطر، لأنه [في الجميع] أوصل إلى جوفه ما هو ممنوع من إيصاله إليه، أشبه ما لو أوصل إليه مأكولا. 1316 - وقد روي في حديث أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أمر بالإثمد عند النوم، وقال: «ليتقه الصائم» رواه أبو داود وغيره. وقول الخرقي: [أو أدخل إلى جوفه شيئا] من أي موضع كان. من عطف العام على الخاص، لاختصاص الخاص - وهو الأكل والشرب، والاستعاط - بمعنى لم يوجد في العام وهو النص. 1317 - وأما الفطر بالقبلة مع الإمناء والإمذاء فلما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإربه» . متفق عليه واللفظ لمسلم، وفي لفظ له: «يقبل في رمضان وهو صائم» . وفيه إشارة إلى أن من لا يملك إربه يضره ذلك.

1318 - «وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: هششت فقبلت وأنا صائم [فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرا عظيما، قبلت وأنا صائم] قال: «أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم؟» قلت: لا بأس به. قال: «فمه» رواه أبو داود. شبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها مقدمة للشهوة بالمضمضة، والمضمضة إذا لم يكن معها نزول ماء لم يفطر، ومع النزول يفطر، كذلك القبلة، إلا أن أحمد ضعف هذا الخبر ولأنه إنزال بمباشرة، أشبه الإنزال بالجماع. ومفهوم كلام الخرقي أن القبلة إذا خلت عن [إنزال لم يفطر، ولا ريب في ذلك، لما تقدم من الحديثين، وحكم الاستمناء باليد حكم القبلة. وأما الفطر بتكرار النظر مع] الإنزال - أي إنزال المني، إذ هذا العرف في الإنزال - فلأنه عمل يمكن التحرز منه، ويتلذذ به، أشبه الإنزال باللمس، وخرج بذلك إنزال المذي، فلا يفطر به على الصحيح، لأنه إنزال لا عن مباشرة فلم يلتحق المذي بالمني لضعفه [عنه] وعن أبي بكر: يفطر. وخرج أيضا بطريق التنبيه إذا لم ينزل.

ومفهوم كلام الخرقي: أنه لو أنزل بنظره لم يفطر، ولا يخلو إما أن يقصد النظر أو لا، فإن لم يقصد لم يفطر بلا ريب، وإن قصده فكذلك، على ظاهر كلام أبي محمد، وأبي الخطاب وغيرهما، وظاهر كلام أبي البركات أن في المذي في النظر وجهان فالإمناء أولى، وقطع القاضي بالفطر. ومقتضى كلام الخرقي أن الفكر لا أثر له، وهو كذلك إن غلبه، وكذلك إن استدعاه على أصح الوجهين. 1319 - لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تعمل أو تتكلم» . وشرط الإفطار في جميع ما تقدم أن يكون عامدا أي قاصدا للفعل، فلو لم يقصد - بأن طار إلى حلقه ذباب، أو غبار، أو ألقي في ماء فوصل إلى جوفه، أو صب في حلقه، أو أنفه شيء كرها، أو حجم كرها، أو قبلته امرأة بغير اختياره، ونحو ذلك - لم يفطر. 1320 - لما روى أبو هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه القضاء» رواه الخمسة والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، والدارقطني وقال: رواته كلهم

[ثقات] . نفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القضاء لسبق القيء لانتفاء الاختيار، فيلحق به ما في معناه. 1321 - ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عفي لأمتي عن الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه» ولأن من لم يقصد غافل، والغافل غير مكلف، وإلا يلزم تكليف ما لا يطاق.

وأن يكون ذاكرا لصومه، فلو كان ناسيا لم يفطر في شيء مما تقدم. 1322 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» متفق عليه. وفيه دليلان: أحدهما أنه قال: «فليتم صومه» فاقتضى أن ثم صوم يتم. والثاني قوله: «فإنما أطعمه الله وسقاه» فأضاف الفعل إلى الرب سبحانه وتعالى، فدل على أنه لا أثر لذلك الفعل بالنسبة [إليه] . 1323 - مع أن الدارقطني قد روى في الحديث من طرق قيل إنه صحح بعضها «فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه» وفي لفظ له: «ولا قضاء عليه، لأن الله أطعمه وسقاه» » . وإذا ثبت هذا في الأكل والشرب قسنا عليه ما عداه، لأنه في معناه. 1324 - مع أن الدارقطني والحاكم رويا: «من أفطر من شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة» وصحح ذلك الحاكم ويؤيد ذلك

عموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» الحديث (وعن أحمد) رواية أخرى أن الحجامة تفطر مع النسيان، لإطلاق الحديث، ولعدم استفصاله من معقل بن يسار وغيره، وفي الاستمناء وجه، إلحاقا له بالجماع. ومقتضى كلام الخرقي أن الجهل بالتحريم لا أثر له، وهو اختيار الشيخين، لظاهر حديث معقل بن يسار، لأنه كان جاهلا بالتحريم وجعله صاحب التلخيص تبعا لأبي الخطاب كالمكره والناسي. «تنبيه» : النائم كالناسي، لعدم قصده، أما المكره بالوعيد فقال القاضي في تعليقه: ليس عن أصحابنا فيه رواية. ثم حكى [فيه] احتمالين، وحكى ابن عقيل عن الأصحاب أنه كالملجأ [لعموم الحديث قال] : ويحتمل عندي أن يفطر، لأنه لدفع ضرر عنه، أشبه من شرب لدفع عطش. انتهى. ومن حكم بفطره ممن تقدم فعليه القضاء إن كان صومه واجبا، لأن الصوم ثابت في ذمته، فلا تبرأ إلا بأدائه ولم يؤد، فيجب

قضاؤه، والواجب في القضاء عن كل يوم؛ يوم، إذ القضاء يحكي الأداء. 1325 - وفي حديث المجامع في رمضان «صم يوما مكانه» رواه أبو داود. ولا كفارة في شيء مما تقدم.

1326 - أما في الأكل والشرب فلعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس في المال حق سوى الزكاة» ، ولأن الأصل براءة الذمة، فلا يثبت الشغل إلا بدليل من نص، أو إجماع، أو قياس، ولم يوجد [واحد] منها، والقياس على الجماع ممنوع، لأنه أفحش، فالحاجة إلى الزجر عنه أبلغ، وقيل: تجب الكفارة على من أكل أو شرب عمدا كالجماع، (وأما) في الاحتجام فلما تقدم، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[لم يلزمه بالكفارة و] لو كانت واجبة لبينها (وعنه) إن كان عالما بالنهي وجبت وإلا

فلا، وعلى هذه هل هي كفارة وطء أو مرضع؟ فيه روايتان، (وأما) في الاستعاط، ومن أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان، فلما تقدم في الأكل والشرب. (وأما) في القبلة وتكرار النظر فلأنه إفطار بغير مباشرة، أشبه الإفطار بالأكل والشرب، واعتمادا على الأصل، وهذا إحدى الروايتين، واختيار الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى. (والرواية الثانية) : تجب الكفارة، واختارها القاضي في تعليقه، لأنه إفطار باستمتاع، أشبه الفطر بالجماع. وحكم الاستمناء حكم القبلة، قاله في التلخيص، وجزم القاضي في التعليق بعدم الكفارة فيه، معتمدا على نص الإمام في رواية ابن منصور، وفرق بينه وبين ما تقدم، بأن الاستمناء ليس بإنزال عن مباشرة، إذ المباشرة لا تكون إلا بين شخصين. ومفهوم كلام الخرقي في قوله: إذا كان صوما واجبا؛ أن الصوم لو لم يكن واجبا لا قضاء فيه، وهو المذهب بلا ريب، وستأتي المسألة إن شاء الله تعالى. وقوله: وإن فعل كل ذلك ناسيا فهو على صومه، ولا قضاء عليه. [هو] مفهوم «ذاكرا» وقد تقدم الكلام عليه.

«تنبيه» : «الأرب» بفتح الهمزة والراء الحاجة، وكذلك بكسر الهمزة وسكون الراء، وقيل: بل العضو أي الذكر، والله أعلم. قال: ومن استقاء فعليه القضاء، ومن ذرعه القيء فلا شيء عليه. ش: لحديث أبي هريرة المتقدم والاستقاء: طلب القيء، والذرع خروجه. بغير اختياره. وظاهر كلام الخرقي: أنه لا فرق بين قليل القيء وكثيره، وهو المذهب بلا ريب، وعنه: لا يفطر إلا بملء الفم. وعنه: بل بملء نصفه. والله أعلم. قال: ومن ارتد عن الإسلام فقد أفطر. ش: لأن الصوم عبادة محضة، فنافاها الكفر كالصلاة، مع أن أبا محمد قال: لا أعلم في هذا خلافا والله أعلم. قال: ومن نوى الإفطار فقد أفطر. ش: هذا هو المذهب المعروف المشهور، لأنها عبادة من شرطها النية، فبطلت بنية الخروج منها كالصلاة، ولأنه قد خلي جزء من العبادة عن النية المشترطة لجميع العبادة، والمركب يفوت بفوات جزئه فيبطل. وعن ابن حامد: لا يفطر، لأنها عبادة يلزم المضي في فاسدها، فلم تفسد بنية الخروج منها كالحج. فعلى الأول: إذا تردد في قطعه، أو

ما يوجب القضاء والكفارة في الصيام

نوى أن سيقطعها، أو علقها على شرط [فنوى الإفطار] كوجود الفداء ونحوه فوجهان، هذا كله إذا كان الصوم فرضا، أما إن كان نفلا فنوى الإفطار فقد أفطر، ثم الذي وجد من صومه في حكم العدم، فإذا عاد فنوى الصوم أجزأه وإن كان بعد الزوال على الصحيح، والله أعلم. [ما يوجب القضاء والكفارة في الصيام] قال: ومن جامع في الفرج، فأنزل أو لم ينزل، أو دون الفرج فأنزل، عامدا أو ساهيا، فعليه القضاء والكفارة، إذا كان في شهر رمضان. 1327 - ش: الأصل في الجماع في رمضان ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هلكت يا رسول الله. قال: «وما أهلكك» ؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: «هل تجد ما تعتق رقبة؟» قال: لا. قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: «فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا؟» قال: لا. ثم جلس فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرق فيه تمر، فقال: «تصدق بهذا» ، فقال: على أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا. فضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى بدت نواجذه ثم قال: «اذهب فأطعمه أهلك» ، رواه الجماعة، وفي لفظ لابن ماجه وأبي داود: «وصم يوما مكانه» ؛ قال بعض الحفاظ: روي الأمر بالقضاء من غير وجه.

إذا تقرر هذا فمتى جامع في نهار رمضان في الفرج عامدا فقد فسد صومه، وعليه القضاء والكفارة [نظرا] لهذا الحديث، إذ هو العمدة في الباب، ولا فرق بين أن ينزل أو لا ينزل، لعدم الاستفصال في الحديث، ولا بين كون الفرج قبلا أو دبرا، من آدمي أو بهيمة، على المذهب المختار للقاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وأبي البركات وغيرهم، وقيل عنه: لا تجب الكفارة بوطء البهيمة. ومبنى الروايتين عند الشريف، وأبي الخطاب [على] وجوب [الحد] بوطئها وعدمه، ولا بين كون الموطوءة زوجته أو أجنبية. وإن جامع دون الفرج [فأنزل] عامدا فكذلك، عليه القضاء والكفارة، على المشهور من الروايتين، حتى أن القاضي لم يذكر في التعليق غيرها، وخص الروايتين بالقبلة واللمس، وكذلك الخرقي، وابن أبي موسى، وأبو بكر، قالوا هنا بالكفارة، مع قولهم ثم بعدمها، وذلك لأنها مباشرة اقترن بها الإنزال، أشبهت المباشرة في الفرج، ولشمول: وقعت.

لها مع عدم استفصال الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وعنه) : لا كفارة. لأن قوة النص تقتضي أنه جامع في الفرج وكنى عن ذلك بالمواقعة، وإذا فالأصل براءة الذمة من الكفارة. وإن لم ينزل فلا قضاء ولا كفارة إذ مع عدم الإنزال ضعفت المباشرة، فصارت بمنزلة اللمس ونحوه. واختلف في وطء الساهي، هل حكمه حكم وطء العامد فيما تقدم؟ فعنه - وهو المشهور عنه، والمختار لعامة أصحابه [الخرقي] والقاضي وغيرهما -: نعم يجب القضاء والكفارة، لما تقدم من حديث الأعرابي، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصله بين أن يكون ناسيا أو عامدا، ولو اختلف الحكم لاستفصله وبينه [له] بذلك استدل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وما يورد من قول الأعرابي: هلكت. يحتمل أنه قال ذلك لعلمه أن النسيان هنا لا يؤثر] . (وعن أحمد) رواية أخرى: يجب القضاء ولا تجب الكفارة. نص عليها في رواية أبي طالب، واختارها ابن بطة، ولعله مبني على أن الكفارة ماحية، ومع النسيان لا إثم يمحى. ونقل أحمد بن القاسم عن الإمام أحمد: كل أمر غلب عليه الصائم ليس عليه قضاء ولا غيره. فأخذ من هذا أبو الخطاب [ومن تبعه] رواية بانتفاء القضاء والكفارة والحال

ما تقدم، وهو ظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان. .» الحديث، وقياسه الأكل [ناسيا] ونحوه، وليست هذه الرواية عند القاضي، بل قال في تعليقه: يجب القضاء رواية واحدة. وكذلك قال الشيرازي، وهو مقتضى قول الشريف، وأبي الخطاب، وابن الزاغوني، وأبي البركات [لجزمهم بذلك، ونقل أبو داود عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - التوقف. وحكم المخطئ - كمن جامع يظن] أن الفجر لم يطلع وقد طلع أو أن الشمس قد غربت ولم تغرب - حكم الناسي عند أبي البركات، وجزم أبو محمد بوجوب القضاء والكفارة [عليه] ، وكذلك نص أحمد في رواية حنبل وعبد الله، وكلام القاضي في التعليق محتمل. وكذلك حكم المكره حكم الناسي عند أبي الخطاب، والشيخين في مختصريهما، وعن القاضي: الجزم بوجوب الكفارة [به] بناء عنده على أن الإكراه على الوطء لا يتصور. واستثنى ابن عقيل الملجأ الذي غلبته نفسه فلم يجعل عليه قضاء ولا كفارة، والظاهر أن رواية ابن القاسم المتقدمة [تدل] على ذلك، وقال أبو محمد: ظاهر كلام أحمد [وجوب القضاء] لقوله في المرأة إذا غصبها رجل فجامعها: عليها [القضاء] .

فالرجل أولى، وكذلك جزم القاضي في تعليقه فقال: إذا جامع امرأة مكرهة أو نائمة فعليها القضاء، واستشهد بنص أحمد. وحكم النائم [حكم] الملجأ عند ابن عقيل: لا قضاء عليه ولا كفارة، والقاضي يجعل عليه القضاء. وقول الخرقي فعليه القضاء والكفارة إذا كان في شهر رمضان. الشرط راجع إلى الكفارة فقط، فلا تجب الكفارة بالجماع في غير رمضان، اتباعا [للنص] ويعضده أن الأصل براءة الذمة، أما [القضاء] فهو في كل صوم واجب. «تنبيه» : العرق بفتح [العين و] الراء مكتل، والله أعلم. قال: والكفارة عتق رقبة، فإن لم يمكنه فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا [لكل مسكين مد بر أو نصف صاع من تمر أو شعير] . ش: لحديث أبي هريرة المتقدم، فإنه نص فيه على الثلاثة، وهو ظاهر في الترتيب. وأنص منه ما روى ابن ماجه في الحديث أنه قال: «أعتق رقبة» ، قال: لا أجدها. قال: «صم شهرين متتابعين» . قال: لا أطيق. قال: «أطعم ستين مسكينا» . أمره بالعتق وظاهر الأمر

الوجوب، ولم ينقله عنه إلا عند العجز، وهذا هو المذهب والمختار من الروايتين بلا ريب. (وعنه) [رواية أخرى: أن] الكفارة على التخيير فيخير بين الثلاثة، لأنه قد ورد بلفظ [أو] [في بعض الروايات] . 1328 - وقال أحمد: حدثنا روح، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة «أن رجلا أفطر في رمضان، فأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا» . [وذكر الحديث] رواه مسلم. والأصح والأشهر في الرواية ما تقدم، ثم هو لفظ الرسول؛ والثاني لفظ الراوي، لكن [قد يقال] : ليس في الرواية الصحيحة دلالة على الترتيب، وتقديم العتق يحتمل [أن يكون] لشرفه، ورواية ابن ماجه الأمر فيها يحتمل أنه

للإرشاد، لتتوافق الروايات، إذ القصة واحدة، والأصل عدم خطأ الراوي بالمعنى، وصفة الرقبة تذكر إن شاء الله تعالى في الظهار، (وصوم الشهرين) يكون متتابعا لنص الحديث، (وصفة الإطعام) لكل مسكين مد بر، أو نصف صاع [من] تمر أو شعير، إذ حكم الإطعام هنا حكم الإطعام في كفارة الظهار، حملا للمطلق على المقيد، والواجب في كفارة الظهار كذلك. 1329 - بدليل ما روي «عن أبي سلمة، عن سلمة بن صخر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه مكتلا فيه خمسة عشر صاعا فقال: «أطعمه ستين مسكينا، وذلك لكل مسكين مد بر» رواه الدارقطني، وللترمذي معناه.

1330 - وفي «حديث خويلة بنت مالك قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشكو إليه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجادلني فيه، ويقول: «اتقي الله، فإنه ابن عمك» فما برح حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى الفرض، فقال: «يعتق رقبة» فقلت: لا يجد. قال: «فيصوم شهرين متتابعين» ، قلت: يا رسول الله إنه شيخ كبير، ما به من صيام. قال: «فليطعم ستين مسكينا» ، قلت: ما عنده من شيء يتصدق به. قال: «فإني سأعينه بعرق من تمر» ، قلت: يا رسول الله فإني سأعينه بعرق آخر. قال: «قد أحسنت، فاذهبي فأطعمي عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك» ؛ والعرق ستون صاعا، رواه أبو داود؛ وفي رواية: والعرق مكتل يسع ثلاثين صاعا. وقال: هذا أصح» . 1331 - وروى أحمد: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن أبي يزيد المدني، قال: «جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمظاهر: «أطعم هذا فإن مدي شعير مكان مد بر» . وبهذا الحديث يحصل الجمع بين

الأحاديث، وبين أن الواجب من التمر والشعير نصف صاع، ومن البر مد. واقتصر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذكر التمر والبر والشعير، لورود النص بها، وإلا فالواجب في الكفارة ما يجزئ في الفطرة، وفي الخبز، وقوت البلد خلاف، يأتي إن شاء الله تعالى في غير هذا الموضع، والله أعلم. قال: وإذا جامع فلم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة. ش: إذا جامع في يوم في رمضان، ثم لم يكفر حتى جامع في ذلك اليوم ثانيا، فكفارة واحدة بلا نزاع، لأن الكفارات زواجر، بمنزلة الحدود، فتتداخل كالحدود، وإن جامع في يوم ثم لم يكفر حتى جامع في يوم آخر فوجهان: (أحدهما) - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي بكر في التنبيه، وابن أبي موسى - لا يجب إلا كفارة واحدة، كما لو كانا في يوم، وقياسا على الحدود، ولأن حرمة الشهر كله

الحكم فيمن أكل أو شرب ظانا عدم طلوع الفجر أو غروب الشمس

حرمة واحدة، فهو كاليوم الواحد، ولهذا أجزأ بنية واحدة على رواية. (والثاني) : يجب عليه كفارتان، أو كفارات بعدد الأيام، اختاره ابن حامد، والقاضي في خلافه، وفي جامعه، وروايتيه، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وصاحب التلخيص، لأنهما يومان لو انفرد كل منهما بالفساد تعلقت به الكفارة، فإذا عمهما الفساد وجب أن يتعلق بكل منهما كفارة، كاليومين من رمضانين، ولأن كل يوم بمنزلة عبادة منفردة، بدليل أن فساد بعضها لا يسري إلى بقيتها، واحتياج كل يوم إلى نية على المذهب، والله أعلم. قال: وإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية. ش: نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا في رواية حنبل والميموني، لأنه وطء محرم لحرمة رمضان، فوجب أن تتعلق به الكفارة كالوطء الأول، أو عبادة يجب بالجماع فيها كفارة، فجاز أن تتكرر الكفارة مع الفساد، دليله الحج، والله أعلم. [الحكم فيمن أكل أو شرب ظانا عدم طلوع الفجر أو غروب الشمس] قال: وإن أكل وظن أن الفجر لم يطلع، وقد كان طلع، أو أفطر يظن أن الشمس قد غابت ولم تغب فعليه القضاء. ش: لأنه أكل مختارا ذاكرا، أشبه ما لو أكل يوم الشك فتبين

أنه من رمضان، ولأنه كان يمكنه التحرز، أشبه العامد. 1332 - وقد روي عن هشام بن عروة، عن فاطمة امرأته، عن أسماء، «قالت: أفطرنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في يوم [غيم] ثم طلعت الشمس. قيل لهشام: أمروا بالقضاء؟ قال: لا بد من القضاء» . أخرجه البخاري. أما إن أكل ظانا أن الفجر لم يطلع، وأن الشمس قد غربت، ولم يتبين له شيء، فلا قضاء

عليه، ولو تردد بعد، قاله أبو محمد، إذا لم يوجد يقين أزال ذلك الظن، فالأصل بقاؤه وأوجب عليه صاحب التلخيص القضاء في ظن الغروب، إذ الأصل بقاء النهار، ومن هنا قال: يجوز الأكل بالاجتهاد [في أول اليوم فلا يجوز في آخره إلا بيقين؛ وأبو محمد يجوز الأكل بالاجتهاد] فيهما. واتفقوا على وجوب القضاء فيما إذا أكل شاكا في غروب الشمس، لا في طلوع الفجر، نظرا للأصل فيهما، والله أعلم. قال: ومباح لمن جامع بالليل أن لا يغتسل حتى يطلع الفجر، وهو على صومه. ش: قد دل على ذلك إشارة النص في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] الآية، وهو يشمل جميع الليلة، ومن ضرورة حل الرفث في جميع الليلة أن يصبح جنبا صائما، وقد شهدت السنة [لذلك] . 1333 - فعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رجلا قال: يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم» ، فقال: لست مثلنا يا رسول الله، قد

صوم الحامل والمرضع والشيخ الكبير

غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال: «والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى وأعلمكم بما أتقي» . رواه أحمد ومسلم، وأبو داود. 1334 - وفي الصحيحين عن أم سلمة قالت: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصبح جنبا من جماع لا حلم [ثم] لا يفطر ولا يقضي. 1335 - وحديث أبي هريرة: «من أصبح جنبا فلا صوم له» ؛ قال الخطابي: أحسن ما سمعت فيه أنه منسوخ. والله أعلم. قال: وكذلك المرأة إذا انقطع حيضها قبل الفجر، فهي صائمة إذا نوت الصوم قبل طلوع الفجر، وتغتسل إذا أصبحت. ش: لأنه حدث يوجب الغسل، أشبه [حدث] الجنابة ويشترط لصحة صومها انقطاع الحيض من الليل، وإلا لو انقطع في أول جزء من اليوم أفسده، ونية الصوم قبل طلوع الفجر، لما تقدم من وجوب النية من الليل في الفرض، والله أعلم. [صوم الحامل والمرضع والشيخ الكبير] قال: والحامل إذا خافت على جنينها، والمرضع على ولدها، أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا.

ش: أما إفطارهما فأمر مطلوب، بحيث يكره تركه، لأن خوفهما على ولديهما خوف على آدمي، أشبه خوفهما على أنفسهما، ولو خافتا على أنفسهما أفطرتا، لأنهما بمنزلة المريض [فكذلك إذا خافتا على ولديهما. وأما القضاء فلما تقدم من أنهما بمنزلة المريض] والمريض عليه القضاء بنص الكتاب، قال سبحانه: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] فكذلك هما. وأما وجوب إطعامهما عن كل يوم مسكينا فلقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] أي إذا أفطروا، والحامل والمرضع يطيقان الصوم، فدخلا في الآية الكريمة، ولا يقال: 1336 - هذه الآية منسوخة بما بعدها من قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] كذا في الصحيحين عن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. 1337 - لأنا نقول: قال ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أثبتت للحبلى والمرضع. وعنه: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] قال: كانت رخصة للشيخ

الكبير، والمرأة الكبيرة، وهما يطيقان الصيام، أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا. رواه أبو داود، وقال: إذا خافتا يعني على أولادهما. فظاهر قوله الأول نسخ الحكم في حق غير الحامل والمرضع، وبقاء الحكم فيهما. وظاهر قوله الثاني أن الآية [الكريمة] محكمة غير منسوخة، وأنها إنما أريد بها هؤلاء من باب إطلاق العام وإرادة الخاص، وهذا أولى من ادعاء النسخ، فإنه خلاف الأصل، فالواجب عدمه أو تقليله ما أمكن، وما يقال من أن قوله: بعد {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] ينافي الحمل على ما تقدم، إذ الصوم ليس بخير لها ولا يجاب عنه بأن تخصيص آخر الآية لا يدل على تخصيص أولها على الصحيح، كما في قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] بعد {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] ونحوه. بقي أن يقال:

فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنه لا يجب إلا الفدية فقط، فإيجاب القضاء يخالف ظاهر الآية؟ فيقال: القضاء من دليل آخر، وهو القياس على المريض. وقول الخرقي: والمرضع. يشمل الأم وغيرها [وهو كذلك] وإطعام المسكين مد بر، أو نصف صاع تمر أو شعير على ما تقدم. ولو كان خوف الحامل أو المرضع على نفسها لم يجب إلا القضاء فقط، على ظاهر كلام الخرقي، وقول العامة، لتحقق شبهها بالمريض، بل هي فرد من أفراده، وظاهر كلام أحمد بل نصه: وجوب القضاء والفدية. قال في رواية الميموني: الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أو على ولديهما يفطران، ويطعمان، ويصومان إذا أطاقتا. وقال في رواية صالح: [تخاف على نفسها] تفطر وتقضي وتطعم؛ وهذا ظاهر [إطلاق] ما نقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وحمل القاضي كلام أحمد على أنها خافت على ولدها أيضا مع خوفها على نفسها [وهو] بعيد من اللفظ. والله أعلم. قال: وإذا عجز عن الصوم لكبر أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينا. ش: نص على هذا أحمد في رواية الميموني وحرب، وذلك

حكم الحائض والنفساء في رمضان

لما تقدم من الآية الكريمة، وقول ابن عباس في تفسيرها، ولأنه صوم واجب، فجاز أن ينوب عنه المال، كالصوم في كفارة الظهار والجماع، وفي معنى العجز عن الصوم لكبر العجز عنه لمرض لا يرجى برؤه، وقد ذكر ذلك الخرقي في أول الحج، والله أعلم. [حكم الحائض والنفساء في رمضان] قال: وإذا حاضت المرأة أو نفست] أفطرت وقضت وإن صامت لم يجزئها. ش: هذا إجماع و (الحمد لله رب العالمين) . 1338 - وفي الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنا نحيض فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» . 1339 - وفي البخاري: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليست إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم، فذلك من نقصان دينها» ، وهذا إخبار عن شأنها الشرعية وحالها، ودم النفاس هو دم حيض في الحقيقة، فحكمه حكمه، وتأثم بالفعل لارتكابها المنهي عنه، والله أعلم.

قال: فإن أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت أطعم عنها عن كل يوم مسكين. ش: القضاء واجب على الحائض والنفساء بالإجماع، وقد شهد له حديث عائشة، ثم لا يخلو [إما] أن يمكنها القضاء أو لا، فإن لم يمكنها لمرض أو سفر، أو ضيق وقت، ونحو ذلك، حتى ماتت فلا فدية عليها ولو مضى عليها أحوال، في ظاهر كلام الخرقي، وهو الصحيح المعروف من الروايتين، لأنه حق لله تعالى، وجب بالشرع، مات من وجب عليه قبل إمكان فعله، فسقط إلى غير بدل كالحج. (والرواية الثانية) : تجب الفدية، لأنه صوم واجب سقط بالعجز عنه، فوجب الإطعام عنه، كالشيخ العاجز عن الصيام. وإن أمكنها القضاء فلم تقض حتى ماتت فلا يخلو إما أن يكون قبل أن يدركها رمضان آخر، أو بعد أن أدركها رمضان آخر، فإن كان قبل أن أدركها رمضان آخر وجب أن يطعم عنها من تركتها لكل يوم مسكين. 1340 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه [مكان] كل يوم مسكين» رواه الترمذي [وقال] : الصحيح أنه عن ابن عمر موقوف.

1341 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن نذر قضى عنه وليه. رواه أبو داود. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يجوز أن يصام [عنه] والحال ما تقدم، لما تقدم، ولأنه نوع عبادة لا تصح النيابة عنه في حال الحياة عند العجز عنه، فلا تصح النيابة عنه بعد الموت كالصلاة. 1342 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» محمول على النذر جمعا بين الأدلة، ويؤيده أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هي راوية الحديث.

1343 - وقد روي عنها أنها قالت: يطعم في قضاء رمضان ولا يصام. رواه الأثرم في سننه والظاهر من حالها فهم التخصيص، وهو أولى من ذهولها عما روت. وإن ماتت بعد أن أدركها رمضان آخر فوجهان، وقيل: روايتان: (إحداهما) وهو ظاهر إطلاق أحمد في رواية المروذي والخرقي، والقاضي، والشيرازي. وغيرهم: يطعم عنه لكل يوم مسكين [إذ بذلك يزول التفريط بالتأخير، فيصير كما لو مات من غير تفريط. (والثاني) : يطعم عنه لكل يوم مسكينان] جزم به أبو الخطاب في الهداية وصاحب التلخيص، وأبو البركات، لأن الموت مع التفريط بدون التأخير

عن رمضان آخر يوجب كفارة، والتأخير بدون الموت يوجب كفارة، فإذا اجتمعا وجب أن يجب كفارتان، والله أعلم. قال: ولو لم تمت المفرطة حتى أظلها شهر] رمضان آخر صامته ثم قضت ما كان عليها، وأطعمت عن كل يوم مسكينا. ش: قد تقدم [له] حكم التفريط مع الموت، بقي حكم التفريط مع الحياة، فقال: إنه إذا أظلها [مع التفريط] شهر رمضان آخر، فإنها تصومه، لما تقدم من أن زمنه متعين له، لا يمكن أن يقع فيه غيره، ثم تقضي ما كان عليها نذرا كالواجب، ثم تطعم لكل يوم مسكينا، نص على ذلك. 1344 - معتمدا على قول الصحابة [منهم] ابن عمر وابن عباس، وأبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وقد روى ذلك عنهم الدارقطني بسنده.

1345 - ورواه مرفوعا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من حديث أبي هريرة، لكن فيه ضعف وكلام الخرقي يقتضي أنه لا يجب أكثر من إطعام مسكين وإن حصل التأخير رمضانات، وأشعر كلامه بأنها لو أخرت مفرطة ثم فعلت قبل أن يدخل [عليها] رمضان فلا شيء عليها، لأنها قد فعلت الواجب في وقته، أشبه ما لو لم تؤخره، وهذا يتضمن أن وقت أداء قضاء رمضان جميع السنة. 1346 - وذلك «لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كان يكون علي الصيام من رمضان، فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان، وذلك لمكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. [رواه الجماعة] وفي الدلالة منه نظر لتصريحها بالعذر، والله أعلم. قال: وكذلك حكم المريض والمسافر في الموت والحياة إذا فرطا في القضاء.

حكم المريض والمسافر في الصيام

ش: يعني ما تقدم في الحائض والنفساء - من أنهما إذا فرطا وماتا وجب الإطعام عنهما لكل يوم مسكينا، ومن أنهما إذا أخرتا مفرطتين حتى أظلهما رمضان أنهما يقضيان ويطعمان - يجري مثله في المريض والمسافر، لاشتراك الكل في المعنى المقتضي للاشتراك في الحكم. وقوله: إذا فرطا في القضاء. لأنهما إذا لم يفرطا فلا شيء عليهما مع الموت، ومع الحياة يلزمها الفعل ليس إلا، والله أعلم. [حكم المريض والمسافر في الصيام] قال: وللمريض أن يفطر إذا كان الصوم يزيد في مرضه. ش: للمريض أن يفطر في الجملة بالإجماع، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 185] أي: فأفطر فعليه عدة، أو فالواجب عدة، ومن قرأ (عدة) بالنصب فالتقدير: فليصم عدة، ومن شرط جواز الفطر عندنا التضرر بالصوم، بأن يزيد بالصوم مرضه أو يتباطأ [برؤه] ونحو ذلك، لأن ذلك وقع رخصة لنا، ودفعا للحرج [والمشقة] عنا، ولذلك قرنه بالسفر، فإذا لم يوجد الضرر فلا معنى للفطر، والله أعلم. قال: فإن تحمل وصام كره له ذلك وأجزأه.

ش: إذا تحمل من جاز له الفطر بالمرض وصام كره له ذلك، لإضراره بنفسه، وتركه تخفيف الله تعالى، ورخصته المطلوب إتيانها. 1347 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته» ولأن بعض العلماء لا يصحح صومه، ويمنع [من] التقدير في الآية. انتهى، فإن فعل أجزأه لإتيانه بالأصل الذي هو العزيمة، وصار هذا بمنزلة من أبيح له ترك القيام في الصلاة فتكلف وقام، والله أعلم. قال: وكذلك المسافر. ش: أي حكم المسافر المتقدم في أول الباب الذي يجوز له الفطر حكم المريض في أن الفطر أولى له، وأنه إن صام أجزأه لما تقدم.

1348 - وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس من البر الصوم في السفر» . 1349 - وقال: «عليكم برخصة الله التي رخص لكم» . 1350 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحمزة بن عمرو الأسلمي - وكان كثير الصوم، وقد سأله عن الصوم في السفر فقال: - «إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر» ، فهذا لبيان الجواز، وتلك للأفضلية، والله أعلم.

قضاء رمضان

[قضاء رمضان] قال: وقضاء شهر رمضان متفرقا يجزئ. ش: لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] وبذلك استدل ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. 1351 - قال البخاري: قال ابن عباس: لا بأس أن يفرق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] . 1352 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «قضاء رمضان إن شاء فرق، وإن شاء تابع» رواه الدارقطني.

1353 - «وعن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن تقطيع قضاء رمضان، فقال «ذاك إليك، أرأيت لو كان على أحد دين فقضى الدرهم والدرهمين، ألم يكن قضاء؟ فالله أحق أن يعفو ويغفر» ، رواه الدارقطني وحسن إسناده وهو مرسل. 1354 - وما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: نزلت (فعدة من أيام أخر متتابعات) فسقطت متتابعات. رواه الدارقطني إن صح فهو محمول على أنه سقط حكمها بالنسخ، لا أنه ضاع لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] والله أعلم. قال: والمتتابع أحسن.

صيام التطوع

ش: إذ القضاء يحكي الأداء، وخروجا من خلاف العلماء، والله أعلم. [صيام التطوع] [قضاء صيام التطوع] قال: ومن دخل في صيام تطوع فخرج منه فلا قضاء عليه. ش: من دخل في صوم تطوع جاز له الخروج منه وإن لم يكن له عذر، ولا قضاء عليه على المذهب المنصوص المعروف. 1355 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: دخل علي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات يوم فقال: «هل عندكم شيء؟» فقلنا: لا. فقال: «إني إذا صائم» ثم أتانا يوما آخر، فقلنا: يا رسول الله قد أهدي لنا حيس. فقال: «أرينيه فلقد أصبحت صائما» فأكل» . وفي لفظ: قال طلحة - هو ابن يحيى - فحدثت مجاهدا بهذا الحديث فقال: ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله، فإن شاء أمضاها، وإن شاء أمسكها. رواه مسلم.

1356 - «وعن أم هانئ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل عليها بشراب فشرب، ثم ناولها فشربت، وقالت: يا رسول الله أما إني كنت صائمة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر» [رواه أحمد والترمذي] . وفي رواية «قالت: إني صائمة، ولكني كرهت أن أرد سؤرك. فقال: «يعني إن كان قضاء رمضان فاقضي يوما مكانه، وإن كان تطوعا فإن شئت فاقضي، وإن شئت فلا تقضي» رواه أحمد، وأبو داود بمعناه. وهذا نص.

ونقل حنبل عن أحمد: إذا أجمع على الصيام من الليل، فأوجبه على نفسه، فأفطر من غير عذر، أعاد يوما مكانه. فظاهر إطلاق هذا وجوب القضاء على من خرج من صوم التطوع لغير عذر. 1357 - وذلك لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: أهدي لحفصة طعام، وكنا صائمتين فأفطرنا، ثم دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا: يا رسول الله إنا أهديت لنا هدية واشتهيناها فأفطرنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عليكما، صوما مكانه يوما آخر» رواه أبو داود. ومنع القاضي وغيره رواية حنبل، وحملوها على

النذر، توفيقا بين نصوصه، وأما الحديث فقد أنكره أحمد في رواية الأثرم، وقال أبو داود: لا يثبت. وقال الترمذي: فيه مقال، ثم هو محمول على الندب جمعا بين الأدلة، وبقرينة «لا عليكما» أي لا بأس أو لا حرج، ومن لا بأس عليه لا قضاء عليه حتما. - (تنبيه) : «الحيس» تمر وأقط وسمن يطبخ، والله أعلم. قال: وإن قضاه فحسن. ش: لا يجب عليه قضاء صوم التطوع إذا أفسده، وإن

قضاه فحسن. لما تقدم من حديث عائشة، وللخروج من الخلاف. «تنبيه» : وحكم سائر التطوعات حكم الصوم فيما تقدم، عدا الحج والعمرة، فإنهما يلزمان بالشروع، وعنه أنه قال: الصلاة أشد، فلا يقطعها، يعني من الصوم. قيل له: فإن قطعها قضاها؟ قال: إن قضاها فليس فيه اختلاف؛ فمال الجوزجاني [من هذا] إلى أنها تلزم بالشروع، لأنها ذات إحلال وإحرام، فأشبهت الحج، وعامة الأصحاب على خلافه، وكلام أحمد لا دلالة فيه على وجوب القضاء، بل [على] تأكد استحبابه، والله أعلم. قال: وإذا كان للغلام عشر سنين وأطاق الصوم أخذ به. ش: أي ألزم به، ليتمرن على ذلك ويعتاده، كما يؤمر بالصلاة إذا بلغ عشرا، ثم هل هذا الأخذ على سبيل الوجوب عليه أم لا؟ فيه روايتان. (إحداهما) نعم. 1358 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إذا أطاق الغلام صيام ثلاثة أيام وجب عليه صيام رمضان» (والثانية) : وهي

حكم إسلام الكافر في شهر رمضان

المذهب - لا. لرفع القلم عنه كما في الحديث، ثم الخرقي قيده بعشر سنين. وغيره ينيطه بالتمييز مع الإطاقة، والله أعلم. [حكم إسلام الكافر في شهر رمضان] قال: وإذا أسلم الكافر في شهر رمضان صام ما يستقبل من بقية الشهر. ش: لا نزاع في ذلك، لصيرورته أهلا لأداء العبادة الواجبة على كل مكلف. 1359 - وقد روى ابن ماجه عن سفيان بن عبد الله بن ربيعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «حدثنا وفدنا الذين قدموا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسلام ثقيف قال: وقدموا عليه في رمضان، وضرب عليهم قبة في المسجد، فلما أسلموا صاموا ما بقي عليهم من الشهر» .

- ومقتضى كلامه أنه لا يجب عليه قضاء ما مضى من الشهر قبل إسلامه، ولا نزاع في ذلك أيضا عندنا، إذ الإسلام يجب ما قبله، وكرمضان الماضي، واختلف عن أحمد في اليوم الذي أسلم فيه هل يلزمه إمساكه وقضاؤه؟ فيه روايتان (إحداهما) - وهي المنصوصة عن الإمام و [المذهب] عند القاضي وغيره - يلزمانه، لإدراكه جزءا من [وقت] العبادة، أشبه من أدرك ركعة من وقت الصلاة. 1360 - وفي الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في يوم عاشوراء: «من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه» . 1361 - وفي أبي داود عن عبد الرحمن بن سلمة عن عمه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن أسلم أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «صمتم يومكم هذا؟» قالوا: لا. قال: «فأتموا يومكم واقضوا» » وهذا صريح في وجوب الإتمام والقضاء.

حكم من رأى هلال رمضان وحده

(والثانية) : لا يجبان، وهو ظاهر كلام الخرقي، لعدم تمكنه من [التلبس] بالعبادة أشبه ما لو أسلم بعد خروج اليوم، وحكى أبو العباس رواية ثالثة فيما أظن واختارها: يجب الإمساك ولا يجب القضاء، نظرا إلى أن الحديث الصحيح إنما فيه الأمر بذلك، والله أعلم. [حكم من رأى هلال رمضان وحده] قال: ومن رأى هلال رمضان وحده صام. ش: هذه إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: أعجب

إلي أن يصوم وهو المذهب [عند الأصحاب] لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته» وهذا قد رآه، ولأنه قد تيقنه من رمضان، فلزمه صومه كاليوم الذي بعده. (والرواية الثانية) - وهي أنصهما - لا يصوم إلا في جماعة الناس، لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن شهد ذوا عدل فصوموا» فعلق الرؤية على ذوي عدل، ولأنه يوم محكوم به من شعبان، أشبه الذي قبله، والله أعلم. قال: فإن كان عدلا صوم الناس بقوله. ش: إذا كان الرائي عدلا صوم الإمام أو نائبه الناس بقوله، هذا هو المذهب المنصوص، المختار للأصحاب. 1362 - لما روي عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني رأيت الهلال. قال بعض الرواة: يعني رمضان. فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: نعم. قال: «أتشهد أني رسول الله؟» قال: نعم. قال: يا بلال أذن في الناس أن يصوموا» رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وروي عن عكرمة مرسلا.

1363 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه» رواه أحمد وأبو داود. وهذا ظاهر في أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رتب صومه وصوم الناس على إخباره، ولأنه خبر يلزم به عبادة يستوي فيه المخبر والمخبر، لا يتعلق به حق آدمي، فقبل منه [قول] واحد، كالإخبار عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا يلزمه هلال شوال، لأنه يتعلق به حق آدمي وهو الإفطار، ولا الشهادة في سائر الحقوق، لعدم استواء المخبر والمخبر فيهما وعدم لزوم

العبادة [فيها] (وعن أحمد) ما يدل [على] أنه لا يقبل فيه إلا قول اثنين كبقية الشهود. 1364 - لما روي عن أمير مكة الحارث بن حاطب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «عهد إلينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن ننسك للرؤية، فإن لم نره وشهد شاهدان عدلان نسكنا لشهادتهما» ، رواه أبو داود والدارقطني، وقال: هذا إسناد متصل صحيح. وأجيب بأنا نقول بمنطوقه، ومفهومه قد عارضه منطوق ما تقدم، ولا ريب أن المنطوق يقدم على المفهوم. وتوسط أبو بكر فقال: إن كان الواحد بين جماعة الناس، وتفرد بالرؤية لم يقبل، لأنهم يعاينون ما عاين، فالظاهر خطؤه، وإن كان منفردا قبل كالأعرابي الجائي من الحرة، لما شهد عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورد بحديث ابن عمر المتقدم. (تنبيه) : [هذا] الخلاف السابق مبني على أن هذا هل يجري مجرى الإخبار أو مجرى الشهادة؟ والمذهب إجراؤه

ما يثبت به انتهاء شهر رمضان

مجرى الإخبار، وعليه فلو أخبره من يثق بقوله قبل قوله، وإن لم يثبت ذلك عند الحاكم، وتقبل فيه المرأة، وعلى الثاني لا تقبل، والله أعلم. [ما يثبت به انتهاء شهر رمضان] قال: ولا يفطر إلا بشهادة عدلين. ش: حكم هلال شوال حكم بقية الشهور لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين. 1365 - لما روى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب «، أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال: إني جالست أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وسألتهم، وإنهم حدثوني أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا [لرؤيته، وأنسكوا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين، وإن شهد شاهدان ذوا عدل فصوموا وأفطروا» » ] رواه النسائي. 1366 - وعن ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنه أجاز شهادة رجل واحد على رؤية الهلال، وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا [شهادة] رجلين» وفارق هلال رمضان، لما فيه من الاحتياط للعبادة.

حكم من رأى هلال شوال وحده

وظاهر قول الخرقي أن شرطهما أن يكونا رجلين وهو كذلك إذ هذا ليس بمال، ولا يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال. وقوله: بشهادة [اثنين] . يحتمل عند الحاكم، ويحتمل مطلقا، وبه قطع أبو محمد، فجوز الفطر بقول عدلين لمن يعرف حالهما، ولو ردهما الحاكم لجهله بهما، قال: ولكل واحد من العدلين [أيضا] الفطر، والله أعلم. [حكم من رأى هلال شوال وحده] قال: ولا يفطر إذا رآه وحده. ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية جماعة، وقال: يتهم نفسه.

حكم صيام الأسير الذي اشتبهت عليه الأشهر

1367 - وذلك لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون» . 1368 - وعن أبي قلابة أن رجلين قدما المدينة وقد رأيا الهلال - يعني شوال - وقد أصبح الناس صياما، فأتيا عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكرا ذلك له، فقال لأحدهما: أصائم أنت؟ قال: بل مفطر. قال: ما حملك على هذا؟ قال: لم أكن لأصوم وقد رأيت الهلال. وقال للآخر. قال: أنا صائم. قال: ما حملك على هذا؟ . قال: لم أكن لأفطر والناس صيام. فقال للذي أفطر: لولا مكان هذا لأوجعت رأسك. ثم نودي في الناس أن اخرجوا. رواه سعيد. وهذا ظاهر في أنه أراد ضربه لإفطاره برؤيته، ورفع عنه الضرب لشهادة صاحبه. وقيل: يفطر سرا، لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» [الحديث] ولأنه يوم تيقن أنه من شوال، أشبه الذي بعده، والله أعلم. [حكم صيام الأسير الذي اشتبهت عليه الأشهر] قال: وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام] .

الأيام التي يحرم صيامها

ش: قياسا على من اشتبهت عليه أدلة القبلة، فإن صلى [مع القدرة عليه] بغير اجتهاد لم يجزه لأنه ترك فرضه، وبدونها كما إذا خفيت عليه الأدلة وجهان، أصلهما إذا صلى على حسب حاله، لخفاء أدلة القبلة، والله أعلم. قال: فإن صام شهرا يريد به شهر رمضان فوافقه أو ما بعده أجزأه، وإن وافق ما قبله لم يجزئه. ش: إذا تحرى وصام شهرا يريد به شهر رمضان، فإن لم ينكشف له الحال فلا ريب عندنا في الإجزاء، وإن تبين له الحال فإن وافق شهر رمضان فبها ونعمت، ولا يضره التردد في النية، لمكان الضرورة، وإن وافق بعده أجزأه أيضا، ولا يضره عدم نية القضاء وإن اشترطت، لمحل العذر، وإن وافق [ذلك] قبله لم يجزئه لعدم تعلق الخطاب به إذا. وظاهر إطلاق الخرقي أنه متى وافق شهرا بعده أجزأه، وإن كان ناقصا ورمضان تام، وصرح بذلك القاضي، وصاحب التلخيص، وأورده أبو البركات مذهبا، كما لو نذر شهرا، واختار أبو محمد أنه يلزمه بعدة أيام رمضان، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، والله أعلم. [الأيام التي يحرم صيامها] قال: ولا يصام يوما العيدين، ولا أيام التشريق، لا عن فرض، ولا عن تطوع، فإن قصد لصيامهما كان عاصيا،

ولم يجزئه عن فرض، وفي أيام التشريق عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: أنه يصومها للفرض. ش: لا يجوز أن يصام يوم العيد لا الفطر ولا الأضحى عن فرض ولا عن تطوع. 1369 - لما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صيام يومين، يوم الفطر ويوم النحر، وفي لفظ للبخاري: «لا صوم في يومين» ؛ ولمسلم: «لا يصح الصوم في يومين» . 1370 - وعن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: «شهدت العيد مع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فصلى، ثم انصرف فخطب الناس، فقال: إن هذين يومان نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن صيامهما، يوم فطركم من صيامكم، واليوم الآخر تأكلون فيه من نسككم» . متفق عليه. فإن قصد صيامهما كان عاصيا، لقصده ارتكاب ما نهى الشارع عنه، ولم يجزئه عن فرض، لارتكابه النهي المقتضي لفساد المنهي عنه، هذا هو المشهور، وهو قياس المذهب فيمن صلى في ثوب غصب، أو [في] بقعة

غصب، أو حج بمال غصب، أن باع وقت النداء ونحو ذلك، والمنصوص عن أحمد - في رواية مهنا - الصحة مع التحريم. وهو قياس القول الآخر في هذه المسائل. وقول الخرقي: ولم يجزئه عن فرض. ربما أوهم أنه يجزئه عن التطوع، وليس كذلك، وإنما المحتاج إليه في البيان [هو الفرض] ، أما التطوع فقد اقتضى كلامه أنه يعصي بقصد صومه، والحكم على صحته وفساده لا حاجة إليه. انتهى. أما أيام التشريق فلا يجوز صيامها عن تطوع. 1371 - لما روى نبيشة الهذلي قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيام التشريق أيام أكل وشرب، وذكر الله تعالى» رواه مسلم. 1372 - «وعن سعد بن أبي وقاص قال: أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أنادي أيام منى «إنها أيام أكل وشرب، ولا صوم فيها» يعني أيام التشريق» . رواه أحمد.

و [في] جواز صومها عن الفرض روايتان: (إحداهما) - وهي التي رجع إليها [أحمد] أخيرا قال: كنت أذهب إليه، - يعني [عن] صوم المتمتع لأيام التشريق - فأما اليوم فإني أهابه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هي أيام أكل وشرب» واختيار الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي، والشيرازي وغيرهم - لا يجوز لما تقدم. 1373 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن صوم خمسة أيام في السنة، يوم الفطر، ويوم النحر، وثلاثة [أيام التشريق» . رواه الدارقطني] . (والثانية) : يجوز إذ يوم النحر أحد العيدين، فوجب أن يختص بحظر الصوم فيه دون ما بعده، دليله يوم الفطر، وابن أبي موسى خص الخلاف بالصوم عن دم المتعة، ونص أحمد بالجواز إنما هو في ذلك، نعم أومأ إلى الجواز في النذر. 1374 - وذلك لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وابن عمر رضي الله

عنهما قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي. رواه البخاري وأجاب القاضي عن هذا بأنه خاص مختلف فيه، والأول عام متفق عليه، فتقدم على المختلف فيه. انتهى، وفيه نظر، فعلى الأول إن صامها فهو كصيام يوم العيد على ما مر. «تنبيه» : أيام التشريق هي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، والثالث عشر، من ذي الحجة، سميت بذلك لأنهم يشرقون فيها لحوم الأضاحي، أي يقطعونها تقديدا وقيل: بل لأجل صلاة العيد وقت شروق الشمس. وقيل: بل لأن الذبح بعد الشروق، والله أعلم. قال: وإذا رؤي الهلال نهارا قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المقبلة. ش: أما بعد الزوال فللمقبلة بلا نزاع نعلمه، لقربه منها. 1375 - ولقصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأما قبله فعنه للماضية لقربه منها. وعنه للمقبلة، وهي المذهب.

1376 - لما روى أبو وائل قال: جاءنا كتاب عمر ونحن بخانقين: أن الأهلة بعضها أكبر من بعض، فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى تمسوا، إلا أن يشهد رجلان أنهما رأياه بالأمس عشية. وهذا يشمل ما قبل الزوال وبعده، (وعنه) إن كان في أول الشهر فللماضية، وفي آخره للمقبلة، احتياطا للعبادة. «تنبيه» : هذا التعليل وكلام أبي محمد [وغيره] يقتضي أن هذا مختص برمضان، فاللام في كلام الخرقي للعهد، والله أعلم.

السحور وتعجيل الإفطار للصائم

[السحور وتعجيل الإفطار للصائم] قال: والاختيار تأخير السحور. ش: لا نزاع في مطلوبية السحور. 1377 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تسحروا فإن في السحور بركة» . متفق عليه. 1378 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور» رواه مسلم وغيره. والمستحب تأخيره. 1379 - لما روي عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول: «لا «تزال أمتي بخير ما [أخروا] السحور، وعجلوا الفطر» ، رواه أحمد. «تنبيه» : السحور بفتح السين اسم لما يؤكل في السحر، وبالضم اسم الفعل على الأشهر، وقيل: يجوز في اسم الفعل [الفتح] أيضا، والمراد في كلام الخرقي الفعل، فيكون بالضم على الصحيح و «الأكلة» بفتح

الصيام المستحب

الهمزة، ورواه بعضهم بضمها، قال الحافظ زكي الدين: والوجه الفتح، فإن الأكلة بالفتح بمعنى المرة الواحدة. مع الاستيفاء، وبالضم اللقمة إذا لم يكن معها ماء، والله أعلم. قال: وتعجيل الإفطار. ش: أي [والاختيار تعجيل الإفطار] لما تقدم. 1380 - وفي الصحيحين عن سهل بن سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر» . 1381 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقول الله عز وجل: إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطرا» رواه أحمد والترمذي، والله أعلم. [الصيام المستحب] [صيام ستة أيام من شوال] قال: ومن صام شهر] رمضان، وأتبعه بست من شوال، وإن فرقها فكأنما صام الدهر. 1382 - ش: لما روي عن أبي أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر» رواه مسلم وغيره.

صيام يوم عاشوراء

1383 - وعن ثوبان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من صام رمضان وستة أيام بعد الفطر، كان تمام السنة، من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» رواه ابن ماجه. وقوة كلام الخرقي وغيره يقتضي أن الأولى متابعتها، مبادرة للمندوب إليه، ومحافظة على «وأتبعه» [إذ المتابعة] ظاهرها التوالي، والله أعلم. [صيام يوم عاشوراء] قال: وصيام يوم عاشوراء، كفارة سنة، ويوم عرفة كفارة سنتين. 1384 - ش: لما روي عن أبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية» رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.

«تنبيه» : عاشوراء بالمد على الأشهر، وقيل: وبالقصر وفيه [لغة] ثالثة عاشورا. وهو اليوم العاشر من المحرم. 1385 - وعن ابن عباس: أنه التاسع ونص أحمد على استحباب صومهما، وعلى صيام ثلاثة أيام مع اشتباه أول الشهر، ويوم عرفة هو اليوم التاسع من ذي الحجة بلا ريب، سمي بذلك قيل: [لأن الوقوف بعرفة فيه. وقيل] : لأن إبراهيم الخليل صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه عرف فيه أن رؤياه حق، والله أعلم.

صيام يوم عرفة

[صيام يوم عرفة] قال: ولا يستحب لمن كان بعرفة أن يصوم، ليتقوى على الدعاء. 1386 - ش: عن أم الفضل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أنهم شكوا في صوم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة، فأرسلت إليه بلبن، فشرب وهو يخطب الناس بعرفة» متفق عليه. وجعل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -[المعنى] في الإفطار التقوي على الدعاء المطلوب في هذا اليوم، وهو حسن، وعن أبي العباس. لأنه يوم عيد. 1387 - ويشهد له ما روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب» رواه الخمسة إلا ابن ماجه وصححه الترمذي، والله أعلم. [صيام أيام البيض] قال: وأيام البيض التي حض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على صيامها هي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر [من كل شهر] ، والله أعلم.

1388 - ش: «ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوصى أبا هريرة بصيام ثلاثة أيام من كل شهر» . 1389 - وعن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من صام من كل شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر» فأنزل الله تعالى: [تصديق ذلك في كتابه] : {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] اليوم بعشرة» رواه ابن ماجه والترمذي. والأيام البيض هي اليوم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر. 1390 - لما روي عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا: قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة» رواه أحمد والنسائي والترمذي.

وعن بعض العلماء: الثاني عشر بدل الخامس [عشر] وسميت بيضا لابيضاض ليلها كله بالقمر [أي] أيام الليالي البيض، وقيل: لأن الله تعالى تاب على آدم فيها وبيض صحيفته ذكره التميمي، والله سبحانه أعلم.

كتاب الاعتكاف

[كتاب الاعتكاف] ش: الاعتكاف في اللغة لزوم الشيء والإقبال عليه. قال سبحانه: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] وقال: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] وفي الشرع: لزوم المسجد للطاعة من مسلم عاقل، طاهر مما يوجب غسلا، وأقله أدنى لبث إن لم يشترط الصوم، مع الكف عن مفسداته، ولا يكفي العبور بكل حال، ذكره في التلخيص. 1391 - وهو مشروع، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف العشر الأواخر من رمضان. حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده» . 1392 - وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عاما، فلما كان في العام المقبل اعتكف عشرين» . رواه أحمد، والترمذي وصححه. وقد أمر الله سبحانه نبيه [إبراهيم] بتطهير بيته

حكم الاعتكاف

[حكم الاعتكاف] {لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] . قال: والاعتكاف سنة، إلا أن يكون نذرا فيلزم الوفاء به. ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له ما تقدم. 1393 - وإنما لم يجب لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر به أصحابه، بل في الصحيحين أنه قال لهم «من أحب منكم أن يعتكف فليعتكف» . 1394 - وإنما وجب بالنذر لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن عمر سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام؟ قال: فأوف بنذرك» متفق عليه وللبخاري «فاعتكف ليلة» أمره وظاهر الأمر للوجوب. 1395 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من نذر أن يطيع الله فليطعه» رواه البخاري، والله أعلم.

قال: ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره: بصوم. ش: يجوز الاعتكاف بلا صوم، على المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، لحديث عمر المتقدم، وفيه نظر، لأن في رواية في الصحيح أيضا «أن اعتكف يوما» فدل على أنه أطلق الليلة وأراد بها اليوم، إذ الواقعة واحدة. 1396 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعله على نفسه» رواه الدارقطني، والحاكم، وقال بعض الحفاظ: والصحيح أنه موقوف ولأنها عبادة تصح بالليل، فلا يشترط لها الصوم كالصلاة، (والثانية) : لا يجوز إلا بصوم. 1397 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد له منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» . رواه أبو داود،

مكان الاعتكاف

ويجاب عنه إن صح بنفي الكمال، جمعا بين الأدلة. فعلى الأولى يصح اعتكاف ليلة مفردة، وبعض يوم مطلقا. وعلى الثانية: لا يصح اعتكاف ليلة [مفردة] ولا بعض يوم من مفطر، أما من صائم فقطع أبو البركات بصحته، لوجود الشرط وهو الصوم، وهو احتمال لأبي محمد في المغني، والذي أورده مذهبا البطلان، نظرا إلى أن الصوم لم يقصد له، والله أعلم. [مكان الاعتكاف] قال: ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه.

ش: لا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد في الجملة بلا ريب، لقول الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وصف سبحانه المعتكف بكونه في المسجد، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يعتكف في مسجده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1398 - قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» . وفعله خرج بيانا للاعتكاف المشروع، وقد تقدم قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لا اعتكاف إلا في مسجد جامع. ومن شرط المسجد أن يجمع فيه، أي تقام فيه الجماعات، إن تضمن الاعتكاف وقت صلاة، والمعتكف ممن تجب عليه الجماعة، وهو الحر البالغ، غير المعذور، حذارا من ترك الواجب الذي هو الجماعة، أو تكرر الخروج المنافي للاعتكاف في اليوم والليلة خمس مرات، مع إمكان التحرز عن ذلك، أما إن لم يتضمن الاعتكاف وقت صلاة، أو كان المعتكف ممن لا تجب عليه الجماعة، كالصبي والعبد، - إن لم تجب عليه الجمعة - والمرأة، ونحوهم، فالمشترط المسجدية فقط، لزوال المحذور، نعم لا يصح الاعتكاف في مسجد البيت بلا ريب، لانتفاء حكم المسجدية عنه في سائر الأحكام،

ما يجوز للمعتكف

فكذلك هنا، ولا يشترط للمسجد إقامة الجمعة فيه لندرة الخروج منه، والله أعلم. [ما يجوز للمعتكف] قال: ولا يخرج منه إلا لحاجة الإنسان. ش: كذا في الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» ، وحاجة الإنسان البول والغائط، كني عنهما بحاجة الإنسان، وفي معنى [ذلك] الاغتسال من الجنابة والوضوء، قال أحمد: لا يعجبني أن يتوضأ في المسجد. وكذلك الأكل والشرب، إن لم يكن له من يناوله ذلك، وإذا خرج للبول والغائط، وثم سقاية أقرب من منزله، ولا ضرر عليه في دخولها لزمه ذلك، لزوال العذر وإن تضرر بدخولها - كمن عليه نقيصة في ذلك، أو لعدم التمكن من التنظيف، ونحو ذلك - لم يلزمه، دفعا للضرر، وله المضي إلى منزله، وإذا خرج مشى على المعتاد من غير عجلة، ولا توان، لا لأكل ولا لغيره، نعم قال ابن حامد: يأكل في بيته اليسير كلقمة ونحوها، لا جميع أكله، وقال القاضي: يتوجه أن له الأكل في بيته، والخروج إليه ابتداء، لما في الأكل في المسجد من الدناءة، ونصر أبو

ما لا يجوز للمعتكف

محمد الأول، لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - والله أعلم. قال: وإلى صلاة الجمعة. ش: أي وله الخروج من المسجد الذي اعتكف فيه إذا لم تقم فيه الجمعة، وبهذا يتبين أن قول الخرقي: يجمع فيه. أي تقام فيه الجماعة، لا أنه يجمع فيه أي تقام فيه الجمعة، لأن الخروج للجمعة كالمستثنى باللفظ، للزوم ذلك له، ولأن ذلك واجب متحتم عليه، أشبه الخروج لقضاء العدة، وإذا خرج فصلى، فإن أحب أن يتم اعتكافه في الجامع فله ذلك، وإلا استحب له الإسراع إلى معتكفه، قال أبو محمد: ويحتمل أن يخير في تعجيل الرجوع وتأخيره، لأنه مكان يصلح للاعتكاف، أشبه ما لو نوى الاعتكاف فيه، والله أعلم. [ما لا يجوز للمعتكف] قال: ولا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، إلا أن يشترط ذلك. ش: أما مع عدم الشرط فلا يفعل ذلك على المشهور من الروايتين، والمجزوم عند [عامة] الأصحاب، لما تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «السنة على المعتكف أن لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة» ويرجحه حديث الصحيحين: «وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان» .

1399 - وفي الصحيح عنها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - – أنها قالت: إن كنت لأدخل البيت للحاجة، والمريض فيه، فما أسأل عنه إلا وأنا مارة. ولأن عيادة المريض مستحبة، فلا يترك لها واجب، وشهود الجنازة إن لم يتعين فكذلك، وإن تعين أمكن فعله في المسجد فلا حاجة إلى الخروج، نعم إن لم يمكن شهودها في المسجد فالخروج لواجب تعين عليه، لا لشهود جنازة. (والرواية الثانية) : له ذلك كما له الوضوء. 1400 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة، وليعد المريض وليحضر الجنازة، وليأت أهله ليأمرهم بالحاجة وهو قائم» رواه الإمام أحمد وأما مع الشرط فيجوز بلا ريب. 1401 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون على شروطهم» ونحوه ولأن مع

الشرط المنذور اعتكافه حقيقة ما عدا هذه الشروط. (تنبيه) : محل الخلاف [السابق] في الاعتكاف الواجب، أما الاعتكاف المتطوع به فله ذلك، لأن له تركه رأسا، لكن الأولى عدم الخروج اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه لم يكن يعرج على المريض، مع كون اعتكافه كان تطوعا، والله أعلم.

مفسدات الاعتكاف

[مفسدات الاعتكاف] قال: ومن وطئ فقد أفسد اعتكافه. ش: يحرم على المعتكف الوطء لنص الكتاب قال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] والجماع مراد من الآية بلا ريب، إما عموما وإما خصوصا، وهو أظهر، فإن وطئ فقد أفسد اعتكافه، لأنه وطء حرام في العبادة، فيفسدها كالوطء في الحج والصوم، مع أن هذا إجماع في العمد حكاه ابن المنذر، انتهى. وإطلاق الخرقي يشمل العمد وغيره وهو صحيح قياسا على الحج، والصوم. ويتخرج من الصوم عدم البطلان مع العذر كنسيان ونحوه. ومقتضى كلامه أنه لا كفارة عليه لأجل الوطء، وهو إحدى الروايتين واختيار أبي محمد وزعم في المغني أنه ظاهر المذهب وفي الكافي أنه المذهب، إذ الوجوب من الشرع ولم يرد، ولأنها عبادة لم تجب بأصل الشرع فلم يجب بإفسادها بالوطء كفارة كالوطء في الصوم المنذور. (والرواية الثانية) - واختارها القاضي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما - تجب الكفارة لأنها عبادة يفسدها الوطء، فوجب به كفارة كالحج، ثم هذه

الكفارة كفارة يمين [عند الشريف أبي جعفر، تبعا لأبي بكر في التنبيه، لأنها كفارة نذر، وكفارة النذر كفارة يمين] وعند القاضي في الخلاف: كفارة واطئ في رمضان قياسا لها عليها، وقد حكى الشيرازي القولين روايتين ومقتضى كلامه أن المباشرة دون الفرج لا تبطل، وهو كذلك إن عريت عن الإنزال، أما مع الاقتران به فتفسد على المذهب المجزوم به عند الأكثرين كما في الصوم، وفيه احتمال لابن عبدوس والله أعلم. قال: ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجبا. ش: إذا أفسد الاعتكاف بالوطء، نظرت فإن كان تطوعا لم يجب القضاء، بناء على قاعدتنا من أن النوافل ما عدا الحج والعمرة لا تلزم بالشروع، وقد تقدم ذلك في الصوم. وإن كان الاعتكاف واجبا بأن نذره وجب القضاء، لأن الذمة مشتغلة، ولم يوجد ما يبرئها فوجب براءتها، وهذا من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فإن كان النذر لأيام متتابعة فقد أفسده

بالفطر غير المعذور فيه، فيلزمه الاستئناف بإمكان الإتيان [بالمنذور] على صفته، نعم، مع العذر إن قيل بالإفطار لا ينبغي أن ينقطع التتابع حملا على العذر، بل يقضي ويجري في الكفارة وجهان، وإن كان النذر لأيام معينة كعشر ذي الحجة ونحو ذلك فهل يبطل التتابع، كما لو اشترطه بلفظه، أو لا يبطل لأنه إنما حصل لضرورة الزمن؟ فيه وجهان، فعلى الأول يستأنف العشرة. وعلى الثاني: يتم بقية العشرة ويقضي اليوم الذي أفسده، وتلزمه الكفارة على الوجهين، بتركه عين المنذور، وينبغي أن يجري في الكفارة مع العذر وجهان والله أعلم. قال: وإذا وقعت فتنة خاف منها ترك الاعتكاف. ش: إذا وقعت فتنة فخاف على نفسه، أو أهله، أو ماله، منها، جاز له الخروج وترك الاعتكاف، إذ ذاك يترك له الواجب بأصل الشرع، وهو الجمعة والجماعة، فما أوجبه على نفسه أولى، وفي معنى ذلك المرض الذي يشق المقام معه ونحو ذلك والله أعلم. قال: فإذا أمن بنى على ما مضى إذا كان نذر أياما معلومة، وقضى ما ترك، وكفر كفارة يمين.

ش: إذا زال المعنى الذي جاز لأجله ترك الاعتكاف - كما إذا أمن [في] الفتنة ونحو ذلك، والاعتكاف تطوع - خير بين الرجوع وعدمه، وإن كان واجبا وجب عليه الرجوع إلى معتكفه، ليأتي بالواجب، ثم لا يخلو من ثلاثة أحوال (أحدها) نذر أياما معلومة مطلقة، كاعتكاف عشرة أيام غير متتابعة، أو عشرة أيام وقلنا: لا يلزمه التتابع على المذهب، فإنه يتم باقيها لا غير، ولا شيء عليه، لإتيانه بالمنذور على وجهه، ويبتدئ اليوم الذي خرج فيه من أوله، قاله أبو محمد. (الثاني) : نذر أياما متتابعة غير معينة - كعشرة أيام متتابعة ونحو ذلك - فيخير بين البناء وقضاء ما بقي منها، مع كفارة يمين، لفوات صفة المنذور، وبين الاستئناف بلا كفارة، لإتيانه بالمنذور على وجهه، وقد نبه الخرقي على هذا في النذر فقال: ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه، فمرض في بعضه، فإذا عوفي بنى، وكفر كفارة يمين، وإن أحب أتى بشهر كامل متتابع، ولا كفارة عليه وكذلك إذا نذرت المرأة صيام شهر متتابع وحاضت فيه. (الثالث) : من الأحوال: نذر أياما معينة، وهو مراد الخرقي هنا لقوله: معلومة، كعشر ذي الحجة ونحوه، فيقضي ما ترك، ليأتي بالواجب، ويكفر كفارة يمين، لترك المنذور في وقته، إذ النذر كاليمين، ولو ترك ما حلف على فعله، أو فعل ما حلف على تركه، وجبت الكفارة، وإن كان معذورا، (وعن أحمد) ما يدل على أنه لا

كفارة مع العذر، حملا على العذر، إذ الكفارة زاجرة أو ماحية، وهما منتفيان معه (وعن القاضي) إن وجب الخروج، كالخروج لنفير عام، أو شهادة متعينة ونحو ذلك، فلا كفارة كالخروج للحيض، وإن لم يجب وجبت، ويقرب منه قول صاحب التلخيص، وابن عبدوس: إن كان الخروج لحق نفسه كالمرض والفتنة ونحوهما، وجبت، وإن كان لحق عليه، كأداء الشهادة، والنفير، والحيض، فلا كفارة. قال: وقيل: تجب، والله أعلم. قال: وكذلك في النفير إذا احتيج إليه. ش: إذا احتيج للمعتكف في الجهاد، بأن استنفره الإمام، أو حصر العدو بلده ونحو ذلك، تعين عليه ترك الاعتكاف، والخروج لذلك، وحكمه إذا زال ذلك في رجوعه إلى معتكفه، وفي القضاء والكفارة حكم ما تقدم من التفصيل، لأنه ساواه معنى، فيساويه حكما، والله أعلم. قال: والمعتكف لا يتجر. ش: الاعتكاف وضعه حبس النفس للطاعة، والتجارة تنافي ذلك في الجملة. 1402 - «ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نهى عن البيع والشراء في المسجد» ، رواه الترمذي وحسنه. وإذا نهي عن البيع والشراء في غير حال الاعتكاف ففيه أجدر.

(تنبيه) : له أن يشتري ما لا بد له منه من مأكول ونحوه، لكن خارج المسجد، والله أعلم. قال: ولا يتكسب بالصنعة. ش: كالخياطة ونحوها، إذ ذاك في معنى التجارة، فمنع منه كهي. ومفهوم كلام الخرقي أن له فعل الصنعة لا متكسبا، وظاهر كلام أحمد المنع، قال في رواية المروذي وقد سأله: ترى له أن يخيط؟ قال: لا ينبغي أن يعتكف إذا كان يريد أن يفعل. وقرر ذلك القاضي فقال: لا يجوز أن يخيط في المسجد، وإن احتاج إليها، قلت: وقال أبو محمد: الأولى فعل ما احتاج إليه وقل، مثل أن انشق قميصه فيخيطه، ونحو ذلك، والله أعلم. قال: ولا بأس أن يتزوج في المسجد، ويشهد النكاح. ش: إذ النكاح طاعة، وحضوره قربة، ومدته لا تطول، أشبه رد السلام، وتشميت العاطس، والله أعلم.

قال: والمتوفى عنها زوجها وهي معتكفة تخرج لقضاء العدة، وتفعل كما فعل الذي خرج لفتنة. ش: المتوفى عنها زوجها إذا كانت معتكفة فإنها تخرج لتعتد في بيت زوجها، إذ ذاك واجب بأصل الشرع، والاعتكاف إن كان تطوعا فواضح، وإن كان واجبا فهي التي أوجبته على نفسها، ولأن الاعتكاف لا يفوت، لأنه يقضى، والعدة تفوت، لانقضائها بمضي الزمن، فإذا انقضت العدة فإنها تفعل [كما] فعل الذي خرج للفتنة، فترجع إلى معتكفها، وتقضي وتكفر، على ما مضى من التفصيل فيه، لاشتراكهما في أنه خروج لواجب، والله أعلم. قال: والمعتكفة إذا حاضت خرجت من المسجد، وضربت خباء في الرحبة. ش: إذا حاضت المعتكفة خرجت من المسجد، لأنه حدث يمنع اللبث في المسجد، فهو كالجنابة، بل آكد. 1403 - وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إني لا أحل المسجد لجنب ولا لحائض» رواه أبو داود. 1404 - وفي حديث آخر: « «إن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض»

رواه ابن ماجه، وإذا خرجت فإن لم يكن للمسجد رحبة مضت إلى بيتها، وإن كانت له رحبة ضربت خباء، وأقامت فيها لأن ذلك أقرب إلى محل اعتكافها. 1405 - وقد روى أبو حفص بسنده عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كن [المعتكفات] إذا حضن أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإخراجهن من المسجد، وأن يضربن الأخبية في رحبة المسجد حتى يطهرن» . وهذا على سبيل الاستحباب قاله أبو البركات، وصاحب التلخيص، حاكيا له عن بعض الأصحاب. وكذلك

قال أبو محمد: الظاهر أنه مستحب وشرط ذلك الأمن على نفسها، وإلا رجعت إلى بيتها، ولهذا قال بعضهم هذا مع سلامة الزمان، وإذا طهرت رجعت، فأتت بما بقي من اعتكافها، ولا كفارة عليها، كما أشعر به كلام الخرقي، حيث لم يجعلها كالخارجة لقضاء عدتها، وهو واضح، إذ هذا خروج معتاد أشبه الخروج للجمعة، ولأنه كالمستثنى لفظا، وقد تقدم أن صاحب التلخيص حكى قولا بوجوب الكفارة عليه [وكذلك حكاه أبو البركات، نظرا إلى أن العذر لا يمنع وجوب الكفارة] . وقد دل كلام الخرقي على أن رحبة المسجد ليست في حكم المسجد، وعن أحمد ما يدل على روايتين، وجمع القاضي بينهما على اختلاف حالتين، فالموضع الذي قال فيه تقيم، إذا كانت محوطة وعليها باب في حكمه، وما لا فلا، والله أعلم. قال: ومن نذر أن يعتكف شهرا بعينه دخل المسجد قبل غروب الشمس، والله أعلم. ش: هذا هو المشهور من الروايتين، إذ الشهر يدخل بدخول الليل، ولهذا ترتبت الأحكام المعلقة بها من حلول الديون

ونحوها بذلك، ومن ضرورة اعتكاف جميع الليل الدخول قبل غروب الشمس، نظرا إلى قاعدة أن ما لا يتم الواجب إلا به [فهو] واجب. (والرواية الثانية) : قبل طلوع فجر أول يوم من أوله، ولعله بناء على اشتراط الصوم له، وإذا لا يبتدئ قبل الشرط. 1406 - واستدل بعضهم «بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم دخل معتكفه» . متفق عليه. وهذا لا يبيح الدعوى لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدخل إلا بعد صلاة الصبح، وهم يوجبون قبل ذلك، على أن اعتكافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تطوعا، والمتطوع متى شاء شرع، مع أن ابن عبد البر قال: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بهذا الحديث. والله أعلم.

كتاب الحج

[كتاب الحج] [حكم الحج] ش: الحج بفتح الحاء وكسرها القصد، وعن الخليل: كثرة القصد إلى من يعظمه، وفي الشرع: عبارة عن القصد إلى محل مخصوص مع عمل مخصوص. وهو مما علم وجوبه من دين الله تعالى بالضرورة، بشهادة الكتاب، والسنة، والإجماع قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] . 1407 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» وأجمع المسلمون على ذلك والله أعلم. [شروط وجوب الحج] قال: ومن ملك زادا وراحلة، وهو عاقل بالغ، لزمه الحج والعمرة.

ش: يشترط لوجوب الحج شروط: (أحدها) الاستطاعة، لأن الخطاب إنما ورد للمستطيع، إذ (من) بدل من (الناس) فتقدير الكلام: ولله على المستطيع. ولانتفاء تكليف ما لا يطاق شرعا، بل وعقلا، والاستطاعة عندنا أن يملك زادا وراحلة. 1408 - لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، في قوله عز وجل {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] قال: قيل يا رسول: ما السبيل؟ قال «الزاد والراحلة» رواه الدارقطني. 1409 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «الزاد والراحلة» يعني قوله عز وجل {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] » رواه ابن ماجه.

1410 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ما يوجب الحج؟ قال «الزاد والراحلة» رواه الترمذي وقال: وعليه العمل عند أهل العلم، ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة، فكانت الاستطاعة فيها شرط ذلك، دليله الجهاد، وكون القوة قد يحصل بها الاستطاعة يتخلف في غالب الناس، والحكم إنما يناط بالأعم الأغلب. ويشترط في الزاد والراحلة أن يكونا صالحين لمثله، لمدة ذهابه وإيابه، وأن يكون ذلك فاضلا عن نفقة نفسه، وعياله

وحوائجه الأصلية، وبيان ذلك له موضع آخر إن شاء الله، وإنما يشترط الراحلة لمن بينه وبين مكة مسافة القصر، أما من كان دون ذلك، ويمكنه المشي، فلا تشترط له الراحلة. وقول الخرقي: من ملك. مقتضاه [أنه] لو بذل له ذلك لم يصر مستطيعا، وإن كان الباذل ابنه، وهو صحيح لما تقدم، إذ قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في جواب ما يوجب الحج؟ قال «الزاد والراحلة» [أي ملك الزاد والراحلة] انتهى. (الثاني والثالث) : العقل والبلوغ فلا يجب الحج على مجنون ولا صبي. 1411 - لما روى ابن عباس قال: أتي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أناسا، فأمر بها عمر أن ترجم، فمر بها علي بن أبي طالب فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها أن ترجم. فقال: ارجعوا بها. فقال: يا أمير المؤمنين إن القلم مرفوع عن ثلاثة، عن المجنون حتى يبرأ، وفي رواية حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل. فقال: بلى. قال: فما بال هذه؟ قال: لا شيء. قال: [فأرسلها] . فأرسلها عمر قال: فجعل يكبر، وفي رواية قال له: أوما تذكر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال. . وذكر الحديث وفيه: وقال: «عن الصبي حتى يحتلم» رواه أبو داود.

(الشرط الرابع) : الحرية، ويأتي في كلام الخرقي إن شاء الله تعالى. (الشرط الخامس) : الإسلام، وكأن الخرقي إنما ترك هذا الشرط لوضوحه، إذ جميع العبادة لا يجب على كافر أداؤها، ولا قضاؤها إذا أسلم، وإنما معنى توجه الخطاب إليه ترتب ذلك في ذمته فيسلم ويفعل، وفائدة ذلك العقاب في الآخرة، نعم اختلف فيما إذا وجد المرتد الاستطاعة في زمن الردة، ثم أسلم وفقدت، هل يجب عليه الحج بناء [على أنه] في حكم المسلم حيث التزم حكم الإسلام، أو لا يجب عليه، بناء [على أنه] في حكم الكافر الأصلي، والإسلام يجب ما قبله؟ فيه روايتان أشهرهما الثاني، انتهى. فظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لوجوب الحج غير ما ذكر، وهذا إحدى الروايتين، وإليها ميل أبي محمد، لظاهر إطلاق الكتاب والسنة، وهو قَوْله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] الآية، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «وحج البيت من استطاع إليه سبيلا» وأصرح من هذا لما سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ما يوجب الحج قال «الزاد والراحلة» ولأن إمكان الأداء على قاعدتنا ليس بشرط في وجوب العبادة، بدليل ما إذا طهرت

الحائض، أو بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، ولم يبق من وقت الصلاة ما يمكن الأداء فيه. (والرواية الثانية) : وهي ظاهر كلام ابن أبي موسى، والقاضي في الجامع: يشترط لوجوب الحج شرطان آخران، سعة الوقت، وأمن الطريق، إذ بدونهما يتعذر فعل الحج، فاشترطا كالزاد والراحلة، فعلى الأولى هما شرطان للزوم الأداء، وفائدة الروايتين إذا مات قبل الفعل، فعلى الأولى يخرج من تركته للوجوب، وعلى الثانية لا، لعدمه، ومعنى سعة الوقت أن يمكنه المسير على العادة في وقت جرت العادة به، ومعنى تخلية الطريق أن يكون آمنا مما يخاف في النفس، والبضع، والمال، سالما من خفارة وإن كانت يسيرة، اختاره القاضي وغيره، حذارا من الرشوة في العبادة، وعن ابن حامد: يجب بذل الخفارة اليسيرة، هذا نقل أبي البركات، وأبي محمد في الكافي، وفي المقنع والمغني والتلخيص: إن لم يجحف بماله لزمه البذل، لأن ذلك مما يتسامح بمثله. وحيث وجب الحج فهل تجب العمرة؟ فيه ثلاث روايات: (أشهرها) وبه جزم جمهور الأصحاب: نعم. 1412 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال «نعم عليهن جهاد لا قتال فيه الحج

والعمرة» رواه أحمد، وابن ماجه، قال بعض الحفاظ: ورواته ثقات. 1413 - «وعن أبي رزين العقيلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة، ولا الظعن، فقال «حج عن أبيك واعتمر» رواه الخمسة وصححه الترمذي، وقال الإمام أحمد: لا أعلم في وجوب العمرة حديثا أجود من هذا، ولا أصح. 1414 - «وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بينما نحن جلوس عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذ جاء رجل فقال: يا محمد ما الإسلام؟ فقال: «الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتعتمر، وتغتسل من الجنابة، وتتم الوضوء، وتصوم رمضان» وذكر باقي

الحديث، وأنه قال «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» رواه الدارقطني، وقال: هذا إسناد صحيح ثابت. 1415 - وقد قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنهما لقرينة الحج في كتاب الله. يشير إلى قوله سبحانه {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] . 1416 - والظاهر أن الصبي بن معبد فهم ذلك [أيضا] وأقره عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عليه حيث قال لعمر: يا أمير المؤمنين إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين علي، فأهللت بهما، فقال عمر: هديت لسنة نبيك محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رواه أبو داود، والنسائي. (والرواية الثانية) : لا تجب. 1417 - لما روي [عن] جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن

العمرة: واجبة هي؟ قال «لا، وأن تعتمر فهو أفضل» رواه أحمد وضعفه، والترمذي وصححه. (والرواية الثالثة) : تجب إلا على أهل مكة، وهذا المذهب عند أبي محمد في المغني إذ ركن العمرة ومعظمها هو الطواف، وهو حاصل منهم. 1418 - قال أحمد: كان ابن عباس يرى العمرة واجبة، ويقول: يا أهل مكة ليس عليكم عمرة، إنما عمرتكم الطواف بالبيت. والله أعلم.

قال: فإن كان مريضا لا يرجى برؤه، أو شيخا لا يستمسك على الراحلة، أقام من يحج عنه ويعتمر. ش: هذان شرطان لوجوب المباشرة بلا ريب، حذارا من تكليف ما لا يطاق، أو حصول الضرر المنفي شرعا، وإذا عدما وبقية الشروط موجودة فيه، ووجد مالا فاضلا عن حاجته المعتبرة، وافيا بنفقة راكب، وجب عليه أن يقيم من يحج عنه ويعتمر من بلده، لما تقدم من حديث أبي رزين. 1419 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الله في الحج شيخا كبيرا، لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره، قال «فحجي عنه» رواه الجماعة.

1420 - وعن عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء رجل [من خثعم] إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير، لا يستطيع ركوب الرحل، والحج مكتوب عليه، أفأحج عنه؟ قال «أنت أكبر ولده؟» قال: نعم. قال «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته [عنه] أكان ذلك يجزئ عنه؟» قال: نعم. قال «فحج عنه» رواه أحمد , والنسائي بمعناه، فأخبره - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بأن الحج مكتوب عليه وفريضة على من هذا حاله، ولم ينكر ذلك، وإذا وجب وجبت النيابة لتبرأ الذمة. ومفهوم كلامه أن المريض المرجو البرء ليس له الاستنابة، و [كذلك] الصحيح بطريق الأولى، وهو كذلك في الفرض، أما في النفل فالمريض له الاستنابة، والصحيح فيه روايتان،

(الجواز) بشرط أن يحج الفرض، نظرا إلى أن الحج لا يلزمه بنفسه، أشبه المعضوب، (وعدمه) لأنه يقدر على الحج بنفسه، فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض هذه طريقة أبي محمد في المغني، وطريقة صاحب التلخيص، وابن حمدان في الصغرى جريان الروايتين فيهما. (تنبيهان) : [أحدهما] : حكم المحبوس حكم المريض المرجو البرء. (الثاني) : لو لم يجد العاجز من ينوب، فقال أبو محمد: قياس المذهب أنه يبنى على الروايتين في إمكان المسير، هل هو شرط للوجوب، أو للزوم الأداء؟ فعلى الأول: لا يجب عليه شيء، وعلى الثاني: يثبت الحج في ذمته، والله أعلم. قال: وقد أجزأ عنه وإن عوفي. ش: إذا أقام المعضوب من يحج عنه فإنه يجزئ [عنه] ذلك وإن عوفي، لأنه أتى بالمأمور به، فيخرج عن العهدة، كما لو لم يبرأ، إذ الشارع إنما يكلف العبد بما [في] ظنه واجتهاده، لا بما لا اطلاع له عليه. واعلم أن هذا له ثلاث حالات: (إحداها) بريء بعد فراغ النائب، فيجزئه بلا ريب عندنا، (الحالة الثانية) بريء قبل إحرام النائب، فلا يجزئه بلا ريب، للقدرة على المبدل قبل

شرط الاستطاعة للحج بالنسبة للمرأة

الشروع في البدل، أشبه المتيمم إذا وجد الماء قبل الدخول في الصلاة، (الحالة الثالثة) : بعد شروع النائب وقبل الفراغ، فقال أبو محمد: ينبغي أن لا يجزئه، وهو أظهر الوجهين عند أبي العباس، كالمتيمم إذا وجد الماء في الصلاة. (والثاني) - وهو احتمال لأبي محمد في المغني، واختاره صاحب الوجيز - يجزئه كالمتمتع إذا شرع في الصوم ثم قدر على الهدي، والله أعلم. [شرط الاستطاعة للحج بالنسبة للمرأة] قال: وحكم المرأة إذا كان لها محرم كحكم الرجل. ش: المذهب المشهور المعروف أن المرأة لا تسافر للحج إلا مع ذي محرم. 1421 - لما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاثة أيام فصاعدا إلا ومعها أبوها، أو أخوها، أو زوجها [أو ابنها] أو ذو محرم منها» رواه أبو داود , والترمذي، ومسلم، وللبخاري نحوه.

1422 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا تسافر المرأة ثلاثا إلا ومعها ذو محرم» متفق عليه. 1423 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها» رواه مسلم، وأبو داود، ورواه البخاري، والترمذي وقالا «أن تسافر يوما وليلة» ولأبي داود في رواية «بريدا» . 1424 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطب يقول «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم» فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجة، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا. قال «فانطلق فحج مع امرأتك» متفق عليه. وهذا معنى دخول سفر الحج في العموم.

وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز ذلك في الفريضة، قال: أما في حجة الفريضة فأرجو أنها تخرج إليها مع النساء ومع كل من أمنته، وأما في غيرها فلا، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فسر الإيجاب بالزاد والراحلة، وهذه واجدتهما، ولأنه سفر واجب، فلم يشترط له المحرم كسفر الهجرة، وأجيب بأن ما تقدم أخص، وفيه زيادة، وهو أكثر رواة، وأصح بلا ريب، وسفر الهجرة محل ضرورة، فلا يقاس عليه غيره. وبالجملة لا تفريع ولا عمل على هذه الرواية، أما على المذهب فيشترط المحرم لمسافة القصر فما زاد، وفي اشتراطه لما دونها روايتان: (أشهرهما) : الاشتراط، ولعل مبناهما اختلاف الأحاديث، وقد أشار أحمد إلى هذا فقال: 1425 - أما أبو هريرة فيقول: يوم وليلة. ويروى عن أبي هريرة «لا تسافر سفرا» أيضا، وأما حديث أبي سعيد فيقول «ثلاثة أيام» قيل له: ما تقول أنت: قال: لا تسافر قليلا ولا كثيرا إلا مع ذي محرم. وعلى هذا فيجمع بين الأحاديث بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ذلك في مواطن مختلفة، بحسب أسئلة، فحدث كل بما

سمع، وإن كان واحدا فحدث بها مرات على حسب ما سمعها، أو يقال: المراد بالليلة مع اليوم، وذلك إشارة إلى مدة الذهاب. 1426 - وقد روي في الصحيح «يومان» فيكون إشارة إلى مدة الذهاب والرجوع، ورواية «الثلاث» إشارة إلى مدة الذهاب، والرجوع، واليوم الذي يقضي فيه الحاجة، أو يقال: هذا كله تمثيل للعدد القليل، فاليوم الواحد [أول العدد وأقله، والاثنان أول الكثير وأقله، والثلاث أول الجمع وأقله فأشار - والله أعلم - إلى أن مثل هذا] في قلة الزمن لا تسافره إلا مع ذي محرم، فكيف بما فوقه. انتهى. وهل المحرم شرط للوجوب، وهو ظاهر كلام الخرقي، أو للزوم الأداء؟ فيه روايتان. والمحرم زوج المرأة ومن تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح، قال أبو محمد متابعة لكثير من الأصحاب: فيخرج زوج الأخت ونحوها، إذ تحريمها [عليه] ليس على

التأبيد، وكذلك عبد المرأة، لا يكون محرما لسيدته على المذهب المشهور والمجزوم به عند الأكثرين، منهم أبو محمد، وصاحب التلخيص لذلك. 1427 - وقد جاء عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سفر المرأة مع عبدها ضيعة» [رواه سعيد] (وعن أحمد) - وزعم القاضي في شرح المذهب أنه المذهب - أنه محرم لها، لأنه يباح له النظر إليها، أشبه ذا رحمها، ويخرج الزاني والواطئ بالشبهة لا يكون محرما للمزني بها، والموطوءة بشبهة، لعدم إباحة السبب، هذا المذهب المنصوص، وقيل: بل هو محرم لها، نظرا للتحريم المؤبد، وقيل - ويحكى عن ابن عقيل -: تحصل المحرمية في وطء الشبهة [دون الزنا، لعدم وصف وطء الشبهة] بالتحريم، وهو ظاهر

الحج عن الميت

[ما] في التلخيص، قال: لسبب غير محرم. وعدل أبو البركات [عن هذا كله] فقال: زوجها، ومن تحرم عليه أبدا، لا من تحريمها بوطء شبهة أو زنا. فقيل: إنما قال ذلك حذارا من أن يرد عليه أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لأن تحريمهن على المسلمين أبدا بسبب مباح، وهو الإسلام، وليسوا بمحارم لهن، فكان يجب استثناؤهن كما استثنى المزني بها، فأجيب لانقطاع حكمهن [فأورد عليه الملاعنة، ولا جواب عنه. ويعتبر للمحرم التكليف والإسلام، نص عليهما، والبذل للخروج فلو] امتنع لم يجبر على المذهب، وعنه: يجب عليه الخروج، فيقتضي أنه يجبر، والله أعلم. [الحج عن الميت] قال: فمن فرط فيه حتى توفي، أخرج عنه من جميع ماله حجة وعمرة. ش: «من» من أدوات الشرط، يشمل المذكر والمؤنث، على المشهور من قولي الأصوليين، فمن وجب عليه الحج

من الرجال والنساء، ولم يحج حتى مات، وجب أن يحج عنه، ويعتمر إن قلنا بوجوب العمرة، وهو المذهب. 1428 - لما روي عن ابن عباس – - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: «أتى رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟» قال: نعم. قال «فاقض الله فهو أحق بالقضاء» وفي رواية: أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج، فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال «حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟» قالت: نعم. قال «اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» متفق عليه. 1429 - وله - أيضا - قال: «أتى رجل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أبي مات

وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال «أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه؟» قال: نعم» . رواه الدارقطني. 1430 - وعن بريدة قال: «جاءت امرأة إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أمي ماتت ولم تحج، أفأحج عنها؟ قال «نعم حجي عنها» رواه الترمذي انتهى. ويحج عنه من جميع ماله، لأنه دين مستقر، أشبه دين الآدمي، فإن اجتمع معه دين آدمي تحاصا على المذهب، لاستواء الحقين في الوجوب، ووجود مرجح لكل منهما، فدين الله يقدم لعظم مستحقه، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الله أحق بالوفاء» ودين الآدمي لشحه، وقيل: يقدم دين الآدمي، للمعنى الثاني.

ويجب أن يحج عنه من حيث وجب، من بلده، أو من محل يساره، لتعلق الوجوب من ثم، والقضاء على وفق الأداء، نعم، لو خرج للحج فمات في الطريق حج عنه من حيث مات، لأن ما مضى سقط عنه وجوبه، حتى لو فعل بعض المناسك سقطت عنه، وفعل [عنه] ما بقي، ولو لم تف تركته بالإخراج من حيث وجب حج عنه من حيث يبلغ على المذهب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» (وعنه) ما يدل على سقوط الحج والحال هذه، لعدم الإتيان به على الكمال، وحيث وجب الإتيان به من محل فأتى به من دونه فإن كان دون مسافة القصر أجزأ، لأنه في حكم القريب، وإن بلغها فقولان: (الإجزاء) ، وهو احتمال لأبي محمد، كما لو أحرم دون الميقات وهو فرضه، (وعدمه) ، قاله القاضي، لعدم الإتيان بالواجب. وقول الخرقي: فمن فرط حتى توفي. لا مفهوم له، بل من مات بعد وجوب الحج عليه وجب أن يحج عنه بشرطه، وإن لم يكن فرط، إذ التمكن من الأداء ليس بشرط في الوجوب، والظاهر أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشار بهذا إلى أن الحج وجوبه على

شروط الحج عن الغير

الفور، وهو المشهور والمذهب من الروايتين، بناء على قاعدتنا من أن الأوامر كلها على الفور. 1431 - وفي الباب بخصوصه عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له» رواه أحمد، وفيه غير ذلك، والله أعلم. [شروط الحج عن الغير] قال: ومن حج عن غيره، ولم يكن حج عن نفسه رد ما أخذ. وكانت الحجة عن نفسه. ش: لا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره على الصحيح المشهور من الروايتين، حتى أن القاضي في الروايتين قال: لا يختلف أصحابنا أنه لا ينعقد عن المحجوج عنه. 1432 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمع

رجلا يقول: لبيك عن شبرمة. قال: «ومن شبرمة؟» قال أخ لي أو قريب لي. قال «أحججت عن نفسك؟» قال: لا. قال «حج عن نفسك ثم احجج عن شبرمة» رواه أبو داود، وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح ليس في الباب أصح منه.

(والثانية) : - يجوز، حكاها أبو الحسين، وغيره، لأن الحج تدخله النيابة، فجاز أن يؤديه عن غيره من لم يسقط فرضه عن نفسه كالزكاة، فعلى هذا يقع عن الغير لعموم «الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» . وعلى المذهب فاختار أبو بكر في الخلاف - وحكاه عن أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد - يقع إحرامه باطلا، لأنه لم ينو عن نفسه فلا يحصل له إذ ليس لامرئ إلا ما نوى، وغيره ممنوع من الإحرام [عنه] فلا يصح له، لارتكابه النهي، وقال الخرقي، وابن حامد، والقاضي وأتباعه: يقع حجة عن نفسه، إلغاء لنية التعيين، فيصير كما لو أحرم مطلقا، ولو أحرم مطلقا صح عن نفسه بلا ريب فكذلك هاهنا، وفارق الصلاة، فإنها لا تصح بنية مطلقة، وكذلك الصوم على المذهب. 1433 - وقد جاء في الحديث « «هذه عنك، وحج عن شبرمة» رواه الدارقطني، وقال أبو حفص العكبري: يقع الإحرام عن

المحجوج [عنه] نظرا للنية، ثم [يجب أن] يقلبه الحاج عن نفسه. 1434 - إذ في الحديث « «اجعل هذه عن نفسك ثم حج عن شبرمة» رواه ابن ماجه وحيث لا يقع الحج عن الغير فإنه يرد ما أخذ، لأنه لم يعمل العمل الذي أخذ العوض لأجله. (تنبيهات) : (أحدها) : الحكم فيما إذا كان عليه قضاء أو نذر فحج عن الغير كالحكم في حجة الإسلام على ما سبق. (الثاني) : كما أنه لا يجوز أن يحج عن الغير [من] لم يحج عن نفسه كذلك يجب إذا حج عن نفسه أن يقدم الفريضة، ثم حجة القضاء، ثم النذر، ثم النافلة وإذا جوزنا [ثم جوزنا] هنا، فعلى الأول: إذا خالف فقدم على حجة

حج الصبي والعبد

الإسلام غيرها، أو على القضاء النذر، أو على النذر التطوع، فهل يقع باطلا، أو عن ما يجب الإيقاع عنه، على ما تقدم من الخلاف؟ هذا نقل أبي البركات، وأما أبو الحسين في الفروع، وصاحب التلخيص، وأبو محمد في المغني، فحكوا هنا روايتين أصحهما الوقوع عما يجب الإيقاع عنه. (والثانية) : أنه يقع عما نواه، قال أبو الحسين: وهو ظاهر كلام أبي بكر. وقال أبو محمد: وهو قول أبي بكر، ولم يحكوا القول بالبطلان هنا، مع حكايتهم قول أبي بكر ثم. انتهى. وحكم نائب المعضوب أو الميت يحرم بتطوع أو نذر عمن عليه حجة الإسلام حكم ما لو أحرم هو كذلك، إذ حكم النائب حكم المنوب عنه، نعم، له أن يستنيب رجلين أحدهما يحرم بالفريضة والآخر بالمنذورة في سنة واحدة، لكن أيهما أحرم أولا وقع عن الفريضة، ثم الثاني عن النذر، قاله أبو محمد (الثالث) : العمرة إن قيل بوجوبها كالحج فيما تقدم، والله أعلم. [حج الصبي والعبد] قال: ومن حج وهو غير بالغ فبلغ، أو عبد فعتق فعليه الحج. ش: من حج وهو صبي ثم بلغ أو [وهو] عبد ثم عتق لم

يجزئهما عن حجة الإسلام، وعليهما الحج بعد البلوغ والعتق. 1435 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أيما صبي حج ثم بلغ الحنث فعليه أن يحج حجة أخرى، وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى» رواه البيهقي [وغيره] وقال بعض الحفاظ: ولم يرفعه إلا يزيد بن زريع عن شعبة وهو ثقة. 1436 - وعن محمد بن كعب القرظي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «أيما صبي حج به أهله فمات أجزأت عنه، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما

رجل مملوك حج به أهله، فمات أجزأت عنه، فإن عتق فعليه الحج» ذكره أحمد في رواية ابنه عبد الله هكذا مرسلا ولأنهما فعلا الحج قبل وجوبه عليهما فلم يجزئهما، أصله إذا صلى الصبي الصلاة ثم بلغ في وقتها، مع أن هذا قول عامة أهل العلم إلا شذوذا، بل قد حكاه الترمذي إجماعا. وقد فهم [من] كلام الخرقي أنه يصح حج الصبي والعبد، ولا ريب في ذلك لما تقدم، ولأن العبد من أهل العبادات والتكاليف في الجملة. 1437 - وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لقي ركبا بالروحاء فقال «من القوم؟» قالوا: المسلمون. فقالوا: من أنت؟ قال «أنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» فرفعت إليه امرأة صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال «نعم، ولك أجر» رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وفي رواية لمسلم «صبيا صغيرا» .

واقتضى كلام الخرقي أيضا أن الحج لا يجب عليهما وإلا لأجزأهما، وهو كذلك، لما تقدم من حديثي ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي، ولأن الصبي القلم مرفوع عنه، والعبد مشغول بحقوق سيده، والحج تطول مدته غالبا، ويعتبر له الزاد والراحلة، فلم يجب على العبد كالجهاد. (تنبيه) : لو حصل العتق أو البلوغ قبل الفراغ من الحج، فإن كان بعد فوات وقت الوقوف لم يجزئهما ذلك عن حجة الإسلام بلا ريب، لفوات الركن الأعظم وهو الوقوف، وإن كان في وقت يدركان معه الوقوف ووقفا، نظرت فإن كان قبل السعي، أو بعده - وقلنا السعي ليس بركن - أجزأتهما تلك الحجة عن حجة الإسلام، لإدراكهما الركن [الأعظم] وهو الوقوف، والإحرام مستصحب. 1438 - واعتمد أحمد بأن ابن عباس قال: إذا أعتق العبد بعرفة أجزأت عنه حجته، وإن أعتق بجمع لم تجزئ عنه. وإن كان العتق أو البلوغ بعد السعي، وقلنا بركنيته فوجهان (أحدهما) - واختاره ابن عقيل تبعا لقول شيخه في المجرد: أنه قياس

المذهب - لا يجزئه، لوقوع الركن في غير وقت الوجوب، أشبه ما لو كبر للإحرام ثم بلغ. (والثاني) - وهو اختيار القاضي أظنه في التعليق، وأبي الخطاب، وظاهر كلام أبي محمد - يجزئه، نظرا لحصول الركن الأعظم وهو الوقوف، وجعلا لغيره تبعا له، والله أعلم. قال: وإذا حج بالصغير جنب ما يتجنبه الكبير. ش: إذا حج بالصبي وجب أن يجنب ما يجنبه الكبير من الطيب، واللباس، وقتل الصيد، وحلق الشعر، وغير ذلك، لأن الحج يصح له بحكم النص السابق، وإذا صح له ترتبت أحكامه، ومن أحكامه تجنب ما ذكر، وهو لا يخاطب بخطاب تكليفي، فوجب على الولي أن يجنبه ذلك، كما وجب عليه تجنيبه شرب الخمر، وغيرها من المحرمات. 1439 - وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت [تجرد] الصبيان إذا دنوا من الحرم، والله أعلم. قال: وما عجز عنه من عمل الحج عمل عنه. ش: كما إذا عجز عن الرمي، أو الطواف ونحوهما. 1440 - لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حججنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم» . رواه أحمد، وابن ماجه.

1441 - وعن ابن عمر أنه كان يحجج صبيانه وهم صغار، فمن استطاع منهم أن يرمي رمى، ومن لم يستطع أن يرمي رمى عنه. 1442 - وعن أبي إسحاق أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طاف بابن الزبير في خرقة. رواهما الأثرم. وظاهر كلام الخرقي أن ما أمكن الصبي عمله عمله، وذلك كالوقوف، والمبيت بمزدلفة، وبمنى، ونحو ذلك، وكذلك الإحرام إن عقله صح منه بإذن الولي بلا ريب وبدون إذنه فيه وجهان: أصحهما - وبه جزم أبو محمد - لا يجزئه، قياسا على بقية تصرفاته، إذ لا ينفك عن لزوم [مال] فهو كالبيع. والثاني: يجزئه تغليبا لجانب العبادة، وإن لم يعقله فعله الولي، (والولي) هو من يلي ماله من أب أو غيره، وفي صحة إحرام الأم عنه وجهان، (الصحة) وهو ظاهر كلام أحمد، واختاره ابن عقيل، ومال إليه أبو محمد، لظاهر حديث ابن عباس، إذ الظاهر أن الأجر الثابت لها لكون الصغير تبعا لها في

الإحرام، (وعدمها) وهو اختيار القاضي، لعدم ولايتها [عليه] في المال، أشبهت الأجنبي، وفي بقية العصبات وجهان مخرجان من القولين فيها، فأما الأجنبي فلا يصح أن يحرم عنه وجها واحدا، ومعنى الإحرام عنه أن يعقد له الإحرام، فيصير الصبي محرما بذلك [الإحرام] دون العاقد، والله أعلم. قال: ومن طيف به محمولا كان الطواف له دون حامله، والله أعلم بالصواب. ش: يصح طواف المحمول في الجملة، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى، ثم لا يخلو من ثمانية أحوال (أحدها) : نويا جميعا عن [الحامل، فيصح له فقط بلا ريب. (الثاني) نويا جميعا عن] المحمول، فتختص الصحة به أيضا. (الثالث) : نوى كل منهما عن نفسه، فيصح الطواف للمحمول دون الحامل، جعلا له كالآلة، وحسن أبو محمد صحة الطواف لهما [وهو مذهب الحنفية، واحتمال لابن الزاغوني] نظرا إلى نيتهما، ومنع أبو حفص العكبري الصحة في هذه الصورة رأسا، زاعما أنه لا أولوية لأحدهما، والفعل الواحد لا يقع عن اثنين، وهذه الصورة - والله أعلم - هي الحاملة للخرقي على ذكر هذه المسألة. (الرابع

باب ذكر المواقيت

والخامس) : نوى كل منهما عن نفسه، ولم ينو الآخر [شيئا] فيصح للناوي دون غيره. (السادس والسابع والثامن) : لم ينو واحد منهما، أو نوى كل منهما عن صاحبه، فلا يصح لواحد منهما، ويتحرر أنه يصح الطواف للمحمول في ثلاث صور، إذا نويا جميعا له، أو نوى هو لنفسه ولم ينو الآخر شيئا، أو نوى كل منهما لنفسه، والله سبحانه وتعالى أعلم. [باب ذكر المواقيت] ش: المواقيت جمع ميقات، وهو الزمان والمكان المضروب للفعل، والله أعلم. قال: وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام ومصر والمغرب من الجحفة، وأهل اليمن من يلملم، وأهل الطائف ونجد من قرن، وأهل المشرق من ذات عرق. 1443 - ش: روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن» قال ابن عمر - رضي الله

عنه -: وذكر لي - ولم أسمع - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «يهل أهل اليمن من يلملم» . 1444 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن، ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة من مكة» متفق عليهما، فهذه الأربع مواقيت ثبتت في الصحيح. 1445 - وأما ذات عرق لأهل المشرق ففي سنن أبي داود، والنسائي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وقت لأهل العراق ذات عرق.» 1446 - وفي البخاري عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما فتح هذان المصران، أتوا عمر بن الخطاب فقالوا: يا أمير المؤمنين «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حد لأهل نجد قرنا» ، وإنه جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا أن نأتي قرنا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من

طريقكم. قال: فحد لهم عمر ذات عرق. فيحتمل أن اجتهاد عمر – - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقع على وفق ما قاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان موفقا للصواب، ويحتمل اختصاص عمر بذلك، وكافيك به لكن ثبوت توقيت ذلك عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس كغيره، وقد أنكر أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - حديث عائشة في ذات عرق.

1447 - وجاء عن ابن عباس قال: «وقت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأهل المشرق العقيق» ، رواه أبو داود، والترمذي وحسنه، قال الحافظ المنذري: وفيه يزيد بن أبي زياد، وهو ضعيف. (تنبيه) : «ذو الحليفة» بضم الحاء وفتح اللام - موضع عند قرية، بينه وبين المدينة ستة أميال أو سبعة، «والجحفة» بجيم مضمومة، ثم حاء مهملة ساكنة - قرية جامعة تميز على طريق المدينة من مكة كان اسمها (مهيعة) ، فجحف السيل بأهلها فسميت به، (ومهيعة) بفتح الميم، وسكون الهاء، وفتح الياء، وقال بعضهم بكسر

الهاء كجميلة، وهي [على] ثلاث مراحل من مكة، و «قرن» بفتح القاف [وسكون الراء المهملة، ويقال له «قرن المنازل» و «قرن الثعالب» ورواه بعضهم بفتح الراء وغلط، قيل] من قال بالإسكان أراد الجبل المشرف على الموضع، ومن قال بالفتح أراد الطريق الذي يفترق منه، فإنه موضع فيه طرق مفترقة، وهو تلقاء مكة، على يوم [وليلة] منها، و «يلملم» بفتح الياء آخر الحروف، و [يقال] : ألملم بفتح الهمزة، والياء بدل منها، وقال ابن السيد: يلملم ويرمرم باللام والراء، وهو على ليلتين من مكة، و «ذات عرق» منزل معروف من منازل الحاج، يسمى بذلك لأن فيه عرقا وهو الجبل الصغير، وقيل: العرق من الأرض سبخة تنبت الطرفاء، و «العقيق» قبل ذات عرق بمرحلة أو مرحلتين، وكل مسيل شقه ماء السيل فوسعه فهو عقيق، و «المصران»

البصرة والكوفة والمصر المدينة «والجور» الميل عن القصد، والله أعلم. قال: وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل. ش: ميقات أهل مكة إذا أرادوا العمرة من الحل. 1448 - لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «نزل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[المحصب] فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر، فقال «اخرج بأختك [من الحرم] فلتهل بعمرة، ثم لتطف بالبيت، فإني أنتظركما هنا» مختصر، متفق عليه. وليجمع في النسك بين الحل والحرم، إذ أفعال العمرة كلها في الحرم، فلو أحرم منه لم يجمع بينهما، وهذا بخلاف الحج، إذ في الحج يخرج إلى عرفة، فيحصل الجمع، ومن أي الحل أحرم جاز، وإنما أمرت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - والله أعلم بالإحرام من التنعيم لأنه أقرب الحل إلى مكة. وقال أحمد في المكي: كلما تباعد فهو أعظم للأجر، هي على قدر تعبها، وذكر صاحب التلخيص أن أفضل مواقيتها الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية، فلو خالف فأحرم بها من الحرم، أثم ولزمه دم. لمخالفة الميقات، ثم إن خرج إلى الحل قبل إتمامها وعاد أجزأته عمرته، لوجود الجمع بين الحل والحرم، وإن لم يخرج حتى أتم أفعالها فوجهان (أحدهما) : وهو المشهور يجزئه،

إذ فوات الإحرام من الميقات لا يقتضي البطلان، دليله الحج. (والثاني) : لا يجزئه، نظرا إلى أن الجمع شرط وقد فات، فعلى هذا لا يعتد بأفعاله، وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ثم يأتي بها، والله أعلم. قال: وإذا أرادوا الحج فمن مكة. ش: إذا أراد أهل مكة الحج فميقاتهم من مكة، لما تقدم من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي رواية «حتى أهل مكة يهلون منها» . 1449 - «وقال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا من الأبطح» . رواه مسلم (وعن أحمد) فيمن اعتمر في أشهر الحج من أهل مكة: يهل بالحج من الميقات، فإن لم يفعل فعليه دم. وذكر القاضي أظنه في المجرد - ونقله عن أحمد - فيمن دخل مكة محرما عن غيره بحج أو عمرة [ثم أراد أن يحرم عن نفسه، أو دخل محرما لنفسه ثم أراد أن يحرم عن غيره بحج أو عمرة] أنه يلزمه الإحرام من الميقات، فإن لم يفعل فعليه دم، لأنه جاوز الميقات مريدا للنسك، والمشهور - وهو اختيار أبي محمد -

الأول عملا بإطلاق الحديث، وعليه لو أحرم من الحل فقال أبو محمد: إن كان من الحل الذي يلي عرفة فهو كالمحرم دون الميقات، فيلزمه دم، وكذلك إن كان من الجانب الآخر ولم يسلك الحرم، لعدم الجمع بين الحل والحرم، وإن سلكه فهو كالمحرم قبل الميقات فلا دم عليه، وحكى أبو البركات وغيره روايتين على الإطلاق، وعلى رواية وجوب الدم لو أحرم بين مكة والحل ففي وجوب الدم - أيضا - روايتان، حكاهما في التلخيص. (تنبيه) : أهل مكة من كان فيها، سواء كان مقيما بها أو غير مقيم، وحكم الحرم حكم مكة في [جواز] إحرام المكي منه، وقد أحرم الصحابة من الأبطح. والله أعلم. قال: ومن كان منزله دون الميقات فميقاته من موضعه. 50 ش: أي إذا كان منزله أقرب إلى مكة من الميقات فميقاته من منزله، لما تقدم من حديث ابن عباس «ومن كان دونهن فمهله من أهله» ولو كان مسكنه قرية جاز الإحرام من أي جوانبها شاء، والأولى الإحرام من الأبعد، والله أعلم. قال: ومن لم يكن طريقه على ميقات فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم. ش: لما تقدم من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انظروا حذوها من طريقكم. فإن لم يعلم حذو الميقات احتاط فأحرم

قبله، إذ الإحرام قبل الميقات جائز، وبعده حرام، ولا يجب الإحرام حتى يعلم المحاذاة، حذارا من الوجوب بالشك، والله أعلم. قال: وهذه المواقيت لأهلها، ولمن مر عليها من غير أهلها، ممن أراد حجا أو عمرة. ش: المواقيت التي تقدمت لأهلها الذين ذكرهم، ولمن مر عليها من غير أهلها، سواء كان مريدا للحج أو للعمرة فإذا حج الشامي من طريق المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته، لحديث ابن عباس «هن «لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد حجا أو عمرة» ، والله أعلم. قال: والاختيار أن لا يحرم قبل ميقاته. ش: لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه – - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - – لم يحرموا إلا من الميقات، ولا يفعلون إلا الأفضل والأكمل قطعا، ولم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه أمر أحدا أن يحرم قبل الميقات. 1450 - وعن الحسن أن عمران بن الحصين أحرم من البصرة، فبلغ ذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فغضب وقال: يتسامع الناس أن رجلا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم من مصره.

1451 - وقال إن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان، فلما قدم على عثمان لامه فيما صنع، وكرهه له. رواهما سعيد، والأثرم. 1452 - وقال البخاري في صحيحه: كره عثمان أن يحرم الرجل من خراسان. ولأنه يعرض نفسه لمواقعة المحظور، وفيه مشقة على نفسه، فلم يطلب كالوصال في الصوم. 1453 - وقد روى أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليستمتع أحدكم بحله [ما استطاع] فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه» » .

1454 - ويرشح هذا قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «بعثت بالشريعة السهلة السمحة» ونحو هذا. 1455 - وما روي عن أم سلمة – - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «من أهل من المسجد الأقصى بعمرة أو بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه» رواه أحمد، وأبو داود فمختص والله أعلم ببيت المقدس، ليجمع في الصلاة بين مسجدين في إحرام واحد، ولهذا أحرم ابن عمر منه. 1456 - قال مالك في موطئه: عن الثقة عنده أن ابن عمر أهل بحج من إيلياء مع أن الحديث قد ضعف، قال المنذري: اختلف الرواة في متنه وفي إسناده اختلافا كثيرا.

1457 - وما يروى عن عمر، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -[أنهما] قالا في قَوْله تَعَالَى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] : إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك. ففسره أحمد وسفيان بأنه ينشئ لهما سفرا من بلده مقصودا لهما، ويعين هذا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه لم يحرموا إلا من الميقات، وإلا يلزم مخالفة الأمر، وهو منفي قطعا، ثم قد تقدم أن عمر أنكر على عمران إحرامه من مصره، فكيف ينكر المأمور، والله أعلم. قال: فإن فعل فهو محرم. ش: إذا ترك الاختيار، وأحرم قبل الميقات صح إحرامه بالإجماع، حكاه ابن المنذر وما تقدم عن عمر، وعثمان يدل على ذلك، إذ لم يأمرا من أحرم قبل الميقات بإعادة الإحرام، وهل يكره؟ فيه قولان المجزوم به عند أبي محمد الكراهة، تبعا لما نقل عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحذارا من المخالفة لما فعله سيد الأنام.

قال: ومن أراد الإحرام فجاوز الميقات غير محرم رجع فأحرم من الميقات، فإن أحرم من موضعه فعليه دم وإن رجع محرما إلى الميقات. ش: يجب على المريد للنسك أن يحرم من الميقات، اقتداء بفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبقوله «يهل أهل المدينة من ذي الحليفة» الحديث، ولأنه ميقات للعبادة، فلم يجز تجاوزه كميقات الصلاة، فإن أحرم فبها ونعمت، وإن جاوزه غير محرم فقد أثم إن كان عالما، ووجب عليه الرجوع إن أمكنه، ليأتي بالواجب، فإن رجع فأحرم من الميقات فلا دم عليه، وإن لم يرجع وأحرم من مكانه فعليه دم لتركه الواجب. 1458 - وقد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال «من ترك نسكا فعليه دم» روي موقوفا ومرفوعا وسواء رجع محرما إلى الميقات أو لم يرجع، إذ بالإحرام دون الميقات حصل ترك الواجب فوجب الدم، والأصل عدم سقوطه. وقول الخرقي: ومن أراد الإحرام. مفهومه أن من لم يرد الإحرام ليس حكمه كذلك، فلا يخلو غير المريد للإحرام إما

أن يريد الحرم أو دونه، فإن كان مراده دون الحرم فلا إحرام عليه بلا نزاع، لحديث ابن عباس، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى بدرا مرتين ولم يحرم، ثم إن بدا له الإحرام أحرم من موضعه ولا شيء عليه، على ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، اعتمادا على ظاهر حديث ابن عباس، وعن أحمد: يلزمه الرجوع إلى الميقات. انتهى. وإن كان مراده الحرم فلا يخلو من ثلاثة أحوال:. (أحدها) أن يكون قصده لذلك لحاجة تتكرر، كالاحتشاش والاحتطاب، ونحوهما، أو لقتال مباح، أو خوف، فيجوز له الدخول بغير إحرام، لظاهر حديث ابن عباس، ويخص القتال والخوف ونحوهما. 1459 - بما روى جابر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام» . رواه مسلم، والنسائي. 1460 - وفي الصحيح «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل مكة [عام الفتح] وعلى رأسه المغفر» ، الحديث قال مالك: ولم يكن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ محرما، ويخص من تكررت حاجته لأن في وجوب الإحرام عليه إذا حرجا ومشقة، وهما منتفيان شرعا.

الحال الثاني: أن يكون ممن لم يتعلق به الوجوب، كالصبي والعبد والكافر، فهؤلاء لا إحرام عليهم، لحديث ابن عباس ثم [أيضا] إن بلغ الصبي، وعتق العبد، وأرادا النسك وجب عليهما الإحرام من موضعهما، ولا شيء عليهما، لتعلق الوجوب بهما إذا، وكذلك الكافر يسلم على إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد، نظرا إلى أن الإسلام يجب ما قبله، فحكم الخطاب إنما تعلق إذا (والرواية الثانية) : يجب عليه الرجوع إلى الميقات ليحرم منه، فإن أحرم من موضعه فعليه دم، اختاره أبو بكر، والقاضي، وأبو الخطاب في خلافه الصغير وغيرهم، بناء على مخاطبته بالفروع على المذهب، ومن هنا يمتنع تخريج أبي محمد الرواية للصبي والعبد. (الحال الثالث) من عدا ما تقدم، كالداخل لتجارة، أو زيارة ونحو ذلك، ففيه روايتان، أنصهما - وهو اختيار جمهور الأصحاب - وجوب الإحرام، لأنه من أهل فرض الحج، وحاجته لا تتكرر، أشبه مريد النسك. والثانية: وهو ظاهر كلام الخرقي - لا إحرام عليه، وهو ظاهر النص. 1461 - وحكاه أحمد عن ابن عمر فعلى الأولى إذا دخل طاف وسعى وحلق وحل، نص عليه أحمد، والله أعلم.

باب ذكر الإحرام

قال: ومن جاوز الميقات غير محرم فخشي إن رجع إلى الميقات فاته الحج أحرم من مكانه وعليه دم، والله أعلم. ش: من جاوز الميقات ممن يلزمه الإحرام غير محرم، فخشي أنه إن رجع إلى الميقات فاته الحج، فإنه يسقط عنه الرجوع، ويحرم من موضعه، محافظة على إدراك الحج، ونظرا إلى وجوب ارتكاب أدنى المفسدتين لدرء أعلاهما وعليه دم لتركه الواجب والله سبحانه وتعالى أعلم. [باب ذكر الإحرام] [سنن وآداب الإحرام] «باب ذكر الإحرام» قال: ومن أراد الحج - وقد دخل أشهر الحج - فإذا بلغ الميقات فالاختيار [له] أن يغتسل. ش: الاختيار لمن أراد الإحرام أن يغتسل. 1462 - لما روي عن خارجة بن زيد عن أبيه، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تجرد لإهلاله واغتسل» . رواه الترمذي وقال: حسن غريب. 1463 - وثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أسماء بنت عميس لما نفست أن تغتسل وتهل» .

1464 - وكذلك أمر عائشة لما حاضت. 1465 -[وفي الموطأ عن نافع، أن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يغتسل لإحرامه] قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية بعرفة. فإن لم يجد ماء سن له التيمم عند القاضي، لأنه قائم مقامه، فشرع كالغسل الواجب، ولم يسن له التيمم عند أبي محمد، لأنه غسل مسنون، أشبه غسل الجمعة، ولفوات المقصود منه وهو التنظيف.

وقد أشعر كلام الخرقي بأن المطلوب أن لا يحرم الإنسان بالحج إلا من الميقات المكاني، وفي الميقات الزماني، أما الأول فقد تقدم، وأما الثاني فلا ريب فيه، بحيث لو أحرم قبل ذلك كره، قياسا على الميقات المكاني وخروجا من الخلاف، فإن بعض العلماء لا يصحح إحرامه بالحج قبل أشهره، وهو رواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ويحتمله كلام الخرقي، لظاهر قول الله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أي وقت الحج أشهر معلومات، وإذا كان هذا وقته فلا يجوز تقديم شيء منه عليه كوقت الصلاة. 1466 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج» . رواه البخاري. أي الطريقة والشريعة، هذا هو الظاهر (والمذهب) المنصوص المختار للأصحاب صحة الحج قبلها، قياسا على الميقات المكاني، ولإطلاق قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ظاهره أن جميع الأهلة مواقيت الحج، وتحمل

الآية الكريمة السابقة على ما عدا الإحرام من أفعال الحج، أو يقال: الإحرام مستصحب، فيكتفى بالجزء الواقع فيها، فما خرج شيء من أفعال الحج عنها، والسنة في قول ابن عباس يحتمل أنها المقابلة للواجب. 1467 - كما في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله فرض صيام رمضان، وسننت أنا قيامه» . وعلى الرواية الأولى - ولعلها أظهر - إذا أحرم بالحج صح عمرة، لصحة الإحرام بها في كل السنة، ومجرد الإحرام يقتضي أفعالها، وهو الطواف والسعي والحلق، وما زاد على ذلك مختص بالحج، وإذا بطل الخصوص بقي العموم فهو كما لو أحرم بالصلاة قبل وقتها، لكن يقال على هذا بأن اقتضاء الإحرام لأفعالها لا يقتضي أنه إذا بطل الحج أنه تحصل له

عمرة، إذ العمرة نسك آخر، فهو كالعصر إذا نقلها للظهر لا تصح ظهرا، غايته أن يقال: يتحلل بعمل عمرة. وقد يبنى الخلاف في انعقاد الحج قبل أشهره على الخلاف في الإحرام، هل هو شرط أو ركن؟ فإن قلنا إنه شرط، صح، كالوضوء يصح قبل الوقت، وإن قلنا ركن لم يصح، إذ ركن العبادة لا يصح في غير وقتها، وقد يقال: على القول بالشرطية لا يصح أيضا، لأن بالإحرام دخل في الحج، فيلزم إيقاع جزء من العبادة في غير وقتها، والانفصال عن هذا جميعه بأنا لا نسلم أن هذه الأشهر هي الوقت له، بل جميع السنة وقت له، والله تعالى أعلم. وقد عرفت من هنا أن تقييد الخرقي مريد الحج بهذا الحكم لتخرج العمرة، فإنها تفعل في كل السنة. 1468 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «عمرة في رمضان تعدل حجة» متفق عليه. 1469 - وعنه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر أربعا، إحداهن في رجب» . رواه الترمذي وصححه.

1470 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتمر عمرتين، عمرة في ذي القعدة، وعمرة في شوال» . رواه أبو داود، والله أعلم. قال: ويلبس ثوبين نظيفين. ش: أي والاختيار [للمحرم] أن يلبس ثوبين [أي] نوعين من الثياب، وهما الإزار والرداء. 1471 - لما روي عن ابن عمر في حديث له عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «وليحرم أحدكم في إزار ورداء، ونعلين، فإن لم يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل [من] الكعبين» ، رواه أحمد، وقال ابن المنذر: ثبت ذلك عن رسول الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، (والمستحب) أن يكونا نظيفين، جديدين أو غسيلين، إذ يستحب له تنظيف بدنه، فكذلك ثيابه، والأولى أن يكونا أبيضين. 1472 - لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «خير ثيابكم البياض» ، والله أعلم. قال: ويتطيب. 1473 - ش: لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي هاتين لإحرامه حين أحرم، ولحله حين أحل، قبل أن يطوف، وبسطت يديها، وفي رواية: بطيب فيه مسك. وفي أخرى: في حجة الوداع للحل والإحرام. وفي أخرى: بأطيب ما أجد، حتى أجد وبيص المسك في رأسه [ولحيته] » . وفي أخرى: «قال محمد بن المنتشر: سألت

عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن الرجل يتطيب ثم يصبح محرما. فقال: ما أحب أن أصبح محرما أنضح طيبا، لأن أطلي بقطران، أحب [إلي من] أن أفعل ذلك. [فدخلت على عائشة، فأخبرتها أن ابن عمر قال: ما أحب أن أصبح محرما أنضح طيبا، لأن أطلي بقطران، أحب [إلي من] أن أفعل ذلك] . فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنا طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند إحرامه، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرما - زاد في رواية -: ينضح طيبا» متفق عليه. 1474 - ورئي ابن عباس محرما وعلى رأسه مثل الرب من الغالية. 1475 - وقال مسلم بن صبيح: رأيت [ابن] الزبير وهو محرم، وفي رأسه ولحيته من الطيب ما لو [كان] لرجل اتخذ منه رأس مال. وكلام الخرقي يشمل ما له جرم، وما لا جرم له، وصرح به غيره.

1476 - وفي سنن أبي داود «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنا نخرج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى مكة، فنضمد جباهنا بالسك المطيب عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها، فيراه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا ينهانها.» ويشمل أيضا الطيب في البدن والثياب، وكذلك كلام كثير من الأصحاب، إذ التنظيف مقصود فيهما، وقال أبو محمد في الكافي والمغني: يستحب في بدنه لا في ثوبه. وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، لأن في بعض روايات حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «طيبت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحله وطيبته لإحرامه، طيبا لا يشبه طيبكم هذا» . تعني ليس له بقاء، رواه النسائي. وفي الثوب يبقى. 1477 - وحديث يعلى بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بالجعرانة، قد أهل بعمرة، وهو مصفر لحيته ورأسه، وعليه جبة، فقال: يا رسول الله أحرمت بعمرة وأنا كما ترى؟ فقال

«انزع عنك الجبة، واغسل عنك الصفرة» . متفق عليه، ورواه أبو داود وقال «اغسل عنك أثر الخلوق - أو قال -: أثر الصفرة» محمول [على] أنه كان زعفرانا. 1478 - والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يتزعفر الرجل، وإذا نهى عن ذلك في غير الإحرام ففيه أحذر، ثم حديث عائشة متأخر، لأنه في حجة الوداع، في السنة العاشرة، وهذا الحديث بالجعرانة سنة ثمان، والعمل بالمتأخر أولى، ودعوى اختصاصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتطيب لهذا الحديث، مردود «بقول عائشة المتقدم: كنا نخرج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[إلى مكة] فنضمد جباهنا» . الحديث. ثم هو في مقام البيان، وقد قال «خذوا عني مناسككم» فكيف لا يبين الخصوصية. (تنبيه) : اللام في «لحله» لام الوقت، أي لوقت حله، كما في قَوْله تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]

و «وبيص الطيب» بريقه ولمعانه، يقال: وبص الشيء يبص وبيصا، وبص يبص بصيصا، و «ينضح» يفوح، وأصله الرشح، فشبه كثرة ما يفوح من طيبه بالرشح، والرواية - بالحاء المهملة -، وجاء في بعض نسخ مسلم: «ينضخ» - بخاء معجمة -، فقيل: هما سيان في المعنى، وقيل: بل النضخ - بالمعجمة - أكثر من النضخ بالمهملة، وقيل غير ذلك. و «نضمد» يقال: ضمدت الجرح. إذا جعلت عليه الدواء، وضمدته بالزعفران ونحوه إذا لطخته. و «السك» نوع من الطيب، و «الجعرانة» في الحل بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب، وتخفف وتشدد، والتخفيف أكثر، قال المنذري: [وهو الذي قيده] المتقنون والله أعلم. قال: فإن حضر وقت صلاة مكتوبة صلاها، وإلا صلى ركعتين. ش: المستحب أن يحرم عقب صلاة، إما فريضة أو نافلة. 1479 - لما روي عن أنس بن مالك: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى الظهر بالبيداء ثم ركب وصعد جبل البيداء، وأهل بالحج والعمرة حين صلى الظهر» . رواه النسائي.

أنواع النسك

1480 - وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجا، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه، أوجب في مجلسه» . والله أعلم. [أنواع النسك] قال: فإن أراد التمتع - وهو اختيار أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فيقول: اللهم إني أريد العمرة. ش: الأنساك ثلاثة، التمتع، والإفراد، والقران، ولا خلاف بين الأئمة والحمد لله في جواز كل منها. 1481 -[وقد شهد لذلك «قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «من أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل] ، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد أن يهل بعمرة فليهل» قالت: وأهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحج، وأهل به ناس معه، وأهل معه ناس بالعمرة والحج، وأهل ناس بالعمرة، وكنت فيمن أهل بعمرة» . متفق عليه. واختلف الأئمة في الأولى - منها -[والأفضل] فذهب إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في نفر كثير من الصحابة وغيرهم إلى أن التمتع

أفضل، وذهب أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وجماعة إلى أن القران أفضل، وذهب مالك ونفر من الصحابة وغيرهم، وهو ظاهر مذهب الشافعي إلى أن الإفراد أفضل. واختلفوا في إحرام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فادعى كل أنه أحرم كمختاره، واختلافهم لاختلاف الأحاديث، فقد تقدم عن – عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه أهل بالحج، وفي رواية عنها: أنه أفرد الحج. 1482 - وكذا في مسلم وغيره عن ابن عمر، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بالحج مفردا» . 1483 - «وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي بالحج والعمرة جميعا. وفي رواية: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «لبيك حجا وعمرة» » . 1484 - وعن جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قرن الحج والعمرة» . رواه الترمذي، والنسائي.

1485 - «وعن ابن عمر أنه قرن الحج والعمرة، وقال: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» . رواه النسائي. 1486 - وجاء في رواية في الصحيح أنه أدخل الحج على العمرة، وأنه طاف لهما طوافا واحدا وقال: كذلك فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1487 - وعن علي نحو ذلك. 1488 - «وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بوادي العقيق يقول «أتاني الليلة آت [من ربي] فقال: صل في هذا

الوادي المبارك وقل: عمرة في حجة» رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، وفي رواية: وقل عمرة وحجة» . 1489 - «وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للصبي بن معبد - لما أخبره أنه أهل بهما -: هديت لسنة نبيك» ، رواه النسائي وغيره. 1490 - «وقال سراقة بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة» قال: وقرن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع» . رواه أحمد، انتهى. 1491 - وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وأول من نهى [عنها] معاوية» . رواه الترمذي، والنسائي.

1492 - «وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لقد تمتعنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. رواه مسلم وفي رواية النسائي وغيره: صنعناها مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأمره، وصنعها هو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1493 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: والله لا أنهاكم عن المتعة، فإنها لفي كتاب الله، ولقد فعلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[يعني العمرة في الحج» . رواه النسائي. 1494 - وسأل رجل ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها، وصنعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. [فقال: لقد صنعها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] رواه الترمذي.

1495 - وفي الصحيحين في رواية «عن عمران بن حصين: تمتع نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتمتعنا معه.» 1496 - وفي الصحيحين أيضا عن ابن عمر: «تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج» ، وروي غير ذلك. وقيل: إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم مطلقا، بدليل حديث عمر المتقدم، والمحققون على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان نسكه قرانا، والظاهر أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بعمرة، ثم أدخل عليها الحج، كما تقدم في الصحيح عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه فعل ذلك، وأنه أخبر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله. 1497 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعمرة، وأهل أصحابه بالحج» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي. 1498 - وفي الصحيحين من «حديث حفصة أنها قالت: يا رسول الله: ما شأن الناس حلوا، ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر» » أي والله أعلم من عمرتك التي ابتدأت بها الإحرام.

وبهذا يحصل - وبالله التوفيق - الجمع بين الأحاديث، فمن أخبر أنه أفرد الحج فلأنه أحرم به مفردا، حيث أدخله على العمرة، ومن أخبر أنه قرن فلأن نسكه كان قرانا فأخبر بما آل إليه الحال، ومن أخبر أنه تمتع فلأنه لم يفرد الحج [بسفرة] ، والعمرة بسفرة، بل جمع بينهما في نسك واحد، فقول الراوي: تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة إلى الحج. أي [تمتع] بالعمرة موصلا بها إلى الحج، وعلى هذا فالآية الكريمة، وهي قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] قد يقال: إنه يشمل القران والتمتع. وإنما اختار إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - المتعة ليس - والله أعلم - لأن إحرام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان تمتعا، ولكن لأمره أصحابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بفسخ الحج إلى العمرة، وقد ثبت ذلك عنه ثبوتا لا ريب فيه، وسيأتي طرف منه - إن شاء الله تعالى -، ولم يكن - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لينقلهم إلى المفضول ويترك الأفضل، وإنما منعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الفسخ سوق الهدي، كما صرح به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1499 - ففي حديث عائشة في رواية لأبي داود أنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من شاء أن يهل بحج فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل، ولولا أني أهديت لأهللت بعمرة» .

1500 - وعنها أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال « «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي» رواه أبو داود، والبخاري بنحوه. 1501 - وفي حديث جابر لما أمر أصحابه بجعل نسكهم عمرة قال «إني لو استقبلت من أمري ما استدبرت [ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت» متفق عليه. 1502 - وفي حديث أنس «لو استقبلت من أمري] ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولكن سقت الهدي، وقرنت بين الحج والعمرة» رواه أحمد فأخبر - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أنه إنما منعه من الإحرام بالعمرة سوق الهدي، وأنه لولا سوقه لفسخ إحرامه إلى العمرة، وتأسف على ذلك، ولم يكن ليندم إلا على الأفضل والأولى، ثم إن التمتع مذكور في كتاب الله تعالى، بخلاف غيره، ويجتمع له العمرة والحج في أشهر الحج، مع كمالهما وكمال أفعالهما، مع سهولة، وزيادة نسك، [وهو الدم] يرشح هذا حديث أبي أيوب المتقدم. «ليستمتع أحدكم بحله ما استطاع، فإنه لا يدري ما يعرض له في إحرامه» وأيضا فإن عمرة التمتع تجزئ بلا خلاف،

بخلاف عمرة القران، والعمرة من التنعيم بعد الحج، فإن فيهما خلافا. ثم من العلماء من أوجب التمتع. 1503 - كما يحكى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو قول الظاهرية، بخلاف النسكين الآخرين، فإنه لا يعلم قائل بوجوبهما. 1504 - وما يحكى عن عمر , وعثمان من نهيهما عن ذلك، فقد خالفهما غيرهما.

1505 - قال سعيد بن المسيب: اجتمع عثمان وعلي بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال له علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنهى الناس عنه؟ فقال [له عثمان] : دعنا عنك. قال: إني لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى ذلك أهل بهما جميعا. متفق عليه وقد تقدم الإشارة من ابن عمر إلى الإنكار على أبيه. 1506 - مع أن في الصحيحين في حديث لأبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة في زمن أبي بكر، وشطرا من خلافة عمر، وأنه قيل له: اتئد في فتياك، إنك لا تدري ما يحدث أمير المؤمنين في شأن النسك [وأنه جاء إلى عمر فقال: ما هذا الذي بلغني أنك أحدثت في شأن النسك] فقال عمر: إن نأخذ بكتاب الله فإن الله يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وإن نأخذ بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقد قال «خذوا عني مناسككم» «فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل حتى نحر الهدي» . وفي رواية لمسلم: قد علمت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا

معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون إلى الحج تقطر رءوسهم. فهذا في الحقيقة ليس بمخالفة، فإن عثمان لم يبين [حجة] ، بل أذعن لذلك، وعمر بين عذره في ذلك، وهو الأمر بإتمام الحج والعمرة، ومراده في ذلك والله أعلم أن يأتي بكل من النسكين في سفرة، كما روي عنه أنه يحرم بهما من دويرة أهله، ولا نزاع بين أهل العلم أن هذا الصورة أفضل بلا نزاع، واعتذر أيضا بأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل حتى نحر الهدي، وقد بين الرسول - عَلَيْهِ السَّلَامُ - المانع له من الحل، واعتذر أيضا بأنه [كره] أن يظلوا معرسين إلى آخره. 1507 - وقد ذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقالوا: كيف ننطلق إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا؟ فغضب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ودخل على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فقالت: من أغضبك أغضبه الله؟ قال: «كيف لا أغضب وأنا آمر بالأمر فلا أتبع» رواه أحمد، وابن ماجه انتهى.

وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى - واختارها أبو العباس فيما أظن - أنه إن ساق الهدي فالقران أفضل، لأنه الذي اختاره الله لنبيه، وأمره به، كما تقدم في حديث عمر، ولقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لولا أن معي الهدي لأحللت بعمرة» . وقد أطلنا الكلام في هذه المسألة، وهي تحتمل أكثر من هذا، وحالنا وحال الكتاب يقتضي الاقتصار على هذا وبالله التوفيق. إذا تقرر هذا فصفة التمتع [أن يحرم] بالعمرة [في أشهر الحج] ثم يحج من عامه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أي تمتع [بالعمرة] موصلا بها إلى الحج، وقد أشار [إلى هذا]

الاشتراط في الإحرام

الشيخان أبو البركات، وأبو محمد في المغني، عند [ذكر] شروط وجوب الدم على المتمتع، قال: حقيقة التمتع ... وذكر ما قلناه، ولا يغرنك ما وقع في كلام أبي محمد وغيره من أن التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج [من مكة] إلى آخره، فإن هذا التمتع الموجب للدم [ومن] هنا قلنا: إن تمتع حاضري المسجد الحرام صحيح على المذهب، وقال ابن أبي موسى: لا متعة لهم. ويحكى ذلك رواية، وقد تعرض أبو محمد لها فقال: نقل عن أحمد: ليس على أهل مكة متعة، ومعناه ليس عليهم دم متعة، لأن المتعة له لا عليه، انتهى. (قلت) : وقد يقال: إن هذا من الإمام بناء على أن العمرة لا تجب عليهم، فلا متعة عليهم، أي الحج كافيهم، لعدم وجوب العمرة [عليهم] فلا حاجة لهم إلى المتعة. وقول الخرقي: يقول: اللهم إني أريد العمرة. أراد به الاستحباب، وإلا فالمشترط قصد ذلك، والله أعلم. [الاشتراط في الإحرام] قال: ويشترط فيقول: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن حبس حل من الموضع الذي حبس فيه، ولا شيء عليه. ش: الاشتراط عندنا في الإحرام جائز بل مستحب. 1508 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله إني [أريد] الحج أشترط؟ قال: «نعم» قالت: كيف أقول؟ قال: «قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي [من الأرض]

حيث حبستني» رواه الجماعة إلا البخاري، وهذا لفظ أبي داود. وفي رواية للنسائي: «فإن [لك] على ربك ما استثنيت» . 1509 - وهو للشيخين من رواية عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. 1510 - ورواه أحمد عن عكرمة، «عن ضباعة قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أحرمي وقولي: إن محلي حيث حبستني، فإن حبست أو مرضت فقد حللت من ذلك، بشرطك على ربك عز وجل» وصفته كما في الحديث وما في معناه، لأن المعنى هو المقصود. 1511 - وعن ابن مسعود أنه كان يقول: اللهم إني أريد العمرة إن تيسرت لي، وإلا فلا حرج علي. ويفيد هذا الشرط شيئين:

(أحدهما) : [أنه متى حبس بمرض، أو ذهاب نفقة، ونحوهما فإنه يحل، على ظاهر كلام الخرقي، وصاحب التلخيص فيه، وأبي البركات، وهو ظاهر الحديث، وقال القاضي في الجامع، وأبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد: إن له التحلل. فإذا لا بد من قصده. (الثاني) : أنه متى حل بذلك أو بعذر ونحوه فلا شيء عليه من دم، ولا غيره. (تنبيهان) : (أحدهما) : هل يكفي قصده للاشتراط تبعية للإحرام، أو لا بد من التلفظ، كالاشتراط في الوقت ونحوه؟ فيه احتمالان. (الثاني) : «محلي» - بكسر الحاء وفتحها -، وهو موضع الحلول، والله أعلم. قال: وإن أراد الإفراد قال: اللهم إني أريد الحج. ويشترط. ش: الإفراد أن يحرم بالحج مفردا [قاله أبو محمد] . وقال بعض الأصحاب أن لا يأتي في أشهر الحج بغيره. وهو أجود. ويشترط فيه كالعمرة، والله أعلم. قال: وإن أراد القران قال: اللهم إني أريد العمرة والحج. ويشترط.

التلبية في الحج

ش: القران أن يحرم بالعمرة والحج معا، أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج، قبل فعل ركنها الأعظم وهو الطواف. 1512 - وفي الصحيحين عن ابن عمر، أنه أدخل الحج على العمرة عام حجة الحرورية. وذكر الحديث وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1513 - وكذلك [في الصحيح» عن جابر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عائشة بذلك. وسيأتي إن شاء الله تعالى. ولو أدخل العمرة على الحج لم يصح، لعدم الأثر في ذلك، ولأنه لم يستفد به فائدة، بخلاف ما تقدم. وظاهر كلام الخرقي أنه يستحب أن ينطق بما أحرم به من عمرة، أو حج، أو هما، وهو المشهور. وعن أبي الخطاب: لا يستحب ذكر ما أحرم به، والله أعلم. [التلبية في الحج] قال: فإذا استوى على راحلته لبى. ش: ظاهر كلام الخرقي أنه لا يلبي إلا إذا استوت به راحلته. 1514 - وذلك لما «روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، ما أهل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا من عند الشجرة، حين قام به بعيره» . وفي رواية:

رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يركب راحلته بذي الحليفة، ثم يهل حين تستوي به قائمة. متفق عليه. والمشهور في المذهب أن الأولى أن يلبي حين يحرم. 1515 - لما روى سعيد بن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: يا أبا العباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين أوجب. فقال: إني لأعلم الناس بذلك إنها إنما كانت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة واحدة، فمن هناك اختلفوا، خرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاجا، فلما صلى بمسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجب في مجلسه، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه، فسمع ذلك منه أقوام فحفظت عنه، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل، وأدرك ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا، فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا: إنما أهل حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما علا على شرف البيداء أهل، وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا: إنما أهل حين علا على شرف البيداء، وايم الله لقد أوجب في مصلاه، وأهل حين استوت به ناقته، وأهل حين علا على شرف البيداء. رواه أبو داود، وقال المنذري: وفي إسناده خصيف بن عبد الرحمن الحراني وهو ضعيف.

(تنبيه) : «البيداء» البرية، والمراد في الحديث موضع مخصوص بين مكة والمدينة. و «الإهلال» رفع الصوت بالتلبية، وكل شيء ارتفع صوته فقد استهل، وبه سمي الهلال، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، «أوجب» إذا باشر مقدمات الحج من [الإحرام] والتلبية. و «أرسالا» أي متتابعين، قوما بعد قوم، و «استقلت به راحلته» أي نهضت به حاملة له، والله أعلم. قال: فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. ش: لما ذكر أنه يلبي [ذكر] صفة التلبية، وهذه تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1516 - ففي الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن تلبية رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لبيك اللهم لبيك، [لبيك] لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك» » قال: وكان عبد الله بن عمر يزيد في تلبيته: لبيك

لبيك، لبيك وسعديك، والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل. (تنبيه) : لبيك» لفظ يجاب به الداعي، وهو في تلبية الحج إجابة لدعاء الله تعالى الناس إلى الحج في قَوْله تَعَالَى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] الآية ومعنى هذه التثنية فيه، أي مرة بعد مرة، وهو من: ألب بالمكان. إذا أقام به، كأنه قال: إقامة على إجابتك بعد إقامة. وقيل: من قولهم: أنا ملب بين يديك. أي خاضع، وقيل غير ذلك، «وسعديك» المساعدة الطاعة أي مساعدة بعد مساعدة، قال الجرمي: ولم يسمع سعديك مفردا. و «الرغباء والرغبى» - بالفتح مع المد، والضم مع القصر -، والمعنى هنا الطلب والمسألة. «وإن الحمد» - بالفتح، وبالكسر ورجحه بعضهم -، قال ثعلب: من قال بالكسر فقد عم، ومن قال بالفتح فقد خص، والله أعلم. قال: ثم لا يزال يلبي إذا علا نشزا، أو هبط واديا، وإذا التقت الرفاق، وإذا غطى رأسه ناسيا، وفي دبر الصلوات المكتوبة. ش: أما فيما عدا تغطية الرأس:

1517 - فلما يروى عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي في حجته إذا لقي ركبا، أو علا أكمة، أو هبط واديا، وفي أدبار الصلوات المكتوبة، وفي آخر الليل» . 1518 - وعن إبراهيم: كانوا يستحبون. وذكر نحوه، إلا أنه أبدل آخر الليل: فإذا استوت به راحلته. وأما في تغطية الرأس، وما في معناه من فعل محظور ناسيا، فليبادر لما هو عليه، والإقلاع عما صدر عنه، والله أعلم. قال: والمرأة أيضا يستحب لها أن تغتسل عند الإحرام، وإن كانت حائضا أو نفساء، لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أسماء بنت عميس وهي نفساء أن تغتسل عند الإحرام» . ش: قياسا على الرجل، والحائض والنفساء كغيرهما، بل قال أبو محمد: إنه في حقهما آكد، لورود السنة فيهما. 1519 - ففي حديث جابر الصحيح: أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء

بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كيف أصنع؟ فقال: «اغتسلي، واستثفري بثوب، وأحرمي» . 1520 - وفي حديثه الصحيح أيضا « [في قصة عائشة» أنها لما حاضت، وكانت قد أحرمت بعمرة قال لها: هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج» ففعلت. 1521 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «النفساء والحائض إذا أتتا على الميقات، يغتسلان، ويحرمان، ويقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت» رواه أبو داود، والترمذي. ولأن المقصود من غسل الإحرام، التنظيف، وهما أجدر بذلك، وهذا يؤيد أن غسل الجنابة يصح من الحائض، وأن التيمم لا مدخل له في غسل الإحرام. (تنبيه) : «استثفري» استثفرت المرأة الحائض إذا شدت على فرجها خرقة، وعطفت طرفيها إلى شيء مشدود في وسطها، من مقدمها ومؤخرها، مأخوذ من «ثفر الدابة» وهو ما يكون تحت ذنبها، والله أعلم.

أشهر الحج

قال: ومن أحرم وعليه قميص خلعه ولم يشقه. ش: لما تقدم من حديث يعلى بن أمية، والخالع غير لابس، والله أعلم. [أشهر الحج] قال: وأشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. والله أعلم. 1522 - ش: قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. رواه البخاري. 1523 - وللدارقطني مثله عن ابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير. 1524 - وعن ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: «أي يوم هذا؟» قالوا: يوم النحر. قال: «هذا يوم الحج الأكبر» رواه البخاري،

وأبو داود، ونزل بعض الشهر منزلة كله، كما يقال: رأيتك سنة كذا. وإنما رآه في ساعة منها. انتهى. وفائدة ذلك عندنا وعند الحنفية اليمين، وعند الشافعي عدم صحة

باب ما يتوقى المحرم وما أبيح له

الإحرام في غيرها، وعند مالك وجوب الدم بتأخير طواف الزيارة عنها، قال القاضي: جميع ذلك، والله أعلم. [باب ما يتوقى المحرم وما أبيح له] قال: ويتوقى المحرم في إحرامه ما نهاه الله عز وجل عنه من الرفث - وهو الجماع - والفسوق - وهو السباب - والجدال، وهو المراء. ش: قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] قرئت [المنفيات] الثلاث بالنصب والرفع، وعلى كليهما هو خبر بمعنى النهي، أي لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا، وهذه وإن منع الإنسان منها في غير الحج، لكن فيه أجدر، ولهذا وردت بلفظ الخبر، إشارة بأنها

جديرة بأن تنفى ولا توجد ألبتة، وقرئ الأولان بالرفع، والثالث بالنصب، حملا للأوليين - والله أعلم - على النهي، أي لا يكون رفث ولا فسوق، والثالث على الخبر [المحض] بانتفاء الجدال. 1525 - وذلك أن قريشا كانت تخالف سائر العرب، فتقف في المشعر الحرام، وسائر العرب يقفون بعرفة، وكانوا يقدمون الحج سنة، ويؤخرونه سنة، وهو النسيء، فرد إلى وقت واحد، ورد الوقوف إلى عرفة، فأخبر الله - سبحانه - أنه قد ارتفع الجدال في الحج. 1526 - ويؤيد هذا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه» ولم يذكر الجدال، وميل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - للأول.

1527 - وفسر الرفث بالجماع، والفسوق بالسباب، والجدال بالمراء، تبعا في ذلك لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ذكره عنه البخاري تعليقا. 1528 - وحكي ذلك [أيضا] عن ابن عمر، وجماعة من التابعين وقيل: الرفث الفحش من الكلام، وأصله الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه كلفظ النيك.

1529 - ويحكى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أنشد وهو محرم: وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا فقيل له: أرفثت؟ فقال: إنما الرفث ما كان عند النساء. انتهى. وكني به عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو منه. وقيل في الفسوق: إنه الخروج عن حدود الله تعالى، وهو أعم وأوفق للغة، والمراد بالمراء المراء مع الخدم، والرفقاء، والمكارين ونحو ذلك. (تنبيه) «هميسا» : [المشي] اللين و «لميسا» اسم جارية لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والله أعلم.

قال: ويستحب له] قلة الكلام إلا فيما ينفع، وقد روي عن شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه كان إذا أحرم كأنه حية صماء. ش: قلة الكلام في الجملة مستحب لكل أحد، وهو في حق المحرم آكد، لتلبسه بهذه العبادة العظيمة، وتشبهه بالقادم على ربه عز وجل في يوم القيامة. 1530 - وفي الصحيح: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» . 1531 - «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» . 1532 - وقد استشهد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على قلة الكلام في هذا

بخصوصه بفعل شريح - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - – أما ما فيه نفع من الكلام - كتعليم جاهل، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، ونحو ذلك - فأمر مطلوب بلا ريب، بل قد يجب، ويتأكد في حق المحرم، فإنه كما يتأكد في [حقه] ترك المنهيات، كذلك يتأكد في حقه فعل الواجبات والمندوبات والله أعلم. قال: ولا يتفلى المحرم ولا يقتل القمل. ش: المحرم لا يقتل القمل في أنص الروايتين، واختيار الخرقي، لأنه مما يترفه به، فمنع منه كقطع الشعر. 1533 - وهو ظاهر حال كعب بن عجرة. 1534 - وفي الموطأ عن نافع أن ابن عمر قال: يكره أن ينزع المحرم حلمة أو قرادا عن بعيره. (والثانية) : له ذلك منيطا للحكم

بالأذى، قال: كل شيء من جسده لا بأس به، إذا آذى انتهى، وقياسا على البراغيث، فإنه لا نزاع في جواز قتلهن، وقال أبو محمد: وقتل القمل، وإلقاؤه على الأرض، وقتله بالزئبق ونحو ذلك سواء، نظرا لعلة المنع وهو الترفه. انتهى. قال القاضي في الروايتين: وموضع الروايتين إذا ألقاها من بين شعر رأسه، أو بدنه، أو لحمه، أما إن ألقاها من ظاهر بدنه، أو ثيابه، أو بدون محل، أو محرم غيره، فهو جائز، ولا شيء عليه رواية واحدة. انتهى. والتفلي وسيلة إلى قتل القمل، فإن جاز جاز وإلا منع، وحيث تفلى وقتل القمل حيث منع منه (فعنه) : لا شيء عليه لأن كعبا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل قملا كثيرا بحلق رأسه، ولم يؤمر إلا بفدية حلق الشعر فقط. 1535 - وعن ابن عمر: هو أهون مقتول. 1536 - وعن ابن عباس في محرم ألقى قملة ثم طلبها: تلك ضالة لا تبتغى (وعنه) : يتصدق بشيء ما، جبرا لما حصل منه، والله أعلم.

قال: ويحك رأسه وجسده حكا رفيقا. ش: يحك رأسه وجسده في الجملة، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك. 1537 - وقد روى مالك في الموطأ عن علقمة بن أبي علقمة، عن أمه قالت: سمعت عائشة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأل عن المحرم يحك جسده؟ قالت: نعم، فليحكه وليشدد. قالت عائشة: لو ربطت يداي فلم أجد إلا رجلي لحككت. ويكون برفق حذارا من إزالة ما منع منه من شعر أو قمل، فإن حك فوجد في يديه شعرا استحب له الفداء احتياطا، ولا يجب حتى يتيقن أنه قلعه، والله أعلم. قال: ولا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا العمامة، ولا البرنس. ش: هذا إجماع - والحمد لله - من أهل العلم. 1538 - وقد شهد له ما في الصحيحين وغيرهما عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يلبس المحرم؟ فقال: «لا يلبس المحرم القميص، ولا العمامة، ولا البرنس، ولا السراويل، ولا ثوبا مسه ورس، ولا زعفران، ولا الخفين، إلا

أن لا يجد نعلين، فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين» . وفي رواية: ما يترك المحرم من الثياب؟ فتخصيصه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القميص تخصيص تمثيل، فيلحق به ما في معناه من الجبة، والدراعة ونحوهما، وكذلك العمامة يلحق بها ما في معناها، من كل ساتر معتاد، أو كل ساتر ملاصق، على اختلاف العلماء، وكذلك السراويل يلحق به التبان وما في معناه، وضابط ذلك كل شيء عمل للبدن على قدره، أو قدر عضو منه، كهذه المذكورات، وسواء كان مخيطا أو غير مخيط كلبد ونحوه، والله أعلم. قال: فإن لم يجد الإزار لبس السراويل، فإن لم يجد النعلين لبس الخفين. 1539 - ش: لما روى عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يجد إزارا فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين

فليلبس الخفين» رواه الجماعة، ولفظ الترمذي: «المحرم إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل، وإذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين» . 1540 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من لم يجد نعلين فليلبس خفين، ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل» رواه أحمد، ومسلم والله أعلم. قال: ولا يقطعهما ولا فداء عليه. ش: إذا لبس المحرم الخفين لعدم النعلين جاز له لبسهما من غير قطع، على المنصوص [المشهور] المختار من الروايتين، عملا بإطلاق حديثي ابن عباس، وجابر، فإنه لم يأمر فيهما بقطع، ولو وجب لبينه، لا يقال: قد بين ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث ابن عمر، فيحمل المطلق على المبين، جمعا بين الأدلة، لأنا نقول: يشترط في حمل المطلق على المقيد أن لا يفضي الإطلاق إلى تأخير بيان واجب، والحمل هنا مفض إلى ذلك، لأن حديث ابن عمر كان في المدينة، كذا في رواية لأحمد والدارقطني.

1541 - ففي رواية أحمد قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول على هذا المنبر، وفي رواية الدارقطني: أن رجلا نادى في المسجد: ماذا يترك المحرم من الثياب؟ وحديث ابن عباس كان في خطبته بعرفات، كذا في الصحيح، وهو وقت الحاجة للبيان، وقد حضره في ذلك الوقت من لم يحضره في غيره، واجتمع من الخلائق عدد لا يحصيهم إلا الله تعالى، ثم تفرقوا عنه بعد قليل، والذين حضروا قوله بالمدينة كانوا نفرا يسيرا، بحيث يقطع المنصف بأنه لا يتصور منهم البيان لكل من حضر إذ ذاك، فيلزم من ذلك أن يكون إطلاق خبر ابن عباس ناسخا للتقييد في حديث ابن عمر، دفعا لمحذور تأخير البيان عن وقت الحاجة، ويؤيد هذا أن جملة الصحابة عملوا على ذلك. 1542 - فعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الخفان نعلان، لمن لا نعل له. 1543 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفان لمن لم يجد النعلين، ونحوه عن ابن عباس. 1544 - ورئي على المسور بن مخرمة في رجليه خفان وهو محرم، فقيل له: ما هذا؟ قال: أمرتنا به عائشة. روى ذلك كله النجاد بإسناده، ويرشح هذا ما في القطع من إفساد المال

المنهي عنه شرعا. 1545 - على أنه قد روى ابن أبي موسى، عن صفية بنت أبي عبيد، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للمحرم أن يلبس الخفين ولا يقطعهما.» [وكان ابن عمر يفتي بقطعهما] قالت صفية فلما أخبرته بهذا رجع وهذا تصريح بالنسخ. 1546 - إلا أن الذي في سنن أبي داود عن سالم بن عبد الله، «أن عبد الله بن عمر كان يصنع ذلك - يعني يقطع الخفين - للمرأة المحرمة. ثم حدثته صفية بنت أبي عبيد أن عائشة - رضي

الله عنها - حدثتها، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد كان رخص للنساء في الخفين. فترك ذلك.» (والرواية الثانية) : يقطعهما إلى أسفل الكعبين، فإن لبسهما من غير قطع افتدى، وهذا مذهب أكثر الفقهاء، حملا للمطلق على المقيد تساهلا. قال الخطابي: العجب من أحمد في هذا - يعني في قوله بعدم القطع قال: فإنه لا يكاد يخالف سنة تبلغه، وقل سنة لم تبلغه. قلت: والعجب كل العجب من الخطابي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في توهمه عن الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مخالفة السنة أو خفاءها، وقد قال المروذي: احتججت على أبي عبد الله بقول ابن عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قلت: هو زيادة في الخبر. فقال: هذا حديث، وذاك حديث. فقد اطلع - رَحِمَهُ اللَّهُ - على السنة، وإنما نظر نظرا لا ينظره إلا الفقهاء المتبصرون، وهو يدل على غايته في الفقه والنظر.

وقد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا فدية على من لبس السراويل لعدم الإزار، ولا على من لبس الخفين لعدم النعلين، وهو واضح، لظاهر حديثي ابن عباس وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والله أعلم. قال: ويلبس الهميان، ويدخل السيور بعضها في بعض، ولا يعقدها. ش: يلبس الهميان، قال أبو عمر بن عبد البر: على ذلك جماعة الفقهاء، متقدموهم ومتأخروهم، ويدخل السيور بعضها في بعض، لئلا تسقط، ولا يعقدها لعدم الحاجة إلى ذلك، نعم، إن احتاج إلى ذلك، كأن لا يثبت بدون العقد جاز ذلك، نص عليه أحمد. 1547 - لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أوثق عليك نفقتك. 1548 - وعلى هذا يحمل قول إبراهيم النخعي: كانوا يرخصون في عقد الهميان للمحرم، ولا يرخصون في عقد غيره، والله أعلم. قال: وله أن يحتجم.

1549 - ش: في الصحيحين عن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. «قال: احتجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو محرم.» 1550 - وعن أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم وهو محرم، على ظهر القدم من وجع كان به» . رواه أبو داود، والله أعلم. قال: ولا يقطع شعرا. ش: لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فإن احتاج إلى القطع فله ذلك. 1551 - لما رواه عبد الله بن مالك بن بحينة قال: «احتجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلحي جمل، من طريق مكة في وسط رأسه» . متفق عليه، ومن ضرورة ذلك حلق الشعر، وتلزمه والحال هذه الفدية لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} [البقرة: 196] الآية، والله أعلم. قال: ويتقلد بالسيف عند الضرورة. 1552 - ش: لما روى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «لما صالح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل الحديبية صالحهم على أن لا يدخلوها إلا

بجلبان السلاح. فسألته: ما جلبان السلاح؟ قال: القراب بما فيه.» رواه الشيخان، وأبو داود وهذا لفظه، وهذا محل حاجة، لأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لم يأمن أهل مكة أن ينقضوا العهد. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يفعل ذلك لغير ضرورة، ولذلك قال أحمد: لا إلا من ضرورة. 1553 - وذلك لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا يحمل المحرم السلاح في الحرم. قال أبو محمد: والقياس إباحة ذلك، لأنه ليس في معنى اللباس المنصوص على منعه. (تنبيه) : «الجلبان» بضم الجيم واللام، وفتح الباء الموحدة المشددة، وبنون بعد الألف، وروي بضم الجيم وسكون اللام، مثل الجلبان من الحبوب، وصوبه جماعة، وقد فسرها هنا بالقراب وما فيه. 1554 - وفي حديث آخر: السيف والقوس ونحوه، والله أعلم.

قال: وإن طرح على كتفيه القباء والدواج فلا يدخل يديه في الكمين. ش: لا إشكال في أنه ليس له أن يدخل يديه في كمي القباء والفرجية ونحوهما، ومن فعل ذلك افتدى، أما إن وضع ذلك على كتفيه، ولم يدخل يديه في كميه، فظاهر كلام الخرقي أن له ذلك ولا شيء عليه، وهو الذي صححه صاحب التلخيص، لأنه لم يشتمل على جميع بدنه، أشبه ما لو ارتدى بالقميص. وظاهر كلام الإمام أحمد المنع من ذلك، قال في رواية حرب: لا يلبس الدواج ولا شيئا يدخل منكبيه فيه. وقال في رواية ابن إبراهيم: إذا لبس القبا لا يدخل عاتقيه فيه. وهذا اختيار القاضي في خلافه وأبي الخطاب، وأبي البركات وغيرهم، لأنه يلبس معتادا هكذا، فمنع منه كالقميص. 1555 - وقد روى النجاد بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: من اضطر إلى لبس قباء وهو محرم، ولم يكن له غيره، فلينكس القباء وليلبسه.

1556 - وروى ابن المنذر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لبس الأقبية» وعلى هذا عليه الفدية كما لو لبس القميص، والله أعلم. قال: ولا يظلل على رأسه في المحمل. ش: هذا هو المشهور عن أحمد، والمختار لأكثر الأصحاب، حتى أن القاضي في التعليق وفي غيره، وابن الزاغوني، وصاحب التلخيص، وجماعة لا خلاف عندهم في ذلك، لأن المحرم أشعث أغبر، وهذا تظليل مستدام فيزيلهما. 1557 - واعتمد أحمد على قول ابن عمر - وقد رأى رجلا محرما على رحل، قد رفع ثوبه بعود يستره من حر الشمس - فقال: أضح لمن أحرمت له، رواه الأثرم، وفي لفظ أنه قال له: إن الله لا يحب الخيلاء. وفي لفظ أنه ناداه: اتق الله. رواهما النجاد.

وحكى ابن أبي موسى والشيخان رواية بالجواز، وهي اختيار أبي محمد، قال: ظاهر كلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه إنما كره ذلك كراهية تنزيه، وذكر رواية الأثرم عن أحمد: أكره ذلك، قيل له: فإن فعل يهريق دما؟ قال: لا، وأهل المدينة يغلظون فيه. 1558 - وذلك لما «روت أم الحصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: حججنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجة الوداع، فرأيت أسامة، وبلالا، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والآخر رافع ثوبه يستره من الحر، حتى رمى جمرة العقبة» . رواه مسلم وغيره. 1559 - وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ظلل عليه وهو محرم.

1560 - وعن ابن عباس: لا بأس بالظل للمحرم. وكما لو استظل بخيمة، أو بيت ونحوهما، وقد ذكر لأحمد حديث أم الحصين فقال: هذا في الساعة، يرفع له الثوب بالعود، يرفعه بيده من حر الشمس، يعني أن هذا يسير غير مستدام، [بخلاف ظل المحمل ونحوه، فإنه مستدام] وهذا هو الجواب عن الاستظلال بالخيمة ونحوها، وعلى هذا يحمل قول ابن عباس، وحمل القاضي قوله وفعل عثمان على أن ثم عذرا من حر أو برد، وهو يمشي له في فعل عثمان، لأنها واقعة عين، بخلاف قول ابن عباس. والله أعلم. قال: فإن فعل فعليه دم. ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار الخرقي، والقاضي في التعليق، لأنه ستر ممنوع منه [مستدام] أشبه ما لو ستره بعمامة ونحوها. (والثانية) : - وإليها ميل أبي محمد - لا فدية عليه، إذ الأصل عدم الوجوب والمنع من الستر احتياطا، لاختلاف العلماء، والروايتان عند ابن أبي موسى، وأبي محمد في الكافي، وأبي البركات على الروايتين في الأصل، فإن قلنا بالجواز ثم فلا فدية، وإلا وجبت، وهما عند القاضي

وموافقيه على القول بالمنع، إذ لا جواز عندهم، إلا أن القاضي يستثني اليسير فيبيحه، ولا يوجب فيه فدية، ونص أحمد على ذلك في رواية الجماعة، وبه أجاب عن [حديث] أم الحصين كما تقدم، وقال في رواية حرب - وقد سئل: هل يتخذ على رأسه فوق المحمل؟ فقال: لا إلا الشيء الخفيف. وحكى صاحب التلخيص في الفدية ثلاث روايات، الثالثة تجب الفدية في الكثير دون اليسير، وأطلق القول بالمنع، كما أطلقه الخرقي وجماعة، وهو مردود بالحديث، وبنص أحمد، والله أعلم. قال: ولا يقتل الصيد ولا يصيده. ش: هذا إجماع والحمد لله [وقد شهد له] قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] . والله أعلم. قال: ولا يشير إليه، ولا يدل عليه حلالا ولا محرما.

1561 - ش: لما «روى أبو قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت يوما جالسا مع رجال من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في منزل في طريق مكة، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمامنا، والقوم محرمون، وأنا غير محرم عام الحديبية [فأبصروا حمارا وحشيا، وأنا مشغول أخصف نعلي، فلم يؤذنوني به، وأحبوا لو أني أبصرته، فالتفت فأبصرته، فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح، فقلت لهم: ناولوني السوط والرمح. قالوا: والله لا نعينك عليه بشيء. [فغضبت] فنزلت فأخذتهما، ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته، ثم جئت به وقد مات، فوقعوا فيه يأكلونه، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم، فرحنا وخبأت العضد معي، فأدركنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألناه عن ذلك، فقال «هل معكم شيء» ؟ فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها وهو محرم وفي رواية: فقال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «منكم أحد أمره أن يحمل عليه، أو أشار إليه» ؟ قالوا: لا. قال «فكلوا ما بقي من لحمها» متفق عليه. [قلت] : وظاهره أن جواز الأكل مرتب على عدم الإشارة ونحوها، وكذا فهم الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حيث قالوا: والله لا نعينك. (تنبيه) : «خصف نعله يخصفها» إذا أطبق طاقا على طاق، وأصل الخصف الضم والجمع، و «عقرت الصيد» إذا أصبته بسهم أو غيره فقتلته، والله أعلم.

قال: ولا يأكله إذا صاده الحلال لأجله. ش: لا يأكل المحرم الصيد الذي صاده الحلال من أجله. 1562 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول «صيد البر لكم حلال وأنتم حرم، ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وقال الشافعي: وهو أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس. انتهى. وبهذا يحصل الجمع بين الأحاديث، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ثبت عنه في الصحيح أنه أكل مما صاده أبو قتادة، فيحمل على أنه علم أو ظن أنه لم يصده لأجله. 1563 - مع أنه قد ورد في حديث أبي قتادة: وإني إنما صدته لك. فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه فأكلوا، ولم يأكل حين أخبرته أني اصطدته له. رواه أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، قال

بعض الحفاظ: بإسناد جيد. وقال الدارقطني: قال أبو بكر - يعني النيسابوري -: قوله: اصطدته لك. وقوله: ولم يأكل منه. لا أعلم أحدا ذكره في الحديث غير معمر، وهذا إن ثبت فهو كحديث جابر، لا يحتاج إلى تأويل. انتهى. ويحمل ما في الصحيح أنه أكل على أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكل ظانا أنه لم يصده له، فلما أخبره بالحال امتنع. 1564 - ويحمل «حديث الصعب بن جثامة. وهو أنه أهدى إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حمارا وحشيا، وهو بالأبواء أو بودان، فرده عليه، فلما رأى ما في وجهه قال «إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم» متفق عليه. [على أنه علم أنه صيد من أجله] . وقد فهم من [كلام الخرقي أن المحرم يأكل مما صاده الحلال لا من أجله] ، وهو واضح لما تقدم، وفهم من كلامه بطريق التنبيه أنه لا يأكل ما صاده محرم مطلقا، ولا ما صاده هو بطريق الأولى، وكذلك ما أعان عليه، أو أشار إليه.

وفهم من كلامه [أيضا] أن للمحل أكل ما صاده الحلال لأجل المحرم، وهو كذلك، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما رد على الصعب بن جثامة الحمار الوحشي علل بكونه حرما، ولم ينهه عن أكله، وهل للمحرم غير الذي صيد لأجله أكله؟ فيه احتمالان، والله أعلم. قال: ولا يتطيب المحرم. 1565 - ش: هذا إجماع، وقد شهد له قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: في المحرم «لا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا» ، فمنع من تطييبه، وعلل بكونه يبعث يوم القيامة ملبيا، فدل على أن المنع لأجل الإحرام، والطيب ما تطيب رائحته، ويتخذ للشم، كالمسك، والكافور، والعنبر، والغالية، والزعفران، وماء الورد، ودهن البنفسج، ونحو ذلك، وفي النباتات الطيبة الريح - كالريحان، والورد، والبنفسج ونحوها - ثلاثة أقوال، ثالثها - وهو اختيار أبي محمد - يباح [شم] الريحان ونحوه مما لا يتخذ منه طيب، دون الورد، والبنفسج، ونحوه مما يتخذ منه طيب، والله أعلم. قال: ولا يلبس ثوبا مسه ورس، ولا زعفران ولا طيب] . ش: لما تقدم من حديث ابن عمر «ولا ثوبا مسه ورس ولا زعفران» وغيرهما من الطيب مقيس عليهما.

(تنبيه) : «الورس» نبت أصفر يكون باليمن، تصبغ به الثياب، يخرج على الرمث، بين الشتاء والصيف، والرمث - براء مهملة مكسورة، وميم وثاء مثلثة - مرعى من مراعي الإبل، والله أعلم. قال: ولا بأس بما صبغ بالعصفر. 1566 - ش: لما «روى ابن عمر أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مس الورس والزعفران من الثياب، ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب، من معصفر، أو خز، أو حلي أو سراويل، أو قميص، أو خف» . رواه أبو داود. 1567 - وعن عائشة بنت سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كن أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحرمن في المعصفرات. رواه الإمام أحمد في المناسك وفارق الورس والزعفران، فإنه ليس بطيب، بخلافهما، والله أعلم.

قال: ولا يقطع شعرا من رأسه ولا جسده. ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ولا فرق بين قطع الشعر بالموسى أو بغير ذلك، أو زواله بنتف ونحوه، ولا بين شعر الرأس والبدن، لما في ذلك من الرفاهية التي حال المحرم ينافيها، والله أعلم. قال: ولا يقطع ظفرا إلا أن ينكسر. ش: لا يقطع ظفرا إجماعا، لأنه يترفه به، فمنع منه كإزالة الشعر، فإن انكسر فله قطع ما انكسر بالإجماع أيضا، لأنه يؤذيه ويؤلمه، أشبه الصيد الصائل عليه، والله أعلم. قال: ولا ينظر في المرآة لإصلاح شيء. ش: لا ينظر في المرآة لإصلاح شيء زينة كتسوية شعر ونحوه، قال أحمد؛ لا بأس [أن ينظر] في المرآة، ولا يزيل شعثا، ولا ينفض عنه غبارا، وذلك لزوال الشعثة والغبرة اللتين هما من صفات المحرم.

1568 - وفي الترمذي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من الحاج؟ قال: «الشعث التفل» قال: وأي الحج أفضل؟ قال: «العج والثج» قال: وما السبيل؟ قال: «الزاد والراحلة» وله أن ينظر في المرآة لا لزينة. 1569 - وقد روى مالك في الموطأ أن ابن عمر نظر في المرآة لشكوى بعينه وهو محرم. 1570 - وعن ابن عباس أيضا أنه أباح ذلك، رواه البخاري وعلى كل حال فالمنع من ذلك منع أدب، لا فدية فيه قاله أبو محمد.

(تنبيه) : «الشعث» البعيد العهد بتسريح شعره وغسله. «التفل» التارك للطيب واستعماله، و «العج» رفع الصوت بالتلبية] . و «الثج» سيلان دماء الهدي، والله أعلم. قال: ولا يأكل من الزعفران ما يجد ريحه. ش: إذ المقصود من الطيب ريحه، وهو موجود، فلا فرق بين ما مسته النار وغيره، لوجود المقتضي للمنع وهو الرائحة، وذكر الزعفران على سبيل التمثيل، فيساويه كل مأكول فيه طيب وجد ريحه، والله أعلم. قال: ولا يدهن بما فيه طيب. ش: كدهن البنفسج والورد ونحوهما، لوجود الطيب الممنوع منه شرعا، والله أعلم. قال: ولا ما لا طيب فيه. ش: لا يدهن بما لا طيب فيه، كالزيت، والشيرج، ونحوهما، على أنص الروايتين، واختيار الخرقي، لأنه يزيل الشعثة والغبرة، وعلى هذا اعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في رواية أبي داود: الزيت الذي يؤكل لا يدهن به المحرم رأسه. فذكرت له حديث ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادهن بزيت غير مقتت؛» فسمعته يقول: الأشعث الأغبر. (والرواية

الثانية) : يجوز ذلك، سأله الأثرم: يدهن بالزيت والشيرج؟ قال: نعم، يدهن به إذا احتاج إليه. وذلك لما استدل به أبو داود - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أحمد. 1571 - وهو ما روى عن سعيد بن جبير عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يدهن بدهن غير مقتت» ، يعني غير مطيب، وفي رواية: «كان يدهن بالزيت - وهو محرم - غير المقتت» . رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي وقال: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث فرقد السبخي، وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد، وقد روى عنه الناس. 1572 - وعن ابن عباس قال: يشم المحرم الريحان، وينظر في المرآة، ويتداوى بما يأكل بالزيت والسم، رواه البخاري. وهنا

شيئان «أحدهما» منع أحمد إنما هو في الرأس، فلذلك خص أبو محمد في مقنعه ومغنيه الروايتين بذلك، أما البدن فيجوز عنده دهنه بلا نزاع، وجعل ذلك في الكافي احتمالا، وقدم إجراء الروايتين فيهما، وهذه طريقة الأكثرين، القاضي في تعليقه، وأبي الخطاب وصاحب التلخيص، وأبي البركات وغيرهم، فلعلهم نظروا إلى تعليل أحمد بالشعث، وذلك موجود في البدن، وإن كان في الرأس أكثر. (الثاني) : حيث قيل بالمنع فإن الفدية تجب كغيره، على ظاهر كلام عامة الأصحاب، ولذلك قال القاضي في تعليقه: إنه ظاهر كلام الإمام أحمد، لأنه منع منه، وهو اختيار الخرقي انتهى. ولم يوجب أبو محمد الفدية على الروايتين، وقد ذكر ذلك أيضا القاضي في تعليقه لكنه جعل المنع بمعنى الكراهة، فقال: ويحتمل أن يكون منع على طريق الكراهة من غير فدية. (تنبيه) : «المقتت» المطيب بالقت، وهو الذي تطبخ فيه الرياحين حتى يطيب والله أعلم.

قال: ولا يتعمد لشم الطيب. ش: كما إذا جلس عند العطار للشم، أو دخل البيت حال تجميره لذلك، إذ المقصود من الطيب الرائحة، فإذا تعمد شم الطيب فقد وجد الممنوع منه شرعا وهو الطيب، ولو لم يتعمد الشم فشم - كما إذا جلس عند العطار لحاجة ونحو ذلك - فلا شيء عليه، لأن ذلك يشق الاحتراز منه، والله أعلم. قال: ولا يغطي شيئا من رأسه. ش: لما تقدم من حديث ابن عمر «ولا العمامة ولا البرنس» «وحديث ابن عباس في المحرم الذي وقصته ناقته «لا تخمروا رأسه» والمنهي عنه يحرم فعل بعضه، بدليل الحلق. وكلام الخرقي يشمل التغطية بمعتاد - كالعمامة والبرنس ونحوهما -[وغيره] كما لو عصبه أو طينه بطين، أو جعل عليه دواء ونحوه. وهو كذلك. نعم يستثنى من ذلك ما لو حمل على رأسه طبقا ونحوه ولو قصد به الستر، لأنه لا يقصد له غالبا، ولم يستثنه ابن عقيل مع الستر، ويستثنى أيضا الستر بيديه، وتلبيد الشعر بغسل أو نحوه، وستر بعضه بطيب الإحرام. 1573 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبد رأسه، وكان وبيص الطيب في مفرقه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله أعلم.

قال: والأذنان من الرأس. ش: فلا يجوز تغطيتهما كبقية أبعاض الرأس. 1574 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الأذنان من الرأس» رواه ابن ماجه من طرق.

1575 - وعن الصنابحي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا توضأ العبد المؤمن فتمضمض خرجت الخطايا من فيه» وذكر الحديث إلى أن قال: «فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه، حتى تخرج من أذنيه» رواه مالك في الموطأ، والنسائي وابن ماجه فقوله: «حتى تخرج من أذنيه» دليل على دخولهما في مسماه. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يحرم عليه تغطية وجهه. وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار القاضي في تعليقه، و [في] جامعه، وأبي محمد وغيرهما، لأن الأشهر والأكثر

في الرواية في المحرم «ولا تخمروا رأسه» ومفهومه جواز [تخمير] ما عدا ذلك. 1576 - وقد خمر عثمان وجهه، ذكره مالك في الموطأ. 1577 - ورواه عنه أيضا وعن زيد، وابن الزبير، وابن عباس، [وجابر] وسعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ النجاد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -. (والرواية الثانية) لا يجوز.

1578 - لأن في رواية في الصحيح «ولا تخمروا وجهه ولا رأسه» . 1579 - وعن نافع، أن ابن عمر كان يقول: ما فوق الذقن من الرأس، فلا يخمره المحرم. رواه مالك في الموطأ أي من حكم الرأس، والله أعلم. قال: والمرأة إحرامها في وجهها. ش: المرأة إحرامها في وجهها، فلا تغطيه ببرقع، ولا نقاب ولا غيرهما. لأن في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الذي في الصحيح «ولا تنتقب المرأة، ولا تلبس القفازين» وفي حديثه الذي في السنن أنه «سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى النساء في إحرامهن عن القفازين، والنقاب» . 1580 - وروى النجاد بإسناده عن نافع عنه قال: «إحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في رأسه» . (تنبيهان) : «أحدهما» : يجتمع في حق المحرمة وجوب تغطية الرأس وتحريم تغطية الوجه، ولا يمكن تغطية

محل الرأس إلا بتغطية جزء من الوجه، ولا كشف [جميع] الوجه إلا بكشف جزء من الرأس، فإذا المحافظة على ستر الرأس أولى، قاله أبو محمد، لأنه عورة يجب ستره مطلقا. «الثاني» : «القفاز» بالضم والتشديد، قال الجوهري: [هو] شيء يعمل لليدين، يحشى بقطن، ويكون له أزرار تزر على الساعدين من البرد. وقال صاحب المطالع: هو غشاء الأصابع مع الكف، معروف يكون من جلد وغيره. ونحو هذا قال صاحب التلخيص؛ قال: معمول لليد كالمعمول لأيدي البازبازية ونحو ذلك قال ابن الزاغوني، وقال ابن دريد وابن الأنباري: ضرب من الحلي. ثم قال ابن دريد: لليدين. وقال الآخر: وللرجلين. والله أعلم.

قال: فإن احتاجت سدلت على وجهها. ش: إذا احتاجت المرأة لستر وجهها حذارا من رؤية الرجال سدلت على وجهها ثوبا ونحوه. 1581 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كان الركبان يمرون بنا، ونحن مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرمات، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها [من رأسها] على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه» . رواه أبو داود وابن ماجه. 1582 - وعلى هذا يحمل ما روى مالك في الموطأ عن فاطمة بنت المنذر قالت: كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات مع أسماء بنت أبي بكر. ثم شرط القاضي في الساتر كونه متجافيا عن وجهها، بحيث لا يصيب البشرة، فإن أصابها ثم ارتفع بسرعة فلا شيء عليها، كما لو أطارت الريح الثوب عن عورة المصلي، وخالفه في ذلك أبو محمد، فقال: لم أر هذا الشرط عن أحمد، ولا

هو في الخبر، بل الظاهر من الخبر خلافه والله أعلم. قال: لا تكتحل بكحل أسود. ش: لأن في حديث جابر الطويل - وسيأتي إن شاء الله تعالى - قال: «وقدم علي من اليمن، فوجد فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ممن حل، ولبست ثيابا صبيغا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، وقال: من أمرك بهذا؟ قالت: أبي. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صدقت صدقت» فدل هذا على أنها قبل الإحلال ممنوعة من ذلك. وتقييده بالأسود لأنه الذي تحصل به الزينة، فيخرج ما ليس للزينة، كالذي يتداوى به، فلا تمنع منه. 1583 - لما روى نبيه بن وهب «أن عمر بن عبيد الله بن معمر اشتكى عينيه وهو محرم، فأراد أن يكحلها، فنهاه أبان بن عثمان، وأمره أن يضمدها بالصبر، وحدثه عن عثمان عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[أنه كان يفعله» ] رواه مسلم وغيره، ولفظ النسائي: عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «للمحرم إذا اشتكى عينه أن يضمدها بالصبر» » فيلحق بذلك ما في معناه مما ليس فيه زينة.

وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، بل قد يقال: ظاهر كلامه وجوب الفدية، وقد أقره على ذلك أبو الحسن بن الزاغوني، فقال: [هو] كالطيب واللباس، وجعله أبو البركات مكروها، وكذلك أبو محمد، ولم يوجب فيه فدية، وسوى في ذلك بين الرجل والمرأة، والله أعلم. قال: وتجتنب كل ما يجتنب الرجل إلا في اللباس، وتظليل المحمل. ش: لأن حكم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[على المحرم] بأمر، يدخل فيه النساء، وإنما استثني اللباس، وتظليل المحمل، لحاجتها إلى السترة إذ هي عورة، [وقد] قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم [على] أن المرأة ممنوعة مما منع منه الرجل إلا بعض اللباس، وأجمعوا على أن للمحرمة لبس القميص، والدرع، والسراويلات، والخمر، والخفاف، وقد تقدم حديث ابن عمر «ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب» إلى آخره، والله أعلم. قال: ولا تلبس القفازين.

ش: يستثنى من جواز اللباس لها القفازان فإنها تمنع منهما كما يمنع الرجل، لما تقدم في حديث ابن عمر «ولا تلبس القفازين» وتقدم ثم أيضا معناهما، والله أعلم. قال: ولا الخلخال وما أشبهه. ش: أي من الحلي كالسوار ونحوه، لأن ذلك يتخذ للزينة ويدعو إلى نكاحها، أشبه الطيب، وقد قال أحمد: المعتدة والمحرمة يتركان الطيب [والزينة] ، ولهما ما عدا ذلك. وظاهر كلام الخرقي وأحمد في هذا النص أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، ونص [أحمد] في رواية حنبل على الجواز، فقال: تلبس المحرمة الحلي والمعصفر. وعلى هذا جمهور الأصحاب. لما تقدم من حديث ابن عمر «ولتلبس بعد ما أحبت من ألوان الثياب، من معصفر، أو خز، أو حلي» وحمل أبو محمد كلام الخرقي على الكراهة، كقوله في الكحل، وجزم بأنه لا فدية فيه، والله أعلم. قال: ولا ترفع المرأة صوتها بالتلبية إلا بمقدار ما تسمع رفيقتها. ش: لما كان مفهوم كلام الشيخ أنه يباح لها ما يباح للرجل، استثنى من ذلك رفع صوتها بالتلبية، فإنها لا ترفع إلا

بمقدار ما تسمع رفيقتها، حذارا من الفتنة بصوتها، ولهذا لم يشرع في حقها أذان ولا إقامة. 1584 - وعن سليمان بن يسار أنه قال: «السنة عندهم أن المرأة لا ترفع صوتها بالإهلال» . وقال ابن عبد البر: أجمع العلماء على أن السنة في المرأة أن لا ترفع صوتها، وإنما عليها أن تسمع نفسها، وظاهر إطلاق الخرقي تحريم الزيادة على ذلك، وهو ظاهر إطلاق الشيخين وغيرهما، والله أعلم. قال: ولا يتزوج المحرم ولا يزوج، فإن فعل فالنكاح باطل. ش: هذه المسألة قد ذكرها الخرقي هنا وفي النكاح، وقد تكلمنا عليها في النكاح ولله الحمد، فلا حاجة إلى

إعادتها، ونزيد هنا بأنه إذا خالف وفعل فلا فدية عليه بلا خلاف نعلمه، لأنه عقد فسد لأجل الإحرام، أشبه شراء الصيد، والله أعلم. قال: فإن وطىء المحرم في الفرج فأنزل أو لم ينزل فقد فسد حجهما. ش: مجرد النكاح لا يفسد الإحرام بلا ريب، بل إذا وطىء فيه، أو وطىء مطلقا في الفرج فقد فسد حجه اتفاقا، قاله ابن المنذر، فقال: أجمع أهل العلم على أن الحج لا يفسد بإتيان شيء في حال الإحرام إلا الجماع. انتهى وقد قضى بهذا الصحابة. 1585 - فقال مالك في الموطأ: بلغني أن عمر، وعليا، وأبا هريرة سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم [بالحج] فقالوا: ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجهما، ثم عليهما حج من قابل والهدي. 1586 - قال: وقال علي: وإذا أهلا بالحج من عام قابل تفرقا، حتى يقضيا حجهما.

1587 - وعن ابن عمر وابن عباس نحو ذلك، رواه الأثرم في سننه (ولا فرق بين) أن ينزل أو لا ينزل، لإطلاق الصحابة، (ولا بين) أن يكون الوطء قبل الوقوف أو بعده، لإطلاقهم أيضا، (ولا بين) [أن يكون] الوطء قبل الوقوف أو بعده، لإطلاقهم أيضا، (ولا بين) [أن يكون] الوطء في القبل أو الدبر، من آدمي أو بهيمة، لأنه وطء محرم، يجب الاغتسال، أشبه وطء الآدمية في القبل، يتخرج أن لا يفسد الحج بوطء البهيمة، كما لا تجب الكفارة على الصائم في نهار رمضان في قول. (ولا فرق: بين العامد والساهي، على المنصوص المشهور المختار للأصحاب، حتى أن الشيخين [وجماعة] لم يذكروا خلافا. وخرج القاضي في الروايتين رواية بعدم الفساد مع النسيان، قال: من قوله في رواية أبي طالب في الصائم: إذا وطىء ناسيا لم يفسد صومه. (قلت) : وقد يخرج من رواية عدم وجوب الكفارة ثم، وهو أولى، إذ إيجاب الكفارة [ثم] هو نظير إفساد الحج، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

وأيضا هذه الرواية هي أشهر ثم من القول الذي خرج منه القاضي، وهذا التخريج لازم لأبي محمد، لأنه المخرج في البهيمة أنه لا يفسد الحج بوطئها، لكنه لم ينص على محل التخريج، انتهى. وحكم الجاهل بالتحريم والمكره حكم الناسي قاله أبو محمد، والله أعلم. قال: وعليه بدنة إن كان استكرهها، وإن كانت طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة. ش: لا يخلو الواطىء المحرم من أن يكون استكره الموطوءة أو طاوعته، فإن طاوعته فعلى كل واحد منهما بدنة، على المشهور من المذهب، والمختار للأصحاب، لأنها أحد المجامعين، أشبهت الرجل. 1588 - وقد ثبت الأصل بما في الموطأ عن ابن عباس أنه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنى قبل أن يفيض، فأمره أن ينحر بدنة. 1589 - وعنه أيضا أنه قال: أهد ناقة ولتهد ناقة.

1590 - قال أحمد في رواية أبي طالب: على كل واحد هدي أكرهها أو لم يكرهها، هكذا قال ابن عباس. (وعن أحمد) أنه قال: أرجو أن يجزئها هدي واحد. وخرج ذلك القاضي في روايتيه من قوله في الصوم: لا كفارة وإن طاوعت. وعلى هذه [الرواية] لا يجب مع الإكراه إلا بدنة واحدة بطريق الأولى، وذلك على المذهب على المشهور من الروايتين، إذ المكره لا ينسب له فعل، فوجوده كالعدم. (وعنه) : عليها بدنة كالرجل، وقد تقدم نصه على ذلك، واعتماده على قول ابن عباس، وقد تقدم نصه على ذلك، واعتماده على قول ابن عباس، وعلى هذه يتحملها الزوج عنها على المشهور، لأن ذلك حصل [بسبب] فعله وعدوانه، وظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب أنها تستقر عليها، وحكم النائمة حكم المكرهة، والله أعلم. قال: فإن وطئها دون الفرج فلم ينزل فعليه دم، فإن أنزل فعليه بدنة وقد فسد حجه. ش: إذا وطىء دون الفرج فلا يخلو إما أن ينزل أو لا. فإن لم ينزل لم يفسد نسكه بلا نزاع، ووجب عليه دم، لأنه فعل محرم، لم يفسد النسك، أشبه الحلق، ثم هل هو شاة أو

بدنة؟ على روايتين أشهرهما الأول، وإن أنزل وجبت بدنة بلا ريب، لأنه وطء اقترن به الإنزال، أشبه الوطء في الفرج. وهل يفسد النسك؟ فيه روايتان أشهرهما عنه - وهي اختيار الخرقي وأبي بكر والقاضي في روايتيه - يفسد، لما تقدم، ولأن الصحابة أطلقوا الإصابة. (والثانية) - واختارها أبو محمد - لا يفسد، لأنه استمتاع لا يجب بنوعه الحد، فلم يفسد النسك، كما لو لم ينزل، والإصابة في كلام الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كناية عن الوطء في الفرج، والله أعلم. قال: وإن قبل فلم ينزل فعليه دم، فإن أنزل فعليه بدنة، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: إن أنزل فسد حجه. ش: إذا قبل أو مس فلم ينزل فعليه دم لما تقدم. 1591 - وقد روى الأثرم بإسناده عن عبد الرحمن بن الحارث أن عمر بن عبيد الله قبل عائشة بنت طلحة محرما، فسأل فأجمع له على أن يهريق دما والظاهر أنه لم ينزل وإلا لذكر. (وإن أنزل)

فعليه بدنة لأنه نوع مباشرة أشبه المباشرة فيما دون الفرج، وفل يفسد نسكه؟ فيه روايتان، توجيههما يفهم مما تقدم. واعلم أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جزم [ثم] بالفساد، وحكى الروايتين هنا، وتبعه على ذلك صاحب التلخيص، [وعاكسه] ابن أبي موسى فيما أظن، فحكى [الروايتين] في الوطء دون الفرج. وجزم في القبلة بعدم الفساد، وجعل القاضي والشيخان الروايتين في الجميع، وهو أوجه من جهة النقل، إذ أحمد قد نص على الفساد بالقبلة، وإذا أردت جمع الطرق كان في المسألتين ثلاثة أقوال، ونظير ذلك لو باشر في الصيام، على ما حكاه أبو البركات تجب الكفارة، لا تجب، تجب بالوطء [دون الفرج دون القبلة وهي المشهورة، واختيار الخرقي هنا أيضا، ولا شك أن الوطء] دون الفرج أبلغ من القبلة ونحوها، واللذة به أزيد، فاقتضى زيادة في الواجب، والله أعلم. قال: وإن نظر فصرف بصره فأمذى فعليه دم.

ش: ظاهر هذا أنه إذا أمذى بمجرد النظر كان عليه دم، وعلى ذلك شرح ابن الزاغوني، لأنه إنزال يؤثر في فساد الصوم، فأوجب الكفارة، دليله إنزال المني، وظاهر كلام أبي الخطاب، وصاحب التلخيص، والشيخين - بل صريحه - أنه لا يجب والحالة هذه شيء، لأن ذلك يوجد كثيرا، لا سيما من الشبان، فالوجوب به فيه حرج. والله أعلم. قال: فإن كرر النظر حتى أمنى فعليه بدنة. ش: هذا إحدى الروايتين، لأن نوع استمتاع ممنوع منه، أشبه القبلة ونحوها (والثانية) - وهي المنصوصة - عليه شاه، لأنه إنزال لا عن مباشرة، أشبه الإنزال بالفكر انتهى. ولو كرر النظر فمذى فاتفق الأصحاب هنا فيما علمت أنه يجب عليه شاة، ويفهم ذلك مما تقدم من كلام الخرقي بطريق التنبيه. وفهم من كلام الخرقي أيضا أنه متى لم ينزل بالنظر فلا شيء عليه، وهو كذلك، وقد بقي عليه من أنواع الاستمتاع الفكر، إذا أنزل به، ولا نزاع أنه لا شيء عليه إذا غلبه، وكذلك إن استدعاه، على أشهر الوجهين، وقد يقال: إنه مقتضى كلام الخرقي. (تنبيه) : فساد النسك هنا بمنزلة وجوب الكفارة في الصوم، لأن ذلك الأمر الأغلظ فيهما، ووجوب الكفارة هنا بمنزلة فساد الصوم ثم، لأنه الأخف فيهما، فالوطء [في الفرج] موجب للفساد والكفارة في البابين، والوطء دون الفرج

مع الإنزال موجب لفساد الصوم [بلا ريب] والكفارة على الأشهر، وهنا موجب للكفارة بلا ريب [وكذلك] لفساد النسك على الأشهر. والقبلة ونحوها مع الإنزال موجب للفساد ثم بلا ريب أيضا، [غير] موجب للكفارة على الأشهر. وهنا موجب للكفارة لا الفساد على الأشهر. وتكرار النظر بشرطه يفسد ثم، ويوجب الكفارة هنا، ولا يقتضي كفارة ثم، ولا فسادا هنا، والإنزال بالفكر المستدعى لا يوجب كفارة ثم، ولا فسادا هنا، وهل يفسد ثم، ويوجب الكفارة هنا؟ فيه وجهان، والله أعلم. قال: وللمحرم أن يتجر. 1592 - ش: لما روى أبو داود عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] [قال] : كانوا لا يتجرون بمنى، فأمروا بالتجارة إذا أفاضوا من عرفات. 1593 - وفي الصحيح عنه قال: كان ذو المجاز، وعكاظ متجر الناس

في الجاهلية، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى نزلت: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] في مواسم الحج، والله أعلم. قال: ويصنع الصنائع كلها. ش: لأن ذلك في معنى التجارة، والله أعلم. قال: ويرتجع زوجته، وعن أبي عبد الله أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى في الارتجاع أن لا يفعل ذلك. ش: الرواية الأولى اختيار أبي محمد، والقاضي في روايتيه، إذ الرجعية زوجة، والرجعة إمساك، قال سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ولهذا لا يفتقر إلى الولي، ولا إلى الشهود. (والثانية) : هي الأشهر عن أحمد، واختيار القاضي في التعليق في مواضع، لأنه عقد يتوصل به إلى استباحة بضع مقصود، فمنع منه الإحرام، دليله عقد النكاح. ولا يرد شراء الأمة [إذ] المقصود منه الملك، لا

استباحة البضع، ولا المظاهر إذا كفر في حال الإحرام، فإنه يتوصل إلى إباحة، لكن ذلك ليس بعقد. وقد أورد على هذا أن الرجعية مباحة فلا استباحة، فأجاب القاضي: الاستباحة تتعلق بها، وإن قلنا هي مباحة، فإنه لو تركها حتى مضت العدة حرم وطؤها، فرجعتها تبيح الوطء بعد مضي [مدة] العقد، والله أعلم. قال: وله أن يقتل الحدأة، والغراب، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور. 1594 - ش: في الصحيحين [وغيرهما] من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور " وفي رواية: " خمس لا جناح على من قتلهن في الحرم والإحرام» . 1595 - – وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «أمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – بقتل خمس من الفواسق في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» . متفق عليه. وقد شمل كلام الخرقي وكلام غيره من الأصحاب صغار هذه، وعموم الحديث [أيضا] يقتضيه، وإذا قيل: إن فسقهن لأذاهن فلا ينبغي أن يدخل في ذلك إلا من وجد فيه حقيقة الأذى، أو تأهله لذلك.

(تنبيه) : المراد بالغراب [الغراب] الأبقع بلا ريب، وهو الذي في بطنه وظهره بياض، وغراب البين عندنا كذلك، نظرا لعموم الأحاديث الصحيحة ولأنه يعدو على الناس، ويحرم أكله، فهو كالأبقع، ويخرج من ذلك غراب الزرع لجواز أكله، وعدم أذاه. وقيل: المراد في الحديث الأبقع فقط، حملا للمطلق على المقيد، إذ في مسلم «والغراب الأبقع» و «الحدأة» بكسر الحاء والهمزة، «والعقور» العضوض، فعول بمعنى فاعل، أي العاقر، واختلف فيه، فقيل: هو كل سبع يعقر، نظرا لجانب اللفظ. 1596 - ويؤيده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعى على عتبة بن أبي لهب فقال: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» فافترسه الأسد.

وقيل: هو الكلب المألوف، نظرا لجانب العرف، إذ الظاهر في اللام أنها لمعهود ذهني، و «الحرم» ضبطه جماعة بفتح الحاء والراء وهو الحرم المشهور، وضبطه القاضي في المشارق بضم الحاء والراء، جمع حرام، كقوله سبحانه وتعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] قال: والمراد به المواضع المحرمة. قال النووي: والأول أظهر. وتمسية هؤلاء فواسق قيل: لخروجهن عن السلامة منهن

إلى الأذى، وقيل: لخروجهن عن الحرمة إلى الأمر بقتلهن. وقيل: سمي الغراب فاسقا لتخلفه عن نوح، [وخروجه] عن طاعته، وأصل الفسوق الخروج، يقال: فسقت الرطبة، إذا خرجت عن قشرها، والله أعلم. قال: وكل ما عدا عليه، أو آذاه، ولا فداء عليه. ش: أي يجوز قتله، ويحتمل أن يريد بذلك كل ما عدا على المحرم في نفسه أو ماله، وإن لم يكن من طبعه الأذى، ولا نزاع في ذلك، لأنه إذا هو الجاني على نفسه، ويحتمل أن يريد ما في طبعه الأذى وإن لم يوجد [منه] كسباع البهائم، وجوارح الطير، كالنمر، والفهد، والبازي، والعقاب، ونحو ذلك. والزنبور، والبق، والبراغيث، وشبهها من الحشرات المؤذية، إذ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس من الفواسق يقتلن» من باب ترتيب الحكم على الوصف، فحيث وجد الفسق ترتب الحكم، ثم إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أكد ذلك بأن عدد أنواعا، تنبيها على ما في معناها [كالعقرب] .

صيد الحرم ونباته

1597 - وفي رواية أحمد ذكر الحية تنبيها على ما يشاركها في الأذى باللسع كالبرغوث والزنبور. والفأرة تنبيه على ما آذى بالنقب والتقريض كابن عرس ونحوه. والغراب والحدأة تنبيه على ما يؤذي بالاختطاف كالصقر. والكلب العقور تنبيه على كل عاد كالنمر ونحوه، والاحتمالان صحيحان [على المذهب] لكن ظاهر كلامه [هو] الأول. وقد يقال عليه: إن ظاهر كلامه منع قتل ما عدا الخمسة المذكورة ما لم تعد عليه، ويرجحه أن في مسلم «يقتل خمس فواسق» » بالإضافة من غير تنوين، وهي إضافة بمعنى [من] أي من الفواسق. وتخصيص هذه الخمسة بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداها، ويرجح ذلك رواية ابن عمر السابقة، والله أعلم. [صيد الحرم ونباته] قال: وصيد الحرم حرام على الحلال والمحرم.

ش: هذا إجماع من أهل العلم، ولله الحمد. 1598 - وقد دل عليه ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما فتح الله عز وجل على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة، قام في الناس، فحمد الله ثم أثنى عليه، ثم قال: «إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، وإنها لا تحل لأحد من بعدي، فلا ينفر صيدها، ولا يختلى شوكها، ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يفدي وإما أن يقتل» فقال العباس: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنا نجعله في قبورنا وبيوتنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إلا الإذخر» فقام أبو شاه - رجل من أهل اليمن - فقال: اكتبوا لي يا رسول الله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اكتبوا لأبي شاه» متفق عليه واللفظ لمسلم، وفي لفظ: لا يختلى خلاه» . 1599 - وفي الصحيحين أيضا عن ابن عباس نحوه. وقد شمل كلام الخرقي الصيد من آبار الحرم وعيونه، ونحو ذلك، وهو إحدى الروايتين، لعموم «لا ينفر صيدها» . والثانية - وهي ظاهر كلام ابن أبي موسى - يباح ذلك، لأن الإحرام لا يحرمه، أشبه الحيوان الأهلي. (تنبيه) : «الخلا» مقصور الحشيش الرطب. واختلاؤه قطعه و «الإذخر» بذال معجمة حشيشة طيبة الريح، تسقف بها البيوت فوق الخشب، والله أعلم.

قال: وكذلك شجره ونباته، إلا الإذخر، وما زرعه الإنسان. ش: أي يحرمان على الحلال والمحرم؛ أي قطعهما إلا الإذخر، وما زرعه الإنسان، فإن يباح أخذهما، وهذه الجملة مجمع عليها، قاله ابن المنذر، وقد تقدم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يختلى شوكها» و «لا يختلى خلاه» وفي حديث ابن عباس «لا يعضد شوكها» أي لا يقطع، والإذخر قد تقدم استثناؤه، وما زرعه الآدمي – كالبقول – فالحاجة داعية إلى أخذه، ويتضرر زراعه بتركه [فهو] كالإذخر وأولى. [وقول الخرقي: و] ما زرعه الإنسان. يحتمل اختصاصه بالزرع دون الشجر، ويحتمل أن يعم جميع ما يزرع، فيدخل الشجر، وهما وجهان للأصحاب (أحدهما) – وهو اختيار أبي الخطاب، وابن عقيل، وأبي البركات – له أخذ ما غرسه من الشجر، قياسا على الزرع، (والثاني) - وهو اختيار القاضي - ما نبت أصله في الحرم لا يباح أخذه، لعموم الحديث، وما نقل من الحل إلى الحرم يباح أخذه، نظرا إلى أصله. وقد دخل في عموم كلام الخرقي الشوك، والعوسج،

الإحصار في الحج

واليابس من الشجر والحشيش، وقد استثنى الشوك والعوسج ونحوهما جمهور الأصحاب، نظرا لأذاه، فهو كسباع البهائم، ومنع أبو محمد من استثنائه أخذا بصريح الحديث، واتفق الكل فيما علمت على استثناء اليابس، لأنه بمنزلة الميت، والله أعلم. [الإحصار في الحج] قال: وإن أحصر بعدو نحر ما معه من الهدي وحل. ش: الحصر والمنع، يقال: حصره العدو فهو محصور، وأحصر بالمرض فهو محصر، هذا هو الأشهر قاله غير واحد، وقيل: يجوز فيهما حصر وأحصر، وهو ظاهر القرآن، ولا نزاع بين العلماء أن من منعه عدو عن الوصول إلى البيت أن له التحلل في الجملة، لقوله سبحانه: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] الآية: قال أبو محمد: لا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في حصر الحديبية. 1600 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحلق رأسه» . 1601 - وعن مسور ومروان - في حديث عمرة الحديبية والصلح - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فرغ من قضية الكتاب قال لأصحابه: «قوموا

فانحروا ثم احلقوا» رواهما البخاري وغيره. ويشترط لجواز الحل أن لا يجد طريقا آمنا، فإن وجد طريقا آمنا لزمه سلوكه، وإن بعد وخاف الفوات، وإذا جاز له التحلل فلا يتحلل إلا بنحر الهدي إن قدر عليه، أو ببدله إن عجز عنه، وهو الصيام، للآية الكريمة، إذ قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أي فالواجب ما استيسر من الهدي، أو فعليكم ما استيسر من الهدي، [أو فأهدوا ما استيسر من الهدي] ثم قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا فعل، نحر وأمر أصحابه أن ينحروا، وفعله خرج بيانا للأمر المشروع. وقول الخرقي: وإن حصر أي عن البيت، بدليل قوله بعد في المريض [ولو حصر] في الحج عن عرفة وحدها لم يكن له التحلل، ولزمه المضي إلى البيت، فيتحلل بعمرة، ولا شيء

عليه [على] المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين و «الثانية» له التحلل كما لو صد عن البيت، ويحتملها إطلاق الخرقي. وقوله: وإن حصر [بعدو] يشمل في الحج وفي العمرة، وقبل الوقوف وبعده، وفي الحج الصحيح والفاسد، وهو كذلك، ويشمل إذا أحاط العدو به من جميع الجوانب، وكذلك أطلق غيره، قال صاحب التلخيص: ويحتمل عندي أنه ليس له التحلل والحال هذه، لأنه لا يتخلص منه فهو كالمرض، ويشمل الحصر العام والخاص، كما لو حصر هو وحده، بأن أخذته اللصوص، أو حبس وحده، نعم يشترط لذلك أن يكون مظلوما، فلو حبس بحق يلزمه ويمكنه أداؤه لم يكن له التحلل، ويشمل العدو الكافر والمسلم، ولا يتحقق الحصر به إلا إن احتاج في دفعه إلى قتال أو بذل مال كثير، فإن كان يسيرا والعدو مسلما فهل يجب الدفع ولا يتحلل، أو لا يجب فيتحلل؟ فيه وجهان. وقوله: نحر ما معه من الهدي. ظاهره في الموضع الذي حصر فيه، وهو منصوص أحمد، ومختار الأصحاب، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أحصر نحر وقال لأصحابه: «قوموا فانحروا»

وكان ذلك بالحديبية، وهي من الحل، قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -[في الموطأ] : إذا أحصر بعدو يحلق في أي موضع كان [ولا قضاء عليه] لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه نحروا بالحديبية وحلقوا، وحلوا من كل شيء قبل الطواف بالبيت. مختصر ويشهد لهذا قَوْله تَعَالَى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] فأخبر سبحانه أن الهدي حبس عن بلوغ محله. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: ليس له نحره إلا في الحرم، فيبعث به، ويواطئ رجلا على نحره في وقت يتحلل فيه، لظاهر قوله سبحانه: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] أي مكانه الذي يجب نحره فيه. 1602 - وعن عمرو بن سعيد النخعي، أنه أهل بعمرة، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ، فخرج أصحابه إلى الطريق، عسى أن يلقوا من يسألونه، فإذا هم بابن مسعود، فقال لهم: ليبعث بهدي أو بثمنه، واجعلوا بينكم وبينه أمارا يوما ما، فإذا ذبح الهدي فليحل، وعليه قضاء عمرته. وقال في المغنى: هذا والله

أعلم فيمن حصره خاص أما من حصره عام فلا ينبغي أن يقال، لأن ذلك يفضي إلى تعذر الحل، لتعذر وصول الهدي إلى محله، وعلى هذا حكى الرواية في الكافي. 1603 - ويشهد لذلك قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ، فأما من حبسه عدو أو غير ذلك فإنه يحل ولا يرجع، وإن كان معه هدي وهو محصر نحره إن كان لا يستطيع أن يبعث به، وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله. رواه البخاري انتهى، ولا يرد

على [هذا] فعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، لأن الظاهر أن البعث تعذر عليهم. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية ثالثة: لا يجزئه الذبح إلا يوم النحر، إذ هذا وقت ذبحه، كذا أطلق الرواية في التلخيص، وقيدها في الكافي بما إذا ساق هديا. انتهى. ويجب أن ينوي بذبحه التحلل به، لأن الهدي يكون لغيره، فلزمته النية طلبا للتمييز. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب الحلاق. وهو إحدى الروايتين. «والثانية» يجب، وهو اختيار القاضي في التعليق وغيره، وبناهما أبو محمد في الكافي على أنه نسك أو إطلاق من محظور. فإن قلنا: نسك. وجب وتوقف الحل عليه، ولا يحصل إلا بثلاثة أشياء النحر مع النية والحلق، وإن قلنا: إطلاق من محظور لم يتوقف الحل عليه، فيحصل بالنحر مع النية.

وقول الخرقي: وحل. ظاهره أن الحل مترتب على النحر، وقد تقدم، وسيأتي ما هو أصرح من ذلك، ولا ريب أن ذلك هو المذهب لما تقدم. 1604 - وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أحصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحلق رأسه ونحر هديه، وجامع نساءه، حتى اعتمر عاما قابلا» . [رواه البخاري] . وعنه في المحرم بالحج: لا يحل إلا يوم النحر ليتحقق الفوات، لاحتمال زوال الحصر، والله أعلم. قال: وإن لم يكن معه هدي، ولا يقدر عليه، صام عشرة أيام ثم حل. ش: إذا لم يكن معه هدي لزمه أن يشتري هديا [إن أمكنه] للآية الكريمة، ويجزئه شاة أو سبع بدنة. 1605 - لما روي عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما قالا: ما استيسر من الهدي [هو شاة] . رواه مالك في الموطأ عن علي مسندا، وعن ابن عباس مرسلا.

1606 - وفي الموطأ أيضا عن ابن عمر: لو لم أجد إلا أن أذبح شاة فكان أحب إلي من أن أصوم. مختصر. فإن عجز عن الشراء سقط عنه، ولزمه صيام عشرة أيام، لأنه دم واجب للإحرام، فكان له بدل، فينتقل إليه كدم التمتع، ولا يحل إلا بعد الصيام، كما لا يحل إلا بعد نحر الهدي، إجراء للبدل مجرى المبدل، والله أعلم. قال: وإن منع من الوصول إلى البيت بمرض أو ذهاب نفقة، بعث بهدي إن كان معه ليذبح بمكة، وكان على إحرامه حتى يقدر على البيت. ش: إذا منع من الوصول إلى البيت بمرض أو ذهاب نفقة [أو نحو ذلك] لم يكن له التحلل في المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب. 1607 - لما روى أيوب السختياني، عن رجل من أهل البصرة [كان قديما] أنه قال: خرجت إلى مكة، حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة وبها عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، والناس، فلم يرخص لي أحد أن

أحل، وأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر، حتى حللت بعمرة. 1608 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: من حبس بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت، وبين الصفا والمروة، فإن اضطر إلى لبس شيء من الثياب التي لا بد له منها، أو الدواء صنع ذلك وافتدى. رواهما مالك في موطئه. 1609 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا حصر إلا حصر العدو. رواه الشافعي [في مسنده] وأيضا ما تقدم من حديث ضباعة بنت الزبير، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها بالاشتراط خوفا من حبسها بالمرض، ولو كان المرض مبيحا للتحلل لم تكن حاجة إلى الاشتراط، ويفارق حصر العدو [لأنه ثم إذا تحلل تخلص من العدو] وهنا لا يتخلص بالتحلل مما وقع فيه.

و [الرواية] الثانية - ولعلها أظهر -: له التحلل، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] إذ أحصر إن كان يستعمل للمنع بالعدو والمرض فهو شامل لهما، وإن كان للمرض - وهو الأشهر حتى قال الأزهري: إنه كلام العرب، وعليه أهل اللغة وقال الزجاج: إنه الرواية عن العرب. - فالآية إنما وردت في حصر المريض، واستفيد حصر العدو بطريق التنبيه، وبورود الآية بسببه. 1610 - «وروى الحجاج بن عمرو الأنصاري قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من كسر أو عرج فقد حل، وعليه الحج من قابل» قال عكرمة: فسمعته يقول ذلك، فسألت ابن عباس وأبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عما قال فصدقاه» . رواه الخمسة وحسنه الترمذي، وزاد أبو داود في رواية أو مرض» لا يقال:

هذا متروك الظاهر، لأنه لا يحل بمجرد ذلك. لأنا نقول: هذا مجاز سائغ، إذ من أبيح له التحلل فقد حل، لا يقال: فابن عباس قد خالف ذلك، وهو يضعف ما روي عنه من التصديق، لأنا نقول: غايته أن يكون مخالفا لروايته، ومخالفة الراوي لظاهر الحديث [لا] يقدح فيه، على المشهور من قولي العلماء، وأصح الروايتين عن أحمد، وحمله على الحل بالفوات، أو على الاشتراط بعيد جدا، وما روي عن ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فقد تقدم عن ابن مسعود ما يخالفه، وحديث ضباعة في الاشتراط فيه فائدة غير الحل، وهو عدم وجوب شيء، وكونه لا يتخلص من الأذى الذي به ممنوع، فإنه يتخلص من مشقة الإحرام، ثم رجوعه إلى بلده أخف عليه من بقائه على الإحرام حتى يقدر على البيت، ثم يرجع إلى بلده. فعلى هذه الرواية حكمه حكم من حصر بعدو، وينحر الهدي، أو يصوم إن لم يجد الهدي ثم يحل، وعلى المشهور

إن كان ساق هديا بعث به ليذبح بمكة، ثم إن فاته الحج تحلل بعمرة كغير المريض. (تنبيهان) : «أحدهما» حيث تحلل المحصر بعدو أو مرض ونحوه فلا قضاء عليه على إحدى الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي وابنه [أبي الحسين] وغيرهما، لما تقدم عن ابن عباس: إنما البدل على من نقض حجه بالتلذذ. الحديث، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه أنه أمر من حل معه بالحديبية أن يقضوا، والظاهر أنه لو وقع لنقل. «والرواية الثانية» يجب القضاء، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تحلل قضى من قابل. 1611 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: أليس حسبكم سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟! إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت، وبالصفا والمروة ثم حل من كل شيء، حتى يحج عاما قابلا، فيهدي أو يصوم إن لم يجد هديا» . رواه البخاري وغيره. (وأجيب) بأنه لا نزاع في القضاء، إنما النزاع في وجوبه، وقول ابن عمر يحمل على من تحلل من حج واجب، فإنه لا نزاع في قضاء ذلك نظرا للوجوب السابق.

(التنبيه الثاني) : «عرج» [بفتح الراء] يعرج إذا أصابه شيء في رجليه فجمع ومشى مشية العرجان، وليس بخلقة، فإذا كان خلقة قيل: [عرج] بالكسر قاله المنذري، وقال الزمخشري: «عرج» بالفتح إذا تعارج، وعرج بالكسر إذا كان خلقة، والله أعلم. قال: وإن قال: أنا أرفض إحرامي وأحل. فلبس المخيط، وذبح الصيد، وعمل ما يعمله الحلال، كان عليه في كل فعل فعله دم [وكان على إحرامه] . ش: [يعني] إذا قال الممنوع من البيت بمرض ونحوه: أنا أترك إحرامي وأحل. فإن إحرامه لا يرتفض بهذا، لأنه عبادة لا يخرج منها بالفساد، فلا يخرج منها بالرفض، بخلاف سائر العبادات، وإذا يلزمه فداء كل جناية جناها على إحرامه، لبقائه في حقه، ولا يلزمه بالرفض شيء، لأنها نية لم تؤثر، والله أعلم. قال: وإن كان وطىء فعليه للوطء بدنة، مع ما يجب عليه من الدماء. ش: كما لو وطىء من غير رفض، لبقاء الإحرام، وقد فهم من فحوى كلام الخرقي أن المحرم لو رفض إحرامه من غير حصر لم يرتفض، والله أعلم.

قال: ويمضي في حج فاسد. ش: يعني من وطىء فقد فسد حجه كما تقدم، ويجب عليه أن يمضي فيه فيفعل ما يفعله من حجه صحيح من الوقوف والمبيت بمزدلفة، والرمي، وغير ذلك، ويجتنب ما يجتنبه من حجه صحيح من الوطء ثانيا، وقتل الصيد وغيرهما، حتى لو جنى جناية على هذا النسك الفاسد، لزمه فداؤها، لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وهو شامل للصحيح والفاسد، وقد يقال الفاسد ليس بحج، إذ الحقائق الشرعية إنما تحمل على صحيحها، دون فاسدها، والمعتمد. في ذلك قول الصحابة؛ عمر، وعلي، وأبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وقد تقدم ذلك عنهم، والله أعلم. قال: ويحج من قابل والله أعلم بالصواب. ش: لما [تقدم عن] الصحابة أيضا. (تنبيه) : إن كان ما فسد واجبا قبل الإحرام كحجة الإسلام، والمنذورة، والقضاء أجزأت الحجة من قابل عن ذلك، وإن كان تطوعا فبالإحرام وجب تمامه، فإذا أفسده وجب قضاؤه، والله أعلم.

باب ذكر الحج ودخول مكة

[باب ذكر الحج ودخول مكة] نبدأ وبالله التوفيق قبل الشروع في ذلك بحديث جابر في صفة حج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه حديث عظيم، يعرف منه غالب المناسك. 1612 - «قال جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: دخلنا على جابر بن عبد الله، فسأل عن القوم حتى انتهى إلي فقلت: أنا محمد بن علي بن حسين. فأهوى بيده إلى رأسي، فنزع زري الأعلى، ثم نزع زري الأسفل، ثم وضع كفه بين ثديي، وأنا يومئذ غلام شاب، فقال: مرحبا بابن أخي، سل عما شئت. فسألته - وهو أعمى، وحضر وقت الصلاة، فقام في ساجة ملتحفا بها، كلما وضعها على منكبيه رجع طرفاها إليه من صغرها، ورداؤه إلى جنبه على المشجب، فصلى بنا، فقلت: أخبرني عن حجة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فقال بيده، فعقد تسعا، فقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكث تسع سنين لم يحج، ثم أذن في الناس في العاشرة: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حاج، فقدم المدينة بشر كثير، كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

ويعمل مثل عمله، فخرجنا معه، حتى أتينا ذا الحليفة، فولدت أسماء بنت عميس محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كيف أصنع؟ فقال «اغتسلي واستثفري بثوب، وأحرمي» فصلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المسجد، ثم ركب القصواء، حتى إذا استوت به ناقته على البيداء نظرت مد بصري بين يديه، من راكب وماش، وعن يمينه مثل ذلك، وعن يساره مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعرف تأويله، وما عمل به من شيء عملنا به، فأهل بالتوحيد «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك له لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» وأهل الناس بهذا الذي يهلون به، فلم يرد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا منه، ولزم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تلبيته، قال جابر: لسنا ننوي إلا الحج، لسنا نعرف العمرة، حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثا، ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فقرأ {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فجعل المقام بينه

وبين البيت، فكان أبي يقول: ولا أعلمه ذكره إلا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كان يقرأ في الركعتين: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] و: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158] «أبدأ بما بدأ الله» فبدأ بالصفا، فرقي عليه، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة، ووحد الله وكبره، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ، ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن الوادي، [سعى] حتى إذا صعدنا مشى حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا، حتى إذا كان آخر الطواف عند المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة» [فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه الهدي] فقام سراقة بن جعشم فقال: يا رسول الله

ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابعه [واحدة] في الأخرى، وقال «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا بل لأبد أبد» وقدم علي بن أبي طالب من اليمن ببدن [رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] فوجد فاطمة ممن حل، ولبست ثيابا صبيغا، واكتحلت، فأنكر ذلك عليها، فقالت: أبي أمرني بهذا، قال: وكان علي يقول بالعراق: فذهبت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - محرشا على فاطمة، للذي صنعت. مستفتيا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – فيما ذكرت عنه، فأخبرته أني أنكرت ذلك عليها، فقال: «صدقت صدقت، ماذا قلت حين فرضت الحج؟» قال: قلت: اللهم إني أهل بما أهل به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: «فإن معي الهدي، قال: فلا تحل» قال: فكان جماعة الهدي الذي قدم به على من اليمن، والذي أتى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة، قال: فحل الناس كلهم وقصروا، إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي، فلما كان يوم الروية توجهوا إلى منى، وأهلوا بالحج، فركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس، فأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة، فسار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر

الحرام، كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فأجاز رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي، فخطب الناس وقال: «إن دماءكم، وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي [موضوع، ودماء الجاهلية تحت قدمي] وإن أول دم أضعه من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعا في بني سعد، فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم

تسألون عني، فما أنتم قائلون؟» قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت، ونصحت. فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء، وينكتها إلى الناس «اللهم اشهد، اللهم اشهد» ثلاث مرات ثم أذن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة، فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس، وذهبت الصفرة قليلا، حتى غاب القرص، وأردف أسامة خلفه، ودفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد شنق للقصواء الزمام، حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله، ويقول بيده اليمنى «أيها الناس السكينة السكينة» كلما أتى حبلا من الحبال أرخى لها قليلا حتى تصعد، حتى أتى المزدلفة، فصلى بها المغرب والعشاء [بأذان واحد وإقامتين، ولم يسبح بينهما شيئا، ثم اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حين تبين له الصبح] بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء، حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة فدعاه وكبره وهلله، ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس، وأردف الفضل بن العباس، وكان رجلا حسن الشعر، أبيض وسيما، فلما دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرت ظعن يجرين، فطفق الفضل ينظر إليهن، فوضع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[يده] على وجه الفضل، فحول الفضل وجهه إلى الشق

الآخر ينظر، فحول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده [من الشق] الآخر [على وجه الفضل، فصرف وجهه من الشق] ينظر حتى أتى بطن محسر، فحرك قليلا، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة، فرماها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة منها، مثل حصى الخذف، رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر، وأشركه في هديه، ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت، فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفاض إلى البيت، فصلى بمكة الظهر، فأتى بني عبد المطلب يسقون على بئر زمزم، فقال: «انزعوا بني عبد المطلب، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم» فناولوه دلوا فشرب منه» . رواه أبو داود، وابن ماجه، [ومسلم] وهذا لفظه، وله في رواية أخرى «نحرت هاهنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت هاهنا، وعرفة كلها موقف، ووقفت هاهنا وجمع كلها موقف» » .

(تنبيه) : محمد بن علي بن حسين هو الباقر، والذي فعله معه جابر من وضع كفه بين ثدييه ونحره تأنيسا به، ورقا عليه، أو تبركا بالذرية الطاهرة، «ومرحبا» كلمة تقال عند المسرة للقادم، ومعناها: صادفت رحبا، أي سعة. «والساجة» الطيلسان، ويقال لها أيضا «الساج» وقيل: هي الخضر خاصة وفي رواية أبي داود «نساجة» بكسر النون، ضرب من الملاحف المنسوجة، وقوله: بشر كثير. قيل حضر معه حجة الوداع أربعون ألفا. «والمشجب» بكسر الميم وبالشين المعجمة، وباء موحدة بعد الجيم [عيدان تضم رءوسها] ، ويفرج بين قوائهما، توضع الثياب عليها، وقد تعلق عليها الأسقية، لتبريد الماء، «واستثفري» بالثاء المثلثة، وقد تقدم معناه، وفي أبي داود «واستفذري» بذال معجمة، قيل: مأخوذ من «الذفر» وهو كل ريح ذكية من طيب أي تستعمل طيبا يزيل هذا الشيء عنها، «والقصوى» بفتح القاف ممدود وقيل ومقصور - ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[والقصواء هي

الناقة التي قطع طرف أذنها. فقيل: كانت ناقته [- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] كذلك وقيل - وهو المشهور: إنما كان [هذا] لقبا لها، لأنها كانت لا تكاد تسبق، كان عندها أقضى الجري. وقوله في الصفا: فرقي عليه. أي صعد، بكسر القاف على الأشهر. وقوله: محرشا على فاطمة. التحريش الإغراء بين القوم والبهائم، وتهييج بعضهم على بعض، وهو ههنا ذكر ما يوجب عتابه لها. ويوم التروية هو [اليوم] الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده، وقيل: لأن قريشا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحجاج تسقيهم وتطعمهم، فيروون منه. وقيل: لأن الإمام يروي للناس فيه من أمر المناسك. وقيل: لأن إبراهيم تروى فيه في ذبح

ولده. «والمورك» بكسر الراء المرفقة التي تكون عند قادمة الرحل، يضع الراكب رجله عليها، يستريح من وضع رجليه في الركاب، شبه المخدة الصغيرة و «الوسامة» الحسن الوضيء الثابت «والإفاضة» الدفع في السير، قيل: أصلها الصب، فاستعيرت لذلك «والبضعة» بفتح الباء القطعة من اللحم. «وحبل المشاة» بفتح الحاء المهملة، أي صفهم ومجتمعهم في مشيهم، وقيل: طريقهم الذي يسلكونه في الرمل. وقوله: «كلما أتى حبلا» الحبل المستطيل [من الرمل] وقيل: الحاج دون الحبال. وقوله: ينكتها. بالتاء ثالث الحروف، هذه الرواية، وروي: ينكبها. بالباء الموحدة، قال المنذري: وهو الصواب أي يميلها إليهم، يشهد الله عليهم. وقوله: «بكلمة الله» قيل: قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقيل: إباحة الله الزواج، وإذنه فيه. وقوله: «تكرهونه» قيل: أن لا يستخلين مع الرجال، وليس المراد الزنا، لأنه حرام مع من يكرهه أو [من] لا يكرهه، «مبرح» أي غير مؤثر ولا شاق. «والظعن» بضم العين المهملة وسكونها، جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج، فإذا لم تكن فيه فليست بظعينة. وتحريكه في بطن محسر: قال الشافعي: يجوز أنه فعله لسعة الموضع، أو لأنه مأوى الشياطين.

1613 - و «حصى الخذف» قال الشافعي: أصغر من الأنملة طولا وعرضا، وقال عطاء: مثل طرف الإصبع. 1614 - و «الناس» في قوله {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] قيل: آدم، وقيل: إبراهيم، وقيل: سائر العرب. والله أعلم. قال: وإذا دخل المسجد الحرام فالاستحباب له أن يدخل من باب بني شيبة. ش: اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1615 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا دخل مكة دخل من الثنية العليا التي بالبطحاء، وإذا خرج خرج من الثنية السفلى» . متفق عليه. وعلى هذا استمر فعل الأمة سلفا بعد سلف، والله أعلم.

قال: فإذا رأى البيت رفع يديه. 1616 - ش: لما روي عن ابن جريج «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا رأى البيت رفع يديه وقال اللهم زد هذا البيت تشريفا، وتكريما، وتعظيما [ومهابة، وزد من شرفه وكرمه - ممن حجه واعتمره - تشريفا، وتعظيما، وتكريما] وبرا» رواه الشافعي في مسنده، والله أعلم. قال: وكبر. ش: إشعارا بعظمة الرب سبحانه وتعالى. 1617 - وفي حديث ابن عباس قال: «طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعير،

طواف التحية وتقبيل الحجر الأسود

كلما أتى على] الركن أشار إليه بشيء في يده وكبر» . رواه البخاري والرائي للبيت آت على الركن، والله أعلم. [طواف التحية وتقبيل الحجر الأسود] قال: ثم أتى الحجر الأسود - إن كان - فاستلمه إن استطاع وقبله. ش: لما تقدم في حديث جابر: «حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن» . 1618 - «وعن عابس بن ربيعة قال: رأيت عمر يقبل الحجر، ويقول: إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبلك ما قبلتك» . رواه الجماعة. وقوله: ثم أتى الحجر الأسود إن كان. أي إن كان الحجر في مكانه، [أما إن لم يكن الحجر في مكانه] والعياذ بالله - كما وقع ذلك في زمن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لما أخذته القرامطة - فإنه يقف مقابلا لمكانه، ويستلم الركن، عملا بما استطاع، والله أعلم.

قال: فإن لم يستطع قام حياله، ورفع يديه، وكبر الله تعالى وهلله. ش: إذا لم يستطع الاستلام والتقبيل المندوبين وأمكنه الاستلام بشيء في يده فعل. 1619 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف على بعير يستلم الركن بمحجنه، وإن لم يمكنه قام حياله، ورفع يديه مشيرا بهما إليه، وكبر الله عز وجل وهلله. 1620 - لما روي «عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له «يا عمر إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف، إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلل وكبر» رواه أحمد. 1620 - م - وله أيضا عن ابن عباس: «طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعير، كلما أتى [على] الركن أشار إليه بشيء في يده [وكبر» ] . 1621 - وقال بعض الأصحاب: يقول إذا استلمه «بسم الله، والله أكبر، إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا

لسنة نبيك محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» لأن ذلك يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (تنبيه) : والاستلام مسح الحجر باليد، أو بالقبلة، افتعال من السلام وهو التحية، ولذلك أهل اليمن يسمون الركن الأسود المحيا، أي أن الناس يحيونه، قاله الأزهري، وقال القتيبي والجوهري: افتعال من السلام وهي الحجارة، واحدها «سلمة» بكسر اللام، يقول: استلمت الحجر. إذا لمسته، كما يقول: اكتحلت من الكحل، وقيل: افتعال من المسالمة، كأنه فعل ما يفعله المسالم [انتهى. وقيل: الاستلام] أن يحيى نفسه عند الحجر بالسلام لأن الحجر لا يحييه، كما يقال: اختدم. إذا لم يكن له خادم، وقال ابن الأعرابي: هو مهموز الأصل، ترك همزه، مأخوذ من المسالمة وهي الموافقة، وقيل: من الملاءمة وهي السلاح، كأنه خص نفسه بمس الحجر. انتهى.

و «المحجن» عصا محنية الرأس. والله أعلم. قال: واضطبع بردائه. 1622 - ش: لما روى يعلى بن أمية «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طاف مضطبعا، وعليه رداؤه» . رواه ابن ماجه، والترمذي، وأبو داود، وأحمد ولفظه: «لما قدم طاف بالبيت وهو مضطبع ببرد له أخضر» . والاضطباع أن يجعل وسط ردائه تحت عاتقه الأيمن، وطرفيه على عاتقه الأيسر [سمي بذلك لإبداء الضبعين، وهما ما تحت الإبط، وهل يسير إلى آخر الطواف أو إلى آخر الرمل؟ فيه روايتان، والله أعلم] . قال: ورمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعا. ش: كذلك قال جابر: رمل ثلاثا، ومشى أربعا. 1623 - وفي الصحيح أيضا عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا، ومشى أربعا» ، لا يقال: فالرسول [إنما] فعل هذا لإظهار الجلد للكفار.

1624 - كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم وقد وهنتهم الحمى، ولقوا منها شدة، فجلسوا مما يلي الحجر، وأمرهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرملوا ثلاثة أشواط، ويمشوا بين الركنين، ليرى المشركون جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم، ولا أجلد من هؤلاء. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم» . وقد زال ذلك. لأنا نقول: قد فعل ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع، كما ثبت في حديث جابر وغيره، بعد زوال ذلك المعنى. 1625 - وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «رمل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجته وفي عمره كلها، وأبو بكر، وعمر، والخلفاء» . رواه أحمد. 1626 - وعن أسلم: سمعت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: فيم الرملان، والكشف عن المناكب، وقد أطأ الله تعالى الإسلام، ونفى الكفر وأهله؟ لكن مع ذلك لا ندع شيئا كنا نفعله مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أبو داود.

(تنبيه) : «الرمل» قال الجوهري: الرمل الهرولة، وقال الأزهري: الإسراع، وفسر الأصحاب الرمل بإسراع المشي، مع تقارب الخطا من غير وثب، «والوهن» الضعف، «والجلد» القوة والصبر. «والأشواط» جمع شوط، والمراد به المرة الواحدة من الطواف بالبيت، و «أطأ» مهد وثبت، والهمزة بدل من الواو، مثل (أقت) من وقت. والله أعلم. قال: كل ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود. ش: أي ما تقدم من أن الرمل في الثلاثة الأشواط، والمشي في الأربعة يكون من الحجر إلى الحجر. لما تقدم من حديثي جابر وابن عمر. 1627 - وفي الصحيح عن جابر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه» . 1628 - وكذلك في حديث ابن عمر في الصحيح: رمل من الحجر إلى الحجر. وهذان يقدمان على حديث ابن عباس: أنه لم

يرمل بين الركنين، لتأخرهما عنه، واحتمال أن ذلك مختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم. يؤيد هذا عمل جلة الصحابة على ما قلناه. وقد فهم من مجموع ما تقدم أن الداخل للبيت أول ما يبدأ بالطواف، ما لم تقم الصلاة ونحو ذلك، اقتداء بفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفعل أصحابه، إذ هو تحية المسجد، كما أن الصلاة تحية بقية المساجد، وقال صاحب التلخيص تبعا لابن عقيل: أول ما يبدأ بتحية المسجد، اعتمادا على عموم «إذا دخل أحدكم المسجد» الحديث. وجعلا الطواف تحية الكعبة، والاعتماد على الأول. والله أعلم. قال: ولا يرمل في جميع طوافه إلا هذا.

ش: لا يرمل في طواف الزيارة، ولا طواف الوداع [ولا غيرهما] إلا في الطواف أول ما يقدم مكة، وهو طواف القدوم، أو طواف العمرة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه إنما رملوا في ذلك، هذا اختيار الشيخين وغيرهما، وزعم القاضي وصاحب التلخيص أنه لو ترك الرمل في القدوم، أتى به في الزيارة، وأنه لو رمل في القدوم ولم يسع عقبه، فإذا طاف للزيارة رمل، حذارا من أن يكون التابع - وهي السعي - أكمل من المتبوع لوجود الرمل فيه، والله أعلم. قال: وليس على أهل مكة رمل. ش: قال أحمد: ليس على أهل مكة رمل عند البيت، ولا بين الصفا والمروة، وذلك لأن الرمل [في الأصل] كان لإظهار الجلد، وذلك معدوم في أهل مكة، وحكم من أحرم من مكة حكم أهلها. (تنبيه) : يسن الاضطباع لمن يسن له الرمل، والله أعلم. قال: ومن نسي الرمل فلا إعادة عليه. ش: لأنه هيئة فلا تجب إعادته، كهيئات الصلاة، ولا فرق في ذلك بين العامد والناسي، بناء على أنه سنة.

شروط صحة الطواف وسننه

وظاهر كلام الخرقي أن من تركه عامدا عليه الإعادة، وقد يحمل على استحباب الإعادة، ليأتي بما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[وأصحابه] وليخرج من الخلاف، فإن بعض العلماء أوجب في تركه دما، والله أعلم. [شروط صحة الطواف وسننه] قال: ويكون طاهرا في ثياب طاهرة. ش: يشترط للطائف أن يكون طاهرا من الحدث والخبث، في ثياب صفتها أنها طاهرة في المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين. 1629 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير» رواه النسائي والترمذي وهذا لفظه، وحكم المشبه حكم المشبه به، فيثبت له ما يثبت له.

1630 - وقد عمل على هذا الصحابة فقال ابن عمر: أقلوا من الكلام، فإنما أنتم في صلاة. رواه النسائي. 1631 - وفي الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -[لما حاضت] «فعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي» » . 1632 - وفي حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يطوف بالبيت عريان» والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. (والرواية الثانية) : أن ذلك واجب، يجبر بالدم، وليس بشرط، لإطلاق: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ومن طاف

وهو كذلك فقد طاف به، ولأن الطواف فعل من أفعال الحج، فلم تكن الطهارة شرطا فيه، كالسعي، والوقوف. وأجيب بأن هذين لا تجب لهما الطهارة، والطواف تجب له الطهارة، وعن الآية بأن الطواف والحالة هذه منهي عنه، فلا يدخل تحت الأمر. (تنبيه) : نص أحمد الذي أخذ منه الرواية الثانية فيما إذا تركه ناسيا قال: يهريق دما [وقال: الناسي أهون] . فأخذ من ذلك القاضي ومن بعده رواية الوجوب، فيجبر [بالدم] مطلقا. وأجرى أبو حفص العكبري النص على ظاهره، فقال: لا يختلف قوله إذا تعمد أنه لا يجزئه، واختلف قوله في الناسي على قولين، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ليس في كلامه تصريح بالاشتراط ولا عدمه، إنما يدل على الوجوب، والله أعلم. قال: ولا يستلم ولا يقبل من الأركان إلا الأسود واليماني. ش: أما كونه لا يستلم الركن العراقي ولا الشامي - وهما اللذان يليان الحجر -. 1633 - «فلقول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لم أر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستلم من البيت إلا الركنين اليمانين» . متفق عليه.

1634 - وعن أبي الطفيل قال: كنت مع ابن عباس، ومعاوية لا يمر بركن إلا استلمه، فقال له ابن عباس: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يستلم إلا الحجر الأسود، والركن اليماني. فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا. رواه الترمذي وغيره. 1635 - وفي أبي داود «أن ابن عمر قال: إني لأظن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يترك استلامهما إلا أنهما ليسا على قواعد البيت، ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك» . وأما كونه لا يقبلهما؛ فلعدم ورود ذلك. وأما كونه يستلم الأسود واليماني؛ فلما تقدم من حديث ابن

عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 1636 - وعن عبيد بن عمير «أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يزاحم على الركنين، فقلت: يا أبا عبد الرحمن إنك تزاحم على الركنين زحاما ما رأيت أحدا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يزاحمه. فقال: إن أفعل فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن مسحهما كفارة للخطايا» وسمعته يقول: «من طاف بهذا البيت أسبوعا فأحصاه، كان كعتق رقبة» وسمعته يقول: «لا يرفع قدما، ولا يحط قدما إلا حط الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة» رواه النسائي والترمذي.

وأما كونه يقبلهما، أما الأسود فلما تقدم، ولا نزاع فيه، وأما اليماني فظاهر كلام الخرقي أنه يقبله. 1637 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقبل الركن اليماني، ويضع خده عليه» . رواه الدارقطني. 1638 - وعنه أيضا قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا استلم الركن اليماني قبله» رواه البخاري في تاريخه. وقال أحمد في رواية الأثرم: يضع يده. فقيل له: ويقبل؟ فقال: يقبل الحجر الأسود. وعلى هذا الأصحاب، القاضي، والشيخان، وجماعة، لأن المعروف المشهور في الصحاح والمسانيد إنما هو تقبيل الأسود. وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال ابن المنذر: لا يصح.

(وفي المذهب) قول ثالث أنه يقبل يده إذا مسه تنزيلا له منزلة بين منزلتين، والله أعلم. قال: ويكون الحجر داخلا في الطواف، لأن الحجر من البيت. ش: أي يكون طوافه خارجا عن الحجر، فلو طاف في الحجر، أو على جداره لم يجزئه، لما علل به الخرقي من أن الحجر من البيت، والله سبحانه قد أمر بالطواف بالبيت [جميعه بقوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ومن ترك بعضه لم يطوف به، إنما طاف ببعضه. 1639 - والدليل على أن الحجر من البيت ما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بيدي، فأدخلني في الحجر فقال لي: «صلي فيه إن أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة منه، وإن قومك اقتصروا حين بنوا الكعبة، فأخرجوه من البيت» رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وصححه الترمذي.

1640 - وعنها أيضا «قالت: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحجر، أمن البيت هو؟ قال: «نعم» قلت: فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ فقال: «إن قومك قصرت بهم النفقة» قالت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: «فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاءوا، ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديث عهد بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الحجر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض» متفق عليه. (تنبيه) : المشي على شاذروان البيت كالمشي على الجدار، لأنه من البيت، نعم لو مس الجدار بيده في موازاة الشاذروان صح، لأن معظمه خارج من البيت، وقدر الشاذروان ستة أذرع، قاله في التلخيص، وقال ابن أبي الفتح نحو سبعة أذرع، والله أعلم.

قال: ويصلي ركعتين خلف المقام. ش: أي إذا فرغ من الطواف صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم، لما تقدم من حديث جابر، وقد بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مستنده في ذلك، وهو قوله سبحانه: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] والمستحب أن يقرأ فيهما بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] و: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] لما تقدم من حديث جابر، ولو قرأ فيهما بغير ذلك، أو لم يصلهما خلف المقام فلا بأس. 1641 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه ركعهما بذي طوى، وهما أيضا سنة. 1642 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة» الحديث.

السعي بين الصفا والمروة

1643 - وقول الأعرابي للنبي: «هل علي غيرها؟ لما أخبره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الله فرض عليه خمس صلوات - قال: «لا إلا أن تطوع» . (وهل) تجزئ عنهما المكتوبة، اختاره أبو محمد، كركعتي الإحرام، أو لا تجزئ فيفعلهما بعدها، اختاره أبو بكر، كركعتي الفجر لا تجزئ عنهما الفجر؟ فيه قولان والمنصوص عن أحمد الإجزاء، مع أن الأفضل عنده فعلهما، والله أعلم. [السعي بين الصفا والمروة] قال: ويخرج إلى الصفا من بابه. ش: إذا فرغ من الركعتين فالمستحب له أن يمضي إلى الحجر الأسود فيستلمه، وقد أهمل ذلك الخرقي، ثم يخرج إلى الصفا من باب الصفا، لما تقدم في حديث جابر، والله أعلم. قال: فيقف عليه فيكبر الله تعالى، ويهلله، ويحمده، ويصلي على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويسأل الله تعالى ما أحب. ش: أما الرقي على الصفا، والتكبير، والتهليل، والتحميد، والدعاء بما أحب من أمر الدنيا والآخرة ما لم يتضمن مأثما، فلما تقدم من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أنه رقي على الصفا، حتى رأى البيت، فاستقبل القبلة،

فوحد الله، وكبره وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله [وحده] ، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده» ثم دعا بين ذلك، قال مثل هذا ثلاث مرات» . 1644 - وفي الموطأ عن نافع أنه سمع ابن عمر يدعو على الصفا يقول: اللهم إنك قلت: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وإنك لا تخلف الميعاد، وأنا أسألك كما هديتني للإسلام أن لا تنزعه مني، حتى تتوفاني وأنا مسلم. 1645 - وورد عنه أنه كان يطيل الدعاء هناك. 1646 - وأما الصلاة على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما روى فضالة بن عبيد قال: «سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا يدعو في صلاته، فلم يصل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «عجل هذا» ثم دعاه فقال له أو لغيره «إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه، ثم ليصل على النبي

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم ليدع بما شاء» رواه الترمذي وصححه. (تنبيه) : جميع ما تقدم مستحب، والواجب قطع ما بين الصفا والمروة [بأن يلصق عقبيه] بأصل الصفا، وأصابع رجليه بأصل المروة، ولا يسن للمرأة الرقي، والله أعلم. قال: ثم ينحدر من الصفا، فيمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي، فيرمل من العلم إلى العلم، ثم يمشي حتى يأتي المروة، فيقف عليها، فيقول كما قال على الصفا، وما دعا به أجزأه، ثم ينزل ماشيا إلى العلم، ثم يرمل حتى يأتي العلم، يفعل ذلك سبع مرات، يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعية. ش: أما كونه ينحدر من الصفا ويمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي، وهو الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد، فلأن في «حديث جابر: ثم نزل إلى المروة، حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي» . وأما كونه يرمل من العلم المذكور إلى العلم الأخضر - وهما الميلان الأخضران اللذان بفناء المسجد، وحذاء دار العباس فلأن في «حديث

جابر: حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي حتى إذا صعدتا مشى حتى أتى المروة» ، وفي رواية أبي داود: «حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي، حتى إذا صعدتا مشى» . والخرقي - والله أعلم - تبع هذا الحديث فقال: يرمل. وظاهره أنه بالرمل السابق في الطواف، والأصحاب قالوا: إنه هنا يسعى سعيا شديدا. 1647 - لما روى أحمد في المسند «عن حبيبة بنت أبي تجراة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه وهو وراءهم، وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره، وهو يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» » .

وأما كونه يمشي بعد ذلك حتى يأتي المروة، فيقف عليها فيقول كما قال على الصفا، فلأن في حديث جابر كذلك، وأما كونه ما دعا به أجزأه فلأنه لم يرد فيه شيء مؤقت وفي قوله هنا وقوله: ثم دعا بما أحب. إشعار بأنه لا يجب عليه الاقتصار على ما وردت به الآثار، بخلاف الصلاة يمنع الكلام فيها بخلاف هذا. وأما كونه ينزل ماشيا إلى العلم، ثم يرمل

حتى يأتي العلم، يفعل ذلك سبع مرات. فلأن ذلك مما ورثه الخلف، عن السلف، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكالمرة الأولى. وأما كونه يحتسب بالذهاب سعية، وبالرجوع سعية، فلأن في حديث جابر: حتى إذا كان آخر الطواف عند المروة. وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بدأ بالصفا، وإنما يكون آخر طوافه عند المروة إذا احتسبت بالذهاب سعية وبالرجوع سعية، وهذا كله على سبيل الاستحباب والواجب قطع ما بينهما على ما تقدم وإكمال السبع، والله أعلم. قال: ويفتتح بالصفا ويختم بالمروة. ش: هذا على سبيل الوجوب، فلو بدأ بالمروة لم يحتسب بذلك الشوط، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدأ بالصفا، اتباعا لما بدأ الله به. 1648 - وقد قال «خذوا عني مناسككم» . 1649 - مع أن في النسائي في حديث جابر «ابدءوا بما بدأ الله به» » وهذا أمر، والله أعلم.

قال: وإن نسي الرمل في بعض سعيه فلا شيء عليه. ش: القول في ترك الرمل في السعي كالقول في تركه للطواف، وقد تقدم، والله أعلم. قال: وإذا فرغ من السعي فإن كان متمتعا قصر من شعره ثم قد حل. ش: لما تقدم في حديث جابر: «فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي» . 1650 - وفي حديث ابن عمر الصحيح قال: فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مكة قال للناس «من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت، وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل» » . ويستثنى من ذلك من كان معه هدي فإنه لا يتحلل، بل يقيم على إحرامه، ثم يدخل الحج على العمرة، على المختار من الروايات [لما تقدم] . 1651 - وفي الصحيحين «عن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من عمرتهم ولم تحل أنت من عمرتك؟ قال: «إني لبدت رأسي، وقلدت هديي، فلا أحل حتى أنحر» » . وعن أحمد: يحل له التقصير من شعر رأسه خاصة، قال: كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وذلك:

1652 - لما «روى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قصرت شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمشقص» . متفق عليه، ولأبي داود والنسائي: «رأيته يقصر على المروة بمشقص» . وبهذا يتخصص عموم ما تقدم، [ويجاب] عنه بأن المشهور والأكثر في الرواية ما تقدم. 1653 - وقد «قال معاوية لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أعلمت أني قصرت من رأس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند المروة؟ فقال: لا» . انتهى. 1654 - وقال قيس: الناس ينكرون هذا على معاوية. ونقل عنه يوسف بن موسى فيمن قدم متمتعا وساق الهدي: إن قدم في شوال نحر الهدي وحل، وعليه هدي آخر، وإن قدم في العشر أقام على إحرامه. وقيل له: معاوية

[يقول] : قصرت شعر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمشقص؟ فقال: إنما حل بمقدار التقصير، ورجع حراما مكانه، وكأن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحظ قبل العشر أن في البقاء مشقة، وأن الذي وقع من عدم الحل إنما هو في العشر، واستثنى مقدار تقصير الشعر فقط للنص، وبه يتخصص عموم كلامه الأول في رواية حنبل: إذا قدم في أشهر الحج وقد ساق الهدي، فلا يحل حتى ينحره. [والعشر أوكد، فإذا قدم في العشر لم يحل، لأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم في العشر ولم يحل. ومن وجه آخر وهو أنه قال: إذا قدم لم يحل حتى ينحر] وقال في رواية يوسف بن موسى: ينحر ويحل. وليس بين الروايتين تناف، بل متى قدم قبل العشر ونحر حل على مقتضى الروايتين، ويؤيد هذا أنه قال: إذا قدم في العشر لم يحل، فأطلق ولم يقل: حتى ينحر. وهذا كله في المتمتع، أما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل وإن كان معه هدي. وقول الخرقي: قصر من شعره. يدل على أن الأفضل للمتمتع التقصير، وعلى هذا جرى أبو

محمد، وقال أحمد: يعجبني إذا دخل متمتعا أن يقصر، ليكون الحلق للحج. 1655 - وذلك لما تقدم من فعل الصحابة، ومن أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهم بذلك، ولما علل به أحمد، إذ الحج هو النسك الأكبر، فاستحب أن يكون الحلق الذي هو الأفضل فيه، وقال صاحب التلخيص فيه: الحلق أفضل من التقصير في الحج والعمرة. وتبعه على ذلك أبو البركات، فقال: إن كان في عمرة حلق أو قصر وحل. وقول الخرقي: قصر ثم حل. يقتضي أن التقصير نسك، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: وطواف النساء وسعيهن مشي كله. ش: أي لا رمل فيه ولا اضطباع أيضا، وهذا بالإجماع [قاله ابن المنذر] ولأن الأصل في مشروعيتها إظهار الجلد، وهو غير مطلوب من المرأة، والله أعلم. قال: ومن سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة كرهنا له ذلك وقد أجزأه. ش: المذهب المشهور المنصوص، والمختار للأصحاب

من الروايتين عدم اشتراط الطهارتين للسعي بين الصفا والمروة. 1656 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نذكر إلا الحج، حتى جئنا سرف فطمثت، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقال: «ما لك لعلك نفست؟» فقلت: نعم. فقال: «هذا شيء كتبه الله على بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي» . 1657 - وأصرح من هذا ما في المسند عنها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحائض تقضي المناسك إلا الطواف» رواه أحمد، والطواف ينصرف إلى المعهود وهو الطواف بالبيت، (وعن أحمد) رواية أخرى حكم السعي في الطهارة [حكم الطواف] قال في رواية ابن إبراهيم: الحائض تقضي المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ولأنه طواف فيدخل أو يقاس على ما تقدم، ودليل الوصف قوله سبحانه وتعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] . 1658 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك» رواه أبو داود وغيره، ولا نزاع أن

المستحب أن يسعى على طهارة، خروجا من الخلاف. وحكم طهارة الخبث حكم طهارة الحدث، لأنها أخف منها. أما الستارة فالأكثرون لا يذكرون في عدم اشتراطها خلافا، وأجرى أبو محمد في الكافي والمقنع الخلاف فيها. والله أعلم. قال: وإن أقيمت الصلاة أو حضرت جنازة وهو يطوف أو يسعى صلى فإذا صلى بنى. 1659 - ش: أما إذا أقيمت الصلاة فلعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» وفي لفظ «إلا التي أقيمت» والصلاة قد أقيمت والحال هذه، فلا يصلي إلا هي، وكذلك لا يسعى بطريق الأولى، وأما صلاة الجنازة فلأن التشاغل عنها

ربما فوتها، وتأخيرها ربما أفسد الميت، مع أن الزمن يسير. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يترك الطواف لغير هذين، وهو كذلك، ومتى ترك وطال الفصل بطل، لفوات شرطه وهو الموالاة على المذهب، وإن لم يطل لم يبطل فيبني، ودليل اشتراطها أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شبه الطواف بالصلاة، والموالاة تشترط في الصلاة، فكذلك في الطواف، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والى في طوافه وقال: «خذوا عني مناسككم» (وفي المذهب قول ثان) لا تشترط الموالاة، فلو طاف أول النهار شوطا، وآخر النهار بقية الأسبوع أجزأه، حكاه أبو الخطاب تخريجا، وصاحب التلخيص وجها، وأبو البركات رواية، وكذلك أبو محمد في الكافي والمغنى، لكنه خصها بحال العذر، ونص الإمام إنما يدل على ذلك، قال: إذا أعيى في الطواف لا بأس أن يستريح. 1660 - وقال: الحسن غشي عليه فحمل إلى أهله، فلما أفاق أتمه.

وظاهر كلام الخرقي أن حكم السعي حكم الطواف في الموالاة، وعلى هذا اعتمد القاضي، وصاحب التلخيص، وأبو البركات وغيرهم، وخالفهم أبو محمد، فاختار أنها لا تشترط هنا بخلاف ثم، وهو ظاهر كلام أحمد، واختيار أبي الخطاب، والله أعلم. قال: وإن أحدث في بعض طوافه تطهر وابتدأ الطواف إن كان فرضا. ش: الطواف في حكم الصلاة، فيثبت له ما يثبت لها إلا ما استثناه الشارع، فإذا أحدث في طوافه فإن كان عمدا أبطله واستأنف، وإن سبقه الحدث فهل يتطهر ويستأنف، أو يبني، أو يستأنف إن كان الحدث غائطا أو بولا، ويبني إن كان غيرهما؟ على ثلاث روايات، كالروايات الثلاث في الصلاة، كذا ذكره القاضي في روايتيه، وبناه أيضا على القول باشتراط الطهارة للطواف، وفيه نظر، فإنه وإن لم يشترطها، فالخلاف جار، ليأتي بالواجب، فإنه لا نزاع في وجوبها، نعم ينبغي البناء على أصل آخر وهو الموالاة، فإنا إن لم نشترطها ينبغي البناء مطلقا.

وقول الخرقي: وابتدأ الطواف إن كان فرضا. يحترز به عن النفل، فإنه لا يلزمه أن يبتدئ به، لأنه لا يلزم بالشروع، بخلاف الفرض، فإنه لازم له، ولا يتوهم أن مراده إذا كان نفلا أنه يبني، فإنه لا فرق في البناء وعدمه في الفرض والنفل، والله أعلم. قال: ومن طاف أو سعى محمولا لعلة أجزأه. ش: إذا طاف راكبا أو محمولا لعذر من مرض أو غيره أجزأه بلا ريب. 1661 - لما في الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع على بعير، يستلم الركن بمحجن» ، وفي رواية لأبي داود «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم مكة وهو يشتكي، فطاف على راحلته» . 1662 - «وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: شكوت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أني أشتكي، فقال: «طوفي من وراء الناس وأنت راكبة» فطفت ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي إلى جنب البيت، يقرأ بـ {وَالطُّورِ} [الطور: 1] {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2] » متفق عليه. وإن طاف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي

- وهو إحدى الروايات وأشهرها عن الإمام محمد، واختيار القاضي أخيرا، والشريف أبي جعفر -[لا يجزئه. لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] شبه الطواف بالصلاة، والصلاة لا تفعل كذلك إلا لعذر، فكذلك الطواف، وطواف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكبا كان لعذر، إما لشكاية به كما تقدم في رواية أبي داود، وإما ليراه الناس فيأتموا به، ويتعلموا منه. 1663 - قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «طاف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع على راحلته بالبيت، يستلم الركن بمحجنه، وبين الصفا والمروة ليراه الناس، وليشرف وليسألوه، فإن الناس غشوه» . رواه مسلم، وأبو داود والنسائي. وكذلك قال أحمد في رواية محمد بن أبي حرب، وحنبل. (والرواية الثانية) يجزئه ولا شيء عليه، على ظاهر كلام أحمد، اختارها أبو بكر. في زاد المسافر، وابن حامد، والقاضي قديما، قال في تعليقه: كنت أنصر أنه يجزئه [ولا دم عليه] ثم رأيت كلام أحمد أنه لا يجزئه، فنصرت نفي الإجزاء، وذلك لأن الله تعالى ذكر الطواف ولم

يبين صفته، فكيف ما طاف أجزأه، ولطوافه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - راكبا، وقد تقدم الجواب عن ذلك. وحكى أبو محمد (رواية ثانية) : يجزئه ويجبره بدم. ولم أرها لغيره، بل قد أنكر ذلك أحمد في رواية محمد بن منصور الطوسي، في الرد على أبي حنيفة قال: طاف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بعيره. وقال هو: إذا حمل فعليه دم. انتهى. وحكم السعي حكم الطواف عند الخرقي، وصاحب التلخيص، وأبي البركات وغيرهم، قال القاضي: وهو ظاهر كلام أحمد، قال في رواية حرب: لا بأس بالسعي بين الصفا والمروة على الدواب للضرورة، وخالفهم أبو محمد فقطع بالإجزاء، كما اختار أنه لا تشترط له الطهارة. (تنبيه) : إذا طاف أو سعى راكبا لم يرمل، نص عليه أحمد، واختاره أبو محمد، لأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واختار القاضي - أظنه في المجرد - أن بعيره يخب به، والله أعلم.

طواف وسعي القارن والمفرد

[طواف وسعي القارن والمفرد] قال: ومن كان قارنا أو مفردا أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى، ويجعلها عمرة، إلا أن يكون قد ساق معه هديا فيكون على إحرامه. ش: قد ثبت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بفسخ الحج إلى العمرة، ثبوتا لا ريب فيه، وقد تقدم في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمره بذلك، «قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حتى إذا كان آخر الطواف على المروة قال: «لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي، وجعلتها عمرة، فمن كان منكم ليس معه هدي فليحل، وليجعلها عمرة» فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ فشبك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصابعه واحدة في الأخرى، وقال: «دخلت العمرة في الحج» مرتين «لا بل لأبد أبد» . 1664 - وعن «أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو منيخ بالبطحاء، فقال لي: «حججت؟» فقلت: نعم. قال «بما أهللت؟» قال: قلت لبيك بإهلال كإهلال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «فقد أحسنت، طف بالبيت، وبالصفا والمروة، وأحل» قال: فطفت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من بني قيس، ففلت رأسي، ثم أهللت بالحج، قال: فكنت أفتي به الناس، حتى كان في خلافة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له رجل: يا أبا موسى - أو يا عبد الله بن قيس - رويدك بعض فتياك، فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك، فقال: يا أيها الناس من كنا أفتيناه

فتيا فليتئد، فإن أمير المؤمنين قادم عليكم، فبه فأتموا، قال: فقدم عمر، فذكرت ذلك له فقال: إن نأخذ بكتاب الله فإن كتاب الله يأمرنا بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحل حتى بلغ الهدي محله. متفق عليه واللفظ لمسلم. وفي رواية له قال: «هل سقت من هدي؟» قال: لا. قال: «فطف بالبيت، وبالصفا والمروة ثم حل» وفي رواية له أيضا أن عمر قال: قد علمت أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم» . 1665 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «تمتع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، وتمتع الناس مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصر وليحلل، ثم ليهل بالحج وليهد» . مختصر متفق عليه واللفظ لمسلم. 1666 - «وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

ونحن نصرخ بالحج صراخا، فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها عمرة إلا من ساق الهدي، فلما كان يوم التروية ورجعنا إلى منى أهللنا بالحج» . رواه أحمد ومسلم. 1667 - وقد روي ذلك [أيضا من حديث أسماء، وعائشة، وابن عباس، وأنس بن مالك وكلها في الصحاح، وروي] أيضا عن البراء بن عازب وغيرهم، قال أبو عبد الله بن بطة: سمعت أبا بكر بن أيوب يقول: سمعت إبراهيم الحربي يقول - وسئل عن فسخ الحج فقال -: [قال] سلمة بن شبيب لأحمد: كل شيء منك حسن غير خلة واحدة، قال: ما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج، قال أحمد: كنت أرى لك عقلا، عندي ثمانية عشر حديثا صحيحا أتركها لقولك. انتهى. ولا نزاع بين المسلمين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر أصحابه بذلك، وإنما النزاع هل كان ذلك خاصا بأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

أو لمعنى آخر لا يشركهم فيه غيرهم، أو لأن إحرامهم وقع مطلقا. فقيل - وهو أضعفها - لم يكونوا أحرموا بالحج. 1668 - قال: لأن الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - روى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه أحرموا مطلقا ينتظرون القضاء. فلما نزل عليهم القضاء قال: «اجعلوها عمرة» ولا نزاع أن من لم يعين ما أحرم به له أن يجعله عمرة، وهذا ذهول أو مكابرة في الأحاديث، فإن في حديث جابر: لسنا نريد إلا الحج، لسنا نعرف العمرة. وفي حديث أبي موسى أنه أهل كإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقد تقدم نسك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والخصم يدعي أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان مفردا أو قارنا، وفي حديث أبي سعيد: نصرخ بالحج صراخا. 1669 - وفي «حديث أسماء في رواية لمسلم: قدمنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مهلين بالحج» . وفي حديث عائشة: «لا نرى إلا أنه الحج» . 1670 - وفي حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بذي الحليفة حتى أصبح، ثم أهل بحج وعمرة، وأهل الناس بهما» .

1671 - «وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرا، ويقولون: إذا برأ الدبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر، فقدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه صبيحة رابعة، مهلين بالحج، فأمرهم أن يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم، فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: «الحل كله» متفق عليه. وهذه الأحاديث - مع جملة أيضا من الأحاديث - تنفي أنهم أحرموا مطلقا. وقيل: لأن الفسخ كان لمعنى في حقهم، وهو معدوم في حقنا، وهو أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج، بدليل حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم. ورد بأنه لو كان كذلك لما خص بالفسخ من لم يسق الهدي، لأن الجميع كانوا في الاعتقاد على حد سواء، ولكان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل امتناعه من الفسخ بكونه يعتقد جواز العمرة، ولم يعلل بذلك، وإنما علل بسوق الهدي. وقيل - وهو أقواها عندهم -: إن ذلك كان خاصا لأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1672 - بدليل ما روي «عن الحارث بن بلال، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله أفسخ الحج لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: «بل لنا خاصة» رواه الخمسة إلا الترمذي.

1673 - وعن أبي ذر قال: كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة. وفي رواية قال: كانت رخصة. يعني متعة الحج، رواه مسلم، ولأبي داود: كان يقول - فيمن حج ثم فسخها بعمرة -: لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وقد أجاب أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن هذا، فقال عبد الله: قيل لأبي: حديث بلال بن الحارث؟ قال: لا أقول به، فلا يعرف هذا الرجل. وقال في رواية الميموني: أرأيت لو عرف بلال بن الحارث، إلا أن أحد عشر رجلا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يروي ما يروي، أين يقع بلال بن الحارث منهم؟ وقال في رواية أبي داود: ليس يصح حديث في أن الفسخ

كان لهم خاصة، وهذا أبو موسى الأشعري يفتي به في خلافة أبي بكر، وشطرا من خلافة عمر. انتهى. فقد أشار أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى ضعف الحديث، ثم على تقدير صحته عارضه بالجم الغفير من الصحابة الذي رووا خلاف ذلك، ويشهد بذلك حديث جابر «لا بل لأبد الأبد» وهذا خبر لا يقبل الفسخ والتغيير، ويؤيد هذا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يذكر تخصيصا، وإنما استدل بظاهر الكتاب، وبفعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل قد أقر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه فعلوا ذلك، واعتذر بما ذكر من أنهم يظلون معرسين، وقد تقدم الجواب عن قولهم، في أي الأنساك أفضل، وقول أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - موقوف عليه، وهو مخالف لقول صاحب الشريعة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قد خالفه أبو موسى وأفتى به في خلافة أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وخالفه أيضا ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله

عنهما، بل كان من مذهبه أنه متى طاف بالبيت حل. 1674 - فعن عطاء قال: كان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: لا يطوف بالبيت حاج ولا غير حاج إلا حل. قيل لعطاء: من أين يقول ذلك؟ قال: من قول الله سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] قيل لعطاء: فإن ذلك بعد المعرف، قال: فكان ابن عباس يقول: هو بعد المعرف وقبله، وكان يأخذ ذلك جوازا من أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حين أمرهم أن يحلوا من حجة الوداع. إذا تقرر هذا فشرط جواز الفسخ عدم سوق الهدي، أما من ساق الهدي فإنه لا يجوز له الفسخ، لما تقدم من النصوص، (وشرطه) أيضا عدم الوقوف، أما بعد الوقوف فلا فسخ، لوجود معظمه، ولأنه إذا يشرع في تحلله، فلا يليق فسخه، مع أن النص لم يرد بذلك، ولو فسخ السائق أو الواقف لم ينفسخ. ومعنى الفسخ أنه إذا طاف وسعى فسخ نية الحج، ونوى عمرة مفردة، فيصير متمتعا، فيقصر ويحل، هذا ظاهر الأحاديث، ومقتضى كلام الخرقي وأبي محمد، وعن ابن عقيل: الطواف بنية العمرة هو الفسخ، وبه حصل رفض الإحرام لا غير، فهذا تحقيق الفسخ وما ينفسخ به. (قلت) : وهذا جيد، والأحاديث لا تأباه، والقاضي وأبو الخطاب وغيرهما لم يفصحا بالمسألة، بل قالوا: يفسخ

نيته بالحج، وينويان إحرامهما ذلك لعمرة، فإذا فرغا منها أحرما بالحج، ولا يغرنك كلام ابن المنجا فإنه قال: إن ظاهر كلام المصنف أن الطواف والسعي شرط في استحباب الفسخ، قال: وليس الأمر كذلك، لأن الأخبار تقتضي الفسخ قبل الطواف والسعي، ولأنه إذا طاف وسعى ثم فسخ يحتاج إلى طواف وسعي لأجل العمرة، ولم يرد مثل ذلك، قال: ويمكن تأويل كلام المصنف على أن (إذا) ظرف لأحببنا له أن يفسخ وقت طوافه، أي وقت جواز طوافه. انتهى كلامه. وقد غفل - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن كلام الخرقي - وعن كلام الشيخ في المغني فإن نصه ما قلته، وكلام القاضي ومن وافقه لا يأبى ذلك، فإنهم لم يشترطوا للفسخ إلا عدم سوق الهدي والوقوف، وكلامه صريح بأنه لو فسخ بعد الطواف صح ذلك، وليس في كلامهم ما يقتضي أنه يطوف [طوافا] ثانيا كما زعم، ولا بدع أن ينقلب الطواف فيصير للعمرة، [كما ينقلب إحرامه للحج فيصير للعمرة] ، وقوله: إن الأخبار تقتضي

الفسخ قبل الطواف والسعي. ليس كذلك، بل قد يقال: إن ظاهرها أن الفسخ إنما هو بعد الطواف، ويؤيد ذلك حديث جابر المتقدم، فإنه كالنص، فإن الأمر بالفسخ إنما كان بعد طوافهم. انتهى. وظاهر كلام الخرقي - وتبعه أبو محمد، وصاحب التلخيص [وغيرهم]- أن الفسخ على سبيل الاستحباب، وهو مقتضى النصوص، والقاضي وأبو الخطاب وأبو البركات جعلوا ذلك جائزا. (تنبيه) : «اتئد في فتياك» «يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رءوسهم» . «الفجور» الميل عن الواجب «الدبر» جمع دبرة وهي العقرة في ظهر البعير يقول: دبر البعير بالكسر، وأدبره القتب. «وعفا الأثر» .

قال: ومن كان متمتعا قطع التلبية إذا وصل إلى البيت، والله أعلم. ش: منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الجماعة - الميموني، والأثرم، وحنبل، وأبي داود - أنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر، لأنه إذا شرع في التحلل، أشبه الحاج إذا شرع في رمي جمرة العقبة. 1675 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يرفع الحديث: «أنه كان يمسك عن التلبية في العمرة حين يستلم الحجر» . رواه الترمذي وصححه. 1676 - وعنه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر» رواه أبو داود، قال: وقد روي موقوفا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. وقول الخرقي: إذا وصل إلى البيت، يجوز أن يحمل على منصوص الإمام، لأن الرائي للبيت غالبا يشرع في الطواف،

باب ذكر الحج

وعلى هذا حمله [أبو محمد، ويجوز أن يحمل على ظاهره، وأن يقطع بمجرد الرؤية وإن لم يشرع في الطواف، وعلى هذا حمله] أبو البركات، وجوز القاضي في التعليق الاحتمالين، والله سبحانه وتعالى أعلم. [باب ذكر الحج] قال: وإذا كان يوم التروية أهل بالحج. ش: ظاهر هذا الكلام أن كل من كان بمكة لم يحرم بالحج فإنه يحرم به يوم التروية، سواء كان من المقيمين بمكة، أو من المتمتعين الذين حلوا، أو لم يحلوا لسوق الهدي، ويحتمله كلام أبي البركات، وكلام صاحب التلخيص يقتضي أن من ساق الهدي من المتمتعين يحرم بالحج [عقب] طوافه وسعيه، قال: إلا أن يكون قد ساق الهدي، فيحرم بالحج إذا طاف وسعى لعمرته قبل التحلل منها، وكذلك قال القاضي قبله: المتمتع السائق للهدي إذا طاف وسعى لعمرته لا يحل منها، ولكن يحرم بالحج، ويحتمل هذا كلام أبي محمد، وأن استحباب الإحرام يوم التروية لمن كان حلالا، ويشهد لهذا حديث جابر المتقدم، قال: «فحل الناس كلهم وقصروا إلا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن كان معه هدي، فلما كان

يوم التروية ووجهوا إلى منى أهلوا بالحج» . وظاهره أن الذين حلوا هم الذين أحرموا يوم التروية. وقوله: أهل بالحج: يعني من مكة، لما تقدم له من أن ميقات أهل مكة من مكة، ولو أحرم من خارج مكة من الحرم جاز، لقول جابر: فأهللنا بالحج من الأبطح. ويستحب أن يغتسل ويتنظف، ونحو ذلك مما يفعله عند الإحرام [ويطوف أسبوعا، ثم يصلي ركعتين، ويحرم، ولا يسن تطويف بعد الإحرام] . (تنبيه) : يوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي بذلك قيل: لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده. وقيل: لأن قريشا كانت تحمل الماء من مكة إلى منى للحاج تسقيهم وتطعمهم، فيرتوون منه وقيل: لأن الإمام يروي للناس

ذهاب الحاج إلى منى يوم التروية

فيه من أمر المناسك. وقيل: لأن إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تروى فيه في ذبح ولده، والله أعلم. [ذهاب الحاج إلى منى يوم التروية] قال: ومضى إلى منى فيصلي بها الظهر إن أمكنه، لأنه يروى عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه صلى بمنى خمس صلوات» . ش: كذا في حديث جابر، قال: «فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى، وأهلوا بالحج، فركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصلى بها الظهر، والعصر والمغرب، والعشاء، والفجر» . وقول الخرقي: إن أمكنه. لأن كثيرا من الناس يشتغل يوم التروية بمكة إلى آخر النهار، قال أبو محمد: وهذا كله على سبيل الاستحباب. وظاهره أن المبيت بمنى في هذه الليلة لا يجب. (تنبيه) : لو صادف يوم التروية يوم الجمعة وجب فعلها لمن تجب عليه [وأقام حتى زالت الشمس، وإلا لم تجب] ، والله أعلم. [الدفع إلى عرفة والوقوف بها] قال: فإذا طلعت الشمس دفع إلى عرفة. ش: من المستحب أيضا أن لا يدفع من منى حتى تطلع الشمس، كما صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والله أعلم. قال: فأقام بها حتى يصلي مع الإمام الظهر والعصر بإقامة لكل صلاة، وإن أذن فلا بأس.

ش: إذا دفع من منى إلى عرفة فالأولى أن يقيم بنمرة، ثم يخطب الإمام خطبة يعلم الناس فيها حكم الوقوف، والمبيت بمزدلفة، ويحثهم على المهم من أمر الإسلام، تأسيا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقد ثبت ذلك عنه في حديث جابر، ثم ينزل الإمام فيصلي بهم الظهر والعصر، ويجمع بينهما بأذان يعقب الخطبة، ثم بإقامة لكل صلاة، كما في حديث جابر، وحكى صاحب التلخيص في الأذان روايتين، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خير في الأذان، وكذا قال أحمد، لأن كلا يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وإطلاق الخرقي يشمل كل من كان بعرفة من مكي وغيره، وصرح به أبو محمد. معتمدا على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع فجمع معه من حضره، ولم يأمرهم بترك الجمع. 1677 - كما أمر بترك القصر في محل آخر، حيث قال «أتموا فإنا قوم

سفر» وإلا يكون تأخير البيان عن وقت الحاجة، وقد قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الإمام يجمع بين الظهر والعصر بعرفة، وكذلك من صلى مع الإمام. وشرط القاضي وأصحابه ومتابعوهم - كأبي البركات وصاحب التلخيص كذلك - أن يكون ممن يجوز له الجمع. (تنبيه) : «نمرة» موضع بعرفة، وهو الجبل الذي عليه أنصاب الحرم، على يمينك إذا خرجت من مأزمي عرفة تريد الموقف، قاله المنذري، وبهذا يتبين أن قول صاحب التلخيص: أقام بنمرة، وقيل بعرفة. ليس بجيد، إذ نمرة من عرفة، وكلام الخرقي قد يشهد لهذا، لأنه قال: دفع إلى عرفة. ثم قال: ثم يسير إلى موقف عرفة. والله أعلم. قال: وإن فاته مع الإمام صلى في رحله.

1678 - ش: أي إذا فاته الجمع مع الإمام جمع في رحله، كذا يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأنه يجمع مع الإمام، فجمع وحده كغير هذا الجمع، والله أعلم. قال: ثم يصير إلى موقف عرفة عند الجبل. ش: كذا قال جابر: «ثم أذن ثم أقام، فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئا، ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى أتى الموقف، فجعل بطن ناقته القصوى إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه، واستقبل القبلة» . والوقوف عند الجبل، واستقبال القبلة، ونحو ذلك من المستحبات، اتباعا للنبي – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

قال: وعرفة كلها موقف، ويرفع عن بطن عرنة فإنه لا يجزئه الوقوف فيه. 1679 - ش: في رواية لمسلم في حديث جابر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «نحرت ها هنا ومنى كلها منحر، فانحروا في رحالكم، ووقفت ها هنا وعرفة كلها موقف، ووقفت ها هنا وجمع كلها موقف» ورواه أحمد، وأبو داود وابن ماجه أيضا. 1680 - وعن مالك: بلغه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عرفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف، وارتفعوا عن بطن محسر» . 1681 - وعن ابن الزبير من قوله كذلك، رواهما مالك في موطئه.

(تنبيه) : الوقوف بعرفة ركن إجماعا. 1682 - وقد روي «عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ناسا من أهل نجد أتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو واقف بعرفة، فسألوه، فأمر مناديا فنادى «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فتم حجه، أيام منى ثلاثة أيام، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وأردف رجلا ينادي بمنى» . رواه الخمسة. وعن عروة بن مضرس نحو ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى، والمشترط الحصول بعرفة. عاقلا، فلا وقوف لمجنون، ولا لمغمى عليه، ولا لسكران، قاله ابن عقيل وغيره، لعدم شعورهم بها، وفي النائم وجهان، أصحهما عند صاحب التلخيص - وبه جزم أبو محمد - الإجزاء لأنه في حكم المنتبه، وكذلك في الجاهل بكونها عرفة [وجهان] ،

الإجزاء، قطع به أبو محمد، وعدمه قاله أبو بكر في التنبيه. 1683 - ويشهد لقول أبي محمد عموم «حديث عروة بن مضرس الطائي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالموقف، يعني بجمع قلت: جئت يا رسول الله من جبلي طيئ، فأكللت مطيتي، وأتعبت نفسي، والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أدرك معنا هذه الصلاة، وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه» رواه الخمسة وهذا لفظ أبي داود وصححه الترمذي، ولا يشترط للوقوف طهارة، ولا نية،

ولا استقبال، ولا ستارة. (تنبيه) : «جمع» اسم علم للمزدلفة. 1684 - وسميت بذلك قيل لاجتماع آدم بحواء فيه، كذا روى ابن عباس و «الحبل» بالحاء المهملة أحد حبال الرمل، وهو ما اجتمع منه واستطال، وروى «جبل» بالجيم. 1685 - و «التفث» قال الأزهري لا يعرف في كلام العرب إلا في قول ابن عباس وأهل التفسير، وقال غيره: هو قص الأظفار، والشارب، وحلق العانة، والرأس، ورمي الجمار والنحر، وأشباه ذلك. وقيل: هو إذهاب الشعث والدرن، والوسخ مطلقا، والله أعلم.

قال: ويكبر ويهلل، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس. 1686 - ش: عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «أكثر دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» رواه أحمد والترمذي ولفظه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير» » قيل لسفيان بن عيينة: هذا ثناء وليس بدعاء؟ فقال: أما سمعت قول الشاعر:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني ... حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما ... كفاه من تعرضه الثناء انتهى. 1687 - «وعن أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت ردف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعرفات، فرفع يديه يدعو، فمالت به ناقته، فسقط خطامها، فتناول الخطام بإحدى يديه، وهو رافع يده الأخرى» . رواه النسائي. ولمطلوبية الدعاء في هذا اليوم استحب الإفطار كما تقدم، وإن كان صومه يكفر سنتين. 1688 - وقد روى ابن ماجه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من

الدفع من عرفة إلى المزدلفة والمبيت بها

يوم عرفة، فإنه ليدنو عز وجل، ثم يباهي بكم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء» ؟» . وقول الخرقي: ويكبر ويهلل، ويجتهد في الدعاء إلى غروب الشمس. التكبير والتهليل والدعاء مستحب، وأما الوقوف إلى غروب الشمس فواجب، ليجمع بين الليل والنهار، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف حتى غربت الشمس كذا في حديث جابر، وفي حديث غيره، وقد قال: «خذوا عني مناسككم» والواجب عليه إذا وقف نهارا أن يكون قبيل الغروب بعرفة، لتغرب الشمس عليه وهو بها، فلو لم يأت عرفة إلا بعد الغروب فلا شيء عليه، وكذلك لو دفع منها نهارا ثم عاد قبل الغروب، فوقف إلى الغروب، هذا تحصيل المذهب. والله أعلم. [الدفع من عرفة إلى المزدلفة والمبيت بها] قال: فإذا دفع الإمام دفع معه إلى مزدلفة. ش: الإمام هو الذي إليه أمر الحج، ولا نزاع في مطلوبية

اتباعه، وأن لا يدفع إلا بعد دفعه، لأنه الأعرف بأمور الحج، وما يتعلق بها، وأضبط للناس من أن يتعدى بعضهم على بعض، ولا ريب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه معه دفعوا من عرفة، وكان يأمرهم بالرفق في السير. 1689 - فعن «ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه دفع مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة، فسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وراءه زجرا شديدا، وضربا للإبل فأشار بسوطه إليهم، وقال: «أيها الناس عليكم السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع» متفق عليه، والإيضاع ضرب من سير الإبل سريع، والله أعلم. قال: ويكون في الطريق يلبي ويذكر الله عز وجل. ش: أما الذكر فلأنه مطلوب في كل وقت إلا أن يمنع منه مانع، وهنا أجدر، لكونه في عبادة. 1690 - وأما التلبية فلما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن أسامة كان ردف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عرفة إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما قال: لم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي حتى رمى جمرة العقبة» .

1691 - وعن «محمد بن أبي بكر الثقفي قال: قلت لأنس غداة غرفة: ما تقول في التلبية هذا اليوم؟ قال: سرت هذا المسير مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، فمنا المكبر، ومنا المهلل، لا يعيب أحدنا على صاحبه» ، متفق عليهما، والله أعلم. قال: ثم يصلي مع الإمام المغرب وعشاء الآخرة. ش: يعني بمزدلفة، ولا نزاع والحال هذه [أن المطلوب] تأخير المغرب ليجمع بينها وبين العشاء بمزدلفة، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما تقدم في حديث جابر، ولو ترك ذلك صح، والله أعلم. قال: بإقامة لكل صلاة، وإن جمع بينهما بإقامة فلا بأس. ش: يجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، بإقامة لكل صلاة، بلا أذان. 1692 - لما روى أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «دفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عرفة، حتى إذا كان بالشعب نزل فبال، ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء، فقلت: الصلاة يا رسول الله؟ فقال «الصلاة أمامك» فركب فلما جاء المزدلفة نزل، فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب، ثم أناخ كل

إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء، فصلى ولم يصل بينهما» . متفق عليه. وإن جمع بينهما بإقامة فلا بأس. 1693 - لأنه يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين المغرب والعشاء بجمع، صلى المغرب ثلاثا، والعشاء ركعتين، بإقامة واحدة» ، رواه مسلم. والأول قال ابن المنذر: إنه قول أحمد، لأنه رواية أسامة، وهو أعلم بحال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه كان رديفه، وإنما لم يؤذن للأولى لأنها في غير وقتها، بخلاف المجموعتين بعرفة، قال أبو محمد: وإن أذن للأولى وأقام، ثم أقام لكل صلاة فحسن، لما تقدم في حديث جابر، وهو متضمن لزيادة، وكسائر الفوائت والمجموعات، قلت: وقد يقال: إن حديث جابر لا يخالف حديث أسامة، إذ قوله: ثم أقيمت الصلاة، أي دعي إليها، وذلك قد يكون بأذان وإقامة، والارتداف لا يرجح روايته والحال هذه، لأنه لم يخبر عن شيء وقع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو رديفه، إنما أخبر بعد زوال الارتداف، والله أعلم.

قال: وإن فاته مع الإمام صلى وحده. ش: أي يجمع منفردا كما يجمع مع الإمام، وهذا إجماع والحمد لله، إذ الثانية منهما تفعل في وقتها، بخلاف العصر مع الظهر، والله أعلم. قال: فإذا صلى الفجر وقف مع الإمام عند المشعر الحرام فدعا. ش: كذا في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «ثم اضطجع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى طلع الفجر، فصلى الفجر حتى تبين له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصوى حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا الله تعالى وكبره، وهلله، ووحده، فلم يزل واقفا حتى أسفر جدا، فدفع قبل أن تطلع الشمس» . وقد قال الله سبحانه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] وجميع هذا مستحب إلا المبيت بمزدلفة كما سيأتي، وفيه نظر، لأن الله سبحانه أمر بالذكر عند المشعر الحرام، وفعله المبين لكتاب ربه، مع قوله «خذوا عني مناسككم» وهذا لا يتقاصر عن الوجوب، بل قد قال بعض العلماء بركنيته، ويشهد له حديث عروة بن مضرس. (تنبيه) : المشعر الحرام بفتح الميم، قال المنذري: وأكر كلام العرب بكسرها، وحكى القتيبي وغيره أنه لم يقرأ

بها أحد، وحكى الهذلي أن أبا السمال قرأ المشعر بالكسر، وسمي مشعرا لأنه من علامات الحج، وكل علامات الحج مشاعر، والله أعلم. قال: ثم يدفع قبل طلوع الشمس. ش: لما تقدم في حديث جابر. 1694 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان أهل الجاهلية لا يفيضون من جمع حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير. قال: فخالفهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفاض قبل طلوع الشمس» . رواه البخاري وغيره، والله أعلم.

قال: فإذا بلغ محسرا أسرع ولم يقف فيه حتى يأتي منى. ش: «محسر» قيل: واد بين عرفة ومنى، وهو مقتضى قول الخرقي، لأنه غيا الإسراع فيه إلى إتيان منى، وقيل: موضع بمنى، وقيل: ما صب [من محسر في المزدلفة فهو منها، وما صب] منه في منى فهو من منى، قال المنذري: وصوبه بعضهم، ويستحب الإسراع فيه إن كان ماشيا، أو يحرك دابته إن كان راكبا، تأسيا بمن المأمور اتباعه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، [قال أصحابنا: وذلك بقدر رمية حجر] . قال جابر في حديثه: حتى أتى محسرا فحرك قليلا. قال المنذري: لعله سمي بذلك لأنه يحسر سالكيه ويتبعهم. وقال الشافعي في الإملاء: يجوز أن يكون فعل ذلك لسعة الموضع. وقيل: يجوز أن يكون فعله لأنه مأوى الشياطين. وقيل: سمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي أعيى. والله أعلم.

رمي الجمرات

قال: وهو مع ذلك ملب. ش: يعني من الدفع من مزدلفة إلى منى، لما تقدم في الصحيحين من حديث ابن عباس، والله أعلم. [رمي الجمرات] قال: ثم يأخذ حصى الجمار من طريقه أو من مزدلفة. ش: الرمي تحية منى، فلا يشتغل عند الوصول إليها بغيره، فلذلك ندب أن يأخذ الحصى من طريقه أو من مزدلفة. 1695 - ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يأخذ الحصى من جمع. 1696 -[وفعله سعيد بن جبير، وقال: كانوا يتزودون الحصى من جمع] وعن أحمد: خذ الحصى من حيث شئت. وهذا اختيار أبي محمد، وهو الذي فعله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1697 - «قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غداة العقبة وهو على راحلته «هات القط لي» فلقطت له حصيات من حصى الخذف، فلما وضعتهن في يده قال «بأمثال هؤلاء، وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين» رواه النسائي وابن ماجه ولهذا الخبر قلنا: الالتقاط أولى من التكسير. والله أعلم.

قال: والاستحباب أن يغسله. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 1698 - لأنه يروى عن ابن عمر أنه غسله، وكان يتحرى سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (والثانية) : - واختارها أبو محمد - لا يستحب، وقال: لم يبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله. انتهى، وهو مقتضى حديث ابن عباس السابق، وعلى هذا لو رمى بحجر نجس فهل يجزئه لوجود الحجرية، أو لا يجزئه لأنه يؤدي به عبادة، أشبه حجر الاستجمار؟ فيه قولان، والله أعلم.

قال: فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات. ش: جمرة العقبة هي آخر الجمرات مما يلي منى، وأولها مما يلي مكة، وهي عند العقبة، وبها سميت، فإذا قدم من مزدلفة إلى منى فأول ما يبدأ برميها بسبع حصيات، كما فعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال جابر: حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات. وكذلك في حديث غيره. وقول الخرقي: رمى. يخرج منه ما لو وضعها بيده في المرمى، فإنه لا يجزئه، لعدم الرمي، نعم لو طرحها طرحا أجزأته، لوجود الرمي. وقوله: حصيات. المستحب كونها مثل حصى الخذف، لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وفي حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بمثل حصى الخذف. وفسره الأثرم بأن يكون أكبر من الحمص، ودون البندق. 1699 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: مثل بعر الغنم. وهو قريب

من ذلك، فإن خالف ورمى بحجر كبير أجزأه على قول، وهو المشهور، لوجود الحجرية، وعن أحمد: لا يجزئه حتى يأتي بما فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك القولان في الصغير قاله أبو محمد، وشرطه على كل حال الحجرية، فلا يجزئ الرمي بغيره كالكحل، والجواهر المنطبعة، والفيروزج، والياقوت، ونحو ذلك، على المشهور والمختار من الروايات، (وعنه) : يجزئ مع الجهل دون القصد، والرخام والكذان والرام ونحو ذلك ملحق بالحجر عند أبي محمد، وعند القاضي بالفيروزج، وجعل الدراهم،

والدنانير، والحديد، والنحاس، والرصاص أصلا قاس عليه المنع. ولا بد أن يقع الحصى في المرمى، فلو وقع دونه لم يجزئه، نعم لو وقعت الحصاة على [ثوب] إنسان فطارت فوقعت في المرمى أجزأه، لاختصاصه بالفعل، فلو نفضها الإنسان فوقعت في المرمى أجزأت، قاله أبو بكر في الخلاف، حاكيا له عن أحمد في رواية بكر بن محمد، ولم يجز عند ابن عقيل، والله أعلم. قال: يكبر في أثر كل حصاة. ش: في حديث جابر: يكبر مع كل حصاة، وكذلك في الصحيح من حديث ابن مسعود وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. قال: ولا يقف عندها. والله أعلم. 1700 - ش: لما روى سالم «أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة طويلا ويدعو، ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال، فيسهل فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه، ويقوم طويلا، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» . رواه البخاري وغيره. والسنة أن

يستبطن الوادي، وأن يستقبل القبلة لهذا الخبر، كذا قال أصحابنا، وفيه نظر، إذ ليس في هذا الحديث أنه استقبل القبلة في جمرة العقبة ولا في غيرها. 1701 - وقد ورد في الصحيحين عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: «رمى عبد الله بن مسعود جمرة العقبة من بطن الوادي، بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، وجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، فقيل له: إن ناسا يرمونها من فوقها. فقال عبد الله: هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة» . 1702 - لكن قد ورد في رواية النسائي والترمذي «أنه استبطن الوادي، واستقبل الكعبة، وجعل يرمي الجمرة على حاجبه الأيمن، وقال: من ههنا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة» ، ولو رماها من فوقها جاز.

نحر الهدي

1703 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رماها كذلك للزحام، والله أعلم. قال: ويقطع التلبية مع ابتداء الرمي. 1704 - ش: لما تقدم في الصحيحين عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن أسامة والفضل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنهما قالا: «لم يزل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يلبي حتى رمى جمرة العقبة» . وفي رواية للنسائي «فلما رمى قطع التلبية» ، والله أعلم. [نحر الهدي] قال: وينحر إن كان معه هدي. ش: في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر، فنحر ثلاثا وستين بدنة، ثم أعطى عليا فنحر ما غبر» . ولا فرق في ذلك بين الواجب والتطوع، فلو لم يكن معه هدي، وعليه هدي واجب اشتراه ونحره، وإلا فإن أحب الأضحية اشترى ما يضحي به.

الحلق والتقصير

وقوله: وينحر إن كان معه هدي. النحر مختص بالإبل، وأما غيره فيذبح، وكأنه أشار بذلك إلى أن الأولى في الهدي أن يكون من الإبل، اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولا إشكال في ذلك، وفي مسنونية سوقه، ووقفه بعرفة، والجمع فيه بين الحل والحرم، والله أعلم. [الحلق والتقصير] قال: ويحلق أو يقصر. 1705 - ش: عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتى منى، فأتى الجمرة فرماها، ثم أتى منزله بمنى ونحر، ثم قال للحلاق «خذ» وأشار إلى جانبه الأيمن، ثم الأيسر، ثم جعل يعطيه الناس» . متفق عليه، والسنة البداءة بالجانب الأيمن لهذا، ويخير بين الحلق والتقصير كما اقتضاه كلام الخرقي، ولا ريب فيه، وقد قال سبحانه: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] . 1706 - قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق في حجة الوداع وأناس من أصحابه، وقصر بعضهم» ، متفق عليه. 1707 - وثبت عنه أنه دعا للمحلقين بالرحمة، وفي رواية بالمغفرة ثلاثا، وللمقصرين مرة، [والأولى الحلق] ، ولهذا قدمه الخرقي، اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

1708 - وقد قال – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ قال: «اللهم اغفر للمحلقين» قالوا: يا رسول الله وللمقصرين؟ قال: «وللمقصرين» قال: ذلك في الثالثة أو الرابعة» . والحكمة في ذلك - والله أعلم - أنه أبلغ في العبادة، وأدل على صدق النية لله تعالى، لأن المقصر مبق على نفسه بعض الزينة التي ينبغي للحاج أن يكون مجانبا لها. 1709 - وقيل: إن سبب دعائه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمحلقين ثلاثا أنه لما أمرهم يوم الحديبية [بالحلاق] لم يقم أحد منهم، لما في أنفسهم من أمر الصلح، فلما حلق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين مرة، تبادروا إلى ذلك.

1710 - وقد ورد في مسلم من «حديث أم الحصين أنها سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا للمحلقين ثلاثا، وللمقصرين مرة» ، هذا يدل على أن الحديبية لم يكن لها اختصاص بذلك. وهل يستثنى من ذلك من لبد أو عقص، أو ظفر؟ ظاهر كلام الخرقي وكثير من الأصحاب عدم استثنائه، وعموم كلام أحمد يقتضيه، قال في رواية حنبل والميموني: إن شاء قصر، وإن شاء حلق، والحلق أفضل، وذلك للعمومات المتقدمة، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ -: من فعل ذلك فليحلق. 1711 - وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من عقص رأسه أو ظفر أو لبد فقد وجب عليه الحلاق. رواه مالك في الموطأ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبد رأسه وحلق. 1712 - ويروى عنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من لبد فليحلق» قال أبو محمد: والأول أصح إلا أن يثبت الخبر.

1713 - إذ عمر خالفه ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فتسلم العمومات المتقدمة، وفعل الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لكون الحلاق أفضل لا لتعينه. انتهى. ولو لم يكن على رأسه شعر كالأصلع ومن رأسه محلوق، فظاهر كلام أحمد في رواية المروذي أنه يمر الموسى على رأسه، قال في رواية المروذي في المتمتع: إن دخل يوم التروية فأعجب إلي أن يقصر، فإن دخل في العشر فأراد أن يحلق حلق، [فإن دخل يوم التروية فحلق فلا بأس، ويمر الموسى على رأسه يوم الحلق] ، وحمله القاضي على الاستحباب، لقوله في رواية بكر بن محمد: لا يعتمر حتى يخرج شعره، فيمكن حلقه أو تقصيره. قال: فدل على أن إمرار الموسى لا يجب، فلا يقوم مقام الحلق، وفي أخذ الاستحباب من هذا نظر، لكن في الجملة هو قول الأصحاب، لقول الله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ، أي: شعور رءوسكم، فمن لا شعر له لم تتناوله الآية. 1714 - وإنما استحب له إمرار الموسى اقتداء بقول عمر: الأصلع يمر الموسى على رأسه، رواه النجاد.

وقوله: يحلق أو يقصر. ظاهره أن الحكم متعلق بالجميع، فيحلق أو يقصر من جميع رأسه، فإن كان الشعر مضفورا قصر من رءوس الضفائر، وإلا جمعه وقصر من أطرافه، ولا يجب التقصير من كل شعرة، لأن ذلك لا يعلم إلا بحلقه، هذا أشهر الروايتين، والرواية الثانية) يجزئ حلق بعضه، أو تقصير بعضه، ومبنى الخلاف على المسح في الطهارة، قاله غير واحد، وعلى هذا «هل هذا» . البعض هو الأكثر أو قدر الناصية، أو إنما يكتفى بالبعض في حق المرأة دون الرجل؟ مبني على ما تقدم من الخلاف، والله أعلم. قال: ثم قد حل من كل شيء إلا النساء. ش: هذا المذهب والمشهور من الروايتين. 1715 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء» . فقال رجل: والطيب؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أما أنا فقد رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يضمخ رأسه بالمسك، أفطيب ذلك أم لا؟» رواه أحمد، ورواه النسائي

موقوفا على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. (والرواية الثانية) : يحل من كل شيء إلا الوطء في الفرج، فتحل له القبلة، واللمس لشهوة، وعقد النكاح، لأن الوطء هو الأغلظ، ولهذا اختص الفساد به، [فيختص المنع به] بخلاف غيره، ونقل الميموني في المتمتع إذا دخل الحرم حل له بدخوله كل شيء إلا النساء والطيب، قبل أن يقصر أو يحلق، وهذا يعطي رواية ثالثة. 1716 - ومرجعها قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما خطب الناس في عرفة فقال لهم فيما قال: إذا جئتم منى غدا فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء والطيب، لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت، رواه مالك في الموطأ.

والمعنى يعضده، إذ الطيب من دواعي النكاح، فهو كالقبلة. انتهى. وقد أشعر كلام الخرقي بأمرين (أحدهما) أن الحلق أو التقصير نسك، ويثاب على فعله، ويذم بتركه، وهذا المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، حتى إن القاضي في التعليق، وغيره، لم يذكروا خلافا، وذلك لقوله سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] ، قيل: المراد به الحلق، وقيل: بقايا أفعال الحج، من الرمي ونحوه، وعلى كليهما فقد دخل الحلق في الأمر، وظاهره الوجوب، لا سيما وقد قرن بالوفاء بالنذور، وبالطواف، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ، فوصفهم وامتن عليهم بذلك، فدل على أنه من العبادة لتتميز به، وليعبر عنها به. 1717 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبد رأسه وأهدى، فلما قدم مكة أمر نساءه أن يحللن، قلن: ما لك أنت لم تحل؟ قال: «إني قلدت هديي، ولبدت رأسي، فلا أحل حتى أحل من حجتي، وأحلق رأسي» . رواه أحمد، ولو

لم يكن نسكا لم يتوقف الحل عليه، وقد تقدم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا للمقصرين والمحلقين، وفاضل بينهم، فلولا أنه نسك لما استحقوا لأجله الدعاء، ولما فاضل فيه، إذ لا تفاضل في المباح. (والرواية الثانية) أنه إطلاق محظور كان محرما عليه بالإحرام، فأطلق فيه عند الحل، كاللباس والطيب، قال: «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «بما أهللت؟» . قال: بإهلال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هل سقت الهدي؟» . قلت: لا. قال: «فطف بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم حل» . فطفت بالصفا والمروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني، وغسلت رأسي. الحديث» ، وقد تقدم، فظاهره أن الحل مرتب على الطواف والسعي، وهو الذي فهمه أبو موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه لم يذكر أنه قصر، ولا أنه حلق. 1718 - «وعن سراقة بن مالك المدلجي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا رسول الله اقض لنا قضاء قوم كأنما ولدوا اليوم. فقال: «إن الله عز وجل قد أدخل عليكم في حجكم هذا عمرة، فإذا قدمتم فمن تطوف بالبيت وبالصفا والمروة، فقد حل، إلا من كان معه هدي» . رواه أبو داود، انتهى.

(الأمر الثاني) ظاهر كلام الخرقي أن الحل مرتب على الرمي والحلق أو التقصير، لما تقدم من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «لا أحل حتى أحل من حجتي، وأحلق رأسي» . 1719 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أهل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بالحج، وليس مع أحد منهم هدي غير النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وطلحة، وقدم علي من اليمن معه هدي، فقال: أهللت بما أهل به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أصحابه - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أن يجعلوها عمرة، ويطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي» . مختصر متفق عليه. 1720 - وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «وأمر من لم يكن ساق الهدي أن يطوف ويسعى، ويقصر، ثم يحل» . رواه أبو داود، وأصله في الصحيحين. (وعن أحمد) ، رواية أخرى، أن التحلل يحصل بالرمي وحده، لما تقدم من حديث أبي

موسى، وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «إذا رميتم الجمرة حل لكم كل شيء» . وحديث سراقة. (تنبيه) : الخلاف في توقف الحل على الحلق والتقصير مرتب على نسكيته ووجوبه، فإن قيل بذلك توقف الحل عليه، وإلا فلا، هذا مقتضى كلام جماعة، وصرح به بعضهم، وجعل القاضي في تعليقه الروايتين في توقف الحل عليه على القول بنسكيته، ولا نزاع في ذلك، إذ المبيت بمزدلفة ونحو ذلك نسك ولا يتوقف الحل عليه، وهذا - أعني: عدم البناء - إليه ميل أبي محمد في المغني، لأنه صحح القول بأنه نسك، والقول بأن الحل لا يتوقف عليه. (تنبيه) : ليس عند أحمد فيما علمت قولا يدل على إباحته، حتى يقول إنه إطلاق محظور، بل نصوصه متوافرة على مطلوبيته، وذم تاركه، نعم عنه ما يدل على أنه غير واجب، قال في الذي يصيب أهله في العمرة: الدم كثير. وقال فيمن اعتمر فطاف وسعى ولم يقصر حتى أحرم بالحج: بئس ما صنع، وليس عليه شيء. ومن هذا وشبهه أخذ أنه

إطلاق محظور، ومن هنا يعلم أن جزم القاضي بأنه نسك - يثاب على فعله، ويذم على تركه - وأن حكاية أبي البركات الخلاف في وجوبه، أجود من عبارة غيرهما أنه نسك، أو إطلاق محظور، والله أعلم. قال: والمرأة تقصر من شعرها مقدار الأنملة. ش: المشروع في حق المرأة التقصير بالإجماع، حكاه ابن المنذر. 1721 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «ليس على النساء حلق، إنما على النساء التقصير» . رواه أبو داود. 1722 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تحلق المرأة رأسها» . رواه الترمذي.

من أركان الحج الطواف بالبيت

وظاهر كلام الخرقي أن قدر الأنملة واجب، وهو ظاهر كلام أحمد والأصحاب. 1723 - قال أحمد: تقصر من كل قرن قدر الأنملة، وهو قول ابن عمر، وسئل أحمد: تقصر من كل رأسها؟ قال: نعم، تجمع رأسها إلى مقدم رأسها، ثم تأخذ من أطراف رأسها قدر الأنملة. وحمل أبو محمد ذلك على الاستحباب، قال: لأن الأمر به مطلق، وبأي شيء أزال الشعر أجزأه، وكذلك إن أزاله بنورة، أو بنتفه، إذ القصد إزالته، والله أعلم. [من أركان الحج الطواف بالبيت] قال: ثم يزور البيت، فيطوف به سبعا. وهو الطواف الواجب، الذي به تمام الحج. ش: يعني أنه بعد رمي جمرة العقبة، والنحر، والحلق أو التقصير يزور البيت، فيطوف به سبعا، لأن في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد أن ذكر النحر قال: «ثم ركب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأفاض إلى البيت» . وهذا الطواف هو الذي به تمام الحج بالإجماع، قاله ابن عبد البر، ويشهد له قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . 1724 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: حججنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

فأفضنا يوم النحر، فحاضت صفية، فأراد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منها ما يريد الرجل من أهله، فقلت: يا رسول الله إنها حائض، قال: «أحابستنا هي؟» . قالوا: يا رسول الله إنها أفاضت يوم النحر. قال: «اخرجوا» . متفق عليه. فدل على أنه حابس لمن لم يأت به، ولا بد في هذا الطواف من تعيينه بالنية، كما سينص عليه الخرقي، فلو أطلق، أو طاف للوداع لم يجزئه، لأن الأعمال بالنية، وليتميز عن بقية الأطوفة، ويسمى هذا: «طواف الفرض» . لأنه فرض عليه فعله بالحج، «وطواف الزيارة» . لأنه يزور به البيت، و «طواف الإفاضة» . لأنه يفعل بعد الإفاضة من منى، و «طواف الصدر» . لأنه يصدر إليه من منى، وقيل - قال المنذري: وهو المشهور -: إن طواف الصدر هو طواف الوداع، وهو أقرب، إذ الصدر رجوع المسافر من مقصده، والله أعلم. قال: ثم يصلي ركعتين. ش: كما تقدم في طواف القدوم. قال: إن كان مفردا أو قارنا، ثم قد حل له كل شيء. ش: قد تقدم أن القارن والمفرد إذا دخلا مكة يطوفان للقدوم

ثم يسعيان، فإذا طافا، والحال هذه، لم يبق عليهما شيء من أركان الحج، فيحلان إذا الحل كله. 1725 - لحديث ابن عمر الصحيح: «ثم لم يحلل من شيء حرم عليه حتى قضى حجه، ونحر هديه يوم النحر، وأفاض. فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم عليه» ، وفعل مثل ما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهدى فساق الهدي من الناس. والله أعلم. قال: وإن كان متمتعا فيطوف بالبيت [سبعا، وبالصفا والمروة سبعا، كما فعل للعمرة، ثم يعود فيطوف بالبيت] طوافا ينوي به الزيارة، وهو قوله عز وجل: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . ش: المتمتع إذا قدم على مكة فإنه يطوف للعمرة ويسعى لها، ثم يحرم بالحج يوم التروية، فيسن في حقه طواف القدوم، لكن على أشهر الروايتين لا يفعله إلا بعد رجوعه من منى، فإذًا يطوف للقدوم، ثم يسعى، ثم يطوف للزيارة، وأشار الخرقي بقوله: وهو قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، إلى آخره، بأن هذا [هو] الطواف المتحتم، المأمور به في كتاب الله عز وجل، بخلاف طواف القدوم.

1726 - واستدل أحمد على ذلك بحديث جابر: أنهم طافوا بعدما رجعوا من منى. 1727 - وبحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «طاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى لحجهم، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا» . انتهى. 1728 - وقد روى نافع أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان إذا أحرم من مكة لم يطف بالبيت، ولا بين الصفا والمروة حتى يرجع من منى. رواه مالك في الموطأ، ولأن طواف القدوم والحال هذه

كتحية المسجد، عند دخول المسجد قبل شروعه في الصلاة. (والرواية الثانية) عن أحمد: يجوز فعله قبل الرجوع، فيفعله عقب الإحرام. ومنع أبو محمد مسنونية هذا الطواف رأسا، وقال: ولا أعلم أحدا وافق أبا عبد الله على هذا. واعتمد على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل أنه أمر من تمتع في حجة الوداع به، ولا أن الصحابة المتمتعين فعلوه، قال: وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يدل على هذا، لأنها إنما ذكرت طوافا واحدا، وأضافته للحج، وهذا هو طواف الزيارة، وإلا تكون قد أخلت بذكر الركن، وذكرت ما ليس بركن، ثم عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قد قرنت الحج والعمرة بأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ولم تكن طافت للقدوم، ثم لم ينقل أنها طافت للقدوم، ولا أمرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به. انتهى. والحكم في المكي إذا أحرم [من مكة] والمفرد، والقارن الآفاقيان إذا لم يأتيا مكة قبل يوم النحر، كالحكم في المتمتع على ما سبق، فعلى قول [أبي محمد] هؤلاء كلهم يسعون عقب طواف الإفاضة، ثم يحلون. وقد أشعر كلام الخرقي بأن الحل يتوقف على السعي، ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب، في معتمر طاف فواقع أهله قبل أن [يسعى، فسدت عمرته وعليه مكانها، ولو طاف وسعى ثم وطئ قبل أن] يحلق أو يقصر، عليه دم، إنما

العمرة الطواف والسعي والحلاق. انتهى، ولا نزاع في هذا إن قلنا بركينة السعي، (وهو إحدى الروايتين) عن أحمد، واختيار القاضي في التعليق الكبير، أما إن قلنا بسنيته - (وهو الرواية الثانية) - فهل يتوقف الحل عليه؟ فيه وجهان (أحدهما) : نعم، وهو ظاهر كلام أبي البركات (والثاني) وبه قطع في التلخيص: لا، وعلى هذا إن قيل: بوجوبه - كما هو اختيار القاضي في المجرد، وأبي محمد في المغني، وحكاه صاحب التلخيص رواية - فالقياس توقف الحل عليه. (تنبيه) : الطواف محلل من المحللات، فيحصل التحلل الأول باثنين من ثلاثة، الرمي والحلق والطواف، ويحصل التحلل الثاني بالثالث، هذا إن قلنا: الحلاق نسك، وإلا حصل الأول بواحد من اثنين: الرمي والطواف، ويحصل الثاني بالثاني، صرح به صاحب التلخيص، وقال أبو محمد: إنه مقتضى قول الأصحاب، فكأنه لم ير ذلك مصرحا به، والله أعلم. قال: ثم يرجع إلى منى.

1729 - ش: في الصحيحين وغيرهما عن نافع، عن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أفاض يوم النحر، ثم رجع فصلى الظهر بمنى، قال نافع: وكان ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، يفيض يوم النحر، ثم يرجع فيصلي الظهر بمنى، ويذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعله» ، والله أعلم. قال: ولا يبيت بمكة ليالي منى. ش: ظاهر هذا أن المبيت بمنى لياليها واجب، وهو المشهور، والمختار من الروايتين. 1730 - لما روي عن ابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «استأذن العباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل سقايته، فأذن له» ، متفق عليه. فظاهر هذا أن غيره كان ممنوعا من ذلك. 1731 - وقد روي: «لم يرخص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأحد يبيت بمكة إلا للعباس من أجل سقايته» . رواه ابن ماجه، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بات بها، وقال: «خذوا عني مناسككم» .

1732 - وقال مالك في الموطأ: زعموا أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان يبعث رجالا يدخلون الناس من وراء العقبة. (والرواية الثانية) : يسن ولا يجب، لأنه قد حل من حجه، فلا يجب عليه المبيت بموضع معين، كليلة الحصبة. 1733 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت. انتهى ويجب الليالي الثلاث إن لم يرد التعجل، وإن أراد فليلتان، والله أعلم. قال: فإذا كان من الغد وزالت الشمس رمى الجمرة الأولى بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عندها ويدعو فيطيل، ثم يرمي الوسطى بسبع حصيات يكبر أيضا

ويدعو، ثم يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات، ولا يقف عندها. ش: الجمرة الأولى هي أبعد الجمرات من مكة، وتلي مسجد الخيف، فإذا كان غداة يوم النحر، بدأ بها فرماها بسبع [حصيات] . 1734 - «لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ثم يتقدم فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو، ويرفع يديه، ويقوم طويلا، [ثم يرمي الجمرة الوسطى، ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل، فيقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا] ، ثم يرمي الجمرة ذات العقبة، من بطن الوادي، ولا يقف عندها، ويقول: هكذا رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» . وهذا الترتيب شرط، فلو بدأ بجمرة العقبة، أو الوسطى لم يجزئه، على المنصوص والمختار من الروايتين أو الروايات، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رتبها، وفعله خرج بيانا لصفة الرمي المشروع. 1735 - لا سيما وقد عضده ما روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي على راحلته يوم النحر ويقول لنا: «خذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد

حجتي هذه» . رواه مسلم وغيره، وهذا أمر بالاقتداء به، فإن فعله ورد بيانا لمجملات الحج، والأشهر في الرواية: يقول لنا: بلام مفتوحة وبالنون، وروي: «لتأخذوا» ، بكسر اللام للأمر، وبالتاء باثنين من فوق، وهي لغة. (والثانية) يجزئه. قال في رواية محمد بن يحيى الكحال - فيمن رمى جمرة قبل جمرة: أرجو أن لا يكون عليه شيء. 1736 - وذلك لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من قدم نسكا بين يدي نسك فلا حرج» . وحكى أبو البركات الرواية بالإجزاء مع الجهل. وشرط صحة الرمي في الجميع أن يكون بعد الزوال، على المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين. 1737 - لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرمي يوم النحر ضحى، وأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس» . رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي.

1738 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يرمي الجمار إذا زالت الشمس» . رواه الترمذي، وفعله خرج بيانا كما تقدم، وقد فهمت هذا الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -. 1739 - قال وبرة بن عبد الرحمن السلمي: سألت ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه. فأعدت عليه المسألة فقال: كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا. رواه البخاري وغيره. (والرواية الثانية) : إن رمى في اليوم الآخر قبل الزوال أجزأه ولا ينفر إلا بعد الزوال. (والثالثة) : كالثانية، إلا أنه إن نفر قبل الزوال لا شيء عليه. قال في رواية ابن منصور: إذا رمى عند طلوع الشمس في النفر الأول ثم نفر، كأنه لم ير عليه دما. واختلف في عدد الحصا، فعنه: لا بد من سبع. كما قال الخرقي، اتباعا لفعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه قد ثبت ذلك عنه من حديث ابن عمر المتقدم، ومن حديث ابن مسعود، وعائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وفعله خرج بيانا كما تقدم.

1740 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الاستجمار تو، ورمي الجمار تو، والسعي بين الصفا والمروة تو، وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو» . [رواه مسلم وغيره] والتو: الوتر. (وعنه) تجزئ الست، ولا يجزئ ما دونها. 1741 - لما «روى سعد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رجعنا في الحجة مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبعضنا يقول: رميت بسبع. وبعضنا يقول: رميت بست، فلم يعب بعضهم على بعض» . رواه النسائي وأحمد. وهذا اتفاق منهم على جواز الاكتفاء بالست. 1742 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا أبالي رميت بست أو بسبع. (وعنه) : تجزئ الخمس، إذ الأكثر يعطى حكم

الجميع، وقد ثبت عن الصحابة التساهل في البعض. ويسن أن يكبر مع كل حصاة، لما تقدم من حديث جابر، وابن عمر، وابن مسعود، ويقف يدعو، ويطيل في الجمرتين الأوليين، ولا يقف في جمرة العقبة، لما تقدم من حديث ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، والخرقي قال: يقف عندها. ولعله يريد قريبا منها، إذ السنة التقدم كما في الحديث، والله أعلم. قال: ويفعل في اليوم الثاني كما فعل بالأمس. 1743 - ش: لا نزاع في ذلك، وعلى ذلك فعل الخلف، اقتداء بالسلف، وقد قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أفاض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من آخر يوم النحر حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية، فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها» . رواه أبو داود، والله أعلم.

قال: فإن أحب أن يتعجل في يومين خرج قبل المغرب. ش: أيام منى وأيام التشريق: ثلاثة أيام بعد النحر، فمن أحب أن يتعجل في يومين منها خرج قبل المغرب، لقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] الآية، والتخيير هنا، والله أعلم، نظرا لجواز الأمرين، وإن كان التأخر أفضل، وكلام الخرقي وعامة الأصحاب يشمل مريد الإقامة بمكة، وكذلك عموم الآية الكريمة. 1744 - وعن يحيى بن يعمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيام منى ثلاثة، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه» . مختصر، رواه أبو داود وغيره. (وعن أحمد) : لا يعجبني لمن نفر النفر الأول أن يقيم بمكة. 1745 - وذلك لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من شاء من الناس كلهم أن ينفر في الأول، إلا آل خزيمة، فلا ينفروا إلا في النفر الأخير، فجعل [أحمد وإسحاق معنى قول عمر رضي

الله عنه: إلا آل خزيمة. أي أنهم أهل حرم، وحمل أبو محمد] هذا على الاستحباب، محافظة على العموم، والله أعلم. قال: فإذا غربت الشمس، وهو بها، لم يخرج حتى يرمي في غد بعد الزوال، كما رمى بالأمس. ش: شرط جواز التعجل في اليومين أن ينفر قبل غروب الشمس، فلو أقام حتى غربت الشمس، لزمه المبيت والرمي من الغد، لأن الله سبحانه وتعالى جعل التعجل في اليوم، [وكذلك المبين] لكلامه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، واليوم اسم للنهار، فمن غربت الشمس عليه خرج عن أن يكون في اليوم، فهو ممن تأخر. 1746 - وعن نافع أن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، كان يقول: من غربت له الشمس من أوسط أيام التشريق وهو بمنى، فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد. رواه مالك في الموطأ.

وقول الخرقي: حتى يرمي في غد بعد الزوال، يحترز به عن [مذهب] الحنفية من أنه يجوز في هذا اليوم الرمي قبل الزوال، وهي رواية مرجوحة قد تقدمت، والله أعلم. قال: ويستحب أن لا يدع الصلاة في مسجد منى مع الإمام. ش: يعني مسجد الخيف، تأسيا بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1747 - «قال عبد الله بن مسعود: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمنى ركعتين، ومع أبي بكر، وعمر، وعثمان، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ركعتين، صدرا من خلافته» . وهذا إن لم يمنع [مانع، فإن منع مانع] من فسق أو غيره [صلى] في رحله، والله أعلم. قال: ويكبر في دبر كل صلاة، من صلاة الظهر يوم النحر، إلى آخر أيام التشريق. ش: قد تقدم الكلام في التكبير في عيد النحر، وفي صفته، ومحله ووقته، وأن المحل يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، وأما المحرم فيكبر من صلاة الظهر يوم النحر، لأنه قبل ذلك مشتغل بالتلبية حتى يرمي جمرة العقبة، وليس بعد جمرة العقبة صلاة يكبر فيها إلا الظهر، فلو رمى جمرة العقبة قبل

طواف الوداع

الفجر - إذ وقتها يدخل بانتصاف ليلة النحر، على المشهور من الروايتين - فعموم كلام أصحابنا يقتضي أنه: لا فرق، حملا على الغالب، ويؤيد هذا أنه لو أخر الرمي إلى بعد صلاة الظهر فإنه يجتمع في حقه التكبير والتلبية، ومنصوص أحمد في رواية ابنه عبد الله أنه يبدأ بالتكبير ثم يلبي، إذ التلبية قد خرج وقتها المستحب، وهو الرمي ضحى، فبذلك قدم التكبير عليها، والله أعلم. [طواف الوداع] قال: فإذا أتى مكة لم يخرج حتى يودع البيت، يطوف به سبعا، ويصلي ركعتين. 1748 - ش: لما «روي عن ابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت» . رواه أحمد ومسلم، وليس بركن اتفاقا، بل واجب، يجبر بالدم، لهذا الحديث، هذا المشهور والمعروف عند الأصحاب. وقال أحمد - في رواية ابن إبراهيم -: إذا نسي طواف الزيارة، فطاف للصدر لا يجزئه، وكيف يجزئه التطوع عن الفريضة، وكذلك نقل المروذي، وظاهر هذا أنه سنة لا واجب. إلا أن يقال: أطلق على الواجب تطوعا حيث قابله بالركن، إذ واجبات الحج تترك،

وتصح العبادة بدونها، فلها شبه بالتطوع. وقول الخرقي: لم يخرج. يقتضي أنه لو أراد المقام بمكة لا وداع عليه، وهو كذلك، سواء نوى الإقامة قبل النفر أو بعده. وقوله: لم يخرج. ظاهره أنه لو خرج ولو إلى دون مسافة القصر أنه يلزمه الطواف، وهو ظاهر إطلاق الحديث، والمراد بالخروج: الخروج عن الحرم. ويجزئه طواف الزيارة إذا طافه عند الخروج عن طواف الوداع، في أشهر الروايتين لأنه حصل آخر عهده بالبيت طواف، والله أعلم. قال: إذا فرغ من جميع أموره، حتى يكون آخر عهده بالبيت. ش: يعني أن هذا الطواف يكون في وقت فراغه من جميع أموره، كي يكون آخر عهده بالبيت، اتباعا لنص حديث ابن عباس، والله أعلم. قال: فإن ودع واشتغل في تجارة عاد فودع ثم رحل. ش: يعني يتفرع على ما تقدم أنه لو ودع ثم اشتغل في تجارة، أو حاجة، أو عيادة مريض، أنه يعيد الوداع، عملا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتى يكون آخر عهده بالبيت» . ومن أقام في تجارة أو زيارة لم يكن آخر عهده بالبيت الطواف، وقد بالغ أحمد في ذلك، فقال له أبو داود: إذا ودع البيت ثم نفر

يشتري طعاما يأكله؟ قال: لا، يقولون حتى يجعل الردم وراء ظهره. وقال في رواية أبي طالب: إذا ودع لا يلتفت، فإن التفت رجع حتى يطوف بالبيت، وأبو محمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، يجوز شراء اليسير، وقضاء الحاجة في الطريق، لأنه لا يسمى إقامة، والله أعلم. قال: فإن خرج قبل الوداع رجع إن كان بالقرب، وإن أبعد بعث بدم. ش: نص أحمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، على هذا، محافظة على الإتيان بالواجب، إذ القريب في حكم المقيم، أما البعيد فمسافر، مع أن المشقة تلحقه غالبا، بخلاف القريب، ولو تعذر على القريب الرجوع فهو كالعبيد. 1749 - وعن يحيى بن سعيد الأنصاري، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رد رجلا من مر الظهران - لم يكن ودع البيت - حتى ودع، رواه مالك في الموطأ.

ومقتضى كلام الخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أنه لو رجع القريب لا دم عليه، وهو كذلك، لأنه في حكم المقيم أما البعيد إذا رجع؛ فعن القاضي: لا يسقط عنه الدم، لاستقراره بالبعد، ولأبي محمد احتمال، وحد البعد مسافة القصر، نص عليه أحمد، واعتبرها أبو محمد من مكة، وقد يقال من الحرم، والله أعلم. قال: والمرأة إذا حاضت قبل أن تودع خرجت، ولا وداع عليها ولا فدية. ش: أما سقوط طواف الوداع عن الحائض فقول العامة. 1750 - لما «روى ابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض» . متفق عليه. 1751 - وعن نافع، «أن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: من حج البيت فليكن آخر عهده بالبيت، إلا الحيض، رخص لهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه الترمذي. 1752 - وفي مسلم وغيره «عن عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: حاضت صفية، قالت عائشة: فذكرت حيضها للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحابستنا هي؟» . قلت: يا رسول الله إنها قد كانت أفاضت، وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فلتنفر» . أما انتفاء الفدية فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكرها في شيء من الأحاديث، ولو وجبت لذكرها، وحكم النفساء حكم الحائض. (تنبيه) : إذا طهرت الحائض أو النفساء قبل مفارقة البنيان لزمها الرجوع والوداع، فإن لم ترجع ولو لعذر فعليها الدم، ولو كان الطهر بعد مفارقة البنيان فلا رجوع عليها، والله أعلم. قال: ومن خرج قبل طواف الزيارة رجع من بلده حراما، حتى يطوف بالبيت. ش: قد تقدم أن طواف الزيارة ركن لا يتم الحج إلا به، فإذا تركه الإنسان، ورجع إلى بلده، فإنه لا بد أن يرجع من بلده، ليأتي بركن الحج، ويرجع حراما عن النساء، إن كان قد رمى جمرة العقبة، وإلا فحراما عن كل شيء كما تقدم، وقد دل على الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لصفية: أحابستنا هي؟» . فدل على أن الطواف يحبس صاحبه. والله أعلم.

قال: وإن كان قد طاف للوداع لم يجزئه عن طواف الزيارة. ش: لا بد من تعيين النية لطواف الزيارة، فإذا طاف للوداع، أو مطلقا، لم يجزئه عن طواف الزيارة، [نظرا] لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى» . الحديث، وهذا لم ينو طواف الزيارة، فلا يكون له، ونبه بهذا على مذهب مالك، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في أنه يجزئه ذلك، والله أعلم. قال: وليس في عمل القارن زيادة على عمل المفرد. ش: هذا هو المذهب المختار للأصحاب، والمشهور عن أحمد في الروايتين، حتى إن القاضي في تعليقه لم يذكر غيره، ورواه عن أحمد سبعة من أصحابه، وذلك لما تقدم من أن الصحيح أن النبي

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان نسكه القرآن، والخصم يسلم ذلك، ولم ينقل عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه طاف إلا طوافا واحدا. 1753 - كما صرح به جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرن الحج والعمرة، وطاف لهما طوافا واحدا» . رواه الترمذي والنسائي. 1754 - وعنه أيضا قال: «لم يطف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا، طوافه الأول» . رواه الجماعة إلا البخاري. 1755 - وروى عبد الله بن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما، حتى يحل منهما جميعا» . رواه الترمذي وهذا لفظه، والنسائي وقال: «إن ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قرن الحج والعمرة، فطاف لهما طوافا واحدا، وقال: هكذا رأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعله» .

1756 - وفي الصحيحين أيضا معنى هذا عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، في حديث طويل، لما حج حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. 1757 - وعن عائشة، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، في حديثها الصحيح - وسيأتي إن شاء الله تعالى - قالت: «وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافا واحدا» . 1758 - ولمسلم في هذا الحديث: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» . 1759 - ولأبي داود أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «طوافك بالبيت وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك» . لا يقال: الطواف اسم جنس مضاف لها، فيشمل كل طواف صدر منها، لأنا نقول: طواف. يقتضي ما يقع عليه اسم الطواف، وهو

يصدق بواحد، كذا أجاب القاضي، وفيه شيء، إذ لا يظهر لي فرق بين [طوافك] وعبدك، ونحوه، وهو وإن صدق بواحد، لكن لا يدل على تعيين الواحد، وإنما الجواب: أن المعلوم من قصتها أنها طافت طوافا واحدا، والخصم يسلم ذلك، لأن عنده أن أمرها آل إلى الإفراد، ثم لو لم يكن كذلك لم يكن [في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] : «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» . فائدة، إذ لا يتوهم أن في القران ثلاثة أطواف، ولأنهما عبادتان [من جنس واحد] فإذا اجتمعا دخلت الصغرى في الكبرى كالطهارتين. (والرواية الثانية) : يلزمه طواف وسعي للعمرة، وطواف وسعي للحج، لا يدخل أحدهما في الآخر، حكاها جماعة، وهي نظير الرواية المذكورة في الوضوء والقاضي جعل في التعليق بدل هذه الرواية رواية أن عمرة القران لا تجزئ عن عمرة الإسلام، (وبالجملة) قد استدل لهذه الرواية بقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، وإتمامها أن يأتي بأفعالها على الكمال.

1760 - وبأنه قد روي «عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه طاف طوافين، وسعى سعيين» من رواية علي، وابن مسعود، وابن عمر، وعمران بن حصين، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 1761 - وروي عنه أيضا أنه قال: «من جمع بين الحج والعمرة فعليه طوافان» . 1762 - وأجيب عن الآية بأن الإتمام أن يحرم بهما من دويرة أهله، كما

قال عمر وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، على أنا نقول بموجبه، لأنا نقول: إذا طاف وسعى لهما فقد أتمهما، وعن الأحاديث بضعفها، قال الحافظ المنذري: ليس فيها شيء يثبت. وينبني على الخلاف إذا قتل القارن صيدا أو أفسد نسكه، فالمنصوص جزاء واحد للصيد، وبدنة للوطء، وخرج جزاآن للصيد، وبدنة وشاة، كما لو فعل ذلك في كل من النسكين. (تنبيه) : لا نزاع في اتحاد الإحرام والحلق، والله أعلم. قال: إلا أن عليه دما، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، يكون آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا رجع إلى أهله. ش: هذا استثناء منقطع، لأن الدم ليس من عمل القارن، فالتقدير: لكن عليه دم. أو التقدير: ليس في عمل القارن، ولا في حكمه زيادة على عمل المفرد، ولا في حكمه، إلا أن عليه دما. وبالجملة وجوب الدم قول الجمهور، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية، وقد تقدم أن القارن يدخل في ذلك. 1763 - ويؤيد ذلك ما «قال سعيد بن المسيب قال: اجتمع علي وعثمان بعسفان، فكان عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة، فقال له

دم التمتع وصيامه

علي: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تنهى الناس عنه. فقال له عثمان: دعنا. قال: إني لا أستطيع أن أدعك. فلما رأى ذلك أهل بهما جميعا» ، متفق عليه، وفي رواية: لما رأى ذلك عليٌّ أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة. ففهم عليٌّ دخول القران في لفظ التمتع، ففعله ليعلم الناس أنه غير منهي عنه. 1764 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بقرة يوم النحر» . رواه مسلم. وقد تقدم أنها كانت قارنة، ولأنه ترفه بأحد السفرين، فلزمه دم كالمتمتع. وإذا لم يجد الهدي صام على الصفة المذكورة كالمتمتع، وسيأتي [ذلك] إن شاء الله تعالى، والله أعلم. [دم التمتع وصيامه] قال: ومن اعتمر في أشهر الحج، فطاف وسعى وحل، ثم أحرم بالحج من عامه، ولم يكن خرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة، فهو متمتع، وعليه دم. ش: وجوب الدم على المتمتع في الجملة إجماع، وقد شهد له الآية الكريمة: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، أي: فعليه، أو فالواجب: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] .

1765 - وفي مسلم وغيره عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كنا نتمتع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرة فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها» . ويشترط لذلك شروط: (أحدها) أن يعتمر في أشهر الحج، فلو اعتمر بها في غير أشهره، لم يكن متمتعا، لأن قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، أي: أوصل ذلك بالحج، وهذا إنما يكون إذا كان في أشهر الحج، والاعتبار عندنا بالشهر الذي أحرم فيه، لا بالشهر الذي حل فيه، فلو أحرم بالعمرة في رمضان، ثم حل في شوال لم يكن متمتعا، نص عليه أحمد في رواية جماعة. 1766 - ويروى ذلك عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعليه اعتمد أحمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (الشرط الثاني) أن يحل من عمرته ثم يحرم بالحج، فلو أدخل الحج على العمرة قبل طوافها صار قارنا، إذ أحد نوعي القران أن يدخل الحج على العمرة.

1767 - كما صنع ابن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عام حجة الحرورية، وقال: هكذا صنع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد تقدم. (الثالث) أن يحج من عامه، لظاهر الآية الكريمة، مع أن هذا كالإجماع. (الرابع) أن لا يخرج من مكة إلى ما تقصر فيه الصلاة، فإن خرج إلى ما تقصر فيه الصلاة لم يكن متمتعا، نص عليه أحمد، إلا أن لفظه: إن خرج من الحرم سفرا تقصر في مثله الصلاة، ثم رجع فحج، فليس بمتمتع. وبينه وبين كلام الخرقي فرق، إذ الخرقي اعتبر الخروج من مكة، وأحمد اعتبر الخروج من الحرم. 1768 - وبالجملة: العمدة في ذلك ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: إذا اعتمر في أشهر الحج فهو متمتع، فإن خرج ورجع فليس بمتمتع. وعن ابنه نحو ذلك، رواه أبو حفص، وهذه الشروط الأربعة لا أعلم فيها خلافا بين الأصحاب. ويشترط أيضا (شرط خامس) : لا نزاع فيه بينهم وهو أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، إلى قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] ، أي: (ذلك)

الحكم - وهو وجوب الدم - (لمن لم يكن أهله) من (حاضري المسجد الحرام) ، أي: ثابت، (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) ، وهذا أجود من جعل اللام بمعنى (على) ، أي: ذلك الواجب على من لم يكن أهله حاضري، كما في قَوْله تَعَالَى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] ، إذ هذا [مجاز] للمقابلة، ومهما أمكن استعمال اللفظ في موضوعه الأصلي فهو أولى، لا يقال: (ذلك) إشارة إلى قوله: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، أي: هذا التمتع، (لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فيخرج المكي، لأنا نقول: قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة: 196] شرط، و {فَمَا اسْتَيْسَرَ} [البقرة: 196] جزاء، و {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ} [البقرة: 196] استثناء، [والاستثناء] يرجع إلى الجزاء دون الشرط، كقول القائل: من دخل داري فأعطه درهما، إلا أن يكون أعجميا. انتهى، وهذا الشرط يعم المتمتع والقارن. (تنبيه) : إلا حاضري المسجد الحرام المقيم بالحرم، سواء كان من أهله أو داخلا إليه، فلو دخل الآفاقي بعمرة

في غير أشهر الحج، ثم أقام بمكة، فاعتمر في أشهر الحج، وحج من عامه فهو متمتع، نص عليه، وبالغ القاضي فقال: في الآفاقي: إذا تجاوز الميقات إلى أن بقي بينه وبين مكة دون مسافة القصر، فلا دم عليه، لأنه من حاضريه. وخالفه أبو محمد، لأن الحضور بالإقامة. انتهى. واختلف في ثلاثة شرائط، (أحدها) : هل يشترط أن لا يحرم من الميقات، فإن أحرم منه فليس بمتمتع؟ وفيه روايتان، أنصهما - وبه جزم أبو البركات - الاشتراط، قال أحمد في رواية يوسف بن موسى، وأحمد بن الحسن: إذا أقام فأنشأ الحج من مكة فهو متمتع، فإن خرج إلى الميقات فأحرم

بالحج فليس بمتمتع، وذلك لأنه لم يترفه بترك أحد الميقاتين، فلم يلزمه الدم، كما لو لم يحج من عامه. (والثانية) : لا يشترط ذلك، إنما المشترط مفارقة الحرم بمسافة القصر، قال أحمد - في رواية حرب في من أحرم بعمرة في أشهر الحج - فهو متمتع إذا أقام حتى يحج، فإن خرج من الحرم سفرا تقصر في مثله الصلاة، ثم رجع فحج فليس بمتمتع، وهذا اختيار القاضي في تعليقه، وبالغ فحمل الأولى على أن بين الميقات وبين مكة مسافة تقصر فيها الصلاة، ولا يعرف أبو محمد غير هذا، نظرا إلى أن القريب في حكم الحاضر، ويظهر أثر هذا الشرط في «قرن» ميقات أهل نجد، فإنه [على] يوم وليلة من مكة، أما ما عداه فإن بينها وبين مكة مسافة القصر فأزيد، فلا حاجة إلى هذا الشرط فيها.: (الثاني) هل تشترط النية في ابتداء العمرة أو أثنائها؟ فيه وجهان، والاشتراط اختيار القاضي وأبي الخطاب، وصاحب التلخيص، وعدمه هو اختيار أبي محمد. (الثالث) هل يشترط أن يكون النسكان عن رجل واحد، فلو كانا عن شخصين فلا تمتع؟ اشترط ذلك صاحب التلخيص، قال: لأنه لا يختلف أصحابنا أنه لا بد للإحرام بالنسك الثاني من

الميقات، إذا كان عن غير الأول، يعني: والإحرام من الميقات يسقط التمتع، ولم يشترط ذلك الشيخان، وأبو محمد يخالف صاحب التلخيص في الأصلين اللذين بني عليهما كما عرفت، أما أبو البركات فيوافقه في الأصل الثاني، فظاهر كلامه مخالفته في الأول، وإذا يزول البناء. (تنبيه) : هذه الشروط كلها للتمتع الموجب للدم، لا للتمتع المطلق كما تقدم التنبيه عليه، والله أعلم. قال: فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، آخرها يوم عرفة، وسبعة إذا رجع. ش: أي إذا لم يجد الدم صام ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة، وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله، لقوله سبحانه: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] ،

ويعتبر الوجدان بالموضع الذي هو فيه، دون بلده، ولا ريب في وجوب الصوم على العادم للهدي في الجملة. والكلام فيه في ثلاثة أشياء؛ في وقت وجوبه، ووقت استحبابه، ووقت جوازه، فأما وقت الوجوب فهو وقت وجوب الهدي، لأنه بدل عنه، قاله القاضي وأبو محمد، وقد سئل أحمد في رواية ابن القاسم: متى يجب صيام المتعة؟ فقال: إذا عقد الإحرام، قال القاضي في التعليق: أي إن عقده سبب للوجوب، لأن الوجوب يتعلق به، وهذا التأويل بعيد، لتصريح السائل بالوجوب، ووقت وجوب الهدي عند القاضي في تعليقه، ومن تابعه - كصاحب التلخيص وغيره - بطلوع فجر يوم النحر، واعتمد القاضي على قول أحمد في رواية المروذي، وقيل له: متى يجب على المتمتع الدم؟ قال: إذا وقف بعرفة. قال القاضي: معناه إذا مضى وقت الوقوف. وأجرى أبو محمد الرواية على ظاهرها، فحكى الرواية أنه يجب بالوقوف، وقال: إنها اختيار القاضي، ولعله في المجرد. وحكى أبو محمد وغيره رواية أخرى أنه يجب بالإحرام بالحج، ولعلهم أخذوه من رواية ابن القاسم التي أولها القاضي، وهي محتملة، إذ الإحرام يحتمل إحرام الحج وإحرام العمرة، ويتلخص على هذا أربعة أقوال، ومدركها - والله أعلم - أن قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ} [البقرة: 196] ، أي: فمن تمتع بالعمرة قاصدا إلى الحج، أو: فمن

تمتع بالعمرة موصلا بها إلى الحج. وذلك إنما يكون بالإحرام بالحج، وهذا أظهر، أو أن الحج إنما يتحقق بالحصول بعرفة، إذ هو الركن الأعظم، وقبل ذلك هو معرض للفوات، أو أن وقت نحر الهدي هو يوم النحر، فلا يجب قبله، لعدم قدرته على الفعل، وعلله القاضي بأن الهدي من جنس ما يحصل به التحلل، فكان وقته بعد وقت الوقوف، كالطواف والحلق، وفي كلا التعليلين نظر. (تنبيه) : على كل الأقوال لا ينحر إلا يوم النحر، على ظاهر إطلاق أحمد في رواية ابن منصور، واختيار الجمهور، والمنصوص عنه في رواية أبي طالب وغيره أنه إن قدم [في] العشر فكذلك، اتباعا لفعل الصحابة، وقبله ينحر حذارا من ضياع الهدي أو تلفه، انتهى. وأما وقت الاستحباب (ففي الثلاثة) يكون آخرها يوم عرفة، كما ذكره الخرقي، ونص عليه أحمد في رواية الأثرم، وأبي طالب، واختاره القاضي في تعليقه، وأبو محمد وغيرهما، فيصوم السابع، والثامن، والتاسع، وفي المجرد: ويكون

آخرها يوم التروية، فيصوم السادس، والسابع، والثامن، حذارا من صوم يوم عرفة، والأولون قالوا: يوم فاضل، فكان أولى بصوم الواجب، وحذارا من تقديم الإحرام، فعلى الأول قال أبو محمد: يقدم الإحرام على يوم التروية، فيحرم يوم السابع، وعلى ما في المجرد يحرم يوم السادس، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، أي: بعد الإحرام بالحج، وخروجا من الخلاف، (وفي السبعة) إذا رجع إلى أهله، للآية الكريمة. 1769 - وفي حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتفق عليه: «فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله» . وأما وقت الجواز (ففي الثلاثة) إذا أحرم بالعمرة، على المختار للأصحاب، إناطة [للحكم] بالسبب، كالتكفير قبل الحنث ونحوه، وقد أشار أحمد إلى هذا، قال: إذا عقد الإحرام فصام، أجزأه إذا كان في أشهر الحج، وهذا قد يدخل على من قال: لا تجزئ الكفارة إلا بعد الحنث، ولعل هذا ينصرف فلا يحج. انتهى. ومن هذا أخذ القاضي هذا الحكم، وقال: قوله: عقد الإحرام. أي إحرام العمرة

قال: لتشبيهه بالكفارة، وإنما يقع التشبيه إذا كان صومه قبل الإحرام بالحج، لأنه وجد أحد السببين، قال: ولأنه قال: إذا عقد الإحرام في أشهر الحج، وهذا إنما يقال في إحرام العمرة، ليوجد شرط التمتع، انتهى. (وعن أحمد رواية ثانية) حكاها أبو محمد: وقت الجواز إذا حل من العمرة. ليتحقق وجود السبب (وحكى بعضهم رواية ثالثة) : يجوز تقديم الصوم على إحرام العمرة، قال أبو محمد: وليست بشيء، لما فيه من تقديم الصوم على سببه ووجوبه، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ينزه عن هذا. انتهى. وكأن هذه الرواية أخذت من قول أحمد في رواية الأثرم في قَوْله تَعَالَى: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] : يجعل آخرها يوم عرفة، ولا يبالي أن يقدم أولها، بعد أن يصومها في أشهر الحج، وإن صامها قبل أن يحرم فجائز، انتهى، فجعل أشهر الحج ظرفا وقال: قبل أن يحرم. وأطلق، والقاضي قال: أراد قبل أن يحرم بالحج. وقد أورد على هذا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] فظاهره أن الصوم إنما يكون بعد أن يصل العمرة بالحج، وذلك إنما يكون بالإحرام بالحج،

وقد أكد سبحانه هذا المعنى بقوله: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] ، جعل الحج ظرفا للصوم، وإنما يكون ذلك بعد الإحرام به (وأجيب) بأن المحرم بالعمرة وهو يريد الحج يصير متمتعا، بدليل لو ساق هديا كان هدي متعة، فإذا معنى الآية الكريمة، والله أعلم: فمن تمتع بالعمرة مريدا إيصالها بالحج، وأما الأمر بالصوم فلا بد فيه من تقدير، إذ نفس الحج لا يصام فيه، فالخصم يقدر: في إحرام الحج. ونحن نقدر: في وقت الحج. وهو أولى، لأن الوقت ظرف للفعل حقيقة، والإحرام ليس بظرف له حقيقة، مع أنا نقول بموجب تقدير الخصم، والآية إذا إنما دلت على الوجوب حالة الإحرام بالحج، ونحن نلتزمه. قال أحمد في رواية ابن القاسم وسندي - وسئل عن صيام المتعة: متى يجب؟ قال -: إذا عقد الإحرام. والكلام هنا في الجواز. انتهى. ووقت الجواز في السبعة بعد الفراغ من الحج، هذا قول القاضي، وحكى أبو محمد: بعد أيام التشريق. وهما

متقاربان، وقد قال أحمد في رواية أبي طالب: إن قدر على الهدي، وإلا يصوم بعد الأيام، قيل له: بمكة أم في الطريق؟ قال: كيف شاء. ومراده بالأيام - والله أعلم: أيام التشريق، وذلك لأنه متمتع صام بعد الفراغ من النسك، في وقت يصح فيه الصوم، فوجب أن يجزئه إذا لم يكن معه هدي، كما لو رجع إلى وطنه. وأما قَوْله تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، فيحتمل: إذا رجعتم من الحج. أي: رجعتم إلى ما كنتم عليه من الحل، وعلى هذا فحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السابق بين الاستحباب، والآية بينت الجواز، ويحتمل أن المراد بالرجوع في الآية الرجوع إلى الأهل كالحديث، ولا ينافي ذلك مدعانا، لأن معنى الآية إذا: وسبعة في وقت رجوعكم إلى أهليكم، وبالفراغ من الحج غالبا يشرع في الرجوع إلى الأهل فيجوز الصوم، ولو سلم أن المراد بالرجوع إلى الأهل الحصول في الأهل فذلك رخصة من الشارع، تخفيفا على المكلف ورفقا به، ولا إشكال في مطلوبية ذلك، ويجوز معه الأخذ بالعزيمة والفعل وقت الوجوب. (تنبيه) : هنا سؤالات (أحدها) كيف جاز تقديم الصوم قبل وجوبه؟ وجوابه أنه كتقديم الزكاة والكفارة ونحوهما،

مما يقدم بعد سببه، وقبل وجوبه. (ثانيها) أن الصوم بدل عن الهدي ولا ينتقل إلى البدل إلا عند العجز عن المبدل، ولا يتحقق العجز إلا في وقت الوجوب ووقت الوجوب عندهم على المشهور يوم النحر؟ وجوابه أنا اكتفينا بالعجز الظاهر، إذ الأصل استمراره. (وثالثها) أن وقت الوجوب على زعمهم يدخل بيوم النحر، ولا يجوز الصوم إذا، بل ولا يصح، وإذا فعله بعد، فعله قضاء كما صرح به القاضي وغيره، فهذا واجب ليس له وقت أداء أصلا، وإنما يفعل قبل وقته على سبيل التعجيل، وأبلغ من هذا أنه لو لم يعجل وأخر إلى وقت الوجوب وجب عليه دم على رواية، ولا يعرف لهذا نظير إلا أن يقال: الحائض يتعلق بها وجوب الصوم، ولا يتصور في حقها، وكذلك من أدرك من الوقت قدر تكبيرة، لأنا نقول ثم: الفعل له وقت إذا في الجملة، وإن تعذر في فرد. ولو قيل: إن الوجوب بالإحرام بالحج، كما هو ظاهر كلام أحمد، بل ليس في كلامه ما يدل على خلافه، لسلمنا من هذه الإيرادات أو غالبها، والله أعلم.

قال: فإن لم يصم قبل يوم النحر صام أيام منى، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والرواية الأخرى: لا يصوم أيام منى، ويصوم بعد ذلك عشرة أيام، وعليه دم. ش: أيام منى أيام التشريق، وقد تقدم كلام الخرقي في أنه هل يصومها عن الفرض أو لا؟ وتقدم الكلام عليه، فلا حاجة إلى إعادته. لكن هنا شيء آخر، وهو أنه إذا أخر صوم الثلاثة عن يوم النحر، وعن أيام منى، لمنعه من الصوم فيها أو مطلقا، فإنه يقضيها فيما بعد، لأنه واجب، فلا يسقط [بخروج] وقته، كصوم رمضان، وبناء على أصلنا، وهو أن القضاء بالأمر الأول لا بأمر جديد. (وهل عليه دم) والحال هذه؟ فيه ثلاث روايات (إحداها) نعم، اختارها الخرقي، ونص عليها أحمد. 1770 - معتمدا على [أن] هذا قول ابن عباس ولأنه أخر واجبا من مناسك الحج عن وقته، فلزمه دم [كرمي الجمار] (والثانية) لا دم عليه، وهي التي نص عليها القاضي في تعليقه، ونص عليها أحمد في الهدي إذا أخره، وذلك لأنه أخره إلى وقت

جواز فعله، فلم يجب به دم، كما لو أخر الوقوف إلى الليل ونحوه، (والثالثة) يجب الدم إلا مع العذر، حملا عليه، نص عليها أحمد في الهدي أيضا إذا أخره، ويحكى هذا عن القاضي في المجرد، وصرح في التعليق بأن المذهب عدم التفرقة، وقد علمت أن المنصوص في الصوم وجوب الدم، وفي الهدي عدم الوجوب، والوجوب مع انتفاء العذر، فحصل من المجموع ثلاث روايات في المسألتين. والخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، خص وجوب الدم بما بعد أيام منى، فمقتضاه أنه لو صام أيام منى لا دم عليه، ويقرب منه كلام القاضي، قال: إذا لم يصم قبل يوم النحر صامها قضاء، وهل عليه دم لتأخيرها عن أيام الحج؟ انتهى، وأيام منى هي أيام الحج، والله أعلم. قال: ومن دخل في الصوم ثم قدر على الهدي، لم يكن عليه أن يخرج من الصوم إلى الهدي إلا أن يشاء. ش: لأنه تلبس بالصوم، فلم يلزمه الانتقال إلى الهدي، كما إذا دخل في صوم السبعة فإنه اتفاق، ودعوى الخصم بأن الهدي بدل عن الثلاثة لا السبعة، فإذا وجد الهدي في الثلاثة بطل حكمها، للقدرة على المبدل، لا نسلم، بل نقول: الهدي بدل عن الجميع وهو ظاهر الآية الكريمة:

{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] ، [والمعطوف والمعطوف عليه في حكم الشيء الواحد، ويرجح هذا قوله سبحانه] : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] . ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا قدر على الهدي قبل الشروع في الصوم أنه يلزمه الانتقال إليه، وهو إحدى الروايتين، ومبنى الخلاف على ما قال في التلخيص: هل الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب، أو بأغلظ الأحوال؟ فيه روايتان مشهورتان، تأتيان إن شاء الله تعالى في محلهما، والله أعلم. قال: والمرأة إذا دخلت متمتعة فحاضت، وخشيت فوات الحج أهلت بالحج، وكانت قارنة. ش: إذا دخلت المرأة متمتعة وحاضت ولم تطف، فإنها ممنوعة من الطواف كما تقدم، ولا يمكن أن تحل من عمرتها إلا به، فحينئذ إن خشيت فوات الحج، بأن كان ذلك قريب وقت الوقوف، وخشيت أنها إن بقيت في عمرتها فاتها الحج، فإنها تحرم بالحج، وتصير قارنة، لتأمن بذلك الفوات، إذ إدخال الحج على العمرة مع الأمن جائز، فكيف مع عدمه.

1771 - وقد وقع هذا «لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، موافين هلال ذي الحجة، فلما كان بذي الحليفة قال: «من شاء أن يهل بحجة فليهل، ومن شاء أن يهل بعمرة فليهل، وإني لولا أني أهديت لأهللت بعمرة» . قالت: فكنت فيمن أهل بعمرة، فلما كان في بعض الطريق حضت، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقال: «ما يبكيك؟» . قلت: وددت أني لم أكن خرجت العام. فقال: «ارفضي عمرتك، وانقضي رأسك، وامتشطي، وأهلي بالحج» . فلما كان ليلة الصدر أمر - تعني: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن فذهب بها إلى التنعيم، فأهلت بعمرة مكان عمرتها، فطافت بالبيت، رواه الشيخان وغيرهما بألفاظ مختلفة. 1772 - ولمسلم في رواية: قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» . 1773 - ولأبي داود: قال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طوافك بالبيت، وبين الصفا والمروة، يكفيك لحجك وعمرتك» . وإنما يسعها أو يكفيها طوافها لحجها وعمرتها إذا حصلا لها. 1774 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديث له قال: «وأقبلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مهلة بعمرة، حتى إذا كانت بسرف عركت. وذكر

الحديث إلى أن قال: ثم دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فوجدها تبكي، فقال: «ما شأنك؟» . قالت: شأني أني قد حضت، وقد أحل الناس ولم أحل، ولم أطف بالبيت، والناس يذهبون إلى الحج الآن، قال: «إن هذا أمر كتبه الله على بنات آدم، فاغتسلي ثم أهلي بالحج» . ففعلت ووقفت المواقف كلها، حتى إذا طهرت طافت بالبيت، وبالصفا والمروة، ثم قال: «قد حللت من حجك وعمرتك جميعا» . قالت: يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حين حججت، قال: «فاذهب بها يا عبد الرحمن فأعمرها من التنعيم» . وذلك ليلة الحصبة» ، رواه مسلم، والنسائي، وأبو داود وهذا لفظه. وهو صريح في حصول النسكين لها كما قلناه. (وقد اعترض) على حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأنها إنما كانت مفردة. 1775 - بدليل أن في رواية في الصحيح قالت: «فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا أبكي، فقال: «ما يبكيك يا هنتاه؟» . فقلت: سمعت قولك لأصحابك، فمنعت العمرة، قال: «وما شأنك؟» . قلت: لا أصلي. قال: «فلا يضرك، إنما أنت امرأة من بنات آدم، كتب عليك ما كتب عليهن، فكوني في حجك، فعسى الله أن يرزقكيها» . وفي رواية: «خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا نذكر إلا الحج، [حتى جئنا سرف] فطمثت.

وذكرت القصة، وفيها: قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلي ما يفعل الحاج، غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري» . 1776 - وأيضا ففي لفظ لمسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «فقضى الله حجتنا وعمرتنا، ولم يكن في ذلك هدي، ولا صدقة، ولا صوم» . والقارن على قول العامة لا يخلو من أحدها. (ويجاب) بأنها قد أخبرت عن نفسها كما سبق بأنها كانت ممن أهل بعمرة. 1777 - وكذلك أخبر عنها جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكذلك قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارفضي العمرة» . ونحو ذلك، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» . يدل على أنها كانت معتمرة، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «افعلي ما يفعل الحاج» . أي: أنشئ ما ينشئ الحاج من الإهلال به والاغتسال [له، كما جاء مصرحا به، «وأهلي بالحج» . وكذلك يحمل «فكوني في حجك» . أي ادخلي في الحج] ونحو ذلك، إذ هذا ونحوه مما نقل بالمعنى قطعا، فإن الواقعة واحدة، واللفظ واحد، وأما قولها: ولم يكن في ذلك هدي، ولا صدقة، ولا صوم. [فهو نفي،

وقد جاء في مسلم من رواية جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «نحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عائشة بقرة. يوم النحر» . والمثبت مقدم على النافي، ويحتمل أن تريد: لم يكن في ذلك علي هدي، ولا صوم، ولا صدقة] ويكون الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحمل عنها ذلك، وهو يعلم رضاها بذلك، فلا يحتاج إلى أذنها في التكفير. والنعمان - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: آل أمرها إلى الإفراد، ويوافق [على] أن إحرامها كان بعمرة، ثم لما حاضت أمرها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بترك العمرة، ثم بالإهلال بالحج. 1778 - مستدلا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها: «ارفضي العمرة، وانقضي رأسك وامتشطي» . وفي رواية: «اتركي العمرة» . وفي رواية «دعي العمرة» . وهذه الألفاظ كلها في الصحيح والسنن. 1779 - ويرشح هذا ما في الحديث: فأهلت بعمرة مكان عمرتها، وفي رواية: «أرسلني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مع عبد الرحمن بن أبي بكر إلى التنعيم، فاعتمرت، فقال: «هذه مكان عمرتك» . وفي رواية: «قالت يا رسول الله أترجع صواحبي بحج وعمرة، وأرجع أنا بحج؟ فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد الرحمن بن أبي بكر فذهب

بها إلى التنعيم، فلبت بالعمرة» . وقد أجيب عن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها: «انقضي رأسك، وامتشطي» . أن ذلك [يجوز أن] يكون لعذر، كما جوز لكعب بن عجرة الحلق، مع أن المحرم يجوز له نقض الشعر، والامتشاط غايته أن يكون برفق، حذارا من نتف الشعر، وإنما قال ذلك الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - هنا لأجل اغتسالها للحج، وأما قوله: «ارفضي العمرة» . ونحو ذلك فحمله الإمام الشافعي وغيره على ترك أفعال العمرة، لا على ترك العمرة رأسا، ليوافق قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يسعك طوافك لحجك وعمرتك» . وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قد حللت من حجك وعمرتك» . وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في رواية أبي طالب: إنما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: «أمسكي عن عمرتك، وامتشطي وأهلي بالحج» . وقال في رواية الميموني وذكر له عن أبي معاوية يرويه: «انقضي عمرتك» . فقال: غير واحد يرويه: «أمسكي عن عمرتك» . أيش معنى: انقضي، هو شيء تنقضه، هو ثوب تلقيه؟ وعجب من أبي معاوية.

وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذه مكان عمرتك» . [أي: مكان عمرتك] التي أحرمت بها مفردة، وقولها: أترجع صواحبي بحج وعمرة. إلى آخره أي بحج، وعمرة مفردة عن الحج، وأرجع بحج اندرجت فيه العمرة، وأما إعمارها من التنعيم فتطييب لقلبها، كذا قال الإمام أحمد وغيره، ويشهد له حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم، انتهى. وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه يلزمها إدخال الحج والحال هذه، وكذلك كل من خشي فوات الحج، حذارا من تفويت الحج الواجب على الفور. (تنبيه) : «هنتاه» ، كناية عن البله، وقلة المعرفة بالأمور. «وليلة الصدر» ، و «ليلة الحصبة» ، «وليلة البطحاء» ، كل ذلك واحد، وهو نزوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمحصب ليلة النفر الآخر، والمحصب والأبطح، والمعرس وخيف بني كنانة واحد، وهو بطحاء مكة [وهو بين مكة] ومنى. و «سرف» ، على فرسخين من مكة، وقيل: على أربعة أميال. و «عركت» ، بفتح العين والراء، أي: حاضت، والعارك: الحائض، وكذلك «طمثت» ، حاضت، والله أعلم.

قال: ولم يكن عليها قضاء طواف القدوم. ش: أي إذا طهرت، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بقضائه، وهذا مما يورد على المتمتع في قضائه طواف القدوم، ويجاب عنه بأنه هنا سقط عنها لمكان العذر، كما يسقط طواف الوداع عن الحائض، أما ثم فلا عذر، والله أعلم. قال: ومن وطئ قبل أن يرمي جمرة العقبة فقد أبطل حجهما. ش: قد تقدمت هذه المسألة في قوله: فإن وطئ محرم في الفرج. إلا أنه ثم فصل بين أن يطأ في الفرج أو دونه، وبين هنا أن شرط بطلان الحج أن يكون قبل رمي جمرة العقبة، أما إن كان بعد رمي الجمرة فإن النسك لا يبطل، لما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: وعليه دم إن كان استكرهها، ولا دم عليها. ش: تقدمت هذه المسألة أيضا، وأن الدم بدنة، وأنها إذا طاوعته فعلى كل واحد منهما [بدنه] . والله أعلم. قال: وإن وطئ بعد رمي جمرة العقبة فعليه دم. ش: وإذا كان الوطء بعد التحلل الأول - كما إذا رمى جمرة العقبة - فإن النسك لا يفسد. 1780 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن رجل وقع

بأهله وهو بمنى، قبل أن يفيض، فأمره أن ينحر بدنة، وفي رواية عن عكرمة قال: لا أظنه إلا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: الذي يصيب أهله قبل أن يفيض يعتمر ويهدي. رواه مالك في الموطأ. 1781 - ولعموم: «الحج عرفة، من صلى صلاتنا، ووقف معنا، حتى ندفع، وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة في ليل أو نهار، فقد تم حجه، وقضى تفثه» . وقد تقدم ذلك. ويلزمه دم، وهل هو بدنة، كما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أو شاة، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، كالوطء دون الفرج إذا لم ينزل، والجامع عدم البطلان بهما؟ فيه روايتان، والله أعلم. قال: ويمضي إلى التنعيم فيحرم، ليطوف وهو محرم [وكذلك المرأة] . ش: قد تقرر أن الحج لا يبطل بالوطء بعد رمي جمرة العقبة، وإذا لم يبطل فما بقي من الإحرام يبطل، لحصول

الوطء فيه، وإذا يلزمه أن يحرم، ليأتي بطواف الركن في إحرام صحيح، ويحرم من الحل، ليجمع في الإحرام بين الحل والحرم، وأقرب الحل إلى مكة التنعيم، فلذلك ذكره الخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وظاهر كلام الخرقي وجماعة أنه إذا أحرم أتى بالطواف، وإن كان لم يسع أتى بالسعي، على ما تقدم، ثم قد حل، لأن هذا هو الذي بقي عليه من حجه، قال أبو محمد: والمنصوص عن أحمد أنه يعتمر، قال: فيحتمل أنه يريد هذا، وهو يسمى عمرة، لأنه هو أفعال العمرة، ويحتمل أنه يريد عمرة حقيقية، فيلزمه سعي وتقصير. وظاهر كلامه أيضا أن الوطء بعد رمي جمرة العقبة لا يفسد، وإن كان قبل الحلق وظاهر كلام جماعة أنه إذا أوقفنا الحل عليه فسد النسك به، لأنهم ينيطون الحكم بالحل الأول.

والخرقي ظاهر كلامه أنه متوقف على الحلق، وقرر أبو محمد الأول على ظاهره، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد وغيره من الأئمة. (تنبيهان) : «أحدهما» . إذا وطئ بعد الطواف وقبل الرمي فظاهر كلام جماعة أنه كالأول، لإناطتهم الحكم بالوطء بعد التحلل الأول، ولأبي محمد في موضع في لزوم الدم - والحال هذه احتمالان، وله في موضع القطع بلزوم الدم متابعة للأصحاب. «الثاني» . لم يتعرض الخرقي لحكم الوطء في العمرة، والحكم أنه يجب بالوطء فيها شاة، وهل تفسد؟ إن كان قبل السعي فسدت، وإن كان بعده وجب دم ولم تفسد، نص عليه أحمد، وقاله الشيخان، ومقتضى كلامهما وإن قلنا: الحلق نسك، بل هو صريح كلام أبي محمد، وبني [ذلك] صاحب التلخيص على الحلق، إن قيل: إطلاق محظور فكذلك، وإن قيل: نسك فسدت، والله أعلم. قال: ومباح لأهل السقاية والرعاء أن يرموا بالليل. ش: تخفيفا، ودفعا للحرج والمشقة عنهما، إذ أهل السقاية مشتغلون بالسقي [نهارا] ، وكذلك الرعاة مشتغلون بالرعي [كذلك] فعلى هذا يرمون كل يوم في الليلة التي تعقبه، فجمرة العقبة في ليلة اليوم الأول من أيام التشريق، ورمي اليوم الأول في ليلة الثاني، ورمي الثاني في ليلة الثالث، والثالث

إذا أخروه إلى الغروب سقط عنهم، كسقوطه عن غيرهم. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يباح الرمي في الليل لغير الصنفين، وهو ظاهر كلام أحمد، قال في رواية ابن منصور - وقد سئل عن الرمي في الليل إذا فاته فقال: - أما الرعاء فقد رخص لهم، وأما غيرهم فلا يرمون إلا بالنهار من الغد إذا زالت الشمس يرمي رميين، وكذلك صرح صاحب التلخيص بأن آخر الوقت غروب الشمس، والليل على هذا كقبل الزوال. (تنبيه) : «أهل السقاية» : هم الذين يسقون على زمزم. «والرعاة» : بضم الراء، وبهاء في آخره، وبكسر الراء ممدودا بلا هاء، لغتان مشهورتان، والثانية لغة الكتاب والسنة، والله أعلم. قال: ومباح للرعاء أن يؤخروا الرمي، فيقضوه في اليوم الثاني، والله أعلم. ش: الرعاء يشق عليهم المبيت، ليرموا في كل يوم، فلذلك رخص لهم في ترك رمي يوم، ليرموه في الذي بعده. 1782 - وقد روى أبو البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص للرعاء أن يرموا يوما، ويدعوا يوما» ، رواه أبو

داود، والنسائي والترمذي وصححه، وفي رواية: «أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يجمعون رمي يومين بعد يوم النحر، فيرمونه في آخرهما» ، قال مالك: ظننت أنه قال: في الأول منهما، ثم يرمون يوم النفر. وقد تضمن هذا الكلام أن للرعاء ترك المبيت بمنى، وكذلك الحكم في أهل السقاية، إلا أن الخرقي لم يتعد هذا الحديث، وقد تقدم أن العباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيت بمكة ليالي منى، من أجل سقايته فأذن له. إلا أن بين الرعاء وأهل السقاية فرقا، وذلك أن الرعاء متى غربت الشمس وهم بمنى لزمهم المبيت، بخلاف أهل السقاية. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يباح تأخير الرمي من يوم إلى آخر لغير من تقدم، ولعل مراده نفي الإباحة الاصطلاحية، وهو ما استوى طرفاه، لا الإباحة التي هي بمعنى الإذن في الفعل، ومراده بالإباحة في التأخير إلى الليل الإذن في الفعل، والذي ألجأ إلى هذا أن ظاهر كلام الأصحاب أنه يجوز تأخير الرمي كله إلى آخر أيام التشريق، ولا يجوز مجاوزة أيام

باب الفدية وجزية الصيد

التشريق، قال أبو محمد، وصاحب التلخيص: إذا أخر إلى آخر أيام منى [ترك السنة ولا شيء عليه، وقال أبو البركات: إذا أتى بالرمي كله في آخر أيام منى] جاز، وأصرح من هذا كلام القاضي في التعليق قال: أيام التشريق كلها بمنزلة اليوم [الواحد، واعتمد على نص أحمد المتقدم في رواية ابن منصور]- ثم قال بعد - لما قيل له: إن التأخير لليوم الثاني منهي عنه. قال -: لا نسلم، بل جميع الثلاثة وقت للرمي، إذًا لا قضاء وإنما يكون تاركا للفضيلة، انتهى. وقوة كلام الخرقي يقتضي المنع من ذلك، وهو ظاهر الحديث، وكلام أحمد - في [غير] رواية - إنما يدل على أن اليوم الثاني [والثالث] يرمي فيه، ولا دم عليه، وليس فيه - فيما رأيت - تصريح بجواز التأخير. (تنبيه) : وحيث أخر فرمى في اليوم الثاني أو الثالث فإنه لا بد من ترتيب ذلك بالنية، والله أعلم. [باب الفدية وجزية الصيد] قال: ومن حلق أربع شعرات فصاعدا، عامدا أو مخطئا، فعليه صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين، أو ذبح شاة، أي ذلك فعل أجزأه.

ش: لا نزاع في وجوب الفدية بحلق الرأس في الجملة، وقد شهد لذلك [نص] الكتاب، قال سبحانه: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] ، أي: فحلق فعليه فدية، أو فالواجب فدية. 1783 - ونص السنة، وهو ما روي عن كعب بن عجرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر به زمن الحديبية، فقال: «قد آذاك هوام رأسك؟» . قال: نعم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «احلق، ثم اذبح شاة نسكا، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ثلاثة آصع من تمر، على ستة مساكين» . رواه الشيخان وغيرهما، وفي أبي داود قال: «أصابني هوام في رأسي، وأنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الحديبية، حتى تخوفت على بصري، فأنزل الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} [البقرة: 196] الآية. فدعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال لي: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين فرقا من زبيب، أو انسك شاة» . فحلقت رأسي ثم نسكت» . واختلفت الرواية عن أحمد في القدر الذي يتعلق به الفدية، (فعنه) - وهو اختيار القاضي وأصحابه وغيرهم - تجب في ثلاث فصاعدا، إذ بذلك يسمى حالقا، فيدخل تحت قوله

تعالى: {فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] ، إذ التقدير: فحلق، (وعنه) - وهو الأشهر عنه، واختيار الخرقي - لا يجب إلا في أربع فصاعدا، إذ الثلاثة آخر حد القلة، وما زاد عليه كثير، فيتعلق الحكم به دون القليل، (وعنه) - وهو أضعفها، واختيار أبي بكر - لا يتعلق إلا بخمس فصاعدا، (وزوال الشعر) بنورة أو غيره كحلقه، إناطة بالترفه، وإنما ذكر الخرقي الحلق إناطة بالغالب. وقد دخل في كلام الخرقي شعر الرأس والبدن، ولا إشكال في تعلق الفدية عندنا بشعر البدن، لحصول الترفه به، ثم هل هو مع شعر الرأس كالشيء الواحد، فلو حلق منه شعرتين، ومن شعر الرأس شعرتين وجبت الفدية، ولو حلق منه أربع شعرات، ومن شعر الرأس أربع شعرات لم يجب إلا فدية واحدة، لأن الشعر كله جنس واحد، أو لكل واحد منهما حكم منفرد، لحصول التحلل بأحدهما دون الآخر، فلا تكمل الفدية في الصورة الأولى، وتجب في الصورة الثانية فديتان؟ فيه روايتان منصوصتان، الأولى اختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، والثانية اختيار القاضي في التعليق وفي غيره، وابن عقيل. ولا فرق في زوال الشعر بين من له عذر وهو الذي ورد فيه

النص، ومن لا عذر له، ولا بين العامد والناسي ونحوه، على المنصوص، والمعمول به في المذهب، إذ غاية الناسي ونحوه أنه معذور، وقد وجبت [الكفارة بالنص على المعذور، والفقه] في ذلك أنه إتلاف لا يمكن تداركه، بخلاف اللباس ونحو. ونص أحمد، - رَحِمَهُ اللَّهُ -، في الصيد أنه لا كفارة إلا في العمد، فخرج القاضي ومن بعده منه هنا قولا أنه لا يجب إلا في العمد، تعلقا بظاهر آية الصيد، وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ، الحديث. والفدية واحد من ثلاثة أشياء، الصوم، والصدقة، والنسك، كما نص الله عليها، وبينها من له البيان بأنها صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة، ويجزئ فيها ما يجزئ في الفطرة، وغالب الروايات وردت بالتمر، ولذلك اقتصر عليه الخرقي، وورد أيضا الزبيب، كما تقدم، وفي رواية في الصحيح: «نصف صاع طعام لكل

مسكين» . وهو يشمل البر والشعير، ولا نزاع في وجوب نصف صاع من التمر، والزبيب، والشعير، وأما من البر فروايتان (إحداهما) كذلك، لظاهر: «نصف صاع طعام» . و (الثانية) وهي أشهرهما - يجزئ مد بر كما في كفارة اليمين وغيرها، ويخير بين الثلاثة مع العذر بلا ريب للنص. 1784 - وفي رواية أبي داود أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إن شئت فانسك نسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين» . ومع عدمه فيه روايتان (إحداهما) - وهي ظاهر كلام الخرقي، وإليها ميل أبي محمد - أنه كذلك، لأن الحكم يثبت فيه بطريق التنبيه، والفرع لا يخالف أصله. (والثانية) يتعين الدم، وبها جزم ابن أبي موسى، والقاضي في جامعه وفي تعليقه، ونص عليها أحمد، ولفظه: لا ينبغي أن يكون مخيرا، لأن الله سبحانه خير الحالق لوجود الأذى، فإذا عدم الأذى عدم التخيير، ووجوب الدم مع عدم العذر للجناية على الإحرام، لا بالقياس على المعذور، والله أعلم. قال: وفي كل شعرة من الثلاث مد من الطعام.

ش: لما كان الثلاث عند الخرقي هي حد القلة، ووجوب الفدية منوط بما زاد عليها، جعل في كل واحدة من الثلاث مدا من طعام، وعلى المذهب تجب الفدية في الثلاث، فيجب في الشعرتين مدان، وعلى الرواية الضعيفة لا تجب الفدية إلا في خمس، فيجب المد في كل واحدة من الأربع وبالجملة وجوب المد في الشعرة هو المشهور من الروايات، والمختار لعامة الأصحاب؛ الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، غيرهم، نظرا إلى أن هذا لا مقدر فيه، والمد أقل ما وجب في الشرع فدية، فوجب الرجوع إليه، ولا ينتقص منه، إذ لا ضابط لذلك، ولا يزاد عليه إذ الأصل براءة الذمة. فإن قيل: فلا يجب شيء نظرا للأصل؟ قيل: ما ضمنت جملته ضمنت أبعاضه كالصيد (والثانية) يجب في كل شعرة قبضة من طعام، لأنه حصل نوع تكفير، والنص عن أحمد الذي فيه هذه الرواية أن في الشعرة والشعرتين قبضة. (والثالثة) يجب في كل شعرة درهم، أو نصف درهم، خرجها القاضي ومن بعده من ليالي منى، ويلزم على ذلك أن يخرج أن لا شيء، وأن يجب كما حكي ذلك في ليالي منى. وفي بعض الشعرة ما في كلها على الأشهر، وقيل: يجب بالقسط، والله أعلم.

قال: وكذلك الأظفار. ش: الحكم في الأظفار كالحكم في الشعر سواء، في جميع ما تقدم، والجامع حصول الترفه بكل منهما، والله أعلم. قال: وإن تطيب المحرم عامدا، غسل الطيب، وعليه دم. ش: أما غسل الطيب فلا ريب فيه، إذ كل من فعل محظورا فإنه يجب عليه تركه، والرجوع إلى أمر ربه. 1785 - وقد ورد في غير هذا عن صفوان بن يعلى بن أمية، عن أبيه «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو بالجعرانة وعليه أثر خلوق، أو قال صفرة، وعليه جبة، فقال: يا رسول الله، كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله سبحانه على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الوحي، فلما سري عنه قال: «أين السائل عن العمرة؟» قال: «اغسل عنك أثر الخلوق - أو قال - أثر الصفرة - واخلع الجبة عنك، واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» . متفق عليه. وأما وجوب الدم فلا نزاع فيه، لأنه ترفه بما منع منه، فوجبت الفدية، كحلق الرأس، وكلام الخرقي يشمل القليل والكثير، وهو كذلك، وقول الخرقي: عليه دم. فيه تجوز، إذ لا يتعين الدم. بل الواجب فدية كفدية حلق الرأس كما

تقدم، وقوله: عامدا. يحترز به عن الناسي، وسيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: وكذلك إن لبس المخيط، أو الخف عامدا وهو يجد النعل، خلع وعليه دم. ش: لا نزاع أيضا في وجوب الفدية بلبس المخيط، وتغطية الرأس، ولبس الخف، بالقياس على حلق الرأس. (تنبيه) : إذا جمع الجميع، فلبس وغطى رأسه، ولبس الخف، لم تجب إلا فدية واحدة، لأن الجميع جنس واحد. وقول الخرقي: وهو يجد النعل، احترازا مما إذا عدمه، فإنه يلبس الخف ولا شيء عليه، والله أعلم. قال: وإن تطيب أو لبس ناسيا فلا فدية عليه. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أبي محمد، والقاضي في روايتيه، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» ، الحديث. ويلتزم العموم في المضمرات ولحديث يعلى بن أمية السابق، إذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يذكر له فدية، ولو وجبت لذكرها، إذ هو سائل عن حالة، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنه لا يجوز، ولا يلزم الحلق، والتقليم، وقتل الصيد، لتعذر تلافيها، بخلاف ما نحن فيه (والثانية) - واختارها القاضي في تعليقه - تجب الفدية،

لأنه معنى يحظره الإحرام، فاستوى عمده وسهوه، كالحلق [وقلم الظفر] ، واعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أن الله أوجب الكفارة في قتل الخطأ، مع انتفاء القصد، فكذلك هنا، ومنع القاضي العموم في المضمرات، وجعل التقدير: رفع المأثم. وأجاب عن حديث يعلى بأن ذلك قبل تحريم الطيب، بدليل انتظاره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للوحي، قال: ولا أثر للتفرقة بالتلافي وعدمه، لأن الفدية تجب لما مضى، وذلك مما لا يمكن تلافيه، انتهى. وحكم الجاهل بالتحريم حكم الناسي، قاله غير واحد من الأصحاب، وكذلك المكره قاله أبو محمد، والله أعلم. قال: ويخلع اللباس، ويغسل الطيب. ش: لما تقدم من الحديث، والله أعلم. قال: ويفزع إلى التلبية. ش: أي يسرع إليها استذكارا للحج أنه نسيه، واستشعارا بإقامته [عليه] ، والله أعلم. قال: ولو وقف بعرفة نهارا، ودفع قبل الإمام فعليه دم. ش: أما وجوب الدم بما إذا وقف نهارا - أي: ولم يقف إلى الليل - فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف إلى الليل، وقال: «خذوا [عني] مناسككم» . 1786 - وقد قال ابن عباس: من ترك نسكا فعليه دم. والواجب على من وقف نهارا أن يجمع في وقوفه بين الليل والنهار، لا أن يستمر الوقوف إلى الليل، فلو دفع قبل الغروب [ثم عاد قبل الغروب] ، فوقف إليه فلا شيء عليه، ولو لم يواف عرفة إلا ليلا

فلا شيء عليه. وأما وجوب الدم فيما إذا دفع قبل الإمام فاقتداء بأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنهم لم يدفعوا إلا بعده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذه إحدى الروايتين. (والثانية) - وهي اختيار جمهور الأصحاب - لا دم عليه، ولا يجب الوقوف حتى يدفع مع الإمام، بل يستحب، إذ لم يثبت أن ذلك نسك، حتى يدخل تحت قوله: «خذوا عني مناسككم» . وفي بعض النسخ: ولو وقف بعرفة نهارا، ودفع قبل الإمام. فلا يستفاد منه إلا مسألة واحدة، وهي الدفع قبل الإمام، ويكون وجوب الدم مشروطا بمن وقف نهارا، وأظنها أشهر، ولا يحتاج معها إلى تقدير، ولكن الأولى عليها شرح أبو محمد، والله أعلم. قال: ومن دفع من مزدلفة قبل نصف الليل - من غير الرعاء وأهل سقاية الحاج - فعليه دم. ش: المبيت بمزدلفة ليلتها واجب في الجملة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه باتوا بها، وقال: «خذوا عني مناسككم» . ويجب بتركه دم، نص عليه، لما تقدم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وكبقية الواجبات، وقيل عنه: لا دم عليه. ولا عمل عليه. والواجب أن لا يدفع قبل نصف الليل، ولو دفع بعده جاز، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم ضعفة أهله بعد نصف الليل.

1787 - «وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنا ممن قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليلة المزدلفة في ضعفة أهله» . أخرجه الجماعة. 1788 - وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أرسل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأم سلمة ليلة النحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. تعني عندها» ، رواه أبو داود وغيره. 1789 - وعن أم حبيبة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث بها من جمع بليل، وفي رواية قالت أم حبيبة: كنا نفعله على عهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نغلس من جمع إلى منى» . رواه النسائي. واستثنى الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الرعاء، وأهل السقاية، فلم يجعل عليهم مبيتا، لأن بهم حاجة إلى حفظ مواشيهم، وسقي الحاج، فلذلك رخص لهم، بخلاف غيرهم، ولم أر من صرح باستثنائهما إلا أبا محمد، حيث شرح كلام الخرقي، والله أعلم. قال: ومن قتل، وهو محرم، من صيد البر عامدا أو

مخطئا، فداه بنظيره من النعم، إن كان المقتول دابة. ش: وجوب الجزاء بقتل صيد البر على المحرم إجماع في الجملة، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، الآية. ويستثنى من ذلك ثلاثة أشياء (أحدها) إذا صال الصيد عليه، ولم يقدر على دفعه إلا بقتله، فإنه يباح له قتله ولا جزاء عليه، لأنه قد التحق بالمؤذيات طبعا، مع أنه المتعدي على نفسه، وعن أبي بكر فيه الجزاء، نظرا إلى أن قتله لحاجة [نفسه] أشبه قتله لحاجة الأكل. (الثاني) إذا خلص الصيد من سبع، أو شبكة، ونحو ذلك، فأفضى ذلك إلى قتله، فلا ضمان فيه، نظرا إلى أنه فعل مباح مطلوب، أشبه مداواة الولي [لموليه] ونحوه، وقيل: عليه الضمان، إذ غايته أنه لم يقصد قتله، [فهو] كالخاطئ. (الثالث) إذا قتله في مخمصة، فعن أبي بكر: لا ضمان عليه، إناطة بإباحة قتله، والمذهب المجزوم به عند الشيخين وغيرهما وجوب الضمان، لعموم الآية، ولأن إتلافه لمحض نفع نفسه،

من غير تعد من الصيد، أشبه حلق الشعر لأذى برأسه. انتهى. والصيد [الذي يتعلق به الجزاء ما كان وحشيا، مأكولا، ليس بمائي، فيخرج بالوصف الأول ما ليس بوحش كبهيمة الأنعام ونحوها، والاعتبار] في ذلك بالأصل لا بالحال، فلو استأنس الوحش وجب الجزاء، ولو توحش الأهلي فلا جزاء، ويستثنى من ذلك ما تولد بين وحشي وغيره، تغليبا للتحريم، واختلف في الدجاج السندي، والبط، هل فيهما جزاء، على روايتين، والصحيح في البط [وجوب] الجزاء، نظرا لأصله، وهو التوحش. ويخرج بالوصف الثاني ما ليس بمأكول، كسباع البهائم، وجوارح الطير [ونحو ذلك] ، قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما جعلت الكفارة في [الصيد] المحلل أكله. واختلف في الثعلب، وسنور البر، والهدهد، والصرد، هل فيها جزاء؟ كما اختلف في إباحتها، وكذلك كل ما اختلف في إباحته، مختلف في جزائه، هذا الصحيح من الطريقتين عند أبي محمد، والقاضي وغيرهما، وقيل: لا يلزم ذلك، بل يجب الجزاء في الثعلب ونحوه وإن حرمنا أكله، تغليبا للتحريم، كما

وجب الجزاء في المتولد بين المأكول وغيره، ومما يستثنى من القاعدة القمل، على رواية قد تقدمت، واستثنى بعض الأصحاب أم حبين، وهي دابة منتفخة البطن، تستخبث عند الأصحاب. 1790 - فأوجب فيها جديا تبعا لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه روي عنه أنه قضى فيها بذلك، والصحيح عدم استثنائها، جريا على القاعدة. ويخرج بالوصف الثالث ما كان مائيا لقوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] الآية، والمائي: هو ما يعيش في الماء، ويبيض فيه، ويفرخ فيه، وإن كان يعيش في البر، كالضفدع والسلحفاة، [ونحوهما] ، وعن ابن أبي موسى أنه أوجب الجزاء في الضفدع، وعلى قياسه كل ما يعيش في البر، تغليبا للتحريم.

ويخرج مما تقدم طير الماء، لكونه مما يفرخ، ويبيض في البر، وإنما يدخل في الماء ليتعيش فيه، ويتكسب منه. - واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجراد، فقيل: هو من صيد البر، لأنه يطير فيه، فهو كغيره من الطيور، ولذلك يهلكه الماء. 1791 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما يدل عليه أو أنه من صيد البحر. 1792 - ويحكى ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

1793 - وعن عروة: هو من نثرة حوت. 1794 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الجراد من صيد البحر» . وفي حديث [آخر] : «إنما هو من صيد البحر» . لكن قال أبو داود: كلا الحديثين وهم. وقال أبو بكر المعافري: ليس في الباب حديث صحيح، على روايتين. انتهى. ولا فرق في وجوب الجزاء بقتل الصيد بين العمد والخطأ، على المنصوص المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، لأنه ضمان إتلاف، فاستوى عمده وخطؤه، كغيره من المتلفات. 1795 - وأيضا «قول جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الضبع يصيبه المحرم كبشا.» وفي رواية عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في

الضبع إذا أصابه المحرم كبش» . فعلق الوجوب على إصابة المحرم، وكذلك حكم الصحابة - على ما سيأتي - يدل على ذلك. (والثانية) يختص الضمان بالعمد، لظاهر قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، ودليل خطابه أن غير المعتمد لا جزاء عليه، وأجيب بأن الآية نزلت في المتعمد، بدليل: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] ، وما نزل على سبب لا مفهوم له اتفافا، انتهى.

والجزاء هو فداء الصيد بنظيره من النعم إن كان المقتول دابة، لقوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، وهذا على قراءة من نون (جزاء) ورفع (مثل) واضح، إذ التقدير: فعليه جزاء مثل الذي قتل من النعم، أي: صفته مثل ما قتل، ف (مثل) هي نعت للجزاء. وأما على قراءة من لم ينون (جزاء) وخفض (مثل) بإضافته إليه، فقد يقال: ظاهره وجوب القيمة، إذ ينجلي إلى: فجزاء من مثل المقتول من النعم، أي: من مثل جنس المقتول من النعم، والواجب [في المقتول من النعم القيمة، فكذلك في الصيد. وهذا أولا ممنوع، لأن الحيوان قد يجب فيه مثله، بدليل وجوب المثل في الضبع ونحوه، وقد ثبت ذلك بالسنة، ثم لو سلم ثم لا نسلمه هنا، إذ ثمة الحق لآدمي، والواجب] المثلية في جميع الصفات، أو في المقصود منها، ويتعذر غالبا وجود ذلك، فلذلك عدل إلى القيمة، وهنا الحق للرب سبحانه وتعالى، والواجب المثل تقريبا، وقد وكله سبحانه إلى اجتهاد ذوي عدل منا، وتعين هذا القراءة الأخرى، إذ الأصل توافق القراءتين. ثم إن المبين لكتاب ربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكذلك أصحابه نجوم الهدى، الذين خوطبوا بالحكم إنما حكموا بالمثل لا بالقيمة.

1795 - م - «فعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الضبع يصيبه المحرم كبشا، وجعله من الصيد.» رواه أبو داود وابن ماجه. 1796 - وعنه أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الضبع إذا أصابه المحرم كبش، وفي الظبي شاة، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة» . قال: والجفرة، التي قد ارتعت. رواه الدارقطني. 1797 - وعن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبيا ونحن محرمان، فماذا ترى؟ فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لرجل إلى جنبه: تعال حتى نحكم أنا وأنت. قال: فحكما عليه بعنز، فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي، حتى دعا رجلا فحكم معه. فسمع عمر قول الرجل، فدعاه فسأله: هل تقرأ سورة المائدة؟ فقال: لا. فقال: هل تعرف هذا الرجل الذي حكم

معي؟ فقال: لا. فقال: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة المائدة لأوجعتك ضربا، ثم قال: إن الله عز وجل يقول في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] وهذا عبد الرحمن بن عوف. رواه مالك في الموطأ. 1798 - وعن عمر، وعثمان، وعلي، وابن عباس، وزيد بن ثابت، ومعاوية، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: في النعامة بدنة. 1799 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حكم في حمار الوحش ببقرة. 1800 - وعن ابن عباس، وأبي عبيدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنهما حكما فيه ببدنة، لا يقال: الحكم بذلك لأنه وافق القيمة، لأنا

نقول: الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد حكم حكما عاما، وكذلك الصحابة، وعمر وعبد الرحمن، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لم يحضرا الظبي، ولا سألا عن صفته، ووجوب القيمة متوقف على ذلك، أما وجوب النظير في الصورة تقريبا فلا يتوقف على ذلك. انتهى. والمرجع في النظير إلى ما حكم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو أصحابه، فإن لم يكن فقول عدلين من أهل الخبرة وإن كانا قتلا، وبيان تفاصيل ذلك له موضع آخر. وقول الخرقي: إن كان المقتول دابة. يحترز عما إذا كان طائرا كما سيأتي، فأطلق الدابة على ما في البر من الحيوان، وهو عزيز إذ الدابة في الأصل لكل ما دب، ثم في العرف للخيل والبغال والحمير، وكأنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر إلى قوله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] الآية، والله أعلم. قال: وإن كان طائرا فداه بقيمته في موضعه، إلا أن

تكون نعامة، فيكون فيها بدنة، أو حمامة وما أشبهها، فيكون في كل واحد منها شاة. ش: هذا قسيم: إن كان المقتول دابة. وملخصه أن الطيور على أربعة أقسام (أحدها) النعامة، وسماها طيرا لأن لها جناحين، وفيها بدنة بلا ريب، لقضاء الصحابة بذلك، ولشبهها لها في الصورة (الثاني) الحمام، فيجب فيه شاة. 1801 - لأن عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن عباس، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حكموا بذلك، ويلحق به ما أشبهه مما يعب الماء، أي:

يكرعه كرعا ككرع الشاة، ولا يأخذه قطرة قطرة كالعصفور ونحوه، فيجب فيه شاة، لشبهه لها في كرع الماء. (الثالث) ما كان أصغر [من الحمام] ولم يشبهها، فتجب قيمته، لتعذر مثله من النعم. (الرابع) ما كان أكبر من الحمام كالحبارى، والكركي ونحوهما، ففيه وجهان (أحدهما) - وهو اختيار ابن أبي موسى - يجب شاة، إذ وجوبها في الحمام تنبيه على وجوبها هنا. 1802 - مع أن ذلك يروى عن ابن عباس وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (والثاني) - وهو ظاهر كلام أبي البركات - تجب القيمة، إذ المعروف عن الصحابة القضاء في الحمام، وإذا لم يتحقق لهذا مثل، فيرجع إلى قيمته كالعصافير. وقول الخرقي: فداه بقيمته في موضعه، أي: بقيمة الطائر في الموضع الذي أتلفه فيه، كغيره من المتلفات، والله أعلم. قال: وهو مخير إن شاء فداه بالنظير، أو قوم النظير بدراهم، ونظر كم يجيء به طعاما، فأطعم كل مسكين مدا، أو صام عن كل مد يوما، موسرا كان أو معسرا. ش: يخير قاتل الصيد الذي له نظير بين التكفير بواحد من هذه الثلاثة المذكورة، موسرا كان أو معسرا، على المختار للأصحاب، والمنصوص من الروايتين، للآية الكريمة: إذ

أصل (أو) التخيير. قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو على ما في القرآن، وكل شيء في القرآن (أو) فإنما هو على التخيير. 1803 - وهذا اللفظ يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أيضا، ولأنها فدية وجبت بفعل محظور، فخير فيها كفدية الأذى. (والثانية) لا يخير، بل الجزاء مرتب، فيجب المثل، فإن لم يقدر عليه أطعم، فإن لم يجد صام، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه حكموا بالنظير، وظاهر حكمهم تعينه، وإلا لذكروا قسيميه، وبالقياس على دم المتعة، (وجوابه) بأن حكمهم بالنظير لتبيينه لا لتعيينه، والقياس فاسد، لمخالفته النص. انتهى. والتخيير أو الترتيب بين الثلاثة على المذهب بلا ريب، (وعنه) أن ذلك بين شيئين، وأنه لا مدخل للإطعام في جزاء الصيد، وإنما ذكر في الآية ليعدل به الصيام. 1804 - ويحكى هذا عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا عمل عليه. إذا تقرر هذا فمن أراد إخراج النظير لزمه ذبحه، لأن الله سماه هديا، والهدي يجب ذبحه، والتصدق به على مساكين

الحرم، لأن الله سبحانه قال: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ، ولا يختص ذبحه بأيام النحر، بل بالحرم، ومن أراد التقويم فإنه على المشهور والصحيح من الروايتين يقوم المثل. (والرواية الثانية) يقوم الصيد، وأيما قوم فإنه يشتري بالقيمة طعاما، ويطعمه المساكين، على المذهب أيضا من الروايتين، والرواية الأخرى يجوز أن يتصدق بالقيمة، حكاها ابن أبي موسى، وإذا أطعم أطعم كل مسكين مد بر، أو نصف صاع من غيره، على المنصوص والمشهور كبقية الكفارات. وظاهر كلام الخرقي الاجتزاء بمد مطلقا، وتبعه على ذلك أبو محمد في المقنع، ولا يجزئ من الطعام إلا ما يجزئ في الفطرة، قاله أبو محمد هنا، وفي فدية الأذى، لكنه فسر ذلك بالبر، والشعير، والتمر، والزبيب، وقد يوهم كلام أبي البركات الاقتصار على البر والشعير والتمر، ولأبي محمد هنا احتمال أنه يجزئ ما يسمى طعاما، نظرا لإطلاق الآية. (تنبيه) : يعتبر قيمة المثل في الحرم، لأنه محل ذبحه، ومن أراد الصيام فالذي قال الخرقي وتبعه أبو محمد في كتابه الصغير: أنه يصوم عن كل مد يوما، وحكى ذلك في

المغني رواية وحكى رواية أخرى أنه يصوم عن كل نصف صاع يوما، ثم حكى هو وصاحب التلخيص عن القاضي أنه حمل رواية المد على الحنطة، ورواية نصف الصاع على التمر والشعير، إذ الصيام مقابل بإطعام لمسكين في كفارة الظهار وغيرها، فكذلك هنا، والذي رأيته في روايتي القاضي أن حنبلا وابن منصور نقلا عنه أنه يصوم عن كل نصف صاع يوما، وأن الأثرم نقل في فدية الأذى عن كل مد يوما وعن كل نصف صاع تمر أو شعير يوما، [قال: وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر، قال: ويمكن أن يحمل قوله: عن كل نصف صاع يوما. على أن نصف الصاع من التمر والشعير لا من البر] ، انتهى. وعلى هذا فإحدى الروايتين مطلقة، والأخرى مقيدة، لا أن الروايتين مطلقتان، وإذا يسهل الحمل، وكذلك قطع به أبو البركات وغيره، إلا أن عزو ذلك إلى الخرقي فيه نظر. وما لا نظير له من الصيد يخير قاتله على المذهب بين أن يشتري بقيمته طعاما فيطعمه المساكين، وبين أن يصوم، والله أعلم. قال: وكلما قتل صيدا حكم عليه. ش: يجب الجزاء بقتل الصيد الثاني والثالث، كما يجب بالأول، ولا يتداخل، على المختار، والمشهور من الروايات

لأنه بدل متلف، يجب فيه المثل أو القيمة، فلم يتداخل، كبدل مال الآدمي، قال أحمد: روي عن عمر وغيره أنهم حكموا في الخطأ فيمن قتل، ولم يسألوه هل كان قتل قبل هذا أو لا. (والثانية) : إن كفر عن الأول فللثاني كفارة، وإلا يتداخلا، لأنها كفارة تجب لفعل محظور في الإحرام، فتداخل جزاؤها قبل التكفير، كاللبس، والطيب. (ويجاب) بأن هذا بدل متلف، فلم يتداخل، بخلاف ثم، فإنه لمحض [المخالفة فهو] كالحدود. (والثالثة) لا يجب إلا جزاء الأول فقط، تمسكا بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] . [ويجاب] بأن الانتقام لأجل المخالفة، وانتهاك محارم الرب سبحانه، وذلك لا يمنع وجوب البدل، ويرشح هذا أن قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] ، أي والله أعلم قاصدا للفعل، غير عالم بالتحريم، وهذا هو الخاطئ، ثم قوله بعد: {وَمَنْ عَادَ} [المائدة: 95] ، أي: إلى القتل، بعد أن علم النهي، فإن الله تعالى ينتقم منه لمخالفته، والجزاء على ما تقدم، والله أعلم. قال: ولو اشترك جماعة في قتل صيد فعليهم جزاء واحد.

ش: هذا المختار من الروايات، اختاره ابن أبي موسى وابن حامد، والقاضي، وأبو الخطاب، وأبو محمد وغيرهم، لظاهر قوله سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] ، أي: فالواجب مثل [ما قتل] من النعم. أو: فعلى القاتل مثله. وهذا يشمل الواحد والجماعة، ويمنع من إيجاب زائد على ذلك، ولأنه بدل متلف، فلم يجب فيه إلا جزاء واحد، كبدل مال الآدمي. (والثانية) على كل واحد جزاء، اختاره أبو بكر، نظرا لوجود المخالفة من كل واحد منهم، وزجرا له عن فعله. (والثالثة) إن كفروا بالمال فكالأول، لأنه إذا تمحضت بدليته، وإن كفروا بالصيام فعل كل واحد كفارة، لأنها إذا تتمحض كفارة، وهي كفارة قتل، فأشبهت قتل الآدمي على المذهب. (تنبيهان) : «أحدهما» . هذه المسألة فيما إذا [كان] كل منهم صالحا لترتب الجزاء عليه، كما لو كانوا محرمين، أما لو لم يكن كذلك - كما إذا كان أحدهم حلالا - فإنه لا شيء عليه، ثم إن سبق الحلال بالجرح فعلى المحرم جزاؤه مجروحا، وإن سبق المحرم ضمن أرش الجرح فقط، وإن وجدت الجراحات معا فهل على المحرم بقسطه

كما لو كان المشارك له مثله، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه، أو يكمل الجزاء عليه، لتعذر إيجاب الجزاء على شريكه؟ فيه وجهان، هذا تفصيل أبي محمد، وفيه بحث. (والثاني) : قال القاضي وأبو الخطاب: إن المنصوص في الصوم أن على كل واحد كفارة، وأن ابن حامد قال بالاشتراك، كما لو كان التكفير بغيره، والله أعلم. قال: ومن لم يقف بعرفة حتى يطلع الفجر من يوم النحر تحلل بعمرة. ش: من فاته الوقوف بعرفة فهل يجب عليه أن يمضي في حج فاسد ويقضي، لأنه بالإحرام لزمه إتمامه، وتعذر الإتيان بالبعض لا يمنع الإتيان بما بقي، أو لا يجب عليه، بل

يتحلل منه لقضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بذلك. 1805 - فعن سليمان بن يسار أن أبا أيوب الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج حاجا، حتى إذا كان بالنازية من طريق مكة أضل رواحله، وإنه قدم على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يوم النحر، فذكر ذلك له، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اصنع ما يصنع المعتمر، ثم قد حللت، فإذا أدركك الحج قابلا فاحجج، واهد ما استيسر من الهدي. 1806 - وعنه أيضا قال: إن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدة، كنا نرى أن هذا اليوم يوم عرفة. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اذهب إلى مكة وطف أنت ومن معك، وانحروا هديا إن كان معكم، ثم احلقوا أو قصروا، وارجعوا، فإذا كان عاما

قابلا فحجوا وأهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج، وسبعة إذا رجع. رواهما مالك في الموطأ. 1807 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحو ذلك. 1808 - وعن عطاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من لم يدرك الحج فعليه الهدي، وحج من قابل، وليجعلها عمرة» . رواه ابن أبي شيبة

وغيره، لكنه مرسل، قيل: وضعيف؟ على روايتين المذهب منهما بلا ريب الثاني، وعليه: المذهب أيضا المنصوص أنه يتحلل بعمرة، اختاره الخرقي، وأبو بكر، والقاضي وأصحابه، والشيخان، فيطوف ويسعى، ويحلق أو يقصر، ثم قد حل، وهذا ظاهر ما تقدم عن عمر وابنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. 1809 - ويروى أيضا عن ابن عباس، وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

(وعن أحمد رواية أخرى) - حكاها أبو الحسين، وأبو الخطاب، وهو قول ابن حامد -: إحرامه بحاله، ويتحلل منه بطواف وسعي، إذ هذا مقتضى الإحرام المطلق، فعلى الأولى صرح أبو الخطاب، وصاحب التلخيص وغيرهما أن إحرامه ينقلب بمجرد الفوات إلى عمرة، ولفظ أبي محمد في المغني: يجعل إحرامه بعمرة، ولا فرق بين الفوات لعذر - من مرض، أو ضياع نفقة، أو غلط عدد ونحو ذلك - أو لغير عذر من توان، أو نوم، أو تتشاغل بما لا يغني، إلا في المأثم، قال ذلك صاحب التلخيص وغيره. وقد استفيد من كلام الخرقي أن آخر وقت الوقوف آخر ليلة النحر، ولا نزاع في ذلك، وحديث عروة بن مضرس - وقد تقدم - يدل على ذلك، وكذلك حديث عبد الرحمن بن يعمر: «الحج عرفة، من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك» . واختلف في أول الوقت، فالمذهب عندنا أنه من طلوع الفجر يوم عرفة، لحديث عروة بن مضرس: «وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه» ، الحديث، واختار أبو عبد الله بن بطة، وأبو حفص

العكبريان بأن أوله زوال الشمس، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف حينئذ. قال: وذبح إن كان معه هدي. ش: يعني إذا فاته الحج، وتحلل بعمرة، فإن كان معه هدي ساقه فإنه يذبحه، كما لو أحرم بعمرة ابتداء، وساق هديا، قال ابن أبي موسى وصاحب التلخيص: ولا يجزئه عن دم الفوات. وأطلقا، وقال أبو محمد في المغني: لا يجزئه إن قلنا بوجوب القضاء، والذي يظهر النظر في هذا الهدي، فإن كان واجبا فإنه ليس له صرف هذا الوجوب إلى وجوب آخر، وذبحه عن دم الفوات، وإن قلنا: لا قضاء عليه وإن كان تطوعا، فهذا باق على ملكه، فله أن يذبحه عن الفوات إن قيل بعدم القضاء، والله أعلم. قال: وحج من قابل وأتى بدم. ش: يعني يلزم من فاته الحج القضاء على الفور، والهدي، وهذا إحدى الروايات، وأصحها عند الأصحاب،

لما تقدم من قضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ومن حديث عطاء. (والثانية) نقلها الميموني: يلزمه القضاء، ولا يلزمه الهدي، وإلا لزم المحصر هديان؛ هدي للإحصار وهدي للفوات، ولا يلزمه إلا هدي واحد (والثالثة) نقلها أبو طالب: يلزمه الهدي لما تقدم، ولا يلزمه القضاء حذارا من وجوب الحج على إنسان مرتين، والنص قد شهد بمرة، فعلى هذا يذبح الهدي في عامه، وعلى الأول يذبحه في حجة القضاء. ومحل الخلاف في القضاء فيما إذا كان الذي فاته تطوعا، أما إن كان واجبا بأصل الشرع أو بغيره، فإنه يفعله ولا بد بالوجوب السابق. (تنبيه) : قال أبو محمد: إذا اختار من فاته الحج البقاء على إحرامه ليحج من قابل فله ذلك، لأن تطاول المدة بين الإحرام وفعل النسك لا يمنع إتمامه كالعمرة، قال: ويحتمل أنه ليس له ذلك، لظاهر قول الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن إحرام الحج يصير في غير أشهره. انتهى. وهذا ظاهر في أن الإحرام لا ينقلب بمجرد الفوات بعمرة، وقد صرح أبو الخطاب بأن فائدة الخلاف أنه إذا قيل بالانقلاب له أن يدخل عليه الحج، وإذا قيل بعدم الانقلاب [كما يقوله ابن

حامد] لا يدخل عليه الحج، والله أعلم. قال: وإن كان عبدا لم يكن له أن يذبح. ش: العبد لا يلزمه هدي، لأنه في حكم المعسر، إذ لا مال له، بل هو أسوأ حالا منه، لأنه لا يملك، ولو ملك على ما عليه الفتيا، ولهذا قال الخرقي: إنه ليس له الذبح مطلقا،

بناء على قاعدته، من أنه لا يملك، والتكفير إنما يكون بما يملكه، إذ ذلك محنة، ولا محنة بما لا يملك، أما على الرواية الأخرى التي نقول فيها: إنه يملك، فمتى ملكه سيده مالا، وأذن له في التكفير فله ذلك، لوجود المقتضي وانتفاء المانع، هذا هو الجادة عند القاضي ومن بعده، وذهب كثير من متقدمي الأصحاب أن له التكفير بإذن سيده وإن لم نقل بملكه، بناء على أحد القولين من أن الكفارة لا يلزم أن تدخل في ملك المكفر عنه، أو أنه يثبت له ملك خاص [بقدر ما يكفر] كما نقوله في التسري، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وحيث جاز له التكفير بإذن السيد، فهل يلزمه ذلك؟ قال القاضي، وابن عقيل - وتبعه أبو محمد هنا - باللزوم، لأنه واجب، فيدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، لا تحت قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المائدة: 89] . وقال أبو محمد في الكفارات على كلتي الروايتين: لا يلزمه التكفير، وإن أذن له سيده، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على ذلك بما هو أبسط من هذا. (تنبيه) : الحكم في كل دم لزم العبد في الإحرام حكم ما تقدم، والله أعلم.

قال: وكان عليه أن يصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما. ش: إذا انتفى الهدي في حق العبد انتفى الإطعام أيضا، إذ المعنى فيهما واحد، وإذا يتعين في حقه الصوم، ويصوم عن كل مد من قيمة الشاة يوما، جريا على قاعدة الخرقي من أن اليوم يقابل المد، وقد تقدم أن المذهب أنه يقابل المد من البر، أما من غيره فنصف الصاع. وقال أبو محمد: الأولى أن يكون الواجب هنا من الصوم عشرة أيام كصوم المتعة، اقتداء بقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم لهبار، والله أعلم. قال: ثم يقصر ويحل. ش: هذا تنبيه على أن العبد لا يحلق، لا هنا ولا في موضع آخر، لأن الشعر ملك للسيد، ويزيد في قيمته، ولم

يتعين زواله، فلم يكن له ذلك كغير حال الإحرام، نعم إن أذن له سيده جاز، إذ الحق له، والله أعلم. قال: وإذا أحرمت المرأة بواجب لم يكن لزوجها منعها. ش: إذا أحرمت المرأة بحج أو عمرة فلا يخلو إما أن يكون بإذن زوجها أو بغير إذنه. فإن كان بإذنه لم يملك تحليلها بلا ريب، وإن كان ما أذن فيه تطوعا، لأنه قد أسقط حقه فيما يلزمها المضي فيه، وهذه الصورة ترد على عموم مفهوم [كلام] الخرقي، إذ مفهومه أن له منعها في التطوع مطلقا. وإن كان إحرامها بغير إذنه فلا يخلو إما إن يكون بواجب أو بتطوع. فإن كان بواجب فلا يخلو إما أن يكون وجوبه بأصل الشرع، أو بإيجابها على نفسها. فإن كان بأصل الشرع لم يملك منعها، على المذهب، كما لو صلت الفريضة في أول وقتها ونحو ذلك. قال في التلخيص: وقيل في ذلك روايتان، [ولا فرق] بين أن تكمل شروط الحج في حقها أولا، كما إذا لم تجد الاستطاعة أو المحرم، على ظاهر إطلاق الأصحاب، وصرح به أبو محمد في شرط الاستطاعة وله فيه احتمال. أن له منعها.

وإن كان بإيجابها على نفسها فروايتان، ذكرهما القاضي، وصاحب التلخيص، والمنصوص منهما أنه ليس له ذلك، قال في رواية ابن إبراهيم - في المرأة تحلف بالحج والصوم، ويريد زوجها منعها، فقال -: ليس له ذلك، قد ابتليت، وابتلي زوجها. قال القاضي: حلفت، أي: نذرت. (الثانية) خرجها القاضي من إحدى الروايتين في أن للسيد تحليل عبده، والفرق أن النذر من جهتها، أشبه التطوع. والمذهب الأول، وبه قطع الشيخان، إذ بعد الإيجاب تحتم عليها الفعل، فهو كالواجب الأصلي. ولهذا المعنى قال القاضي: لا يمتنع أن نقول: إذا نذرت أن تحج متى شاءت: أن له تحليلها. انتهى. وإن كان الإحرام بتطوع فروايتان: (إحداهما) -: وهو ظاهر كلام الخرقي واختيار ابن حامد وأبي محمد - له منعها، حذارا من أن تتسبب في إسقاط واجب عليها، وهو حق الزوج، [بما ليس بواجب] ، لا يقال: بعد الإحرام قد صار واجبا، فلا فرق، لأنا نقول: وجوب حق الزوج مقدم، فاقتضى تقديمه. (والثانية) - وهي أصرحهما - ليس له منعها، اختارها أبو بكر في الخلاف، والقاضي، وقال: تأملت كلام أحمد فوجدت أكثره يدل على ذلك، لأنها عبادة تلزم بالدخول فيها، فإذا عقدها بغير إذن

سوق الهدي

سيده لم يملك فسخها أصله الإيمان ولعموم {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] ، {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ، انتهى. ولا نزاع عندهم فيما علمت أن إحرامها ينعقد بدون إذنه، لأن الحج عبادة محضة أشبه الصلاة والصوم. (تنبيهان) : «أحدهما» : معنى منعها أنه يأمرها بالتحلل، فتصير كالمحصر على ما تقدم، فإن أبت أن تتحلل فله مباشرتها والإثم عليها، قاله صاحب التلخيص. (الثاني) : إذا لم تحرم فله منعها من حج التطوع بلا نزاع، وكذلك من حج الفرض إذا لم تكمل الشروط، قاله أبو محمد [ومع استكمالها ليس له منعها من الواجب بأصل الشرع. وفي المنذور روايتان] وهذا أيضا وارد على عموم مفهوم كلام الخرقي، إذ مفهومه أنها إذا لم تحرم فله منعها مطلقا، والله أعلم. [سوق الهدي] قال: ومن ساق هديا واجبا فعطب دون محله صنع به ما شاء. ش: سوق الهدي يقع على ضربين: واجب وتطوع،

وسيأتي إن شاء الله تعالى، والواجب على ضربين أيضا: (أحدهما) : واجب عينه عما في ذمته، من هدي متعة، أو قران، أو نذر، أو غير ذلك، وهذا مراد الخرقي، فهذا إذا عطب دون ملحه الذي هو الحرم فهل له استرجاعه، فيصنع به ما شاء، من أكل وبيع ونحو ذلك، أم لا؟ فيه روايتان: (إحداهما) - وهو اختيار الخرقي، وابن أبي موسى -: له ذلك، لأنه إنما أوجبه عما في ذمته، ولم يقع عنه، فيكون له العود فيه، كمن أخرج زكاة ماله الغائب، فبان أنه كان تالفا. 1810 - وقد روى سعيد: حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا أهديت هديا تطوعا فعطب فانحره، ثم اغمس النعل في دمه، ثم اضرب بها صفحته، فإن أكلت أو أمرت به غرمت، وإذا أهديت هديا واجبا فعطب فانحره، ثم كله إن شئت، وأهده إن شئت، وبعه إن شئت، وتقو به في هدي آخر. (والثانية) : -

ليس له ذلك، لأن حق الفقراء قد تعلق به، أشبه ما لو عينه ابتداء بنذره. (الثاني) : من ضربي الواجب عينه ابتداء لا عما في ذمته، كأن قال: هذا لله. ونحو ذلك، فهذا إذا عطب لا يرجع فيه بلا ريب، لأنه قد صار لله تعالى، أشبه الدراهم ونحوها. 1811 - ولدخوله تحت قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لا تعد في صدقتك» ، الحديث، ويصنع به ما يصنع بهدي التطوع على ما سيأتي. (تنبيه) : تعيين الهدي لا يحصل إلا بالقول، بأن يقول: هذا هدي، أو نحو ذلك، من ألفاظ النذر، على المذهب المعروف المشهور، ولأبي الخطاب احتمال بالاكتفاء بالنية، وتوسط أبو محمد فضم مع النية التقليد أو الإشعار، وحكاه مذهبا، ولا يتابع على ذلك، وقد يشهد لقوله صحة الوقف بالفعل، كما إذا بني بيته مسجدا، أو جعل أرضه مقبرة ونحو ذلك، لكن ثم لا بد من قوله وهو أن يأذن للناس في الصلاة في المسجد، أو الدفن في المقبرة، والله أعلم.

قال: وعليه مكانه. ش: إذا عين واجبا عما في ذمته، فعطب دون محله، فإن عليه مكانه، إذ ما في ذمته لا يبرأ منه إلا بإيصاله إلى مستحقه، أشبه ما إذا أخرج الدراهم ليدفعها عن دينه، فتلفت قبل الأداء. 1812 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أهدى تطوعا ثم ضلت فليس عليه البدل إلا أن يشاء، وإن كانت نذرا فعليه البدل» . وفي رواية: «ثم عطبت» ، رواه الدارقطني لكنه ضعيف، وقد رواه مالك في الموطأ من قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نفسه. وقد يقال: مفهوم كلام الخرقي أن ما عطب في محله لا

يرجع فيه، أو ليس عليه بدله، وليس كذلك، فلا فرق بين أن يعطب في محله أو دونه، في أنه إن كان عن واجب في الذمة فلا بد من نحره صحيحا، وإن كان معينا ابتداء نحره مطلقا، والله أعلم. قال: وإن كان ساقه تطوعا فعطب دون محله] نحره موضعه، وخلى بينه وبين المساكين، ولم يأكل منه، ولا أحد من أهل رفقته. ش: إذا ساق هديا يقصد به التقرب إلى الله سبحانه، لا عن واجب في ذمته، أو عن واجب لم يعينه عنه كما تقدم، فإنه إذا عطب دون محله فإنه ينحره في موضعه، ويخلي بينه وبين [المساكين] ولا يأكل منه، ولا أحد من رفقته. 1813 - لما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن ذؤيبا أبا قبيصة حدثه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث معه بالبدن، ثم يقول: «إن عطب منها شيء، فخشيت عليها موتا، فانحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم اضرب بها صفحتها، ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك» . رواه مسلم وغيره.

1814 - وبهذا يتقيد حديث ناجية الخزاعي قال قلت: يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من الهدي، قال: «انحرها، ثم اغمس نعلها في دمها، ثم خل بينها وبين الناس فيأكلونها» . رواه الترمذي وأبو داود. والمعنى - والله أعلم - في منع رفقته ونفسه من الأكل ليبالغ في حفظها، لأنه إذا علم أنها إذا عطبت لا يحصل له منها نفع البتة بالغ في حفظها. وحكم الواجب المعين حكم التطوع، إلا أن بينهما فرقا، وهو أن الواجب المعين لا بد من نحره مع عطبه، فلا طريق له في رجوعه إلى ملكه، وفي التطوع وما نواه عن الواجب ولم يعينه، له أن يفسخ نيته فيه، فيرجع إلى ملكه، يصنع به ما يشاء، والله أعلم. قال: ولا بدل عليه.

ش: إذا لم يلتزم شيئا في ذمته لم يلزمه بدله، والله أعلم. قال: ولا يأكل من كل واجب إلا من هدي التمتع. ش: [وكذلك القران] وكأن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - استغنى بذكر التمتع عن القران لأنه نوع تمتع، لترفهه بأحد السفرين، وبالجملة لا نزاع في المذهب فيما علمت أنه لا يأكل من جزاء الصيد، لتمحض بدليته، ولا من المنذور لتعيينه لله، نعم أجاز أبو بكر - ومال إليه أبو محمد - الأكل من أضحية النذر، ولا نزاع أنه يأكل من هدي المتعة، وكذلك القران على المذهب، وقد تقدم «أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كانت قارنة، وبقية نسائه كن متمتعات. » 1815 - لأن «في حديث عائشة الطويل قالت: فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأفضت، قالت: فأتينا بلحم بقر، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: أهدى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن نسائه بالبقر» .

1816 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن» . رواه أبو داود. وقد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي أنه لا يأكل [منه، وهل يأكل] مما عدا ذلك، نظرا للإباحة الأصلية، ولا نص مانع، أو لا يأكل، وهو الأشهر، لأنه وجب بفعل محظور، أشبه جزاء الصيد؟ فيه روايتان، وألحق ابن أبي موسى الكفارة بجزاء الصيد والنذر، وجوز الأكل مما عدا ذلك، ويتركب من مجموع الأقوال - ما عدا جزاء الصيد والنذر، وهدي المتعة - أربعة أقوال: الجواز، وعدمه، والجواز إلا في دم الكفارة، وعدمه إلا في دم القران. (تنبيه) : مفهوم كلام الخرقي أنه يأكل من التطوع، وهو كذلك، بل يستحب، قال سبحانه: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] ، «وفي حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم: ثم أمر من كل بدنة ببضعة، فجعلت في قدر فطبخت،

فأكلا من لحمها، وشربا من مرقها.» وهدي التطوع ما ساقه تطوعا، وكذلك ما أوجبه ابتداء، قاله أبو محمد. قال: وكل هدي أو إطعام فهو لمساكين الحرم، إن قدر على إيصاله إليهم، إلا من أصابه أذى من رأسه فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه. ش: جميع الهدايا - ما عدى جزاء الصيد، ودم الإحصار، وما وجب بفعل محظور - محلها الحرم، لقوله سبحانه: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ، وكذلك جزاء الصيد، على المذهب بلا ريب، لقوله سبحانه: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] . (وعنه) يفدي حيث القتل كبقية المحظورات، وعلى المذهب إن اضطر إليه فهل يأتي بالجزاء موضع اضطراره أو يختص بالحرم؟ فيه وجهان. وأما دم الإحصار ففيه روايتان أيضا وقد تقدمتا، والمذهب منهما عكس المذهب في الصيد. وأما ما وجب بفعل محظور - كفدية حلق الرأس، واللبس، ونحوهما - فعنه يختص بالحرم، لظاهر: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33] ، وعنه: ينحر حيث فعل.

1817 - لما تقدم من «حديث كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره بالفدية وهو بالحديبية، ولم يأمره ببعثها إلى الحرم. وفي رواية أنه قال: فحلقت رأسي ثم نسكت» . وقال القاضي، وابن عقيل، وأبو البركات: ما فعله لعذر ينحر هديه [حيث استباح] ، وما فعله لغير عذر اختص بالحرم. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما نص على الحلق مع العذر فقط، فيحتمل أن يختص الجواز به، دون غيره من المحظورات، لأن النص ورد به، فيخرج من عموم (ثم محلها) ، ويبقى فيما عداه على قضية العموم، والقاضي ومن وافقه يقيسون على الصورة ما في معناها، وهو أوجه، إذ المذهب تخصيص العموم بالقياس، [والطعام تبع للنحر ففي أي موضع قبل النحر فالطعام كذلك] . (تنبيهات) : «أحدها» : إنما يجب النحر في الحرم إذا قدر على إيصال الهدي إليه، إما بنفسه، أو بمن يرسله معه، فإن عجز مطلقا نحر حيث كان، كما دل عليه كلام الخرقي، لأنه فعل ما استطاع، فلا يكلف زيادة عليه، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وخرج ابن عقيل رواية - وصححها - فيمن حصر عن الخروج لذبح الهدي المنذور، أنه يذبحه في

موضع حصره، ولا يلزمه تنفيذه، كدم الإحصار على المذهب. «الثاني» : حيث قيل: النحر في الحرم، فإنه لا يجوز في الحل، لكنه لا يختص بمحل من الحرم، بل في أي موضع نحر من الحرم أجزأه، وحيث قيل: النحر في الحل فذلك على سبيل الجواز، على مقتضى كلام الشيخين، وظاهر كلام الخرقي، وصاحب التلخيص وطائفة الوجوب، ويحتمله كلام أحمد: وما كان من فدية حلق الرأس فحيث حلقه. «الثالث» : مساكين الحرم من كان فيه، من أهله أو وارد إليه، من الحاج وغيرهم، وهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم، والله أعلم. قال: وأما الصيام فيجزئه بكل مكان. ش: لا نزاع في ذلك. 1818 - وعن ابن عباس: الهدي والطعام بمكة، والصوم حيث شاء. والمعنى فيه - والله أعلم - أن نفعه لا يتعدى إلى أحد، فلم يتخصص بمكان، بخلاف الهدي والإطعام، والله أعلم.

قال: ومن وجبت عليه بدنة فذبح سبعا من الغنم أجزأه. ش: تجزئ السبع من الغنم عند عدم البدنة بلا نزاع. 1819 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتاه رجل فقال: إن علي بدنة وأنا موسر لها، ولا أجدها فأشتريها؟ فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبتاع سبع شياه فيذبحهن.» رواه أحمد وابن ماجه. وأما مع وجودها فقولان: «أحدهما» : واختاره ابن عقيل، وزعم أنه ظاهر كلام أحمد: لا يجزئه لأنها بدل، والبدل لا يجزئ مع وجود المبدل، ولذلك جوزها الشارع عند العدم. «والثاني» - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد -: يجزئه، لأن الشاة معدولة بسبع بدنة. 1820 - بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر السبعة بالاشتراك في البدنة فالسبع

شياه يعدلن البدنة شياه يعدلن البدنة، وما أجزأ فيه أحد المثلين أجزأ فيه المثل الآخر، والسؤال وقع عن حال العدم، فأجاب بالجواز، ولا مفهوم له اتفاقا، ولا نسلم أن أحدهما بدل عن الآخر. وعكس هذا من وجب عليه سبع من الغنم تجزئه البدنة إن كان في غير جزاء الصيد، لما تقدم من أنهما مثلان، أما في جزاء الصيد فلا، لأن معتمده التقويم، والله أعلم. قال: وما لزم من الدماء فلا يجزئ فيه إلا الجذع من الضأن، والثني من غيره، والله أعلم. ش: لأنه دم مشروع إراقته، فلا يجزئ فيه إلا ما يجزئ في الأضحية، والجامع مشروعية الإراقة، ودليل الأصل يأتي إن شاء الله تعالى، وبيان الجذع من الضأن، والثني من المعز قد تقدم في الزكاة، والثني من البقر: ما كمل سنتين، ومن الإبل: ما كمل خمسا، والله أعلم.

كتاب البيوع

[كتاب البيوع] ش: البيوع جمع بيع، مصدر: باع يبيع. بمعنى: ملك، وبمعنى: اشترى، وكذلك شرى، يكون بالمعنيين، وعن أبي عبيدة وغيره: أباع بمعنى باع، وهو (في اللغة) قيل: أن يدفع عوضا ويأخذ معوضا منه. وقال أبو عبد الله السامري: إنه الإيجاب والقبول إذا تناول عينين، أو عينا بثمن. (وفي الشرع) قال القاضي وابن الزاغوني وغيرهما: إنه عبارة عن الإيجاب والقبول، إذا تضمن عينين للتمليك، وأبدل السامري: عينين. بمالين، ليحترز عما ليس بمال، فلا يطرد لدخول الربا، وقد يدخل القرض على الثاني، فلا ينعكس، لخروج بيع المعاطاة، على رواية مختارة، وخروج المنافع كممر الدار ونحوه، والبيع في الذمة. وقال أبو محمد:

مبادلة المال بالمال لغرض التمليك، فدخلت المعاطاة، وقد يدخل القرض، إلا أنه وإن قصد فيه التملك لكن المقصود الأعظم فيه الإرفاق، لكنه يدخل عليه الربا. وحده بعض المتأخرين بأنه: تمليك عين مالية، أو منفعة مباحة، على التأبيد، بعوض مالي على التأبيد، ويدخل عليه أيضا القرض والربا، وبالجملة الحدود قل ما يسلم منها، انتهى. واشتقاقه قال أبو محمد وكثير من الفقهاء: إنه مشتق من الباع، لأن كل واحد منهما يمد باعه للأخذ. ورد (من جهة الصناعة) بأنه مصدر، والمصدر على رأي البصريين منبع

الاشتقاق، فهو مشتق منه، لا أنه مشتق، فإن أجيب بالتزام مذهب الكوفيين بأن الأصل والاشتقاق للفعل رد بأنه الفعل الذي منه المصدر، لا فعل مقدر آخر، لأن الباع عينه واو، إذ هو من: بوع. والبيع عينه ياء، من: بيع. وشرط الاشتقاق موافقة الأصل والفرع في الحروف الأصول، وقد يجاب عن هذا وعن كثير من اشتقاقات الفقهاء بأن هذا من الاشتقاق الأكبر، الذي يلحظ فيه المعنى، دون الموافقة في الحروف، ولا ريب أن بين البيع والباع مناسبة ما كما تقدم، على أن بعض البيانيين لم يشترط الموافقة على المعنى [أيضا] فقال في قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168] : إنه من الاشتقاق الكبير، المشبه للاشتقاق الصغير، مع أن قال

من القول، (والقالين) من القلي، وهو البغض، فالحروف لم تتفق، والمعنى لم يتحد. (ومن جهة المعنى) بالبيع في الذمة ونحوه، لانتفاء مد الباع فيه. وقيل: إنه مشتق من البيعة، وفيه نظر، إذ المصدر لا يشتق من المصدر، ثم معنى البيع غير معنى المبايعة. انتهى. وهو مما علم جوازه من دين الله سبحانه بالضرورة، وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع على ذلك، قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وقال تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، إن قيل: إن الألف واللام فيه للاستغراق أو للعهد، بناء على أنه منقول شرعي، أما إن قيل: إنه مجمل، فلا، وأما السنة فما لا يحصى كثرة، وسيأتي جملة منه إن شاء الله، وأما الإجماع فبنقل الأثبات، ثم الحكمة تقتضيه، إذ الإنسان قد يحتاج إلى ما في يد

صاحبه من مأكول، وملبوس، وغير ذلك، وليس كل أحد يسمح أن يبذل ماله مجانا، فاقتضت الحكمة جواز ذلك، تحصيلا للمصلحة من الطرفين. واعلم أن ماهية البيع مركبة من ثلاثة أشياء، عاقد، ومعقود عليه، ومعقود به (أما العاقد) فيشترط له أهلية التصرف، وهو أن يكون بالغا، عاقلا، مأذونا له، مختارا، غير محجور عليه، (وأما المعقود به) فهو كل ما دل على الرضا، ولا يتعين: بعت واشتريت. على أشهر الروايتين، وهل يتعين [اللفظ] فلا يصح بيع المعاطاة، أو لا يتعين، فيصح، أو يتعين فيما له خطر دون المحقرات؟ على ثلاثة أقوال، وفصل الخطاب في ذلك أن قوله سبحانه: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، هل المعتبر حقيقة الرضى، فلا بد من صريح القول، أو ما يدل عليه، فيكتفى بما يدل على ذلك؟ فيه قولان للعلماء. ثم رتبة الإيجاب التقدم، ورتبة القبول التعاقب له، فإن تقدم القبول الإيجاب بلفظ الطلب نحو: بعني. فروايتان منصوصتان، وخرجهما أبو الخطاب وجماعة فيما إذا تقدم بلفظ الماضي، نحو: ابتعت منك. وظاهر كلام أبي محمد في الكافي منع ذلك، والجزم بالصحة، أما الاستفهام نحو:

باب خيار المتبايعين

أتبيعني؟ فليس بقبول، وإذا لا مدخل له في التقسيم، وإن تراخى القبول عن الإيجاب صح ما داما في مجلس العقد، ولم يتشاغلا بما يقطعه. وأما المعقود [عليه] فيشترط له شروط: (أحدها) كونه مما فيه منفعة مباحة لغير حاجة. (الثاني) : كونه مأذونا للعاقد في بيعه، بملك أو إذن. (الثالث) : كونه معلوما للمتعاقدين برؤية حال العقد بلا ريب، وكذلك على المذهب بصفة ضابطة لما يختلف به الثمن غالبا، أو برؤية متقدمة بشرط عدم تغير المبيع غالبا. (الرابع) كونه مقدورا على تسليمه، ثم مع [جميع] ذلك لا بد من انتفاء مانعه، وهو مقارنة نهي من الشارع، وتحقيق ذلك يحتاج إلى بسط طويل، لا يليق بهذا الكتاب، والله أعلم. [باب خيار المتبايعين] قال: باب خيار المتبايعين ش: الخيار اسم مصدر من: اختار يختار اختيارا. وهو طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه، والله أعلم.

قال: والمتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما. 1821 - ش: الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن عمر، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا، وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن تبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع» . متفق عليه. 1822 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله» . رواه الخمسة إلا ابن ماجه، وحسنه الترمذي، وللدارقطني فيه: «حتى يتفرقا من مكانهما» . وهذا نص في أن التفرق بالأبدان لا بالأقوال، ويقرب منه حديث ابن عمر لقوله: «وإن تفرقا بعد أن تبايعا» . وحقيقة ذلك بعد صدور البيع، ثم يعين ذلك فعل راويه المشافه لقائله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

1823 - ففي مسلم عن نافع، أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان إذا بايع رجلا فأراد أن لا يقيله مشى هنية ثم رجع، وراوي الحديث إذا فسره بما يقتضي ظاهره أكد ذلك الظاهر، ومنع تأويله عند العامة، [ثم يرجح ذلك أن البائع اسم مشتق من البيع، وحقيقته بعد البيع] . واعتراض المالكي بعمل أهل المدينة مردود بمخالفة سعيد بن المسيب، والزهري، وابن أبي ذئب، ولقد بالغ ابن أبي ذئب في الإنكار على من خالف الحديث.

واعتراض الحنفي بكونه خبر آحاد فيما تعم به البلوى مردود باستفاضة الحديث. 1824 - فقد رواه الجماعة من حديث عبد الله بن عمر، وحكيم بن حزام، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص؛ والترمذي وأبو داود من حديث أبي هريرة، والنسائي من حديث سمرة بن جندب، وأبو داود من حديث أبي برزة، والترمذي من حديث جابر. ثم قد عمل الصحابة

عليه، على أنا لا نسلم الأصل، بل نقول بخبر الواحد والحال ما تقدم. وقول الخرقي: والمتبايعان. يدخل فيه جميع أنواع البيع، من التولية، والمرابحة، والشركة، والمواضعة، وكذلك (الصلح) بمعنى البيع، كما إذا أقر له بدين أو بعين، ثم صالحه عنه بعوض، (والإجارة) لأنها بيع منافع، وفي الكافي وجه بالمنع إذا كانت الإجارة على مدة تلي العقد، ويدخل أيضا الصرف، والسلم، لأنهما بيع حقيقة، وعنه: لا خيار فيهما، وخص القاضي في روايتيه الخلاف بالصرف، وتردد في السلم هل يلحق بالصرف أو ببقية البياعات؟ على احتمالين، ويدخل أيضا (الهبة بعوض) ، إذ المغلب إذا حكم البيع على المشهور، والإقالة، والقسمة، حيث قيل:

إنهما بيع، ويدخل أيضا (الحوالة) إن قيل: إنها بيع. لا إن قيل: إنها إسقاط، أو عقد مستقل، لوجود البيع في جميع ما تقدم. ويستثنى من عموم كلامه إذا اشترى من يعتق عليه، فإنه لا خيار له، كما لو باشر عتقه، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وفي سقوط حق صاحبه وجهان. ويخرج من كلامه كل ما ليس ببيع، كالنكاح، والخلع، والقرض والكتابة، وغير ذلك، وكذلك المساقاة، والمزارعة، والسبق، والشفعة، إذا أخذ بها، وفي الأربعة إن قيل بلزومها وجه. وقد يخرج من كلامه ما إذا اتحد العاقد، كما إذا اشترى لنفسه من مال ابنه الصغير، ونحو ذلك، إذ لا متبايعان، وقد يدخل لأنه في حكم متبايعين، وبالجملة في ثبوت الخيار لمن هذه حالته قولان، المجزوم به منهما - لصاحب [التلخيص] وابن حمدان في الصغرى، وأورده أبو محمد مذهبا - عدم الثبوت، وعلى القول بالثبوت هل يعتبر مفارقة المجلس، أو لا بد من اختيار اللزوم؟ قولان أيضا.

وقوله: ما لم يتفرقا بأبدانهما. يقتضي أن الخيار لهما ولو طال المجلس بنوم، أو بناء حاجز، أو مشي منهما، ونحو ذلك، وهو كذلك، لظاهر الحديث. 1825 - وكذا فهم أبو برزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحد رواة الحديث، وكلامه (شامل) لما إذا مات أحدهما، لعدم التفرق بالأبدان، وهو أحد الوجهين. (والثاني) - وبه جزم ابن حمدان، وصاحب التلخيص، ويحتمله كلام الخرقي كما سيأتي - أن الخيار والحال هذه يبطل، إذ الموت أعظم الفرقتين، (وشامل) أيضا لما إذا تبايعا على أن لا خيار

بينهما، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي في تعليقه، وأبي الخطاب في خلافه الصغير، وأبي الحسين، وابن عقيل في الفصول، لأن أكثر الأحاديث: «البيعان بالخيار» ، من غير زيادة، ولأنه إسقاط للحق قبل وجوبه. (والثانية) - وهي اختيار ابن أبي موسى، والقاضي في روايتيه، والشيرازي، وأبي محمد - يبطل الخيار والحال هذه، لما تقدم في حديث ابن عمر: «أو يخير أحدهما الآخر، فإن تبايعا على ذلك فقد وجب البيع» ، والأخذ بالزائد أولى، والتبايع على ذلك يمنع انعقاد السبب مؤقتا. (فعلى الأولى) في فساد العقد باشتراط ذلك قولان، أظهرهما - وهو ظاهر كلام الخرقي - عدم الفساد. ومفهوم كلامه أنه متى حصل تفرقهما بطل خيارهما، ويدخل في ذلك ما لو حصلت الفرقة بهرب، أو من غير قصد، أو جهلا، أو بإكراه، وهو كذلك، نعم في الإكراه (وجه آخر) ، يحكى عن القاضي، وأورده في التلخيص مذهبا: أن خيار المكره لا ينقطع، وإذا يكون له الخيار في

المجلس الذي زال عنه الإكراه فيه دون صاحبه، (وقول ثالث) : إن كان المكره قادرا على كلام يقطع به خياره انقطع، وإلا فلا، ثم إن أبا محمد في المغني خص الخلاف بما إذا أكره أحدهما، أما إن أكرها فقال: ينقطع خيارهما، لأن كل واحد منهما ينقطع خياره بفرقة الآخر، فأشبه ما لو أكره صاحبه دونه، وصرح في الكافي بالخلاف في الصورتين، [وهو أجود] وقد قطع ابن عقيل في الفصول ببقاء خيارهما مع إكراههما، وجعل من صور ذلك إذا رأيا سبعا، أو ظالما يؤذيهما، أو احتملهما السيل أو أحدهما، أو حملت الريح أحدهما، وجعل في جميع ذلك الخيار لهما في موضع زوال المانع، ويتلخص من ذلك - على ما قطع به ابن عقيل، وأورده في المغني مذهبا، فيما إذا أكرها أو أحدهما - ثلاثة أقوال، يبطل الخيار في الصورتين، لا يبطل فيهما، يبطل فيما إذا أكرها، ولا يبطل فيما إذا أكره أحدهما، بل يكون الخيار له دون صاحبه. ثم هل له الخيار مطلقا، أو بشرط عدم قدرته على كلام يقطع به خياره؟ فيه قولان.

(تنبيهان) : «أحدهما» المرجع في التفرق إلى العرف لعدم نص من الشارع ببيانه، وقد ضبط ذلك بأنهما إن كانا في رحب واسع فبأن يمشي أحدهما مستدبرا لصاحبه خطوات، على ما قطع به ابن عقيل، وأورده في المغني مذهبا، اتباعا لفعل ابن عمر المتقدم، وقيل - وقطع به في الكافي -: [بل] يبعد منه، بحيث لا يسمع كلامه عادة، وإن كانا في دار كبيرة فمن بيت إلى آخر، أو إلى مجلس أو صفة، بحيث يعد مفارقا له، وفي صغيرة يصعد أحدهما سطحها، أو يخرج منها، وفي سفينة صغيرة يخرج أحدهما ويمشي، وفي كبيرة يصعد أحدهما أعلاها وينزل الآخر أسفلها، ونحو ذلك. (الثاني) : قول الخرقي: ما لم يتفرقا - وكذلك في الحديث - قال الأزهري: سئل أحمد بن يحيى - ثعلب - عن الفرق بين التفرق والافتراق، فقال: أخبرني ابن الأعرابي عن المفضل قال: يقال: فرقت بين الكلامين - مخففا - فافترقا، وفرقت

بين اثنين - مشددا - فتفرقا، فجعل الافتراق في الأقوال، والتفرق في الأبدان وهو يؤيد ما ذهبنا إليه. وقوله في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص «إلا أن يكون صفقة خيار» أصل الصفقة ضرب اليد [على اليد] في البيع، ثم جعل عبارة عن العقد، أي إلا أن يكون عقد خيار، ثم يحتمل أن المراد عقد شرط فيه الخيار، ويكون مستثنى مما بعد الغاية، ويحتمل أنه عقد نفي فيه الخيار، فيكون مستثنى من المنطوق، ولعله أظهر وقول نافع: مشى هنيهة. تصغير «هنة» وهي كلمة يعبر بها عن كل شيء قليل، والله أعلم. قال: فإن تلفت السلعة، أو كان عبدا فأعتقه المشتري أو مات، بطل الخيار. ش: إذا تلفت السلعة في مدة الخيار بطل في إحدى الروايتين عن أحمد، اختارها الخرقي وأبو بكر، نظرا إلى أن التالف لا يتأتى عليه الفسخ (والثانية) - وهي أنصهما، واختارها الشريف، وابن عقيل، وحكاها في موضع من

الفصول عن الأصحاب - يبطل خيار المشتري، لحصول التلف في ملكه، ولا يبطل خيار البائع، بل له الفسخ، والرجوع إلى البدل، لتعذر الرجوع في العين، نظرا إلى أن الفسخ للعقد، وإنما ورد على موجود، ولعموم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» وكأن محل التردد هل النظر إلى حال العقد أو إلى الحال الراهنة، وحكم عتق المشتري للعبد [المبيع] حكم تلفه، لأنه تلف معنوي، لانتفاء المالية منه، ولما كان التلف المعنوي قد يتوهم أنه يخالف التلف الحسي نبه الخرقي عليه، مع زيادة فائدة يأتي بيانها إن شاء الله تعالى، ثم لما فصل العبد من بقية السلع، ذاكرا لحكم عتقه، ربما أوهم أن تلفه ليس كذلك، فأزال ذلك الوهم فقال: أو مات. ويحتمل أن يعود الضمير - لعله أظهر - في: أو مات. إلى المشتري، فيفيد أن المشتري إذا مات [في] مدة خيار المجلس يبطل الخيار، لما تقدم من أن الموت أعظم الفرقتين. والفائدة التي أشرنا إليها ثم في كلام الخرقي هي أن عتق المشتري يصح، وهو مبني على انتقال الملك إليه بمجرد العقد، كما هو المشهور والمختار من الروايتين، وعلى

الرواية التي تقول لا ينتقل الملك إليه إلا بانقضاء الخيار لا ينفذ عتقه، بل عتق البائع، إناطة بالملك. واعلم أنه لا يصح تصرف المشتري فيما صار إليه، ولا تصرف البائع فيما بذل له، بشيء في مدة الخيار، على المشهور من الروايتين، حذارا من إبطال حق الغير من الخيار أو التصرف في غير ملك، (والثانية) يقع التصرف موقوفا على انقضاء الخيار، [ولا يبطل حق من لم يتصرف من الخيار] فإن انقضى ولا فسخ صح التصرف، وإن فسخ من لم يتصرف، بطل التصرف، ويستثنى من ذلك العتق، فإنه يصح ممن له الملك بلا نزاع نعلمه عندنا. 1826 - اعتمادا على عموم مفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عتق لابن آدم فيما لا يملك» [ولبنائه على التغليب والسراية] ولتشوف الشارع إليه، [ولهذا يسري في ملك الغير] وفي إلحاق الوقف به

خلاف، الأصح: لا، واستثنى أبو الخطاب في الانتصار والشيخان تصرف المشتري والخيار له وحده، وزاد أبو البركات بتصرفه مع البائع، ونبه بذلك على [تصرفه بإذن البائع، أو تصرف البائع، بوكالة المشتري أنه يصح بطريق الأولى، كما صرح به أبو محمد، وله في تصرف البائع بإذن المشتري احتمالان، ولصاحب التلخيص احتمال بعدم] صحة تصرف المشتري، والخيار له وحده، وبناه على القول بأن الملك إنما يحصل له بالعقد واللزوم، على الرواية الضعيفة، وقد عرف من هذا أن الشيخين فرعا على الرواية المشهورة، من حصول الملك له بالعقد، وأن إيراد ابن حمدان المذهب بمنع التصرف مطلقا إلا في العتق - تبعا لإطلاق بعض الأصحاب المنع - ليس بشيء. (تنبيه) : كلام الخرقي ومن حذا حذوه - والله أعلم - في التلف إنما هو فيما كان من ضمان المشتري، أما ما كان من ضمان البائع فسيأتي أنه تارة ينفسخ العقد فيه بمجرد التلف، وتارة يخير المشتري بين الفسخ والإمضاء، ومطالبة المتلف بالبدل، وكلامهم يشمل ما إذا كان في مدة الخيارة أو بعدها، وقد نبه على ذلك أبو محمد، وإن كان في كلامه

تجوز، فإنه قال: إن التلف إن كان قبل القبض وكان مكيلا أو موزونا انفسخ العقد، وكان من مال البائع، قال: ولا أعلم فيه خلافا، إلا أن يتلفه المشتري، فيكون من ضمانه، ويبطل خياره، وفي خيار البائع روايتان، فأطلق - والحال ما تقدم - أن العقد ينفسخ، وهو ممنوع لأنه إذا أتلفه أجنبي لم ينفسخ العقد كما سيأتي، بل يخير المشتري بين الفسخ ومطالبة متلفه ببدله، وقد وقع لابن عقيل أيضا نحو قوله، والله أعلم. قال: وإن تفرقا من غير فسخ لم يكن لواحد منهما الرد إلا بعيب أو خيار. ش: إذا تفرق المتبايعان من غير فسخ لم يكن لواحد منهما الرد في الجملة، لما تقدم من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا» وفي رواية حتى يتفرقا» غياه إلى غاية هي التفرق فمفهومه أنه لا خيار لهما بعد التفرق، وأصرح من ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن تفرقا بعد أن تبايعا، ولم يترك واحد منهما البيع، فقد وجب البيع» أي ثبت واستقر.

وعموم كلام الخرقي يدخل فيه ما يفتقر إلى القبض، وهو المذهب بلا ريب، لظواهر الأحاديث وعن القاضي في [موضع] أن ما يفتقر إلى القبض لا يلزم إلا بقبضه. واستثنى الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - شيئين (أحدهما) أن من اطلع منهما على عيب فإن له الرد، وهو كذلك في الجملة، وقيل: إنه لم يصح فيه حديث، ولكنه إجماع، وفي معنى العيب إذا أخبره في المرابحة بثمن، فبان أنه أقل، أو أخبره أن الثمن حال، فبان مؤجلا، ونحو ذلك، والتدليس بما يختلف به الثمن، ويقرب منه اشتراط صفة تقصد فلم توجد. (الثاني) : إذا اشترطا أو أحدهما خيار اليوم أو الشهر، فإن له الرد بذلك.

1827 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المؤمنون عند شروطهم» الحديث، ولما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو «إلا أن تكون صفقة خيار» على أحد الاحتمالين فيه، ولأنها مدة ملحقة

بالعقد، فصحت كالأجل، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك في الكافي إجماعا، لكنه معترض، نعم هو قول العامة، وهذا يلقب بخيار الشرط، والأول بخيار المجلس. وقوله: بعيب أو خيار. الباء للسببية، أي بسبب عيب، أو بسبب خيار، فيحتمل أن يريد ما تقدم من شروط الخيار، وهو أظهر لما سيأتي، ويحتمل أن يريد حيث ثبت لواحد منهما خيار، فيدخل في ذلك خيار تلقي الركبان والنجش، ويأتيان إن شاء الله تعالى، وخيار المسترسل، وهو الجاهل بقيمة المبيع، كفقير يشتري جوهرة، ونحو ذلك، والمذهب صحة معاوضة من هذه حاله، والمذهب أيضا على صحة البيع ثبوت الخيار له إذا غبن، والمذهب المنصوص أيضا عدم تحديد الغبن، وإناطته بما لا يتغابن بمثله، أما إن كان عالما بالقيمة فإنه لا خيار له وإن غبن، قاله القاضي وغيره، ولأن ذلك الغبن حصل بعجلته، وعدم تأمله عادة وقدره أبو بكر، وابن أبي موسى بالثلث، وبعض الأصحاب بالسدس، ويدخل أيضا خيار الخلف في الصفة حيث صح البيع بها، أو برؤية

متقدمة، وخيار الرؤية على المشهور من الروايتين، حيث صح البيع بلا رؤية مطلقا ولا صفة، كما هو رواية مرجوحة، والله أعلم. قال: والخيار يجوز أكثر من ثلاث. ش: الألف واللام لمعهود تقدم، هو خيار الشرط، وقوله: أكثر من ثلاث أي ثلاث ليال بأيامها، إذ التاريخ يغلب فيه الليالي، وكأن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تبع لفظ الحديث. 1828 - وهو ما «روي عن [محمد بن] يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمرو كان رجلا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه، وكان لا يدع على ذلك التجارة، فكان لا يزال يغبن، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك له، فقال: «إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، إن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها» رواه البخاري في تأريخه، وابن ماجه والدارقطني.

1829 - وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر «أن رجلا ذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يخدع في البيوع، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بايعت فقل: لا خلابة» فكان إذا بايع قال: لا خلابة» . رواه البخاري ورواية مسلم قال: لا خيابة. إذا عرف هذا فالأصل في جواز الخيار أكثر من ثلاث قوله سبحانه: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون عند شروطهم» ولأنها مدة ملحقة بالعقد، فجاز ما اتفقا عليه كالأجل، ولا يرد خبر منقذ، لأنه خاص به.

1830 - بدليل أنه عاش إلى زمن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكان يبايع ويغبن، ويرد السلع على التجار، ويقول: الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل لي الخيار ثلاثا، فيمر الرجل من أصحاب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيقول: ويحك صدقك، إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل له الخيار ثلاثا. ويدخل في عموم كلام الخرقي إذا كان المبيع لا يبقى في المدة المشترطة كطعام رطب [ونحوه] ، وصرح بذلك القاضي في أثناء مسألة اشتراط الخيار [في الإجارة] ، وأورد عليه فقال: يصح ويباع، ويحفظ ثمنه إلى المدة، قلت: وهذا قياس ما قالوه في الرهن إذا كان لا يبقى إلى المدة، قال أبو العباس: ويتوجه عدم الصحة من وجه في الإجارة، أي من وجه عدم صحة اشتراط الخيار في إجارة تلي العقد، ومن أن تلف المبيع يبطل الخيار. (تنبيهان) : (أحدهما) : من شرط الخيار أن يكون معلوما، فلا يصح مجهولا على المشهور المعمول عليه من

الروايتين، (والثانية) يصح وينقطع بانقطاع من له الخيار أو انقطاع مدته (ثم محل الخيار البيع) وما في معناه، إلا بيع بشرط القبض، كالصرف، والسلم، (وفي الإجارة) ، لأنها بيع في الحقيقة، لا إجارة تلي العقد في وجه، (الثاني) قد تقدم عن يحيى بن حبان أن الذي كان يغبن هو جده منقذ بن عمرو، وقال جماعة: إنه والده حبان، وهو بفتح الحاء وبالموحدة «والآمة» [هي التي تصل إلى جلدة الدماغ كما] سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى، ولا خلابة بكسر الخاء، أي لا خديعة، ومنه قولهم: «إذا لم تغلب فاخلب» وقوله: لا خيابة لأنه كان ألثغ، يبدل اللام ياء ورواه بعضهم: لا خيانة. بالنون وهو تصحيف، والله أعلم.

باب الربا والصرف وغير ذلك

[باب الربا والصرف وغير ذلك] قال - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: باب الربا والصرف وغير ذلك ش: الربا مقصور، وأصله الزيادة، والمادة حيث تصرفت لذلك، قال الله سبحانه: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] أي علت وارتفعت، وقال تعالى: {أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل: 92] أي أكثر عددا، وقال تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265] أي بمكان عال، وهو في الشرع: زيادة في شيء مخصوص. والصرف بيع أحد النقدين بالآخر قيل: سمي بذلك من صريفهما وهو تصويتهما في الميزان، وقيل: لانصرافهما عن مقتضى البياعات، من عدم جواز التفرق قبل القبض والبيع نساء. «وغير ذلك» أي من حكم العيب إذا وجد في الصرف، وبيان العرايا، والربا نوعان -، قد شملهما كلام الخرقي - ربا

الفضل، وربا النسيئة، وكلاهما محرم، وممنوع منه في الجملة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] إن لم نقل: إنها مجملة كما تقدم. 1831 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: «الإشراك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق عليه. 1832 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لعن آكل الربا، وموكله، وشاهديه، وكاتبه» ، رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وأجمع المسلمون على تحريم ربا النسيئة تحريما لا ريب فيه، وعامتهم على تحريم ربا الفضل.

1833 - ووقع خلاف في الصدر الأول عن أسامة بن زيد، وزيد بن أرقم، وابن الزبير، وابن عباس وعنه اشتهر.

1834 - لما روى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا ربا إلا في النسيئة» رواه البخاري وقد أقر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأبي سعيد أنه سمع ذلك من أسامة. 1835 - وحديث أسامة في الصحيحين «الربا في النسيئة» وفي رواية «إنما الربا في النسيئة» وفي أخرى «لا ربا فيما كان يدا بيد» وهذه أصرحها، ثم قد صار إجماعا، ورجع من تقدم إلى قول الجماعة، واختلف في رجوع ابن عباس، وبالجملة

يشهد لقول العامة إطلاق ما تقدم. 1836 - وعن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» رواه أحمد، ومسلم، وغيرهما.

1837 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» متفق عليه وفي رواية لأحمد والبخاري «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلا بمثل، يدا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء» . 1838 - وفي الصحيح أيضا هذا المعنى من حديث فضالة بن عبيد، وأبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وحديث أسامة لا يقاوم هذه، لكثرة رواتها، وصراحة دلالتها، إذ هي دلالة منطوق بلا ريب،

ثم يحمل على أنه وقع جوابا لسؤال عن الجنسين من أموال الربا، أو مطلقا، فقال: «لا ربا إلا في النسيئة» أي في المسئول عنه وهو الجنسان، أو أن المراد نفي الربا الأغلظ الذي ورد نص القرآن في تحريمه بلا ريب، وهو الذي كانت العرب تعرفه، تقول للغريم إذا حل الدين: إما أن تقضي، وإما أن تربي في الدين، أي تزيد.

1839 - وهو الذي نسخه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم عرفة، وقال عنه: «ألا إن كل ربا موضوع، وإن أول ربا أضعه ربا عباس» وهذا كما يقال: إنما المال الإبل، وإنما الشجاع علي، ونحو ذلك، ثم لو قدر التعارض من كل وجه، فقد يقال: نسخ حديث أسامة أولى، لورود النسخ إذا على مباح الأصل، لأن الشارع إنما منع من النساء، وبقي التفاضل على ما كان عليه. (تنبيه) : «لا تشفوا بعضها على بعض» أي لا يكون لأحدهما شفوف على الآخر، أي زيادة، و «الناجز» المعجل الحاضر، والله أعلم. قال: وكل ما كيل أو وزن من سائر الأشياء فلا يجوز

التفاضل فيه إذا كان جنسا واحدا. ش: قد تقدم أن الإجماع قد انعقد على تحريم ربا الفضل في الجملة، وإن كان قد وقع في الصدر الأول خلاف، وأجمعوا على ذلك في الأعيان الستة المذكورة في حديث عبادة، ثم اختلفوا هل جرى الربا فيها لأعيانها أو لمعان فيها؟ فقال داود ومتابعوه: لأعيانها، فلا يتعدى الحكم إلى غيرها، وقال العامة: لمعان فيها، ثم اختلفوا هل عرف ذلك المعنى أم لا؟ فعن ابن عقيل في العمد أنه تردد في المعنى، ولم يتعد الستة، لتعارض الأدلة عنده في المعنى وتكافئها، ويحتمل هذا قول طاوس وقتادة، فإنه حكي عنهما القصر على الستة، ويحتمل أن قولهما كقول داود، وأن عندهما أن {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] عام، خرج منه الأعيان الستة، بقي ما عداها على مقتضى العموم، ولا يريان تخصيص العام بالقياس.

وجمهور أهل العلم على معرفة العلة، وتعديها إلى غير الستة، ثم اختلفوا فيها على سبعة أقوال، وعن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - من ذلك ثلاثة أقوال. (أحدها) : - وهو الأشهر عنه، ومختار عامة أصحابه، قال القاضي: اختارها الخرقي وشيوخ أصحابنا - أن العلة في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس، والعلة في الأربعة الباقية كونهن مكيلات جنس، فيتعدى الحكم إلى كل موزون، ومكيل بيع بحبسه، كالحديد، والنحاس، والحبوب، والأبازير، وغير ذلك، دون ما لا يكال ولا يوزن من مطعوم وغيره. 1840 - لما روي عن أبي سعيد، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعمل رجلا على خيبر، فجاء بتمر جنيب، فقال: «أكل تمر خيبر هكذا؟» فقال: لا يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا» وقال في الميزان مثل ذلك، ولمسلم «وكذلك الميزان» متفق عليه فقوله: في الميزان أي في الموزون،

وإلا فنفس الميزان ليس من أموال الربا. 1841 - وقال الإمام إسحاق بن راهويه: أخبرنا روح بن عبادة، حدثنا حيان بن عبيد الله، وكان رجلا صدوقا - عن أبي مجلز، عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «التمر بالتمر» وذكر الحديث، إلى قوله: «فما زاد فهو ربا» قال: «وكذلك ما يكال وما يوزن» وهو نص، إلا أن ابن حزم زعم أن «وما يكال وما يوزن» من قول أبي سعيد، قال: دل على ذلك قوله: قال: وكذلك ما يكال وما يوزن. وليس في هذا دليل، لاحتمال عود الضمير إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -،

وهو الأصل، ويؤيده رواية البخاري السابقة: وقال في الميزان مثل ذلك. 1842 - وعن الحسن عن أنس وعبادة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما وزن مثلا بمثل، إذا كان نوعا واحدا، وما كيل فمثل ذلك» رواه الدارقطني. 1843 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين، ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرماء» وهو الربا، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله أرأيت الرجل يبيع الفرس بالأفراس، والنجيبة بالإبل؟ فقال: «لا بأس إذا كان يدا بيد» رواه أحمد. (والقول الثاني) : أن العلة في الذهب والفضة الثمنية، فلا يتعدى إلى غيرهما، والعلة في الأربعة الباقية كونهن مطعوم جنس. 1844 - لما روى معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح، فقال: بعه ثم اشتر به شعيرا، فذهب الغلام فأخذ صاعا زيادة بعض

الصاع، فلما جاء معمرا أخبره بذلك، فقال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق به فرده، وقال: لا تأخذ إلا مثلا بمثل، فإني كنت أسمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «الطعام بالطعام مثلا بمثل» وكان طعامنا يومئذ الشعير، قيل له: فإنه ليس بمثله، قال: إني أخاف أن يضارع، رواه مسلم والطعام يشمل كل مطعوم، ولأن الطعم وصف شريف، إذ به قوام الأبدان، وكذلك الثمنية، إذ بها قوام الأموال، فاقتضت الحكمة التعليل بهما. (والقول الثالث) : العلة في النقدين الثمنية، والعلة في الأربعة الباقية الطعم والتقدير في الجنس، فإن الأربعة مكيلة، غير أن المؤثر إنما هو التقدير المنضبط، فيدخل فيه الوزن، فيتعدى ذلك إلى كل مطعوم مقدر بكيل أو وزن بيع بجنسه، وهذا اختيار أبي محمد، نظرا إلى ما ذكرناه من أن هذه الأربعة مطعومة، والمماثلة إنما تعتبر بالمعيار الشرعي، وهو الكيل والوزن، وجمعا بين الأحاديث، فنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل، يحمل على ما فيه معيار شرعي، وهو الكيل أو الوزن ونهيه عن بيع الصاع بالصاعين [ونحوه]

يحمل على المطعوم، توفيقا بينهما. ويرجح الأول بأن الطعام بعض أفراد الصاع [بالصاعين] ونحو ذلك، لما تقدم من أن المثلية لا تتحقق إلا بكيل أو وزن، وهو المدعى على القول الأول علة، ويجاب بمخالفته له في المفهوم، وهو مبني على اعتبار مفهوم اللقب، والمذهب اعتباره، ثم على اعتباره والحال هذه، وفيه وجهان، انتهى واتفق الكل على اعتبار الجنس في ربا الفضل، كما نص عليه الخرقي. 1845 - إلا سعيد بن جبير، فإنه جعل الشيئين المتقارب نفعهما - كالحنطة مع الشعير، والتمر مع الزبيب - كالجنس الواحد، وهو مردود بالنصوص السابقة. (تنبيهات) : «أحدها» على المذهب يجري الربا في كل مكيل، وإن لم يكن مطعوما، كالأشنان ونحوه، وفي كل موزون، وإن لم يكن كذلك، كالحديد ونحوه، ولا يجري في

مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالبيض والماء ونحوهما، والمعتبر كون جنس ذلك مكيلا أو موزونا، وإن لم يأت فيه ذلك، إما لقلته، كتمرة، وحبة شعير ونحو ذلك، وإما لثقله، كالزبرة العظيمة من الحديد ونحوه، وإما للعادة كلحم الطير ونحوه، فلا يجوز بيع بعض ذلك ببعض إلا مثلا بمثل، بمعياره الشرعي، وهو الكيل أو الوزن ويحتمل قول الخرقي جواز ذلك، لقوله: وكل ما كيل أو وزن. وهو محمول على ما جنسه الكيل أو الوزن، وهل يعم المعمول من الموزون بأصله، أو بحاله بعد العمل؟ نص أحمد في رواية: جماعة: أنه لا يباع فلس بفلسين، ولا سكين بسكينين، ولا إبرة بإبرتين، معللا بأن أصل ذلك الوزن، ونص في رواية جماعة أنه لا بأس ببيع ثوب بثوبين، وكساء بكسائين، فنقل القاضي في المجرد إحدى المسألتين إلى الأخرى، فجعل فيهما جميعا روايتين، والمنع اختيار جماعة منهم ابن عقيل في الفصول وغيره اعتبارا بأصله، والجواز اختيار أبي محمد في المغني، نظرا للحال الراهنة، ومقتضى كلام القاضي في التعليق، وفي الجامع

الصغير، حمل النص على اختلاف حالين، فإنه لما قال: يجري الربا في معمول الحديد ونحوه، وذكر نصه على ذلك، فأورد عليه النص الآخر في جواز ثوب بثوبين، فقال: هذا في ثياب لا ينبغي بها الوزن، أما الإبريسم ونحوه فإنه لا يجوز، ونحو هذا قول جماعة [وهو أوجه] فينظر في حاله بعد العمل، فإن قصد وزنه جرى فيه الربا، وإلا فلا، وأبو محمد في الكافي نظر إلى هذا المعني في الموزون، وقطع في منسوج القطن والكتان بأنه لا ربا فيه وأطلق، وصاحب التلخيص جعل الروايتين فيما لا يتعين وزنه بعد عمله، أما ما يقصد وزنه بعد عمله فجزم بوجوب التماثل فيه. انتهى. ثم إن صاحب التلخيص قال في الفلوس - بعد أن حكى فيها الروايتين -: وسواء كانت نافقة أو كاسدة، بيعت بأعيانها أو بغير أعيانها، وكذلك قال القاضي في الجامع الصغير، وابن عقيل، والشيرازي وغيرهم، وجزم أبو الخطاب في خلافه الصغير بأنها مع نفاقها لا تباع بمثلها إلا متماثلة، معللا بأنها أثمان فأشبهت الدراهم والدنانير، ثم عقب ذلك بذكر الخلاف

في معمول الحديد، وظاهر هذا أنها مع كسادها يجوز التفاضل فيها إن لم يعتبر الوزن، ويتلخص من ذلك أن الفلوس النافقة هل تجري مجرى الأثمان، فيجري الربا فيها، إن قلنا، العلة في النقدين الثمنية مطلقا، وهو ظاهر ما حكاه عن أبي الخطاب في خلافه الصغير، أو لا تجري مجراها، نظرا إلى أن العلة ما هو ثمن غالبا، وذلك يخص الذهب والفضة، وهو قول أبي الخطاب في خلافه الكبير؟ على قولين، فعلى الثاني لا يجري الربا فيها إلا إذا اعتبرنا أصلها، وقلنا: العلة في النقدين الوزن، كالكاسدة، وعلى رواية الطعم والثمنية في النقدين يجري الربا في كل مطعوم قوتا كان أو أدما، أو فاكهة، أو دواء. ويستثنى من ذلك الماء، على ما قطع به القاضي في الجامع الصغير، وأبو محمد وصاحب التلخيص، والسامري، وغيرهم، مع أنه مطعوم، قال سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] وعلل ذلك صاحب التلخيص بأن أصله الإباحة، وهو منتقض بلحم الطير، وبالطين الأرمني ونحوهما، وبأنه مما لا يتمول، وهو مردود، بأن العلة عندنا ليست المالية،

والقياس جريان الربا فيه على هذه الرواية، وهو ظاهر ما في خلاف أبي الخطاب الصغير. والمعتبر الطعم للآدميين لا لغيرهم، فلا يجري الربا في التبن ونحوه على مقتضى كلام أبي محمد، ويجري الربا في الذهب والفضة، تبرهما ومضروبهما، وكيف ما كانا، على المشهور، وعنه أنه منع من بيع الصحاح بالمكسرة، ولا عمل عليه، لظواهر النصوص، وهل يجري الربا في الفلوس النافقة؟ فيه تردد تقدم، وعلى رواية اعتبار الطعم مع الكيل أو الوزن لا يجري الربا في مطعوم لا يكال ولا يوزن، كالتفاح، والرمان، والسفرجل، والخوخ، والكمثرى، والأجاص، والجوز، والأترج، والخيار والبيض، ونحو ذلك، [ولا في غير مطعوم، كالأشنان، والحديد والرصاص، ونحو ذلك] . (التنبيه الثاني) : قول أحمد: لا تباع سكين بسكينتين. محمول على ما إذا اختلف الوزنان، أما إن اتحدا جاز، إذ العبرة به لا بالعدد. (الثالث) : «سائر» استعملها الخرقي هنا، وفي قوله - بعد - وسائر اللحمان جنس واحد. وفي مواضع بمعنى

«جميع» وهو خلاف اللغة المشهورة، حتى أن بعضهم أنكر ذلك، وقد استعمل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اللغة المشهورة أيضا في الغسل، في قوله: ثم يفيض الماء على سائر جسده. وكذلك في باب المصراة. 1846 - وهي التي نطق بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قوله لغيلان بن سلمة «أمسك أربعا، وفارق سائرهن» وعلى هذا هي مأخوذة من السؤر، وهو البقية، وعلى الأول من سور البلد، وهو ما أحاط به، «والتمر الجنيب» بفتح الجيم وكسر النون، وآخره باء موحدة، نوع من جيد التمر، «والجمع» بفتح الجيم،

وسكون الميم، تمر مختلف، من أنواع متفرقة، غير مرغوب فيه للاختلاط، إذ ما يخلط إلا لرداءته «والرماء» بفتح الراء مخففا ممدودا، لغة في الربا، «ويضارع» أي يشابه «وأبي مجلز» بكسر الميم، وسكون الجيم، وآخره زاي، «وحيان» بحاء مهملة مفتوحة، وبعدها ياء مشددة، مثناة من تحت، والله أعلم. قال: وما كان من جنسين جاز التفاضل فيه يدا بيد، ولا يجوز نسيئة. ش: قد تقدم أن شرط جريان ربا الفضل الجنس عند العامة، فإذا عدم الجنس امتنع ربا الفضل، وجرى ربا النسيئة، إن اجتمع الجنسان في علة واحدة، كمكيل بمكيل،

وموزون بموزون، ومطعوم بمطعوم، إن علل بالطعم، وذلك لما تقدم من حديث عبادة، وأبي سعيد يدا بيد وفي حديث أبي سعيد «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» . وإن اختلفا في العلة - كمكيل مع موزون - فروايتان، (إحداهما) - وهي ظاهر كلام الخرقي - جريانه أيضا، لحديث عبادة المتقدم «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدا بيد» (والثانية) لا يجري، لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل، فأشبه الثياب، والحيوان، كما سيأتي. ويستثنى مما تقدم إذا كان أحد العوضين ثمنا والآخر مثمنا، فإنه يجوز النساء بغير خلاف نعلمه، وإن اتحدا في الوزنية، لئلا ينسد باب السلم في الموزونات. وقول الخرقي: يدا بيد. يقتضي وجوب التقابض في الجنسين من مالي الربا، إذا بيع أحدهما بالآخر، ولا نزاع عندنا فيما نعلمه في ذلك، إن كانت العلة واحدة، لما تقدم من حديثي عبادة، وأبي سعيد. 1847 - وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

«الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء» متفق عليه أي: إلا هاك وهات. كذا فهمه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 1848 - ففي الموطأ: قال مالك بن أوس بن الحدثان النصري: أنه التمس صرفا بمائة دينار، قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله، فتراوضنا حتى اصطرف مني، وأخذ الذهب يقلبها في يده، ثم قال: حتى يأتيني خازني من الغابة، وعمر بن الخطاب يسمع، فقال: والله لا تفارقه حتى تأخذ منه، ثم قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وذكر الحديث، وهذا يمنع تأويل من ادعى أن «يدا بيد» أي لا يكون نسيئة انتهى. أما إن اختلفت العلة فظاهر إطلاق الخرقي وجوب التقابض أيضا، وصرح بذلك ابن عبدوس على رواية منع النساء التي هي أيضا ظاهر كلام الخرقي، وهو ظاهر حديث عبادة المتقدم، والمعروف عند كثير من المتأخرين - حتى أن أبا الخطاب قال: إنه رواية واحدة - جواز التفرقة قبل القبض، وإن منعنا النساء، وحيث أوجبنا التقابض فتفرقا قبله بطل العقد.

(تنبيه) : هاء وهاء بالمد، وفتح الهمزة، وفيه أربع لغات هذه إحداهن، وفيها لغتان (إحداهما) أنها تقال بلفظ واحد مطلقا، (وثانيتهما) تلحق بها العلامات المفرقة، فللمذكر «ها» وللمؤنث «هات» وللاثنين «هاءآ» وللجميع «هاؤا» كالحال في «هاؤم» (اللغة الثانية) في الأربع «هأ» بالقصر والهمزة الساكنة على وزن «خف» وفيها اللغتان المتقدمتان، فعلى التفريق للمذكر «هأ» كخف وللمؤنث «هائي» كخافي، وللاثنين «هاآ» كخافا، وللجمع «هاؤا» كخافوا (اللغة الثالثة) «هاء» بالمد، وكسر الهمزة، [بلفظ واحد مطلقا، غير أنهم زادوا ياء مع المؤنث، فقالوا: هائي. (الرابعة) بالقصر وترك الهمزة] ، حكاها بعض اللغويين، وأنكرها أكثرهم، حتى أن الخطابي خطأ من روى من المحدثين كذلك، ومعنى «هاء وهاء» : خذ وهات في الحال، كما قيل: يدا بيد. «وتراوضنا» تجارينا، والله أعلم.

قال: وما كان مما لا يكال ولا يوزن فجائز التفاضل فيه يدا بيد، ولا يجوز نسيئه. ش: قد علم من ترجمة هذه المسألة أن وضع المسألة السابقة فيما كان مكيلا أو موزونا، وهذا والله أعلم الذي أحوج الخرقي إلى فصل المسألتين، ليفصل مسألة الوفاق من مسألة الخلاف، وإلا فحكم المسألتين عنده واحد. إذا عرف هذا فقد اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا انتفت علة ربا الفضل، هل يجوز النساء؟ على أربع روايات (إحداهن) - وهي اختيار القاضي وأبي الخطاب، وابن عبدوس، وأبي محمد، وغيرهم - يجوز.

1849 - لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره أن يجهز جيشا، فنفذت الإبل، فأمره أن يأخذ على قلائص الصدقة، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة» ، رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني وصححه.

1850 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه باع جملا له يسمى عصيفيرا بعشرين بعيرا إلى أجل، رواه مالك في موطئه، والشافعي في مسنده. 1851 - وعن ابن عمر، ورافع بن خديج نحوه، ذكر ذلك البخاري وغيره. (والثانية) - واختارها ابن أبي موسى، وأبو بكر، والخرقي فيما قاله القاضي، وأبو الخطاب وغيرهما - لا يجوز. 1852 - لما روى الحسن عن سمرة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة» ، رواه الخمسة وصححه الترمذي.

1853 - وقد روي من حديث جابر بن سمرة رواه عبد الله بن أحمد، ومن رواية ابن عباس، رواه البزار، ومن رواية ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جميعا وهو يشمل بعمومه الجنس والجنسين، ولا يضر التكلم في بعضها، إذ الحجية تحصل بمجموعها، لتقوي بعضها ببعض، مع أن الترمذي قد صحح الأول، وأحمد احتج به في رواية ابن إبراهيم، وحديث عبد الله بن عمرو قضية عين، فلعل ذلك كان في بدء الإسلام، قبل نزول تحريم الربا، أو كانت المعاملة مع أهل الحرب، جمعا بين الأدلة.

ومن نصر الأول رجحه بفعل الصحابة، وطعن في الأحاديث بأن أحمد قال: ليس فيها حديث يعتمد عليه، ويعجبني أن يتوقاه، وقال في حديث ابن عمر وابن عباس: إنهما مرسلان، وإن الحسن لا يصح سماعه من سمرة، ولا يخفى أن مثل هذا الطعن لا يسقط الحجية، لما تقرر من أن المرسل حجة عندنا، بل وعند العامة في مثل هذا الموطن لاعتضاده بحديث آخر، وبمرسل آخر، فعلى هذه الرواية لو باع عرضا بعرض، ومع أحدهما دراهم، العروض نقدا، والدراهم نسيئة جاز، إذ لا نساء بين الثمن والمثمن، ولو كانت الدراهم نقدا، والعرضان أو أحدهما نسيئة لم يجز، حذارا من النسيئة في العروض، نص عليه أحمد، وقاله القاضي وغيره (والرواية الثالثة) يحرم في الجنس الواحد، ولا يحرم في الجنسين لأن الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل، فمنع النساء كالكيل والوزن، ويحمل حديث سمرة بن جندب ونحوه على ذلك، وهو مردود بأن الجنس شرط الجريان ربا الفضل أو محل في ذلك، لا وصف في العلة، والحمل على ما ذكر فيه تعسف

(والرابعة) يحرم في الجنس الواحد متفاضلا لا متماثلا، ولا في الجنسين. 1854 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «لا يصلح الحيوان بالحيوان اثنان بواحد نسيئة، ولا بأس به يدا بيد» رواه الترمذي وحسنه، ومفهومه جواز الواحد بالواحد، لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة، وقد قال أحمد: زاد فيه «نساء» وليث بن سعد سمعه من أبي الزبير، لا يذكر فيه «نساء» قال أبو محمد: ويحتمل أن الخرقي أراد هذه الرواية، قلت: وعلى هذا يكون تقدير الكلام: وما كان مما لا يكال ولا يوزن، فجائز التفاضل فيه يدا بيد، إذا كان جنسا واحدا، ولا يجوز نسيئة، وعلى ما قال الجماعة أنه اختيار الخرقي التقدير في الثاني: أي ولا يجوز بيعه نسيئة، ويحتمل كلام الخرقي منع النساء مع التفاضل مطلقا، والتقدير إذا: ولا يجوز التفاضل فيه نسيئة، وهذا يرجحه أن في اللفظ ما يدل عليه وهو ذكر

التفاضل، ويبعده ما تقدم في صدر المسألة. (تنبيه) : «القلائص» جمع قلوص، وقد تقدم في أول الكتاب، «والراحلة» [اسم للجمل والناقة إذا كانا قويين على الأحمال والأسفار «ونفذت الإبل» أي فنيت] ، والله أعلم. قال: ولا يباع شيء من الرطب بيابس من جنسه إلا العرايا. ش: الألف واللام في الرطب لمعهود ذهني، وهو رطب يجري فيه الربا، كالرطب والعنب، فلا يباع الأول بالتمر، ولا الثاني بالزبيب، متماثلا ولا متفاضلا. 1855 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيع الرجل تمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله» ، متفق عليه. 1856 - وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسأل عن اشتراء التمر بالرطب؟ فقال لمن حوله «أينقص الرطب إذا يبس؟» قالوا: نعم. فنهى عن ذلك» ، رواه

الخمسة، وصححه الترمذي، وهذا السؤال إرشاد للعلة، وهي النقص في ثاني الحال، أو انفراد أحدهما بالنقص، سؤال تقرير وتنبيه، لا استفهام حقيقي، لعلمه بذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. واستثنى الخرقي العرايا، وسيأتي ذلك إن شاء الله، ومفهوم كلامه جواز بيع الرطب بالرطب، ويأتي أيضا إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: ولا يباع ما أصله الكيل بشيء من جنسه وزنا، ولا ما أصله الوزن كيلا. ش: المساواة المعتبرة فيما يحرم فيه التفاضل هي المساواة في معياره الشرعي، وهو الكيل في المكيل، والوزن في الموزون، فلا يباع المكيل بجنسه، إلا كيلا، ولا الموزون

بجنسه إلا وزنا، إلا إذا علم مساواته في معياره [الشرعي] . 1857 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الذهب بالذهب وزنا بوزن، مثلا بمثل، والفضة بالفضة، وزنا بوزن، مثلا بمثل، فمن زاد أو استزاد فهو ربا» رواه مسلم. 1858 - وفي حديث عبادة في رواية أبي داود أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدي بمدي، والشعير بالشعير مدي بمدي، والتمر بالتمر مدي بمدي، والملح بالملح مدي بمدي، فمن زاد أو ازداد فقد أربى» فاعتبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الموزون الوزن، وفي المكيل الكيل، فمن خالف ذلك خرج عن المشروع المأمور به. 1859 - وإذا يدخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» نعم لا يعتبر كيل جرت العادة به، بل يجوز

التعديل بإناء لم تجر العادة بالكيل به، كما يجوز بالوضع في كفتي الميزان، ذكره في التلخيص. ومفهوم كلام الخرقي جواز بيع المكيل بمكيل [من غير جنسه وزنا، وبيع الموزون بموزون] من غير جنسه كيلا، وهو كذلك لحديث عبادة «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم» . 1860 - وفي الصحيح من حديث أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وأمرنا أن نشتري الفضة بالذهب كيف شئنا، ونشتري الذهب بالفضة كيف شئنا» ، متفق عليه، ومن ثم اختار الشيخان وابن عقيل، وصاحب التلخيص، وغيرهم جواز بيع المكيل بالمكيل جزافا، وبيع الموزون بالموزون جزافا، ومنع ذلك ابن أبي موسى، والقاضي في المجرد، والشريف، وغيرهم ونص عليه أحمد في رواية الحسن بن ثواب وغيره.

1861 - لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام بالطعام مجازفة، وهو محمول على الجنس الواحد، جمعا بين الأدلة. (تنبيه) : المرجع في الكيل إلى مكيال أهل المدينة، وفي الوزن إلى ميزان أهل مكة، في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 1862 - لما روى ابن عمر أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الوزن وزن أهل مكة، والمكيال مكيال أهل المدينة» رواه النسائي. 1863 - وهو لأبي داود من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وما لا عرف له بهما فهل يعتبر عرفه في موضعه، أو يرد إلى أقرب الأشياء شبها به بالحجاز؟ فيه احتمالان حكاهما القاضي في التعليق ومن بعده، وما لا أصل له بالحجاز في كيل ولا

وزن، ولا له شبهه بما جرى فيه العرف، كالثياب، والحيوان، والمعدود من الجوز، والبيض، والرمان، والقثاء، والخيار، والخضروات، والبقول، [والسفرجل] ، والكمثرى، والخوخ ونحو ذلك، فإذا اعتبر التماثل فيه اعتبر بالوزن، لأنه أضبط، قاله أبو محمد، وكذلك ذكر القاضي في الفواكه الرطبة. إذا عرف هذا فالبر والشعير مكيلان بالنص [قال أبو محمد: وكذلك سائر الحبوب، والأبازير، والأشنان، والجص، والنورة ونحوها والتمر مكيل بالنص] [قال أبو محمد: وكذلك سائر ثمرة النخل، من الرطب والبسر ونحوهما] ، وسائر ما تجب فيه الزكاة كالزبيب، والفستق، والبندق، والعنب، والمشمش، والبطم، والزيتون، واللوز. والملح [مكيل بالنص، والذهب والفضة موزونان، قال أبو محمد: وكذلك ما أشبههما من جواهر الأرض كالحديد، والرصاص، والصفر والنحاس، والزجاج والزئبق] ، وكذلك

الإبرسيم، والقطن والصوف والكتان، وغير ذلك [وكذلك الخبز واللحم، والشحم، والزبد، والجبن، وكذا الشمع وما أشبهه] وكذلك الزعفران، والعصفر، والورس. والدقيق، والسويق مكيلان عند أبي محمد، نظرا لأصلهما، وجوز القاضي بيعهما بالوزن كالخبز، أما المائعات كاللبن، والأدهان، من الزيت، والشيرج، والعسل، والدبس، فقال أبو محمد: الظاهر أنها مكيلة، وكذا قال القاضي في الأدهان أنها مكيلة، وقال في اللبن: يصح السلم فيه كيلا، وعن أحمد أنه سئل عن السلف في اللبن، فقال: نعم كيلا أو وزنا. والله أعلم. قال: والتمور كلها جنس واحد، وإن اختلفت أنواعها. ش: الجنس هو الشامل لأشياء مختلفة [بأنواعها، والنوع هو الشامل لأشياء مختلفة] بأشخاصها، والمراد هنا الجنس

الأخص، والنوع الأخص، إذ قد يكون الشيء جنسا بالنسبة إلى ما تحته، ونوعا بالنسبة [إلى ما فوقه، وكالإنسان فإنه جنس بالنسبة إلى الزنجي، والتركي، وغير ذلك، ونوعا بالنسبة] إلى الحيوان، والمعتبر هنا الاتفاق في الاسم الخاص من أصل الخلقة، كالحنطة والتمر وغيرهما، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اعتبر التمر بالتمر، والبر بالبر وأطلق، بل ومنع من بيع الجنيب بالجمع متفاضلا كما تقدم. إذا عرف هذا فالأدقة والأدهان تختلف باختلاف أصولها، [فدقيق الحنطة والشعير والفول أجناس، كما أن أصولها] كذلك، والزيت، والشيرج، ودهن بزر الكتان، ودهن السمك، ونحو ذلك أجناس كأصولهن، ودهن الورد، ودهن البنفسج ونحوهما جنس، إن كان أصلهما واحدا، والخلول أجناس على المذهب كأصولها، (وعنه) أن خل العنب والتمر في حكم الجنس الواحد، وفي التلخيص وجه أن الخلول كلها جنس واحد ولا معول عليهما، أما على المذهب فيجوز

بيع خل العنب بخل التمر متماثلا ومتفاضلا، وخل التمر بخل التمر متماثلا لا متفاضلا، ويغتفر ما فيهما من الماء، لأنه غير مقصود للمصلحة، أما خل العنب بخل الزيت فالمنصوص - وقاله القاضي وغيره - منع بيع أحدهما بالآخر مطلقا، لانفراد أحدهما بالماء، فأشبها تمرين في أحدهما نواه، والآخر نزع منه والله أعلم. قال: والبر والشعير جنسان. ش: هذا على المذهب المنصوص بلا ريب، لحديث عبادة «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم» وللنسائي وأبي داود فيه: «وأمرنا أن نبيع البر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد، كيف شئنا؛» (وعنه) ما يدل على أنهما جنس واحد، قال: الحنطة والشعير والسلت صنف، وقال: يكره أن يبيع الحنطة بالشعير اثنين بواحد؛ لما تقدم عن معمر بن عبد الله، وهو محمول على التورع، كما أشار هو إليه فقال: أخاف أن يضارع. أي يشابه، ثم مع النص السابق لا يعرج على غيره، والله أعلم.

قال: وسائر اللحمان جنس واحد. ش: هذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - (والثانية) أنها أجناس باختلاف أصولها، اختارها أبو بكر، والقاضي في تعليقه، وأبو الحسين، وأبو الخطاب في خلافه، وابن عقيل، وأبو محمد ومبناهما - والله أعلم - على أن الاعتبار - هل هو بحال جريان الربا فيه، وهو إذا يشمله اسم واحد، ويرجحه نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل، وهي كلها طعام، أو باعتبار أصوله، وأصوله مختلفة، وينقض الأول

بعسل النحل، وعسل القصب، والحديث محمول على ما إذا اتفق الجنس، بدليل ما تقدم (والثالثة) أنها أربعة أجناس، لحم الأنعام جنس، ولحم الوحش جنس، ولحم الطير جنس، ولحم دواب الماء جنس، وهي اختيار القاضي في روايتيه، وحمل كلام الخرقي على ذلك، لأن لحم هذه الحيوانات تختلف المنفعة بها، والقصد إليها، فجعل كل واحد جنسا، نظرا لذلك، فعلى الثانية لحم الإبل كله جنس واحد، وكذلك البقر، وكذلك الغنم على المشهور، ولأبي محمد احتمال بأنهما جنسان، ضأن ومعز، لتفريقه سبحانه بينهما حيث قال: {مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام: 143] وكل ما له اسم يخصه من الوحش والطير جنس. (تنبيهات) «أحدها» اللبن، والشحم، والأكبدة، والأطلحة، والرئات، والجلود، والأصواف، والعظام، والرؤوس، والأكارع، ونحو ذلك مما اشتمل عليه اللحم، فيجري فيهن ما يجري فيه من الخلاف، وكذلك مقلو البيض، لصيرورته موزونا، أما قبل ذلك فهو معدود، فلا يجري فيه الربا على المذهب.

(الثاني) اللحم والشحم جنسان على المشهور، فيخرج [بيع أحدهما بالآخر متماثلا ومتفاضلا، وعن القاضي منع] بيع أحدهما بالآخر مطلقا. (الثالث) اللحم الأبيض - كسمين الظهر - والأحمر جنس واحد على الأشهر، قاله القاضي، وابن البنا، وغيرهما، وقال أبو محمد: إن ظاهر كلام الخرقي أنهما جنسان، لقوله: إن اللحم لا يخلو من شحم، قال: ولو لم يكن هذا شحما لم يختلط لحم بشحم، وفرع على قوله أن كل أبيض في الحيوان يصير دهنا جنس واحد، واختار ذلك في المغني، وبنى على ذلك أن الألية والشحم جنس، والمشهور عند الأصحاب أنهما جنسان، وهو الذي قاله في المقنع. (الرابع) هل لحم رأس شيء جنس برأسه كالقلب ونحوه، أو نوع من لحم جنسه؟ فيه وجهان.

(الخامس) هل يجوز بيع اللبن باللبأ؟ فيه وجهان، حكاهما ابن البنا، وعن القاضي أنه خصهما بما إذا مست النار أحدهما، وعند أبي محمد والسامري أنهما جنس واحد، يجوز بيع أحدهما بالآخر متماثلا، لا متفاضلا ولا بعد أن تمس النار أحدهما، وعلى ما إذا مست النار أحدهما حمل السامري وجه منع ابن البنا، والله أعلم. قال: ولا يجوز بيع بعضه ببعض رطبا، ويجوز إذا تناهى جفافه مثلا بمثل. ش: لا إشكال في جواز بيع ما كان رطبا، عند تناهي جفافه، من التمر، واللحوم، وغيرهما بمثله، واختلف في بيع كل رطب بمثله رطبا، فعنه المنع مطلقا، حكاه ابن الزاغوني، واختاره أبو حفص العكبري، وحمل كلام الخرقي عليه، لنصه عليه في اللحم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الرطب بالتمر، مشيرا للتعليل بالنقص، وهذا موجود في الرطبين، لأنهما ينقصان، يحققه أن الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل في باب الربا. 1864 - بدليل «نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر» ، رواه مسلم، وهنا يجهل التساوي في

ثاني الحال، وذهب جمهور الأصحاب - القاضي، وأبو الخطاب، والشيخان وغيرهم، وهو مقتضى مفهوم كلام الخرقي السابق، ونص عليه أحمد في الرطب بالرطب - إلى الجواز، لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلا بمثل، والرطبان إذا بيعا مثلا بمثل قد استويا في المثلية، فدخلا في عموم المستثنى، ولأنهما استويا في الحال، على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقص، فأشبها اللبن باللبن، وخرج بيع الرطب بالتمر، لانفراد أحدهما بالنقص واشتراط عدم الجهل بالتساوي [في ثاني الحال] لا نسلمه، بل المشترط عدمه في الحال، فكان مناط المسألة - والله أعلم - التساوي، هل يشترط في الحال ولا يضر الجهل به في ثاني الحال، أو يشترط حالا ومآلا؟ على قولين، إلا أنه استثنى على الثاني بيع رطب لا يجيء منه تمر، وعنب لا يجيء منه زبيب، فإنه يجوز بيعه بمثله قبل جفافه، نظرا إلى أن كمال ذلك في حال رطوبته، وفساده في حال جفافه، قاله في التلخيص. (تنبيه) : اشترط القاضي والأكثرون في بيع اللحم بمثله نزع العظم، لتتحقق المساواة المعتبرة شرعا، وكالعسل

بيع اللحم بالحيوان

بالعسل، لا يباع إلا بعد التصفية، ومال أبو محمد إلى عدم اشتراط ذلك، وذكر أنه ظاهر كلام الإمام، وعلله بأن العظم تابع من أصل الخلقة، فأشبه النوى في التمر، وخرج الشمع في العسل، لأنه من فعل النحل. [بيع اللحم بالحيوان] قال: ولا يجوز بيع اللحم بالحيوان. ش: لا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه لا يجوز بيع لحم بحيوان من جنسه، كبيع لحم بقر ببقر، ونحو ذلك. 1865 - لما روي عن سعيد بن المسيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع اللحم بالحيوان» ، رواه مالك في الموطأ، وأبو داود في المراسيل. 1866 - وعنه أيضا «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحي بالميت» . احتج به أحمد، ورواه أبو داود في المراسيل أيضا، وناهيك بمراسيل سعيد، مع أن الأول قد أسند من حديث ثابت

بن زهير، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا أن ثابتا منكر الحديث، قاله أبو حاتم الرازي. 1867 - وقال أبو الزناد: كل من أدركت ينهى عن بيع اللحم بالحيوان. ولأنه مال ربوي، بيع بما فيه من جنسه، مع جهالة المقدار، أشبه السمسم بالشيرج، والزيتون بالزيت [ونحو ذلك] . واختلف في بيع اللحم بحيوان من غير جنسه، كلحم بقر بإبل، وظاهر كلام أحمد والخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي في تعليقه، وجامعه الصغير، وأبي الخطاب في خلافه الصغير، وغيرهم، أنه لا يجوز، نظرا لإطلاق ما تقدم.

1868 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن جزورا نحرت، فجاء رجل بعناق، فقال أعطوني جزءا بهذا العناق. فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا يصلح هذا. رواه الشافعي، وقال: لا أعلم مخالفا لأبي بكر في ذلك. واختار القاضي - فيما حكاه عنه أبو محمد - الجواز، لأنه مال ربوي بيع بغير أصله ولا جنسه فجاز، كما لو باعه بذهب أو فضة، وبعض المتأخرين بنى القولين على الخلاف في اللحم، هل هو جنس من أجناس؟ وصرح أبو الخطاب في الانتصار بأنهما على القول بأنه أجناس، وهو الصواب، ولهذا اختلف في بيع اللحم بحيوان لا يؤكل، كعبد وحمار ونحوهما، قال أبو الخطاب: ولا رواية في ذلك، فيحتمل وجهين. والجواز صرح به في خلافه الصغير، وكذا شيخه في التعليق، وابن الزاغوني، وهو ظاهر كلام أبي جعفر، وشيخه في الجامع الصغير، والمنع أورده ابن عقيل في

التذكرة مذهبا، وهو احتمال له في الفصول، والصحيح عنده فيه كقول الأكثرين، ولم يطلع أبو محمد على المسألة صريحا، فقال: ظاهر كلام الأصحاب الجواز. والله أعلم. قال: وإذا اشترى ذهبا بورق عينا بعين، فوجد أحدهما فيما اشترى عيبا فله الخيار بين أن يرد أو يقبل، ويأخذ قدر ما نقص بالعيب، إذا كان بصرف يومه، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه. ش: لما فرغ الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من بيان الربا، شرع يتكلم في الصرف، ومعنى العين بالعين أن يقول: بعتك هذه الدراهم بهذه الدنانير، ونحو ذلك، فإذا وقع العقد كذلك، فوجد أحدهما بما اشتراه عيبا فله حالتان، (إحداهما) أن يكون من غير جنس المعقود عليه، كالرصاص في الفضة،

ونحو ذلك، فهنا يبطل العقد على المذهب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، (الثانية) أن يكون العيب من جنس المعقود عليه، كالسواد في الفضة، ونحو ذلك، وهذا الذي ذكره الخرقي هنا، ولا بد من بنائه على أصل، وهو أن النقود هل تتعين بالتعيين أم لا؟ فإن قلنا: لا تتعين، فحكم ذلك حكم التصارف في الذمة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإن قلنا: تتعين - وهو المذهب، وعليه بنى الخرقي كلامه - فلواجد العيب - والحال ما تقدم - الخيار بين الرد والإمساك بلا خلاف نعلمه، كغير الذهب والفضة من المبيعات، فإن اختار الرد بطل العقد، ولم يكن له أخذ البدل، كما لو كان المبيع عرضا، لأن البيع تعلق بعينه، فيفوت بفواته، وإن اختار الإمساك فله ذلك بلا نزاع نعلمه أيضا، وله مع ذلك أخذ ما نقص المبيع بالعيب في الجملة، وعلى المذهب المجزوم به عند الشيخين، وصاحب التلخيص، والسامري، وهو جار

على قاعدة المذهب في سائر المبيعات، من جواز أخذ الأرش مع القدرة على الرد. وظاهر ما أورده أبو الخطاب في الهداية مذهبا - وأحد نسخ الخرقي - أنه لا يجوز أخذ الأرش مطلقا، لأن ذلك زيادة على ما وقع عليه العقد، وهذا قد يتوجه من جهة الدليل، وهو قياس الرواية الضعيفة في سائر المبيعات، لأنه لا أرش مع القدرة على الرد، فعلى الأول لا يجوز أخذ الأرش في الجنس الواحد مطلقا، كفضة بفضة، حذارا من فوات المماثلة المشترطة. وعن القاضي أنه خرج وجها بالجواز في المجلس، نظرا إلى أن الزيادة طرأت بعد العقد، وأبو الخطاب في الهداية يخرج قولا بجواز أخذ الأرش، ويطلق، ويدخل في كلامه الجنس والجنسان، وفي المجلس وبعده، وابن عقيل يحكي ذلك رواية في صورة تلف أحد العوضين، ووجهه جعل الإمام الصنعة مقومة مع الجنس، كذلك الصفة، وهذا ليس بشيء لأن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - – وإن جعل الصنعة مقومة - فإنه لا يجوز أخذ عوضها مع اتحاد الجنس بلا ريب، بل يمنع على هذا القول من بيع الصحاح بالمكسرة ونحو ذلك، وأما قول القاضي فقد رده أبو محمد بأن الأرش من العوض، بدليل أنه يخبر به في المرابحة، ويأخذ به الشفيع، وقوله: إن

الأرش من العوض. ليس بجيد، كما سيأتي، مع أن هذا القول لا وجه له، لأن الأرش في المعيب عوض عن جزء من مقابله، وهو الصحيح، إذ الثمن يتقسم على المثمن، فالعيب لم يقابله شيء فيرجع بقسطه، فلو جاز أخذ الأرش في الجنس الواحد لكان صاحب الدينار الصحيح دفع دينارا [إلا جزءا - وهو الأرش الذي أخذه في مقابلة العيب - وأخذ دينارا] معيبا، وإنه عين الربا، انتهى. ويجوز في الجنسين مطلقا، أعني قبل المجلس وبعده، على ظاهر إطلاق الخرقي، وصاحب التلخيص، وأبي البركات، والسامري، وهو الصواب، الذي لا ينبغي على المذهب غيره، لما تقدم من أن الأرش عوض عن الجزء الفائت من الثمن، فالدافع لأرش دينار ظهر معيبا بيع بعشرة دراهم، إنما يدفعه عوضا عن جزء من العشرة [دراهم] تبينا عدم استحقاقه، وإذا فالعوضان في الصرف قد قبضا بكمالهما، ومع أحدهما زيادة تبينا عدم استحقاقه لها. وفصل أبو محمد فقال: إن كانا في المجلس جاز أخذ الأرش، إذ قصاراه تأخر قبض بعض عوض الصرف عن بعض، وإنه جائز ما داما في المجلس، وإن تفرقا لم يجز،

حذارا من التفرق قبل قبض بعض الصرف، إلا أن يجعلا أرش الفضة مثلا ثوبا، نحو ذلك فيجوز، لعدم اشتراط القبض لذلك، وهذا منه يقتضي أن الأرش عوض عن الجزء الفائت من المعيب، [فكأنه من جملة العوض، وهذا ليس بشيء على المذهب، وإنما هو بدل ما قابل الجزء الفائت من المبيع بالعيب] [ويدل على ذلك قطعا نسبة الأرش إلى الثمن، ولو كان عوض الجزء الفائت من المبيع المعيب] لكان المأخوذ ما نقص بالعيب فقط، من غير نسبة إلى ثمن ولا غيره، نعم أظن أن هذا اختيار أبي العباس ثم يلزم أبا محمد أن يقول: بالتفرق بطل العقد، أو بطل في قدر ما يقابل العيب، لحصول

التفرق قبل كمال الصرف، ويلزمه أيضا أن لا يجوز أخذ أرش عيب الفضة ذهبا، ولا أرش عيب الذهب فضة، حذارا من مسألة مد عجوة، وهو لم يشترط ذلك، بل هذا الإلزام وارد في سائر المبيعات، فإنا إذا أخذنا أرش ثوب بيع بعشرة دراهم درهما مثلا، كان على مقتضى قوله قد بيع جنس فيه الربا بعضه ببعض، مع أحدهما من غير جنسهما، فكان ينبغي أن لا يجوز ذلك، والظاهر أن الإجماع على خلافه. إذا تحققت هذا فشرط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للتخيير المتقدم أن يكون المردود بصرف يومه أي يوم الصرف، فلو نقصت قيمته عن يوم الصرف - كأن كان الدينار بعشرة، فصار بتسعة - زال التخيير - وتعين الأرش، كذا فهم عنه ابن عقيل، وأبو محمد، وهو ظاهر كلام أحمد على ما قال أبو محمد، وقطع به السامري، حذارا من أن يرد المبيع مع تعيبه في يده، والصحيح عند أبي محمد أن التخيير بحاله، بناء على أن

تغير السعر ليس بعيب، بدليل عدم ضمانه في الغصب، ثم لو سلم أنه عيب فظاهر المذهب - وهو الذي قاله الخرقي كما سيأتي إن شاء الله تعالى - أن تعيب المبيع عند المشتري لا يمنع الرد، انتهى. هذا شرح أبي محمد أو نحوه، بناء على أحد نسخ الخرقي، ولفظها: فله الخيار بين أن يرد أو يقبل إذا كان بصرف يومه، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، وليس فيها ذكر الأرش، إلا أنه جعل الشرط راجعا للرد، ويلزم على قوله أن في الكلام تقديما وتأخيرا، التقدير: له الخيار بين أن يرد إذا كان بصرف يومه، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، أو يقبل، والظاهر جعل الشرط راجعا للتخيير كما تقدم، حذارا من تقديم وتأخير الأصل عدمه، انتهى. ثم على هذه النسخة قد عطف على اشتراط كون المردود بصرف يومه، كون العيب من جنس المعقود عليه، فثبوت الخيار مشروط بشرطين، كون المردود على صرف يومه، وكون عيبه من

جنسه، فلو كان عيبه من غير جنسه زال التخيير، وأما الحكم فيأتي، وهو أن الصرف يكون فاسدا. وفي بعض النسخ - وعليها شرح ابن الزاغوني -: فله الخيار بين أن يرد، أو يأخذ قدر ما نقص بالعيب، وهذه واضحة، وفي أخرى: له الخيار بين أن يرد أو يقبل، إذا كان بصرف يومه، وكان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، أو يأخذ أرش ما نقص بالعيب، وعلى هذه النسخة يكون في الكلام أيضا تقديم وتأخير، أي له الخيار بين أن يرد بشرط كذا وكذا، وبين أن يقبل ويأخذ الأرش، ويكون «أو» بمعنى الواو. وأما على النسخة التي كتبناها فالظاهر رجوع الشرط إلى الأرش، أي: له الخيار بين أن يرد أو يقبل ويأخذ الأرش،

بشرط كونه على حساب يوم اصطرفا [لا على أزيد منه، كما إذا كان الدينار يوم اصطرفا] بعشرة، فصار باثني عشر، ولا على أنقص، كما إذا صار بثمانية، وما ذاك إلا أن الثمن ينقسم على المثمن يوم العقد، فالفائت بالعيب فات على حساب يوم العقد، وهذا فرع من مسألة تقويم المبيع المعيب، وقد صرحوا بأنه يقوم يوم العقد، إلا ما كان من ضمان البائع فتقويمه يوم القبض، وعلى هذا يسلم من الاعتراض السابق، ومن دعوى تقديم وتأخير الأصل عدمه، بقي أنه عطف على ذلك كون العيب من جنس المعقود [عليه] ، فلو كان من غير الجنس لم يتصور أخذ الأرض كما سيأتي. فإن قيل: ظاهر هذا أن العيب إذا كان من غير الجنس امتنع الأرش، وله القبول، قيل: إذا حصل التصريح بخلاف

ذلك فلا عبرة بالظاهر، انتهى. وقول الخرقي: فوجد أحدهما فيما اشتراه عيبا. يشمل العيب في الجميع وفي البعض، وهو كذلك، إلا أنه إذا اختار إمساك الصحيح ورد العيب فهل له ذلك؟ على قولي تفريق الصفقة، والله أعلم. قال: وإذا تبايعا ذلك بغير عينه، فوجد أحدهما [فيما اشتراه] عيبا فله البدل، إذا كان العيب ليس بدخيل عليه من غير جنسه، كالوضوح في الذهب، والسواد في الفضة.

ش: هذا هو المعبر عنه بالصرف في الذمة، ومثاله: بعتك دينارا مغربيا، بعشرة دراهم ناصرية، ونحو ذلك، وهو جائز عندنا، لظاهر قوله «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» فمقتضاه جواز ما عدا ذلك، بشرط القبض في المجلس، بدليل الرواية الأخرى يدا بيد ونحو ذلك، إذا ثبت هذا فتصارفا في الذمة، ثم وجد أحدهما بما قبضه عيبا ليس من غير جنس المعقود عليه، بل من جنسه كما مثل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فلا يخلو إما أن يجد ذلك قبل التفرق أو بعده، فإن وجده قبل التفرق فله المطالبة بالبدل الذي وقع عليه العقد وهو صحيح لا عيب فيه، وله الإمساك، إذ قصاراه الرضى بدون حقه، وله أخذ الأرش في الجنسين، لا في الجنس على المذهب فيهما، وإن وجده بعد التفرق واختار الرد فهل يبطل

العقد برده، وهو اختيار أبي بكر، لوجود التفرق قبل القبض، لأن البدل إنما يأخذه عوضا عما وقع عليه العقد، أو لا يبطل وله البدل في مجلس الرد، فإن تفرقا قبله بطل العقد، وهو اختيار الخرقي والخلال، والقاضي وأصحابه، وغيرهم، لأن القبض وقع صحيحا، وإلا لبطل العقد بالتفرقة مطلقا، وبدله يقوم مقامه؟ فيه روايتان، وحكى عنه ثالثة: أن البيع قد لزم، وهي بعيدة، لأنه يلزم منها إلزام العاقد بما لم يلتزمه. فعلى الأولى إن وجد البعض رديئا فرده بطل فيه، وفي البقية قولا تفريق الصفقة. وعلى الثانية: له بدل المردود في مجلس الرد. انتهى، وإن اختار الإمساك فله ذلك بلا ريب، لكن إن طلب مع ذلك

الأرش فقال أبو محمد - بناء على ما تقدم -: له ذلك على الثانية لا الأولى، وأما على المحقق - وقد تقدم - فله ذلك في الجنسين على الروايتين، إذ الذي يأخذه عوض عن جزء فات من الثمن، ولا يجوز في الجنس الواحد مطلقا حذارا مما تقدم، والله أعلم. قال: فأما إن كان عيب ذلك دخيلا عليه من غير جنسه، كان الصرف فيه فاسدا. ش: لما فرغ الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من بيان العيب إذا كان من الجنس شرع في بيانه إذا كان من غير الجنس، ثم إنه فصل

بين ما إذا تصارفا عينا بعين وبين ما إذا تصارفا في الذمة، وهنا أطلق فشمل كلامه المسألتين، ثم كلامه أيضا شامل لما قبل التفرق وبعده، وعلى ذلك جرى السامري مصرحا به، وزاعما أن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص عليه، وذكره الخرقي، والظاهر أن مستنده من كلام أحمد إطلاق، كما هو في كلام الخرقي، وكذلك تبعه أبو العباس، حتى أنه وهم جده في قوله: وعنه أنها لا تتعين فتبدل مع الغصب والعيب بكل حال، لشمول كلامه للعيب من الجنس ومن غيره، وفي توهيمه بهذا الإطلاق نظر، لأنه قد تقدم له قبل ذلك بأسطر أن المتصارفين إذا تفرقا فوجد أحدهما بما قبضه عيبا من غير الجنس بطل الصرف، فيحمل كلامه هنا على غير الصرف، توفيقا بين كلاميه. وإذا عرف هذا فلا بد من التعرض للتفصيل، وبيان محل الوفاق من محل الخلاف، فنقول: إذا تصارفا مثلا ذهبا بفضة عينا بعين ثم وجدا أو أحدهما عيبا من غير جنس المعقود عليه - مثل أن ظهرت الدراهم أو بعضها رصاصا، أو الدنانير نحاسا، ونحو ذلك - فلا يخلو إما أن نقول: إن النقود تتعين بالتعيين، أم لا، فإن قلنا، لا تتعين. فكما لو تصارفا في

الذمة على ما سيأتي، وإن قلنا: تتعين - وهو المذهب كما تقدم - فإنا نتبين فساد الصرف على المعروف المجزوم به لعامة الأصحاب، لأن البدل متعذر، لتعلق البيع بالعين، وكذلك الرضى بالموجود، لأنه غير ما وقع عليه العقد، فهو كما لو قال: بعتك هذه البغلة. فإذا هي حمار، ونحو ذلك، وقيل عنه: يلزم العقد والحال هذه، تغليبا للإشارة، ولا معول عليه، فعلى المذهب إن ظهر البعض معيبا بطل فيه، وهل يبطل في غيره؟ قولا تفريق الصفقة، وإن تصارفا في الذمة ثم وجدا أو أحدهما العيب السابق، فإن كان قبل التفرق رد وأخذ بدله، والصرف صحيح، وفاقا لابن عقيل، والشيرازي وصاحب التلخيص، وأبي محمد، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، إذ المقبوض تبين أنه غير الذي وقع عليه العقد، وظاهر إطلاق

الخرقي - وهو الذي قاله السامري وأبو العباس - فساده كما بعد التفرق. وإن كان بعد التفرق - وعليه عندي يحمل كلام الخرقي، نظرا للغالب فإنا نتبين فساد الصرف على المذهب المحقق، لأنهما تفرقا قبل قبض المعقود عليه فيما شرط له القبض، ولا قبض ما يصلح أن يكون عوضا عنه، وبهذا خرج إذا كان العيب من الجنس، لصلاحية المقبوض للعوضية عن ذلك، ولا أرش قبل التفرق ولا بعده لما قلناه من أن المقبوض لا يصلح

أن يكون عوضا، وأجرى أبو محمد في الكافي وصاحب التلخيص فيه هنا - والحال هذه - الروايتين اللتين فيما إذا كان العيب من الجنس، إحداهما أن العقد يبطل برده، والثانية لا يبطل، وبدله في مجلس الرد يقوم مقامه، فمجرد وجود العيب من غير الجنس عندهما بعد التفرق لا يبطل قولا واحدا، عكس المذهب، وليس بشيء، فعلى ما اختاره أبو محمد وغيره إن وجد العيب في البعض فقبل التفرق يبدل، وبعده يبطل فيه، وفي غير المعيب قولا تفريق الصفقة. واعلم أن كلام الأصحاب في هذه المسألة فيه اضطراب كثير، وقد تقدم أن أبا العباس وهم جده فيها، مع أن في توهيمه ما فيه، وناهيك بهما، وقد بالغت في تحريره على غاية الضعف وبالله المستعان. وقول الخرقي: وجد. أي ظهر، فيخرج منه ما إذا علم حال العقد، والحكم فيه أن العيب إن كان من الجنس فالعقد لازم ولا كلام.

نعم إن كان الصرف في جنس، والعيب في البعض، فقد يبطله من يمنع بيع النوعين بنوع منه، وإن كان العيب من غير الجنس والصرف في جنسين انبنى على إنفاق [المغشوشة] ، وفيه روايتان، المختار منهما الجواز، وأبو محمد يحمل رواية الجواز على ما ظهر غشه، واصطلح عليه ورواية المنع على ما خفي غشه، ويقع في اللبس، ونحو ذلك قال ابن عقيل في الفصول. وإن كان الصرف في جنسين، فإن كان العيب في أحد العوضين، ويخل بالمماثلة، ولا قيمة له، لم يجز، لإفضائه إلى عدم التماثل المشترط شرعا، وإن كان له قيمة خرج على مسألة مد عجوة، وإن كان العيب في العوضين وتساوى العيبان فقولان، أظهرهما عند أبي محمد الجواز، وقطع ابن عقيل في الفصول، والسامري بالمنع. ثم اعلم أنا قد ذكرنا أصلا بنينا عليه ما تقدم، وهو: أن النقود هل تتعين بالتعيين أم لا؟ فنشير إلى بيان ذلك فنقول: المذهب المنصوص في رواية الجماعة، والمعمول عليه عند الأصحاب كافة، أن النقود تتعين بالتعيين كالعروض بالاتفاق، لأن ذلك عوض مشار إليه في العقد، فوجب أن يتعين

كالعروض، ولأن ما تعين في الغصب والوديعة تعين بالعقد كالعروض، ومعنى تعين ذلك في الغصب أنه لو طولب بذلك لزمه تسليمه بعينه، ولا يجوز العدول عنه. 1869 - ومما استدل به على ذلك أيضا حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء، عينا بعين» . ولو كان الذهب والفضة في الذمة لم يكن عينا بعين، وإنما يكون عينا بعين إذا ملكت عين كل واحد منهما، وفيه نظر، إذ يلزم منه أن لا يباع الذهب بمثله إلا عينا بعين، وقد حكي الإجماع على خلافه، والذي يظهر أن المراد من الحديث والله أعلم حضور الطرفين المصطرف عليهما، كما يحكى عن مالك أو تعيينهما بإقباضهما، وحضورهما في المجلس،

وكونهما حالين، كما يقوله أصحابنا وغيرهم، بدليل أن في رواية أخرى في هذا الحديث يدا بيد بدل عينا بعين وكذا في رواية أخرى يدا بيد وفي وراية أخرى «ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وقول القاضي وأبي الخطاب وغيرهما: إن رواية عبادة «يدا بيد، عينا بعين» وإن يدا بيد أن لا يكون نسيئة «وعينا بعين» تعينهما بالتعيين، لم أرهما مجموعين في روايته، ولا في رواية غيره، مع أنه معترض بما تقدم، انتهى. ونقل أبو داود عن أحمد - وسأله عن عبد دفع إلى رجل مالا، وأمره أن يشتريه فاشتراه به فأعتقه - قال: يرد الدراهم على المولى، ويؤخذ المشتري بالثمن، والعبد حر. فظاهر هذا أنه لم يحكم بتعيينه، وإلا لبطل العقد، ولم تقع الحرية، وتأول القاضي ذلك في تعليقه على أن قوله: اشتراه به. أي نقده في ثمنه، واشترى في ذمته، توفيقا بين نصوصه، وأبى ذلك أبو الخطاب والجمهور، نظرا للظاهر، ووجه ذلك أنه لا غرض في أعيان الدراهم والدنانير، وإنما الغرض في مقدارها، فإذا عينت كان تعيينها كالمكيال والميزان، وكما لو استأجر أرضا ليزرعها حنطة، فإن الحنطة لا تتعين، بل له أن يزرع ما

هو مثلها ضررا، ولأن الفراء قال في قوله سبحانه: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] الآية: الثمن ما يثبت في الذمة. فجعل من صفة الثمن ثبوته في الذمة، ومن قال بالتعيين لم يجعلها تثبت في الذمة، وهي ثمن قطعا، ونقض الأول بالغصوب والعواري، فإنها لا تبدل وإن كان المعنى واحدا، وبما إذا باع قفيزا معينا من صبرة، لم يكن للبائع إبداله بمثله من تلك الصبرة، وإن لم يتعلق به غرض، على أنا نمنع أن التعيين لا غرض فيه، إذ قد يكون فيه غرض، وهو اعتقاد حلها ونحو ذلك، وقول الفراء لا يقبل في الأحكام، وإنما يقبل في ما طريقه اللغة، والتعيين وعدمه حكم شرعي. وفائدة الخلاف - على ما قال أبو الخطاب في الانتصار - أن على المذهب لا يجوز للمشتري إبدالها، وإذا خرجت مستحقة بطل العقد، وإذا وجد البائع بها عيبا كان له الفسخ، وإذا تلفت قبل القبض تلفت من مال البائع، بناء على المذهب من أن المتعين، لا يفتقر إلى قبض. وعلى المرجوح للمشتري إبدالها، ولا يبطل العقد بكونها مستحقة، ولا يفسخ البائع بالعيب فيها، ويجب إبدالها، وإذا تلفت كانت من مال المشتري، ما لم يقبض البائع.

(تنبيه) : في نسخة من التلخيص بخط الموفق المصري فيما أظن: الثمن إن عين تعين بالتعيين، في البيع وغيره من عقود المعاوضات، في أصح الروايتين، وينفسخ العقد بتلفه قبل القبض في كل معاوضة محضة، كالإجارة، والصلح بمعنى البيع، وإن لم يتمحض لم ينفسخ بتلفه كالمهر، وهذا سبق قلم منه أو من الناسخ، لأنه إذا تعين تلف من مال البائع كما تقدم، واستقر الملك فيه، أما إن لم يتعين فيتلف من مال المشتري، وينفسخ العقد فيه، والله أعلم. قال: ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما. ش: الصرف بيع الأثمان بعضها ببعض كما تقدم، والقبض في المجلس شرط لصحة العقد، نص عليه القاضي، وابن عقيل، والشيخان، وغير واحد، مع أن ابن المنذر قد حكاه إجماعا، فقال: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد، وقد شهد لذلك النصوص السابقة «الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء» وغير ذلك، والمجلس هنا مجلس الخيار في البيع، فلا يضر طوله مع تلازمهما، فلو مشيا ولو يوما ونحوه إلى منزل أحدهما مصطحبين صح، وقبض الوكيل يقوم مقام قبض موكله، بشرط قبضه قبل مفارقة موكله المجلس، فإن

بيع العرايا

فارق الموكل المجلس فسد الصرف، وإن قبض الوكيل في المجلس، وموت أحد المتصارفين قبل القبض يفسد الصرف، لعدم تمام العقد، فإن قبض البعض دون البعض فلا بيع بينهما فيما لم يقبض، وفيما قبض قولا تفريق الصفقة. واعلم أن عبارة الخرقي هنا أجود من عبارة من قال: بطل الصرف. فإنه يوهم وجود عقد ثم بطلانه، وليس كذلك، إذ هنا القبض بمنزلة القبول، لا يتم العقد إلا به، والله سبحانه أعلم. [بيع العرايا] قال: والعرايا التي رخص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها هو أن يوهب للإنسان من النخل ما ليس فيه خمسة أوسق، فيبيعها بخرصها تمرا، لمن يأكلها رطبا. 1870 - ش: الرخصة التي رخصها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي ما قال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص [لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر، وفي رواية: رخص] في العرية، يأخذها أهل البيت بخرصها يأكلونها رطبا» . 1871 - وعن سهل بن أبي حثمة ورافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزابنة بيع الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم» .

1872 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوهما، متفق عليهن. إذا عرف هذا فقد اختلف في العرية لغة، فقيل: إنها نوع من العطية، خصت باسم كالنحلة، لا بيع، قال الجوهري: العرية النخلة يعريها رجلا محتاجا، فيجعل تمرها

له عاما، فعيلة، بمعنى مفعولة وأنشد لسويد بن الصامت: وليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح وقال غيره: إنه من عراه يعروه، إذا أتاه يطلب منه عرية، فأعراه أي أعطاه إياها، كما يقال: سألني فأسألته. وهو نحو الأول، وعن أبي عبيد: العرية اسم لكل ما أفرد عن جملة، سواء كان للهبة، أو للبيع، أو للأكل. ونحو

ذلك قال أبو بكر وغيره من أصحابنا، قال بعضهم: سميت بذلك هنا لأنها معرية من البيع المحرم، أي مخرجة منه. واختلف الفقهاء من أصحابنا وغيرهم في العرية التي وقع الترخيص فيها شرعا، على نحو اختلاف أهل اللغة، فظاهر كلام الخرقي وتبعه صاحب التلخيص - تخصيصها بالهبة، وهو ظاهر كلام أحمد، قال أيضا في رواية سندي، وابن القاسم: العرية أن يهب الرجل للجار أو ابن العم النخلة والنخلتين، ما لا تجب فيه الزكاة، فللموهوب له أن يبيعها بخرصها تمرا للمرفق. ومختار القاضي وجمهور الأصحاب عدم اختصاصها بالهبة، بل هي عندهم [في الجملة] شراء الرطب على رؤوس النخل، سواء كان ذلك موهوبا أو غير موهوب. 1873 - وقد روي «عن محمود بن لبيد قال: قلت لزيد: ما عراياكم هذه؟ فسمى رجالا محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يتبايعون به رطبا، وعندهم فضول من التمر، فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم، يأكلونه رطبا» ، وهذا بظاهره - إن صح - يدل لما قاله الجمهور.

1874 - ويرشحه ما في الصحيح من حديث سهل «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص في بيع العرية أن تباع بخرصها تمرا، يأكلها أهلها رطبا» ، وقد يقال: إنه لا دليل في كليهما، إذ فيهما أنه رخص في بيع] العرايا، وليس في الحديث بيان العرايا ما هي. 1875 - ومما استدل به أيضا لقول القاضي ومن وافقه تفسير يحيى بن سعيد، أحد رواة الحديث، فإنه قال: العرية أن يشتري الرجل ثمر النخلات، لطعام أهله رطبا، بخرصها تمرا. 1876 - وعورض بتفسير ابن إسحاق، فإنه فسرها بالهبة، كذا نقل عنه أبو داود، مع أن كليهما غير صحابي، فلا حجة في

تفسيرهما. وبالجملة يشترط لجوازها على كلا القولين شروط (أحدها) كونه رطبا على رؤوس النخل، لما تقدم، أما الرطب على وجه الأرض فلا يجوز بتمر، لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الرطب بالتمر، خرج منه ما تقدم بحكم الأخذ شيئا فشيئا، لحاجة التفكه كما دلت عليه قصة محمود بن لبيد، وهذا المعنى مفقود في الرطب المجذوذ، فيبقى فيه على المنع. (الثاني) : كونها فيما دون خمسة أوسق. 1877 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رخص في العرايا بخرصها، فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق» . متفق عليه، شك داود بن الحصين، أحد الرواة، وهذا يخص ما تقدم من حديث زيد، ورافع

وسهل، وغيرهم، ويقضي عليها، فلا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق، على المذهب المعروف، المجزوم به، وبعض الأصحاب يقول: رواية واحدة، وأغرب ابن الزاغوني في

وجيزه فلم يشترط الأوسق أصلا فيما إذا كان المشتري هو الواهب، بأن شق عليه دخول الموهوب له وخروجه في بستانه، أو كره الموهوب له دخول بستان غيره، ولا نظير لهذا. أما على المذهب ففي الخمسة (روايتان) المختار منهما عند الأصحاب المنع، لأن النهي عن المزابنة مطلق، خرج منه ما دون الخمسة بيقين، ووقع الشك في الخمسة بيقين، فيبقى على مقتضى الأصل من المنع، (والثانية) الجواز، نظرا إلى عموم أحاديث الرخصة، خرج منها ما زاد على الخمسة بيقين، فما عداه يبقى على مقتضى الترخيص. (الثالث) : كون ذلك بخرصه لا جزافا، لما تقدم من الأحاديث، وأيضا فالشارع أقام الخرص للحاجة مقام الكيل، فلا يجوز العدول عنه، كما لا يعدل عن الكيل فيما يشترط فيه الكيل، ثم هل الخرص على ما يؤول إليه عند الجفاف، وهو اختيار القاضي، وأبي محمد، وصاحب التلخيص، ارتكابا لأخف المفسدتين - وهو الجهل بالتساوي - دون أعظمهما - وهو العلم بالتفاضل - أو

على ما هو عليه إذا نظرا للتساوي في الحال، ولعله ظاهر الأحاديث وقيل: إنه المنصوص هنا؟ على روايتين. (الرابع) : كون البيع بتمر، فلا يجوز بيعها بخرصها رطبا، لما تقدم من حديثي زيد وسهل، نعم لا إشكال في جواز البيع بنقد أو بعرض، لانتفاء المزابنة رأسا، ويشترط في التمر المشترى به (أن يكون) كيلا لا جزافا. 1878 - لأن في البخاري عن ابن عمر عن زيد مرفوعا: «ورخص في العرايا [أن تباع بخرصها كيلا» ، ولأن الأصل كما تقدم اعتبار الكيل من الجانبين، سقط في أحدهما، وأقيم الخرص مقامه للحاجة، ففي الآخر يبقى على مقتضى الأصل، (وأن يكون) التمر مثل ما حصل به الخرص، لا أزيد ولا أنقص. 1879 - لأن في الترمذي في حديث زيد: «أذن لأهل العرايا] أن يبيعوها بمثل خرصها» .

(السادس) اشتراط الحلول والقبض من الطرفين في مجلس العقد، نص عليه، لأنه بيع تمر بتمر، فاعتبر فيه جميع شروطه، عدا ما استثناه الشارع، وقبض كل منهما بحسبه، ففي النخلة بالتخلية، وفي التمر باكتياله، فإن سلم أحدهما ثم مشى الآخر فسلم جاز. (السابع) اعتبار الحاجة،

لما تقدم من قصة محمود بن لبيد، وذكر الرخصة يؤذن بذلك. ثم الحاجة [تارة] تكون للمشتري، بأن يحتاج إلى أكل الرطب، ولا ثمن معه إلا التمر، وهذا الذي في قصة محمود بن لبيد، وهو الذي قاله الخرقي، (وتارة) تكون للبائع، بأن يحتاج إلى أكل [التمر] ، ولا ثمن معه إلا الرطب، وهذه الصورة لم يذكرها الخرقي وطائفة من الأصحاب، ونص عليها أبو بكر، وأبو البركات، وغيرهما، وجوازها بطريق التنبيه، لأنه إذا جاز مخالفة الأصل لحاجة التفكه فلحاجة الاقتيات أولى، وهذا يعتمد أصلا، وهو جواز القياس على الرخصة، وعليه المعول، إن فهمت

[العلة] كمسألتنا، وعن ابن عقيل أنه جعل من صور الحاجة - إذا كانت موهوبة - أن يشق على الواهب دخول الموهوب له بستانه وخروجه، أو يكره الموهوب دخول بستان غيره، فيجوز إذا البيع، انتهى. ويكتفى بالحاجة المتقدمة من جهة البائع أو المشتري على المشهور، والمختار لأبي محمد وغيره، وظاهر ما في التلخيص أنه يشترط مع حاجة المشتري المتقدمة أن يشق على الموهوب له القيام عليها، وحكى أبو محمد عن القاضي، وأبي بكر اشتراط [الحاجة من جانبي البائع والمشتري، والذي في (التنبيه) : العرية أن يكون للرجل النخلة والنخلتان حملهما دون خمسة أوسق، وهو محتاج إلى التمر] ، أو يكون إنسان يحتاج إلى الرطب ولا يمكنه شراؤه إلا بالتمر، فيتبايعان الرطب بالتمر، وهذا صريح في الاكتفاء بالحاجة من أحد الجانبين، [نعم اشتراط الحاجة من الجانبين] هو المقدم عند ابن عقيل.

(تنبيهات) : «أحدها» يتفرع على اشتراط الحاجة من الجانبين أنه لو باع رجل عريتين [من رجلين] ، فيهما أكثر من خمسة أوسق لم يجز، أما من اكتفى بالحاجة من أحد الجانبين فإنه ألغى جانب البائع، ولم يعتبر إلا المشتري، فيجوز للبائع أن يبيع مائة وسق في عقود متعددة، بالشروط السابقة، ولا يجوز للمشتري أن يشتري أكثر من خمسة أوسق، ولو في صفقتين. (الثاني) (هل تختص) الرخصة بعرية النخل، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار ابن حامد، وابن عقيل، وأبي

محمد، اقتصارا على مورد النص، إذ غيرها لا يساويها في الحاجة، لجمعها بين المصلحتين، التفكه والاقتيات. 1880 - ثم في الترمذي في حديث رافع وسهل: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المزابنة التمر بالتمر، إلا أصحاب العرايا، فإنه قد أذن لهم، وعن بيع العنب بالزبيب، وعن كل ثمر بخرصه» . (أو لا تختص) ، فتجوز في سائر الثمار وهو قول القاضي، إلحاقا لذلك بعرية النخل، بجامع الحاجة، أو يلحق العنب فقط، وهو احتمال لأبي محمد، لقوة شبهه بالرطب في الاقتيات والتفكه على ثلاثة أقوال، وخرج أبو العباس على ذلك بيع الخبز باليابس في برية الحجاز ونحوها، وكذلك بيع الفضة الخالصة بالمغشوشة، نظرا للحاجة. 1881 - (الثالث) المزابنة فسرها أبو سعيد الخدري، ورافع، وسهل، ببيع الثمر بالتمر وفي حديث سهل في الصحيح:

«أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمر بالتمر، وقال: ذلك الربا، تلك المزابنة» . 1882 - وفسرها ابن عمر بأن يبيع ثمر حائطه إن كان نخلا بتمر كيلا، وإن كان كرما بزبيب كيلا، وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله. متفق عليه، زاد مسلم: «وعن كل تمر بخرصه» . (والمزابنة) : مفاعلة، مأخوذة من «الزبن» بفتح الزاي، وإسكان الموحدة، والزبن في اللغة الدفع الشديد، ومنه وصفت الحرب بالزبون، [لشدة الدفع فيها، وسمي الشرطي زبنيا، لأنه يدفع الناس بعنف وشدة، ومن ذلك أيضا]- والله أعلم - (الزبانية) ولما كان كل واحد من المتبايعين في هذه المبايعة يدفع الآخر عن حقه سميت بذلك، «والخرص» بكسر الخاء اسم للمخروص، وبفتحها المصدر، والرواية بالكسر، قاله القرطبي، وقال النووي: «بخرصها» بفتح الخاء وكسرها، الفتح أشهر، فمن فتح قال مصدر، ومن كسر قال اسم للشيء المخروص، وعلى هذا يترجح بل يتعين ما قاله القرطبي «ونهى عن بيع الثمر بالتمر» الأول بثلاث نقط، والثاني باثنتين، والمراد بذلك - والله أعلم - بيع الرطب بالتمر، «والرجبية» من النخل منسوبة إلى رجب،

جمع رجبة، كركبة وركب، قاله في الصحاح، وقال القزاز في جامعه: ومعنى البيت: ليست هذه النخلة كريمة علينا، ولكن نعريها الزائر والضيف، والترجيب التعظيم، وإن فلانا لمرجب، أي معظم، والله أعلم. قال: فإن تركها حتى تتمر بطل البيع. ش: الضمير في «تركها» يرجع للمشتري، وهذا هو المذهب من الروايتين، إذ بتأخره علمنا عدم الشرط، وهو عدم الحاجة إلى أكل الرطب، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يأكلها أهلها رطبا أي حالها أن يأكلها أهلها رطبا، فإذا لم يأكلها أهلها رطبا انتفت صفتها التي هي حكمة الرخصة، ولا فرق بين الترك لعذر أو غيره، سدا للذريعة (والثانية) لا يبطل، لاستكمال الشروط حال العقد، وعن أحمد فيمن اشترى ثمرة قبل بدو صلاحها ثم تركها، إن قصد ذلك حال العقد بطل، وإلا لم يبطل، فيخرج هنا كذلك، والقول بالبطلان كما دل عليه كلام الخرقي فيما إذا كانت الحاجة في الرطب للمشتري، أما إن كانت للبائع

باب بيع الأصول والثمار

في التمر فترك المشتري لها حتى تتمر وعدمه سيان، والله أعلم. [باب بيع الأصول والثمار] ش: «الأصول» جمع أصل، كفلس وفلوس والمراد هنا الأشجار «والثمار» جمع ثمر، كجبل وجبال، وواحدة الثمر ثمرة، وجمع الثمار ثمر، ككتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار كعنق وأعناق، والله أعلم. قال: ومن باع نخلا مؤبرا - وهو ما قد تشقق طلعه - فالثمرة للبائع متروكة في رؤوس النخل إلى الجذاذ، إلا أن يشترطها المبتاع. ش: من باع نخلا مؤبرا فإن ثمرته تكون للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع.

1883 - على نص حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع» متفق عليه وتكون للبائع متروكة في النخل إلى الجذاذ، ولا يلزمه قطعها في الحال، إذ النقل والتفريغ جار على العرف، كما لو باع دارا له فيها قماش ونحو ذلك، فلا يلزم بالنقل ليلا، ولا جمع دواب البلد لذلك، بل إنما ينقله على المعتاد، والمعتاد في الثمرة أخذها عند جذاذها، والمرجع في ذلك إلى العادة، فإن كان نخلا فحين تتناهى حلاوة ثمره، إلا أن تجري العادة بأخذه بسرا، أو يكون بسره خيرا من رطبه، فإنه يجذه حين استحكام حلاوة بسره، وإن كان فاكهة فأخذه حين [يتناهى] إدراكه، ويجذ مثله، وإن قيل: إن بقاءه خير له، فلو أصابت الثمرة آفة، بحيث لم يبق في بقائها فائدة، فهل يجب تفريغ الأشجار منها في الحال، لعدم الفائدة في بقائها إذا؟ فيه احتمالان، ولو خيف على الأصول ضرر كثير - كالجفاف ونحوه - فهل يجبر أيضا رب الثمرة على القطع حفظا للأصول، أو لا، لأن رب الأصول دخل على ذلك؟ فيه وجهان أيضا، وإن احتاجت الثمرة مدة بقائها على الأصول إلى سقي لم يلزم المشتري، لأن البائع لم يملكها من جهته، لكنه لا يملك منع البائع منه إن احتاجت إليه الثمرة،

وإن أضر بالأصل، لاقتضاء العقد البقاء، وكذلك إن احتاجت الأصول إلى سقي، لم يملك صاحب الثمرة منع ربها، وإن أضر بثمرته كذلك أيضا. ومفهوم كلام الخرقي أن الثمرة إذا لم تؤبر فهي للمشتري بإطلاق العقد، وهو مفهوم الحديث أيضا. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما حكم على النخل إذا أبر جميعه، أما إذا أبر بعضه فلم يتعرض له، والحكم أن النخلة الواحدة، ما لم يؤبر منها يتبع ما أبر، فيكون الجميع للبائع، بلا خلاف نعلمه، وكذلك الحكم في النوع عند ابن حامد، حذارا من سوء المشاركة، واختلاف الأيدي، والمنصوص أن لكل حكم نفسه نظرا لظاهر الحديث، فعلى الأول هل الجنس كالنوع، فيتبع النوع الذي لم يؤبر النوع الذي أبر جميعه وبعضه، ويكون الجميع للبائع إذا بيع جميع الجنس، أم لكل حكمه؟ فيه قولان، أشهرهما الثاني، أما الحائطان فلا يتبع أحدهما الآخر، ولهذه المسألة التفات إلى مسألة بدو الصلاح في البعض، ويأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى بما هو أتم من هذا.

(تنبيه) : أصل التأبير التلقيح، وهو وضع الذكر في الأنثى، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فسره بالتشقق، لأن الحكم عنده منوط به، وإن لم يلقح، لصيرورته في حكم عين أخرى، وعلى هذا فإنما أنيط الحكم - والله أعلم - في الحديث بالتأبير لملازمته للتشقق غالبا، وهذا الذي قاله الخرقي هو أشهر الروايتين، وقد بالغ أبو محمد فقال: إنه لا اختلاف فيه بين العلماء. (والثانية) : لا بد من التلقيح بعد التشقق وإلا يكون للمشتري، عملا بظاهر الحديث، وتمسكا بالمقتضى اللغوي، والله أعلم. قال: وكذلك بيع الشجر إذا كان فيه ثمر باد. ش: أي ظاهر كالتين ونحوه، والحكم في ذلك كالحكم فيما تقدم أنه إن ظهر فهو للبائع، لأنه قد صار كعين أخرى إلا أن يشترطه المبتاع، وإن لم يظهر فهو للمشتري، قياسا على ما تقدم، لمساواته له في المعنى، والأصحاب قد قسموا الشجر على أضرب ليس هذا موضع بيانها، والله أعلم.

قال: وإذا اشترى الثمرة دون الأصل ولم يبد صلاحها على الترك لم يجز، وإن اشتراها على القطع جاز. ش: بيع الثمرة قبل بدو صلاحها بدون أصلها له ثلاثة أحوال. (أحدها) أن تباع بشرط التبقية، فلا يصح إجماعا. 1884 - لما رواه عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمبتاع، وفي رواية قال: لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه» . 1885 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع التمر حتى تزهو، قلنا لأنس: ما زهوها؟ قال: حتى تحمر وتصفر» . قال: «أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه» وفي رواية: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لم يثمرها الله فبم تستحل مال أخيك» متفق عليه.

1886 - وروي نحو ذلك من حديث جابر، وأبي هريرة، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (والثاني) : أن يشتريها بشرط القطع في الحال، فيجوز في قول العامة، لأمن المفسدة التي علل بها صاحب الشريعة، وهو منع الله الثمرة، واستحلال مال أخيه بغير شيء، وهنا الأخذ في الحال، فالاستحلال بما أخذ في الحال. (الثالث) : اشتراها وأطلق، وهذا لم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للحكم عليه بنفي ولا إثبات، وفيه قولان للعلماء، هما روايتان عن إمامنا، أشهرهما - وبه جزم الشيخان والأكثرون - لا يصح، لأن الإطلاق يقتضي النقل على ما جرت به العادة، والعادة في الثمرة كما تقدم قطعها إذا بدا صلاحها، فصار كأنه مشروط عدم القطع. (والثانية) : يصح إن قصد القطع، ويلزم به في الحال، نص عليها في رواية عبد الله، حملا على عرف الشرع والحال

هذه، وتصحيحا لكلام المكلف ما أمكن، والشيرازي يحكي رواية بالصحة من غير اشتراط قصد القطع، وما حكاه السامري عن ابن عقيل في التذكرة - أنه ذكر في هذه المسألة أربع روايات - ليس بجيد، إنما حكى ذلك - على ما اقتضاه لفظه - فيما إذا شرط القطع ثم ترك، انتهى، أما بيعها مع أصلها فيجوز إجماعا، لأنها إذا تتبع الأصل، فأشبهت الحمل مع أمه، وأس الحيط، وأيضا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع» . وإن بيعت لمالك الأصل - كما إذا باع أصولها بعد أن أبرت، ولم يشترطها المشتري، ثم باعها له، وكذلك لو وصى بنخل مؤبر ثم باع الورثة الثمرة للموصى له - فوجهان (أحدهما) : يصح، وهو اختيار السامري، وصاحب التلخيص فيه، لأنه اجتمع الأصل والثمرة للمشتري، فأشبه ما لو اشتراهما معا (والثاني) : - وهو

ظاهر كلام الخرقي - لا يصح، لعموم الحديث، ولأنه لا متبوع ولا تابع، وعلى هذا لو شرط القطع صح، قال أبو محمد: ولا يلزم الوفاء بالشرط، لأن الأصل له، ومقتضى هذا أن اشتراط القطع حق للآدمي، وفيه نظر، بل هو حق لله تعالى كما سيأتي. (تنبيهان) : (أحدهما) : الزرع قبل اشتداده كالثمرة قبل بدو صلاحها، يجري فيها ما تقدم. 1887 - ولمسلم وأبي داود، والترمذي، في رواية في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة، نهى البائع والمشتري» . 1888 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد» ، رواه أبو داود والترمذي. (الثاني) : «الزهو» قد فسره أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -،

وفيه لغتان: زهى يزهو، وأزهى يزهي، حكاهما أبو زيد، قال الأصمعي: لا يقال النخل يزهو. وإنما يقال: يزهي، قال الخطابي: هكذا روي الحديث. يعني «يزهو» ، والصواب في العربية «تزهي» قال ابن الأثير: وهذا القول منه ليس عند كل أحد، فإن اللغتين قد جاءتا عند بعضهم، وبعضهم لا يعرف في النخل إلا «أزهى» ، انتهى وابن الأعرابي فسر «زهى يزهو» بمعنى: ظهر. «وأزهى يزهي» إذا احمر أو اصفر، «والحب» الطعام، واشتداد الحب قوته وصلابته، والله أعلم. قال: فإن تركها حتى يبدو صلاحها بطل البيع. ش: هذا هو المذهب المنصوص، والمختار من الروايات للأصحاب الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، وغيرهم، لعموم نهيه عن بيع الثمرة حتى تزهو، خرج منه صورة اشتراط القطع، وفعله عقب العقد بما هو كالإجماع فيبقى فيما عداه على مقتضى النهي، ولأنه أخر قبضا مستحقا لله تعالى، فأبطل العقد، كتأخير [قبض] رأس مال السلم والصرف.

والمعتمد في المسألة سد الذرائع، فإنه قد يتخذ اشتراط القطع حيلة، ليسلم له العقد، وقصده الترك، والذرائع معتبرة عندنا في الأصول وقد عاقب الله سبحانه وتعالى أصحاب السبت بما عاقبهم به، لما نصبوا الشباك يوم الجمعة، حيلة على الصيد بها يوم السبت، وعاقب أصحاب الجنة بما عاقبهم، لما قصدوا حرمان الفقراء، والتحيل على إسقاط حق الله سبحانه، ونهى سبحانه عن سب الآلهة التي تدعى من دون الله، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سب الله جل وعلا، بقوله: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] . 1889 - وامتنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قتل المنافقين، حذارا من أن يقال: إن محمدا يقتل أصحابه.

1890 - ومنع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سائق الهدي أن يأكل منه هو أو أحد من رفقته إذا عطب دون محله، حذارا من أن يقصر في علفه ويفرط فيه. 1891 - ومنع القاتل من الإرث، لئلا يتخذ ذلك وسيلة إلى تعجيل الميراث. 1892 - وأمر عمر بقتل الجماعة بالواحد، سدا للذريعة أيضا، وأدلة هذا الأصل كثيرة، وقد عمل إمامنا على ذلك في كثير من المسائل. (والرواية الثانية) لا يبطل البيع، نظرا إلى أن المبيع بحاله، وغاية الأمر أنه انضاف إليه غيره، وذلك لا يقتضي البطلان، بدليل ما لو اشترى حنطة فاختلطت بأخرى ولم تتميز، (والثالثة) : نقلها أبو طالب - إن قصد الحيلة فسد البيع، لمقارنة النهي للعقد إذا، وإن لم يقصد

الحيلة لم يفسد، لخلو العقد عن النهي ظاهرا وباطنا، وقد اختلف الأصحاب في هذه الرواية والتي قبلها، فأثبتها ابن عقيل وغيره، وتأول الثالثة شيخه فقال: معناها ما إذا لم يقصد الحيلة وهو أسهل، يعني أنه لا يأثم، وإن قصد الحيلة أثم، قال: وإلا فهما يتفقان في حكم الصحة والبطلان، إذ ما يبطل العقد لا فرق فيه بين القصد وعدمه، قال: فمحصول المذهب فيه روايتان، وأبو محمد تأول الثانية على ما إذا لم يقصد الحيلة، ومع القصد يبطل البيع عنده رواية واحدة، ومحل الخلاف عنده مع عدم القصد، وطريقته أخص الطرق، كما أن أعم الطرق طريقة ابن عقيل. (وحيث قيل) بالفساد فإن المبيع بزيادته للبائع، نص عليه أحمد، ويرد الثمن، لأنه قد تبين عدم الشرط المصحح للعقد، فبطل من أصله. (وحيث قيل) بالصحة فهل يشترك البائع والمشتري في الزيادة، لحدوثها عن ملكيهما، أو يتصدقان بها استحسانا للاختلاف؟ فيه روايتان منصوصتان، وحمل القاضي في

روايتيه وفي تعليقه كلا النصين على الاستحباب، وجعل الزيادة للمشتري، هذا هو التحقيق في النقل، وفاقا لنصوص الإمام وللقاضي في التعليق، وأبي البركات، وحكى ابن الزاغوني وأبو محمد وغيرهما رواية أن البائع يتصدق بالزيادة على القول بالبطلان، وكأنهم تبعوا القاضي في روايتيه، فإنه زعم أن حنبلا روى ذلك عن الإمام، وفيه نظر، فإنه صرح في التعليق بأن حنبلا وابن سعيد اتفقا على الصحة، إلا أن ابن سعيد [قال] : يشتركان، وحنبلا قال: يتصدقان، وفي الكافي رواية بالشركة على القول بالبطلان أيضا، وكأنه أخذها من قول ابن أبي موسى: وقيل عنه. ويتلخص من ذلك أن على القول بالبطلان ثلاثة أقوال، كما ذلك على القول بالصحة. ومعنى التصدق بالزيادة أو الاشتراك فيها أن ينظر كم قيمتها وقت العقد، وكم قيمتها بعد الزيادة، فما بينهما محل التردد،

فإذا قيل - مثلا - قيمتها وقت العقد مائة، ثم صارت قيمتها بعد الزيادة مائتين، فالصدقة أو الشركة له بالمال الزائد. ثم من المباشر للصدقة فيها؟ قد تقدم أن على رواية البطلان يتصدق بها البائع، أما على رواية الصحة فظاهر نص الإمام كما سيأتي أنهما يتصدقان بها، وقال ابن الزاغوني: لا تدخل في ملك واحد منهما، ويتصدق بها المشتري. (تنبيه) : ترجم الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - المسألة إذا ترك حتى بدا الصلاح، وكذا القاضي وجماعة، وكذا وقعت نصوص أحمد الذي حكم فيها بالبطلان، أما نصاه اللذان حكم فيهما بالصحة، فقال فيهما: إذا كبرت وزادت، قال في رواية ابن سعيد: لا يشتري الرطبة إلا جزة، فإن تركها حتى تطول وتكبر كان البائع شريكا للمبتاع في الثمن، إلا أن يكون يسيرا، قدر يوم أو يومين، وكذلك النخل، ومن ثم استثن ابن عقيل من كون البائع يشارك المشتري الزمن اليسير، تبعا لنص الإمام انتهى، وقال في

رواية حنبل: إذا باعه زرعا على أن يجزه، أو نخلا على أن يصرمه، فتركه حتى زاد، فالزيادة لا يستحقها واحد منهما، ويتصدقان بها، فقد يقال بتقرير نصوصه، فالبطلان إذا بدا الصلاح، والصحة إذا لم يبد، والله أعلم. قال: وإن اشتراها بعد أن يبدو صلاحها على الترك إلى الجذاذ جاز. ش: الأصل في ذلك ما تقدم من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن بيعها حتى تزهو، ونحو ذلك. 1893 - وعن عمرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهة» ، رواه مالك في الموطأ. ودلالة هذه الأحاديث من أوجه (أحدهما) : أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غيا النهي بغاية، فبوجودها يزول النهي، ويبقى على أصل الإذن في جواز البيع (الثاني) أن ما بعد الغاية والحال هذه يعطى

عكس حكم ما قبلها، وإلا فذكر الغاية إذا وعدمها سيان، وما قبلها لا يجوز إلا بشرط القطع، فما بعدها يجوز وإن شرط الترك، (الثالث) : أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علل المنع بعلة، وهي الخوف من تلفها، ووقوع العاهة بها، والحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وإذا بدا الصلاح زالت العلة غالبا، فيزول المنع انتهى، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على ما إذا اشتراها بشرط القطع، ليصرح بمخالفة الخصم، ويفهم منه بطريق التنبيه صورة الوفاق، وهي ما إذا أطلق. (تنبيهان) : «أحدهما» بدو الصلاح في شجرة صلاح لجميعها، بلا خلاف أعلمه بين الأصحاب، وكثير منهم يقول: رواية واحدة، واختلف في صلاح بعض النوع، هل يكون صلاحا [لسائر ذلك النوع الذي في القراح؟ فيه روايتان، أشهرهما عن الإمام: لا يكون صلاحا له كما لا يكون صلاحا] لقراح آخر، وهذا اختيار أبي بكر في الشافي، وابن شاقلا في تعاليقه، واستدل له ابن شاقلا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حتى يبدو صلاحه» وقال: وهو يقتضي الكل

بدلالة قَوْله تَعَالَى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] فإنه يقتضي الكل لا البعض (والثانية) : - وهي اختيار الأكثرين، ابن أبي موسى، وابن حامد، والقاضي وأصحابه وغيرهم - يكون صلاحا كما في النخلة الواحدة [إذ سوء المشاركة والاختلاط موجود في النوع، كما في النخلة الواحدة] ، وخرج بذلك قراح آخر، واختلف القائلون بهذه الرواية في النوع - كالبرني مثلا - هل يكون صلاحا لسائر الجنس الذي في القراح؟ فقال القاضي، وابن عقيل، وأبو محمد والأكثرون: لا يكون صلاحا، وقال أبو الخطاب: يكون صلاحا، وهو ظاهر النص الآتي. ولا نزاع أن المذهب أن صلاح الجنس لا يكون صلاحا لجنس آخر، وكذلك صلاح نوع من بستان، لا يكون صلاحا لنوع آخر من بستان آخر، وعنه أن بدو الصلاح في شجرة من القراح صلاح له ولما قاربه.

(الثاني) نص أحمد في الرواية الأولى: إذا احمر بعضه وبعضه أخضر، يباع الذي بلغ، وهذا يشمل النخلة والنخلات، لكن القاضي قال: يجب أن يحمل هذا على أنه لا يكون صلاحا لنخلة أخرى، أما النخلة فيكون صلاحا لها رواية واحدة، ونصه في الثانية، في بستان بعضه بالغ، وبعضه غير بالغ: بيع إذا كان الأغلب عليه البلوغ، فمن القائلين بالرواية الثانية، من قصر الحكم على الغلبة، كالقاضي في تعليقه، وأبي حكيم النهرواني، وأبي البركات، تبعا لهذا النص، ومنهم من سوى بين القليل والكثير، كابن أبي موسى مصرحا به، وأبي الخطاب وغير واحد، تبعا - والله أعلم - للنص المحكي أخيرا، ويتلخص في المسألة ثلاث روايات، (الثالثة) الفرق بين الغلبة وغيرها، ثم كلا النصين اللذين حكم فيهما الإمام بالصلاح يشملان النوع، والجنسين، كما يقوله أبو الخطاب، عكس المشهور. واعلم أن معنى: ما لم يبد صلاحه في حكم ما بدا صلاحه، في جواز بيعه مع ما بدا صلاحه تبعا له، فلو أفرد بالبيع فوجهان، وحكاهما القاضي في المجرد، فيما لم يؤبر من النوع، إذا أفرد بالبيع أن ثمرته تكون للبائع، إن قيل: إن ما لم يؤبر تبع لما أبر، وخالفه ابن عقيل فقال: إن الثمرة

- والحال هذه - تكون للمشتري قولا واحدا، والله أعلم. قال: فإن كانت ثمرة نخل فبدو صلاحها أن تظهر فيها الحمرة أو الصفرة، وإن كانت ثمرة كرم فصلاحها أن تتموه، وصلاح ما سوى النخل والكرم أن يبدو فيه النضج. ش: لما أناط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز البيع ببدو الصلاح فسره وبينه، بأنه ظهور الحمرة أو الصفرة في ثمرة النخل، وذلك لما تقدم عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حتى تحمر وتصفر. 1894 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تباع الثمرة حتى تشقح، قيل: وما تشقح؟ قال: حتى تحمار وتصفار ويؤكل منها» . 1895 - وسأل سعيد بن فيروز ابن عباس عن بيع النخل، فقال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع النخل حتى يأكل منه أو يؤكل، وحتى يوزن، قال فقلت: وما يوزن؟ فقال رجل عنده:

حتى يحزر» . متفق عليهما، وصلاح ثمرة الكرم أن تتموه، أي يجري فيها الماء الحلو وتلين، وكذلك ما سوى ثمرة النخيل والكرم، صلاحه أن يبدو فيه النضج لصلاحيته، وكذلك الذي قبله للأكل، وإذا يدخل في معنى الأحاديث السابقة، وعلى هذا أيضا ينبغي أن يحمل كلام الخرقي في ثمرة النخل، أنه لا بد مع احمرارها واصفرارها من صلاحيتها للأكل، وفاقا لحديث جابر وابن عباس، وكذلك جعل أبو البركات الضابط في جميع الثمار أن يطيب أكلها، ويظهر فيها النضج، وأبو محمد جعل ما يتغير لونه عند صلاحه، كالأجاص، والعنب الأسود، صلاحه تغير لونه كثمرة النخل، والضابط الذي ذكره أبو البركات أجود. (تنبيهان) : «أحدهما» اختلف الأصحاب فيما يؤكل صغارا وكبارا، كالقثاء والخيار، ونحوهما، فقال القاضي وابن عقيل: صلاحه تناهي عظمه، وقال أبو محمد: أكله

عادة. وتوسط صاحب التلخيص فقال: صلاحه التقاطه عرفا، وإن طاب أكله قبل ذلك. (الثاني) «تشقح» بضم التاء وإسكان الشين، وتخفيف القاف، مضارع «أشقح» وقد فسره جابر، و «تحزر» بتقديم الزاي على الراء، أي تخرص، وفي بعض الأصول بتقديم الراء، قيل: إنه تصحيف، والله أعلم. قال: ولا يجوز بيع القثاء والخيار، والباذنجان، وما أشبهها إلا لقطة لقطة. ش: لا يجوز بيع الخيار، والباذنجان، وما أشبه ذلك - كالقثاء والبطيخ - إلا لقطة لقطة، لأن الزائد على ذلك غير معلوم، فلم يجز بيعه، لعدم العلم به. واعلم أن هذه الأشياء عند جمهور الأصحاب أصولها كالشجر النابت، وثمرتها كثمرته، فتباع أصولها مطلقا، وثمرتها قبل بدو صلاحها [معها] ، أو لمالكها على وجه، أو بشرط القطع، أو مطلقا بشرطه على رواية، وبعد بدو الصلاح يباع الموجود منها واختار صاحب التلخيص المنع

من بيع ثمارها قبل بدو صلاحها إلا بشرط القطع، وإن بيعت مع أصولها، لتعرضها للآفة مع الأصول إلا إن بيعت مع الأرض، أو لمالكها، وقياس قوله أن أصولها لا تباع صغرة إلا إذا أمنت العاهة، إلا أن تباع مع الأرض أو لمالكها، أو بشرط القطع، والله أعلم. قال: وكذلك الرطبة كل جزة. ش: حكم الرطبة وما ثبت أصوله في الأرض ويؤخذ دفعة بعد دفعة - كالنعنع، والهندباء، ونحو ذلك - حكم الخيار، والباذنجان، لا يباع إلا الموجود منه جزة جزة، بشرط القطع في الحال، إذ ما لم يظهر معدوم، والموجود متى ترك ولم يقطع اختلط بغيره، وإذا يفضي إلى مشاجرة ونزاع، وذلك مما لا يرضاه الشارع. (تنبيه) : حكم بيع الخيار ونحوه، والرطبة ونحوها - إذا بيع بشرط القطع، ثم ترك حتى طالت الجزة، أو حدثت ثمرة أخرى ولم يتميزا - حكم بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، إذا بيعت بشرط القطع، ثم تركت حتى بدا صلاحها على ما تقدم، قال غير واحد: ونص أحمد وقع في رواية ابن

سعيد في الرطبة إذا تركها حتى طالت بالصحة، وأظن أن ذلك وقع لابن عقيل أيضا. أما إن اشتريت ثمرة بعد بدو صلاحها، فحدثت ثمرة أخرى للبائع، فإن تميزتا فلا كلام، وإن لم تتميزا اشتركا بقدر ما لكل منهما، فإن لم يعلم القدر وقف الأمر حتى يصطلحا، هذا رأي ابن عقيل، وأبي محمد وهو الصواب، بخلاف الثمرة قبل بدو صلاحها ونحوها، لارتكاب النهي ثم، وسدا للذريعة، لئلا يتخذ ذلك حيلة لما هو ممنوع منه شرعا، وأجرى أبو الخطاب في ذلك الروايتين اللتين في الثمرة قبل بدو صلاحها، وقال القاضي: إن كانت الثمرة للبائع، فحدثت أخرى، قيل لكل منهما: اسمح بنصيبك. فإن فعل أجبر الآخر على القبول، وإن امتنعا فسخ العقد، وإن اشترى ثمرة فحدثت أخرى لم يقل للمشتري اسمح، إذ الثمرة كل المبيع، ويقال للبائع ذلك، فإن سمح أجبر المشتري على القبول، وإلا فسخ العقد، قال ابن عقيل: ولعل هذا القول لبعض أصحابنا، فإني لم أجده معزيا إلى أحمد، والله أعلم.

قال: والحصاد على المشتري. ش: الحصاد قطع الزرع، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كأنه استعمله في جميع ما تقدم، لأن الجميع قطع، وإنما كان ذلك على المشتري لأنه لتفريغ ملكه عن ملك البائع، وأنه عليه كنقل الطعام ونحوه، وفارق الكيل والوزن والذرع والعدد، فإنهن من تمام التسليم، وذلك على البائع، والتسليم هنا حصل بالتخلية، والله أعلم. قال: فإن شرطه على البائع بطل البيع. ش: اختلف الأصحاب أولا في جواز هذا الشرط، فذهب جماعة منهم - كأبي بكر، وابن حامد، والقاضي وجماعة من أصحابه وغيرهم - إلى جوازه، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من أن البيع لا يبطله شرط واحد، ولأن قصاراه أنه بيع وإجارة، وإنهما جائزان منفردين، فجازا مجتمعين، وذهب الخرقي إلى منعه، وهو الذي أورده ابن أبي موسى مذهبا، لأنه اشترط العمل في المبيع قبل ملكه، أشبه ما

لو استأجره ليخيط له ثوب زيد إذا ملكه، وأجيب بأن في مسألتنا حصلت الإجارة والملك معا، ومثل ذلك لا يمنع، على المنصوص في جواز رهن المبيع على الثمن، بخلاف ما تقدم، وعلى هذا القول هل يبطل البيع لبطلان الشرط؟ فيه روايتان حكاهما ابن أبي موسى.

والخرقي قطع بالبطلان، فيحتمل أن مذهبه بطلان البيع بالشرط الفاسد، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي وابن عقيل، ويحتمل أن يخص البطلان هذا الشرط، وهو المرجح عند أبي محمد. (تنبيه) : خرج أبو الخطاب وجماعة من أتباعه من قول الخرقي عدم صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع مطلقا، وأبو البركات وصاحب التلخيص ذكرا ذلك رواية، فيحتمل أن مستندهما ذلك، ويحتمل أنهما اطلعا على نص، وتردد أبو محمد في التخريج، والأرجح عنده عدمه، وقصر كلام الخرقي على هذه المسألة وشبهها مما يفضي إلى التنازع، فإن البائع يريد القطع من أسفل، ليبقى له بقية، والمشتري يريد الاستقصاء ليزيد له ما يأخذه، وإنما ترجح ذلك عنده لما تقدم من إفضاء ذلك إلى التنازع، وليوافق المذهب [في صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع، إذ القاضي قد قال: إنه لم يجد بما قال الخرقي رواية في المذهب] لأن الخرقي قال بعد: والبيع لا يبطله شرط واحد.

وجميع ذلك معترض، أما الإفضاء إلى التنازع فممنوع، إذ القطع على ما جرت به العادة، كما لو لم يشترطه عليه، وأما موافقة المذهب فإن المذهب أيضا عند الأكثرين صحة هذا الشرط، والقاضي إنما كلامه فيه، وأما قول الخرقي فلا بد من تخصيصه بهذا الشرط، أو بشرط منفعة البائع في المبيع. وبالجملة يتلخص في صحة اشتراط منفعة البائع في المبيع ثلاثة أقوال، (الصحة) مطلقا، وهو المختار للأكثرين، والمنصوص عن الإمام. 1896 - محتجا بأن محمد بن مسلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - اشترى من نبطي جزرة حطب، وشارطه على حملها، (والمنع) مطلقا، (والمنع) في جز الرطبة وما في معناها، والصحة فيما عدا ذلك، ثم محل الخلاف إذا كانت المنفعة معلومة، أما إن جهلت لهما أو لأحدهما فإنه لا يصح اشتراطها بلا نزاع نعلمه، والله أعلم.

الاستثناء في البيع

[الاستثناء في البيع] قال: وإذا باع حائطا واستثنى منه صاعا لم يجز، فإن استثنى نخلة أو شجرة بعينها جاز. ش: لا نزاع فيما نعلمه في جواز الثنيا كانت معلومة، ولم تعد على المستثني بجهالة، كما إذا باع حائطا واستثنى منه نخلة بعينها أو نخلات كذلك، ونحو ذلك. 1897 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المحاقلة والمزابنة، والثنيا إلا أن تعلم» ، رواه النسائي، والترمذي وصححه، وهذه الثنيا معلومة، فصحت بمقتضى الحديث، ولأن مثال ذلك إذا كان في الحائط مائة نخلة مثلا، واستثنى نخلة منه فقال: بعتك تسعا وتسعين.

ولا إشكال أيضا في منع الثنيا إذا كانت مجهولة، كما لو قال - والحال ما تقدم -: إلا نخلة، أو إلا جزءا من الثمرة، ونحو ذلك، للحديث أيضا، ولأن جهالة المستثنى تفضي إلى جهالة المستثنى منه، ومن شرط المبيع كونه معلوما. 1898 - بدليل نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الغرر، ونحو ذلك. واختلف فيما إذا باع حائطا واستثنى منه صاعا، أو صبرة لا يعلمان قفزانها واستثنى منها قفيزا، ونحو ذلك، أو باع حائطا واستثنى ثلث ثمرته أو ربعها، أو صبرة واستثنى سبعها أو ثمنها ونحو ذلك، على ثلاثة روايات، (إحداهما) : الصحة في الجميع، اعتمادا على الحديث، إذ الثنيا والحال هذه

معلومة، وقد قيل: إنه إجماع أهل المدينة، (والثانية) : - وهي اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى - عدم الصحة في الجميع، لأن الثنيا والحال هذه تفضي إلى جهالة المبيع، وبيانه أن المبيع والحالة هذه إنما علم بالمشاهدة، وبعد إخراج المستثنى تختل المشاهدة، وإذا يدعى تخصيص الحديث لذلك (والثالثة) : يصح في: إلا ثلثها، إلا سبعها، ونحو ذلك، إذ معناه، بعتك ثلثيها، بعتك ستة أسباعها، وهو معلوم، ولا يصح في: إلا صاعا، إلا قفيزا، ونحو ذلك، لما تقدم من أن المصحح للبيع - والحال هذه - الرؤية، وبإخراج الصاع ونحوه تختل، وهذه الرواية اختيار القاضي وجماعة من أصحابه، وأبي محمد وغيرهم. واختلف الأصحاب فيما إذا باع نخلة واستثنى منها صاعا ونحو ذلك، فأجرى أبو محمد فيه الخلاف، وقطع القاضي في شرحه، وفي جامعه الصغير بالصحة، معللا بأن الجهالة هنا يسيرة فتغتفر، بخلاف ثم، وكذا وقع نص أحمد في رواية حنبل بالصحة، وتردد القاضي في التعليق

وضع الجوائح

فيه، هل يجري على ظاهره، لما تقدم من قلة الجهالة، أو يحمل على الرواية التي قال فيها ثم بالصحة. واختلفوا أيضا فيما إذا قال: بعتك هذا الحيوان إلا ثلثه، أو إلا ربعه، ونحو ذلك، فأجازه أبو محمد، وابن عقيل، كما لو قال في الصبرة: إلا ثلثها، ومنع ذلك القاضي في المجرد، قال: على قياس قول الإمام في الشحم، ورد بأن الشحم مجهول، ولا جهالة هنا، وحمل ابن عقيل كلام شيخه على أنه استثنى ربع لحم الشاة، لا ربعها مشاعا، ثم اختار الصحة في ذلك أيضا، والله أعلم. [وضع الجوائح] قال: وإذا اشترى الثمرة دون الأصل فلحقتها جائحة من السماء رجع بها إلى البائع. ش: لا نزاع عندنا فيما نعلمه في وضع الجوائح في الجملة. 1899 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ من مال أخيك بغير حق؟» وفي رواية: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بوضع الجوائح» . رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وللنسائي في رواية أخرى «من باع ثمرا فأصابته

جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئا، علام يأكل أحدكم مال أخيه المسلم» ولأن الثمار على رؤوس الأشجار تجري مجرى الإجارة، لأنها تؤخذ شيئا فشيئا كالمنافع، ثم المنافع إذا تلفت قبل مضي المدة كانت من ضمان المؤجر، كذلك الثمار، لا يقال: المنافع قبل مضي المدة غير مقبوضة، بخلاف الثمار فإنها مقبوضة، لأنا نقول: كلاهما في حكم المقبوض من وجه، ولهذا جاز التصرف في كل منهما على المذهب، ثم لا نسلم أن الثمرة مقبوضة القبض التام، بدليل أنها لو تلفت بعطش كانت من ضمان البائع، فلا ترد صحة التصرف فيها، فإنا نمنعه على رواية اختارها أبو بكر، فيما حكاه عنه ابن شاقلا. 1900 - وقال: إنه قول زيد بن ثابت، وإن سلمناه فالإجارة، يجوز التصرف فيها، وإذا تلفت كانت من ضمان المؤجر.

1901 - وقد اعترض على هذا بالحديث الصحيح «أن رجلا أصيب على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تصدقوا عليه» ، قال: فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك» ولو كان الضمان على البائع لكانت المصيبة عليه، وأجيب بأن هذا واقعة عين، فيحتمل أنه أصيب بعد حرزها وقبضها القبض التام. 1902 - واعترض أيضا بحديث عمرة بنت عبد الرحمن، قالت: «ابتاع رجل ثمرة حائط في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فعالجه وقام فيه، حتى تبين له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع له أو يقيله، فحلف أن لا يفعل، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فذكرت ذلك له، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تألى فلان أن لا يفعل خيرا» رواه أحمد ومالك في الموطأ

وظاهره أن الوضع غير واجب على البائع، وإلا لطلب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - البائع، وأمره بذلك، وأنكر عليه حلفه، وامتناعه من الواجب، وقد أجيب بأن الجائحة هنا يحتمل أن تكون بفعل آدمي والضمان عليه، ويحتمل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه ينزجر بقوله، ويخرج من الحق، فلم يحتج إلى طلبه. 1903 - ويشهد لذلك ما في المسند أن الرجل بلغه، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إن شئت الثمن كله، وإن شئت ما وضعوا، فوضع عنهم ما وضعوا. 1904 - وفي الموطأ فسمع بذلك رب الحائط، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، هو له ويحتمل أنه كان قبل الأمر بوضع الجوائح، على أنه ليس في الحديث أن الثمرة أصابتها جائحة، مع أن الحديث مرسل، ثم يضعفه اختلاف ألفاظه، وما في المغني من أن المرأة قالت: فأذهبتها الجائحة، وأنه متفق عليه [الظاهر] أنه وهم.

واعترض أيضا بالأحاديث الصحيحة من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الثمرة حتى تزهو، وقوله: «أرأيت إن لم يثمرها الله بم تستحل مال أخيك؟» ولو كان الضمان على البائع لما استحل مال أخيه، وهذا أقوى ما اعترض به. وقد أجاب عنه القاضي بأن معناه: بم تستحل جواز الأخذ، فهو إنكار على البائع في أخذ الثمن، نظيره قَوْله تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] ولا يخفى أن ظاهر اللفظ خلاف هذا. والذي يظهر لي عدم القول بوضع الجوائح، وأن ذلك كان أولا، حين كانوا يتبايعون الثمار قبل بدو الصلاح. 1905 - بدليل ما قال زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كان الناس في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتبايعون الثمار، فإذا جذ الناس وحضر تقاضيهم، قال المبتاع: إنه أصاب الثمر الدمان، أصابه مراض، أصابه قشام، عاهات يحتجون بها، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كثرت عنده الخصومة -: «إما لا فلا تبايعوا حتى يبدو صلاح الثمر» كالمشورة يشير بها، لكثرة خصومتهم، رواه البخاري، وأبو داود، وزاد: «يتبايعون

الثمار قبل بدو صلاحها» ، وهذا بين في أنهم كانوا يتبايعون الثمار [قبل بدو صلاحها، وأن الجوائح ما كانت توضع، وإلا لم يكن في الخصومة فائدة، وأن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع ذلك، بأن منع البيع] قبل بدو الصلاح. ولا تفريع على هذا، أما على المذهب، فهل توضع الجوائح مطلقا، عملا بعموم الحديث، وهو اختيار جمهور الأصحاب، إلا القدر اليسير الذي لا بد من تلفه غالبا، قال أحمد: لا أقول في عشر تمرات، ولا عشرين تمرة، وما أدري ما الثلث؟ أو لا يوضع إلا أن أتلفت الثلث فصاعدا، وهو اختيار الخلال، لأن اليسير مغتفر إذ لا بد من تلف ما غالبا، وما دون الثلث يسير.

1906 - بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثلث، والثلث كثير» ؟ على روايتين، وقيدهما ابن عقيل وصاحب التلخيص بما بعد التخلية، وظاهره أن قبل التخلية الكل على البائع، ثم على الثانية: عل يعتبر الثلث بالقدر أو بالقيمة؟ فيه قولان. ومعنى وضع الجوائح أن الثمرة إذا تلفت أو بعضها قبل الجذاذ كان ذلك من ضمان البائع على المذهب، فيرجع المشتري عليه بالثمن أو ببعضه حسب التالف. وعلى الرواية الأخرى إن أتلفت دون الثلث فمن ضمان المشتري، وإن أتلفت الثلث فصاعدا فمن ضمان البائع، وإن تعيبت الثمرة ولم تتلف خير المشتري بين الإمضاء والأرش، وبين الرد وأخذ الثمن كاملا.

ثم الجائحة التي هذا حكمها ما لم يكن بفعل آدمي، كالريح، والمطر، والجراد، والبرد، ونحو ذلك، أما ما كان بفعل آدمي كالحاصلة من قطاع الطريق، ونهب الجيوش، ونحو ذلك، فإن المشتري مخير بين فسخ العقد، ومطالبة البائع بالثمن، وبين إمضائه ومطالبة المتلف بالبدل، قاله القاضي وغير واحد، واختار أبو الخطاب في الانتصار أن الضمان - والحال هذه - يستقر على المشتري، فيلزم العقد في حقه، ثم يرجع هو على المتلف، وفي التلخيص وغيره أن في إحراق اللصوص، ونهب الحرامية والجيوش وجهان، يعني هل هو من الجائحة أم لا؟ وكأن مرادهم خلاف أبي الخطاب وشيخه، انتهى. وقول الخرقي: اشترى الثمرة. الألف واللام للعهد، أي: الجائز بيعها، وذلك بعد بدو صلاحها مطلقا، وقبله بشرط القطع، (وقوله) : دون الأصل، يخرج به ما إذا اشتراها

مع الأصل، فإن ضمانها يستقر عليه، لحصولها تابعة لما ضمانه عليه، وهو الأرض. (وقوله) : ولحقتها جائحة من السماء. يخرج به الجائحة من آدمي، وكذا قال أبو البركات، وظاهره كقول أبي الخطاب. (وقوله) : رجع بها على البائع. هذا فيما قبل تناهي الثمرة، أما إن جذت فلا نزاع في استقرار العقد، ولزوم الضمان للمشتري، وكذلك إن حصل تناهيا، لأن التفريط إذا من المشتري، وكذلك إن تمكن من قطعها ولم يقطعها، فيما إذا بيعت قبل الصلاح بشرط القطع، قاله أبو البركات، والقاضي فيما حكاه عنه أبو محمد، وهو احتمال له في التعليق، لما تقدم، وزعم فيه أن ظاهر كلام الإمام الوضع أيضا، اعتمادا على إطلاقه، ونظرا إلى أن القبض لم يحصل.

ثم قول الخرقي: اشترى الثمرة. يشمل ثمرة النخل وغيرها، وأحمد قال - فيما حكاه عنه ابن عقيل -: إنما الجوائح في النخل، فظاهره إخراج ثمرة الشجرة، لكن قال القاضي: إنما أراد إخراج [الزرع] ، والخضروات إذ لا فرق يظهر بين الشجر، والنخل. ويخرج من قول الخرقي وأحمد ما عدا الثمار، من الزرع، والخضروات، فلا وضيعة في ذلك، بل ضمانه على المشتري، وهذا أحد احتمالي القاضي: وقال: إنه الأشبه، بعد أن قال: إنه لا يعرف الرواية في ذلك، وفرق بأن الزرع لا يباع من غير شرط القطع إلا بعد تكامل صلاحه، فإذا تركه بعد فقد فرط، والثمرة تباع بعد بدو الصلاح، وقبل تكاملها على الترك، فلا تفريط. (والثاني) : وبه قطع أبو البركات حكم ذلك حكم الثمرة بالقياس عليها. (تنبيهان) : «أحدهما» : ليس من الجائحة إذا استأجر أرضا للزراعة فزرعها ثم تلف الزرع بغرق أو نحوه، نص عليه

أحمد، وقاله الأصحاب، قال أبو محمد: ولا نعلم فيه خلافا، لأن المعقود عليه منفعة الأرض، وقد استوفيت بالزراعة، والتلف حصل لمال المستأجر، فهو كما لو استأجر بهيمة لحمل متاع، فحملته فتلف أو سرق. (الثاني) : «الجائحة» في اللغة واحدة الجوائح، وهي الآفات التي تصيب الثمار فتتلفها، يقال: جاحهم الدهر يجوحهم، واجتاحهم، إذا أصابهم مكروه عظيم، «وتألى» حلف، و «الدمان» بفتح الدال، [وتخفيف الميم] ، عفن يصيب النخل فيسوده، و «المراض» داء يقع في الثمرة فتهلك، يقال: أمرض الرجل. إذا وقع في ماله العاهة، و «القشام» هو أن ينتقص ثمر النخل قبل أن يصير بلحا، و «إما لا» أصله، إن ما لا. فأدغمت

تلف المبيع قبل القبض

النون في الميم، والمعنى: إن لم يفعل فليكن هذا. وتمال إمالة خفيفة، والله سبحانه أعلم. [تلف المبيع قبل القبض] قال: وإذا وقع البيع على مكيل، أو موزون، أو معدود، فتلف قبل قبضه فهو من مال البائع، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض، فإذا تلف فهو من مال المشتري. ش: المبيع على ضربين، متميز، وغير متميز، فغير

المتميز قسمان (أحدهما) مبهم تعلق به حق توفية، كقفيز من هذه الصبرة، ورطل من هذه الزبرة، ونحو ذلك، فهذا يفتقر إلى القبض، على المذهب المعروف، المقطوع به عند عامة الأصحاب، حتى إن بعضهم يقول: رواية واحدة. 1907 - لما روي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنه قال: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حيا مجموعا فهو من مال المبتاع» . ذكره البخاري من قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تعليقا،

واحتج به أحمد، وقول الصحابي: مضت السنة. ينصرف إلى سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهو يدل بمفهومه على أن المبيع من مال البائع، وفي كلام أبي محمد ما يقتضي حكاية رواية بعدم افتقار ذلك إلى القبض، ولا يتابع عليها. (القسم الثاني) : مبهم لم يتعلق به حق توفيه، كنصف العبد، وربع الإناء، وسدس القربة، ونحو ذلك، فاختلف كلام صاحب التلخيص فيه، ففي البلغة أنه كالذي قبله، قال: وإنما يفترقان في أنه لو تلفت الصبرة إلا قفيزا منها تعين أنه المبيع، بخلاف الجزء المشاع. وفي التلخيص في البيع وفي الرهن جعله من المتميزات، فيه الخلاف الآتي. والمتميز قسمان أيضا: (أحدهما) : ما تعلق به حق توفية، كبعتك هذا القطيع كل شاة بدرهم، وهذا الثوب على أنه عشرة أذرع. فالمشهور عند الأصحاب - وبه قطع أبو البركات وغيره - أنه كالمبهم الذي تعلق به حق توفية، إناطة بها، قال في التلخيص: وخرج بعض الأصحاب فيه وجها أنه كالعبد والثوب، بناء على أن العلة ثم اختلاط المبيع بغيره. قلت:

وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، وذكر له قول الثوري: كل شيء ليس فيه كيل، ولا وزن، ولا عدد، فخراجه، وحمله، ونقصه على المشتري، وكل بيع فيه كيل، أو وزن، أو عدد، فلا بد للبائع أن يوفيه. فقال أحمد: أما العدد فلا، ولكن كل ما يكال ويوزن فلا بد للبائع أن يوفيه، لأن ملكه قائم فيه. (القسم الثاني) متميز لم يتعلق به حق توفية، كالعبد، والدار، والصبرة، ونحو ذلك من الجزافيات، ففيه روايات. (إحداهن) - وهي الأشهر عن الإمام، والمختار لجمهور الأصحاب - عدم افتقار ذلك إلى القبض، لمنطوق ما تقدم عن ابن عمر. 1908 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى «أن الخراج بالضمان» رواه الخمسة، أي: حاصل أو ثابت بسبب

الضمان، وفي رواية: «أن رجلا ابتاع غلاما فاستعمله، ثم وجد به عيبا، فرده بالعيب، فقال البائع: غلة عبدي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغلة بالضمان» رواه أحمد، وأبو داود، وظاهره أن المبيع المتعين من ضمان المشتري، لأنه جعل خراجه له، بسبب أن ضمانه عليه. (والثانية) : افتقار ذلك إلى القبض، حكاها جماعة، منهم أبو الخطاب في الانتصار، وأخذها من قول أحمد في

رواية الأثرم: إن الصبر لا تباع حتى تنقل. قال: وهي معينة كالعبد والثوب. وأظهر من هذا أخذها من رواية مهنا، في من تزوج امرأة على غلام بعينه، ففقئت عين الغلام ولم تقبضه فهو على الزوج، وهذه قال في التلخيص: إنها اختيار ابن عقيل، والذي في الفصول تصحيح الأولى، ثم إنه حكى عن أبي بكر ما يقتضي تأويل الثانية، واختار هو أنها على ظاهرها، وأن عليها لا يكون الضمان على المشتري، وهذا ليس منه اختيارا للرواية، إنما فيه إثباتها، نعم هو يختار أنه لا يجوز التصرف في ذلك قبل قبضه. 1909 - وبالجملة استدل لهذه الرواية بما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: ابتعت زيتا في السوق، فلما استوجبته لقيني رجل فأعطاني به ربحا حسنا، فأردت أن أضرب على يده، فأخذ رجل من خلفي بذراعي، فالتفت فإذا زيد بن ثابت، فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك، «فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تباع السلع حيث تبتاع، حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» ، رواه أحمد، وأبو داود.

1910 - وعن «حكيم بن حزام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت: يا رسول الله، إني أبتاع هذه البيوع، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال «يا بن أخي إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه» رواه البيهقي في سننه. (والرواية الثالثة) : أن المفتقر من ذلك إلى القبض هو الطعام، وإن كان غير مكيل ولا موزون، على ظاهر ما نقله أحمد بن الحسين الترمذي، وقد سأله عن بيع الفاكهة قبل القبض، فقال: في هذا شيء إن خرج مخرج الطعام، لأن الحديث في الطعام، وأصرح من هذا رواية الأثرم، وسأله

عن قوله: نهى عن ربح ما لم يضمن. قال: هذا في الطعام وما أشبهه، من مأكول، أو مشروب، فلا تبعه حتى تقبضه، ونحوه نقله المروذي، وهذه الرواية قال ابن عبد البر: إنها الأصح عن إمامنا، وإليها ميل أبي محمد بل ظاهر كلامه إناطة الحكم بها، وعدم النظر إلى كون المبيع مبهما أو مما تعلق به حق توفية، أو غير ذلك. 1911 - وقد استدل لها بما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» قال: وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» . 1912 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يبيع الرجل طعاما حتى يستوفيه» ، وفي رواية: حتى يكتاله. متفق عليهما. 1913 - وفي مسلم نحوهما من حديث جابر، وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

وهذه الأحاديث شاملة بمنطوقها لكل طعام، ومفهومها أن غير الطعام ليس كذلك، وهو في معنى مفهوم الصفة، لأنه اسم مشتق، لا اسم جامد كزيد ونحوه. (والرابعة) : المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل والموزون، بشرط أن يكون مطعوما، قال في رواية مهنا: كل شيء يباع قبل قبضه، إلا ما كان يكال أو يوزن، مما يؤكل أو يشرب. (والخامسة) : - وهي ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه - المفتقر من ذلك إلى القبض هو المكيل أو الموزون، أخذا من نصه في رواية الأثرم: أن الصبر لا تباع حتى تنقل. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أناط الحكم بالمكيل، والموزون والمعدود، وظاهره خلاف هذه الأقوال، فيكون قولا سادسا، ويحتمل أنه أراد ما تعلق به حق توفية، وهو أولى، وفاقا للمذهب المنصوص. والله أعلم.

واعلم أن أكثر هذه الروايات وأدلتها أخذت من المنع من البيع قبل القبض، أو هو من كون الضمان على البائع، وهو مبني على ما يقوله أكثر الأصحاب، من أن المنع من البيع، ولزوم الضمان للبائع، متلازمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

والمذهب عند العامة أن الذي يفتقر إلى القبض هو ما تعلق به حق توفية دون غيره. إذا عرف هذا فالمفتقر إلى القبض يكون قبله من ضمان البائع، ولا يجوز لمشتريه التصرف فيه كما سيأتي، وما لا يفتقر إلى قبض من ضمان مشتريه، وله التصرف فيه، سواء قدر على القبض أو لم يقدر، لكن متى منعه البائع منه بعد المطالبة، واتساع الوقت للتسليم، ضمن ضمان غصب، لا ضمان عقد، وليس اللزوم من أحكام القبض، على المذهب كما تقدم، ولا الضمان وعدمه مرتبا على اللزوم، وقول السامري: إذا تم العقد بغير خيار، أو بخيار وانقضت مدته من غير فسخ، فإن كان المبيع غير متميز. إلى آخره، يوهم ترتب الضمان على اللزوم وليس بشيء، وكذلك ليس الملك من أحكام القبض هنا، بل يحصل الملك بمجرد العقد، على المذهب كما تقدم، نص عليه أحمد في رواية محمد بن موسى، في من اشترى قفيزا من طعام من جملة أقفزة، فهو من مال البائع، [فقيل له: أليس قد ملكه المشتري؟ فقال: بلى ولكن هو من ضمان البائع] انتهى، وإذا ما حصل من نماء في يد البائع فهو أمانة في يده للمشتري، إذ النماء تابع للملك.

ومعنى تضمين البائع ما تقدم أنه إن تلف بأمر سماوي بطل العقد فيه، وكان من مال البائع، فيلزمه رد الثمن إن كان قد قبضه، وإلا فلا شيء له، قال القاضي وغيره: على قياس قوله في الثمرة إذا تلفت قبل أخذها بآفة سماوية، وإن تلف بفعل من جهة آدمي، فإن كان المشتري فقد استقر العقد، وتلف من ماله، وإن كان البائع أو أجنبيا خير المشتري بين فسخ العقد والرجوع بالثمن إذا كان قد دفعه، وبين إمضائه ومطالبة متلفه بعوضه، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن تلف البائع يبطل العقد. وقد يقال: إن ظاهر إطلاق الخرقي بطلان العقد مطلقا، ونص أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، في رجل باع ثوبا من رجل، ثم باعه من آخر قبل التفرق، ولما يسلمه للأول، واستهلكه البائع، أخذ بخلاصه، فإن لم يقدر أن يخلصه فعليه قيمته يوم استهلكه، فإن كان ذلك مما يكال أو يوزن فعليه المثل، وظاهر هذا أن التلف إذا كان من جهة البائع ضمنه، ولم يبطل العقد، ولا يخير المشتري، ويتلخص من هذا أن في تلف البائع ثلاثة أقوال، والقاضي قال: يجب أن يحمل هذا النص على أنه اختار الإمضاء، أما إن اختار

الفسخ فله ذلك، كما إذا ظهر على عيب بعد القبض، فإنه يخير بين الإمضاء وبين الفسخ. (قلت) : وليس هذا نظير المسألة، إنما نظيرها أن يظهر على عيب بعد التلف، وإذا لا تخيير على المعروف، انتهى. والعوض مثله إن كان مثليا، أو قيمته إن لم يكن مثليا، كما نص عليه أحمد، وقاله جماعة، ووقع لأبي البركات وجماعة أن الواجب القيمة، فقيل: مرادهم كما تقدم، وأرادوا بالقيمة البدل الشرعي. وكان شيخنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - ورضي عنه - القاضي موفق الدين ينصر أن المراد القيمة على ظاهرها، انتصارا للمجد، إذ هو في كلامه أظهر منه في كلام غيره، ونظرا إلى تحقيقه، ويعلله بما ملخصه: أن الملك هنا استقر على المالية، فلذلك وجبت القيمة، والمثلية

لم يستقر الملك عليها، فلذلك لم تجب، ونص ابن سعيد يقطع النزاع. والله أعلم. (تنبيهان) : «أحدهما» : إذا اختلط ما تقدم بغيره ولم يتميز، فإنه يبنى على أن الخلط هل هو بمنزلة الإتلاف أم لا؟ فيه وجهان، ومحل ذلك كتاب الغصب، ولو تلف بعض المبيع بآفة سماوية انفسخ في قدره، وفي الباقي قولا تفريق الصفقة، قال في التلخيص: والذي قطع به الشيخان عدم الفسخ في الباقي، لكن يخير المشتري، لتفريق الصفقة عليه، ثم ظاهر كلام أبي محمد أنه يخير بين قبول كل المبيع ناقصا ولا شيء له، وبين الفسخ والرجوع بكل الثمن، وظاهر كلام غيره أن التخيير في الباقي، وأن التالف يسقط ما قابله من الثمن، وإن كان تلف البعض بفعل المشتري كان ذلك بمنزلة قبضه له، وإن كان بفعل البائع أو أجنبي، خير المشتري بين الفسخ والرجوع بكل الثمن، وبين الإمضاء والرجوع على المتلف بعوض ما أتلف، أما إن تعيب ولم يتلف، فإن كان بفعل البائع أو أجنبي، فالمشتري بالخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن، وبين الإمضاء ومطالبة المتلف بالأرش، وإن كان بغير فعل آدمي، خير بين أخذه ناقصا، ولا شيء له، وبين الفسخ والرجوع بالثمن، قاله أبو محمد، وصاحب التلخيص، فلو كان المبيع دارا فتلف سقفها قبل

القبض، وقلنا: إنها من ضمان البائع، على الرواية الضعيفة، فهل ذلك بمنزلة العيب، كما لو تلفت يد العبد، أو بمنزلة تلف البعض كأحد العبدين؟ فيه وجهان. (الثاني) : في معنى ما يتعلق به حق توفية - وإن لم يكن هو - المبيع برؤية أو صفة متقدمة، فإنه من ضمان بائعه حتى يقبضه المبتاع، ذكره ابن أبي موسى وغيره، والله أعلم. قال: ومن اشترى ما يحتاج إلى قبضه لم يجز بيعه حتى يقبضه. ش: قد تقدم أن جمهور الأصحاب جعلوا المنع من البيع والضمان متلازمين، وأن الافتقار إلى القبض علم عليهما، فكل ما افتقر إلى القبض فضمانه على بائعه، ومشتريه ممنوع من بيعه قبل قبضه، وما لا فلا.

1914 - لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ربح ما لم يضمن» ، ومنع من بيع أشياء حتى تقبض، والظاهر أن منعه من ذلك حذارا من أن يربح فيما لم يضمن، وإذا إنما يبقى النظر في الممنوع من بيعه قبل قبضه، هل هو كل شيء، كما في حديثي زيد بن ثابت، وحكيم بن حزام، وأحاديث المنع من بيع الطعام بعض أفراد ذلك، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره، إذ لا ريب أن أحاديثه أثبت، ورواته أكثر، أو الممنوع من بيعه قبل قبضه ما تعلق به حق توفية، فقط ما دل عليه قول ابن عمر تضمنه أن المنع من البيع،

وتضمين البائع متلازمان، ويحتمله حديث عائشة في المتعين؟ انتهى. وظاهر كلام ابن عقيل في الفصول أن المنع من البيع غير ملازم للضمان، لأنه حكى أن ما تعلق به حق توفية من ضمان البائع، وفي غيره من المتعينات - كالعبد والصبرة ونحوهما - روايتان، ثم قال: إذا ثبت أن المبيع المتعين من ضمان مشتريه، فهل يصح بيعه قبل قبضه؟ نقل الأثرم: لا يجوز بيع الصبرة قبل قبضها. ونقل ابن القاسم ما يدل على الجواز، ثم حكى الخلاف أيضا في المكيل والموزون إذا لم يكن مطعوما، وفي المطعوم إذا لم يكن مكيلا، وهذا أيضا ظاهر ما حكى السامري عن القاضي، فإنه حكى عنه في الصبرة هل هي من ضمان البائع أو من ضمان المشتري؟ على روايتين [وأنه هل يجوز للمشتري التصرف فيها قبل القبض؟ على روايتين] قال: الأقيس جواز التصرف، لأنه لم يتعلق به حق توفية، ولو تلف قبل القبض كان من مال المشتري، فهو كالعبد، وظاهر كلاميهما أن الخلاف في جواز التصرف على القول بالضمان، والذي يظهر لي من جهة الدليل عدم التلازم، وأن المتعينات من ضمان المبتاع لظاهر حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وقول ابن عمر، وغيرها

من ضمان البائع، لمفهوم قول ابن عمر، وأن جميع الأشياء يمنع من بيعها قبل قبضها، لحديث زيد بن ثابت، وحكيم بن حزام، إذ الذي منع من بيعه قبل قبضه هو الطعام دون غيره، انتهى. (تنبيهات) : «أحدها» : عموم كلام الخرقي المنع للبائع ولغيره، وهو كذلك انتهى، (الثاني) : حيث جوزنا البيع قبل القبض فباع قبل أن يقبض، فالمشتري الثاني مخير بين أن يطالب به الأول، وبين أن يطالب به الثاني، والثاني يطالب الأول (الثالث) : بيان القبض يأتي إن شاء الله تعالى للخرقي في الرهن، فلنتكلم عليه ثم، والله أعلم. قال: والشركة فيه والتولية والحوالة به كالبيع. ش: الشركة في المبيع بيع بعضه بقسطه من الثمن، بأن يقول: أشركتك في نصفه بنصف الثمن، أو في سدسه بسدس الثمن، ونحو ذلك، والتولية فيه بيع جميعه بكل الثمن، وهما نوعان من أنواع البيع، فما ثبت في البيع ثبت فيهما، وقد ثبت المنع من البيع قبل القبض فيما تقدم، فكذلك فيهما، ومثلهما بيع المرابحة، نحو: رأس مالي فيه

مائة، بعتك بها وربح عشرة، والمواضعة، كأن يقول والحال هذه: ووضيعة عشرة. والصلح بمعنى البيع، كأن يقر له بمائة فيعطيه عنها عرضا، ونحو ذلك، والهبة بثواب، لأن المغلب فيها حكم البيع، على المذهب، والإجارة، لأنها بيع في الحقيقة، ويتصور ذلك في الأواني الموزونة، وفي المبهم في الموزون، كرطل من صنجة حديد، وفي المعين على رواية اعتبار القبض فيه، وعليها التزويج كالإجارة، قاله في التلخيص، والقسمة حيث قيل إنها بيع، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر الشركة والتولية على سبيل التمثيل، أما الحوالة فقد منع الخرقي منها فيحتمل لأنها عنده بيع، ويحتمل وإن قيل: إنها عقد مستقل. لأنه تصرف في المبيع المفتقر إلى القبض قبل قبضه، فلم يجز كالبيع، ويكون الخرقي قد نبه بهذه الصورة على بقية التصرفات، وهذا أوفق لعبارة القاضي،

وأبي الخطاب وغيرهما، لقولهم: يجوز التصرف في المبيع المتعين قبل قبضه، ولا يجوز فيما لم يتعين قبل قبضه، إلا أن القاضي وأبا الخطاب وقع في أثناء كلامهما استثناء العتق يريدان على القول بأن جميع الأشياء تفتقر إلى القبض، وقد صرح باستثناء العتق أيضا صاحب التلخيص وغيره، وحكى صاحب التلخيص عن القاضي وابن عقيل أنهما ذكرا في موضع أن رهن ما افتقر إلى القبض يصح بعد قبض الثمن، لأن قبضه قد صار مستحقا من غير خلاف، وخرج هو على ذلك الهبة بغير ثواب، وفي هذا التعليل نظر، لأن مقتضاه جواز كل التصرفات في المفتقر إلى القبض بعد قبض ثمنه، لاستحقاق قبضه، والله أعلم. قال: وليس كذلك الإقالة، لأنها فسخ، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الإقالة بيع. ش: أي ليست الإقالة كالتولية والشركة ونحوهما، لما علل به من أنها فسخ، والممنوع منه إنما هو البيع وما في معناه، (والرواية الثانية) الإقالة بيع، أي في معناه، فتلحق بالتولية والشركة ونحوهما، وقد فهم من كلام الخرقي وتعليله إناطة الحكم بالبيع وما في معناه، وإذا ظاهره مخالف لما تقدم من قول القاضي وغيره.

(تنبيه) : المشهور من الروايتين - وهو اختيار جمهور الأصحاب، القاضي، وعامة أصحابه، وأبي الحسين، وأبي محمد، وحكاه عن أبي بكر - الذي قدمه الخرقي، لأن الإقالة هي الرفع والإزالة، يقال: أقالك الله عثرتك. أي أزالها. 1915 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أقال نادما أقاله الله عثرته» رواه أبو داود،

والرفع والإزالة غير البيع، إذ هو عقد، وهي رفع له فهما ضدان، ومن ثم لا يحصل أحدهما بلفظ الآخر، وجازت الإقالة في المسلم فيه، مع الاتفاق على أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه، (والثانية) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه، وعللها بأنها إزالة ملك إلى مالك، ويريد فيه بعوض على وجه التراضي، وإذا هي في معنى البيع، فتلحق به. وللخلاف فوائد، (منها) أن على الأول يجوز قبل القبض فيما يعتبر له القبض، ولا يحتاج إلى كيل ثان، وحكى أبو محمد عن أبي بكر أنه لا بد فيها من كيل ثان إقامة للفسخ مقام البيع، والذي في التنبيه إيجاب الكيل على القول بأنها بيع، لا على القول بأنها فسخ، (ولا تجوز) إلا بمثل الثمن، (ولا تستحق) بها شفعة، (ولا يحنث) بفعلها فيما إذا حلف لا يبيع فأقال، (ويكون النماء) للبائع، قاله القاضي في الجامع الصغير، وعلى الثانية تنعكس هذه الأحكام إلا بمثل الثمن في أحد الوجهين، أما وجوب الاستبراء على البائع إذا عادت إليه بإقالة فالذي قطع به أبو بكر في التنبيه وجوبه على القول بأن الإقالة بيع، وكذلك الشيرازي قطع بالوجوب، وقاله وبنى المسألة على أن

الإقالة بيع، ومقتضى كلاميهما عدم الوجوب إن لم يقل إنها بيع، والمنصوص عن أحمد في رواية ابن القاسم، وابن بختان، وجوب الاستبراء مطلقا، ولو قبل القبض، وهو مختار القاضي وجماعة من أصحابه، إناطة بالملك، واحتياطا للأبضاع، ونص في رواية أخرى أن الإقالة إن كانت بعد القبض والتصرف وجب الاستبراء، وإلا لم يجب، وكذلك حكى الرواية القاضي، وأبو محمد في الكافي، والمغني، وكأن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم ينظر في هذه إلى انتقال الملك، إنما نظر إلى الاحتياط. والعجب من أبي البركات، حيث لم يذكر: قبل التفرق، مع جودته وتصريح الإمام به، لكنه قيد المسألة بقيد لا بأس به، وهو بناؤها على القول بانتقال الملك، أما لو كانت الإقالة في بيع خيار، وقلنا: ولم ينتقل الملك. فظاهر كلامه أن الاستبراء لا يجب، وإن وجد القبض، ولم يعتبر أبو البركات أيضا القبض فيما إذا كان المشتري لها امرأة، بل حكى فيها الروايتين وأطلق، وخالف أبا محمد في تصريحه بأن المرأة بعد التفرق كالرجل، ونص أحمد الذي فرق فيه بين التفرق وعدمه وقع في الرجل، والله أعلم.

قال: وإذا اشترى صبرة طعام لم يبعها حتى ينقلها. ش: وذلك لما تقدم من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيره، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من اشترى طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه» وقال ابن عمر: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» . وهذا يقال: إنه استفيد مما تقدم، بناء على أن مراد الخرقي بالكيل ما تعلق به حق توفية وغيره، وهو ظاهر ما شرح عليه أبو محمد وغيره، وقد يقال بالمنع هنا، وإن قيل: إنه من ضمان المشتري، اتباعا لإطلاق النص. (تنبيه) : «الصبرة» قال الأزهري: هي الكومة المجموعة من الطعام. قال: وسميت صبرة لإفراغ بعضها على بعض. والله أعلم. قال: ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرة. ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وعليه الأصحاب،

حذارا من تغرير المشتري وغشه، إذ البائع لا يفعل ذلك غالبا - والحال هذه - إلا لذلك، والغش حرام. 1916 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من غشنا فليس منا» . 1917 - وقد روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافا حتى يبينه» وهذا نص في المسألة، وعن مالك

- رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على كراهة ذلك وإساءة فاعله، من غير تحريم، إذ المشتري يحتاط لنفسه، فلا يشتري ما يجهله، وإذا اشترى مع الجهل فالتفريط منسوب إليه، وعلى هذه الرواية البيع صحيح لازم، نص عليه، أما على الأولى فهل يفسد البيع لأجل النهي، وبه قطع أبو بكر في التنبيه، وطائفة من الأصحاب، أو لا يفسد، وهو قول القاضي، وكثير من أصحابه، إذ قصاراه أنه تدليس، وهو غير مفسد، بدليل حديث المصراة؟ فيه وجهان، ثم على القول بالصحة إن علم المشتري بعلم البائع فلا خيار له، لدخوله على بصيرة، وإن لم يعلم فله الخيار كالتدليس، ولو انفرد المشتري بالعلم دون البائع فحكمه حكم انفراد البائع بذلك، في أنه ينهى عن الشراء، وإذا اشترى ففي صحة شرائه الخلاف السابق، أما مع علمهما فعموم كلام الخرقي يقتضي المنع من ذلك أيضا، وقد غالى أبو بكر فجزم

بالبطلان فيه، وهو أحد الوجهين على القول بالبطلان مع علم أحدهما، حكاهما في التلخيص، وأما مع جهلهما فيصح البيع بلا تردد، كما فهم ذلك من كلام الخرقي، وقد دل عليه حديث ابن عمر وغيره. ولا فرق عندنا بين عين الأثمان والمثمنات. ولا يشترط معرفة باطن الصبرة، دفعا للحرج والمشقة، اعتمادا على تساوي أجزائها غالبا، بخلاف الثوب ونحوه، وشرط أبو بكر في التنبيه لجواز بيع الصبرة تساوي موضعها، فإن لم يتساو لم يجز، إلا أن يكون يسيرا يتغابن بمثله، وعامة الأصحاب لا يشترطون ذلك، وعندهم أنه إن ظهر تحتها ربوة أو فيها حجر ونحو ذلك مما يتغابن بمثله في مثلها، ولم يعلم به المشتري، فله الخيار بين الرد والإمساك، كما لو وجد باطنها رديئا، نص عليه أحمد، ولابن عقيل احتمال أنه يرجع بمثل ما فات، إذا أمكن تحقيق ذلك أو حزره، وإن بان تحتها حفرة تأخذ العين المذكورة أو بان باطنها خيرا من ظاهرها، فلا خيار للمشتري، وللبائع الخيار إن لم يعلم، ولأبي محمد احتمال أنه لا خيار له، إذ الظاهر علمه بذلك، ولابن عقيل احتمال أنه يأخذ منها ما حصل في الانخفاض، حتى يتساوى وجه الأرض، واختار صاحب

التلخيص أن حكم الأولى حكم ما لو باعه أرضا على أنها عشرة أذرع فبانت تسعة، وحكم الثانية حكم ما لو باعه أرضا على أنها عشرة أذرع فبانت أحد عشر، والله أعلم. قال: وإذا اشترى صبرة على أن كل مكيلة منها بشيء معلوم جاز. ش: لأن المبيع معلوم بالمشاهدة، وقدر ما يقابل كل جزء من المبيع من الثمن معلوم، فصح للعلم بالعوض. 1918 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه أجر نفسه كل دلو بتمرة، وجاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتمر فأكل» ، والله أعلم.

باب المصراة وغير ذلك

[باب المصراة وغير ذلك] ش: معنى التصرية عند الفقهاء أن يجمع اللبن في ضرع البقرة أو الشاة ونحوهما اليومين والثلاثة، حتى يعظم، فيظن المشتري أن ذلك لكثرة اللبن، وإذا هي المصراة، والمحفلة أيضا، يقال: ضرع حافل. أي عظيم، والحفل الجمع العظيم، واختلف في معناها لغة، فقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: التصرية أن تربط أخلاف الناقة أو الشاة، ويترك حلبها اليومين والثلاثة، حتى يجتمع لبنها، فيزيد المشتري في ثمنها لما يرى من ذلك. وقال أبو عبيد: المصراة هي الناقة، أو البقرة، أو الشاة يصرى اللبن في ضرعها، أي يجمع ويحبس. قال: ولو كانت من الربط لقيل فيها: مصرورة. وإنما جاءت مصراة، وهذا هو المشهور. وقال الخطابي: قول أبي عبيد حسن، وقول الشافعي صحيح،

والعرب تصر الحلوبات، وتسمي ذلك الرباط صرارا، واستشهد بقول العرب: العبد لا يحسن الكر، وإنما يحسن الحلب والصر. انتهى. والتصرية حرام، إذا قصد بها التدليس على المشتري لما سيأتي، ولأنها غش وخديعة، وقد قال: «من غشنا فليس منا» . 1919 - وقوله: «بيع المحفلات خلابة، ولا تحل الخلابة لمسلم» .

وقول الخرقي: وغير ذلك. أي مما إذا وجد بالمبيع عيبا، لأن ذلك يقع عن تدليس وعن غيره، ومن اختلاف المتبايعين، ومن بيوع منهى عنها، ونحو ذلك مما ستقف عليه، إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: ومن اشترى مصراة وهو لا يعلم، فهو بالخيار بين أن يقبلها، أو يردها وصاعا من تمر. 1920 - ش: الأصل في هذا ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تصروا - وفي رواية - لا تصر الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين، بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعا من تمر» متفق عليه. 1921 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «من اشترى محفلة فردها فليرد معها صاعا» رواه البخاري، والبرقاني على شرطه وزاد من تمر. 1922 - وروي نحوه من حديث ابن عمر وأنس.

ولا يقال: إن هذا مخالف لقواعد كلية، (منها) أن اللبن مثلي، والتمر ليس بمثل له، والقاعدة ضمان المثلي بمثله لا بغيره، (ومنها) أن الصاع محدود، واللبن ليس بمحدود، فإنه يختلف بالقلة والكثرة، والقاعدة أن الضمان على قدر الذهاب، ثم لما عدل عن المثل إلى غيره فقد يجيء به نحو المتابعة، فهو بيع الطعام بالطعام غير يد بيد، فهو الربا، لأنا نقول: حديث المصراة أصل مستثنى من تلك القواعد، لمعنى يخصه، وبيانه أن اللبن الحادث بعد العقد ملك للمشتري، فيختلط باللبن الموجود حال العقد، وقد يتعذر الوقوف على قدره، فاقتضت حكمة الشرع أن جعل

ذلك مقدرا، لا يزيد ولا ينقص، دفعا للخصام، وقطعا للمنازعة، وإنما خص ذلك - والله أعلم - بالطعام لأنه قوت كاللبن، وجعل تمرا لأنه غالب قوتهم، ولا يحتاج في تقوته إلى كلفة، ومن ثم - والله أعلم - وصفه بقوله: «لا سمراء» دفعا للحرج في تكلف السمراء، لقلتها عندهم، ثم لا نظر للقياس مع وجود النص. وقد عارض بعضهم حديث المصراة بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» ونشأ له ذلك من جعله التمر في مقابلة اللبن الحادث بعد العقد، وهو ممنوع، وإنما هو في [مقابلة الموجود حال العقد. 1923 - بدليل ما في البخاري وأبي داود في الحديث «من اشترى غنما مصراة فاحتلبها، فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر» على تقدير تسليم أنه في]

مقابلة الحادث - وإنه لبعيد - فهو عام، وحديث المصراة خاص، ولا معارضة بين العام والخاص انتهى. وقول الخرقي: مصراة. يشمل بعمومه الآدميات، والأتان، والفرس، وهو أحد الوجهين، واختيار ابن عقيل، اعتمادا على عموم الحديث، ونظرا إلى أن الثمن يختلف بذلك، (والثاني) : لا يثبت، ويحتمله كلام الخرقي بعد في قوله: وسواء كان المشتري ناقة، أو بقرة، أو شاة. لاقتصاره على ذلك، وزعم ابن البنا - تبعا لشيخه - أنه قياس المذهب، بناء منهما على أن لبن الآدمية لا يجوز بيعه، وذلك لأن لبن ما ذكر لا يعتاض عنه عادة، ولذلك لا يجب في مقابلته شيء، ولا يقصد قصد بهيمة الأنعام، والخبر ورد فيما يقصد عادة.

وقوله: وهو لا يعلم. يخرج ما إذا علم التصرية، فإنه لا خيار له، وهو كذلك لعلمه بالعيب. وقوله: فهو بالخيار، أي إذا علم بالتصرية، إذ ثبوت أمر لشخص يعتمد علمه به. ثم كلامه يشمل قبل الحلب، ويعلم ذلك ببينة، أو بإقرار من البائع، وإذا له الرد عندنا ولا شيء عليه، بناء على ما تقدم من أن التمر في مقابلة اللبن الموجود حال العقد، ولا وجوب للبدل مع وجود المبدل، وهذه الصورة تستثني من كلام الخرقي. ويشمل أيضا ما إذا حلب اللبن وأراد رده، فإنه لا يجزئه إلا التمر، وهذا أحد الوجوه، وهو الذي جعله أبو الخطاب وأبو البركات مذهبا، نظرا لإطلاق الحديث، (والثاني) يجزئه رده، ولا شيء عليه وإن تغير، لما تقدم من أن البدل إيحابه منوط بعدم المبدل، والمبدل موجود، وإن حصل نقص فبتدليس البائع، (والثالث) - وهو اختيار القاضي، وأبي محمد - إن كان اللبن بحاله لم يتغير فكالثاني، لما تقدم، وإن تغير فكالأول، دفعا للضرر عن البائع. ويشمل أيضا ما إذا صار لبنها عادة، ومراده - والله أعلم - بالحكم الذي حكم به صورة واحدة، وهو ما إذا حلبها

ولم يصر لبنها عادة، أما إذا صار لبنها عادة فلا خيار، لزوال العيب الذي لأجله ثبت الرد، وهذه الصورة أيضا مستثناة من كلام الخرقي. [وقول الخرقي] : بين أن يقبلها. ظاهره ولا أرش له، وهو المشهور عند الأصحاب، وظاهر الحديث. 1924 - وفي رواية لمسلم «إذا ما اشترى أحدكم لقحة مصراة، أو شاة مصراة فهو بخير النظرين [بعد أن يحلبها] ، إما هي، وإلا فليردها وصاعا من تمر» (وعن أحمد) في رواية ابن هانئ: إن شاء رجع عليه بقدر العيب، وكذا ذكر أبو بكر في التنبيه، وتبعه الشيرازي، وصاحب التلخيص فيه قياسا على بقية العيوب.

وقوله: وصاعا من تمر. يقتضي أنه لا يجزئه غيره، وهو كذلك اتباعا للنص، وما ورد في الحديث «صاعا من طعام» فالمراد به - والله أعلم - التمر، إذ في رواية أخرى «صاعا من طعام لا سمراء» وما ورد في حديث ابن عمر - وسيأتي إن شاء الله - «فإن ردها رد معها مثل - أو قال - مثلي لبنها قمحا» أشار البخاري إلى تضعيفه، ويؤيد ضعفه أنه لا قائل به، وقال الشيرازي: الواجب أحد شيئين، صاع من تمر، أو صاع من قمح. 1925 - لأن في حديث رواه البيهقي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن رجل، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من اشترى مصراة فهو بخير النظرين، فإن حلبها ورضيها أمسكها، وإن ردها رد معها صاعا من طعام، أو صاعا من تمر» والطعام إذا

أطلق غالبا يراد به البر، ويجاب أنه بعد تسليم صحته محمول على أنه شك من الراوي، توفيقا بين الأحاديث، ويعين ذلك قوله في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم «صاعا من طعام لا سمراء» . وإطلاق الخرقي يقتضي [وجوب] التمر وإن زادت قيمته على قيمة الشاة، وهو كذلك للخبر، والواجب فيه أن يكون سليما من العيب، لأن الإطلاق يقتضي السلامة. (تنبيهان) : «أحدهما» : لم يبين الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - مقدار الخيار، وكذلك جماعة، وقال أبو الخطاب في الهداية: عندي أنه إذا تبين له التصرية ثبت له الرد، قبل الثلاث وبعدها، إلحاقا لها بالعيوب. ويتخرج من قوله قول آخر أن الخيار على الفور، بناء على القول به ثم، وقدره ابن أبي موسى، والقاضي، وأبو البركات، وغيرهم بثلاثة أيام.

1926 - لأن في الحديث في رواية مسلم وغيره «من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام» . 1927 -[وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام» ، فإن ردها رد معها مثل أو مثلي لبنها قمحا» رواه أبو داود، ثم اختلف هؤلاء، فقال القاضي - وزعم أبو محمد أنه ظاهر كلام أحمد -: الثلاثة أيام مضروبة لتتبين بها التصرية، إذ في اليوم الأول لبنها لبن التصرية، وفي الثاني والثالث يجوز أن يكون نقص لاختلاف العلف، وتغير المكان، فإذا مضت الثلاثة تحققت التصرية غالبا، فيثبت الخيار إذا على الفور، وقال ابن أبي موسى - على ظاهر كلامه - وأبو البركات: له الخيار في الثلاثة أيام إلى انقضائها. وهذا هو ظاهر الحديث، وعليه المعتمد، وهو عكس قول القاضي، ثم إن أبا البركات صرح بأن ابتداء المدة بتبين التصرية، وهو ظاهر

قول ابن أبي موسى، قال: هو بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء ردها، وإن شاء أمسكها. ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في الكافي أن ابتداءها على قول ابن أبي موسى من حين البيع. (الثاني) : «تصروا» الرواية الصحيحة فيه ضم التاء، وفتح الصاد، وتشديد الراء [المضمومة] ، بعدها واو الجمع، نحو: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] من: صراها يصريها تصرية، كزكاها يزكيها تزكية، وأصل «تصروا» : تصريوا. استثقلت الضمة على الياء، فنقلت إلى ما قبلها، لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموما، فانقلبت الياء واوا، فاجتمع ساكنان فحذفت الواو الأولى وبقيت واو الجمع، «والإبل» نصب على أنه مفعول تصروا، وفيه رواية أخرى «لا تصروا الإبل» بفتح التاء، وضم الصاد،

من: صريصر. «والغنم» على هذا أيضا منصوبة الميم، وروي ثالثة: «لا تصر الإبل» بضم التاء بغير واو بعد الراء، وبرفع الإبل على ما لم يسم فاعله، من الصر أيضا وهو الربط، وهاتان الروايتان يجيئان على تفسير الشافعي، والأولى على تفسير أبي عبيد «والمحفلة» قد تقدم تفسيرها، «والسمراء» حنطة الشام، والبيضاء حنطة مصر، وقيل: السمراء الحنطة مطلقا، والبيضاء الشعير. «واللقحة» بفتح اللام وكسرها - وهو أفصح - الناقة القريبة العهد بالولادة، بنحو الشهرين والثلاثة، والله أعلم. قال: فإن لم يقدر على التمر فقيمته. ش: من وجب عليه شيء فعجز عنه رجع إلى بدله، وبدل المثلي عند إعوازه هو القيمة، كما هو مقرر في موضعه، وتجب قيمته في الموضع الذي وقع عليه العقد، والله أعلم.

قال: وسواء كان المشتري ناقة، أو بقرة، أو شاة. ش: لا نزاع عندنا نعلمه في ذلك، لورود النص به في الإبل والغنم، ولبن البقر أغزر، فيثبت الحكم فيه بطريق التنبيه، ثم عموم «مصراة» يشمل الجميع، والله أعلم. قال: وإذا اشترى أمة ثيبا فأصابها أو استغلها ثم ظهر على عيب كان مخيرا بين أن يردها ويأخذ الثمن كاملا، لأن الخراج بالضمان، والوطء كالخدمة، وبين أن يأخذ ما بين الصحة والعيب. ش: هذا يبنى على قواعد، فنشير إليها، ثم نتعرض للفظ المصنف. (منها) : أن المذهب المشهور - حتى إن أبا محمد لم يذكر فيه خلافا - أن من اشترى معيبا لم يعلم عيبه ثم علم ذلك فإنه يخير بين الرد وبين الإمساك وأخذ الأرش. أما الرد فلا نزاع فيه نعلمه، دفعا للضرر عن المشتري، إذ إلزامه بالعقد والحال هذه ضرر عليه، والضرر منفي شرعا. 1928 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رجلا اشترى غلاما في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وفيه عيب لم يعلم به، فاستغله، ثم علم العيب

فرده، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إنه استغله منذ زمن. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغلة بالضمان» رواه أبو داود وغيره، وهذا يدل على أن العيب سبب للرد. 1929 - «وعن العداء بن خالد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كتب لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوزة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اشترى منه عبدا أو أمة، لا داء، ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم للمسلم» رواه الترمذي وابن ماجه، وهذا يدل على أن بيع المسلم هذا حاله، وأيضا ما ثبت من أحاديث المصراة المتقدمة.

وأما الإمساك وأخذ الأرش فلأن البائع والمشتري تراضيا على أن العوض في مقابلة المعوض، فكل جزء من العوض يقابله جزء من المعوض، ومع وجود العيب قد فات جزء من المعوض، فيرجع ببدله وهو الأرش. (وعن أحمد) رواية أخرى - اختارها أبو العباس - وهي أصح نظرا -: لا أرش لممسك له الرد، حذارا من أن يلزم البائع ما لم يرض به، فإنه لم يرض بإخراج ملكه إلا بهذا العوض، فإلزامه بالأرش إلزام له بشيء لم يلتزمه، ويوضح هذا ويحققه المصراة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل فيها أرشا، ودعوى أن التصرية ليست عيبا ممنوع، انتهى. والأرش ما بين قيمة الصحيح والمعيب منسوبا إلى الثمن، وبيانه أن يقال مثلا فيما اشترى بمائة وخمسين: كما يساوي هذا وهو صحيح؟ فإذا قيل: مائة. قيل: وكم يساوي وهو معيب؟ فإذا قيل: تسعين. فما بين القيمتين هو العشر، فإذا نسبت ذلك إلى الثمن وجدته - والحال هذه - خمسة عشر درهما، فهو الواجب للمشتري، ولو كان الثمن خمسين درهما لكان عشره خمسة دراهم، فهو الواجب له، وإنما نسب إلى الثمن، ولم يجعل ما بين القيمتين من غير نسبة، لئلا يجتمع للمشتري العوض والمعوض، [كما لو

اشترى شيئا بمائة، ثم وجد به عيبا، وكانت قيمته وهو صحيح مائتين، وقيمته وهو معيب مائة، فما بينهما مائة، فلو أوجبت المائة للمشتري لاجتمع له العوض والمعوض] وعلى ما تقدم لا يلزم ذلك، إذ يجب له والحال هذه نصف الثمن، ولا فرق فيما تقدم بين علم البائع بالعيب وعدمه. (تنبيه) : هل يملك المشتري أخذ الأرش من عين الثمن أو لا يملكه؟ فيه احتمالان ذكرهما في التلخيص. (القاعدة الثانية) أن المبيع المعيب تعيبه عند المشتري هل يمنع من رده؟ فيه نزاع يأتي إن شاء الله تعالى، واختلف في وطء الثيب هل هو عيب، لأنه نقص في الجملة، أو ليس بعيب، وهو اختيار العامة، لأنه لم يحصل به نقص جزء

ولا صفة، وكما لو كانت مزوجة فوطئها الزوج؟ على روايتين، وعلى الأولى فإن لم يمنع العيب الرد فالأرش هنا هو مهر المثل. (القاعدة الثالثة) : أن المبيع إذا زاد وأراد المشتري رده بعيب وجده، فهل يلزمه رد الزيادة؟ لا يخلو إما أن تكون متصلة كالسمن وتعلم صنعة، أو منفصلة كالولد والكسب، فإن كانت متصلة فلا يتصور مع الرد إلا ردها، لكن هل يكون له قيمتها لحدوثها على ملكه، وتعذر فصلها، أو لا قيمة لها، لئلا يلزم البائع معاوضة لم يلتزمها، وهو قول عامة الأصحاب؟ على قولين، وعن ابن عقيل: القياس أن له القيمة، بناء على قولهم في الصداق، إذا زاد زيادة متصلة، ثم وجد ما يقتضي سقوطه أو تنصفه، فإن المرأة لها أن تمسك ذلك وترد القيمة أو نصفها، قلت: وفي هذا القياس نظر، وإنما قياس الصداق أن المشتري يمسك

ويرد قيمة العين، نعم ما يحكى عن ابن عقيل سيأتي أنه رواية منصوصة أو ظاهرة. وإن كانت الزيادة منفصلة فلا يخلو إما أن تكون حدثت من عين المبيع، كالولد والثمرة، أو لم تكن، كالأجرة والهبة، ونحو ذلك، (فالثاني) فيما نعلمه لا نزاع أن للمشتري إمساكه، ورد المبيع دونه، ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في الكافي، من أن فيه الخلاف الآتي، فإنه في المغني لم يذكر فيه عن أحد خلافا، أما (الأول) - وهو ما إذا كانت الزيادة من عين المبيع -، فالمنصوص، والمعمول عليه عند الأصحاب - حتى إن أبا محمد في المغني جزم به - أن الحكم كذلك، الزيادة للمشتري فيرد المبيع دونها.

1930 - لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» وفي رواية: «قضى أن الخراج بالضمان» . رواه أبو داود وغيره، وقد ورد في المسند وسنن أبي داود، وابن ماجه، أن الحديث ورد على مثل هذا، فعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن رجلا اشترى غلاما في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وبه عيب لم يعلم به، فاستغله ثم علم العيب، فخاصمه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إنه استغله منذ زمان، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الغلة بالضمان» وقضية السبب داخلة في العموم قطعا. وحكى القاضي وجماعة من أصحابه، والشيرازي، والشيخان، وغير واحد، عن أحمد رواية أخرى، أنه يلزم البائع رد النماء مع الأصل، جعلا للنماء كالجزء من الأصل، ونظرا إلى أن الفسخ رفع للعقد من أصله حكما، ويرد عليه الكسب ونحوه، وهذه الرواية، قال أبو العباس: إن القاضي وأصحابه أخذوها من نص أحمد في رواية ابن منصور، في من اشترى سلعة فنمت عنده، فبان بها داء، فإن شاء المشتري حبسها ورجع بقدر الداء، وإن شاء ردها

ورجع عليه بقدر النماء، فجعلوا الراجع بقدر النماء هو البائع، قال: وكذا صرح به ابن عقيل في النظريات، قال أبو العباس: وهو غلط، بل الراجع المشتري على البائع بقدر النماء، فإن قوله: نمت عنده، ظاهر في النماء المتصل، ولو فرض أنه غير المتصل [فلم يذكر أنه تلف بيد المشتري، والأصل بقاؤه، قال: فتكون هذه الرواية أن الزيادة المتصلة] لا يجب على المشتري الرد بها، بل له إذا أراد رد العين أن يأخذ من البائع قيمة الزيادة. انتهى. ويستثنى على المذهب إذا كانت الزيادة ولد أمة، فإنه يتعذر على المشتري الرد، لتعذر التفرقة الممنوع منها شرعا، هذا اختيار الشيخين، وظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، لكن إذا اختار ردهما معا فهل يلزم البائع

القبول؟ يحتمل وجهين، الظاهر اللزوم، وقال الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وشيخهما فيما أظن في تعليقه: له إمساك الولد ورد الأم، لأنه موضع حاجة، وهو ممنوع، للتمكن من الأرش. إذا عرف ذلك رجعنا إلى لفظ المصنف - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فقوله: إذا اشترى أمة ثيبا. يحترز عن البكر كما سيأتي، وقوله: فأصابها أو استغلها. لأنه إذا لم يصبها ولم يستغلها المبيع بحاله ولا كلام، وقوله: ثم ظهر على عيب، يخرج ما إذا كان عالما حال العقد، لدخوله على بصيرة، وإذا لا رد له ولا أرش، وقوله: كان مخيرا. إلى آخره، مبني على القواعد الثلاث المتقدمة، وهي أن مشتري المبيع المعيب غير عالم بعيبه يخير بين الرد، والإمساك مع الأرش، وأن وطء الثيب ليس بعيب، وأن الغلة للمشتري، ولا يمنع الرد، وقوله: لأن الخراج بالضمان. تعليل لأن الغلة للمشتري، وقوله: والوطء كالخدمة. بيان لأن الوطء ليس بعيب. والألف واللام في الوطء لمعهود تقدم، وهو وطء الثيب، والله أعلم.

قال: فإن كانت بكرا فأراد ردها كان عليه ما نقصها. ش: أي فأراد ردها بعدما أصابها، ولا إشكال أن وطء البكر يعيبها عرفا، وينقصها حسا، لأنه يذهب جزءا منها، وإذا فقد تعيب المبيع عنده، فهل يمنعه ذلك من الرد إذا اطلع على عيب؟ فيه روايتان مشهورتان، (أشهرهما) عن الإمام - وهو اختيار الخرقي، والقاضي أبي الحسين، وأبي الخطاب في الانتصار، وأبي محمد، وغيرهم، قال في التلخيص: هي المشهورة، وعليها الأصحاب -: أن ذلك لا يمنع الرد، لما تقدم من حديث المصراة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل للمشتري الرد، مع ذهاب جزء من المبيع وهو اللبن، وجعل التمر بدله. 1931 - وروى الخلال بسنده، عن ابن سيرين، أن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال - في رجل اشترى ثوبا ولبسه، ثم اطلع على عيب -: يرده وما نقص. فأجاز الرد مع النقصان، وعليه اعتمد أحمد.

1932 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحو ذلك أيضا، قال: إن كانت ثيبا رد معها نصف العشر، وإن كان بكرا رد العشر. لكنه ضعيف، ولهذا لم يعتمده الإمام، ولأن ثبوت الرد كان ثابتا له قبل حدوث العيب عنده، والأصل البقاء ما لم يأت دليل، ثم الحمل على البائع أولى، لأنه إما مدلس، أو مفرط، حيث لم يختبر ملكه. (والثانية) - واختارها أبو بكر، وابن أبي موسى، وأبو الخطاب في خلافه الصغير - يمنع ذلك الرد، إذ الرد كان لإزالة الضرر [عنه، ومع وجود العيب يلحق الضرر بالبائع، والضرر لا يزال بالضرر] .

1933 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل اشترى جارية فوطئها فوجد بها عيبا - قال: لزمته، ويرد البائع ما بين الصحة والداء، وإن لم يكن وطئها ردها. لكنه ضعيف أيضا، ومن ثم قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يعلم يثبت عن عمر ولا علي. فعلى هذه الرواية يتعين للمشتري الأرش، وعلى الأولى على المشتري مع الرد أرش النقص الحادث عنده، وهو ما نقص المبيع المعيب بالعيب، مثاله أن يقال في مسألتنا: كم قيمتها بكرا معيبة بالعيب القديم؟ فإذا قيل: مائة.

فيقال: وثيبا؟ فإذا قيل: ثمانون. فما بينهما عشرون، فهو الواجب، وعلى هذا. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أن الواجب في وطء البكر المهر، مع أرش البكارة. والله أعلم. قال: إلا أن يكون البائع دلس العيب، فيلزمه رد الثمن كاملا. ش: هذا استثناء مما إذا تعيب المبيع عنده، فإنه على رأيه يرده مع الأرش، واستثنى من ذلك إذا دلس البائع العيب، أي كتمه وأخفاه، فإن للمشتري الرد بلا أرش، وإذا يلزم البائع رد الثمن كاملا، وهذا هو المذهب المنصوص المعروف، وقد نص الإمام على أن المبيع لو تلف عند المشتري - والحال هذه - ثم علم العيب رجع بالثمن كله، ولا شيء عليه للتلف، وبالغ ابن أبي موسى فقال - في صورة الخرقي -: له الرد قولا واحدا، ولا عقر عليه، وذلك لأن البائع مع التدليس قد ورط المشتري وغره، فاقتضى

الحمل عليه، وصالا كالغار بحرية أمة، الضمان عليه بقضاء الصحابة، فكذلك هنا، ومال أبو محمد إلى وجوب الأرش والحال ما تقدم، مستدلا بحديث المصراة، فإن الشارع جعل لبائعها بدل اللبن، مع تدليسه وارتكابه النهي، وبحديث «الخراج بالضمان» والمشتري - والحال هذه - له الخراج، فيكون الضمان عليه لعموم الحديث، وهذا هو الصواب، وقد حكاه أبو البركات رواية، وكذلك صاحب التلخيص، لكنه إنما حكاها في التلف، إذ المشتري لا يرجع إلا بالأرش، والله أعلم. قال: وكذلك سائر المبيع. ش: استعمل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - «سائر» هنا بمعنى «باقي» وهي اللغة الفصحى، كما تقدم، أي باقي المبيع حكمه حكم الأمة فيما تقدم، في أنه إذا اطلع على عيب فيه، خير بين الرد وبين الأرش، [وفي أنه إذا استغله أو فعل فيه فعلا ليس بعيب، لم يمنع ذلك من رده] ، وفي أنه إذا تعيب عنده

له الرد، مع رد النقص الحادث عنده، إلا مع التدليس فلا أرش عليه. واعلم أن مذهب أبي بكر في التنبيه أن وطء الأمة يمنع الرد مطلقا، معللا باحتمال أن تحمل منه، وتعيب المبيع لا يمنع الرد، فهو قول ثالث، والله أعلم. قال: ولو باع المشتري بعضها ثم ظهر على عيب، كان مخيرا بين أن يرد ملكه منها بمقداره من الثمن، أو يأخذ أرش العيب بقدر ملكه فيه. ش: إذا لم يعلم المشتري بالعيب حتى باع بعض المبيع، فله أرش الباقي في ملكه بلا نزاع نعلمه، فإذا باع النصف مثلا، كان له أخذ نصف الأرش، وإن باع الربع كان له ثلاثة أرباع الأرش، وهل له أرش ما باعه؟ فيه روايتان مبنيتان على ما إذا باع الجميع ثم علم بالعيب، هل له الأرش، وهو اختيار القاضي، وأبي محمد، كما لو لم يبعه إذ الأرش بدل الجزء الفائت، أو لا أرش له إلا أن يعود إليه، وهو ظاهر كلام الخرقي، لتوقع العود، أو لاستدراك ظلامته بالبيع؟ فيه روايتان، وهل له رد ما بقي من ملكه من المبيع؟ فيه روايتان أيضا، بناهما القاضي، وابن الزاغون، وغيرهما على تفريق الصفقة، قال أبو محمد عن القاضي: سواء كان المبيع عينا واحدة أو عينين، وابن الزاغوني

مثل بالعينين، وخص أبو محمد الخلاف بما إذا كان المبيع عينين لا ينقصهما التفريق، كالعبدين، والثوبين، أما إن كان عينا واحدة، أو عينين لكن ينقصهما التفريق، كزوجي خف، ونحو ذلك، فيمتنع عليه الرد، دفعا للضرر عن البائع، لنقص المبيع - والحال هذه - بالتفريق، إلا أن يكون البائع دلس المبيع، فإن للمشتري الرد مطلقا، لأن نقص المبيع عنده مع التدليس لا أثر له. قلت: الضرر يندفع عن البائع برد أرش نقص التشقيص، وقد صرح بذلك صاحب التلخيص، وإذا فما قاله غيره أوجه. وقول الخرقي: ولو باع المشتري بعضها. (يحتمل) أن يرجع الضمير إلى بعض السلعة المبيعة، وعلى هذا شرح ابن الزاغوني، وإذا يكون اختيار الخرقي جواز رد الباقي، وكذا

حكى أبو محمد عنه، وعلى هذا إن حصل بالتشقيص نقص رد أرشه من كلامه السابق، إلا مع التدليس كما تقدم (ويحتمل) أن يرجع إلى بعض السلعة المدلسة، وعلى هذا لا يكون في كلامه تعرض لرد الباقي، فيما إذا كان المبيع غير مدلس. وقد اقتضى كلام الخرقي أنه ليس له رد ما باعه، وهو واضح، نعم إذا عاد إليه ولو بعقد فله الرد إن لم يأخذ أرشه، ولم يعلم بعيبه حين بيعه، والله أعلم. قال: وإن ظهر على عيب بعد إعتاقه لها أو موتها في ملكه فله الأرش. ش: إذا ظهر المشتري على عيب في السلعة المبيعة، بعد أن تلفت - تلفا معنويا كالإعتاق، ونحوه الوقف، والاستيلاد، أو حسيا كالموت - فله الأرش رواية واحدة، لأنه كان له قبل ذلك، والأصل البقاء، وفارق البيع على رواية، لعدم توقع العود، وعدم استدراك الظلامة، وهل له الفسخ، والرجوع بالثمن، وغرامة القيمة؟ عامة الأصحاب على أنه ليس له ذلك، ولأبي الخطاب تخريج بجواز ذلك، كأنه من

رواية تلف المبيع في مدة الخيار، وفرق صاحب التلخيص بأن هنا يعتمد الرد ولا مردود، وثم يعتمد الفسخ. وظاهر كلام الخرقي أن أرش العبد المعتق يكون للمشتري، ولا يلزمه صرفه في الرقاب، وهو إحدى الروايتين وأصحهما، إذ العتق إنما صادف الرقبة، لا الجزء الفائت، (والثانية) : يجب صرفه في الرقاب، لأنه خرج عن الرقبة لله تعالى، ظانا سلامتها، وذلك يقتضي خروجه عن هذا الجزء، وأبو محمد يحمل هذه الرواية على الاستحباب، والقاضي يحملها على ما إذا كان العتق كان في واجب، أما إن كان تبرعا فالأرش له قولا واحدا. ومفهوم كلام الخرقي أنه لو حصل تصرف المشتري بالبيع، أو العتق، ونحوهما، بعد العلم بالعيب، أنه لا أرش له، وهو المشهور عند الأصحاب، لأنه قد رضي بالمبيع، فسقط حقه من الأرش، كما سقط من الرد بلا نزاع، وحكى صاحب التلخيص [عن بعض الأصحاب أن الأرش لا يمنع التصرف مطلقا، وأبو محمد يقول: إن هذا]

قياس المذهب، كما لو اختار الإمساك والمطالبة بالأرش، ولأن الأرش عوض الجزء الفائت بالعيب، وذلك موجود مع التصرف. (تنبيه) : إذا لم يعلم بالعيب حتى خرجت السلعة المبيعة عن ملكه بهبة، فهل له الأرش؟ إن قلنا -: فيما إذا باعها -: له الأرش. فكذلك هنا، وإن قلنا: لا أرش له ثم. فهنا روايتان مبنيتان على تعليل عدم الأرش في البيع، فإن علل باستدراك الظلامة وجب هنا، لعدم الاستدراك، وإن علل بتوقع العود لم يجب هنا لذلك، ومختار القاضي وأبي محمد الوجوب، والله أعلم. قال: وإن ظهر على عيب يمكن حدوثه بعد الشراء وقبله حلف المشتري، وكان له الرد أو الأرش. ش: إذا ظهر المشتري على عيب يحتمل حدوثه بعد الشراء وقبله، كالسرقة، والإباق، والخرق في الثوب، ونحو

ذلك، ففيه روايتان مشهورتان: (إحداهما) : - وهي اختيار الخرقي - القول قول المشتري مع يمينه، إذ الأصل عدم القبض في الجزء الفائت، فكان القول قول من ينفيه، كما لو اختلفا في قبض المبيع. (والثانية) : - وهي أصوبهما واختيار القاضي في الروايتين، وأبي الخطاب في الهداية - القول قول البائع مع يمينه، لأن الأصل السلامة، وعدم استحقاق الفسخ، فكان القول قول من يدعي ذلك، ولو لم تحتمل الدعوى إلا قول المشتري - كالإصبع الزائدة، والجراحة المندملة عقب العقد، ونحو ذلك - فإن القول قوله بلا يمين، للعلم بصدقه بلا نزاع، وكذلك إن لم تحتمل إلا قول البائع - كالجرح الطارئ الذي لا يحتمل كونه قديما، ونحو ذلك - فإن القول قوله بلا يمين أيضا لما تقدم. (تنبيه) : صفة يمين المشتري أن يحلف أنه اشتراه وبه هذا العيب، أو أنه ما حدث عنده، أما يمين البائع فعلى حسب جوابه، إن أجاب أن هذا العيب لم يكن فيه حلف على ذلك، وإن أجاب أنه ما يستحق علي ما يدعيه من الرد حلف على ذلك، ويحلف على البت، على المشهور من الروايتين، والله أعلم.

قال: وإذا اشترى ما مأكوله في جوفه، فكسره فوجده فاسدا، فإن لم يكن له مكسورا قيمة - كبيض الدجاج - رجع بالثمن على البائع، وإن كان له مكسورا قيمة - كجوز الهند - فهو مخير في الرد، ويأخذ الثمن، وعليه أرش الكسر، أو يأخذ ما بين صحيحه ومعيبه. ش: مناط هذه المسألة إذا اشترى ما لا يطلع على عيبه إلا بكسره، كالذي ذكره الخرقي ونحوه، فكسره فوجده معيبا، هل له شيء، أو لا شيء له ما لم يشترط سلامته؟ فيه روايتان: (إحداهما) : لا شيء له ما لم يشترط سلامته، اعتمادا على العرف، إذ الناس في بياعاتهم على ذلك. (والثانية) : - وهي المذهب بلا ريب - له شيء، نظرا إلى أن إطلاق العقد يقتضي السلامة من عيب لم يطلع عليه المشتري، [فاعتمد ذلك] . 1934 - ودليل هذا الأصل ما روي «عن العداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كتب لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هذا ما اشترى العداء بن خالد

بن هوذة، من محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، اشترى منه عبدا أو أمة - شك عباد أحد الرواة - لا داء، ولا غائلة ولا خبثة، بيع المسلم» رواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وهذا يدل على أن بيع المسلم هذا حاله. وعلى هذا لا يخلو إما أن يكون لمكسور ذلك قيمة، أو لا قيمة له، فإن لم يكن لمكسوره قيمة - كبيض الدجاج، والجوز الخرب، قال أبو محمد: والبطيخ التالف - فإنا نتبين فساد العقد، لانتفاء شرطه وهو المنفعة، وإذا يرجع المشتري بالثمن كله. وإن كان لمكسوره قيمة - كجوز الهند، وبيض النعام - فإن كسره كسرا لا ينتفع به معه فقد أتلفه، فيتعين له الأرش، وإلا إن كان الكسر بقدر استعلام المبيع فهل ذلك بمنزلة العيب الحادث عنده؟ يخرج فيه روايتيه، أو ليس بعيب، فيرده بلا أرش، وهو اختيار القاضي، لأنه لا يمكنه معرفة المبيع إلا بذلك، مع أن البائع سلطه عليه، أو له الرد

مع الأرش، وهو أعدل الأقوال، واختيار أبي محمد، وصاحب التلخيص، ويشهد له قصة المصراة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل للمشتري الرد، مع رد بدل ما تلف بيده من المبيع، وهو اللبن، مع تدليس البائع وغروره، فهنا أولى؟ على ثلاثة أقوال. وإن كان كسرا يمكن استعلام المبيع بدونه، فلا ريب أنه على الروايتين المتقدمتين، فيما إذا عاب عنده، نعم على قول القاضي في الذي قبله، إذا رد هل يلزمه أرش الكسر أو لا يلزمه إلا الزائد على استعلام المبيع؟ محل تردد، والله أعلم. قال: وإذا باع عبدا وله مال - قليلا كان المال أو كثيرا - فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، إذا كان قصده العبد لا المال.

ش: إذا باع عبدا وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، فيكون له بشرطه. 1935 - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -[قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من ابتاع نخلا قد أبرت، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع، ومن ابتاع عبدا له مال، فماله للذي باعه، إلا أن يشترط المبتاع» ] رواه مسلم وغيره. 1936 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، رواه أبو داود. 1937 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بذلك. 1938 - وعن عبادة نحوه، رواه البيهقي في سننه.

وشرط الخرقي لصحة اشتراط المبتاع مال العبد مطلقا، أن يكون قصده العبد لا المال، لأن المال إذا يدخل عن طريق التبع، فلا تضر جهالته ولا غير ذلك، كأساسات الحيطان، لا يقال: فباشتراطه يدل على أنه مقصود، لأنا نقول: المقصود بالشرط - والحال هذه - بقاء المال في يد العبد، من غير التفات إلى المال، وتحقيق ذلك ألا ترى أن الشارع جوز قرض الدراهم وغيرها، مع أنه مفض إلى بيع دراهم بدراهم إلى أجل، لكن لما كان القصد منه الرفق، لا بيع دراهم بدراهم نسيئة، لم يمنع منه، أما إن كان قصده المال فإنه يشترط لصحة الشرط اشتراط شروط المبيع، من العلم بالمال، وكونه مع العوض المبذول لا يجري الربا بينهما، وغير ذلك، كما يشترط ذلك في العينين المبيعتين، لأنه إذا بمنزلتهما. واعلم أن من مذهب الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العبد لا يملك، فكلامه خرج على ذلك، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق، وتبعهما أبو البركات، أما إن قلنا: العبد يملك. فصرح أبو البركات بأنه يصح شرطه إن كان مجهولا، ولم

يعتبر أبو محمد الملك، بل أناط الحكم بالقصد وعدمه، وزعم أن هذا منصوص أحمد والخرقي، وفي نسبة ذلك إليهما نظر، لاحتمال بنائهما على الملك كما تقدم، وهو أوفق لكلام الخرقي، ولمشهور كلام الإمام، وحكى أبو محمد عن القاضي أنه رتب الحكم على الملك وعدمه، فإن قلنا: يملك. لم يشترط، وإن قلنا: لا يملك. اشترط، وحكى صاحب التلخيص عن الأصحاب أنهم رتبوا الحكم على القصد وعدمه، كما يقوله أبو محمد، ثم قال: وهذا على القول بأن العبد يملك، أما على القول بأنه لا يملك، فيسقط حكم التبعية، ويصير كمن باع عبدا ومالا، وهذا

البيع بشرط البراءة من العيوب

عكس طريق أبي البركات، ثم يلزم منه التفريع على الرواية الضعيفة، ويتلخص في المسألة أربع طرائق، والله أعلم. [البيع بشرط البراءة من العيوب] قال: ومن باع حيوانا أو غيره بشرط البراءة من كل عيب لم يبرأ، سواء علم به البائع أم لم يعلم. ش: من باع شيئا وشرط البراءة من كل عيب - بأن يقول: بعتك وأنا بريء من كل عيب - لم يبرأ، وكذلك إن لم يعمم ولم يبين، بأن قال: من عيب كذا إن كان فيه، ولا فرق في ذلك بين علم البائع وعدمه، على المنصوص والمختار للأصحاب من الروايات، لأنه خيار ثبت شرعا بمطلق العقد، فلم يسقط بشرط الإسقاط، الدليل عليه خيار الرؤية، وخيار الفسخ عند انقطاع المسلم فيه في المحل، ولأن في ذلك خطرا وغررا، وهما منفيان شرعا. (والرواية الثانية) : إن علم البائع بالعيب وكتمه لم يبرأ، لأنه إذا مدلس مذموم. 1939 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من غش» وقال: «من غش فليس مني» .

1940 - وقال: «المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم إن باع من أخيه بيعا أن لا يبينه له» وإن لم يعلم برئ، لعدم ارتكابه الذم، وتمهد عذره في ذلك. 1941 - وبهذا قضى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ففي الموطأ أن ابن عمر باع غلاما له بثمانمائة درهم، وباعه بالبراءة، فقال الذي ابتاعه: بالغلام داء ولم يسمه، فاختصما إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال الرجل: باعني عبدا وبه داء ولم يبينه لي. فقال ابن عمر: بعته بالبراءة، فقضى عثمان على ابن عمر باليمين، أن يحلف له: لقد باعه الغلام وما به داء يعلمه. فأبي عبد الله أن يحلف له، وارتجع العبد، فباعه عبد الله بعد ذلك بألف وخمسمائة درهم، ومثل هذا يشتهر ولم ينكر، فينزل منزلة الإجماع، مع أن مالكا قد حكاه إجماعا لهم، فقال: الأمر المجتمع عليه عندنا في من باع عبدا أو حيوانا بالبراءة، فقد برئ من كل عيب، إلا أن يكون علم في ذلك عيبا فكتمه، فإن كان علم عيبا فكتمه لم تنفعه

تبرئته، وكان ما باع مردودا عليه، (وعن أحمد) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صحة البراءة من المجهول، فخرج من ذلك أبو الخطاب وأتباعه صحة هذا الشرط، لأن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - علل الرواية بالجهالة ويستدل لهذا التحريم بعموم «المسلمون عند شروطهم» ونحو ذلك. 1942 - وبدليل الأصل، وهو ما روي «أن رجلين اختصما في مواريث درست إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: استهما وتوخيا الحق، وليحلل كل منكما صاحبه»

انتهى. (فعلى المذهب) يلغو الشرط، ويصح العقد، وخرج أبو الخطاب أيضا ومن تبعه قولا ببطلانهما، من الرواية في الشروط الفاسدة، وفرق القاضي في المجرد بأن إطلاق العقد يقتضي عدم الرد، إذ الأصل السلامة، واشتراط عدم الرد شرط من مقتضى العقد، وكأنه اشتراه بغير شرط البراءة، وقد أصاب به عيبا، فيخير بين الإمساك والرد. «وعلى الثانية» لو ادعى المشتري أن البائع علم بالعيب، وإنما اشترط البراءة تدليسا، فالقول قول البائع مع يمينه، ولا تفريع على الثالثة.

ونص الخرقي على الحيوان لينبه على مذهب الغير. (تنبيه) ليس منصوص المسألة: بعتك على أن به عيب كذا، وأنا بريء منه، بل هنا يصح الشرط، كما لو قال: وبه هذا العيب، وأوقفه عليه، والله أعلم. قال: ومن باع سلعة بنسيئة، لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها به. ش: أي نقدا، بقرينة ذكر النسيئة أولا. 1943 - وذلك لما روى الدارقطني بسنده إلى أبي إسحاق السبيعي، عن امرأته، أنها دخلت على عائشة فدخلت معها أم ولد زيد بن أرقم، فقالت: يا أم المؤمنين إني بعت غلاما من زيد بثمانمائة درهم نسيئة، وإني ابتعته منه بستمائة نقدا، فقالت لها عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: بئس ما اشتريت، وبئس ما شريت، إن جهاده مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد بطل إلا أن يتوب. ومثل هذا لا يقال قياسا، إنما يقال توقيفا،

وأيضا ما تقدم من سد الذرائع، إذ ذلك وسيلة إلى بيع ثمانمائة بستمائة إلى أجل، وإنه لا يجوز. 1944 - ومن ثم يروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في مثل ذلك أنه قال: أرى مائة بخمسين بينهما حريرة. 1945 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه

حتى تراجعوا دينكم» رواه أبو داود وقد فسر أبو عبيد الهروي العينة بما تقدم. وقيل: بالجواز، كما لو كان الشراء بعد قبض ثمنه بدونه، أو قبله بمثله أو أكثر، ونحو ذلك، وينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يكن حيلة، أما إن قصد الحيلة ابتداء فإن العقدين يبطلان، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن كان هذا ثابتا - أي ما روي عن عائشة - فتكون عابت عليه بيعا إلى العطاء، لأنه أجل غير معلوم، بناء منه على أن في بعض الروايات:

إني بعته جارية إلى العطاء. مردود بأن في رواية أخرى قالت: أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى} [البقرة: 275] وهذا دليل على أنها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - رأت أن ذلك ربا، وعابته لذلك، (وقوله أيضا) : إن زيدا خالفها، وإن القياس معه، فقوله أولى. معترض بأنه لم ينقل أنه خالفها بعد إنكارها عليه، والظاهر أنه لم يكن عنده علم بالمسألة، فاعتمد على الأصل في الإذن في البيع، وإذا فتوعد عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - على استمراره على ذلك، ولا نسلم أن القياس معه، بل القياس المنع، اعتمادا على [قاعدة سد الذرائع، ثم لا نسلم أن موافقة القياس تقتضي ترجح قوله، بل العكس، إذ من] خالف القياس الظاهر أن قوله عن توقيف، ومن ثم قال بعض العلماء: إن قول الصحابي إذا خالف القياس حجة، بخلاف ما إذا لم يخالفه. انتهى.

والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ترجم المسألة بقوله: ومن باع سلعة إلى آخره، اكتفاء بالمعتاد في ذلك، وتمام ترجمتها «بأن يشتري ما باعه نقدا، هو أو وكيله، من مشتريه، بدون ما باعه به نسيئة، قبل قبض ثمنه، مع بقاء صفته» «فنقدا» يخرج ما لو كان البيع بعرض والشراء بنقد، أو بالعكس، أو البيع بعرض والشراء بآخر، فإنه يجوز إذ لا ربا بين الأثمان والعروض، ولا بين عرضين، «وهو أو وكيله» يخرج ما لو كان المشتري أباه أو ابنه، ونحو ذلك، فإنه يجوز، وفيه تصريح بأن فعل الوكيل كفعل الموكل، و «من مشتريه» يخرج ما لو اشتراه من غيره، بعد انتقاله إليه، ونحو ذلك، فإنه يجوز، و «بدون ما باعه به» يخرج ما إذا باعه بمثله أو أزيد، فإنه يجوز، ويخرج ما إذا باعه بجنس - كالدراهم مثلا - واشتراه بجنس آخر، كالدنانير، فإنه يجوز على قول الأصحاب، كما لو اشتراه بعرض، وأبو محمد يختار المنع، لأن النقدين كالجنس الواحد في معنى الثمنية، و «نسيئة» هو أحد شقي المسألة، أن يبيع نقدا ويشتري نسيئة، و «قبل قبض ثمنه» يخرج ما إذا باعه

بعد قبض الثمن، فإنه يجوز، و «مع بقاء صفته» يخرج ما إذا تغيرت صفته بما ينقصه، فإنه يجوز شراؤه بأقل مما باع به، أما لو تغيرت بزيادة فبطريق التنبيه لا يجوز، ويفهم من تغير الصفة أنه لا أثر لتغير السعر. (تنبيه) : عكس هذه المسألة إذا كان البيع حالا، والشراء بأكثر مما باعها به نسيئة، وفي ذلك روايتان، حكاهما أبو العباس: (إحداهما) : - ونص عليها في رواية حرب - المنع كالتي قبلها. (والثانية) : - وهي احتمال لأبي محمد - الجواز ما لم يكن حيلة، نظرا لأصل حل البيع، خرج منه الصورة المتقدمة، وهذه لا تساويها، لندرة وقوعها، فتبقى على الأصل، والله أعلم. قال: وإذا باع شيئا مرابحة، فعلم أنه زاد في رأس المال، رجع عليه بالزيادة وحظها من الربح. ش: المرابحة البيع برأس المال وربح معلوم، نحو: بعتك برأس مالي وربح عشرة. أو: على أن أربح في كل عشرة

درهما، وهو «ده يازده» ويشترط للصحة في الصورتين معرفة البائع والمشتري لرأس المال حال العقدين، فلو جهلا أو أحدهما لم يصح. إذا عرف هذا، وتبايعا كذلك، ثم علم المشتري بعد ذلك - ببينة أو إقرار - أن البائع زاد في رأس المال، - كأن كان رأس المال تسعين، فأخبر أنه مائة - فإن المشتري يرجع عليه بالزيادة - لأن البائع التزم له البيع برأس المال - بحظها من الربح، لأن العشرة مثلا إذا سقطت يسقط ما يقابلها، لأنه إنما ثبت تبعا لها، ولأبي محمد احتمال في:

وربح عشرة. أن المشتري لا يرجع بشيء من الربح، لأن البائع إنما رضي بإخراجها عن ملكه بهذا الربح. انتهى. وظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار للمشتري والحال هذه، وهو إحدى الروايتين، واختيار صاحب التلخيص فيه، لأنه ازداد خيرا، إذ من رضي بمائة وعشرة مثلا، يرضى بتسعة وتسعين، (والثانية) : له الخيار. لاحتمال أن له غرضا في الشراء بالثمن الأول، لتحلة قسم، أو وفاء بعهد، ونحو ذلك، ثم مع ظهور خيانة البائع يزول ائتمان المشتري له في الثمن الثاني، والله أعلم. قال: وإن أخبر بنقصان من رأس ماله، كان للمشتري ردها أو إعطاؤه ما غلط به. ش: إذا باع مرابحة ثم أخبر بنقصان من رأس المال - مثل أن يخبر أن رأس ماله مائة، ثم يدعي أن رأس ماله إنما هو

مائة وعشرة، وأنه غلط فيما أخبر به أولا - فهل (القول قوله) وهو ظاهر قول الخرقي، لأن البائع لما دخل معه في المرابحة فقد ائتمنه، والقول قول الأمين، (أو لا يقبل قوله) إلا أن يكون معروفا بالصدق، لترجح قوله إذا، بخلاف ما إذا لم يكن معروفا بذلك، فإن الظاهر كذبه، فيلغى قوله، (أو لا يقبل إلا ببينة) ، لأن مجرد قوله الثاني يعارضه قوله الأول، فيتساقطان، بخلاف ما إذا كان مع الثانية بينة، فإنه يترجح بها، وهذا اختيار أبي محمد، وحمل كلام الخرقي عليه، مدعيا أن الخرقي إنما لم يذكر ذلك لأنه عطفه على قوله قبل: فعلم أنه زاد في رأس المال. والعلم يكون ببينة أو إقرار، كذلك هنا. (أو لا يقبل قوله) وإن أتى ببينة، لتكذيبه لها ظاهرا؟ أربع روايات. فعلى الأولى إن صدق المشتري البائع فلا يمين عليه، وإن كذبه فعليه اليمين، كغيره من الأمناء، وهذه اليمين تستفاد من قول الخرقي بعد: وكل من قلنا: القول قوله. فلصاحبه عليه اليمين. وصفة هذه اليمين، كما قاله أبو الخطاب: إني غلطت، وشراؤها علي كذا، لأنه يحلف على فعل نفسه،

فيمينه على البت، وكذلك الحكم على الثانية إن كان معروفا بالصدق، وإلا فدعواه ملغاة رأسا إن لم يكن له بينة، وكذلك تلغى دعواه على الثالثة إن لم يكن له بينة، وكذلك على الرابعة مطلقا، بقي إذا لم يقبل مجرد قوله، فادعى أن المشتري يعلم غلطه، فأنكر، فإن القول قوله، لإنكاره، وهل ذلك مع يمينه، وهو رأي أبي محمد، أو لا يمين عليه، وهو رأي القاضي لأنه مدع، واليمين على المدعى عليه؟ على قولين، ورد قول القاضي بأنه - والحال هذه - مدعى عليه. إذا عرف هذا فحيث ثبت أنه أخبر بنقصان - إما بتصديق المشتري له، وإما بقوله، أو ببينة، ونحو ذلك - فإن المشتري يخير بين إعطاء البائع ما غلط به، لأن بيعه كان

برأس ماله، ورأس ماله قد ثبت أنه كذلك، فإن لم يعطه كان له الفسخ، وبين الرد، لأنه لم يرض بالزائد، نعم إن رضي البائع بترك الزيادة فلا رد له. ولم يذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن البائع - والحال هذه - يرجع على المشتري بحظ ما غلط به من الربح، وكذا أبو الخطاب في الهداية، وصاحب التلخيص فيه، وأبو البركات، وقال أبو محمد: يرجع بحظ ذلك من الربح، فإذا قال: وربح درهم في كل عشرة. رجع بدرهم، إذا كان الغلط بعشرة، وكذلك إن قال: وربح عشرة. وكان ما أخبر به أولا مائة، وله احتمال في هذه الصورة فقط، أنه لا يرجع بشيء، لرضاه في السلعة بربح عشرة، والله أعلم. قال: وله أن يحلفه أنه وقت ما باعها لم يعلم أن شراءها أكثر من ذلك. ش: حيث ثبت أن البائع أخبر بنقصان - إما بقوله، أو ببينة، ونحو ذلك - فادعى عليه المشتري أنه وقت البيع كان عالما أن شراءها أكثر مما أخبر به، فإن دعواه تسمع، لأن

اختلاف المتبايعين في البيع

البائع لو أقر بذلك لزم البيع في حقه بما أخبر به، أولا، لرضاه به، وتعاطي سببه، فهو كمشتري المعيب عالما بعيبه، ثم إن أقر البائع بذلك لزم البيع بما حصل الإخبار به أولا، لما تقدم، وإن أنكر - بأن قال: ما علمت ذلك. ونحوه - فللمشتري أن يحلفه على حسب جوابه، فإن حلف فلا كلام، وإن نكل، أو أقر قضي عليه، والله أعلم. [اختلاف المتبايعين في البيع] قال: وإن باع شيئا واختلفا في ثمنه تحالفا. ش: إذا اختلف المتبايعان في ثمن المبيع - كأن قال البائع: بعته بمائة. مثلا، وقال المشتري: إنما اشتريته بخمسين. ونحو ذلك - فإن كانت لأحدهما بينة حكم بها، وإلا تحالفا، على المشهور، والمختار للأصحاب من الروايات. 1946 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» متفق عليه واللفظ لمسلم.

1947 - وللبيهقي «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر» وكل من المتبايعين مدع ومنكر، إذ البائع في مثالنا يدعي فضل الثمن، والمشتري ينكره، والمشتري يدعي السلعة بأقل، والبائع ينكره، وإذا يحلف كل واحد منهما على ما أنكره، عملا بعموم الحديث. 1948 - وللبيهقي في سننه عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن [الفقهاء من] أهل المدينة، كانوا يقولون: إذا تبايع الرجلان واختلفا في الثمن تحالفا، فأيهما نكل لزمه القضاء، فإن حلفا فالقول قول البائع، وخير المبتاع، إن شاء أخذ بذلك الثمن، وإن شاء ترك، وقد زعم أبو محمد أن في بعض ألفاظ حديث ابن مسعود الآتي «إذا اختلف المتبايعان، والسلعة قائمة، ولا بينة لأحدهما تحالفا» (والثانية) القول

[قول] البائع مع يمينه، حكاها ابن أبي موسى، وابن المنذر، وزاد: ويترادان البيع. 1949 - لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا اختلف المتبايعان، وليس بينهما بينة، فالقول ما يقول صاحب السلعة، أو يترادان» رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي، وفي رواية: «أو يتتاركان» وفي أخرى «فالقول ما قال البائع، والمبتاع بالخيار» وفي أخرى لأحمد والنسائي «عن أبي عبيدة، وأتاه رجلان تبايعا سلعة، فقال هذا: أخذت بكذا وكذا، وقال هذا: بعت بكذا وكذا. فقال أبو عبيدة: أتي عبد الله في مثل هذا، فقال: حضرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في مثل هذا، فأمر بالبائع أن يستحلف، ثم يخير المبتاع، إن شاء أخذ، وإن شاء ترك» . ولم أر في شيء

من ألفاظ الحديث «تحالفا» . وهذه الرواية، وإن كانت خفية مذهبا، فهي ظاهرة دليلا، اعتمادا على هذا الحديث، لا يقال: هذا الحديث منقطع، كما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكذا قال ابن عبد البر [وغيره: إن فيه انقطاعا. لأنا نقول: لما تعددت طرقه، تقوى بعضها ببعض، ودل ذلك على أن له أصلا، وقد قال ابن عبد البر] : هو محفوظ، مشهور، أصل عند جماعة

العلماء، تلقوه بالقبول، وبنوا عليه كثيرا من فروعه، قد اشتهر عنهم بالحجاز، والعراق، شهرة يستغنى بها عن الإسناد. 1950 - كما اشتهر حديث «لا وصية لوارث» انتهى. ويشهد لذلك أيضا (من جهة المعنى) أن السلعة كانت للبائع، والمشتري يدعي نقلها بعوض، والبائع ينكره إلا

بالعوض الذي عينه، والقول قول المنكر، وعدم الرضى إلا بذلك، (ومن جهة المذهب) إذا اختلف المكاتب وسيده في عوض الكتابة: القول قول السيد. على رواية مرجحة عند البعض. وما ذكر للرواية الأولى فغايته أنه عموم، على أنه قد يمنع أن كلا منهما، منكر، بل قد يقال: البائع هو المنكر للنقل بالعوض الذي ذكره المشتري، أو المنكر هو المشتري، لأن حقيقة ما يدعي عليه قدر رأس المال، وهو ينكره. (والثالثة) : حكاها أبو الخطاب في الانتصار: إن كان قبل القبض تحالفا، لما تقدم أولا، وإن كان بعده فالقول قول المشتري، لاتفاق البائع والمشتري على حصول الملك له، ثم البائع يدعي عليه عوضا، والمشتري ينكر بعضه، والقول قول المنكر، والله أعلم.

قال: فإن شاء المشتري أخذه بعد ذلك بما قال البائع، وإلا انفسخ البيع بينهما. ش: هذا تفريع على المذهب من أنهما يتحالفان، وإذا هل ينفسخ البيع بينهما بنفس التحالف، وهو المنصوص، على ما زعم ابن الزاغوني، لأن المقصود من التحالف رفع العقد، فاعتمد ذلك أو لا ينفسخ بذلك، وهو المشهور، والمعروف، والمختار للخرقي، وابن أبي موسى، وأبي الخطاب، والشيخين وغير واحد، لأنه عقد صحيح، فتنازعهما لا يقتضي فسخه، كما لو أقام كل منهما بينة؟ على قولين، وعلى الثاني إن شاء المشتري الأخذ بما قال البائع أخذ به ولا فسخ، لما تقدم من حديث ابن مسعود، وكذلك إن رضي البائع بما حلف عليه المشتري. وإن امتنعا من ذلك فهل ينفسخ البيع بمجرد إبائهما، وهو ظاهر كلام الخرقي، أو لا ينفسخ بذلك، وهو المعروف عند الشيخين وغيرهما؟ على قولين، وعلى الثاني: هل يفتقر الفسخ إلى حاكم؟ وهو احتمال لأبي الخطاب في الهداية، وقطع به ابن الزاغوني، لوقوع الخلاف في ذلك، أو لا يفتقر

إلى ذلك، بل لكل منهما الفسخ، وهو مختار الشيخين وغيرهما، لما تقدم من حديث ابن مسعود «أو يترادان البيع،

أو يتتاركان البيع، ثم يخير المبتاع، إن شاء أخذ، وإن شاء ترك» وفي الحديث أن الأشعث بن قيس قال لعبد الله بن مسعود - وكانا اختلفا في ثمن مبيع -: فإني تارك لك البيع؟ على قولين، والله أعلم. قال: والمبتدي باليمين البائع. ش: لما قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن البائع والمشتري يتحالفان. فلا بد من أن أحدهما يبدأ باليمين، فقال: إن المبتدئ بها هو البائع، وذلك لتساويهما من حيث الإنكار، وترجح البائع لكون العين ترجع إليه بعد التحالف، ومن نكل منهما عن اليمين، أو عن بعضها قضي عليه. (تنبيه) صفة اليمين أن كلا منهما يحلف يمينا واحدة، يجمع فيها بين النفي والإثبات، فيحلف البائع: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، أو ما بعته إلا بكذا. ثم يحلف المشتري: ما اشتريته بكذا، وإنما اشتريته بكذا. أو: ما اشتريته إلا بكذا، لأن كلا منهما مدع ومدعى عليه، فالإثبات لدعواه، والنفي لما ادعي عليه، ثم هل يبدأ بالنفي،

وهو المشهور، لدفع قول الخصم، أو بالإثبات، لإثبات دعواه ابتداء؟ على وجهين، والله أعلم. قال: وإن كانت السلعة تالفة تحالفا. ش: يعني أنه لا فرق بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة، أنهما يتحالفان، وهذا إحدى الروايتين، (والثانية) - وهي أنصهما، واختيار أبي البركات -: إن كانت السلعة باقية تحالفا، وإن كانت تالفة فالقول قول المشتري مع يمينه.

1951 - لأن في حديث ابن مسعود - في رواية ابن ماجه - والبيع قائم بعينه وفي رواية لأحمد والسلعة كما هي ومفهومه أن السلعة إذا تلفت لا يكون القول قول البائع، وإذا يكون قول المشتري، لأن حقيقة ما يدعى عليه قدر رأس المال، وهو ينكر بعضه، والقول قول المنكر، وقد صرح بذلك الدارقطني في رواية، فقال: «إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع، فإذا استهلك فالقول ما قال المشتري» وهذا نص. والرواية الأولى اختيار الخرقي والأكثرين، لأن المشهور والصحيح من الرواية في الحديث ما تقدم، وهذه الرواية قد ضعفت، من قبل أن راويها محمد بن أبي ليلى، وهو سيء الحظ، ورواية الدارقطني فيها الحسن بن عمارة، وهو متروك. 1952 - ثم يعارضه ما روى الدارقطني أيضا في الحديث عن عبد الله، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اختلف البيعان، والمبيع مستهلك،

فالقول قول البائع» لكنه من رواية عبد الله بن عصمة، وهو ضعيف، انتهى. واعلم أن هذه الرواية المنصورة، وقد أخذها القاضي في روايتيه من إطلاق أحمد أن المتبايعين إذا اختلفا تحالفا، ولم يفرق، وعلى هذا من يخص عام كلام إمام بخاصه تكون المسألة عنده رواية واحدة، في أن القول مع التلف قول المشتري. ثم اعلم أن أبا محمد ينصر الرواية المنصورة عند الأصحاب، لكن يقول: ينبغي أن قيمة السلعة إذا كانت مساوية للثمن الذي ادعاه المشتري، أن القول قول المشتري مع يمينه، لعدم الفائدة في يمين البائع، وفسخ البيع، إذ حاصله يرجع إلى ما ادعاه المشتري، وله فيما إذا كانت القيمة أقل احتمالان: (أحدهما) : كالأول، إذ لا فائدة للبائع في الفسخ، بل وفيه ضرر عليه: (والثاني) : يشرع

التحالف، لحصول الفائدة للمشتري، والله سبحانه أعلم. قال ورجعا إلى قيمة مثلها، إلا أن يشاء المشتري أن يعطي الثمن على ما قاله البائع. ش: يعني إذا كانت السلعة تالفة وتحالفا فإن شاء المشتري أن يعطي الثمن عل ما قال البائع، وإلا انفسخ البيع بينهما على ما قاله الخرقي، وإذا يرجع كل منهما إلى ما خرج عنه، والذي خرج عن المشتري هو الثمن، فيرجع فيه، إن كان قد قبض، والذي خرج عن البائع هو السلعة، وقد تعذر الرجوع فيها، فيرجع في بدلها وهو القيمة، فإن تساويا، وكانا من جنس واحد، تقاصا وتساقطا، وإلا سقط الأقل، ومثله من الأكثر، هذا المشهور والمعروف. وقال ابن المنجا: إن كلام أبي الخطاب أن القيمة إن زادت على الثمن أن المشتري لا تلزمه الزيادة، لأنه قال: المشتري بالخيار بين دفع الثمن الذي ادعاه البائع، وبين دفع

القيمة، وذلك لأن البائع لا يدعي الزيادة (قلت) : وكلام أبي الخطاب ككلام الخرقي، وليس فيه أن ذلك بعد الفسخ، بل هذا التخيير مصرح به بأنه بعد التحالف، وليس إذ ذاك فسخ، ولا شك أن المشتري والحال هذه مخير - على المشهور كما تقدم - عند قيام السلعة، فكذلك عند تلفها، والذي قاله ابن المنجا كأنه بحث لصاحب النهاية، فإنه حكى عنه بعد ذلك أنه قال: وجوب الزيادة أظهر لأن بالفسخ سقط اعتبار الثمن. وقد بحث أبو العباس ذلك أيضا، فقال: يتوجه أن لا تجب قيمته إلا إذا كانت أقل من الثمن، أما إن كانت أكثر فهو قد رضي بالثمن، فلا يعطى زيادة، لاتفاقهما على عدم استحقاقها، قال: كما قلنا مثل هذا في الصداق ولا فرق، إلا أن هنا انفسخ العقد الذي هو سبب استحقاق المسمى، بخلاف الصداق، فإن المقتضي لاستحقاقه قائم. والله أعلم.

بيع العبد الآبق والطير في الهواء

قال: فإن اختلفا في صفتها فالقول قول المشتري مع يمينه في الصفة. ش: أي إذا تحالفا ورجعا إلى قيمة السلعة، فإن اتفقا على قيمتها فلا كلام، وإن اختلفا في صفتها، والصفة ليست عيبا - كالسمن والكتابة ونحوهما - فالقول قول المشتري مع يمينه، بلا نزاع نعلمه، لأنه غارم، والقول قول الغارم، واعتمادا على أصل براءة الذمة، ثم الأصل عدمها، وإن كانت عيبا، كالبرص، والخرق في الثوب، ونحو ذلك، فهل القول قول المشتري، وهو المشهور، وظاهر كلام الخرقي، لما تقدم من أنه غارم، أو قول البائع في نفي ذلك، لأن الأصل عدمها؟ فيه وجهان، وملخص الأمر أنه قد تعارض أصلان، فخرج قولان، والله أعلم. [بيع العبد الآبق والطير في الهواء] قال: ولا يجوز بيع الآبق. ش: لأنه بيع غرر، وإنه منهي عنه شرعا، والنهي يقتضي الفساد.

1953 - ودليل النهي ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الغرر» . 1954 - على أن في المسند، وسنن ابن ماجه، عن أبي سعيد: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع ما في بطون الأنعام، وعما في ضروعها إلا بكيل، وعن شراء الغنائم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن ضربة الغائص» . إلا أن فيه كلاما، ومن ثم قال البيهقي: هذا وإن لم يثبت فكله داخل في بيع الغرر، [قلت

وهذا صحيح، إذ الغرر]- على ما فسره القاضي من أصحابنا [وغيره]- ما تردد بين جائزين، ليس هو في أحدهما أظهر، والآبق كذلك، لأنه متردد بين الحصول والعدم، وكلام الخرقي شامل لآبق يعلم خبره أو لا يعلم، وهو كذلك، والله أعلم. قال: ولا الطائر قبل أن يصاد. ش: لأن ذلك من الغرر المتقدم، وقد دخل في كلام الخرقي المملوك وغير المملوك، وما يألف العود أو لا يألفه، وهو كذلك. وقوله: قبل أن يصاد، يخرج منه ما إذا صيد [وهو واضح، ثم: ما صيد. يدخل فيه ما صيد] ببرج ونحوه،

وقد اختلف في بيع الطائر في البرج، فأجازه أبو محمد، بشرط كون الباب مغلوقا، إناطة بالقدرة على التسليم، وشرط القاضي مع ذلك إمكان أخذه بسهولة، فإن لم يمكن أخذه إلا بتعب ومشقة لم يجز، لأن قدر ذلك غير معلوم، والله أعلم. قال: ولا السمك في الآجام. ش: لما تقدم أيضا. 1955 - وقد روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشتروا السمك في الماء، فإنه غرر» رواه الإمام أحمد، لكن قال البيهقي: إن فيه انقطاعا. وقوله: في الآجام. يخرج منه ما إذا كان بيده ونحوه ذلك، كأن كان في بركة معدة للصيد، وعرف إما برؤيته كما إذا رئي في الماء لصغر البركة، ونحوها، وأمكن أخذه،

صح بيعه، لانتفاء المحذور، وهو عدم القدرة على التسليم، نعم إن كان في أخذه كلفة ومشقة خرج فيه ما تقدم من الخلاف في الطائر في البرج، وأبو محمد هنا يسلم أن البركة إذا كانت كبيرة، وتطاولت المدة في أخذه، أنه لا يجوز بيعه، للجهل بوقت إمكان التسليم، والله أعلم. قال: والوكيل إذا خالف فهو ضامن، إلا أن يرضى الآمر فيلزمه. ش: أما ضمان الوكيل إذا فلأنه خرج بمخالفته من حيز الأمانة إلى حيز الخيانة، وإذا يضمن، لتعديه وظلمه، وأما زوال الضمان عنه برضى الآمر فلأن الضمان كان لمخالفته، وبرضى الآمر كأن المخالفة قد زالت. هذا من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل فمخالفة الوكيل تارة تكون في أصل ما وكل فيه، كأن يوكله في شراء عبد، فيشتري ثوبا، أو في بيع عبده زيد، فيبيع عبده سعيدا، ونحو ذلك، فهذا لا إشكال في ضمان ما فوته على المالك، لعدم موافقته المأمور بوجه، ثم ينظر فإن كان البيع لأعيان مال الموكل، أو الشراء بعين ماله، لم يصح تصرفه، على الصحيح المشهور من الروايتين، لارتكابه النهي.

1956 - بدليل حديث «حكيم بن حزام: نهاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أبيع ما ليس عندي» . وفي لفظ: «لا تبع ما ليس عندك» رواه البخاري وغيره، أي: ما ليس في ملكك. 1957 - بدليل ما في سنن البيهقي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسل عتاب بن أسيد إلى أهل مكة «أن أبلغهم عن أربع خصال، إنه لا يصلح شرطان في بيع، [ولا بيع وسلف] ، ولا بيع ما لم يملك، ولا ربح ما لم يضمن» .

(والثانية) يقع التصرف موقوفا على إجازة مالكه، إن أجازه جاز، وإن رده بطل. 1958 - لحديث «عروة بن أبي الجعد البارقي، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه دينارا ليشتري به شاة، فاشترى له به شاتين، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بدينار وشاة، فدعا له بالبركة في بيعه، فكان لو اشترى التراب لربح فيه» ، رواه البخاري وغيره.

وإن كان الشراء في الذمة فهل ذلك كما لو كان الشراء بالعين، تجري فيه الروايتان، وهو قول القاضي في روايتيه، أو يصح هذا في الجملة بلا خلاف، وهو المعروف المشهور؟ على طريقتين للأصحاب، وعلى الثاني: هل من شرط الصحة أن لا يسمي الموكل في العقد، وهو رأي القاضي، وأبي البركات، أو لا يشترط ذلك، وهو رأي أبي محمد؟ وفيه قولان، وحيث حكم بالصحة فإن رضي الموكل بذلك التصرف لزمه، وزال الضمان عن الوكيل، فيما دفعه من مال ونحو ذلك، وإلا لزم الوكيل ما اشتراه، وعليه ضمان الثمن إن كان قد نقده، وعلى هذه الصورة يحمل كلام الخرقي، انتهى.

وتارة يخالف الوكيل في صفة ما وكل فيه، فهذا إن شهد العرف أن مخالفته كلا مخالفة لم تضر، وذلك كأن يوكله في بيع شيء بمائة، فيبيعه بمائة وعشرة، أو بدرهم فيبيعه بدينار، على أحد الوجهين، لحصول المقصود بالدرهم من الدينار من كل وجه، بخلاف العرض، أو يأمره بالبيع نساء، أو الشراء حالا، فيبيع حالا، أو يشتري نسيئة، ولا ضرر على الموكل في حفظ الثمن، وعن القاضي أنه لم يشترط نفي الضرر، أو يأمره بالبيع بثمن في سوق، فيبيع به في آخر، لعدم تعلق الغرض به غالبا، بخلاف ما لو قال: بعه لزيد، فباعه لعمرو، فإنه لا يصح لتعلق عرضه بذلك غالبا، انتهى. وإن لم يشهد العرف بذلك لكن يمكن تدارك ما حصل من الضرر عن الموكل، مثل أن يوكله في بيع شيء بمائة، أو شراء شيء بخمسين فيبيع بخمسين ويشتري بمائة، ونحو ذلك، فهذا هل يصح ويضمن الوكيل الزيادة والنقص، لتفريطه، ومخالفته، وهو المنصوص، لزوال الضرر عن الموكل، ولا يلزم من زوال الوصف زوال الأصل، أو لا يصح، وهو اختيار أبي محمد في المغني، وبه جزم صاحب

بيع الملامسة والمنابذة

التلخيص، وقال: إنه الذي تقتضيه أصول المذهب، ويحكى رواية، لأنه مع مخالفته خرج عن حيز الأمانة، فصار بمنزلة الأجنبي، أو يصح البيع ولا يصح الشراء، لئلا يلزم العوض لغير من حصل له المعوض، وهذا المحذور فائت في البيع، وهو الذي قطع به أبو محمد في المقنع؟ على ثلاثة أقوال، انتهى. وإن لم يشهد العرف بذلك، ولم يمكن التدارك، كما تقدم فيما إذا أمره بالبيع لزيد فباع لعمرو، ونحو ذلك، فإنه لا يصح قولا واحدا، والله أعلم. [بيع الملامسة والمنابذة] قال: وبيع الملامسة والمنابذة غير جائز. ش: المراد هنا بالجواز الصحة، وبعدمه البطلان، وإنما لم يصحا للنهي عنهما، المقتضي للفساد شرعا.

بيع الحمل في البطن دون الأم

1959 - ففي الصحيحين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الملامسة والمنابذة» ، وفي رواية لمسلم «أما الملامسة فأن يلمس كل واحد منهما ثوب صاحبه، بغير تأمل، والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه إلى الآخر، ولم ينظر كل واحد منهما ثوب صاحبه» . 1960 - وفي الصحيحين عن أبي سعيد نحوه، متنا وتفسيرا، والمنع من ذلك كان لاختلال شرط في المبيع، وهو العلم به، وقد فسر أيضا بأن يقول: أي ثوب لمسته فهو علي بكذا، أو أي ثوب نبذته فهو علي بكذا، وهنا يجتمع مفسدان: الجهالة، والتعليق على شرط، والله أعلم. [بيع الحمل في البطن دون الأم] قال: وكذلك بيع الحمل في البطن دون الأم. ش: أي غير جائز، وقد حكى ابن المنذر وغيره الإجماع على ذلك. 1961 - وفي الصحيحين عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع حبل الحبلة» ، وكان بيعا يتبايعه أهل

الجاهلية، يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، وتنتج التي في بطنها. 1962 - وروى مالك عن ابن شهاب، أن سعيد بن المسيب كان يقول: لا ربا في الحيوان، «وإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما نهى في بيع الحيوان عن ثلاث، المضامين والملاقيح، وحبل الحبلة» ، فالمضامين ما في بطون إناث الإبل، والملاقيح ما في ظهور الجمال، والنهي عن ذلك لعدم العلم بالمبيع، وانتفاء

القدرة على التسليم. وقول الخرقي: دون الأم. احترازا مما إذا باعه مع أمه، فإنه يصح، تبعا لأمه، كأس الحيط، ويدل هذا من كلامه على أن للحمل حكما، وأنه يأخذ قسطا من الثمن، وهو التحقيق، واختيار أبي محمد وغيره، وعن القاضي أنه لا حكم له وبيان ذلك، وما يتفرع عليه له محل آخر. (تنبيه) : «حبل الحبلة» بفتح الباء فيهما على الصحيح رواية ولغة، والحبل مصدر: حبلت المرأة. بكسر الباء: تحبل. بفتحها، إذا حملت، والحبلة جمع حابل كظالم وظلمة، وأصل الحبل في بنات آدم، والحمل في غيرهن، قاله أبو عبيد، وقد فسر ابن عمر ذلك، وإلى تفسيره صار الفقهاء، وقال المبرد: حبل الحبلة حمل الكرمة قبل أن تبلغ، والحبلة الكرمة، بسكون الباء وفتحها «والمضامين، والملاقيح» قد فسرهما سعيد بن المسيب، قال الشافعي: الملاقيح ما في بطون الإناث، والمضامين ما في

بيع عسب الفحل

ظهور الجمال. وكذا فسره أبو عبيد وغيره، والله أعلم. [بيع عسب الفحل] قال: وبيع عسب الفحل غير جائز. ش: عسب الفحل ضرابه، وبيع ذلك - وكذلك إجارته لذلك - لا تصح، للنهي عن ذلك. 1963 - ففي البخاري عن ابن عمر «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن عسب الفحل» . 1964 - وفي مسلم: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ضراب الفحل» ، ولأنه لا يتحقق تسليم ذلك، لأنه معلق باختيار الفحل وشهوته.

ولابن عقيل احتمال: يجوز إجارته لذلك، لأنها منفعة مقصودة، والغالب حصول النزو، فيكون ذلك مقدورا عليه، وجوز أبو محمد دفع الأجرة دون أخذها، لاحتياج الدافع إلى ذلك. 1965 - ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الحجام. 1966 - وقال: «إن كسبه خبيث» وفيما قاله نظر، لأنه إن سلم أن الخبيث المحرم فالمراد بالكسب الأجرة، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يدفع إليه ذلك أجرة، وإلا يلزم أنه أعانه على المعصية،

وهو ممتنع قطعا، وإنما دفع إليه ما دفعه على سبيل البر والصلة. وقد بالغ إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ -، فمنع أن يعطى صاحب الفحل شيئا على سبيل الهدية ونحوها، وقوفا على ما ورد، وقال: لم يبلغنا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى في مثل هذا شيئا، كما بلغنا في الحجام، وقد قرر القاضي ذلك، وقال: إنه مقتضى النظر، لكن ترك في الحجام للنص، فيبقى فيما عداه على مقتضى المنع، وأبو محمد حمل كلام الإمام أحمد على التورع، وجوز الدفع إليه على سبيل الهدية ونحوها. 1967 - لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا من بني كلاب سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن عسب الفحل، فنهاه عن ذلك، فقال: يا رسول الله إنا نطرق ونكرم، فرخص في الكرامة» ، رواه الترمذي، (قلت) : وهذا الحديث الظاهر أنه لم

بيع النجش

يثبت عند الإمام، والله سبحانه أعلم. [بيع النجش] قال: والنجش منهي عنه. ش: هذا مما لا ريب فيه. 1968 - فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تتلقوا الركبان، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، ولا تناجشوا، ولا يبع حاضر لباد» . 1969 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن النجش» ، والنجش أن تعطيه بسلعته أكثر من ثمنها، وليس في نفسك شراؤها، فيقتدي بك غيرك.

1970 - وقال ابن أبي أوفى: الناجش آكل ربا، خائن، وهو خداع باطل لا يحل. ذكره البخاري تعليقا. وظاهر كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن البيع مع النجش صحيح، لأنه قال: والنجش منهي عنه، وقال فيما تقدم: غير جائز، وهذا هو المذهب المشهور، لأن النهي لحق آدمي معين، ويمكن تداركه، فأشبه تلقي الركبان، وبيع المدلس، ونحو ذلك، وقيل عن أحمد رواية أخرى، أن البيع باطل تغليبا لحق الله تعالى في النهي، وقال أبو محمد: إن هذا اختيار أبي بكر، والذي في التنبيه: أن النجش لا يجوز. وفي المذهب قول ثالث، صححه ابن حمدان: إن نجش البائع، أو واطأ على ذلك بطل البيع، وهذا القول خرجه صاحب التلخيص من قول أبي بكر، في إبطال البيع بتدليس العيب، وهو يؤيد رد ما حكاه عنه أبو محمد من البطلان

مطلقا، انتهى، ووجه هذا القول أن البائع أحد ركني العقد، فارتكابه النهي يفسد البيع، بخلاف الأجنبي. وإذا صح البيع فحيث غر المشتري - وذلك بأن كان جاهلا بالقيمة، فغبن غبنا يخرج عن العادة - ثبت له الخيار، نص عليه، دفعا للضرر عنه المنفي شرعا، أما إن كان عارفا بالقيمة فلا خيار له، لأنه الظالم لنفسه بتفريطه. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض للخيار، فيحتمل أنه لم ير ذلك، كما هو قول بعض أهل العلم، لأنه فرط، حيث اشترى ما لا يعرف قيمته، والله أعلم. قال: وهو أن يزيد في السلعة، وليس هو مشتريا لها. ش: هذا تفسير النجش، وإذا يغر المستام، وهو نحو تفسير ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو حرام وخداع، كما قال ابن أبي أوفى، وقد زاد بعض أصحابنا في تفسيره، فقال: ليغر الغر. وهو حسن، لأن غير الغر - وهو العارف بالقيم -

بيع الحاضر للبادي

لا يغتر بمثل ذلك، وإن اغتر فذلك لعجلته، وعدم تأمله، وأصل النجش قيل: الاستثارة والاستخراج، ومنه سمي الصائد ناجشا، لاستخراجه الصيد من مكانه، فالزائد في السلعة كأنه استخرج من المستام في ثمن السلعة ما لا يريد أن يخرجه، وقيل: أصل النجش مدح الشيء وإطراؤه، والناجش يغر المشتري بمدحه، ليزيد في الثمن، انتهى. وحكم زيادة المالك في الثمن - كأن يقول: أعطيت في هذه السلعة كذا. وهو كاذب - حكم نجشه، والله أعلم. [بيع الحاضر للبادي] قال: فإن باع حاضر لباد فالبيع باطل. ش: الحاضر المقيم في المدن والقرى، والبادي المقيم بالبادية، والمراد هنا بالبادي - على ما قال أبو محمد - من يدخل البلدة من غير أهلها، وإن كان من قرية أو من بلدة أخرى، والحاضر المقيم في البلد، ولا ريب «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيع الحاضر للبادي» . 1971 - فعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا بيع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» رواه مسلم، والترمذي، وأبو داود، والنسائي.

1972 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبيع حاضر لباد، وإن كان أخاه لأبيه وأمه» . 1973 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تلقوا الركبان، ولا يبع حاضر لباد» متفق عليهما. 1974 - وروي أيضا ذلك من حديث ابن عمر، وأبي هريرة، وطلحة بن عبيد الله، وإنما نهى عن ذلك - والله أعلم - لأنه متى ترك القادم يبيع سلعته اشتراها الناس منه برخص، وتوسع عليهم السعر، بخلاف ما إذا تولى الحاضر بيعها، فإنه لا يبيعها غالبا إلا بغلاء، وإذا يحصل الضرر لأهل البلد،

وقد أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في تعليله إلى ذلك. ولما كان هذا المعنى وجوده في أول الإسلام أكثر، لما كان عليهم من الضيق، اختلف العلماء في بقاء النهي، وعن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك روايتان (إحداهما) زواله، وقال: كان ذلك مرة. (والثانية) - وهي المشهورة عنه، وعليها الأصحاب - بقاؤه، لعمومات النهي، ووجود المعنى إذا، فعلى الأولى لا تفريع، أما على المذهب فإذا باع الحاضر لهم، فهل يبطل البيع بشرطه، وبه قطع الخرقي، اعتمادا على النهي لاقتضائه فساد المنهي عنه، ولأن الضرر لا يمكن تداركه لأنه لآدمي غير معين، بخلاف تلقي الجلب، أولا يبطل، لأن النهي لمعنى يتعلق بعين المعقود عليه، وهو النظر لأهل البلد، لمقصود التوسعة، فهو كتلقي الركبان، نظرا لحق الجالبين، لكن ثبت الخيار ثم، لاختصاص الضرر بالعاقد، وهنا غلاء السعر عام؟ على روايتين، وجعل ابن المنجا الصحة على القول بزوال النهي، والبطلان على القول ببقائه ليس بشيء، إنما الروايتان على القول بالبقاء.

ومقتضى كلام الخرقي صحة الشراء للبادي، وهو كذلك، لأن النهي إنما ورد عن البيع، لمعنى يختص به، وهو الرفق بأهل الحضر، وهذا غير موجود في الشراء للبادي، إذ لا يتضرر الحاضر إذا لم يغبن البادي، والخلق في نظر الشارع على السواء. (تنبيه) : هل للحاضر أن يشير على البادي، من غير أن يباشر العقد؟ مال أبو محمد إلى جواز ذلك. 1975 - اقتداء بطلحة بن عبيد الله، فإنه قال لباد سأله أن يبيع له: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يبيع حاضر لباد» ، ولكن اذهب إلى السوق، فإن جاءك من يبايعك فشاورني، حتى آمرك وأنهاك. 1976 - (قلت) : وقد روى البيهقي في سننه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض، فإذا استنصح أحدكم أخاه فلينصحه» وهذا نص إن صح، والله أعلم.

قال: وهو أن يخرج الحضري إلى البادي، وقد جلب السلع، فيعرفه السعر، ويقول: أنا أبيع لك بكذا، فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، وقال: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» . ش: أي بيع الحاضر للبادي - الذي قد نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والذي هو باطل - هو هذا، وهو (أن يخرج الحضري إلى البادي) أي ليبيع له، فإن كان القاصد هو البادي لم يكن للحاضر أثر في الفعل، وإذا يصح البيع، ويزول النهي، وعموم الأحاديث - وهو الذي فهمه طلحة ابن عبيد الله - يقتضي عدم اشتراط ذلك، انتهى. (وأن يكون) البادي جلب السلع، أي للبيع لا للخزن ونحو ذلك، [لأن المنع كان لأجل التوسعة، ومع قصد الخزن ونحو ذلك التوسعة في ترغيبه في البيع] . (وأن يكون) البادي جاهلا بالسعر، والحاضر عارفا به، ليعرفه إياه، لأنه

حكم تلقي الركبان

إذا كان عارفا بالسعر لم يزده الحاضر على ما عنده شيئا، وحكى ابن أبي موسى رواية بالبطلان وإن عرف البادي السعر، ورواية بالبطلان أيضا وإن جهل الحاضر السعر. وزاد القاضي وغيره شرطين آخرين (أحدهما) أن يريد البادي البيع بسعر اليوم، فإن كان قصده البيع بسعر معلوم، كان المنع من البيع من جهته، لا من جهة الحاضر، وزاد بعضهم في هذا الشرط: أن يقصد البيع بسعر اليوم حالا لا نسيئة. (الشرط الثاني) أن يكون بالناس حاجة إليها، لأن مع عدم حاجتهم التوسعة مستغنى عنها، وهذه الشروط الخمسة شروط للبطلان والنهي، متى فقد واحد منها صح البيع، وزال النهي، والله سبحانه أعلم. [حكم تلقي الركبان] قال: ونهى عن تلقي الركبان. 1977 - ش: الأصل في ذلك ما روى ابن عمر «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن تلقي السلع حتى يهبط بها الأسواق» .

1978 - وعن ابن عباس: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تتلقى الركبان، ولا يبيع حاضر لباد» . متفق عليهما. 1979 - وفي الصحيح أيضا نحو ذلك عن ابن مسعود، وأبي هريرة. (تنبيه) : يجوز تلقي الجلب في أعلى السوق، قاله أبو محمد، لأن في حديث ابن عمر: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن تتلقى السلع حتى يهبط بها إلى السوق» . والله أعلم. قال: فإن تلقوا واشترى منهم فهم بالخيار إذا دخلوا السوق، وعرفوا أنهم قد غبنوا، إن أحبوا أن يفسخوا البيع فسخوا. ش: إذا تلقيت الركبان فاشترى منهم، فهل يصح البيع، وهو المذهب المنصوص المقطوع به. 1980 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه شيئا فصاحبه بالخيار إذا جاء السوق» روه مسلم، وأبو داود،

والترمذي. ولأن الحق في النهي لآدمي معين، أمكن تداركه، وبهذا فارق الحاضر للبادي، والبيع في وقت النداء، أو لا يصح، اعتمادا على عامة الأحاديث في النهي المطلق؟ على روايتين. وعلى المذهب للركبان الخيار إذا هبطوا السوق، ورأوا أنهم قد غبنوا، على ظاهر الحديث، وقول عامة الأصحاب، ولم يشترط ذلك بعض المتأخرين، بل العلم بالغبن لأن دخول السوق في الحديث حيلة - والله أعلم - بمعرفة الغبن، فإذا عرف قبل ثبت له الخيار. وشرط ثبوت الخيار بالغبن أن يكون فاحشا، يخرج عن العادة على المذهب، وقدره بعض الأصحاب بالسدس،

وبعضهم بالثلث، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أطلق الغبن فيحتمل أنه اكتفى بمجرد الغبن، ويحتمل أن يكون موافقا للأصحاب، إذ الغبن إذا لم يخرج عن العادة لم يطلق عليه في العرف غبن. وحكم البيع لهم حكم الشراء منهم، إذ الخديعة موجودة فيهما، وإذا الخرقي إنما ذكره الشراء لأنه الغالب. وقوة كلام الخرقي يقتضي أن الحكم مخصوص بقصد التلقي، فلو خرج بغير قصد، فوافقهم فاشترى منهم، لم يحرم عليه ذلك، وهو احتمال لأبي محمد، وقال القاضي: لا فرق بين القصد وعدمه في امتناع الشراء منهم، إذ النهي دفعا للخديعة والغبن عنهم، وهذا موجود وإن لم يقصد التلقي.

بيع العصير ممن يتخذه خمرا

(تنبيه) : المعنى في النهي عن التلقي، والله أعلم، أن المتلقي غالبا إما أن يكذب في سعر البلد، وإذا يكون غارا غاشا، أو يسكت فيكون مدلسا خادعا، أما إن صدق في سعر البلد، فهل يثبت للركبان الخيار، لعموم النهي أو لا يثبت لانتفاء الخديعة؟ فيه احتمالان والله أعلم. [بيع العصير ممن يتخذه خمرا] قال: وبيع العصير ممن يتخذه خمرا باطل. ش: هذا هو المذهب بلا ريب، لأنه وسيلة إلى المحرم، والوسيلة إلى المحرم محرمة بلا ريب، وإذا يبطل البيع لارتكاب المحرم، قال جل وعلا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] . 1981 - وفي السنن «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وشاربها، وبائعها، ومبتاعها، وساقيها» وأشار إلى كل معاون عليها ومساعد فيها.

وفي المذهب قول آخر: يصح البيع مع التحريم، وشرط البطلان على البائع قصد المشتري ذلك، إما بقوله، أو بقرائن دلت على ذلك، أما إن ظن ذلك ولم يتحققه فإن البيع يصح مع الكراهة، قاله صاحب التلخيص، وحكم ما كان وسيلة إلى المحرم كذلك، كبيع السلاح للبغاة، أو لأهل الحرب، أو الجارية للغناء، أو الأقداح والخبز والفواكه والمشموم والشموع لمن يشرب عليها المسكر، والبيض للقمار، والحرير لمن يحرم عليه، ونحو ذلك، أما بيع السلاح من أهل

العدل لقتال البغاة، وقطاع الطريق، فجائز، والله أعلم. قال: ويبطل البيع إذا كان فيه شرطان، ولا يبطله شرط واحد. ش: يبطل البيع بشرطين في الجملة. 1982 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا بيع ما ليس عندك» رواه أبو داود، والترمذي وصححه، ولا يبطل بشرط واحد، لمفهوم ما تقدم. 1983 - وللحديث الصحيح «من باع نخلا مؤبرة فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع» . 1984 - قال الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شرطين في البيع، قال: وحديث جابر يدل على إباحة

الشرط، حين باعه جملة، واستثنى ظهره إلى المدينة، ويستثنى من ذلك - على رأي الخرقي - جز الرطبة فقط، وما في معناها على ما تقدم. وعموم كلام الخرقي يدخل فيه الشرط الفاسد، فلا يفسد البيع به، وهو إحدى الروايتين، وقد تقدم ذلك أيضا. (تنبيه) : اختلف في الشرطين المبطلين للعقد، فعن القاضي في المجرد أنهما شرطان مطلقا، أي سواء كانا صحيحين أو فاسدين، من مصلحة العقد أو من غير مصلحته، زاعما أن هذا ظاهر كلام أحمد، ومعتمدا على إطلاق الحديث، وكذلك قال ابن عقيل في التذكرة، معللا بأن اشتراط الشرطين يفضي إلى اشتراط الثلاثة، وما لا

نهاية له، وعن أحمد أنه فسرهما بشرطين صحيحين، ليسا من مصلحة العقد، كأن يشتري حزمة حطب، ويشترط على البائع حملها وتكسيرها، أو ثوبا ويشترط خياطته وتفصيله، ونحو ذلك، لا ما كان من مصلحته، كالرهن، والضمين، فإن اشتراط مثل ذلك لا يؤثر، وإن كثر، ولا ما كان من مقتضاه بطريق الأولى، ولا الشرطين الفاسدين، إذ الواحد كاف في البطلان، وهذا اختيار الشيخين، وصاحب التلخيص، والقاضي في شرحيه، وغالى أبو محمد فقال: إن ما كان من مقتضى العقد كاشتراط تسليم المبيع، وحلول الثمن، لا يؤثر فيه بلا خلاف. وعن الإمام أنه فسرهما بشرطين فاسدين، وكذلك بعض الأصحاب، وضعفه صاحب التلخيص، بأن الواحد يؤثر في العقد، فلا حاجة إلى التعدد، ويجاب بأن الواحد في تأثيره خلاف، أما الشرطان فلا خلاف في تأثيرهما، والله أعلم.

قال: وإذا قال: أبيعك بكذا، على أن آخذ منك الدينار بكذا، لم ينعقد البيع، وكذلك إن باعه بذهب، على أن يأخذ منه دراهم بصرف ذكراه. ش: إذا شرط عقدا في عقد، مثل أن باعه شيئا بدراهم، وشرط أن يصارفه عن الدراهم بدنانير معلومة: أو بذهب وشرط أن يأخذ دراهم، أو باعه داره على أن يبيعه داره الأخرى، أو على أن يبيعه المشتري داره، أو على أن يؤجرها له، ونحو ذلك، فالمذهب المشهور أن العقد يبطل. 1985 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن بيعتين في بيعة» ، رواه الترمذي وصححه، قال إمامنا:

هذا معناه. ولما تقدم في حديث عبد الله بن عمرو «لا يحل سلف وبيع» وفي المذهب قول آخر، حكاه أبو محمد، تخريجا من الشروط المنافية لمقتضى العقد، كأن لا يبيع، ولا يهب، وأبو البركات حكاه رواية: يصح العقد، ويبطل الشرط، كما ثبت ذلك بالنص في شرط الولاء. واعلم أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال قبل: إن البيع لا يبطله شرط واحد، وقال هنا بالبطلان، فيحتمل أن مذهبه أن كل الشروط الفاسدة تبطل البيع، ويكون ما تقدم مرادا به الشرط الصحيح، ويحتمل أن يخص البطلان بهذا الشرط وما في معناه من اشتراط عقد في عقد. (تنبيه) : للعلماء في تأويل بيعتين في بيعة تأويل آخر، قاله مالك، والشافعي وغيرهما، وهو أن يقول بعتك

بعشرة نقدا، أو بعشرين نسيئة، أو بعتك بدينار، أو بعشرة دراهم، ونحو ذلك، وهذا أيضا لا يصلح على المذهب، لعدم العلم بالمبيع، وخرج أبو الخطاب في الهداية صحة ذلك، من رواية: إن خطته اليوم فلك درهم، وإن خطته غدا فلك نصف درهم، وتردد أبو محمد في التخريج، وفرق على البيع بأن العقد ثم تمكن صحته، لكونه جعالة، تحتمل فيها الجهالة، وبأن العمل الذي يستحق به الأجرة لا يقع إلا على إحدى الصفتين، فتتعين الأجرة المسماة عوضا، فلا تنازع، بخلاف هنا، وفي كليهما نظر، لأن العلم بالعوض في الجعالة شرط، كما هو في الإجارة، والبيع والقبول أيضا في البيع لا يقع إلا على إحدى الصفتين فيتعين ما سمي لها، والله أعلم. 1986 - ش: لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ولي ليتيم مالا فليتجر به، ولا يدعه حتى تأكله الصدقة» رواه الترمذي.

1987 - وروي نحوه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال علماء الحديث: وهو أصح من المرفوع. 1988 - وعن القاسم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كانت عائشة تزكي أموالنا وإنها لتتجر بها في البحرين. ولأن ذلك أحظ لليتيم، لكون نفقته تكون في ربحه، والولي يفعل الأحظ، ويشعر هذا التعليل بأن شرط الاتجار به كونه في المواضع الآمنة، ولا بد من ذلك، وحكم الأب والحاكم، وأمينه حكم الوصي بل أولى، وظاهر كلام أبي محمد في

المغني أو صريحه أن ذلك على سبيل الجواز والندبية، لا على سبيل الوجوب، إذ لا يجب على الولي أن يحصل له نفع، بل الواجب عليه أن لا يضره، وأورد على هذا إذا وهب له من يعتق عليه، ولا تلزمه نفقته، أنه يجب على الولي القبول، ويجاب بأن هنا محض مصلحة، من غير ضرر ما، بخلاف ما تقدم، فإن على الولي ضررا في تفويت منافعه، والله أعلم. قال: ولا ضمان عليه. ش: أي إذا اتجر الوصي بمال اليتيم، فخسر المال أو تلف، فلا ضمان عليه، لأنه فعل ما أذن له فيه، أشبه ما لو أحرزه في حرز مثله فتلف، ونحو ذلك، والله أعلم.

قال: والربح كله لليتيم. ش: لأنه نماء ملكه، فكان له كبقية أملاكه، وليس للولي من ذلك شيء، لأنه إنما يكون له ذلك بعقد، وليس له أن يعقد مع نفسه، لقوة التهمة عليه في ذلك، والله أعلم. قال: فإن أعطاه لمن يضارب له به فللمضارب من الربح ما وافقه عليه الوصي. ش: للوصي أن يدفع المال إلى من يتجر فيه، كما لو أن يتجر فيه بنفسه. 1989 - وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فعل ذلك وله أن يجعل للمدفوع إليه جزءا من الربح، لأن ذلك مما يعد في العرف [مصلحة] و [تصرف] الولي منوط بالمصلحة، والله أعلم. قال: وما استدان العبد فهو في رقبته، يفديه سيده، أو يسلمه، فإن جاوز ما استدان قيمته لم يكن على سيده أكثر من قيمته، إلا أن يكون مأذونا له في التجارة، فيلزم مولاه جميع ما استدان.

ش: للعبد في استدانته ونحوها حالتان: (إحداهما) : أن يكون مأذونا له في التجارة، فهذا ما استدانه كبيع أو قرض ونحوهما (هل يلزم سيده) ؟ وهو المشهور من الروايات واختيار الخرقي، والقاضي، وأبي الخطاب، وغيرهم، لأنه أغرى الناس بمعاملته، بإذنه فيها، أشبه ما لو قال: داينوه. 1990 - ولعموم ما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من باع عبدا وله مال، فله ماله وعليه دينه، إلا أن يشترط المبتاع» رواه البيهقي في سننه، وقال: هذا إن صح فالمراد العبد المأذون له في التجارة. (أو برقبة العبد) ؟ لأنه القابض للمال، المتصرف فيه، أشبه غير المأذون له. (أو بذمة السيد) لإذنه، (ورقبة العبد) لقبضه المال؟ على ثلاث روايات، وبنى أبو العباس الروايتين الأولتين على أن تصرفه مع الإذن هل هو لسيده فيتعلق ما أدانه بذمته كوكيله، أو لنفسه فيتعلق برقبته؟ على روايتين، انتهى. ومحل الخلاف فيما ثبت ببينة، أو بإقرار السيد، أما ما أنكره

السيد، ولا بينة به، فإنه يتعلق بذمة العبد إن أقر به، وإلا فهو هدر. وعموم كلام الخرقي وكثير من الأصحاب يقتضي جريان الخلاف [وإن كان في يده مال، ويؤيد إرادة ذلك ما حكاه أبو محمد، بعد حكاية الخلاف] عن مالك، والشافعي رحمهما الله، أنهما قالا: إن كان في يده مال قضي دينه منه، وإلا تعلق بذمته، ومقتضى ذلك أنا نخالفهما في ذلك، ثم إذا قلنا: إنه كالوكيل. فإن العهدة تتعلق بالموكل الذي هو السيد هنا، وإن كان له في يد موكله مال، وجعل ابن حمدان محل الخلاف فيما إذا عجز ما في يده عن الدين. «تنبيهان» : «أحدهما» : حكم ما استدانه أو اقترضه بإذن سيده حكم ما استدانه حيث أذن له في التجارة، قاله في المغني، وقطع في التلخيص والبلغة بلزومه للسيد، وكذا قال أبو العباس، وهو ظاهر كلام المجد. «الثاني» : قال أبو

محمد - وتبعه ابن حمدان -: لا فرق في الذي استدانه بين أن يكون في [الذي] أذن له فيه، أو في الذي لم يأذن له فيه، كأن يأذن له في التجارة في البر مثلا، فيتجر في غيره، إناطة بتغرير السيد، وفيه نظر. (الحالة الثانية) العبد غير المأذون له، ولتصرفه حالتان أيضا: (إحداهما) : أن يتصرف في عين المال، إما لنفسه أو للغير، فهذا كالغاصب، أو كالفضولي، على ما هو مقرر في موضعه (الثانية) أن يتصرف في الذمة، فهل يصح تصرفه، إلحاقا له بالمفلس، إذ الحجر عليه لحق غيره وهو السيد، أو لا يصح إلحاقا له بالسفيه، إذ أهليته ناقصة، وإذن السيد مكمل لها؟ فيه قولان، حكاهما أبو محمد، وصاحب التلخيص وجهين، وأبو البركات روايتين، فعلى الأول ما اشتراه أو اقترضه، إن وجد في يده انتزع منه، لتحقق إعساره، قاله أبو محمد وصاحب التلخيص، وغيرهما، وإن أخذه سيده لم ينتزع منه على المشهور، لأنه وجده في يد مملوكه بحق، أشبه ما لو وجد في يده صيدا ونحو ذلك، واختار صاحب التلخيص جواز الانتزاع منه،

معللا بأن الملك واقع للسيد ابتداء، وإن تلف بيد السيد لم يضمنه، ثم هل يتعلق ثمنه برقبة العبد، أو بذمته، على الخلاف الآتي؟ وكذلك إن تلف بيد العبد، ومقتضى كلام أبي البركات أنه لا ينتزع ولو كان بيد العبد، وأن الثمن يتعلق بذمته بلا نزاع، ويظهر قوله إن علم البائع أو المقرض بالحال، أما إذا لم يعلم فيتوجه قول الأكثرين، وعلى الثاني - وهو بطلان التصرف - يرجع مالك العين في عينه حيث وجدها، فإن تلفت في يد العبد فهل تتعلق قيمتها برقبته كجناياته، وهو المشهور، واختيار الخرقي، وأبي بكر، أو بذمته، يتبع بها إذا عتق، حذارا من تضرر السيد. 1991 - ولعموم ما روى ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن الفقهاء التابعين من أهل المدينة، قال: كانوا يقولون: دين المملوك في ذمته. رواه البيهقي في سننه، أو إن علم رب العين

بكونه عبدا فلا شيء له، لأنه المتلف لماله، نص عليها في رواية حنبل، معللا بما تقدم؟ على ثلاث روايات، وإن تلفت بيد السيد فكذلك، على مقتضى كلام المجد، وقال أبو محمد، وصاحب التلخيص، وغيرهما: يرجع إن شاء على السيد، وإن شاء على العبد، ثم إن أبا محمد مال إلى رقبته، ومال صاحب التلخيص وابن حمدان إلى ذمته. وحيث علق شيء من ذلك برقبة العبد، فإن سيده يخير بين تسليمه أو فدائه، فإن سلمه برئ، وإن لم تف قيمته بالحق، أما إن سلم فبيع، وفضلت من ثمنه فضلة عن أرش جنايته، فهل تكون لسيده - وهو اختيار أبي محمد -، أو للمجني عليه - وهو ظاهر كلام الإمام، على ما قاله القاضي -؟ فيه قولان، وإن فداه وكذا إن أعتقه فهل يلزمه أرش الجناية، بالغة ما بلغت، أو لا يلزمه إلا الأقل من قيمته، أو أرش جنايته، وهو المشهور؟ على روايتين، والله أعلم.

بيع الكلب

[بيع الكلب] قال: وبيع الكلب باطل، وإن كان معلما. 1992 - ش: لما في الصحيحين، عن أبي مسعود الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ثمن الكلب، ومهر البغي وحلوان الكاهن» . 1993 - وقال «ثمن الكلب خبيث» رواه مسلم. 1994 - وأصرح منها ما في سنن البيهقي - وقد جود إسناده - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل ثمن الكلب، ولا حلوان الكاهن، ولا مهر البغي» .

وقول الخرقي: وإن كان معلما. لأن بعض العلماء أجاز بيع المعلم دون غيره، وإليه ميل بعض المتأخرين من أصحابنا. 1995 - لأن في رواية لأبي هريرة إلا كلب الصيد وكذلك في حديث لجابر، لكنهما ضعيفان، قال البيهقي: الثابت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خال من هذا الاستثناء والاقتناء، ونحو ذلك قال الدارقطني وغيره، والله أعلم.

قال: ومن قتله وهو معلم فقد أساء.

ش: فسر أبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - «أساء» بالتحريم، وذلك لأنه حيوان يباح اقتناؤه، والانتفاع به، فحرم إتلافه كالشاة. 1996 - ولعموم «لا ضرر ولا ضرار» وكذلك حكم كل كلب يباح اقتناؤه ككلب الماشية والزرع، لا لحفظ البيوت على الأشهر، أما ما لا يباح اقتناؤه، ولا أذى فيه، فقال أبو محمد: لا يباح قتله. ويحتمله كلام الخرقي في المحرم في قوله: وله أن يقتل الحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور، وكل ما عدا عليه، أو آذاه، ولا فداء عليه. 1997 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها، فنقتله، ثم نهى عن قتلها، وقال: «عليكم بالأسود البهيم،

ذي النقطتين، فإنه شيطان» رواه مسلم. وقوة كلام الخرقي هنا يقتضي عدم التحريم، لتخصيصه الحكم بالمعلم، وبه قطع أبو البركات، مع القول بالكراهة، وقد ينبني ذلك على النهي بعد الأمر. [هل هو لما قبل الأمر] ، أو للكراهة؟ على قولين، أشهرهما الأول، ويستثنى على كل حال الكلب الأسود البهيم، فإنه يباح قتله للحديث، وكذلك الكلب العقور. 1998 - لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خمس من الدواب كلهن فواسق، يقتلن في الحرم، الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور» ويقتلان وإن كانا معلمين، ويلحق بالكلب العقور كل ما آذى الناس وضرهم في أنفسهم وأموالهم، فإنه يباح قتله، وما لا أذى فيه لا يباح قتله على قول أبي محمد، ويباح على قول المجد، ولا غرم عليه عند المجد، لكن يكره تنزيها، والله أعلم. قال: ولا غرم عليه. ش: إذا قتل الكلب قاتل غرم عليه، وإن كان معلما

بيع الفهد والصقر المعلم والهر

لأنه لا يقابل بالعوض شرعا للنهي عنه وجعله خبيثا. 1999 - وقد جاء في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ثمن الخمر، ومهر البغي، وثمن الكلب، وقال: «إذا جاء يطلب ثمن الكلب، فاملأ كفه ترابا» رواه أبو داود. 2000 - وما جاء عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما غرما قاتل الكلب، فقد ضعفا. والله أعلم. [بيع الفهد والصقر المعلم والهر] قال: وبيع الفهد والصقر المعلم جائز. ش: وكذلك ما في معناهما كالشاهين، والبازي، ونحوهما، وهذا إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد، لأنه حيوان يباح

نفعه واقتناؤه مطلقا، فأشبه البغل والحمار، [ولعموم {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] إن قيل بعمومه. (والثانية) : - واختارها أبو بكر، وابن أبي موسى - لا يجوز، إلحاقا لها بالكلب، لنجاستها، إذ المنع منه معلل بذلك، وخرج البغل والحمار] ، وإن قيل بنجاستهما بالإجماع، على أن ابن عقيل خرج فيهما قولا بالمنع. انتهى، ومقتضى هذا التعليل تخصيص محل الخلاف، وجعله على القول بنجاسة ذلك، وكثير من الأصحاب يطلق الخلاف، وقد أكد ابن حمدان إرادة الإطلاق، فقال - بعد ذكر الروايتين -: وقيل: ما قيل بطهارته منها صح بيعه، وما لا فلا. وقول الخرقي: المعلم. يحترز عن غير المعلم فإنه لا يجوز بيعه، لعدم الانتفاع به، نعم إن قبل التعليم جاز بيعه على الأشهر، كالجحش الصغير، والله أعلم.

قال: وكذلك بيع الهر. ش: أي يجوز بيعه، وهذا إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد، لما تقدم. 2001 - ولما في الصحيح «أن امرأة دخلت النار في هرة لها حبستها» ، والأصل في اللام أنها للملك، (والثانية) : واختارها أبو بكر: لا يجوز. 2002 - لما في مسلم، «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه سئل عن ثمن الكلب والسنور، فقال: زجر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك» .

2003 - وعنه أيضا: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] عن ثمن الهر» ، رواه أبو داود، وحمل على غير المملوك، أو على ما لا نفع فيه، أو على الهر المتوحش، أو على أن ذلك كان في الابتداء، لما كان محكوما بنجاسته، ثم لما حكم بطهارة سؤره حل ثمنه، وكلها محامل ودعوى لا دليل عليها، والله أعلم. قال: وكل ما فيه المنفعة. ش: أي يجوز بيعه، وقد علم من هذا إناطة الحكم عنده بما فيه منفعة، وكذلك الثياب، والعقار، وبهيمة الأنعام، ونحو ذلك، لأن الحكمة في جواز البيع الانتفاع وشرط المنفعة أن تكون مباحة، لتخرج آلات اللهو ونحوها، ويستثنى من ذلك الوقف، وأم الولد، والمدبر، والزيت النجس، على خلاف في بعض ذلك، وبسط ذلك يحتاج إلى طول، والله سبحانه أعلم.

كتاب السلم

[كتاب السلم] ش: يقال: سلم وأسلم، وسلف وأسلف، والسلم والسلف عبارتان عن معنى واحد، قاله الأزهري وغيره، غير أن الاسم الخاص بهذا الباب السلم، لأن السلف يقال على القرض، ولذلك بوب الخرقي وغيره السلم، دون السلف، وهو نوع من البيع، ينعقد بما ينعقد به، وبلفظه، ويشترط له ما يشترط له، ويزيد شروطا يأتي بيانها إن شاء الله تعالى، وهو جائز بالإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . 2004 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله، وأذن فيه، ثم قرأ هذه الآية، وفي رواية: إن الله قد أحله في كتابه، وأذن فيه، وقال الآية، رواهما البيهقي في سننه. ولا ريب أن الآية الكريمة شاملة له.

شروط السلم

2005 - وفي الصحيحين عنه قال: قدم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» أقر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وبين شرطه، والله أعلم. [شروط السلم] قال: وكل ما ضبط بصفة فالسلم فيه جائز. ش: يشترط للمسلم فيه شروط، دل كلامه هنا منها على شرطين (أحدهما) : أن يكون مما يتأتى ضبطه بالصفة، ليوجد شرط المبيع، وهو العلم به، فعلى هذا يصح السلم في المكيل، والموزون، والمذروع، ونحوها، لتأتي الصفة على ذلك، وقد أقر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السلف في الثمار، وقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم» . 2006 - وروى البخاري عن عبد الرحمن بن أبزى، وعبد الله بن أبي أوفى، قالا: كنا نصيب المغانم مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة، والشعير،

والزبيب، في كيل معلوم إلى أجل معلوم، فقلت: أكان لهم زرع أم لم يكن لهم زرع؟ قالا: ما كنا نسألهم عن ذلك. وأجمع المسلمون على جواز السلم في الثياب، وعلى جوازه في الطعام، قاله ابن المنذر، ولا يصح فيما لا ينضبط بالصفة، كجوهر، وما فيه أخلاط مقصودة لا تتميز، كمعجون، وثمن مغشوش، وحامل من حيوان، وشاة لبون، على الصحيح فيها، وفي الرؤوس، والجلود - والأواني المختلفة الرؤوس والأوساط، ونحو ذلك، وكذلك ما يجمع أخلاطا تتميز، كالخفاف، والقسي، والنبل المريش، والثوب المنسوج من نوعين، والمعدود

المختلف، كالحيوان، والبيض، والرمان، ونحو ذلك، واللحم المشوي، والمقلي، والمطبوخ - خلاف، وبسط ذلك له محل آخر. ويشترط في الصفة أن تكون بحيث يعرف بها المبيع عرفا، لما تقدم، فيصفه بما يختلف به الثمن غالبا، فيذكر جنسه كتمر، ونوعه كبرني، وبلده كعراقي، وقدره كصغار أو كبار، وحداثته كحديث، وجودته كجيد، أو عكسهما كقديم ورديء، ولا يصح: أجود، ويصح: أردى، على أصح الوجهين، وقد يزاد على هذه، أو ينقص منها، بحسب المسلم فيه وليس هذا موضع استقصاء ذلك.

(الشرط الثاني) : كونه في الذمة، فلا يصح في عين، لأن لفظ السلم والسلف للدين. 2007 - «وعن رجل من أهل نجران قال: قلت لابن عمر: أسألك عن السلم في النخل، قال: أما السلم في النخل فإن رجلا أسلم في نخل لرجل، فلم يحمل ذلك العام، فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «بم يأكل ماله؟ فأمره فرده عليه، ثم نهى عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه» ، رواه أبو داود وغيره. 2008 - وفي الصحيح «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: نهي عن بيع النخل حتى يبدو صلاحه» . وقيل: إن أهل المدينة كانوا يسلمون في ثمار نخيل بأعيانها، فلما قدم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهاهم عن ذلك، وقال: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم» الحديث، والله أعلم.

قال: إذا كان كيل معلوم أو وزن معلوم، أو عدد معلوم. ش: هذا (الشرط الثالث) : وهو أن يقدر المسلم فيه: بكيل معلوم عند العامة، إن كان مما يكال، أبو بوزن كذلك إن كان مما يوزن، لما تقدم من حديث ابن عباس، أو بعدد، أو ذرع كذلك، قياسا على ما تقدم، ولأنه عوض ثبت في الذمة، فاشترط معرفة قدره كالثمن، ولا يتعين ما عيناه من كيل العامة، ونحوه على المذهب، لعدم الفائدة في ذلك، وهل يفسد به العبد؟ فيه وجهان، ولا يصح بإناء أو صنجة غير معلومين عند العامة، لاحتمال هلاك ذلك، وإذا يتعذر المسلم فيه، وذلك غرر، ولا حاجة إليه، ومن ثم اشترط أن يكون المكيال والميزان - وكذلك الوصف - بلغة يفهمها غير المتعاقدين، فإن فهمها عدلان دون أهل الاستفاضة كفى على المقدم، لارتفاع التنازع بالرجوع إليهما انتهى. ومقتضى ما تقدم أنه لا يصح السلم فيما يكال وزنا، ولا فيما يوزن كيلا، وهو المشهور، والمختار للعامة، ونص عليه الإمام في المكيل لا يسلم فيه وزنا قياسا كالربويات، وكالمذروع وزنا وعكسه، فإنه لا يصلح اتفاقا، وعنه ما يدل - واختاره أبو محمد، ويحتمله كلام الخرقي - أنه يجوز،

لحصول معرفة القدر، ومقتضى كلام الخرقي أنه يسلم في جميع المعدودات عددا، ولا ريب في ذلك في الحيوان، أما في غيره فثلاثة أقوال، وزنا، عددا، ما تقارب كالجوز، والبيض، عددا، وما تفاوت كالبطيخ، والرمان، والبقول، وزنا، والله أعلم. قال: إلى أجل. ش: هذا (الشرط الرابع) وهو أن يكون مؤجلا على المذهب المعروف، لما تقدم في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر، والأمر للوجوب. 2009 - قال القرطبي في شرح مسلم: لا سيما على رواية من روى: «من أسلم فلا يسلم إلا في كيل معلوم» إلى آخره انتهى. 2010 - وفي سنن البيهقي عن ابن عباس أنه قال: اضرب له أجلا. ولأن السلم إنما جاز رخصة، لأنه للارتفاق لأنه

بيع معدوم، ولا يحصل الرفق إلا بالأجل، والله أعلم. قال: معلوم بالأهلة. ش: يشترط في الأجل كونه معلوما، لما تقدم من الحديث، ولقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فلا يصح إلى نزول المطر، أو قدوم زيد، ونحو ذلك، وهل يصح إلى الحصاد ونحوه، أو إلى نفس العطاء، - لتقارب الزمن - أو لا يصح، لتقدم ذلك وتأخره. 2011 - وهو قول ابن عباس، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، واختاره عامة الأصحاب؟ فيه قولان، وقيل: محل الخلاف في الحصاد إذا جعله إلى زمنه، أما فعله فلا يصح، واختلف

أيضا فيما إذا علقه باسم يتناول شيئين كربيع، ويوم النفر، هل يصح ويتنزل على أول يوم، وبه قطع في المغني، أو لا يصح، [وهو الذي أورده في التلخيص مذهبا؟ وفيما إذا قال: شهر كذا. هل يصح. ويتعلق بأوله، وهو اختيار أبي محمد، أو لا يصح رأسا، وفيما إذا قال مثلا: أول رمضان أو آخره، هل يصح ويتعلق بأول جزء، وآخر جزء، أو لا يصح] ، لأن أول الشهر يعبر به عن النصف الأول، وكذا الآخر، وهو احتمال لصاحب التلخيص؟ على قولين في الجميع. انتهى. ثم ظاهر كلام الخرقي - وكذلك ابن أبي موسى وابن عبدوس - أن علم ذلك لا غير بالأهلة، بأن يجعل حلوله في أول جزء من رمضان، أو يوم عاشوراء، أو إلى شهر رجب، ونحو ذلك، لأن الله سبحانه وتعالى جعل التأقيت: بهن، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فعلى هذا لا يصح تأقيت بعيد من أعياد الكفار مطلقا، وقال القاضي وغيره: إن كان مما يتقدم ويتأخر - كعيد السعانين للنصارى، ونحو ذلك - لم يصح، وإلا صح، كالنيروز ونحوه.

(تنبيه) : يشترط للأجل شرط آخر، وهو أن يكون له وقع في الثمن، بحيث يختلف به السعر، ومثل ذلك أبو محمد في الكافي بالشهر، ونصفه، لا اليوم ونحوه، وكثير من الأصحاب يمثل بالشهر، والشهرين، فمن ثم قال بعضهم: أقله شهر. نعم يصح كما سيأتي إن شاء الله تعالى فيما يأخذ منه كل يوم قدرا معلوما، كالخبز، واللحم، ونحو ذلك، نص عليه، والله أعلم. قال: موجودا عند محله. ش: هذا (الشرط الخامس) وهو كون المسلم فيه عام الوجود في وقت حلوله غالبا، لوجوب تسليمه إذا، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، فإن الغالب عدم تسليمه، فلم يصح

بيعه، كالآبق ونحوه، وذلك كالسلم في العنب والرطب في الصيف، لا في الشتاء، لندرة وجودهما فيه، وفي معنى ذلك إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه، أو قرية صغيرة، ونحو ذلك لاحتمال جائحة ذلك، وقد حكى الجوزجاني الإجماع على كراهة ذلك، قال ابن المنذر: إن المنع منه كالإجماع، وقال أبو بكر في التنبيه: إن كان قد بلغ، وأمنت عليه الجائحة صح. قلت: وهو حسن إن لم يحصل إجماع، إذ الغالب له التسليم إذا، ثم حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم، أنه نهى عن السلم في النخل حتى يبدو صلاحه، يشهد لذلك. ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يشترط [وجوده حال العقد، وهو كذلك، وكذلك لا يشترط] عدمه، وهو الصحيح من الوجهين، حكاهما ابن عبدوس، والله أعلم. قال: ويقبض الثمن كاملا وقت السلم، قبل التفرق.

ش: هذا (الشرط السادس) وهو خاتمة الشروط عنده، وهو أن يقبض رأس مال السلم قبل التفرق عن مجلس العقد، حذارا من أن يصير بيع دين بدين. 2012 - فيدخل تحت النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، وقد استنبط ذلك الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف فليسلف» قال: أي فليعط. قال: لأنه لا يقع اسم السلف فيه حتى يعطيه ما سلفه فيه، قبل أن يفارق من سلفه. انتهى ولأنه لا يجوز شرط تأجيل العوض فيه، فلم يجز

التفرق فيه قبل القبض كالصرف، وإن قبض البعض ثم افترقا بطل فيما لم يقبض، وهل يبطل في المقبوض - وهو ظاهر كلام الخرقي، وأبي بكر في التنبيه، لقوله: إذا أسلفه دراهم، فخرج بعضها رديئا فالسلم كله باطل - أو لا يبطل وهو المشهور؟ فيه روايتا تفريق الصفقة، والله أعلم. (تنبيه) : المجلس هنا كمجلس الصرف، وكلاهما كمجلس الخيار، هذا مقتضى كلام الأصحاب، ووقع للقاضي في الجامع الصغير أنه إذا تأخر قبض رأس مال السلم اليومين والثلاثة، لم يصح العقد، والله أعلم. قال: ومتى عدم شيء من هذه الأوصاف بطل. ش: الإشارة إلى الأوصاف المتقدمة، وهذا هو شأن الشروط يعدم المشروط عند عدمها، أو عدم بعضها، ولو قال الخرقي: فسد العقد. كما قال في الصرف: ومتى افترق المتصارفان فسد العقد. لكان أولى، لئلا يوهم وجود عقد ثم بطلانه.

وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط غير ذلك، وقد تقدم أن في اشتراط عدم المسلم فيه حين العقد خلاف، وكذلك في اشتراط وصف رأس المال، والعلم بقدره إذا كان مشاهدا وجهان، (أحدهما) - وهو قول القاضي، وأبي الخطاب، وصاحب التلخيص، وغيرهم - اشتراطه، كما لو كان في الذمة، ولأنه عقد يتأخر تسليم المعقود عليه، فوجب معرفة رأس ماله، ليرد بدله، كالقرض والشركة، وعلى هذا لا يجوز أن يكون رأس المال جوهرا ونحوه، لعدم تأتي الصفة عليه (والثاني) - وإليه ميل أبي محمد - لا يشترط، كما في بيوع الأعيان، وكذلك في اشتراط ذكر مكان الإيفاء تردد، فالقاضي لا يشترطه مطلقا، ويقول - في مثل البرية ونحوها -: يوفي في أقرب الأماكن إلى مكان العقد، وابن أبي موسى، وصاحب التلخيص، يشترطانه في البرية ونحوها، واتفق الفريقان على عدم الاشتراط حيث أمكن الوفاء في محل العقد، نعم لو شرطه في غيره - والحال هذه - صح شرطه، على أصح الروايتين، ولم يصح في الأخرى، وبها قطع أبو بكر في التنبيه، والقاضي، وأبو الخطاب أطلقا الروايتين، فيشمل كلامهما ما إذا شرطاه في محل العقد أيضا وهو ضعيف، والله أعلم.

بيع المسلم فيه قبل قبضه

[بيع المسلم فيه قبل قبضه] قال: وبيع المسلم فيه من بائعه أو غيره قبل قبضه فاسد. ش: بيع المسلم فيه قبل قبضه - من بائعه مثل أن يسلم إليه في أردب قمح، فيأخذ عنه فولا، أو شعيرا أو دراهم، أو نحو ذلك - فاسد. 2013 - لما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أسلف في شيء فلا يصرفه إلى غيره» رواه أبو داود إلا أنه ضعيف، والمعتمد على نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح ما لم يضمن.

2014 - وقد سئل ابن عمر عن ذلك فقال: خذ رأس مالك ولا ترده في سلعة أخرى، رواه البيهقي في سننه، (وعنه) فيمن أسلم في بر، فعدمه عند المحل، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكانه جاز، ولم يجز أكثر من ذلك، وحمله أبو محمد على رواية أن البر والشعير جنس، ولكن بيعه من غير بائعه لا يصح، للنهي عن ربح ما لم يضمن، وبيع الطعام قبل قبضه، والله أعلم. قال: وكذلك الشركة فيه، والتولية، والحوالة به، طعاما كان أو غيره. ش: أي فاسد كالبيع، أما الشركة والتولية فلأنهما نوعان من أنواع البيع، فيثبت لهما حكمه، وأما الحوالة فلأنها إما بيع أو فيها شائبته، فلم تجز كالبيع، والحوالة تارة تقع عليه، كما إذا أحال المسلم بما عليه من قرض، أو بدل متلف، على المسلم إليه، وهنا قد حصل التصرف في المسلم فيه قبل قبضه، أشبه بيعه، ثم الحوالة وقعت على غير مستقر، وتارة تقع به، كأن يحيل المسلم إليه، بما عليه من السلم، على

من له عليه مثله، من قرض، أو بدل متلف، وهذه صورة الخرقي، وهنا لا يظهر لي وجه المنع، والله أعلم. قال: وإذا أسلم في جنسين ثمنا واحدا، لم يجز حتى يبين ثمن كل جنس. ش: مثل أن يسلم دينارا مثلا في أردب قمح، وأردب فول، فلا يصح حتى يبين قسط كل واحد منهما من الدينار، كأن يقول مثلا: ثلثه عن الفول، وثلثاه عن الشعير، وهذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، إذ لا يؤمن الفسخ بتعذر أحدهما، فلا يعرف ما يرجع به، فيفضي إلى التنازع المطلوب عدمه (والرواية الثانية) يجوز وإن لم يبين قسط ما لكل منهما كبيوع الأعيان، ولهذه المسألة التفات إلى معرفة رأس مال السلم وصفته، ولعل الوجهين ثم من الروايتين هنا، وأبو محمد لما لم يطلع على الرواية الثانية خرج هنا وجها من الوجه [ثم] ، إن ابن أبي موسى، وأبا بكر وغيرهما [منعوا] من ذلك إذا أسلم في خمسة دنانير، وخمسين درهما، في أردب حنطة، فقالوا: لا يجوز حتى يبين حصة ما لكل واحد منهما [من الثمن، وخالف أبو محمد فقال بالجواز هنا، وهو

الصواب، إذ بتعذر المسلم فيه يرجع] بقسطه منهما، والله أعلم. قال: وإذا أسلم في شيء واحد، على أن يقبضه في أوقات متفرقة أجزاء معلومة فجائز. ش: مثل أن يسلم إليه عشرة دراهم في قنطار خبز، يأخذ منه كل يوم عشرة أرطال، أو في عشرين رطل لحم، يأخذ كل يوم رطلين، ونحو ذلك، لحصول الرفق الذي لأجله شرع السلم، والله أعلم. قال: وإذا لم يكن السلم كالحديد، والرصاص، وما لا يفسد، ولا يختلف قديمه وحديثه، لم يكن عليه قبضه قبل محله. ش: السلم أي المسلم فيه، تسمية للمفعول بالمصدر، كتسمية المرهون رهنا، والمسروق سرقة، ونحو ذلك، ولا يخلو المسلم فيه إما أن يؤتى به في وقته، أو بعده، أو قبله،

فإن أتي به في وقته [أو بعده لزم قبوله، وإن تضرر المسلم بذلك، وإن أتي به قبل وقته] فإن كان في قبضه ضرر ولو مآلا - لكونه مما يتغير، كالفاكهة ونحوها، أو لكون قديمه دون حديثه كالحبوب، أو كان مما يتغير قبل الوقت المشترط، أو لكونه مما يحتاج في حفظه إلى مئونة كالحيوان ونحوه، أو كان مما يخاف عليه إذا من ظالم، ونحو ذلك - لم يلزم المسلم قبوله، لأن عليه في ذلك ضررا، وإنه منفي شرعا، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» وإن كان مما لا ضرر في قبضه - كالحديد، والرصاص، إذ لا فرق بين قديمه وحديثه، وكان الوقت آمنا، ولا مئونة لحفظه - لزمه قبوله، لأن غرضه حاصل مع زيادة منفعة لا ضرر عليه فيها، فأشبه زيادة الصفة على المذهب، وهذا كله إذا أتى به على صفته، فإن أتى به على غير صفته فإن كان دونها جاز قبوله مع اتحاد الجنس، ولم يلزم، وإن كان فوقها واختلف الجنس لم يجز كما تقدم، وإن اتحد الجنس والنوع لزم القبول على المذهب بلا ريب، وقيل: لا يلزم بل يجوز، وقيل: لا يجوز، [وعلى المذهب فإن اختلف النوع فهل يلزم القبول، وهو قول القاضي والمجد، أو لا يلزم، وهو

قول أبي محمد، أو لا يجوز] ويحكى رواية؟ على ثلاثة أقوال، والله أعلم. قال: ولا يجوز أن يأخذ رهنا ولا كفيلا من المسلم إليه. ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر في التنبيه، وابن عبدوس، إذ وضع الرهن الاستيفاء من ثمنه، عند تعذر الاستيفاء من ذمة الغريم، والمسلم فيه لا يمكن استيفاؤه من ثمن الرهن، ولا من ذمة الضامن، حذارا من أن يصرفه إلى غيره، وإنه منهي عنه، وفيه نظر، لأن الضمير في «لا يصرفه» راجع للمسلم فيه، وإذا يشتري ذلك من ثمن الرهن ويدفع ولا محذور، وكذلك يشتريه الضامن ويسلمه، وإذا لم يصرف إلى غيره (والثانية) - وهي الصواب إن شاء الله تعالى، واختيار أبي محمد، وحكاها القاضي في روايتيه عن أبي بكر -: يجوز ذلك، لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} [البقرة: 282]

إلى قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وقد شهد ترجمان القرآن أن السلم مراد منها وداخل فيها، فهي كالنص فيه، والكفيل كالرهن بجامع التوثقة. 2015 - ومن ثم روى البيهقي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنه كان لا يرى بأسا بالرهن والقبيل في السلم، وروى نحو ذلك عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. 2016 - وحكاية أبي محمد الكراهة عنهما في الرهن والكفيل، يحتمل أنه رواية أخرى عنهما.

2017 - وقد استدل على ذلك أيضا بما في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى من يهودي طعاما، ورهنه درعا من حديد» ، وليس بالبين، ومقتضى كلام الأصحاب أنا إذا منعنا أخذ الرهن لم يجز وإن تراضيا بذلك، وأنا إن جوزناه كان كبقية الرهون، يلزم بالقبض، أو بمجرد العقد إن لم يكن معينا على رواية، وإذا لم يلزم، ولم يقبض فللمسلم الفسخ، وقال ابن عبدوس: ليس للمسلم طلب رهن، فإن شرطاه لم يلزم المسلم إليه الدفع إلا أن يشاء، والله أعلم.

كتاب الرهن

[كتاب الرهن] ش: الرهن في اللغة الثبوت والدوام، يقال: ماء راهن. أي راكد، ونعمة راهنة، أي ثابتة دائمة، وقيل: هو مأخوذ من الحبس، ومنه قوله سبحانه: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] أي حبيس بمعنى محبوس، وهو قريب من الأول، لأن المحبوس ثابت في مكانه لا يزايله، وهو في اصطلاح الفقهاء: توثقة دين بعين - أو بدين على قول - يمكن أخذه من ذلك، إن تعذر الوفاء من غيره، وهو جائز بالإجماع، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . 2018 - وفي الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشترى من يهودي طعاما، ورهنه درعا من حديد» . 2019 - وفي البخاري «عن عائشة: توفي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير» ، والله أعلم.

اشتراط القبض لصحة الرهن

[اشتراط القبض لصحة الرهن] قال: ولا يصح الرهن إلا أن يكون مقبوضا. ش: ظاهر كلام الخرقي، وابن أبي موسى، وابن عقيل في التذكرة، والقاضي في الجامع الصغير، وابن عبدوس أن القبض شرط في صحة الرهن، والمعروف عند الأصحاب أنه إنما هو شرط للزومه، وعلى ذلك حمل القاضي - فيما أظن - وابن الزاغوني وأبو محمد - كلامه، وكذلك قال في الهبة أيضا: إن القبض شرط لصحتها، وهو مقتضى كلام طائفة ثم، وقد جعل القاضي في التعليق القبض في الرهن آكد منه في الهبة، معللا بأن استدامة القبض في الرهن شرط فيه، بخلاف الهبة، وبأن القصد التوثقة، ولا تحصل إلا بالقبض، بخلاف الهبة، إذ القصد منها الملك، قال: وهو يحصل وإن لم تقبض. إذا عرف هذا فجعل القبض شرطا للصحة أو للزوم إنما هو في غير المعين المفرز، كقفيز من صبرة، ورطل من

من يصح منه الرهن

زبرة، ونحوهما، أما المعين كالعبد والدار ونحوهما، والمشاع المعلوم بالنسبة من معين، فهل حكمه حكم ما تقدم، يشترط لصحته أو للزومه القبض؟ وهو مقتضى كلام الخرقي، وأبي بكر في التنبيه، وابن أبي موسى، ونصبها أبو الخطاب والشريف وقال في الكافي: إنه المذهب لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وصفها سبحانه بكونها مقبوضة، ولأنه عقد إرفاق أشبه القرض، أو لا يشترط له ذلك، بل يلزم بمجرد العقد وقال في التلخيص: إنه الأشهر، قياسا على البيع؟ على روايتين. (تنبيه) : حيث اعتبر اللزوم فذلك في حق الراهن، إذ لا لزوم في حق المرتهن، والله أعلم. [من يصح منه الرهن] قال: من جائز الأمر.

ش: الجار والمجرور في موضع الحال، أي لا يصح الرهن إلا مقبوضا في حال كونه من جائز الأمر، وصاحب الحال محذوف دل عليه السياق، وتقديره: من مقبض جائز الأمر، وهو المكلف، الرشيد، المختار، فلو رهن وهو كذلك فحجر عليه لجنون، أو سفه، أو فلس لم يصح تقبيضه، بل ويبطل إذنه في القبض إن كان قد أذن، لأنه نوع تصرف، وتصرف هؤلاء غير صحيح، وكذلك إن أغمي عليه، نعم يقوم ولي المجنون والسفيه مقامه في ذلك، وفي المفلس يعتبر إذن الغرماء في القبض، ولو رهن وهو مختار، ثم أكره على القبض لم يصح ذلك، ويستفاد مما تقدم أنه إذا لم يصح التقبيض من هؤلاء - وإن كان قد وجد الرهن - فلأن لا يصح عقد الرهن بطريق الأولى، والله أعلم. قال: والقبض فيه من وجهين، فإن كان مما ينقل فقبض المرتهن له أخذه إياه من راهنه منقولا، وإن كان مما لا ينقل - كالدور، والأرضين - فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه، لا حائل دونه.

ش: قبض كل شيء بحسبه، على ما جرت العادة فيه، على المشهور والمختار من الروايتين، فقبض ما ينقل - كالصبر ونحوها - بالنقل. 2020 - «قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافا، فنهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نبيعه حتى ننقله من مكانه» . متفق عليه، والنهي عن ذلك لعدم قبضه. 2021 - لأن في البخاري عنه أيضا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه» وفي لفظ «حتى يستوفيه» وقبض ما يكال، أو يوزن، أو يعد، أو يذرع، بكيله أو وزنه أو عدده أو ذرعه، نظرا للعرف في ذلك، ولما تقدم. 2022 - وعن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا اشتريت فاكتل، وإذا بعت فكل» رواه أحمد والبيهقي، وللبخاري منه كلام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير إسناد، وفي رواية للبيهقي «إذا ابتعت كيلا فاكتل، وإذا بعت كيلا فكل» .

2023 - «وعن حكيم بن حزام، وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما كانا يجلبان الطعام من أرض قينقاع إلى المدينة، فيبيعانه بكيله، فأتى عليهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ما هذا؟» قالا: جلبناه من أرض كذا وكذا، ونبيعه بكيله، قال: «لا تفعلا ذلك، إذا اشتريتما طعاما فاستوفياه، فإذا بعتماه فكيلاه» رواه البيهقي في سننه، ولا يشترط مع ذلك نقله على المذهب، لظاهر ما تقدم، وفيه احتمال، وشرط الاعتداد بكيل ذلك أو وزنه ونحوهما حضور المشتري أو وكيله، فلو كيل أو وزن بغير حضوره لم يكن قبضا إلا أن يشتري منه مكيلا بعينه، ويدفع إليه ظرفا ويقول: كله لي. فيفعل، فإنه يصير مقبوضا، قال صاحب التلخيص: وفيه نظر

إذ الفرق بين كيله في ظرف أو غير ظرف بعيد جدا. وهل يكتفي بعلم كيل ذلك أو وزنه [ونحو ذلك] عن الكيل والوزن ونحوهما؟ نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المكيل على روايتين، كما إذا اشترى مكيلا قد شاهد كيله قبل البيع، ولم يغب عنه، (إحداهما) لا يكتفي بذلك، ولا يكون قبضا صحيحا، وهي اختيار أبي بكر، والقاضي. 2024 - لما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، صاع البائع، وصاع المشتري» ، رواه ابن ماجه، والبيهقي. واحتج به أحمد في رواية ابن إبراهيم. 2025 - ورواه البيهقي من رواية أبي هريرة أيضا، وزاد «فيكون للبائع الزيادة، وعليه النقصان» (والثانية) يكتفي بذلك، قبضا صحيحا، إذ المقصود معرفة المقدار وقد حصل، وعلى هذا للمشتري التصرف فيه بذلك، وليس له

مطالبة البائع بكيل، وإن ادعى نقصانه لم يقبل منه، وعلى الأول تنعكس هذه الأحكام، وظاهر كلام المجد، وغيره الاكتفاء بعلم ذلك في غير المكيل، وصاحب التلخيص أجرى ذلك في الوزن أيضا فقال فيما اشتري بكيل أو وزن، وقبض بمعياره، ثم بيع من بائعه، أن فيه الروايتين. (تنبيه) : فإن كان المبيع في الكيل، وعقد البيع الثاني، ففرغه المشتري الثاني، صح القبض، وأغنى عن الاستئناف، انتهى. وقبض ما يتناول - كالجواهر، والأثمان، ونحوهما - بالتناول، إذ العرف فيها ذلك، وقبض الحيوان بمشيه من مكانه. وما عدا ذلك - كالدور، والعقار، والثمرة على الشجرة، ونحو ذلك - بالتخلية بينه وبين مرتهنه، من غير حائل بينهما، بأن يفتح له باب الدار، أو يسلم إليه مفتاحها، ونحو ذلك، وإن كان فيها متاع للراهن، وعن أحمد رواية أخرى أن قبض جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز، قياسا على العقار ونحوه. ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لم يجعل للقبض إلا وجهين فقط، النقل، والتخلية، فقد يقال في الجواهر

ونحوها: إن تناولها نقل لها، لأنها انتقلت من يد البائع إلى يد المشتري، وكيل المكيل ونحوه نقله من محله إلى محل آخر، وخلاصته أن صفات النقل تختلف، وأحال الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بيانها على موقف، ثم إنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض لصفة القبض فيما يعتبر له القبض في البيع، فليعتمد هنا. وقوله: أخذ من راهنه. إشارة إلى أنه لا بد في القبض من التسليم من الراهن، أو ما يقوم مقامه، وهو إذنه في ذلك، أما إن لم يوجد واحد منهما فإن وجود ذلك كعدمه، على المعروف المجزوم به، وفي التلخيص في الهبة حكاية رواية بصحة قبض ما قبضه المتهب بدون إذن الواهب، فيخرج هنا كذلك، ولا معرج على ذلك، أما على المذهب فلو كان الرهن في يد المرتهن، بإعارة، أو وديعة، ونحو ذلك، ففي اشتراط إذنه له في القبض روايتان، وقيل: وجهان، فإن اشترط فلا بد من مضي زمن يتأتى القبض فيه، فإذا كان المرهون حاضرا بين يدي الراهن، اكتفي بمضي مدة يتأتى قبض ذلك فيها، فاكتياله

أو وزنه، أو نقله حسب ما هو، وإن كان في بيته، أو دكانه، ونحو ذلك، فلا بد من أن يمضي إليه، ويشاهد المرهون، ليتحقق التمكين، ثم بعد ذلك تمضي مدة يمكن القبض فيها على ما ذكر، وإن لم يشترط الإذن ففي اعتبار مضي زمن يتأتى القبض فيه وجهان، والله أعلم. قال: وإذا قبض الرهن من تشارطا أن يكون الرهن على يده صار مقبوضا. ش: تصح النيابة في قبض الرهن، لأنه قبض في عقد، فجاز التوكيل فيه كسائر القبوض، فعلى هذا إذا اتفق الراهن والمرتهن حال العقد أو بعده على جعل الرهن في يد إنسان صح، وصار مقبوضا للمرتهن، قاله في المغني، وفيه تساهل، لأنه يوهم أن له أخذه منه، وليس كذلك كما سيأتي. ثم قول الخرقي: من. يشمل المسلم والكافر، والعدل والفاسق، والذكر والأنثى، والحر والعبد، وغيرهم، وهو كذلك، إلا أنه لا بد أن يقيد بكونه جائز

التبرع، ليخرج الصبي، والمجنون، والعبد بغير إذن سيده، والمكاتب بلا جعل، أما إن أذن السيد، أو جعل للمكاتب جعل، فإنه يجوز، لزوال المانع، وانتفاء التبرع (ويشمل) أيضا الاثنين، والجماعة، وهو كذلك، وليس لواحد منهم الانفراد بحفظه. وقوله: من تشارطا قوته تقتضي أن يكون غيرهما، فلو استناب المرتهن الراهن في القبض لم يصح، قاله في التلخيص، وعبد الراهن القن، وأم ولده، ومستولدته كهو، نعم يجوز استنابة مكاتبه، وكذلك عبده المأذون له في أصح الوجهين، وفي الآخر لا يجوز إلا أن يكون عليه دين. وقوله: صار مقبوضا. يقتضي أنه ليس لواحد منهما نقله عن من جعل على يده، وهو كذلك، كما لو كان بيده المرتهن، نعم إن اتفقا على ذلك جاز، وكذلك إن تغيرت

حال المجعول على يده، كأن كان عدلا ففسق ونحوه، كان لكل منهما طلب التحويل إلى آخر، ثم إن اتفقا عليه وإلا جعله الحاكم عند عدل، وكذا لو تغيرت حال المرتهن، فللراهن رفع الأمر إلى الحاكم، ليضعه على يد عدل، والله أعلم. قال: ولا يرهن مال من أوصي إليه بحفظ ماله إلا من ثقة. ش: لأن ولي اليتيم إنما يتصرف بالأحسن، قال سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] والأحسن بل الحسن أن لا يرهن مال اليتيم إلا عند ثقة، إذ الرهن أمانة، وغير الثقة لا يؤتمن، ولا بد أن يكون الحظ لليتيم في الرهن، كأن يحتاج إلى نفقة على نفسه، أو عقاره المتهدم، ونحو ذلك، وله مال ينتظر وروده، فالأحظ إذا في الاقتراض، ورهن بعض أصول ماله، أما إن لم يكن له مال ينتظر، فلا حظ في الاقتراض، وإذا يبيع بعض أصول

ماله، فإن لم يجد من يقرضه، ووجد من يبيعه نساء، وكان أحظ من بيع ماله، جاز الشراء نساء، ورهن شيء من ماله، قاله في المغني، وظاهره أنه لا ينتقل إلى الشراء نسيئة إلا عند عدم من يقرضه، والذي ينبغي مراعاة الأصلح لليتيم. انتهى. وحكم الحاكم وأمينه حكم الوصي في ذلك، وكذلك الأب بطريق الأولى، ومن ثم له أن يرتهن من نفسه، بخلاف غيره على المحقق، وفي المغني حكاية رواية بجواز ذلك لغيره، وفيها نظر، إذ أصل ذلك - والله أعلم - البيع، ولا يعرف فيه رواية مطلقة بالجواز، والله أعلم. قال: وإذا قضاه بعض الحق كان الرهن بحاله على ما بقي. ش: العين المرهونة رهن بجميع الدين، وبكل [جزء] من أجزائه، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على نحو ذلك، والله أعلم.

قال: وإذا أعتق الراهن عبده المرهون فقد صار حرا. ش: هذا هو المشهور والمختار من الروايات للأكثرين، لأنه عتق من مالك. 2026 - فشمله مفهوم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا عتق فيما لا يملك ابن آدم» . وفارق غيره من التصرفات، لتشوف الشارع إليه، ومن ثم نفذ في ملك الغير، وفي المبيع قبل القبض، وفي الآبق، والمبهم، ونحو ذلك، (والثانية) واختارها الشيرازي: لا ينفذ مطلقا، حذارا من إبطال حق المرتهن من الوثيقة، وأنه لا يجوز، كما لا يجوز بيعه، وهبته، ونحوهما، (والثالثة) ينفذ عتق الموسر لا المعسر، تخريجا على المفلس، إذ الموسر لا ضرر على المرتهن في عتقه،

لإمكان أخذ القيمة منه، بخلاف المعسر، وهذا كله في نفوذ العتق، أما الإقدام عليه فإنه لا يجوز، لما فيه من إدخال الضرر على المرتهن، بإبطال حقه من الوثيقة، نعم إن أذن المرتهن في العتق جاز، ونفذ بلا ريب، لزوال المانع، والله أعلم. قال: ويؤخذ إن كان له مال بقيمة المعتق فيكون رهنا. ش: إذا قلنا بنفوذ العتق نظرنا في الراهن، فإن كان له مال أخذت منه قيمة المعتق، لتفويته إياه على المرتهن، فتجعل رهنا، لأنها بدل المرهون والحال هذه، وبدل الشيء يقوم مقامه، وخير أبو بكر في التنبيه المرتهن بين الرجوع بقيمة العبد، أو بعبد مثله، وإن لم يكن له مال بأن كان معسرا، بقيت القيمة في ذمته إلى حين يساره، ولا يستسعى العتيق، فإن أيسر قبل حلول الحق أخذت منه كما تقدم، وإن أيسر بعده فلا فائدة في جعل القيمة رهنا، ويؤمر بالوفاء، وتعتبر القيمة حين العتق، لأنه وقت التلف، وإن لم نقل بالنفوذ، فظاهر كلام الأصحاب أنه لا ينفذ بعد زوال الرهن، ولابن حمدان احتمال بالنفوذ إذا، هذا كله إذا لم يأذن المرتهن، أما إن أذن في العتق فإن حقه يبطل من الوثيقة، ولا قيمة له، والله أعلم.

قال: وإن كانت جارية فأولدها الراهن خرجت أيضا من الرهن. ش: لأن الإيلاد إتلاف معنوي، فنزل منزلة الإتلاف الحسي، وعامة الأصحاب يجزمون هنا بذلك، بخلاف العتق، لأن الفعل أقوى من القول، بدليل نفوذ إيلاد المجنون، دون عتقه، وظاهر كلامه في التلخيص إجراء الخلاف فيه، فإنه قال: والاستيلاد مرتب على العتق، وأولى بالنفوذ، لأنه فعل، والله أعلم. قال: وأخذ منه قيمتها تكون رهنا. ش: أي إذا كان له مال، وإلا بقيت القيمة في ذمته إلى يسرته، على ما تقدم في العتق، والاعتبار في القيمة بيوم الإحبال، قاله في الرعاية، ولا بد أن يلحظ أيضا أن المرتهن لم يأذن في الوطء، قال في التلخيص: وصدقه المرتهن أنها

جناية العبد المرهون

ولدته من وطئه، أما إن أذن المرتهن في الوطء وحملت، فإن الرهن يبطل، ولا قيمة للمرتهن، بشرط أن يصدقه أن الراهن وطئ، وأنها ولدته لمدة يمكن أن يكون من ذلك الوطء، أما إن صدقه في الإذن، وكذبه في أنه وطئ، أو أنها ولدته أو في المدة، فالقول قوله، والرهن بحاله، لأن الأصل معه، والله أعلم. [جناية العبد المرهون] قال: وإذا جنى العبد المرهون، فالمجني عليه أحق برقبته من مرتهنه، حتى يستوفى حقه. فإن اختار سيده أن يفديه وفعل فهو رهن بحاله. ش: مراد الخرقي - والله أعلم - إذا جنى المرهون على أجنبي، لا على السيد، ولا على عبد السيد، ولا موروثه، إذ بيان ذلك يحتاج إلى بسط وتطويل، لا يليق بمختصره، ولا بهذه التعليق، وجناية العبد على الأجنبي، أو على ماله، تتعلق برقبة العبد. 2027 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» فإن كان مرهونا قدم حق المجني عليه، على حق المرتهن، لأن حقه

ثبت بطريق الاختيار، وحق المجني عليه ثبت لا بطريق الاختيار، فكان أقوى، ثم حق المرتهن يرجع إلى بدل وهو الذمة، فلا يفوت بخلاف حق المجني عليه، فإنه يفوت بفوات العين، ويتفرع على هذا أن المجني عليه أحق برقبة العبد من المرتهن، حتى يستوفي حقه، فإن كانت الجناية موجبة للقصاص فللمجني عليه ذلك، فإن فعل - والجناية على النفس - بطل الرهن، وإن كانت على الطرف فالرهن بحاله، لوجود سببه، وزوال ما يقتضي التقديم، وكذلك إن عفا مجانا، وإن عفا على مال، أو كانت الجناية ابتداء موجبة للمال، فالسيد يخير بين فدائه أو بيعه في الجناية، على إحدى الروايات (والثانية) يخير بين الفداء أو دفعه بالجناية، (والثالثة) : يخير بين الثلاثة، فإن اختار البيع والجناية

مستغرقة لقيمته، بيع فيها وبطل الرهن، وإن لم تستغرق قيمته، فهل يباع جميعه، دفعا لضرر الشريك؟ وإذا يكون باقي ثمنه رهنا، أو لا يباع منه إلا قدر الجناية، ويكون باقيه رهنا، لسلامته من معارض؟ فيه وجهان، فإن اختار السيد فداءه، قبل منه فداؤه بالأقل من قيمته أو أرش جنايته، على المشهور من الروايتين (والثانية) لا يقبل منه إذا اختار الفداء إلا أرش الجناية كاملة، فإذا فداه فهو رهن بحاله، لزوال ما تعلق به، وإن أراد السيد الدفع في الجناية، واختار المرتهن فداءه فله ذلك، ثم بكم يفديه؟ فيه الروايتان المتقدمتان، وإذا فداه وهو متبرع لم يرجع، وبإذن الراهن يرجع، وبغير إذنه فيه الوجهان في من أدى عن غيره واجبا بغير إذنه، والمشهور ثم الرجوع، وبه قطع القاضي، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وغيرهم هنا، وقيل: لا يرجع هنا، وإن رجع ثم، وهو اختيار أبي البركات، لعدم تحتم الفداء على السيد. (تنبيه) : إذا شرط المرتهن جعله رهنا بالفداء مع الدين الأول صح، قاله القاضي، لأن الرهن مع الجناية صيرته بمنزلة الجائز، وقيل: لا يصح، لأن رهن المرهون لا يصح، والله أعلم.

قال: وإذا جرح العبد المرهون أو قتل فالخصم في ذلك سيده. ش: لأنه مالكه ومالك بدله، والمرتهن إنما يملك حبسه، فهو كالمستأجر، نعم إن ترك السيد المطالبة لعذر أو غيره، فللمرتهن المطالبة، لأن حقه يتعلق بموجب الجناية، قاله القاضي، وغير واحد من أصحابه، وفرقوا بينه وبين المودع، على المشهور عندهم، بأن ثم مجرد حفظ وائتمان، بخلاف الرهن والإجارة، فإن له فيها حق الوثيقة والمنفعة، والله أعلم. قال: وما قبض بسبب ذلك من شيء فهو رهن. ش: قد تقدم أن العبد المرهون إذا قتل أو جرح أن الخصم في ذلك هو السيد، إلا أنه - على ما قال صاحب التلخيص وغيره - ليس له القصاص إلا أن يأذن الراهن، قال في التلخيص: أو إعطائه قيمة العبد، وجعل ابن حمدان ذلك قولا، فإن اقتص كذلك فلا شيء عليه، وإلا فعليه، أقل الأمرين، من قيمة العبد المرهون، أو قيمة الجاني إن كانت [الجناية على النفس، أو أقل الأمرين من أرش

الجرح، أو قيمة الجاني، إن كانت] على ما دونها، بجعل ذلك رهنا، لتفويته ذلك - باقتصاصه - على المرتهن، أشبه ما لو كانت الجناية موجبة للمال، هذا هو المشهور عند الأصحاب، والمنصوص عن أحمد. وعن القاضي - وبه قطع ابن الزاغوني في الوجيز، واختاره المجد - لا شيء عليه، لأن الجناية لا توجب مالا، وإن لم يقتص السيد، بل عفا إلى مال، أو مطلقا - وقيل: الواجب أحد شيئين - أو كانت الجناية موجبة للمال ابتداء، ثبت المال، وأخذ فجعل رهنا مكان العبد، لأنه بدله فقام مقامه، وإن عفا إلى غير مال، وقلنا: الواجب القصاص عينا، أو مطلقا، وقلنا كذلك، كان كما لو اقتص، فيه القولان السابقان، قاله أبو محمد، وصحح صاحب التلخيص أنه لا شيء على السيد هنا، مع قطعه ثم بالوجوب كما هو المنصوص، وإن عفا عن المال بعد ثبوته، أو إلى غير مال، وقلنا: الواجب أحد شيئين، فهل يصح عفوه، ويؤخذ منه أرش الجناية، فيجعل رهنا؟ وهو قول أبي الخطاب وصاحب التلخيص، أو لا يصح، ويؤخذ الأرش من قبل الجاني؟ وهو اختيار أبي محمد، أو يصح

بالنسبة إلى الراهن دون المرتهن، فيؤخذ الأرش فيجعل رهنا، فإذا انفك الرهن رد الأرش إلى الجاني؟ وهو قول القاضي، على ثلاثة أقوال، وعلى الثالث لو استوفي الدين من الأرش فهل يرجع الجاني على العافي أم لا؟ فيه احتمالان، والله أعلم. قال: وإن اشترى منه سلعة على أن يرهنه بها شيئا من ماله يعرفانه، أو على أن يعطيه بالثمن حميلا يعرفانه، فالبيع جائز، فإن أبى تسليم الرهن أو أبى الحميل أن يتحمل، فالبائع مخير في فسخ البيع، وفي إقامته بلا رهن ولا ضمين. ش: الحميل الضمين فعيل بمعنى فاعل، يقال: ضمين، وحميل، وكفيل، وزعيم، وقبيل، وصبير، بمعنى، فإذا اشترى شيئا وشرط للبائع رهنا أو ضمينا على الثمن، صح البيع والشرط، لأنه شرط واحد، من مصلحة العقد، لما تقدم في قوله: والبيع لا يبطله شرط واحد، ويشترط في الرهن والضمين أن يكونا معينين، فلا يصح اشتراط

أحد هذين العبدين، كما لا يصح بيع أحدهما، ولا ضمان أحد هذين الرجلين، لأن الغرض يختلف، وإذا صح الشرط فإن حصل الوفاء به فلا كلام، وإن لم يحصل الوفاء به - بأن امتنع من عين للضمان منه - إذ هو التزام، فلا يلزمه بدون رضاه، كبقية الالتزامات - أو امتنع المشتري من تسليم الرهن، لأن الشرط لا يوجب عليه ذلك - فإن البائع يخير بين فسخ العقد، لفوات الشرط عليه، وبين إمضائه بلا رهن ولا كفيل، ثم هل له الأرش إذا إلحاقا له بالعيوب، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، ويحكى عن ابن عقيل في العمد، أو لا أرش له، إلحاقا له بالتدليس، وهو ظاهر كلام الخرقي، والقاضي، وأبي الخطاب، وصاحب التلخيص فيه، والسامري، وأبي محمد؟ على

الانتفاع بالمرهون

قولين، واتفق الفريقان على وجوب الأرش عند تعذر الرد، على مقتضى قول المجد، والله أعلم. [الانتفاع بالمرهون] قال: ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء إلا ما كان مركوبا أو محلوبا، فيركب ويحلب بقدر العلف. ش: نماء الرهن ملك للراهن، إذ النماء تابع للملك. 2028 - وعن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه، وعليه غرمه» رواه الشافعي والدارقطني وحسن إسناده، وروي مرسلا عن سعيد، وناهيك بمراسيله،

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: غنمه زيادته، وغرمه هلاكه ونقصه، انتهى، وإذا كان النماء للراهن فلا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء، لا من الأصل، ولا من النماء. 2029 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» نعم إن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع، ولم يكن الدين عن قرض جاز لوجود طيب النفس. 2030 - وإن كان الدين عن قرض لم يجز، حذارا من «قرض جر منفعة» .

وهل يستثنى مما تقدم إذا كان الرهن مركوبا أو محلوبا أو لا؟ فيه روايتان (إحداهما) لا، فلا ينتفع المرتهن من ذلك بشيء إلا بإذن مالكه، كما تقدم للحديث. 2031 - وعن إبراهيم النخعي - وذكر له قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن محلوب ومركوب» - فقال: إن كانوا ليكرهون أن يستمتعوا من الرهن بشيء. رواه البيهقي. (والثانية) : - وهي المشهورة، والمعمول عليها في المذهب - للمرتهن أن يركب ما يركب، ويحلب ما يحلب، بمقدار العلف، متحريا للعدل في ذلك. 2032 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول لله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب

بنفقته إذا كان محلوبا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه الجماعة إلا مسلما والنسائي، وقول الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يشبه قول أبي هريرة أن من رهن ذات ظهر ودر لم يمنع الراهن ظهرها ودرها، لأن له رقبتها. 2033 - يرده ما في المسند «إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها، ولبن الدر يشرب، وعلى الذي يشرب نفقته» فجعل المنفق هو المرتهن، فيكون هو المنتفع، ثم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الظهر يركب بنفقته» أي بسبب نفقته، وهو إشارة إلى أن الانتفاع عوض النفقة، وذلك إنما يتأتى في المرتهن، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه ليسا بسبب المعاوضة، وإنما ذلك بسبب الملك، ولأن ذلك محض مصلحة، من غير مفسدة، ومبنى الشرع على ذلك، وبيانه أن منفعة الركوب لو تركت لذهبت مجانا، وكذلك اللبن لو ترك لفسد، وبيعه أولا

فأولا ربما تعذر، ثم هذا الحيوان لا بد له من نفقة، فأخذها من مالكه ربما أضر به، وربما تعذر أخذها منه، فإن بيع بعض الرهن فيها فقد يفوت الرهن بالكلية، فجوز الشارع للمرتهن الإنفاق والاستيفاء بقدره، إذ لا حرج عليه في ذلك، بل فيه دفع الحرج عنه، وحفظ الرهن، وإذا تحصل المصلحة من الطرفين. انتهى. ويدخل في المحلوب إذا كانت أمة مرضعة، فإن للمرتهن أن يسترضعها بقدر نفقتها، كما أشار إليه أبو بكر في التنبيه، ونص عليه ابن حمدان، وهل يلحق بالمركوب والمحلوب ما يخدم من عبد أو أمة؟ فيه روايتان (أشهرهما) لا، قصرا للنص على مورده، كما أشار إليه الإمام في رواية الأثرم، إذ الأصل المنع مطلقا. 2034 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» خرج منه ما تقدم (والثانية) نعم، قياسا على ما تقدم، لفهم العلة وهو ذهاب المنفعة. إذا عرف هذا فشرط الاستيفاء أن يكون بقدر العلف، مع تحري العدل، ولا ينهك ولا يعجف بالركوب والحلاب، حذارا من الضرر المنفي شرعا، ثم إن فضل من اللبن شيء عن النفقة ولم يمكن بقاؤه إلى وقت حلول الدين، فإن المرتهن يبيعه إن أذن له في ذلك، أو الحاكم إن لم يؤذن

له، ويجعل ثمنه رهنا، وإن فضل من النفقة شيء رجع به على الراهن، قاله أبو بكر، وابن أبي موسى، وغيرهما، وظاهر كلامهم الرجوع هنا، وإن لم يرجع إذا أنفق على الرهن في غير هذه الصورة، لكن ينبغي إذا أنفق متطوعا أنه لا يرجع بلا ريب. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط لجواز الإنفاق والاستيفاء - فيما تقدم - تعذر النفقة من المالك بامتناعه أو غيبته، وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية، وأبي البركات، وطائفة، وصرح به أبو محمد في المغني، نظرا لإطلاق الحديث، وشرط أبو بكر في التنبيه امتناع الراهن من النفقة، والقاضي في الجامع الصغير، وأبو الخطاب في خلافه وصاحب التلخيص وغيرهم غيبة الراهن، وابن عقيل في التذكرة إذا لم يترك له راهنه نفقة، وينبغي أن يكون هذا محل وفاق. (تنبيه) : قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» في رواية «من صاحبه» الحديث أي لا يستحقه المرتهن، يقال: غلق الرهن إذا لم يوف الراهن الحق، فاستحق المرتهن الرهن، قال زهير:

وفارقتك برهن لا فكاك له ... يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الرهن لا يغلق، وقد جاء ذلك صريحا في حديث مرسل. 2035 - فروى البيهقي في سننه بسنده إلى معاوية بن عبد الله بن جعفر، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن» وإن رجلا رهن دارا بالمدينة إلى أجل، فلما جاء الأجل قال الذي ارتهن: هي لي. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يغلق الرهن» انتهى. 2036 - وقال معمر: قلت للزهري: يا أبا بكر قوله: «الرهن لا يغلق» قال: يقول: إن لم آتك إلى كذا وكذا فهو لك. والله أعلم. - قال: وغلة الدار وخدمة العبد، وحمل الشاة وغيرها، وثمرة الشجرة المرهونة من الرهن.

ش: نماء الرهن كأجرة الدار والعبد، وما يكتسبه باصطياد ونحوه وثمرة الشجرة وولد الأمة ونحو ذلك تبع للرهن، فيكون مرهونا كالأصل، لأنه حكم ثبت في العين بعقد المالك، فدخل فيه النماء والمنافع كالملك، ولا يرد قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: له غنمه لأنا نقول بموجبه، وأن الغنم مال للراهن، ولا يمنع ذلك من تعلق حق المرتهن به كالأصل. ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز إجارة المرهون في الجملة، مع بقائه على الرهنية واللزوم، لقوله: وغلة الدار. ولا غلة للدار إلا بالإجارة، وهذا اختيار أبي محمد، وإحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص عليها في رواية ابن منصور، فقال: له أن يكريه بإذن الراهن، وتكون الأجرة للراهن. (والثانية) : يزول لزوم الرهن بذلك، أومأ إليها في رواية ابن منصور أيضا، في رجل ارتهن دارا فأكراها من صاحبها، فلا تكون رهنا حتى ينقضي ذلك، فإذا انقضى كراه رجعت إليه وصارت رهنا، ونحوه نقل ابن ثواب، وهذا اختيار أبي بكر في الخلاف، قال: إن منافع الرهن تعطل، ومبنى الخلاف على ما أشار إليه أبو الخطاب في

مؤونة الرهن

الانتصار، أن مقصود الرهن هل هو الاستيفاء من ثمنه، عند تعذر الاستيفاء من الغريم، والاختصاص به دون بقية الغرماء، وذلك لا ينافي إجارته، أو ذلك مع استحقاق حبسه، وكونه تحت اليد على الدوام، والإجارة تخرجه عن يده. وفي المذهب قول ثالث: إن أجر المرتهن بإذن الراهن فالرهن بحاله، لعدم خروجه عن يد المرتهن وتصرفه، وإن أجر الراهن بإذن المرتهن، خرج من الرهن، لخروجه إلى يد الراهن، وإلى هذا القول ميل أبي الخطاب، ومنصوص أحمد مما يدل على ذلك، ومحل الخلاف إذا اتفقا على الإيجار، أما إن امتنع أحدهما من الإيجار فإن منافعه تعطل على المذهب، واختار ابن حمدان أنها لا تعطل، فيجبر من أبى منهما على الإيجار، والحكم في إعارته كالحكم في إجارته، والله أعلم. [مؤونة الرهن] قال: ومؤونة الرهن على الراهن. ش: مؤونة الرهن من طعام، وكسوة، ومسكن، وغير ذلك على الراهن، لأنه ملكه، فكان ذلك عليه كبقية الأملاك، وقد تقدم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «له غنمه، وعليه غرمه» والمؤونة من الغرم، والله أعلم.

تلف الشيء المرهون

قال: وإن كان عبدا فمات فعليه كفنه. ش: لأن الكفن من الغرم وهو عليه، والله أعلم. قال: وإن كان مما يخزن فعليه كراء مخزنه. ش: لأنه من مؤونته، وهي عليه لما تقدم، والله أعلم. [تلف الشيء المرهون] قال: والرهن إذا تلف بغير جناية من المرتهن، رجع المرتهن بحقه عند محله، وكانت المصيبة فيه من راهنه، وإن كان تعدى المرتهن، أو لم يحرزه ضمن. ش: الرهن أمانة في يد المرتهن، لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يغلق الرهن، لصاحبه غنمه، وعليه غرمه» وهذا يدل على أن الغرم على الراهن لا المرتهن، وهذا هو المذهب المعروف. ونقل أبو طالب عن أحمد إذا ضاع الرهن عند المرتهن لزمه. وظاهرها لزوم الضمان له مطلقا، لكن تأول ذلك القاضي على ما إذا تعدى، وأبى ذلك ابن عقيل، جريا على الظاهر. 2037 - وبالجملة استدل لهذه الرواية بما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: الرهن بما فيه رواه الدارقطني والبيهقي، لكنه ضعيف، بل قيل: إنه موضوع. على أنه يحتمل أنه محبوس بما

فيه، وبما روي «عن عطاء أن رجلا رهن فرسا فنفق في يده، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمرتهن: «ذهب حقه» رواه الدارقطني أيضا وغيره، وهو ضعيف أيضا مع إرساله،

وقد قال أحمد: مرسلات سعيد صحاح، وأما الحسن وعطاء فهي أضعف المرسلات، لأنهما كانا يأخذان عن كل. 2038 - قال الشافعي: ومما يدلك على وهن هذا عند عطاء إن كان رواه أن عطاء يفتي بخلافه، ويقول فيما ظهر هلاكه أمانة، وفيما خفي هلاكه: يترادان الفعل. انتهى. ويتفرع على المذهب أن المصيبة فيه كأنها حصلت من راهنه، فلو تلف أن نقص كان ذلك على راهنه، وحق المرتهن بحاله، يرجع به عند محله، هذا كله إذا لم يتعد المرتهن ولم يفرط، أما إن تعدى - بأن استعمل الرهن - أو فرط - بأن لم يحرزه حرز مثله ونحو ذلك - فإنه يضمن، كما يضمن المودع ونحوه، والله أعلم. - قال: وإن اختلفا في القيمة فالقول قول المرتهن مع يمينه. ش: حيث لزم المرتهن الضمان، فاختلف هو والراهن في قيمة العين، وهي تالفة أو ناقصة بأن يدعي الراهن مثلا أن قيمتها ثلاثون، ويدعي المرتهن أن قيمتها عشرون، ولا بينة بما قال واحد منهما، فالقول في ذلك قول المرتهن، لأنه

غارم، ومنكر للزيادة، والقول قول المنكر مع يمينه، والله أعلم. قال: وإن اختلفا في قدر الحق فالقول قول الراهن مع يمينه، إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة. ش: إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الحق الذي به الرهن، مثل أن يقول الراهن: رهنتك هذا على ألف. فيقول المرتهن: بل على ألفين. فإذا القول قول الراهن مع يمينه، سواء أقر بالألف الأخرى أو أنكرها، لأنه منكر للرهن بالزيادة التي يدعيها المرتهن، والقول قول المنكر، وكما لو اختلفا في أصل الرهن، وهذا مع عدم البينة، أما إن وجدت، فإن الحكم لها، لأنها تبين الحق وتظهره. وقول الخرقي: إذا لم يكن لواحد منهما بما قال بينة. الشرط راجع لهذه الصورة والتي قبلها، والله أعلم. قال: والمرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الغرماء حتى يستوفي حقه، حيا كان الراهن أو ميتا. ش: لا يختلف المذهب فيما نعلمه أن المرتهن أحق بثمن

الرهن إلى أن يستوفي حقه من بقية الغرماء، في حياة الراهن لترجح حقه على حق غيره، والراجح مقدم، وبيانه أن حقه قد تعلق بالعين والذمة، وحق غيره إنما تعلق بالذمة فقط، فعلى هذا إذا حجر على الراهن لفلس فإن المرتهن يقدم بثمن الرهن، فإن كان وفق حقه فلا كلام، وإن نقص ضرب مع الغرماء بالنقص، وإن زاد رد الفاضل على الغرماء. أما مع موت الراهن. وضيق التركة عن جميع الديون، فهل المرتهن أسوة الغرماء، لأن التركة انتقلت إلى الورثة، وتعلق حق الغرماء بها تعلقا واحدا، أو يقدم بثمن الرهن كما في حال الحياة، إذ التركة إنما تنتقل إلى الورثة بصفة ما كانت للموروث، وهذا هو المعروف عند الأصحاب؟ على روايتين منصوصتين، ولا يرد على الخرقي إذا جنى العبد المرهون، فإن حق المجني عليه يقدم على الراهن، لأن المجني عليه في الحقيقة ليس غريما للراهن، إذ حقه متعلق بعين الرهن فقط، لا بذمة الراهن، مع أن الخرقي قد ذكر حكم ذلك، والله أعلم.

باب المفلس

[باب المفلس] قال: باب المفلس ش: المفلس في عرف الفقهاء من فلسه الحاكم بالحجر عليه، وسببه أن يكثر دينه على ماله، ويطلب ذلك الغرماء، على ما يأتي إن شاء الله تعالى، والفلس في اللغة ذهاب المال غير الفلوس، قال ابن فارس: يقال: أفلس الرجل. إذا صار ذا فلوس، بعد أن كان ذا دراهم، وقيل: هو العدم، يقال: أفلس بالحجة إذا عدمها، وقيل: هو من قولهم: تمر مفلس. إذا خرج منه نواه، فهو خروج الإنسان من ماله، وعلى هذا سمي المفلس مفلسا، وإن كان له مال يضيق عن دينه، لأن ماله مستحق للصرف، أشبه من لا مال له، أو باعتبار ما يؤول إليه، لأنه يؤول إلى أنه لا شيء له. 2039 - وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأصحابه: «أتدرون من المفلس؟ قالوا: يا رسول الله إن المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: «ليس ذلك المفلس، ولكن المفلس من يأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال، ويأتي وقد ظلم هذا، وأخذ من عرض هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن بقي عليه شيء أخذ من سيئاتهم فرد عليه،

ثم طرح في النار» فأخبرت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عن المفلس في عرفهم ولغتهم، وهو الذي لا شيء له، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا الفلس كلا فلس، إنما الفلس المعتبر، الذي معه الحسرة العظيمة، والفقر الدائم، هو فلس الآخرة، حتى إن فلس الدنيا عنده بمنزلة الغنى. 2040 - ونحو هذا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس الغنى عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس» والله أعلم. قال: وإذا فلس الحاكم رجلا فأصاب أحد الغرماء عين ماله فهو أحق به. ش: إذا ثبت على شخص دين حال ببينة أو إقرار، وماله أقل منه - قال ابن حمدان: أو قدره، ولا كسب له، ولا ما ينفق عليه منه، أو خيف تصرفه فيه. انتهى - فسأل

غرماؤه - قال في التلخيص: أو بعضهم ودينهم أكثر من ماله، وحكى ابن حمدان ذلك قولا. انتهى - الحاكم الحجر عليه لزمته إجابتهم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ، وباع ماله [في دينه. 2041 - فروى البيهقي في سننه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، عن أبيه «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجر على معاذ بن جبل ماله، وباعه] في دين كان عليه، وكان معاذ شابا حليما سمحا، من أفضل شباب قومه، ولم يكن يمسك شيئا، فلم يزل يدان، حتى أغرق ماله كله في الدين، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكلم غرماءه، فلو تركوا أحدا من أجل أحد لتركوا معاذا من أجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فباع لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني ماله، حتى قام معاذ بغير شيء» .

2042 - وكذلك حجر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على الأسيفع، أسيفع جهينة. فإذا حجر الحاكم عليه - وهو معنى تفليسه له - ترتب بذلك أحكام (أحدها) تعلق حق غرمائه بماله، فلا يقبل إقراره عليه، ولا يصح تصرفه المستأنف فيه، إلا بالعتق على رواية، وخرج بقيد «المستأنف» الرد بالعيب فيما اشتراه قبل الحجر، والفسخ لخيار مشترط كذلك، فإن تصرفه في ذلك صحيح، لكن هل يتقيد بالأحظ؟ وفي التلخيص أنه قياس المذهب بناء على إجبار المفلس على اكتساب المال بما لا منة عليه فيه، أو لا يتقيد بذلك، وهو المشهور، لعدم استقرار العقد إذا؟ فيه قولان، وبقيد «المال» التصرف في الذمة، وكذلك التصرف في البضع، وفي الدم، وفي

النسب، (والحكم الثاني) بيع الحاكم ماله، وقسم ثمنه بين غرمائه لما تقدم، (الثالث) : انقطاع المطالبة عنه ما دام كذلك، لظهور عسرته، ووجوب إنظاره إلى ميسرته. (الرابع) : أن من وجد من الغرماء متاعه بعينه عنده فهو أحق به من بقية الغرماء، بمعنى أن له فسخ البيع، وأخذ سلعته، بشروط تذكر إن شاء الله تعالى، وهذه مسألة الكتاب. 2043 - وذلك لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس، أو إنسان قد أفلس فهو أحق به» وفي رواية متاعه بعينه متفق عليهما.

2044 - ومن ثم قضى بذلك عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، رواه عنه البيهقي، ولقد بالغ إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في اتباع السنة كما هو دأبه، فقال: لو أن حاكما حكم أنه أسوة الغرماء، ثم رفع إلى رجل يرى العمل بالحديث، رد حكم الحاكم. ومقتضى كلام الخرقي أن الفسخ والرجوع لا يفتقر إلى حكم حاكم، وهو كذلك، لثبوت ذلك بالنص، فهو كخيار المعتقة ومن ثم أجاز أحمد نقض حكم من حكم بخلاف ذلك، وعموم كلامه يشمل البيع، والقرض، والدابة، والأرض المؤجرة إذا أفلس المستأجر قبل مضي مدة لمثلها أجر، وكذلك الصداق، كأن يصدق امرأة عينا، ثم يستحق الرجوع فيها أو في نصفها، بأن ينفسخ النكاح لسبب من جهتها كردتها، أو من جهته - كطلاقه - وقد أفلست فإنه يرجع في عين ماله بشرطه.

وقوة كلام المصنف يقتضي أن الرجوع في عين المال مختص ببيع ونحوه وجد قبل الفلس، فيخرج ما وجد بعده فلا يرجع فيه، وهو أحد الوجوه، لدخوله على بصيرة أو تفريطه، (والثاني) : يرجع أيضا، لإطلاق الخبر، (والثالث) : يفرق بين العلم بالفلس وعدمه، وهو حسن. (تنبيه) : «الأسيفع» تصغير «أسفع» والسفعة في اللون السواد، والله أعلم. قال: إلا أن يشأ تركه، ويكون أسوة الغرماء.

ش: يعني أن البائع إذا وجد ماله بعينه عند من أفلس، فإنه يخير، إن شاء رجع فيه لما تقدم، وإن شاء لم يرجع، وكان أسوة الغرماء، لأن الشارع جعله أحق به وأولى به، ولم يحتم ذلك عليه، وظاهر كلام المصنف أنه لو بذل له الغرماء الثمن، لم يلزمه القبول، لأنه لم يستثن ذلك، ونص عليه أحمد، لظاهر الخبر، ودفعا للمنة عنه، [نعم إن بذلوا الثمن للمفلس فبذله له امتنع عليه الفسخ، لزوال سببه وهو عجزه عن أخذ الثمن] ، ومن ثم لو أسقط الغرماء حقوقهم، أو وهب له مال بحيث يمكن أداء الثمن زال الفسخ، والله أعلم. قال: فإن كانت السلعة قد تلف بعضها، أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها، أو نقد بعض ثمنها، كان البائع فيها كأسوة الغرماء. ش: قد تقدم أن أحد الغرماء إذا وجد متاعه بعينه عند من فلسه الحاكم أنه أحق به، لكن ذلك بشروط (أحدها) أن يكون المتاع باقيا بحاله، لم يتلف بعضه، فإن تلف بعضه - كأن تلف بعض الدار، أو الثوب، أو الثمرة المبيعة

مع الشجرة، أو قطعت بعض أطراف العبد، ونحو ذلك - فلا رجوع للبائع، بل يكون أسوة الغرماء، نظرا للخبر، فإنه لم يجد المتاع بعينه، فلو تعدد المبيع، كعبدين أو ثوبين، فتلف أحدهما فهل يمتنع الرجوع رأسا، أو يرجع في الموجود، ويضرب مع الغرماء بقسط التالف من الثمن؟ فيه روايتان، ولعل مبناهما أن العقد هل يتعدد بتعدد المبيع أم لا؟ وحكم انتقال البعض ببيع ونحوه حكم التلف، نعم إن عاد المنتقل إلى ملك المفلس فهل هو كالذي لم يزل، أو كالذي لم يعد؟ فيه وجهان مشهوران، وحكى أبو محمد وجها ثالثا: إن عاد بسبب جديد - كبيع أو هبة، ونحوهما فكالذي لم يعد، وإن عاد بفسخ كالإقالة، والرد بالعيب - فكالذي لم يزل، وجعل أبو محمد من صور تلف البعض إذا استأجر أرضا للزرع، فأفلس بعد مضي مدة لمثلها أجرة، تنزيلا للمدة منزلة المبيع، ومضي بعضها بمنزلة تلف بعضه، وقال القاضي، وصاحب التلخيص: له الرجوع، ويلزمه تبقية زرع المفلس بأجرة المثل، ثم هل يضرب بها

مع الغرماء - وهو المحكي عن القاضي - أو يقدم بها عليهم - وهو الذي في التلخيص -؟ على وجهين. وقد فهم من كلام الخرقي بطريق التنبيه فيما إذا تلف المبيع جميعه، فإنه لا رجوع، وكذلك لو انتقل عنه، وفهم من كلامه أيضا أن نقص الصفات - كالهزال، ونسيان صناعة ونحو ذلك - لا يمنع الرجوع، وهو كذلك، لأن المتاع موجود بعينه، وإذا أخذ إنما يأخذ بجميع حقه، واختلف في وطء البكر، وجرح العبد، هل هو من فقد الصفات فلا يمنع الرجوع - وبه قطع أبو بكر - أو من فقد الأجزاء فيمنع؟ على وجهين، أما وطء الثيب فبمنزلة فقد الصفات على المشهور، وأجرى ابن أبي موسى فيه الوجهين، وإذا قيل بالرجوع مع الجرح، فإن كان الجرح مما لا أرش

له، كالحاصل بفعل بهيمة أو المفلس، ونحو ذلك فلا شيء له مع الرجوع، وإن كان مما له أرش كالحاصل بفعل أجنبي، نظر ما نقص من قيمته، فرجع بقسطه من الثمن، قاله أبو محمد، وقياس جعله من باب فقد الصفات، أنه لا شيء له مطلقا. (تنبيه) : إذا خلط المبيع أو بعضه بما لا يتميز منه - كأن كان زيتا فخلطه بمثله، ونحو ذلك - فقال أبو محمد: يسقط حقه من الرجوع، لأنه لم يجد عين ماله، [وقد يقال: إنه ينبني على الوجهين في أن الخلط هل هو بمنزلة الإتلاف أم لا؟ ولا نسلم أنه لم يجد عين ماله] ، بل وجده حكما. (الشرط الثاني) : أن لا يزيد المتاع زيادة متصلة، كالسمن، وتعلم صناعة، ونحو ذلك، على اختيار الخرقي، والشيرازي، ولم يعتبر ذلك الإمام في رواية الميموني، بل جوز للبائع الرجوع بالزيادة مجانا، ومناط ذلك أن المبيع مع الزيادة المتصلة هل خرج عن أن يكون بعينه أم لا؟ وخرج من كلام الخرقي الزيادة المنفصلة، فإنها لا تمنع الرجوع في الجملة، بلا خلاف نعلمه بين الأصحاب، لوجود المتاع بعينه، ثم هل تكون الزيادة للمفلس في الجملة

ويحتمله كلام الخرقي، لمنعه من الرجوع مع الزيادة المتصلة، وهو اختيار ابن حامد، والقاضي في روايتيه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وأبي محمد، لأنها نماء ملكه - أو للبائع - وهو اختيار أبي بكر، والقاضي في الجامع، تمسكا بإطلاق أحمد - في رواية حنبل - في ولد الجارية، ونتاج الدابة، أنه للبائع، وهو محمول - عند ابن أبي موسى، وابن حامد، والقاضي، وأبي محمد - على ما إذا باعها حاملا؟ على قولين، فعلى الأول لو كانت الزيادة ولد الأمة فهل يمتنع الرجوع مطلقا، لتعذر التفرقة الممنوع منها شرعا - وهو قول ابن أبي موسى - أو لا يمتنع إلا إن امتنع البائع من دفع القيمة، - أما إن دفع قيمة الولد فله الرجوع، - أو لا يمتنع مطلقا، بل تباع الأم وولدها، ويصرف للبائع ما خص الأم من الثمن، على أنها ذات ولد؟ على ثلاثة أوجه. ويدخل في قول الخرقي: أو مزيدة بما لا تنفصل زيادتها. ما إذا زادت بصناعة، كقصارة، ونحو ذلك، وهو أحد الوجهين، واختيار ابن أبي موسى، (والثاني) - وقال صاحب التلخيص: إنه المذهب - لا يمنع ذلك الرجوع،

ثم هل تسلم للبائع مجانا، - كالزيادة المتصلة على المنصوص - أم عليه الأجرة؟ فيه وجهان، وقد تحرز الخرقي بقوله: مزيدة بما لا تنفصل زيادتها. عما إذا كان المتاع بابا فسمر فيه مسامير، أو نحو ذلك، فإن الزيادة تنفصل، ويرجع البائع في عين ماله. (الشرط الثالث) : أن لا يكون البائع قبض من ثمنها شيئا، فإن قبض منه شيئا سقط حقه في الرجوع. 2045 - لأن في الحديث في رواية لأبي داود «أيما رجل باع سلعة، فأدرك سلعته بعينها، عند رجل قد أفلس، ولم يقبض من ثمنها شيئا فهي له، فإن كان قضاه من ثمنها شيئا فما بقي فهو أسوة الغرماء» وفي معنى قبض البعض الإبراء منه، والله أعلم.

قال: ومن وجب له حق بشاهد فلم يحلف لم يكن للغرماء أن يحلفوا معه ويستحقوا. ش: لأنهم غير مدعين، واليمين إنما هي على المدعي مع شاهده.

الديون المؤجلة هل تحل بالتفليس

2046 - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على المدعي» واليمين لا تدخلها النيابة ومقتضى قول الخرقي أن المفلس إذا حلف صح حلفه، وهو كذلك، وأنه إذا لم يحلف لم يجبر، وهو كذلك، لاحتمال قيام شبهة عنده تمنعه من اليمين، والله أعلم. [الديون المؤجلة هل تحل بالتفليس] قال: وإذا كان على المفلس ديون مؤجلة لم تحل بالتفليس. ش: هذا المذهب المشهور، حتى إن القاضي جعله رواية واحدة، لأن الأجل حق للمفلس، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه، وعنه: يحل. حكاها أبو الخطاب، دفعا للضرر عن ربه، (وعنه) : إن وثق لم يحل، لزوال الضرر، وإلا حل، نقلها ابن منصور، فإن قلنا بحلوله فهو كبقية الديون الحالة، وإن قلنا بعدم حلوله، فإنه لا يوقف لربه شيء، ولا يرجع على الغرماء به إذا حل، نعم إذا حل قبل القسم شارك الغرماء، [وإن حل بعد قسمة البعض شاركهم أيضا، وضرب بجميع دينه، وباقي الغرماء] ببقية ديونهم، والله أعلم.

قال: وكذلك في الدين الذي على الميت، إذا وثق الورثة. ش: أي لا يحل بالموت إذا وثق الورثة بأقل الأمرين، من قيمة التركة، أو الدين، بكفيل مليء، أو رهن يفي بالحق، لأن الأجل حق للميت، فورث عنه كبقية حقوقه. 2047 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من ترك حقا أو مالا فلورثته» هذا هو المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين (والثانية) وهي

اختيار ابن أبي موسى: يحل. لأن ذمة الميت قد خربت، أو في حكم الخراب، لتعذر المطالبة، والورثة لم يلتزموا الدين، ولا رضي صاحبه بذممهم، وتعلقه بالتركة فيه ضرر على الميت، لأن ذمته مرتهنة بدينه. 2048 - كما في الترمذي وحسنه عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه»

وعلى رب الدين، لاحتمال تلف التركة، ولا نفع فيه للورثة، لعدم تصرفهم في التركة إن قيل بتعلق الدين بها، انتهى، فإن لم يوثق الورثة حل على المشهور والمجزوم به للشيخين وغيرهما، لغلبة الضرر، وظاهر كلام أبي الخطاب في الانتصار أن الوارث لا يلزمه التوثيق إذا كانت ذمته مليئة، وإنما يلزمه إذا كان على غير مليء. (تنبيهان) : «أحدهما» فعلى المذهب إن لم يكن له وارث فهل يحل الدين، أو لا وينتقل المال إلى بيت المال، ويضمن للغرماء؟ فيه احتمالان ذكرهما في الانتصار، «الثاني» لا خلاف نعلمه أن دين الميت المؤجل لا يحل بموته، وكذلك لا يحل دين المفلس المؤجل بفلسه، والله أعلم. قال: وكل ما فعله المفلس في ماله قبل أن يوقفه الحاكم فجائز.

ش: معنى إيقاف الحاكم هو تفليسه، لأنه بالتفليس أوقفه عن التصرف في ماله، ويحتمل أن يريد بإيقاف الحاكم له إظهار الحجر عليه، بالمناداة عليه بأن فلانا قد حجر الحاكم عليه فلا تعاملوه، وبالجملة ما فعله المفلس قبل تفليس الحاكم له في ماله، - من بيع، أو قضاء بعض الغرماء، ونحو ذلك - فهو جائز، لأنه رشيد غير محجور عليه، فنفذ تصرفه كغيره. ومفهوم كلام الخرقي أن ما فعله في ماله بعد الحجر عليه لا يجوز، أي لا يصح وهو كذلك، وقد تقدم، ويدخل في عموم المفهوم عتقه لبعض أرقائه، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، (والثانية) - وهي اختيار أبي بكر في التنبيه، والقاضي والشريف -: ينفذ، وإنما قيد ذلك بالمال لأن تصرفه في الذمة يصح مطلقا، لكن لا يشارك أصحابه بعد الحجر عليه الغرماء، والله أعلم. قال: وينفق على المفلس، وعلى من تلزمه مؤونته من

ماله، إلى أن يفرغ من قسمته بين غرمائه. ش: ينفق على المفلس من ماله، لأن ملكه باق. 2049 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وكذلك ينفق على من تلزمه مؤونته للحديث، وشرط أبو محمد للنفقة عليه وعلى من تلزمه مؤونته أن لا يكون له صناعة تفي بذلك، والواجب من النفقة أدنى نفقة مثله بالمعروف، وحكم الكسوة حكم النفقة، والله أعلم. قال: ولا تباع داره التي لا غنى له عن سكناها. ش: لأن حاجته داعية إلى ذلك، فأشبه النفقة، والكسوة، ولابن حمدان احتمال أن من أدان ما اشترى به مسكنا، أنه يباع، ولا يترك له، ولو كان المسكن عين ماله بعض الغرماء أخذه بالشروط السابقة، وقد تقدم ذلك للخرقي، وحكم الخادم المحتاج إليه حكم الدار، وقد خرج من كلام الخرقي إذا كان له داران، فإن إحداهما تباع، لغناه عنها، وكذلك

لو كانت له دار واسعة، لا يسكنها مثله، ويشترى له مسكن مثله والله أعلم. قال: ومن وجب عليه دين فذكر أنه معسر به حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بمعسرته. ش: من وجب عليه دين فإن كان مؤجلا لم يطالب به ولم يلازم به، وإن كان حالا فطولب به وله مال ظاهر أمر بوفائه، وإن لم يكن له مال ظاهر فذكر أنه معسر، فإن صدقه الغريم أو لم يصدقه وقامت بينة - كما سيأتي - بذلك لم يتعرض له لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، وإن لم يصدقه ولم تقم بينة بذلك، فإن علم له مال، أو كان دينه ثبت عن مال - كالبيع والقرض - والغالب بقاؤه، أو من غير مال كالضمان ونحوه وأقر أنه مليء، فالقول قول غريمه مع يمينه أنه لا يعلم عسرته بدينه، وفي الرعاية أنه يحلف أنه موسر بدينه، ولا يعلم إعساره به، فإن نكل عن اليمين حلف المفلس وخلي سبيله، وإن

حلف حبس المدين ليظهر حاله إلى أن يقيم بينة - ولو بعد يوم -[تشهد بتلف أو إعساره هذا هو التحقيق، وفاقا للمجد وغيره، وفي التلخيص أنها لا بد وأن تشهد بالتلف، وظاهر كلامه: والإعسار. وكذا في الرعاية، قال:] تشهد بذهابه وإعساره، لا أنه لا يملك شيئا، ثم إن شهدت بالإعسار اعتبر خبرتها بباطنه وإن شهدت بالتلف لم يعتبر ذلك، إذ التلف يطلع عليه كل أحد، بخلاف الإعسار، وهل يحلف مع بينته؟ فيه قولان، والتحقيق منهما - وقطع به أبو محمد في الكافي، وأبو البركات، وصححه ابن حمدان - أنها إن شهدت بالتلف فطلب منه اليمين على عسرته وجب عليه ذلك، لأن اليمين على أمر محتمل، خلاف ما شهدت به البينة، وإن شهدت بالإعسار فلا، لما فيه من تكذيب البينة، وإن لم يعلم له مال، ولم يكن دينه عن مال، كعوض النكاح وغيره، ولم يقر بالملاءة به، أو عن مال والغالب ذهابه، فالقول قوله مع يمينه، لترجحة جانبه، إذ الأصل عدم المال، ومن ثم يرجح جانب غريمه فيما إذا ثبت له مال إذ الأصل

بقاؤه، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يفرق بين حالة وحالة والمعروف التفرقة. وقد علم من كلام الخرقي أن البينة تسمع على الإعسار وهو كذلك. 2050 - لحديث قبيصة بن المخارق - وقد تقدم في الزكاة - «حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة» والله أعلم. قال: وإذا مات فتبين أنه كان مفلسا لم يكن لأحد من الغرماء أن يرجع في عين ماله. ش: هذا الشرط الرابع في رجوع البائع في عين ماله، وهو أن يكون المفلس حيا، فإن مات فلا رجوع له، سواء مات بعد الحجر عليه أو قبله فتبين فلسه.

2051 - لأن في بعض ألفاظ الحديث: عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما رجل باع متاعا فأفلس الذي ابتاعه منه، ولم يقبض الذي باعه من ثمنه شيئا، فهو أحق به، وإن مات الذي ابتاعه فصاحب المتاع فيه أسوة الغرماء» رواه مالك في الموطأ وأبو داود، ولا يعترض بأنه مرسل، إذ المرسل عندنا حجة مع أن أبا داود قد رواه أيضا فوصله فقال: عن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولفظه «وأيما امرئ هلك وعنده متاع امرئ بعينه، اقتضى منه شيئا أو لم يقتض، فهو أسوة الغرماء» . وقول الشافعي: إنه موجود في حديث أبي بكر عن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه انتهى بالقول فهو أحق به، وأنه يشبه أن يكون ما زاد من قوله: وإن مات. إلى آخره من رأيه لا روايته الظاهر خلافه، وتركه الزيادة إن ثبت

فلعله لعدم الحاجة إلى ذكرها إذا، مع كون الحكم لا يختل بتركها، أو لنسيانها. 2052 - واعتراضه بحديث ابن خلدة قاضي المدينة الذي رواه الطيالسي، قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا قد أفلس فأصاب رجل متاعه بعينه، فقال أبو هريرة: هذا الذي قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من أفلس أو مات فأدرك رجل متاعه بعينه فهو أحق به، إلا أن يدع الرجل وفاء. يجاب عنه بضعفه، قال ابن المنذر: إنه مجهول الإسناد، وقال ابن عبد البر: يرويه أبو المعتمر، عن ابن خلدة، وأبو المعتمر غير معروف بحمل العلم وهذا الشرط أهمله صاحب التلخيص انتهى. وقد بقي من شروط رجوع البائع فيما تقدم شروط، ولم يتعرض لها الخرقي (منها) ما هو متفق عليه، ومنها ما

هو مختلف فيه (أحدها) أن لا يتغير المبيع تغيرا يزيل اسمه، كأن كان حنطة فصار دقيقا، أو دقيقا فصار خبزا، أو زيتا فصار صابونا، أو غزلا فصار ثوبا، أو ثوبا فصار قميصا ونحو ذلك، لأن المبيع لم يبق بعينه، واختلف فيما إذا كان بذرا فصار زرعا، أو بيضا فصار فراخا ونحو ذلك، هل يسلك به سبيل الزيادة المتصلة كالجنين إذا صار ولدا، فيجري في الرجوع فيه الخلاف السابق، وهو رأي القاضي، وصاحب التلخيص فيه، أو سبيل ما تقدم مما تغير اسمه بصناعة، فيمتنع الرجوع فيه، وهو ظاهر كلام أبي محمد؟ على قولين (الشرط الثاني) : أن لا يتعلق بالمبيع حق الغير، كأن يجده مرهونا، لئلا يزال الضرر بالضرر، ولأن الحديث «من وجد متاعه عند رجل قد أفلس» وهذا لم يجده عند المفلس، واختلف فيما إذا كان عبدا فجنى، هل يكون تعلق الجناية به مانعا من الرجوع فيه، كما في الرهن، إذ حق الجاني مقدم على حق الراهن، والمقدم على المقدم مقدم، أو ليس بمانع، لأن تعلق الجناية لا يمنع التصرف في الجاني بخلاف الرهن؟ على وجهين، وكذلك اختلف فيما إذا كان شقصا مشفوعا هل يمنع تعلق الشفعة به من الرجوع فيه،

لتعلق حق الشفيع به ابتداء، وهو اختيار أبي الخطاب، أو لا يمنع، لأن بالرجوع يعود كما كان، فيزول الضرر، وهو اختيار ابن حامد، أو إن طالب الشفيع امتنع الرجوع، لتأكد حق الشفيع بالطلب [وإن لم يطالب] رجع؟ على ثلاثة أوجه: (الشرط الثالث) أن يكون ثمن العين المبيعة حالا، فإن كان مؤجلا فلا رجوع للبائع، قاله أبو بكر في التنبيه، وصاحب التلخيص فيه، لعدم تمكنه من مطالبة الثمن إذا الذي العجز عنه سبب الرجوع، والمنصوص عن أحمد في رواية الحسن بن ثواب - وعليه الجمهور - أن هذا ليس بشرط، لكن المنصوص أن المتاع يوقف إلى الأجل، ثم عند انقضائه يخير البائع بين الأخذ والترك، إعمالا لحقيهما، حق البائع في الرجوع، وحق المفلس في الأجل، وابن أبي موسى يقول: يؤخذ في الحال لعدم الفائدة في

الوقف (الشرط الرابع) العجز عن أخذ الثمن، فلو تجدد للمفلس مال بعد الحجر وقبل الرجوع فلا رجوع، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا. (الخامس) كون البائع حيا، فلا رجوع للورثة، لظاهر الحديث، وحكى الآمدي رواية [أخرى] أن هذا ليس بشرط، فترجع الورثة، وهو ظاهر كلام الشيخين، لعدم اشتراطهم [ذلك] وعلى هذا مجموع الشرائط تسعة أو ثمانية أو سبعة، والله أعلم. قال: ومن أراد سفرا وعليه حق يستحق قبل مدة سفره فلصاحب الحق منعه. ش: كمن أراد السفر من أهل مصر إلى الحجاز، وعليه دين يحل في أول المحرم ونحو ذلك لما يلحق الغريم من الضرر بتأخير حقه، والضرر منفي شرعا قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» وإن كان الدين لا يستحق إلا بعد مدة السفر،

كما إذا كان قدومه في أواخر المحرم، والدين يحل في أول ربيع، ونحو ذلك، فإن كان السفر للجهاد منع، لما فيه من المخاطرة بالنفس، فلا يؤمن فوات النفس، وإن كان لغير الجهاد فروايتان (إحداهما) له منعه، لاحتمال التأخير بحدوث حادث أو غيره، فيلحق الغريم الضرر (والثانية) : وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي - ليس له منعه، لأن الأصل بل والغالب عدم الضرر، إذ الأصل عدم الحادث، وحيث قيل بالمنع فذلك معتبر بتوثيق برهن يفي بالحق، أو كفيل مليء، فيزول المنع لزوال الضرر إذا. (تنبيه) : محل الخلاف على مقتضى كلام أبي محمد في السفر الطويل والله أعلم.

كتاب الحجر

[كتاب الحجر] الحجر في اللغة المنع [والتضييق] ومنه سمي الحرام حجرا، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 22] أي حراما محرما، ويسمى العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته، قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] أي عقل، وهو في الشرع منع خاص وهو: منع الصبي، والمجنون، والسفيه، من التصرف في مالهم مطلقا، ومنع العبد، والمكاتب، والمريض والراهن والولي، ونحوهم من تصرف خاص، ثم الحجر تارة لحق نفسه، كالحجر على الصبي، والمجنون، والسفيه، وهذا الذي عقد الباب لأجله، وتارة لحظ غيره، وهو ما عدا ذلك. والأصل في مشروعية الحجر قول الله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] الآية وأضيفت الأموال إلى الأولياء لأنهم القائمون عليها،

المدبرون لها، وقال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] الآية، وإذا ثبت الحجر على هذين، ثبت على المجنون بطريق التنبيه. والله أعلم. قال: ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله إذا كان قد بلغ. ش: هذا مما لا خلاف فيه في الجملة، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا، ويشهد له قول الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] ، ولأن الحجر كان لمعنى، فيزول بزوال ذلك المعنى، وهل يعتبر مع ذلك حكم الحاكم؟ أما في المجنون فلا يعتبر لظهوره، وأما في غيره فثلاثة أوجه (ثالثها) يعتبر في حجر السفيه دون الصبي، وهو الصحيح عند الشيخين وغيرهما. وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه إنما حكم على الصبي، وحكم المجنون والسفيه حكمه، فيدفع إلى المجنون إذا عقل، وإلى السفيه إذا رشد، وحكم حاكم على الصحيح، وقد يقال: إن كلامه يشمل الثلاثة، إذ الرشد لا بد منه فيها، وإذا تقدير كلامه: ومن أونس منه رشد دفع إليه ماله، فإن كان صبيا فإذا بلغ، وفيه شيء.

علامات البلوغ في حق الغلام والجارية

ومفهوم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يدفع المال قبل البلوغ والرشد، وهو صحيح ولو صار شيخا، لأن الله تعالى شرط للدفع ذلك، والمشروط عدم عند عدم شرطه. 2053 - وروى الجوزجاني في كتابه المترجم قال: كان القاسم بن محمد يلي أمر شيخ من قريش، ذي أهل ومال، فلا يجوز له أمر في ماله دونه، لضعف عقله. ويستفاد من كلامه بطريق الإشارة أنه يحجر على الصبي ونحوه، وقد تقدم ذلك والله أعلم. [علامات البلوغ في حق الغلام والجارية] (تنبيه) : البلوغ يحصل في حق الغلام والجارية بالاحتلام، وهو خروج المني الدافق بلذة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] . 2054 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يحتلم» .

وبنبات الشعر الخشن حول ذكر الرجل، وفرج المرأة، وحول الفرجين إن كان خنثى. 2055 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم بقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، وأمر بأن يكشف عن مؤتزرهم، فمن أنبت فهو من المقاتلة، ومن لم ينبت ألحق بالذرية، وقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة» . 2056 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كتب إلى عامله أن لا تأخذ الجزية إلا ممن جرت عليه الموسى.

2057 - وباستكمال خمس عشرة سنة «لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: عرضت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني» . متفق عليه. 2058 - وفي مسند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن عمر بن عبد العزيز أخبر بذلك، فكتب إلى عامله: أن لا تفرضوا إلا لمن بلغ خمس عشرة سنة. 2059 - وتزيد الجارية بالحيض لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار» . وأما الحمل فهو دليل إنزالها، فيحكم ببلوغها إذا ولدت منذ ستة أشهر، لأنه اليقين، إذ الولد إنما يخلق من مائهما، قال سبحانه وتعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] .

قال صاحب التلخيص فيه: فإن كانت ممن لا توطأ كأن طلقها زوجها، وأتت بولد لأكثر مدة الحمل من حين طلاقه، فيحكم ببلوغها قبل المفارقة. (تنبيه) : هل الإنزال من أحد فرجي الخنثى المشكل علم على بلوغه؟ فيه وجهان. (أحدهما) : لا، لأن لا يكون إلا من أحدهما وهو مشكوك فيه، والثاني نعم، قال في التلخيص: لأن الاعتبار عندنا بالانتقال، وهذا مختار أبي محمد، لكنه لا يعتبر هذا [البناء، وفي الحيض] أيضا، فأما إن حاض وأنزل فإنه يحكم ببلوغه عند القاضي، وصاحب التلخيص وقيل: لا. والله أعلم. قال: وكذلك الجارية وإن لم تنكح. ش: حكم الجارية حكم الغلام، عند الخرقي، وأبي محمد، فيدفع إليها مالها إذا رشدت وبلغت، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] الآية، ومنصوص الإمام أحمد. في رواية أبي طالب أنه لا يدفع إليها بعد بلوغها ورشدها، حتى تتزوج وتلد، أو يمضي عليها حول في بيت زوجها، وهذا

مختار أبي بكر والقاضي، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة. 2060 - لما روى سعيد بن منصور في سننه، عن شريح أنه قال: عهد إلي عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن لا أجيز لجارية عطية حتى تحول في بيت زوجها حولا أو تلد ولدا. وعلى هذا إن لم تتزوج فقال القاضي: عندي أنها يدفع إليها مالها إذا عنست، أي كبرت وبرزت للرجال. قال أبو محمد: ويحتمل دوام الحجر عليها مطلقا. والله أعلم. قال: والرشد الصلاح في المال. ش: هذا المشهور المعروف في المذهب، اتباعا لتفسير ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

2061 - فإنه قال في قوله سبحانه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء: 6] : يعني صلاحا في أموالهم. ولأن العدالة لا تعتبر في الرشد في الدوام، فلا تعتبر في الابتداء كالزهد في الدنيا، فعلى هذا إذا كان مصلحا لماله، دفع إليه ماله، وإن كان مفسدا لدينه، كمن يترك الصلاة، أو يمنع الزكاة، أو يغتاب الناس، ونحو ذلك، نعم إن كان فسقه يلزم منه تبذير المال، كمن يشتري الخمر، أو المغنيات، ونحو ذلك - فليس برشيد، لا لفسقه، بل لعدم حفظه، وذهب ابن عقيل إلى أن الرشد الصلاح في المال وفي الدين، قال: وهو الأليق بمذهبنا وقولنا، بحسب الذرائع، واستدل لذلك بالآية الكريمة، فإنها نكرة في سياق الشرط فتعم والله أعلم، قال: فإن عاوده السفه حجر عليه. ش: إذا فك الحجر عن المحجور عليه بشرطه، فعاود السفه أو جن أعيد الحجر عليه، نظرا إلى دوران الحكم مع العلة.

2062 - ويروى أن عبد الله بن جعفر ابتاع بيعا، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لآتين عثمان ليحجر عليك. فأتى عبد الله بن جعفر الزبير، فقال: قد ابتعت بيعا، وإن عليا يريد أن يأتي أمير المؤمنين عثمان، فيسأله الحجر علي. فقال الزبير: أنا شريكك في البيع. فأتى علي عثمان، فقال: إن ابن جعفر قد ابتاع بيع كذا فاحجر عليه. فقال الزبير: أنا شريكه في البيع. فقال عثمان: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير. (تنبيه) : الذي يحجر هنا هو الحاكم لا غير، ولا ينفك الحجر إلا بحكمه على الصحيح والله أعلم. قال: فمن عامله بعد ذلك فهو المتلف لماله. ش: من عامل السفيه بعد الحجر عليه ببيع أو قرض، أو غيرهما لم تصح معاملته لأنه محجور عليه، أشبه المجنون،

ثم ما أخذ منه يجب انتزاعه إن كان باقيا، أو بدله إن كان تالفا، وما أخذه السفيه رد على مالكه إن كان باقيا، وإن كان تالفا فهو من ضمان مالكه، علم بالحجر أو لم يعلم، إذ مع العلم هو المتلف لما له، حيث دفعه لمن ليس من أهل الدفع، وسلطه عليه، ومع عدم العلم هو المفرط، حيث عامل من لم يعرف، واختار ابن عقيل وجوب الضمان على السفيه، لكونه من أهل الضمان، سيما مع عدم العلم بالحجر، (وخرج) بقيد المعاملة شيئان (أحدهما) ما قبضه السفيه بإذن مالكه، لكن من غير أن يسلطه عليه، كما لو أودعه، أو أعاره فأتلف ذلك، أو تلف بتفريطه، فقال القاضي: يضمن، نظرا إلى أن المالك لم يسلطه على ذلك، بخلاف القرض ونحوه، وقيل: لا يضمن، لأن المالك مفرط، حيث دفع المال لفاقد الأهلية، ولعل منشأ الخلاف هل يصح استحفاظه أم لا؟ لكن مقتضى كلام أبي البركات أن محل الخلاف فيما أتلفه، أما ما تلف بتفريطه فإنه من ضمان مالكه بلا نزاع، لأنه مفرط، حيث دفعه في غير حرز، (الثاني) : ما أخذه بغير اختيار صاحبه، وأتلفه،

إقرار المحجور عليه

كأن غصب أو جنى، فإن عليه ضمانه، لانتفاء التفريط من المالك، والله أعلم. [إقرار المحجور عليه] قال: وإن أقر المحجور عليه بما يوجب حدا أو قصاصا، أو طلق زوجته لزمه ذلك. ش: إذا أقر المحجور عليه لسفه بما يوجب حدا، كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، أو قصاصا كالقتل العمد، أو قطع اليد ونحو ذلك لزمه ذلك، لأنه تصرف في غير مال، والحجر إنما وقع على المال، وقد حكى ابن المنذر الإجماع على ذلك، وكذلك إذا طلق زوجته صح طلاقه، لكونه غير مال، وبطريق الأولى إذا خالع، وحكم المفلس حكم السفيه، والله أعلم. قال: وإن أقر بدين لم يلزمه في حال حجره.

ش: لئلا يزول معنى الحجر، وقياسا على الصبي والمجنون، ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره من الأصحاب أنه يلزمه ما أقر به بعد فك الحجر عنه، لأنه مكلف، وإنما منع من إعمال ما أقر به الحجر، وقد زال، فيلزمه ما أقر به، واختار أبو محمد أنه لا يلزمه مطلقا، إذ المنع من نفوذ إقراره في حال الحجر عليه حفظ ماله، ودفع الضرر عنه، ونفوذه بعد فك الحجر عليه يلزم منه تأخير الضرر عليه إلى أكمل حالتيه وحكم ما يوجب الدين - كجناية الخطأ والغصب، ونحو ذلك - حكم الدين والله سبحانه أعلم.

كتاب الصلح

[كتاب الصلح] ش: الصلح يتنوع أنواعا، صلح بين المسلمين وأهل الحرب، وصلح بين أهل العدل وأهل البغي، وصلح بين الزوجين إذا خيف الشقاق بينهما، وصلح بين المتخاصمين في غير مال، أو في المال وهو المراد هنا، والأصل فيه [عموم] قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] . 2063 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الصلح بين المسلمين جائز، إلا صلحا حرم حلالا، أو أحل حراما» رواه الترمذي. وقال: حديث حسن صحيح. وأجمعت الأمة على جواز الصلح في الجملة والله أعلم.

شروط جواز الصلح

[شروط جواز الصلح] قال: والصلح الذي يجوز هو أن يكون للمدعي حق لا يعلمه المدعى عليه، فيصطلحان على بعضه، فإن كان يعلم ما عليه فجحده فالصلح باطل. ش: الصلح على الإنكار جائز في الجملة، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصلح بين المسلمين جائز» ولأن الشريعة جاءت بجلب المصالح، ودرء المفاسد، وهذا كذلك، إذ المدعي يأخذ عوض حقه الثابت له في اعتقاده، والمدعى عليه يدفع ما يدفعه لدفع الشر عنه، واليمين، وحضور مجالس الحكام، إلى غير ذلك، ويتفرع على هذا أن الإنسان إذا ادعى حقا يعتقد ثبوته على إنسان، فأنكره لاعتقاده أنه لا حق عليه، ثم صالحه عنه بعوض، جاز، لما تقدم من أن المدعي يأخذ عوض حقه، والمدعى عليه يدفع ذلك افتداء ليمينه، ودفع الخصومة عنه. 2064 - وفي الصحيح «أن رجلين اختصما في مواريث درست بينهما، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استهما وتوخيا، وليحلل كل منكما

صاحبه» مختصر من حديث طويل، ويكون هذا الصلح بيعا في حق المدعي، لاعتقاده أن الذي يأخذه عوض ماله، حتى إنه إن وجد بما أخذه عيبا فله رده، وإن كان شقصا تثبت فيه الشفعة وجبت فيه، اللهم إلا أن يكون المأخوذ بعض العين المدعاة، فلا رد له ولا شفعة فيه، لأنه يزعم أنه أخذ بعض حقه وترك بعضا، ويكون إبراء في حق المدعى عليه، فلا يرد ما صالح عنه بعيب، ولا يؤخذ منه بشفعة، لاعتقاده أنه لم يزل ملكه عنه، وأن الذي دفعه إنما هو لافتداء اليمين، وقطع الخصومة. وإن كان المدعى عليه يعلم ما عليه فجحده ثم صالح عنه، فالصلح باطل في حقه، لأنه توصل بإنكاره إلى هضم الحق، وأكل مال الغير بالباطل، وهذا صلح حلل حراما في الظاهر، وكذلك لو ادعى المدعي شيئا لا يعتقد أنه له، ثم صالح عنه، فالصلح أيضا باطل في حقه، لأنه أكل للمال بدعواه الباطلة الكاذبة، والله أعلم.

قال: ومن اعترف بحق فصالح على بعضه لم يكن ذلك صلحا، لأنه هضم للحق. ش: من اعترف بحق وصالح على بعضه فله حالتان (إحداهما) أن يمتنع من الأداء إلا بالمصالحة، فهذا ليس بصلح صحيح، لما علل به المصنف من أنه هاضم للحق، آكل لمال الغير بامتناعه المحرم. (الحالة الثانية) أن يكون باذلا، وتقع المصالحة، كأن يقول: صالحني بخمسين عن المائة التي لك علي، أو على نصف دارك، ونحو هذا، فهل فيه روايتان، المشهور منهما وهو مختار القاضي، وابن عقيل وغيرهما، ومقتضى كلام الخرقي - أنه لا يصح، لأنه صالح عن بعض ماله ببعض، (والثانية) يصح، لأن معنى الصلح الاتفاق والرضا، وقد حصل هذا من غير هضم للحق، ولا امتناع من أداء الواجب، وحقيقة هذا أن المدعي يرضى بترك بعض حقه وأخذ البعض، فصار كما لو قال: أبرأتك من نصف المائة، فأعطني نصفها، أو وهبتك نصف داري. ونحو هذا، وهذا غير ممنوع منه بالاتفاق، قال

أبو البركات: وكذلك يخرج في قوله: أبرأتك من كذا على أن توفيني الباقي. واعلم أن مقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يسمى الصلح على الإقرار صلحا، وكذلك ابن أبي موسى، وسماه القاضي وطائفة من أصحابه صلحا، وصورته الصحيحة عندهم أن يعترف له بعين فيعاوضه عنها، أو يهبه بعضها، أو بدين فيبرئه من بعضه، ونحو ذلك فيصح إن لم يكن بشرط، ولا امتناع من أداء الحق بدونه، قال أبو محمد: والخلاف في التسمية، أما المعنى فمتفق عليه، وهو فعل ما عدا وفاء الحق وإسقاطه، على وجه يصح، والله أعلم. قال: وإذا تداعى نفسان جدارا معقودا ببناء كل واحد منهما، تحالفا وكان بينهما. ش: لاستوائهما في الدعوى بلا مرجح، والله أعلم. قال: وكذلك إن كان محلولا من بنائهما. ش: أي تحالفا وكان بينهما، لما تقدم، وصفة اليمين - قال أبو محمد -: أن يحلف كل واحد منهما - على نصف الحائط - أنه لو ولو حلف كل واحد منهما على جميع الحائط أنه له دون صاحبه جاز، وكان بينهما، قلت: والذي

ينبغي أن تجب اليمين على حسب الجواب والله أعلم. قال: وإن كان معقودا ببناء أحدهما كان له مع يمينه. ش: لأنه ترجح بالعقد ببنائه دون صاحبه، واليمين في جنبة أقوى المتداعيين، لكن شرط هذا العقد أن لا يمكن إحداثه عادة، عند القاضي وأبي البركات، وظاهر كلام الخرقي الإطلاق، والله أعلم.

كتاب الحوالة والضمان

[كتاب الحوالة والضمان] ش: الحوالة مشتقة من تحويل الحق من ذمة إلى ذمة، ولها شبه بالمعاوضة، من حيث إنها دين، وشبه بالاستيفاء، من حيث إنه يبرأ بها المحيل، ولترددها بين ذلك ألحقها بعض الأصحاب بالمعاوضة، وبعضهم بالاستيفاء، واختار أبو محمد أنها عقد إرفاق منفرد بنفسه، ليس بمحمول على غيره، إذ لو كانت بيعا للزم بيع الدين بالدين، ولما جاز التفرق قبل القبض، لأنه بيع مال الربا بجنسه، ولجازت بين جنسين كالبيع، قال: وهذا أشبه بكلام أحمد وأصوله (والضمان) يأتي إن شاء الله تعالى بيانه، والألف واللام فيه للجنس، فيشمل ضمان المال، وضمان النفس، والأصل في جواز الحوالة في الجملة الإجماع. 2065 - وسنده ما في الصحيحين عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مطل الغني ظلم، وإذا اتبع أحدكم على مليء فليتبع» . قال: ومن أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق فرضي، فقد برئ المحيل أبدا. ش: من أحيل بحقه على من عليه مثل ذلك الحق فرضي بالحوالة، برئ المحيل، سواء أمكن استيفاء الحق، أو تعذر لمطل أو فلس، أو غير ذلك، أما مع استيفاء الحق فواضح، إذ وضع الحوالة انتقال الحق من ذمة المحيل، إلى ذمة المحال عليه، وإذا يبرأ المحيل، وأما مع تعذره فلأنه مفرط، حيث لم يشترط اليسار. 2066 - ويروى أن حزنا جد سعيد بن المسيب كان له على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دين، فأحاله به، فمات المحال به عليه، فأخبره فقال: اخترت علينا أبعدك الله. فأبعده بمجرد احتياله، ولم يخبره أن له الرجوع، وهذا هو المشهور في المذهب، وبه قطع أبو البركات وغيره، قال أبو محمد: وعن أحمد ما يدل على أن المحال عليه إذا كان مفلسا، ولم

يعلم المحتال بذلك، فله الرجوع، قال: وبه قال جماعة من أصحابنا، إذ الفلس عيب في المحال عليه، فكان له الرجوع، كما لو اشترى سلعة فوجدها معيبة. ويستثنى من كلام الخرقي إذا شرط المحتال ملاءة المحال عليه، فإنه إذا بان معسرا يرجع على المحيل بلا خلاف نعلمه في المذهب اعتمادا على الشرط، وخرج من كلام الخرقي إذا لم يرض المحتال، ثم بانت عسرة المحال عليه، فإن المحتال يرجع على المحيل، بلا خلاف، لأنه لا تلزمه الحوالة على غير مليء لمفهوم الحديث، ومن هنا يتبين لك أن الرضا مسقط لرجوع المحتال على المحيل، لا أنه شرط لصحة الحوالة، إذ الحوالة تصح بدونه، لكن لصحتها شروط (أحدها) : رضا المحيل اتفاقا، (الثاني) : تماثل الحقين، وقد أشار الخرقي إلى ذلك، والتماثل في الجنس، كدراهم بدراهم، وفي الصفة، كناصرية بناصرية، وفي الحلول أو التأجيل، كحال بحال، ومؤجل بمؤجل، بشرط اتفاق الأجلين فإن أحاله بناصرية على دمشقية أو بالعكس، لم يصح عند أبي محمد، وكذلك عند من ألحقها بالمعاوضة، إذ اشتراط التفاوت فيهما ممتنع كالقرض، وأما من ألحقها بالاستيفاء فقال: إن كان تفاوتا يجبر على أخذه عند بذله كالجيد عن الرديء - صحت وإلا فلا. (الشرط

الثالث) أن يكون بمال معلوم كالمثليات لا بما لا يصح السلم فيه كالجوهر ونحوه، وفيما يصح السلم فيه غير المثلي كالمذروع والمعدود - وجهان، وفي الحوالة بإبل الصدقة على من عليه مثلها وجهان، وإن أحال بإبل الدية على إبل القرض صح إن قيل برد المثل في القرض، وإن قيل برد القيمة لم يصح، لاختلاف الجنس، وفي العكس كأن أحال المقرض بإبل الدية - لا يصح مطلقا، لأنا وإن قلنا يجب المثل فللمقرض مثل ما أقرض في صفته، وقيمته [ومن عليه الدية لا] يلزمه ذلك (الرابع) الديون على أربعة أقسام، دين سلم، ودين كتابة، وما عداهما وهو قسمان، مستقر، وغير مستقر، كثمن المبيع في مدة الخيار، [ونحو ذلك] ، فلا تصح الحوالة بدين السلم، ولا عليه، وهل يجري هذا الحكم على رأس ماله بعد الفسخ؟ فيه وجهان، وتصح بدين الكتابة – على الصحيح دون عليه، ويصحان في سائر الديون، مستقرها وغير مستقرها، وقيل: لا تصح

على غير مستقر بحال، وإليه ذهب أبو محمد، وجماعة من الأصحاب، وقيل: ولا بما ليس بمستقر، وهو اختيار القاضي في المجرد، وتبعه أبو الخطاب والسامري، والله أعلم. قال: ومن أحيل بحقه على مليء فواجب عليه أن يحتال. ش: نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك، اتباعا لظاهر الأمر في الحديث، وفسر المليء في رواية إسماعيل العجلي بأن يكون بماله، وقوله، وبدنه، قلت: فالمال أن يقدر على الوفاء، والقول أن لا يكون مماطلا، والبدن أن يمكن حضوره إلى

مجلس الحكم، هذا الذي يظهر لي في التفسير، فإن امتنع من القبول أجبر على ذلك، لكن هل تبرأ ذمة محيله قبل أن يجبره الحاكم؟ فيه روايتان، (إحداهما) نعم، فلو هلك المحال عليه معسرا فلا شيء له، وهي التي صححها القاضي يعقوب. (والثانية) : لا، لكن تنقطع المطالبة بمجرد الحوالة، ويصير بمثابة من بذل ما عليه من دين، فامتنع صاحبه من القبض، فإن الحاكم يجبره على القبض، ولا تبرأ ذمة الغريم قبل ذلك. وفهم من كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا يعتبر رضا المحتال، ولا المحال عليه، وهو الصحيح، أما المحتال فللحديث، وأما المحال عليه فلأن للإنسان أن يستوفي حقه بنفسه وبوكيله، والمحتال قد أقامه المحيل مقام الوكيل، والله أعلم. قال: ومن ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه، أو قال: ما أعطيته فهو علي فقد لزمه ما صح أنه أعطاه. ش: الضمان مشتق عند أبي محمد من الضم، فهو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، ورد بأن لام

الكلمة في الضم ميم، وفي الضمان نون، وشرط صحة الاشتقاق وجود حروف الأصل في الفرع، ويجاب بأنه من الاشتقاق الأكبر، وهو المشاركة في أكثر الأصول، مع ملاحظة المعنى، وعند القاضي من التضمن فذمة الضامن تتضمن الحق، وعند ابن عقيل: من الضمن، فذمة الضامن في ضمن ذمة المضمون عنه، والخلاف في الاشتقاق، أما المعنى فواحد، وعرفه أبو البركات بأنه التزام الإنسان في ذمته دين المديون، مع بقائه [عليه] ، وليس بمانع، لدخول كل من لم يصح تبرعه، ولا جامع، لخروج ضمان ما لم يجب، والأعيان المضمونة، ودين الميت إن برئ بمجرد الضمان عنه، على رواية.

وهو جائز في الجملة بالإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] . 2067 - قال ابن عباس: الزعيم الكفيل. 2068 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» إلى غير ذلك من الأحاديث. إذا تقرر هذا عدنا إلى لفظ الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقوله: ومن ضمن عنه حق بعد وجوبه عليه فقد لزمه. أي لزم الضامن ذلك الحق، وذلك لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه.

وقوة كلام الخرقي تقتضي أنه لا بد من رضا الضامن، وهو واضح، إذ الإنسان لا يلزمه عقد لم يلتزمه، لكن لا بد مع رضاه من أن يصح تبرعه، ومقتضى كلامه أنه لا يعتبر رضا المضمون له، ولا رضا المضمون عنه، ولا معرفتهما، لحديث أبي قتادة، وقال القاضي: تعتبر معرفتهما. وقيل: تعتبر معرفة المضمون له، دون المضمون عنه وقوله أو قال: ما أعطيته فهو علي. فهذه مسألة ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، ومذهبنا الصحة فيهما، فما ثبت أنه أعطاه - ولو في المستقبل - فإنه يلزمه، للآية الكريمة، إذ حمل البعير مجهول، وغير واجب حينئذ. وقول الخرقي: ما أعطيته. قال أبو محمد: مراده الاستقبال، دفعا للتكرار، ولأنه عطفه على الأول، فدل على أنه غيره، إذ العطف يقتضي المغايرة، واحتمل أن مراده الماضي، ويكون فائدة المسألة بيان صحة ضمان المجهول، وقد حكى الأصحاب في نحو هذا اللفظ، هل هو

للماضي أو للمستقبل وجهين، ذكرهما ابن أبي موسى، وكذلك النحاة قالوا: الفعل الماضي الواقع صلة لموصول، أو لنكرة موصوفة، يحتمل أن يحمل على الماضي، كما في قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] ويحتمل أن يحمل على المستقبل، كما في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] أي يتوبوا، ويرجح الأول إعمال الحقيقة والله أعلم. قال: ولا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن. ش: لا يبرأ المضمون عنه بنفس الضمان، بل يثبت الحق في ذمة الضامن، مع بقائه في ذمة المضمون عنه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه» . 2069 - وفي المسند «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: توفي صاحب لنا، فأتينا به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليصلي عليه، فخطا خطوة ثم قال: «أعليه دين» ؟ قلنا: ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة فقال: الديناران علي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وجب حق الغريم، وبرئ الميت منهما؟» قال: نعم. فصلى عليه،

ثم قال بعد ذلك: «ما فعل الديناران» ؟ قال: إنما مات أمس. قال: فعاد إليه من الغد، فقال: قد قضيتهما، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الآن بردت جلدته» فأخبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه حينئذ أي حين القضاء بردت جلدته. وعن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أن المضمون عنه إذا كان ميتا برئ بمجرد الضمان عنه، استدلالا بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث جابر: «وبرئ الميت منهما» ويجاب عنه بأن هذا ليس إخبارا منه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ببراءته، وإنما هو استفهام من أبي

قتادة، في أنه هل ضمن متبرعا لا ليرجع، ولهذا أجابه بنعم. (تنبيه) : حكى أبو الخطاب وأبو محمد وغيرهما هذه الرواية في الميت مطلقا، وخصها أبو البركات بالميت المفلس والله أعلم. قال: فمتى أدى رجع به عليه، سواء قال له: اضمن عني أو لم يقل. ش: إذا أدى الضامن الدين لم يخل من أحوال، (الأول) ضمن بإذنه وأدى بإذنه، (والثاني) ضمن بإذنه وأدى بغير إذنه (الثالث) بالعكس، ولا خلاف عندنا أنه يرجع في هذه الصور الثلاث، (الرابع) ضمن وقضى بغير إذنه، لكن نوى الرجوع فعنه لا يرجع، لأن أبا قتادة لو استحق الرجوع لصار له دين على الميت، وإذا لم يصل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليه، لعدم فائدة الضمان إذا، إذ ذمة الميت لم تزل مشغولة بدين، (وعنه) وهي اختيار الخرقي، والقاضي، وأبي الخطابي، والشريف، وابن عقيل، والشيرازي وابن

الكفالة بالنفس

البنا، وغيرهم - يرجع، لأنه قضاء مبرئ من واجب عليه، فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وهو شامل لما إذا أرضعت بأمره أو بلا أمره، وأما حديث أبي قتادة فإنما قضى متبرعا، لعلمه أنه لا وفاء له، وقصده أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يصلي عليه، بل قد يقال: في حديث أبي قتادة دليل على أن غير المتبرع يرجع، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له: «وجب حق الغريم» أي عليك «وبرئ الميت منهما» (الحال الخامس) إذا ذهل عن قصد الرجوع وعدمه، وظاهر كلام الخرقي - وتبعه صاحب الوجيز - أنه يرجع، وإذا المقتضي للرجوع هو تأدية الواجب عن الغير والمسقط له هو قصد التبرع وقد عرفت من هذا (حالا سادسا) وهو إذا نوى التبرع، فلا يرجع بلا ريب، وهذه الصور تستثنى من عموم كلام الخرقي، والله أعلم. [الكفالة بالنفس] قال: ومن تكفل بنفس لزمه ما عليها إن لم يسلمها. ش: الكفالة بالنفس صحيحة، في قول الجمهور، حتى

قيل: إنه إجماع، لقول الله تعالى - حكاية عن يعقوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] وفيه نظر، إذ الظاهر أن المراد بالموثق اليمين، ولأن النفس يجب تسليمها بعقد، فوجب تسليمها بالكافلة كالمال، فعلى هذا إن لم يسلم النفس مع بقائها لزمه ما عليها، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الزعيم غارم» وقياسا على الكفالة بالمال. ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه لا بد من رضا الكفيل، وهو واضح، وأنه لا يشترط لصحتها رضا المكفول به، وهو أحد الوجهين ككفالة المال، والوجه الآخر يشترط، لئلا يفوت معنى الكفالة، إذ معناها حضور المكفول به، وإذا كان بلا إذنه لم يلزمه الحضور. وشرط صحة الكفالة بالنفس أن تكون بالمال، فلا تصح الكفالة ببدن من عليه حد أو قصاص، وتخصيص الخرقي الكفالة بالنفس يخرج منه الكفالة بالعين وهو واضح في

غير المضمونة، وفي المضمونة وجهان، والله أعلم. قال: فإن مات برئ المتكفل. ش: إذا مات المكفول به برئ المتكفل، لأن الكفالة على الحضور، وبموت المكفول به يسقط عنه الحضور، وإذا سقط عنه الحضور سقط عن فرعه وهو الكفيل، والله سبحانه أعلم.

كتاب الشركة

[كتاب الشركة] الشركة بوزن نعمة، وبوزن سرقة، وحكى بعضهم شركة بوزن ثمرة، وهي: الاجتماع في استحقاق أو تصرف، وهي جائزة بالإجماع، وسند ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] أي من الشركاء. 2070 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا» والشركة على ضربين، شركة ملك، وشركة عقود، وهذا المقصود هنا. [حكم شركة الأبدان] قال: وشركة الأبدان جائزة. ش: نص أحمد على ذلك. 2071 - مستدلا «بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشرك بين عمار وسعد وابن مسعود» ، فجاء سعد بأسيرين، ولم يجيئا بشيء، ومعنى

شركة الأبدان أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما، وكلام الخرقي يشمل [الاشتراك] في المباح، [كالاشتراك] في الاصطياد، والمعادن ونحو ذلك، وكلام أحمد واستدلاله نص فيه، وإطلاق الخرقي يشمل ما لو اختلفت الصنائع، وهو أحد الوجهين، واختيار القاضي، لأن من لزمه عمل شيء لا يعرفه أمكنه القيام به، بأن يستأجر عليه من يفعله، ونحو ذلك (والثاني) - وهو اختيار أبي الخطاب لا يصح، لئلا يلزم الشخص ما لا قدرة له على فعله، والله أعلم. قال: وإن اشترك بدنان بمال أحدهما، أو بدنان بمال غيرهما، أو بدن ومال، أو مالان وبدن صاحب أحدهما،

أو بدنان بماليهما، تساوى المال أو اختلف، فكل ذلك جائز. ش: أنواع الشركة الصحيحة أربعة (أحدها) شركة الأبدان وقد تقدمت، (الثاني) : شركة العنان، وهي المذكورة في قوله: أو بدنان بماليهما. أي يشترك رجلان بماليهما، ليعملا فيه بأبدانهما، وهي جائزة بالإجماع، حكاه ابن المنذر. ومأخوذة قيل: من تساوي عناني الفرسين في السير. لأن كلا من الشريكين مساو لصاحبه في المال والتصرف، وقيل: بل من «عن» إذا عرض، فكل واحد منهما عن له أن يشارك صاحبه، وقيل: من عانه إذا عارضه. فكل واحد منهما عارض الآخر بمثل ماله وعمله، (الثالث) : شركة المضاربة، وهي المذكورة في قوله: أن يشترك بدنان بمال أحدهما، أو بدن ومال. والأصل فيها أن يكون من أحدهما المال، ومن الآخر العمل فيه. 2072 - والأصل في جوازها ما روى مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرجا في جيش إلى العراق، فتسلفا من أبي موسى مالا وابتاعا به متاعا، وقدما به إلى المدينة فباعاه وربحا فيه، فأراد

عمر رأس المال والربح كله، فقالا: لو تلف كان ضمانه علينا، فلم لا يكون ربحه لنا. فقال رجل: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا؟ قال: قد جعلته. وأخذ منهما نصف الربح، وهذا دليل على جواز القراض. 2073 - وقد روي جوازه أيضا عن عثمان، وعلي، وابن مسعود، وحكيم بن حزام، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة

فكان إجماعا، مع أن ابن المنذر قد حكى ذلك إجماعا، وحكمة الشرع تقتضي جوازها. [إذ الدراهم والدنانير لا تنمي إلا بالتجارة، وقد يملكها من لا يحسن التجارة، ويحسن التجارة من لا يملكها، فالحكمة تقتضي جوازها من الجانبين] ، وهي مأخوذة قيل من الضرب في الأرض، وهو السفر فيها غالبا للتجارة، قال سبحانه: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] وقيل: بل من ضرب كل واحد منهما في الربح وتسمى قراضا، قيل: من القطع، يقال: قرض الفأر الثوب. إذا قطعه، فصاحب المال اقتطع من ماله قطعة وسلمها للعامل، واقتطع له قطعة من الربح. وقيل: بل من المساواة والموازنة، يقال: تقارض الشاعران، إذا وازن كل واحد منهما الآخر بشعره، وهنا من العامل العمل، ومن الآخر المال فتوازنا. انتهى. وأما إذا اشترك بدنان بمال أحدهما فهذه مضاربة يشترط فيها عمل رب المال، والذي ذكره الخرقي [وهو] منصوص أحمد في رواية أبي الحارث - الجواز لأن من لا مال له

يستحق المشروط له من الربح بعمله في مال غيره، وهذا [هو] حقيقة المضاربة، وذهب ابن حامد، وتلميذه، وتلميذ تلميذه القاضي، وأبو الخطاب، وطائفة إلى أن هذا لا يصح، إذ وضع المضاربة تسليم المال إلى المضارب، ومع اشتراط عمله لا تسليم وعلى هذا في اشتراط عمل غلامه وجهان، (المنع) وهو قول القاضي، إذ يد الغلام كيد السيد (والجواز) إذ هو مال فصح [كما] لو ضم إليه بهيمة يحمل عليها ونحو ذلك. «الرابع» : شركة الوجوه، وهي أن يشترك اثنان على أن يشتريا بجاههما دينا، وهي جائزة، إذ معناها وكالة كل واحد منهما صاحبه في الشراء والبيع، والكفالة بالثمن، وكل ذلك صحيح، ولأنها مشتملة على مصلحة من غير مضرة، وأخذها أبو محمد من [قول] الخرقي: أو بدنان بمال غيرهما، كيلا يخل بنوع من أنواع الشركة وقال القاضي: مراد الخرقي بهذا أن يدفع واحد ماله إلى اثنين مضاربة، فيكون المضاربان شريكين في ربح بمال غيرهما [لأنهما إذا أخذا المال بجاههما فلا يكونان مشتركين بمال

غيرهما] وهذا الذي قال القاضي هو ظاهر اللفظ، وعلى هذا يكون هذا نوعا من أنواع المضاربة [ويكون] قد ذكر للمضاربة ثلاث صور، وبقي من كلام الخرقي قوله: أو مالان وبدن صاحب أحدهما، وهذا يجمع شركة ومضاربة، فمن حيث إن من كل واحد منهما المال، يشبه شركة العنان، ومن حيث إن أحدهما يعمل في مال صاحبه بجزء من الربح هو مضاربة، ونبه الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذا على أنه كما يجوز كل واحد من أنواع الشركة على انفراده، كذلك يجوز اجتماع الجميع والله أعلم. قال: والربح على ما اصطلحا عليه. ش: يعني فيما تقدم من أنواع الشركة، أما في المضاربة فإجماع حكاه ابن المنذر، وأما في شركة العنان فاعتمادا على الشرط، ولأن أحدهما قد يكون أبصر بالتجارة من الآخر فيجوز اشتراط زيادة في الربح في مقابلة عمله، كاشتراط الربح في مقابلة عمل المضارب، وكذلك شركة الأبدان لأنهما قد يتفاضلان في العمل، وأما شركة الوجوه فإن قلنا: هي داخلة في كلام الخرقي، اقتضى كلامه أن يكون حكمها كذلك وهذا الذي قطع به أبو البركات.

وقال أبو محمد: إنه قياس المذهب، لأنها شركة فيها عمل، فجاز ما اتفقا عليه كسائر الشركات. وقال القاضي: الربح بينهما على قدر ملكيهما في المشترى؛ لأن الربح يستحق بالضمان، لوقوع الشركة عليه خاصة، والضمان لا تفاضل فيه. وأما ما جمع شركة ومضاربة - كأن يشترك مالان وبدن صاحب أحدهما، مثل أن يخرج كل واحد منهما ألفا ليعمل أحدهما فيهما - فلا بد وأن يشترط للعامل أكثر من ربح ماله، كأن يشترط له الثلثان، أو النصف والربع، ونحو ذلك في مسألتنا، ليكون الزائد على ربح ماله مقابلا لعمله في نصيب صاحبه، ولو جعل للعامل في صورتنا دون النصف لم يصح، لأن الربح: [استحقاقه إما بمال أو بعمل، وهذا الجزء الزائد على النصف الذي شرط] لغير العامل ليس في مقابلة مال، ولا عمل، ولو جعلا الربح والحال هذه بينهما نصفين فلا شركة ولا مضاربة، إذ شركة العنان وضعها الشركة في المال والعمل، وقد فات العمل من أحدهما،

والمضاربة وضعها جعل جزء من [الربح في مقابلة عمل] العامل، وقد فات الجعل، ويكون هذا إبضاعا، وهو جائز إن لم يكن عوضا [عن قرض، كأن كان العامل اقترض الألف، وجعل عمله في مال صاحبه عوضا] عن قرضه، فإن ذلك غير جائز، هذا كله إذا اصطلحا على ذكر شيء، فأما إن لم يصطلحا على شيء، فإن في المضاربة يكون الربح لمالك المال، وللعامل أجرة المثل، وفي العنان: يكون الربح على قدر المالين، وفي شركة الوجوه: على قدر ملكي المشتري، وفي شركة الأبدان: يقسم أجرة ما تقبلاه بالسوية، وهل يرجع كل واحد على الآخر بأجرة عمله؟ فيه وجهان، والله أعلم.

ما يجوز للمضارب وما لا يجوز

قال: والوضيعة على قدر المال. ش: الوضيعة تختص المال وتتقدر به، بلا خلاف نعلمه، ففي شركة العنان على قدر المالين، وفي شركة الوجوه على قدر ملكي المشتري، وفي المضاربة تختص المال لا تتعداه إلى العامل، والله أعلم. قال: ولا يجوز أن يجعل لأحد من الشركاء فضل دراهم. ش: أو يجعل نصيبه كله من الربح دراهم؛ كأن يشترط له ثلث الربح [مثلا] وعشرة دراهم، أو يشترط له مائة درهم، من غير جزء من الربح، وفي كليهما يفسد العقد، وقد حكاه ابن المنذر في القراض إجماعا، والمعنى في ذلك احتمال أن لا يربح غيرها، فيحصل على جميع الربح، وفي ذلك ضرر وغرر بالآخر، والشريعة تأباه، والله أعلم. [ما يجوز للمضارب وما لا يجوز] قال: والمضاربة إذا باع بنسيئة بغير أمر ضمن في إحدى الروايتين، والأخرى: لا يضمن.

المضاربة لأكثر من رجلين

ش: إذا أذن للمضارب أو لغيره من الشركاء أن يبيع نسيئة أو أمر بذلك أو نهى [عنه] اعتمد الإذن، ومتى خالف ضمن، وإن أطلق له جاز أن يبيع بالحال، وهل يجوز أن يبيع بالنسيئة؟ فيه روايتان: (الجواز) : واختاره ابن عقيل، إذ ذلك عادة التجار، فكان مأذونا له عرفا. (والمنع) : إذ التصرف المأذون فيه ما كان على وجه الحظ، ومع النسيئة لا حظ، لما في ذلك من التغرير بالمال، فكأنه منهي عنه عرفا. فعلى الأول: لا ضمان عليه ما لم يفرط ببيع من لم يوثق به، أو من لم يعرفه. وعلى الثاني: يلزمه ضمان الثمن. «قلت» : وينبغي أن يكون حالا، والبيع صحيح على مقتضى كلام الخرقي، وجعله أبو محمد من تصرف الفضولي، فيبطل على الصحيح، والله أعلم. [المضاربة لأكثر من رجلين] قال: وإذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر، إذا كان فيه ضرر على الأول، [فإن فعل وربح رده في شركة الأول] .

ربح المضارب في سلعة وخسارته في الأخرى

ش: إذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على الأول، كأن يكون المال الثاني كثيرا، يشغله عن [العمل في] الأول، أو الأول كثير، متى اشتغل بغيره تعطل العمل في بعضه، إذ وضع المضاربة على الحظ والنماء، ومع وجود الضرر لا حظ ولا نماء، فإن خالف وفعل رد ما ربح في المضاربة الثانية في [شركة] الأول، لأن الأول - والحال هذه - يستحق منافعه، فيستحق ما حصل في مقابلتها، وخرج من كلام الخرقي إذا لم يكن على الأول ضرر بالمضاربة، لقلة المال ونحو ذلك، فإن للمضارب المضاربة لآخر، إذ منافعه لم تملك عليه، إنما الذي ملك عليه فعل ما فيه حظ ونحوه، والله أعلم. قال: وليس للمضارب ربح حتى يستوفي رأس المال. ش: وضع المضاربة أن ينض مال المضاربة، ثم يقسم الربح، والله أعلم. [ربح المضارب في سلعة وخسارته في الأخرى] قال: وإذا اشترى سلعتين فربح في إحداهما وخسر في الأخرى؛ جبرت الوضيعة من الربح.

اتفاق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما

ش: لأن رأس المال واحد، فلا يستحق المضارب فيه ربحا حتى يستوفي رأس المال، كالتي قبلها، والله أعلم. قال: وإذا تبين للمضارب أن في يده فضلا، لم يكن له أخذ شيء منه إلا بإذن رب المال. ش: لأن الربح وقاية لرأس المال، فربما خسر بعد، فتبين أن لا ربح، ولأن رب المال شريكه في الربح، فلا يقاسم نفسه إلا بإذنه، وخرج إذا أذن رب المال لأن الحق لهما، لا يخرج عنهما، نعم: متى خسر المال - والحال هذه - لزم العامل رد أقل الأمرين مما أخذه، أو نصف الخسران، إذا قسما الربح نصفين. وقوة كلام الخرقي يقتضي أن العامل يملك الربح بنفس الظهور، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والمنصوبة في المغني للخلاف، اعتمادا على الشرط، إذ هو صحيح، فوجب العمل بمقتضاه. «والرواية الأخرى» : لا يملكه إلا بالقسمة، إذ لو ملكه بالظهور لكان ربحه له، وكان شريكا لرب المال به، وكل ذلك ممتنع، والله أعلم. [اتفاق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما] قال: وإذا اتفق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما، كان الربح بينهما والوضيعة على المال.

ش: لا إشكال في صحة شرط الربح، ولا في بطلان اشتراط الوضيعة أو بعضها على المضارب، لمنافاة هذا الشرط لمقتضى المضاربة. ومقتضى كلام الخرقي أن العقد لا يفسد بهذا الشرط، وهو منصوص أحمد والمذهب، لعدم تأثيره في جهالة الربح، وعنه يفسد العقد، لأنه شرط فاسد، أشبه اشتراط فضل دراهم، والله أعلم. قال: ولا يجوز أن يقال لمن عليه دين ضارب بالدين الذي عليك. ش: حكى ابن المنذر هذا إجماعا عمن يحفظ عنه من أهل العلم، لأن المال ما دام في يد المدين لا يصير للغريم إلا بقبضه، ولم يوجد القبض هنا، وخرج أبو البركات الصحة من صحة المضاربة بالعروض، لأنه إذا اشترى شيئا للمضاربة، ودفع الدين، فقد وقع الشراء [والدفع بإذن الغريم] ، فيصير كما لو دفع إليه عرضا، وقال: ضارب به، والله أعلم. قال: وإن كان في يده وديعة جاز له أن يقول: ضارب بها.

ش: لأن الوديعة ملك لصاحبها، فجازت المضاربة عليها، كما لو كانت حاضرة. ومراد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بهذه الوديعة: الدراهم والدنانير، إذ غرضه بهذه المسألة بيان أن الوديعة يجوز دفعها لمن هي في يده مضاربة، وقد يقال: إن إطلاقه يشمل ما إذا كانت غير الدراهم والدنانير، فيكون من مذهبه جواز المضاربة على العروض، كالرواية المرجوحة، مع أن المسألة السابقة قد تأتي ذلك. والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الوكالة

[كتاب الوكالة] الوكالة بفتح الواو وكسرها: التفويض. وفي الاصطلاح: التفويض في شيء خاص في الحياة، وهي جائزة بالإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] . ولهذا «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يبعث السعاة لقبض الصدقات» ، وقَوْله تَعَالَى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف: 19] . 2074 - وأيضا «توكيل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عروة بن الجعد في شراء الشاة» . 2075 - «وتوكيل أبي رافع في تزويج ميمونة» .

ما تجوز فيه الوكالة

2076 - «وعمرو بن أمية الضمري في تزويج أم حبيبة» . [ما تجوز فيه الوكالة] قال: ويجوز التوكيل في الشراء والبيع، ومطالبة الحقوق، والعتق، والطلاق؛ حاضرا كان الموكل، أو غائبا. ش: يجوز التوكيل في الشراء، لما تقدم من الآية والخبر، ولذلك قدمه الخرقي، وفي البيع، لأنه في معناه، وكذلك ما في معناهما من الإجارة، والصلح، والرهن، والجعالة، والمساقاة، والنكاح، ونحو ذلك من عقود المعاوضات، ويجوز التوكيل في مطالبة الحقوق.

2077 - لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكل عقيلا عند أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: ما قضي له فلي، وما قضي عليه فعلي. 2078 - ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان، وقال: إن للخصومة قحما، وإن الشيطان ليحضرها، وإني لأكره أن أحضرها. قال أبو زياد: القحم: المهالك. ومثل هذا يشتهر، ولم ينقل إنكاره فكان إجماعا، ويجوز التوكيل في العتق، والطلاق، لأن الحاجة قد تدعو إليهما، أشبها ما تقدم، ولأنه إذا جاز التوكيل في الإنشاء؛ جاز في الإزالة بطريق الأولى، وفي معناهما الوقف، والهبة، والخلع، ونحو ذلك مما يزيل ملك المال، أو ملك البضع، وسواء في جميع ذلك حضور الموكل وغيبته، لعموم الأدلة، وإنما ذكر

المصنف ذلك تنبيها على مخالفة الإمام أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذ عنده أن للخصم الامتناع من محاكمة الوكيل إذا كان الموكل حاضرا، والله أعلم. قال: وليس للوكيل أن يوكل فيما وكل فيه، إلا أن يجعل ذلك إليه. ش: لا يجوز للوكيل التوكيل إلا بإذن، على المشهور من الروايتين، واختاره الخرقي، وأبو محمد، وغيرهما؛ إذ إذن الموكل إنما يتناول تصرف الوكيل بنفسه، فلا يتعداه إلى غيره، كما لو نهاه، فإنه ليس له التوكيل اتفاقا. وعنه: له ذلك، لأن له أن يتصرف بنفسه، فله أن يفوض ذلك إلى نائبه كالمالك، أما إن جعل التوكيل إليه - إما بنص، ولفظ عام، بأن قال له: اصنع ما شئت. أو قرينة حالية كأن يكون الوكيل لا يتولى مثله ذلك، لدناءة الموكل فيه، وشرف الوكيل، ونحو ذلك، أو يعجز عنه لكثرته - فإنه يجوز، اعتمادا على الإذن اللفظي أو العرفي، نعم هل يجوز التوكيل فيما يعجز عنه في الجميع، أو في القدر الذي يعجز

عنه فقط؟ فيه وجهان، وحيث جوز له التوكيل فإنه يتقيد بأمين، لأن ذلك هو الحظ دون غيره، والله أعلم. قال: وإذا باع الوكيل ثم ادعى تلف الثمن، من غير تعد منه، فلا ضمان عليه، فإن اتهم حلف. ش: الوكيل في البيع وكيل فيه وفيما ينشأ عنه، وهو حفظ الثمن، فإذا باع وقبض الثمن، ثم ادعى تلف الثمن، والحال أنه من غير تعد منه، فالقول قوله، لأنه أمين، والقول قول الأمين، والحكمة في ذلك أنه لو كلف إقامة البينة على ذلك؛ لتعذر عليه أو شق، فيمتنع الناس من الدخول في الأمانة مع الحاجة إليه، فيحصل الضرر، ولهذا قلنا: إذا ادعى التلف بأمر ظاهر - كحريق عام، ونهب جيش، ونحو ذلك مما تسهل إقامة البينة عليه - كلف إقامة البينة على وجود ذلك، ثم القول قوله في التلف، ويتفرع على أن القول قوله أنه لا ضمان عليه، أما لو ثبت تعديه ببينة أو إقرار؛ فإن الضمان عليه، لزوال أمانته، فهو كالغاصب، ومتى قلنا: القول قوله. فأنكره الموكل فإنه يحلف، لأن ما ادعاه عليه محتمل، والله أعلم.

قال: ولو وكله أن يدفع إلى رجل مالا، فادعى أنه دفعه إليه، لم يقبل قوله على الآمر إلا ببينة. ش: إذا وكل وكيلا أن يدفع إلى رجل مالا، فادعى أنه دفعه إليه، وأنكره من أمر بدفعه إليه، فإن قول الوكيل لا يقبل على الآمر، ويلزمه الضمان على المذهب، لأنه مفرط، حيث لم يشهد على الدفع، أشبه ما لو أمره بذلك فخالف، (وعنه) : يقبل قول الوكيل على الآمر، فلا ضمان عليه، حملا للتفريط على المالك، لأنه لم يحتط لنفسه، حيث لم ينص له على الإشهاد، ولهذا قلنا - على الصحيح -: أنه لو دفع المال بحضرته لم يضمن، لأن حضوره قرينة رضاه بالدفع بغير بينة، وقيل: لا ينتفي الضمان. اعتمادا على أن الساكت لا ينسب له قول، (هذا كله) إذا لم يكن بينة، أما مع البينة فإن قوله يقبل على الآمر، وينتفي عنه الضمان، لعدم تفريطه، ولا فرق بين أن تكون البينة قائمة، أو غائبة، أو ميتة، إذا كانت على حال لو وجدت

قبلت، نعم لو كانت ممن اختلف في ثبوت الحق بشهادتها - كشاهد واحد، أو رجل وامرأتين - فهل يبرأ من الضمان؟ قال أبو محمد: يخرج على روايتين. وقول الخرقي: ولو وكله أن يدفع إلى رجل مالا. يشمل الدفع على أي صفة كان، فدخل في كلامه ما لو أمره بالإيداع، والأصحاب على أنه في الإيداع لا يلزمه الإيداع إذا لم يشهد، لعدم الفائدة في الإشهاد، إذ القول قول المودع في الرد والتلف، ويرد بأن فيه فائدة، وهو ثبوت الوديعة، فلو مات أخذت من تركته. وقول الخرقي: لم يقبل قوله على الآمر. دل بطريق التنبيه أنه لا يقبل قوله على من أمر بالدفع إليه، لأنه إذا لم يقبل قوله على من ائتمنه، فعلى من لم يأتمنه أولى. ومقتضى كلام الخرقي: أن الآمر أنكر الوكيل، وعلى هذا لو صدق الآمر الوكيل في الدفع فلا ضمان عليه. وصرح القاضي وغيره

من الأصحاب: أنه لا فرق في تضمين الوكيل بين تصديق الآمر له أو تكذيبه، لأن مناط الضمان كونه فرط، حيث لم يشهد، والله أعلم. قال: وشراء الوكيل من نفسه غير جائز. ش: هذا هو المشهور من الروايات، اختارها الخرقي، والشريف، وأبو الخطاب، وابن عقيل، وغير واحد، للتهمة، إذ الإنسان طبع على طلب الحظ لنفسه، ومقتضى الوكالة طلب الحظ للموكل، فيتنافى الغرضان، أو أن مقتضى الإذن في البيع أن يبيع من غيره، لا من نفسه، فكأنه قال: بع هذا ولا تبع من نفسك. (والرواية الثانية) : يجوز، بشرط أن يزيد على مبلغ ثمنه في النداء، لانتفاء التهمة غالبا، ويلزم على هذه الرواية أن يقول بجواز التوكيل للوكيل، إما مطلقا، وإما مع وجود قرينة تدل

على ذلك. (والرواية الثالثة) : يجوز، بشرط أن يوكل من يبيع، ويكون هو أحد المشتريين، معللا بأنه لا يأخذ بإحدى يديه من الأخرى. (والرواية الرابعة) : يجوز أن يشارك فيه، لا أن يشتريه كله، لانتفاء التهمة أو ضعفها إذا، وعلى الروايات كلها إذا أذن له في الشراء من نفسه جاز له الشراء بلا نزاع، نعم على مقتضى تعليل أحمد - في الرواية الثالثة - لا يجوز؛ لأنه يأخذ بإحدى يديه من الأخرى، والله أعلم. قال: وكذلك الوصي. ش: حكم الوصي حكم الوكيل، لا يجوز له الشراء من مال موليه إلا حيث يجوز للوكيل، لاستوائهما معنى، فاستويا حكما، إذ كل منهما متصرف على الغير، والله أعلم. قال: وشراء الرجل لنفسه من مال ولده [الطفل] جائز، وكذلك شراؤه له من نفسه.

ش: يجوز للأب أن يشتري لنفسه من مال ولده الذي تحت حجره، ويبيع له من ماله، لانتفاء التهمة في حقه غالبا، لكمال شفقته، والله أعلم. قال: وما فعل الوكيل بعد فسخ الموكل أو موته فباطل. ش: أما إذا علم الوكيل بفسخ الموكل أو موته، فلا شك في بطلان ما فعله بعد ذلك، وأما إذا لم يعلم، فظاهر كلام الخرقي - وهو اختيار الشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل وغيرهم -: أن تصرفه غير نافذ أيضا، لأنه متصرف بلا إذن، لزواله بالفسخ أو الموت، ولا ملك، أشبه الفضولي. قال القاضي: وهذا أشبه بأصول المذهب وقياسه، لقولنا: إن الخيار إذا كان لهما كان لأحدهما الفسخ من غير محضر من الآخر، ولم يذكر عن أحمد نصا، والمنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية ابن منصور، وجعفر بن محمد، وأبي الحارث: أن تصرفه نافذ، اعتمادا على أن الحكم لا يثبت في حقه قبل العلم، كما نقول في الأحكام المبتدأة، قال

سبحانه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] ومقتضى كلام الخرقي أن الوكالة عقد جائز، لبطلانه إياها بالموت والفسخ، وهو صحيح. (تنبيه) : القاضي وأبو محمد وغيرهما يجعلون الخلاف في نفس انفساخ عقد الوكالة قبل العلم، وأبو البركات وغيره - وهو مقتضى كلام الخرقي - يجعلون الخلاف في نفوذ التصرف، لا في نفس الانفساخ، وهذا أوفق لمنصوصات أحمد، قال أبو العباس: وهو لفظي، والله أعلم. قال: وإذا وكله في طلاق زوجته فهو في يده، حتى يفسخ أو يطأ. ش: الوكالة تنفسخ بما يدل على الفسخ من لفظ أو فعل، إناطة للحكم على المعنى، فإذا وكله في طلاق زوجته فإنه يملك ذلك مطلقا، لعدم تقييده له بزمان ولا مكان، إلى أن يفسخ أو يطأ، إذ وطؤه دليل رغبته فيها، وعلى هذا إذا باشرها دون الفرج، فقال أبو محمد: فيه احتمالان، بناء على التردد في حصول الرجعة بذلك، والله أعلم.

قال: ومن وكل في شراء شيء فاشترى غيره، فإن الآمر مخير في قبول الشراء، فإن لم يقبل لزم الوكيل، إلا أن يكون اشتراه بعين المال، فيبطل الشراء. ش: من وكل في شراء شيء فاشترى غيره - كأن وكل في شراء عبد زيد، فاشترى عبد عمرو، أو في شراء عبد، فاشترى ثوبا، ونحو ذلك - فلا يخلو إما أن يقع الشراء بعين مال الموكل، أو في ذمة الوكيل، فإن وقع بعين مال الموكل فهل يبطل، وهو المذهب. 2079 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك» ، أو يقف على إجازة المالك - لحديث عروة بن الجعد - فيه روايتان، وإن وقع في ذمة الوكيل بنية الشراء للموكل فهل الشراء صحيح - وهو المذهب المعروف المشهور، وجزم به الشيخان وغيرهما - إذ التصرف وقع في الذمة، وهي قابلة لذلك، أو باطل - كالشراء بالعين، حكاه القاضي في الروايتين؟ فيه خلاف، وعلى الأول فهل يلزم المشتري، لكونه اشترى لغيره بغير أمره،

باب الإقرار

أشبه ما لو لم ينوه له، أو يقف على إجازة الموكل، فإن أجازه لزمه، لأنه اشترى له، أشبه ما لو أذن فيه، وإن رده لزم الموكل لصدور الشراء منه؟ فيه روايتان، حكاهما أبو محمد، ثم شرط القاضي - وتبعه أبو البركات - أن لا يسمي الموكل في العقد إذا كان الشراء في الذمة، فإن سماه بطل، وظاهر كلام الخرقي وأبي محمد عدم اشتراط هذا الشرط، والله أعلم. [باب الإقرار] بالحقوق الإقرار: الاعتراف، وحده الإظهار لأمر متقدم، وليس بإنشاء، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلى قوله: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] وقال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] .

الاستثناء في الإقرار

2080 - «وثبت أن النبي – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزا بإقراره، وقال: «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» . وأجمع المسلمون على صحة الإقرار في الجملة. [الاستثناء في الإقرار] قال: ومن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه، كان استثناؤه باطلا، إلا أن يستثني عينا من ورق، أو ورقا من عين. ش: إذا أقر بشيء واستثنى من جنسه - كأن أقر بعشرة دراهم، واستثنى منها درهما ونحو ذلك - فإنه يصح بلا نزاع، ويكون مقرا بالباقي بعد المستثنى، لورود ذلك في الكتاب، والسنة، وكلام العرب، قال سبحانه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] . 2081 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشهيد: تكفر عنه خطاياه كلها إلا الدين» . ويدخل في كلام الخرقي ما إذا أقر بنوع من

جنس، واستثنى نوعا آخر، كأن أقر بتمر برني، واستثنى تمرا معقليا، ونحو ذلك، وهو أحد احتمالي [المغني. والاحتمال الآخر - وهو الصحيح عند] أبي محمد -: لا يصح، لعدم دخول المعقلي في البرني. وإن أقر بشيء واستثنى من غير جنسه؛ فلا يخلو إما أن يكون ذلك في الدراهم والدنانير، أو في غيرهما، فإن كان في غيرهما - كأن أقر بدراهم واستثنى منها ثوبا، أو بثياب واستثنى منها دراهم، أو بتمر واستثنى منه برا، ونحو ذلك - فالمذهب المعروف المشهور: أنه لا يصح، لأن الاستثناء؛ إما إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، أو ما يصلح أن يتناوله اللفظ، مأخوذ من قولهم: ثنيت فلانا عن رأيه: إذا صرفته عن رأي كان عازما عليه، وأحد الجنسين لا يتناوله الآخر، ولا يصح أن يتناوله إلا على سبيل المجاز، والأصل الحقيقة، وعن أبي الخطاب صحة ذلك، بناء على جواز استثناء أحد النقدين من الآخر. انتهى.

وإن كان ذلك في الدراهم والدنانير - مثل أن أقر بمائة درهم، واستثنى منها دينارا، أو بدينار واستثنى منه خمسة دراهم - ففيه روايتان: (إحداهما) : لا يصح، اختارها أبو بكر، لما تقدم. (والثانية) : يصح، اختارها الخرقي، لأنهما في معنى الجنس الواحد، لأن قدر أحدهما معلوم من الآخر، فإذا قال: له علي مائة درهم إلا دينارا، فمعناه إلا عشرين درهما، ويعبر بأحدهما عن الآخر، فمعنى: له علي دينار إلا درهمين، له علي عشرون درهما إلا درهمين. إذ الدينار يعبر به عن عشرين درهما، ومهما أمكن حمل الكلام على وجه صحيح حمل عليه، فعلى هذا يرجع في تفسير

الدينار إلى المقر إن لم يكن للدينار بالبلد سعر معلوم، وإن كان له سعر فهل يرجع إلى سعره، أو إلى التفسير؟ فيه قولان، قال أبو محمد: ويمكن حمل الروايتين على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال بالصحة فيه، إذا عبر بأحدهما عن الآخر، أو علم قدره منه، والموضع الذي قال بالبطلان فيه، إذا انتفى ذلك، والله أعلم. قال: ومن ادعي عليه شيء فقال: قد كان ذلك وقضيته. لم يكن ذلك إقرارا. ش: هذا منصوص أحمد في رواية جماعة، وجزم به الجمهور، كالشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وشيخهم، وقال: لم أجد رواية بغير هذا، وذلك لأن الكلام بآخره، والذي تضمنه مجموع كلامه أنه لا شيء له عليه، لأن الاستصحاب إنما يعمل عمله إذا لم يرد ما يخالفه.

وعن أحمد رواية أخرى اختارها أبو الخطاب، أنه يكون مقرا مدعيا للقضاء، ولا يقبل قوله في دعوى القضاء إلا ببينة؛ إذ كلامه انطوى على جملتين: إحداهما: كان له علي ألف. (والثانية) : وقضيته. فيقبل قوله فيما عليه، ولا يقبل قوله فيما له إلا ببينة. وعنه رواية ثالثة، حكاها أبو البركات: أن هذا ليس بجواب صحيح، فيطالب برد الجواب، إذ إقراره الأول يناقضه دعوى القضاء ثانيا، وإذا تناقضا تساقطا، ولو قال: له علي ألف وقضيته. ولم يقل «كان» ففيه الروايتان الأوليان، وثالثة أنه مقر بالحق، مكذب لنفسه في الوفاء، فلا يسمع منه، وإن أتى ببينة، لأن: له علي ألف. يقتضي بقاءها في ذمته، ودعوى القضاء تناقض ذلك، ولو قال: كان له علي ألف. ولم يقل: وقضيته. فهو إقرار، وخرج عدمه، والله أعلم.

قال: ومن أقر بعشرة دراهم، ثم سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه، ثم قال: زيوفا، أو صغارا، أو إلى شهر. كانت عشرة جيادا. وافية. حالة. ش: إذا أقر بدراهم لزمته جياد وافية حالة، إذ هذا مقتضى الإطلاق، كما لو وقع البيع على ذلك، نعم إذا كان في بلد أوزانهم ناقصة، أو دراهمه مغشوشة، فهل يلزمه من دراهم البلد، كثمن المبيع بها - وهو مقتضى كلام ابن الزاغوني، وما صححه صاحب التلخيص - أو جياد وافية، إذ إطلاق الدراهم في الشرع ينصرف إلى ذلك، بدليل نصاب الزكاة - وهو مقتضى كلام الخرقي؟ فيه وجهان، وحيث قلنا مع الإطلاق يلزمه جياد وافية حالة، ففسرها بزيوف - وهي الرديئة - أو بصغار - وهي الناقصة - كدراهم طبرية، وهي أربعة دوانيق، بخلاف دراهم الإسلام فإنها ستة دوانيق - أو قال: مؤجلة. فلا يخلو إما أن يكون بكلام متصل، أو ما في حكمه؛ كالسكوت لتنفس، أو عطاس، ونحو ذلك، أو منفصل، فإن كان بكلام منفصل لم يسمع منه، لإفضائه إلى إبطال بعض ما اقتضاه ظاهر إقراره، وهو الجودة، والحلول، والكمال، فإن كان [بمتصل ونحوه سمع

منه، إذ الكلام بآخره، فالإقرار إنما حصل على صفة، فلا يلزم غيرها، نعم إذا قال: زيوف. وفسرها بما لا فضة فيه لم يسمع، لأن قوله: دراهم يناقضه، وشرط القاضي فيما إذا قال: صغار. أن يكون للناس دراهم صغار، وإن لم يكن لهم دراهم صغار لم يسمع منه، وحكى أبو الخطاب احتمالا فيما إذا فسر بالتأجيل أنه لا يسمع منه، والله أعلم. قال: ومن أقر بشيء واستثنى الكثير - وهو أكثر من النصف - أخذ بالكل، وكان استثناؤه باطلا. ش: لا نزاع في جواز استثناء الأقل، ولا في منع استثناء الكل، ولا في أن المذهب المعروف المشهور أنه لا يجوز استثناء الأكثر، حتى إن أبا محمد قال: لا يختلف المذهب في ذلك، نظرا إلى أن هذا الذي ورد في كلام العرب. قال الزجاج: لم يأت الاستثناء إلا في القليل من الكثير، ولو قال قائل: مائة إلا تسعة وتسعين. لم يكن

متكلما بالعربية، وكان عيا من الكلام ولكنة وقال القتيبي: يقال: صمت الشهر إلا يوما. ولا يقال: صمت الشهر إلا تسعة وعشرين. ولأن القليل في معرض النسيان، فقبل وإن خالف مقتضى ما نطقه به، بخلاف الكثير، فإن احتمال السهو فيه بعيد، وقيل: يجوز استثناء الأكثر، نظرا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] والغاوون أكثر، بدليل {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] ومنع أن الغاوين أكثر، إذ العباد يدخل فيهم الملائكة، والجن، والإنس، وعلى تقدير التسليم، فاستثناء الأكثر إنما يمتنع من عدد محصور، أما الاستثناء بالصفة من جنس فإنه يجوز وإن كان أكثر، وهذا أحد جوابي القاضي، والآخر أنه استثناء منقطع، بمعنى «لكن» ، ولما كان النصف حدا بين القليل

والكثير، تردد الأصحاب فيه، فمنعه أبو بكر، وجوزه الخرقي، والله أعلم. قال: وإذا قال: له عندي عشرة دراهم. ثم قال: وديعة. كان القول قوله. ش: لأنه فسر كلامه بما يوافق ظاهره لا بما يخالفه، وإذا يثبت لها حكم الوديعة، بحيث لو ادعى تلفها بعد ذلك أو ردها قبل منه، والله أعلم. قال: ولو قال: له علي ألف، ثم قال: وديعة. لم يقبل قوله. ش: هذا هو المشهور لمخالفته ظاهر إقراره، لأن «علي» للإيجاب، فمقتضى اللفظ أنها في ذمته، والوديعة ليست في

ذمته، وعن القاضي: يقبل قوله على تأويل أن علي حفظها، أو ردها، ونحو ذلك، والله أعلم. قال: ولو قال: له عندي رهن. وقال المالك: وديعة. كان القول قول المالك. ش: لأن المقر يدعي على المالك عقدا، وهو ينكره، والأصل معه، ولأن إقراره يتضمن حقا عليه، وحقا له، فقبل فيما عليه دون ما له، والله أعلم. قال: ولو مات فخلف ولدين، فأقر أحدهما بأخ أو بأخت، لزمه أن يعطي الفضل الذي في يديه لمن أقر له. ش: إذا مات رجل وخلف ولدين، فأقر أحدهما بأخ أو بأخت، وكذبه الآخر؛ لم يثبت النسب اتفاقا، ويلزم المقر أن يدفع إلى المقر له ما فضل في يده عن ميراثه، لأن إقراره تضمن ذلك، وكما لو ثبت نسبه ببينة، ففي صورة الإقرار بأخ يلزمه أن يدفع إليه السدس، لأنهم إذا كانوا ثلاثة على زعم المقر، يكون المال بينهم أثلاثا، لكل واحد ثلثه، وفي يده النصف، فالفاضل عما يستحقه السدس، وفي مسألة الإقرار بأخت يدفع إليها نصف الخمس لأن المال بينهم على خمسة، لكل أخ خمسان، ولها خمس، وفي يده النصف،

فالفاضل عما يستحقه نصف الخمس، وعلى هذا فقس، والله أعلم. قال: وكذلك إن أقر بدين على أبيه لزمه من الدين بقدر ميراثه. ش: فإذا كان ميراثه النصف لزمه من الدين نصفه، وإن كان ميراثه الثلث لزمه منه الثلث، وعلى هذا، لأنه إقرار يتعلق بحصته وحصة أخيه، فلا يلزمه إلا ما يخصه، كالإقرار بالوصية، وإقرار أحد الشريكين على مال الشركة، والله أعلم. قال: وكل من قلت: القول قوله. فلخصمه عليه اليمين. ش: أي في هذا الباب، نحو: له عندي مائة درهم. وفسرها بوديعة، أو: له عندي رهن. وقال المالك: وديعة: وما أشبهه، كالمضارب، والشريك، والراهن، ونحوهم، فمن القول قوله فلخصمه عليه اليمين؛ لأن ما ادعاه عليه محتمل.

إقرار المريض

2082 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» والله أعلم. [إقرار المريض] قال: والإقرار بدين في مرض موته، كالإقرار في صحته، إذا كان لغير وارث. ش: إذا أقر بمال لغير وارث في مرضه المحجور عليه فيه كان كما لو أقر له في صحته، على المشهور من الروايات، والمختار عند الأصحاب، لانتفاء التهمة غالبا، ولاحتياجه إلى براءة ذمته، وقد ينحصر الطريق في ذلك. والرواية الثانية: لا يقبل مطلقا؛ كالإقرار لوارث. والثالثة: يلزم في الثلث فما دون، لا فيما زاد عليه، تنزيلا له منزلة الوصية. ويدخل في كلام الخرقي - بطريق التنبيه -: الإقرار بغير مال، كالإقرار بالطلاق ونحوه، فإنه يصح بلا نزاع، فعلى الأولى - وهو المذهب - هل يحاص المقر له في المرض من ثبت دينه ببينة أو بإقرار في الصحة؟ فيه وجهان: (أحدهما) : وبه جزم القاضي [في الجامع] والشريف، وأبو الخطاب، والشيرازي في موضع، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار التميمي: نعم، لأنه يجب قضاؤهما من رأس المال، أشبه ما لو ثبتا ببينة. (والثاني) : واختاره أبو

الإقرار للوارث بدين

الخطاب في الانتصار، وقال ابن البنا - تبعا لشيخه أظنه في المجرد إنه قياس المذهب -: لا، لنص أحمد في المفلس أنه إذا أقر وعليه دين ثبت ببينة أنه يبدأ به. وعلى الرواية الثالثة يقدم دين الصحة بلا نزاع، لأنا نزلنا الإقرار منزلة الوصية، والله أعلم. [الإقرار للوارث بدين] قال: وإن أقر لوارث بدين لم يلزم باقي الورثة قبوله إلا ببينة. ش: أما مع البينة فواضح، وأما مع عدمها فلا يلزم باقي الورثة القبول، لمكان التهمة، نعم لا يبطل الإقرار على المشهور من المذهب، بل يقف على إجازة الورثة، فإن أجازوه جاز، وإن ردوه بطل، ولهذا قال الخرقي: لم يلزم. ومقتضى كلام الخرقي: أن الحكم منوط بحال الإقرار، فلو أقر لوارث فصار عند الموت غير وارث لم يصح إناطة بالتهمة، ولو أقر لغير وارث فصار عند الموت وارثا صح لانتفاء التهمة، نص عليه أحمد، معللا بما تقدم. (وعنه) : الاعتبار بحال الموت كالوصية، والأول المذهب، والله أعلم. [باب العارية] [العارية مضمونة] قال: والعارية مضمونة، وإن لم يتعد فيها المستعير. ش: يعني: إذا تلفت أو نقصت.

2083 - لما روى الحسن، عن سمرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . رواه الخمسة إلا النسائي. 2084 - «وعن صفوان بن أمية أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعار منه أدراعا، فقال: أغصبا يا محمد؟ قال: «بل عارية مضمونة» ، قال: فضاع بعضها، فعرض النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضمنها، فقال: أنا اليوم في الإسلام أرغب» . رواه أحمد، وأبو داود.

الفرق بين العارية والوديعة

وعموم كلام الخرقي يقتضي الضمان ولو شرط نفيه، وهو المشهور من المذهب، لمخالفة الشرط مقتضى العقد. وعنه - واختاره أبو حفص -: يسقط الضمان، لأنه أبرأ من الضمان مع وجود سببه، أشبه ما لو أبرأه من السراية بعد الجراحة. ومقتضى كلام الخرقي: أنه لا يضمن الولد، وهو الصحيح من الوجهين، عند أبي محمد، والله أعلم. [الفرق بين العارية والوديعة] (تنبيه) : العارية يد آخذة، والوديعة يد معطاة، فالعارية مثل القرض، فجميعا قابضهما ضامن، والفرق بينهما أن العين المستعارة لا يجوز استهلاكها، ولا هبتها، ولا تغييرها، ولا التصرف فيها، بخلاف القرض، والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب الغصب

[باب الغصب] الغصب محرم بالإجماع، وقد دل عليه قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] الآية. 2085 - وعن السائب بن يزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جادا، ولا لاعبا، وإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليردها عليه» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي. وهو في اللغة: أخذ الشيء ظلما. قاله الجوهري، وابن سيدة، وغيرهما. وفي الاصطلاح قال أبو محمد في المقنع: أنه الاستيلاء على مال الغير قهرا بغير حق. فالاستيلاء يستدعي القهر والغلبة، فإذا قوله:

تصرفات الغاصب في المغصوب

«قهرا» زيادة في الحد، ولهذا أسقطه في المغني، لكن فيه زيادة إيضاح، يخرج بذلك المال المسروق، والمنتهب، والمختلس، لأنه لم يأخذه على وجه القهر. وقوله: بغير حق. يخرج الاستيلاء بحق، كاستيلاء الولي على مال الصبي، والحاكم على مال المفلس، ونحو ذلك. وهو غير جامع، لخروج ما عدا المال من الحقوق؛ كالكلب، وخمر الذمي، ونحو ذلك، ثم إنه عرف «غير» بالألف واللام، والمشهور عدم تعريفها بهما، ولهذا لم يعرفها في المغني. وقال أبو البركات: هو الاستيلاء على مال الغير ظلما. ويرد عليه ما ورد على الأول، وأنه غير مانع، لدخول السرقة، والانتهاب، ونحو ذلك - كالاختلاس - فيه، والله أعلم. [تصرفات الغاصب في المغصوب] قال: ومن غصب أرضا فغرسها أخذ بقلع غرسه،

وأجرتها إلى وقت تسليمها، ومقدار نقصانها، إن كان نقصها الغرس. ش: يصح غصب العقار على المذهب المعروف المشهور، حتى إن القاضي وعامة أصحابه لم يذكروا في المسألة خلافا، مع أن القاضي ذكر رواية ابن منصور، واستشكلها. 2086 - وذلك لما روي عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوق يوم القيامة من سبع أرضين» . متفق عليه. وفي لفظ لأحمد: «من سرق» . 2087 - وعن الأشعث بن قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض باليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله أرضي اغتصبها هذا وأبوه. فقال الكندي: يا رسول الله أرضي ورثتها من أبي. فقال الحضرمي: استحلفه يا رسول الله أنه ما يعلم أنها أرضي وأرض والدي، اغتصبها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنه لا يقتطع عبد - أو رجل - مالا بيمينه إلا لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم» . فقال الكندي: هي أرضه وأرض والده» . رواه أحمد.

ونقل عنه ابن منصور ما يدل على أن العقار لا يضمن بالغصب، إذ الغصب إثبات اليد على المال عدوانا، على وجه تزول به يد المالك، ولا يوجد ذلك في العقار، وفائدة الخلاف أنها لو غرقت بماء السماء ونحو ذلك، أو كان فيها بناء فانهدم، ضمن على الأول دون الثاني، ولو غصبها غاصب آخر، فهدم بناءها، أو نقل ترابها، فللمالك تضمين من شاء منهما على الأول، وعلى الثاني يضمن الثاني فقط، لوجود النقل والهدم منه. إذا تقرر هذا فإذا غصب أرضا فغرسها، فإنه يؤخذ بقلع غرسه. 2088 - لما روى عروة بن الزبير، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضا فهي له، وليس لعرق ظالم حق» . قال: ولقد أخبرني الذي حدثني بهذا الحديث «أن رجلين اختصما إلى رسول الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال: فلقد رأيتها وإنها لتضرب أصولها بالفؤوس، وإنها لنخل عم» . رواه أبو داود، والدارقطني، قال أحمد: العم الطوال. ويؤخذ بأجرتها إلى وقت تسليمها، وكذلك كل ما له أجر، بناء على أن منافع المغصوب مضمونة، إذ هي بمنزلة الأموال؛ ولهذا قلنا - على المشهور -: يجبر المفلس المحترف على إيجار نفسه لوفاء دينه، وسواء انتفع أو لم ينتفع، لتلفها تحت يده العادية. ويؤخذ أيضا بنقص الأرض إن نقصها الغرس، وكذا لو نقصت بغيره، وكذلك الحكم في كل عين مغصوبة، على

الغاصب ضمان نقصها، كما يضمن جملتها، والنقص هو نقص القيمة في جميع الأعيان، اختاره الشيخان. (وعنه) - وهو المشهور عنه -: أن في عين الدابة ربع قيمتها. 2089 - واعتمد في ذلك على ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كتب إلى شريح - وقد كتب إليه يسأله عن عين الدابة -: إنا كنا ننزلها بمنزلة الآدمي، إلا أنا أجمع رأينا أن فيها ربع الثمن. وهذا إجماع، وهو اختيار القاضي في التعليق، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، ثم الشيخان، وأبو الخطاب في الهداية والقاضي في روايتيه، جعلوا الخلاف في عين الدابة من الخيل، والبغال، والحمير، ونصوص أحمد على ذلك، والقاضي في تعليقه وفي جامعه، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وصاحب التلخيص، والمستوعب، وأبو محمد في الكافي، خصوا الخلاف بعين الفرس. (وعنه) : أن الرقيق يضمن بما يضمن به في الإتلاف، [وتفرد أبو محمد في المقنع عن الأصحاب، فخرج أنه يضمن بأكثر الأمرين من النقص أو مما يضمن به في

الإتلاف] ، وتحرير ذلك يحتاج إلى طول. والله أعلم. قال: وإن كان زرعها فأدركها ربها والزرع قائم، كان الزرع لصاحب الأرض، وعليه النفقة، وإن استحقت بعد أخذ الغاصب الزرع لزمته أجرة الأرض. ش: إذا غصب أرضا فزرعها فإن أدركها ربها والزرع قائم، كان الزرع له وعليه النفقة، على ظاهر كلام أحمد - في عامة نصوصه - والخرقي، والشيرازي، وابن أبي موسى فيما أظن. 2090 - لما روى رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من زرع في أرض قوم بغير إذنهم، فليس له من الزرع شيء، وله نفقته» . رواه الخمسة إلا النسائي، وقال البخاري: هو حديث حسن. وعليه اعتمد أحمد، فقال في رواية

علي بن سعيد: آخذ به. وفي رواية حرب: أذهب إليه. وقال القاضي، وعامة أصحابه، والشيخان: يخير مالك الأرض بين تركه إلى الحصاد بالأجرة، وبين أخذه بالنفقة، نظرا إلى رب الأرض، وحملا على الغاصب، إذ لو كلف الأخذ بالقيمة ربما شق ذلك عليه، وحكى أبو الخطاب احتمالا بأن الزرع للغاصب، لأنه نماء ملكه، وعليه الأجرة. ولا نزاع أن رب الأرض لا يجبر الغاصب على قلع الزرع. ثم هل النفقة قيمته - وهي التي صححها القاضي في التعليق، قياسا على ما إذا أتلفه - أو نفقته من البذر والمؤونة - وهو ظاهر كلام الخرقي لظاهر الحديث؟ فيه روايتان. وقال ابن الزاغوني: أصلهما هل يضمن ولد المغرور بمثله

الزيادة والنقصان في قيمة المغصوب

أو بقيمته؟ وإن أدركها ربها بعد أخذ الغاصب الزرع فقد استقر ملك الغاصب عليه، لأنه نماء ملكه، فيكون له على القاعدة، وإنما خرجنا عن ذلك في الزرع للحديث، وبعد الأخذ لا يشمله الحديث، لأنه إنما يكون زرعا ما دام قائما، وعليه الأجرة، ونقص الأرض إن كانت نقصت، لما تقدم. ويدخل في عموم كلام الخرقي الزرع الذي يجز مرة بعد أخرى، كالنعنع ونحوه، وهو أحد احتمالي أبي محمد. والاحتمال الثاني: أن حكمه حكم الغراس، والله أعلم. [الزيادة والنقصان في قيمة المغصوب] قال: ومن غصب عبدا أو أمة وقيمته مائة، فزاد في بدنه، أو بتعليمه، حتى صارت قيمته مائتين، ثم نقص بنقصان بدنه، أو نسيان ما علم، حتى صارت قيمته مائة، أخذه سيده من الغاصب، وأخذ مائة. ش: خلاصته أن زوائد العين المغصوبة مضمونة على الغاصب، سواء كان ذلك ذاتا؛ كالسمن، أو معنى؛ كتعلم صناعة، ونحو ذلك، لأنها تحدث على ملك مالك العين، وقد تحصلت تحت يد الغاصب، فلزمه ضمانها كالأصل، فإذا غصب عبدا قيمته مائة، فسمن أو تعلم صناعة، فصارت قيمته مائتين، ثم عاد كما كان، بأن

وطء الجارية المغصوبة

هزل أو نسي الصناعة، فإنه يجب على الغاصب رده، ورد مائة في مقابلة ما ذهب من السمن أو الصناعة، والله أعلم. [وطء الجارية المغصوبة] قال: ومن غصب جارية فوطئها وأولدها، لزمه الحد، وأخذها سيدها وأولادها، ومهر مثلها. ش: إذا غصب جارية فوطئها لزمه الحد، لأنه زان، إذ لا شبهة له في ذلك، ثم إذا قدر عليها سيدها أخذها، لأنها عين ملكه، وأخذ أولادها، لأنهم نماء ملكه، ولا يلحق نسبهم بالواطئ لأنه زان، وأخذ مهر مثلها لأنه بدل منفعة. (وعنه) : لا مهر للثيب، وهو بعيد، ولا لمطاوعة وهو جيد، «لنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن مهر البغي» ، والأول المذهب، لأن الحق للسيد، فلا يسقط بمطاوعتها، فإذا كانت بكرا فعليه أرش بكارتها على الصحيح، ولو اعتقد الغاصب حل الوطء، ومثله يجهل ذلك، لقرب عهده بالإسلام، ونحو

ذلك، فالحكم كذلك، إلا أنه لا حد عليه، وأولاده أحرار يفديهم كما سيأتي، والله أعلم. قال: وإن كان الغاصب باعها فوطئها المشتري، وأولدها وهو لا يعلم، ردت الجارية إلى سيدها، ومهر مثلها، وفدى أولاده بمثلهم، وهم أحرار، ورجع بذلك كله على الغاصب. ش: إذا باع الغاصب الجارية المغصوبة، فإن البيع فاسد على المذهب، وقيل عنه: يقف على الإجازة، وقيل عنه: يصح مطلقا، والتفريع على الأول، فنقول: لا يخلو المشتري إما أن يكون عالما بالغصب أو غير عالم، والمرجع في ذلك إليه، لأن ذلك مما يخفى، فإن كان عالما؛ فحكمه حكم الغاصب على ما تقدم، وإن لم يكن عالما؛ فإن الجارية ترد إلى مالكها، لأنها مال غيره في يده، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» ، ويرد مهر مثلها، لأنه في مقابلة منفعتها غير المأذون فيها، وإن كان المشتري قد أولدها؛ فإن ولده حر، لاحق نسبه به، لمكان الشبهة، وعليه فداؤه على المذهب، لأنه فوت رقه على سيده، باعتقاده

حل الوطء، وعنه لا فداء عليه، لانعقاده حرا، ويفديه بمثله يوم الوضع على مختار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيخين، وغير واحد، لأنه أول أوقات الإمكان، وقيل: يوم المحاكمة. وهو ظاهر إطلاق أحمد في رواية ابن منصور، وجعفر بن محمد، ثم هل يفديه بمثله - وهو مختار الخرقي، والقاضي، وعامة أصحابه - أو بقيمته - وهو مختار أبي محمد، وصاحب التلخيص، أو يخير، وهو مختار أبي بكر في المقنع؟ على ثلاث روايات، وأصل الاختلاف اختلاف الصحابة، وهل المعتبر المثل في الصفات تقريبا - وهو ظاهر كلام الخرقي وأحمد - أو المثل في القيمة وهو اختيار عبد العزيز؟ فيه وجهان.

هلاك الشيء المغصوب

ويرجع المشتري على الغاصب بقيمة الولد، لأنه دخل على أنه غير مضمون عليه، ولا إتلاف من جهته، وهل يرجع بالمهر؟ فيه روايتان؛ (إحداهما) وهي اختيار الخرقي والقاضي، وعامة أصحابه: نعم. 2091 - تبعا لقضاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه قضى بالرجوع، ولما تقدم. (والثانية) وهي اختيار أبي بكر: لا، اتباعا لقضاء علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه قضى بعدم الرجوع، ولأنه غرم ما استوفى بدله، فلم يرجع به، كما لو تلفت الجارية أو أجزاؤها، والله أعلم. [هلاك الشيء المغصوب] قال: ومن غصب شيئا ولم يقدر على رده لزم الغاصب القيمة، فإن قدر عليه رده، وأخذ القيمة.

ش: من غصب شيئا فعجز عن رده؛ كعبد أبق، أو فرس شرد، ونحو ذلك، لزمته قيمته، لأنه تعذر رده، أشبه ما لو تلف، ويملكها المغصوب منه، قاله أبو محمد. وقال القاضي في التعليق: لا يملكها، وإنما يباح له الانتفاع بها، بإزاء ما فاته من منافع العين المغصوبة، ولا نزاع أن الغاصب لا يملك العين المغصوبة، فإذا قدر عليها بعد أداء القيمة ردها على المغصوب منه، لبقائها على ملكه، وأخذ القيمة، لأن دفع القيمة كان لتعذر العين، وقد زال التعذر، ولئلا يجتمع البدل والمبدل لشخص واحد، والله أعلم. قال: ولو غصبها حاملا فولدت في يده، ثم مات الولد، أخذها سيدها، وقيمة ولدها أكثر ما كانت قيمته. ش: إذا غصب حاملا، أو حائلا فحملت عنده، فإن الولد مضمون عليه، إذ الولد إما مودع في الأم، وإما كأجزائها، وفي كلا الموضعين يجب الضمان، إذ الاستيلاء على الظرف وعلى الجملة استيلاء على المظروف وعلى الجزء. إذا تقرر هذا فإذا ولدت في يده؛ فلا يخلو إما أن تلده حيا أو ميتا، فإن ولدته ميتا وكان قد غصبها حاملا، فلا

شيء عليه، لأنه لا يعلم حياته حين استيلائه، وإن كان قد غصبها حائلا فحملت، ثم أسقطته ميتا، فكذلك عند القاضي أبي يعلى، وعند ابنه أبي الحسين يضمنه بقيمته لو كان حيا. قال أبو محمد: والأولى إن شاء الله أن يضمنه بعشر قيمة أمه، وإن ولدته حيا وجب رده مع أمه على مالكها، مع أرش نقص الولادة إن كان ثم نقص، فلما مات الولد رد الأم ورد قيمة الولد لما تقدم، ثم إن كانت قيمته لا تختلف من يوم الولادة إلى يوم التلف ردها، وإن اختلفت فإن كان لمعنى فيه من كبر، وسمن، وهزال، وتعلم صناعة، ونحو ذلك؛ فالواجب القيمة الزائدة، لأنه مغصوب في تلك الحال، فإذا نقص البعض؛ ضمن النقص، وإن كان الاختلاف لتغير الأسعار؛ لم يضمنه، نص عليه، واختاره الأصحاب، حتى إن القاضي قال: لم أجد عن أحمد رواية بالضمان، ونقل عنه ابن أبي موسى - وناهيك به - رواية بالضمان لذلك، وعليها حمل القاضي كلام الخرقي هنا. فعلى المذهب يضمن المغصوب بقيمته يوم تلفه، على المشهور والمختار أيضا عند الأصحاب: إذ قبل التلف الواجب رد العين، وإنما ثبتت القيمة حين التلف. ونقل عنه ابن مشيش: يضمنه بقيمته يوم غصبه، وكذلك نقل عنه ابن

منصور، إلا أنه عاوده في ذلك فجبن عنه، تنزيلا لزوال يده منزلة تلف العين، وحكم بقية المتقومات كذلك، أما المثلي فيضمن بمثله، فإن تعذر المثل فبقيمته يوم إعوازه على المذهب، والله أعلم. قال: وإذا كانت للمغصوب أجرة، فعلى الغاصب رده وأجرة مثله مدة مقامه في يده. ش: يجب رد المغصوب ما دام باقيا، لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ومن أخذ عصا أخيه فليردها» ، ويجب الرد وإن تضرر بذلك، كأن بعده، أو بنى عليه، ونحو ذلك، لأنه الذي أدخل الضرر على نفسه، وإذا رده فإن كانت له أجرة فعلى الغاصب أجرة مثله مدة مقامه في يديه، على المنصوص والمختار للأصحاب، وسواء استوفى المنافع، أو لم يستوفها؛ لأن المنافع مال فوجب ضمانه كالعين، ونقل عنه محمد بن

الحكم التوقف في ذلك، إلا أن الخلال قال: هذا قول قديم، لأن ابن الحكم مات قبل أبي عبد الله بنحو من عشرين سنة. واستدل لذلك بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الخراج بالضمان» وحمل على الأعيان، والله أعلم. قال: ومن أتلف لذمي خمرا أو خنزيرا فلا غرم عليه، وينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه. ش: من أتلف - من مسلم أو ذمي - خمرا أو خنزيرا لذمي، فإنه لا غرم عليه. 2092 - لما في الصحيحين عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ألا إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام» . وما حرم بيعه لا لحرمته لم تجب قيمته

كالميتة. وخرج أبو الخطاب - وتبعه أبو البركات - رواية بضمان خمر الذمي على الذمي، بناء على أنها مال، وعلى كل حال فينهى عن التعرض لهم فيما لا يظهرونه، لأن عقد الذمة اقتضى تركهم وما هم عليه، ما لم يضر المسلمين، والوفاء بالعهد واجب، أما إن أظهروا ذلك فإنه يتعرض لهم، ويمنعون منه، لمخالفتهم الشرط، والله أعلم.

كتاب الشفعة

[كتاب الشفعة] الشفعة مأخوذة من ضم الشيء إلى الشيء، ومن ذلك الشفع، اسم للزوج، لأنه انضم الثاني إلى الأول، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَالْفَجْرِ} [الفجر: 1] {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] والشفيع، لانضمامه في المعونة إلى المشفوع له، (وحدها) . في الاصطلاح قال أبو محمد في المقنع: إنها استحقاق الإنسان انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها. وهو غير جامع، لخروج الصلح بمعنى البيع، والهبة بشرط الثواب، ونحو ذلك منه. وقال في المغني: استحقاق الشريك انتزاع حصة شريكه المنتقلة عنه، من يد من انتقلت إليه، وهو غير مانع، لدخول ما انتقل بغير عوض، كالإرث، والوصية، والهبة بغير ثواب، أو بعوض غير مالي على المشهور، كالخلع ونحوه، فالأجود إذًا أن يقال: من يد من انتقلت إليه بعوض مالي أو مطلقا. 2093 - وهي جائزة لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود،

وصرفت الطرق فلا شفعة» . رواه أحمد، والبخاري، وفي لفظ: إنما جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الحديث رواه أحمد، والبخاري، وأبو داود، إلى غير ذلك من الأحاديث، والإجماع على ذلك إلا خلافا شاذا يروى عن الأصم، والله أعلم.

متى تجب الشفعة

[متى تجب الشفعة] قال: ولا تجب الشفعة إلا للشريك المقاسم، فإذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق فلا شفعة. ش: يشترط للشفعة شروط: (أحدها) : أن يكون شريكا، فلا تجب الشفعة للجار، لما تقدم من حديث جابر، إذ معناه الشفعة حاصلة أو ثابتة، أو مستقرة في كل ما لم يقسم، فما قسم لا تحصل فيه ولا تثبت، ويؤيد هذا الرواية الأخرى المصرح فيها بالحصر: إنما جعل، وتمام الحديث أيضا يدل على ذلك، والراوي ثقة، عالم باللغة، فلا ينقل إلا اللفظ أو معناه. 2094 - وقد روى الترمذي وصححه في هذا الحديث؛ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق، فلا شفعة» . 2095 - وأصرح من هذا كله ما رواه أبو داود عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا قسمت الدار، وحدت فلا شفعة فيها» .

2096 - وقد روى الأثرم عن عمر، وعثمان وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: أنه لا شفعة للجار. ونقل القاضي يعقوب رواية بثبوت الشفعة بالجوار، وصححه ابن الصيرفي، واختاره الحارثي فيما أظن. 2097 - لما روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجار أحق بشفعة جاره، ينتظر بها وإن كان غائبا، إذا كان طريقهما واحدا» رواه الخمسة وقال الترمذي: حسن غريب. لكن قد تكلم فيه شعبة وغيره. وقال بعض المحققين: إنه صحيح، وإن كلامهم بلا حجة.

2098 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «جار الدار أحق بالدار» رواه النسائي، وابن حبان، وعلى المذهب لو حكم الحنفي لحنبلي بالجوار فهل له الأخذ؟ منعه القاضي، وجوزه ابن عقيل. (الشرط الثاني) : أن يكون ذلك الشقص المشترك مما يقبل القسمة، وهذا معنى قول الخرقي: للشريك المقاسم الذي يقاسم، أي يستحق أن يقاسم، فلا تجب في الحمام الصغير، والبئر، والعراص الضيقة، ونحو ذلك، لأن الحديث: «إذا وقعت الحدود، وصرفت الطرق» والحدود

إنما تقع فيما يقبل القسمة، فإذا تقدير الحديث: الشفعة في كل شيء يقبل القسمة ما لم يقسم. 2099 - وقد روى أبو عبيد في الغريب، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قضى أن لا شفعة في فناء، ولا طريق، ولا منقبة، ولا ركح» . قال أبو عبيد: المنقبة: الطريق الضيق بين الدارين، لا يمكن أن يسلكه أحد، والركح: ناحية البيت من ورائه.

2100 - واعتمد أحمد على ما رواه عن ابن إدريس، عن أبي عمارة، عن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبان بن عثمان، عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا شفعة في بئر، ولا فحل، والأرف يقطع كل شفعة. قال أحمد: الأرف: الأعلام، والفحل: فحل النخل. (الشرط الثالث) : أن يكون المبيع أرضا، فلا شفعة في غير الأرض، لأن ظاهر الحديث أنه إنما حكم بذلك في الأرض دون غيرها، إذ وقع الحدود. وتصريف الطرق، إنما هو في الأرض، لأن الأرض هي التي تبقى على الدوام، ويدوم ضررها، ويستثنى من غير الأرض البناء، والغراس، فإن الشفعة تجب فيهما تبعا للأرض. 2101 - وفي حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قضى بالشفعة في كل شركة لم تقسم، ربعة أو حائط، لا يحل

له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به» رواه مسلم وغيره، فنص على الحائط، أي حائط النخل، وهذا الشرط قد يؤخذ من كلام الخرقي، من قوله: فإذا وقعت الحدود. إذ الخرقي سبك الحديث. (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: أن الشفعة تجب في كل شيء، إلا في منقول ينقسم، فتجب على هذا في كل ما لا ينقسم، كالحمام الصغير ونحوه، وفي غير الأرض، من البناء [المنفرد] ونحوه، لعموم حديث جابر المتقدم. 2102 - وروى عبد الله بن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المسند، عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والدور» . 2103 - وروى الطحاوي بسنده عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالشفعة في كل شيء» . قال بعض الحذاق من المحدثين: ورواته ثقات. ولا ريب عند الأصحاب أن المذهب ما تقدم.

(الشرط الرابع) : أن ينتقل الشقص بعوض مالي، وتحريره أنه إن انتقل بغير عوض - كالإرث والوصية ونحوهما - لم تثبت الشفعة عندنا بلا نزاع، وإن انتقل بعوض مالي - كالبيع، والهبة بشرط الثواب، ونحوهما - ثبتت الشفعة بلا نزاع، وإن انتقل بعوض غير مالي - كالصداق، والصلح عن دم العمد، ونحوهما - فوجهان، أشهرهما عند القاضي وأكثر أصحابه: لا. (والثاني) - واختاره ابن حامد، وأبو الخطاب في الانتصار -: نعم، وعليه هل يأخذ الشقص بقيمته أو بالدية ومهر المثل؟ فيه وجهان، والله أعلم. قال: ومن لم يطالب بالشفعة في وقت علمه بالبيع فلا شفعة له. ش: إذا ثبتت الشفعة فهل حق المطالبة بها على الفور أو التراخي؟ فيه روايتان: (إحداهما) - وهي المشهورة، والمختارة عند الأصحاب -: أنه على الفور، فلو أخره من غير عذر سقطت شفعته.

2104 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الشفعة لمن واثبها» ولأن ثبوته على التراخي ربما أضر بالمشتري، لعدم استقرار ملكه. (والثانية) - واختارها القاضي يعقوب -: أنه على التراخي، لأنه خيار لدفع ضرر محقق، فكان على التراخي كخيار العيب. (فعلى الأولى) : هل يتقيد بساعة العلم - وهو ظاهر كلام الخرقي، وأحمد، واختيار أبي محمد، لظاهر الحديث - أو يتقيد بمجلس العلم؛ اختاره ابن حامد، والقاضي وأصحابه، وحكاه ابن الزاغوني رواية عن أحمد، إذ حالة المجلس في حكم حالة العقد؟ فيه قولان، وعلى الفورية متى كان التأخير لعذر لم تسقط شفعته، كأن يعلم ليلا فيؤخر إلى الصبح، أو لأكل، أو شرب لجوع أو عطش به، أو ليخرج من الحمام، أو ليأتي بالصلاة وسننها، أو ليشهدها في جماعة يخاف فوتها، ونحو ذلك. وقد نبه الخرقي على ذلك بقوله: ومن كان غائبا وعلم بالبيع في وقت قدومه، فله الشفعة وإن طالت غيبته.

ش: لأن الغائب معذور، إذ الحكم لا يثبت في حقه إلا بعد العلم، فإذا علم ثبت الحكم في حقه، ومثله المحبوس، والمريض، ونحوهما ممن لم يعلم بالبيع لعذر، والله أعلم. قال: وإن علم وهو في السفر فلم يشهد على مطالبته فلا شفعة له. ش: إذا علم وهو في السفر بالشفعة، فأشهد على الطلب بها فهو على شفعته، لأنه قد علم منه أنه غير تارك لها، بل مطالب، وكذلك إن لم يشهد لتعذر الشهود ونحو ذلك، لمقام العذر، وإن لم يشهد مع وجود من تقبل شهادته سقطت شفعته، كما لو أخر الطلب مع حضوره نعم، إن ترك الإشهاد وسار في الطلب ففيه وجهان: (السقوط) ، وهو ظاهر كلام أحمد، والخرقي؛ لأن السير يكون للطلب وغيره، فلا يتبين إلا بالإشهاد (وعدمه) لأن الظاهر أن السير للطلب، وينبغي أن يكون حكم سير وكيله حكم سيره، وإذا أشهد ثم أخر القدوم مع إمكانه بطلت شفعته عند القاضي، ولم تبطل على ظاهر كلام الخرقي، وكذلك الوجهان إن أخر الطلب بعد القدوم والإشهاد. ومقتضى كلام الخرقي: أن الإشهاد إنما يكتفى به في السفر إناطة بالعذر، وأبو البركات جعل الشرط أحد شيئين الإشهاد، أو المضي المعتاد، والله أعلم.

قال: فإن لم يعلم حتى تبايع ذلك ثلاثة فأكثر، كان له أن يطالب بالشفعة من شاء منهم، فإن طالب الأول رجع عليه الثاني بالثمن الذي أخذه منه، والثالث على الثاني. ش: هذا تفريع على القول بالفورية كما هو المذهب، فإذا لم يعلم الشفيع بالبيع حتى تبايع ذلك الشقص اثنان، أو ثلاثة، أو أكثر من ذلك، فإن للشفيع أن يطالب بالشفعة من شاء منهم، لأن سبب الشفعة الشراء، وقد وجد من كل واحد منهم، فإن طالب الأول فسخ عقد من بعده، وإذًا يرجع الثاني بالثمن على الأول، لأنه لم يسلم له المبيع، ويرجع الثالث على الثاني أيضا لذلك، وعلى هذا، وإن طالب الثاني أخذ بما اشتراه به، واستقر عقد الأول، وفسخ عقد الثالث، فيرجع الثالث على الثاني بالثمن لما تقدم، وإن طالب الثالث أخذ بما اشتراه به، واستقر عقد الأولين، وجعل ابن أبي موسى هذا الحكم إذا لم يكن الشقص في يد واحد منهم بعينه، أما إن كان في يد أحدهم فالمطالبة له وحده. ومقتضى كلام الخرقي: [أن المشتري] يصح تصرفه في الشقص المبيع قبل أخذ الشفيع، أو قبل علمه، وهو صحيح، لأن قصاراه أن يكون قد ثبت فيه حق تملك،

وذلك لا يمنع التصرف، بدليل الابن يتصرف في العين الموهوبة له، وإن جاز لأبيه الرجوع فيها، وقيد أبو البركات ذلك بما قبل الطلب، فلعله بنى ذلك على أن الأخذ يحصل بالطلب، وهو رأي القاضي، وأبي الخطاب، بشرط الملاءة [بالثمن] ، وعند أبي محمد لا يملكه إلا بالأخذ، أو ما يدل عليه، نحو: أخذته بالثمن، أو تملكته. وعند ابن عقيل لا يملكه إلا بدفع الثمن، وعلى رأي الجميع لا يفتقر إلى حكم حاكم، وفي التذكرة أنه يفتقر، والله أعلم. قال: وللصغير إذا كبر المطالبة بالشفعة. ش: الشفعة تثبت للصبي كما تثبت للبالغ، للعمومات، ولأن ثبوتها لدفع ضرر عن المال، أشبهت خيار العيب، فعلى هذا إن كان فيها حظ فللولي الأخذ بها، بل قال أبو محمد: يجب، لأنه مصلحة من غير مفسدة، والولي عليه رعاية مصالح الصبي. وإن لم يكن فيها حظ فليس له الأخذ، فإن أخذ فهل يصح - لأن فيه دفع ضرر عن الصبي في الجملة - أو لا يصح - لمنعه من الشراء، أشبه ما لو اشترى معيبا يعلم عيبه؟ فيه روايتان، وإن ترك الولي الأخذ

بها مطلقا فهل للصبي إذا بلغ الأخذ بها وهو ظاهر كلام أحمد - في رواية ابن منصور - والخرقي، لأن الأخذ حق ثبت له، فلا يسقط بترك غيره، كوكيل الغائب - (أو ليس له الأخذ) - وبه كان يفتي ابن بطة، فيما حكاه عنه أبو حفص، لأنه يملك الأخذ، فملك الترك كالمالك - (أو إن تركها) الولي والحظ فيها للصبي فله الأخذ، وإن تركها لعدم الحظ سقطت؛ وهو اختيار ابن حامد، وتبعه القاضي، وعامة أصحابه، لأنه فعل ما له فعله فينفذ، كما لو أخذ مع الحظ؟ ثلاثة أقوال، وحكم المجنون والسفيه حكم الصبي، والله أعلم. قال: وإذا بنى المشتري أعطاه الشفيع قيمة بنائه، إلا أن يشاء المشتري أن يأخذ بناءه فله ذلك، إذا لم يكن في أخذه ضرر. ش: إذا بنى المشتري قبل أخذ الشقص، ثم اختار الشفيع الأخذ، فله ذلك للعمومات، ويلزمه أن يدفع إلى المشتري قيمة بنائه، نص عليه أحمد في رواية الجماعة، دفعا للضرر المنفي عنه شرعا، قال القاضي وأصحابه

والشيخان وغيرهم: أو يقلعه ويضمن نقصه، لأنه في معنى ما تقدم، لزوال الضرر به، هذا إن لم يشأ المشتري أخذ بنائه، فإن أراد أخذ بنائه فقيل - وهو ظاهر كلام الأكثرين، بل الذي جزموا به -: له ذلك، أضر بالأرض أو لم يضر، لأنه عين ماله، ولا يلزمه طم الحفر، ولا الأرش، قاله القاضي، إذ النقص حدث في ملكه، فلا يقابل بعوض، فعلى هذا يخير الشفيع بين أخذه ناقصا بكل الثمن أو تركه، وقال أبو محمد: ظاهر كلام الخرقي أن عليه ضمان النقص الحاصل بالقلع. قلت: وينبغي أن يزيد إذا، أو بالطم. وظاهر كلام الخرقي: امتناع الأخذ على المشتري مع الضرر بالأرض، إذ الضرر لا يزال بالضرر، وتبعه على ذلك ابن عقيل في التذكرة، فعلى هذا يبقى التخيير السابق للشفيع، فلو امتنع منه سقط حقه، وحكم الغراس حكم البناء. (تنبيهان) : (أحدهما) : يتصور بناء المشتري على القول بالفورية في صور، (منها) إذا أظهر المشتري زيادة في

الثمن، أو أن الشقص موهوب له، أو أن الشراء لفلان فقاسمه، بناء على ذلك، أو لجهل الشفيع بثبوت الشفعة له، قاله ابن الزاغوني، أو قسم عليه لصغره مع الولي، أو لغيبته إن قلنا: الحاكم يقسم على الغائب، وغرس أو بنى ثم بان للشفيع الحال، أو قدم، أو بلغ. (الثاني) : في كيفية تقويم البناء، قال أبو محمد: الظاهر أن الأرض تقوم وفيها البناء، ثم تقوم خالية، فما بينهما قيمة البناء، فيدفع إلى المشتري إن أحب الشفيع، أو ما نقص منه إن اختار القلع، لا قيمته مستحقا للبقاء، ولا قيمته مقلوعا، والله أعلم. قال: وإن كان الشراء وقع بعين أو ورق أعطاه الشفيع مثل ذلك، وإن كان عرضا أعطاه قيمته. ش: الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي استقر عليه العقد. 2105 - لأن في بعض ألفاظ حديث جابر: «هو أحق به بالثمن» رواه الجوزجاني، ولأن الشفيع يستحق أخذ الشقص، فيستحقه

بالثمن كالمشتري، إذا تقرر هذا فإذا وقع العقد على مثلي - كالدراهم، والدنانير، والمكيلات، والموزونات - أخذ بمثله لمماثلته له صورة ومعنى، وإن وقع العقد على غير مثلي - كالثياب والحيوان - أخذ بقيمته وقت العقد، لتعذر مثله، ولعل الخرقي إنما خص بالدراهم والدنانير بوجوب المثل لغلبة وقوع البيع بهما، بخلاف غيرهما من المثليات. وقول الخرقي: وإن كان الشراء وقع بعين. . إلى آخره، يستثنى منه ما إذا وقع العقد على ثمن ثم زيد فيه أو نقص في مدة الخيارين، فإن الاعتبار بما استقر عليه العقد، لا بما وقع العقد عليه، والله أعلم. قال: وإن اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري، إلا أن يكون للشفيع بينة. ش: إذا اختلفا في الثمن، فقال المشتري: اشتريته بمائة. وقال الشفيع: بل بخمسين. مثلا، فالقول قول المشتري، إذا الشفيع يدعي الاستحقاق بالثمن الأول، والمشتري ينكره، والقول قول المنكر مع يمينه، ولأن المشتري هو

الشفعة بين الشركاء

العاقد، فهو أعلم بصفة العقد، فإن كانت للشفيع بينة فالقول قوله، وكذلك إن كانت للمشتري بينة، وإذا لا يمين عليه، ولو أقاما بينتين بما ادعياه، فقال الشريف: تقدم بينة الشفيع، لأنه خارج، وهو ظاهر كلام الخرقي، وقيل: يتعارضان، والله أعلم. [الشفعة بين الشركاء] قال: وإن كانت دار بين ثلاثة، لأحدهم نصفها، وللآخر ثلثها، وللآخر سدسها، فباع أحدهم، كانت الشفعة بين النفسين على قدر سهامهما. ش: الصحيح المشهور من الروايتين أن الشفعة تستحق على قدر الأملاك، اختاره الخرقي، وأبو بكر، وأبو حفص، والقاضي، وجمهور أصحابه، لأنه حق يستفاد بالملك، فكان في حال الاشتراك على قدره كالغلة. (والرواية الثانية) : أنه على عدد الملاك، اختارها ابن عقيل، إذ لو انفرد كل واحد لاستحق الجميع، فإذا اجتمعوا تساووا، كالبنين في الميراث، (فعلى الأول) تنظر مخرج سهام الشركاء، وتأخذ السهم المشفوع فتقسمه على عدد سهام الشفعاء، ففي هذا المثال الذي ذكره الخرقي، مخرج السهام ستة، فإذا باع صاحب النصف فسهام الشفعاء ثلاثة، فالسهم المشفوع بينهم على ثلاثة، لصاحب الثلث سهمان،

ولصاحب السدس سهم، فيصير العقار بينهم على ثلاثة، ولو باع صاحب الثلث كان نصيبه بينهم أرباعا، ولو باع صاحب السدس كان نصيبه بينهم أخماسا، وعلى القول الثاني يقسم السهم المشفوع بين الآخرين نصفين على كل حال، والله أعلم. قال: فإن ترك أحدهما شفعته لم يكن للآخر أن يأخذ إلا الكل أو يترك. ش: إذا ترك أحد الشركاء شفعته لم يكن لبقية الشركاء أن يأخذوا إلا الكل، لما في أخذ البعض من التشقيص على المشتري، وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعا، فلو كان الشركاء غائبين، فقدم أحدهم، لم يكن له أيضا أن يأخذ إلا الكل أو يترك، ثم إذا أخذ الكل، فقدم آخر قاسمه أو عفى، ثم إذا قدم ثالث قاسم الأولين أو عفى، فيبقى ما كان يستحقه للأولين، والله أعلم. قال: وعهدة الشفيع على المشتري، وعهدة المشتري على البائع. ش: العهدة في الأصل كتاب الشراء، ويقال: عهدته على فلان. أي ما أدرك فيه من درك فإصلاحه عليه، والمراد هنا أن الشقص إذا ظهر مستحقا أو معيبا فإن الشفيع يرجع

ميراث الشفعة

بالثمن أو بأرش العيب على المشتري، إذ الشفيع تملكه من جهته، فرجع عليه لكونه بائعه، ثم يرجع المشتري على البائع، لما تقدم في الشفيع مع المشتري، ويستثنى من ذلك إذا أقر البائع بالبيع وأنكر المشتري، وقلنا بثبوت الشفعة، فإن العهدة إذا على البائع، لحصول الملك له من جهته، والله أعلم. [ميراث الشفعة] قال: والشفعة لا تورث إلا أن يكون الميت طالب بها. ش: إذا لم يطالب الشفيع بالشفعة لم تورث عنه على المنصوص المشهور، وعليه الأصحاب، لأنه نوع خيار للتمليك، أشبه خيار القبول، ولأنا لا نعلم بقاءه على شفعته، لاحتمال رغبته عنها، ولا ينتقل للورثة ما يشك في ثبوته، وخرج أبو الخطاب قولا بالإرث، بناء على رواية إرث الأجل، أما إن طالب فيورث عنه بلا نزاع، أما على رأي القاضي ومن تبعه فواضح، وأما على رأي ابن عقيل، وأبي محمد، ومن تبعهما فلأنه قد علم بمطالبته

بقاؤه على شفعته واختياره. واعلم أنه قد اختلف تعليل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إبطال الشفعة بالموت، فقال في رواية أبي طالب: الشفعة لا تورث، لعله لم يكن يطلبها، فجعل العلة عدم العلم برغبة الميت، قال القاضي في التعليق. فعلى هذا لو علم الوارث أنه راغب فيها، كان له المطالبة وإن لم يطالب الميت، وقال في رواية ابن القاسم: إنها تجب بالطلب، وإذا تركت لم تجب، كيف تورث وأصحابها تركوها؟ ، قال القاضي: وظاهر هذا أنه جعل العلة ترك المطالبة من الميت، لأنها تسقط بتركها، قال: فعلى هذا لو مات قبل العلم بالبيع - لسفر أو غيره - كان للوارث المطالبة. انتهى وقد تحرر من هذا أنها تورث بالمطالبة بلا نزاع، وبما إذا لم يعلم الشفيع بالبيع على رواية، وعلى أخرى إذا علم منه الرغبة في الأخذ، وإذا ينبغي أن يكون القول قول الوارث في ذلك مع يمينه، والله أعلم. قال: وإذا أذن الشريك في البيع ثم طالب بالشفعة بعد وقوع البيع فله ذلك. ش: إذا أسقط الشريك شفعته قبل البيع، أو وجد منه ما يدل عليه، كالإذن في البيع ونحو ذلك لم تسقط شفعته، نص عليه أحمد، معللا بأن الشفعة إنما وجبت له بعد البيع، وعلى هذا الأصحاب، ونقل عنه إسماعيل بن سعيد أن القول

الشفعة مع اختلاف الدين

بالإسقاط ليس ببعيد، معتمدا على الحديث المتقدم: «لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به» . فظاهره أن الترك يسقط الشفعة، وقد أكده مفهوم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به» فمفهومه أنه إن باعه وقد آذنه فلا حق له، وهذا ظاهر، والله أعلم. [الشفعة مع اختلاف الدين] قال: ولا شفعة لكافر على مسلم. ش: لأنه معنى يختص به العقار، أشبه الاستعلاء في البنيان. 2106 - وقد روى الدارقطني في كتاب العلل، عن أنس، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شفعة لنصراني» . ومفهوم كلام الخرقي أن الشفعة تثبت للمسلم على الذمي، لأنها إذا ثبتت للمسلم على المسلم، فللمسلم على الكافر أولى، ومفهومه أيضا أنها تثبت

للذمي على الذمي، وذلك للعمومات، وشمل كلام الخرقي من حكم بكفره من أهل البدع، فإنه لا شفعة له على مسلم. (تنبيه) : قال أحمد في رواية حنبل: لا نرى شفعة في أرض السواد. 2107 - وذلك لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقفها، وكذلك كل أرض وقفها عمر، كأرض الشام ومصر، قال أبو محمد: إلا أن يحكم ببيع ذلك حاكم، أو يفعله الإمام أو نائبه، فتثبت الشفعة، لأنه مختلف فيه، وحكم الحاكم ينفذ في المختلف فيه، والله أعلم.

كتاب المساقاة

[كتاب المساقاة] المساقاة مفاعلة من السقي؛ سميت بذلك لاحتياج أهل الحجاز إلى السقي من الآبار. وهي في الاصطلاح قال أبو محمد: عبارة عن أن يدفع الرجل شجره إلى آخر، ليقوم بسقيه وما يحتاج إليه، بجزء معلوم له من ثمره، وليس بجامع، لخروج ما يدفعه إليه ليغرسه ويعمل عليه، ولا بمانع، لدخول ما له ثمر غير مقصود كالصنوبر. 2108 - والأصل في جوازها ما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «عامل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر» ، متفق عليه. 2109 - وقال البخاري: قال قيس بن مسلم، عن أبي جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث أو الربع، وزارع علي، وسعد بن مالك، وابن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم، وعروة، وآل

أبي بكر، وآل عمر، وآل علي قال: وعامل عمر الناس على إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر، وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا، ومثل هذا لا يقصر عن رتبة الإجماع. والله أعلم.

قال: وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكرم، بجزء معلوم يجعل للعامل من الثمر. ش: تجوز المساقاة في النخل والكرم، وكل شجر له ثمر مقصود، لعموم ما تقدم من حديث ابن عمر، ولأن الحاجة تدعو إلى المساقاة على الشجر، فأشبه النخل والكرم، ويشترط أن يكون بجزء مشاع معلوم، كالثلث، والربع، والعشر، ونحو ذلك، للحديث، لا على صاع أو آصع، أو ثمرة نخلة بعينها، لما فيه من الغرر، إذ يحتمل أن لا يحصل إلا ذلك فيتضرر رب الأصل، ويحتمل أن يكثر الحاصل فيتضرر العامل.

2110 - وفي الصحيحين «عن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كنا أكثر الأنصار حقلا، فكنا نكرى الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه، فنهانا عن ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأما الورق فلم ينهنا» . ولا على جزء مبهم كنصيب ونحوه، للغرر المنهي عنه شرعا. ومقتضى كلام الخرقي: أن التسمية تكون للعامل، لأن المالك يستحق بالأصل، فلو كانت التسمية للمالك - كأن قال: لي النصف - فهل تصح، ويكون الباقي للعامل، أو لا تصح؟ فيه وجهان، ومقتضى كلامه أنها لا تصح على ما لا ثمر له، وهو صحيح، إذ ليس منصوصا عليه، ولا في معنى المنصوص عليه، وكذلك ما له ثمر غير مقصود، نعم إن قصد ورقه كالتوت، أو زهره كالورد ونحوه، فقال أبو محمد: القياس جواز المساقاة، عليه، لأنه في معنى المنصوص، وقد يقال: إن المنصوص يشمله، وقوله: الثمر «أل» بدل من المضاف إليه، أي من ثمرتها، فلو شرط له ثمرة نخل غير التي ساقاه عليها لم يصح، وكذلك لو جعل

المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض

له ثمرة سنة غير السنة التي ساقاه عليها، لمخالفة ذلك لموضوع المساقاة، والله أعلم. قال: ولا يجوز أن يجعل له فضل دراهم. ش: إذا شرط له جزءا معلوما - كالربع مثلا - ومائة درهم لم يصح، لأنه في معنى شرط آصع، إذ يحتمل أنه لا يحدث من النماء ما يساوي تلك الدراهم، فيتضرر رب المال، وبطريق الأولى لو شرط له دراهم منفردة عن جزء لما تقدم، ولمخالفة موضوعها، والله أعلم. [المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض] قال: وتجوز المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض. ش: المزارعة دفع الأرض إلى من يزرعها، ويعمل عليها بجزء مشاع معلوم مما يخرج منها لما تقدم من حديث ابن عمر، وقصة أبي جعفر. 2111 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف» ، رواه أحمد، وابن ماجه. والله أعلم.

قال: إذا كان البذر من رب الأرض. ش: المشهور عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما قال الخرقي أنه يشترط كون البذر من رب الأرض، وعلى هذا عامة الأصحاب، حتى إن القاضي وكثيرا من أصحابه لم يذكروا خلافا، لأنه عقد يشترك العامل ورب المال في نمائه، فوجب أن يكون رأس المال كله من أحدهما، كالمساقاة والمضاربة. ونقل عنه مهنا ما يدل على جواز كون البذر من العامل، واختاره أبو محمد. 2112 - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها، ولهم شطر ما يخرج منها» ، رواه البخاري، «ولمسلم وأبي داود والنسائي: دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها، على أن يعتملوها من أموالهم، ولرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شطر ثمرتها» . وقد تقدم عن عمر أنه

قال: وإن جاؤوا بالبذر فلهم كذا. والله أعلم. قال: وإن اتفقا على أن يأخذ رب الأرض مثل بذره ويقتسما ما بقي لم يجز، وكانت للمزارع أجرة مثله. ش: إذا اتفقا على أن رب الأرض يأخذ مثل بذره ويقتسما ما بقي لم يجز، لأنه بمنزلة ما لو اشترط آصعا معلومة، إذ ربما لا تخرج هذه الأرض إلا مقدار البذر، فيذهب عمل العامل مجانا، وإذا يفسد هذا الشرط، ويفسد به العقد، لأنه يعود بجهالة نصيب كل منهما، وإذا فسد العقد كان الزرع لصاحب البذر، لأنه عين ماله، سيما والأرض أرضه، وعليه للعامل أجرة مثله، لأنه إنما دخل للعمل ولم يسلم له، والله أعلم. قال: وكذلك تبطل إن أخرج المزارع البذر، ويصير الزرع للمزارع، وعليه أجرة الأرض. ش: هذا تصريح منه بالبطلان في المسألة السابقة، وإنما بطلت المزارعة هنا - إذا أخرج المزارع البذر - لما مر من أن شرط صحة المزارعة كون البذر من رب الأرض، فإذا فات الشرط؛ فات المشروط، وإذا يصير الزرع للمزارع،

لأنه عين ماله، وعليه أجرة الأرض، لأن ربها إنما بذلها بعوض ولم يسلم له، والله سبحانه أعلم.

كتاب الإجارة

[كتاب الإجارة] قال في المغني: إنها مشتقة من الأجر وهو العوض، ومنه سمي الثواب أجرا، وحدها في الوجيز بأنها: عوض معلوم، في منفعة معلومة، من عين معينة أو موصوفة في الذمة، أو في عمل معلوم. وليس بمانع، لدخول الممر وعلو بيت ونحوه، والمنافع المحرمة. والأصل في جوازها قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقَوْله تَعَالَى حكاية عن صاحب موسى:

{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} [القصص: 27] الآية. 2113 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أجر نفسه ثماني حجج أو عشرا، على عفة فرجه، وطعام بطنه» . رواه أحمد وابن ماجه. 2114 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في حديث الهجرة قالت: «واستأجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر رجلا هاديا خريتا - والخريت الماهر بالهداية - وهو على دين كفار قريش، وأمناه فدفعا

إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا» . رواه أحمد والبخاري. 2115 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما بعث الله نبيا إلا رعى الغنم» فقال أصحابه: وأنت؟ قال: «نعم كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة» . رواه أحمد والبخاري، والإجماع على ذلك إلا ما حكي عن الأصم ولا عبرة به، والله أعلم.

معلومية الأجرة والمدة في عقد الإجارة

[معلومية الأجرة والمدة في عقد الإجارة] قال: وإذا وقعت الإجارة على مدة معلومة، بأجرة معلومة؛ فقد ملك المستأجر المنافع، وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد، إلا أن يشترطا أجلا. ش: الإجارة على ضربين: (أحدهما) : أن تقع على عين موصوفة أو معينة، مدة معلومة، كأجرتك هذه الدار شهرا، ونحو ذلك. (والثاني) : أن تقع على عمل معلوم، كبناء حائط، وخياطة ثوب، وحمل إلى موضع معين، ونحو ذلك، والمقصود هنا هو الأول. واعلم أن الإجارة لها ثلاثة أركان: (الركن الأول) : العاقد، ولم يذكره الخرقي لوضوحه، إذ شرط العاقد في جميع العقود كونه جائز التصرف. (الثاني) : المعقود عليه، وهو المنفعة والأجرة؛ (أما المنفعة) : فمن شرطها أن تكون معلومة، فإذا كانت على مدة كما قال الخرقي اشترط كونها

معلومة، كشهر كذا ونحو ذلك، بلا خلاف نعلمه، ولو علقها على ما يقع اسمه على شيئين؛ كالعيد، وجمادى، فهل يصح وينصرف إلى الأول منهما - وهو رأي أبي محمد - أو لا يصح حتى يعين ذلك؛ وهو رأي القاضي؟ فيه وجهان. وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يشترط في المدة أن تلي العقد وهو صحيح، وإذًا لا بد من ذكر الابتداء كالانتهاء، فلو أطلق فقال: أجرتك هذه الدار شهرا، فهل يصح، ويكون ابتداؤه من حين العقد - وهو اختيار أبي محمد - أو لا يصح حتى يسمي الشهر - وهو منصوص أحمد، وبه قطع القاضي وكثيرون؟ فيه قولان. وظاهر كلامه أيضا: أنه لا تقدير لأكثر مدة الإجارة، فتجوز إجارة العين مائة سنة وأكثر، إذا غلب على الظن بقاؤها فيها، وهذا المذهب، وقد نص أحمد على جواز عشر

سنين، وقيل - واختاره ابن حامد -: يتقيد ذلك بسنة، فلا يجوز أكثر منها، وقيل: بل بثلاثين سنة. (وأما الأجرة) : فمن شرطها أيضا أن تكون معلومة كالثمن في المبيع. 2116 - وقد روي عن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره» . رواه أحمد، ثم هل يشترط العلم بقدر رأس المال وصفته، أو تكفي مشاهدته؟ فيه وجهان. (الركن الثالث) : المعقود به وهو الصيغة، وتنعقد بلفظ الإجارة والكراء، وكذا ما في معناهما على الصحيح، وهل

تنعقد بلفظ البيع؟ فيه وجهان، أصلهما هل هي نوع من البيع أو شبيهة بالبيع. إذا تقرر هذا وصحت الإجارة فقال الخرقي: فقد ملك المستأجر المنافع. ولا ريب في هذا. 2117 - وقد نص عليه أحمد، محتجا بأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اكترى جمالا ثم صارف الجمال، ولو لم يكن قد ملكها لم تصح مصارفته، فظاهر احتجاجه إنما هو في الأجرة، لأنها أحد العوضين، فإذا ملكت ملك الأجر، وأيضا فإن المؤجر يملك التصرف في هذه المنفعة كما يتصرف في العين، فإذا أجرها ملك المستأجر منها ما كان يملك المؤجر، وإذا ملك المستأجر المنافع حين العقد ملك المؤجر جميع الأجرة إذا، لأنها أحد العوضين فيملك بما يملك به الآخر. [إذ المعارضة مبناها المعادلة، فإذا ملك المستأجر المنفعة ملك المؤجر الأجرة] . واعلم أن الأجرة وإن ملكت بالعقد، فإنها لا تستقر إلا بمضي المدة، ولا يستحق تسليمها إلا بعد تسليم المعقود

عليه، فإذا كانت على عين إلى مدة - وهو الذي ذكره الخرقي - فلا يجب تسليم الأجرة إلا بعد تسليم العين، وإن كانت على عمل في الذمة فلا يجب تسليم أجرته إلا بعد تسليم العمل، وعلى هذا وردت النصوص، نحو قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فإن الإرضاع عمل في الذمة، فإذا سلمته وجب إيتاؤها أجرتها. 2118 - وما رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقول الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته؛ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره» . رواه أحمد والبخاري. 2119 - وروى أيضا في حديث له «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: «لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله» رواه أحمد. فهذه النصوص ظاهرها أنها على عمل في الذمة.

هذا كله إن لم يوجد شرط لفظي أو عرفي يقتضي التأخير أو التعجيل، فإنه يعمل بمقتضاه، فلو أجره داره شهرا بمائة درهم تحل في آخره، أو أجره على خياطة ثوب بدرهم الآن، عمل على ذلك، وعلى هذا يحمل قول ابن أبي موسى، وإن استؤجر كل يوم بأجر معلوم، فله أجر كل يوم عند تمامه، إذ عرف الناس المطرد في ذلك، أنهم إذا استأجروا إنسانا شهرا كل يوم بكذا، فإنهم يعطونه الأجرة في آخر كل يوم، فيجري هذا مجرى الشرط، ولو لم يحمل على هذا لكان ظاهره مخالفا لقول الخرقي والأصحاب، كما أن ظاهر قول الخرقي: وملكت عليه الأجرة كاملة في وقت العقد، إلا أن يشترطا أجلا. يقتضي أن الأجرة المؤجلة لا تملك حين العقد، وفيه نظر، إذ صرح القاضي في تعليقه في الجنايات بأن الدين في الذمة غير مؤجل، بل ثابت في الحال، وإن تأخرت المطالبة به، وإذا ينبغي أن يكون تقدير

كلامه: وملكت عليه الأجرة، ووجب تسليمها إن سلمت العين، إلا أن يشترطا أجلا فلا يجب التسليم، فيكون الاستثناء من مقدر، والله أعلم. قال: وإذا وقعت الإجارة على كل شهر بشيء معلوم، لم يكن لواحد منهما الفسخ إلا عند تقضي كل شهر. ش: قد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صحة نحو هذه الإجارة، وهو المنصوص من الروايتين، واختيار القاضي، وعامة أصحابه، والشيخين. 2120 - لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: جعت مرة جوعا شديدا، فخرجت أطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا بامرأة قد جمعت مدرا، فظننتها تريد بله، فقاطعتها كل ذنوب على تمرة، فمددت ستة عشر ذنوبا، حتى مجلت يداي، ثم أتيتها فعدت لي ست عشرة تمرة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته فأكل معي منها. رواه أحمد، ووزان هذا

إذا باعه الصبرة كل قفيز بدرهم، فالعلم بالثمن يتبع العلم بالمثمن، كذلك هنا، العلم بالأجر يتبع العلم بالمنفعة. (والرواية الثانية) - واختارها أبو بكر، وابن حامد وفي الكافي أبو بكر، وجماعة من أصحابنا -: بطلان ذلك،

فسخ عقد الإجارة قبل انقضاء المدة

نظرا إلى أن المدة مجهولة، إذ «كل» اسم للعدد، فإذا لم يقدره كان مجهولا، فعلى الأولى الإجارة تلزم في الشهر الأول وتكون فيما بعده مراعاة، فلكل واحد منهما أن يفسخ عند رأس كل شهر، بأن يقول: فسخت الإجارة في الشهر المستقبل. ونحو ذلك، فلو لم يفسخ حتى دخل الشهر الثاني لزم العقد فيه، وكذلك الثالث، هذا مقتضى كلام الخرقي، وأبي الخطاب في الهداية، وابن عقيل في التذكرة، وأبي محمد في كتبه، وقد صرح بذلك ابن الزاغوني فقال: تلزم بقية الشهور إذا شرع في أول الجزء من ذلك الشهر، وقال القاضي: له الفسخ في جميع اليوم الأول من الشهر الثاني، وبه قطع أبو البركات، وأورده ابن حمدان مذهبا، والله أعلم. [فسخ عقد الإجارة قبل انقضاء المدة] قال: ومن استأجر عقارا مدة بعينها فبدا له قبل تقضيها

لزمته الأجرة. ش: من شرط صحة استئجار العقار أن يكون على مدة معينة، ولا بد أيضا أن يكون معلوما برؤية، ولا تكفي الصفة، لعدم تأتيها على ذلك، إذا تقرر ذلك، فمتى بدا للمستأجر الفسخ قبل تقضي المدة لم تنفسخ، لأن الإجارة عقد لازم من الطرفين، إذ هي أحد نوعي البيع، وإذا لا يملك أحد المتعاقدين فسخه، فإذا فسخ المستأجر فوجود ذلك كعدمه، في بقاء الأجرة عليه، وفي ثبوت المنفعة له، والله أعلم. قال: ولا يتصرف مالك العقار فيه إلا عند تقضي المدة. ش: لا يتصرف مالك العقار فيه إذا فسخ المستأجر الإجارة أو لم يفسخها إلا إذا انقضت المدة، لما تقدم من أن الفسخ لا ينفذ، وأن المنفعة باقية على ملكه، وبطريق الأولى إذا لم يفسخ، فإن تصرف فإن كان قبل تسليم العين فقال أبو محمد: تنفسخ الإجارة. وإن كان بعده - كما إذا أكراه دارا سنة وسلمها له فسكن شهرا، ثم ترك السكنى فتصرف المالك فيها - فهل تنفسخ الإجارة فيما تصرف فيه أو لا ويكون للمستأجر عليه أجرة المثل؟ فيه احتمالان، والله أعلم.

منع المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها

قال: فإن حوله المالك قبل تقضي المدة لم يكن له أجرة لما سكن. ش: إذا حول المؤجر المستأجر قبل انقضاء المدة المعقود عليها، لم يكن للمؤجر أجرة لما سكن، نص عليه أحمد وعليه الأصحاب؛ لأنه لم يسلم إليه المعقود عليه، فلم يستحق [شيئا] ، كما لو استأجره ليحفر له عشرين ذراعا، فحفر عشرة، وامتنع من حفر الباقي، وحكى أبو محمد في المقنع احتمالا بأن عليه من الأجرة بقسطه، لأن استيفاءه حصل على وجه المعاوضة، أشبه المبيع [إذا] استوفى بعضه، ومنعه المالك بقيته، والله أعلم. [منع المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها] قال: وإن جاء أمر غالب، يحجز المستأجر [عن] منفعة ما وقع عليه العقد، لزمه من الأجرة بمقدار مدة انتفاعه. ش: قد تقدم أن المعقود عليه المنفعة، فإذا جاء أمر منع المستأجر من استيفاء المنفعة المعقود عليها، وكان قد انتفع،

فإن عليه من الأجرة بقدر ما انتفع، لحصول المعقود عليه، والتمكن من استيفائه شرعا، فأشبه ما لو استوفى جميع المنفعة، ولا يلزمه أجرة لما يستقبل، لعدم حصول المعقود عليه، إذ حصولها إنما هو باستيفائها أولا فأول، وقد تعذر ذلك، وصار هذا كما لو اشترى صبرتين، فقبض إحداهما وتلفت الأخرى بأمر سماوي قبل قبضها، ثم إن كانت أجرة المدة متساوية، وقد استوفى نصف المدة مثلا، ومنع من باقيها، فعليه نصف الأجرة، وإن اختلفت؛ كأن يكون أجرها في الصيف أكثر من أجرها في الشتاء، أو بالعكس، فإن الأجر المسمى يقسط على ذلك، فإذا قيل: إن أجرها في الصيف يساوي مائة درهم، وأجرها في الشتاء يساوي خمسين، وكان قد سكن الصيف، كان عليه بقدر ثلثي المسمى. إذا تقرر هذا فاعلم أن الأمر الغالب الذي ذكره الخرقي له صور: (إحداها) : إذا تلفت العين، ثم إن كان تلفها قبل التسليم، أو بعده، وقبل مضي مدة لها أجر، فإن الإجارة تنفسخ، وإن كان بعد التسليم ومضي مدة لها أجر، انفسخ فيما بقي، واستقر ما مضى، وهذه الصورة مما يدل

عليه كلام الخرقي، لكن ليس في كلامه - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعرض للفسخ ولا لعدمه، وظاهره الفسخ. (الصورة الثانية) : أن يحدث للعين ما يمنع استيفاء معظم المعقود عليه مع بقائها، كدار انهدمت وأرض انقطع ماؤها، ونحو ذلك، فهل تنفسخ الإجارة - وهو مقتضى كلام الخرقي، وبه قطع ابن أبي موسى، والشيرازي، وابن البنا، ذكروه في الدار، واختاره أبو محمد، لأن المقصود بالعقد قد فات، أشبه ما لو تلف - (أو لا تنفسخ) ، بل يثبت للمستأجر خيار الفسخ - وهو قول القاضي في الدار، وصححه القاضي في التعليق، لإمكان الانتفاع بالعرصة، بنصب خيمة، أو جمع حطب، ونحو ذلك، أشبه نقص العين؟ فيه وجهان، أما لو زال نفعها بالكلية، أو الذي بقي فيها لا يباح استيفاؤه بالعقد، كدابة مؤجرة للركوب، صارت لا تصلح إلا للحمل، فإن الإجارة تنفسخ وجها واحدا. (الصورة الثالثة) : إذا غصب العين غاصب، فيخير المستأجر بين الفسخ والرجوع بما يقابل ما بقي من المدة، وبين الإمضاء ومطالبة الغاصب بأجرة المثل، وخرج أبو الخطاب الانفساخ إن قيل بعدم تضمين منافع المغصوب، ويحتمله

كلام الخرقي هنا. (الصورة الرابعة) : إذا حدث خوف عام، منع المستأجر من استيفاء المنفعة، أو حصرت البلد، فامتنع المستأجر من الخروج إلى الأرض المؤجرة، أو اكترى للحج فلم يحج الناس ذلك العام، ونحو ذلك، فإن للمستأجر خيار الفسخ. ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أنه لو حدث أمر لا يمنع المستأجر من منفعة ما وقع عليه العقد، كأن تعيب المعقود عليه، فإن العقد لا ينفسخ، نعم للمستأجر الخيار بين الفسخ والإمساك بكل الأجرة، ذكره ابن عقيل، وتبعه أبو محمد وغيره، قاله أبو البركات، وقياس المذهب أن له الأرش، ولا يبطل الخيار بالتأخير. (فائدة) : لو أتلف المستأجر العين المؤجرة، ثبت ما تقدم من الفسخ أو الانفساخ، مع تضمين المستأجر ما أتلف، ومثله جب المرأة زوجها تضمن ولها الفسخ، والله أعلم.

موت المكري والمكتري أو أحدهما

قال: ومن استؤجر لعمل شيء بعينه فمرض أقيم مقامه من يعمله، والأجرة على المريض. ش: هذا أحد نوعي الإجارة، وهو الإجارة على عمل شيء في الذمة، معين برؤية أو صفة، كخياطة هذا الثوب، وبناء حائط طوله كذا وعرضه كذا، وآلته كذا، فمتى مرض المؤجر والحال هذه لزمه أن يقيم مقامه من يعمل ذلك، ليخرج من الحق الواجب في ذمته إيفاؤه، أشبه المسلم فيه، والأجرة عليه، لأنها في مقابلة ما وجب عليه، ويستثنى من ذلك ما إذا شرط عينه، كأن تخيط لي أنت هذا الثوب، فها هنا لا يقيم غيره مقامه، بل يخير المستأجر بين الفسخ، والصبر حتى يتبين الحال، والله أعلم. [موت المكري والمكتري أو أحدهما] قال: وإذا مات المكري والمكتري أو أحدهما فالإجارة بحالها. ش: ولا انفساخ، لأن الإجارة عقد لازم، فلا تنفسخ بتلف العاقد مع سلامة المعقود عليه، كما لو زوج أمته ثم مات، هذا المنصوص عن أحمد، وعليه الأصحاب. وقال أبو محمد في المستأجر، إذا لم يكن وارث، أو تعذر استيفاء وارثه، كأن اكترى للحج، ومات في الطريق: إن الإجارة تنفسخ، وزعم أن هذا ظاهر كلام أحمد وشمل

كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا مات الموقوف عليه، فانتقل الوقف إلى من بعده، فإن الإجارة لا تنفسخ، وهو أحد الوجهين، والوجه الآخر تنفسخ، وهو قول أبي إسحاق بن شاقلا، وأومأ إليه أحمد لا للموت، بل لأن ملكه قد زال، والله أعلم. قال: ومن استأجر عقارا فله أن يسكنه غيره، إذا كان يقوم مقامه. ش: إذا استأجر عقارا فله أن يسكنه غيره، لأنه ملك المنفعة، فله أن يتصرف فيها كيف شاء، كالمشتري إذا ملك المبيع، لكن شرط إسكان الغير أن يكون ذلك الغير يقوم مقامه، كما إذا اكترى دارا للسكنى، فله أن يدفعها لمن يسكنها، لا لحداد وقصار يعمل فيها ذلك، وإن اكترى ظهرا للحمل فله أن يركبه مثله، ومن هو أخف منه، لا من هو أثقل منه، وإن اكترى دابة لحمل الحديد، فليس له أن يدفعها لمن يحمل عليها القطن، ونحو ذلك، لأن ذلك غير المعقود عليه، أو زائد عليه، فلا يجوز.

وقد شمل كلام المصنف إسكان الغير على وجه العارية، أو الهبة، أو الإجارة، وقد اختلف عن أحمد في الإجارة، فعنه - وهو المذهب عند الأصحاب، وظاهر كلام الخرقي -: الجواز مطلقا، لما تقدم من أنه ملك المنفعة، ومقتضى ملك المنفعة جواز التصرف فيها كالأعيان، ولأن من جاز له أن يستوفي المنفعة بنفسه جاز له أن يستوفيها بغيره، دليله مالك الرقبة. (وعنه) : عدم الجواز مطلقا، لأنه تصرف فيما لم يدخل في ضمانه فلم يجز، كالتصرف في المكيل والموزون قبل قبضه. (وعنه) : يجوز بمثل ما اكترى لا بأزيد، حذارا من أن يربح فيما لم يضمن، وقد «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ربح ما لم يضمن» ، فإن فعل تصدق بالزيادة نص عليه. (وعنه) : إن عمل فيها عملا - كأن جدد عمارة ونحو ذلك - جازت الزيادة، جعلا لها في مقابلة العمل، وإلا لم تجز. (وعنه) : إن أذن له المؤجر في الإجارة جازت، وإلا فلا، كذا الرواية فيما نقله حنبل، وكذلك حكاها

استئجار الظئر والأجير بطعامه وكسوته

القاضي وغيره، وحكى أبو محمد الرواية أنه إن أذن له المؤجر في الزيادة جازت وإلا فلا، ومحل الخلاف فيما بعد القبض، أما قبله فعلى القول بالجواز ثم، فها هنا أوجه؛ (الجواز) ، (وعدمه) ، والثالث: يجوز للمؤجر دون غيره، والله أعلم. [استئجار الظئر والأجير بطعامه وكسوته] قال: ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته. ش: هذا هو المشهور من الروايتين، واختيار القاضي في التعليق الكبير، وجماعة. 2121 - لما «روى عتبة بن الندر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: كنا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقرأ (طس) حتى بلغ قصة موسى، فقال: «إن موسى أجر نفسه ثماني سنين، أو عشر سنين، على عفة فرجه، وطعام بطنه» رواه أحمد، وابن ماجه، وشرع من قبلنا شرع لنا على المشهور، ولا سيما وقد ذكره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقررا له، ويعضده وجوب النفقة والكسوة للمرضعة، قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ونقل

عنه حنبل: أكرهه: معللا بالجهالة، وهو اختيار القاضي في بعض كتبه أظنه في المجرد، وحمل الكراهة هو وغيره على المنع، بقرينة ما علل به الإمام، والله أعلم. قال: وكذلك الظئر. ش: الظئر هي المرضعة غير ولدها، وقد ظأره على الشيء: إذا عطفه عليه، وحكمها في استئجارها على الرضاع بطعامها وكسوتها حكم الأجير، فيها الروايتان، إلا أن القاضي قال: لا يختلف قوله هنا في الجواز، ولهذا قيل محل الروايتين في الأجير أما الظئر فيجوز إجارتها بذلك رواية واحدة، لقضية النص. (تنبيه) : إذا صحت الإجارة فهل قدر الطعام والكسوة ما يجب في الكفارة - حملا للمطلق من كلام الآدميين، على المقيد من كلام الشارع - أو يرجع إلى نفقة مثله وكسوته - حملا للمطلق على المتعارف، وهو الذي جزم به أبو البركات؟ فيه روايتان منصوصتان، وقال أبو محمد في المقنع والمغني، وصاحب التلخيص: يرجع في الإطعام إلى الكفارة، وفي الملبوس إلى أقل ملبوس مثله، وهو تحكم، ثم أبو محمد وغيره يخص المسألة بصورة الاختلاف، وأبو البركات لا يخصها بذلك، وكلام أحمد وقع تارة على

هذا، وتارة على هذا، والله أعلم. قال: ويستحب أن تعطى عند الفطام عبدا أو أمة كما جاء الخبر، إذا كان المسترضع موسرا. 2122 - ش: الخبر ما «روى حجاج بن حجاج الأسلمي، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله ما يذهب عني مذمة الرضاع؟ قال: «الغرة، العبد أو الأمة» ، رواه أبو داود والترمذي وصححه، والمعنى في ذلك - والله أعلم - أن الرضاع سبب حياته، وحفظ رقبته، فجعل الجزاء من جنس. 2122 - م - الرقبة، ليناسب الشكر النعمة، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجزي ولده والده إلا أن يجده مملوكا فيعتقه» والله أعلم.

قال: ومن اكترى دابة إلى موضع فجاوزه، فعليه الأجرة المذكورة، وأجرة المثل لما جاوز. ش: كما إذا اكترى إلى بلبيس مثلا، فجاوزه إلى الصالحية، فإن عليه الأجرة المسماة في العقد، لاستيفاء المعقود عليه متميزا عن غيره، وأجرة المثل للزائد، لأنه متعد في ذلك، فهو كالغاصب، وقد حكى ذلك أبو الزناد عن الفقهاء السبعة، وهذه الصورة متفق عليها، ولا عبرة بما أوهمه كلام أبي محمد في المقنع من وجوب أجرة المثل على قول، ولا ما اقتضاه كلام ابن حمدان من وجوب ما بين القيمتين على قول، وأجرة المثل على قول، فإن القاضي قال: لا يختلف أصحابنا في ذلك. وقد نص عليه أحمد، والله أعلم.

حكم هلاك العين المستأجرة

[حكم هلاك العين المستأجرة] قال: وإن تلفت فعليه أيضا قيمتها. ش: يعني إذا تلفت في مدة المجاوزة، لأنه إذا متعد، فضمنها كالغاصب، هذا إذا لم تكن يد صاحبها عليها، أو كانت يده عليها واستكرهه على ذلك، أما لو كانت يد صاحبها عليها، ولم يرض بذلك، فظاهر كلام الخرقي أنه يضمنها أيضا، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن البنا، والشيرازي، وأبي محمد في الكافي، وأبي البركات، إناطة بالتعدي، وسكوت صاحبها لا يدل على الرضى، كما لو باع ملك غيره بحضرته فلم يمنعه، وقيل: إنما يضمن نصف قيمتها فقط، لأنه اجتمع عليها يدان، يد صاحبها، ويد المستأجر، وما يقابل يد المستأجر يقابل النصف، فيختص بضمان النصف، وعن القاضي في الشرح الصغير: لا ضمان، لوجود يد المالك، وعنه أظنه في المجرد: إن تلفت وهو راكبها، أو حمله عليها ضمنها، وإن تلفت وقد نزل عنها، وسلمها إلى مالكها لسقيها ونحو ذلك فلا ضمان، ووافقه في المغني على ذلك، إلا أنه استثنى فيما إذا تلفت في

يد مالكها بسبب تعبها من الحمل ونحو ذلك، والله أعلم. قال: وكذلك إن اكترى لحمولة شيء فزاد عليه. ش: مثل أن يكتريها لحمل مائة رطل، فيحمل مائة وعشرة ونحو ذلك، لأنه استوفى المعقود وزاد عليه، فيلزمه المسمى، وأجرة المثل للزائد، وضمان الدابة إن تلفت لتعديه، أو ضمان النصف، لتلفها بفعل مضمون وغير مضمون. وحكى القاضي - وتبعه أبو محمد في المقنع - عن أبي بكر وجوب أجرة المثل في الجميع، اعتمادا على قوله فيمن استأجر أرضا لزرع شعير فزرع حنطة: إن عليه أجرة المثل للجميع، لعدوله عن المعقود عليه إلى غيره، قال في المغني: وبينهما فرق، فإن ما حصل التعدي فيه في الحمل متميز، وهو الرطل الزائد مثلا، بخلاف الزرع، فإلحاق هذه المسألة بما إذا اكترى إلى موضع فجاوزه أسد، وهذا الذي قطع به في الكافي، وأبو البركات، مع أن أحمد نص في الزرع في رواية عبد الله أنه ينظر إلى ما يدخل على الأرض من النقصان ما بين الحنطة والشعير، فيعطى رب

الأرض، بيان ذلك أن يقال: أجرة مثلها إذا زرعها حنطة أن تساوي مائة درهم، وأجرة مثلها إذا زرعها شعيرا أن تساوي ثمانين، فالواجب عليه ما بين ذلك، وهو عشرون، مع المسمى في العقد، ولو اكترى لحمل حديد، فحمل قطنا، وجب أجرة المثل هنا بلا نزاع، قاله أبو محمد، والله أعلم. قال: ولا يجوز أن يكتري لمدة غزاته. ش: لجهالة المدة المشترط عليها، والله أعلم. قال: فإن سمى لكل يوم شيئا معلوما فجائز. ش: هذا هو المنصوص عن أحمد، وهو قياس مسألة كل شهر بدرهم، وقد تقدمت نقلا ودليلا، والله أعلم. قال: ومن اكترى إلى مكة فلم ير الجمال الراكبين، والمحامل، والأغطية، والأوطية، وجميع ما يحتاج إليه لم يجز الكراء. ش: يشترط معرفة المعقود عليه كالبيع، فيحتاج الجمال إلى رؤية ما تقدم، لأن ذلك يختلف ويتباين، فاشترطت معرفته كقدر الطعام المحمول، وذكر الخرقي هذه الصورة لينبه على

الأجير الخاص والمشترك

مذهب الغير، إذ مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - عدم اشتراط رؤية الراكبين، وكذلك أبو حنيفة في الأوطية في حال، وكذلك الشافعي في غطاء المحمل وتبعه القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم. قال: فإن رأى الراكبين أو وصفا له، وذكر الباقي بأرطال معلومة فجائز. ش: لأن ذلك مما ينضبط بالصفة، ولذلك يصح السلم فيه، وإذا تحصل معرفته، وقال الشريف وأبو الخطاب: لا تكفي الصفة في ذلك، لاختلاف الراكب في ثقله وخفته، وحركته وسكونه، وذلك لا ينضبط بالصفة، والله أعلم. [الأجير الخاص والمشترك] قال: وما حدث في السلعة من يد الصانع ضمن. ش: الأجير على ضربين؛ (أجير خاص) : وهو من استؤجر إلى مدة، كمن استؤجر شهرا أو يوما، لخدمة، أو بناء، ونحو ذلك، فيستحق المستأجر نفعه في جميع المدة، [سمي خاصا؛ لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة] . (وأجير

مشترك) : وهو الذي قدر نفعه بالعمل، كمن استؤجر لخياطة ثوب معين أو موصوف، ونحو ذلك، سمي مشتركا؛ للاشتراك في عمله، لأنه يتقبل لاثنين وأكثر. إذا تقرر هذا فالأجير الخاص لا يضمن ما تلف بفعله، ولا بغير فعله، ما لم يوجد منه تفريط وقصد للخيانة، نص عليه أحمد في رواية جماعة، وعليه الأصحاب، لأن عمله غير مضمون عليه، فلم يضمن ما تلف به كالقصاص، ولأنه نائب عن المالك، في صرف منافعه فيما أمر به، فلم يضمن إذا لم يتعد، كالوكيل، وذهب ابن أبي موسى إلى أنه يضمن ما جنت يده، وحكى عن أحمد رواية بتضمينه ما تلف بأمر خفي لا يعلم إلا من جهته، كما سيأتي في الأجير المشترك، اللهم إلا أن يعمل في بيت المستأجر فلا يضمن ما تلف بغير فعله، وعنده أنه لا فرق [بين الأجير الخاص، والأجير المشترك، والمنصوص الفرق وعليه الأصحاب. وأما الأجير المشترك - وهو الذي ذكره الخرقي هنا - فيضمن] ما تلف بفعله، كحائك أفسد حياكته، وقصار خرق الثوب بدقه أو عصره، وطباخ أفسد طبخه، وجمال أتلف المتاع بعثرته، أو بانقطاع الحبل الذي شد به، ونحو

ذلك، نص على ذلك أحمد في رواية الجماعة، وعليه الأصحاب. 2123 - لما روى جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه كان يضمن الصباغ والصواغ، وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك. ولأن عمله مضمون عليه، وما تولد من المضمون فهو مضمون، كجناية العمد، ودليل الوصف أنه لا يستحق العوض إلا بالعمل، وأن الثوب لو تلف في حرزه بعد علمه لم يكن له أجر. وظاهر كلام أحمد والخرقي: أنه لا فرق بين أن يعمل في بيته، أو في بيت المستأجر، ولا بين أن يكون المستأجر على

المتاع أم لا، وصرح به القاضي في التعليق في أثناء المسألة، وابن عقيل، واختاره أبو محمد، إذ ضمانه كجنايته، وعن القاضي - أظنه في المجرد - قال في الكافي: وأصحابه، أنه إنما يضمن ما عمله في ملكه، أما ما عمله في ملك المستأجر من خياطة ونحوها، فلا ضمان عليه، ما لم يفرط، كأن يسرف في الوقود ونحوها، لأنه سلم نفسه إلى المستأجر، أشبه الأجير الخاص، وكذلك لو كان صاحب المتاع مع الملاح في السفينة، أو راكبا على الدابة فوق حمله، لعدم زوال يد المالك، وكذلك لو كان الراكب على الدابة حرا، إذ الحر لا يضمن من جهة الإجارة، وخرج أبو الخطاب وجها بعدم الضمان رأسا، كسراية القود وإفضاء الزوجة، إذ التلف حصل من فعل مباح، والله أعلم.

قال: وإن تلفت من حرزه فلا ضمان عليه. ش: ما تلف عند الأجير المشترك لا يخلو من ثلاثة أحوال: (أحدها) : أن يكون بتفريط منه أو تعد، فيضمن كما دل عليه كلام الخرقي بطريق التنبيه، وهو واضح. (الثاني) : ما تلف بفعله بغير تفريط منه، وقد تقدم. (الثالث) : ما تلف بغير فعله من غير تفريط منه، كأن سرق أو حرق ونحو ذلك، والمشهور المنصوص في رواية الجماعة – وهو اختيار الخرقي وأبي بكر والقاضي وأصحابه والشيخين -: أنه لا ضمان عليه؛ لأنها عين مقبوضة بعقد إجارة، لم يتلفها بفعله، أشبهت العين المستأجرة. (وعن أحمد) رواية أخرى بالضمان مطلقا، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» . (وعنه) ثالثة إن كان التلف بأمر ظاهر - كالحريق، واللصوص الغالبين، ونحو ذلك - فلا ضمان، وإن كان بأمر خفي كالضياع، ونحو ذلك فعليه الضمان، إناطة بالتهمة، قال صاحب التلخيص: ومحل

الروايات إذا لم تكن يد المالك على المال، أما إن كانت عليه فلا ضمان بحال، والله أعلم. قال: ولا أجرة له فيما عمل فيها. ش: قد تقدم أن ما تلف من حرز الأجير المشترك ونحو ذلك، فلا ضمان عليه فيه، وهو يشمل ما إذا تلف بعد فعله وقبله، فإذا تلف بعد فعله فهل يستحق أجرة لذلك؟ قال الخرقي: لا أجرة له، لأنه لم يسلم عمله إلى المستأجر، فلم يستحق عوضه، كالمبيع من الطعام إذا تلف في يد البائع قبل تسليمه. وظاهر كلام الخرقي - وتبعه أبو محمد -: أنه لا فرق بين أن يعمل في بيت المستأجر أو خارجا عنه، ولا بين أن يكون ذلك بناء أو غيره، وفصل أبو البركات ذلك، وملخص ما قاله: أنه إن كان العمل في بيت المستأجر، وكان بناء فله أجرته رواية واحدة؛ لأن تسليمه يحصل بمجرد فعله، وإن كان غير بناء فروايتان، مبناهما على أنه إذا كان في ملكه فهل العمل مسلم بمجرد عمله، أو لا بد من التسليم؟ وإن كان العمل خارج بيت المستأجر وكان غير بناء فلا أجرة له رواية

ضمان الحجام والختان والطبيب

واحدة، إذ التسليم إذا لا يحصل إلا بالقبض، وإن كان بناء فروايتان، مبناهما على أن العادة هل جرت في البناء بقبضه في موضعه، أو أنه لا بد من التسليم فيه كغيره، وقطع القاضي في التعليق في البناء بأن له أجرته، وفي غيره لا أجرة له، ونص أحمد على ذلك في رواية ابن منصور، والله أعلم. [ضمان الحجام والختان والطبيب] قال: ولا ضمان على حجام، ولا ختان، ولا متطبب، إذا عرف منهم حذق الصنعة، ولم تجن أيديهم. ش: لا ضمان على من ذكر والحال هذه، لأنهم فعلوا فعلا مباحا مأذونا فيه، أشبه قطع الإمام يد السارق، أما إذا لم يكن لهم معرفة بذلك فيضمنون، لتحريم المباشرة عليهم إذا، وكذلك إن عرف منهم حذق لكن جنت أيديهم، كأن تجاوز الختان إلى بعض الحشفة، أو قطع الطبيب سلعة فتجاوزها، ونحو ذلك، لما تقدم في الأجير المشترك، وحكى ابن أبي موسى إذا ماتت طفلة من الختان فديتها على عاقلة خاتنها، قضى بذلك عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والله أعلم.

ضمان الراعي

[ضمان الراعي] قال: ولا ضمان على الراعي إذا لم يتعد. ش: لا ضمان على الراعي، لأنه مؤتمن على الحفظ، أشبه المودع، ولأنها عين قبضت بحكم الإجارة، أشبهت العين المستأجرة، أما إذا تعدى أو فرط - مثل أن تركها تغيب عن نظره، أو ضربها ضربا أسرف فيه، أو من غير حاجة إليه، أو سلك بها موضعا مخوفا، أو نام عنها أو غفل، ونحو ذلك - فيضمن، لأنه مفرط، أشبه المودع، ولو جاء بجلد الشاة مدعيا لموتها من غير بينة قبل قوله على أصح الروايتين. وقد تضمن كلام الخرقي جواز إجارة الراعي، وهو واضح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى حكاية عن صاحب موسى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] الآية، وجواز إجارة الطبيب، لأنه فعل مباح مأذون فيه، أشبه سائر الأفعال المباحة، ويقدر ذلك بالمدة، لا بالعمل لعدم انضباطه، ويبين قدر ما يأتي له في كل يوم، هل هو مرة أو أكثر من ذلك، ولا يجوز التقدير بالبرء عند القاضي، وجوزه ابن أبي موسى، وكذلك أبو محمد، لكن جعله جعالة لجواز

جهالة العمل فيها، ويجوز اشتراط الكحل من الطبيب على الأصح لا الدواء اعتمادا على العرف. وتضمن أيضا جواز إجارة الختان، وهو واضح لما تقدم، وجواز إجارة الحجام، وهو اختيار أبي الخطاب، وتبعه الشيخان. 2124 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتجم، حجمه أبو طيبة فأعطاه صاعين من طعام، وكلم مواليه فخففوا عنه» [متفق عليه، وفي لفظ: «دعا غلاما منا فحجمه، فأعطاه أجره صاعا أو صاعين، وكلم مواليه أن يخففوا عنه» ] من ضريبته. رواه أحمد والبخاري. 2125 - وعن ابن عباس قال: «احتجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأعطى الحجام أجره، ولو كان سحتا لم يعطه» . رواه أحمد، والبخاري، ولأن بالناس حاجة إلى ذلك، أشبه غيره من المنافع.

وقال القاضي وجمهور أصحابه: لا يصح الاستئجار على الحجامة، وهو ظاهر كلام أحمد، وقال في التلخيص: إنه المنصوص. وذلك: 2126 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن كسب الحجام، ومهر البغي، وثمن الكلب» ، رواه أحمد. 2127 - وعن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كسب الحجام خبيث، ومهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي ولفظه: «شر المكاسب ثمن الكلب، وكسب الحجام، ومهر البغي» والنهي يقتضي التحريم، وكذلك الخبث، لا سيما وقد قارنه بما لا نزاع في تحريمه، وجعله شر المكاسب.

2128 - وقد «روى محيصة بن مسعود أنه كان له غلام حجام، فزجره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: ألا أطعمه أيتاما لي؟ قال: «لا» قال: أولا أتصدق به؟ فرخص له أن يعلفه ناضحه» . رواه أحمد، وفي لفظ: «أنه استأذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في إجارة الحجام، فنهاه عنها، ولم يزل يسأله فيها حتى قال: «أعلفه ناضحك، وأطعمه رقيقك» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وأما حديث ابن عباس فقال أحمد في رواية الأثرم: هذا تأويل من ابن عباس. وأما إعطاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلى طريق الصلة والإحسان، لما فعل معه، جمعا بين الأحاديث، وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم: نحن نعطي كما أعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونقول له كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا تأكله. قيل له: فيشارط في الحجامة؟ قال: لم أسمع في الشرط شيئا. وعلى هذا يجوز أن يعطى من غير شرط،

استئجار الحجام لغير الحجامة من الفصد والختن

ويطعمه رقيقه وناضحه لما تقدم، ويحرم عليه هو أكله في إحدى الروايتين، قال في رواية الأثرم: لا تأكله. وهذا اختيار القاضي، وطائفة من أصحابه. (والرواية الثانية) : يكره. قال أبو النضر عنه: كان يذهب إلى أنه يكره، ويقول: هو شر كسب، ولا يقول: هو حرام، وإذا قيل بالتحريم في حقه، فهل يحرم في حق غيره من الأحرار؟ ظاهر كلام القاضي في التعليق، وصاحب التلخيص: التحريم، وصرح القاضي في الروايتين بالجواز اعتمادا على أن أحمد قال: أطعمه الرقيق. قال: والرقيق يحتاج أن يشتري له طعاما. وفيه نظر، وعلى القول بجواز الإجارة فيكره للحر أيضا أكله، لما تقدم من الأحاديث. [استئجار الحجام لغير الحجامة من الفصد والختن] (تنبيه) : يجوز استئجار الحجام لغير الحجامة، من الفصد، والختن ونحو ذلك، إذ نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كسب الحجام أي في الحجامة، كما أن نهيه عن مهر البغي أي في البغاء، والله أعلم.

كتاب إحياء الموات

[كتاب إحياء الموات] الموات، والميتة، والموتان بفتح الميم والواو: الأرض الدارسة، قاله أبو محمد في المغني، وقال الفراء: الأرض التي لم تحي بعد. 2129 - والأصل في جوازه ما روته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من عمر أرضا ليست لأحد فهو أحق بها» قال عروة: قضى به عمر في خلافته. رواه البخاري. 2130 - وعن سعيد بن زيد عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق» رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي وقال: حسن.

تملك الأرض الموات بالإحياء

2131 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحيا أرضا ميتة فهي له» رواه أحمد والترمذي وصححه. والله أعلم. [تملك الأرض الموات بالإحياء] قال: ومن أحيا أرضا لم تملك فهي له. ش: من أحيا أرضا ميتة لا يعلم أنها ملكت فهي له إلا ما يستثنى، لما تقدم من الأحاديث. وظاهر كلام المصنف: أنه لا يفتقر إلى إذن الإمام، وعليه الأصحاب، ونص عليه أحمد، مستدلا بعموم الحديث وهو مبني على أن عموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال، (وظاهر كلامه) أيضا أن الذمي يملك بالإحياء كالمسلم، وهو المنصوص، وعليه الجمهور، لعموم ما

تقدم، وقال ابن حامد: لا يملك الذمي بالإحياء. وحمل أبو الخطاب قوله على دار الإسلام، قال القاضي: وهو مذهب جماعة من أصحابنا. 2132 - لما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «موتان الأرض لله ورسوله، ثم هي لكم مني» وأجيب بعد تسليم صحته أنها لكم أي لأهل داركم، جمعا بين الأدلة، والذمي من أهل دارنا، فعلى المنصوص، إن أحيا موات عنوة لزمه عنه الخراج، وإن أحيا غيره فلا شيء عليه، في أشهر الروايتين. (وعنه) : عليه عشر ثمره وزرعه، (وظاهر كلامه) أيضا أن موات العنوة يملك بالإحياء، ولا شيء فيه كغيره، وهو إحدى الروايتين، واختاره القاضي، وأبو محمد، وغيرهما، لعموم ما تقدم. (وعنه) : ليس في أرض السواد موات، معللا بأنها لجماعة المسلمين، فلا يختص بها أحدهم، وهذا اختيار أبي بكر، وابن أبي موسى،

والشيرازي، وعلى هذه الرواية قال أبو البركات: تقر في يده بالخراج، لاختصاصه بمزية، وهو السبق بالإحياء. ومفهوم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أن ما ملك لا يملك بالإحياء، وهذا لا يخلو من ثلاثة أحوال: (الأول) : أن يكون له مالك معصوم، وهذا لا إشكال أنه لا يملك بالإحياء، لما تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -. (الثاني) : أن يكون له مالك لكن غير معصوم كالحربي، فقال أبو البركات وصاحب التلخيص، وهو ظاهر كلام القاضي: إنه يملك بالإحياء إذ لا حرمة لملكه أصلا، وإذا تستثنى هذه الصورة من مفهوم كلام الخرقي، وقال أبو محمد: حكم دار الحرب حكم دار الإسلام، حتى إنه جعل فيما عرف أنه ملك ولم يعرف له مالك معين روايتين، كالمسألة التي بعده، واستدل بعموم الخبر، وبأن عامرهم إنما يملك بالقهر والغلبة. (الثالث) : أن يعرف أنه ملك، ولكن لا يعرف له مالك، كخراب باد أهله، ولم يعرف لهم وارث - فعنه - وهو المشهور عنه - لا يملك بالإحياء، وهو مقتضى كلام الخرقي، واختيار أبي بكر، والقاضي، وعامة أصحابه، كالشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، لظاهر حديث عائشة، إذ هذه لأحد، لأنه إن كان له وارث فهي له، وإن لم يكن له وارث فهي فيء

للمسلمين، وبهذا علل أحمد في رواية أبي داود. (وعنه) : تملك بالإحياء، عملا بعموم أكثر الأحاديث. (وعنه) : وإن تيقنت عصمة من ملكها لم تملك بالإحياء لما تقدم، وإن شك في عصمته ملكت، لأن المقتضي قد وجد، وشك في المانع، وهذا اختيار صاحب التلخيص، واستثنى أبو محمد من هذا ما به آثار ملك قديم جاهلي، كمساكن ثمود ونحوهم، فإنها تملك بالإحياء. 2133 - لما يروى عن طاوس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «عادي الأرض لله ولرسوله، ثم هي بعد لكم» رواه سعيد في سننه، وأبو عبيد في الأموال، ويحتاج كلام أبي محمد إلى بحث ليس هذا موضعه، والله أعلم. قال: إلا أن تكون أرض ملح، أو ما للمسلمين فيه المنفعة، فلا يجوز أن ينفرد بها الإنسان. ش: استثنى - رَحِمَهُ اللَّهُ - مما يملك بالإحياء صورتين: (إحداهما) : أرض الملح، أي معدن الملح، فإنه لا يملك بالإحياء.

2134 - لما روي «عن أبيض بن حمال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه وفد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استقطعه الملح، فقطع له، فلما أن ولى قال رجل من المجلس: أتدري ما قطعت له؟ إنما قطعت له الماء العد. قال: فانتزعه منه، قال: وسأله عما يحمي من الأراك، فقال: «ما لم تنله خفاف الإبل» رواه الترمذي وأبو داود وفي رواية له: أخفاف الإبل قال محمد بن الحسن المخزومي: يعني أن الإبل تأكل منتهى رؤوسها ويحمي ما

فوقه. ولأن هذا مما يتعلق بمصالح المسلمين العامة، فلم يجز إحياؤه كطرق المسلمين ومواردهم، وفي معنى الملح جميع المعادن الظاهرة، لا تملك بالإحياء، وهي ما العمل في تحصيله لا في إظهاره، كالقار، والنفط، والبرام، والموميا، والكحل، والزرنيخ، والجص، ونحو ذلك، وكذلك الحكم في المعادن الباطنة، وهي ما كان ظهورها بالعمل عليها، كمعادن الذهب، والفضة، والحديد، والصفر، والفيروزج، ونحو ذلك مما هو مثبوت في طبقات الأرض، ذكره صاحب التلخيص، وأبو محمد، وحكى أبو محمد احتمالا فيما أظهره من المعادن الباطنة، أنه يملك بالإحياء، ويحتمله كلام أبي البركات، ولفظه: أو ما فيه معدن ظهر قبل إحيائه، ومقتضاه أنه يمنع من إحياء موات

قد ظهر فيه معدن، ويستفاد منه بطريق التنبيه أنه يمنع من إحياء معدن قد ظهر، لا من إحياء معدن لم يظهر. (الصورة الثانية) : ما فيه المنفعة للمسلمين، وهو ما قرب من العامر، وتعلق بمصالحه، من طرقه، ومسيل مائه، وطرح قمامته ونحو ذلك، وكذلك ما تعلق بمصالح القرية، كمرعى ماشيتها، ومحتطبها، ونحو ذلك، وكذلك حريم البئر والنهر، ونحو ذلك، كل ذلك لا يجوز إحياؤه. 2135 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أحيا أرضا ميتة في غير حق مسلم فهي له» ومفهومه أن من أحيا أرضا ميتة في حق مسلم لم تكن له، ولأن ذلك من مصالح المملوك، فأعطي حكمه، فإن قرب من العامر ولم يتعلق بمصالحه ففيه روايتان، أنصهما وأشهرهما عند الأصحاب أنه يملك بالإحياء، لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أحيا أرضا ميتة مع انتفاء المانع، وهو التعلق بمصالح العامر، (والثانية) : لا يملك بالإحياء، تنزيلا للضرر في المآل، منزلة الضرر في الحال،

ما يكون به إحياء الموات

إذ هو بصدد أن يحتاج في المآل، واستثنى الأصحاب صورة ثالثة، وهي موات بلدة كفار صولحوا على أنها لهم، ولنا الخراج عنها، فلا يملك بالإحياء، لأن مقتضى الصلح أن لا يتعرض لهم في شيء مما صولحوا عليه، قال أبو محمد: ويحتمل أن تملك بالإحياء لعموم الخبر، والله أعلم. [ما يكون به إحياء الموات] قال: وإحياء الأرض أن يحوط عليها حائطا. ش: ظاهر كلام الخرقي أن التحويط إحياء للأرض مطلقا، وحكاه القاضي وغيره رواية، بل وجزم به القاضي، والشريف، وأبو الخطاب. 2136 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أحاط حائطا على أرض فهي له» رواه أحمد وأبو داود، ولأحمد مثله من رواية سمرة، وعلى هذا يشترط كون الحائط منيعا، مما تجري العادة بمثله.

وحكى القاضي وغيره رواية أخرى أن إحياء الأرض تعميرها العمارة العرفية لما تراد له، إذ الشارع أطلق الإحياء، فيحمل على ما يتعارفه الناس، وحديث الحائط يحمل على صورة تقتضي العرف فيها، وهذا اختيار ابن عقيل في التذكرة، فعلى هذا إن كان الإحياء للسكنى، فإحياؤها ببناء حيطانها وتسقيفها، وإن جعلها حظيرة كفى بناء حائط جرت العادة به، وإن كان للزرع فبأن يسوق إليها ماء، ويقلع أحجارها إن احتاجت إلى ذلك، أو يحبس الماء عنها، ونحو ذلك على ما جرت به العادة في مثلها، ولا يعتبر أن يزرعها ويسقيها، ولا أن يفصلها تفصيل الزرع، ويحوطها من التراب بحاجز، ولا أن يقسم البيوت إن كانت للسكنى، في أصح الروايتين وأشهرهما، والأخرى يشترط جميع ذلك، ذكرها القاضي في الخصال، وجمع أبو البركات الروايتين في أصل الإحياء، فجعلهما رواية واحدة، فقال: بأن يحوطها بحائط، أو يعمرها العمارة العرفية، وحكى في المقنع قولا آخر بأن ما يتكرر كل عام فليس بإحياء وما لا يتكرر فهو إحياء، والله أعلم.

قال: أو يحفر فيها بئرا فيكون له خمس وعشرون ذراعا حواليها، وإن سبق إلى بئر عادية فحريمها خمسون ذراعا. ش: إذا حفر في الموات بئرا للتملك، وأخرج ماءها، ملكها وملك حريمها، خمسا وعشرين ذراعا من كل جانب، وإن سبق إلى بئر عادية، ملكها بظهور يده عليها، وملك حريمها خمسين ذراعا، نص عليه أحمد، واختاره الخرقي، والقاضي في التعليق، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة، والشيخان وغيرهم. 2137 - لما روى الدارقطني وغيره، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «حريم البئر البدي خمس وعشرون ذراعا، وحريم البئر العادي خمسون ذراعا» . 2138 - وروى أبو عبيد بإسناده عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال: السنة في حريم القليب العادي خمسون ذراعا، والبدي خمس وعشرون ذراعا. واختار أبو الخطاب في الهداية،

والقاضي فيما حكاه عنه أبو محمد في المغني والكافي، أن حريم البئر قدر ما يحتاج إليه في ترقية مائها، فإن كان بدولاب فبقدر مدار الثور أو غيره، وإن كان بسانية فبقدر طول البئر، وإن كان يستقي منها بيده فبقدر ما يحتاج إليه الواقف، وعلى ذلك، إذ هذا ثبت للحاجة، فيقدر بقدرها، وقال القاضي فيما حكاه عنه في المقنع، وحكاه عنه وعن جماعة من الأصحاب صاحب التلخيص: حريم البئر قدر مد رشائها من كل جانب. 2139 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «حريم البئر مد رشائها» رواه ابن ماجه، وقال القاضي في الأحكام السلطانية: له أبعد الأمرين من الحاجة أو قدر الأذرع. وقد توقف أحمد عن التقدير في رواية حرب، والمذهب الأول. (تنبيهان) : «أحدهما» قد تقدم أنه يملك حريم البئر بالحفر أو بالسبق، وهو ظاهر كلام أحمد، وصرح به الخرقي، والقاضي في التعليق، وغيرهما، وعلى قياسه أن ما

قرب من العامر، وتعلق بمصالحه، يكون ملكا لأهل العامر، أو لجماعة المسلمين، وعن القاضي أن هذه المرافق لا يملكها المحيي بالإحياء، وإنما يكون أحق بها، (الثاني) : «العادية» بالتشديد القديمة، نسبة إلى عاد، إذ كل قديم ينسب إليهم لقدمهم، والله أعلم. قال: وسواء في ذلك ما أحياه أو سبق إليه، بإذن الإمام أو غير إذنه. ش: يعني أن الحريم المذكور يثبت له، سواء أحياه - كما إذا حفر بئرا في موات - أو سبق إليه، كما إذا سبق إلى بئر عادية، وكذا أطلق أحمد، والقاضي، وغيرهما، وعلل القاضي بأن البئر العادية مال من أموال الكفار، فتكون غنيمة بوضع اليد عليها، قلت: وينبغي على مقتضى هذا التعليل أن تكون لجماعة الغانمين، أو يكون السبق إليها لا بقوة المسلمين، فتكون له، وقال في المغني: يجب أن يحمل قول الخرقي - في ملك البئر العادية - على بئر انطمست، فجدد حفرها، أو ذهب ماؤها فاستخرجه، ليكون ذلك إحياء، أما بئر لها ماء ينتفع بها المسلمون فلا تحتجر، لأنها بمنزلة المعادن الظاهرة، وقد تقدم أن الإحياء لا يفتقر إلى إذن الإمام، والله أعلم.

كتاب الوقوف والعطايا

[كتاب الوقوف والعطايا] (الوقوف) جمع وقف كفلس وفلوس، يقال: وقف. على الأفصح وأوقف. على لغة، ويقال: أحبس، وحبس، وحبس. ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: «إن شئت حبست أصلها» . (والعطايا) جمع «عطية» كخلايا وخلية، ومعنى الوقف قال أبو محمد، وصاحب التلخيص: إنه تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وأرادا: مع شروطه المعتبرة، وحده غيرهما فأدخل الشروط في الحد، ويحتاج إلى بسط. 2140 - والأصل في جوازه ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم وغيره.

2141 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ قال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها» فتصدق بها عمر على أن لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم صديقا، غير متمول - وفي لفظ: غير متأثل - مالا» : رواه الجماعة. 2142 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذو مقدرة إلا وقف. وقال أحمد في رواية

حكم من وقف على قوم وأولادهم وعقبهم ثم آخره للمساكين

حنبل: قد وقف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقوفهم بالمدينة ظاهرة، فمن رد الوقف فإنما رد السنة. وأما العطية فيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى. والله أعلم. [حكم من وقف على قوم وأولادهم وعقبهم ثم آخره للمساكين] قال: ومن وقف في صحة من عقله وبدنه على قوم، وأولادهم، وعقبهم، ثم آخره للمساكين، فقد زال ملكه عنه. ش: إذا وقف في صحة من عقله - بأن لا يكون مغلوبا على عقله بجنون، أو إغماء أو غيرهما - وفي صحة من بدنه - بأن كان غير مريض - وقفا متصلا كما ذكر الخرقي، فإن ملك الواقف يزول عن العين الموقوفة، على المشهور المعروف، المختار من الروايتين؛ لأنه سبب يزيل التصرف في الرقبة والمنفعة، أشبه الهبة والبيع، (والرواية الثانية) : أنه باق على ملك الواقف، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها» فعلى الأول ينتقل الوقف إلى الموقوف عليه،

على المشهور المختار أيضا من الروايتين، كالهبة والبيع، إلا أن يكون الموقوف عليه مما لا يملك، كالمسجد ونحوه، فإن الملك في الوقف ينتقل إلى الله تعالى، (والرواية الثانية) : يكون ملكا لله تعالى، حكاها غير واحد؛ وهي ظاهر اختيار ابن أبي موسى، قياسا على العتق، بجامع زوال الملك على وجه القربة، وفرق بزوال المالية ثم، بخلاف هنا. وتلخص أن في المسألة ثلاثة أقوال: (ملك) للموقوف عليه، وهي المذهب، (ملك) لله تعالى، (ملك) للواقف وبنيه، وللخلاف فوائد: (منها) لو كان الموقوف ماشية لم تجب زكاتها على الثانية، وكذلك على الثالثة، لضعف الملك، وهو انتقاء التصرف في الرقبة والمنفعة، ووجبت على الموقوف عليه على الأولى، على ظاهر كلام الإمام، واختيار القاضي في التعليق، وأبي البركات، وغيرهما، وقيل: لا تجب، لضعف الملك، اختاره صاحب التلخيص وغيره، (ومنها) : أرش جنايته، يلزم الموقوف عليه على الأولى، لانتفاء التعلق بالرقبة لامتناع البيع، وعلى الثانية

هل يجب في بيت المال أو في الغلة؟ فيه وجهان، قلت: وعلى الثالثة يحتمل أن يجب على الواقف، ويحتمل أن يجب في الغلة، (ومنها) إذا كان أمة ملك الموقوف عليه تزويجها على الأولى، والحاكم على الثانية، لكن يشترط إذن الموقوف عليه، قاله في التلخيص، قلت: والواقف على الثالثة، لكن بإذن الموقوف عليه (ومنها) النظر حيث أطلق يكون للموقوف عليه، على الأولى، وللحاكم على الثانية، وبه جزم ابن أبي موسى، قلت: وللواقف على الثالثة (ومنها) الشفعة لا تستحق على الثانية، قلت: وكذا على الثالثة، وفي استحقاقها على الأولى وجهان (ومنها) نفقة الوقف، تجب حيث شرطت، ومع عدمه في الغلة، ومع عدمها على من الملك له، قاله في التلخيص، قلت: فعلى الثانية تجب في بيت المال، هذا في الحيوان لحرمته، أما العقار فلا تجب عمارته إلا على من يريد الانتفاع به (ومنها) إذا وطئها الموقوف عليه، فلا حد عليه للملك أو شبهه، وتصير أم ولد على الأولى، لا على الثانية والثالثة، والله أعلم.

وظاهر كلام الخرقي أن ملك الواقف يزول عن الوقف وإن لم يخرجه عن يده، وهو المشهور المختار المعمول به من الروايتين، لعموم قوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عمر: «لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث» ولأنه تبرع يمنع البيع والهبة والميراث، أشبه العتق (وعنه) لا يلزم ويزول الملك عنه إلا بالإخراج عن يده، اختاره ابن أبي موسى؛ لأنه تبرع بشيء لم يخرج عن المالية أشبه الهبة، (وظاهر كلامه) أيضا أنه لا يفتقر إلى القبول من الموقوف عليه، ولا خلاف في ذلك إن كان على غير معين كالمساكين، أو على من لا يتصور القبول منه كالمساجد، أما ما كان على آدمي

انتفاع الواقف بالوقف

معين، ففي اشتراط القبول وجهان، قال ابن حمدان في الصغرى وابن المنجا: ثم إنهما مبنيان على انتقال الملك إلى الموقوف عليه، إن قلنا: ينتقل. اشترط، وإن قلنا: لا. فلا، والظاهر أنهما على القول بالانتقال، إذ لا نزاع بين الأصحاب أن الانتقال إلى الموقوف عليه هو المذهب، مع اختلافهم في المختار هنا، وشبهة الخلاف تردده بين التمليك والتحرير، وقد تقدم ذلك، لكن الأصحاب مترددون في التعليل، وينبغي اتباع سنن واحد. وقول الخرقي: في صحة من عقله وبدنه. احترز به عن الوقف في المرض، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وقوله على قوم. إلى آخره، يحترز به عن المنقطع، وسيأتي إن شاء الله تعالى. والله أعلم. [انتفاع الواقف بالوقف] قال: ولا يجوز أن يرجع إليه شيء من منافعه. ش: يعني أنه إذا صح الوقف كما تقدم فإن منافعه تنتقل إلى الموقوف عليه بلا نزاع لما تقدم، ولا يصير للواقف فيها حق، إذ هذا وضع الوقف، والأدلة تشعر بذلك، نعم

إن وجدت فيه صفة الاستحقاق استحق كأحد المستحقين، كمن وقف مسجدا فإنه يستحق الصلاة فيه، أو مقبرة فإنه يملك الدفن فيها، أو سقاية فيملك الشرب منها، ونحو ذلك. 2143 - وفي النسائي والترمذي - وحسنه - عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: «من يشتري بئر رومة، فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين، بخير له منها في الجنة؟» «فاشتريتها بصلب مالي. والله أعلم.

الحكم فيمن وقف وقفا وشرط أن يأكل منه

[الحكم فيمن وقف وقفا وشرط أن يأكل منه] قال: إلا أن يشترط أن يأكل منه، فيكون له مقدار ما اشترط. ش: إذا وقف وقفا وشرط أن يأكل منه، أو يسكنه مدة حياته، أو مدة معلومة صح، نص عليه. 2144 - محتجا بما روى أن في صدقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأكل أهله منها بالمعروف غير المنكر. 2145 - ولأن في حديث عمر: «لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقا، غير متمول» ، وكان عمر هو الوالي عليها إلى أن مات.

2146 - ويروى عن ابن عمر وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما وقفا داريهما وسكناهما مدة حياتهما. والظاهر أن ذلك عن شرط، والله أعلم. قال: والباقي على من وقف عليه وأولاده الذكور والإناث من أولاد البنين، بينهم بالسوية، إلا أن يكون الواقف فضل بعضهم. ش: إذا وقف على قوم وأولادهم وعقبهم كما تقدم، وشرط الأكل منه، فإن الفاضل بعد الأكل يكون بين القوم وأولادهم، وعقبهم يشارك الآخر الأول، إذ الواو للجمع المطلق لا للترتيب، ويكون بين الذكور والإناث بالسوية، إذ هذا قضية الاشتراك، كما لو أقر لهم بشيء، ولهذا لما شرك الله بين ولد الأم في الثلث كان بينهم بالسوية، نعم إذا فضل الواقف بأن جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، أو بالعكس اعتبر تفضيله، كما لو جعله على أحدهم دون الآخر. وقول الخرقي: من أولاد البنين، نص منه على أنه إذا وقف على قوم وأولادهم وعقبهم دخل فيه ولد البنين، ولا خلاف في هذا نعلمه، ومفهوم كلامه أنه لا يدخل فيه ولد

البنات، وهو أشهر الروايات، نص عليها في: ولد ولدي لصلبي. واختاره القاضي في التعليق والجامع، والشيرازي، وأبو الخطاب في خلافه الصغير، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] الآية، ولم يدخل فيه ولد البنات وقال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد ولأن ولد الهاشمية ليس بهاشمي، ولا ينتسب إلى أبيها شرعا ولا عرفا، وبهذا علل أحمد، فقال: لأنهم من رجل آخر، (والرواية الثانية) : يدخلون فيه، اختاره أبو الخطاب في الهداية، لأن البنات أولاده، فأولادهن أولاد أولاده حقيقة، وقد قال الله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] إلى قوله: {وَعِيسَى} [الأنعام: 85] وهو من ولد بنته.

2147 - وفي البخاري وغيره أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد المنبر فقال: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» » يعني الحسن. 2148 - وعن أسامة بن زيد، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لعلي: «وأما أنت يا علي فختني، وأبو ولدي» (والثالثة) يدخلون إلا أن يقول: على ولد ولدي لصلبي. فلا يدخلون، وهذه الرواية اختيار أبي بكر، وابن حامد، حكاه عنهما أبو

الخطاب في الهداية، وأبو محمد في المقنع، والقاضي فيما حكاه عنه صاحب التلخيص، وفي الروايتين للقاضي، والمغني أنهما اختارا الرواية الثانية، وفي الخصال لابن البنا أن ابن حامد اختار الثانية، وأبا بكر الثالثة، وكذا في المغني القديم فيما أظن، ومحل الخلاف مع عدم القرينة أما مع القرينة فالعمل لها، ولهذا قيل في عيسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - والحسن: إنهما إنما دخلا مع الذكر، والكلام مع الإطلاق، والله أعلم. قال: وإذا لم يبق منهم أحد رجع إلى المساكين. ش: يرجع إلى شرط الواقف في الجمع والترتيب وغير ذلك، كما يرجع إليه في شرط الوقف، ففي المسألة السابقة جمع بين القوم وأولادهم وعقبهم بواو الجمع، فقلنا: يشترك فيه الجميع، وفي الثانية رتبه بثم، فقلنا بترتيبه بعد من تقدم، ويوقف استحقاقه على انقراضهم، ويدخل الفقراء في لفظ المساكين، وكذلك كل موضع اقتصر فيه على ذكر أحد

اللفظين، فإنه يتناول القسمين، أما لو جمع بين اللفظين آتيا بما يقتضي التمييز بينهما، كأن قال: وقفت على الفقراء والمساكين نصفين. ونحو ذلك. فإنه يجب التمييز بينهما وقسم الوقف بينهما نصفين، ولو قال: على] الفقراء والمساكين. ولم يقل نصفين، فالحكم كالزكاة، يجوز الدفع إليهما، والاقتصار على أحدهما على المشهور، وعلى الرواية الأخرى لا بد وأن يدفع إلى ثلاثة من كل صنف، والله أعلم. قال: وإذا لم يجعل آخره للمساكين، ولم يبق ممن وقف عليه أحد، رجع إلى ورثة الواقف في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف. ش: قد تضمن هذا الكلام صحة الوقف المعلوم الابتداء، المنقطع الانتهاء، وهذا مذهبنا، لأن مصرفه معلوم كما سيأتي، فصح كما لو صرح بالمصرف، إذ المطلق يحمل على العرف، وإذا صح وانقرض من وقف عليه - كما لو وقف على ولده وأولادهم [فانقرضوا]- فإنه يصرف إلى جميع ورثة الواقف، يقسم على قدر مواريثهم منه، على إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفي الكافي أنها ظاهر المذهب،

لأن الوقف مصرفه البر، وأقاربه أولى الناس ببره، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» . 2149 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» . 2150 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «صدقتك على غير رحمك صدقة، وصدقتك على رحمك صدقة وصلة» (والراوية الثانية) يختص به أقرب العصبة، لأنهم أحق أقاربه ببره. 2151 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ابدأ بمن تعول، أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك» رواه النسائي. (والرواية الثالثة) : يجعل

في بيت المال، يصرف في مصالحهم، وهي أنص الروايات عنه؛ لأنه مال لا مستحق له، أشبه مال من لا وارث له، (والرواية الرابعة) وبها قطع القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبو جعفر، وإليها ميل أبي محمد - يصرف في المساكين، لأنهم أعم جهات الخير، ومصرف الصدقات، وحقوق الله تعالى، من الكفارات ونحوها. وإذا قلنا: يرجع إلى أقارب الواقف الجميع أو العصبة، فإنه يشمل غنيهم وفقيرهم، على ظاهر كلام الخرقي والإمام، وبه قطع أبو البركات وغيره، إذ مصرف الوقف كذلك، واختار القاضي في الروايتين أنه يختص الفقراء منهم، إذ القصد بالوقف البر والصلة، والفقراء أولى بهذا المعنى من غيرهم، ومن رجع إليه فإنه يرجع إليه وقفا، لأن الملك قد زال عنه بالوقف، فلا يعود، ملكا إلى الورثة، قطع بذلك القاضي، وأبو الخطاب، وأبو البركات، وغيرهم، وزعم في المغني أن أحمد نص عليه، وقال: ويحتمل كلام الخرقي أن يصرف إليهم إرثا، ويبطل الوقف، وقال ابن أبي موسى: إن دفع إلى جميع الورثة رجع إرثا، بخلاف الرجوع إلى العصبة، وهذا مقتضى ما في المقنع، وكلام الخرقي عكسه، وحيث قلنا، يصرف إلى الأقارب فانقرضوا، أو لم

أحوال الوقف

يوجد له قريب، فإنه يصرف إلى بيت المال؛ لأنه مال لا مستحق له، نص عليه أحمد في رواية ابن إبراهيم، وأبي طالب، وغيرهما، وقطع به [أبو الخطاب] وأبو البركات، وقال ابن عقيل في التذكرة، وصاحب التلخيص، وأبو محمد: يرجع إلى الفقراء، والمساكين، إذ القصد بالوقف الصدقة الدائمة، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أو صدقة جارية وقال ابن أبي موسى: يباع ويجعل ثمنه للمساكين، - ثم قال ابن الزاغوني: الخلاف في الرجوع إلى الأقارب، - أو إلى بيت المال، أو إلى المساكين - مختص بما إذا مات الواقف، أما إن كان حيا فانقطعت الجهة فهل يعود الوقف إلى ملكه أو إلى عصبته وذريته؟ فيه روايتان. [أحوال الوقف] (تنبيه) : الوقف له أربعة أحوال (الأول) : متصل الابتداء والانتهاء، وهو الذي بدأ به الخرقي (الثاني) : منقطع الانتهاء، وهو الذي ثنى به الخرقي، ولا إشكال في صحة كليهما (الثالث، والرابع) منقطع الابتداء متصل الانتهاء،

وقف المريض مرض الموت

متصل الابتداء والانتهاء، منقطع الوسط، كأن وقف على من لا يجوز كعبد، ثم على من يجوز كالمساكين، أو وقف على ولده، ثم عبده، ثم على المساكين، والمذهب صحتهما، وقيل بالبطلان، بناء على تفريق الصفقة، وعلى الأول هل يجعل من لا يجوز الوقف عليه كالمعدوم، فيصرف إلى من يجوز الوقف عليه، أو يعتبر فيصرف مدة وجوده مصرف المنقطع، ثم إذا انقرض لمن يجوز الوقف عليه؟ فيه وجهان، وله تقاسيم أخر ليس هذا موضع بيانها، والله أعلم. [وقف المريض مرض الموت] قال: ومن وقف في مرضه الذي مات فيه، أو قال: هو وقف بعد موتي. ولم يخرج من الثلث، وقف منه بقدر الثلث، إلا أن يجيز الورثة. ش: الوقف تبرع بلا تردد، فيعتبر من الثلث، كالهبة، والعتق، فإذا وقف في مرضه المخوف المتصل بالموت، على غير وارث، نفذ منه الثلث فما دون بلا نزاع، ما لم يمنع من ذلك مانع كالدين، ووقف ما زاد على الثلث فما دون

على إجازة الورثة، [كالوصية سواء، وكذلك إذا قال: هو وقف بعد موتي. ينفذ منه الثلث فما دون، ويقف الباقي على إجازة الورثة] كالتدبير. وقد تضمن كلام الخرقي صحة الوقف المعلق بالموت، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه الصغير، وأبي محمد، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد. 2152 - وأنه احتج بأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصى، فكان في وصيته: هذا ما وصى به عبد الله أمير المؤمنين، إن حدث به حدث أن ثمغا صدقة. رواه أبو داود، وقال القاضي - أظنه في المجرد - وأبو الخطاب في الهداية، وابن البنا في الخصال، لا يصح، إلحاقا له بالهبة. والأولون ألحقوه بالصدقة المطلقة، ثم على قولهم هل يصح الوقف المعلق على شرط في الحياة؟

فيه وجهان، والمختار عند أبي محمد، وأبي الخطاب البطلان، وشبهة الخلاف تردد الوقف بين التحرير والتمليك كما تقدم، وقال ابن حمدان -: من قبله - إن قيل الملك لله تعالى صح التعليق، وإلا فلا. وقد شمل كلام الخرقي صحة وقف الثلث في مرض الموت، أو بعد الموت، على الورثة أو بعضهم، وهو أشهر الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأنصهما، واختيار القاضي في التعليق وغيره، وأكثر الأصحاب. 2153 - والأصل في ذلك ما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقف على ورثته. وعلى هذا اعتمد أحمد، وعلى أنهم لا يبيعون ذلك، ولا يهبونه، وإنما ينتفعون به، قلت: فكأنه عتق الوارث (وعنه) ما يدل على منع ذلك، وإذا يقف على إجازة الورثة، كالوقف على غيرهم، وهذا اختيار أبي حفص العكبري، قال القاضي: فيما وجدته معلقا عنه، واختيار أبي

خراب الوقف

محمد إلحاقا له بالهبة، وادعى أبو محمد أن وقف عمر كان على جميع الورثة، قال: والنزاع في الوقف على البعض، قال: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد على ذلك، قلت: ونص أحمد في رواية الحسن بن محمد الترمذي وغيره صريح بخلاف ذلك، والله أعلم. [خراب الوقف] قال: وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئا بيع واشتري بثمنه ما يرد على أهل الوقف، وجعل وقفا كالأول. ش: إذا تعطل الوقف، وصار بحيث لا يرد شيئا، أو يرد شيئا لا عبرة به، ولم يوجد ما يعمر به، فإن الناظر فيه يبيعه، ويشتري بثمنه ما فيه منفعة، يرد على أهل الوقف، نص عليه أحمد، وعليه الأصحاب. 2154 - لما اشتهر عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: أن انقل المسجد الذي بالتمارين، واجعل بيت المال في قبلة المسجد، فإنه لن يزال بالمسجد مصل. وهذا بمحضر من الصحابة، ولم يظهر

خلافه، فيكون إجماعا، ولأنه تجب المحافظة على صورة الوقف ومعناه، فلما تعذر إبقاء صورته، وجبت المحافظة على معناه. 2155 - نظرا إلى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ويشهد له إذا عطب الهدي دون محله، فإنه يذبح تحصيلا لما أمكن. وحكى في التلخيص عن أبي الخطاب أنه لا يجوز بيع الوقف مطلقا، وهو غريب لا يعرف في كتبه. وقول الخرقي: وجعل وقفا. مقتضاه [أنه] لا يصير وقفا بمجرد الشراء، بل لا بد من إيقاف الناظر له، ولم أر المسألة مصرحا بها، وقيل: إن فيها وجهين. ومقتضى كلامه أنه لو بقي فيه نفع لم يجز بيع، وإن كان غيره أجود منه، وصرح به أبو محمد وغيره، إذ الأصل

المنع، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يباع أصلها ترك ذلك حيث خيف من ضياعه وفواته رأسا، نعم إن كان النفع لا يعد نفعا فوجوده كالعدم. وظاهر كلامه أنه لا يشترط أن يشتري من جنس الوقف، وهو كذلك، إذ القصد النفع، نعم يتعين صرف المنفعة في المصلحة التي كانت الأولى تصرف فيها، ومن هنا الفرس الحبيس إذا بيع اشتري بثمنه ما يصلح للجهاد. وقد علم من كلام الخرقي أنه لا يجوز بيع الوقف إذا لم يخرب، وهو كذلك بلا ريب. 2156 - قال ابن عمر: «إن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر، فقال: يا رسول الله أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ فقال: «إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها «فتصدق بها عمر على أن لا تباع، ولا توهب، ولا تورث، في الفقراء، وذوي القربى، والرقاب، والضيف، وابن السبيل، لا جناح على من وليها

الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو

أن يأكل منها بالمعروف ويطعم، غير متمول» . رواه الجماعة، والله أعلم. [الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو] قال: وكذلك الفرس الحبيس إذا لم يصلح للغزو، بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد. ش: حكم الفرس الحبيس إذا صار لا يصلح إلا للطحن ونحو ذلك أنه يباع ويشترى بثمنه ما يصلح للغزو، أو يعان به في فرس، نص عليه أحمد لما تقدم، (وعنه) أنه يصرف ثمنه في مثله أو يصرف على الدواب الحبيس، قال: لا يباع الفرس الحبيس إلا من علة، إذا عطب يصير للطحن، ويصير ثمنه في مثله، أو ينفق ثمنه على الدواب الحبيس. وظاهره التخيير بين الأمرين، وقد يحمل قوله: ينفق الثمن على الحبيس. على ما إذا تعذر شراء المثل، وكذلك رأيت صاحب التلخيص حكى النص فقال: إنه نص على أن الفرس الحبيس إذا هرم يباع، وإذا أمكن أن يشترى بثمنه فرس اشتري، وجعل حبيسا، وإلا جعله في ثمن دابة حبيس، والله أعلم. قال: وإذا حصل في يد بعض أهل الوقف خمسة أوسق ففيه الزكاة، وإذا صار الوقف للمساكين فلا زكاة فيه.

ما يجوز وقفه وما لا يجوز

ش: إذا كان الوقف شجرا فأثمر، أو أرضا فزرعت. وكان الوقف على قوم بأعيانهم، فحصل لبعضهم من الثمرة أو الحب نصاب ففيه الزكاة، لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فيما سقت السماء العشر» ونحوه، ولأن الملك تام في الثمرة والحب، وهو متعلق الزكاة، وإن حصل في يده دون نصاب فلا شيء عليه، نعم إن حصل في يد الجميع نصاب وجبت الزكاة. على رواية تأثير الخلطة في غير الماشية، وإن كان الوقف على قوم غير معينين كالمساكين فلا زكاة، إذ شرط وجوبها الملك حين الوجوب، والمسكين إنما يملك بالدفع، نعم على رواية تأثير الخلطة في نحو ذلك ينبغي أن تجب الزكاة والله أعلم. [ما يجوز وقفه وما لا يجوز] قال: وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف - مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب - فوقفه غير جائز. ش: من شرط ما يوقف أن يكون عينا يجوز بيعها، ويدوم نفعها مع بقائها، فلا يصح الوقف في الذمة كعبد ودار، ولا ما لا يجوز بيعه، إذ الوقف يعتمد نقل الملك، فلا بد

وأن يكون الموقوف مما يقبل النقل، فلا يجوز وقف الكلب، وأم الولد، ووقف الحر نفسه، وإن جازت إجارته، ولا وقف الموصى له بخدمة عبد ذلك العبد، لعدم الملك له في الرقبة، ولا وقف أحد هذين العبدين، وفيه احتمال كالعتق، ولا ما لا يدوم نفعه كالرياحين ونحوها، وبطريق الأولى ما لا منفعة فيه كالعين المستأجرة، إذ الوقف تحبيس الأصل، وتسبيل المنفعة، وفي الأول لا تحبيس، وفي الثاني [لا منفعة] ، نعم إن وقفها بعد مدة الإجارة [إذا انقضت] ، صح إن قيل يصح تعليق الوقف على شرط في الحياة، ولا ما يذهب بالانتفاع به، كالمأكول، والمشروب، والشموع، والدراهم، والدنانير للتصرف فيها، أو مطلقا، أما لو وقفها للوزن فقال في التلخيص:

يصح كإجارتها لذلك. وقال أبو محمد: لا يصح، لأن ذلك ليس من المرافق العامة. ويصح وقف الحلي عند العامة؛ لأنه من المقاصد المهمة. 2157 - وقد روي أن حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ابتاعت حليا بعشرين ألفا فحبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تخرج زكاته. قال أبو الخطاب [في الهداية] : ونقل الأثرم وحنبل: لا يصح. قال في المغني: وأنكر حديث حفصة. قال في التلخيص: وهو محمول على رواية منع وقف المنقول. قلت: ذكر القاضي في التعليق رواية الأثرم وحنبل، ولفظها: لا أعرف الوقف في المال. فإن لم يكن في الرواية غير هذا ففي أخذ المنع منه نظر، والله أعلم. قال: ويصح الوقف فيما عدا ذلك. ش: يصح [الوقف] فيما عدا ما ذكرناه، من العقار، والحيوان، والأثاث، والسلاح، [ونحو ذلك] ، على المذهب المعروف، وقد تقدم حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في وقف العقار.

وقف المشاع

2158 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا واحتسابا، فإن شبعه، وروثه، وبوله، في ميزانه يوم القيامة حسنات» رواه أحمد والبخاري. 2159 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حق خالد: «قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله» «ونقل حنبل والأثرم عنه: إنما الوقف للدور والأرضين، على ما وقف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال ابن عقيل: وظاهر هذا حصره على العقار، إعمالا لمقتضى «إنما» وذلك هو الذي يتأبد حقيقة، بخلاف غيره، والله أعلم. [وقف المشاع] قال: ويصح وقف المشاع.

2160 - ش: في النسائي وابن ماجه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قال عمر للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن المائة سهم التي بخيبر، لم أصب مالا قط أعجب إلي منها، قد أردت أن أتصدق بها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: احبس أصلها وسبل ثمرتها» . والله أعلم.

الوقف على ما ليس بقربة

[الوقف على ما ليس بقربة] قال: وإذا لم يكن الوقف على معروف أو بر فهو باطل. ش: من شرط الموقوف إذا كان على جهة أن يكون معروفا، كالمساكين، والمساجد، والقناطر، والمارين بالكنائس ونحو ذلك، أو برا كالأقارب، مسلمين كانوا أو ذمة، نظرا لمعنى الوقف، إذ وضعه ليتقرب به إلى الله تعالى، وفي قصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يشعر بذلك، فلا يصح فيما ليس بقربة، سواء كان مأثما كالكنائس، والبيع، وكتابة التوراة والإنجيل، وإن كان الواقف ذميا، والمغنين، ونحو ذلك، أو غير مأثم، كالأغنياء، ولهذا جعل الله الفيء مقسوما بين ذي القربى، واليتامى، ومن سماه الله سبحانه، حذارا من أن تتداوله الأغنياء، قال سبحانه: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وقيل المشترط أن لا يكون معصية، ولا يشترط القربة، فيصح على الأغنياء.

أما الوقف على أهل الذمة، كأن قال: وقفت على النصارى، أو على نصارى هذه البلدة، ونحو ذلك، فمقتضى كلام أبي البركات وصاحب التلخيص أنه لا يصح، لأن الجهة جهة معصية، بخلاف الوقف على أقاربه من أهل الذمة لأنها جهة بر، وفي المغني: يصح الوقف على أهل الذمة، لأنهم يملكون ملكا محترما، أشبهوا المسلمين. 2161 - ولأن صفية زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقفت على أخ لها يهودي. وفيه نظر، إذ العلة ليست الملك المحترم، بل كون ذلك قربة وطاعة، ووقف صفية على قريبها المعين، ولا إشكال في صحة ذلك، لما فيه من البر، بل لو كان معينا وليس بقريب صح أيضا، لأن المعين يقصد نفعه، ومجازاته،

ونحو ذلك، بخلاف جهة أهل الذمة، فإنها جهة معصية انتهى. ومن شرط الموقوف عليه إذا كان غير جهة، أن يكون معينا يملك ملكا محترما، فلا يصح على مجهول كرجل، ولا على أحد هذين، كالهبة، قال في التلخيص: ويحتمل الصحة، بناء على أنه لا يفتقر إلى قبول، ولا على من لا يملك، كالحمل، والبهيمة، وكذلك العبد؛ لأنه وإن قيل إنه يملك لكن ملكه كالعدم، وفي المكاتب وجهان، لتردده بين الحر والعبد القن، ولا على مرتد، ولا حربي، لعدم احترام ملكهم، ويصح على الحر المعين، وإن كان ذميا أو فاسقا، والله أعلم.

شرط الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن

[شرط الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن] قال: ولا تصح الهبة والصدقة فيما يكال أو يوزن إلا بقبضه. ش: لما فرغ المصنف من الكلام على الوقوف شرع في الكلام على العطايا، وهي جمع عطية، كخلية وخلايا، والعطية الشيء المعطى، وحدها: تمليك عين في الحياة بلا عوض، وهي جنس، أنواعه الصدقة، والهبة، والهدية، فإن كان القصد بها التقرب إلى الله تعالى لمحتاج فهي صدقة، وإن حملت إلى المهدى إكراما وتوددا فهدية، وإلا فهبة، إذا تقرر هذا فإن هبة غير المعين - كقفيز من صبرة، ورطل من زبرة، ونحو ذلك - تفتقر إلى القبض بلا نزاع وفي المعين ثلاث روايات، (الافتقار) ، (وعدمه) - وهو مختار القاضي وعامة أصحابه - (والتفرقة) بين صبر المكيل والموزون فتفتقر إلى القبض دون غيرهما، وهو مختار الخرقي، وأبي محمد، ومدرك الخلاف أن من قصر الحكم على غير المعين قال: مقتضى العموم عدم الافتقار.

2162 - بدليل قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العائد في هبته كالعائد في قيئه» خرج منه غير المعين. 2163 - بدليل ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان نحلها جداد عشرين وسقا من ماله بالغابة، فلما حضرته الوفاة قال: يا بنية إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا، ولو كنت جددتيه، واحتزتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال وارث، فاقتسموه على كتاب الله. رواه مالك في الموطأ، وجداد عشرين وسقا غير معين، قال أحمد: حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في شيء مجهول وإذا يبقى في ما عداه على مقتضى العموم. 2164 - ويؤيد هذا ما روي عن علي وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أنهما قالا: الهبة جائزة إذا كانت معلومة، قبضت أو لم

تقبض. ومن ألحق صبر المكيل والموزون بذلك قال: فيها أيضا نوع شياع وإبهام فتلحق به. 2165 - ومن عمم الحكم في الجميع استدل بما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما بال قوم ينحلون أولادهم، فإذا مات أحدهم قال: مالي، وفي يدي. وإذا مات هو قال: قد كنت نحلته ولدي. لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد، فإن مات ورثه. 2166 - وأرى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن الوالد يجوز لولده [إذا كانوا صغارا] .

2167 - وقال بعض العلماء: اتفق أبو بكر وعمر، وعثمان، وعلي، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على أن الهبة لا تجوز إلا مقبوضة. (تنبيه) : حيث افتقرت الهبة إلى القبض فهل ذلك لصحتها، أو للزومها وملكها، أو للزومها فقط؟ ظاهر كلام الخرقي وطائفة من الأصحاب الأول، قال أبو الخطاب في الانتصار - في البيع بالصفة -: القبض ركن في غير المتعين، لا ينبرم العقد بدونه، وقال في موضع آخر: إن الزيادة قبل القبض للواهب. وهذا مقتضى كلام القاضي في المجرد أيضا، حيث جعلها تبطل بموت الواهب قبل القبض، قال في التلخيص: كان القاضي يجعل القبض كجزء من السبب مثل القبول، ومقتضى كلام أبي محمد في الكافي، وأبي البركات بل صريحه الثاني، ومقتضى كلام صاحب التلخيص الثالث؛ لأنه قال بعد كلام القاضي المتقدم في المجرد: والمذهب لا يقتضي ذلك، إذ الملك

ينتقل في بيع الخيار على الصحيح، وقال أيضا: إن الزوائد الحاصلة بعد العقد وقبل القبض للمتهب بشرط اتصال القبض، لكن شرطه اتصال القبض يقتضي القول الثاني، وكلام أبي محمد في المغني يحتمل أيضا القول الثاني والثالث، وكلام أحمد ظاهره الثاني، قال في رواية حنبل: إذا تصدق على رجل بصدقة - دار أو ما أشبه ذلك - فإذا قبضها الموهوب له صارت في ملكه. وكلام الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يحتمل القولين الأولين، أما القول الثالث: فضعيف، ولا يعرف مصرحا به، والله أعلم. قال: وتصح في غير ذلك بغير قبض إذا قبل كما تصح في البيع. ش: تصح الهبة في غير المكيل والموزون، وقد تقدم ذلك، وقوله: إذا قبل. تصريح بأنه لا بد في الهبة من القبول، ولا إشكال في ذلك، إذ هو أحد ركنيها، أشبه الإيجاب، ويقوم ما يدل عليهما مقامهما، اختاره ابن عقيل، وأبو محمد وغيرهما.

2168 - وفي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كان إذا أتي بطعام سأل عنه، فإن قالوا: صدقة: قال لأصحابه: «كلوا» ولم يأكل، وإن قالوا: هدية. ضرب بيده، فأكل معهم» ، وعن القاضي، وأبي الخطاب: لا تصح بالمعاطاة. وقوله: كالبيع. أي أنه تتوقف صحته على القبول، ومراده كالبيع مطلقا، لا كالبيع في المكيل والموزون، إذ لا نزاع أن القبول في البيع ليس بشرط في الصحة إلا في التصرف، وقد يؤخذ من كلام الخرقي أن [من] شرط صحة القبول تأخره عن الإيجاب، كما أن ذلك بلا نزاع. رتبته، وهذا إحدى الروايتين، والله أعلم. قال: يقبض للطفل أبوه أو وصيه بعده، أو الحاكم، أو أمينه بأمره. ش: يقبض للطفل أبوه، لما تقدم عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أو وصيه بعده؛ لأنه يقوم مقامه، أو الحاكم إذا

المفاضلة بين ولده في العطية

مات الأب من غير وصي، أو لم يكن أهلا كالفاسق [ونحوه] ، إذ الحاكم ولي من لا ولي له، أو أمين الحاكم بأمره؛ لأنه يقوم مقامه. ومقتضى كلام الخرقي أنه ليس لغير هؤلاء القبض، وهو المشهور، وقيل: للأم وبقية أقاربه ممن يقوم على الطفل القبض إن عدموا هؤلاء. وقد تضمن كلامه أنه ليس للطفل القبض، وهو صحيح، لفقد الأهلية، والطفل غالبا يطلق على غير المميز، وقد يطلق عليه، كما في قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59] الآية، وكلام الخرقي محتمل للأمرين، وفي صحة قبض المميز وجهان طباقا للاحتمالين، لكن يصح بإذن وليه بلا ريب، والله أعلم. [المفاضلة بين ولده في العطية] قال: وإذا فاضل بين ولده في العطية أمر برده، كما أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ش: المشروع في عطية الأولاد التسوية بينهم.

2169 - لما روي عن النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اعدلوا بين أبنائكم» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي ويسوي بينهم على قدر ميراثهم، للذكر مثل حظ الأنثيين، اقتداء بقسمة الله تعالى، وقياسا لحال الحياة على حال الموت. 2170 - قال عطاء: ما كانوا يقسمون إلا على كتاب الله فإن خالف ولم يسو بينهم أمر برد ذلك، أو إعطاء الآخر حتى يستووا. 2171 - لما «روى النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن أباه أتى به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا. فقال: فارجعه. متفق عليه، ولفظ مسلم: تصدق علي أبي ببعض ماله، وفي رواية: لا تشهدني على جور، وإن لبنيك عليك من الحق أن تعدل بينهم» . وظاهر كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يسوي بينهم، وإن اختص بعضهم بمعنى يقتضي الاختصاص كزمانة، أو

عمى، أو اشتغال بعلم، ونحو ذلك، أو بمعنى يقتضي المنع كفسوق، ونحو ذلك، ونص عليه أحمد في رواية يوسف ابن موسى، وهو ظاهر كلام الأكثرين؛ لعموم حديث النعمان بن بشير، ولأنهم سواء بالإرث، فكذلك في عطيته في حياته، (وعنه) ما يدل على جواز تفضيل أحدهم أو اختصاصه لمعنى مما تقدم، لقوله في تخصيص أحدهم في الوقف: لا بأس به إذا كان للحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة. وهذا اختيار أبي محمد، وعليه حمل حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وظاهر كلامه أن الذي يجب التعديل بينهم هم الأولاد فقط، وبه قطع أبو محمد في كتبه، إذ الأصل تصرف الإنسان في ماله كيف شاء، خرج منه الأولاد بالخبر، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسأل بشيرا: هل لك وارث غير ولدك أم لا؟ وقال أبو الخطاب، وأبو البركات، وصاحب التلخيص وغيرهم: حكمهم حكم الأولاد، يسوي بينهم على قدر مواريثهم، فإن لم يفعل رجع على ما تقدم، وفي التلخيص أن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص عليه، لأن المنع من ذلك كان خوف قطيعة الرحم والتباغض، وهذا موجود في الأقارب، والله أعلم.

قال: فإن مات ولم يرده فقد ثبت لمن وهب له، إذا كان ذلك في صحته. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختارها الخلال، وأبو بكر، لما تقدم من حديث أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن ظاهره أنه خصها بذلك، وأنها لو كانت حازته لم يكن لهم الرجوع، وكذلك عموم قول عمر: لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد. (والثانية) : للورثة الرجوع، كما كان له الرجوع؛ لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سماه جورا. 2172 - وفي رواية لمسلم: «وإني لا أشهد إلا على حق» وغير الحق، والجور، لا يختلف بالحياة والموت، فلا يطيب أكله، ويجب رده. 2173 - وقد روى سعيد في سننه أن سعد بن عبادة قسم ماله بين أولاده، وخرج إلى الشام فمات بها، ثم ولد له بعد ذلك ولد، فمشى أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى قيس بن

الرجوع في الهبة

سعد، فقالا: إن سعدا قسم ماله، ولم يدر ما يكون، وإنا نرى أن ترد هذه القسمة، فقال قيس: لم أكن لأغير شيئا صنعه سعد، ولكن نصيبي له. وقول الخرقي: إذا كان في صحته، احترازا مما إذا كانت العطية في مرض موته، فإن ذلك لا ينفذ، ويكون كالوصية له، تقف على إجازة الورثة، نعم إن كانت العطية في المرض ليسوي بينهم فهل يجوز؟ فيه احتمالان، أولاهما الجواز؛ لأنه طريق لفعل الواجب، لا سيما إذا قلنا: للورثة الرجوع. والله أعلم. [الرجوع في الهبة] قال: ولا يحل لواحد أن يرجع في هبته، ولا لمهد أن يرجع في هديته، وإن لم يثب عليها. 2174 - ش: لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العائد في هبته كالعائد يعود في قيئه» متفق عليه، ولأحمد، والبخاري ليس لنا مثل السوء، وفي رواية لأحمد قال قتادة: ولا أعلم القيء إلا حراما.

2175 - وعن طاوس أن ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - رفعاه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها، إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الرجل يعطي عطية [ثم يرجع فيها] ، كمثل الكلب، أكل حتى إذا شبع قاء، ثم رجع في قيئه» رواه الخمسة، وصححه الترمذي. وعموم كلام الخرقي يشمل المرأة، فليس لها أن ترجع في ما وهبته لزوجها، وهو إحدى الروايات، واختيار أبي بكر، لعموم ما تقدم، ولقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] (والثانية) : للمرأة الرجوع مطلقا، نقلها الأثرم. 2176 - واحتج لها بأن في الحديث «إنما يرجع في المواهب النساء، وشرار الأقوام» (وعنه ثالثة) ، إن وهبته مخافة غضبه،

أو إضرار بها، بأن يتزوج عليها، ونحو ذلك رده إليها؛ لأنها لم تطب نفسا به، وإن لم يكن سألها، فتبرعت به فهو جائز، حكى الروايات الثلاث أبو محمد، وعندي أن الثالثة لا تدل إلا على صحة هبتها وعدمها. وكلام الخرقي أيضا يشمل الأب، فمقتضى كلامه أنه ليس له الرجوع، وهو إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقلها عنه المروذي في كتاب الزهد، لعموم حديث ابن عباس المتفق عليه، وقال أبو محمد: ظاهر كلامه الرجوع، وأخذه من قوله: وإذا فاضل بين ولده في العطية أنه يرد ذلك. وفيه نظر، وبالجملة فهذا هو المشهور، واختاره

جماعة من الأصحاب لما تقدم من حديث ابن عباس الذي في السنن. وهو مخصص لحديثه الآخر، (وعنه رواية ثالثة) اختارها أبو محمد، وابن البنا وابن عقيل في التذكرة، إن غرّ بها قوم، كأن رغب الناس بسببها في معاملته، أو مناكحته فلا رجوع، لما فيه من الضرر [بالغير] المنفي شرعا، وإلا فله الرجوع لما تقدم. (وعنه رابعة) إن زادت العين زيادة متصلة فلا رجوع، لاتصالها بملك الولد، وإلا فله الرجوع، ونقل عنه حنبل: أرى أن من تصدق على ابنه بصدقة فقبضها الابن، أو كان في حجر أبيه فأشهد على صدقته فليس له أن ينقض شيئا من ذلك؛ لأنه لا يرجع في شيء من الصدقة. ونحو ذلك نقل المروذي، قال أبو حفص: تحصيل المذهب أنه لا يرجع فيما دفع لغير الولد، هبة كان أو صدقة، ويرجع فيما وهبه لابنه، ولا يرجع فيما كان على وجه الصدقة. وهذا اختيار ابن أبي موسى. 2177 - لعموم قوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمر: «لا تعد في صدقتك» وقد فهم عمر العموم.

2178 - فروى مالك في الموطأ عنه قال: من وهب هبة يرى أنه أراد بها صلة رحم، أو على وجه صدقة، فإنه لا يرجع فيها، ومن وهب هبة، أراد بها الثواب، فهو على هبته، يرجع فيها إذا لم يرض منها. وأبو محمد صرح بأنه لا فرق بين الصدقة وغيرها، مستدلا بأن في الصحيح في حديث النعمان بن بشير: تصدق علي أبي ببعض ماله. . . القصة، وصرح بذلك [أيضا] القاضي في المجرد وهو ظاهر إطلاق جماعة.

العمرى نوع من الهبة

وشرط الرجوع حيث جوزناه (أن تكون العين) الموهوبة باقية في ملك الابن، فإن خرجت عن ملكه ثم عادت إليه بعقد، أو إرث فلا رجوع، وإن رجعت إليه بفسخ فثلاثة أوجه؛ ثالثها: إن كان كخيار المجلس أو الشرط رجع، وإلا فلا، (وأن لا يتعلق) بها حق يمنع تصرف الابن، كالرهن، وحجر الفلس، والكتابة إن لم يجز بيع المكاتب، ثم إن زالت هذه التعلقات جاز له الرجوع، لزوال المانع. وقوله: وإن لم يثب عليها. تنصيص على مخالفة من قال: إن لم يثب عليها رجع. وهو مشعر بأن الهبة لا تقتضي ثوابا، وهو كذلك، وإن كانت من الأدنى للأعلى. (تنبيه) : هذا الحكم يختص بالأب، فليس للأم الرجوع فيما وهبته لولدها، على المنصوص والمختار، وقيل: لها الرجوع كالأب. والله أعلم. [العمرى نوع من الهبة] قال: وإذا قال: داري لك عمري، أو هي لك عمرك. فهي له ولورثته من بعده. ش: العمرى نوع من الهبة، تفتقر إلى ما تفتقر إليه الهبة من الإيجاب، والقبول، والقبض، وهي مأخوذة من العمر، ومعناها كما قال الخرقي أن يقول: داري - أو فرسي ونحو ذلك - لك عمري، أو مدة حياتي، أو لك عمرك،

أو حياتك. ونحو ذلك، فتصح، وتكون للمعمر، ولورثته من بعده. 2179 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «العمرى ميراث لأهلها» وفي لفظ جائزة لأهلها متفق عليه. 2180 - وعن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أعمر عمرى فهي لمعمره محياه ومماته، لا ترقبوا، من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث» ، رواه أحمد وأبو داود والنسائي. 2181 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالعمرى لمن وهبت له، متفق عليه، وفي لفظ: «أمسكوا عليكم أموالكم، ولا تفسدوها، فمن أعمر عمرى فهي للذي أعمر حيا وميتا، ولعقبه» رواه مسلم.

وظاهر كلام الخرقي في العمرى أنها تكون للمعمر ولورثته، وإن شرط المعمر رجوعها إليه، أو إلى ورثته عند موت المعمر، فيبطل الشرط، ويصح العقد، وهو إحدى الروايات عن أحد، لعموم ما تقدم، ولأن فيها «لا ترقبوا، من أرقب شيئا فهو على سبيل الميراث» والرقبى معناها: الرجوع إلى المرقب إن مات المرقب. 2182 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخل حياتها، فماتت فجاء إخوته فقالوا: نحن فيه شرع سواء قال جابر: فاختصموا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقسمها بينهم ميراثا.» رواه أحمد. (والرواية الثانية) يصح العقد والشرط، فتكون للمعمر إذا مات المعمر. 2183 - إعمالا لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلمون على شروطهم» .

2184 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما العمرى التي أجاز رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقول: هي لك ولعقبك. فأما إذا قال: هي لك ما عشت. فإنها ترجع إلى صاحبها. رواه أحمد ومسلم وأبو داود. (وعنه) يبطل العقد والشرط؛ لأنه شرط منهي عنه، إذ الجاهلية كانوا يفعلون ذلك. 2185 - فنهى الشارع عنه بقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تعمروا، ولا ترقبوا» والنهي يقتضي الفساد، وإذا يفسد العقد، لاختلاف الرضى بدونه، والله أعلم. قال: وإذا قال: سكناها لك عمرك. كان له أخذها أي وقت أحب؛ لأن السكنى ليست كالعمرى والرقبى. ش: هذه هبة منفعة، والمنافع إنما تستوفى بمضي الزمان شيئا فشيئا، فلا تلزم إلا في قدر ما قبضه واستوفاه، وقوله: لأن السكنى ليست كالعمرى والرقبى قد تقدم بيان العمرى وأما الرقبى فهي هبة ترجع إلى المرقب إذا مات المرقب،

ومعناها أنها لآخرهما موتا، وحكمها حكم العمرى المشروط رجوعها إلى المعمر، فيها الروايات، سواء أطلق فقال: أرقبتك هذه. أو صرح بموضوعها فقال: هي لآخرنا موتا، والله أعلم.

باب اللقطة

[باب اللقطة] ش: حكي عن الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (اللقطة) بضم اللام، وفتح القاف، الكثير الالتقاط، وبسكون القاف ما يلتقط. قال أبو منصور: وهو قياس اللغة. وقال الأصمعي، وابن الأعرابي والفراء: هي بفتح القاف اسم للمال الملقوط أيضا. ويقال فيه أيضا: «لقاطة» بضم اللام «ولقطة» بفتح اللام والقاف، وهي في الاصطلاح: المال الضائع عن ربه، يلتقطه غيره. 2186 - والأصل فيها ما روى زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن لقطة الذهب، فقال: «اعرف وكاءها، وعفاصها، ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يوما من الدهر فادفعها إليه» وسأله عن ضالة الإبل فقال: «ما لك ولها، دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها، ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها» وسأله عن الشاة فقال: «خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك أو للذئب» متفق عليه في أحاديث أخر. والله أعلم.

مدة ومكان تعريف اللقطة

[مدة ومكان تعريف اللقطة] قال: ومن وجد لقطة عرفها سنة، في الأسواق، وأبواب المساجد. ش: من وجد لقطة وجب عليه تعريفها، وإن لم يرد تملكها، لما تقدم من حديث زيد بن خالد. 2187 - وفي رواية عنه «لا يؤوي الضالة إلا ضال ما لم يعرفها» رواه أحمد، ومسلم، وقدر التعريف سنة [للحديث] . وظاهر كلام الخرقي أن السنة تلي الالتقاط، وتكون متوالية، وهو صحيح، لظاهر الأمر، إذ مقتضاه الفور على قاعدتنا، ولأن صاحبها يطلبها عقب ضياعها، فإذا عرفت إذا كان أقرب إلى وصولها إليه، بخلاف ما لو تأخر ذلك، فلو ترك التعريف بعض الحول أثم، وعرف بقيته، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» [وإن تركه جميع الحول سقط على المنصوص، لسقوط حكمة التعريف، وهو تطلع المالك لها في الحول الأول، وقيل: لا يسقط.

2188 - نظرا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ] وهنا قد استطاع التعريف على وجه ناقص، فوجب عليه. انتهى، (ومحل التعريف) محل وجدانها، إن أمكن، وفي الأسواق، وأبواب المساجد، في أدبار الصلوات، ونحو ذلك من مجامع الناس، لأن المقصود من التعريف إظهار ربها عليها، وهذه الأماكن مظنة ذلك، بخلاف غيرها. 2189 - ولا تعرف في المسجد، للنهي عن ذلك، ووقته النهار، وقد يفهم هذا من قوله: في الأسواق، وأبواب المساجد.

وصفته أن يقول: من ضاع منه شيء، أو نفقة، أو ذهب، ونحو ذلك، ولا يذكر الصفة. وظاهر كلام الخرقي أنه يعرف القليل والكثير، وهو ظاهر إطلاق الحديث، ويستثنى من ذلك اليسير، الذي لا تتبعه النفس، كالتمرة، والكسرة، والسوط، ونحو ذلك، فإنه لا يجب تعريفه، ولواجده الانتفاع به. 2190 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العصا، والسوط، والحبل، وأشباهه، يلتقطه الرجل ينتفع به» . [رواه أبو داود] . 2191 - وفي الصحيحين أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مر بتمرة في الطريق، فقال: «لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» ، والمعروف تقييد اليسير بما لا تتبعه نفوس أوساط الناس كما مثلنا، ونص

أحمد - في رواية أبي بكر بن صدقة - على أنه يعرف الدرهم، وقال ابن عقيل في التذكرة: لا يجب تعريف الدانق ونحوه. وحمله في التلخيص على دانق الذهب، نظرا لعرف العراق، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن اليسير دون ثلاثة دراهم؛ لأنه تافه. 2192 - بدليل قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كانوا لا يقطعون في الشيء التافه. وعموم «من» يشمل الذمي، وصرح به غيره، لعموم من وجد لقطة ولأنه أهل للتكسب، فيصح التقاطه، كاحتطابه ونحو ذلك، ثم قال أبو محمد: إنه يضم إليه أمين في التعريف والحفظ، وأكثر الأصحاب لم يتعرضوا لذلك، وجعله ابن حمدان على القول بضم الأمين إلى الفاسق، (ويشمل) الفاسق أيضا، وهو صحيح لما تقدم، وهل يضم إليه أمين؟ فيه وجهان: (أحدهما) - وهو ظاهر كلام القاضي في الجامع، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي - لا، لأهليته للحفظ، بدليل إيداعه (والثاني) - واختاره القاضي في المجرد، وابن البنا، وبه قطع أبو البركات، وأبو محمد في كتابيه الكبيرين –

نعم، حفظا لمال الغائب، ثم قال القاضي: يكون الأمين هو المباشر للتعريف، لاتهام الفاسق، فربما قصر. (ويشمل) أيضا الرقيق، وهو صحيح، فإن كان مكاتبا فحكمه حكم الحر، وإن كان قنا صح التقاطه على المذهب، (وعنه) لا يصح إلا بإذن سيده، فعلى المذهب يصح تعريفه، ثم إن تلفت في حول التعريف بلا تفريط فلا شيء عليه، وأن تلفت بتفريطه، أو أتلفها ضمنها في رقبته لجنايته، وإن مضى حول التعريف هل يملكها؟ قال في التلخيص: قال أصحابنا: يخرج على الروايتين في ملك العبد. وهذا مقتضى كلام أبي البركات، قال صاحب التلخيص: وعلى ما بينت أن الروايتين فيما إذا ملكه السيد، لا يملك هنا بحال. وقطع أبو محمد في الكافي والمغني أن السيد يملك بمضي الحول، فإما أنه نظر إلى ما قال صاحب التلخيص، وإما أنه فرع على المذهب، ثم إن صاحب المحرر قال: إن ملك وتلفت ضمنها في ذمته، وإن لم يملك ضمنها في رقبته، وقال في التلخيص: إنه يضمنها في ذمته، نص عليه. قال: لأنها للسيد، أو للعبد مضمونة في ذمته. وكذا قال طائفة من الأصحاب، منهم

أبو محمد في المقنع، وهذا متوجه إن قلنا: إن العبد يملك، أما إن قلنا: إن الملك للسيد - كما صرح به أبو محمد، واقتضاه كلام صاحب التلخيص وغيره - فالجناية على مال السيد، فلا تتعلق لا بذمته، ولا برقبته، بل الذي ينبغي أن تتعلق بذمة السيد، وإن قيل: إن لعبد لم يملك ولا السيد، تعين التعلق برقبته كجناياته، وهذه تحتاج إلى زيادة تحقيق، ولها فروع أخر ليس هذا موضعها، وحكم أم الولد والمعلق عتقها بصفة حكم القن. والله أعلم. قال: فإن جاء ربها وإلا كانت كسائر ماله. ش: يعني إذا عرفها فإن جاء ربها في الحول فهي باقية على ملكه، وإن انقضى الحول ولم تعرف، صارت عند انقضاء الحول كسائر مال الملتقط، على المذهب بلا ريب، لما تقدم من حديث زيد. 2193 - وفي رواية فيه فاستمتع بها وفي رواية وإلا فهي لك قال في الانتصار: ونقل البغوي عنه ما يدل على

أن اللقطة لا تملك. قلت: وهو غريب، لا تفريع ولا عمل عليه. وقد شمل كلام الخرقي الغني والفقير، وهو المشهور من المذهب لما تقدم من حديث زيد. 2194 - وفي حديث أبي بن كعب فاستمتع بها وشذ حنبل عن أصحابه، فنقل عن أحمد اختصاص التملك بالفقير، وأنكر ذلك الخلال. 2195 - لما روى عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل، وليحفظ عفاصها، ووكاءها، ثم لا يكتم، ولا يغيب، فإن جاء ربها فهو أحق بها، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء» رواه الخمسة إلا الترمذي، قال بعض الحفاظ: ورجاله رجال الصحيح.

وظاهره أن واجدها لا يختص بها، بل سبيلها سبيل الأموال المضافة إلى الرب سبحانه، من الخمس وغيره، وحديث زيد بن خالد قضية في عين لا عموم لها، إذ يجوز أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رآه فقيرا، فأباح له الأخذ، أو لمصلحة أخرى، لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نائب الله في أمواله. وشمل كلامه أيضا الأثمان، والعروض، والشاة، ونحوها، ولا خلاف في ملك الأثمان، لنص حديث زيد بن خالد، واختلف فيما عداها، (فعنه) لا تملك مطلقا. 2196 - أما في الشاة ونحوها فلما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» رواه أحمد، وأبو داود، والضالة اسم للحيوان، دون سائر اللقطة. 2197 - وأما في العروض فلأن ذلك يروى عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يصح قياسها على

الأثمان، فإن الغرض يتعلق بها، بخلاف الأثمان، (وعنه) تملك مطلقا، وهي ظاهر كلام الخرقي هنا، وسينص عليها في الشاة، واختيار ابن أبي موسى، وأبي محمد، لحديث زيد بن خالد في الشاة، وهو نص في جواز التقاطها، وهو خاص، فيقدم على لا يؤوي الضالة الحديث، ولحديث عياض بن حمار من وجد لقطة مع التزام أن عموم الأشخاص، يقتضي عموم الأحوال. 2198 - وروى الجوزجاني والأثرم قالا: حدثنا أبو نعيم، ثنا هشام بن سعد، قال: حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: «أتى رجل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله: كيف ترى في متاع يوجد في الطريق الميتاء، أو في قرية مسكونة؟ قال: «عرفه سنة، فإن جاء صاحبه وإلا فشأنك به» » .

2199 - وروى الجوزجاني عن عمر وابنه ما يدل على أن العروض تملك، (وعنه) رواية ثالثة - وهي المشهورة في النقل

والمذهب، عند عامة الأصحاب - أن الشاة ونحوها تملك دون العروض، وقد فهم دليلها مما تقدم. وحيث قلنا: لا تملك العروض. (فعنه) تعرف أبدا، اختارها أبو بكر في (زاد المسافر) وابن عقيل أظنه في (الفصول) ، (وعنه) - وهو المشهور عنه، واختيار الخلال، وزعم أن الأول قول أول - تباع ويتصدق بثمنها بشرط الضمان، وقال القاضي في الخصال: يخير بين تعريفها أبدا، وبين دفعها إلى الحاكم، ليرى رأيه فيها. وقال ابن عقيل في التذكرة: يدفعها إلى الحاكم. وشمل كلام الخرقي أيضا لقطة الحل والحرم، وهو إحدى الروايتين، واختيار الجمهور، لحديث زيد بن خالد، وعياض بن حمار، التزاما بأن عموم الأشخاص يتناول عموم الأحوال، إذ قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجد لقطة عام في كل واجد، وعموم الواجدين يستلزم عموم أحوالهم.

[وكذلك سؤال زيد عن لقطة الذهب، اسم جنس مضاف، فيشمل كل لقطة ذهب، ويلزم منه عموم أحوالها] (والثانية) : لا تملك لقطة الحرم بحال، بل تعرف أبدا. 2200 - لقوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بلد مكة «ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» أي لمنشد على الدوام، وإلا غير لقطة الحرم لا تحل أيضا إلا لقاصد تعريفها، وحفظها. 2201 - ويؤيد هذا ما روى عبد الرحمن بن عثمان التيمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لقطة الحاج» ، رواه مسلم. وهذا أخص من تلك فيقيد، لا سيما ويمنع: أن عموم الأشخاص (لا) يستلزم عموم الأحوال. وقول الخرقي: وإلا فهي كسائر ماله. ظاهره أنها تدخل في ملكه من غير اختياره، وكذا نص أحمد في رواية الجماعة، وعليه الجمهور، لظواهر الأحاديث السابقة.

2202 - وفي رواية لمسلم في حديث زيد بن خالد «فإن جاء صاحبها، فعرف عفاصها، ووكاءها وعددها، فأعطها إياه، وإلا فهي لك» واختار أبو الخطاب في هدايته أنه لا يملكها حتى يختار ذلك، وحكاها ابن الزاغوني رواية. ومقتضى كلامه أنه لو لم يعرفها التعريف السابق - وهو السنة - أنه لا يملكها، وهو صحيح، وكذلك لو لم يعرفها الحول، نعم، إن أخر التعريف أو بعضه في الحول الأول لعذر، من مرض، أو حبس، أو صغر، ونحو ذلك، ملكها بالتعريف في ثاني الحول في وجه، وعلى المنصوص لا كالأول، والله أعلم. قال: وحفظ وكاءها، وعفاصها، وحفظ عددها، وصفتها. ش: هذا عطف على قوله: عرفها سنة. فيحتمل أنه واجب مطلقا كالتعريف، لظاهر حديث زيد، ويحتمل أنه مطلوب جملة، ثم عند الالتقاط مستحب، وعند تمام التعريف،

وإرادة التصرف فيها أو خلطها بماله واجب، وهو ظاهر كلامه، وعليه شرح أبو محمد، وفاقا للأصحاب، لأن دفعها إلى ربها يجب بما ذكر، فلا بد من معرفته نظرا إلى أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب. 2203 - وفي رواية «عن أبي بن كعب أنه قال: وجدت مائة دينار، فأتيت بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «عرفها حولا» فلم تعرف، فرجعت إليه فقال: اعرف عدتها ووعاءها ووكاءها واخلطها بمالك» » . وظاهره أن الخلط مرتب على معرفة ما تقدم، وأنه قبل التعريف لم يأمره بذلك، وهذه القرينة الصارفة لحديث زيد وغيره عن الوجوب، «والوكاء» الخيط الذي تربط به، «والعفاص» الوعاء الذي تكون فيه، من خرقة أو غيرها، وفي معنى العدد الكيل والوزن، ويبالغ في معرفة صفتها، وكل شيء تعرف به. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب الإشهاد عليها، وهو المشهور، نظرا إلى حديث زيد وغيره، حيث لم يأمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإشهاد، نعم، يستحب، لحديث عياض بن حمار، وأوجبه ابن أبي موسى، وأبو بكر في التنبيه، لظاهر الأمر، والشهود

عدلان فصاعدا، ولا يشهد على الصفات، نص عليه، لاحتمال شياعه، فيعتمده المدعي الكاذب، والله أعلم. قال: فإن جاء ربها فوصفها دفعت إليه بلا بينة. ش: يعني إذا جاء ربها بعد الحول، وصيرورتها كسائر مال الملتقط، وهي باقية، فوصفها بالصفات السابقة، وجب دفعها إليه بلا بينة، وإن لم يغلب على ظنه صدقه. 2204 - لأن في حديث أبي بن كعب قال: «عرفها، فإن جاء أحد يخبرك بعدتها، ووعائها، فأعطها إياه، وإلا فاستمتع بها» رواه أحمد، ومسلم، والترمذي. 2205 - وفي حديث زيد «فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه» وفي رواية فيه «فإن جاء صاحبها، فعرف عفاصها، وعددها، ووكاءها، فأعطها إياه، وإلا فهي لك» . 2206 - ولا ينافي هذا قوله – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «البينة على المدعي» واليمين على من أنكر» . إذ هذا مع وجود منكر، ولا منكر في صورة اللقطة، فهي غير داخلة في الحديث، ولو سلم دخولها،

فالتخصيص - وقد قام دليله - يخرجها، مع أنا نقول البينة ما تبين الحق وتظهره، والصفة هنا بهذه المثابة، لتعذر إقامة البينة عليها غالبا، لأنها تسقط في حال الغفلة والسهو. وظاهر كلامه أنه لو ادعاها بلا صفة لم تدفع إليه، وهو ظاهر لما تقدم، وقوة كلامه يقتضي أنه لا يجب عليه دفع زيادتها معها والحال ما تقدم، وهو أحد الوجهين، أو الروايتين، على ما في التلخيص، واختيار أبي محمد، لحدوثها في ملكه، (والثاني) : [يأخذها ربها بها، كما يأخذها بالزيادة المتصلة، وكالبائع الراجع على المفلس، أما في حول التعريف فإنها ترد بزيادتها] مطلقا، لبقائها على ملك مالكها، والله أعلم. قال: أو مثلها إن كانت قد استهلكت. ش: اختيار أبي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن اللقطة بعد الحول تملك بغير عوض يثبت في ذمته، وإنما يتجدد العوض بمجيء صاحبها، وعند القاضي وكثير من أصحابه لا يملكها إلا بعوض يثبت في ذمته لصاحبها، وعلى القولين يزول ملك الملتقط عنها بوجوده إن كانت باقية، ويجب عليه إذا بدلها، وهو مثلها، أو قيمتها إن كانت تالفة، لحديث زيد، فإنه أمره بإنفاقها، ثم قال: «ولتكن وديعة عندك، فإن جاء

طالبها يوما من الدهر فأدها إليه» فأمره – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدفعها إلى ربها، بعد [إباحة] إنفاقها» . 2207 - وقال الأثرم: قال أحمد: أذهب إلى حديث الضحاك بن عثمان، جوده ولم يروه أحد مثل ما رواه، إن جاء صاحبها بعد سنة، وقد أنفقها ردها إليه، وحكى عنه أنه لوح إلى عدم الضمان، لحديث عياض بن حمار، لأن فيه «فهو مال الله يؤتيه من يشاء» وظاهره أنه مباح، ولما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فهي لك وللأول أن يقول بموجبه، إذ جعلها له، وكون الله آتاه إياها، لا ينافي وجوب الضمان عليه بوجود ربها، وعلى هذا لو نقصت ضمن نقصها، وتعتبر القيمة حين التملك، قاله في التلخيص، وهو ظاهر على رأي القاضي ومتابعيه، أما على رأي أبي محمد فينبغي اعتبارها حين وجود ربها، وكذا صرح به أبو البركات، وهذا كله بعد الحول، أما قبله فهي أمانة، كبقية الأمانات، والله أعلم.

قال: وإن كان الملتقط قد مات فصاحبها غريم بها. ش: إذا مات الملتقط، بعد أن صارت اللقطة كمال الملتقط، ثم جاء ربها، فهو غريم بها، يرجع ببدلها إن اتسعت التركة، وإلا تحاص الغرماء، لما تقدم من أنه إنما يملكها مضمونة عليه، إما حين التملك، وإما حين وجود ربها، وكلام الخرقي يحتمل أن يريد ما إذا تلفت، بقرينة المسألة السابقة، وعليه شرح أبو محمد، ويحتمل أن يريد أنه غريم وإن كانت باقية، تنزيلا لانتقالها إلى الوارث منزلة الانتقال إلى الأجنبي، ولو انتقلت إلى أجنبي لم يلزم إلا بدلها، فكذلك إلى الوارث، ثم على الأول ظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا فرق بين أن يعلم تلفها بعد الحول أو لا، وفي المغني احتمال أنه لا يلزم عوضها إن لم يعلم تلفها بعد الحول، لاحتمال تلفها في الحول، وهي إذا أمانة، والله أعلم. قال: وإن كان صاحبها جعل لمن وجدها شيئا معلوما فله أخذه، إن كان التقطها بعد أن بلغه الجعل. ش: الجعالة جائزة في الجملة، لقول الله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] .

2208 - «وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: انطلق نفر من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفرة سافروها، حتى نزلوا على حي من أحياء العرب، فاستضافوهم فأبوا أن يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي، فسعوا له بكل شيء، لا ينفعه شيء، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط الذين نزلوا، لعلهم أن يكون عندهم بعض شيء. فأتوهم فقالوا: أيها الرهط إن سيدنا لدغ، وسعينا له بكل شيء لا ينفعه، فهل عند أحد منكم شيء؟ فقال بعضهم: والله إني لأرقي، ولكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا، فما أنا براق لكم حتى تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من غنم، فانطلق يتفل عليه ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشي وما به قلبة، قال: فأوفوهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا. فقال الذي رقى: لا تفعلوا حتى نأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنذكر له الذي كان، فننظر الذي يأمرنا. فقدموا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا له ذلك، فقال: «وما يدريك أنها رقية؟» ثم قال: «قد أصبتم، اقسموا، واضربوا لي معكم سهما» وضحك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. متفق عليه، واللفظ للبخاري، والحكمة تقتضي ذلك، فإن العمل قد يكون مجهولا كصورتنا، فتتعذر الإجارة فيه، والحاجة تدعو إلى

رده، وقد لا يجد متبرعا فاقتضت حكمة الشارع جواز ذلك. إذا تقرر هذا فإذا جعل رب اللقطة لمن وجدها شيئا معلوما، فلمن وجدها أخذه، لما تقدم، ولقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلمون عند شروطهم» وكما لو استأجره على بناء حائط، ونحو ذلك، لكن بشرط أن يلتقطها بعد أن بلغه الجعل، ليكون عمله في مقابلة الجعل، أما إن وجدها قبل بلوغ الجعل فلا شيء له؛ لأنه متبرع بعمله. وقد تضمن كلام الخرقي أمورا (منها) أنه لا يشترط العلم بالعمل، ولا المدة، وهو صحيح، بخلاف الإجارة، والحكمة ما تقدم، (ومنها) أنه لو قدر المدة، كأن قال: إن وجدتها في شهر ونحو ذلك. صح نظرا لإطلاق كلامه، لاحتمال الغرر فيها، بخلاف الإجارة على الصحيح، (ومنها) أنه لا يشترط تعيين العامل، للحاجة الداعية إلى ذلك، بخلاف الإجارة، (ومنها) أن العمل قائم مقام القبول؛ لأنه يدل عليه، أشبه الوكالة، (ومنها) أن الجعل لا بد وأن يكون معلوما، كالإجارة وغيرها من العقود، وحمل البعير في الآية معلوم عندهم، والقياس على العمل لا يصح، للحاجة الداعية ثم، بخلاف هنا، وفي المغني تخريج بجواز جهالة الجعل، إن لم يمنع

التسليم، كقوله: من رد ضالتي فله نصفها. بخلاف: فله شيء. من قول الإمام: إذا قال الأمير في الجهاد: من جاء بعشرة رؤوس فله رأس. جاز، ومن قوله: إذا جعل جعلا لمن يدله على قلعة أو طريق، من مال الكفار مجهولا، كجارية بعينها، وقد عرف من هذا ما توافق الجعالة الإجارة فيه، وما تخالفها، وتخالفها أيضا في أن الإجارة عقد لازم، والجعالة عقد جائز، وتوافقها في أن ما جاز أخذ العوض عليه في الإجارة جاز في الجعالة، وما لا فلا. وظاهر كلام الخرقي أن الجعل في مقابلة الوجدان، وهو ظاهر كلام أبي البركات وغيره، فعلى هذا هي بعد الوجدان كغيرها من اللقطات، لصاحبها أخذها، ولا يجب على الملتقط مئونة ردها، وقال في المغني: إذا قال: من وجد لقطتي فله دينار. فقرينة الحال تدل على اشتراط الرد، إذ هو المقصود، لا الوجدان المجرد، وإنما ذكر الوجدان لأنه سبب الرد، فكأنه قال: من وجد لقطتي فردها علي. قلت: ولعله يريد بالرد تسليم العين، أو التمكين منها، وكذلك يريد الخرقي بالوجدان الوجدان المقصود، لا

مجرد الوجدان، حتى لو ضاعت بعد أو تلفت استحق الجعل، لأن هذا غير مقصود قطعا، وإذا يرتفع الخلاف. ومفهوم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما تقدم أنه لو وجد اللقطة قبل بلوغ الجعل أنه لا شيء له، وكذلك في كل عمل عمله لغيره بغير جعل، لئلا يلزم الإنسان ما لم يتلزمه، ولم تطب نفسه به، إلا في صورة واحدة وهي رد الآبق، فإن فيه مقدرا على المشهور المعروف، والمختار للأصحاب. 2209 - لأنه يروى عن عمر، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم نعرف لهم في زمنهم مخالفا.

2210 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه جعل في رد الآبق إذا جاء به خارجا من الحرم دينارا، ولأن المصلحة تقتضي ذلك، لئلا يلحقوا بدار الحرب ويرجعوا عن دينهم، وبذلك فارقوا غيرهم، وتوقف في رواية ابن منصور فقال: لا أدري، قد تكلم الناس فيه، لم يكن عنده فيه حديث صحيح، فأخذ من ذلك أبو محمد رواية بأنه لا شيء فيه، وقال: وهو ظاهر كلام الخرقي لقوله: وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى ربه ما أنفق عليه، ولم يذكر جعلا، وأقرب إلى الصحة، قياسا على غيرهم، لأن الأصل عدم الوجوب، والحديث مرسل، وفيه مقال، ولهذا قال ابن منصور عن الإمام: لم يكن عنده فيه حديث صحيح. وفي أخذ رواية من هذا نظر، لأن الواقف لا ينسب له قول، وكونه ظاهر قول الخرقي ينازع فيه أيضا، لأن الخرقي ذكر هذا في النفقات،

وهو بصدد بيانها، لا بيان الجعل، وعلى كل حال فالمذهب الأول. وعليه اختلف في قدر الجعل، واتفق الأصحاب فيما علمته أنه إن رده من خارج المصر ففيه روايتان (إحداهما) - واختارها الخلال - أن الواجب له أربعون درهما. 2211 - اعتمادا على أن ذلك قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (والثانية) أنه دينار أو اثنا عشر درهما. 2212 - نظرا إلى أنه يروى عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - واختلف نقل الأصحاب فيما إذا رده من المصر، ففي الهداية، والمقنع، والمحرر، أن الواجب له دينار، أو اثنا عشر درهما، وفي الخصال لابن البنا، وكتاب الروايتين، أنه عشرة دراهم، وبالغ القاضي في ذلك فقال: إن الرواية لا تختلف في ذلك، وفي المغني أنه دينار أو عشرة دراهم، وفي الكافي أنه دينار، أو اثنا عشر درهما في رواية، وفي أخرى دينار، وفي خلاف الشريف، وأبي الخطاب، والجامع الصغير، أنه دينار أو اثنا عشر درهما في رواية، وفي أخرى عشرة دراهم، وجمع الطرق أنه دينار أو اثنا عشر درهما في رواية، وفي أخرى دينار أو عشرة دراهم، وفي ثالثة دينار، وفي رابعة عشرة دراهم، وقد نقل ابن هانئ عن

أحمد فيمن عمر قناة قوم أنه يرجع عليهم، ذكر ذلك القاضي في الغصب، من كتاب التعليق، وذكره من رواية محمد بن أبي حرب الجرجاني، وعلله بأن الآثار بمنزلة الأعيان، فكما أن يرجع بالأعيان، كذلك يرجع بالآثار، قلت: وهذا التعليل إنما يقتضي الرجوع فيما عمله، بأن يزيله، كما يرجع في الأعيان، لا أنه يرجع ببدل ذلك على مالك العين، والله أعلم. قال: وإن كان الذي وجد اللقطة سفيها أو طفلا قام وليه بتعريفها، فإن تمت السنة ضمها إلى مال واجدها. ش: إذا وجد اللقطة سفيه أو طفل قام وليه بالتعريف، لأن واجدها ليس أهلا للتعريف، والولي قائم مقامه، ونائب منابه، فإذا تم التعريف ضمها الولي إلى مال واجدها، وصارت كسائر ماله، لأنها من أكسابه، أشبه

ما يجوز التقاطه وما لا يجوز

اصطياده، ونحو ذلك، وقد تضمن كلام الخرقي صحة التقاط الصبي والسفيه، وهو صحيح. لعموم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من وجد لقطة ونحو ذلك، وكما يصح احتطابه وغيره، والله أعلم. [ما يجوز التقاطه وما لا يجوز] قال: وإذا وجد الشاة بمصر أو بمهلكة فهي لقطة. ش: يعني فله أخذها، وهذا (إحدى الروايتين) وأشهرهما، لما تقدم من «قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في حديث زيد بن خالد فإنما هي لك، أو لأخيك، أو للذئب» (والرواية الثانية) لا يلتقطها إلا الإمام، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يأوي الضالة إلا ضال» وعلى الأولى - وهي المذهب - هل يملكها بالتعريف؟ فيه روايتان قد تقدمتا، وحكم كل ما لا يمتنع من صغار السباع - الثعلب، وابن آوى، والذئب، ونحو ذلك - كفصلان الإبل، وعجول البقر، وأفلاء الخيل، والأوز، والدجاج، ونحوها - حكم الشاة فيما ذكرنا. وقد دل مفهوم كلام الخرقي على ذلك فيما بعد.

وظاهر كلام الخرقي أنها تعرف كغيرها من اللقطات، وهو مقتضى كلام صاحب التلخيص وأبي البركات، وغيرهما، وزعم أبو محمد أن الأصحاب لم يذكروا لها تعريفا، ثم قال أبو محمد: إن واجدها يخير بين ثلاثة أشياء: (أكلها) وعليه قيمتها، (وبيعها) وحفظ ثمنها، (وحفظها) والإنفاق عليها من ماله، وهل يرجع به إن لم ينو التبرع؟ فيه روايتان، وظاهر كلام صاحب التلخيص يخالفه في الأخير؛ لأنه قال: لا يبيع بعض الحيوان للنفقة عليه؛ لأنه يفضي إلى بيع كله. ونبه الخرقي بقوله: بمصر أو بمهلكة. على قول مالك ومن وافقه، من أنه إن وجدها بمصر أخذها وذبحها، وبمهلكة يحفظها إلى أن يجيء ربها. (واعلم) أنها إنما تكون لقطة بالمهلكة إذا لم يعلم أن صاحبها تركها، أما لو تركها صاحبها بالمهلكة ترك الإياس منها، فليست بلقطة، وهي لمن أحياها، نص عليه، والله أعلم.

قال: ولا يتعرض لبعير، ولا لما فيه قوة يمنع عن نفسه. ش: لا يتعرض لبعير، لنص حديث زيد، ولا لما فيه قوة يمنع نفسه عن صغار السباع، كالخيل، والبغال، والبقر، لما علل به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من قوله: «دعها فإن معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء، وتأكل الشجر، حتى يجدها ربها» «وقال في الشاة: خذها، فإنما هي لك، أو لأخيك أو للذئب» فعلل جواز أخذ الشاة بكونها معرضة للذئب، ومنع من أخذ البعير؛ لكونه معه حذاؤه فيرعى، «وسقاؤه» وهو ما يوعي في بطنه من الماء، وهو لكبر جثته لا يقدر عليه الذئب ونحوه، فيؤمن من تلفه غالبا. 2213 - وقد روى منذر بن جرير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: كنت مع أبي جرير، بالبوازيج في السواد، فراحت البقر، فرأى بقرة أنكرها فقال: ما هذه البقرة؟ قالوا: بقرة لحقت بالبقر.

فأمر بها فطردت حتى توارت، ثم قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يؤوي الضالة إلا ضال» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وألحق الأصحاب بذلك الحمر، نظرا إلى صورتها، وألحقها أبو محمد بالشاة، نظرا إلى مشاركتها في علتها، وهو تعرضها للذئب، ومفارقتها للإبل في عدم صبرها على الماء، وحكم ما يمتنع من صغار السباع بطيرانه كالطيور كلها، أو بسرعته، كالظباء ونحوها، أو بنابه، كالفهد والكلب - على وجه - حكم الإبل ونحوها، نعم إن كانت الصيود متوحشة، إذا تركت ذهبت إلى الصحراء، وعجز عنها صاحبها جاز التقاطها، قاله أبو محمد، ويلحق بالإبل من غير الحيوان ما يتحفظ بنفسه كأحجار الطواحين وكبير الخشب، ونحو ذلك بطريق الأولى؛ لأن الإبل متعرضة للتلف في الجملة، بخلاف هذه.

وقوله: ولا يتعرض لبعير. هذا في غير الإمام أو نائبه، أما الإمام أو نائبه فله أخذها ليحفظها لمالكها، لا ليتملكها. 2214 - لما روى مالك في موطئه عن ابن شهاب قال: كانت ضوال الإبل في زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إبلا مؤبلة تتناتج، ولا يمسها أحد، حتى إذا كان عثمان أمر بمعرفتها، ثم تباع، فإذا جاء صاحبها أعطي ثمنها. والله أعلم.

كتاب اللقيط

[كتاب اللقيط] ش: اللقيط فعيل بمعنى مفعول، كجريح، وطريح وقتيل، ونحو ذلك، وهو الذي يوجد مرميا على الطرق، لا يعرف أبوه، ولا أمه، بشرط أن لا يبلغ سن التميز، أو بلغها ولم يبلغ على المذهب، وهو من فروض الكفايات، لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ولأن فيه إحياء نسمة، أشبه إنجاءه من الغرق، والله أعلم. [حرية اللقيط] قال: واللقيط حر. ش: نظرا إلى الأصل، لأن الله خلق آدم وذريته أحرارا، والرق عارض. 2215 - وعن سنين أبي جميلة أنه وجد منبوذا في زمان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: فجئت به إلى عمر فقال: ما حملك على أخذ هذه النسمة؟ فقال: وجدتها ضائعة فأخذتها. فقال عريفه: يا أمير المؤمنين إنه رجل صالح.

النفقة على اللقيط

فقال: كذلك؟ قال: نعم. قال عمر: اذهب فهو حر، ولك ولاؤه، وعلينا نفقته. رواه مالك. والله أعلم. [النفقة على اللقيط] قال: وينفق عليه من بيت المال، إن لم يوجد معه شيء ينفق عليه منه. ش: ينفق على اللقيط من بيت المال، إن لم يوجد معه ما ينفق عليه، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن بيت المال وارثه، فكان نفقته عليه كقرابته، فإن تعذر ذلك،

فعلى من علم حاله من المسلمين الإنفاق عليه، حذارا من هلاكه، كإنجائه من الغرق، أما إن وجد معه شيء فإنه ينفق عليه منه؛ لأنه محكوم له به؛ لأنه يملك، وله يد صحيحة، بدليل أنه يرث، ويورث، ويملك أن يشتري له وليه، ونحو ذلك، أشبه البالغ وإذا ينفق عليه من ماله كغيره، ويتولى الإنفاق عليه من يحضنه على المشهور، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختاره ابن حامد، وابن الزاغوني، وابن البنا، وصاحب النهاية، وغيرهم، لأن له ولاية عليه، أشبه وصي اليتيم، ولأن هذا من الأمر بالمعروف، فلا يفتقر إلى حاكم، كإراقة الخمر، وقيل عنه ما يدل على وجوب استئذانه، ونازع أبو محمد في دلالة ذلك، وعليها إن أنفق بدون إذنه ضمن. وقد أشعر كلام الخرقي بأن ما وجد مع اللقيط يكون له، وهو صحيح، كالذي يوجد في يده من نقد وغيره، أو عليه من ثياب ونحوها، أو تحته من فراش ونحوه، أو مشدودا بثيابه، قال أبو محمد: أو ما جعل فيه كخيمة أو دار، وظاهر كلام أبي البركات مخالفته، أو ما طرح قريبا منه، في وجه قطع به أبو البركات، وأبو محمد في الكافي،

ولاء اللقيط

وصححه في المغني، عملا بالظاهر، وفي آخر - وأورده أبو الخطاب مذهبا - لا يكون له كالبعيد، أو دفن تحته، على احتمال في الهداية، كالطرح بقربه، وعلى ما أورده فيها مذهبا، وقطع به ابن البنا لا يكون له، كالبالغ فإنه لو كان تحته دفين لم يكن له، وتوسط أبو البركات، متابعة لابن عقيل، فجعله له بشرط طراوة الدفن، اعتمادا على القرينة، والله أعلم. [ولاء اللقيط] قال: وولاؤه لسائر المسلمين. ش: يعني ميراثه، شبهه بالرقيق لعدم معرفة نسبه، وأراد «بسائر» جميع، جريا على قاعدته، وإنما كان كذلك لأنهم يرثون مال من مات ولا وارث له، واللقيط كذلك، وقد دل كلام الخرقي على أن ولاءه لا يكون لملتقطه، وهو صحيح. 2216 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنما الولاء لمن أعتق» وحديث عمر قيل: أراد بالولاء الولاية عليه، جمعا بين الأدلة. 2217 - وحديث «تحوز المرأة ثلاثة مواريث، عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه. قال ابن المنذر: لا يثبت. والله أعلم.

قال: وإن لم يكن من وجد اللقيط أمينا منع من السفر به. ش: إذا لم يكن الذي وجد اللقيط أمينا - كأن كان فاسقا - منع من السفر به، حذارا من ادعاء رقه أو بيعه، ونحو ذلك، وكذلك إن كان مستور الحال، في وجه اختاره في الكافي، احتياطا ونظرا لجانب اللقيط، لأنا لا نأمن خيانته، وفي آخر يجوز أن يسافر به كما يقر في يده، إذ الظاهر من حال المسلم الأمانة، وقد اقتضى كلام الخرقي أنه يقر في يد الفاسق في الحضر، وهو أحد الوجهين؛ لأنه قد سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم، فيكون أحق به، ولأنه أهل للحفظ في الجملة، بدليل صحة إيصائه، (والثاني) - واختاره القاضي، وأبو البركات وغيرهما - لا يقر في يده؛ لأنه نوع ولاية، وليس من أهلها، وعلى الأول قال أبو محمد: يضم إليه أمين يشارفه، ويشهد عليه، ويشيع

أمره، ليؤمن التفريط فيه، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط شيء من ذلك، وكذلك أجراه صاحب التلخيص وغيره على ظاهره. ومفهوم كلامه أنه إذا كان من التقطه أمينا أقر في يده، وسافر به، أما الإقرار في يده، فلا نزاع فيه، لحديث عمر، لكن يشترط كونه حرا، مكلفا، مسلما، رشيدا، فلا يقر في يد عبد، وإن كان مكاتبا، لعدم تفرغه للحضانة، ولا في يد صبي، ولا مجنون، لأنهم مولى عليهم، لا أن لهم ولاية، ولا في يد كافر وإن أقر في يد الفاسق، لأن خطر الدين عظيم. نعم حيث حكم بكفر اللقيط أقر في يده، لزوال المانع، ولا في يد مبذر، وإن لم يكن فاسقا، قاله في التلخيص؛ لأنه ليس بأهل للأمانات الشرعية، وأما السفر به فيجوز للأمن عليه، لكن إن أراد السفر للنقلى، فإن كان من بدو إلى حضر جاز؛ لأنه أرفه له، وأومن عليه، وإن كان من حضر إلى بدو منع، حذارا من المشقة، والخوف عليه، وإن كان من حضر إلى حضر فوجهان، الجواز للاستواء، والمنع لأن ظهور نسبه في محل التقاطه أغلب، ولم يعارض ذلك ما يرجح عليه من رفاهيته، والأمن عليه، والله أعلم.

ادعى اللقيط مسلم وكافر

[ادعى اللقيط مسلم وكافر] قال: وإذا ادعى اللقيط مسلم وكافر، أري القافة، فبأيهما ألحقوه لحق. ش: إذا ادعى اللقيط مسلم وكافر، أو حر وعبد، أي ادعوا نسبه، فهما سواء في الدعوى، كما تضمنه كلام الخرقي، ونص عليه أحمد، وعليه الجمهور، لأن كل واحد منهما لو انفرد صحت دعواه، فإذا تنازعوا تساووا بالدعوى، كالأحرار المسلمين، وحكى ابن أبي موسى وجها أن الكافر والحال هذه لا يلتفت إلى دعواه إلا ببينة، ثم إن كان لأحدهما بينة حكم له، وإن تساووا في البينة أو عدمها أري القافة معهما، فأيهما ألحقته به لحق. 2218 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: «ألم تريْ أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض» رواه الجماعة، وفي رواية لمسلم وغيره «قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما» وفي لفظ: قالت «دخل قائف والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاهد، وأسامة بن زيد، وزيد بن حارثة مضطجعان، فقال: إن هذه الأقدام

بعضها من بعض. فسر بذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأعجبه، وأخبر به عائشة» ، متفق عليه. 2219 - قال أبو داود: وكان أسامة أسود، وكان زيد أبيض. فسروره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وإخباره به، دليل الاعتماد عليه، ولأنه يحصل غلبة الظن، أشبه البينة، ويؤيد ذلك أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكم بذلك في خلافته كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولم ينكره منكر. وقد نبه الخرقي بذكر هذه المسألة على تساوي المسلم والكافر في الدعوى، خلافا لأبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تقديمه المسلم، وعلى أن القافة تعتبر، خلافا للشافعي، واقتصاره على الاثنين يحتمل لأنه يجوز أن يلحق بهما، ولا يلحق بأكثر منهما، وهو قول ابن حامد، قصرا على مورد النص.

2220 - وهو ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، في امرأة وطئها رجلان في طهر، فقال القائف: قد اشتركا فيه جميعا فجعله بينهما. 2221 - وعن علي: هو ابنهما، وهما أبواه، يرثهما ويرثانه. رواهما سعيد، وقال أحمد: حديث قتادة، عن سعيد، عن

عمر: جعله بينهما وقابوس، عن أبيه، عن علي: جعله بينهما. ونص أحمد في رواية مهنا أنه يلحق بثلاثة، فاقتصر القاضي على ذلك، ومال الشيخان إلى إلحاقه بما زاد على الثلاثة؛ لأنه إذا جاز أن يخلق من اثنين، كما شهد به قضاء الصحابة، جاز أن يخلق من ثلاثة وأكثر. (تنبيه) : يعتبر للقائف الذكورية، والعدالة لأنه إما بمنزلة الشاهد، أو الحاكم والمعنيان معتبران فيهما، وأن يكون مجربا في الإصابة، ليحصل الظن بقوله، وهل يكفي قائف واحد، ومجرد خبره، تنزيلا له منزلة الحاكم، أو لا بد من

اثنين، ولفظ الشهادة، تنزيلا لهما منزلة الشاهدين؟ فيه روايتان، وفي اعتبار الحرية وجهان، بناء على الأصلين، والله أعلم.

كتاب الوصايا

[كتاب الوصايا] ش: الوصايا جمع وصية، كالعطايا جمع عطية، قال الأزهري: سميت الوصية وصية لأن الميت لما أوصى وصل ما كان فيه من أيام حياته، بما بعده من أيام مماته، والأصل فيها قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] . 2222 - وعن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» رواه الجماعة. 2223 - وعن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم، عند وفاتكم زيادة في حسناتكم، ليجعلها لكم زيادة في أعمالكم» رواه الدارقطني.

الوصية للوارث

[الوصية للوارث] قال: ولا وصية لوارث إلا أن يجيز ذلك الورثة. 2224 - ش: عن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» رواه الخمسة إلا النسائي، وحسنه الترمذي.

2225 - وعن عمرو بن خارجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله، رواه الخمسة إلا أبا داود، وصححه الترمذي. 2226 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجوز وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة» . 2227 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة» رواهما الدارقطني.

وقول الخرقي: ولا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة. ظاهره أن الوصية صحيحة، موقوفة على إجازة الورثة، فتكون إجازتهم تنفيذا، وهذا هو المشهور المنصور في المذهب، حتى إن القاضي في التعليق، وأبا الخطاب في خلافه الصغير، وأبا البركات، وجماعة لم يذكروا في المسألة خلافا، اعتمادا على حديثي ابن عباس وعبد الله بن عمرو، فإن مقتضاهما أن الوصية للوارث صحيحة، إذا أجازت الورثة، (وعنه) ما يدل على أن الوصية باطلة، أخذا من إطلاقه في رواية حنبل: لا وصية لوارث. وفيه نظر، فإذا إجازة الورثة ابتداء عطية، اعتمادا على أن

الصحيح في الرواية كما تقدم «لا وصية لوارث» وظاهره نفي الوصية مطلقا، وللخلاف فوائد، (منها) إذا قلنا: إنها تنفيذ. لزمت بدون القبول والقبض، وإن اعتبرنا القبض في الهبة، وتصح مع جهالة المجاز، ومع كون المجاز وقفا على المجيز، وإن قلنا: وقف الإنسان على نفسه لا يصح. ولو كان المجاز عتقا، كما لو تأخر العتق عن وصايا استغرقت الثلث، وقلنا: يبدأ بالأول فالأول على المذهب. فإن ولاءه للموصي؛ لأنه المعتق، فتختص به عصبته، ولو كان المجيز والد المجاز له، كما لو وهب ثلث ماله، ثم وصى لأخيه بماله، فأجاز ذلك الأب، لم يكن له الرجوع في المجاز به؛ لأنه ليس بهبة منه، وهو إنما يرجع فيما وهبه لولده، ولو جاوز المجاز الثلث زاحم ما لم يجاوزه، كما لو كان ثلثه مثلا خمسين، فأوصى لرجل بمائة درهم، ولآخر بخمسين، ولآخر بخمسين، وأجاز الورثة الجميع، فإن المال - وهو المائة وخمسون - يقسم بينهم أرباعا، لأن الوصية صحت في الجميع. وعلى الرواية الأخرى تنعكس هذه الأحكام، فلا بد من القبول والقبض في المجاز، حيث اعتبرنا القبض في الهبة،

لافتقارها إليهما، ويشترط كون المجاز معلوما، إذ العلم شرط في صحة الهبة، ولو كان المجاز وقفا على المجيز، كما لو وقف داره على ورثته، وهما ابناه، فأجازا ذلك، لم يصح إن لم يصح وقف الإنسان على نفسه، لأن الوقف حصل منهما، ولو كان المجاز عتقا كان ولاؤه للمجيز؛ لأنه المعتق حقيقة لا للموصي، ولو كان المجيز والد المجاز له، جاز له الرجوع فيما أجازه له؛ لأنه هبة منه، ولو جاوز المجاز الثلث لم يزاحم ما لم يجاوزه، ففي الصورة التي ذكرناها ثم، يقسم المال بين المجاز لهم أثلاثا، لأن لصاحب المائة منها خمسون، والخمسون الزائدة على الثلث هبة مبتدأة من المجيزين، ولم يحصل لهم شيء يهبونه، وقد يقال: إن عدم المزاحمة إنما هو في الثلثين، لأن الهبة تختص بهما، والمجيز يشرك بينهما فيهما، أما الثلث فيقسم بينهم على قدر أنصابهم. وعلى الروايتين يعتبر إجازة المجيز في مرضه من ثلثه، أما على الرواية الثانية فواضح، وأما على الأولى فلأنه تمكن من أخذ المال، وقد وجد سببه في حقه، فتسببه في إسقاطه بمنزلة

الوصية لغير الوارث بأكثر من الثلث

تلفه، أشبه ما لو حاباه في بيع له فيه خيار، ثم أجازه في مرضه، فإن محاباته تعتبر من الثلث. واعلم أنه يستثنى من كلام الخرقي الوصية بالوقف على الوارث، فإنه يلزم في الثلث فما دون، على رواية وقد تقدمت، والله أعلم. [الوصية لغير الوارث بأكثر من الثلث] قال: ومن أوصى لغير وارث بأكثر من الثلث، فأجاز ذلك الورثة بعد موت الموصي جاز، وإن لم يجيزوا رد إلى الثلث. ش: لا تجوز الوصية لوارث مطلقا، [لما تقدم] ، ولا لأجنبي بزائد على الثلث. 2228 - لما روي «عن سعد بن أبي وقاص قال: جاءني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعودني من وجع اشتد به، فقلت: يا رسول الله قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: «لا» قلت: فالثلث؟ قال: «الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس» رواه الجماعة، فإن خالف ووصى للأجنبي بأكثر من الثلث، وأجاز ذلك الورثة نفذ، لأن

الحق لهم لا يعدوهم، وهل إجازتهم تنفيذ - بناء على أن الوصية صحيحة - أو ابتداء عطية - بناء على أنها باطلة؟ على ما تقدم من الخلاف في التي قبلها، وإن لم يجيزوا صح الثلث فقط، لما تقدم من حديث سعد، وحديث أبي الدرداء: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، وشرط نفوذ إجازتهم وردهم أن يكون بعد موت الموصي، لأن الحق إنما يثبت لهم إذا، أما قبل ذلك فلا عبرة بذلك؛ لأنه تصرف في الحق قبل ثبوته. قال: ومن أوصي له وهو في الظاهر وارث، فلم يمت الموصي حتى صار الموصى له غير وارث فالوصية له ثابتة، لأن اعتبار الوصية بالموت. ش: إذا أوصى لشخص في الظاهر أنه وارث - كما إذا أوصى لأحد أخويه من أبويه ثم تجدد له ولد - فإن الوصية والحال هذه صحيحة ثابتة، لأن الأخ عند الموت غير وارث، والاعتبار في الوصية بالموت؛ لأنه الحال الذي يحصل به الانتقال إلى الوارث، والموصى له، وقد فهم من تعليل الخرقي عكس هذه الصورة وهو ما إذا أوصى لغير وارث، فصار عند الموت وارثا، كما إذا أوصى لأحد أخويه وله ابن، ثم مات الابن قبل أبيه، فإنا تبينا أن الوصية

ما تبطل به الوصية

لوارث، فلا تكون ثابتة، بل تقف على الإجازة لما تقدم. [ما تبطل به الوصية] قال: وإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلت الوصية. ش: لأن الوصية عطية بعد الموت، وقد صادفت المعطى ميتا فلم تصح، كما لو وهب لميت، وقد فهم من هذا أن الوصية لا تصح لميت، [وهو صحيح] لأنه ليس بأهل للملك، أشبه البهيمة. قال: وإن رد الموصى له الوصية بعد موت الموصي بطلت الوصية. ش: لأنه أسقط ما له أخذه فيسقط، كما لو عفى عن شفعته بعد البيع، ومراد الخرقي - والله أعلم - إذا كان الرد

قبل القبول، أما لو كان بعد القبول والقبض فإن الرد لا يصح، والوصية بحالها، لاستقرار ملكه عليها، وكذلك لو كان بعد القبول وقبل القبض، على ظاهر كلام جماعة من الأصحاب وأورده أبو البركات مذهبا، وقال أبو محمد في المغني: إن كان الموصى به مكيلا، أو موزونا صح الرد وبطلت الوصية، لعدم استقرار الملك، وإن كان غيرهما ففي صحة الرد وعدمه قولان، بناء على اعتبار القبض في ذلك وعدمه، وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو وجد الرد قبل الموت لم يصح ولم يعتبر، وهو صحيح، إذ الحق إنما يثبت له بالموت، والله أعلم. قال: وإن مات قبل أن يقبل [أو يرد] قام وارثه في ذلك مقامه، إذا كان موته بعد موت الموصي. ش: إذا مات الموصى له قبل أن يقبل أو يرد قام وارثه في الرد والقبول مقامه، في إحدى الروايتين، نقله عنه صالح، واختاره الخرقي، لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ترك حقا فلورثته» والقبول حق للمورث، فثبت للوارث، كبقية الحقوق، (والرواية الثانية) لا يقوم الوارث مقامه، ويبطل

حقه من القبول عليها، نقلها عبد الله، وابن منصور، واختارها ابن حامد، والقاضي، والشريف، وأبو الخطاب، والشيرازي، وغيرهم؛ لأنه عقد يفتقر إلى القبول، فإذا مات من له القبول قبله بطل العقد كالهبة، ولأنه خيار لا يعتاض عنه، أشبه خيار الشفعة، وخياري الشرط والمجلس على المذهب، ولهذا قال القاضي: إن هذا قياس المذهب. وحكى الشريف، وأبو الخطاب وجها أنها تنتقل والحال هذه إلى الوارث بلا قبول، نظرا - والله أعلم - بأن القبول لما تعذر ممن له الإيجاب سقط اعتباره، لمكان العذر، كما لو كانت الوصية للمساكين. وقول الخرقي: إذا كان موته بعد موت الموصي. احترازا مما إذا كان موته قبل موت الموصي وقد تقدم، وقد أشعر كلامه بأن الوصية والحال هذه لا تملك إلا بالقبول، ولا خلاف نعلمه عندنا في ذلك، إذا كانت لآدمي معين، [إلا الوجه المحكي قبل، وذلك لأنها هبة بعد الموت، فافتقرت إلى القبول كالهبة في الحياة، قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الهبة والوصية واحد. ولو كانت الوصية لآدمي غير معين] كالمساكين، أو لغير آدمي كالمساجد، فلا قبول إناطة بالعذر.

حكم من أوصى له بسهم من ماله

وربما أشعر كلامه أيضا بأن القبول لا تشترط الفورية فيه، بل يصح وإن تراخى، وهو صحيح، والله أعلم. [حكم من أوصى له بسهم من ماله] قال: وإذا أوصى له بسهم من ماله أعطي السدس، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: يعطى سهما مما تصح منه الفريضة. ش: الرواية الأولى اختيار القاضي، وأصحابه الشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل، والشيرازي وغيرهم. 2229 - لأن ذلك يروى عن علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولم يعرف لهما مخالف من الصحابة. 2230 - ويروى عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا أوصى لرجل بسهم من المال، فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السدس» .

2231 - وعن إياس بن معاوية: السهم في كلام العرب السدس. فعلى هذا يعطى سدسا كاملا، إن لم تكمل فروض المسألة، وإن كملت أعيلت به، وإن عالت أعيل معها، قال أحمد في رواية حرب، وابن منصور: له السدس إلا أن تعول الفريضة، فيعطى سهما من العول. والرواية الثانية ظاهر كلام الإمام في رواية الأثرم، وأبي طالب، لأن «سهما» ينصرف إلى سهام فريضته، أشبه ما لو قال: فريضتي كذا وكذا سهما، لك منها سهم. وعلى هذا يعطى سهما مما تصح منه الفريضة، مضافا إليها، وعن أحمد (رواية ثالثة) اختارها الخلال وصاحبه: له مثل

ما لأقل الورثة، والأقل منها هو اليقين، ثم إن أبا البركات وجماعة من أصحابه على إطلاق هاتين الروايتين، نظرا لإطلاق الإمام، وقيدهما أبو محمد - متابعة للقاضي - بأن لا يزيد السهم أو النصيب على السدس، فإن زاد عليه ردا إليه. ولنذكر أمثلة تتضح بها المسألة، فلو مات رجل وخلف أما وبنتين، وأوصى بسهم من ماله، فعلى الرواية الأولى تكمل به المسألة، إذ مسألتهم أصلها من ستة، ترجع بالرد إلى خمسة، فيزاد إليها السهم الموصى به وهو السدس، فتصير من ستة، وكذلك على الثانية والثالثة، ولو كانت المسألة أما وأختا، فهي من خمسة، للأم الثلث سهمان،

وللأخت النصف ثلاثة، فيضاف إليها السدس على الأولى، فتكمل المسألة، وكذا على الثانية، وعلى الثالثة يضاف إليها مثل نصيب الأم؛ لأنه أقل نصيب وارث له إذا فتصير من سبعة، وعلى رأي القاضي يكون له السدس، لأن النصيب زاد عليه، ولو كانت المسألة ابنتان وأبوان، فهي من ستة، وتعول بالسهم الموصى به إلى سبعة، على الروايات الثلاث [ولو كانت المسألة أختان لأبوين، وأختان لأم، وأم، فأصلها من ستة، وتعول إلى سبعة، وتعول بالسهم الموصى به إلى ثمانية، على الروايات الثلاث] أيضا، ولو كانت المسألة ثلاث أخوات لأبوين، وأخوان وأختان لأم، وأم، فهي من ستة، وتعول إلى سبعة أيضا، فعلى الرواية الأولى تعول بالسهم الموصى به وهو السدس إلى ثمانية، وتصح من ثمانية وأربعين، للأخوات للأبوين أربعة وعشرون، وللأخوة والأخوات للأم اثنا عشر، وللأم ستة، وللموصى له ستة، وعلى الثانية تصح المسألة من اثنين وأربعين، يزاد إليها السهم، فتصير من ثلاثة وأربعين،

الحكم لو أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه

وعلى الثالثة تصح أيضا من اثنين وأربعين، يزاد إليها أقل أنصباء الورثة، وهو سهمان، فتصير من أربعة وأربعين، ولو كانت المسألة زوجا وابنا، فعلى الرواية الأولى تصح من اثني عشر، للزوج ثلاثة، وللموصى له بالسهم اثنان، والباقي للابن، وكذلك على رأي القاضي على الروايتين الأخيرتين، وعلى رأي المطلقين تصح من خمسة، والله أعلم. [الحكم لو أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه] قال: وإذا أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه، كان له مثل ما لأقلهم نصيبا. ش: لأن الأقل هو المتيقن، وما زاد مشكوك فيه. قال: كأن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته، وهم ابن، وأربع زوجات، فتكون صحيحة من اثنين وثلاثين سهما، للزوجات الثمن، وهو أربعة، وما بقي فللابن، فزد في سهمان الفريضة مثل حظ امرأة من نسائه، فتصير الفريضة من ثلاثة وثلاثين سهما، للموصى له سهم، ولكل امرأة سهم، وما بقي فللابن. ش: هذا مثال للمسألة، وهو واف بالمقصود، وإنما صحت المسألة من اثنين وثلاثين، لأن أصلها من ثمانية، للزوجات

الثمن، وهو واحد، غير صحيح عليهن، فتضرب أربعة في ثمانية، فتصير من اثنين وثلاثين، ثم تعمل كما ذكره الخرقي، - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولو كانت المسألة زوجا وأبوين وابنا، صحت من اثني عشر، للزوج الربع، ولكل واحد من الأبوين السدس اثنان، والباقي للابن، فتزيد عليها مثل نصيب أقل الورثة، وهو أحد الأبوين، فتصير من أربعة عشر، هذا إن اختلفت أنصباء الورثة، فإن اتفقت كان له مثل نصيب أحدهم، فإذا خلف ثلاثة بنين، فمسألتهم من ثلاثة، فتزيد عليها مثل نصيب أحدهم، فتصير من أربعة، ولو سمى الوارث فسيأتي إن شاء الله تعالى، ولو قال: مثل نصيب أكثر ورثتي. كان له مثل نصيب ذلك الوارث، مضافا إلى المسألة، ففي مثال الخرقي يكون له ثمانية وعشرون سهما، لأنها أكثر نصيب وارث وهو الابن، فتضاف إلى المسألة، فتصير من ستين، وفي الثانية يكون له خمسة، فتصير المسألة من سبعة عشر، ولو كانت الوصية بنصيب وارث معين له كابنه مثلا، ولم يقل: بمثل نصيبه. فهل يصح ويجعل كما لو صرح بالمثلية؟ وبه قطع القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، ومال إليه الشيخان، محافظة على تصحيح كلام المكلف بحمله على حذف مضاف، وهو المثل، أو لا يصح؟ وعزاه أبو

الحكم فيمن أوصى بعدة وصايا والمال لا يكفي

محمد إلى القاضي، وأظنه قاله في المجرد، نظرا إلى الحقيقة، وإذا لا يصح لأن نصيب الوارث ليس له التصرف فيه، والله أعلم. قال: وإذا خلف ثلاثة بنين، وأوصى لآخر بمثل نصيب أحدهم، كان للموصى له الربع. ش: لأن له مثل نصيب أحدهم مضافا إلى المسألة؛ لأنه جعل الوارث أصلا، وجعل للموصى له مثله، فاقتضى أن يساويه ولا يزيد عليه، ولو كان البنون أربعة، كان للموصى له الخمس، وعلى هذا، فلو خلف ابنين وأوصى لاثنين بمثل نصيبهما كانت المسألة من أربعة، والله أعلم. [الحكم فيمن أوصى بعدة وصايا والمال لا يكفي] قال: وإذا أوصى لزيد بنصف ماله، ولعمرو بربع ماله، ولم تجز الورثة، فالثلث بينهما على ثلاثة أسهم، لعمرو سهم، ولزيد سهمان. ش: قد تقدم أن للإنسان أن يوصي بالثلث لغير الوارث، وما زاد على ذلك يقف على إجازة الورثة، فإذا أوصى لزيد بنصف ماله، ولعمرو بربعه، وخلف ابنين فأجازا، فأصل المسألة من أربعة، وتصح من ثمانية، لزيد النصف أربعة،

ولعمرو الربع اثنان. ولكل ابن واحد، وإن ردا أخذت النصف والربع ثلاثة، من مخرجهما وهو أربعة، وتجعل الثلاثة ثلث المال، فتصير المسألة من تسعة، وإنما قسم الثلث بينهما على قدر نصيبهما لأن الموصي فاضل بينهما فلم يسو بينهما، كالوصية بثلث وربع، وهذا لأن على قاعدتنا أن الوصية صحيحة، فالمتبع فيها لفظ الموصي، ويخرج على قول لنا - أن الوصية بما زاد على الثلث باطلة - أن الموصى له بالنصف لا يضرب بأكثر من الثلث، لبطلان الزائد على ذلك، وهو قول الحنفية، وإذا يؤخذ الثلث والربع من مخرجهما اثني عشر، وذلك سبعة، فيجعل ثلث المال، فتكون المسألة من أحد وعشرين، وعلى هذا فقس، والله أعلم. قال: وإذا أوصى لولد فلان فهو للذكر والأنثى بالسوية. ش: قد حكي الاتفاق على ذلك، إذ الاسم يشمل الجميع، قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وقال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] نفى الذكر والأنثى جميعا، ويدخل الخنثى أيضا في ذلك؛ لأنه ولد، ولا يدخل ولد بناته اتفاقا، وهل يدخل فيه ولد بنيه؟ فيه روايتان.

الوصية بالحمل وللحمل

قال: وإن قال لبنيه. كان للذكور دون الإناث. ش: أي لبني فلان أو لبني، لاختصاص الاسم بهم دون الإناث، قال سبحانه: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153] وقال تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16] وقال: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ} [آل عمران: 14] وهذا إذا لم يكونوا قبيلة، فإن كانوا قبيلة - كما إذا أوصى لولد هاشم، أو بني تميم - دخل فيه الذكر والأنثى، والخنثى، لأن ذلك اسم للقبيلة ذكرها وأنثاها، قال تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70] وقال: {يَابَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] ولا يدخل فيه ولد بناتهم من غيرهم، لأنهم لا ينسبون إليهم. [الوصية بالحمل وللحمل] قال: والوصية بالحمل وللحمل جائزة، إذا أتت به لأقل من ستة أشهر منذ تكلم بالوصية. ش: أما الوصية بالحمل فجائزة إذا كان مملوكا وعلم وجوده، أو حكم به حال الوصية، كما سيأتي بيانه إن شاء

الله تعالى، إذ غايته أنه غرر، وذلك لا يمنع صحة الوصية كعتقه، وذلك لأن نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغرر مختص بالبيع، وما في معناه، حذارا من أكل مال الغير بالباطل. واشترط كونه مملوكا لأن الوصية بملك الغير باطلة، واشترط العلم أو الحكم بوجوده، وإلا لاحتمل حدوثه، فلا تتعلق الوصية به، نعم لو وصى بما تحمل جاريته ونحوها صحت، لأن لفظه مستقبل. وأما الوصية للحمل فجائزة أيضا، قياسا على إرثه، بجامع انتقال المال من الإنسان بعد موته بغير عوض، بل أولى، لصحتها للمخالف في الدين والعبد، بخلاف الإرث، وشرط صحتها أن تضعه لأقل من ستة أشهر من حين الوصية، ليعلم وجوده حال الوصية، إذ التمليك لا يصح لمعدوم، كذا قال الجمهور، ومنهم أبو محمد في الكافي، وفي المغني قيده بأن تضعه لستة أشهر فما دون، وليس بجيد، لأنها إذا وضعته لستة أشهر احتمل حدوثه حال الوصية، فلم تصادف الوصية موجودا يقينا، وقد انعكس ذلك على ابن المنجا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى فقال: لا بد من ذكر ستة أشهر، معتمدا على ما في المغني، ومعللا بأنها إذا

وضعته لستة أشهر علم وجوده حال الوصية، وقد تقدم رده. انتهى، أما إن وضعته لأكثر من ذلك لم تصح الوصية له على مقتضى كلام الخرقي، وأورده أبو البركات مذهبا؛ لأنه لا يعلم وجوده حال الوصية، وسبب الانتقال إلى الورثة قد وجد يقينا، فلا يزول عنهم بالشك والاحتمال، وقيل: إن وضعته لزوج أو سيد ولم يلحقهما نسبه إلا بتقدير وطء قبل الوصية صحت؛ لأنه والحال هذه قد حكم بوجوده ظاهرا حال الوصية، إذ حال المسلم إنما يحمل على الصلاح، وإلا فلا لما تقدم، وهذا الذي قطع به أبو محمد في الكافي والمغني، لكنه لم يفصح بتنقيح الحكم. واعلم أن من شرط الوصية بالحمل وللحمل أن تضعه حيا، إذ الميت لا يصح تملكه ولا تمليكه، والله أعلم. قال: وإذا أوصى بجارية لبشر، ثم أوصى بها لبكر، فهي بينهما. ش: لأن الأصل بقاء وصية الأول، فالظاهر أنه يسوي بينهما في الاستحقاق، فإذا تقسم العين بينهما مع وجودهما،

لاستوائهما في سبب الحق، ويختص بها أحدهما مع موت الآخر، لزوال المزاحمة، والله أعلم. قال: وإن قال: ما أوصيت به لبشر فهو لبكر. كانت لبكر. ش: لأن هذا دليل على الرجوع في وصية الأول، والوصية بها للثاني، فعمل على مقتضاه، بخلاف التي قبلها، فإنه يحتمل الرجوع والاشتراك في الاستحقاق، والأصل عدم الرجوع. وقد تضمن هذا صحة الرجوع في الوصية، وهو إجماع إلا في الرجوع بالوصية بالعتق، فإن في الرجوع فيه خلافا ومذهبنا جوازه، والله أعلم. قال: ومن كتب وصيته ولم يشهد فيها حكم بها، ما لم يعلم رجوعه عنها. ش: إذا كتب وصيته ولم يشهد فيها، وعرف خطه، فإنه ينفذ ما فيها، ما لم يعلم رجوعه عنها، نص عليه أحمد، واعتمده الأصحاب، لما تقدم من حديث عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما حق امرئ مسلم يبيت ليلتين، وله شيء يريد أن يوصي فيه، إلا

الوصية في مرض الموت

ووصيته مكتوبة عند رأسه» وظاهره إفادة الكتابة وإن لم يشهد بما فيها، ولأن ذلك طريق يغلب على الظن صحة الوصية، أشبه الشهادة بها، وخرج ابن عقيل، وأبو البركات رواية بعدم الصحة، أخذا من قوله فيمن كتب وصيته وختمها وقال: اشهدوا بما فهيا. أنه لا يصح، وقد يفرق بأن الشهادة شرطها أن تقع على العلم، وما في الوصية والحال هذه غير معلوم، فلا تصح الوصية به، أما لو وقعت الوصية على أنه وصى فليس في نص الإمام ما يمنعه، ثم بعد ذلك يعمل بالخط بشرطه، ولهذا قال ابن حمدان: ومن وجدت وصيته بخطه صحت، نص عليه، وقيل: لا. فلو ختمها وأشهد بما فيها لم يصح، نص عليه، وقيل: بلى. انتهى، أما إن عين للشاهد ما فيها فلا إشكال في صحة ذلك، والعمل عليه، ما لم يعلم الرجوع عنها. والله أعلم. [الوصية في مرض الموت] قال: وما أعطى في مرضه الذي مات فيه فهو من الثلث. ش: ما أعطى في مرضه الذي مات فيه - من عتق، وهبة مقبوضة، ومحاباة، وصدقة، ووقف، وإبراء - فهو من

الثلث، لما تقدم في حديث أبي الدرداء «إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، مفهومه المنع مما زاد على الثلث. 2232 - وفي مسلم وغيره عن عمران بن حصين «أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة» وشرط المرض أن يكون مخوفا، قاطعا بصاحبه، كذات الجنب، والرعاف الدائم، والقيام المتدارك ونحوها، فإن كان غير مخوف كالرمد، ووجع ضرس، والصداع، ونحوه، فحكمه حكم الصحيح، عطيته من رأس المال، وإن اتصل به الموت، وكذلك إن كان مخوفا، لكنه لم يقطع بصاحبه، كالجذام، والسل في ابتدائه، ونحوهما على الصحيح من

وصية الصبي المميز

الروايتين وقد تضمن كلام الخرقي أن عطية الصحيح من رأس ماله، ولا نزاع في ذلك، والله أعلم. قال: وكذلك الحامل إذا صار لها ستة أشهر. ش: يعني تكون عطيتها من الثلث لدخولها في شهور ولادتها، ووجود الخوف عليها، والمشهور من الروايتين أنها لا تصير عطيتها من الثلث إلا إذا ضربها المخاض، لأنها إذا يتحقق الخوف عليها، بخلاف ما قبل ذلك، والله أعلم. [وصية الصبي المميز] قال: ومن جاوز العشر سنين فوصيته جائزة إذا وافق الحق. ش: تصح وصية من لم يبلغ على المذهب المنصوص. 2233 - لما روي أن صبيا من غسان، له عشر سنين، أوصى لأخوال له، فرفع ذلك إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأجاز وصيته. رواه سعيد.

2234 - وروى مالك في موطئه عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، أن عمرو بن سليم أخبره أنه قيل لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن هاهنا غلاما يفاعا، لم يحتلم، وورثته بالشام، وهو ذو مال، وليس له هاهنا إلا ابنة عم له، فقال عمر: فليوص لها. فأوصى لها بمال يقال له: «بئر جشم» ، قال عمرو بن سليم فبعت ذلك بثلاثين ألفا، وابنة عمه التي أوصى هي أم عمرو بن سليم، قال أبو بكر: وكان الغلام ابن عشر، أو اثنتي عشرة سنة، وهذه قضية في مظنة

الشهرة، ولأنه تصرف تمحض نفعا للصبي، من غير ضرر يلحقه عاجلا ولا آجلا، أشبه صلاته وإسلامه، وبهذا فارق الهبة لأن الضرر قد يلحق بها في الآجل. وفي المذهب وجه آخر: لا تصح وصيته حتى يبلغ؛ لأنه تبرع بالمال، أشبه هبته، وعلى المذهب، فلا بد أن يكون مميزا، إذ غير المميز في معنى المجنون، فلا عبرة بكلامه، ثم من الأصحاب من لم يقيد ذلك بسن، كالقاضي وأبي الخطاب، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد في رواية الميموني، ومنهم من قيده بعشر، كالخرقي، وابن أبي موسى، وأبي بكر فيما حكاه عنه الشريف، نظرا لمنصوص أحمد في رواية حنبل وصالح، فإنه قيد الغلام بعشر، والجارية بتسع، اعتمادا على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال الشريف، ومن الأصحاب من قيده بسبع وهو رواية أخرى عن أحمد، وحكى ابن المنذر عن الإمام التقييد باثنتي عشرة سنة.

وقول الخرقي: إذا وافق الحق. قيد في جميع الوصايا، وإن كانت من بالغ، وإنما نص على ذلك هنا اتباعا لمنصوصات الإمام، وذلك لأنه في مظنة مخالفة الحق، بخلاف البالغ، والله أعلم. قال: ومن أوصى لأهل قرية، لم يعط من فيها من الكفار إلا أن يذكرهم. ش: يعني والله أعلم من المسلمين، نظرا إلى أن حال المسلم يقتضي بر المسلم، ومنع الكافر، والعام كثيرا ما يطلق ويراد به الخصوص، وقد قام دليل ذلك وهو قرينة الحال، فعلى هذا لا يعطى من فيها من الكفار، وظاهر كلام الخرقي وجماعة أنهم لا يعطون وإن لم يكن فيها إلا مسلم واحد، لجواز إطلاق العام، وإرادة الواحد، قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] أريد به واحد، ومال أبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنهم يعطون، نظرا إلى أن إطلاق العام وإرادة واحد قليل، مع ما انضم إلى ذلك من مخالفة العموم.

الوصية بجميع المال

ولا نزاع في دخول الكفار، إذا صرح بذلك، إذ لا اعتبار لمقتضى الحال مع التصريح بخلافه، وكذلك لو تعذر الحمل على الخصوص، كما إذا لم يكن في القرية مسلم أصلا، وحكم الكافر إذا أوصى لأهل قريته كذلك، في أنه يدخل كافرها الموافق له في دينه، وفي دخول كافرها المخالف له في دينه احتمالان، ولا يدخل مسلمها لما تقدم، وقيل: يدخل، حذارا من كون الإسلام سببا للمنع من غير نص يمنعه، والله أعلم. [الوصية بجميع المال] قال: ومن أوصى بكل ماله - ولا عصبة له ولا مولى - فجائز، وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: لا يجوز إلا الثلث. ش: الرواية الأولى نص عليها في رواية المروذي [وحرب] ، واختارها القاضي، والشريف، وأبو الخطاب، والشيرازي، وأبو محمد، وغيرهم، لظاهر قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» علل المنع بخشية فقر الوارث، وهذا لا وارث له يخشى فقره.

2235 - واعتمد أحمد على أن ذلك يروى عن ابن مسعود. (والثانية) : نص عليها في رواية ابن منصور. 2236 - معتمدا على أن ذلك قول زيد، ومعللا بأن بيت المال له عصبة، وهو مفهوم قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم» الحديث، قال أبو الخطاب في الانتصار: وهي صريحة في منع الرد، وتوريث ذوي الأرحام. وقول الخرقي: ولا عصبة له ولا مولى. تبع فيه لفظ أحمد في رواية المروذي: فإنه قال: إذا لم يكن له عصبة أو مولى فله أن يضع ماله حيث شاء. وغيرهما يترجم المسألة: إذا

أوصى من لا وارث له. لأن ذا الفرض يأخذ البعض بالفرض، والباقي بالرد، فهو كالعاصب، ولهذا منع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعدا أن يوصي بأكثر من الثلث، نعم، إن كان ذو الفرض لا يرد عليه، - كالزوجين - جازت الوصية فيما زاد عن نصيبه على المذهب، والله أعلم. قال: ومن أوصى لعبده بثلث ماله، فإن كان العبد يخرج من الثلث عتق، وما فضل من الثلث بعد عتقه فهو له، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث، إلا أن يجيز الورثة. ش: إذا أوصى لعبده بثلث ماله صح، لأنها وصية تضمنت العتق بثلث ماله، فصحت كما لو صرح بذلك، ثم إن كان العبد يخرج من الثلث - كما إذا كان ثلثه مائة، وقيمة العبد مائة أو دونها - عتق، لأنه يملك من كل جزء من

المال ثلثا مشاعا، ومن جملة المال نفسه، فيملك ثلثها، وإذا يعتق ذلك الجزء، لتعذر ملك نفسه، ويسري إلى بقيته، كما لو أعتق بعض عبده؛ بل أولى، فإن فضل من الثلث بعد عتقه شيء فهو له، لأنه قد صار حرا وإن لم يخرج من الثلث، عتق منه بقدر الثلث، والباقي موقوف على إجازة الورثة، لما تقدم. قيل: ومفهوم كلام الخرقي أنه لو أوصى له بمعين كمائة درهم، أو ثوب أنه لا يصح، وهو المشهور من الروايتين، ثم قال أبو محمد في الكافي: على رواية الصحة يشترى العبد من الوصية فيعتق، وما بقي فهو له، قلت: محافظة على تصحيح كلام المكلف ما أمكن، إذ تصحيح الوصية يستلزم ذلك، وإلا فكأنه وصى للورثة ببعض مالهم، ولا فائدة في ذلك، وبنى الشيرازي الروايتين على تمليك العبد إذا ملك، ثم قال: وعلى رواية الصحة تدفع المائة إليه، فإن باعه الورثة بعد ذلك فالمائة لهم، وتعليل أبي محمد في المغني يقرب من ذلك، والله أعلم. قال: وإذا قال: أحد عبدي حر. أقرع بينهما، فمن تقع عليه القرعة فهو حر إذا خرج من الثلث. ش: القرعة لها مدخل في العتق، لما تقدم من حديث عمران

بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإذا قال: أحد عبدي أو عبيدي حر. ولم يعينه، أقرعنا بينهم، إذ تعيين أحدهم ترجيح بلا مرجح، ثم من خرجت عليه القرعة فهو حر، إذ هذا فائدة القرعة، وشرط نفوذ عتقه أن يخرج من الثلث، لما تقدم من أن الإنسان ليس له أن يوصي بأكثر من ثلثه، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث، والباقي موقوف على إجازة الورثة والله أعلم. قال: وإذا أوصى أن يشتري عبد زيد بخمسمائة فيعتق، فلم يبعه سيده، فالخمسمائة للورثة. ش: لأنه قد تعذر إعمال الوصية فبطلت، كما لو مات الموصى له قبل موت الموصي، أورد الوصية، وإذا بطلت كان المال للورثة، وقول الخرقي: فلم يبعه سيده. يشمل إذا لم يبعه مطلقا، أو لم يبعه بالخمسمائة، وفي معنى ذلك حيث تعذر شراؤه، إما بموته أو غير ذلك، والله أعلم. قال: وإن اشتروه بأقل، فما فضل فهو للورثة. ش: لأن مقصود الموصي العتق وقد حصل، وكما لو وكل في شرائه في حياته بثمن معين، فاشترى بدونه، فإن الفاضل له، كذلك هنا، وحكى في المغني احتمالا بأن الخمسمائة تكون لزيد، وفرق في المغني فقال: إن كان ثم قرينة تقتضي إرفاق سيده بالثمن - كما إذا كان صديقا له،

أو ذا حاجة، أو كان يعلم أن العبد يحصل بدون ذلك - فإن الثمن جميعه يدفع إلى السيد، كما لو صرح بذلك، وإن عدمت القرائن كان كما تقدم، والله أعلم. قال: وإذا أوصى لرجل بعبد لا يملك غيره، وقيمته مائة ولآخر بثلث ماله، وملكه غير العبد مائتا درهم، فأجاز الورثة ذلك، فلمن أوصى له بالثلث ثلث المائتين، وربع العبد، ولمن أوصى له بالعبد ثلاثة أرباعه. ش: إنما كان للموصى له بالثلث ثلث المائتين، لأن المائتين من ماله، وقد أوصى له بثلثه، فلا معارض له، فيستحق ثلثها، وإنما كان له ربع العبد، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه، لأن مقتضى وصية صاحب الثلث أن يكون له ثلث العبد، ومقتضى وصية صاحب العبد أن يكون له جميعه، فقد تضمنت الوصية قسمة العبد على أربعة أثلاث، وهو أربعة أرباع، وليس طرح وصية أحدهما بأولى من الأخرى، فيجعل الثلث ربعا كمسائل العول.

قال: وإن لم يجز ذلك الورثة فلمن أوصى له بالثلث سدس المائتين، وسدس العبد، لأن وصيته في الجميع، ولمن أوصى له بالعبد نصفه، لأن وصيته في العبد. ش: إذا لم يجز الورثة ما تقدم، فقال الخرقي وجمهور الأصحاب: للموصى له بالثلث سدس المائتين، وسدس العبد، وللموصى له بالعبد نصفه، لأن الوصية ترجع في الرد إلى الثلث، وثلث المال - والحال هذه - مائة، والوصية مائتان، ثلث المال قدره مائة، والعبد قيمته مائة، نسبة الثلث الذي هو مائة، إلى الوصية التي هي مائتان بالنصف، فمن أوصى له بشيء رجع إلى نصفه، نظرا إلى مقتضى المسمى في الوصية، فللموصى له بالثلث سدس المائتين، لأنه نصف ثلثها، وسدس العبد، لأنه نصف ثلثه، واستحقاقه

الربع في الإجازة كان للمزاحمة العارضة، وقد زالت، وللموصي له بالعبد نصفه، لأن الوصية له بكله. واختار أبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن لصاحب الثلث خمس المائتين، وعشر العبد، ونصف عشره، ولصاحب العبد ربعه وخمسه، وخرجه أبو البركات وجها، لأن الموصى له بالعبد في الحقيقة إنما أوصى له بثلاثة أرباعه، لأنه أوصى لآخر بثلثه، والموصى له بثلثه، إنما أوصى له حقيقة بربعه، لأنه أوصى لآخر بكله، وإذا يقسم الثلث بينهما على ذلك، نظرا إلى مقتضى الوصية لو أمكن إعمالها بالإجازة، وعلى هذا يقسم الثلث بينهما على حسب مالهما في الإجازة، والذي لهما العبد وثلثا المائتين، مجموع ذلك مائة وستة وستون درهما، وثلثا درهم، نسبة الثلث إلى ذلك ثلاثة أخماسه، فمن له شيء في الإجازة، له ثلاثة أخماسه في الرد، فالموصى له بالثلث له ثلث المائتين، وهو ستة وستون درهما، وثلثا درهم، فيعطى ثلاثة أخماس ذلك، وهو أربعون درهما، وقدر ذلك خمس المائتين، وله من العبد ربعه، وقيمة ذلك خمسة وعشرون درهما، فله ثلاثة أخماسه، وهو خمسة عشر درهما، قدر ذلك من العبد عشره، ونصف عشره، وللموصى له بالعبد ثلاثة أرباعه،

وقيمة ذلك خمسة وسبعون درهما، ثلاثة أخماس ذلك خمسة وأربعون درهما، قدر ذلك من العبد ربعه وخمسه. وطريقة العمل في ذلك على قول الأصحاب أن يجعل لكل واحد من أصل وصيته بقدر نسبة الثلث إلى مجموع الوصيتين، وعلى قول أبي محمد يجعل لكل واحد من الذي حصل له في حال الإجازة بقدر نسبة الثلث إلى مجموع ما حصل لهما فيها، وعلى هذا لو كانت الوصية بالنصف مكان الثلث، ففي حال الإجازة لصاحب النصف نصف المائتين، وثلث العبد، ولصاحب العبد ثلثاه، وفي حال الرد على قول الأصحاب مجموع الوصيتين مائتان وخمسون درهما، نسبة الثلث إلى ذلك خمسه فلكل واحد من أصل وصيته خمساها، فللموصى له بالنصف خمسا المائة، وهو أربعون درهما وخمس العبد، وقدره عشرون درهما، وللموصى له بالعبد خمساه، وهو أربعون درهما، وعلى قول أبي محمد إذا نسبت الثلث إلى مجموع ما يحصل لهما في الإجازة وهو مائتا درهم، كان النصف، فيكون لكل واحد نصف الذي يحصل له في الإجازة، فصاحب النصف يحصل له من المال المائة، فله نصفها، ويحصل له من العبد ثلثه، فله نصفه وهو السدس، وصاحب العبد يحصل له في الإجازة ثلثاه، فله نصف ذلك وهو الثلث، وعلى هذا فقس، والله أعلم.

قال: ومن أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى بالسوية، ولا يجاوز به أربعة آباء «، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى» . ش: إذا أوصى لقرابته فهو للذكر والأنثى، لأن كليهما من قرابته، ويكون بينهما بالسوية، لأنه شرك بينهما فيه، أشبه ما لو أقر لهما، ويعطى الغني كالفقير، لدخوله في لفظ القرابة، ثم قيل - وهو احتمال لأبي محمد، وكلام ابن الزاغوني في الوجيز يقتضي أنه رواية - يشمل كل قريب له من جهة أبيه وأمه، نظرا لمقتضى اللفظ، إذ قرابته اسم جنس مضاف، فيشمل كل قريب له، والمنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما يتناول أقاربه من جهة أمه بشرط أن يصلهم في حال حياته، إذ صلته لهم في حياته قرينة بره لهم بعد مماته، والمشهور عنه اختصاص هذا اللفظ بقرابته من جهة أبيه، لأن العرف في القرابة إذا أطلق إنما ينصرف لذلك، ولهذا - والله أعلم - لم يعط النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقاربه من جهة أمه من سهم ذوي القربى. ثم على هذا (هل يشمل) ولده وولد أبيه وإن علا، اعتمادا على العموم.

2237 - ولما روى مسلم وغيره عن أنس قال: «لما نزلت هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} [آل عمران: 92] الآية قال أبو طلحة: يا رسول الله، أرى ربنا يسألنا من أموالنا، فأشهدك أني قد جعلت بيرحاء لله. قال: «فاجعلها في قرابتك» فجعلها في حسان بن ثابت، وأبي بن كعب وبين حسان وأبي طلحة ثلاثة آباء، وبين أبي طلحة وأبي بن كعب ستة آباء» ، والظاهر أن جعله كان بحضرته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أو بعلمه، وأيضا فقد دل على أن عرفهم ذلك. (ولا يتجاوز) بها أربعة آباء، فإذا أوصى لقرابة زيد مثلا، أو وقف عليه تناول ولده، فزيد أب، وتناول أباه،

وجده، وجد أبيه، وأولادهم، ولا يزاد على ذلك، وهو اختيار الخرقي، والقاضي، وعامة أصحابه، لما استدل به الخرقي، من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجاوز بني هاشم بسهم ذوي القربى، لأن الله سبحانه لما قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] يعني قرابته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين قرابته، ولم يجاوز بني هاشم. 2238 - ففي البخاري وغيره «عن جبير بن مطعم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: مشيت أنا وعثمان إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، قال: «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد» قال جبير: ولم يقسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل شيئا، وفي رواية في السنن: لما قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم ذوي القربى من خيبر، وذكر القصة» ، وهذا خرج مخرج البيان للمسمى في الآية الكريمة، وإذا يحمل المطلق من كلام الناس على المطلق من كلام الشارع، ويختص بما اختص به و «هاشم» هو

الأب الرابع، والأب الثالث عبد المطلب، والأب الثاني عبد الله، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الأب الأول. (أو لا يتجاوز) بها ثلاثة آباء. نظرا إلى أن الولد لا يدخل في ذلك، ولهذا لم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى لولده شيئا؟ فيه ثلاث روايات، وشذ ابن الزاغوني في وجيزه، فجعل الأب الرابع عبد مناف، فعلى هذا لا يدفع للولد، وهو مخالف للفظ الخرقي وغيره. (تنبيهان) «أحدهما» قد تقدم أن الولد والوالد يدخلان في لفظ القرابة، وصرح بذلك القاضي، والشيرازي، وابن عبدوس، وأبو الخطاب في خلافه، وهو ظاهر كلام الخرقي وغيره، وعبارة الشيخين توهم خلاف ذلك، قال في المغني: الوصية لأولاده، وأولاد أبيه، وأولاد جده، وأولاد جد أبيه، وقال في المحرر: اختص بولده وقرابة أبيه وإن علا.

«الثاني» قال أبو محمد في المغني والكافي: إذا أوصى لأقرب قرابته، وله أب وأم إنهما سواء، وفيه نظر، إذ الأم لا تدخل في لفظ القرابة على المذهب، فكيف تكون من أقربهم، وقد نبه على هذا أبو البركات حيث قال: والأخ من الأب والأخ من الأم إن أدخلناه في القرابة سواء، والله أعلم. قال: وإن قال: لأهل بيتي. أعطي من قبل أبيه وأمه. ش: المنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن لفظة «أهل بيته»

بمنزلة لفظة «قرابته» قال في رواية عبد الله: إذا أوصى بثلث ماله لأهل بيته، هو بمثابة قوله: لقرابتي. 2239 - واستدل على ذلك فيما حكاه عنه ابن المنذر بأن قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحل الصدقة لي، ولا لأهل بيتي» فجعل سهم ذوي القربى لهم، عوضا عن الصدقة التي حرمت عليهم، فكان ذوو القربى الذين سماهم الله تعالى، أهل بيته الذين حرمت عليهم الصدقة. 2240 - وذكر حديث زيد بن أرقم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أذكركم الله في أهل بيتي» قال: قلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال: لا، أهله وعشيرته الذين حرمت عليهم الصدقة بعده، آل علي، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل العباس. وفرق

الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين لفظ: القرابة، وأهل البيت، فجعل الأول مختصا بأقاربه من جهة أبيه على ما تقدم، وجعل الثاني يشمل القريب من جهة الأب والأم، نظرا إلى أن اللفظ يشملهم، عرفا، يقال: بيت فلان كذا. يريدون أقاربه من جهة أبيه وأمه، وأناط الشيرازي الحكم هنا بمن كان يصله في حياته، فقال: يعطى من كان يصله في حياته من قبل أبيه وأمه. والله أعلم. قال: وإذا أوصى أن يحج عنه بخمسمائة فما فضل رد في الحج. ش: إذا أوصى أن يحج عنه بخمسمائة مثلا حج عنه، لأن الحج جهة قربة، فإن فضل من الخمسمائة شيء، رد في

الحج إلى أن ينفد، على المذهب المعروف، إعمالا لمقتضى اللفظ، وحكى الشيرازي رواية أن الباقي للورثة. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يدفع إلى من يحج إلى قدر ما يحج به، لقوله: فما فضل. وصرح به غيره، لأنه تصرف بمقتضى النظر، فلا يزاد فيه على ذلك، ولو كانت الخمسمائة لا تكفي للحج، فهل يعان بها فيه، أو يحج بها من حيث تبلغ، أو يخير؟ ثلاثة أقوال، وشرط نفوذ هذه الوصية أن تخرج الخمسمائة من الثلث، فإن لم تخرج نفذ منها قدر الثلث، ووقف الباقي على إجازة الورثة، هذا إن كان الحج تطوعا، وإن كان واجبا فالذي يحتسب من الثلث ما زاد على نفقة المثل للفرض، والله أعلم. قال: وإن قال: حجة بخمسمائة. فما فضل فهو لمن يحج. ش: اعتمادا على مقتضى لفظه، إذ مقتضاه دفع جميع الخمسمائة إلى من يحج حجة واحدة، كأنه قصد إرفاق من يحج، والله أعلم. قال: وإن قال: حجوا عني حجة. فما فضل رد إلى الورثة.

ش: لأن الذي أوصى به حجة فقط، فما فضل عنها فهو للورثة، وقوله: فما فضل: يجوز أن يريد ما فضل [من الثلث، ويجوز أن يريد ما فضل] من المدفوع إليه، أي عن النفقة التي أنفقها، بناء على المشهور، من أنه لا يجوز الاستئجار على الحج، والله أعلم. قال: ومن أوصى بثلث ماله لرجل، فقتل عمدا أو خطأ، وأخذت الدية، فلمن أوصى له بالثلث ثلث الدية، في إحدى الروايتين، والأخرى ليس لمن أوصى له بالثلث من الدية شيء. ش: الرواية الأولى اختيار القاضي وغيره، بناء على أن الدية تحدث على ملكه، تنزيلا لسبب الوجوب، منزلة مسببه وهو الوجوب، ولا شك أن السبب وجد في حياته وصار هذا كما لو نصب شبكة، فوقع فيها صيد بعد موته، فإنه يكون له، يحقق ذلك أن تجهيزه يخرج منها بلا نزاع، وعلى هذا يكون لمن أوصى له بالثلث ثلثها، كما لو ورث مالا قبل موته، (والثانية) ليس لمن أوصى له بالثلث شيء منها،

بل تكون للورثة، يقتسمونها على قدر مواريثهم، بناء على أن الدية تحدث على ملكهم. (تنبيه) بنى أبو البركات الدين على الروايتين، [إن قلنا له، قضيت منها ديونه، وإن قلنا للورثة فلا، وظاهر كلام أبي محمد في المغني يقتضي أن ديونه تقضى منها على الروايتين] كتجهيزه، نظرا إلى أن الوجوب إنما وجد بالموت، والميت ليس أهلا للملك، ولذلك زالت أملاكه بموته، والله أعلم. قال: وإذا أوصى لرجل، ثم أوصى بعده إلى آخر، فهما وصيان، إلا أن يقول: قد أخرجت الأول. ش: أما إذا أخرج الأول من الإيصاء إليه فقد انعزل، وصار الثاني هو الوصي وحده، وأما إذا لم يخرجه فهما وصيان، لما تقدم فيما إذا أوصى لبكر بجارية، ثم أوصى بها لبشر، وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن للموصي عزل الموصى إليه، وهو واضح، لأنه نائب عنه، أشبه وكيله. قال: وإذا كان الوصي خائنا جعل معه أمين. ش: هذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى، جمعا بين نظر الموصي وحفظ المال، (والثانية) لا تصح

الوصية إلى فاسق أصلا، وهي اختيار القاضي، وعامة أصحابه، الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا، لأنه ليس بأهل للشهادة، أشبه المجنون، (والرواية الثالثة) تصح الوصية إليه مطلقا، ولا يفتقر إلى أمين، حكاها أبو الخطاب في خلافه. لأنه أهل للائتمان في الجملة، بدليل جواز إيداعه، فلو طرأ فسقه بعد موت الموصي، فعند أبي محمد أنه على الروايتين في الوصية إليه ابتداء، ثم مختار القاضي [أيضا] وغيره البطلان، وعند أبي البركات أنه يبدل بأمين بلا نزاع، نظرا إلى أن الموصي في الابتداء قد رضيه واختاره، والظاهر أنه إنما فعل ذلك لمعنى رآه فيه، إما لزيادة حفظه، أو إحكام تصرفه، ونحو ذلك، مما يربو على ما فيه من الخيانة، بخلاف ما لو طرأ فسقه، فإن حال الموصي يقتضي أنه إنما رضي بعدل ولا عدل، وعكس ذلك القاضي في روايتيه، فإنه حمل رواية ضم الأمين إليه على ما إذا طرأ الفسق. وقال: ولا يختلف المذهب أنه لا يصح إليه ابتداء، فكأنه نظر إلى أن الدوام يغتفر فيه ما لا يغتفر في الابتداء.

ولنشر إلى شروط الموصى إليه فنقول: من شرطه أن يكون «عاقلا» بلا نزاع، «مسلما» إن كان الموصي مسلما، وكذلك إن كان كافرا في وجه، وفي آخر: يصح إلى كافر إن كان الموصي كافرا، لكن يشترط عدالة الموصى إليه في دينه عند أبي محمد، وظاهر كلام أبي البركات أنه على الروايتين، «بالغا» في رواية، وفي أخرى - وقال القاضي: إنها قياس المذهب: - لا، وعليها قال أبو البركات: إذا كان مراهقا. وقال أبو محمد: إذا جاوز العشر. «مستور الحال» على المذهب وقد تقدم، ولا تعتبر الذكورية، ولا الحرية، ولا البصر، ولا المعرفة بالتصرف، نعم، إذا كان عاجزا ضم الحاكم إليه أمينا، ويعتبر وجود الشروط عند العقد والموت في وجه، وفي آخر عند الموت فقط، والله أعلم. قال: وإن كانا وصيين فمات أحدهما، أقيم مقام الميت أمين.

ش: إذا أوصى لرجلين، فليس لأحدهما الانفراد بالتصرف، لحصول التشريك بينهما، إلا أن يجعل لكل واحد منهما التصرف منفردا، فعلى هذا لو مات أحدهما أو جن أقام الحاكم مقامه أمينا، لأن الميت لم يرض بتصرف الآخر وحده، وكذلك إن ماتا في وجه، لأنه لم يرض بتصرف واحد، وفي آخر يجوز أن يقيم واحدا، لأن الأمر رجع إليه، أشبه ما لو لم يوص، ولو كان قد جعل لكل واحد التصرف منفردا، فمات أحدهما لم يبدل، لاستقلال الآخر بالتصرف، والله أعلم. قال: ومن أعتق في مرضه أو بعد موته عبدين لا يملك غيرهما، وقيمة أحدهما مائتان، والآخر ثلاثمائة، فلم تجز الورثة، أقرع بينهما، فإن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان عتق منه خمسة أسداسه، وهو ثلث الجميع، وإن وقعت على الآخر عتق منه خمسة أتساعه. ش: قوله: ومن أعتق في مرضه. أي منجزا، أو بعد موته. أي مدبرا. وقوله: أقرع بينهما، «إشارة» إلى أن العتق في المرض يعتبر من الثلث، وكذلك التدبير على المذهب بلا ريب، كبقية الوصاية، وشذ حنبل فنقل عنه نفوذه من رأس المال إن وجد في الصحة، نظرا إلى الحال الراهنة، «وإشارة» بأن العتق والحال هذه يكمن في واحد

«وتصريح» بدخول القرعة، والأصل في ذلك كله حديث عمران بن حصين المتقدم، وإذا أقرعنا فإن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان، عتق منه خمسة أسداسه، وهو ثلث الجميع، إذ ثلث الجميع مائة وستة وستون وثلثا درهم، وذلك قدر خمسة أسداسه، وإن وقعت على الآخر الذي قيمته ثلاثمائة، عتق منه خمسة أتساعه، وهي الثلث، مائة وستة وستون درهما وثلثا درهم، إذ كل تسع منه ثلاثة وثلاثون درهما، وثلث درهم. قال: لأن جميع ملك الميت خمسمائة، وهي قيمة العبدين، فتضرب في ثلاثة، فأخذ ثلثه خمسمائة، فلما أن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان، ضربناه أيضا في ثلاثة، فصيرناه ستمائة، فصار العتق فيه خمسة أسداسه، وكذلك يفعل بالآخر إذا وقعت عليه القرعة. ش: هذا بيان لعمل المسألة، ولأن العتق في الأول خمسة أسداسه، وفي الثاني خمسة أتساعه، وذلك لأن صورة المسألة أن جميع ملك الميت خمسمائة، فتضرب في ثلاثة، ترتفع إلى ألف وخمسمائة، لأنها لو لم تضرب ربما وقع فيها

كسر فتشق النسبة إليه أو تتعذر، فإذا بلغت ألفا وخمسمائة، أخذ ثلثها وهو خمسمائة، ثم إن وقعت القرعة على الذي قيمته مائتان، ضربناه في ثلاثة، كما ضربنا المجموع، فترتفع إلى ستمائة، ثم تنسب الثلث إليه وهو الخمسمائة، تجد العتق فيه خمسة أسداسه، إذ كل سدس مائة درهم، وإن وقعت القرعة على الذي قيمته ثلاثمائة، فعلنا به أيضا كذلك، ضربناه في ثلاثة فارتفع إلى تسعمائة، ثم نسبنا منه الثلث، وهو الخمسمائة، تجدها خمسة أتساعه. قال: وكل شيء يأتي من هذا الباب فسبيله أن يضرب في ثلاثة، ليخرج بلا كسر. ش: فلو كانت قيمة أحد العبدين ثلاثمائة، والآخر أربعمائة، جمعتهما، وذلك سبعمائة، فجعلتها ثلث المال، ثم إن وقعت القرعة على الذي قيمته ثلاثمائة، ضربت في ثلاثة، ترتفع إلى تسعمائة، ثم تنسب إليه السبعمائة يكن العتق منه سبعة أتساعه، وإن وقعت على الذي قيمته أربعمائة، ضربته في ثلاثة، ترتفع إلى ألف ومائتين، وإذا نسبت إليه السبعمائة، كان العتق فيه ثلثه وربعه، وعلى هذا فقس، والله أعلم.

قال: وإذا أوصى بعبد من عبيده لرجل، ولم يسم العبد، كان له أحدهم بالقرعة، إذا كان يخرج من الثلث، وإلا ملك منه بقدر الثلث. ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار ابن أبي موسى، لأن الجميع سواء بالنسبة إلى الاستحقاق، فكان له أحدهم بالقرعة، كما لو كان ذلك عتقا، (والثانية) - واختارها أبو الخطاب، والشريف في خلافيهما، والشيرازي - يعطيه الورثة ما أحبوا، لأن لفظه تناول عبدا، والأقل هو اليقين، فيكون هو الواجب، وما زاد فهو مشكوك فيه، وإذا ما تدفعه الورثة هو الواجب أو أزيد، فيلزم قبوله، وقد تضمن كلام الخرقي صحة الوصية بالمجهول، وهو واضح، لما تقدم من أن الغرر لا ينافيها. وقول: من عبيده. يخرج ما إذا قال: بعبد. وأطلق، فإنه يصح ويعطى أي عبد كان، لكن يشترط كونه ذكرا، هذا عند أبي محمد، نظرا للعرف، وعند

القاضي لا يشترط، نظرا للحقيقة، وقوله: ولم يسمه. يخرج ما إذا سماه، فإنه يستحقه بشرطه بلا نزاع، واشتراط الخروج من الثلث واضح وقد تقدم. قال: وإذا أوصى له بشيء بعينه - فتلف بعد موت الموصي لم يكن للموصى له شيء. ش: إذا أوصى له بشيء بعينه - كهذا العبد ونحوه - فتلف بعد موته، وقبل القبول، لم يكن للموصى له شيء، حكاه ابن المنذر إجماعا، وذلك لأن الموصى له إنما يستحق بالوصية وهي في معين، فتذهب بذهابه، وبطريق التنبيه إذا تلف قبل موت الموصي. قال: وإن تلف المال كله إلا الموصى به فهو للموصى له. ش: نص على هذا أحمد، لأن حق الورثة تعلق بما عدا المعين، وقد تلف، فيتلف على ملكهم، أما المعين فلم يتعلق حقهم به، ولذلك كان للموصى له أخذه بغير رضاهم. قال: ومن أوصي له بشيء فلم يأخذه زمانا، قوم وقت الموت، لا وقت الأخذ. ش: اعلم أنا نذكر أولا أصلا، ثم نذكر هذه المسألة، لأن

بعضهم بناها عليه، فنقول: اتفق أصحابنا فيما علمت على أن شرط ثبوت الملك للموصى له القبول بعد الموت، ثم اختلفوا متى يثبت الملك له، فالمذهب عند أبي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الملك لا يثبت له إلا عقب القبول، وهو مقتضى قول القاضي، وعامة أصحابه، قال أبو الخطاب في الهداية: وأومأ إليه أحمد فقال: الوصية والهبة واحد. واختار أبو بكر في الشافي أن الملك مراعى، فإذا قبل تبينا أن الملك ثبت له من حين الموت، وحكى الشريف عن شيخه أنه قال: إنه ظاهر كلام الخرقي. ولعله أخذه من هذه المسألة، قال في التعليق: وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، فيمن أوصي له بشيء فلم يأخذه زمانا، قال سفيان: يحسب على الموصى له بقيمته يوم يأخذه، قال أحمد: له يوم أوصى. قال: فظاهر هذا أن الملك حصل بالسبب السابق. وقوله: يوم أوصى. معناه يوم تعتبر قيمته حين الموت، لأنه حين الوصية باق على ملك الموصي، فلا تعتبر قيمته إذا، ثم على الأول هل يبقى الملك بعد موت الموصى له، فيتوفر بنمائه ثلثه - وهو مقتضى قول الشريف، وأبي الخطاب في

خلافيهما - أو يكون الملك للورثة ثم ينتقل إلى الموصى له إذا قبل - وهو اختيار أبي محمد، وابن البنا، والشيرازي؟ فيه وجهان وتلخص أن في الملك بين الموت والقبول ثلاثة أوجه، للميت، للورثة، للموصى له. إذا تقرر هذا فقول الخرقي: إن التقويم يعتبر بحال الموت، لا بحال الأخذ، وكذلك نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، فيحتمل أنه بناء منهما على أن الملك يكون مراعى، وأن الموصى له إذا قبل ثبت ملكه من حين الموت، أما إن قلنا: إن الملك لا يثبت إلا حين القبول، فيعتبر التقويم إذا، وإلى هذا جنح أبو البركات، مع زيادة تحقيق، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويحتمل أن هذا الحكم جار على جميع الوجوه، وهو مقتضى كلام أبي محمد، فإنه حكى الخلاف في الأصل، ثم ذكر هذه المسألة، وقال: لا أعلم فيها خلافا. وقال أبو العباس: إن قول الخرقي هو قول

قدماء الأصحاب، وإنه أوجه من قول جده، يعني بالبناء، فعلى هذا الاعتبار في التقويم بحال الموت سعرا وصفة، فعلى هذا إذا قوم الموصى به حال الموت، فخرج من الثلث، كان للموصى له، وإن زاد حين القبول، حتى لم يخرج من الثلث، ولو لم يخرج من الثلث حال الموت، كان له منه بقدر الثلث، وإن زاد سعره أو صفته، حتى خرج من الثلث حال القبول، وذلك لأن تأخير القبول حصل بتفريط من الموصى له، فهو كتأخير المشتري قبض المبيع المعين، [بعد التمكن من قبضه، والمذهب أن مجرد التمكن من القبض في المبيع المعين] ونحوه ينقل الضمان، فكذلك التمكن من القبول في الوصية، إذ القبول فيها بمنزلة القبض في غيرها، وإن قلنا بالرواية الأخرى في البيع ونحوه، وأن الضمان لا ينتقل إلا بالقبض، فهذا في المعاوضات على ضعف، أما الشركة ونحوها فنفس التمييز كاف، ولأن الموصى به مباح للموصى له، وقد امتنعت الورثة من التصرف فيه - وإن قلنا الملك لهم أو للميت - لأجل حق الموصى به، فأشبه العبد الجاني، والتركة المستغرقة بالدين، وإن قلنا: انتقلت إلى الورثة، فإنه لو أخر استيفاء حقه حتى

نقص العبد أو التركة كان النقص عليه، ولم يكن له حق في غير ذلك، كذلك هاهنا، وقد قال أبو الخطاب في الانتصار وطائفة من الأصحاب: إن تعلق حق الغرماء بالتركة لتعلق الموصى له بالموصى به هل يمنع من الانتقال؟ على روايتين، ولأن الموصى له وإن لم يملك، لكن له حق التملك، فأشبه ربح المضاربة قبل القسمة، إن قلنا: لا يملك إلا بها. على رواية، ونصف الصداق بعد الطلاق، إن قلنا: لا يدخل في ملك الزوج إلا باختياره على وجه، والمغانم قبل القسمة إن قلنا: لا تملك إلا بها. على وجه أيضا، فإن جميع هذه الصور الضمان على من له حق التملك، كذلك هاهنا، ولا يقال: القبول هاهنا بمنزلة القبول في الهبة والبيع، لأن التملك في الوصية حق ثابت، لا يمكن أحدا فسخه بعد الموت، فهو كربح المضاربة، وقبول البيع والهبة حق غير ثابت، لإمكان إبطاله، ولهذا قال الخرقي: إن خيار القبول في الوصية ينتقل إلى الورثة وإن كان خيار قبول البيع والهبة لا ينتقل اتفاقا.

وأيضا فإن العدل الشرعي أن لا تفضل الوصايا على الورثة بزيادة على الثلث، لا في الملك، ولا في القبض، فإذا أوصى بعبد، وله عبدان آخران، فالعدل أن نقص العبدين كما هو على الورثة، كذلك نقص العبد على الموصى له لا يقال: يلزم على هذا أن الملك مع الزيادة يكون للورثة والضمان على الموصى له، لأنا نقول: ليس هذا ببدع. كما نقول: ضمان الثمر على الشجر على البائع، والزيادة للمشتري، والعين المؤجرة ضمانها على المؤجر، والربح للمستأجر. انتهى، وقال أبو البركات: إن قلنا: إن الملك يتبين ثبوته للموصى له من حين الموت، فإن الموصى به يقوم بسعره يوم الموت، على أدنى صفاته من حين الموت، إلى حين القبول، وإن قلنا: إن الملك لا يثبت إلا عقب القبول، وأنه قبل للورثة أو للميت. اعتبر التقويم وقت القبول سعرا وصفة، وبيان ذلك أما السعر فلأنه إنما اعتبر حال الموت على الأول، لأنا تبينا بالقبول دخوله في ملكه حين الموت، وإذا تكون زيادة السعر ونقصها عليه، لأن زيادة السعر ونقصه لا تضمن مع بقاء العين المستحقة، وإن ضمنت العين، كما في الغصب وغيره على المشهور، وأما على الوجهين الآخرين، فلأن الملك إنما حصل له بالقبول، فقبل القبول لا يقوم

عليه، كما قبل الموت اتفاقا، وأما نقص الصفة أما على الوجهين الآخرين فواضح، لأن الملك للورثة أو للميت، والزيادة لهما، فكذلك النقص عليهما، إذ الخراج بالضمان، وأما على الوجه الأول فلأن الموصى له لا يضمن إلا بالقبول، كما أن غيره لا يضمن إلا بالتمكين من القبض أو بحقيقة القبض على الخلاف، وذلك لأن القبول لا يرد إلا على عين موجودة، لأنه وإن أثبت الملك من حين الموت، فلا بد من بقائه إلى حينه، إذ ثبوت الملك قبله تبع لثبوته في حينه فما ليس بموجود لا يقبل، لتعذر الملك فيه، ولهذا لو تلفت العين الموصى بها قبل القبول، امتنع القبول فيها، فكذلك إذا تلف بعضها، ولا ضمان أيضا على الورثة، بحيث يحسب من الثلثين، لأن الورثة لم يملكوا ذلك، فأشبه ما لم يمكنهم قبضه وأولى. فإن قيل: يلزم على هذا أن تكون الزيادة للموصى له، والنقص ليس عليه. قلنا: كذا ما اشترى بصفة أو رؤية متقدمة، هو مضمون على البائع، حتى يتبين أنه على ما رئي أو وصف، فلو زاد في هذه المدة كانت الزيادة للمشتري، وقد ذكر أبو البركات نحو هذا في الصداق

أيضا، فقال: إذا تعذر الرجوع في نصف عينه، فإنه يرجع بنصف قيمته يوم الفرقة، على أدنى صفاته من يوم العقد، إلى يوم القبض، إلا المتميز إذا قلنا: يضمنه بالعقد، فتعتبر صفته وقت العقد، وذلك لأن مع التعذر إنما يستحق نصف القيمة يوم الفرقة، فيعتبر السعر إذا، وأما صفة المقوم فإن كان قد زاد بعد العقد وقبل القبض لم يستحق نصف قيمة الزيادة، لحدوثها على ملك الزوج، وإن كان قد نقص فهو مضمون عليها، لعدم التمكن من القبض، المقتضي لضمان الزوج. قال أبو العباس: واعلم أن تحرير هذه العبارة هنا، وفي الصداق، له دون غيره، وإن كان قد ذكره غير واحد متفرقا في الصداق، ويؤخذ من تعليل بعضهم هنا، قال: وهو متوجه في الصداق، أما هنا ففيه نظر، لأن المملوك بالوصية، كالمملوك بالإرث، لا يتوقف تمام الملك فيهما على قبض، وإن تلف تلف من ضمانهما، بخلاف المملوك بالعقود، كالبيع ونحوه، لا يتم الملك فيها إلا بالتمكن من القبض، وإذا تلفت تلفت من ضمان الذي خرجت من ملكه، وأيضا فإن بالقبول يتبين أن الملك كان للموصى،

حكم من أوصى بوصايا وفيها عتاق فلم يف الثلث بالكل

له، وإذا يكون التالف قبل القبول من ملكه، إذ لم يفت فيه إلا بالقبض، والقبض غير مؤثر، بدليل ما لو قبل وأخر القبض. والله أعلم. [حكم من أوصى بوصايا وفيها عتاق فلم يف الثلث بالكل] قال: وإذا أوصى بوصايا وفيها عتاق، فلم يف الثلث بالكل، تحاصوا في الثلث، وأدخل النقص على كل واحد بقدر ما له في الوصية. ش: هذا هو المشهور، المختار للأصحاب من الروايتين، للاشتراك في سبب الاستحقاق، ولا مزية لأحدهم على الآخر، فعلى هذا لو وصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بمعين قيمته مائة، وبعتق عبد قيمته خمسون، وثلثه مائة درهم، فإنك إذا نسبت الثلث إلى مجموع الوصايا، وجدته خمسيها، فكل من له شيء له خمساه، (والرواية الثانية) يقدم العتق، لترجحه بما فيه من حق الله تعالى، وحق الآدمي وتشوف الشارع إليه، ولو لم يكن في الوصايا عتاقة تحاصوا فيها بلا نزاع. والله أعلم. قال: وإذا أوصى بفرس في سبيل الله، وألف درهم تنفق عليه، فمات الفرس، كانت الألف للورثة، وإن أنفق بعضها رد الباقي إلى الورثة.

ش: لتعذر العمل بالوصية في الجميع أو في البعض، وإذا يرجع إلى الورثة، لأن سبب استحقاقهم قائم، وإنما منعوا لمعارض وقد زال، ويحتمل أن تنفق الألف على فرس آخر في السبيل، إذ المقصود من مثل هذه الوصية الجهة، لا ذات الفرس، وصار كما لو وصى بألف في الحج، فإنه يصرف في حجة بعد أخرى حتى ينفد، والله سبحانه أعلم.

كتاب الفرائض

[كتاب الفرائض] ش: الفرائض جمع فريضة، وهي في الأصل مصدر من: فرض وافترض. وحدها في الاصطلاح: العلم بقسمة المواريث. 2241 - والأصل فيها ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإنه نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول شيء ينزع من أمتي» رواه ابن ماجه والدارقطني.

2242 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فهو فضل، آية محكمة، أو

سنة قائمة، أو فريضة عادلة» رواه أبو داود وابن ماجه. قال: ولا يرث أخ ولا أخت لأب وأم، أو لأب مع ابن، ولا مع ابن ابن وإن سفل، ولا مع أب. ش: يسقط ولد الأبوين أو الأب ذكرهم وأنثاهم بثلاثة، الابن، وابنه، والأب بالإجماع، حكاه ابن المنذر، وقد قال سبحانه {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وهو يقتضي أن الأخ والأخت لا يرثان مع وجود الولد، وهو شامل للولد وولد الابن، «والكلالة» من لا ولد له ولا والد، والمراد الأخ والأخت من الأبوين أو الأب بلا نزاع، وإنما خص الحجب بالولد الذكر، وإن كانت الآية الكريمة

تشمل الأنثى - لما سيأتي من أن الأخوات مع البنات عصبة، وإذا فالآية الكريمة مخصوصة بالذكر، ويزيد ولد الأب على حجبه، بالثلاثة أنه يحجب بالأخ من الأبوين، وقد أشعر كلام الخرقي بهذا في قوله: والأخوات من الأب بمنزلة الأخوات من الأب والأم، إذا لم يكن أخوات لأب وأم. 2243 - وذلك لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالدين قبل الوصية، وأن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه، دون أخيه لأبيه» . رواه أحمد والترمذي، وابن ماجه. قال: ولا يرث أخ ولا أخت لأم مع ولد، ذكرا كان

ميراث الأخوات مع البنات

أو أنثى، ولا مع ولد ابن، ولا مع أب، ولا مع جد. ش: ولد الأم ذكرهم وأنثاهم يسقط بأربعة: الولد، وولد الابن، والأب، والجد أبي الأب، في قول العامة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] والمراد بالأخ والأخت من الأم بالإجماع، والكلالة في قول الجمهور من ليس له ولد ولا والد، والولد يشمل الولد، وولد الابن، والوالد يشمل الأب، والجد. والله أعلم. [ميراث الأخوات مع البنات] قال: والأخوات مع البنات عصبة، لهن ما فضل، وليست لهن معهن فريضة مسماة. ش: العصبة في الاصطلاح: وحكمه أنه يرث بلا تقدير، ثم تارة ينفرد فيحوز جميع المال، وتارة تستغرق الفروض المال فيسقط، وتارة لا تستغرق فيأخذ الفاضل، إذا تقرر هذا فالأخوات مع البنات عصبة، لهن الفاضل عن فروض البنات، وليست لهن مع البنات فريضة مسماة. 2244 - لما روي «أن أبا موسى الأشعري سئل عن ابنة، وابنة ابن، وأخت، فقال: للابنة النصف، وللأخت النصف. فسئل

ميراث بنات الابن

ابن مسعود، وأخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد (ضللت إذا وما أنا من المهتدين) أقضي فيها بما قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للبنت النصف، ولابنة الابن السدس، تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت. فأخبر أبو موسى بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم.» رواه البخاري وغيره، والمراد بالأخوات: الأخوات لأبوين، أو لأب، لأنه قد تقدم له أن الأخوات للأم لا يرثن مع الولد. [ميراث بنات الابن] قال: وبنات الابن بمنزلة البنات إذا لم يكن بنات. ش: هذا إجماع، ويشهد له عموم قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11]- الآية، وولد البنين أولاد، قال الشاعر: بنونا بنو أبنائنا [أي: بنو أبنائنا بنونا] ، وقوله: بمنزلتهن. أي عند

عدمهن، في إرثهن، وحجبهن لمن تحجبه البنات، وفي كون الأخوات معهن عصبة، وغير ذلك. قال: فإن كن بنات وبنات ابن، فللبنات الثلثان، وليس لبنات الابن شيء إلا أن يكون معهن ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين. ش: البنات لهن الثلثان بالإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وكذلك البنتان لهما الثلثان بالإجماع. 2245 - ولا عبرة برواية شذت عن ابن عباس، وفوق في الآية الكريمة قيل: زائدة للتوكيد. 2246 - ويؤيد ذلك ويوضحه ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بابنتيها من سعد، فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع، قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما، فلم يدع لهما مالا، ولا ينكحان إلا بمال. فقال: «يقضي الله في ذلك» فنزلت آية الميراث، فأرسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى

عمهما، فقال: «اعط ابنتي سعد الثلثين، وأمهما الثمن، وما بقي فهو لك» رواه الخمسة. وهذا بيان الآية الكريمة، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء: 176] وهذا يدل بطريق التنبيه على أن للبنتين الثلثين، لأنهما أقرب من الأختين، ولا شك أن دلالة التنبيه أقوى من دلالة مفهوم الشرط، بل قد قال بعض العلماء: إنها أقوى من دلالة النص، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] وإذا

كان معنا ذكر وأنثى، فللأنثى الثلث، وللذكر الثلثان مثل حظ الأنثيين. إذا تقرر هذا فإذا كان في المسألة بنتان فصاعدا، وبنات ابن، فللبنتين فصاعدا الثلثان، وتسقط بنات الابن بالإجماع، ولأن الثلثين لجهة البنات، وقد استوعبه بنات الصلب، فسقط بنات الابن، لأنهن دونهن في الدرجة، اللهم إلا أن يكون معهن في درجتهن ذكر من بني الابن كأخيهن، أو ابن عمهن، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين، لعموم قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] الآية، وهؤلاء أولاد، وكذلك لو كان الذكر من ولد الابن أنزل منهن، كابن أخيهن، أو ابن عمهن، أو ابن ابن ابن عمهن، لما تقدم، والله أعلم. قال: فإن كانت ابنة واحدة وبنات ابن، فلابنة الصلب النصف، ولبنات الابن - واحدة كانت أو أكثر من ذلك - السدس تكملة الثلثين، إلا أن يكون معهن ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين.

ش: لا نزاع بين العلماء أن للبنت الواحدة النصف، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] ولا نزاع أيضا بينهم أنه إذا كان بنت وبنت ابن، أو بنات ابن، أو بنت ابن وبنات ابن ابن أن للبنت النصف ولبنات الابن - واحدة كانت أو أكثر - السدس تكملة الثلثين، لما تقدم من قصة أبي موسى، وحديث ابن مسعود، فإن كان مع بنات الابن ذكر، عصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين، لما تقدم من الآية الكريمة. وقول الخرقي في هذه المسألة والتي قبلها: إلا أن يكون معهن ذكر. يشمل ما إذا كان في درجتهن، أو أسفل منهن، وصرح بذلك أبو البركات، وقال في المغني في الأولى: إذا كان معهن أو أنزل منهن. وقال في الثانية: إذا كان معهن في درجتهن. وظاهره أن من أنزل منهن لا يعصبهن.

ميراث الأخوات من الأب

[ميراث الأخوات من الأب] قال: والأخوات من الأب بمنزلة الأخوات من الأب والأم، إذا لم يكن أخوات لأب وأم، فإن كان أخوات لأب وأم وأخوات لأب، فللأخوات من الأب والأم الثلثان، وليس للأخوات من الأب شيء إلا أن يكون معهن ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين. ش: فرض الأخت من الأب والأم النصف، وفرض الأختين فصاعدا الثلثان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ} [النساء: 176] الآية. 2247 - «وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال قلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي، ولي أخوات؟ قال: فنزلت آية الميراث: {يَسْتَفْتُونَكَ} [النساء: 176] الآية» . . . رواه أبو داود.

2248 - ويروى أنه كان له سبع أخوات، والأخوات من الأب بمنزلة الأخوات من الأب والأم، لدخولهن في الآية الكريمة، لكن بشرط عدم الأخوات لأب وأم، فالأخوات لأب يسقطن بالأخوات لأبوين، وقد تقدم ذلك، ويتفرع على هذا إذا كان له أخوات لأب وأم، وأخوات لأب، فإن للأخوات للأب والأم الثلثين، وتسقط الأخوات للأب، ويستثنى من ذلك صورة واحدة، وهو ما إذا كان مع الأخوات للأب ذكر، فإنه يعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] .

ميراث الأم

قال: وإن كانت أخت واحدة لأب وأم، وأخوات لأب، فللأخت من الأب والأم النصف، وللأخوات من الأب - واحدة كانت أو أكثر من ذلك - السدس تكملة الثلثين، إلا أن يكون معهن ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين. ش: أما كون النصف للأخت من الأبوين فبنص الكتاب، وقدمت على الأخوات للأب لأنها أقوى منهن، وأما كون باقي الثلثين للأخوات من الأب، فلأن فرض الأخوات الثلثان، وقد أخذت الأخت للأبوين النصف، فيكون الباقي منهما - وهو السدس - للأخوات للأب، إلا أن يكون معهن - والحال هذه - ذكر، فيعصبهن فيما بقي، للذكر مثل حظ الأنثيين، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] وشرط من يعصبهن هنا، وفي التي قبلها أن يكون أخاهن، فلا يعصبهن ابنه، بخلاف بنات الابن، كما تقدم، لأن ابن الأخ ليس بأخ، وابن الابن ابن. والله أعلم. [ميراث الأم] قال: وللأم - إذا لم يكن إلا أخ واحد، أو أخت واحدة، ولم يكن ولد، ولا ولد ابن - الثلث، فإن كان

له ولد، أو ولد ابن، أو أخوان، أو أختان، فليس لها إلا السدس. ش: ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى هنا للأم حالتين (إحداهما) لها الثلث، وهي مع عدم الولد، أو ولد الابن، والاثنين من الإخوة والأخوات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] فجعل لها الثلث مع عدم الولد، وهو شامل للولد وولد الابن، ولم ينقلها إلى السدس إلا مع وجود الإخوة، وليس الإخوة بأخ، (الحال الثاني) لها السدس، وهو مع وجود الولد، ذكرا كان أو أنثى، [أو ولد ابن] ، أو اثنين من الإخوة والأخوات، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] وهو شامل للولد وولد الابن، وللذكر والأنثى، وقَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] .

ميراث الأب

2249 - وإنما صرف عن ظاهره، ولم يعتبر في حجبها ثلاثة إخوة، لما روي أن ابن عباس قال لعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس الأخوان إخوة في لسان قومك، فلم تحجب بهما الأم؟ فقال: لا أستطيع أن أرد شيئا كان قبلي، ومضى في البلدان، وتوارث الناس به. وهذا من عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يدل على أن الذي منعه من إعمال ظاهر الآية الإجماع السابق، ثم إن هذا عرف القرآن في الإخوة قال سبحانه: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] وهذا ثابت بلا نزاع في الاثنين فصاعدا، وبقي للأم (حال ثالث) يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. والله أعلم. [ميراث الأب] قال: وليس للأب مع الولد الذكر أو ولد الابن إلا السدس. ش: هذا إجماع، وقد قال الله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] والولد كما تقدم

يشمل الولد وولد الابن. قال: فإن كن بنات كان له ما فضل. ش: أي فإن كن الأولاد بنات، كان له ما فضل، يعني بعد فرض السدس، لأن الأب والحال هذه يرث بالفرض السدس، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] والولد يشمل الذكر والأنثى، وما بقي بعد أخذ ذي الفرض فرضه يأخذه بالتعصيب. 2250 - لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» . وإلا لو حمل كلام الخرقي على إطلاقه اقتضى أن يسقط فيما إذا كان معنا بنتان، وزوج، وأبوان، فإن البنتين إذا لهما الثلثان، والزوج له الربع، والأم لها السدس، ولا يفضل للأب شيء، وليس كذلك، بل له السدس، فأصل المسألة من اثني عشر، وتعول إلى خمسة عشر، وإذا يبقى له حال ثالث، وهو إذا لم يكن ولد أصلا، فإنه يأخذ الفاضل بالتعصيب ليس إلا للحديث. والله أعلم.

ميراث الزوج

[ميراث الزوج] قال: وللزوج النصف إذا لم يكن ولد، فإن كان لها ولد فله الربع. ش: هذا مما لا خلاف فيه بحمد الله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء: 12] الآية، وهو شامل للولد ذكرا أو أنثى، ولولدها وولد ابنها. والله أعلم. [ميراث الزوجة] قال: وللمرأة الربع واحدة كانت أو أربعا، إذا لم يكن ولد، فإن كان له ولد فلهن الثمن. ش: هذا أيضا إجماع لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] إلى قوله: {تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وهو أيضا شامل للولد وولد الابن. [ميراث العصبة] قال: وابن الأخ للأب والأم أولى من ابن الأخ للأب، وابن الأخ من الأب أولى من ابن ابن الأخ للأب والأم، وابن الأخ وإن سفل إذا كان لأب أولى من العم، وابن العم للأب والأم، أولى من ابن العم للأب، وابن العم للأب أولى من ابن ابن العم للأب والأم، وابن العم وإن سفل أولى من عم الأب.

ش: هذا إشارة إلى ميراث العصبة، وتنبيه بذكر حكم بعضهم على البقية، والعصبة قد تقدم بيانهم، وحكمهم، والكلام الآن في أولاهم بالميراث، وأولاهم به أقربهم إلى الميت، ويسقط به من بعده، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» متفق عليه، وأقربهم الابن، ثم ابنه وإن سفل، ثم الأب ثم أبوه وإن علا، ثم بنوا الأب وهم الإخوة للأبوين، أو للأب، يقدم الأخ للأبوين على الأخ للأب، وإن كانوا في درجة واحدة، لقوة قرابته بالأم، ثم بنوهم وإن سفلوا الأقرب منهم فالأقرب على ما تقدم، فيقدم ابن الأخ للأب والأم، على ابن الأخ للأب، وابن الأخ للأب، على ابن ابن الأخ للأب والأم، لأن ابن الأخ لأب أعلى درجة من ابن ابن الأخ للأبوين، وعلى هذا أبدا، ثم بعد بني الإخوة العم، ثم ابنه وإن سفل على ما تقدم، إن استوت درجتهم قدم من هو لأبوين، وإن اختلفت قدم الأعلى وإن كان لأب، ثم عم الأب، ثم بنوه. ثم عم الجد، ثم بنوه على ما تقدم بيانه. قال: وإذا كان زوج وأبوان، أعطي الزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب، وإن كانت زوجة

وأبوان، أعطيت الزوجة الربع، وللأم ثلث ما بقي، وما بقي فللأب. ش: هاتان المسألتان تسميان العمريتين. 2251 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قضى فيهما بذلك، وتبعه على ذلك عثمان، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، ويروى ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فاعتمد أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعامة العلماء على ذلك.

2252 - اتباعا لسنة الخلفاء الراشدين، المأمور باتباعهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. قال: وإذا كان زوج، وأم، وإخوة من أم، وإخوة لأب وأم، فللزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة من الأم الثلث، وسقط الإخوة من الأب والأم، وهذه المسألة تسمى الحمارية. ش: لا نزاع في أن للزوج النصف، وللأم السدس، واختلف في أن الثلث الباقي، هل هو للإخوة من الأم، وتسقط الإخوة من الأبوين، أو يشرك فيه بين الجميع، والمشهور المعروف من مذهبنا هو الأول. 2253 - وهو مروي عن علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لأن

الإخوة من الأم أصحاب فرض، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] والإجماع على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة من الأم، والقاعدة أن يبدأ بصاحب الفرض، فإن استوعبت المال سقط العاصب، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر» وأيضا فإن ظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] يقتضي أن الإخوة من الأم

يشتركون في جميع الثلث، ومن شرك بين الجميع أنقصهم من الثلث، ولم يعمل بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] . 2254 - وعن أحمد أنه يشرك بين الجميع، وهو مروي عن عمر، وعثمان، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. لأنهم ساووا ولد الأم في القرابة التي يرثون بها، لأنهم جميعا من ولد

الأم، فيجب أن يساووهم في الميراث، وقرابة الأب إن لم تزدهم قربا، لم تزدهم بعدا. 2255 - ولهذا قال بعض الصحابة أو بعض ولد الأبوين لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هب أن أباهم كان حمارا، فما زادهم إلا قربا. فشرك بينهم، ولهذا سميت هذه المسألة المشركة والحمارية، والله أعلم. قال: وإذا كان زوج، وأم، وإخوة وأخوات لأم، وأخت لأب وأم، وأخوات لأب، فللزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة والأخوات من الأم الثلث بينهم بالسوية، وللأخت من الأب والأم النصف، وللأخوات من الأب السدس.

ش: أما كون للزوج النصف، فلما تقدم من الآية الكريمة، إذ ليس في المسألة ولد، وأما كون الأم لها السدس، فلقوله سبحانه: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وأما كون الإخوة والأخوات من الأم لهم الثلث بينهم بالسوية، فلما تقدم من قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وأما كون الأخت من الأبوين لها النصف، فلقوله سبحانه: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وأما كون الأخوات من الأب لهن السدس فلأنهن مع الأخت بمنزلة بنات الابن مع البنت، وقد تقدم ذلك، وإنما مراد الخرقي والله أعلم بذكر هذه المسألة بيان دخول العول في الفرائض. ومعنى العول أن تزيد الفروض على المال كهذه المسألة، فإن فيها نصفا، ونصفا، وثلثا، وسدسا، وسدسا، فيدخل النقص على الجميع، ويقسم المال بينهم على قدر فروضهم، كما يقسم مال المفلس بين غرمائه بالحصص، لضيق ماله عن وفائهم، فأصل هذه المسألة من ستة، وتعول إلى عشرة، وليس في الفرائض ما يعول مثلها سواها، ولهذا لقبت بذات الفروخ تشبيها للأصل بالأم، وعولها بفروخها، وتسمى

أيضا ذات الفروج بالجيم، لكثرة الفروج فيها، والله أعلم. قال: وإذا كان ابنا عم أحدهما أخ لأم، فللأخ من الأم السدس، وما بقي بينهما نصفين. ش: لأن الأخ للأم له السدس إذا لم يكن ابن عم، فكذلك إذا كان ابن عم، اعتمادا على الأصل، وإذا أخذ السدس كان الباقي بينهما بالسوية، لاستوائهما في التعصيب. والله أعلم.

باب أصول سهام الفرائض التي تعول

[باب أصول سهام الفرائض التي تعول] ش: معنى «أصول سهام الفرائض» المخارج التي تخرج منها فروضها، وقد تقدم معنى العول، وعكسه الرد، وهو أن يفضل المال عن الفروض والعدل تساوي المال والفروض. قال: وما فيه نصف وسدس، أو نصف وثلث، أو نصف وثلثان، فأصله من ستة، وتعول إلى سبعة، وإلى ثمانية، وإلى تسعة، وإلى عشرة، ولا تعول أكثر من ذلك. ش: أي والذي فيه من المسائل نصف وسدس، إلى آخره، وإنما كان أصل ذلك من ستة، لأن مخرج السدس من ستة، ومخرج النصف من اثنين، وهما داخلان في الستة، ومخرج الثلث والثلثين من ثلاثة ومخرج النصف من اثنين وإذا ضربت اثنين في ثلاثة بلغ ستة، وأمثلة ذلك بنت، وأم، وعم، أصلها من ستة، ومنها تصح، للبنت النصف، وللأم السدس، والباقي

للعم، زوج، وأم وأخ، أصلها من ستة أيضا، ومنها تصح، للزوج النصف وللأم الثلث، وما بقي للأخ، زوج، وأختان من أبوين، أو من أب، أو إحداهما لأبوين، والأخرى لأب، أصلها [من ستة، وتعول إلى سبعة، أو زوج، وأخت لأبوين أو لأب، وجدة، زوج، وأخت، وأم، أصلها] من ستة، وتعول إلى ثمانية، زوج، وأم وثلاث أخوات متفرقات، تعول إلى تسعة، عول عشرة أم الفروخ وقد تقدمت، وطريق العمل في العول، أن تأخذ الفروض من أصل المسألة، وتضم بعضها إلى بعض، فما بلغت السهام فإليه انتهت المسألة، فتقول في: زوج وأخت، وأم. أصلها من ستة، للزوج النصف ثلاثة وللأخت كذلك، وللأم الثلث اثنان، المجموع ثمانية. قال: وما فيه ربع وسدس، أو ربع وثلث، أو ربع وثلثان، فأصلها من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر، وإلى خمسة عشر، وإلى سبعة عشر، ولا تعول إلى أكثر من ذلك.

ش: إنما كان أصل ذلك من اثني عشر، لأن مخرج الربع من أربعة، ومخرج السدس من ستة، وبينهما موافقة بالأنصاف، فإذا تضرب نصف أحدهما في كامل الآخر، فيبلغ اثني عشر، وكذلك تضرب مخرج الربع في مخرج الثلث والثلثين وهو ثلاثة، لعدم الموافقة بينهما، فيصير اثني عشر، مثال ذلك زوج، وأبوان، وخمسة بنين، للزوج الربع ثلاثة، وللأبوين السدسان أربعة، والباقي للبنين، وهو خمسة أسهم، لكل ابن سهم، امرأة وأختان لأبوين أو لأب، وعصبة، أمثلة عول ذلك: زوج، وابنتان وأم، أصلها من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر، زوج، وأبوان، وابنتان، تعول إلى خمسة عشر، ثلاث نسوة، وجدتان، وأربع أخوات لأم، وثمان لأب، تعول إلى سبعة عشر، ولا يعول هذا الأصل إلى أكثر من هذا. والله أعلم. قال: وما فيه ثمن وسدس، أو ثمن وسدسان، أو ثمن وثلثان، فأصلها من أربعة وعشرين، وتعول إلى سبعة وعشرين، ولا تعول إلى أكثر من ذلك.

ش: لأن مخرج الثمن من ثمانية، ومخرج السدس من ستة، وبينهما موافقة بالأنصاف، فإذا ضربت وفق أحدهما في كامل الآخر انتهى إلى أربعة وعشرين، وكذلك إذا ضربت مخرج الثمن، في مخرج الثلثين وهو ثلاثة، يبلغ أربعة وعشرين، ولم يقل: ثلث وثمن. لعدم اجتماعهما، إذ الثمن لا يكون إلا للزوجة مع الولد، وإذا ينتفي الثلث، إذ هو فرض الإخوة من الأم، والولد يسقطهم، وفرض الأم، والولد يحجبها عنه إلى السدس، ومثال المسألة امرأة وأبوان، وابن، للمرأة الثمن، وللأبوين السدسان، والباقي - وهو ثلاثة عشر سهما - للابن، امرأة، وابنتان، وأم، وعصبة، للمرأة الثمن، وللبنتين الثلثان، وللأم السدس، والباقي - وهو سهم - للعصبة، مثال عولها: امرأة، وأبوان، وابنتان، تعول إلى سبعة وعشرين، ولا تعول إلى أكثر من ذلك، ولهذا سميت البخيلة، لأنها أقل الأصول عولا، وتسمى المنبرية. 2256 - لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عنها على المنبر فقال: صار ثمنها تسعا. ومضى في خطبته، يعني أن المرأة كان لها الثمن

ثلاثة من أربعة وعشرين، صار لها بالعول ثلاثة من سبعة وعشرين، وهي التسع، والله أعلم. قال: ويرد على كل أهل الفرائض على قدر ميراثهم، إلا الزوج والزوجة. ش: قد تقدم معنى الرد، وهو أن يفضل المال عن الفروض، كما إذا لم يخلف الميت إلا بنات، أو جدات، ونحو ذلك، ولا نزاع بين أهل العلم أنه لا يرد على الزوج والزوجة. 2257 - إلا ما روي عن عثمان أنه رد على زوج، وأول على أنه كان عصبة، أو ذا رحم، إذ العمدة في الرد قَوْله تَعَالَى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] والزوجة ليس سببها ذا رحم، واختلف هل يرد على غيرهما من ذوي الفروض؟ ومشهور مذهبنا الذي عليه الأصحاب القول بالرد مطلقا، للآية الكريمة، إذ هؤلاء من ذوي الأرحام، فيكونون أولى من غيرهم بنص الكتاب. 2258 - وفي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك مالا فلورثته، ومن ترك كلا فإلي» وهو عام في جميع المال، (وعن

أحمد) : لا رد مطلقا. والفاضل عن ذوي الفروض لبيت المال، وقد تقدم الكلام على ذلك، والإشارة إلى دليله، فيما إذا أوصى بجميع ماله. 2259 - ونقل عنه ابن منصور: لا يرد على ولد الأم مع الأم، ولا على الجدة مع ذي سهم، ولعله تبع في ذلك أثرا، والله أعلم. قال: وإذا كانت أخت لأب وأم، وأخت لأب، وأخت لأم فللأخت للأب والأم النصف، وللأخت للأب السدس، وللأخت للأم السدس، وما بقي يرد عليهم على قدر سهامهن، فصار المال بينهن على خمسة أسهم، للأخت للأب والأم ثلاثة أخماس المال، وللأخت للأب الخمس، وللأخت للأم الخمس.

ش: هذا مثال للرد، وهو واضح وطريق العمل فيه أنك تأخذ سهام أهل الرد من أصل مسألتهم، وهي أبدا تخرج من ستة، إذ ليس في الفروض مالا يخرج منها إلا الربع والثمن، وليسا لغير الزوجين، وليسا من أهل الرد، ثم تجعل عدد سهامهم أصل مسألتهم، كما صارت السهام في المسألة العائلة، هي المسألة التي تضرب فيها العدد الذي انكسرت عليه سهامه، وكذلك هنا إذا انكسرت على فريق منهم ضربته في عدد سهامهم، لأن ذلك صار أصل مسألتهم، ومن أمثلة المسألة، جدة، وأخ من أم، لكل واحد منهما السدس، أصلها اثنان، فتقسم المال عليهما، لكل واحد منهما نصف المال، فإن كانت الجدات ثلاثا فلهن السهم، لا ينقسم عليهن، فتضرب عددهن في أصل المسألة، وهي اثنان، تصير ستة، للأخ من الأم النصف ثلاثة، ولكل جدة سهم، وفي مثال الخرقي لو كن الأخوات من الأب أربعا، فإنك تضرب عددهن في أصل مسألتهم وهو خمسة، تصير عشرين، للأخت للأب والأم ثلاثة أخماسها اثنا عشر، وللأخت من الأم الخمس أربعة، وللأخوات للأب كذلك، لكل واحدة سهم، بنت وأربع بنات ابن، وثلاث جدات، أصلها أيضا من خمسة وتصح من ستين، إذ سهم الجدات لا ينقسم عليهن، وكذلك سهم

باب ميراث الجدات

بنات الابن، والرءوس متباينة، فإذا ضربت عدد أحدهما في الآخر كان اثني عشر، ثم إذا ضربت ذلك في خمسة بلغ ستين، والله سبحانه وتعالى أعلم. [باب ميراث الجدات] باب الجدات قال: وللجدة إذا لم تكن أم السدس. ش: ترث الجدة السدس بالإجماع. 2260 - وقد شهد له ما روى قبيصة بن ذؤيب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاءت الجدة إلى أبي بكر، فسألته عن ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله شيء، وما علمت لك في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئا، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاها السدس. فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال: مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر، قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب، فسألته ميراثها، فقال: ما لك في كتاب الله شيء، ولكن هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فهو بينكما، وأيكما خلت به فهو لها» . رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه الترمذي،

وتحجبها الأم من أية جهة كانت، كما اقتضاه كلام الخرقي، وهو إجماع أيضا. 2261 - لما روى بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جعل للجدة السدس إذا لم تكن دونها أم» ، رواه أو داود، والله أعلم. قال: وكذلك إن كثرن لم يزدن على السدس فرضا. ش: الجمع من الجدات لهن السدس كما للواحدة، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

2262 - وعن أبي بكر نحوه، فروى سعيد: ثنا سفيان وهشيم، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، قال: جاءت الجدتان إلى أبي بكر، فأعطى أم الأم الميراث دون أم الأب، فقال له: عبد الرحمن بن سهل بن حارثة - وكان شهد بدرا -: يا خليفة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطيت التي إن ماتت لم يرثها، ومنعت التي لو ماتت ورثها، فجعل أبو بكر السدس بينهما. مع أن هذا أيضا قد حكي إجماعا، وقول الخرقي: لم يزدن

على السدس فرضا. يحترز به مما تقدم له من الرد، فإنهن يأخذن في الرد زيادة على السدس، والله أعلم. قال: وإن كان بعضهن أقرب من بعض كان الميراث لأقربهن. ش: أما إن كانتا من جهة واحدة، - كما إذا كانت إحداهما أم الأخرى - فالإجماع على أن الميراث للقربى، وتسقط البعدى، وأما إن كانتا من جهتين، والقربى من جهة الأم، فبالاتفاق أيضا، - لكن عندنا - على أن الميراث لها دون البعدى، لأن الأقرب يحجب الأبعد، دليله الآباء والأبناء، أما إن كانت القربى من جهة الأب فهل تحجب البعدى من جهة الأم؟ فيه روايتان، (إحداهما) - وهو ظاهر كلام الخرقي، ونصره أبو محمد - تحجبها لما تقدم، (والثانية) - وبها قطع القاضي في جامعه، وصححها ابن عقيل في التذكرة، وهي المنصوصة عنه، حتى إن القاضي في الروايتين لم يذكر الرواية الأولى إلا عن الخرقي، ولم يستشهد لها بنص - لا تحجبها، لأن الأب الذي تدلى به الجدة، لا يحجب الجدة من قبل الأم، فالتي تدلي به أولى

أن لا تحجبها، وبهذا فارقت القربى من قبل الأم، فإنها تدلي بالأم، وهي تحجب جميع الجدات، ومثال ذلك أم أم، وأم أم الأب، المال للأولى بلا نزاع عندنا، أم أب، وأم أم أم، المال للأولى في قول الخرقي، ولهما على المنصوص، والله أعلم. قال: والجدة ترث وابنها حي. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي، وابن عقيل، وأبي محمد وغيرهم. 2263 - لما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: «أول جدة أطعمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السدس أم أب مع ابنها، وابنها حي» . رواه الترمذي. ولأن الجدات أمهات، يرثن ميراث الأم، لا ميراث الأب، فلا يحجبن به كأمهات الأم (والرواية الثانية) لا ترث مع حياته، بل يحجبها. 2264 - وهو قول زيد بن ثابت، لأنها تدلي به، فلا ترث معه، كأم الأم مع الأم، ومحل الخلاف إذا كان الابن أبا للميت

أو جده، أما لو كان عما للميت فإنه لا يحجبها رواية واحدة، بل قال ابن عقيل: بالإجماع. ومثال المسألة أم أب وأب، فعلى الأولى لها السدس والباقي له، وعلى الثانية الكل له، أم أب، وأم أم، وأب، فعلى الأولى السدس بينهما، وعلى الثانية السدس لأم الأم على الصحيح، وقيل: بل نصفه والباقي للأب، والله أعلم. قال: والجدات المتحاذيات أن تكون أم أم أم، وأم أم أب، وأم أبي أب، وإن كثرن فعلى ذلك. ش: لما تقدم له - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الجدات يرثن السدس وإن كثرن، وأن القربى تسقط البعدى، أراد أن يبين الجدات المتحاذيات، أي المتساويات في الدرجة، وإلا مع عدم التساوي ترث القربى دون البعدى، والجدات المتحاذيات كما ذكر الخرقي، لأن الجميع استووا في أن بينهن وبين الميت درجتين، ولا يتصور التحاذي في الثلاث إلا على ما ذكر،

فأما في الأربع فأم أم أم أم، وأم أم أم أب، وأم أم أبي أب، وأم أبي أبي أب. وقول الخرقي: وإن كثرن فعلى ذلك. يحتمل أن يريد أنه يرث أكثر من ثلاث جدات مع تحاذيهن، فعلى هذا يرث في الدرجة الخامسة خمس: أم أم أم أم أم وأم أم أم أم أب، وأم أم أم أبي أب، وأم أم أبي أبي أب، وأم أبي أبي أبي أب، وفي السادسة ست، وعلى هذا أبدا، ويحتمل هذا أيضا إطلاق الخرقي المتقدم في قوله: وكذلك إن كثرن لم يزدن على السدس. وأظنه رواية محكية، وذلك لأن الزائدة على الثلاث جدة أدلت بوارث، فوجب أن ترث كإحدى الثلاث، والمعروف والمشهور في قول أحمد ومذهبه أنه لا يرث أكثر من ثلاث جدات، وهن اللاتي ذكرهن الخرقي، أم الأم وإن علت درجتها، وأم الأب وإن علت درجتها، وأم الجد وأمهاتها، ولا ترث أم أب الأم بالإجماع، لإدلائها بغير وارث، ولا أم أبي الجد عندنا. 2265 - والأصل في حصر الإرث في الثلاث السابقات ما روي عن عبد الرحمن بن يزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أعطى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثلاث جدات السدس، ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم» ، رواه الدارقطني [هكذا] مرسلا،

والأصل عدم توريث ما زاد على ذلك، ما لم يقم عليه دليل. 2266 - وقد روى سعيد، عن إبراهيم، قال: كانوا يورثون من الجدات ثلاثا، ثنتين من قبل الأب، وواحدة من قبل الأم. والله أعلم. باب من يرث من الرجال والنساء قال: ويرث من الرجال عشرة: الابن، ثم ابن الابن، وإن سفل، والأب، والجد وإن علا، والأخ، وابن الأخ، والعم، ثم ابن العم، والزوج، ومولى النعمة، ومن النساء سبع، البنت، وبنت الابن، والأم، والجدة، والأخت، والزوجة ومولاة النعمة.

ش: هؤلاء مجمع على توريثهم، وقد شهد لغالبهم الكتاب والسنة، فالابن في قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] وابنه ولد، فيدخل في ذلك، والأب في قوله: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 11] والجد يدخل في ذلك أيضا، والأخ من الأم في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] والأخ للأبوين أو للأب في قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وابن الأخ، والعم، وابنه في قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فهو لأولى رجل ذكر» وشرط ابن الأخ والعم، وابنه أن لا يكونوا من الأم، لأنهم إذا ليسوا بعصبة، والزوج في قَوْله تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] ومولى النعمة في قوله - عليه

باب ميراث الجد

السلام -: «الولاء لمن أعتق» والبنت، وبنت الابن، والأم، والأخت، والزوجة ومولاة النعمة فيما تقدم من الكتاب والسنة، والجدة فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطعمها السدس. والله أعلم. [باب ميراث الجد] قال: ومذهب أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الجد قول زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ش: يعني في توريث الإخوة مع الجد، وفي كيفية توريثهم معه، أما الأول - وهو توريث الإخوة مع الجد - فهو المذهب المعروف، المشهور عند عامة الأصحاب. 2267 - وهو قول علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لأن توريث الإخوة ثبت بنص الكتاب، فلا يمنعون

إلا بنص، أو إجماع، أو قياس، ولم يرد شيء من ذلك، ولأن الأخوة والجدودة في درجة واحدة، إذ الجد أب الأب، والأخ ابنه، وقرابة البنوة لا تنقص عن قرابة الأبوة، بل تعصيب البنوة أقوى.

2268 - ولهذا مثله زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بواد خرج منه نهر، تفرق منه جدولان، كل واحد منهما إلى الآخر أقرب منه إلى الوادي، ونحو ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

وعن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواية أخرى، اختارها أبو حفص - أظنه البرمكي - أن الجد يسقط الإخوة كما يسقطهم الأب. 2269 - وهو مذهب أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 2270 - ويروى عن ثلاثة عشر صحابيا، منهم عثمان، وعائشة، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس، ولأنه والد، بدليل

قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 38] . 2271 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا» والوالد لا ترث الإخوة معه شيئا، قال الله تعالى:

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] والكلالة من لا ولد له ولا والد. 2272 - ولهذا قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ألا يتقي الله زيد، يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أبا الأب أبا. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر» والجد أولى من الأخ، لأن له إيلادا، ولو ازدحمت الفروض سقط الأخ دونه، ولأنه كالأب في أنه لا يقتل بابن ابنه، ولا يحد بقذفه، ولا يقطع بسرقة ماله، وتجب عليه نفقته، ويمنع من دفع زكاته إليه، فكذلك هنا، ثم نقول: لا شك أن أمر الجد قد اشتبه على أكابر الصحابة. 2273 - وقد روى الإمام أحمد عن الحسن، «أن عمر سأل عن فريضة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجد، فقام معقل بن يسار المزني فقال: قضى فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال ماذا؟ قال: السدس.

قال: مع من؟ قال: لا أدري. قال: لا دريت، قال: فما تغني إذا» ، وإذا اشتبه الأمر كان المرجع إلى أكثر الصحابة وأقدمهم وأعلمهم أولى. ولا تفريع على هذا القول، أما على الأول فاختلفوا في كيفية توريثهم معه، ومذهبنا في ذلك بلا نزاع مذهب زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، كما يذكره الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 2274 - وإنما اعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك على قول زيد، لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤها لكتاب الله عز وجل أبي، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» رواه أحمد والنسائي، والترمذي وصححه، وابن ماجه، والحاكم، وقال: إنه على شرط الشيخين، وقال كثير من أهل العلم بالحديث: إن الصحيح أنه مرسل عن أبي قلابة،

عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كذا قال الدارقطني، والخطيب، وقال ابن عبد البر: إن أكثر الرواة على هذا. واتفق الكل أن المسند منه «لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» وكذلك أخرجه الشيخان، دون بقية الحديث. 2275 - وقد روي هذا الحديث من رواية جابر، أخرجه الطبراني، ومن رواية أبي سعيد الخدري، رواه قاسم بن أصبغ، ومن رواية ابن عمر، أخرجه أبو يعلى الموصلي، لكن في أسانيدها كلام، وأقربها، وأحسنها حديث أنس، وبها وإن كان مرسلا يتقوى، ويصير حجة عند العامة، والله أعلم.

قال: وإذا كان إخوة، وأخوات، وجد، قاسمهم الجد بمنزلة أخ، حتى يكون الثلث خيرا له، فإذا كان الثلث خيرا له، أعطي ثلث جميع المال. ش: الكلام في الإخوة والأخوات للأبوين أو للأب، أما للأم فإن الجد يسقطهم بلا نزاع، فإذا كان إخوة، وأخوات، وجد، ولم يكن في المسألة ذو فرض، فإن للجد الأحظ من شيئين، المقاسمة كأخ، أو ثلث جميع المال، فمع أخ، أو أختين المقاسمة أحظ له، ومع ثلاثة إخوة أو ست أخوات، الثلث أحظ له، ومع أخوين، أو أربع أخوات يستوي الأمران، والله أعلم. قال: وإذا كان مع الجد والإخوة والأخوات أصحاب فرائض، أعطي أصحاب الفرائض فرائضهم، ثم ينظر فيما

بقي، فإن كانت المقاسمة خيرا للجد من ثلث ما بقي، ومن سدس جميع المال، أعطي المقاسمة، وإن كان ثلث ما بقي خيرا له من المقاسمة، ومن سدس جميع المال أعطي ثلث ما بقي وإن كان سدس جميع المال أحظ له من المقاسمة، ومن ثلث ما بقي أعطي سدس جميع المال. ش: إذا كان مع الجد والإخوة ذو فرض، فللجد بعد أخذ ذي الفرض فرضه الأحظ من ثلاثة أشياء. (المقاسمة) كأخ، كما لو لم يكن ذو فرض، (أو ثلث ما بقي) كما مع عدم ذي الفرض، إذ ما أخذ بالفرض كأنه ذهب من المال، فثلث الباقي بمنزلة ثلث جميع المال، (أو سدس جميع المال) لأن غاية الإخوة أن يكونوا بمنزلة الولد، وهو لا ينقص عن السدس مع الولد، فعلى هذا متى زادت الفروض عن النصف، فلا حظ له في ثلث الباقي، وإن نقصت عن النصف فلا حظ له في سدس جميع المال، ثم تارة تكون المقاسمة خيرا له، كما إذا اجتمع والحال هذه مع أخ، وتارة يكون ثلث الباقي خيرا له، كما إذا كانت الإخوة ثلاثة، والله أعلم. قال: ولا ينقص الجد أبدا عن سدس جميع المال أو تسميته إذا زادت السهام.

ش: قد تقدمت الإشارة إلى أن الجد لا ينقص عن السدس، لأنه لا ينقص عن السدس مع البنين، فمع الإخوة أولى. 2276 - وعن عمران بن حصين أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «إن ابن ابني مات، فما لي من ميراثه؟ قال: «لك السدس» فلما أدبر دعاه فقال: «لك سدس آخر» فلما أدبر دعاه فقال: «إن السدس الآخر طعمة» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وصححه. وقوله: أو تسميته إذا زادت السهام. يعني إذا كانت المسألة عائلة، فإنه يسمى له السدس، وإن نقص عن سدس جميع المال، مثاله زوج، وأم وابنتان، وجد، للزوج الربع، وللأم السدس، وللابنتين الثلثان، وللجد السدس،

أصل المسألة من اثني عشر، وتعول إلى خمسة عشر، للجد منها [السدس] سهمان، وهما ثلثا الخمس، وهما أربعة أخماس ما [كان] يحصل له، إذ الخمسة عشر إذا قسمت على الاثني عشر، خص كل سهم واحد وربع، فالسهمان من الاثني عشر، سهمان ونصف من الخمسة عشر، وقد حصل له منها سهمان، فنقص عليه الخمس. قال - وإذا كان أخ لأب وأم، وأخ لأب، وجد، قاسم الجد الأخ للأب والأم، والأخ للأب على ثلاثة أسهم، ثم رجع الأخ للأب والأم على ما في يد أخيه لأبيه فأخذه. ش: هذه قاعدة في الجد، وهو أنه إذا اجتمع معه ولد أبوين، وولد أب، فإن ولد الأبوين يعادون الجد بولد الأب، ثم ما حصل لولد الأب أخذه منهم ولد الأبوين، ففي الصورة التي ذكرها الخرقي تستوي للجد المقاسمة وثلث جميع المال، فيكون المال بينهم على ثلاثة أسهم، للجد سهم، ولكل أخ سهم، ثم يرجع الأخ للأبوين على الأخ للأب، فيأخذ ما في يده، إذ لا ميراث لولد الأب مع ولد الأبوين.

قال: وإذا كان أخ وأخت لأب وأم أو لأب، وجد، كان المال بين الجد والأخ والأخت على خمسة أسهم، للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأخت سهم. ش: المقاسمة هنا أحظ للجد من الثلث فتتعين. قال: وإذا كانت أخت لأب وأم، وأخت لأب، وجد، كانت الفريضة بين الجد والأختين على أربعة أسهم للجد سهمان، ولكل أخت سهم، ثم رجعت الأخت للأب والأم على أختها لأبيها فأخذت ما في يدها لتستكمل النصف. ش: قد تقدم أصل هذا، وأن المقاسمة إذا كانت أحظ للجد أخذها، وأن ولد الأبوين يعادون الجد بولد الأب، ثم يأخذون منهم ما حصل لهم، فتأخذ الأخت للأبوين ما في يد الأخت من الأب ليكمل لها النصف، لأن الأخت للأب لا تأخذ شيئا إلا إذا أخذت الأخت للأبوين النصف. قال: فإن كان مع التي من قبل الأب أخوها، كان المال بين الجد والأخ والأختين على ستة أسهم، للجد سهمان، وللأخ سهمان، ولكل أخت سهم، ثم رجعت الأخت من الأب والأم، على الأخ والأخت من الأب، فأخذت مما في

أيديهما، لتستكمل النصف، فتصح الفريضة من ثمانية عشر سهما، للجد ستة أسهم، وللأخت للأب والأم تسعة أسهم، وللأخ سهمان، وللأخت سهم. ش: المقاسمة والثلث هنا سيان، فيكون كما ذكره الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى، ثم تأخذ الأخت تمام النصف، وهذه القاعدة فيها، وهو أن ولد الأبوين يأخذ ما في يد ولد الأب، إلا أن يكون ولد الأبوين أختا [واحدة] ، فتأخذ تمام النصف، وما فضل يكون لولد الأب، ففي هذه المسألة الفاضل عن النصف سهم، بين الأخ وأخته على ثلاثة، فتضرب ثلاثة في أصل المسألة وهو ستة، تبلغ ثمانية عشر، ثم يكون كما ذكر الخرقي، والله أعلم. قال: وإذا كان زوج، وأم، وأخت، وجد، فللزوج النصف، وللأم الثلث، وللأخت النصف، وللجد السدس، ثم يقسم نصف الأخت، وسدس الجد، بينهما على ثلاثة أسهم، للجد سهمان، وللأخت سهم، فتصح الفريضة من سبعة وعشرين سهما، للزوج تسعة أسهم، وللأم ستة، وللجد ثمانية، وللأخت أربعة.

ش: هذا مذهب زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقيل: إنه لم يصرح بذلك، وإنما أصحابه قاسوها على أصوله، وأصل هذه المسألة من ستة، وتعول إلى تسعة، ثم يقسم نصف الأخت، وسدس الجد بينهما، وذلك أربعة على ثلاثة، لا تصح ولا توافق، فتضرب ثلاثة في تسعة، تصير سبعة وعشرين، ثم كل من له شيء مضروب في ثلاثة، فللزوج ثلاثة في ثلاثة بتسعة، وللأم اثنان في ثلاثة بستة، وللجد والأخت أربعة في ثلاثة باثني عشر، مقسومة بينهما، للذكر مثل حظ الأنثيين فللجد ثمانية، وللأخت أربعة.

قال: وتسمى هذه الأكدرية، ولا يفرض للجد مع الأخوات إلا في هذه المسألة. ش: قيل: سميت بذلك لأنها كدرت على زيد أصوله، فإنه أعالها، ولا عول عنده في مسائل الجد مع الإخوة، وفرض للأخت معه، ولا يفرض للأخت في غير هذه الصورة، وجمع سهامه وسهامها فقسمهما بينهما، ولا نظير لذلك. 2277 - وقيل: سميت بذلك لأن عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلا اسمه أكدر، فأفتى فيها على مذهب زيد وأخطأ فيها، فنسبت إليه، وإنما فرض للأخت مع الجد، وأعيلت المسألة لأنه لو لم يفرض لها لسقطت، وليس في الفريضة من يسقطها، وهذا كله على المذهب المعروف، ولنا قويل آخر أنها تسقط، ويكون الباقي بعد نصف الزوج، وثلث الأم، وهو السدس للجد بالفرض، كسائر المسائل التي لا يفضل فيها إلا السدس، وإنما ضم نصفها إلى سدسه، وقسم بينهما، لأنها لا تستحق معه إلا بحكم المقاسمة، والله أعلم.

قال: وإذا كانت أم، وأخت، وجد، فللأم الثلث، وما بقي بين الجد والأخت على ثلاثة أسهم، للجد سهمان، وللأخت سهم. ش: الباقي بعد الثلث سهمان، بين الجد، والأخت على ثلاثة، فتضرب ثلاثة في ثلاثة، تصح من تسعة، للأم ثلاثة أسهم، وللجد أربعة، وللأخت سهمان، وتسمى هذه المسألة الخرقاء، لكثرة اختلاف الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فيها، كأن الأقوال خرقتها، قيل: اختلف الصحابة فيها على سبعة أقوال، ولهذا أيضا سميت المسبعة، وتسمى المسدسة، لأن معنى السبعة ترجع إلى ستة. 2278 - وسأل الحجاج الشعبي عنها، فقال: اختلف فيها خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذكر له عثمان، وعليا، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس.

قال: وإذا كانت بنت، وأخت، وجد، فللبنت النصف، وما بقي فبين الجد والأخت على ثلاثة أسهم، للجد سهمان، وللأخت سهم. ش: المقاسمة هنا أحظ للجد من ثلث الباقي ومن سدس جميع المال، فيأخذها، وأصل المسألة من اثنين، للبنت

باب ميراث ذوي الأرحام

سهم، ويبقى سهم على ثلاثة، لا تصح، فتضرب ثلاثة في اثنين، تصير ستة، للبنت نصفها ثلاثة، وللجد سهمان، وللأخت سهم. [باب ميراث ذوي الأرحام] ذوو الأرحام في أصل الوضع الشرعي واللغوي كل من انتسب إلى الميت بقرابة، سواء كانت القرابة من قبل الأب أو من قبل الأم. 2279 - ولهذا كان أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يستدل على ميراث العصبة بقوله سبحانه: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] ولا نزاع أن الآية الكريمة تتناول العصبة وأصحاب الفروض، وإنما النزاع في تناولها للرد، ولذوي الأرحام، وكذلك قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] تتناول كل

قريب، ولهذا قال إمامنا وأصحابنا وغيرهم: إذا أوصى لذوي رحمه، أو وقف عليهم، تناول كل قرابة له، من جهة الأب والأم. وذوو الأرحام في العرف الاصطلاحي هنا: كل قرابة ليس بذي فرض ولا عصبة، لأن الوارث لما كانوا ثلاثة أقسام، (منهم) من له شيء مقدر، فسمي صاحب فرض، لأن الفرض في اللغة التقدير، (ومنهم) من يأخذ المال إذا انفرد، ويأخذ ما بقي مع ذي الفرض، وهو العصبة، ولما اختص هذان القسمان الشريفان باسمين، بقي (القسم الثالث) وهو أدنى الأقسام، وهو من لا فرض له ولا تعصيب، فخص بالاسم العام، طلبا للتمييز بين الأقسام، وهذا كما أن الحيوان يشمل الناطق والبهيم، [فلما امتاز الناطق باسمه الخاص وهو الإنسان، اختص الاسم العام وهو الحيوان بأدنى نوعيه، وهو البهيم] . وإذا تقرر أن ذوي الأرحام في الاصطلاح الطارئ اسم لمن يرث بلا فرض ولا تعصيب، فهم أحد عشر صنفا، ولد البنات، وولد الأخوات، وبنات الإخوة، وبنات الأعمام، وبنو الإخوة من الأم، والعم من الأم، والعمات، والأخوال، والخالات، وأبو الأم، وكل

جدة أدلت بأب بين أمين، أو بأب أعلى من الجد. والله أعلم. قال: ويورث ذوو الأرحام. ش: هذا المذهب المعروف، المشهور في نص أحمد، وقول أصحابه، وهو مذهب جمهور الصحابة، لقول الله سبحانه: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] هؤلاء من أولي الأرحام، فيكونون أولى بنص الكتاب. 2280 - وفي الدارقطني [عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -] «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخى بين أصحابه، فكانوا يتوارثون، [حتى نزلت: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ} [الأنفال: 75] فكانوا يتوارثون] بالنسب.» 2281 - وعن المقدام بن معد يكرب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ترك مالا فلورثته، وأنا وارث من لا وارث له، أعقل عنه وأرثه، والخال وارث من لا وارث له، يعقل عنه ويرثه» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وحسنه أبو زرعة.

2282 - «وعن أبي أمامة بن سهل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رجلا رمى رجلا بسهم فقتله، وليس له وارث إلا خال، فكتب في ذلك أبو عبيدة بن الجراح، إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب إليه عمر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الله ورسوله مولى من لا مولى له،

والخال وارث من لا وارث له» رواه أحمد، وابن ماجه، وللترمذي منه المرفوع وحسنه. 2283 - وعن بريدة قال: «مات رجل من خزاعة، فأتي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بميراثه، فقال: «التمسوا له وارثا، أو ذا رحم» فلم يجدوا له وارثا، ولا ذا رحم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعطوه الكبر من خزاعة» رواه أبو داود.

2284 - وعن زيد بن أسلم، عن عطاء، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب إلى قباء، يستخير الله في العمة والخالة، فأنزل الله عليه: لا ميراث لهما، ولكن يرثان للرحم» . رواه أبو داود هكذا مرسلا، ولأن ذا الرحم امتاز على سائر المسلمين بالقرابة التي بينه وبين الميت، فكان أولى بماله كالعصبة.

وما يقال - من أن المراد: أن من ليس له إلا خال فلا وارث له، كما يقال: الجوع زاد من لا زاد له. والجوع ليس بزاد، كذلك الخال - مردود بأن في الحديث يرثه ويعقل عنه وبأن الصحابة رووا الحديث، وفهموا منه إثبات الإرث، وفهمهم موافق للحديث، فهو حجة بلا ريب، وقوله في الحديث وارث من لا وارث له أي من لا وارث له معروف، وهم أصحاب الفروض والعصبة، ويؤيد هذا الحديث المرسل لا ميراث لهما يعني مقدرا، ولكن يورثون للرحم. وعن أحمد رواية أخرى: لا يرثون مع بيت المال، بل يقدم بيت المال عليهم، بناء على أنه عاصب، وقد تقدم نصه على ذلك في الوصية بجميع المال، وأنه تبع في ذلك زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

2285 - واستدل بعضهم لها بما روى عطاء بن يسار، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركب إلى قباء يستخير الله في العمة والخالة، فأنزل الله عليه أن لا ميراث لهما» ، رواه سعيد بن منصور في سننه، وهو مردود بالزيادة التي رواها أبو داود، والله أعلم. قال: فيجعل من لم تسم له فريضة بمنزلة من سميت له ممن هو نحوه، فيجعل الخال بمنزلة الأم، والعمة بمنزلة الأب، وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه جعلها بمنزلة العم، وبنت الأخ بمنزلة الأخ، وكل ذي رحم لم تسم له فريضة فهو على هذا النحو. ش: لما ذكر – - رَحِمَهُ اللَّهُ - – أن ذوي الأرحام يرثون أراد أن يبين كيفية توريثهم، وأشار أولا إلى تعريفهم وبيانهم فقال: إنهم من لم تسم له فريضة. وفيه قصور، لأن ذوي الأرحام

- كما تقدم - من لا فريضة له ولا تعصيب، ثم بين كيفية توريثهم، بأنهم يرثون بالتنزيل، وهو المذهب المشهور المعروف، حتى إن عامة الأصحاب لم يحكوا فيه خلافا. 2286 - وروي نحو ذلك عن عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وناهيك بهم، وذلك لأنهم إنما ورثوا فرعا على غيرهم، فوجب إلحاقهم بذلك الغير. وحكى الشيرازي والسامري رواية أنهم يرثون بالقرب، وهذا مذهب الحنفية، فعلى هذا أولاهم من كان من ولد

الميت، وإن سفلوا ثم ولد أبويه أو أحدهما، وإن سفلوا، ثم ولد أبوي أبويه وإن سفلوا كذلك أبدا، لا يرث بنو أب أعلى وهناك بنو أب أقرب منهم، وإن نزلت درجتهم. ولا تفريع على هذا القول عندنا، إنما التفريع على الأول، وبيانه كما ذكر الخرقي: أن يجعل من لم تسم له فريضة على منزلة من سميت له ممن هو نحوه. فقوله: على منزلة. أي بمنزلة، أو استقر وعلا على منزلة من سميت له الفريضة، وقوله: ممن هو نحوه. «من» لبيان الجنس، أي بيان من سميت له فريضة، و «من» موصول، راجع إلى المسمى له فريضة، وهو راجع إلى من لم تسم له فريضة، والنحو الجهة أي تجعل الذي لم تسم له فريضة بمنزلة الذي سميت له فريضة، أي فريضة قال: من الذي لم تسم له جهته والضمير في جهته راجع إلى الموصول الراجع إلى من سميت له فريضة، وإيضاح ذلك فقال: فتجعل الخالة بمنزلة الأم، والعمة - أي مطلقا، سواء كانت لأبوين، أو لأب أو لأم - بمنزلة الأب. 2287 - وقد روي هذا عن عمر، وعلي، وعبد الله في العمة، ونحوه عنهم في الخال، وهذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار القاضي في التعليق، وأبي محمد وغيرهما.

2288 - لما روى الزهري أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «العمة بمنزلة الأب، إذا لم يكن بينهما أب، والخالة بمنزلة الأم، إذا لم تكن بينهما أم» ولأن الأب أقوى جهات العمة، فوجب تنزيلها منزلته، كبنت الأخ، وبنت العم تنزلان منزلة أبويهما، لا أخويهما (وعن أحمد) رواية أخرى أن العمة بمنزلة العم، لأنه أخوها، فنزلت منزلته. 2289 - وهو إحدى الروايتين عن علي، واختيار أبي بكر عبد العزيز، قال القاضي في تعليقه - بعد أن حكى الرواية

مطلقة -: وينبغي أن تكون بمنزلة العم من الأبوين، لأنا لو نزلناها منزلة العم من الأب سقطت مع بنت العم من الأبوين، ولو نزلت منزلة العم من الأم نزلت بغير وارث، وتبعه على ذلك أبو الخطاب، وأبو البركات وغيرهما، (وعنه) رواية ثالثة أن العمة لأبوين أو لأب كالجد، لأنه أبوهما، والفرع يتبع أصله، قال أبو البركات: فعلى هذه العمة لأم، والعم لأم كالجدة أمهما. واعلم أن الرواية - والله أعلم - إنما وردت في العمة، كما ذكر الخرقي، كذا حكاها القاضي وغيره، وكذلك خص أبو محمد الخلاف بها في الكافي، وقطع في العم للأم أنه كالأب، وكذلك الشيرازي، لكنه قطع في العم للأم أنه كالعم، وحكى أبو البركات الخلاف فيهما. انتهى.

وتنزل بنت الأخ بمنزلة أبيها وهو الأخ، وعلى هذا كل من كان من ذوي الأرحام، ينزل منزلة من يدلي به، وهو معنى قول الخرقي: وكل ذي رحم لم تسم له فريضة، فهو على هذا النحو. أي المثل، مثال ذلك بنت بنت، وبنت بنت ابن، بنت البنت بمنزلة البنت، وبنت بنت الابن بمنزلة بنت الابن، فيكون المال بينهما على أربعة بالفرض والرد، كأصلهما، فلو كان معهما بنت أخ كانت بمنزلة أبيها، فالباقي لها، والمسألة من ستة، فلو كان معهم خالة فهي بمنزلة الأم، فيكون لها السدس، ولبنت البنت النصف، ولبنت بنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي - وهو السدس - لبنت الأخ، فإن كان مكان الخالة عمة فمن نزلها منزلة الأب أسقط بها بنت الأخ، كما يسقط الأخ بالأب، ومن نزلها منزلة العم أسقطها، كما يسقط العم بالأب، ومن نزلها جدا، قاسم الباقي بينها وبين بنت الأخ، كما يقاسم بين الأخ في هذه المسألة. قال: وإذا كان وارث غير الزوج والزوجة ممن قد سميت له فريضة، أو مولى نعمة، فهو أحق بالمال من ذوي الأرحام.

ش: لما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن ذوي الأرحام يرثون، أراد أن يبين شرط توريثهم فقال: شرط توريثهم أن لا يكون معهم وارث سميت له فريضة، أو مولى نعمة وأراد أن يبين بهذا أن الرد والولاء يقدمان بالميراث على الرحم، ولا نزاع عندنا - فيما أعلم - أن الرد يقدم على ذي الرحم، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخال وارث من لا وارث له» وهذا له وارث. 2290 - قال ابن مسعود: ذو السهم أولى ممن لا سهم له. ولأن الرحم التي في ذي الفرض أولى من الرحم التي لا فرض لها، أما الولاء فالمعمول عليه عندنا أيضا أنه يقدم على الرحم للحديث. 2291 - وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» (وعنه) : تقدم الرحم عليه، لانتفاء الرحم فيه.

واستثنى الخرقي من أصحاب الفرائض الزوج والزوجة، فإن ذوي الأرحام يرثون معهما، لما تقدم من أنه لا حظ للزوجين في الرد، ولا نزاع أن الزوجين يأخذان فرضهما من غير حجب ولا عول، ثم يقسم الباقي بين ذوي الأرحام كما لو انفردوا، نص عليه، وعليه جمهور الأصحاب،

وقيل: يقسم بينهم كما يقسم بين من أدلوا به، وهو الذي جزم به القاضي في التعليق، فعلى هذا لو خلف زوجا، وبنت بنت، وبنت أخ، فللزوج النصف، والباقي بينهما نصفين على المنصوص، وتصح من أربعة، وعلى الثاني: الباقي بينهما بعد النصف على ثلاثة أسهم. كما يقسم بين من أدلوا به، إذ الزوج يرث مع البنت الربع، ويبقى الباقي بينهما - وهو النصف والربع - على ثلاثة، فلما أخذ الزوج هنا النصف، كان الباقي بينهما على ثلاثة، وتصح من ستة، للزوج ثلاثة، ولبنت البنت سهمان، ولبنت الأخ سهم، ولو كان مكان الزوج زوجة، فعلى الأول تصح من ثمانية، للزوجة الربع اثنان، ولكل واحد منهما ثلاثة، وعلى الثاني تصح من ثمانية وعشرين، للزوجة الربع سبعة، والباقي بينهما على سبعة، لبنت البنت أربعة أسباع باثني عشر، ولبنت الأخ ثلاثة أسباع بتسعة. والله أعلم. قال: ويورث الذكور والإناث من ذوي الأرحام بالسوية، إذا كان أبوهم واحدا، وأمهم واحدة، إلا الخال والخالة، فإن للخال الثلثين، وللخالة الثلث. ش: ضابط هذا إذا أدلى جماعة بوارث واحد واستوت منازلهم منه، وهو الذي احترز عنه الخرقي بقوله: إذا كان

أبوهم واحدا وأمهم واحدة، فنصيبه بينهم بالسوية ذكرهم وأنثاهم، على المشهور من الروايات، والمختار لجمهور الأصحاب، قال أبو الخطاب: عليها عامة شيوخنا. لأنهم يرثون بالرحم المجردة، فاستوى ذكرهم وأنثاهم [كولد الأم] (والرواية الثانية) للذكر مثل حظ الأنثيين، إلا ولد ولد الأم، لأنهم فرع على ذوي الفروض والعصبات، فثبت فيهم حكمهم، وخرج ولد ولد الأم، لأنهم فرع على من ذكره وأنثاه سواء، فغايته أن يثبت للفرع ما للأصل، (والرواية الثالثة) يسوى بينهم إلا الخال والخالة، وهو اختيار الخرقي، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وقال: استحسانا. يعني أن مقتضى الدليل التسوية، خرج منه الخال والخالة على سبيل الاستحسان، ولم يذكر دليله، لكن إن كان لهذا أصل فيعكر على تنزيل الخال بمنزلة الأم. 2292 - وذكر بعضهم أنه روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الخال والد إذا لم يكن دونه أم، والخالة أم إن لم يكن دونها أم»

وقد أشار أبو محمد إلى ضعف هذا القول، وقال: لا أعلم له وجها. قال القاضي: لم أجد هذا بعينه عن أحمد. ومثال المسألة ابن أخت مع أخته، أو ابن بنت مع أخته، المال بينهما نصفين على الأول، وأثلاثا على الثاني. واحترز بقوله: إذا كان أبوهم واحدا، وأمهم واحدة. عما لو اختلف أبوهم وأمهم، كابن بنت، وبنت بنت أخرى، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، واحترزنا بقولنا: ولم يتفاضلوا بالسبق. عما لو خلف بنت بنت، وبنت بنت بنت، فإن المال لبنت البنت، ولهذه المسألة مزيد تحقيق، ليس هذا موضعه، والله أعلم. قال: وإذا كان ابن أخت، وبنت أخت أخرى، أعطي ابن الأخت حق أمه النصف، وبنت الأخت حق أمها النصف.

ش: هذا الذي احترز عنه الخرقي فيما تقدم بقوله: إذا كان أبوهم واحدا وأمهم واحدة. وهذا هو القاعدة، وهو أن الجماعة إذا أدلوا بجماعة، جعلت كل واحد منهم بمنزلة أقرب وارث إليه أدلى به، في إرثه، وحجبه، والحجب به، ففي مسألتنا ابن الأخت يدلي بأمه، وبنت الأخت الأخرى تدلي بأمها، فيكون المال بينهما نصفين كأميهما بغير خلاف. . قال: وإذا كان ابن وبنت أخت، وبنت أخت أخرى، فللابن وابنة الأخت النصف بينهما نصفين، ولبنت الأخت الأخرى النصف. ش: هذا أيضا مما تقدم، فللابن وأخته النصف، حق أمهما، بينهما نصفين، على مختاره ومختار الجمهور، وعلى الرواية الأخرى: يكون بينهما على ثلاثة، ولبنت الأخت الأخرى النصف حق أمها وتصح المسألة من أربعة على رأي الجمهور، وعلى الرواية الأخرى من ستة، والله أعلم. قال: وإذا كن ثلاث بنات أخوات متفرقات، كان لبنت الأخت من الأب والأم ثلاثة أخماس المال، ولبنت الأخت من الأم الخمس، ولبنت الأخت من الأب الخمس، جعلن مكان أمهاتهن.

ش: هذا أيضا مما تقدم، وقد صرح الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنهن جعلن مكان أمهاتهن، فبنت الأخت من الأبوين مكان أمها فلها النصف، وبنت الأخت من الأب مكان أمها، لها السدس تكملة الثلثين، وبنت الأخت من الأم مكان أمها، لها السدس، فأصل المسألة من ستة، وترجع بالرد إلى خمسة فيقسم المال بينهم على ذلك، والله أعلم. قال: وكذلك إن كن ثلاث عمات متفرقات. ش: هذا مبني على قاعدة، وهو أن الجماعة إذا أدلوا بواحد، واختلفت منازلهم منه، فإن نصيبه يقسم بينهم، على حسب ميراثهم منه لو ورثوه، ففي مسألتنا العمات يدلين بالأب على المذهب، ومنازلهم منه مختلفة، فإحداهن أخته لأبويه، والأخرى لأبيه، والأخرى لأمه، فتقسم نصيبه بينهن على حسب ميراثهن منه، وميراثهن منه لأخته لأبيه وأمه النصف، ولأخته لأبيه السدس تكملة الثلثين، ولأخته لأمه السدس، فتقسم نصيبه بينهن على خمسة، ونصيبه والحال هذه جميع المال، إذ لا وارث له معنا غيرهن، والله أعلم. قال: فإن كن ثلاث بنات إخوة متفرقين، فلبنت الأخ من الأم السدس، وما بقي فلبنت الأخ من الأب والأم.

ش: هذا أيضا مبني على ما تقدم قبل، ولو ذكره - رَحِمَهُ اللَّهُ - قبل مسألة العمات لكان أولى، إذ بنات الإخوة ينزلن منزلة الإخوة، ولو مات رجل وخلف ثلاثة إخوة متفرقين، سقط الأخ من الأب بالأخ من الأبوين، وكان للأخ من الأم السدس، والباقي للأخ من الأبوين، فكذلك هنا، لبنت الأخ من الأم السدس، والباقي لبنت الأخ من الأبوين، والله أعلم. قال: وإذا كن ثلاث بنات عمومة متفرقين، فالمال لبنت العم من الأب والأم، لأنهن أقمن مقام آبائهن. ش: هذا أيضا مبني على ما تقدم، وقد نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك، وقد علله الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنهن أقمن مقام آبائهن، فبنت العم من الأبوين بمنزلة أبيها، وبنت العم من الأب بمنزلة أبيها، وبنت العم من الأم بمنزلة أبيها، ولو مات شخص وخلف ثلاثة أعمام، متفرقين، كان الميراث للعم للأبوين، إذ لا ميراث للعم للأب مع العم للأبوين، والعم للأم من ذوي الأرحام.

واعلم أن المنصوص وكلام الخرقي في هذه المسألة يلتفت إلى أن العمومة ليست جهة، وبيانه أنا إذا لم نجعلها جهة فالعمومة من جهة الأبوة، والقاعدة أن الوارث من ذوي الأرحام إذا اجتمعوا من جهة واحدة، فمن سبق إلى الوارث ورث وأسقط غيره، وبنت العم للأبوين، وبنت العم للأب قد سبقتا بنت العم للأم إلى الوارث، فتسقط بهما، ثم بنت العم للأب تسقط ببنت العم للأبوين، وأثبت أبو الخطاب العمومة جهة، فلزم على قوله أن المال يكون لبنت العم من الأم إذا نزلناها أبا، على المشهور، وبيانه أن ذوي الأرحام إذا اجتمعوا من جهتين، فإنك تنزل البعيد حتى يلحق بمن جعل بمنزلته، وإن سقط به القريب، ففي صورتنا إذا جعلنا العمومة جهة، فبنت العم من الأبوين بمنزلة أبيها، وكذلك بنت العم للأب، وجهتهما واحدة، وبنت العم للأم بمنزلة الأب، فكأن الميت مات وخلف أباه

وعمه، ولا عبرة بالسبق إلى الوارث لاختلاف الجهة، وإذا خلف الميت أباه وعمه، كان المال للأب دون العم، فلزم أن المال لبنت العم من الأم، لتنزيلها أبا، دون بنت الأبوين، لتنزيلها عما، وقد بعد هذا القول، والله أعلم. قال: فإن كن ثلاث خالات متفرقات، وثلاث عمات متفرقات، فالثلث بين الثلاث خالات على خمسة أسهم، والثلثان بين العمات على خمسة أسهم، فتصح من خمسة عشر سهما، للخالة التي من قبل الأب والأم ثلاثة أسهم، وللخالة التي من قبل الأب سهم، وللخالة التي من قبل الأم سهم، وللعمة التي من قبل الأب والأم ستة أسهم، وللعمة التي من قبل الأب سهمان، وللعمة التي من قبل الأم سهمان. ش: إنما كان كذلك لأن الخالات بمنزلة الأم، والعمات بمنزلة الأب، ولو خلف الشخص أباه وأمه، كان لأمه الثلث، والباقي لأبيه، ثم القاعدة أن الجماعة إذا أدلوا

بواحد، فنصيبه بينهم على حسب ميراثهم منه، والخالات يدلين بالأم، فنصيبها بينهن على حسب ميراثهن منها، وميراثهن منها أن لأختها لأبويها النصف، ولأختها لأبيها السدس تكملة الثلثين، ولأختها لأمها السدس، أصل مسألتهن من ستة، وترجع بالرد إلى خمسة، فتقسم الثلث بينهم على خمسة، والقول في العمات كالقول في الخالات سواء، وإذا أردت تصحح المسألة قلت: أصل المسألة من ثلاثة، للأم الثلث واحد على خمسة، لا يصح ولا يوافق، وللأب الثلثان اثنان على خمسة، لا يصح أيضا ولا يوافق، والأعداد متماثلة، إذ هي خمسة وخمسة، فتجتزئ بأحد العددين، وتضربه في أصل المسألة يصير المجموع خمسة عشر، للخالات الثلاث خمسة أسهم، بينهن على خمسة، للتي من قبل الأبوين ثلاثة، وللتي من قبل الأب سهم، وللتي من قبل الأم سهم، وللعمات الثلثان، عشرة أسهم على خمسة، للتي من قبل الأبوين ستة، وللتي من قبل الأب سهمان، وللتي من قبل الأم سهمان، والله أعلم.

باب مسائل شتى في الفرائض

[باب مسائل شتى في الفرائض] [ميراث الخنثى] ش: يعني متفرقة، لأنه جمع في هذا الباب مسائل مختلفة، قال الله تعالى: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] أي مفترقين وقال تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] أي مختلفا. قال: والخنثى المشكل يرث نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى. ش: الخنثى: الذي له ذكر وفرج امرأة، ثم إن لم يتبين هل هو رجل أو امرأة، وأشكل علينا فهو مشكل، يرث نصف ميراث ذكر، ونصف ميراث أنثى، إعمالا لحالتيه، وحذارا من ترجيح إحداهما بلا مرجح، وصار هذا كما لو ادعي نفسان دارا بأيديهما، ولا بينة لهما، فإنها تقسم بينهما، كذلك هنا.

2293 - وأيضا فإن هذا قول ابن عباس، ولا يعرف له مخالف في الصحابة، وطريق العمل في ذلك أن تعمل المسألة على أنه ذكر، ثم على أنه أنثى، ثم تضرب إحداهما في الأخرى إن تباينتا، أو وفقها إن توافقتا، وتجتزئ بإحداهما إن تماثلتا، ثم كل من له شيء من إحدى المسألتين مضروب في الأخرى أو في وفقها، أو يجمع ما له منهما إن تماثلتا، فتقول في رجل خلف ابنا، وبنتا، وولدا خنثى، مسألة الذكورية من خمسة، ومسألة الأنوثية من أربعة، وهما متباينتان،

فتضرب إحداهما في الأخرى، تبلغ عشرين، ثم تضربها في اثنين، تبلغ أربعين، ثم تقول: الابن له من مسألة الذكورية سهمان، وتضرب في مسألة الأنوثية أربعة بثمانية، وله من مسألة الأنوثية سهمان، تضرب في مسألة الذكورية خمسة بعشرة، مجموع ذلك ثمانية عشر، وللأنثى من مسألة الذكورية سهم، يضرب في أربعة بأربعة، ومن مسألة الأنوثية سهم، في خمسة بخمسة، المجموع تسعة، وللخنثى من مسألة الذكورية سهمان في أربعة بثمانية، ومن مسألة الأنوثية سهم، في خمسة بخمسة، المجموع ثلاثة عشر سهما، والله أعلم. قال: فإن بال فسبق البول من حيث يبول الرجل فليس بمشكل، وحكمه في الميراث وغيره حكم رجل، وإن كان

من حيث تبول المرأة فله حكم المرأة. ش: قد تقدم أن الخنثى الذي له ذكر رجل وفرج امرأة، فيعتبر بمباله، فإن بال من ذكره فهو رجل، حكمه حكم الرجال في جميع الأحكام، وإن بال من فرجه فهو امرأة، حكمه حكم النساء في جميع الأحكام، وقد حكى ابن المنذر هذا إجماعا. 2294 - وروي عن علي ومعاوية. 2295 - وروي أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن بال من ذكره وفرجه اعتبر أسبقهما، فإن سبق البول من ذكره فهو رجل، وإن

ميراث ابن الملاعنة

سبق من فرجه فهو امرأة، وهذه الصورة التي ذكرها الخرقي، وهي تدل على الأولى بطريق التنبيه، لأن السبق له مزية، فتترجح إحدى العلامتين به، وقول الخرقي: وإن كان من حيث. أي وإن كان السبق، وإن خرج منهما معا اعتبرنا أكثرهما، فجعلنا الحكم له، إذ الكثرة لها مزية، وإن استويا وقف أمره حتى يبلغ، فإن ظهرت فيه علامات الرجال - من نبات لحيته، وخروج المني من ذكره - فهو رجل، وإن ظهرت فيه علامات النساء - من الحيض والحمل ونحوه - فهو امرأة، فإن لم يظهر شيء. من ذلك فهو المشكل، حكمه ما تقدم، والله أعلم. [ميراث ابن الملاعنة] قال: وابن الملاعنة ترثه أمه وعصبتها، فإن خلف أما وخالا، فلأمه الثلث وما بقي فللخال. ش: إذا رمى رجل امرأته بالزنا، وانتفى من ولدها، ولاعنها، فإن الولد ينتفي عنه بشرطه، فلا يرثه هو ولا أحد من عصباته، وترث أمه وذوو الفرض منه فروضهم، بلا نزاع، ثم اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد ذلك، فروى عنه أبو الحارث ومهنا أنها هي عصبته، فإن لم تكن فعصبتها عصبته.

2296 - لما روى واثلة بن الأسقع أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تحوز المرأة ثلاثة مواريث، عتيقها، ولقيطها، وولدها الذي لاعنت عليه» رواه أبو داود، والترمذي. 2297 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه، ثم لورثتها من بعدها.» رواه أبو داود. (وروى عنه الأثرم وحنبل) أن عصبتها عصبته، وهو اختيار الخرقي، والقاضي، وغيرهما، لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر» متفق عليه، وعصبة الأم هم أولى رجل ذكر.

2298 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه ألحق ولد الملاعنة بعصبة أمه. 2299 - ولا شك أن الصحابة عنهم قولان، فلذلك عن أحمد روايتان، (وعنه رواية ثالثة) حكاها القاضي: إن كان له

حكم ميراث ولد الزنا

ذو فرض رد عليهم، وإن لم يكن ذو فرض بحال فعصبته عصبة أمه، والذي حكاه أبو محمد عن القاضي أنه فسر الرواية بهذا، ويتفرع على الخلاف إذا خلف أمه وخاله، فلأمه الثلث، وما بقي للخال على الرواية الثانية، وعلى الأولى والثالثة الكل للأم، لكن على الأولى تأخذ الباقي بعد فرضها بالتعصيب، وعلى الثالثة تأخذه بالرد، ولو خلف أخته وابن أخيه، فلأخته النصف، والباقي لابن أخيه على الرواية الأولى والثانية، وعلى الثالثة الباقي للأخت بالرد. [حكم ميراث ولد الزنا] (تنبيه) حكم ولد الزنا حكم الولد المنفي باللعان على ما تقدم، وقولنا: إن الأم عصبة الملاعن، أو إن عصبتها عصبته. هذا في الميراث خاصة، فلا يتعدى إلى غيره من ولاية النكاح، والعقل، وغير ذلك، والله أعلم. [ميراث العبد] قال: والعبد لا يرث، ولا له مال فيورث عنه. ش: العبد لا يورث بالإجماع، إذ لا مال له فيورث عنه، لأنه لا يملك، وإن قلنا يملك، فملكه ملك ناقص، يزول إلى سيده بزوال ملكه إلى رقبته.

ميراث من كان بعضه حرا

2300 - بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من باع عبدا وله مال، فماله للذي باعه، إلا أن يشترطه المبتاع» وكما أنه لا يورث لا يرث - كالمرتد، بجامع النقص الذي فيه، وحكم المدبر، والمعلق عتقه بصفة، وأم الولد حكم القن، أما المكاتب فحيث حكم بحريته بأداء الجميع، أو بأداء الثلاثة الأرباع، أو بملك الوفاء، فحكمه حكم الأحرار، وإلا فحكمه حكم الأرقاء، والله أعلم. [ميراث من كان بعضه حرا] قال: ومن كان بعضه حرا، يرث ويورث ويحجب على مقدار ما فيه من الحرية. ش: المعتق بعضه يرث ويحجب بقدر ما فيه من الحرية، ويورث عنه ما كسب بجزئه الحر.

2301 - والأصل في ذلك ما روى عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أصاب المكاتب حدا أو ميراثا، ورث بحسب ما عتق منه، وأقيم عليه الحد بحسب ما عتق منه» رواه الدارقطني، وأبو داود ولفظه « «إذا أصاب المكاتب حدا، أو ورث ميراثا، يرث على قدر ما عتق منه» ورواه النسائي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المكاتب يعتق بقدر ما أدى، ويقام عليه الحد بقدر ما عتق منه، ويرث بقدر ما عتق منه» ورواه الترمذي وحسنه، قال أبو العباس: وهو إسناد جيد، يجب العمل به. وهذا الحديث دل على شيئين (أحدهما) أن المكاتب يعتق

منه بقدر ما أدى (والثاني) أن المعتق بعضه يحد، ويودي، ويرث بقدر ما عتق منه. 2302 - (فالحكم الأول) عارضه حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم» فصار الجمهور من العلماء إليه،

وكأنهم رأوا أنه ناسخ لما تقدم، أما (الحكم الثاني) فلم يعارضه معارض فوجب العمل به، ولا يلزم من نسخ عتقه بأداء البعض، نسخ حكم آخر في المعتق بعضه، لأن هذا حكم مستقل، يكون في المكاتب وفي غيره، واتفق أنه إذ ذاك كان في المكاتب، وأكثر ما في هذا ارتفاع بعض أنواع المعتق بعضه، لا ارتفاع حكم المعتق بعضه. 2303 - ثم يؤيد هذا أن عليا وابن عباس فيما أظن أفتيا بهذا، وهما راويا الحديث، فدل على تقرر ذلك عندهما، وأنهما فهما منه ما قلناه، وأيضا فإنه يجب أن يثبت لكل بعض حكمه، كما لو كان الآخر مثله، وإلا لا ترجيح لأحد البعضين على الآخر. إذا تقرر هذا فقال: إنه يرث، ويحجب على مقدار ما فيه من الحرية. ومثال ذلك إذا قلنا مات شخص وخلف أما، وبنتا نصفهما حر، وأبا، فإنك تقول: للبنت

بنصف حريتها نصف ميراثها، وهو الربع، وللأم مع حريتها ورق البنت الثلث، فقد حجبتها بحريتها عن السدس، فبنصف حريتها تحجبها عن نصف السدس، يبقى لها الربع، لو كانت حرة فلها بنصف حريتها نصفه وهو الثمن، والباقي للأب، وتصح المسألة من ثمانية، للبنت الربع سهمان، وللأم الثمن سهم، والباقي للأب، ولو كانت بنت نصفها حر، وأم، وعم، فللبنت بنصف حريتها نصف النصف وهو الربع، وبنصف حريتها حجبت الأم عن نصف السدس، فبقي للأم الربع، والباقي للعم، وتصح من أربعة، وعلى هذا. (تنبيه) : قال بعض أصحابنا: إن ما يرثه المعتق بعضه مثل كسبه، إن لم يكن بينه وبين سيده مهايأة كان بينهما، وإن كانت مهايأة فهل هو لمن الموت في نوبته، أو بينهما؟ على وجهي الأكساب النادرة، قال أبو العباس: والصواب الذي عليه جمهور الأصحاب أن ميراثه له، لا حق للسيد فيه مطلقا، والله أعلم. قال: وإذا خلف ابنين، فأقر أحدهما بأخ، فللمقر له ثلث ما في يد المقر، وإن كان أقر بأخت فلها خمس ما في يده.

ميراث القاتل

ش: إذا أقر بعض الورثة بوارث للميت، لزمه من إرثه بقدر حصته، لإقراره له به، فإذا خلف ابنين فأقر أحدهما بأخ، فله ثلث ما في يده، لأنهم إذا كانوا ثلاثة كان المال بينهم أثلاثا، فالمقر في يده النصف، والذي يستحقه بمقتضى إقراره الثلث، فالفاضل عنه السدس، وهو ثلث ما في يده، يدفعه إلى المقر له، كما تضمنه إقراره، وإن أقر بأخت فلها خمس ما في يده، لأنه والحال هذه، المال بينهم أخماسا، وفي يد المقر النصف خمسان ونصف، والذي يستحقه الخمسان، فالفاضل عنهما نصف خمس جميع المال، وهو خمس النصف الذي في يده، فيدفعه لها. ونبه الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بذكر هذه المسألة على مذهبي أبي حنيفة والشافعي - رحمهما الله - ومن وافقهما، فإن أبا حنيفة يقول: يدفع الابن المقر إلى الابن المقر به نصف ما في يده، لأنه يقر أنهما سواء. والشافعي يقول: لا يدفع إليه شيء، إذ شرط الإرث ثبوت النسب ولم يوجد. [ميراث القاتل] قال: والقاتل لا يرث المقتول، عمدا كان القتل أو خطأ. ش: القاتل لا يرث المقتول في الجملة.

2304 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -[قال: «لا يرث القاتل شيئا» . 2305 - وعن أبي هريرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -] قال: «القاتل لا يرث» رواه الترمذي. 2306 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ليس للقاتل ميراث» رواه مالك في الموطأ، وأحمد، وابن ماجه.

2307 - وقد عمل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على ذلك، فأعطى دية ابن قتادة المدلجي لأخيه دون أبيه، وقد كان حذفه بسيف فقتله، ومثل هذا يشتهر، ولم ينكر، فكان إجماعا، ولأن

التوريث يفضي إلى تكثير القتل المطلوب عدمه، لأنه ربما استعجل قتل مورثه ليرثه. إذا تقرر هذا، فكلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عام في كل قتل، سواء تعلق به مأثم، كقتل العامد، والباغي العادل، أو لم يتعلق به، كقتل الخطأ ونحو ذلك، وسواء كان القتل مضمونا بقصاص، أو دية، أو كفارة، أو لم يكن، كالقتل قصاصا، أو حدا، أو دفعا، وقتل العادل الباغي، والباغي العادل، إن لم يضمن الباغي، وهو الصحيح، والمتفق عليه عندنا في ذلك، القتل المضمون، وإن كان خطأ لا إثم فيه، سدا للذريعة، وطلبا للتحرز عنه، أما غير المضمون كما تقدم ففيه ثلاث روايات: (إحداها) : لا إرث مطلقا، وهو مقتضى عموم كلام الخرقي، وعموم الأحاديث، وهو أمشى على سد الذريعة. (والثانية) : لا يمنع مطلقا، صححه أبو الخطاب في الهداية، لأن مضمونيته تدل على المؤاخذة به، [وذلك يناسب عدم الإرث عقوبة له، وعدم مضمونيته تدل على نفي الحرج عنه] ، وذلك يناسب الإرث. (والثالثة) : لا يرث الباغي العادل، ويرث من عداه ممن لم يضمن قتله، جزم به القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وأبو محمد في المغني، في قتال أهل البغي، لأن الباغي آثم ظالم،

التوارث بين المسلم والكافر

فناسب أن لا يرث، مع دخوله في عموم النص والمعنى، والعادل، والقاتل قصاصا أو حدا، ونحوهم، مأذون لهم في الفعل، مثابون عليه، وذلك لا يناسب نفي الإرث، بل الإرث طلبا لإقامة الحدود ونحوها، المطلوب إقامتها شرعا، فمنع الإرث ثم سد لوقوع القتل المطلوب عدمه، ومنع الإرث هنا مفض إلى سد المطلوب وقوعه شرعا، فهو عكسه، والله أعلم. [التوارث بين المسلم والكافر] قال: ولا يرث مسلم كافرا، ولا كافر مسلما، إلا أن يكون معتقا فيأخذ ماله بالولاء. ش: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم. 2308 - لما في الصحيحين وغيرهما عن أسامة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» . 2309 - وفي الصحيحين أيضا «عن أسامة، أنه قال: يا رسول الله، أين تنزل غدا في دارك بمكة؟ فقال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور؟» وكان عقيل ورث أبا طالب، ولم يرثه جعفر، ولا علي شيئا، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل وطالب كافرين.

2310 - وكان عمر يقول: لا يرث المؤمن الكافر. 2311 - وعن محمد بن الأشعث، أن عمة له يهودية أو نصرانية توفيت، فذكر محمد ذلك لعمر بن الخطاب، وقال: من يرثها؟ فقال له عمر: يرثها أهل دينها. ثم أتى عثمان بن عفان فسأله عن ذلك، فقال له عثمان: أتراني نسيت ما قال لك عمر بن الخطاب؟ يرثها أهل دينها. رواه مالك في الموطأ، مع أن هذا قد حكي إجماعا، أما في إرث

الكافر من المسلم فبلا نزاع، وأما في المسلم من الكافر فقال أحمد: ليس فيه بين الناس اختلاف. وحكي فيه خلاف ضعيف. واستثنى الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما إذا أعتق المسلم كافرا، أو الكافر مسلما، فإنه يرثه بالولاء، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. 2312 - واحتج بأن عليا قال: الولاء شعبة من الرق. انتهى. فكما أن الرق يثبت مع اختلاف الدين، كذلك الولاء يثبت مع اختلاف الدين، وفي هذا الاستدلال نظر، فإنه لا نزاع في ثبوت الولاء، إنما النزاع في ثبوت الإرث به، ولعل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فهم أن المراد بقول علي الإرث. 2313 - وكذا حكي عن علي الإرث.

2314 - وقد استدل لذلك بما روي عن جابر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يرث المسلم النصراني إلا أن يكون عبده أو أمته» رواه الدارقطني، وروي موقوفا عن جابر، ويكون المراد [بالعبد] من كان عبده مجازا، وإلا فالعبد لا يورث بالإجماع. (وبالجملة) هذه الرواية اختيار عامة الأصحاب، حتى إن القاضي في الجامع الصغير، والشريف في خلافه، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا في الخصال، لم يذكروا غيرها، وقال أبو الخطاب في هدايته: إنها الأظهر. (والرواية الثانية) : لا يتوارثان، لما

تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث الكافر المسلم» وغير ذلك. 2315 - ولأنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - شبه الولاء بالنسب، بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب» . وإذا لم يثبت الإرث مع اختلاف الدين في النسب، ففي الولاء أجدر، وهذه الرواية اختيار أبي محمد، وعليها إن كان للمعتق عصبة على دين المعتق ورثوه، لأن وجود المعتق في نظر الشارع - والحال هذه - كالعدم، وإن أسلم الكافر من المعتق، أو المعتق ورث المعتق، رواية واحدة لزوال المانع. انتهى. ومفهوم كلام الخرقي: أن المسلم يرث المسلم، وهو واضح، وأن الكافر يرث الكافر، ولا نزاع في ذلك إذا اتفق الدين والدار، وهو مقتضى ما تقدم من الحديث، وقصة عقيل وطالب، وقصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 2316 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وللترمذي مثله من حديث جابر، ولم يقل: شتى، ومفهومه: أن أهل الملة الواحدة يتوارثون، أما إن

اختلفت مللهم فهل يتوارثون؟ فيه روايتان: (إحداهما) : يتوارثون، اختارها الخلال، وهي مقتضى كلام الخرقي، لأن الله تعالى ذكر ميراث الآباء من الأبناء، والأبناء من الآباء، وغيرهم من الأقارب ذكرا عاما، فلا يترك ذلك إلا فيما تيقن خروجه، والذي تيقن خروجه بالنص أن الكافر لا يرث المسلم، والمسلم لا يرث الكافر، إذ قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يتوارث أهل ملتين» يحتمل أن يحمل على ذلك، إذ هو المتيقن، ويعضد هذا قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] . (والثانية) : لا يتوارثون، اختارها أبو بكر، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما،

ميراث المرتد

لظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يتوارث أهل ملتين» . ومثله يصلح للتخصيص. وأما إن اختلفت الدار واتفق الدين، كالذمي مع الحربي وعكسه، فالمنصوص - وهو واختيار أبي محمد -: التوارث، عملا بظاهر الحديث، ومنع القاضي وكثير من الأصحاب التوارث، لانتفاء الموالاة بينهما، وعكس ذلك لو اتفقت الدار واختلف الدين، كحربيين اختلف دينهما، فإن القاضي قال: يتوارثان. وخالفه أبو محمد، وهو أوفق للمنصوص، والله أعلم. (تنبيه) : قال القاضي وعامة الأصحاب: إن الكفر ثلاث ملل؛ اليهودية، والنصرانية، ومن عداهم، لأن من عداهم يشملهم أنه لا كتاب لهم. قال أبو محمد: ويحتمل كلام أحمد أن يكون الكفر مللا كثيرة، فيكون المجوس ملة، وعبدة الأوثان ملة، وعباد الشمس ملة، قال: وهذا أصح إن شاء الله تعالى؛ لظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يتوارث أهل ملتين شتى» قال: ولم نسمع عن أحمد تصريحا بتقسيم الملل، قلت: وظاهر نقل أبي البركات أن أحمد نص على أنهم ثلاث ملل، والله أعلم. [ميراث المرتد] قال: والمرتد لا يرث أحدا إلا أن يرجع قبل قسمة الميراث.

حكم من أسلم على ميراث قبل أن يقسم

ش: المرتد لا يرث أحدا لا من المسلمين ولا من الكفار، أما من المسلمين فلما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث المسلم الكافر» الحديث، وأما من الكفار فلأنه لم يثبت له حكم ملتهم، بدليل أنه لا يقر على كفره، ولا تحل ذبيحته، ولا نكاحه، إن كان امرأة، فإن مات له موروث فرجع قبل أن يقسم الميراث، وكان ممن يقبل رجوعه، فحكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم قبل الميراث، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم. [حكم من أسلم على ميراث قبل أن يقسم] قال: وكذلك من أسلم على ميراث قبل أن يقسم قسم له. ش: هذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما. 2317 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم، وكل قسم أدركه قسم الإسلام فإنه على قسم الإسلام» رواه أبو داود وابن ماجه.

2318 - وروى سعيد في سننه من طريقين، عن عروة وابن أبي مليكة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أسلم على شيء فهو له» » . 2319 - ويروى أن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قضيا بذلك مختصر، رواه ابن عبد البر في التمهيد، والحكمة في ذلك - والله

أعلم - الترغيب له، والحث على الإسلام، فعلى هذا إن أسلم قبل قسم البعض ورث ما بقي، فإن كان الوارث واحدا فتصرفه في التركة وحيازتها بمنزلة قسمها، ذكر ذلك أبو محمد. (والرواية الثانية) : لا شيء له، لظاهر قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم» وهذا حين الموت كان كافرا، فلا يرث بمقتضى ظاهر الحديث. ولو زال مانع الرق قبل القسمة فقال التميمي: يخرج إرثه على الإسلام قبل القسمة، وليس بشيء، فإن أحمد نص على التفرقة في رواية محمد بن الحكم، فامتنع الإلحاق، ثم إن الأصل هو المنع، لقيام المانع حال الموت، خرج منه الإسلام ترغيبا فيه، فبقي ما عداه على الأصل، إذ لا أثر فيه، ولا هو في معنى ما فيه الأثر، إذ لا شيء من الطاعات يقاوم الإسلام، ثم العتق ليس من فعل العبد فلا يرغب فيه، والله أعلم. قال: ومن قتل على ردته فماله فيء. ش: هذا المشهور من الروايات، والمختار عند القاضي

وأصحابه وعامة الأصحاب، لأنه لا يرث أقاربه المسلمون، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يرث المسلم الكافر» ، وقوله: «لا يتوارث أهل ملتين» ولا أقاربه الذين اختار دينهم، لأنه لا يرثهم، فلا يرثونه، لما تقدم من أنه لم يثبت له حكم ملتهم، وإذا امتنع إرث الفئتين منه، تعين كون ماله فيئا، لعدم الوارث له شرعا. (والرواية الثانية) : يرثه ورثته من المسلمين، جعلا للردة بمنزلة الموت، لأنها إما أن تزيل أملاكه، وإما أن تزلزلها، وتصيره كالمريض المخوف عليه، فيتعلق حق ورثته إذا، ولا يزول حقهم إلا بنص، ولا نص. 2320 - وقد روي عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثني أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عند رجوعه - إلى أهل الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم المسلمين. قال الخلال: وهذه الرواية

أشبه بقوله. (والرواية الثالثة) : يكون لقرابته الذين اختار دينهم، بشرط أن لا يكونوا مرتدين، لمفهوم: «لا يرث الكافر المسلم» مفهومه أن الكافرين يتوارثان، وقد رجع أحمد عن هذا القول في رواية ابن منصور وقال: كنت أقول: يرثه أهل ملته، ثم جبنت عنه، والله أعلم. قال: وإذا غرق المتوارثان، أو كانا تحت هدم، فجهل أولهما موتا، ورث بعضهم من بعض. 2321 - ش: نص أحمد على ذلك، معتمدا على أنه قول عمر، وعلي، وشريح، وإبراهيم، والشعبي، انتهى.

2322 - قال الشعبي: وقع الطاعون بالشام عام عمواس، فجعل أهل البيت يموتون عن آخرهم، فكتب في ذلك إلى عمر، فكتب عمر: أن ورثوا بعضهم من بعض. ومعنى توريث

بعضهم من بعض، أن يقدر أحدهما مات أولا، ويورث الآخر من تركته، ثم يقسم إرثه منها على ورثته الأحياء، ثم تصنع بالآخر وتركته كذلك، فعلى هذا لو غرق أخوان؛ أحدهما مولى زيد، والآخر مولى عمرو، صار مال كل واحد منهما لمولى الآخر، ولو غرق أخ وأخت، وخلفا أما، وعما، وزوجا، فيقدر الأخ مات أولا، وقد خلف زوجته، وأمه، وأخته، وعمه، فللزوجة الربع وللأم الثلث، وللأخت النصف، ولا شيء للعم، أصل مسألتهم من اثني عشر، وتعول إلى ثلاثة عشر، للزوجة ثلاثة، وللأم أربعة، وللأخت ستة، مقسومة على الأحياء من ورثتها، وهم زوجها، وأمها، وعمها، مسألتهم من ستة، وسهامها ستة، فتصح المسألتان من ثلاثة عشر، للزوجة ثلاثة، وللأم ستة، أربعة من ابنها واثنان من ابنتها، وللزوج ثلاثة، وللعم سهم. ثم تقدر الأخت ماتت أولا، وقد خلفت أخاها، وزوجها، وأمها، وعمها، للزوج النصف، وللأم الثلث، والباقي للأخ وهو سهم، ولا شيء للعم، المسألة من ستة، والحاصل للأخ سهم، مقسوم على ورثته

الأحياء، وهم زوجته، وأمه، وعمه، مسألتهم من اثني عشر، وسهم عليها لا يصح، ولا يوافق، فاضرب اثني عشر في ستة، تبلغ اثنين وسبعين، للزوج ثلاثة في اثني عشر، بستة وثلاثين، وللأم سهمان في اثني عشر، بأربعة وعشرين، المجموع ستون، والباقي اثنا عشر بين زوجة الأخ، والأم، والعم؛ للزوجة ثلاثة، وللأم أربعة، وللعم خمسة، وعلى هذا. وخرج أبو الخطاب ومن تبعه: منع توارث بعضهم من بعض، وإليه ميل أبي محمد. 2323 - لما روى سعيد في سننه عن يحيى بن سعيد، أن قتلى اليمامة، وقتلى صفين، والحرة، لم يورثوا بعضهم من بعض، وورثوا عصبتهم الأحياء. ولأن شرط التوريث حياة الوارث بعد

موت الموروث، وهو غير معلوم، فامتنع التوارث للشك في شرطه، ولأن توريثهما مع الجهل خطأ يقينا، لأنه لا يخلو إما أن يسبق أحدهما، أو يموتا معا، وتوريث السابق بالموت، والميت معه خطأ يقينا بالإجماع، فكيف يعمل به، فإن قيل: ففي قطع التوريث قطع توريث المسبوق بالموت، وهو خطأ أيضا. قلنا: هذا غير متيقن، لأنه يحتمل موتهما جميعا. وعلى هذا يكون مال كل واحد من المعتقين لمولاه في المسألة الأولى، وفي الثانية تكون مسألة الأخ من اثني عشر، للأم الثلث أربعة، وللزوجة الربع ثلاثة، والباقي للعم، ومسألة الأخت من ستة، للأم الثلث اثنان، وللزوج النصف ثلاثة، والباقي للعم. انتهى. ولو تحقق الورثة السابق، وجهلوا عينه، فالحكم كما تقدم، قاله القاضي، وأبو البركات، وقال أبو محمد: يعطى كل وارث اليقين، ويقف الباقي حتى يتبين الأمر، أو يصطلحوا عليه، ولو علموا السابق ثم أنسوه، فالحكم كما لو جهلوه أولا، وقال القاضي في خلافه: لا يمتنع أن نقول هنا بالقرعة. ولو علم موتهما معا فلا توارث، ولو ادعى ورثة كل ميت سبق الآخر، وتعارضت بينتاهما، أو لم تكن بينة، تحالف الورثة، لإسقاط الدعوى، ولم يتوارثا، نص عليه، وقاله الخرقي وغيره، وقال ابن أبي موسى: يعين

السابق بالقرعة. وقال أبو الخطاب وغيره: يتوارثان، كما لو جهل الورثة حالهما. ومن هذه المسألة خرج أبو الخطاب منع التوارث مع الجهل. والله أعلم. قال: ومن لم يرث لم يحجب. ش: يعني من لم يرث لانتفاء أهليته - كالرقيق، والكافر، والقاتل - لم يحجب، لأنه معدوم شرعا، أشبه المعدوم حسا، أما من لم يرث لحجب غيره، فإنه يحجب ولا يرث، كالإخوة مع الأب، يحجبون الأم من الثلث إلى السدس، ولا يرثون، لحجبهم بالأب، لا لانتفاء أهليتهم، واختلف في المحجوب حجب مزاحمة، لا حجب منع، من أهل الفرض، هل يحجب غيره؟ على وجهين، كالجدة أم الأب مع ابنها، وأم الأم إذا قلنا يحجبها ابنها، ويستثنى من ذلك المحجوب حجب مزاحمة من العصبات، فإنه

يحجب غيره، وإن لم يرث، كولد الأب في باب الجد، فإن ولد الأبوين يعادونه بهم، وهم مع ذلك محجوبون بولد الأبوين. والله أعلم.

كتاب الولاء

[كتاب الولاء] «الولاء» بفتح الواو ممدودا: ولاء العتق، ومعناه إذا أعتق نسمة صار لها عصبة في جميع أحكام التعصيب، عند عدم العصبة من النسب، في الميراث، وولاية النكاح، وغير ذلك، وثبوته في الجملة بالإجماع، وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» » . 2324 - وعن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب» . رواه أبو يعلى الموصلي، وأبو حاتم البستي، وتكلم فيه البيهقي وغيره، ورواه الطبراني من رواية نافع عن ابن عمر، ورواه الخلال عن عبد الله بن أبي أوفى.

من له الولاء

[من له الولاء] قال: والولاء لمن أعتق، وإن اختلف دينهما. 2325 - ش: صح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الولاء لمن أعتق» وفي رواية مسلم وغيره: «إنما الولاء لمن أعتق» وللبخاري في رواية: «الولاء لمن أعطى الورق، وولي النعمة» » . وعموم هذه الألفاظ يقتضي بأن الولاء لكل معتق، وإن اختلف الدين، ولا نزاع في ذلك، ويرشحه قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الولاء شعبة من الرق، والله أعلم. قال: ومن أعتق سائبة لم يكن له الولاء. ش: لما كان كلام الخرقي أولا عاما في كل عتق، استثنى من ذلك العتق سائبة، ومعنى العتق سائبة أن يعتقه ولا ولاء له عليه، وأصله من: تسييب الدواب. ولا نزاع في صحة العتق، وإنما النزاع في ثبوت الولاء للمعتق، وفيه

روايتان، حكاهما الشيخان، المشهور منهما - والمختار للأصحاب، حتى إن القاضي في الجامع الصغير، والشريف، وأبا الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا وغيرهم، لم يذكروا خلافا - أنه لا ولاء له. 2326 - لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعتق سائبة، فمات، فاشترى ابن عمر بماله رقابا فأعتقهم، وعلله أحمد بأنه جعله لله، فلا يجوز له أن يرجع إليه منه شيء. (والرواية الثانية) : له عليه الولاء، اختاره أبو محمد، للعمومات المتقدمة. 2327 - وعن هزيل بن شرحبيل قال: جاء رجل إلى عبد الله فقال: إني أعتقت عبدا، وجعلته سائبة، ومات وترك مالا، ولم يدع وارثا. فقال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإنما كان أهل الجاهلية يسيبون، وأنت ولي نعمته، ولك ميراثه، وإن تأثمت وتحرجت في شيء فنحن نقبله ونجعله في بيت المال. رواه البرقاني على شرط الصحيح، وللبخاري منه: إن أهل الإسلام لا يسيبون، وإن أهل الجاهلية كانوا يسيبون.

2328 - وقال سعيد: حدثنا هشيم، عن منصور، أن ابن عمر وابن مسعود قالا في ميراث السائبة: هو للذي أعتقه. والله أعلم. قال: وإن أخذ من ميراثه شيئا جعله في مثله. ش: لما قال: إن المعتق سائبة لا ولاء له عليه. بين حكم ميراثه، والمعروف المشهور أنه يصرف في مثله من الرقاب، اتباعا لما تقدم عن ابن عمر، ونظرا إلى أنه جعله محضا لله تعالى، فتختص به هذه الجهة، وعلى هذا: هل ولاية الإعتاق

حكم من ملك ذا رحم محرم

للسيد - لأنه المعتق - أو للإمام لأنه النائب عن الله؟ فيه روايتان. وظاهر كلام الخرقي: أنه خير السيد بين أخذ المال وصرفه في مثله، وبين تركه. (وعن أحمد) رواية أخرى أن ماله لبيت المال، لأنه لا وارث له، فيكون ماله لبيت المال، ويتفرع على هذا إذا مات السائبة، وخلفه بنته، ومعتقه، فعلى القول بأن له عليه الولاء، المال بينهما نصفين، لها النصف بالفرض، وللمعتق النصف بالولاء، وعلى القول بأن ماله لبيت المال، الجميع للبنت بالفرض والرد، إذ الرد مقدم على بيت المال، وعلى القول بأن ميراثه يصرف في [مثله للبنت النصف، والباقي يصرف في] العتق، إذ جهة العتق هي المستحقة للولاء، والله أعلم. [حكم من ملك ذا رحم محرم] قال: ومن ملك ذا رحم محرم عتق عليه. 2329 - ش: روى الحسن عن سمرة، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» رواه الخمسة إلا النسائي، وفي لفظ لأحمد: فهو عتيق ولأبي داود عن عمر بن الخطاب موقوفا مثل حديث سمرة. (وعن أحمد) رواية أخرى لا يعتق

إلا عمود النسب، ولا عمل عليها، (وقول الخرقي) : ومن ملك ذا رحم. أي: ذا قرابة، فيخرج غير القريب وإن كان

محرما عليه، كالأم ونحوها من الرضاعة، والربيبة، وأم الزوجة، فإنهم لا يعتقون للحديث. 2330 - وقد روي عن الزهري أنه قال: «جرت السنة أن يباع الأخ والأخت من الرضاع» . وقوله: محرم. يخرج ذا الرحم غير المحرم، كابن العم ونحوه، فإنه لا يعتق إذا ملكه للحديث، وضابط ذلك أن تقدر أحدهما رجلا، والآخر امرأة، ثم تنظر، فإن حرم النكاح فإنه من الرحم المحرم، وإلا فلا. ومقتضى كلام الخرقي: أنه لو ملك ولده من الزنا لم يعتق عليه، لانقطاع نسبه عنه، فليس برحم له شرعا، وهو المنصوص، وعليه الأصحاب، وحكى أبو الخطاب في الهداية احتمالا بالعتق، على قياس قوله: في تحريم نكاحها، وفرق ابن عقيل بأن التحريم يثبت مع الشبهة الواقعة بين الأشخاص، والعتق بخلافه، فلو اشترى عبدا من بين أعبد فيهم أخوه، لم يعتق، حتى يتيقن أنه أخوه، ولو اشترى أمة من إماء فيهن أخته، لم يجز له وطؤها، لجواز أن تكون أخته. والله أعلم.

ولاء المكاتب والمدبر إذا عتقا

قال: وكان له ولاؤه. ش: إذا ملك ذا الرحم المحرم عتق عليه، وكان له ولاؤه، لأنه عتق من ماله بتسبب فعله، أشبه ما لو باشر عتقه. [ولاء المكاتب والمدبر إذا عتقا] قال: وولاء المكاتب والمدبر إذا عتقا لسيدهما. ش: ولاء المدبر لمدبره، لأنه معتقه، فيدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولاء لمن أعتق» ، وولاء المكاتب لمكاتبه، بدليل «قصة بريرة، فإن مواليها أبوا أن يبيعوها إلا أن يكون لهم الولاء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة: «اشتريها، واشترطي لهم الولاء» وهذا يدل على أن الولاء لهم لو لم تشترها منهم

عائشة، وذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذه الصورة إشارة إلى خلاف بعض العلماء، والله أعلم. قال: ومن أعتق عبده عن رجل حي بلا أمره، أو عن ميت، فولاؤه للمعتق. ش: أما إذا أعتقه عن حي بلا أمره، فإن العتق والولاء يقعان للمعتق، بلا خلاف نعلمه عندنا، لأن شرط صحة العتق الملك، ولا ملك للمعتق عنه، فالولاء تابع للملك. وأما إن أعتقه عن ميت؛ فلا يخلو إما أن يكون عن واجب عليه، أم لا، (فإن كان) في واجب عليه؛ فإن العتق يقع عنه، لمكان الحاجة إلى ذلك، وهي الاحتياج إلى براءة ذمته، أما الولاء فقال أبو البركات تبعا للقاضي: يثبت الولاء أيضا له. قال أبو العباس: بناء على أن الكفارة ونحوها ليس من شرطها الدخول في ملك المكفر عنه. وأطلق الخرقي وأكثر الأصحاب: أن الولاء للمعتق. قال أبو العباس: بناء على أنه يشترط دخول الكفارة ونحوها في ملك من ذلك عليه.

(وإن كان) في غير واجب كانا للمعتق لانتفاء ما تقدم إذا، والله أعلم. قال: وإن أعتقه عنه بأمره فالولاء للمعتق عنه بأمره. ش: إذا أعتق عبده عن غيره بأمره، فله ثلاث حالات قد شملها كلام الخرقي: (إحداها) : إذا قال: أعتقه عني وعلي ثمنه؛ فهذا يكون العتق والولاء له بلا نزاع، كأنه استدعى منه بيعه له بثمن مثله، ووكله في عتقه، وسيصرح الخرقي بذلك. (الثاني) : إذا قال: أعتقه عني. وأطلق، فهل يلزمه العوض كما لو صرح بذلك - إذ الغالب في انتقالات الأملاك أن يكون بعوض - أو لا يلزمه ذلك - لأنه إلزام ما لا يلزمه، وغايته أن طلب العتق عنه يستدعي الملك، والملك قد يكون بغير عوض كالهبة؟ فإن قلنا: يلزمه العوض؛ فحكمه حكم ما لو صرح بلزومه على ما تقدم، وإن قلنا: لا يلزمه، فحكمه حكم ما لو صرح بنفيه على ما سيأتي. (الثالث) : إذا قال: أعتقه عني مجانا. فهنا لا يلزمه العوض بلا نزاع، ثم هل يكون العتق والولاء للسائل - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي في التعليق، نظرا إلى

أن العتق عنه يستدعي الملك، وذلك كما يحصل بالبيع يحصل بالهبة، فكأنه طلبها منه فأجابه إلى ذلك، أو نقول: العتق عنه لا تتوقف صحته منه على الملك، بل على الإذن في ذلك - أو يكونان للمسؤول، نظرا إلى أنه لا بد من الملك، وأن الملك لا يحصل بذلك؟ والله أعلم. قال: ومن قال: أعتق عبدك عني وعلي ثمنه؛ فالثمن عليه، والولاء للمعتق عنه. ش: قد تقدمت هذه المسألة، قال أبو محمد: ولا نعلم فيه خلافا. قال: ولو قال: أعتقه والثمن علي؛ كان الثمن عليه، والولاء للمعتق.

ش: إنما لزم الثمن للقائل لأنه جعل جعلا لمن عمل عملا وهو العتق، وقد عمل ذلك العمل، فيلزمه الجعل، وإنما كان الولاء للمعتق لدخوله تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولاء لمن أعتق» ، والمسؤول هو المعتق، لا السائل، لأنه لم يطلب العتق عنه، والله أعلم. قال: ومن أعتق عبدا له أولاد من مولاة لقوم، جر معتق العبد ولاء أولاده. ش: صورة هذه المسألة إذا أعتق أمته، وزوجها بعبد، فولدت منه أولادا، فإنهم يكونون أحرارا، ويكون ولاؤهم لمولى أمهم، لأنه المنعم عليهم، حيث عتقوا بعتق أمهم، ثم إن أعتق العبد سيده بعد ذلك فله ولاؤه، وجر ولاء أولاده عن مولى أمهم. 2331 - في قول الجمهور من الصحابة وغيرهم، لأن الولاء مشبه بالنسب، والأنساب إلى الأب، فكذلك الولاء، بدليل ما

لو كانا حرين، وإنما ثبت الولاء لموالي الأم لضرورة عدم ثبوته لموالي الأب، وقد زال المانع، فيعمل المقتضي عمله، وصار هذا كولد الملاعن، لما تعذر انتسابه إلى الأب لانقطاع نسبه عنه باللعان، انتسب إلى الأم وعصباتها، فكانوا عصبته، ولو استلحقه الأب بعد ذلك لحقه، وصار عصبته له، وزال التعصيب عن الأم وعصباتها. 2332 - وقد روي عن الزبير، أنه لما قدم خيبر رأى فتية لعسا، فأعجبه ظرفهم وجمالهم، فسأل عنهم، فقيل له: موالي رافع بن خديج، وأبوهم رقيق لآل الحرقة، فاشترى الزبير أباهم فأعتقه، وقال لأولاده: انتسبوا إلي، فإن ولاءكم لي. فقال رافع بن خديج: الولاء لي، فإنهم عتقوا بعتقي أمهم. فاحتكموا إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقضى بالولاء للزبير

ولم ينقل إنكار ذلك، فيكون بمنزلة الإجماع، واللعس سواد في الشفتين تستحسنه العرب. وقد خص الخرقي الجر بعتق الأب، فظاهر كلامه: لا يحصل بعتق الجد، وهو المشهور والمختار للأصحاب من الروايات، إذ الأصل بقاء الولاء لموالي الأم، خولف ذلك لقضاء الصحابة، فيبقى فيما عداه على الأصل. (والثانية) : يجره، ثم إن عتق الأب بعد أن جر الولاء إليه منه، وإلا بقي له، لأن الجد كالأب في التعصيب، وأحكام النسب، فكذلك في الولاء. (والرواية الثالثة) : إن عتق والأب ميت جر الولاء، وإن عتق والأب حي لم يجره بحال، حكاها الخلال، لأن الجد - والحال ما تقدم - تحقق قيامه مقام الأب في الإرث، وولاية النكاح، وغيرهما، فكذلك في الولاء، بخلاف ما لو كان حيا. (وعنه رواية رابعة) : يجر الولاء إن عتق والأب ميت، وإن عتق والأب حي لم

يجره حتى يموت الأب قنا، فيجره من حين موته، حكاها أبو بكر في الشافي، انتهى. وحيث قيل بالجر فلا فرق بين الجد القريب والبعيد، قال أبو محمد: ومقتضى هذا أن البعيد إذا جر الولاء، ثم عتق من هو أقرب منه جر الولاء إليه، ثم إن عتق الأب جر الولاء، لأن كل واحد يحجب من فوقه، ولو لم يعتق الجد، [بل كان حرا] وولده مملوك، فتزوج مولاة لقوم، فولاء أولاده لمولى أمهم. وعلى القول بجر الجد الولاء يكون لمولى الجد، فلو كان الجد حر الأصل لا مولى، فلا ولاء على ولد ابنه، فإن عتق ابنه بعد لم يعد على ولده ولاء، لأن الحرية تثبت له من غير ولاء. والله تعالى أعلم.

باب ميراث الولاء

[باب ميراث الولاء] ش: أي باب الميراث بالولاء، إذ من قاعدة الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى - أن الولاء لا يورث، وإنما يورث به، فيكون من باب إضافة الشيء إلى سببه، لأن سبب الميراث الولاء كما يقال: دية قتل العمد. وقد يجري لفظه على ظاهره، إذ أصل كلامه: باب حكم ميراث الولاء، وهو سيبين أن حكمه عنده أنه لا يورث. انتهى. ولا نزاع في ثبوت الميراث بالولاء في الجملة، وقد استفاضت السنة بذلك، والله أعلم. قال: ولا يرث النساء من الولاء إلا ما أعتقن، أو أعتق من أعتقن، أو كاتبن، أو كاتب من كاتبن، وقد روي عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بنت المعتق خاصة أنها ترث، لما روي «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه ورث ابنة حمزة من الذي أعتقه حمزة» . ش: الرواية الأولى هي المشهورة عن أحمد، واختيار أبي بكر، وأبي محمد، وغيرهما، وغالى أبو بكر فوهم أبا طالب في الرواية الثانية.

2333 - وذلك لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ميراث الولاء للأكبر من الذكور، ولا يرث النساء من الولاء إلا ولاء من أعتقن، أو أعتق من أعتقن» ولأن هذا قول عامة العلماء من الصحابة، والتابعين، والأئمة إلا شريحا. 2334 - وقد روي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد، وابن عمر، وأبي مسعود البدري، وأسامة بن زيد، وأبي بن كعب، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، فكان

إجماعا أو حجة، ولأن الولاء مشبه بالنسب، فالمولى المعتق من المولى المنعم بمنزلة أخيه أو عمه، فأولاد المولى المنعم بمنزلة أولاد أخي المعتق، أو أولاد عمه، وأولاد الأخ، وأولاد العم لا يرث منهم إلا الذكور [خاصة] . (والرواية الثانية) : اختارها أبو الخطاب في خلافه، وإليها ميل أبي البركات في المنتقى، ونص عليها أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية أبي طالب. 2335 - محتجا بحديث بنت حمزة، [وهو ما روى جابر بن زيد، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، «أن مولى لحمزة] مات وترك ابنته وابنة حمزة، فأعطى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته النصف، وابنة حمزة النصف» . رواه الدارقطني، وقد اعترض على هذا؛ بأن المولى إنما كان لبنت حمزة، كذا قال أحمد في رواية ابن القاسم، وسأله: هل كان المولى لحمزة أو لابنته؟ فقال: لابنته.

2336 - وقد روى ابن ماجه، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن الحكم، عن عبد الله بن شداد، عن بنت حمزة - وهي أخت ابن شداد لأمه - «قالت: مات مولى لي وترك ابنته، فقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماله بيني وبين ابنته، فجعل لي النصف، ولها النصف» ، وأجيب بأن ابن أبي ليلى فيه

ضعف، وإن صح فمن المحتمل تعدد الواقعة، فلا تعارض، ولو سلم الاتحاد فيحتمل أنه أضيف مولى الوالد إلى الولد، بناء على أن الولاء ينتقل إليه، أو أنه يرث به. إذا تقرر هذا، فمحل الخلاف في غير ما أعتقنه، أو أعتقه من أعتقنه، أو كاتبنه، أو كاتبه من كاتبنه، أما في هذه الأشياء فيرثن بلا نزاع، كما تضمنه الدليل السابق، وقصة بريرة مع عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «فإن عائشة اشترطت الولاء، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك: «إنما الولاء لمن أعتق» ، والسبب مراد من العموم بلا ريب، ويستثنى أيضا عتقاء ابنها إذا كانت ملاعنة، على القول بأنها عصبته، ولنذكر أمثلة لمحل الخلاف؛ فمنها: إذا مات المعتق، وخلف ابن معتقه، وبنت معتقه؛ فالمال لابن معتقه، دون أخته على الرواية الأولى. وعلى الثانية: بينهما أثلاثا. ولو خلف بنت معتقه، وابن عم معتقه، فلا شيء للبنت، وجميع المال لابن عم المعتق على الأولى. وعلى الثانية: للبنت النصف، والباقي لابن العم. ولو خلف المعتق بنته، وبنت معتقه، فالمال جميعه لابنته على الأولى بالفرض والرد، وعلى الثانية لابنته

النصف، ولابنة معتقه النصف، لقضية النص في بنت حمزة، ولو كان بدل بنت معتقه أخت معتقه، فلا شيء لها، رواية واحدة، والله أعلم. قال: والولاء لأقرب عصبة المعتق. ش: الميراث بالولاء ثابت ومستقر للمعتق، ثم لأقرب عصبته من بعده. 2337 - لما روى الإمام أحمد عن سعيد بن المسيب، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المولى أخ في الدين، ومولى نعمة، يرثه أولى الناس بالمعتق» ؛ ولأن عصبات الميت يرث منهم الأقرب فالأقرب، فكذلك عصبات المولى، فعلى هذا لو مات المعتق وخلف ابنه وأخاه، كان الولاء لابنه، ولو خلف أخاه وعمه، كان الولاء لأخيه، وعلى هذا، يرث الأقرب فالأقرب من العصبات، ولا يرث منه ذو فرض إلا ما يستثنى، ولا ذو رحم، والله أعلم. قال: وإذا مات المعتق وخلف أبا معتقه، وابن معتقه، فلأبي معتقه السدس، وما بقي فللابن.

ش: هذا كالاستثناء مما تقدم، وقد نص عليه أحمد، وهو المشهور، تشبيها لهما في إرث المعتق بإرث معتقه، وقيل: لا يفرض للأب والحال هذه شيء، بل الجميع للابن، لما تقدم من أن الولاء لأقرب العصبة. انتهى. وحكم الجد حكم الأب، وحكم ابن الابن حكم الابن، وقد يدخل ذلك في كلام الخرقي، والله أعلم. قال: وإن خلف أخا معتقه، وجد معتقه، فالولاء بينهما نصفين. ش: لأنهما يرثان المعتق كذلك، فيرثان مولاه كذلك، ولو كثرت الإخوة - كما لو كانوا ثلاثة فأكثر - فإنه يفرض للجد السدس، لأنه أحظ له، والباقي لهم، بناء على ما تقدم في قاعدة الجد مع الإخوة، هذا هو المشهور، وعلى القول الثاني في التي قبلها: لا يفرض له معهم أصلا، بل يكون كأحدهم وإن كثروا، ويعادونه بولد الأب، لأنه يرث منفردا، ولا يعادونه بالأخوات، لأنهن لا يرثن منفردات. وهذا مقتضى قول أبي محمد في الكافي والمغني، وهذا كله إذا ورثنا الإخوة مع الجد، أما إذا لم نورثهم معه - وجعلنا الجد كالأب - فالولاء للجد دون الأخ. والله أعلم.

قال: وإذا هلك رجل عن ابنين ومولى، فمات أحد الابنين بعده عن ابن، ثم مات المولى، فالولاء لابن معتقه، لأن الولاء للكبر، ولو هلك الابنان بعده وقبل مولاه، وخلف أحدهما ابنا، وخلف الآخر تسعة، كان الولاء بينهم على عددهم، لكل واحد منهم عشره. ش: هذا مبني على أصل قد أشار إليه الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أن الولاء يورث به ولا يورث، وهذا معنى كونه للكبر، يعني أنه يرث به أقرب عصبة السيد إليه يوم مات عتيقه، لا يوم مات السيد، وهذا المختار للأصحاب، والمشهور من الروايتين، حتى إن أبا بكر غلط من روى الثانية، وقد قال أحمد في رواية ابنه صالح: حديث عمر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان» هكذا يرويه عمرو بن شعيب. 2338 - وقد روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، وابن مسعود، أنهم قالوا: الولاء للكبر. فهذا الذي يذهب إليه، وهو قول أكثر الناس. انتهى. وقد أبان أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنه حجته في ذلك، وهو قول هؤلاء الذين هم أكابر الصحابة،

وقد رواه مالك في الموطأ عن عثمان، ورواه سعيد عن الأربعة الباقين. 2339 - وحكي أيضا عن ابن عمر، وأبي بن كعب، وأبي مسعود البدري، وأسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ -، ولما

تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المولى أخ في الدين، ومولى نعمة، يرثه أولى الناس بالمعتق» ولأن الولاء مشبه بالنسب، والنسب يورث به ولا يورث، فكذلك الولاء. 2340 - وعن أحمد رواية أخرى: يورث الولاء كما يورث المال، وهو قول شريح، ويحكى عن عمر، وعلي، وابن عباس، والمشهور عن عمر وعلي خلاف ذلك. 2341 - ومعتمد هذه الرواية ما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: تزوج رياب بن حذيفة بن سعد بن سهم أم وائل بنت معمر الجمحية، فولدت له ثلاثة، فتوفيت

أمهم، فورثها بنوها رباعها، وولاء مواليها، فخرج بهم عمرو بن العاص معه إلى الشام، فماتوا في طاعون عمواس، فورثهم عمرو، وكان عصبتهم، فلما رجع عمرو جاء بنو معمر بن حبيب، يخاصمونه في ولاء أختهم إلى عمر بن الخطاب، فقال: أقضي بينكم بما سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته من كان» فقضى لنا به، وكتب لنا كتابا فيه شهادة عبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، رواه أبو داود، وابن ماجه، والنسائي، وابن المديني، وقال: هو من صحيح ما يروي عن عمر. وقد ينازع في الاستدلال بهذا الحديث، فإن

الحجة في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما أحرز الوالد أو الولد فهو لعصبته» وهذا صحيح، فإن ما أحرزه من المال فهو لعصبته، أما الولاء فإنه لم يحرزه، بل هو باق للميت، والعاصب يرث به. 2342 - وما فهمه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد نقل عنه خلافه، كما حكى ذلك الإمام أحمد والشعبي، ويعضد هذا التأويل أو يعينه قول عامة الصحابة والعلماء، وقول العامة: إن لم يكن إجماعا على الأشهر، فهو حجة على الأظهر. إذا تقرر هذا الأصل وهو: أن الولاء يورث به ولا يورث، انبنى عليه المسألتان اللتان ذكرهما الخرقي: (إحداهما) : إذا مات رجل عن ابنين ومولى، فمات أحد الابنين بعده عن ابن، ثم مات المولى، فالولاء لابن معتقه؛ لأن ابن المعتق هو أقرب الناس إليه يوم مات العتيق، وقد نص أحمد على ذلك في رواية أبي طالب. وعلى الرواية الأخرى: يكون الولاء بين ابن المعتق وبين ابن ابنه الآخر نصفين، نص عليه في رواية حنبل، لأنه لما مات المولى المنعم ورث ابناه الولاء

بينهما نصفين، فإذا مات أحدهما انتقل نصيبه لابنه. (المسألة الثانية) : إذا هلك الابنان بعد أبيهما، وقبل موت العتيق، وخلف أحدهما ابنا، وخلف الآخر تسعة، فعلى المذهب - ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور -: الولاء بينهم على عددهم، لكل واحد عشرة، لأن الجميع في القرب إلى السيد يوم مات العتيق على حد سواء. وعلى الرواية الأخرى - ونص عليه أحمد هنا في رواية بكر بن محمد -: لابن الابن النصف إرثا عن أبيه، والنصف الآخر بين بني الابن الآخر على تسعة، وتصح من ثمانية عشر، والله أعلم. قال: ومن أعتق عبدا فولاؤه لابنه، وعقله على عصبته. ش: يعني: إذا أعتق عبدا ثم مات المعتق، فإن ولاءه لابن سيده، إذا لم يكن له وارث سواه من النسب، وعقله على عصبة سيده، لأن العقل على العصبة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان هؤلاء العصبة، والولاء لأقرب العصبة، والابن أقربهم.

2343 - وقد روى إبراهيم قال: اختصم علي والزبير في مولى صفية، فقال علي: مولى عمتي، وأنا أعقل عنه، وقال الزبير: مولى أمي، وأنا أرثه، فقضى عمر للزبير بالميراث، وقضى على علي بالعقل، رواه سعيد في سننه، وذكره الإمام أحمد. (وقول الخرقي) : إن الولاء للابن، والعقل على العصبة، مبني على أن الابن ليس من العاقلة، وهو مقتضى كلام الخرقي ثم، ومن جعل الابن من العاقلة - كالرواية الأخرى - يقول: الولاء له، والعقل عليه، ومن يجعل الابن عاقلة للأب دون الأم - كمختار أبي البركات - يقيد هذه

المسألة بما إذا كان المعتق امرأة، كما قيدها أبو محمد. والله أعلم.

كتاب الوديعة

[كتاب الوديعة] «الوديعة» : فعيلة بمعنى مفعولة، من الودع، وهو الترك، أي: متروكة عن المودع. 2344 - وفي مسلم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات» » [أي: عن تركهم الجمعات] . 2345 - وفي النسائي عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتركوا الترك ما تركوكم، ودعوا الحبشة ما ودعوكم» . (وهي جائزة) بالإجماع، وسند ذلك قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ} [النساء: 58] الآية.

ضمان الوديعة

2346 - وعن أبي هريرة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه. [ضمان الوديعة] قال: وليس على المودع ضمان إذا لم يتعد.

ش: ليس على المودع ضمان إذا لم يتعد، لأنه محسن، فيدخل في قَوْله تَعَالَى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] . 2347 - وأمين، فيدخل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضمان على مؤتمن» رواه الدارقطني، ثم لو قيل بالضمان لانتفى هذا المرفق العظيم، لامتناع العاقل من الدخول فيما يتمحض ضررا، ولا فرق بين أن تتلف مع ماله، أو دون ماله على المذهب. (وعنه) : إن تلفت دون ماله؛ ضمنها. 2348 - لأنه يروى أن عمر رضي لله عنه ضمن أنسا وديعة تلفت دون ماله، وينبغي أن يكون محل هذه الرواية فيما إذا ادعى التلف

والحال هذه، فإنه لا يقبل منه، لمكان التهمة، أما إن ثبت التلف؛ فإنه ينبغي انتفاء الضمان رواية واحدة، أما إن تعدى فإنه خرج من حيز الأمانة، إلى حيز الخيانة، فيضمن بلا نزاع، والله أعلم. قال: فإن خلطها بماله وهي لا تتميز، أو لم يحفظها كما يحفظ ماله، أو أودعها غيره؛ فهو ضامن. ش: لما ذكر أنه إذا تعدى فيها ضمن، ذكر ثلاث صور من صور التعدي: (إحداها) : إذا خلط الوديعة بماله والحال أنها لا تتميز مع ما خلطت به، كما لو خلط زيتا بزيت أو بشيرج، أو برا ببر، أو دراهم بدراهم، ونحو ذلك، لأنه صيرها في حكم التالف، وفوت على نفسه ردها، فضمنها كما لو ألقاها في لجة بحر، وعن أحمد في رجل أعطى رجلا درهما يشتري له به شيئا، فخلطه مع درهمه فضاعا، قال: ليس عليه شيء. ذكرها القاضي في ما انتقاه من رواية عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، وحكم خلطها بمال غيره حكم

خلطها بمال نفسه، وإنما ذكر الخرقي ماله اعتمادا على الغالب. (الصورة الثانية) : إذا لم يحفظها كما يحفظ ماله [فإنه يضمن، لأن حقيقة المودع أنه وكيل في الحفظ، فإذا لم يحفظ؛ فقد فرط، وإذا فرط ضمن، وحفظها كما يحفظ ماله] أن يحرزها في حرز مثلها، أو أعلى منه، ويذكر ذلك إن شاء الله تعالى في القطع في السرقة، وهذا إذا لم يعين له المالك حرزا، أما إن عين له حرزا فإنه يمتثل وإن كان دون حرزها، فإن خالف فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى. (الصورة الثالثة) : إذا أودعها عند غيره، وله حالتان: (إحداهما) : أن يفعل ذلك لغير عذر، ولا إشكال في تضمينه إذا؛ لأنه متعد، إذ لفظ مالكها إنما تضمن أن يحفظها بنفسه لا بغيره، قلت: ويخرج عدم الضمان إذا لم ينهه، بناء على رواية جواز توكيل الوكيل، وليس من إيداعها لغيره دفعها لمن جرت عادته بدفعها إليه، كزوجته وعبده، لأن ذلك مما يحفظ به ماله، فهو داخل فيما تقدم، وهذا منصوص أحمد، وعليه الأصحاب، وفيه وجه آخر: بلى فيضمن. ذكره ابن أبي موسى. (الحالة الثانية) : إذا أودعها عند غيره لعذر، كما إذا أراد سفرا غير مأمون، أو كان الترك أحرز لها، أو استوى الأمران في وجه، أو خاف عليها من حريق أو ظالم ونحو

ذلك، ولم يجد ربها ولا وكيله، فيجوز، ولا ضمان عليه لمكان العذر، ثم هل يتعين الحاكم مع القدرة عليه - وهو المذهب المقطوع به للأصحاب - أو لا يتعين، ويكفي إيداعها ثقة؛ وهو احتمال لأبي محمد في المغني؟ فيه قولان: قال القاضي: وقد أطلق أحمد القول - في رواية الأثرم، وإبراهيم بن الحارث -: لا يودعها لغيره إذا خاف عليها. قال: وهذا محمول على المقيم في البلد، والمسافر إذا وجد حاكما فعدل عنه. والله أعلم. قال: وإذا كانت علة فخلطها في صحاح، أو صحاحا فخلطها في علة، فلا ضمان عليه. ش: العلة: هي المكسرة، فإذا خلطها في صحاح أو بالعكس فلا ضمان عليه، لأنها تتميز، فلا يتعذر ردها، وهذا هو المذهب، والمنصوص في رواية أبي طالب، ونقل عنه ابن منصور فيمن خلط دراهم بيضا بسود يضمنها، فأجر ذلك صاحب التلخيص وغيره في كل ما يتميز، وخصها أو محمد بصورة النص، لاحتمال كسبها سوادا فيتغير لونها فتنقص.

قال: ولو أمره أن يجعلها في منزله، فأخرجها عن المنزل لغشيان نار، أو سيل، أو شيء، الغالب منه التوى؛ فلا ضمان عليه. ش: إذا أمره أن يجعل الوديعة في محل فجعلها فيه فلا ضمان عليه، وإن كان دون حرز مثلها، لأنه ممتثل غير مفرط، وإن أخرجها عن ذلك المحل لشيء نزل بها - من نار، أو سيل، ونحو ذلك مما الغالب منه الهلاك - فلا ضمان عليه، لأنه مأمور بحفظها، وحفظها في إخراجها إذا فلا تفريط، وهل يتعين الإخراج بحيث إذا تركه ضمن؟ لا يخلو من ثلاثة أحوال: (أحدها) : أن يعين له الحرز ولا ينهاه عن الإخراج كصورة الكتاب، فهنا يتعين عليه الإخراج والحال ما تقدم، بحيث لو تركه ضمن، وإن تلفت بغير ذلك الحادث، لأنه يعد إذا مفرطا، فيضمن لتفريطه. (الثانية) : عين له الحرز، وقال له: لا تخرجها وإن خفت عليها. فأخرجها والحال ما تقدم، أو تركها، فلا شيء عليه، لأنه إن أخرجها فقد زاده خيرا بحفظها، إذ المقصود من هذا الكلام: المبالغة في حفظها، وإن تركها فلا شيء عليه، لأن ربها صرح له بتركها مع الخوف، فكأنه رضي بإتلافها. (الثالثة) : عين له الحرز، ونهاه عن الإخراج، ولم يقل: وإن خفت عليها. فيجوز له الإخراج مع الخوف بلا ريب، وهل يضمن إذ ترك؟ فيه وجهان: (أحدهما) : لا ضمان عليه، لامتثاله أمر صاحبها. (الثاني) :

وهو مقتضى ما جزم به صاحب التلخيص، وأورده في الكافي مذهبا: عليه الضمان، لأن النهي للاحتياط عليها، والاحتياط إذا نقلها، فإذا تركها فقط فرط فيضمن. انتهى. ومفهوم كلام الخرقي: أنه متى أخرجها بلا خوف عليها، مع تعيين المالك الحرز لها ضمنها، ولا نزاع في ذلك إن أخرجها لحرز دون الذي عينه مالكها، وفيما إذا أخرجها لمثله أو أعلى منه ثلاثة أوجه: (أحدهما) : يضمن مطلقا، كما هو ظاهر كلام الخرقي، وظاهر كلام أحمد أيضا، قال في رواية حرب وغيره: إذا خالف في الوديعة فهو ضامن، وذلك لأنه خالف أمر صاحبها من غير حاجة، أشبه ما لو نهاه. (والثاني) : لا يضمن مطلقا، قاله القاضي، وابن عقيل، لأن مثل الشيء يساوي ذلك الشيء، فيعطى حكمه. (والثالث) : إن نقلها إلى أعلى لمن يضمن، لأنه زاده خيرا، وإن نقلها إلى المساوي ضمن؛ لعدم الفائدة في ذلك. قال في التلخيص: وأصحابنا لم يفرقوا بين تلفها بسبب النقل، وبين تلفها بغيره، وعندي أنه

إذا حصل التلف بسبب النقل - كانهدام البيت المنقول إليه - ضمن. (تنبيه) : «الغشيان» مصدر: غشي الشيء غشيانا، نزل به. «والتوى» مقصورا الهلاك. قال: وإذا أودعه شيئا، ثم سأله دفعه إليه في وقت أمكنه ذلك، فلم يفعل حتى تلف؛ فهو ضامن. ش: إذا أودعه شيئا ثم سأله دفعه إليه؛ لزمه ذلك، لأمر الله سبحانه ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، فإن لم يفعل حتى تلف مع إمكان الرد ضمن، لمخالفة الأمر، وانتفاء عذر المودع في الامتثال، فأشبه الغاصب، أما إن لم يمكن ردها لبعدها، أو لمخافة في طريقها، ونحو ذلك فلا ضمان عليه، لأنه لا يتوجه الأمر إليه والحال هذه، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق، وإذا لم يتوجه الأمر إليه فلا ضمان، لانتفاء تعديه، أما إن أخر لحاجة له مع إمكان الرد - كما إذا كان في الحمام، أو على طعام فأخر إلى الفراغ - فظاهر كلام الخرقي: وجوب الضمان، وصرح به في التلخيص، إناطة للحكم بإمكان الرد، وفي لحوق المأثم له والحال هذه وجهان؛ وظاهر كلام أبي محمد في المغني انتفاء الضمان، لأنه قال: إذا قال:

أمهلوني حتى أقضي صلاتي، أو آكل فإني جائع، أو أنام فإني ناعس، أو ينهضم الطعام عني فإني ممتلئ؛ أمهل بقدر ذلك. والله أعلم. قال: وإذا مات وعنده وديعة لا تتميز من ماله؛ فصاحبها غريم بها. ش: إذا مات إنسان وقد ثبت أن عنده وديعة، بإقراره أو ببينة، ولم تتميز من ماله، فصاحبها غريم بها، لأنه قد ثبت بإقراره أو بالبينة استحقاق ردها، وقد تعذر، فيجب بدلها، وإذا وجب بدلها كان غريما بها، كسائر الحقوق، أما إن ثبت أنه كان عنده وديعة في حياته، ثم مات ولم توجد بعينها، ولم يعلم بقاؤها ولا تلفها، فوجهان: (أحدهما) وقال في المغني إنه المذهب: وجوب الضمان، [اعتمادا على أصل وجوب الرد ما لم يعلم ما يزيله. (والثاني) : لا ضمان، نظرا إلى أن الأصل عدم إتلافها والتعدي فيها، فينتفي الضمان] ولا فرق فيما تقدم بين أن يوجد جنس الوديعة، في ماله أو لم يوجد، قاله أبو محمد. وقال في التلخيص: إذا أوصى وأجمل ولم يعرف ضمن نص عليه، وإن ذكر جنسها بأن قال: عندي وديعة عمامة، أو سراويل، أو نحو ذلك، ولم يوجد ذلك في تركته؛ فلا ضمان، لاحتمال التلف قبل الموت، والله أعلم.

قال: ولو طالبه بالوديعة فقال: ما أودعتني. ثم قال: ضاعت من حرز. كان ضامنا، لأنه خرج من حال الأمانة. ش: إذا طالبه بالوديعة فأنكر أصل الإيداع، بأن قال: ما أودعتني. فثبت الإيداع ببينة أو إقرار، فادعى ما يسقط وجوب الضمان عنه - من ضياعها، أو تلفها، أو ردها - لم يسمع منه، ووجب عليه الضمان، وإن أتى ببينة، لأنه إن ادعى ذلك قبل الجحود، فهو بدعواه الأولى مكذب لدعواه الثانية أو لبينته، فينتفيان، وقيل: يسمع منه ذلك بالبينة. وإن ادعى ذلك بعد الجحود، فقد خرج عن حال الأمانة، فصارت يده يدا ضامنة لا يد أمانة، فثبوت التلف أو الضياع لا ينفي عنه الضمان. نعم إن ادعى الرد بعد الجحود سمع منه كالغاصب، فيثبت بالبينة، ويحلف خصمه مع عدمها، والله أعلم. قال: ولو قال: ما لك عندي شيء. ثم قال: ضاعت من حرز. كان القول قوله، ولا ضمان عليه. ش: أي ولو طالبه بالوديعة، فلم ينكر أصل الإيداع، وإنما قال: ما لك عند شيء. ثم ثبت أنه أودعه، فادعى الضياع، أو التلف، ونحو ذلك سمع منه، لعدم تنافي دعواه الأولى والثانية، إذ مع الضياع أو التلف ليس له عنده شيء،

فهو صادق في قوله، فأمانته باقية، ودعواه مقبولة، ولا فرق بين قبل الجحود وبعده، على ظاهر إطلاق جماعة. وقال القاضي في المجرد: وقد قيل: إن شهدت البينة بالتلف بعد الجحود فعليه الضمان، لأنه قد كذبها بالجحود، وإن شهدت بالتلف قبل الجحود سمعت، ولا ضمان عليه، والله أعلم. قال: ولو كانت في يده وديعة فادعاها نفسان، فقال: أودعني أحدهما ولا أعرفه عينا، أقرع بينهما، فمن تقع له القرعة حلف أنها له وأعطي. ش: إذا كانت في يده وديعة فادعاها نفسان، كل واحد منهما يدعي أنه الذي أودعها ولا بينة، فلا يخلو من خمسة أحوال: (أحدها) : أن يقر بها لأحدهما دون الآخر، فهي له مع يمينه، لأن اليد كانت للمودع، وقد نقلها إلى المدعي، فصارت اليد له، ومن اليد له القول قوله مع يمينه، وعلى المدعي اليمين للمدعي الآخر؛ لأنه منكر لما ادعاه عليه، فإن حلف؛ برئ، وإن نكل قضي عليه بغرمها. (الثاني) : أن

يقر بها لهما، فهي بينهما يقتسمانها، مع تحالفهما، كما لو كانت بأيديهما وتداعياها، وعليه اليمين لكل واحد منهما في نصفها، فإن نكل لزمه عوضها يقتسمانه أيضا. (الثالث) : أن يقر بها لواحد منهما غير معين، وهذه مسألة الخرقي، فإن صدقاه في عدم العلم فلا يمين عليه، ويقرع بينهما، لتساويهما في الحق، أشبها العبدين إذا أعتقهما في مرضه، وإن أكذباه أو أحدهما، لزمه يمين واحدة بأنه لا يعلم عين صاحبها، لأن المدعي يدعي عليه العلم بعين صاحبها، وهو ينكره، فإن حلف أقرع بينهما كما تقدم، وإن نكل لزمه غرمها. قال في التلخيص: ثم إن اتفقا على أن العين وقيمتها يشتركان فيها فلا كلام، وإن تشاحاها أقرع بينهما،

فدفعت العين للقارع، ومقتضى كلام أبي البركات أنه مع نكوله يقرع بينهما، فيأخذ القارع العين، ويطلب الآخر البدل. (الرابع) : جحدهما فالقول قوله، لأن اليد له، وعليه لكل واحد يمين، فإن نكل لزمه لهما العين وعوضها، يقترعان عليهما، قال أبو البركات: ويحتمل أن يقتسماهما. (الخامس) : أقر بها لغيرهما، وله تقاسيم ليس هذا موضعها، والله أعلم. قال: ومن أودع شيئا فأخذ بعضه، ثم رده أو مثله فضاع الكل، لزمه مقدار ما أخذ.

ش: إذا أودع إنسان إنسانا شيئا، فأخذ بعضه ثم رده، فضاع الجميع أو تلف، لزمه مقدار ما أخذ فقط، لأنه القدر الذي تعدى فيه، هذا هو المشهور من الروايتين، حتى إن القاضي في تعليقه، وأبا البركات وأبا محمد في الكافي والمغني، لم يذكروا غيرها. (والرواية الثانية) : يضمن الجميع، حكاها صاحب التلخيص وغيره، لأنها وديعة، قد تعدى فيها فضمنها، كما لو أخذ الجميع انتهى. وإن لم يرد ما أخذ بل رد بدله، فللأصحاب في ذلك طرق: (إحداها) : أنه لا يلزمه إلا مقدار ما أخذ، سواء كان البدل متميزا أو غير متميز، وهذا مقتضى كلام الخرقي، وبه قطع القاضي في التعليق، وذكر نص أحمد على ذلك من رواية الجماعة، وحكي عنه من رواية الأثرم أنه أنكر القول بتضمين الجميع، وأنه قال: إنه قول سوء. وذلك لأنه الضمان منوط بالتعدي، والتعدي إنما حصل في المأخوذ، فيختص الضمان به. (الطريقة الثانية) : أنه إن تميز البدل ضمن قدر ما أخذ فقط، وإن لم يتميز فعلى روايتين، وهذه طريقة أبي محمد في المغني والكافي، وأبي البركات. (الطريقة الثالثة) : أن المسألة على روايتين فيهما، وهي ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية. (الطريقة الرابعة) أنه إن تميز البدل فعلى روايتين،

وإن لم يتميز ضمن الجميع رواية واحدة، قالها صاحب التلخيص، ويقرب من هذه الطريقة قول أبي محمد في المقنع، وكلام القاضي على ما حكى عنه أبو محمد في المغني، ومبنى هذه الطريقة على أن المردود باق على ملكه، فقد خلط ملكه بالوديعة، فيجري فيه ما تقدم، وقد فرق أبو محمد بأن المردود يجب رده مع الوديعة، فلم يفوت على نفسه إمكان الرد، بخلاف ثم، فإنه فوت على نفسه، إمكان رد الوديعة، وقد يقال: مسلم أنه يجب عليه الرد، لكن لا يجب عليه رد هذا المخلوط بعينه، فهو باق على ملكه، فإذا خلطه بالوديعة، ولم يتميز فقد فوت على نفسه إمكان رد باقيها، وبالجملة هذه الطريقة وإن كانت حسنة لكنها مخالفة لنصوص أحمد، وقد يقال: إن نصوصه هنا مقوية لرواية البغوي ثم. واعلم أن شرط هذه المسألة عند أبي محمد، وأبي البركات، أن تكون الدراهم ونحوها غير مختومة ولا مشدودة،

أما إن كانت مختومة أو مشدودة فحل الشد، أو فك الختم، فإنه يضمن الجميع بلا نزاع، لهتك الحرز، وهذا الصحيح عند القاضي، وقال: إنه قياس قول الأصحاب فيما إذا فتح قفصا عن طائر فطار. ولم يذكر عن أحمد بذلك نصا، ونقل مهنا عن أحمد ما يقتضي أنه لا يضمن إلا ما أخذ، فقال - في رجل استودع رجلا عشرة دنانير في صرة، فأخذ منها المستودع دينارا فأنفذه، ثم رد مكانه دينارا، فضاعت العشرة -: يغرم الدينار، وليس عليه التسعة، وفي التلخيص أيضا أن البغوي روى عن أحمد ما يدل على ذلك. وينبني على ذلك: لو خرق الكيس، فإن كان من فوق الشد لم يضمن إلا أرش الخرق فقط، وإن كان من تحت الشد ضمن الجميع، على المشهور عند الأصحاب. وقوة كلام الخرقي تقتضي أنه لا يضمن بمجرد نية التعدي، وهو المذهب المجزوم به، لرفع المؤاخذة عن ذلك ما لم يتكلم أو يعمل، ولهذا لو أخرجه إلى السوق بنية الإنفاق ثم ردها، ضمنها على أصح الوجهين، لوجود العمل، قال القاضي: وقد قيل: إنه يضمن بالنية، لاقترانها بالإمساك، وهو فعل، وقد ينبني هذا الوجه على أن الذي لا يؤاخذ به هو الهم، أما العزم فيؤاخذ به على أحد القولين، والله أعلم.

باب قسم الفيء والغنيمة والصدقة

[باب قسم الفيء والغنيمة والصدقة] ش: «الفيء» في الأصل مصدر: فاء يفيء فيئة وفيئا: إذا رجع، ثم أطلق على ما أخذ من الجهات الآتي ذكرها إن شاء الله تعالى؛ لأن الله تعالى أفاءه على المسلمين، أي: رده عليهم من الكفار، فإن الأصل: أن الله إنما خلق الأموال إعانة على عبادته، لأنه إنما خلق الخلق لعبادته، والكافر ليس من أهل عبادته، فرجوع المال عنه رده إلى أصله. والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] الآية. «والغنيمة» : أصلها من الربح والفضل، والأصل فيها قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية، أضاف الغنيمة لهم، ثم جعل خمسها لغيرهم، فدل على أن الأربعة الأخماس الباقية لهم، وقيل: إنها كانت أولا للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بدليل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] وهي من خصائص هذه الأمة. 2349 - قال: «وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي» متفق عليه.

تعريف الفيء والغنيمة

2350 - وفي الصحيح: «أن النار كانت تنزل من السماء فتأكلها» . «والصدقة» هنا المراد بها: الصدقة المفروضة، وهي الزكاة. قال: والأموال ثلاثة: فيء، وغنيمة، وصدقة. ش: أي الأموال التي مرجعها للإمام، التي يتولى أخذها وتفريقها، والله أعلم. [تعريف الفيء والغنيمة] قال: فالفيء ما أخذ من مال مشرك، ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، والغنيمة ما أوجف عليه. ش: هذان تعريفان شرعيان للفيء والغنيمة، والركاب: الإبل، والإيجاف أصله التحريك، والمراد هنا: الحركة في السير إليه. 2351 - قال قتادة في قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ما قطعتم واديا، ولا

سيرتم إليها دابة، إنما كانت حوائط بني النضير، أطعمها الله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحظ الآية الكريمة، كما هو دأبه، فأتى بألفاظها، فكل ما أخذ من مال مشرك بغير إيجاف، كالذي تركه فزعا من المسلمين، وكالجزية، والعشر من تاجر أهل الحرب، ونصفه من تاجر أهل الذمة، ومال من مات منهم ولا وارث له، وخراج أرض صالحناهم عليها. وما أجاف عليه المسلمون فساروا إليه، وقاتلوا عليه، فهو غنيمة، سواء أخذ بالسيف، أو بالحصر والاستنزال بأمان. 2352 - فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - افتتح حصون خيبر بعضها عنوة، وبعضها استنزل أهله بأمان، وكلها كانت غنيمة.

تقسيم خمس الفيء والغنيمة

[تقسيم خمس الفيء والغنيمة] قال: فخمس الفيء والغنيمة مقسوم على خمسة أسهم. ش: قد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من جهة إشارة النص على أن الفيء والغنيمة يخمسان؛ «أما الغنيمة» : فلا نزاع في تخميسها بحمد الله في الجملة، وقد دل عليها قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية. 2353 - وفي الترمذي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لوفد عبد القيس: «آمركم أن تؤدوا خمس ما غنمتم» . وقد اختلف في أشياء من الغنيمة: هل تخمس كالسلب، والنفل، وأشياء أخر، ونذكر ذلك إن شاء الله تعالى في غير هذا الموضع. «وأما الفيء» : فالمنصوص عن أحمد في رواية أبي طالب أنه لا يخمس، لأن الله سبحانه قال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] الآيات، فدل على أنه كله لهؤلاء، ولم يذكر خمسا. 2354 - وفي النسائي من حديث مالك بن أوس، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديث طويل، فيه أنه قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الأنفال: 41] هذا لهؤلاء {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] هذه

لهؤلاء {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] قال الزهري: قال عمر: هذه لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خاصة وكذا {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر: 7] و {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ} [الحشر: 8] {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] فاستوعبت هذه الآية الناس، فلم يبق رجل ممن المسلمين إلا وله من هذا المال حق - أو قال حظ - إلا بعض من تملكون من أرقائكم، ولئن عشت ليأتين على كل مسلم حقه أو قال حظه. ورواه أبو داود عن الزهري قال: قال عمر: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] وذكر مثل رواية النسائي، وهذا من عمر تفسير للآية الكريمة

وهو كالنص في عدم التخميس، وتفسير الصحابي إذا وافق ظاهر النص [كان] حجة بلا ريب. وقال الخرقي: إنه يخمس. قال القاضي: لم أجد بما قال نصا. ووجهه أنه مال مشرك مظهور عليه، فوجب أن يخمس كالركاز، والغنيمة، ودل كلامه - من جهة دلالة النص - على أن خمس الفيء والغنيمة يقسمان على خمسة أسهم، وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية. 2355 - وسهم الله والرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - واحد، كذا قال عطاء، والشعبي. 2356 - وعن بعضهم أن ذكر الله تعالى لافتتاح الكلام تبركا به. 2357 - وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «سمعت عليا يقول: ولاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على خمس الخمس فوضعته مواضعه حياته،

وحياة أبي بكر، وحياة عمر، فأتي عمر بمال آخر حياته، فدعاني فقال: خذه. فقلت: لا أريده. فقال: خذه فأنتم أحق به. قلت: قد استغنينا عنه. فجعله في بيت المال. رواه أبو داود. وفي رواية: إن رأيت أو تولينا حقنا من هذا الخمس في كتاب الله» . وهذا يدل على أن الخمس كان يخمس خمسة أسهم، لا أقل منها ولا أكثر. (تنبيه) : الغنيمة التي تخمس هي: ما وجد بعد دفع السلب لمستحقه، وبعد دفع ما وجد فيها لمسلم أو معاهد

له، وبعد إعطاء أجرة من حفظها أو نقلها، وجعل من دل على حصن أو ماء، ونحو ذلك، ولهذه تفاصيل ليس هذا موضع بيانها، وبعد ما أكل منها من طعام، أو علف، على ما يذكر في موضعه. واختلف في ما إذا دخل قوم لا منعة لهم دار الحرب فغنموا، هل يخمس ما غنموه؟ على روايتين. واختلف أيضا في النفل، كقول الإمام: من جاء بعشرة أرؤس فله منها رأس ونحو ذلك، فقال أبو البركات: يخمس، وقال أبو محمد: الظاهر أنه لا يخمس. والله أعلم. قال: سهم للرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مصروف في الكراع، والسلاح، ومصالح المسلمين. ش: سهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باق بعد موته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسقط، اعتمادا على الأصل، وهو ثبوته. 2358 - وفي حديث جبير بن مطعم أنه قال: وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عمر يعطيهم، ومن كان بعده منه مختصرا، رواه البخاري.

2359 - وعن عمرو بن عبسة قال: «صلى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى بعير من المغنم، فلما صلى أخذ وبرة من المغنم ثم قال: «لا يحل لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس، والخمس مردود فيكم» . رواه أبو داود، وروى نحوه النسائي عن عبادة بن الصامت، وعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وهو شامل لحال حياته، وحال وفاته، ومصرفه مصالح المسلمين، كالفيء على المشهور، ولما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وهو مردود فيكم. (وعن أحمد) رواية أخرى: يصرف في السلاح والكراع والمقاتلة خاصة. 2360 - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب، فكانت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فكان ينفق على أهله نفقة سنة -

وفي لفظ: يحبس لأهله قوت سنتهم - ويجعل ما بقي في الكراع والسلاح عدة في سيبل الله» . متفق عليه. (تنبيه) : «الوبرة» : واحدة الوبر للإبل، كالصوف للضأن، والشعر للمعز، قال الله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] . «والكراع» : الخيل. قال: وخمس مقسوم في صلبية بني هاشم، وبني المطلب، ابني عبد مناف، حيث كانوا، للذكر مثل حظ الأنثيين. ش: قوله: في صلبية بني هاشم. يعني: أولاد هاشم، دون من يعد منهم من مواليهم، وحلفائهم، وقد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على خمس مسائل: (إحداها) : أن سهم ذوي القربى ثابت بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا مذهبنا؛ لأنه سبحانه ذكرهم في كتابه من ذوي السهام، والأصل: البقاء ما لم يعارضه معارض.

2361 - «وعن جبير بن مطعم قال: مشيت أنا وعثمان إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله أعطيت بني المطلب، وتركتنا، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شيء واحد» . وفي رواية: فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا. وزاد: قال جبير: ولم يقسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل شيئا» . وقال ابن إسحاق: عبد شمس، وهاشم، والمطلب أخوة لأم، وأمهم عاتكة بنت مرة، وكان نوفل أخاهم لأبيهم. هذه رواية البخاري. 2362 - وفي رواية أبي داود: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يقسم لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل من الخمس شيئا، كما قسم لبني هاشم وبني المطلب» ، قال: وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير أنه لم يكن يعطي قربى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان عمر يعطيهم ومن بعده. وفي رواية: وعثمان بعده.

فهذان عمر وعثمان أعطيا بعد موته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومنع أبي بكر لعله لمانع قام عنده، والنسخ لا يثبت بالاحتمال. 2363 - وعن يزيد بن هرمز قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذوي القربى لمن هو؟ قال يزيد بن هرمز: فأنا كتبت كتاب ابن عباس إلى نجدة، كتب إليه: كتبت تسألني عن سهم ذوي القربى لمن هو؟ وهو لنا أهل البيت، وقد كان عمر دعانا إلى أن ينكح منه أيمنا، ويجدي منه عاملنا، ويقضي منه عن غارمنا، فأبينا إلا أن يسلمه إلينا فتركناه عليه. رواه أبو داود، والنسائي، وأحمد، واحتج به، وهذا لفظه.

(الثانية) : أن ذا القربى بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف، دون مواليهم، وغير مواليهم، لما تقدم من حديث جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والمعتبر الأب، لأن النسب له، فإن الهاشمي، وإن لم تكن أمه هاشمية، يستحق، وابن الهاشمية لا يستحق إذا كان أبوه غير هاشمي. (الثالثة) : أنه يجب تعميمهم، وتفرقته بينهم حيث كانوا حسب الإمكان، لأنه سهم مستحق بالقرابة، أشبه الميراث، فعلى هذا يبعث الإمام إلى عماله في الأقاليم، وينظر ما حصل من ذلك، فإن استوت الأخماس فرق كل خمس فيمن قاربه، وإن اختلفت أمر بحمل الفضل ليدفع إلى مستحقه، قال أبو محمد: والصحيح إن شاء الله تعالى أنه لا يجب التعميم، لأنه يتعذر أو يشق، فلم

يجب كالمساكين، والإمام ليس له حكم إلا في قليل من بلاد الإسلام، فعلى هذا يفرقه كل سلطان فيما أمكن من بلاده. قلت: ولا أظن الأصحاب يخالفون أبا محمد في هذا. (الرابعة) : أن القسم بينهم يكون للذكر مثل حظ الأنثيين، وهو إحدى الروايتين، وبه جزم أبو محمد في المقنع، لأنه سهم استحق بقرابة الأب شرعا، ففضل فيه الذكر على الأنثى كالميراث، وخرج ولد الأم والوصية. (والرواية الثانية) : يسوى بين ذكرهم وأنثاهم، لأنهم أعطوا باسم القرابة، والذكر والأنثى فيها سواء، أشبه ما لو وصى لقرابة فلان، يحققه أن الجد يأخذ مع الأب، وابن الابن يأخذ مع الابن، وهذا خلاف الميراث. (الخامسة) : أن غنيهم وفقيرهم فيه سواء، على عموم كلام الخرقي، وهو المشهور المعروف، لعموم قَوْله تَعَالَى: {ولذي القربى} [الأنفال: 41] . 2364 - وفي الصحيحين في حديث طويل أن العباس وعليا جاءا يطلبان أن عمر يقضي بينهما، فقال عمر: إن الله كان خص رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره، فقال: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] قال: فقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر بها عنكم، ولا أخذها دونكم. انتهى. والعباس كان من الأغنياء، وقال

أبو إسحاق بن شاقلا: يختص به فقراؤهم، لما تقدم عن عمر. (تنبيه) : «الحرورية» : طائفة من الخوارج، نسبوا إلى «حروراء» اسم بلدة، تمد وتقصر، كان أول مجتمعهم بها، وتحكيمهم فيها. «ويحذي» : يعطي. «والغارم» : المديون. والاستئثار: الاستبداد بالشيء، والانفراد به، والله أعلم. قال: والخمس الثالث في اليتامى. ش: قد شهد النص بذلك، واليتيم من لا أب له، وإن كان له أم، ولم يبلغ الحلم. 2365 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد البلوغ، ولا صمات يوم إلى الليل» .

وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط فقرهم، وإليه ميل أبي محمد، نظرا لإطلاق الآية الكريمة، واشترطه جمهور الأصحاب، لأن ذا الأب لا يدفع إليه، والمال أنفع من الأب، قال أبو محمد: قال الأصحاب: ويفرق على جميع أيتام البلاد، قال: والقول فيه كالقول في سهم ذي القربى، والله أعلم. قال: والخمس الرابع في المساكين. ش: للنص، ويدخل فيهم الفقراء، إذ كل موضع ذكر فيه أحد الصنفين دخل الآخر، وحيث أريدا ذكرا كما في الزكاة.

قال أبو محمد: قال أصحابنا: ويعم جميعهم في جميع البلاد. قال: وقد تقدم قولنا في ذلك، والله أعلم. قال: والخمس الخامس لابن السبيل. ش: للنص، وسيأتي بيان ابن السبيل إن شاء الله تعالى، فإن اجتمع في واحد أسباب، كمسكين هو ابن سبيل، يتيم، فإنه يعطى بكل منها، فإن أعطي فزال فقره؛ لم يعط له شيئا، والله أعلم. قال: وأربعة أخماس الفيء لجميع المسلمين، بالسوية بينهم، غنيهم وفقيرهم فيه سواء، إلا العبد. ش: لما قال: إن الفيء يخمس. قال: إن أربعة أخماسه للمسلمين. وعلى المنصوص جميعه للمسلمين، ولا نزاع أن العبيد لا حق لهم في الفيء، وقد تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لم يبق رجل من المسلمين إلا وله في هذا المال حق، إلا بعض من تملكون من أرقائكم، ومن عدا العبيد من المسلمين لهم حق في الفيء في الجملة، فيصرف في مصالح المسلمين، إذ نفعها يعود على جميعهم، ويبدأ بالأهم فالأهم، من سد الثغور، وكفاية أهلها وغيرهم من جند

المسلمين، ثم الأهم فالأهم، من سد البثوق، وعمل القناطر، وأرزاق القضاة، والمفتين، والمؤذنين، ونحوهم، من كل ذي نفع عام، وما فضل منه قسم بين المسلمين غنيهم وفقيرهم، على قول الخرقي. والمشهور، لما تقدم عن عمر أنه قال: لم يبق رجل من المسلمين إلا وله في هذا المال حق، وقرأ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 7] إلى قوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وعن أحمد يقدم ذووا الحاجات. 2366 - لما روى مالك بن أوس قال: [ذكر عمر يوما الفيء، فقال] : ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم، وما منا من أحد بأحق به من أحد إلا أنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل، وقسمة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فالرجل وقدمه، والرجل وبلاؤه، والرجل وحاجته، رواه أبو داود. وقال القاضي: أهل الفيء هم أهل الجهاد، ومن يقوم بمصالحهم، ومن لا يعد نفسه للجهاد، فلا حق له فيه. وهل يلتفت إلى أن الفيء كان لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحصول النصرة والمصلحة به، فلما مات صارت المصلحة للجند، وما

يحتاج إليه المسلمون، فصار ذلك لهم دون غيرهم. 2367 - ويشهد لذلك قصة عمر المتقدمة: أن الله تعالى كان خص رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخاصة لم يخصص بها أحدا غيره، فقال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر: 7] قال: فقسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينكم أموال بني النضير، فوالله ما استأثر بها عليكم، ولا أخذها دونكم، حتى بقي هذا المال، فكان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأخذ منه نفقة سنة، ثم يجعل ما بقي أسوة المال. وفي رواية: ثم يجعل ما بقي بجعل مال الله. والأول يلتفت إلى أن الفيء لم يكن ملكا له، وإنما كان يتصرف فيه بالأمر، فهو لجميع المسلمين. 2368 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أعطيكم ولا أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت» رواه البخاري. انتهى. يبدأ عند العطاء بالمهاجرين، ثم بالأنصار، ثم

بسائر المسلمين، ويبدأ بالأقرب فالأقرب من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهل يفاضل بينهم؟ حكى أبو محمد فيه روايتين، واختار أن ذلك موكول إلى رأي الإمام واجتهاده، وقال أبو البركات: وفي جواز التفضيل بينهم بالسابقة روايتان. فخص الخلاف. 2369 - وقد روي عن أبي بكر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما سويا، فيروى أن أبا بكر سوى، فقال له عمر: يا خليفة رسول الله أتجعل الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وهجروا ديارهم كمن إنما دخلوا في الإسلام كرها؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ.

2370 - وعن عمر وعثمان أنهما فضلا. 2371 - وعن نافع أن عمر كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصته من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجر به أبوه، يقول: ليس هو ممن هاجر بنفسه.

2372 - وعن قيس بن أبي حازم قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف، خمسة آلاف وقال عمر: لأفضلنهم على من بعدهم. رواهما البخاري. 2373 - وعن عوف بن مالك قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى الآهل حظين، وأعطى الأعزب حظا. زاد في رواية: فدعينا، وكنت أدعى قبل عمار، فدعيت فأعطاني حظين، وكان لي أهل، ثم دعي بعدي عمار بن ياسر فأعطي حظا واحدا» . رواه أبو داود، وأحمد وحسنه، والله أعلم. قال: وأربعة أخماس الغنيمة لمن شهد الوقعة. 2374 - ش: كذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو إجماع في الجملة، وقد دل عليه قَوْله تَعَالَى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41]

سهم الراجل والفارس من الغنيمة

الآية، كما تقدم تقريره، وقوله: لمن شهد الوقعة، يشمل من قاتل، ومن لم يقاتل، ممن قصده الجهاد، كالتجار، والصناع، ويستثنى من الشاهدين صور ليس هذا موضع استثنائها. [سهم الراجل والفارس من الغنيمة] قال: وللراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، إلا أن يكون الفارس على هجين، فيكون له سهمان، سهم له وسهم لهجينه. ش: لما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الغنيمة تخمس، ذكر أن أربعة أخماسها لشاهدي الوقعة، وذكر بطريق التبع بيان قسمة ذلك، وذكر ذلك في كتاب الجهاد مستوفى، وهو محله واللائق به، فلنؤخره إلى هناك إن شاء الله تعالى. [مصارف الصدقة] قال: والصدقة لا يتجاوز بها الثمانية الأصناف التي سمى الله تعالى. ش: أي الصدقة المفروضة، وقد تقدمت هذه المسألة في الزكاة، فلا حاجة إلى إعادتها. قال: (الفقراء) وهم الزمنى، والمكافيف، الذين لا حرفة لهم، والحرفة الصنعة، ولا يملكون خمسين درهما، أو قيمتها

من الذهب، (والمساكين) وهم السؤّال وغير السؤّال، ومن لهم الحرفة إلا أنهم لا يملكون خمسين درهما، أو قيمتها من الذهب. ش: لما ذكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الصدقة لا يجاوز بها الثمانية الأصناف التي ذكرها الله تعالى طفق يبينها، وقد تقدم أن الفقراء والمساكين صنف واحد في غير الزكاة، وأنهما في الزكاة صنفان، وقد أشعر كلام الخرقي - بل نصه - على أن الفقر أشد من المسكنة، لأنه جعل الفقراء هم الزمنى، والمكافيف أي العميان، الذين لا حرفة لهم، احترازا ممن له منهم حرفة، كمن ينفخ في الكير، ونحو ذلك، وجعل المساكين السؤال وهو حرفة، أو من له منهم حرفة غير السؤال، وقد أومأ أحمد إلى ذلك، وعليه الأصحاب، وينقل عن الأصمعي، وابن الأنباري، وذلك لأن الله سبحانه بدأ بالفقراء، والعادة البداءة بالأهم، لا يقال: فالغارم أسوأ حالا من الفقير، لأنه

اجتمع عليه الدين مع الفقر، لأنا نقول: الغارم قد يكون غنيا، كالغارم لإصلاح ذات البين، فلذلك أخر، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف: 79] فسماهم مساكين، مع أن لهم سفينة، لا يقال: سماهم مساكين لضعفهم عن الدفع عن سفينتهم، بدليل {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] لأنا نقول: إطلاق المساكين يقتضي الحاجة دون الدفع، فيكون هذا هو الظاهر، والحمل على الظاهر متعين، ما لم يعارضه ما هو أقوى منه. 2375 - ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استعاذ من الفقر. 2376 - وسأل المسكنة فقال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» .

2377 - وما يقال: إنه إنما استعاذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فقر القلب، بدليل «ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس» ويجاب عنه بما تقدم، والحق أن الظاهر أنه إنما استعاذ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فقر القلب، لأنه هو المذموم، المطلوب عدمه، إذ من افتقر قلبه لا يزال حزينا ذليلا، وإن حصل له من الدنيا ما عسى أن يحصل، أما من افتقر في المال، وحصل له غنى النفس، فهو راض بما أعطاه ربه، محب له، صابر، فهو الفقير الصابر، [وهذا أمر في الحقيقة مطلوب، فكيف يستعاذ منه، والظاهر أن سؤاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسكنة إنما هي الصفة التي يخرج بها عن هيئة المتكبرين، والمتطاولين، فيكون] خاضعا لربه، ذليلا له، وهو مقام العبودية.

2378 - وفي الأثر أنه سبحانه أوحى إلى موسى: إذا قمت بين يدي فقم مقام الذليل الحقير. وكذلك أوحى إلى عيسى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. انتهى. وأيضا فالاشتقاق يناسب ما قلناه، إذ «الفقير» مشتق من: فقر الظهر. فعيل بمعنى مفعول، أي مفقور، وهو الذي نزعت فقرة ظهره، فانقطع صلبه، «والمسكين» مفعيل من السكون، وهو الذي أسكنته الحاجة، ومن كسر صلبه أشد حالا من الساكن، ذكر ذلك ابن الأنباري، وأما قوله سبحانه: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي: الملتصق بالتراب، المطروح عليه، فقال ابن الأنباري: لما نعته الله بهذا علمنا أنه ليس كل مسكين بهذه الصفة، بل الأغلب عليه أن يكون له شيء، فنعته بذلك أخرجه عن بقية المساكين. انتهى. أو يقال: المراد بالمسكين هنا الفقير، إذ كل منهما يسمى فقيرا ومسكينا نظرا للحاجة. إذ تقرر هذا فضابط «الفقير» من لا شيء له أصلا، أو له شيء لا يقع موقعا من كفايته، كمن كفايته درهمان، ويحصل له نصف درهم، ونحو ذلك، «والمسكين» من يحصل له ما يقع موقعا من كفايته، كمن يحصل درهما في صورتنا، أو درهما ونصفا، وشرط جواز الدفع إليهما عند الخرقي أن لا يملكا خمسين درهما، أو قيمتها من الذهب، بناء على ما

تقدم له من أن من ملك [ذلك فهو غني، والغني لا تحل له الصدقة، لكن قد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من له حرفة ولا يملك خمسين درهما، أو من يملك، دون الخمسين درهما ولا حرفة له، أن له أخذ الزكاة، وإن كان ذلك يقوم بكفايته، وليس كذلك، إذ من حصلت له الكفاية بصناعة أو غيرها، ليس له أخذ الزكاة بلا ريب، وإن لم يملك شيئا، وكلام الخرقي فيه إيماء لذلك، إذ لفظ «الفقير والمسكين» يشعران بالحاجة، ومن له كفاية فليس بمحتاج. والله أعلم. قال: والعاملين عليها وهم الجباة والحافظون لها. ش: العمال على الزكاة هم الذين يبعثهم الإمام لجباية الصدقة، وحفظها، وكتابتها، وحسبها، ونقلها، ومن في معناهم، وهم السعاة. 2379 - وقد بعث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جماعة، فبعث عمر، ومعاذا، وأبا موسى، ورجلا من بني مخزوم، وغيرهم، وذكر أبو محمد

من العمال الكيال، والوزان، والعداد، وقال في التلخيص: إن أجرة الكيال والوزان على المالك، وهو حسن، لأن ذلك من تمام التسليم الواجب على المالك، وقد يقال: مراد أبي محمد إذا احتيج إلى الكيال والوزان بعد ذلك، ويشترط للعامل البلوغ والعقل، والأمانة، لأنها ضرب من الولاية، والولاية يشترط فيها ذلك، ولعدم صحة قبض الصبي، والمجنون، وخوف ذهاب المال في يد الخائن، وفي اشتراط إسلامه، وكونه من غير ذوي القربى روايتان تقدمتا، ولا يشترط حريته، ولا فقره، ولا فقهه، والله أعلم. قال: والمؤلفة قلوبهم وهم المشركون المتألفون على الإسلام. ش: قد تقدم الكلام في المؤلفة، وأن حكمهم باق، وهم

السادة المطاعون في قومهم وعشائرهم، وهم ضربان؛ مسلمون ومشركون، وهم قسمان؛ (قسم) يرجى إسلامه، وهو الذي ذكره الخرقي، فيعطى لتقوى نيته في الإسلام، ويميل إليه. 2380 - فعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يكن يسأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه، قال: فأتاه رجل فسأله، فأمر له بشاء كثيرة بين جبلين، من شاء الصدقة، فرجع إلى قومه، وقال: يا قوم أسلموا، فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة» . رواه أحمد. (وقسم) يخشى شره، فيعطى لكف شره وشر غيره معه. 2381 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن قوما كانوا يأتون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن أعطاهم مدحوا الإسلام، وقالوا: هذا دين حسن. وإن منعهم ذموا وعابوا» . وأما المسلمون فعلى أربعة أضرب: (الأول) :

قوم من سادات المسلمين، لهم نظراء من الكفار، إذا أعطوا رجي إسلام نظرائهم فيعطون. 2382 - لأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أعطى عدي بن حاتم والزبرقان مع حسن نياتهما. (الثاني) : سادات يرجى بعطيتهم قوة إيمانهم، فيعطون. 2383 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، وغيرهما.

2384 - وعن عمرو بن تغلب، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى أناسا، وترك أناسا، فبلغه عن الذين ترك أنهم عتبوا، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إني أعطي ناسا، وأدع ناسا، والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، أعطي أناسا لما في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أناسا لما في قلوبهم من الغنى والخير، منهم عمرو بن تغلب» . 2385 - وعن أنس قال: «حين أفاء الله على رسوله أموال هوازن، طفق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي رجالا من قريش مائة من الإبل، فقال أناس من الأنصار: يغفر الله لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي قريشا ويمنعنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني أعطي رجالا حديثي عهد بكفر، أتألفهم» متفق عليه. (الثالث) : قوم في طرف بلاد الإسلام إذا أعطوا دفعوا عن من يليهم من المسلمين. (الرابع) : قوم إذا أعطوا جبوا الزكاة ممن لا يعطيها إلا أن يخاف. (تنبيهان) : «أحدهما» : يقبل قوله في ضعف نيته في الإسلام، ولا يقبل قوله في أنه مطاع في قومه إلا ببينة.

(الثاني) : «الشاء» جمع شاة «والهلع» تفسيره في قوله سبحانه: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} [المعارج: 20] {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 21] . 2386 - يروى عن الأصمعي أنه سئل عن تفسير الهلوع، فقال للسائل: اقرأ الآية. «والحديث العهد» بالشيء القريب منه. قال: وفي الرقاب، وهم المكاتبون، وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى أنه يعتق منها. ش: اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المراد بالرقاب، (فروي عنه) - واختاره الخلال - أنهم المكاتبون فقط، ورجع عن القول بالعتق، قال في رواية صالح: كنت أذهب إلى أن يعتق ثم جبنت عنه؛ لأنه يجر ولاءه، ويكون له منفعته، وقال في رواية محمد بن موسى: كنت أقوله ثم هبته. وقال في رواية ابن القاسم وسندي: قد جبنت. وذلك لأن ظاهر الآية الكريمة يقتضي كونهم على صفة يوضع

سهمهم فيها، وهذا في المكاتبين، لأن سهمهم يدفع إليهم، وما يقال من أن تقدير الآية: وفي حرية الرقاب. يقال: هذا فيه إضمار والأصل عدمه، (وروى عنه) أنه العتق فقط، لأن الظاهر من إطلاق الرقبة الرقبة الكاملة، وحقيقة ذلك في العتق، لأن المكاتب وجد فيه سبب الحرية، (وروي عنه) - واختاره القاضي في التعليق وغيره - أن المراد من الرقاب المكاتبون، وافتداء الأسرى، والعتق، لأن قوله: {وفي الرقاب} [التوبة: 60] يدخل تحته المكاتبون، والعبد القن. 2387 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا بأس أن يعتق من زكاة ماله، ذكره عنه أحمد والبخاري. 2388 - وعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: دلني على عمل يقربني من الجنة، ويباعدني من

النار، فقال: «أعتق النسمة، وفك الرقبة» فقال: يا رسول الله أوليسا واحدا؟ قال: «لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها» رواه أحمد، والدارقطني، وإذا ثبت الحكم في المكاتب، والعبد القن، ففي افتداء الأسير بطريق الأولى، لأنه تخليص رقبته من يد كافر، وهو أولى من تخليص الرقبة من يد مسلم. وشرط المكاتب أن يكون مسلما، وأن لا يجد وفاء، ويجوز الدفع إليه قبل حلول النجم، على أشهر القولين، وشرط المعتق أن لا يعتق بالشراء، نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم. قال: فما رجع من الولاء رد في مثله. ش: يعني يعتق به أيضا، وقد تقدم حكم هذه المسألة فيما إذا أعتق عبدا سائبة، إذ المسألتان حكمهما واحد، والله أعلم. قال: والغارمين وهم المدينون، العاجزون عن وفاء دينهم.

ش: المدين العاجز عن وفاء دينه غارم بلا ريب، وشرط الدفع إليه أن يكون غرمه في مباح، أما إذا كان في محرم، فلا يجوز الدفع إليه قبل التوبة بلا ريب، حذارا من الإعانة على المعصية، وفيما بعد التوبة وجهان: (الجواز) : وهو المذهب، اختاره القاضي، وابن عقيل، وأبو البركات، وصاحب التلخيص، وغيرهم، نظرا إلى زوال أثر الذنب بالتوبة، إذ التوبة تجب ما قبلها. (والمنع) : حسما للمادة، لاحتمال العود ثقة بالوفاء. ومن الغارمين ضرب غرم لإصلاح ذات البين، وهو أن يقع بين الحيين أو أهل القريتين عداوة، يتلف فيها نفس أو مال، ويتوقف صلحهم على من يتحمل ذلك، فيتحملها إنسان، فيجوز الدفع إليه وإن قدر على الوفاء، لأن إعطاءه لمصلحتنا. 2389 - وفي مسلم، وسنن أبي داود، والنسائي «عن قبيصة بن مخارق الهلالي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: تحملت حمالة، فأتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسأله فيها، فقال: «أقم حتى تأتينا الصدقة فنأمر لك بها» ثم قال: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل لأحد إلا لأحد ثلاثة؛ رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما عن عيش - أو قال -: سدادا من عيش - ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة؛ فحلت له المسألة حتى

يصيب قواما من عيش - أو قال: سدادا من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة فسحت يأكلها صاحبها سحتا» . انتهى. أما من تحمل لضمان أو كفالة، فحكمه حكم من غرم لمصلحة نفسه، فلا يعطى مع الغنى، وقيل: بل حكمه حكم من غرم لإصلاح ذات البين، فيعطى وإن كان غنيا، بشرط أن يكون الأصل معسرا. (تنبيهان) : «أحدهما» : إذا أراد الدفع إلى الغارم فهل يجب الدفع إليه ليقضي دينه، أو يجوز الدفع إلى غريمه وفاء عن الدين؟ فيه روايتان؛ أنصهما الجواز. «الثاني» : «الحمالة» بفتح الحاء، والله أعلم. قال: وسهم في سبيل الله، وهم الغزاة، يعطون ما يشترون به الدواب والسلاح وما يتقوون به على العدو، وإن كانوا أغنياء. ش: لا خلاف أن الغزاة من السبيل، اعتمادا على العرف في ذلك، ونظرا إلى أن عامة ما ورد في القرآن كذلك، ويجوز الدفع إليهم وإن كانوا أغنياء كما تقدم، ويشترط كونهم من غير أهل الديوان، ويقبل قوله في إرادة الغزو، وهل يجوز للمزكي أن يشتري الدواب، والسلاح، ونحوهما، ويدفعها إليه، أو يجب أن يدفع إليه المال، ليشتري هو بنفسه؟ فيه روايتان، أشهرهما الثانية، والله أعلم.

قال: ويعطى أيضا في الحج، وهو من سبيل الله تعالى. ش: هذا منصوص أحمد في رواية الميموني، والمروذي، وعبد الله، واختاره القاضي في التعليق وجماعة. 2390 - لما روي «عن أم معقل الأسدية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن زوجها جعل بكرا في سبيل الله، وأنها أرادت العمرة، فسألت زوجها البكر، فأبى، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فأمره أن يعطيها، وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الحج والعمرة في سبيل الله» رواه أحمد.

2391 - وعن أبي لاس الخزاعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: «حملنا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على إبل الصدقة إلى الحج» . رواه أحمد، وذكره البخاري تعليقا. 2392 - وعن ابن عمر أنه قال: الحج من سبيل الله. وعن ابن عباس نحوه. (وعن أحمد) رواية أخرى: أن الحج ليس من السبيل، اختارها أبو محمد، اعتمادا على أن العرف في إطلاق السبيل إرادة الغزو، ونظرا إلى أن المعطى من الأصناف إما لمصلحته؛ كالفقير، والمسكين، والمكاتب والغارم لقضاء دينه، أو لمصلحتنا؛ كالعامل، والغازي، والمؤلف، والغارم

لإصلاح ذات البين، والحج لا نفع للمسلمين فيه، ولا للفقير، لعدم وجوب الحج عليه، وأجاب القاضي بأن له فيه مصلحة، لأنه يسقط به فرضا ماضيا أو مستقبلا. انتهى. وقد يقال: إنه من مصلحتنا، لما فيه من الاهتمام بهذا الشعار العظيم. (تنبيه) : إذا قلنا: يعطى في الحج؛ فشرط المدفوع إليه الفقر، على ما جزم به الشيخان وغيرهما، وهو أحد احتمالي صاحب التلخيص، وهل يشترط كون الحج فرضا؟ شرطه أبو الخطاب، وتبعه عليه أبو محمد في المقنع، وهو مقتضى جواب القاضي المتقدم، ولم يشترطه الأكثرون؛ الخرقي، والقاضي، وصاحب التلخيص، وأبو البركات، وغيرهم، والله أعلم. قال: (وابن السبيل) وهو المنقطع به، وله اليسار في بلده، فيعطى من الصدقة ما يبلغه. ش: ابن السبيل: المسافر الذي ليس معه ما يوصله إلى بلده، وإن كان له اليسار في بلده، هـ ذا هو المذهب المنصوص المعروف، اعتمادا على حقيقة اللفظ، إذ حقيقة اللفظ أن ابن السبيل هو المسافر، لملازمته للسبيل، دون منشئ السفر من بلده، فإنه إنما يصير ابن السبيل في المآل. (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على جواز الدفع لمن أراد إنشاء السفر

نظرا إلى أنه إنما يأخذ لسفر مستقبل، إذ الماضي قد انقضى حكمه، فإن كان ابن السبيل مجتازا، يريد بلدا غير بلده، فظاهر كلام الخرقي - وهو قول عامة الأصحاب -: أنه يجوز أن يدفع إليه ما يكفيه في مضيه إلى مقصده، ورجوعه إلى بلده، بشرط كون السفر جائزا، إما قربة كالحج ونحوه، وإما مباحا كالتجارة ونحوها، ولا يجوز الدفع في سفر المعصية، وفي سفر النزهة وجهان: (الجواز) ؛ لعدم المعصية، (والمنع) ؛ لعدم الحاجة إليه، واختار أبو محمد: منع الإعطاء لمن أراد غير بلده، لأن احتياجه إلى بلده آكد، فلا يلحق به غيره، والله أعلم. قال: وليس عليه أن يعطي لكل هؤلاء الأصناف، وإن كانوا موجودين، وإنما عليه أن لا يجاوزهم. ش: قد تقدمت هذه المسألة، وحكمها في الزكاة، فلا حاجة إلى إعادته، ونزيد هنا أنه إذا اجتمع في واحد سببان، جاز له الأخذ بكل منها، كغارم وفقير، يعطى لغرمه، ثم ما يغنيه، والله أعلم. قال: ولا يعطى من الصدقة المفروضة لبني هاشم، ولا لمواليهم، ولا للوالدين وإن علوا، ولا للولد وإن سفل، ولا

للزوج، ولا للزوجة، ولا لمن تلزمه مؤنته، ولا لكافر، ولا للمملوك، إلا أن يكونوا من العاملين، فيعطون بحق ما عملوا، ولا لغني، وهو الذي يملك خمسين درهما، أو قيمتها من الذهب. ش: قد تقدمت هذه المسائل مستوفاة في الزكاة، فلا حاجة إلى إعادتها، والله أعلم. قال: وإذا تولى الرجل إخراج زكاته سقط العاملون. ش: قد تقدمت هذه المسألة أيضا، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب النكاح

[كتاب النكاح] ش: النكاح في كلام العرب الوطء، قاله الأزهري، وسمي التزويج نكاحا لأنه سبب الوطء، قال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين، والمبرد عن البصريين، أن النكاح في أصل اللغة هو اسم للجمع بين الشيئين. قال الشاعر: أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يجتمعان

وقال الجوهري: النكاح الوطء، وقد يكون العقد. وعن الزجاجي: النكاح في كلام العرب بمعنى الوطء والعقد جميعا، وقال ابن جني عن شيخه الفارسي: فرقت العرب فرقا لطيفا يعرف به موضع العقد من الوطء، فإذا قالوا: نكح فلانة أو ابنة فلان. أرادوا تزوجها، وإذا قالوا نكح امرأته أو زوجته. لم يريدوا إلا المجامعة. (قلت) : وظاهر هذا الاشتراك كالذي قبله، وأن القرينة تعين. وأما في الشرع فقيل: العقد، فعند الإطلاق ينصرف إليه، اختاره ابن عقيل، وابن البنا، وأبو محمد، والقاضي في التعليق، في كون المحرم لا ينكح، لما قيل له: إن النكاح حقيقة في الوطء

قال: إن كان في اللغة حقيقة في الوطء، فهو في عرف الشرع للعقد، وذلك لأنه الأشهر في الكتاب والسنة، ولهذا ليس في الكتاب لفظ النكاح بمعنى الوطء إلا قوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] على المشهور، ولصحة نفيه عن الوطء، فيقال: هذا سفاح وليس بنكاح. وصحة النفي دليل المجاز، قال القاضي في المجرد: الأشبه بأصلنا أنه حقيقة في العقد والوطء جميعا، لقولنا بتحريم موطوءة الأب من غير تزويج، لدخولها في قوله سبحانه: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] الآية، وذلك لورودهما في الكتاب العزيز، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وقال القاضي في العدة، وأبو الخطاب، وأبو يعلى الصغير: هو حقيقة في الوطء، مجاز في العقد، وذلك لما تقدم عن الأزهري، وعن غلام ثعلب، والأصل عدم النقل، قال أبو الخطاب: وتحريم من عقد عليها الأب استفدناه بالإجماع والسنة. وهو مشروع بالإجماع القطعي في الجملة، وسنده قول الله سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وقوله:

{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] . 2393 - وفي الصحيحين وغيرهما عن علقمة، قال: كنت أمشي مع عبد الله بمنى، فلقيه عثمان فقام معه يحدثه، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن ألا نزوجك جارية شابة، تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟ قال فقال عبد الله: لئن قلت ذلك، لقد قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» » وغير ذلك مما لا يحصى من كثرة. ثم النكاح على الطريقة المشهورة تارة يجب، كما إذا خاف الزنا بتركه، وتارة يسن على المشهور من الروايتين، كالأمن من

السابق، والثانية: - واختارها أبو بكر، والبرمكي - يجب، وتارة يباح على رواية، اختارها القاضي في النكاح من المجرد، وابن عقيل في التذكرة، وابن البنا، ويستحب على أخرى، واختاره القاضي في الطلاق من المجرد، وهو إذا لم يتق إليه لكبر، أو مرض أو غير ذلك، وللأصحاب طرق غير ذلك، ومن أحسنها قول القاضي أبي يعلى الصغير أنه فرض كفاية، وحيث قيل بالوجوب هل يندفع بالتسري؟ فيه وجهان. (تنبيه) في الباءة أربع لغات، «باءة» بالمد، مثال «باعة» «وباء» بالمد أيضا بلا هاء، «وباهة» بلا مد، وبالهاء والتاء، و «باه» بلا مد مقصورا أيضا، وأصل الباه في اللغة المنزل، ثم قيل لعقد النكاح، لأن من تزوج امرأة بوأها منزلا، وقد يسمى النكاح نفسه باه، والمراد في الحديث، والله أعلم، الأول وإلا فلا حاجة إلى الصوم، «والوجاء» - بكسر الواو

اشتراط الولي في النكاح

ممدودا - رض الأنثيين، أي أن الصوم قاطع لشهوة النكاح كالوجاء، والله أعلم. [اشتراط الولي في النكاح] قال: ولا ينعقد النكاح إلا بولي. ش: هذا هو المذهب المنصوص، والمعروف عند الأصحاب، لا يختلفون في ذلك. 2394 - وذلك لما روى أبو موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نكاح إلا بولي» رواه الخمسة إلا النسائي، وصححه ابن المديني وغيره، وهو نفي للحقيقة الشرعية، أي لا نكاح شرعي، أو موجود في الشرع، إلا بولي.

2395 - وعن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه، وقال المروذي: سألت أحمد ويحيى عن حديث سليمان بن موسى: «لا نكاح إلا بولي» فقالا: صحيح، ولأن ذلك قول جمهور الصحابة.

2396 - روي معنى ذلك عن علي، وأبي هريرة رواه الدارقطني، وعن عمر، وابن عباس، وحفصة، رواه الشالنجي، وعن أبي سعيد الخدري، رواه أبو بكر، وعن ابن مسعود، وابن عمر، وادعى القاضي أنه إجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

وحكى طائفة من الأصحاب عن أحمد رواية بعدم اشتراط الولي مطلقا، وأبو محمد خص الرواية بحال العذر، كما إذا عدم الولي والسلطان، واختلف في مأخذ الرواية، فابن عقيل أخذها من قول أحمد في دهقان القرية: يزوج من لا ولي لها، إذا احتاط لها في المهر والكفؤ، وغلطة أبو العباس في ذلك، قلت لأن دهقان القرية هو كبيرها، فهو بمنزلة حاكمها، والقائم بأمرها، وأخذها ابن أبي موسى من رواية أن المرأة تزوج أمتها ومعتقتها. وبالجملة استدل لعدم الاشتراط بقوله تعالى: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] فأضاف النكاح إليهن، ونهى عن منعهن منه، وظاهره أن المرأة يصح أن تنكح نفسها، ونحوه قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]

وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] فأباح سبحانه فعلها في نفسها من غير شرط الولي. 2397 - يؤيده قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس للولي مع الثيب أمر» . 2398 - وأيضا روي أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما خطب أم سلمة قالت: ليس أحد من أوليائي حاضرا. فقال: «ليس من أوليائك حاضر ولا غائب إلا ويرضاني» فقالت لابنها عمر بن أبي سلمة - وكان صغيرا -: قم فزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فتزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير

ولي» ، وإنما أمرت ابنها بالتزويج على وجه الملاعبة، إذ قد نقل أهل العلم بالتأريخ أنه كان صغيرا قبل ست سنين، وبالإجماع لا تصح ولاية مثل ذلك، ولهذا قالت: ليس أحد من أوليائي حاضرا. 2399 - وأيضا قصة صاحب الإزار فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: زوجتكها ولم يسأل هل لها ولي أم لا. واعترض على حديث أبي موسى بأن محمد بن الحسن روى عن أحمد أنه سئل عن النكاح بغير ولي يثبت فيه شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: ليس يثبت عندي فيه شيء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم هو محمول على نفي الكمال، ثم يقال بموجبه، وأن نكاح المرأة نفسها نكاح بولي، والنكاح بغير ولي نكاح المجنونة

والصغيرة، إذ لا ولاية لهم على أنفسهم، وعن حديث عائشة بأن راويه سليمان بن موسى وقد ضعفه البخاري، وقال النسائي: في حديثه شيء، وقال أحمد في رواية أبي طالب: حديث عائشة: «لا نكاح إلا بولي» ليس بالقوي، وقال في رواية المروذي: ما أراه صحيحا، لأن عائشة فعلت بخلافه، قيل له: فلم تذهب إليه؟ قال: أكثر الناس عليه. ثم إن ابن جريج نقل عن الزهري أنه أنكر الحديث، قال أحمد - في رواية أبي الحارث -: لا أحسبه صحيحا، لأن إسماعيل قال: قال ابن جريج: لقيت الزهري فسألته فقال: لا أعرفه. ويقوي الإنكار أن الزهري قال بخلاف ذلك، قاله أحمد وغيره. ثم مفهوم الحديث أنه يصح نكاحها بإذن وليها، واعترض على إجماع الصحابة بفعل عائشة، كما تقدم عن أحمد، وقال في رواية

أخرى: لا يصح الحديث عن عائشة، لأنها زوجت بنات أخيها. 2400 - وقد روى الشالنجي بإسناده عن القاسم، قال: زوجت عائشة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر من ابن الزبير، فقدم عبد الرحمن فأنكر ذلك، وقال: مثلي يفتات عليه؟ فقالت عائشة: أوترغب عن ابن الحواري. وأجيب عن الآية الأولى بأنها حجة لنا، لأنه سبحانه خاطب الأولياء، ونهاهم عن العضل وهو المنع، وهو شامل للعضل الحسي والشرعي، لأنه اسم جنس مضاف، وهذا يدل على أن العضل يصح منهم دون الأجانب. 2401 - ثم الآية نزلت في معقل بن يسار، حين امتنع من تزويج أخته، فدعاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فزوجها، ولو لم يكن لمعقل ولاية، وأن الحكم

متوقف عليه، لما عوتب في ذلك، وإضافة النكاح إليها لتعلقه بها، وكذلك الجواب عن الآية الثانية، ثم سياقها في أنها لا تحل للزوج الأول إلا بعد نكاح، وعن الثالثة بأن الفعل بالمعروف أن يكون بولي، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس للولي مع الثيب أمر» نقول به، إذ لا أمر له معها، إذ حقيقة الأمر ما وجب على المأمور امتثاله، والثيب لا تجبر على النكاح، وافتقار نكاحها إلى الولي لا يقتضي أن يكون له عليها أمر، وأما تزوجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأم سلمة فمن خصائصه، قال أحمد - في رواية الميموني، وقد سئل: من زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال -: يقولون: النجاشي. فقيل له: يقولون: النجاشي أمهرها؟ وأراد الذي سأله بهذا حجة على من قال بالولي، فتغير وجه أبي عبد الله، وقال: يقوم مقام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا أحد؟ {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 6] وهو في النكاح ليس كغيره، وقضية صاحب الإزار قضية عين، محتمل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

علم أنه لا ولي لها. واعتراضاتهم أما على حديث أبي موسى فالصحيح المشهور عن أحمد تثبيته وتصحيحه، والحمل على نفي الكمال خلاف الظاهر، إذ الأصل والظاهر في النفي إنما هو لنفي الحقيقة، وهي هنا الشرعية، أي لا نكاح موجود في الشرع، وإطلاق الولي ينصرف إلى الذكر، يقال: ولي وولية إذ هو فعيل بمعنى فاعل، فيفرق بين مذكره ومؤنثه. 2402 - مع أن الخلال روى في كتاب العلل «أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها» وهذا يبين أن المراد بالولي غير المنكوحة، وأما حديث عائشة - رضي الله - عنها فسليمان بن موسى ثقة كبير، قال الترمذي: لم يتكلم فيه أحد من المتقدمين إلا البخاري وحده،

لأحاديث انفرد بها، ومثل هذا لا يرد به الحديث، ولهذا كان المشهور عن أئمة الحديث تصحيحه، وما نقل من إنكار الزهري فقد قال أحمد، ويحيى: لم ينقل هذا عن ابن جريج غير ابن علية، قال ابن عبد البر: وقد أنكر أهل العلم ذلك من روايته، ولم يعرجوا عليها، ولو ثبت ذلك لم يقدح في الحديث، إذا رواه

عنه ثقة، على المشهور من قولي العلماء، إذ النسيان لم يعصم منه إنسان. 2403 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نسي آدم فنسيت ذريته» ورد أحمد له كذلك هو على الرواية غير المشهورة عنه من أن نسيان الراوي قادح، ولهذا كان المشهور عنه تصحيحه والأخذ به، ثم قد قيل: إنه كان في الحديث زيادة ذكرها سليمان بن موسى، فسئل الزهري عنها، فقال: لا أحفظها، ولم يرد به أصل الحديث، ذكر ذلك ابن المنذر والأثرم في العلل، وكون الزهري وعائشة قالا بخلافه لا يضر، لجواز النسيان أو التأويل، إذ الاعتبار بما روى لا بما رأى، وتضعيف أحمد له كذلك هو أيضا على خلاف المشهور عنه، والمعروف عن علماء الحديث. 2404 - ثم قد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها كانت إذا أرادت أن تزوج أرسلت سترا وقعدت وراءه وتشهدت، فإذا لم يبق إلا

اشتراط الشهود في النكاح

النكاح قالت: يا فلان أنكح، فإن النساء لا ينكحن، قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله هذا الحديث؟ فقال: روى ابن جريج، قال: أخبرت عن عبد الرحمن مرسلا كذا، وابن إدريس يقول عن ابن جريج، عن عبد الرحمن، عن القاسم، لا يقول: أخبرت. وقول الراوي: إذا أرادت أن تزوج، أي تشهد النكاح، لأجل المشاورة، وقوله: قالت: يا فلان أنكح. أي في إمائها، ونحو ذلك. (تنبيه) اشتجروا التشاجر الخصومة، والمراد به - والله أعلم - المنع من العقد، دون المشاحة في العقد، إذ مع المشاحة فيه يقدم الأقرب فالأقرب، ومع الاستواء العقد لمن سبق، وتقديم أحدهم بالقرعة، تقديم أولوية على الصحيح، والله أعلم. [اشتراط الشهود في النكاح] قال: وشاهدين من المسلمين. ش: أي لا ينعقد إلا بشاهدين من المسلمين، وهذا هو المشهور

عن أحمد، رواه الجماعة، واختاره الأصحاب. 2405 - لأن في بعض طرق حديث عائشة «أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها وشاهدي عدل فنكاحها باطل» ذكره الدارقطني، عن عيسى بن يونس، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 2406 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة» رواه الترمذي، وقال: لم يرفعه غير عبد الأعلى، ووقفه مرة، قال والوقف أصح. قال بعض الحفاظ: وعبد الأعلى ثقة، فيقبل رفعه وزيادته.

2407 - وروى مالك في الموطأ، عن أبي الزبير المكي، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة، فقال: هذا نكاح السر، ولا أجيزه ولو كنت تقدمت فيه لرجمته، وخص النكاح - والله أعلم - باشتراط الشهادة، دون غيره من العقود، لما فيه من تعلق حق غير المتعاقدين، وهو الولد. وعن أحمد رواية أخرى: ينعقد بدون شهادة، ذكرها أبو بكر في المقنع، وجماعة. 2408 - لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية، وتزوجها بغير شهود» ، «وقال للذي

تزوج الموهوبة: «زوجتكها بما معك من القرآن» ولم ينقل أنه أشهد. 2409 - واحتج أحمد بأن ابن عمر زوج بلا شهود، ويروى ذلك أيضا عن ابن الزبير، والحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأنه عقد معاوضة، أشبه البيع، وما تقدم من الحديث، قال أحمد - في رواية الميموني -: لم يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الشاهدين شيء، وكذا قال ابن المنذر. ويجاب بأن تزويجه بلا شهود من خصائصه كما تقدم في الولي، وقضية الموهوبة قضية عين، والأحاديث يتقوى بعضها ببعض، واعلم أن النص في هذه الرواية عن أحمد مطلق، ولذلك أطلقه الجمهور، وقيده أبو البركات بما إذا لم يكتموه، فإذا مع الكتم تشترط الشهادة رواية واحدة، وهو - والله أعلم - من تصرفه، وكذلك جعله ابن حمدان قولا.

وقول الخرقي: من المسلمين. يقتضي اشتراط الإسلام في الشاهدين، وذلك لقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وخرج بذلك شهادة أهل الذمة وإن كانت المرأة ذمية وهو المنصوص والمشهور عند الأكثرين، وقيل: إن قبلنا شهادة بعضهم على بعض صح بشهادة أهل الذمة، وقد يخرج أيضا بقوله شهادة النساء، وليس بالبين، وبالجملة المذهب أن شهادتهن لا تعتبر في النكاح. 2410 - قال الزهري: «مضت السنة من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح، ولا في الطلاق.» رواه أبو عبيد في كتاب أدب القضاة، قاله القاضي ونقل عنه حرب إذا تزوج بشهادة نسوة لم يجز، فإن كان معهن رجل فهو أهون. فأثبت ذلك القاضي وجماعة من أصحابه رواية، ومنع ذلك أبو حفص العكبري، وقال: قوله: هو أهون. يعني في اختلاف الناس، (ودخل) في كلام الخرقي العبد، والأعمى، وهو كذلك، وكذلك الأخرس، وهو صحيح إن قبل الأداء منه بالخط وإلا

فلا، لعدم إمكان الأداء، (ودخل) أيضا مستور الحال، وهو المشهور من الوجهين، وإن لم نقبله في الأموال، قطع به القاضي في المجرد، وفي التعليق في الرجعة، وابن عقيل حاكيا له عن الأصحاب، والشيرازي، وابن البنا، وأبو محمد وغيرهم لتعذر البحث عن عدالة الشهود في الباطن غالبا، لوقوع النكاح في البوادي، وبين عوام الناس. «والوجه الثاني) : لا بد من العدالة الباطنة كغيره، وهو احتمال للقاضي في التعليق بعد أن أقر أنه لا يعرف الرواية عن الأصحاب، (ودخل) أيضا الفاسق لأنه مسلم، وهو رواية عن أحمد، والمنصوص عنه أنه لا ينعقد

أحق الناس بنكاح المرأة الحرة

بفاسقين، وتعجب من قول أبي حنيفة في ذلك (ودخل) أيضا في كلامه عدو الزوج أو المرأة أو الولي أو متهم لرحم من أحدهم، وهو أحد الوجهين في الجميع، (وقد يدخل) في كلامه المراهق وهو إحدى الروايتين، والمذهب اشتراط البلوغ، ولا يرد عليه الطفل والمجنون والأصم، لخروجهم عقلا وعرفا، وقد يقال: قول الخرقي: شاهدين. أحال فيه على الشهادات وأنه لا بد من شروط الشهادة المعتبرة أيضا، لكن يبقى قوله: من المسلمين. ضائعا. (تنبيه) : البغايا الزواني، والله أعلم. [أحق الناس بنكاح المرأة الحرة] قال: وأحق الناس بنكاح المرأة الحرة أبوها. ش: هذا هو المذهب بلا ريب، لأنه أكمل نظرا، وأشد شفقة، ولهذا اختص بولاية المال، وجاز شراؤه من مال ولده وبيعه له من ماله بشرطه، ولأن الولد موهوب لأبيه، قال الله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} [الأنبياء: 90] وقال إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [إبراهيم: 39] .

2411 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» وإذا تقديم الأب الموهوب له على الابن الموهوب أولى من العكس، وحكى ابن المنى

في تعليقه قولا بتقديم الابن على الأب كما في الميراث، والله أعلم. قال: ثم أبوه وإن علا. ش: هذا أشهر الروايتين، وهو المذهب عند العامة، الخرقي، وأبي بكر، والقاضي، وجمهور أصحابه وغيرهم، لأن له إيلادا وتعصيبا أشبه الأب، (والرواية الثانية) تقديم الابن عليه، اختارها ابن أبي موسى، والشيرازي، كما في الميراث، وعلى هذه هل يقدم الجد على الأخ لامتيازه بالإيلاد، أو الأخ على الجد لإدلائه بالبنوة، وهي - والحال هذه - مقدمة على الأبوة في الجملة، أو هما سواء، لامتياز كل واحد منهما بمرجح؟ فيه ثلاث روايات، أما على الأولى فالجد مقدم على الأخ بلا ريب، والله أعلم. قال: ثم ابنها وابنه وإن سفل. ش: وذلك لأنه يقدم على الأخ ومن بعده في الميراث، فكذلك هنا، وقد فهم من كلام الخرقي أن للابن ولاية، وقد نص عليه أحمد في رواية الجماعة.

2412 - «لحديث أم سلمة لما بعث إليها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطبها قالت: ليس أحد من أوليائي شاهدا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ليس أحد من أوليائك شاهد ولا غائب يكره ذلك» رواه أحمد والنسائي، فقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ليس أحد من أوليائك شاهد» يدل على أن لها وليا شاهدا، أي حاضرا في الجملة، وقول أم سلمة: ليس أحد من أوليائي شاهدا. يحتمل أنها ظنت أن ابنها عمر لا ولاية له، ويحتمل أنها قالت ذلك لأن وجوده كالعدم لعدم مباشرته للعقد، لأنه كان صغيرا، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها سنة أربع، وقال ابن الأثير: كان عُمْرُ عُمَرَ حين مات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسع سنين. وأنه ولد سنة اثنين من الهجرة. وعلى هذا يكون عمره حين التزويج سنتين، أو ثلاث سنين، وقول أحمد في رواية الأثرم - وقد سأله: أليس كان صغيرا - قال: ومن يقول كان صغيرا؟ ليس فيه بيان، يحتمل أنه إنما أنكر أن يكون في

الحديث بيان، والبيان قد يكون في حديث آخر، والله أعلم. قال: ثم أخوها لأبيها وأمها. ش: قياسا على الميراث، والله أعلم. قال: والأخ للأب مثله. ش: هذا منصوص أحمد في رواية صالح وحرب وأبي الحارث، وهو المذهب عند الجمهور الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي، والشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل، والشيرازي، وابن البنا وغيرهم، لأنهما استويا في الجهة التي تستفاد منها الولاية، وهي العصوبة التي من جهة الأب، فاستويا في النكاح، كما لو كانا من أب، وقرابة الأم لا ترجح، لأنها لا مدخل لها في النكاح. وعن أحمد رواية أخرى حكاها طائفة من الأصحاب وصححها أبو محمد أن الأخ للأبوين يقدم على الأخ للأب، قياسا على الميراث، وعلى استحقاق الميراث بالولاء، فإنه يقدم فيه الأخ من الأبوين على الأخ من الأب، وإن كان النساء لا

مدخل لهن فيه، واعلم أن القاضي وكثيرا من أصحابه حكوا ذلك عن أبي بكر، ولم يذكروا عن أحمد نصا. (تنبيه) هذا الخلاف جار في بني الإخوة والأعمام، فإن ابن الأخ للأبوين مقدم على ابن الأخ للأب على الثاني، مساو له على الأول، أما إذا كانا ابني عم أحدهما أخ لأم فقال القاضي وطائفة من أصحابه هما على ما تقدم من الخلاف في ابن عم من أبوين وابن عم من أب، وقال أبو محمد هما سواء، لأنهما استويا في التعصيب، والإرث به، وجهة الأم والحال هذه يورث بها منفردة، وما ورث به منفردا لا يرجح به، والله أعلم. قال: ثم أولادهم وإن سفلوا، ثم العمومة، ثم أولادهم، ثم عمومة الأب. ش: ملخصه أنه يقدم بعد الإخوة الأقرب فالأقرب من العصبات، على ترتيب الميراث، قياسا عليه، إذ الولاية مبناها على النظر والشفقة، ومظنة ذلك القرابة، والأحق بالميراث هو الأقرب، فيكون أحق بالولاية. والله أعلم.

قال: ثم المولى المنعم، ثم أقرب عصبته. ش: وذلك لأنهم عصبات يرثون ويعقلون، فكذلك يزوجون، وقدم عليهم المناسبون كما في الميراث، والأقرب هنا هو الأقرب في الميراث، فيقدم ابن المعتق على أبيه، وإنما قدم الأب المناسب ثم على الابن لزيادة شفقته، وكمال نظره، وهنا النظر لأقوى العصبة، والله أعلم. قال: ثم السلطان. ش: لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» ، والسلطان هو الإمام أو من فوض إليه ذلك كالحاكم ونوابه، واختلف في والي البلد (فعنه) لا يزوج، وهو الأشهر (وعنه) يزوج عند عدم القاضي إلا أن القاضي حمل الرواية على أنه أذن له في التزويج، وأبو العباس حملها على ظاهرها نظرا للضرورة. وقد دل كلام الشيخ وعامة الأصحاب أنه لا ولاية لغير من ذكر، فيدخل في ذلك من أسلمت المرأة على يديه لا يلي نكاحها، وهو المشهور من الروايتين، (والثانية) يليه بناء على أنه يرثها. (تنبيه) إذا لم يكن للمرأة ولي (فعنه) - وهو ظاهر كلام الأصحاب - أنه لا بد من الولي مطلقا حتى أن القاضي أبا يعلى

الصغير قال في رجل وامرأة في سفر ليس معهما ولي ولا شهود: لا يجوز أن يتزوج بها وإن خاف الزنا بها، قال أبو محمد: (وعنه) ما يدل على أنه يزوجها رجل عدل، وأخذ ذلك من نصه في دهقان القرية وقد تقدم. (قلت) : وهو إنما يدل على أنه يزوج كبير البلدة، وهو شبيه بقوله: يزوج والي البلد إذا لم يكن قاض، لكن ينبغي أن يكون الوالي مقدما على هذا، لأنه ذو سلطان، والله أعلم. قال: ووكيل كل واحد من هؤلاء يقوم مقامه وإن كان حاضرا. ش: لأنه نائبه وقائم مقامه، فعلى هذا يقوم مقامه في الإجبار وعدمه، وقد تضمن هذا صحة التوكيل في النكاح ولا إشكال في ذلك، فقد وكل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا رافع في تزويج ميمونة، ووكل عمرو بن أمية الضمري في تزويج أم حبيبة وظاهر إطلاق

الخرقي يقتضي أن لا يشترط إذن المرأة في التوكيل، ولا نزاع في ذلك إن كان الولي مجبرا، وكذا إن لم يكن مجبرا على اختيار الشيخين وغيرهما، وخرجه ابن عقيل في الفصول تبعا لشيخه في المجرد على روايتي توكيل الوكيل من غير إذن الموكل، والله أعلم. قال: وإذا كان الأقرب من عصبتها طفلا أو عبدا أو كافرا زوجها الأبعد من عصبتها. ش: إذا كان الأقرب من عصبتها طفلا زوج الأبعد، لأن الولاية تثبت نظرا للمولي عليه، عند عجزه عن النظر لنفسه، ومن لا

عقل له لا يمكنه النظر، ولا يلي لنفسه، فغيره أولى، وفي معنى ذلك من لا عقل له لكبر كالشيخ إذا أفند، أو لجنون مطبق، أما من يخنق في الأحيان فلا تزول ولايته، لزوال ذلك عن قرب، وكذلك المغمى عليه بطريق الأولى، وهو الذي قطع به أبو محمد، لأن مدته يسيرة، أشبه النوم، ولذلك لا تثبت الولاية عليه، ويجوز على الأنبياء - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - وحكى ابن حمدان وجها بزوالها، انتهى. وقول الخرقي: طفلا، يحتمل أن يريد به غير المميز، وهو ظاهر العرف، فعلى هذا تصح ولاية المميز، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، مقيدا له بابن عشر، لأنه تصح وصيته وعتقه وطلاقه، على الصحيح في الجميع، فأشبه البالغ، ويحتمل أن يريد الخرقي غير البالغ، وهو ظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} [النور: 59] وهو الرواية الثانية، وهي المشهورة نقلا واختيارا، لأن الولاية يعتبر لها الكمال، ومن لم يبلغ قاصر، لثبوت الولاية عليه، انتهى. وإذا كان الأقرب من العصبة عبدا - وإن كان مدبرا أو مكاتبا - زوج الأبعد أيضا بلا خلاف نعلمه، لأنه لا تثبت له الولاية على نفسه، فعلى غيره أولى، ولا يرد المكاتب يزوج أرقاءه

في وجه، لأن ذلك ولاية بالملك، وهذه بالشرع، وولايات الشرع يعتبر لها الكمال، (وكذلك) إن كان كافرا زوج الأبعد، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] مفهومه أن الكافر لا يكون وليا لمسلمة، وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعا، وكذلك الحكم في العكس. وبالجملة يشترط في الولي أن يتفق دينه ودين موليته في الجملة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى وخرج أبو العباس في اليهودي هل يكون وليا لنصرانية وبالعكس روايتين من الروايتين في توارثهما. وقول الخرقي: من عصبتها، فيه إشعار بأن الولي لا يكون إلا من العصبة، وهو صحيح نص عليه أحمد في رواية الجماعة. 2413 - لقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إذا بلغ النساء نص الحقائق فالعصبة أولى. يعني إذا أدركن رواه أبو عبيد في الغريب. (وعن

أحمد) أن المرأة تلي بالعتق فقط، لأنها والحال هذه عصبة ترث بالتعصيب، فأشبهت الرجل المعتق، قلت: ويخرج في الملاعنة ونحوها كذلك، انتهى. وقد علم من كلام الخرقي أنه يشترط للولي شروط: (أحدها) : العصوبة، (والثاني) : البلوغ، (والثالث) : الحرية، (والرابع) : اتفاق الدين. وفي البلوغ من كلامه تردد، ويشترط له أيضا الرشد في العقد، بأن يعرف مصالح العقد ومضاره، فلا يضعها عند من لا يحفظها ولا يكافئها، إذ المقصود من الولاية ذلك، (وهل) تشترط له العدالة؟ فيه روايتان: (إحداهما) : لا، فيلي الفاسق، وهو ظاهر إطلاق الخرقي، لأنه يلي نكاح نفسه، فكذلك غيره. (والثانية) : - وهي أنصهما، واختيار ابن أبي موسى، وابن حامد، والقاضي، وأصحابه وغيرهم - نعم. 2414 - لما روى الشالنجي بإسناده، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لا نكاح إلا بإذن ولي مرشد، أو سلطان. وروي معناه مرفوعا من رواية جابر، رواه البرقاني، ولأنها إحدى الولايتين،

فنافاها الفسق كولاية المال، وعلى هذه يكتفى بمستور الحال، على ما جزم به أبو البركات، وأبو محمد في الكافي، وكثير من الأصحاب أطلق العدالة، فجعل ابن حمدان ذلك طريقتين، ثم حكى رواية ثالثة أن الفاسق يلي نكاح عتيقته فقط، قلت: كما قبل العتق، وقال أبو العباس: إذا قلنا: إن الولاية الشرطية تبقى مع الفسق ويضم إليه أمين فالولاية الشرعية أولى، وفيه نظر، إذ الولاية الشرطية يلحظ فيها حظ الموصي ونظره، فلنا حاجة إلى بقاء الموصى إليه، بخلاف هنا، فإنه لا حاجة بنا إلى بقاء الولاية، وكأن أبا العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر إلى أنا إذا أبقينا وصية الأجنبي مع فسقه فالقريب أولى، لما انطوى عليه من الشفقة، لكن لا يطرد له هذا في الحاكم ونحوه.

وظاهر إطلاق المصنف أنه لا يشترط للولي النطق، وهو صحيح بشرط أن يفهم ويفهم، ولا البصر، وهو أصح الوجهين، لأن شعيبا زوج ابنته وهو أعمى، والله أعلم. قال: ويزوج أمة المرأة بإذنها من يزوجها. ش: هذا المذهب المختار من الروايات، صححه القاضي، وقطع به أبو الخطاب في الهداية، لأن الأصل كون الولاية لها، لأنها مالها، وإنما امتنعت في حقها لانتفاء عبارتها في النكاح، وإذا تثبت لأوليائها كولاية نفسها، وإنما قلنا: لا عبارة لها في النكاح، وهو المذهب بلا ريب. 2415 - لما احتج به أحمد عن أبي هريرة، قال: لا تنكح المرأة نفسها، ولا تنكح من سواها. 2416 - وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي

تزوج نفسها» رواه ابن ماجه والدارقطني، وقال: حديث حسن صحيح. والنهي دليل الفساد. 2417 - ويعضده أنه قول جمهور علماء الصحابة حكي عن ابن عمر , وابن عباس , وأبي موسى، وأبي هريرة، وحفصة، واختلف عن عائشة. ولأن مباشرتها لعقد النكاح يشعر برعونتها ووقاحتها وذلك ينافي حال أهل المروءة، انتهى. وإنما اشترط إذنها لوليها

لأن الأمة مالها، ولا يجوز التصرف في مال الفرد بغير إذنه، فلو لم تكن رشيدة زوجها من يلي مالها إن رأى الحظ لها في ذلك. (تنبيه) يعتبر في الإذن هنا النطق وإن كانت بكرا، قاله أبو محمد وغيره، إذ الصمات إنما اكتفي به في تزويجها نفسها لحيائها، وهي لا تستحيي في تزويج أمتها، انتهى. (والرواية الثانية) يزوج أمة المرأة أي رجل أذنت له سيدتها، ولا تباشر هي العقد لأن سبب الولاية الملك، وإنما امتنعت المباشرة لنقص الأنوثية، فملكت التوكيل كالرجل المريض والغائب. (والرواية الثالثة) يجوز مباشرتها للعقد، لما تقدم في صدر المسألة، ويلتزم أن لها عبارة في النكاح من قول أحمد في المعتقة: إن زوجتها - أي عتيقتها - لم يفسخ النكاح، فتكون الأمة أولى، لما تقدم في صدر المسألة، ويلتزم أن لها عبارة في النكاح، لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها» الحديث، وهذه الرواية أخذت من قول أحمد في رواية محمد ابن الحكم: إذا كان للمرأة جارية فأعتقتها كان من أحبت أن تزوجها جعلت أمرها إلى رجل يزوجها، لأن النساء لا يلين العقد، فإن زوجتها لم يفسخ النكاح. قال القاضي: وظاهر هذا عدم

الاستحباب وصحة العقد، وفي أخذ رواية من هذا نظر، فإنه منع من المباشرة، ومنعه من الفسخ يحتمل أنه لوقوع الخلاف فيه وتعلق حق الغير، مع عدم دليل قاطع في المسألة، لكن عامة المتأخرين على إثباتها رواية، وعليها فرع أبو الخطاب، وأبو البركات ومن تبعهما أن للمرأة عبارة في النكاح، فتزوج نفسها وغيرها بإذن الولي، ويكون تزويجها بدون إذنه كالفضولي، قال أبو العباس: وفرق القاضي وعامة الأصحاب على هذه الرواية بين تزويج أمتها وتزويج نفسها وغيرها بأن التزويج على الملك لا يحتاج إلى أهلية الولاية، بدليل تزويج الفاسق مملوكته، وتبعهم هو أيضا، وجعل التخريج غلطا. قلت: النص عن أحمد كما تقدم في المعتقة، ولا ملك لها إذا إلا أن يقال: استصحب فيها حكم الملك كما تقدم في الرواية التي حكاها ابن حمدان، ووافق أبو محمد على التخريج في تزويج نفسها وغيرها، ومنعه في تزويجها بدون إذن الولي لأنه يكون كتزويج الفضولي، وليس بشيء، والله أعلم.

قال: ويزوج مولاتها من يزوج أمتها. ش: يزوج معتقة المرأة من يزوج أمتها، وهو على ما قال الخرقي ولي السيدة، وظاهره أنه يقدم فيه الأب على الابن، وقد تقدم في الولاء بالعتق أنه يقدم الابن على الأب، وصرح به أبو محمد، وقال أبو البركات: إن قلنا: يلي عليها. اشترط إذنها، وجرت فيها الروايات الثلاث في مولاتها الرقيقة، وإن قلنا لا يلي للملك، كما تقدم في الرواية التي حكاها ابن حمدان زوج بدون إذنها أقرب عصبتها، وذلك لأن التزويج هنا مستفاد بالتعصيب بالإرث، وهو مناف لظاهر كلام الخرقي، لأنه إن حمل كلامه على أن لها ولاية أشكل عدم اشتراط إذن المعتقة، وإن حمل على أنها لا ولاية لها - وهو ظاهر كلامه المتقدم - أشكل تقديم الأب على الابن. قلت: ويمكن توجيه كلام الخرقي على أن لها ولاية، حيث قال: ويزوج مولاتها من

تولي طرفي العقد في النكاح

يزوج أمتها، فدل على أن هنا قدر مشترك، وأما اشتراط الإذن فيكون تركه له لدلالة ما قبله عليه، وهو قوله: ويزوج أمة المرأة بإذنها من يزوجها. فيصير التقدير: ويزوج مولاتها بإذنها من يزوج أمتها، والله أعلم. وقد تبع أبو الخطاب في الهداية الخرقي على ذلك، وقد اضطرب كلام الأصحاب في هذه المسألة اضطرابا كثيرا، وليس هذا موضع استقصاء ذلك، وعلى كل حال فلا بد من عدم العصبة المناسب بلا نزاع ومن رضى المعتقة على الصحيح المقطوع به عند الشيخين وغيرهما، وقيل: يملك إجبارها من يملك إجبار سيدتها التي أعتقتها، وهو بعيد، والله أعلم. [تولي طرفي العقد في النكاح] قال: ومن أراد أن يتزوج امرأة هو وليها جعل أمرها إلى رجل يزوجها منه بإذنها. ش: هذه مسألة تولي طرفي العقد في النكاح، ولها ثلاث صور: (إحداها) : الجواز بلا نزاع، وهو ما إذا كان الولي مجبرا من الطرفين، كما إذا زوج أمته بعبده الصغير، أو زوج الوصي في النكاح صغيرة بصغير كلاهما في حجره، ونحو ذلك، إذ لا إذن فيشترط، وقيل: يختص الجواز بما إذا زوج عبده أمته، لأنه

يتصرف بحكم الملك، وجود أبو العباس هذا، وقد حكي الإجماع عليه. (الصورة الثانية) : عدمه بلا نزاع، وهو ما إذا كان وليا لامرأة مجبرة كعتيقته وبنت عمه المجنونتين، فإنه لا يجوز أن يتزوجهما، لشدة التهمة في ذلك، لتعذر الإذن منهما، فهو كوصي اليتيم يشتري من ماله، فعلى هذا لا يملك أن يتزوجهما إلا بولي غيره من العصبة إن كان، وإلا فبولاية الحاكم، ولا يملك ذلك بوكيله على الأصح، لأنه قائم مقامه، ونائب منابه. (الصورة الثالثة) : ما عدا ذلك وهو ما إذا كانت المرأة لها إذن معتبرة، فهل لوليها أن يتزوجها بإذنها وولايته، أو لا بد أن يوكل في أحد طرفي العقد؟ فيه روايتان، (أشهرهما) وأنصهما - وهي التي اختارها الخرقي، وابن أبي موسى، وأبو حفص البرمكي، والقاضي في تعليقه، والشريف، وأبو الخطاب، في خلافيهما، ونص عليها أحمد في رواية ثمانية من أصحابه - لا يجوز. 2418 - لما روى أبو داود بإسناده عن عبد الملك بن عمير أن المغيرة بن شعبة أمر رجلا أن يزوجه امرأة المغيرة أولى بها منه.

2419 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا بد في النكاح من أربعة: الولي، والزوج، والشاهدين» رواه الدارقطني، ومع تولي الطرفين لم يحضره إلا ثلاثة، (والثانية) : يجوز ذلك أومأ إليها في رواية طائفة من أصحابه، واختارها القاضي في الجامع الصغير، وفي المجرد، وأبو محمد لظاهر قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] الآية، مفهومه إذا لم يخف يجوز له أن يتزوجها، وإن لم يول غيره.

2420 - وروى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: «أترضى أن أزوجك فلانة؟» قال: نعم. وقال للمرأة: «أترضين أن أزوجك فلانا؟» قالت: نعم. فزوج أحدهما صاحبه، فدخل بها ولم يفرض لها صداقا، ولم يعطها شيئا، وكان ممن شهد الحديبية، له سهم بخيبر، فلما حضرته الوفاة قال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا، وإني أشهدكم أني أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر. فأخذت سهما فباعته بمائة ألف درهم.» رواه أبو داود. 2421 - وقال عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لأم حكيم بنت قارظ: أتجعلين أمرك إلي؟ قالت: نعم. فقال: قد تزوجتك. ذكره البخاري في صحيحه. ولعموم «لا نكاح إلا بولي» وهذا ولي، أما حديث «لا بد في النكاح من أربعة» فضعيف، وعلى

تقدير صحته فالواحد يقوم مقام الاثنين، وقصة المغيرة بن شعبة لا إشكال في جواز مثلها إنما النزاع هل يتحتم ذلك، وكذلك الخلاف فيمن اجتمع له تولي الطرفين بغير ذلك، كزوج وكله الولي، أو ولي وكله الزوج، أو وكيل من الطرفين، أو ولي فيهما، كمن زوج ابنه الصغير، ببنت أخيه ونحو ذلك، وقيل: يجوز تولي الطرفين إلا للزوج خاصة، لتنافى الغرضين، إذ من طبع الإنسان طلب الحظ لنفسه، والواجب عليه طلبه لموليه، وقيل: لا يجوز ذلك إلا إذا كان الولي هو الإمام فقط، ذكره أبو حفص البرمكي، لأنه لا أحد أكفأ منه، ولأنه كالأب بالنسبة إلى الرعية. وحيث جاز تولي الطرفين فيكفي أن يقول: زوجت فلانة فلانا، أو تزوجتها، فيما إذا كان هو الزوج، على المشهور من الوجهين، لأن ذلك قائم مقام إيجاب وقبول، (والوجه الثاني) لا بد من تصريح بإيجاب وقبول، فيقول: زوجت فلانا فلانة، وقبلت له النكاح. وزوجت نفسي فلانة، وقبلت هذا النكاح. (تنبيه) إذا قيل بجواز تولي الطرفين للزوج بإذن موليته فلا بد أن تأذن في تزويجها من نفسه، أما لو أذنت في النكاح وأطلقت فإنه لا يجوز له أن يتزوجها من نفسه على الصحيح، وقيل: يجوز، بناء على الوكيل في البيع يبيع من نفسه بشرطه، فعلى الأول

ولاية الكافر عقد نكاح المسلمة

- وهو المذهب - هل له أن يزوجها لولده أو والده أو مكاتبه؟ فيه وجهان، والله أعلم. [ولاية الكافر عقد نكاح المسلمة] قال: ولا يزوج كافر مسلمة بحال. ش: قد تقدمت هذه المسألة، وأن الكافر القريب لا ولاية له ويزوج البعيد، ونزيد هنا بأن قوله: بحال. ليدخل من ولايته بالملك، كمن أسلمت أم ولده أو مكاتبته ونحو ذلك، وهذا أحد الوجهين، واختيار أبي محمد، لعموم ما تقدم من الآية والإجماع. (والوجه الثاني) وبه قطع أبو الخطاب في خلافه، وابن البنا في خصاله، أنه يلي والحال هذه، إذ ولاية الملك لا يشترط لها الأهلية، بدليل الفاسق يزوج أمته. ومفهوم كلام الخرقي أن الكافر يزوج الكافرة، وهو صحيح، للآية الكريمة، وتعتبر فيه الشروط المعتبرة في المسلم، حتى في عدالته إن اشترطت في المسلم، والعدل منهم من لم يرتكب محظورا في دينه، وعموم المفهوم يقتضي أن الكافر يلي على موليته الكافرة وإن أرادت التزويج بمسلم، وهو اختيار أبي الخطاب في

ولاية المسلم عقد نكاح الكافرة

الهداية، والشيخين، وقال ابن أبي موسى، والقاضي في التعليق، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي: لا يليه على مسلم، بل تثبت الولاية للحاكم، وزعم القاضي أنه ظاهر كلام الإمام، معتمدا على قوله في رواية حنبل: لا يعقد يهودي ولا نصراني عقد نكاح لمسلم ولا لمسلمة. وهو إنما يدل على أنه يمنع من المباشرة، ولهذا جعل أبو البركات الخلاف في مباشرته العقد، هل يباشره أو يباشره بإذنه مسلم، أو الحاكم خاصة، ثلاثة أوجه، وجزم بأن له الولاية، والله أعلم. [ولاية المسلم عقد نكاح الكافرة] قال: ولا مسلم كافرة إلا أن يكون المسلم سلطانا، أو سيد أمته. ش: لا يزوج المسلم الكافرة، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] نعم إن كان المسلم سلطانا زوج، لأن له ولاية عامة على أهل دار الإسلام، والكافر والحال هذه من أهل الدار، والحاجة داعية إلى ذلك، وكذلك إن كان

سيد أمته، لأنه عقد على منافعها، أشبه إجارتها، والله أعلم. قال: وإذا زوجها من غيره أولى منه وهو حاضر ولم يعضلها فالنكاح فاسد. ش: قد تقدم بيان الأولى بالتقديم من الأولياء، فإذا زوج غير الأولى كالأخ مع وجود الأب، أو العم مع حضور الأخ، والحال أنه لا عضل من الأب ولا من الأخ، فالنكاح فاسد، على المشهور المختار للأصحاب من الروايتين. 2422 - لحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل» رواه أبو داود وهذه نكحت بغير إذن وليها، إذ هذا لا ولاية له والحال هذه. 2423 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا نكح العبد بغير إذن مولاه فنكاحه باطل» رواه أبو داود، لكن قال: إنه ضعيف، وإنه موقوف على ابن عمر ولأن أحكام النكاح

المختصة به من الحل والنفقة والطلاق والتوارث لا تثبت فيه بمجرده، أشبه نكاح المعتدة، (والرواية الثانية) يقف النكاح والحال هذه على الإجازة، ولا يحكم بفساده. 2424 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن جارية بكرا أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - رواه أبو داود، وابن ماجه ولو فسد لما كان للتخيير فائدة، وقد

اعترض عليه بأن أبا داود رواه أيضا مرسلا عن عكرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: وكذا رواه الناس مرسلا. وكذا قال البيهقي: الصواب أنه مرسل. قال البيهقي: ولو صح فكأنه كان وضعها في غير كفؤ، فلذلك خيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قلت: ودعوى الإرسال إن سلم لا تضر على قاعدتنا، وأما الحمل على أنه وضعها في غير كفؤ فبعيد، إذ يقتضي أن يترك من الحديث ما الحكم منوط به، ويذكر فيه ما لا إناطة به، مع أنه غير منوط به، هذا تجهيل وعلى هذه الرواية الحكم في الإجازة منوط

بالولي الأقرب، إن أجازه جاز، وإن رده بطل، ولا نظر للحاكم على الصحيح، وقيل: إن كان الزوج كفوا أمر الحاكم الولي بالإجازة، فإن أجازه وإلا صار عاضلا فيجبره الحاكم، كذا أجاب أبو محمد، وفيه نظر إن كان لها ولي غير الحاكم وإذا ينبغي أن ينتقل الحق في الإجازة إليه كما في العضل في النكاح على المذهب، انتهى. ولو كانت المزوجة بغير إذن وليها أمة فخرجت عن ملكه قبل الإجازة إلى من تحل له انفسخ النكاح، لطريان إباحة صحيحة على موقوفة، أشبه طريان الملك على النكاح، وفيه شيء، إذ الإباحة التي حصلت للثاني كالإباحة التي كانت للأول سواء، انتهى. أما إن انتقلت إلى من لا تحل له كامرأة أو جماعة فقيل: إن الحكم كذلك، وقيل: بل الإجازة والحال هذه إلى المالك الثاني، ولو أعتق من له الإجازة الأمة فهل يبطل حقه منها ويمضي النكاح، أم يبقى حقه فيها قبل العتق؟ فيه احتمالان، وتعتبر الشهادة حين العقد، لا حين الإجازة، لاستناد الملك إلى حال العقد، ومن ثم لو وطئ قبل الإجازة ثم أجيز لم يجب إلا مهر واحد، ولا تثبت فيه قبل الإجازة الأحكام

المختصة بالنكاح الصحيح، من الحل والنفقة، ونفوذ الطلاق، والتوارث وغير ذلك، قاله ابن عقيل وغيره، وقيل: يثبت التوارث إن كان مما لو رفع إلى الحاكم أجازه انتهى. وكذلك الروايتان في تزويج الأجنبي، وفي تزويج المرأة المعتبر إذنها بدونه على رواية الوقف، فإجازة الثيب بالنطق، أو ما يدل على الرضى من وطء ونحوه، وإجازة البكر بالسكوت، كإذنها قبل العقد. وقد دل مفهوم كلام الخرقي أن الولي الأقرب لو لم يكن حاضرا لم يفسد النكاح، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، (ودل أيضا) على أن الأقرب إذا عضل فزوج الأبعد أن النكاح لا يفسد، وهذا (إحدى الروايتين) عن أحمد، أعني أن الولاية تنتقل عند عضل الأقرب إلى الأبعد، وهو المذهب، اختاره القاضي، وابن عقيل، وأبو محمد وغيرهم، لأن الولاية قد تعذرت من الأقرب، فانتقلت إلى الأبعد، كما لو جن الأقرب أو فسق، (والثانية) تنتقل الولاية إلى الحاكم وهي اختيار أبي بكر، لظاهر قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» ولأنه حق عليه امتنع من أدائه، فقام الحاكم مقامه فيه كالدين، ويجاب بالقول بموجب الحديث، فإنه قال: من لا ولي له وهذه لها ولي، ثم ظاهره أن الكل اختلفوا وامتنعوا، لقوله: فإن اشتجروا وإذا يتعين الحاكم، والتزويج حق له، بخلاف الدين فإنه حق عليه، على أنه قد قيل: إنه يفسق بالعضل، فتزول ولايته، كما لو فسق بغيره.

(تنبيه) العضل في الأصل المنع، وهو هنا منع المرأة من تزويجها بكفئها إذا طلبت ذلك، ورغب كل من الزوجين في صاحبه. 2425 - قال معقل بن يسار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانت لي أخت تخطب إلي فأتاني ابن عم لي فأنكحتها إياه، ثم طلقها طلاقا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، فلما خطبت إلي أتاني يخطبها، قلت: لا والله لا أنكحكها أبدا. قال: ففي نزلت هذه الآية: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا} [البقرة: 232] الآية، قال: فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وسواء رضيت بمهر مثلها أو دونه إن كانت رشيدة، إذ المهر خالص حقها، ولو رضيت بغير كفو كان للولي الامتناع ولا عضل، أما إن عينت كفوا وعين الولي كفوا غيره فإن تعيينها يقدم عليه، حتى أنه يعضل بالمنع، ثم حيث يكون عاضلا، فظاهر كلام أبي محمد أنه يفسق بمجرد ذلك، ونظير ذلك ما قاله ابن أبي موسى أن الولي إذا زوج بغير كفؤ يفسق وتفسق المرأة بذلك إن رضيت، وقال ابن عقيل في العضل: لا يفسق إلا أن يتكرر الخطاب وهو يمنع، أو يعضل جماعة من مولياته دفعة واحدة فإذا تصير الصغيرة في حكم الكبيرة، وينبغي أن يقال في التزويج بغير كفؤ كذلك، ثم لا بد من تقييد ذلك في الموضعين بالعلم،

الأولى بزواج المرأة عند غياب الولي

وقد ذكر أبو العباس من صور العضل إذا امتنع الخطاب من خطبتها لشدة الولي، والله أعلم. [الأولى بزواج المرأة عند غياب الولي] قال: وإذا كان الولي غائبا في موضع لا يصل إليه الكتاب أو يصل فلا يجيب عنه زوجها من هو أبعد منه من عصبتها، فإن لم يكن فالسلطان. ش: إذا غاب الولي الأقرب الغيبة المعتبرة زوج الأبعد من العصبة، فإن لم يكن فالسلطان على المنصوص، وعليه الأصحاب، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له» وهذه لها ولي مناسب، فيزوج بحكم الحديث، ولأن البعيد يرجح بقرب نسبه والقريب بقرب محله فتساويا، ومن ثم قال ابن عقيل: ليس معنى قولنا تنتقل الولاية إلى الأبعد سلب لولاية القريب، لكن اشتراك بينهما، بدليل أنه لو زوج القريب الغائب في مكانه أو وكل صح، وكذا لو وكل ثم غاب، بخلاف ما لو وكل ثم جن فإن وكالته تنفسخ، وأما شيخه في التعليق فقال: إذا زوج أو وكل في الغيبة فالولاية باقية، لانتفاء الضرر وإلا سقطت، ثم قال: وقد قيل. . . وحكى كقول تلميذه، انتهى. وخرج أبو الخطاب ومن تبعه كأبي البركات رواية أن الحاكم

يزوج كما في العضل، إذ الأبعد محجوب بالأقرب، والولاية باقية، فقام الحاكم مقامه فيها، ولم يعرج أبو محمد على التخريج، وقد ذكر ابن المنى في إلحاق الغيبة بالعضل تسليما ومنعا، وقد يقال في وجه المنع أنه لو سلم أن التزويج حق على الولي حتى يقوم الحاكم مقامه فيه، فذلك إذا امتنع، وفي الغيبة لا امتناع، وفي معنى الغائب لو كان الولي مأسورا، ولا يمكن مراجعته، أو محبوسا يتعذر استئذانه، قاله أبو محمد، وزاد أبو العباس: لو كان الولي مجهولا لا يعرف أنه عصبة ثم عرف بعد العقد. والغيبة المعتبرة التي معها يزوج الأبعد، قال الخرقي: أن لا يصل إليه الكتاب، كمن هو في أقصى بلاد الهند، أو يصل فلا يجيب عنه، وهذا يحتمل لبعده، وهو الظاهر، ويحتمل وإن كان قريبا، فيكون في معنى العاضل، وبالجملة قد أومأ أحمد إلى هذا في رواية الأثرم، قال: المنقطع الذي لا تصل إليه الأخبار، وذلك لأن مثل ذلك يتعذر مراجعته، فيلحق الضرر بانتظاره، ومنصوص أحمد في رواية عبد الله أنه ما لا يقطع إلا بكلفة

اشتراط الكفاءة في النكاح

ومشقة، وهو اختيار أبي بكر , والشيخين، لأن أهل العرف يعدون ذلك مضرا، وقال القاضي في تعليقه - وتبعه أبو الخطاب في خلافه الصغير -: هو ما لا تقطعه القافلة في السنة إلا مرة، كسفر الحجاز، وعن ابن عقيل: ما تستضر به المرأة من فوات الكفو الراغب، وقيل: يكتفى بمسافة القصر، لأن أحمد اعتبر البعد في رواية ابن الحارث وأطلق، انتهى. وكل موضع لا توجد الغيبة المعتبرة فإن الولي ينتظر ويراسل، حتى يقدم أو يوكل. وظاهر كلام الخرقي أن الشرط لتزويج الأبعد الغيبة المذكورة، فلو لم يعلم أقريب أم بعيد لم يزوج الأبعد، وهو ظاهر إطلاق غيره، وقال أبو محمد في المغني: يزوج الأبعد والحال هذه، قال: وكذلك إذا علم أنه قريب ولم يعلم مكانه وهو حسن، مع أن كلام الخرقي لا يأباه، وفي قول الخرقي: زوج من هو أبعد من عصبتها. إشعار بأن هذا الحكم في الحرة، وهو صحيح، إذ لو غاب سيد الأمة فطلبت النكاح في حال غيبته فإن الحاكم يزوجها، قاله القاضي في تعليقه مدعيا أنه قياس المذهب، والله أعلم. [اشتراط الكفاءة في النكاح] قال: وإذا زوجت من غير كفو فالنكاح باطل. ش: الكفاءة شرط لصحة النكاح، على المنصوص والمشهور، والمختار لعامة الأصحاب (من الروايتين) .

2426 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا خطب المسلم ممن ترضون دينه وخلقه، فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير» رواه الترمذي، وروي مرسلا، قال بعضهم: وهو أصح، ومفهومه أنه إذا لم يرض دينه ولا خلقه لا يزوج. 2427 - وروى الدارقطني بإسناده عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لأمنعن فروج ذوات الأحساب إلا من الأكفاء.

2428 - وعن أبي إسحاق الهمداني، قال: خرج سلمان، وجرير في سفر، فأقيمت الصلاة، فقال جرير لسلمان: تقدم. فقال سلمان: بل أنت تقدم، فإنكم معشر العرب لا نتقدم في صلاتكم ولا ننكح نساءكم، لأن الله تعالى فضلكم علينا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتج بهما أحمد في رواية أبي طالب.

2429 - وفي مراسيل أبي داود عن الحسن قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتزوج الأعرابي المهاجرة» . ولأنه تصرف في حق من يحدث من الأولياء بغير إذنه فلم يصح، كما لو زوجت بغير رضاها، (والرواية الثانية) الكفاءة شرط للزوم النكاح دون صحته، اختاره أبو الخطاب في خلافه الصغير، وأبو محمد، وابن حمدان، لظاهر قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . 2430 - وقد «زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنتيه من عثمان ومن أبي العاص» ، ونسبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من فوق نسبهما.

2431 - وفي الصحيحين «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر فاطمة بنت قيس أن تنكح أسامة بن زيد مولاه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهي قرشية» . 2432 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أبا هند حجم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في اليافوخ، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بني بياضة، أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه» وقال: «إن كان في شيء مما تداوون به خير فالحجامة» رواه أبو داود. وبنو بياضة من الأنصار، وأبو هند حجام من مواليهم. وزاد أبو داود في المراسيل عن الزهري

فقالوا: يا رسول الله نزوج بناتنا من موالينا؟ فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] الآية، قال الزهري: نزلت في أبي هند خاصة. قال عبد الحق الإشبيلي: وقد أسند هذا والمرسل أصح. 2433 - وعن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: «جاءت فتاة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أبي زوجني من ابن أخيه ليرفع بي خسيسته. قال: فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس للآباء من الأمر شيء.» رواه ابن ماجه، ورواه أحمد، والنسائي من حديث ابن بريدة عن عائشة. 2434 - وقد روي الجواز أيضا، عن عدة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وحديث أبي هريرة إن صح نقول بموجبه، إذ مقتضاه أنه لا يجب

علينا تزويجه، وكذا نقول، ومراسيل الحسن من أضعف المراسيل، وقصة عمر، وسلمان إن ثبتتا يحتمل أن ذلك منهما على سبيل الاختيار، يدل على ذلك أن عمر قال: لأمنعن. ولو كان هذا أمرا متحتما لمنع قطعا. ومن نصر الأولى أجاب عن تزويجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنتيه لعثمان ولأبي العاص بأنهما من العرب، والعرب لا تتفاضل على رواية، وكذلك قال أحمد في رواية أبي طالب وغيره في الجواب عن حديث أسامة، وأسامة عربي جرى عليه الرق، وعلى رواية

التفاضل هم من قبيلة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنهما من قريش، وعن قصة أبي هند بأن أحمد ضعفه وأنكره في رواية أبي طالب وغيره، وكذلك بقية الآثار، قال المروذي: قلت لأبي عبد الله قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا بني بياضة أنكحوا أبا هند» فأنكره إنكارا شديدا، وأنكر الأحاديث الذي فيها نكاح غير الأكفاء، وقال مهنا: سألته عن هذه الأحاديث أن عمر أراد أن يزوج سلمان، والأحاديث التي جاءت: فلان تزوج فلانة، وفلانة تزوجت فلانا. قال: ليس لها إسناد، وأما حديث بريدة فالتزم القاضي في التعليق في الجواب عنه بأن المبطل عدم الكفاءة في النسب فقط، قال: والذي فقد هنا يحتمل أنه الدين، أو الصناعة، وقال ابن أبي موسى: هذا الرجل كان كفؤا لأنه ابن عمها وهو مسلم، ويحتمل أنه كان أعور أو أعرج، أو فقيرا، وذلك ليس بنقص في الكفء. قلت: إذا لم يكن نقصا في الكفء فلم خيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، انتهى.

فعلى (الرواية الأولى) الكفاءة حق لله تعالى وللمرأة والأولياء حتى من يحدث، ولا يتصور العلم برضى الجميع، فيبطل النكاح، (وعلى الثانية) حق للمرأة والأولياء فقط، فعليها يمكن العلم بالرضا، ويتوقف على من هو له، فإذا رضيت المرأة والأولياء بغير كفؤ صح النكاح، لأن الحق لهم، وإن عقده بعضهم ولم يرض الباقون، فهل يقع العقد باطلا من أصله، أو صحيحا؟ على روايتين، حكاهما القاضي في الجامع الكبير، أشهرهما الصحة، لحديث الفتاة التي جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعلى هذه لمن لم يرض من المرأة والأولياء المستوين الفسخ، وهل للأبعد الفسخ مع رضى الأقرب، لما يلحقه من العار بفقد الكفاءة، أو لا فسخ له، لأنه كالمعدوم ولحجبه بالأقرب؟ فيه روايتان، أشهرهما الأولى، حتى أن القاضي في الجامع الكبير، قال: لا تختلف الرواية في ذلك. (تنبيهان) : أحدهما: إذا حدثت الكفاءة وقت العقد، كما إذا أوجب النكاح لعبد، فقال السيد: قبلت النكاح له وأعتقته. فقال أبو العباس: قياس المذهب الصحة، قال: ويتخرج عدمها من رواية إذا أعتقا معا، (الثاني) حسب الإنسان ما يعده

من مفاخر آبائه، وقيل: شرف النفس وفضلها، (والكفؤ) المثل، (واليافوخ) وسط الرأس، والله أعلم. قال: والكفؤ ذو الدين والمنصب. ش: لما قال: إن الكفاءة شرط لصحة النكاح. أراد أن يبين الكفاءة ما هي، فقال: إنها الدين والمنصب، وهذا (إحدى الروايتين) عن أحمد، وإليها ميل أبي محمد، (أما في الدين) فلقول الله سبحانه وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] ويلتزم أن نفي الاستواء يقتضي نفي الاستواء من كل وجه، كما قد صرح به القاضي وغيره من أصحابنا، ولأن الفاسق مردود الشهادة والرواية، غير مأمون، مسلوب الولاية، ناقص عند الله وعند خلقه، فلا يكون كفؤا لعفيفة. 2435 - (وأما في المنصب) وهو النسب فلأن في حديث عمر المتقدم، قال: قلت: وما الأكفاء؟ قال: في الحسب. رواه أبو بكر بإسناده، ولأن العرب يعدون الكفاءة في النسب، ويأنفون من

نكاح الموالي، ويرون ذلك نقصا وعارا (والرواية الثانية) تعتبر الكفاءة في خمسة أشياء، الشيئين المذكورين، والحرية، والصناعة، واليسار، اختارها القاضي في تعليقه، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وأبو البركات، وصححها أبو محمد في الحرية، والشيرازي في اليسار. 2436 - وذلك (أما في الحرية) فلأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير بريرة حين عتقت، وإذا ثبت الخيار في الاستدامة ففي الابتداء أولى، (وأما في

الصناعة) فلأن ذلك نقص في عرف الناس، أشبه نقص النسب. 2437 - وقد روي «العرب بعضهم لبعض أكفاء، قبيلة لقبيلة، وحي لحي، ورجل لرجل، إلا حائك أو حجام» ذكره ابن عبد البر في التمهيد، وهو ضعيف، وقد بالغ ابن عبد البر، فقال: إنه منكر موضوع. لكن أحمد قال: العمل عليه. لما قال له مهنا - وقد قال: الناس أكفاء إلا الحائك والحجام -: تأخذ بالحديث وأنت تضعفه؟ قال: العمل عليه. (وأما في اليسار) فلأن في عرف الناس التفاضل بذلك.

2438 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس حين أخبرته أن معاوية خطبها «أما معاوية فصعلوك لا مال له» . تنبيهات: (أحدها) : قد تقدم أن الكفاءة هل هي شرط للصحة أو للزوم؟ على روايتين، وأن الكفاءة هل تعتبر في اثنين أو في خمسة؟ على روايتين أيضا، واختلف طرق الأصحاب هل روايتا الصحة واللزوم في الخمسة أو في بعضها، فقال القاضي في الجامع الكبير - وهو ظاهر كلامه في التعليق، وأبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد وطائفة -: هما في الشرائط الخمسة، وقال في المجرد: محلهما في الدين والمنصب فقط، أما الثلاثة الباقية فلا تبطل، رواية واحدة، وجمع أبو البركات الطريقتين،

فجعل في المسألة ثلاث روايات، الثالثة: يختص البطلان بالمنصب والدين فقط، وقال القاضي في المجرد: يتوجه اختصاص البطلان بالنسب فقط، وهذه طريقته في الروايتين وفي التعليق، التزاما كما تقدم، وقال أبو العباس: لم أجد عن أحمد نصا ببطلان النكاح لفقر أو رق، ولم أجد عنه نصا بإقرار النكاح مع عدم الدين والمنصب، ونص على التفريق بالحياكة في رواية حنبل وعلي بن سعيد، وهذه طريقة خامسة. (الثاني) : الكفاءة في الدين) أن لا يزوج العفيفة عن المحرم المفسق بفاسق من جهة فعل أو اعتقاد، وفي كون من شرب مسكرا ولم يسكر كفوا لمن تقدم روايتان، حكاهما ابن أبي موسى (والمنصب) هو النسب، فلا تزوج عربية بعجمي، والعرب بعضهم لبعض أكفاء، وسائر الناس بعضهم لبعض أكفاء، على إحدى الروايتين أو الروايات عن أحمد - رحمة الله -، واختيار أبي محمد في العمدة، لما تقدم من أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج ابنتيه عثمان وأبا العاص، وهما من بني عبد شمس، وزوج أسامة فاطمة بنت قيس وهي من قريش» .

2439 - وزوج علي عمر ابنته أم كلثوم، وهذا يدل على أن العرب كلهم في رتبة واحدة. 2440 - وفي مسند البزار عن خالد بن معدان، عن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العرب بعضهم لبعض أكفاء، والموالي بعضهم لبعض أكفاء» إلا أن خالدا لم يسمع من معاذ، وحكى القاضي في الجامع الكبير، وأبو الخطاب والشيخان وغيرهم عن أحمد رواية أخرى أن القرشية لا تزوج لغير قرشي، والهاشمية لا تزوج لغير هاشمي، إذ العرب فضلت بقية الناس برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقريش أخص به من سائر العرب، وبنو هاشم أخص به من قريش. 2441 - وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» ورد أبو العباس هذه الرواية،

وقال: ليس في كلام أحمد ما يدل عليها، وإنما المنصوص عنه في رواية الجماعة أن قريشا بعضهم لبعض أكفاء، قال: وكذلك ذكر ابن أبي موسى، والقاضي في خلافه، وحكى رواية مهنا: قريش أكفاء بعضهم لبعض، والعرب أكفاء بعضهم لبعض، وموالي القوم منهم، قال أبو العباس: ومن قال: إن الهاشمية لا تتزوج بغير هاشمي، بمعنى أنه لا يجوز فهو مارق من دين الإسلام، إذ قصة تزويج الهاشميات من بنات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وغيرهن بغير الهاشميين ثابت في السنة ثبوتا لا يخفى، فلا يجوز أن يحكى هذا خلافا في مذهب أحمد، وليس في لفظه ما يدل عليه، انتهى. (قلت) : وكذلك حكى القاضي الرواية في الروايتين على نحو ما في الخلاف، وصححها، وحكى ابن عقيل في التذكرة المسألة على ثلاث روايات، فجمع طريقتي شيخه في الجامع وفي الخلاف. (تنبيه) : يجوز للعجمي تزوج موالي بني هاشم، نص عليه في رواية أبي طالب.

2442 - وقال: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مولى القوم من أنفسهم» هو في الصدقة، ويحتمل رواية مهنا المتقدمة «مولى القوم منهم» المنع. أما ولد الزنا فلا يكون كفوا لعربية، لأنه أدنى من المولى، قاله أبو محمد، ومن أسلم كفو لمن له أبوان في الإسلام، نص عليه، وكيف لا والصحابة أفضل الأمة وأكفاء للتابعين، بلا تردد، (أما السلامة) من العيوب فلا يبطل عدمها قولا واحدا، نعم للمرأة الفسخ للعيب، لا لفوات الكفاءة انتهى. (والكفاءة في الحرية) أن لا تزوج حرة بعبد. قلت: ولا بمن بعضه رقيق، واختلف فيمن مسه أو مس أباه الرق، هل يكون كفوا لحرة الأصل؟ كلام أحمد يدل على روايتين، والجواز اختيار ابن أبي موسى، وأبي محمد، وظاهر كلام أبي الخطاب في الانتصار، والمنع اختيار ابن عقيل، واختلف أيضا في موالي القوم هل هم أكفاء لهم؟ فعنه أنهم أكفاء لهم. 2443 - لما روي أبو رافع مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث رجلا من بني مخزوم على الصدقة، فقال لأبي رافع: أصحبنا كيما تصيب منها. قال: لا حتى آتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسأله. فانطلق فسأله، فقال: إن الصدقة لا تحل لنا، وإن مولى القوم من

أنفسهم» رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي وصححه، قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أنفسهم يشمل في الصدقة وفي غيرها، (وعنه) - واختاره القاضي في الروايتين وأبو محمد - ليسوا بأكفاء لهم، قصرا على السبب وهو الصدقة، ولأنه إذا كافى سيدته كافى من تكافيه سيدته، فيبطل اعتبار المنصب. (وأما الكفاءة) في الصناعة فتعتبر في الحجامة بلا خلاف نعلمه في المذهب، فلا تزوج بنت بزاز بحجام، وكذلك في الكساحة نص عليه، فلا تزوج بنت باني - وهو صاحب العقار، وقيل: الكثير المال - بكساح، وهل تعتبر في الحياكة؟ فيه روايتان، وما عدا هذه الثلاثة من الصنائع الرديئة كالحارس والمكاري والمزين والكباش والحمامي ونحوهم فلا نص فيه عن أحمد، قاله ابن عقيل، ثم من الأصحاب من قصر الحكم على الثلاثة مدعيا بأن الشرع لم يرد بغيرها، وأن القياس لا مدخل له هنا، ومنهم - وهو القاضي في الجامع، وأبو محمد -

من عدى ذلك إلى كل صناعة رديئة، قياسا على الحجامة. (قلت) والظاهر أن الشرع لم يرد في الكساحة بشيء، فنص أحمد عليها دليل على لحظ المعنى. ومعنى الكفاءة بالمال أن يكون بقدر المهر والنفقة، قاله القاضي، وأبو محمد في المغني، ولأن هذا الذي يحتاج إليه في النكاح، ولم يعتبر أبو محمد في الكافي إلا النفقة فقط، واعتبر ابن عقيل أن يكون بحيث لا يغير عليها عادة كانت عند أبيها في بيته. (الثالث) : الكفاءة المعتبرة في الرجل دون المرأة، إذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا مكافئ له، وقد تزوج من أحياء العرب وتسرى. 2444 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كانت عنده جارية فعلمها وأحسن تعليمها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران» متفق عليه، والمعنى في ذلك أن الولد يشرف بشرف أبيه لا بأمه. (الرابع) : قال أبو العباس: ينبغي أن يكون الخيار في الفسخ على التراخي، في ظاهر المذهب، لأنه لنقص في المعقود

عليه، فعلى هذا يسقط خيارها بما يدل على الرضى من قول وفعل، ولا يسقط خيار الأولياء إلا بالقول، وقال: إن قياس المذهب افتقار الفسخ إلى حاكم. (الخامس) : إذا كانت الكفاءة المعتبرة حال العقد موجودة ثم زالت بعده، فإن النكاح لا يبطل بذلك قولا واحدا، لكن هل للمرأة والأولياء الفسخ، كما لو كانت معدومة قبل العقد ويعزى ذلك لأبي الخطاب، ويحتمله كلام شيخه في التعليق، أو لا يثبت لواحد منهما، أو يثبت ذلك للمرأة دون الولي، وهو الذي أورده المجد مذهبا؟ على ثلاثة أوجه، والله أعلم. قال: وإذا زوج الرجل ابنته البكر فوضعها في كفاية فالنكاح ثابت وإن كرهت، كبيرة كانت أو صغيرة. ش: لا نزاع بين أهل العلم فيما نعلمه في أن للأب تزويج ابنته البكر التي لم تستكمل تسع سنين وإن كرهت، بشرط أن يضعها في كفاية، وقد حكاه ابن المنذر إجماعا، ودل عليه قوله سبحانه: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي فعدتهن كذلك [أو على التقديم والتأخير، والتقدير: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، وعلى كل حال يدل] على أن الصغيرة تزوج وتطلق، لوقوع

العدة عليها، ولا إذن لها معتبرة والحال هذه. 2445 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها وهي بنت ست سنين، وأدخلت عليه وهي بنت تسع سنين ومكثت عنده تسعا» ، متفق عليه، وفي رواية لأحمد، ومسلم: «تزوجها وهي ابنة تسع» . ولا إذن لها إذا معتبرة. 2446 - وروى الأثرم أن قدامة بن مظعون تزوج ابنة الزبير حين نفست، فقيل له. فقال: ابنة الزبير إن مت ورثتني، وإن عشت كانت امرأتي. واختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في من استكملت تسع سنين، فروي عنه كذلك وإن بلغت، وهي اختيار الخرقي وجمهور الأصحاب، القاضي , وولده أبى الحسين وأبي الخطاب في خلافه، والشريف، وابن البنا، وأبي محمد وغيرهم. 2447 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها سكوتها» رواه مسلم وغيره، وفي رواية في الصحيح «يستأمرها أبوها»

فتقسيم النساء قسمين، وإثبات الحق لأحدهما دليل على نفيه عن الآخر، وهي البكر، فيكون وليها أحق منها، وإلا فلا فائدة من التفرقة، لا يقال: الفائدة التفرقة في صفة الإذن، لأنا نقول: ظاهر الحديث أن الذي فرق فيه حق الولي، ألا ترى أنه ذكر صفة الإذن بعد، وعلى هذا فالإذن في حقها على سبيل الاستحباب، وعلى هذا فالعلة في الإجبار البكارة. (وروي عنه) : لا يجبرها مطلقا، وهي أظهر، وقد قال الشريف: إنها المنصوص عنه. 2448 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن» قالوا: يا رسول الله، كيف إذنها؟ قال: «أن تسكت» . 2449 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: قلت: يا رسول الله، تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: «نعم» قلت: فإن البكر تستأمر فتستحي؟ فقال: سكاتها إذنها» متفق عليهما. 2450 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن جارية بكرا أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أن أباها زوجها وهي كارهة، فخيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» رواه أحمد، وأبو داود. والعلة على هذا القول البكارة مع

صغر مخصوص. (وعنه) : تجبر ابنة تسع سنين، حكاها ابن أبي موسى وغيره لما تقدم، ولا تجبر البالغة، لأنها جائزة التصرف في مالها، أشبهت الثيب الكبيرة، والعلة على هذا القول الصغر والبكارة، وظاهر كلام ابن عقيل أن العلة على هذا القول الصغر، ومن نصر الأول حمل ما ورد من استئذان البكر على الاستحباب، أو على غير الأب، وأجابوا عن حديث ابن عباس بأن أبا داود، وأبا حاتم وغيرهما أعلوه بالإرسال، ثم يحتمل أن أباها زوجها من غير كفو فخيرت لذلك، وفي هذه الأجوبة نظر، أما الأول فظواهر الأحاديث تخالفه، ومثل هذا الظاهر لا يترك إلا بأقوى منه، وأما الثاني فالمرسل عندنا حجة على الصحيح، لا سيما وقد اعتضد بظواهر الأحاديث، وأما الثالث فالذي رتب عليه الحكم من دعا له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالفقه وعلم التأويل هو الكره لا غيره، وأما قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثيب أحق بنفسها، والبكر تستأمر» فالمراد، والله أعلم، في الرد والإجابة في الخطبة، فالولي ليس له مع الثيب أمر في ذلك، ولهذا قال: تستأمر أي يطلب أمرها، بخلاف البكر فإنه لا مدخل لها في العادة في ذلك، وإنما تستأذن في الرضا بالنكاح فقط.

تنبيهات: (أحدها) قد تقدم التنبيه على علة الإجبار، وسيأتي أن لنا وجها أن الثيب الصغيرة تجبر مطلقا، وعلى هذا فالعلة في الإجبار الصغر، عكس الأول، لكن لا أعرف قائلا بذلك، وإنما أبو بكر يقول بإجبار ثيب لم تبلغ تسعا، فالعلة عنده صغر مخصوص، وأبو البركات ينتظم من كلامه أن في علة الإجبار ثلاث روايات، الصغر، البكارة، أحدهما، ويتلخص من مجموع ذلك ثلاثة أقوال. (الثاني) : إذا قلنا لا تجبر المميزة بعد التسع هنا وفيما سيأتي فهل لها إذن صحيح فتزوج به؟ فيه روايتان، أنصهما وأشهرهما عن أحمد نعم، وبها جزم القاضي في تعليقه، وفي جامعه، ومجرده، وابن عقيل في فصوله وتذكرته، وأبو الخطاب في خلافه، والشريف وابن البنا، ونصبها الشيرازي، وهي ظاهر كلام أبي بكر كما سيأتي، لظاهر قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] الآية، مفهومه أنا إذا لم نخف لنا تزويج اليتيمة.

2451 - وقد فسرته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بذلك، واليتيمة من لم تبلغ، ولا أب لها، ومن هذه حالها لا تزوج إلا بإذنها. 2452 - وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها» رواه الخمسة إلا ابن ماجه. 2453 - وعن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فقد أذنت، وإن أبت لم تكره» رواه أحمد، وهذا يفيد أنها تزوج بإذنها وأن لها إذنا معتبرا. 2454 - وإنما قيدنا ذلك ببنت تسع، لقول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إذا بلغت الجارية تسع سنين فهي امرأة. رواه أحمد، وروي مرفوعا

عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومعناه: في حكم المرأة، ولأنها تصلح بذلك للنكاح، وتحتاج إليه، أشبهت البالغة، (وعن أحمد) رواية أخرى لا إذن لها صحيح، فلا تزوج حتى تبلغ كإذنها في المال. وقول الخرقي: فوضعها في كفاية. مفهومه أنها إذا لم يضعها في كفاية أن النكاح غير ثابت، فيحتمل بطلانه، وهو مقتضى كلامه السابق، إذ من مذهبه أن الكفاءة شرط للصحة، ولا تفريع على هذا، أما إذا قلنا: إن الكفاءة شرط للزوم، ففي تزويج الأب والحال هذه روايتان: (إحداهما) : بطلان النكاح رأسا، لأنه نكاح محرم، أشبه نكاح المحرمة والمعتدة ونحوهما. (والثانية) : لا تبطل، لأن النهي لحق آدمي، وقد أمكن تداركه بثبوت الخيار له، فأشبه تلقي الركبان ونحوه على المذهب، وقيل: إن علم بفقد الكفاية لم يصح للتحريم، وإلا صح في الحال، كالوكيل يشتري معيبا لم يعلم عيبه، وقيل: يصح إن كانت كبيرة، لاستدراك الضرر في الحال بثبوت الخيار لها، وإلا لم يصح، ومتى لم يبطل العقد فلها الخيار إن كانت كبيرة، دفعا للضرر الحاصل لها، قاله أبو محمد، ولا خيار لأبيها، لإسقاط حقه باختياره وإن كانت صغيرة فهل عليه الفسخ، لأنه لحظها أو لا فسخ له، ويمنع الزوج من الدخول بها حتى يصح إذنها، دفعا

للضرر الحاصل لها، فتختار؟ فيه وجهان، ولغير الأب من الأولياء الفسخ على الصحيح من الروايتين وقد تقدمتا، وعلى كل حال فلا يحل له أن يزوج من غير كفو، ولا من معيب. وقول الخرقي: في كفاية. يحتمل أن يريد به الكفو، ويحتمل أن يريد ما هو أعم منه، فيدخل فيه المعيب. (الثالث) : نفست المرأة. إذا ولدت، بضم النون وفتحها مع كسر الفاء فيهما، أما إن حاضت فبفتح النون لا غير، والله أعلم. قال: وليس هذا لغير الأب. ش: أي ليس لغير الأب من الأولياء تزويج البكر بدون إذنها، صغيرة كانت أو كبيرة، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت فلا جواز عليها» ونحو ذلك مما يقتضي أن اليتيمة لا تزوج إلا بعد الإذن، وهو يدل بطريق التنبيه على أن البالغة لا تزوج إلا بإذنها، إذا تقرر هذا فالطفلة لا إذن لها بالاتفاق، وإذا يمتنع تزويجها لفوات الشرط، أما إن بلغت تسع سنين ففيها الروايتان المتقدمتان، والمذهب منهما صحة إذنها، وتزويجها به كما تقدم، ولا عبرة بقول ابن المنجا أن المذهب أنها لا تزوج، لأنه اعتمد في ذلك على تقديم أبي محمد، وما استدل به من قصة قدامة بن مظعون، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «هي يتيمة ولا تزوج إلا بإذنها» دليل عليه، لأن ظاهره أن اليتيمة لها إذن صحيح تزوج به، انتهى. ، أما إن بلغت

إذن الثيب والبكر في النكاح

فلا إشكال في صحة إذنها وتزويجها به، (وعن أحمد) رواية أخرى أن لغير الأب من الأولياء تزويج الصغيرة، ولها الخيار إذا بلغت، لظاهر قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] الآية مفهومه أنه إذا لم نخف لنا تزويج اليتيمة، وهو شامل لمن لها دون التسع، ويفيد النكاح على هذه الرواية الحل والإرث، قاله أبو البركات، فيكون النكاح صحيحا، وخيارها كخيار المعتقة تحت عبد، وظاهر كلام ابن أبي موسى أنه لا يفيدهما، لأنه جعله موقوفا، ثم قال: فإذا بلغت تسع سنين فأجازته جاز، وإن ردته بطل، ولم يقل انفسخ، ويؤيد هذا أن الأصحاب أخذوا من هذه الرواية وقف النكاح على الإجازة، وقد علم أن النكاح الموقوف على الإجازة لا يفيد حلا ولا إرثا كما تقدم، انتهى. والمراد بالبلوغ البلوغ المعتاد، على ظاهر كلام أحمد، وهو قياس رواية عدم صحة إذن بنت تسع سنين، وقياس المذهب في صحة إذن ابنة تسع أنه بلوغ تسع سنين، وهو الذي قطع به ابن أبي موسى، والشيرازي، والله أعلم. [إذن الثيب والبكر في النكاح] قال: ولو استأذن البكر البالغة والدها كان حسنا.

ش: خروجا من الخلاف، وتطيبا لقلبها، ولهذا استحب استئذان المرأة في ابنتها. 2455 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «آمروا النساء في بناتهن» وقد يقال من هذا أن ظاهر كلام الخرقي أنه لا إذن لابنة تسع، وإلا لاستحب استئذانها، وقد يقال: استضعف الخلاف فيها فلم يعرج عليه، والله أعلم. قال: وإن زوج ابنته الثيب بغير إذنها فالنكاح باطل وإن رضيت بعد.

ش: الضمير راجع للأب، ولا ريب أنه ليس له تزويج الثيب الكبيرة بدون إذنها، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثيب أحق بنفسها من وليها» ونحوه، مع أن أحمد قال في رواية عبد الله: ليس بين الناس اختلاف في الثيب الكبيرة أنها لا تزوج إلا بإذنها. واختلف هل له تزويج الثيب الصغيرة بدون إذنها؟ على قولين مشهورين، الذي عليه عامة الأصحاب - ابن بطة، وصاحبه أبو حفص بن مسلم , وابن حامد , والقاضي , والشريف , وأبو الخطاب، وابن عقيل، والشيرازي، وأبو محمد - لا، لعموم ما تقدم، (والثاني) نعم، لعموم الآية، إن قيل بعدم صحة إذن ابنة تسع، وقياسا على إجبار الصغير الذي لم يبلغ، قال ابن عقيل: أصل الوجهين في الثيب الصغيرة ما تقدم في الروايتين في البكر البالغ، إن قلنا: هناك لا تجبر البالغ مع البكارة. قلنا هنا: تجبر الثيب مع الصغر. وإن قلنا هناك: تجبر , فلا تجبر هنا، وهذا الذي اقتضى - والله أعلم - لأبي الخطاب في الانتصار , وأبي البركات حكاية الخلاف على روايتين، وأرادا مخرجتين، وإلا فعامة الأصحاب على حكاية وجهين. (وهنا شيء آخر) وهو أن أبا البركات إنما حكى الخلاف في ابنة تسع، وجعل من لم تبلغها تجبر بلا خلاف، وهذه طريقة

أبي الخطاب في الانتصار، فإنه قال بعد ذكر الخلاف: وهذا إنما نقوله في حق المراهقة، ومن تستلذ بالوطء، لأنا نعلل بالاختيار ومن لا تستلذ لا تجبر، وعامة الأصحاب يطلقون الخلاف، فيشمل من لم تبلغ التسع، ويعين جريان الخلاف في ذلك أن أبا بكر قال في الخلاف: الثيب إذا كان لها دون تسع سنين لا يزوجها أحد إلا الأب يزوجها ولا يستأمرها، قال القاضي: فعلى قوله تجبر على النكاح إلا أن تبلغ سنا يصح إذنها فيها، وهو تسع سنين، والقاضي وأصحابه ينصبون الخلاف معه، وإذا كان هو إنما يقول بإجبار من لم تبلغ تسعا، فهم يقولون: لا تجبر. ثم إن أبا بكر ظاهر كلامه أن الثيب إذا بلغت تسعا زوجت بإذنها، والأصحاب يوافقونه على هذا، وهذا في غاية الجودة، ولا يأباه طريقة أبي البركات، وبه يحصل الجمع بين الآية والأحاديث، إذ قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] يشمل الثيب، فيحمل على من لم تبلغ تسعا، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الثيب أحق بنفسها من وليها» «ليس للولي مع الثيب أمر» وغير ذلك يحمل على من بلغتها، وإلا لو قيل بإجبار الثيب غير البالغة مطلقا لزم خروج الأب من الأحاديث رأسا، ولو قيل بعدم إجبارها لزم خروجها من الآية رأسا، ولا يخفى أن الحمل على ما تقدم أقل تخصيص وأظهر في المعنى، وينتظم من هذا وما تقدم

في البكر أن المرجح أن للأب تزويج من لم تبلغ تسعا مطلقا وكذلك من بلغتها بإذنها كغيره من الأولياء. وقول الخرقي: وإن رضيت بعد. بناء على المذهب من أن النكاح لا يقف على الإجازة، وقوله: بغير إذنها. مفهومه أنه إذا زوجها بإذنها أنه يصح، وهو يعتمد أن يكون لها إذن، وذلك في البالغة بلا نزاع، وفي ابنة تسع على الصحيح، وحكم غير الأب كالأب في ذلك. (تنبيه) لم يصرح الخرقي بذكر المجنونة، وحكمها أن الأب يجبرها لو كانت عاقلة بلا نزاع بطريق الأولى، وهل يجبر من لا يجبرها لو كانت عاقلة؟ فيه وجهان: (أحدهما) : - وهو اختيار القاضي والشيخين وغيرهما - يجبرها، لأنها أسوأ حالا من الصغيرة. (والثاني) : - وهو قول أبي بكر في الخلاف، وظاهر عموم قول الخرقي في هذه المسألة - لا يجبرها، لظاهر «ليس للولي مع الثيب أمر» وغير ذلك، وحكم وصي الأب في النكاح حكم الأب، أما غير الأب من الأولياء فقيل - وهو اختيار أبي الخطاب والشيخين -: لهم تزويجها بشرط أن يظهر منها الميل إلى الرجال، لحاجتها إذا لدفع ضرر الشهوة، وصيانتها عن الفجور، مع ما فيه من مصلحة تحصيل المهر والنفقة وغير

ذلك، قال أبو محمد: وكذلك ينبغي أن تزوج إذا قال أهل الطب إن علتها تزول بتزويجها، لأن ذلك من أعظم مصالحها، وقيل - وهو ظاهر كلام الخرقي -: ليس لهم ذلك، لأن هذه ولاية إجبار، فلا تثبت لغير الأب كالعاقلة، وقيل: يملك ذلك الحاكم، لكمال نظره، وولايته العامة، بخلاف غيره من الأولياء، ومحل الخلاف إذا لم يكن وصي في النكاح، أما مع وجوده فحكمه حكم الأب على ما تقدم. والله أعلم. قال: وإذن الثيب الكلام. وإذن البكر الصمات. ش: للأحاديث السابقة، فإنها نص في أن إذن البكر الصمات، وظاهرة في أن إذن الثيب الكلام، إذ تخصيص البكر بالصمات ظاهر في أن الثيب إذنها النطق. 2456 - وقد روى الأثرم عن عدي الكندي، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الثيب تعرب عن نفسها، والبكر رضاها صمتها» وقد دخل

في كلام الخرقي من ثابت بزنا، وصرح به الأصحاب، لعموم الحديث، ولأن الحكمة التي اقتضت التفرقة بينها وبين البكر مباضعة الرجال ومخالطتهم، وهذا موجود في المصابة بالزنا، ولهذا قال الأصحاب: إن البكارة لو زالت بإصبع أو وثبة فهو كما لو لم تزل، في بقاء إذن البكر، لعدم المباضعة والمخالطة، وعكس هذا لو عادت بكارتها بعد زوالها بوطء، هي في حكم الثيب، ذكره أبو الخطاب أنه محل وفاق لوجود المباضعة. وعموم كلام الخرقي يشمل الأب وغيره، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية الميموني، وصرح به أبو الخطاب في الانتصار، وشيخه في الجامع الكبير، وفي التعليق في موضع، وأبو محمد وغيرهم، وقال القاضي في التعليق في مسألة إجبار البالغة: من أصلنا أن إذن البكر في حق غير الأب النطق. وقال ذلك أيضا فيمن رأى عبده يتجر فسكت، وكذلك قال في المجرد في نكاح الكفار، والمذهب الأول لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذن البكر صماتها» وهو عام، وقال: «تستأمر اليتيمة، فإن سكتت فهو إذنها» وفي لفظ فقد أذنت واليتيم من لا أب له. (تنبيه) : قال أبو العباس: يعتبر في الاستئمار تسمية الزوج على وجه تقع المعرفة به، ولا تشترط تسمية المهر على الصحيح، والله أعلم.

الحكم لو زوج ابنته بدون صداق مثلها

[الحكم لو زوج ابنته بدون صداق مثلها] قال: وإذا زوج ابنته بدون صداق مثلها فقد ثبت النكاح. ش: هذا هو المنصوص والمختار لعامة الأصحاب. 2457 - لما روى أبو العجفاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خطبنا عمر، فقال: ألا لا تغالوا في صدق النساء، فإنه لو كان مكرمة في الدنيا، أو تقوى في الآخرة، كان أولاكم بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من ثنتي عشرة أوقية. رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وهذا قاله بمحضر من الصحابة، ولم ينقل مخالفته، فينزل منزلة الإجماع، وظاهره أن كل أحد يصح أن يزوج موليته على مثل هذا المهر، وإن كان مهر مثلها أكثر، وإنما خصصنا ذلك بالأب لأنه الذي له الولاية التامة، ولما سيأتي.

2458 - وعن سعيد بن المسيب أنه زوج ابنته بدرهمين، وهو من سادات قريش شرفا وعلما ودينا، ومن متموليهم أيضا، ومن المعلوم أنه لم يكن مهر مثلها، ولأن المقصود من النكاح السكن، ووضع المرأة عند من يصونها، ويحسن عشرتها، لا العوض، والظاهر من الأب مع تمام شفقته أنه لا ينقص ابنته عن مهر مثلها إلا لهذه المعاني أو بعضها، لا سيما وهو غير متهم، وبهذا خرج سائر الأولياء، وخرج أيضا بيع الأب لسلعتها، لأن المقصود تحصيل العوض لا غيره، فلذلك لم يجز أن يبيع بدون ثمن المثل، وظاهر كلام ابن عقيل في الفصول اختصاص هذا الحكم بالأب المجبر، قال: وإذا زوج الأب ابنته التي يملك إجبارها - وهي الصغيرة رواية واحدة، والبكر البالغة في إحدى الروايتين - بدون مهر مثلها يثبت المسمى، وللقاضي في تعليقه احتمال بأن حكم الأب مع الثيب الكبيرة حكم غيره من

الأولياء، وحكى ابن حمدان في رعايتيه قولا أن على الزوج بقية مهر المثل، وأطلق. وكلام الخرقي يشمل وإن كرهت، ونص عليه أحمد والأصحاب، وقد يستشكل بأن من لا يملك إجبارها إذا قالت: أذنت لك أن تزوجني على مائة درهم لا أقل، فكيف يصح أن يزوجها على أقل من ذلك، وقد يقال: إذنها في المهر غير معتبر فيلغى، ويبقى أصل إذنها في النكاح، والله أعلم. قال: وإن فعل ذلك غير الأب ثبت النكاح، وكان لها مهر مثلها. ش: إذا زوج غير الأب موليته بدون مهر مثلها، فإن النكاح صحيح، لأن قصاراه أن التسمية فاسدة، والنكاح لا يبطل بفساد التسمية، ويجب مهر المثل، جريا على القاعدة بأن التسمية إذا فسدت وجب مهر المثل. وظاهر كلام الخرقي - وهو المذهب عند أبي الخطاب وأبي محمد وغيرهما - أن جميع مهر المثل على الزوج، وذلك لأن التسمية لما فسدت لعدم الإذن فيها شرعا وجب على الزوج مهر المثل، إذ هو بدل البضع، كما لو زوجها الولي على محرم، وحكى أبو البركات وغيره رواية، أن تمام مهر المثل على الولي، لأنه مفرط، أشبه الوكيل في البيع إذا باع بدون ثمن المثل أو بدون ما قدر له وصححناه على المنصوص، وأخذ ذلك - والله أعلم -

من قول أحمد: أخاف أن يكون ضامنا، وظاهره أن الوكيل يضمن ما نقص من مهر المثل، وفهم أبو محمد من هذا النص أن الولي يضمن الزوج، فقطع في المغني بوجوب مهر المثل على الزوج، وجعل الولي ضامنا له، وليس بالبين. واعلم أنه قد يطلب الفرق - على المذهب - بين هذا وبين الوكيل، وقد يفرق بأن القاعدة عندنا أن النهي يقتضي الفساد، فالولي لما خالف ما أمر به فسدت التسمية، وإذا فسدت لم يفسد العقد، كما هو مقرر في موضعه، ووجب الرجوع إلى مهر المثل، ويجب جميعه على الزوج إذ القاعدة أن العوض يجب على من حصل له المعوض، والمعوض حصل للزوج، فوجب استقرار العوض عليه، (أما في البيع) فمن راعى هذين الأصلين من غير نظر إلى معنى آخر - كأبي محمد - أبطل البيع، (وأما على المنصوص) فنقول: النهي إذا كان لحق آدمي معين، وأمكن تداركه، لا يبطل العقد، كتلقي الركبان ونحوه، وهنا كذلك، لأنه أمكن زوال المفسدة التي لأجلها ورد النهي بأن يجعل على الوكيل ضمان النقص لتفريطه، ولا يمكن أن يجعل على المشتري، لأنه زيادة على الثمن الذي وقع العقد عليه مع

صحة الثمن، ولا أن تلغى التسمية، لأن العقد إذا يفسد، والأصل تصحيح كلام المكلف مهما أمكن، والله أعلم. قال: ومن زوج غلاما غير بالغ أو معتوها لم يجز إلا أن يزوجه والده أو وصي ناظر له في التزويج. ش: للأب أن يزوج ابنه الذي لم يبلغ على المذهب المنصوص. 2459 - لما روى الأثرم بإسناده عن ابن عمر أنه زوج ابنه وهو صغير، فاختصموا إلى زيد فأجازاه جميعا ولأنه يتصرف في ماله بغير تولية، فكان له تزويجه كابنته الصغيرة. وظاهر كلام الخرقي وكثيرين أنه لا يشترط حاجة الصغير، وقال القاضي في المجرد: الصغير كالمجنون، إن كان محتاجا إلى النكاح زوجه وإلا فلا، فإن أراد الحاجة إلى النكاح - وهو الذي فهمه ابن عقيل لأنه قال: هذا إنما يتصور في المراهق - فظاهر كلام أحمد والأصحاب خلافه، وإن أراد الحاجة مطلقا فغير

مخالف لأن الأب وغيره تصرفهم منوط بالمصلحة. انتهى. وللأب أيضا أن يزوج ابنه المعتوه، أي المجنون، وهذا ظاهر كلام أحمد، واختيار أبي الخطاب والشيخين وغيرهما، لأنه غير مكلف، أشبه الصغير بل أولى، لأنه يتوقع منه النظر عند الحاجة إليه، بخلاف المجنون، وشرط القاضي لذلك أن يظهر منه أمارات الشهوة من تتبع النساء ونحو ذلك، وحمل كلام أحمد، والخرقي على ذلك، إذ تزويجه مع عدم ذلك إضرار به، لالتزامه حقوقا لا مصلحة في التزامها، ومنع أبو بكر في الخلاف من تزويج البالغ مطلقا، لأنه بالغ محجور عليه، أشبه المفلس. ومحل الخلاف في المجنون المطبق، أما من يخنق أحيانا فلا يزوج إلا بإذنه، ومن زال عقله ببرسام ونحوه إن رجي زوال علته فكالمخنق، وإلا فكالمجنون، انتهى. ووصي الأب في النكاح قائم مقامه، فيزوج الصغير والمجنون كالأب، لأنه قائم مقامه، ونائب منابه، وهذا يعتمد أصلا، وهو أن ولاية النكاح تستفاد بالوصية، (وهو إحدى الروايات)

عن أحمد، والمختار لجمهور الأصحاب، القاضي وولده أبي الحسين، والشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل، والشيرازي، وابن البنا، وأبي محمد وغيرهم، لأنها ولاية ثابتة، فجازت الوصية بها كولاية المال، ولأن له أن يستنيب في حياته، فكذلك بعد مماته كالمال، (وعنه) - واختاره أبو بكر - لا يستفاد بذلك، لأنها ولاية تنتقل إلى غيره، فلم تجز الوصية بها كالحضانة، يحققه أنه لا ضرر على الوصي في وضعها عند من لا يكافيها، فهو كالأجنبي. 2460 - واستدل لها بما روى «ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: توفي عبد الله بن مظعون وترك ابنة له من خويلة بنت حكيم، وأوصى إلى أخيه قدامة بن مظعون، قال عبد الله: وهما خالاي. قال: فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عبد الله بن مظعون فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة، يعني إلى أمها، فأرغبها في المال فحطت إليه، وحطت الجارية إلى هوى أمها، فأبيا حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله، ابنة أخي أوصى بها إلي، فزوجتها ابن عمتها، فلم أقصر بها في الصلاح ولا في

الكفاءة، ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها. قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هي يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها» قال: فانتزعت والله مني بعد أن ملكتها، فزوجوها المغيرة بن شعبة» ، رواه أحمد، والدارقطني. ولو استفاد ولاية النكاح بالوصية لملك الإجبار كالأب، ولم يكن لها معه إذن، وحمله القاضي على أنه كان وليا في المال، ويرده تعليله بقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هي يتيمة ولم يقل: ولايتك في المال، لا في النكاح، لكن قد يقال: إن هذه واقعة عين فيحتمل أن هذه اليتيمة كانت ابنة تسع، وهو الظاهر من القصة، ويلتزم أن ابنة تسع لا يزوجها أبوها إلا بإذنها، وكذلك وصيه في النكاح، بل قد يقال إن هذا الحديث يستدل به على أن ولاية النكاح تستفاد بالوصية، لأنه زوج بذلك، ولم ينكر عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، وقد يقال: إنما لم ينكر عليه لأن له ولاية بالعمومة، لكن إذاً يبقى ذكر ابن عمر وابن مظعون الوصية ضائعا. (وعن أحمد) رواية ثالثة - حكاها القاضي في الجامع الكبير، وهي اختيار ابن حامد - إن كان ثم عصبة لم تستفد، حذارا من إسقاط حقهم، وإلا استفيدت، لعدم ذلك، وشرط

الخرقي أن يكون وصيا في النكاح، فلو كان وصيا في المال لم تكن له ولاية التزويج، لأنها إحدى الوصيتين، فلا تملك بها الأخرى، كوصية النكاح، لا يملك بها المال. ثم ظاهر كلام المصنف والإمام والأصحاب أنه لا خيار للصبي والحال هذه إذا بلغ، قال القاضي: ووجدت في رقعة بخط أبي عبد الله جواب مسألة إذا زوجه نظرا للصغير وهو وصي، ثبت نكاحه وتوارثا، فإذا بلغ فله الخيار، انتهى. وليس لغير الأب والوصي - من حاكم ووصي - تزويج الصغير والمجنون، لأنه إذا لم يكن لهما تزويج الصغيرة فالصغير أولى، وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب كما اقتضاه كلام الخرقي، وإليه ميل أبي محمد، وأجاز ذلك ابن حامد للحاكم خاصة، بشرط ميل المجنون للنساء، بأن يتتبعهن ونحو ذلك، وألحق أبو محمد بذلك ما إذا

قال أهل الخبرة إن علته تزول بتزويجه، وتبع القاضي في المجرد، وأبو البركات ابن حامد بغير شرط، لأنه يلي ماله، أشبه الأب، ومن هنا يخرج لنا قول أن الجد يزوج الصغير إن قلنا يلي ماله. (تنبيهان) أحدهما كلام الخرقي فيما تقدم يشمل الأب الكافر، وصرح به القاضي، لأن الحظ والشفقة موجودة فيه، فأشبه المسلم، ولنا وجه في الكافر أنه لا يلي مال ولده الكافر، فيخرج هنا كذلك (الثاني) إطلاق الخرقي يقتضي أن للأب تزويج ابنه الصغير بأربع، وصرح به القاضي في الجامع الكبير، لأنه قد يرى المصلحة في ذلك. قلت: وقال في المجرد: قياس المذهب أنه لا يزوجه بأكثر من واحدة، إذ حاجته تندفع بذلك. والله أعلم. قال: وإذا زوج أمته بغير إذنها لزمها النكاح وإن كرهت، كبيرة كانت أو صغيرة. ش: هذا هو المذهب المعروف، المجزوم به عند الأصحاب، لأن النكاح عقد على منفعتها، وهي مملوكة له أشبه إجارتها ونقل أبو عبد الله النيسابوري عن أحمد أنه سئل هل يزوج الرجل جاريته من غلامه بغير مهر؟ فقال: لا يعجبني إلا بمهر وشهود. قيل: فإن أبت هي، وقالت: لا أتزوج. فللسيد أن يكرهها على ذلك؟ قال: لا إلا بإذنها. قال أبو العباس: ظاهر هذا أن

السيد لا يجبر الأمة الكبيرة، بناء على أن منفعة البضع ليست بمال، بدليل أن المعسرة لا تلزم بالتزويج، ولا تضمن باليد اتفاقا، وملك السيد لها كملكه لمنفعة بضع زوجته، والقاضي ذكر هذا النص في الجامع الكبير، فيما إذا وجد أحدهما بالآخر عيبا به مثله، وقال: ظاهر هذا أنه لم يجعل للسيد إجبار أمته على نكاح العبد، وإن كان مساويا لها فيقتضي أن المساواة في النقص لا يمنع الفسخ، قال أبو العباس: وفي هذا نظر، إذ الرق من باب عدم الكفاءة، ولو زوجت المرأة بمن يكافئها في النسب ونحوه لم يكن لها فسخ بحال. قلت: وتمام هذا أن العبد والحال هذه مكافئ للأمة، فلا يكون لها فسخ، وقد يقال: مسلم أنه لا فسخ لها لوجود المكافأة، وإنما لها الفسخ للعيب وهو الرق، إذ ليس للولي أن يزوج موليته بمعيب، كما هو مقرر في موضعه. وقد شمل كلام الخرقي المدبرة، والمعلق عتقها بصفة، وأم الولد، والمكاتبة، وهو صحيح فيما عدا المكاتبة، لمساواتهن للأمة فيما تقدم، أما المكاتبة فليس له إجبارها على النكاح، لأنها قد ملكت منافعها عليه، ولهذا لا يجوز له وطؤها ولا إجارتها، والله أعلم.

الحكم لو زوج الوليان المرأة من رجلين

قال: وإذا زوج عبده وهو كاره، لم يجز إلا أن يكون صغيرا. ش: لا يملك السيد إجبار عبده الكبير على النكاح، نص عليه أحمد، وقاله الأصحاب، لأنه مكلف يملك الطلاق، فلا يجبر على النكاح كالحر، لأن النكاح خالص حقه، ونفعه له فأشبه الحر، وكذلك الصغير على وجه، قاله أبو الخطاب في الانتصار، والمذهب - وهو المنصوص - أن له إجباره قياسا على الابن الصغير بل أولى، لثبوت الملك له عليه، والحكم في العبد المجنون كالحكم في الصغير، قاله الشيخان، والله أعلم. [الحكم لو زوج الوليان المرأة من رجلين] قال: وإذا زوج الوليان فالنكاح للأول منهما. 2461 -. ش: لما روى الحسن، عن سمرة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما، وأيما رجل باع بيعين من رجلين فهو للأول منهما» رواه الخمسة، وحسنه الترمذي. . . وروى الأثرم بسنده عن إبراهيم أن عليا قضى بذلك، لكن في سماع الحسن من سمرة خلاف. وقد شمل كلام الخرقي وإن لم يعلم الثاني، ودخل بها، وهو كذلك خلافا لمالك، لعموم الحديث.

وقول الخرقي: زوج الوليان يعني بشرطه، وهو أن تأذن لهما في نكاحها، ويتساويان في الدرجة كالابنين والأخوين ونحوهما، وهذا قد علم مما تقدم، والله أعلم. قال: فإن دخل بها الثاني وهو لا يعلم أنها ذات زوج فرق بينهما، وكان لها عليه مهر مثلها. ش: إذا زوج الوليان فدخل بها الثاني، والحال أنه لا يعلم أنها مزوجة، فإنه يفرق بينهما، لترد إلى زوجها، وهذا تفريق حسي من غير فسخ، لبطلان النكاح، قاله أبو محمد، وكذلك قال ابن أبي موسى نزل عنها من غير طلاق، واستشكل بأن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: تصير زوجة الثاني بالدخول، وإذا يجب الطلاق كالأنكحة الفاسدة، وأجيب بأن الإباحة حصلت بالوطء لا بالعقد، انتهى. ويجب لها عليه المهر، لأنه وطء شبهة، أشبه المنكوحة بغير ولي. 2462 - ودليل الأصل قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما

استحل من فرجها» الحديث، وهل يجب مهر المثل أو المسمى؟ قال الخرقي: مهر المثل. وصححه أبو محمد، لأنه يجب بالإصابة لا بالتسمية، وقال أبو بكر في الخلاف: يجب المسمى. قال القاضي: وهو قياس المذهب. إذ من أصلنا أن النكاح الفاسد إذا حصل فيه دخول وجب المسمى، وحمل كلام الخرقي على أنه لا مسمى. ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يدخل بها الثاني لا تفريق لوجوده حسا، ولا مهر، لأن وجوبه بالإصابة لا بالتسمية، ولا إصابة، ومقتضى قول القاضي وجوبه بالخلوة كما في النكاح الفاسد عنده، وقوله: وهو لا يعلم. قد يقال: خرج مخرج الغالب، حملا لحال المسلم على السداد، وإذا لا مفهوم له، فيفرق بينهما أيضا، ويجب لها المهر، نعم إن كانت هي أيضا عالمة فلا مهر لها، لأنها إذا زانية، والله أعلم. قال: ولم يصبها زوجها حتى تحيض ثلاث حيض بعد آخر وقت وطئها فيه الثاني. ش: إنما لم يصبها زوجها حتى تحيض ما ذكر فلأنها معتدة من غيره، والمعتدة لا يجوز وطؤها، حذارا من اختلاط المياه.

2463 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه زرع غيره» وبيان لزوم العدة عليها أنها موطوءة بشبهة، والموطوءة بشبهة تلزمها العدة، لتحصل براءة رحمها، حفظا للأنساب، وتعتد عدة المطلقة، لاشتراكهما في لحوق النسب، ولو كان الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: تعتد عدة المطلقة. لكان أجود لشموله. ومفهوم كلام الخرقي أن له أن يستمتع بها لتخصيصه المنع بالإصابة، وهو أحد الوجهين، والله أعلم. قال: وإن جهل الأول منهما فسخ النكاحان. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار أبي محمد في المغني، لأن كل واحد منهما والحال هذه يحتمل أن نكاحه صحيح، ولا سبيل إلى الجمع، ولا إلى معرفة الزوج يقينا، والانتظار لا إلى غاية مجهول، فتعين فسخ النكاحين، لإزالة الضرر المنفي شرعا، (والرواية الثانية) : - وهي اختيار أبي بكر النجاد، والقاضي في التعليق، والشريف , وأبي

الخطاب، والشيرازي - يقرع بينهما، إذ القرعة تزيل الإبهام، وقد دخلت في السفر بإحدى نسائه، والبداءة بالمبيت عند إحداهن، فكذلك ها هنا، ولأن القرعة قد دخلت في استدامة النكاح، كما إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها، أو بعينها ثم أنسيها على المشهور، فكذلك في ابتدائه، وقال ابن أبي موسى: يبطل النكاحان. وظاهره الحكم ببطلانهما من غير احتياج إلى فسخ، ولا إلى قرعة. وكلام الخرقي يشمل ما إذا علم عين السابق ثم جهل، أو علم السبق ولم يعلم السابق، ولا إشكال في جريان الروايتين في هاتين الصورتين، وقد يشمل أيضا ما إذا جهل كيف وقعا، وقد اختلف الأصحاب في هذه الصورة، فعند أبي الخطاب والشيخين، والقاضي في الجامع فيما أظن أنها على الروايتين أيضا، وليس عند القاضي في التعليق والجامع الكبير إلا البطلان، وكذلك ابن حمدان في رعايتيه، إلا أنه في الكبرى حكى قولا بالبطلان ظاهرا لا باطنا. وقد خرج من كلام الخرقي ما إذا وقعا معا، وللأصحاب فيه أيضا طريقتان: (إحداهما) : - وهي طريقة الأكثرين، أبي الخطاب في الهداية، وابن البنا، والشيخين، وابن حمدان وغيرهم - الجزم بالبطلان من غير فسخ ولا قرعة، إذ القرعة إنما تدخل لتمييز الصحيح، ولا صحيح. (والثانية) : - وهي

طريقة القاضي في الروايتين - جريان الروايتين فيه، معللا بأنه إذا جازت القرعة مع العلم بفساد المتأخر، فأولى أن تجوز إذا لم يحكم بفساد أحدهما، ومستشهدا بأن القرعة تدخل بين العبيد الذين أعتقهم في مرضه، وإن كانوا دفعة، وله في تعليقه احتمالان كالطريقتين. (تنبيهات) : أحدها على الرواية الأولى الفاسخ هو الحاكم، قاله القاضي في تعليقه، وفي جامعه الصغير، وأبو الخطاب والشيخان، لأنه فسخ مختلف فيه، والمختلفات ترجع إلى الحكام، وقال ابن عقيل، والسامري، وابن حمدان في رعايتيه: للزوجين الفسخ، ولعلهم يريدون بإذنه، وعن أبي بكر يطلقانها. (الثاني) : على الرواية الثانية إذا أقرع بينهما، فمن خرجت قرعته فهي زوجته بالنكاح الأول، من غير تجديد عقد، على ظاهر كلام [أحمد في رواية ابن منصور يقرع بينهم، فمن وقعت عليها القرعة فهي له، وهو ظاهر كلام] الجمهور - ابن أبي موسى، والقاضي وأصحابه، وصرح به القاضي في الروايتين، وابن عقيل، معللا بأن القرعة جعلت في الشرع حكما للتمييز، وقال أبو بكر بن سليمان النجاد: من خرجت القرعة له جدد نكاحه. وكذا قال الشيخان، قال أبو محمد: وينبغي أن لا تجبر المرأة على نكاح من خرجت له القرعة، بل لها أن تتزوج من شاءت منهما ومن غيرهما، وضعف هذا أبو العباس، لاتفاق الروايتين أيضا، وقد أشار إلى هذا ابن عقيل، فقال - بعد

ذكر قول النجاد -: وهذا استظهار حسن، غير أن اعتباره تعطيل للقرعة عن جهة الإباحة، قال أبو العباس: وإنما على هذا القول، يجب أن يقال: هي زوجة القارع، تجب عليه نفقتها وسكناها، ونحو ذلك، ولا يطأ حتى يجدد، فالتجديد لحل الوطء، قال أو يقال: لا يحكم بالزوجية إلا بالتجديد، ويكون التجديد عليه وعليها، انتهى. (الثالث) : على هذه الرواية أيضا لا يؤمر من لم تخرج له القرعة بطلاق، ذكره القاضي في المجرد، وابن عقيل، معتمدين على أنه ظاهر كلام أحمد، وهو ظاهر كلام ابن أبي موسى، وقال النجاد والقاضي في الروايتين، وفي الجامع، وأبو الخطاب في الهداية، والشيخان: يؤمر بالطلاق، لجواز أن تكون زوجته، كما يفسخ الحاكم النكاح الفاسد، المختلف فيه، وحكى المسألة ابن البنا على روايتين، وقد تبين أن من قال لا تجديد منهم، قال بالطلاق، فإذا في الفرعين ثلاثة أقوال، ثالثها يؤمر المقروع بالطلاق، ولا يجدد القارع، ولعله المذهب، والله أعلم.

قال: وإذا تزوج العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل. ش: هذا هو المذهب بلا ريب. 2464 - لما روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه، فهو عاهر» رواه أبو داود، والترمذي وحسنه. والعاهر الزاني، ولأن في ذلك تفويتا لمنفعة السيد الواجبة له، لانشغاله بحقوق الزوجية، وأنه لا يجوز، وقد حكى ابن المنذر هذا إجماعا، (وعن أحمد) رواية بالوقف على الإجازة وتحكى عن الحنفية، والله أعلم. قال: وإن كان دخل بها فعلى سيده خمسا المهر، كما قال عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، إلا أن يجاوز الخمسان قيمته، فلا

يلزم سيده أكثر من قيمته أو يسلمه. ش: إذا تزوج العبد بغير إذن سيده ودخل بها، وجب عليه شيء في الجملة كما اقتضاه كلام الخرقي، ونص عليه أحمد والأصحاب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها» والعبد والحال هذه قد استحل فرجها، فيكون لها المهر، (وقد روى عنه حنبل) : إذا تزوج بغير إذن سيده فلا مهر. قال أبو محمد: فيحتمل أن تحمل على إطلاقها، ويحتمل أن تحمل على ما قبل الدخول، ويحتمل أن تحمل على أن المهر لا يجب في الحال، بل يجب في ذمة العبد، يتبع به إذا عتق، وحملها أبو البركات على ما إذا كانا عالمين بالتحريم، وتبعه ابن حمدان، وزاد: قلت: أو علمت المرأة وحدها، وهذا حكاه أبو محمد عن القاضي. 2465 - (فعلى المذهب) الواجب خمسا المهر، اتباعا لقضاء عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو ما روى أحمد، قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر، عن سعيد، عن قتادة، عن خلاس، أن غلاما لأبي موسى تزوج مولاة - أحسبه قال - تيجان التيمي بغير إذن أبي موسى، فكتب في ذلك إلى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب إليه: أن فرق بينهما، وخذ لها الخمسين من صداقها، وكان صداقها خمسة أبعرة، قال قتادة: فذكرت ذلك لبلال، فقال: نعم ذاك غلامنا

تزوج أم رواح. وهذه قضية في مظنة الشهرة، ولم ينقل إنكارها، فيكون حجة، ولأنها تخالف القياس، فالظاهر أنها

بتوقيف من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقال: يجوز أن يكون خمسا المهر قدر مهر المثل، لأنا نقول هذا بعيد من الظاهر، لأن مهر المثل يحتاج إلى نظر وتأمل، ثم إنه لا يترك في الحديث ما الحكم منوط به، (وهذا إحدى الروايات) وأشهرها، واختيار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وغيرهم. (والثانية) الواجب مهر المثل، اختارها أبو بكر، قياسا على سائر الأنكحة الفاسدة. (والثالثة) الواجب المسمى، بناء أيضا - والله أعلم - على أن الواجب في الأنكحة الفاسدة ذلك، ويشهد له حديث المنكوحة بغير ولي، ولعل أصل هاتين الروايتين الروايتان ثم، وقد استشهد القاضي على وجوب مهر المثل هنا بقول أحمد في رواية المروذي: إذا تزوج بغير إذن سيده يعطي شيئا، قيل له: تذهب إلى قول عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ قال: أذهب إلى أن يعطي شيئا، وفي هذا نظر؛ لأن هذا إنما يدل على أنه يعطي شيئا، إما ما اصطلحا عليه، أو ما يراه الحاكم، انتهى. (والرواية الرابعة) يجب الخمسان إن علمت عبوديته، وإلا فالمهر كاملا، حكاها أبو محمد، انتهى.

الحكم لو تزوج الأمة على أنها حرة فأصابها وولدت منه

وقول الخرقي: وإن كان دخل بها. أراد بالدخول - والله أعلم - الوطء، وكذا صرح به غيره، فعلى هذا لا يجب قبل الخلوة، وهو واضح، ولا بعدها وقبل الوطء، لعدم الجنابة، وقد يقال بالوجوب، كما في سائر الأنكحة الفاسدة، (وقوله) : خمسا المهر. - اللام للعهد - أي المهر المسمى، وهذا كما في الحديث «لها المهر بما استحل من فرجها» وهو مقتضى قصة عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأبي محمد احتمال في المغني أن الواجب خمسا مهر المثل، ولا تعويل عليه، ولو عدم المسمى فقال القاضي في تعليقه: ظاهر كلام أحمد في رواية المروذي أنها لا تستحق جميعه، (وقوله) : إلا أن يجاوز الخمسان قيمته فلا يلزم السيد أكثر من ذلك. وذلك لأن الواجب عليه ما يقابل تلك الرقبة، بدليل ما لو سلم العبد لم يلزمه شيء، وفي هذا إشعار بأن الحق يتعلق برقبته، وهو واضح، لأنها جنايته، فتعلقت برقبته كبقية جناياته، (وقوله) : أو يسلمه. الظاهر أنه معطوف على قوله: فعلى سيده خمسا المهر. أي أو يسلمه. وهذا أصل يأتي إن شاء الله تعالى في الجنايات، والله أعلم. [الحكم لو تزوج الأمة على أنها حرة فأصابها وولدت منه] قال: وإذا تزوج الأمة على أنها حرة، فأصابها وولدت منه فالولد حر، وعليه أن يفديهم والمهر المسمى. ش: لا يبطل النكاح بالغرور في الجملة لأن المعقود عليه في

النكاح الشخص، والصفات تابعة له، فإذا وجدت بخلاف الشرط لم يبطل العقد، كمن باع عبدا على أنه صحيح، فبان معيبا، إذا تقرر هذا فإذا تزوج أمة وشرط أنها حرة، وأصابها وولدت منه فولده حر، لاعتقاده حريته، كما لو اشترى أمة فبانت مغصوبة بعد أن أولدها، وعليه فداؤهم على المذهب المعروف المنصوص في رواية الجماعة. 2466 - اتباعا لقضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - عمر، وعلي، وابن عباس، ولأنه نماء مملوكة، فسبيله أن يكون ملكا لمالكها، وقد فوته الزوج باعتقاده الحرية، فوجب عليه الضمان، كما لو فوته بفعله. (ونقل عنه) ابن منصور: لا فداء عليه، لانعقاد الولد حرا، والحر لا يملك ووهى الخلال هذه الرواية، وقال: أحسبه قولا روي أولا لأبي عبد الله رجع عنه لأنهم اتفقوا عنه على الفداء، انتهى. (ونقل عنه) حنبل يخير بين الفداء فيكون ولده حرا، وبين الترك فيكون ولده رقيقا.

2467 - وهو ظاهر ما نقل عن علي - كرم الله وجهه -، وشرط الضمان أن يوضع حيا لوقت يعيش لمثله، وصفة الفداء، ووقته قد تقدما في الغصب، ويجب عليه أيضا المهر المسمى بما استحل من فرجها، ولا إشكال في ذلك إن كان بعد الإصابة، وهو ممن يجوز له نكاح الإماء، لصحة النكاح، ووجود الإصابة فيه، وإن لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء فهو نكاح فاسد من أصله، فإذا هل الواجب فيه مهر المثل أو المسمى؟ فيه روايتان، ولو تبين له الحال قبل الإصابة وهو ممن يجوز له نكاح الإماء واختار الإمضاء تقرر المسمى عليه (ولنا قول آخر) أنه ينسب قدر مهر المثل لأجل ذلك إلى مهر المثل كاملا، فيكون له بقدر نسبته من المسمى، يرجع بذلك على من غره، فيقال: كم مهر مثلها إذا كانت أمة؟ فيقال مثلا: خمسون. وحرة؟ فيقال: ستون. نسبة ما بينهما السدس، فيرجع بسدس المسمى، وإن اختار الفسخ فلا شيء عليه، لأن الفسخ لعذر من جهتها. وإن لم يكن ممن يجوز له نكاح الإماء فقبل الخلوة لا مهر، لفساد العقد، وكذلك بعد الخلوة على رأي أبي محمد، وعلى المشهور يجب، هذا قياس المذهب، والله أعلم.

قال: ويرجع بذلك على من غره. ش: أي بما غرمه من فداء الأولاد ومن المهر، أما فداء الأولاد فلا نزاع فيه. 2468 - لقضاء الصحابة عمر، وعلي، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأما المهر فلقضاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - به، وهذا (إحدى الروايتين) واختيار القاضي، وأبي محمد، وغيرهما، (والرواية الثانية) لا يرجع بالمهر، اختارها أبو بكر لأنه دخل على ذلك، لا سيما وقد استوفى المنفعة المقابلة له. 2469 - مع أن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وحيث قلنا: يرجع. فإنما ذلك إذا لم يختر إمضاء النكاح حيث يكون له الإمضاء، أما إن اختار البقاء على النكاح حيث جاز له ذلك فلا رجوع إلا بنسبة ما بين المهرين على قويل تقدم. وقول الخرقي: ويرجع بذلك على من غره. إنما حكم بذلك في صورة الشرط، وهو ما إذا تزوجها على أنها حرة، فقد يقال: مفهومه أنه لا يرجع بذلك إذا ظنها حرة، وصرح بذلك أبو البركات، وتابعه ابن حمدان في رعايتيه، وقبلهما القاضي، بل قيل عن القاضي أنه لا يرجع إلا مع شرط مقارن للعقد، لا مع تقدمه، لأنه مفرط، حيث اعتمد على مجرد ظنه، وظاهر كلام

أحمد في رواية حرب يقتضي الرجوع مع الظن، قال فيمن تزوج بامرأة وظن أنها حرة فأصاب منها أولادا فإذا هي أمة، قال: يفرق بينهما، وأولاده أحرار، ولكن يفديهم، وإن كان غره إنسان فعلى الذي غره أن يفدي ولده. وهذا اختيار أبي محمد، وأبي العباس، إذ الصحابة الذين قضوا بالرجوع لم يستفصلوا، ويحقق ذلك أن الأصحاب لم يشترطوا ذلك في الرجوع في العيب. (تنبيه) الغار من علم أنها أمة ولم يبين، على ظاهر كلام أحمد في رواية ابن الحكم، فكاك ولده على الذي غره إذا كان علم الذي غره، فإذا إذا لم يعلم فالوكيل أو الدلال بينهما لا شيء عليه، وذكر أبو محمد فيما إذا علم بعض أولياء الحرة الغارة احتمالين، اختصاص الغرم بمن علم، والثاني يعم الجميع، لأن حق الآدمي يستوي فيه العمد والسهو، وضعفه أبو العباس بأن هذا مع المباشرة، أما مع التسبب فلا بد من تحريم السبب، انتهى. ثم لا يخلو الغار من أن يكون السيد أو المرأة، أو وكيلهما أو أجنبيا، (فإن كان) السيد والغرور بلفظ الحرية عتقت، وزالت المسألة، وبغيرها لا تثبت حرية، ولا يجب له شيء، إذ لا فائدة في أن يجب له ما يرجع به عليه. نعم إن قلنا: إن الزوج

لا يرجع بالمهر وجب للسيد، لانتفاء المحذور، ولا يتصور الغرور من السيد على قول القاضي، لأن شرط الرجوع عنده اشتراط الحرية مقارنا كما تقدم، (وإن كان) الغار المرأة ففي الرجوع عليها وجهان: (أحدهما) : - وهو ظاهر كلام الخرقي وجماعة، وقاله القاضي - يرجع عليها لمكان الغرور، ثم هل يتعلق برقبتها أو بذمتها؟ على وجهي استدانة العبد بغير إذن سيده، قال القاضي: وقياس قول الخرقي الثاني، كمخالعتها بدون إذنه، (والوجه الثاني) : - وهو ظاهر كلام أحمد في رواية جماعة - لا يرجع عليها، إذ الولد أو المهر ملك للسيد، وهي لا تملك بدل ذلك، أشبه ما لو أذنت في قطع طرفها، (وإن كان) الغار وكيل المرأة رجع عليه بلا تردد، (وإن كان) الغار أجنبيا رجع عليه، على ظاهر كلام أحمد بل صريحه في روايتي عبد الله، وصالح، وظاهر كلام القاضي عدم الرجوع، قال الغار وكيلها أو هي نفسها، والله أعلم. قال: ويفرق بينهما إن لم يكن ممن يجوز له أن ينكح الإماء، وإن كان ممن يجوز له فرضي بالمقام فما ولدت بعد الرضى فهو رقيق. ش: أما التفريق بينهما إن لم يكن الزوج ممن يجوز له نكاح الإماء

فلأنا تبينا فساد العقد، أشبه المنكوحة في العدة، أو بلا ولي، وأما ثبوت الخيار - كما اقتضاه كلام الخرقي - لمن يجوز له نكاح الإماء - وهو الحر بوجود الشرطين فيه، والعبد بشرط أن لا تكون تحته حرة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى - فلأنه غر بحريتها، فثبت له الخيار، كما لو غرت بحريته، ولما فيه من ضرر رق الولد، والضرر منفي شرعا، فعلى هذا إن اختار فسخ النكاح انفسخ ولا كلام، وإن اختار المقام على النكاح فما ولدت بعد رضاه فهو رقيق، لانتفاء الغرور إذا، وقد علم من هذا أن الولد يتبع أمه في الرق والحرية، ونص عليه أحمد. 2470 - محتجا بقول عمر: أيما عبد تزوج حرة فقد أعتق نصفه. وقول الخرقي: فما ولدت. ظاهره وإن كانت قد علقت به قبل الرضى، وقد وقع له نحو هذه العبارة في الردة، وأقره أبو محمد ثم على ظاهره، معللا بأن أكثر الأحكام إنما تتعلق بالوضع، أما هنا فجعل الحكم منوطا بالعلوق، وهو التخليق، وكذا صرح به أبو البركات.

واعلم أن الخرقي إنما ساق ثبوت الخيار مع الشرط، فقد يقال: ظاهره أنه لا يثبت مع عدمه، وهو أحد الوجهين، لتفريطه حيث لم يحترز بالشرط، وبالغ القاضي في بعض كتبه فشرط كون الشرط مقارنا للعقد، وهو في تعليقه كالخرقي، والصحيح الثبوت بالشرط وبالظن، ثم إن أبا محمد وغيره أطلقوا الظن، وقيده ابن حمدان تبعا لأبي البركات بما إذا ظنها حرة الأصل، وعموم كلام الخرقي يقتضي ثبوت الخيار للعبد كالحر وهو الصحيح، وقيل: لا خيار للعبد لتساويهما، والله أعلم. قال: وإن كان المغرور عبدا فولده أحرار، ويفديهم إذا عتق ويرجع به أيضا على من غره. ش: إذا كان المغرور عبدا فولده أيضا أحرار كالحر، إذ المقتضي لحرية الولد اعتقاد الواطئ الحرية، وهو موجود هنا، ويفديهم كالحر على ما تقدم، لكن الحر يجب الفداء عليه في الحال، كبقية الحقوق اللازمة له، أما العبد فلا مال له في الحال، فيتأخر الفداء إلى وقت ملكه ويساره وهو العتق، كذا قال الخرقي وغيره، ثم إن القاضي في الجامع بناه على استدانته، بغير إذن سيده هل يثبت في ذمته أو في رقبته؟ على وجهين، وبناه أبو محمد على خلع الأمة بغير إذن سيدها، وهو أوجه، إذ الخرقي يقول في الاستدانة: تتعلق برقبته فلا يجيء بناؤه عليها، أما في الخلع فيقول: يتعلق بذمتها، فيتحد البناء، ثم إن أبا محمد خرج وجها آخر أنه يتعلق برقبته كجنايته، انتهى.

عتق الزوجة مقابل المهر

ويرجع بالفداء على من غره كما تقدم في الحر، لكن الحر يرجع في الحال، أما العبد فلا يرجع إلا حين الغرم، حذارا من أن يجب له ما لم يثبت عليه، نعم إن قيل: يتعلق الفداء برقبته رجع به السيد في الحال، والله أعلم. [عتق الزوجة مقابل المهر] قال: وإذا قال: قد جعلت عتق أمتي صداقها. بحضرة شاهدين، فقد ثبت العتق والنكاح. ش: هذا المنصوص عن أحمد، والمشهور عنه، رواه عنه اثنا عشر رجلا من أصحابه، منهم ولداه صالح، وعبد الله، وهو المختار لجمهور الأصحاب، الخرقي، وأبي بكر، والشريف، وأبي جعفر، والقاضي في موضع، وقال في التعليق: إنه المشهور من قول الأصحاب، وقال أبو محمد: إنه ظاهر المذهب. 2471 - وذلك لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعتق صفية وتزوجها، فقال له ثابت: ما أصدقها؟ قال: نفسها، أعتقها وتزوجها.» متفق عليه، وفي لفظ للبخاري: «أعتق صفية وتزوجها، وجعل عتقها صداقها» . ولم ينقل أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استأنف عقدا، ولأنه جعل عتقها صداقها، ومتى ثبت العتق صداقا ثبت النكاح، إذ الصداق لا يتقدم عليه. 2472 - يؤيد هذا أن هذا روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكاه عنه أحمد

محتجا به وهو راوي الحديث، وهو يقوي إرادة الظاهر منه. 2473 - ويروى أيضا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن منفعة البضع إحدى المنفعتين، فجاز أن يكون العتق عوضا عنها، دليله منفعة الخدمة، وهو إذا قال: أعتقتك على خدمة سنة. لا يقال: هذا من خصائص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. إذ من خصائصه النكاح بلا مهر، لأنا نقول: الغرض أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عقد بمهر، وإذًا فحكم أمته حكمه في صفية. ونقل المروذي عن أحمد: إذا أعتق أمته وجعل عتقها صداقها يوكل رجلا، فأخذ القاضي وأتباعه من هذا رواية أن النكاح لا يصح بهذا اللفظ، واختاره القاضي في خلافه وفي روايتيه، وأبو الخطاب في كتبه الثلاثة، وابن عقيل، وزعم أنها الأشبه بالمذهب، إذ بالعتق تملك نفسها، فيعتبر رضاها، كما لو فصل بينهما، ولأنه لم يوجد إيجاب ولا قبول، وهما ركناه

فلا يصح إلا بهما، ولأن العتق ليس بمال، ولا يجبر به مال، فأشبه رقبة الحر، وتورع ابن أبي موسى من حكاية رواية بعدم الصحة، وجعل محل الخلاف في تولي طرفي العقد، كما هو مقتضى نص أحمد، فقال: ومن أعتق أمته وجعل عتقها صداقها ثبت العتق والنكاح جميعا، واختلف قوله هل يكون المولى هو العاقد لنفسه، أم يحتاج إلى توكيل من يعقد له النكاح عليها بأمره؟ على روايتين. فجعل الرواية أنه يستأنف العقد عليها بإذنه بدون رضاها، إذ العتق وقع على هذا الشرط، انتهى. وأجيب (عن ملكها) نفسها بأن الكلام المتصل لا يثبت له حكم الانفصال قبل تمامه، فلم يستقر ملكها على نفسها إلا بعد النكاح، والسيد كان يملك إجبارها على النكاح في حق الأجنبي، فكذلك في حق نفسه، (وعن فقد) الإيجاب والقبول بأن العتق لما خرج مخرج الصداق صار الإيجاب كالمضمر فيه، فكأنه قال: تزوجتك وجعلت عتقك صداقك. والقائل هو الموجب، فلا يحتاج إلى الجمع بين الإيجاب والقبول، (وعن كون) العتق ليس بمال بأنه يترتب عليه حصول مال، وهو تمليك العبد، منافع نفسه وهو المقصود، وسأله حرب: إذا جعل عتقها مهرها كيف يقول؟ قال: يقول: قد تزوجتك وجعلت عتقك مهرك. فشرط ابن

حامد ذلك، ليأتي بركن العقد. وحيث قيل بالصحة فيشترط أن يحضره شاهدان، نص عليه أحمد، لعموم الأدلة في اشتراط الشهادة، والله أعلم. قال: وإذا قال: اشهدا أني قد أعتقتها وجعلت عتقها صداقها. كان العتق والنكاح ثابتين. سواء تقدم القول بالعتق أو تأخر، إذا لم يكن بينهما فصل. ش: إذا قال لشاهدين: اشهدا أني قد أعتقت أمتي وجعلت عتقها صداقها. كان العتق والنكاح أيضا ثابتين، سواء تقدم القول بالعتق كما في هذا المثال، أو تأخر كما إذا قال: جعلت عتق أمتي صداقها وأعتقتها بشرط أن لا يكون بين العتق والجعل ما يعد فصلا، كسكوت يمكن الكلام فيه، أو كلام أجنبي، لأنه كلام متصل بعضه ببعض، فلا يحكم عليه إلا بعد تمامه، انتهى. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط قبول الأمة، ونص عليه أحمد والأصحاب. (تنبيهان) : (أحدهما) : الظاهر أنه لا بد أن يقصد بالعتق جعله صداقا قبل أن يتم لفظ (أعتقتك) . كما في الاستثناء ونية العدد، بل هذا هو العطف المغير، وقد قال صالح لأبيه: الرجل يعتق الأمة فيقول: أجعل عتقك صداقك. أو صداقك عتقك. قال: كل ذلك جائز، إذا كانت له نية فنيته، (الثاني) : أو رد على القاضي إذا قال: جعلت عتق أمتي صداق ابنتك. لا

يصح النكاح فكذا في نفسه، فأجاب: لا يصح، لتقدم القبول على الإيجاب، فلو قال الأب ابتداء: زوجتك ابنتي على عتق أمتك. فقال: قبلت. لم يمتنع أن يصح، وقال أبو العباس فيما إذا قال: زوجت أمتي من فلان، وجعلت عتقها صداقها. قياس المذهب صحته، لأنهم قالوا: الوقت الذي جعل العتق صداقا كان يملك إجبارها في حق الأجنبي، والله أعلم. قال: فإن طلقها قبل أن يدخل بها رجع عليها بنصف قيمتها. ش: إذا طلق الأمة المجعول عتقها صداقها قبل أن يدخل بها رجع عليها بنصف قيمتها، نص عليه أحمد في رواية الجماعة، إذ التسمية صحيحة، وذلك يوجب الرجوع في نصفها كغيرها، ولما لم يكن سبيل إلى الرجوع في الرق بعد زواله، رجع في بدله وهو القيمة، وعلى هذا لو ارتدت، أو فعلت ما يفسخ نكاحها قبل الدخول، رجع عليها بجميع قيمتها، (وعلى الرواية) الأخرى المختارة للقاضي وبعض أصحابه يستأنف النكاح بإذنها، (وعلى قول) ابن أبي موسى لا يعتبر إذنها، وعلى كل حال مهرها العتق، فعلى قول القاضي إن امتنعت لزمها قيمة نفسها، لأنه إنما بذل نفسها في مقابلة بضعها، ولم تسلم له، فيرجع في قيمتها، قال أبو العباس: وقياس المذهب أنه لا يلزمها شيء، إذا لم يلزم النكاح ولم ترض بالشرط، كما لو أعتقها على ألف فلم تقبل بل

صيغة الإيجاب والقبول في النكاح

أولى، إذ: على ألف أبلغ في الشرط من: أعتقتك وجعلت عتقك صداقك. (تنبيه) تعتبر القيمة وقت التلف وهو العتق، ثم إن كانت قادرة فلا كلام، وإن كانت معسرة فهل تنظر إلى ميسرة أو تلزم بالاستسعاء؟ فيه روايتان منصوصتان، قال القاضي: أصلهما المفلس إذا كانت له حرفة، هل يجب عليه الاكتساب؟ على روايتين، والله أعلم. [صيغة الإيجاب والقبول في النكاح] قال: وإذا قال الخاطب للولي: أزوجت؟ فقال: نعم. وقال للمتزوج: أقبلت؟ فقال: نعم. فقد انعقد النكاح، إذا كان بحضرة شاهدين. ش: هذا منصوص أحمد، وبه قطع الجمهور، لأن (نعم) جواب صريح، والسؤال مضمر معاد فيه، أي نعم قبلت هذا النكاح، ونعم زوجتها، وهذا صريح لا احتمال فيه، يحققه أنه لو قيل لرجل: لفلان عليك ألف درهم. فقال: نعم. كان إقرارا صحيحا، لا يرجع فيه إلى تفسيره، وتقطع اليد بمثل ذلك، مع أن الأصل براءة الذمة، ودرء الحد بالشبهة، ولا بد أن يحضر ذلك شاهدان لما تقدم، وقيل: لا يصح النكاح بذلك في الصورتين، قال ابن عقيل: وهو الأشبه بالمذهب، لعدم لفظ الإنكاح والتزويج، والله أعلم.

الجمع بين أربع نسوة

[الجمع بين أربع نسوة] قال: وليس للحر أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات. 2474 - ش: هذا كالإجماع، ويدل عليه ما روي «عن قيس بن الحارث، قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «اختر منهن أربعا، وفارق سائرهن» رواه أبو داود، وابن ماجه، وإذا منع من الزيادة على أربع في الدوام، ففي الابتداء أولى، وبهذا قيل إن الواو في قوله سبحانه: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] بمعنى «أو» لا

عاطفة، وقد فهم من قول الخرقي، أن له أن يتسرى بما شاء، ولا نزاع في ذلك، لقوله سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] . قال: وليس للعبد أن يجمع إلا اثنتين. 2475 - ش: لما روى الدارقطني عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ينكح العبد امرأتين، ويطلق تطليقتين، وتعتد الأمة حيضتين. 2476 - وقال أحمد: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سأل الناس كم يتزوج العبد؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: يتزوج ثنتين، وطلاقه ثنتان. وهذا في مظنة الشهرة، ولم ينكر فكان إجماعا.

2477 - وقد روي عن الحكم بن عتيبة قال: أجمع أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أن العبد لا ينكح أكثر من اثنتين. وبهذا يتخصص عموم الآية أو يقال الآية إنما تناولت الحر لأن فيها {أو ما ملكت أيمانكم} [النساء: 3] والعبد لا يملك، ولو ملك فنفس ملكه لا يبيح التسري، ثم في أول الآية {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى} [النساء: 3] فالخطاب لمن يكون وليا على يتيم، والعبد لا يصلح لذلك. تنبيه: من عتق نصفه فأكثر يجمع بين ثلاث، نص عليه أحمد، لأن ذلك مما يقبل التجزي، فتجزى في حقه كالحد، وقيل: لا يملك إلا اثنتين؛ لأنهما قد ثبتا له وهو عبد، فلا ينتقل عنهما إلا بدليل من نص أو إجماع ولم يوجد، والله أعلم. قال: وله أن يتسرى بإذن سيده. ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الجماعة، وقول قدماء أصحابه الخرقي، وأبي بكر، وابن أبي موسى، وبعض متأخريهم، كأبي محمد من غير بناء على روايتي ملكه وعدمها، بل الخرقي وغيره يقولون: لا يملك ويبيحون له التسري، وبناه القاضي وعامة من بعده على الروايتين في ملكه، إن قلنا: يملك. جاز له التسري، وإلا فلا يجوز، وأحمد - رحمه

الله - في رواية أبي طالب قد استدل في المسألة وبينها بما هو كاف فيها. 2478 - قال أبو طالب: سمعت أبا عبد الله قيل له: أيتسرى العبد؟ قال: نعم. قال ذلك ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغير واحد من التابعين، عطاء ومجاهد، وذكرهم، وأهل المدينة على هذا، وفي رواية قال: لم يزل أهل الحجاز على هذا. قيل لأبي عبد الله: فمن احتج بهذه الآية: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6] فأي ملك للعبد؟ قال: إذا ملكه ملك. يقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من اشترى عبدا وله مال فقد جعل له ملكا، هذا يقوي التسري أنه يطأ بملك، وأهل المدينة يقولون: إذا أعتق وله مال فماله معه، ولا يتعرض لماله، وإذا باع العبد فالمال للسيد، فقد جعلوا له مالا في العتق، وابن عمر وابن عباس أعلم بكتاب الله ممن احتج بهذه الآية، هم أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنزل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القرآن، وهم أعلم فيما أنزل فقالوا: يتسرى العبد. ولكن في القياس ليس يقوم حد الملك، لأنه ليس خالصا له دون السيد، فيقول بقولهم، قال ابن سيرين: لا تزال على الطريق ما اتبعت الأثر. فقد استدل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - بقول الصحابة، وبعمل

أهل الحجاز، وبين أن يقول الصحابة يعرف معنى القرآن، وبين أن ملكه ليس كملك الحر، وهذا الذي يفصل النزاع، فالخرقي والقدماء يقولون: لا نثبت ملكا مطلقا، لكن ملكا يبيح له التسري فقط، لمصلحة راجحة، ولا بدع في ذلك، إذ الموقوف عليه يملك الانتفاع دون نقل الملك في الأصل، وكذلك سيد أم الولد يملك الانتفاع بها دون البيع ونحوه، والشارع يثبت من الملك ما فيه مصلحة العباد، ويمنع ما فيه فسادهم، والعبد محتاج إلى النكاح، فالمصلحة تقتضي ثبوت ملك البضع له، وإلا فكون العبد يملك مطلقا، فيه إضرار بالسيد، ومنع العبد مطلقا، فيه إضرار به، فالعدل ثبوت قدر الحاجة، وفي الحقيقة الملك المطلق لله سبحانه وحده، ثم إذا ثبت للعبد ملك النكاح وهو أشرف فملك التسري أولى، وغاية ما يقال أن إثبات ملك

يحل الوطء دون غيره لا نظير له، فنقول: قد ثبت ذلك عن ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولا يعرف لهما مخالف، وإذا لا يحتاج إلى النظير، ثم العبد لا نظير له في نفسه، إذ ليس هو مثل الحر، ولا مثل البهيمة، فكذلك في أحكامه انتهى. وإذا جاز له التسري جاز له التسري بما شاء بإذن السيد كالحر. (تنبيه) نقل الجماعة عنه: إذا أذن له سيده مرة لم يكن له الرجوع. فظاهر هذا أنه جعل الإذن في التسري مقتضيا لملك البضع كالنكاح، فكما أنه ليس له الرجوع في النكاح إذا أذن له، فكذلك في التسري، وهو يؤيد طريقة الخرقي ومن وافقه، قال أبو محمد: ولم أجد عنه خلاف هذا، والقاضي لما استشعر أن هذا يخالف طريقته حمله على أنه أطلق التسري وأراد به النكاح. والله أعلم. قال: ومتى طلق الحر أو العبد طلاقا يملك فيه الرجعة أو لا يملك، لم يكن له أن يتزوج أختها حتى تنقضي عدتها. ش: هذا يعتمد أصلا، وهو أنه لا يجوز الجمع بين الأختين في عقد النكاح، وهذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] الآية إذا تقرر

هذا فكما أنه لا يجوز الجمع بينهما في عقد النكاح، لا يجوز الجمع بينهما في العدة، فإذا تزوج امرأة ثم طلقها، لم يجز له أن يتزوج في عدتها من لا يجوز له الجمع بينهما في عقد النكاح، كأختها وعمتها وخالتها، ونحو ذلك. رجعية كانت أو بائنا، أما الرجعية فبالاتفاق، إذ هي زوجة. 2479 - وأما البائن فلأن ذلك يروى عن علي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 2480 - وعن عبيدة السلماني قال: ما أجمعت الصحابة على شيء كإجماعهم على أربع قبل الظهر، وأن لا تنكح المرأة في عدة أختها.

2481 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمع ماءه في رحم أختين» ولأنها محبوسة عن النكاح لأجله، أشبهت الرجعية، وقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] أي في أحكام الوطء، لأنه أشمل، فهو أكثر فائدة، وحكم العدة من فسخ، حكم العدة من طلاق، والله أعلم. قال: وكذلك إن طلق واحدة من أربع، لم يجز له أن يتزوج خامسة حتى تنقضي عدتها. ش: قد تقدم أنه لا يجوز للحر أن يجمع في عقد النكاح بين أكثر من أربع، وكذلك لا يجوز أن يجمع بينهن في العدة، وإن كان الطلاق بائنا، لأنها محبوسة عن النكاح لأجله، أشبهت الرجعية. 2482 - وعن أبي الزناد قال: كان للوليد بن عبد الملك أربع نسوة، فطلق واحدة ألبتة، وتزوج قبل أن تحل، فعاب عليه ذلك كثير من الفقهاء: قال سعيد بن منصور: وإذا عاب عليه سعيد بن المسيب، فأي شيء بقي.

قال: وكذلك العبد إذا طلق إحدى زوجتيه. ش: أي ليس له أن يتزوج بأخرى حتى تنقضي عدة المطلقة، لما تقدم في الحر، وحكم البينونة من فسخ حكم الطلاق، نعم لو كانت البينونة بموت فقال ابن أبي موسى في الإرشاد: إذا ماتت واحدة من منتهى جمعه كان له أن يتزوج أخرى عقب موتها، وكذلك له أن يتزوج الأخت عقب موت أختها،

وكذلك لو طلقها طلاقا لا رجعة فيه، أو بانت منه بينونة لا رجعة فيها، وقد شذ عن الجماعة في الطلاق البائن. (تنبيه) حكم الوطء بشبهة أو زنا حكم الوطء في نكاح صحيح، فإذا وطئ امرأة بشبهة أو زنا لم يجز في العدة أو يتزوج أختها، ولا يطأها إن كانت زوجته، على المذهب المنصوص، لئلا يجمع ماءه في رحم أختين، وكذلك لا يجوز وطء أربع سواها بالزوجية، وابتداء بالعقد على أربع، قاله أبو بكر في الخلاف، والقاضي، وأبو الخطاب في الانتصار، وابن عقيل، حذارا من جمع خمس نسوة في الفراش، أو فيما هو في حكمه وهو الزنا، لثبوت حرمة المصاهرة، وقيل: يجوز، لعدم النكاح، ويجوز في مدة استبراء العتيقة نكاح أربع سواها، قاله القاضي في الجامع والخلال، وابن المنى، ونصبه أبو الخطاب في خلافه الصغير، كما قبل العتق، وقيل: لا يجوز. التزمه القاضي في التعليق في موضع، قياسا على المنع من تزوج أختها. والله أعلم. قال: وإذا خطب امرأة فزوج بغيرها لم ينعقد النكاح. ش: إذا خطب امرأة فزوج بغيرها، فقبل يظنها المخطوبة، لم ينعقد النكاح، نص عليه أحمد، لأن القبول انصرف إلى

حكم الشروط في عقد النكاح

غير من وجد الإيجاب فيه، فلم يتواردا على محل واحد، وإذا لا ينعقد النكاح، لعدم ركن العقد، وهو الإيجاب والقبول، والله أعلم. [حكم الشروط في عقد النكاح] قال: وإذا تزوجها وشرط أن لا يخرج بها من دارها أو بلدها فلها شرطها، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج» . ش: هذا هو المذهب المنصوص، وعليه الأصحاب. 2483 - لهذا الحديث، وهو حديث عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» رواه الجماعة، ولعمومات الأمر بالوفاء بالعقود والعهود، ولأن الله تعالى ورسوله حرما مال الغير إلا عن تراض منه، ولا ريب أن المرأة لم ترض ببذل فرجها إلا بهذا الشرط، وشأن الفرج أعظم من شأن المال، فإذا حرم المال إلا بالتراضي، فالفرج أولى، ولهذا جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشروط فيه أحق بالوفاء من غيره، ووجب رضا المرأة ووليها، فنهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الولي أن يزوج المرأة إلا برضاها، ونهى المرأة أن تتزوج إلا بإذن وليها.

2484 - وروى الأثرم أن رجلا تزوج امرأة وشرط لها دارها، ثم أراد نقلها، فخاصموها إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: لها شرطها. فقال الرجل: إذا يطلقننا: فقال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط. 2485 - وعن ابن عمر فيما إذا شرط أن لا يخرجها من مصرها نحوه. رواه الترمذي. (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: لا يلزم هذا الشرط، حكاها أبو الحسين عن شيخه أبي جعفر، ولعلها مأخوذة من أن الأصل في العقود والشروط البطلان، إلا أن يدل دليل على الصحة على رواية مرجوحة.

2486 - وذلك لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحديث الصحيح «كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل» وهذا ليس في كتاب الله. 2487 - وعن عمرو بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا، أو أحل حراما» مختصر، رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح. وفيه كلام. وهذا يحرم حلالا، وأجيب عن الأول بأن معنى ليست في كتاب الله أي في حكمه وشرعه، وهذه مشروعة، بدليل ما تقدم، وعن الثاني بأنها لا تحرم الحلال، وإنما يثبت للمرأة خيار الفسخ، إن لم يف لها به. إذا تقرر هذا فمتى أخرجها من دارها بغير اختيارها فلها الفسخ، وغالى القاضي في الجامع فأثبت الفسخ بالعزم على الإخراج، ومقتضى كلام الأصحاب أن الزوج لا يجبر على الوفاء بهذا الشرط، وكلام الخرقي ظاهر في إجباره، وكذلك كلام أحمد في رواية حرب، قال: إذا شرط أن لا يخرجها من قريتها، ليس له أن يخرجها. انتهى، وفي معنى هذا الشرط إذا شرط أن لا يخرجها من مصرها. والله أعلم. قال: وإن تزوجها وشرط لها أن لا يتزوج عليها، فلها فراقه إن تزوج عليها.

ش: الكلام في هذا الشرط نقلا ودليلا كالكلام في الذي قبله، إلا أن ظاهر كلامه هنا أنه لا يجبر على ترك النكاح، بل إذا تزوج عليها فلها الفسخ، وكذا ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور، إذا تزوجها على أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى، فإن تزوج أو تسرى فهي مخيرة، وكأن الفرق أنه لا ضرر عليه في عدم إخراجها من دارها، أما ترك النكاح فقد يتضرر به، لكونه لا يعفه ونحو ذلك، وفي معنى هذا الشرط إذا شرط أن لا يتسرى عليها. (تنبيه) لا ريب في عدم صحة هذين الشرطين ونحوهما بعد العقد، وصحة ذلك فيه، أما قبله فثلاثة أوجه (أحدها) - وهو ظاهر إطلاق الخرقي، وأبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد وغيرهم، وقال أبو العباس في فتاويه: إنه ظاهر المذهب، ومنصوص أحمد، وقول قدماء أصحابه، ومحققي المتأخرين - أنه كالشرط فيه، (والثاني) لا أثر لما قبل العقد مطلقا، وهو قول القاضي في مواضع، ومقتضى قول أبي البركات وغيرهما، (والثالث) يفرق بين شرط يجعل العقد غير مقصود، كالتواطؤ على أن البيع تلجئة لا حقيقة له فيؤثر، وبين شرط لا يخرجه عن أن يكون مقصودا، كاشتراط الخيار، فهذا لا يؤثر، قاله القاضي في تعليقه في موضع، والله أعلم.

حكم النظر للمخطوبة

[حكم النظر للمخطوبة] قال: ومن أراد أن يتزوج امرأة فله أن ينظر إليها من غير أن يخلو بها. ش: المذهب المعروف المشهور جواز النظر للمخطوبة في الجملة. 2488 - لما روى «جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر منها إلى ما يدعو إلى نكاحها فليفعل» قال: فخطبت امرأة فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها ما دعاني إلى نكاحها فتزوجتها» . رواه أحمد وأبو داود. 2489 - وفي «حديث الموهوبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صعد فيها النظر وصوبه» ، وقال حرب: قلت لأحمد: الرجل إذا أراد أن يتزوج امرأة هل

ينظر إليها؟ قال: إذا خاف ريبة؛ وظاهر هذا يفيد الجواز لخوف الريبة. 2490 - وقد يستدل لها بما روى أبو هريرة قال: «كنت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتاه رجل فأخبره أنه تزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنظرت إليها؟» قال: لا. قال: فاذهب فانظر إليها، فإن في أعين الأنصار شيئا» رواه مسلم. 2491 - وللنسائي: «خطب رجل امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هل نظرت إليها؟» الحديث انتهى، وإذا جاز له النظر، فعنه - وهو اختيار أبي محمد في العمدة - ينظر إلى ما يظهر غالبا، كالرقبة واليد والقدم، وقيل ظهر القدم، لظاهر ما تقدم من الحديث، إذ من ينظر إلى امرأة وهي غافلة نظر منها إلى ما يظهر عادة، وعلى هذا يحمل إطلاق الخرقي، وكذا أيضا حمل عليها القاضي قول أبي بكر في الخلاف: ينظر إليها حاسرة. وقد يحمل كلامهما على إطلاقه، إذ الحاسرة هي التي تضع

خمارها ودرعها، والحديث لا يأبى هذا، بل لعله ظاهره (نعم) يستثنى من ذلك ما بين السرة والركبة، لأنه لا يظن من صحابية كشف ذلك وإن كانت خالية. 2492 - وقد روى سعيد عن سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر قال: خطب عمر بن الخطاب ابنة علي، فذكر منها صغرا، فقالوا له: إنما ردك. فعاوده فقال: نرسل بها إليك تنظر إليها فرضيها، فكشف عن ساقيها، فقالت: أرسل، لولا أنك أمير المؤمنين للطمت عينك (وعنه) رواية ثانية لا ينظر إلا الوجه واليدين، بناء على أن اليدين ليسا من العورة، وهي اختيار زاعمي ذلك، قال القاضي في تعليقه: المذهب المعمول عليه المنع من النظر إلى ما هو عورة، ونحوه قال الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وذلك لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] .

2493 - قال ابن عباس: الوجه وباطن الكف. رواه عنه الأثرم (وعنه رواية ثالثة) : يختص النظر بالوجه. صححها القاضي في المجرد، وابن عقيل، لأنه مجمع المحاسن. 2494 - وشرط جواز النظر على كل حال عدم الخلوة بها، لقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يخلون رجل بامرأة، فإن الشيطان ثالثهما» ويخرج عن الخلوة بحضور امرأة صبية فأكثر، أو رجل من ذوي أرحامها، أو عصباتها ممن يباح له السفر بها.

وظاهر كلام الخرقي يشمل الأمة والحرة، وكذلك ظاهر كلام الشيخين وغيرهما، وصرح به القاضي في المجرد، وجعل في الجامع وابن عقيل حكم النظر في خطبة الأمة حكم النظر في شرائها. وظاهر كلام الخرقي أيضا أن النظر على سبيل الإباحة، وجعله ابن عقيل وابن الجوزي مستحبا، وهو ظاهر الحديث، قال أبو العباس: وينبغي أن يكون النظر بعد العزم على نكاحها وقبل الخطبة. والله أعلم. قال: وإذا زوج أمته وشرط عليه أن تكون عندهم بالنهار، ويبعث بها إليه بالليل، فالعقد والشرط جائزان، وعلى الزوج النفقة مدة مقامها عنده. ش: لا ريب أن سيد الأمة يستحق منفعة الاستخدام والوطء، وقد أخرج منفعة الوطء، ومحلها عرفا وعادة هو الليل فيختص به، وإذا فهذا شرط مؤكد لمقتضى العقد ومقو له، فلا ريب في جوازه وجواز العقد معه، وعلى هذا يكون على الزوج نفقتها ليلا، إذ النفقة تدور مع التسليم، وهي إنما تسلمت كذلك، ولو بذلها السيد للزوج والحال أنهما شرطا ذلك لم يلزمه القبول (على وجه) اعتمادا على شرطه، لأن له فيه غرضا صحيحا، ويلزمه (على آخر) إذ هذا مقتضى الزوجية، وإنما سقط عنه لمعارضة حق السيد، والسيد قد رضي بإسقاط حقه فيسقط، وقد فهم من هذا الذي قلناه أنه مع عدم الشرط يكون الحكم كما قال الخرقي، وأن السيد متى بذلها له لزمه جميع النفقة بلا نزاع.

باب ما يحرم نكاحه والجمع بينه وغير ذلك

(تنبيه) جملة النفقة بينهما نصفين عند أبي محمد، وكذلك الكسوة قطعا للتنازع، وقيل - وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا - يختص كل واحد بما يجب عليه، فيجب على الزوج نفقة الليل، وتوابعه من الوطاء والغطاء، ودهن المصباح ونحوه، والله أعلم. [باب ما يحرم نكاحه والجمع بينه وغير ذلك] قال: باب ما يحرم نكاحه والجمع بينه وغير ذلك ش: قد نص الله سبحانه على عدة محرمات في كتابه العزيز، في قَوْله تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية ونص نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على عدة أيضا، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: والمحرمات نكاحهن بالأنساب الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت. ش: قد نص الله تعالى على ذلك كذلك، قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] (ويدخل في الأمهات) أمه التي ولدته، وجداته من قبل أبيه وأمه وإن علون، لصحة تناول الاسم للجميع.

2495 - وقد جاء في الدعاء «اللهم صل على أبينا آدم، وأمنا حواء» (ويدخل في البنات) بنات الابن، وبنات البنت وإن سفلن، لصحة تناول الاسم للجميع، وتدخل البنت من نكاح صحيح، أو ملك يمين أو شبهة، وكذلك البنت من زنا، لشمول الآية الكريمة للجميع. 2496 - وقد «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة هلال بن أمية «انظروه» يعني ولدها، فإن جاءت به على صفة كذا فهو لشريك بن سحماء» يعني الزاني، فجعله له. 2497 - واستدل أحمد «بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سودة أن تحتجب من ابن أمة زمعة للشبه الذي رأى بعتبة» . (تنبيه) يكفي في التحريم أن يعلم أنها بنته ظاهرا، وإن كان النسب لغيره، قاله القاضي في التعليق، وظاهر كلام أحمد في استدلاله أن الشبه كاف في ذلك. ويدخل في الأخوات الأخوات من الأبوين، أو من الأب، أو من الأم، لشمول الآية لذلك (ويدخل في العمات) كل أخت لأب وإن بعد، من جهة أبيه، أو من جهة أمه (وفي الخالات) كل أخت لأم وإن

المحرمات بالأسباب

بعدت من جهة أبيه، أو من جهة أمه، لشمول الآية الكريمة لذلك، ولأنه إذا ثبت أن كل جد أب، وأن كل جدة أم فكل أخت لهما عمة وخالة، (ويدخل في بنات الأخ، وبنات الأخت) كل بنت أخ وإن سفلت، وقد استفيد من كلام الخرقي تخصيص هؤلاء بالذكر بأنه لا يحرم من عداهن فلا تحرم بنات العمات، ولا بنات الخالات، وقد نص الخرقي على ذلك بعد، ولا بنات الأخوال، ولا بنات الأعمام، ولا ريب في ذلك، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] إلى {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ} [الأحزاب: 50] والأصل المساواة، لا سيما وقد دخلن في عموم {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] واختصار ما تقدم أن جميع أقارب النسب حرام، إلا الأربعة المذكورة في آية الأحزاب، والله أعلم. [المحرمات بالأسباب] قال: والمحرمات بالأسباب الأمهات المرضعات، والأخوات من الرضاعة. ش: يعني في كتاب الله سبحانه، ولهذا عمم بعد، قال الله سبحانه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] ويدخل في الأمهات الأم التي أرضعت الطفل، وأمهاتها، وجداتها، وإن علون كما في النسب، ويدخل في الأخوات والله أعلم.

قال: وأمهات النساء، وبنات النساء اللاتي دخل بهن، وحلائل الأبناء، وزوجات الأب. ش: المحرمات بالسبب على ما ذكر الخرقي ثلاثة أنواع (النوع الأول) المحرمات بالرضاع وقد تقدم (النوع الثاني) المحرمات بالمصاهرة، وهن أربع (أمهات نسائه) وإن بعدن ولم يرثن، أو كن من رضاع، لشمول الاسم لهن (وبنات نسائه) وإن بعدن ولم يرثن أو كن من رضاع، وبنات أبنائهن وإن بعدوا، أو كانوا من رضاع وهؤلاء من الربائب (وحلائل الأبناء) أي زوجات الأبناء، سميت الزوجة بذلك لأنها محل إزار زوجها، وهي محللة له وهو محلل لها وقيل: لأنها تحل معه ويحل معها، ويدخل في ذلك الابن البعيد، وغير الوارث، ومن الرضاع، (وزوجات الأب) وإن بعد، ولم يرث، أو كان من رضاع، والأصل في ذلك كله قول الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} [النساء: 23] وقال تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] وشرط تحريم الربيبة الدخول بأمها، كما نص الله سبحانه عليه، فإن قيل: فقد قيد سبحانه الربائب بكونهن في الحجر.

2498 - وكذلك المبين لكتابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حيث قال: «لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي» وقيد سبحانه حلائل الأبناء بكون الأبناء من الصلب. قيل: أما التقييد بالحجر فقد قيل: إنه خرج مخرج الغالب، إذا الغالب في الربيبة كونها في الحجر، وما خرج مخرج الغالب لا مفهوم له اتفاقا، وقد حكى ابن عقيل اشتراط الحجر، نظرا لما تقدم وهو ظاهر، وأما تقييد الابن بالصلب فليخرج - والله أعلم - الابن المتبنى. 2499 - أما الابن من الرضاع فإنه يدخل في قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» .

(تنبيهان) أحدهما يترتب التحريم المتقدم بالعقد الصحيح المفيد للحل بلا ريب، وبالعقد الفاسد على ظاهر كلام القاضي في المجرد فيما أظن، قال: العقد الفاسد يثبت جميع أحكام النكاح إلا الحل، والإحلال، والإحصان، والإرث، وتنصف الصداق بالفرقة قبل المسيس، وظاهر كلامه في التعليق أن العقد الحرام وإن لم يتمحض تحريمه لا يتعلق به تحريم، فإن المخالف احتج عليه في أن الزنا لا يثبت تحريم المصاهرة، بأن العقد الحرام لا يتعلق به تحريم كذلك الوطء، فأجاب: العقد إذا لم يتمحض تحريمه يتعلق به التحريم، كذلك إذا تمحض تحريمه، والوطء إذا لم يتمحض تحريمه يتعلق به التحريم، كذلك إذا تمحض تحريمه، وذكر أيضا في موضع آخر ما يدل على ذلك، هذا في أنكحة المسلمين، أما في أنكحة الكفار فقد ذكر القاضي في تعليقه وغيره فيما إذا أسلم وتحته أم وبنت لم يدخل بواحدة منهما أنه يبطل نكاح الأم، ونص أحمد على ذلك، وهذا تصريح ببطلان نكاح الأم، مع أن هذا النكاح لا يقرون عليه بعد الإسلام، والقاضي استنبط من هذا النص صحة النكاح، قال: وإلا لم ينشر حرمة المصاهرة، وجعل أبو العباس في بعض قواعده تحريم المصاهرة تابعا للسبب، وهو يلتفت إلى الأول.

(الثاني) المراد بالدخول هنا في كلام الخرقي يحتمل أنه الوطء فتخرج الخلوة، ويحتمل أنه أعم من ذلك، فتدخل الخلوة، وهو مقتضى كلامه بعد، (وعن أحمد) فيما إذا طلق بعد الخلوة وقبل الوطء روايتان، أنصهما - وهو الذي قطع به القاضي في الجامع الكبير في موضع، وفي الخصال، وابن البنا والشيرازي - ثبوت تحريم الربيبة، لأن الله سبحانه أطلق الدخول، وهو شامل للخلوة، والعرف على ذلك، يقال: دخل على زوجته. إذا بنى بها، وإن لم يكن وطئها (والثانية) وهي اختيار أبي محمد، وابن عقيل، والقاضي في المجرد، وفي الجامع في موضع: لا يثبت تحريمها نظرا إلى أن الدخول كناية عن الوطء. وظاهر كلام الخرقي أن القبلة أو اللمس لا يثبتان تحريم الربيبة، وقد يقال بالتحريم، بناء على تقرر الصداق بذلك، وظاهر كلامه أيضا، أنه لا يثبت باستدخال الماء، ونص عليه القاضي في تعليقه في اللعان، (وظاهر كلامه) أيضا أن الموت قبل الدخول لا يثبت التحريم، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد، والقاضي في الروايتين، لظاهر الآية الكريمة (والثانية) يثبت، اختارها أبو بكر في المقنع، إذ الموت أقيم مقام الدخول في تكميل الصداق والعدة، فكذلك في تحريم الربيبة، والله أعلم.

يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب

قال: والجمع بين الأختين. ش: هذا النوع الثالث مما حرم بالسبب، إذ تزوج إحدى الأختين هو السبب لتحريم أختها، والأصل في ذلك قَوْله تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] ويدخل في ذلك الأختان من كل جهة، ومن النسب والرضاع، والله أعلم. [يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب] قال: ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. ش: لما ذكر المنصوص عليه في كتاب الله عز وجل من المحرمات، ذكر المأخوذ من جهة السنة. 2500 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أريد على بنت حمزة، فقال: «إنها لا تحل لي، إنها ابنة أخي من الرضاعة، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من الرحم» وفي لفظ «من النسب» . 2501 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة» متفق عليهما. 2502 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم من الرضاعة ما يحرم من النسب» رواه أحمد والترمذي وصححه، وقد استثنى بعض الأصحاب من هذا العموم

لبن الفحل محرم

صورتين (إحداهما) أم أخته (والثانية) أخت ابنه، فإنهما لا يحرمان، والصواب عند الجمهور عدم استثنائهما، لأن أم أخته. إنما حرمت في غير الرضاع لكونها زوجة أبيه، وذلك تحريم مصاهرة، لا تحريم نسب، وكذلك أخت ابنه إنما حرمت لكونها ربيبته. (تنبيه) لا فرق بين الرضاع المباح والمحظور، على ظاهر كلام الخرقي وغيره، كأن يكره امرأة على الرضاع أو يغصب لبنها فيسقيه الطفل، وقد ذكر ذلك القاضي في تعليقه بما يدل على أنه إجماع، والله أعلم. [لبن الفحل محرم] قال: ولبن الفحل محرم. ش: لا نزاع بين أهل العلم في أن حرمة الرضاع تنتشر من جهة المرأة، واختلفوا هل تنتشر من جهة الرجل الذي اللبن له، فذهب الجمهور إلى أنه ينتشر منه، كما ينتشر من المرأة، فيصير الطفل ولد الرجل، والرجل أباه، وأولاد الرجل إخوته، سواء كانوا من تلك المرأة أو من غيرها، وإخوة الرجل وأخواته أعمام الطفل وعماته. وآباؤه وأمهاته أجداده وجداته، لأن اللبن من الرجل، كما هو من المرأة. 2503 - وفي الصحيحين «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إن أفلح أخا أبي القعيس استأذن علي بعد ما أنزل الحجاب، فقلت: لا والله لا آذن له حتى أستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن أخا أبي القعيس ليس

الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها

هو أرضعني، وإنما أرضعتني امرأة أبي القعيس، فدخل علي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: يا رسول الله إن الرجل ليس هو أرضعني ولكن أرضعتني امرأته، فقال: ائذني له فإنه عمك تربت يداك» قال عروة: فبذلك كانت عائشة تقول: حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب. وهذا نص، والله أعلم. [الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها] قال: والجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها. ش: هذا أيضا مما ثبت بسنة المبين لكتاب ربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 2504 - فروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها» وفي لفظ قال: «نهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن تنكح المرأة على عمتها أو خالتها» متفق عليهما. 2505 - وللبخاري والترمذي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله.

2506 - وفي التمهيد عن ابن عباس نحوه، وفيه: وقال: «إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم» وبهذا يتخصص عموم {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] مع أن هذا كالإجماع، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على ذلك. وليس فيه بحمد الله اختلاف إلا عن بعض أهل البدع ممن لا يعتد بخلافه كالروافض والخوارج. 2507 - يروى أن رجلين من الخوارج أتيا عمر بن عبد العزيز، وكان مما أنكرا عليه رجم الزانيين، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها، وبينها وبين خالتها، وقالا: ليس هذا في كتاب الله. فقال لهما: كم فرض الله عليكما من الصلوات؟ قالا: خمس صلوات في اليوم والليلة. وسألهما عن عدد ركعاتها، فأخبراه بذلك، وسألهما عن مقدار الزكاة ونصبها؛ فأخبراه، فقال: فأين تجدان ذلك في كتاب الله؟ قالا: لا نجده في كتاب الله، قال: فمن أين صرتما إلى ذلك؟ قالا فعله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ والمسلمون بعده، قال:

فكذلك هذا. ولا فرق بين العمة القريبة والبعيدة، وكذلك الخالة، والضابط أن كل امرأتين لو قلبت إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج بالأخرى لأجل القرابة، لم يجز الجمع بينهما، حذارا من قطيعة الرحم القريبة، وبهذا حرم الجمع بين المرأة وبنت أخيها، لأن الأخ لا تباح له بنت أخيه، وابن الأخت لا تباح له خالته، وأبيح الجمع بين بنتي عمين، وبنتي خالين، وبنتي عمتين، وبنتي خالتين، لأن ابن العم له أن يتزوج بنت عمه، وابن الخال يتزوج بنت خاله، لكن هل يكره حذارا من قطيعة الرحم، وإن كانت بعيدة أو لا يكره؟ فيه روايتان، والله أعلم.

حرمة زوجة الأب على الابن وزوجة الابن على الأب بالعقد

[حرمة زوجة الأب على الابن وزوجة الابن على الأب بالعقد] قال: وإذا عقد على المرأة وإن لم يدخل بها فقد حرمت على أبيه وابنه، وحرمت عليه أمها. ش: تحرم زوجة الأب على الابن، وزوجة الابن على الأب بمجرد العقد اتفاقا، وكذلك أمهات النساء، اتباعا لإطلاق الرب سبحانه، إذ بالعقد تسمى حليلة ابنه، ومنكوحة أبيه، وأن زوجته (وروي عن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن أمهات النساء كالربائب، لا يحرمن إلا بالدخول ببناتهن؛ وقد يستدل له بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] على أن (دخلتم) راجع إلى الأمهات وإلى الربائب، وهو مردود بأن (نسائكم) الأول مجرور بالإضافة (ونسائكم) الثاني مجرور بحرف الجر، فالجران مختلفان، وما هذا سبيله لا تجري عليه الصفة كما إذا اختلف العمل. 2508 - وبما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما رجل نكح امرأة فدخل بها، فلا يحل له نكاح ابنتها، وإن لم يكن دخل لها فلينكح ابنتها، وأيما رجل نكح امرأة فلا يحل له أن ينكح أمها، دخل بها أو لم يدخل» رواه الترمذي.

2509 - زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن رجل تزوج امرأة ثم فارقها قبل أن يصيبها، هل تحل له أمها؟ فقال زيد بن ثابت: لا، الأم مبهمة، ليس فيها شرط، وإنما الشرط في الربائب. رواه مالك في الموطأ، وعن ابن عباس نحوه. 2510 - وأرخص ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في نكاح الأم إذا لم يمس البنت وهو بالكوفة، ثم قدم المدينة فأخبر أنه ليس كما قال، إنما الشرط في الربائب، فرجع إلى الكوفة، فأمر الرجل أن يفارق امرأته. رواه مالك في الموطأ. والله أعلم.

وطء الحرام محرم

قال: والجد وإن علا فيما قلت بمنزلة الأب، وابن الابن فيه وإن سفل بمنزلة الابن. ش: قد تقدم ذلك، اتباعا لإطلاق الآية الكريمة، والله أعلم. قال: وكل من ذكرنا من المحرمات من النسب والرضاع فبناتهن في التحريم كهن، إلا بنات العمات وبنات الخالات، وبنات من نكحهن الآباء والأبناء، فإنهن محللات. ش: قد تقدم هذا كله فيما تقدم، وإن كان الأولى تأخيره إلى هنا، إلا بنات من نكحهن الآباء والأبناء، لدخولهن في عموم: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وأمهاتهن إنما حرمن لكونهن حلائل الآباء والأبناء، وبناتهن لسن بحلائل، وبهذا فارقن ابنة الربيبة، إذ ابنة الربيبة ربيبة، وابنة الحليلة ليست حليلة، والله أعلم. قال: وكذلك بنات الزوجة التي لم يدخل بها. ش: هذا مستأنف، لا معطوف على ما تقدم، وإلا يلزم أن أم الربيبة محرمة، أي وكذلك تحل بنات الزوجة التي لم يدخل بها، وقد تقدم ذلك، والله أعلم. [وطء الحرام محرم] قال: ووطء الحرام محرم كما يحرم وطء الحلال والشبهة. ش: وطء الحرام يحرم ما يحرم وطء الحلال والشبهة، نص عليه أحمد في رواية الجماعة.

2511 - لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها» رواه ابن أبي شيبة مرسلا، لكن في رواته الحجاج بن أرطاة. 2512 - وروى بإسناد صحيح عن عمران بن حصين أنه قال: إذا وطئ الرجل أم امرأته حرمت عليه امرأته. وأيضا قوله سبحانه: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] ومن وطئ فقد نكح، إذ النكاح حقيقة في الوطء، بدليل قول الشاعر. . ومن أيم قد أنكحتها رماحنا ... وأخرى على عم وخال تلهف وقال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصلناه عن ثعلب عن الكوفيين، وعن المبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة اسم للجمع بين الشيئين، قال الشاعر:

أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يجتمعان والجمع يحصل حقيقة بالوطء دون العقد، ولو قيل: إنه حقيقة فيهما أو في العقد فالقرينة دلت على أن المراد الوطء، وهو قوله سبحانه: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا} [النساء: 22] ومثل هذا التغليظ لا يستعمل في العقد، وأورد على هذا قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] فامتن سبحانه بالصهر، ولا يمتن بالزنا. 2513 - وبما روى الدارقطني عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحرام لا يحرم الحلال» . 2514 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، وأجيب بأن الله سبحانه امتن بالنسب، ومع هذا يثبت بالزنا، لأنه يثبت من

أمه وآبائها، وعن حديث ابن عمر بأن مداره على إسحاق بن محمد الفروي، وهو منكر الحديث، قاله غير واحد من الأئمة، ورماه ابن معين وغيره بالكذب، وفيه أيضا العمري وقد ضعف، وعن حديث عائشة بأن مداره على عثمان بن عبد الرحمن، وهو منكر الحديث، وقال ابن معين: هو كذاب. وقد أشعر كلام الخرقي بأن وطء الحلال والشبهة لا نزاع فيهما بين أهل العلم، وهو كذلك، إلا أنه قد حكي للشافعي قويل بأن وطء الشبهة لا يحرم، ولا يعرج عليه، ودخل في وطء

الحلال الوطء بملك اليمين، وهو إجماع، ودل كلامه على أن وطء الشبهة ليس بحلال ولا حرام، وقد صرح القاضي في تعليقه بأنه حرام؛ وكلام الخرقي يشمل الوطء في القبل والدبر، وصرح بذلك أبو محمد في كتابيه، وكذلك القاضي، وأبو الخطاب بما يقتضي أنه وفاق، وشذ ابن حمدان في رعايتيه فقدم اختصاص الحكم بالقبل، فقال: في قبل، وقيل: أو دبر (وقد دخل) في كلام الخرقي وطء الميتة، لأنه وطء حرام، وقد قال القاضي في الجامع الكبير: إنه لا يعرف الرواية في ذلك، وحكى فيها احتمالين، (وقد يدخل) فيه وطء من لا يوطأ مثلها، وقد يخرج، لأنه جناية وليس بوطء، وفيها وجهان، أصحهما عدم التحريم. وقد يقال: ظاهر كلام الخرقي أن الخلوة، ونظر الفرج، والمباشرة دونه، إذا كن لشهوة لا يتعلق بهن تحريم، لتخصيصه الوطء بالذكر، وهو الصحيح من الروايتين في الجميع، وتحقيق ذلك، وبيان طرق الأصحاب فيه يحتاج إلى تطويل، والله أعلم.

حكم من تزوج أختين من النسب أو الرضاع في عقد أو عقدين

[حكم من تزوج أختين من النسب أو الرضاع في عقد أو عقدين] قال: وإن تزوج أختين من النسب أو الرضاع في عقد واحد فسد نكاحهما. ش: قد تقدم أنه يحرم الجمع بين الأختين مطلقا، فإذا جمع فسد النكاح فيهما، لارتكابه النهي، مع أنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، أشبه ما لو زوجت المرأة من رجلين، أو عقد عليها وليان عقدين لرجلين فوقعا معا، ونقل ابن منصور عن أحمد: إذا تزوج أختين في عقد يختار إحداهما. قال القاضي: وهو محمول على أنه يختار إحداهما بعقد مستأنف، والله أعلم. قال: وإن تزوجهما في عقدين فالأولى زوجته. ش: أي إذا تزوجهما في عقدين، فوقعا واحدا بعد واحد، وعلم السابق، فإن الحكم له، إذ الجمع المحرم إنما يحصل بالثاني، فاختص البطلان به، أما إن علم وقوعهما معا فقد تقدم، وإن لم يعلم كيف وقعا، أو علم السبق ولم يعلم السابق، أو علم ثم نسي، فظاهر كلام جماعة من الأصحاب أن حكم ذلك حكم الوليين يزوجان من رجلين، قال ابن أبي موسى: فإن جهل أولهما بطل النكاحان، (وقيل عنه) يقرع بينهما، والأول أصح، والله أعلم. قال: والقول فيهما القول في المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها. ش: هذا من باب المقلوب، أي القول في المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، كالقول في الأختين، إن تزوجهما في عقد واحد لم يصح، وإن تزوجهما في عقدين صح الأول، والله أعلم. قال: وإن تزوج أخته من الرضاعة وأجنبية في عقد واحد ثبت نكاح الأجنبية.

ش: هذا إحدى الروايتين، وهو اختيار القاضي في تعليقه، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وأبي محمد، لأن الأجنبية محل قابل للنكاح، صدر عليها عقد من أهله فصح، كما لو انفردت، (والثانية) لا يصح فيهما، اختارها أبو بكر، لأنه عقد اشتمل على مباح ومحظور، فغلب الحظر، كما لو اختلطت المذكاة والميتة، وكذبيحة من أحد أبويه كتابيا، والآخر مجوسيا وأجيب عن المذكاة والميتة بأن عين المباح مجهول، وهاهنا معلوم، وعن من أحد أبويه كتابيا، بأن المباح والمحظور اجتمعا في عين واحدة، وها هنا في عينين، وهكذا الحكم في كل من جمع بين محرمة ومحللة، هل يصح النكاح في المحللة؟ على روايتين، والله أعلم. قال: وإذا اشترى أختين فأصاب إحداهما، لم يصب الأخرى حتى يحرم عليه الأولى، ببيع أو نكاح، أو هبة، أو ما أشبهه، ويعلم أنها ليست بحامل منه. ش: يجوز أن يشتري أختين في عقد، لأن الممنوع منه الجمع بينهما في الفراش، ولا يصيران بذلك فراشا بالإجماع، ولا يجوز أن يجمع بينهما في الوطء، على المشهور والمنصوص من الروايتين، وهو المختار للأصحاب، لقوله سبحانه: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] وهو شامل للجمع في النكاح والجمع بملك اليمين، وإن قيل: حقيقة الجمع المقارنة، وذلك

متعذر في الوطء؟ قيل: الجمع يعبر به عن فعل الشيئين أحدهما عقب الآخر. 2515 - كما أنه قد جاء «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جمع بين الصلاتين» ولأن الذي علل به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحريم الجمع في النكاح - وهو قطع الرحم - موجود هنا. 2516 - وقد روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعلي وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: أحلتهما آية، وحرمتهما آية. يريدون بالمحللة

قَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وبالمحرمة {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فغلبنا آية التحريم احتياطا، وأيضا فآية التحليل قد خصصت بالاتفاق، فضعف عمومها، (وحكى القاضي) . وطائفة من أصحابه، والشيخان وغيرهم رواية بالكراهة من غير تحريم، معتمدين في ذلك على قوله في رواية ابن منصور - وسأله عن الجمع بين الأختين المملوكتين: تقول: إنه حرام؟ قال: لا أقول أنه حرام، ولكن ينهى عنه. وامتنع أبو العباس من إثبات هذه الرواية، قال: لأنه لم يقل: ليس بحرام. ولكنه قال: لا أقول إنه حرام. وهذا الأدب في الفتوى كثيرا ما يستعمله السلف، لا يطلقون لفظ التحريم، بل: يقولون منهي عنه؛ ولا لفظ الفرض، بل يقولون: يؤمر به. ونحو ذلك، استهابة لعهدة اللفظية إلا فيما علم دليله بالقاطع. وبالجملة هذا القول يستدل له بالعمومات نحو: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6] ،

{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ولا تفريع على هذا القول، أما على الأول فإذا ملك أختين كان له أن يطأ إحداهما أيتهما شاء، على ظاهر كلام أحمد، والخرقي، واختيار القاضي، وابن عقيل، والشيخين، وغيرهم، إذ الممنوع منه الجمع في الوطء ولم يوجد، وقطع أبو الخطاب في هدايته بالمنع من وطء إحداهما حتى يحرم الأخرى بما سيأتي إن شاء الله تعالى، إذ لا مزية لإحداهما على الأخرى، فاستباحة وطء إحداهما دون الأخرى ترجيح من غير مرجح، ويرد بأن اختياره ترجيح أحد الجائزين، ومتى وطئ إحداهما لم تحل له الأخرى حتى يحرم الموطوءة على نفسه بتزويج، أو بيع، أو هبة أو عتق، ويعلم أنها ليست بحامل منه، بأن يستبرئها. 2517 - نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك في الجملة، محتجا بأن هذا قول علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. والمعنى فيه أنه لو لم يفعل ذلك

أفضى إلى الجمع بين الأختين في الوطء، أو جمع مائه في رحم أختين، وإنه غير جائز، ولا يكفي استبراؤها بدون زوال الملك على الصحيح، سدا للذريعة، إذ الاستبراء لا يمنع وطأها. 2518 - واتباعا لحكم الصحابة، وقال ابن عقيل: ينبغي أن يكتفى به، إذ به يزول الفراش المحرم للجمع، ولا يكفي زوال ملكه بدون استبراء، حذارا من أن يجمع ماءه في رحم أختين، ولا التحريم بدون زوال ملك، كما إذا ظاهر منها، نص عليه أحمد، معللا بأن هذا قد يكفر، وكما إذا رهنها على الأشهر، لتمكنه من فك الرهن، وفيه وجه لانعقاد سبب الانتقال، وتكفي الكتابة في وجه، اختاره القاضي وغيره، لأنها نوع من البيع، ولا تكفي في آخر، اختاره أبو محمد، لبقاء الملك، ولا يكفي تحريمها بصوم أو اعتكاف، أو ردة أو عدة، ونحو ذلك، لبقاء الفراش، وظاهر إطلاق أحمد وكثير من الأصحاب أنه يكفي زوال الملك، وإن أمكنه الاسترجاع، كما إذا وهبها لولده، أو باعها بشرط الخيار، وظاهر ضابط ابن عقيل المنع، فإنه قال: عقد الباب أن يحرمها تحريما لا يمكنه رفعه بنفسه، وحكى ابن تيمية الكبير المسألة على وجهين، والله أعلم. قال: فإن عادت إلى ملكه لم يصب واحدة منهما حتى يحرم الأخرى.

ش: يعني إذا عادت المحرمة إلى ملكه لم يصب واحدة منهما حتى يحرم الأخرى، وتحت هذا صورتان (إحداهما) إذا عادت بعد وطء الأخرى، فالمنصوص عن أحمد في رواية جماعة، وعليه عامة الأصحاب، أنه يجتنبها حتى يحرم إحداهما حذارا من الجمع بينهما في الفراش، لأن الأولى قد كانت فراشا، والثانية قد صارت فراشا، واختار أبو البركات أنه يقيم على وطء الثانية، ويجتنب الراجعة، لأن فراشها قد انقطع، والعود لا يصيرها فراشا (الصورة الثانية) عادت قبل أن يطأ الباقية، فظاهر كلام أحمد والخرقي، وكثير من الأصحاب اجتنابهما حتى يحرم إحداهما كالأولى، لأنه استفرش الأولى، واستباح الثانية، فتصير في حكم المستفرشة، واختار أبو البركات أنه يطأ أيتهما شاء، إذ الأولى قد زال فراشها، والثانية لم يستفرشها، كالمشتراتين ابتداء، واختار أبو محمد إباحة الراجعة، لثبوت الفراش لها دون الباقية، حذارا من الاجتماع في الفراش، والله أعلم. قال: وعمة المرأة وخالتها في ذلك كأختها. ش: كل من حرم الجمع بينه وبين آخر في الفراش كالأختين في جميع ما تقدم، لاستوائهما معنى، فاستويا حكما، والله أعلم.

قال: ولا بأس أن يجمع بين من كانت زوجة رجل وابنته من غيرها. ش: نص على هذا أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 2519 - وذكره عن عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن صفوان، وعن جملة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكذلك ذكر البخاري عن عبد الله بن جعفر أنه جمع بين ابنة علي وامرأته، ورواه الدارقطني عن ابن عباس، وعن رجل من الصحابة من أهل مصر يقال له جبلة، وهو راجع إلى القاعدة السابقة، وهو أن كل امرأتين لو

حرائر أهل الكتاب وذبائحهم

قلبت إحداهما ذكرا لم يجز له أن يتزوج بالأخرى لأجل القرابة، لم يجز الجمع، وإلا جاز، إذ لو قلبت امرأة الأب ذكرا لاقتضى لها جواز التزوج ببنت الزوج، إذ لا قرابة بينهما، وإنما المنع للصهرية، والله أعلم. [حرائر أهل الكتاب وذبائحهم] قال: وحرائر أهل الكتاب، وذبائحهم حلال للمسلمين. ش: لقول الله سبحانه: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] وهذا يخصص قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] الآية. 2520 - وقيل عن ابن عباس إنها نسخت بها، وقيل: لفظ المشركين لا يتناول بإطلاقه أهل الكتاب، بدليل قوله سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] وقوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105]

وهو كثير، مع أن جواز نكاح حرائر أهل الكتاب إجماع أو كالإجماع، قال ابن المنذر: لا يصح عن أحد من الأوائل تحريم ذلك، إلا أن أحمد قال في رواية ابن إبراهيم: اختلفوا في اليهود والنصارى، أما المجوس فلم يختلفوا فيهم. 2521 - وذكر البخاري عن نافع عن ابن عمر، كان إذا سئل عن نكاح النصرانية أو اليهودية، قال: إن الله تعالى حرم المشركات على المؤمنين، ولا أعلم من الإشراك شيئا أكبر من أن تقول المرأة: ربها عيسى، وهو عبد من عباد الله تعالى. وقد دخل في كلام الخرقي الحربيات من الكتابيات، وهو أحد الأقوال، اختاره القاضي في المجرد وغيره، لدخولهن في الآية الكريمة، وقيل: لا يجوز مطلقا، حملا لآية المنع على ذلك، وآية الجواز على غير الحربيات، وقيل: يجوز في دار الإسلام لا في دار الحرب، وإن اضطر، وهو منصوص أحمد في غير رواية، واختيار ابن عقيل، وقيل بالجواز في دار الحرب مع الضرورة، وهو اختيار طائفة من الأصحاب، ونص عليه أحمد أيضا،

وعلل الإمام المنع في دار الحرب من أجل الولد، لئلا يستعبد، ويصير على دينهم. 2522 - وحكي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في رواية أنه كره ذلك، وفي أخرى أنه قال: لا يتزوج. وعامة نصوص أحمد في الأسير، فعلى تعليل أحمد لا يتزوج ولا مسلمة، ونص عليه في رواية حنبل، بل ولا يطأ زوجته إن كانت معه، ونص عليه في رواية الأثرم وغيره، وعلى مقتضى تعليله له أن يتزوج آيسة أو صغيرة. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يباح له نكاح الإماء الكتابيات، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وأنه لا يباح له نكاح مشركة غير كتابية ولا طعامها، وذلك لقوله سبحانه: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] خرج من ذلك أهل الكتاب بما تقدم، فبقي من عداهم من عبدة الأوثان، والمرتدين، والمكفرين من أهل الملة، والمجوس ونحوهم، على مقتضى المنع. 2523 - فإن قيل: قد روي عن علي كرم الله وجهه أن المجوس لهم كتاب.

2524 - وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» ومن سنة أهل الكتاب حل نسائهم. قيل قد قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] الآية، فبين سبحانه أنه أنزل القرآن كراهة أن يقولوا ذلك، ولو أنزل على أكثر من طائفتين لكان هذا القول كذبا، وأيضا قوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الحج: 17]

فذكر الملل الست، وأنه يفصل بينهم يوم القيامة، ولما ذكر الملل اللاتي فيها سعيد لم يذكر المجوس ولا المشركين، فقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [البقرة: 62] ولو كان في المجوس والمشركين سعيد لذكرهما كما ذكر اليهود والنصارى، إذ لو كان لهم كتاب لكانوا قبل النسخ على هدى. 2525 - وقد روى وكيع عن سفيان، عن قيس، عن الحسن بن محمد ابن علي، قال: «كتب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى هجر يعرض عليهم الإسلام، فمن أسلم قبل، ومن أبى ضربت عليه الجزية، على أن لا تؤكل لهم ذبيحة، ولا تنكح لهم امرأة» . 2526 - وهذا وإن كان مرسلا، فقد عضده قول خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعمل جمهور أهل العلم، وأما ما روي عن

علي فقد أنكره أحمد في رواية محمد بن موسى، وقال إنه باطل. 2527 - وأنكر أيضا ما روي عن حذيفة أنه تزوج مجوسية، ثم لو صح حمل على أنه كان بأيديهم ثم رفع، وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» أي في الجزية، وهو يدل على أنه لا كتاب لهم.

وكما فهمته الصحابة، والدماء تعصم بالشبهات، وعكسها الفروج والذبائح لا تباح بالشبهات، لا يقال: الحديث وإن فهم منه أنه ليس لهم كتاب، إلا أنه يدل على أنه يسن بهم سنة أهل الكتاب، أي طريقتهم، ومن طريقتهم حل نسائهم وذبائحهم، لأنا نقول: الحديث لا عموم فيه، إذ التقدير: سنوا بهم سنة مثل سنة أهل الكتاب، والنكرة في سياق الإثبات لا عموم لها، ولئن سلم شمول الحديث للنكاح والذبائح لكنه يخص بمفهوم قوله سبحانه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] الآية. (تنبيه) أهل الكتاب هم أهل التوراة والإنجيل، فأهل التوراة اليهود، والسامرة، وأهل الإنجيل النصارى، ومن وافقهم في أصل دينهم من الفرنج، والأرمن وغيرهم، وأما الصائبة فقال أحمد: هم جنس من النصارى. وقال في موضع آخر: بلغني أنهم يسبتون فألحقهم باليهود، قال أبو محمد: والصحيح أن من وافق اليهود أو النصارى منهم في أصل دينهم، وخالفهم في فروعه فهو منهم، ومن خالفهم في أصل دينهم فليس منهم، وأما المتمسك بصحف إبراهيم وشيث، وزبر داود، فليسوا

بأهل كتاب على الصحيح، ذكره ابن عقيل وغيره، فلا تحل نساؤهم، ولا ذبائحهم، لقوله سبحانه: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] الآية، وقيل: إنهم من أهل الكتاب، فتحل نساؤهم وذبائحهم، ويقرون بالجزية، ومن عدا من ذكرنا فليسوا بأهل كتاب، والله أعلم. قال: وإذا كان أحد أبوي الكافرة كتابيا، والآخر وثنيا، لم ينكحها مسلم. ش: هذا الذي قطع به عامة الأصحاب، الخرقي، وأبو بكر في الشافي والمقنع، وابن أبي موسى، والقاضي في المجرد، والجامع، والخلاف، وابن عقيل في الفصول، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن البنا، وأبو محمد في الكافي، ولم أر من ذكر عن أحمد بذلك نصا وذلك لأنها متولدة بين من يحل ومن لا يحل، فغلب جانب التحريم احتياطا، كالمتولد بين الحمار والفرس. وحكى أبو البركات، وأبو محمد في كتابه الصغير رواية بالجواز، لأنها كتابية فتدخل في عموم الآية المبيحة. وحكى ابن رزين رواية ثالثة أن الأب إذا كان كتابيا أبيحت، وإلا فلا، لأن الولد ينسب إلى أبيه، فيكون حكمه حكمه،

وخطأ أبو العباس هذا القول، وقال: إن كلام أحمد إنما يدل على أن العبرة بالدين، وأنه لم يعلق الحكم بالنسب ألبته، قلت: وكذلك ذكر القاضي في تعليقه، ردا على الشافعية، أن تحريم النكاح والذبيحة متعلق بالدين دون النسب، والدين المحرم موجود، فكان الاعتبار به دون النسب. (تنبيه) ذكر أبو البركات هنا روايتين، وقال في عقد الذمة: إن من أقررناه على تهود أو تنصر متجدد بعد المبعث، أبحنا ذبيحته ومناكحته، ولم يذكر خلافا، وعكس القاضي، فجزم هنا بالمنع، وحكى في المنتقل إلى دين أهل الكتاب بعد النسخ روايتين، وهذا قد يستشكل على كلا النقلين، فإنه إذا منع من ذبيحة من أحد أبويه وثني، فمكن أبواه وثنيان أولى، إلا أن يقال: يجوز أن يكون هذا في من أبواه كتابيان، ثم توثن هو، ثم انتقل إلى الكتابية، أو يقال: إن المنع في من أحد أبويه كتابي، كان لأجل النسب، وقد تقدم ضعف هذا، وحمل أبو العباس كلام الخرقي وغيره من الجازمين بالمنع في هذه المسألة على أنه فيمن لم يثبت له دين بنفسه، لعدم تعرضهم للدين، وهذا كأن يتزوج صغيرة وأحد أبويها غير

كتابي، أما أن يدين بدين أهل الكتاب، فهو محل الروايتين، كما ذكره أبو البركات (قلت) : وهذا الجواب يحسن على قول القاضي، أما على قول جده فلا يحسن، والله أعلم. قال: وإذا تزوج كتابية فانتقلت إلى دين آخر من الكفر غير دين أهل الكتاب أجبرت على الإسلام، فإن لم تسلم حتى انقضت عدتها انفسخ نكاحها. ش: إذا انتقل الكتابي من دينه إلى غير دين الإسلام، فلا يخلو إما أن ينتقل إلى دين من يتدين بكتاب أو لا، (فإن كان الأول) - كمن انتقل من يهودية إلى نصرانية أو بالعكس - فهل يقر، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار الخلال وصاحبه، لأنه لم يخرج عن دين أهل الكتاب، فكأنه لم ينتقل، أو لا يقر، وهو اختيار القاضي في الجامع الصغير، وعامة الأصحاب الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وغيرهم، لأنه انتقل إلى دين أقر ببطلانه، أشبه المرتد.

2528 - ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» خرج منه المسلم بالإجماع إذا رجع، فيبقى ما عداه على مقتضى العموم، فعلى هذا يؤمر بالإسلام، فإن لم يسلم (فعنه) يقتل كالمسلم إذا ارتد (وعنه) يهدد ولا يقتل احتياطا للدماء (وعنه) أنه إن رجع إلى دينه الأول ترك كالمرتد من ملتنا، وإلا هدد ولم يقتل، (وإن كان الثاني) - كأن انتقل من الكتابية إلى المجوسية والوثنية ونحوهما - فلا يقر على إحدى الروايتين، واختيار الخرقي، وبه جزم أبو محمد وغيره، لأن الوثنية ونحوها لا يقر أهلها عليها، فالمنتقل إليها أولى، والمجوسية قد أقر ببطلانها، مع كونها أنقص من دينه (وعنه) يقر على المجوسية، لأنه انتقل إلى دين يقر أهله عليه، أشبه المنتقل إلى دين أهل الكتاب، ولعموم {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} [التوبة: 29] الآية، (فعلى الأول) - وهو المذهب - لا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف في إحدى الروايتين، واختيار الخلال وصاحبه، لأن غير الإسلام دين أقر ببطلانه، أشبه المرتد، وفي الرواية الأخرى لا يقبل منه إلا الإسلام أو الدين الذي كان عليه، كالمرتد إذا رجع إلى الإسلام، وحيث يقبل فهل يستتاب كالمرتد أو لا كالكافر الأصلي؟ فيه احتمالان (وعلى

الثاني) أنه إن رجع إلى ما نقره عليه ترك، وحيث أقررنا المنتقل على ما انتقل إليه فكان المنتقل ذمية تحت مسلم فالنكاح بحاله، إلا أن تنتقل إلى المجوسية فإنه كالردة إذ المسلم لا يثبت له نكاح على مجوسية وكذلك إن لم يقر المنتقل وإذا إن كان قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال، وإن كان بعده فهل ينفسخ النكاح أو يقف على انقضاء العدة؟ فيه روايتان، المذهب منهما الثاني، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: وأمته الكتابية حلال له دون المجوسية. ش: أمته الكتابية حلال له، لعموم قوله سبحانه: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 - 6] ولأن نكاح الأمة الكتابية غير المملوكة له إنما حرم حذارا من إرقاق ولده، وإبقائه مع كافرة، وهذا معدوم في مملوكته، ولا تباح له أمته المجوسية، ولا الوثنية بطريق الأولى، لعموم ما تقدم في تحريم نكاح المجوسيات ونحوهم، (فإن قيل) : ما تقدم من الآيتين ظاهر في الإباحة. 2529 - ويؤيده ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث يوم حنين بعثا إلى أوطاس، فلقوا عدوهم فقاتلوهم وأصابوا لهم سبايا، فكأن أناسا من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل الله عز وجل في ذلك: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] » أي فهن لهن حلال إذا انقضت عدتهن. رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي. 2530 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سبايا أوطاس «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة» رواه أبو داود، ثم إن الصحابة كان أكثر سباياهم من كفار العرب، وهم عبدة أوثان، ولم ينقل أنهم حرموا ذلك، وقد أخذ عمر وابنه من سبي هوازن، (قيل) : الآيتان مخصوصتان بما تقدم، وأما حديث أبي سعيد فقضية عين، إذ يحتمل أنهم أسلموا، وكذلك

زواج المسلم من الأمة الكتابية

الجواب عن غيره، قال محمد بن الحكم: قلت لأبي عبد الله: فهوازن أليس كانوا عبدة أوثان؟ قال: لا أدري كانوا أسلموا أو لا. ويتعين ذلك، لأنه قد نقل اتفاق أهل العلم على التحريم، ولهذا ادعى أبو عمر ابن عبد البر النسخ بقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] والله أعلم. [زواج المسلم من الأمة الكتابية] قال: وليس للمسلم وإن كان عبدا أن يتزوج أمة كتابية، لأن الله تعالى قال: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] . ش: نص على هذا أحمد، مستدلا بهذه الآية، قال أبو بكر: رواه عنه أكثر من عشرين نفسا. انتهى، وعليه الأصحاب متقدمهم ومتأخرهم، لما تقدم، ولأنه اجتمع فيها نقص الرق والكفر، أشبهت المجوسية لما اجتمع فيها الكفر وعدم الكتاب حرم نكاحها، وحذرا من استرقاق ولدها، (وعن أحمد) رواية أخرى يجوز نكاحها في الجملة، لأنها تحل بملك اليمين، فتحل بالنكاح كالمسلمة، وعلى هذا يجوز للعبد مطلقا، وللحر بشرطه كما سيأتي، ولا فرق على إطلاق الخرقي وغيره بين أن تكون الأمة تلد أو لا تلد، ولا بين أن تكون لمسلم أو لكافر، وصرح به القاضي في التعليق، والله أعلم. [زواج الحر المسلم بالأمة المسلمة] قال: ولا يجوز للحر المسلم أن يتزوج أمة مسلمة إلا أن يكون لا يجد طولا لحرة مسلمة، ويخاف العنت.

ش: أي وليس لحر مسلم أن يتزوج أمة مسلمة إلا بوجود شرطين، عدم الطول، وخوف العنت، وذلك لقوله سبحانه: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ} [النساء: 25] إلى قوله سبحانه: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] فشرط سبحانه لنكاح الأمة شرطين، عدم الطول، وخوف العنت، والمعلق على شرط عدم عند عدم الشرط، ولأنه حر أمن العنت، فامتنع من نكاح الأمة، كما إذا كان تحته حرة، وقوله: ليس لحر. يحترز عن العبد، فله أن ينكح الأمة من غير شرط، لتساويهما، وقوله: مسلم. يحترز به عن الكافر، وهذا من فروع أنكحة الكفار، وقوله: أمة مسلمة. يحترز به عن الأمة الكافرة، فإنه لا يجوز نكاحها ولا مع الشرطين كما تقدم. 2531 - والطول قال أحمد تبعا لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - السعة. 2532 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه لا يجد صداق حرة. وكذلك

قال القاضي في المجرد، وزاد عليه ابن عقيل: ولا نفقتها. وقوله: طولا لحرة مسلمة. ظاهره أن من لم يجد طولا لحرة مسلمة ووجد طولا لحرة كتابية أن له نكاح الأمة وصرح به أبو الخطاب في الانتصار، أخذا بظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] وصرح القاضي في المجرد، وابن عقيل وأبو محمد وغيرهم بعدم اشتراط الإسلام، فمن وجد طولا لحرة مطلقا لا يجوز له نكاح الأمة، لأنه إذا يأمن العنت، فيفوت الشرط، وتوقف أحمد في رواية أخرى. ولم يشترط الخرقي إلا أن لا يجد طولا لحرة مسلمة، فظاهره أنه لا يشترط أن لا يجد ثمن أمة، وهو ظاهر إطلاق القاضي في تعليقه، وطائفة من أصحابه، وأورده ابن حمدان في رعايتيه مذهبا، وصرح القاضي في المجرد، وابن عقيل وأبو الخطاب والشيخان وغيرهم باشتراط ذلك، ثم إن القاضي وابن عقيل قيدا الأمة بالإسلام، وأطلق ذلك أبو الخطاب والشيخان، والعنت فسره القاضيان أبو يعلى وأبو الحسين وابن عقيل والشيرازي وأبو محمد بالزنا، وفسره أبو البركات بحاجة المتعة أو حاجة الخدمة لكبر أو سقم ونحوهما، وجعله ابن حمدان قولا انتهى.

وقد دخل في كلام الخرقي المجبوب ونحوه له نكاح الأمة بشرطه، كما إذا خشي مواقعة المحظور بالمباشرة ونحوها، وصرح به القاضي وغيره (ودخل) في كلامه أيضا جواز نكاح الأمة الولود بشرطه وإن وجد آيسة، وصرح به القاضي وأبو الخطاب في خلافيهما، (ودخل) في كلامه أيضا عدم جواز نكاح الأمة إذا عدم الشرط، وإن كانت لا تلد لصغر أو رتق ونحو ذلك، وصرحا به أيضا (واقتضى كلامه) أنه إذا لم يجد ما يتزوج به حرة لم يلزمه الاقتراض مع القدرة عليه، ولا التزوج بصداق في الذمة وإن كان مؤجلا، دفعا للضرر عنه، وصرح به القاضي وأبو محمد، وكذلك لو وهب له الصداق لم يلزمه قبوله، نعم لو رضيت المرأة بدون صداق مثلها، وهو قادر على ذلك، ففي جواز نكاح الأمة إذا احتمالان، ذكرهما القاضي في التعليق. وظاهر كلام الخرقي الجواز، ولو لم يجد حرة إلا بزيادة على مهر مثلها لا يجحف بماله، فقال أبو محمد: يلزمه النكاح للاستطاعة، ولا يرد التيمم على وجه، لأنه رخصة

عامة، ونكاح الأمة إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة، وجوز له أبو عبد الله ابن تيمية نكاح الأمة إن عدت الزيادة سرفا. (تنبيه) القول قوله في خشية العنت وعدم الطول، حتى لو كان في يده مال فادعى أنه وديعة أو مضاربة قبل قوله، لأنه حكم فيما بينه وبين الله تعالى، والله أعلم. قال: ومتى عقد عليها وفيه الشرطان عدم الطول وخوف العنت، ثم أيسر لم يفسخ نكاحها. ش: هذا هو المذهب المنصوص المجزوم به عند عامة الأصحاب، لأن زوال الشرط بعد العقد لا يبطله، بدليل إذا ارتدت المرأة أو لزمتها عدة، ولأن الممنوع منه النكاح، وهذا غير ناكح، وإنما هو مستديم، وخرج القاضي وغيره (رواية أخرى) بالفسخ، مما إذا تزوج حرة على الأمة فإن فيها روايتين منصوصتين، وذلك لأن نكاح الأمة إنما أبيح للضرورة، فيزول بزوالها، كأكل الميتة، وفرق بأن في الميتة هو مبتد، وهنا مستديم، ولم يتعرض الخرقي لما إذا أمنت العنت، وفيه طريقان للأصحاب، منهم من أجرى الخلاف فيه كأبي عبد الله ابن تيمية، ومنهم كأبي محمد وابن حمدان - من لم يجر الخلاف فيه، حتى أن بعض أصحاب الخلاف جعله أصلا وقاس عليه ما تقدم، والله أعلم.

قال: وله أن ينكح من الإماء أربعا إذا كان الشرطان فيه قائمين. ش: يعني أنه إذا تزوج أمة فلم تعفه، ولم يجد طولا، له أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة، وهذا أنص الروايتين عن أحمد، واختيار ابن عقيل في التذكرة، وأبي محمد، لدخوله في الآية الكريمة، إذ هو عادم للطول، خائف للعنت، (ونقل عنه) حرب: لا يعجبني أن يتزوج إلا واحدة. 2533 - يذهب إلى قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا يتزوج الحر من الإماء إلا واحدة. فأخذ من ذلك ابن أبي موسى والقاضي في المجرد وغير واحد من الأصحاب رواية بالمنع، واختارها القاضي في المجرد، وحكاها عن أبي بكر، وأبى ذلك في الجامع الكبير، مدعيا بأن إطلاقه محمول على ما إذا خشي العنت، وكذا قال أبو محمد، وحمل أيضا قول ابن عباس على ذلك، لكن القاضي في الجامع يفسر خشية العنت هنا بما إذا كان تحته أمة غائبة أو مريضة أو طفلة، فعنده أن وجود زوجة يمكن وطؤها مؤمن من العنت، وهذا في الحقيقة عين القول بالمنع. (تنبيه) على القول بالجواز له أن ينكح الأربع دفعة واحدة إذا علم أنه لا يعفه إلا ذلك، صرح به القاضي في المجرد،

حكم الخطبة على الخطبة

وقد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي يقتضيه، والله أعلم. [حكم الخطبة على الخطبة] قال: وإذا خطب الرجل المرأة فلم يسكن إليه فلغيره خطبتها. ش: لا يجوز للرجل أن يخطب على خطبة أخيه في الجملة، على المذهب المعروف المشهور. 2534 - لما روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر» رواه أحمد ومسلم، ولأن في ذلك إفسادا على الخاطب الأول، وإيقاعا للعداوة بينهما، وجعل أبو حفص ذلك مكروها لا محرما، وكأنه ذهب إلى قول أحمد في رواية صالح: أكرهه. وحمل القاضي ذلك على التحريم لتصريحه به في رواية ابن مشيش، فعلى الأول إنما يمنع إذا أجيب تصريحا، وكذلك إن أجيب تعريضا على إحدى الروايتين، وهو ظاهر كلام الخرقي، لأنه قد وجد السكوت، واختيار أبي محمد، لما تقدم.

2535 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه، ولا يبيع على بيع أخيه إلا بإذنه» رواه مسلم وأبو داود. (والرواية الثانية) لا يمنع مع التعريض. 2536 - «لحديث فاطمة بنت قيس الذي في الصحيح، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وقال لها: «إذا حللت فآذنيني» قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد» قالت: فكرهته، ثم قال: «انكحي أسامة بن زيد» فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به» . فظاهره أنها ركنت إلى أحدهما، وأيضا فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «انكحي أسامة» ولم يسألها هل ركنت إلى أحدهما أم لا، وقد أجيب بأن في الحديث في رواية أخرى في الصحيح: «أرسل إليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا تسبقيني بنفسك» . وفي رواية «ولا تفوتيني بنفسك» ولا يظن بها أنها كانت تجيب، قبل

إذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما جاءت مستشيرة، وأيضا فهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان قد خطبها أولا، فخطبته بعدهما مبنية على الخطبة السابقة، بقي أن يقال: فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد عرض بخطبتها، فكيف ساغ لغيره الخطبة، ولم ينكر الرسول عليه، ويجاب أنهما لم يعلما، فيحتمل أن الرسول أنكر عليهما ولم ينقل، أو يقال: إنما يمنع الرجل من الخطبة على خطبة أخيه إذا خطب تصريحا. أما إن خطب تعريضا فلا، وهذا أحسن، وبه يستدل على أنه إذا أجابت تعريضا للغير الخطبة، قياسا لأحد الشقين على الآخر انتهى، أما إن رد فيجوز، لأنها تصير كمن لم تخطب، ولأن المنع والحالة هذه نهاية الضرر بالمرأة، إذ لا يشاء أحد أن يمنعها النكاح بخطبته إلا فعل، والضرر منفي شرعا، وكذلك إن ترك الخاطب الخطبة أو أذن، لحديث عقبة وابن عمر، ولو سكتت فكذلك عند القاضي في المجرد وابن عقيل، وعن القاضي في البكر سكوتها رضا، وإن لم يعلم الحال فوجهان (الجواز) لأن المانع الإجابة ولم يعلم (والمنع) لأن المقتضي للمنع قد وجد، والمبيح الإذن أو الترك أو الرد، ولم يعلم واحد منهما. (تنبيهات) (أحدها) قوله: وإذا خطب الرجل. يشمل خطبة كل رجل، والمنع مختص بالخطبة على خطبة المسلم، نص عليه أحمد، وهو مقتضى حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره، (الثاني) أناط الخرقي الحكم بالمرأة، وهو

خطبة المرأة المعتدة

صحيح إن كانت غير مجبرة، أما إن كانت مجبرة فالعبرة بالولي، لا بها. 2537 - وفي الحديث «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب عائشة إلى أبي بكر» ، رواه البخاري. 2538 - «وقالت أم سلمة: أرسل إلي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يخطبني» . رواه مسلم. فدل على أن خطبة المجبرة إلى وليها، وخطبة الرشيدة إلى نفسها، وعلى هذا لو رضي الولي بالخاطب حرم على غيره خطبتها وإن كرهت المرأة، هذا ظاهر كلام جماعة، وصرح به القاضي في المجرد، وابن عقيل، وقال أبو محمد في المغني: إذا كرهت المجبرة المجاب، واختارت غيره، سقط حكم إجابة وليها، إذ اختيارها مقدم على اختياره، وإن كرهته ولم تختر سواه قال: فينبغي أن تسقط الإجابة أيضا (الثالث) إذا تزوج من خطب على خطبة أخيه حيث منع، فالمنصوص - وهو اختيار القاضي وابن عقيل، وأبي محمد - الصحة، لأن المحرم لم يقارن، وقال أبو بكر في البيع على بيع أخيه: إنه باطل، وحكاه نصا عن أحمد، فخرج ابن عقيل وغيره بطلان النكاح نظرا للنهي، والله أعلم. [خطبة المرأة المعتدة] قال: ولو عرض للمرأة وهي في العدة بأن يقول: إني في

مثلك لراغب. وإن قضي شيء كان؛ وما أشبهه من الكلام مما يدلها على رغبته فيها، فلا بأس بذلك، إذا لم يصرح. ش: يباح التعريض بخطبة المعتدة في الجملة، ويحرم التصريح، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] فنفى سبحانه الحرج عن التعريض، ومفهومه وقوع الحرج على التصريح، وأكد ذلك بقوله سبحانه: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] والسر الجماع، قاله الشافعي وغيره، «ولحديث فاطمة المتقدم، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عرض بخطبتها وهي في العدة» (ويستثنى) مما تقدم صاحب العدة، فإنه يباح له التصريح والتعريض إن كانت ممن يحل له التزوج بها في العدة، كالرجعية والمبانة بدون الثلاث، والمختلعة، أما إن لم تحل له كالمزني بها، ومن نكحها في عدة من غيره ووطئها، فقال أبو العباس: ينبغي أن يكون كالأجنبي، (ويستثنى) من التعريض

الرجعية، فإنه لا يجوز أن يعرض لخطبتها بلا نزاع، لأنها في حكم الزوجة، وكذلك مبانة تباح بعقد في وجه. والتعريض ما يفهم منه النكاح مع احتمال غيره، كما مثل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكما جاء في الحديث: «لا تسبقينا بنفسك، ولا تفوتينا بنفسك» . 2539 - وكما روى البخاري عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 235] الآية يقول: إني أريد التزويج، وودت أنه يسر لي امرأة صالحة. 2540 - وكما «روي في قصة سكينة بنت حنظلة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: استأذن علي محمد بن علي ولم تنقض عدتي من مهلكة زوجي، فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقرابتي من علي، وموضعي من العرب، قلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، تخطبني في عدتي؟ . قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن علي، وقد دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أم سلمة وهي متأيمة من أبي سلمة، فقال: «قد علمت أني رسول الله، وخيرته من خلقه، وموضعي من

باب نكاح أهل الشرك وغيره

قومي» كانت تلك خطبته» ، رواه الدارقطني والتصريح الكلام الذي لا يحتمل غير النكاح، كقوله إني أريد أن أتزوجك. ونحوه. (تنبيه) حيث حرم التصريح أو التعريض ففعل ونكح صح، ذكره القاضي، وابن عقيل وأبو محمد وغيرهم، وهو قياس قول أحمد في الخطبة على خطبة أخيه، ويتخرج وجها بالبطلان كالوجه في الخطبة. والله أعلم. [باب نكاح أهل الشرك وغيره] [حكم إسلام الوثني وقد تزوج بأربع وثنيات] باب نكاح أهل الشرك وغيره قال: وإذا أسلم الوثني وقد تزوج بأربع وثنيات ولم يدخل بهن بن منه. ش: لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ، {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ولأنه اختلاف دين يمنع الإقرار على النكاح، فإذا وجد قبل الدخول تعلقت به الفرقة في الحال كالردة. وقول الخرقي: وإذا أسلم الوثني. وكذلك كل كافر وإن كان من أهل الكتاب، وقوله: وقد تزوج بأربع. لا مفهوم له،

بل لو تزوج بواحدة أو أكثر كان كذلك، وقوله: وثنيات. وكذلك من في معناهن كالمجوسيات، أما لو كن كتابيات فإن النكاح لا ينفسخ، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. (تنبيه) البينونة هنا فسخ لا طلاق، نص عليه أحمد. والله أعلم. قال: وكان لكل واحدة منهن نصف ما سمي لها إن كان حلالا، أو نصف صداق مثلها إن كان ما سمي لها حراما. ش: إذا بن منه والحال ما تقدم كان لكل واحدة منهن نصف الصداق، على المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، الخرقي، وأبي بكر والقاضي وغيرهم، إذ الفرقة حقيقة من جهته، أشبه ما لو طلقها (والثانية) لا شيء لها، نظرا إلى أنه قد فعل الواجب عليه، وهي بتأخرها عن الإسلام كأن الفرقة من جهتها، وحذارا من التنفير عن الإسلام، باجتماع فسخ النكاح عليه، ووجوب المهر، وعلى المذهب لها نصف المسمى إن كان صحيحا، أو نصف مهر مثلها إن كان فاسدا، وإن لم يكن مسمى فالمتعة، والله أعلم. قال: ولو أسلم النساء قبله وقبل الدخول بن منه أيضا. ش: لما تقدم فيما إذا أسلم الزوج وحذرا من إقرار مسلمة تحت مشرك، والله أعلم. قال: ولا شيء عليه لواحدة منهن. ش: قطع بهذا جمهور الأصحاب، ونص عليه أحمد، معللا

بأن الفرقة جاءت من جهتها، ونقل أبو محمد عن أحمد رواية أخرى، وزعم أنها اختيار أبي بكر أن لها نصف المهر، نظرا إلى أن الفرقة جاءت من قبل الزوج، بتأخره عن الإسلام، والمنقول عن أحمد في رواية الأثرم التوقف، والله أعلم. قال: فإن كان إسلامه وإسلامهن قبل الدخول معا فهن زوجات. ش: لأن المحذور وهو اختلاف الدين منتف. 2541 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلا جاء مسلما على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم جاءت امرأته مسلمة بعده، فقال: يا رسول الله إنها قد كانت أسلمت معي. فردها عليه» ، رواه أبو داود والترمذي وصححه، والمعية أن يتلفظا بالإسلام دفعة واحدة، على ظاهر كلام الخرقي وغيره، وصرح به أبو محمد، وحكى احتمالا بأن المعية أن يسلم المتأخر منهما في المجلس، نظرا إلى أن حكم المجلس حكم العقد، بدليل

القبض ونحوه، واختار أبو العباس أن المعية أن يشرع الثاني قبل أن يفرغ الأول، والله أعلم. قال: فإن كان دخل بهن ثم أسلم فمن لم يسلم منهن قبل انقضاء عدتها حرمت عليه منذ اختلف الدينان. ش: هذا هو المشهور من الروايات، قال أبو بكر: رواه عنه نحو من خمسين رجلا، والمختار لعامة الأصحاب الخرقي والقاضي، وأصحابه، والشيخين وغير واحد. 2542 - لما «روى الزهري أن نساء كن في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلمن بأرضهن وهن غير مهاجرات، وأزواجهن حين أسلمن كفار، منهن بنت الوليد بن المغيرة، وكانت تحت صفوان بن أمية، فأسلمت يوم الفتح، وهرب صفوان من الإسلام، فبعث إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن عمه وهب بن عمير، برداء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمانا لصفوان، ودعاه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى الإسلام، وأن يقدم عليه، فإن رضي أمرا قبله، وإلا سيره شهرين، فلما قدم صفوان على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بردائه ناداه على رؤوس الناس، فقال: يا محمد هذا وهب بن عمير جاءني بردائك، وزعم أنك دعوتني إلى القدوم عليك، فإن رضيت أمرا قبلته، وإلا سيرتني شهرين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «انزل أبا وهب» فقال: والله لا أنزل حتى تبين لي؛ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «بل لك سير أربعة أشهر» فخرج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل هوازن بحنين، فأرسل إلى

صفوان يستعير أداة وسلاحا عنده، فقال صفوان: أطوعا أم كرها؟ فقال: «بل طوعا» فأعاره الأداة والسلاح التي عنده، ثم رجع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو كافر، فشهد حنينا والطائف وهو كافر، وامرأته مسلمة، ولم يفرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينه وبين امرأته حتى أسلم صفوان، واستقرت عنده امرأته بذلك النكاح» ، قال ابن شهاب: كان بين إسلام صفوان وإسلام امرأته نحو من شهر. 2543 - وعنه أيضا «أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام - وكانت تحت عكرمة بن أبي جهل - أسلمت يوم الفتح، وهرب زوجها عكرمة من الإسلام، حتى قدم اليمن، فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، فدعته إلى الإسلام فأسلم، وقدم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فلما رآه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وثب إليه فرحا، وما عليه رداء، حتى بايعه فثبتا على نكاحهما» ، رواهما مالك في الموطأ، وهذان وإن كانا قضية في عين، فيحملان على ما بعد العدة، إذ الظاهر ذلك.

2544 - ولأن في حديث الزهري: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله وإلى رسوله وزوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها. 2545 - وقال ابن شبرمة: «كان الناس على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسلم الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته، فإن أسلم بعد العدة فلا نكاح بينهما» . وخرج ما قبل الدخول، لعدم العدة، فإن قيل: 2546 - فقد روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «رد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابنته زينب على أبي العاص بالنكاح الأول، بعد ست سنين ولم يحدث شيئا» ، رواه أبو داود والترمذي، وقال: ليس بإسناده بأس، وابن ماجه وقال: بعد سنتين. كذلك قال أبو داود في رواية أخرى، وصححه الحاكم وغيره.

قيل: قد أجيب عنه بأجوبة (منها) بالطعن فيه، فإنه من رواية داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو نسخة ضعف أمرها علي بن المديني وغيره، وقال أحمد في رواية أبي طالب ما أراه يصح، يختلفون فيه. 2547 - ويؤيد ذلك ما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد ابنته على أبي العاص بمهر جديد، ونكاح جديد» ، رواه الترمذي وغيره. لكن أهل العلم بالحديث على أن حديث ابن عباس أصح، قال أحمد: «روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد ابنته بالنكاح الأول» ، فقيل له: يروى أنه ردها بنكاح مستأنف؟ قال: ليس لذلك أصل. وقال البخاري: حديث ابن عباس أصح من حديث عمرو بن شعيب. وقال الدارقطني: حديث عمرو هذا لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس (الثاني) وهو الذي اعتمده الخطابي وغيره أنها قضية

عين، فيحتمل أنها بقيت في عدتها، بأن كانت حاملا، أو ارتفع حيضها برضاع ونحوه (الثالث) دعوى نسخه بأنه كان قبل نزول تحريم المسلمات على الكفار (والرواية الثانية) ينفسخ النكاح في الحال، كما قبل الدخول، اختارها الخلال وصاحبه، لقوله سبحانه: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] والدليل منها من أوجه (أحدها) عموم: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] (الثاني) قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] فأمر برد المهر ولو لم تقع الفرقة باختلاف الدين لما أمر برد المهر (الثالث) قوله: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] فأباح سبحانه نكاحهن على الإطلاق (الرابع) قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وعلى هذا فما تقدم يكون منسوخا بهذه الآية الكريمة وأجيب (عن الأول) بأن المراد: في حال كفرهن، بدليل: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]

(وعن الثاني) بأنه كان يجب دفع المهر إلى الزوج إذا جاء وإن كان قبل انقضاء عدتها، لانتفاء ردها إليه، فإن أسلم قبل انقضائها سقط وجوب المهر، ووجب تسليمها إليه، ثم نسخ وجوب دفع المهر إليه (وعن الثالث) بأنه محمول على ما بعد العدة، وكذا الجواب (عن الرابع) جمعا بين الأدلة (والرواية الثالثة) الوقف بإسلام الكتابية، والانفساخ بغيرها (والرواية الرابعة) الوقف، قال: أحب إلي الوقف عندنا، وقيل عنه ما يدل (على خامسة) وهو الأخذ بظاهر حديث زينب، وأنها ترد ولو بعد العدة. وظاهر كلام الخرقي أن الفرقة حيث تقع، تقع في الحال، ولا يحتاج إلى حاكم، ولا إلى عرض الزوج على الإسلام، ونص عليه أحمد والأصحاب، وظاهر كلامه أيضا أنه لا فرق في هذا الحكم بين دار الحرب ودار الإسلام، ونص عليه أحمد والأصحاب. 2548 - وقد «روي أن أبا سفيان أسلم بمر الظهران، ثم أسلمت امرأته بمكة، فأقرهما النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على نكاحهما» والله أعلم.

حكم من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة

[حكم من أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة] قال: ولو نكح أكثر من أربع في عقد واحد، أو في عقود متفرقة، ثم أصابهن، ثم أسلم ثم أسلمت كل واحدة منهن في عدتها، أمسك أربعا منهن، وفارق ما سواهن، سواء كان من أمسك منهن أول من عقد عليهن أو آخرهن. 2549 - ش: الأصل في هذا ما «روى الحارث بن قيس الأسدي أو قيس بن الحارث قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اختر منهن أربعا» رواه أبو داود وابن ماجه، وقد ضعف من قبل محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى. 2550 - وعن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن غيلان بن سلمة أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يتخير أربعا منهن» . رواه الترمذي وابن ماجه، وهذا وإن

كان مرسلا على الصحيح عند الأئمة، قاله الإمام أحمد والبخاري وغيرهما، إلا أنه قد عضده الذي قبله، فصار حجة بالاتفاق، ولهذا احتج به أحمد في رواية أبي الحارث، وتأويله بأن «اختر أربعا» بمعنى: اختر أربعا تعقد عليهن عقدا جديدا، مردود بأن في الدارقطني «أمسك منهن أربعا» والإمساك إنما هو بالعقد الأول، كما في قوله سبحانه: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] ثم إن تجديد العقد ليس إليه، والشارع قد فوض الاختيار إليه، وحمله على أنه تزوجهن في عقود، وأنه يختار الأوائل، بعيد من اللفظ جدا. 2551 - ثم في بعض روايات حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلا قال: يا رسول الله ما ترى في من أسلم وله عشر نسوة؟ قال: يتخير منهن أربعا» وهذا يخرج الحديث عن أن يكون واقعة عين. وقول الخرقي: نكح أكثر من أربع. بيان صورة المسألة، إذ لو نكح أربعا فما دون والحال ما تقدم ثبت نكاحهن، (وقوله) في عقد واحد أو في عقود متفرقة، يحترز به عن

مذهب الحنفية، إذ عندهم أنهم إن كانوا في عقد واحد انفسخ نكاحهن، وإن كانوا في عقود صح نكاح الأوائل، (وقوله) ثم أصابهن. لأنه لو لم يصبهن انفسخ نكاحهن في الحال، لكون إسلامه قبل الدخول، نعم لو كان إسلامهن معه تخير، والخرقي إنما صور المسألة فيما إذا وقع إسلامهن بعد إسلامه، (وقوله) ثم أسلم، ثم أسلمت كل واحدة منهن، يحترز به عما إذا أسلم أربع منهن فما دون، فإنه لا يخير (وقوله) : في عدتهن. يحترز به عما إذا تأخر إسلامهن عن العدة، فإن نكاحهن ينفسخ كما تقدم، ولا تخيير، (وقوله) : أمسك أربعا منهن وفارق سائرهن، هذا هو الحكم، وهو واجب عليه إن اختار البقاء على النكاح، وإن اختار ترك نكاح الجميع فله ذلك، لكن يكون في أربع بطلاق، لأنهن زوجات، وفي الباقيات فسخ، (وقوله) : سواء كان من أمسك منهن أول من عقد عليهن أو آخرهن. هو من تمام الاحتراز عن مذهب الحنفية، والضمير في نكح، وفي الأربع، يرجع إلى الوثني أي ولو نكح الوثني أكثر من أربع وثنيات، فلا يرد عليه إذ أسلم زوج الكتابيات فإنه يتخير منهن، ولا يشترط إسلامهن.

(تنبيهات) أحدها عموم كلام الخرقي يشمل ما إذا كان محرما، وقاله أبو محمد، وقال القاضي: لا يختار والحال هذه، ويشبه هذا الارتجاع في الإحرام (الثاني) لو أسلمت المرأة ولها زوجان أو أكثر، تزوجاها في عقد واحد، لم يكن لها أن تختار أحدهما، ذكره القاضي وغيره محل وفاق، لأن البضع حصل بينهما مشتركا، بخلاف ما تقدم، فإن الزوج ملك بضع كل واحدة. (الثالث) صفة الاختيار والفراق وضابطه أن كل لفظ دل على الاختيار فهو اختيار، وكل لفظ دل على الفراق فهو فراق، ومثاله أن يقول لأربع من ثمان مثلا: أمسكت هؤلاء. أو اخترتهن، أو رضيتهن، ونحو ذلك، أو يقول: تركت هؤلاء الأربع، أو فسخت نكاحهن، فيثبت نكاح الأخر، فإن طلق إحداهن كان اختيارا، إذ الطلاق لا يكون إلا في زوجته، وكذلك لو أتى بلفظ الفراق أو السراح، ناويا به الطلاق، وإن أطلق فاحتمالان مبنيان - والله أعلم - على أنهما هل هما صريحان في الطلاق أو لا، وكذلك لو وطئ على المذهب لتضمنه الرضى بالموطوءة، ووقع للقاضي في التعليق في باب الرجعة أنه لا يكون اختيارا، وإن ظاهر أو آلى من إحداهما فوجهان، أشهرهما: لا يكون اختيارا لصحته في غير زوجته، والثاني يكون اختيارا، لأن حكمه لا يترتب إلا في زوجة، والله أعلم.

حكم من أسلم وتحته أختان

[حكم من أسلم وتحته أختان] قال: ولو أسلم وتحته أختان منهما واحدة. 2552 - ش: لما «روى ابن فيروز الديلمي عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قلت: يا رسول الله إني أسلمت وتحتي أختان؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طلق أيتهما شئت» » رواه أحمد وأبو داود، وابن ماجه والترمذي، وحسنة ولفظه «اختر أيتهما شئت» وصححه البيهقي، وكذلك الحكم فيمن يحرم الجمع بينهما، كالمرأة وعمتها، ونحو ذلك، وشرط الاختيار أن تكونا كتابيتين أو غيرهما، ويسلما معه، أو بعده في العدة إن كانت في عدة، على المذهب، أما إن لم تكن عدة كقبل الدخول، فإن نكاحهما ينفسخ، فإن أسلمت إحداهما دون الأخرى، فقبل الدخول يثبت نكاح المسلمة، ويزول نكاح المشركة إن لم تكن كتابية، فإن كانت كتابية فكذلك على ما أورده ابن حمدان مذهبا: وقيل: يخير، وهو القياس، وبعد الدخول كذلك على

الحكم لو أسلم العبد وتحته زوجتان

رواية، وعلى المشهور يقف الفسخ على انقضاء العدة، فإن أسلمت الأخرى فيها خير، وإلا انفسخ نكاحها، والله أعلم. قال: ولو كانتا أما وبنتا فأسلم وأسلمتا معا قبل الدخول فسد نكاح الأم، وإن كان دخل بالأم فسد نكاحهما. ش: إذا أسلم وتحته اثنتان إحداهما أم الأخرى، فأسلمتا معا قبل الدخول بالأم فسد نكاح الأم، لأنها أم معقود على ابنتها، فتدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وأنكحة الكفار صحيحة أو في حكم الصحيحة، وإن كان قد دخل بالأم فسد نكاحهما، لأنها إذا ربيبة مدخول بأمها، فتدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَرَبَائِبُكُمُ} [النساء: 23] الآية، ولو لم يسلم إلا إحداهما فكذلك، إن كانت المسلمة الأم فسد نكاحهما، وكذلك إن كانت البنت وقد دخل بأمها، وإلا ثبت نكاحها، والله أعلم. [الحكم لو أسلم العبد وتحته زوجتان] قال: ولو أسلم عبد وتحته زوجتان، وقد دخل بهما فأسلمتا في العدة، فهما زوجتاه، ولو كن أكثر اختار منهن اثنتين. ش: إذا أسلم عبد وتحته زوجتان مدخول بهما، فأسلمتا في العدة ثبت نكاحهما، لأن له والحال هذه ابتداء نكاحهما، فكذلك استدامته، وسواء كانتا حرتين أو أمتين أو مختلفتين، نعم هل للحرة والحال هذه خيار الفسخ؟ قال القاضي في المجرد، وابن عقيل: قياس المذهب لا؛ واختاره أبو محمد، لأنها

رضيت به كذلك، وجعله القاضي في الجامع كالعيب الحادث، نظرا بأن الرق ليس بنقص، وإن كان عيبا، لكن لا يؤثر في الكفر، وإنما يؤثر ما ليس بنقص في الكفر في الإسلام، وإن كن أكثر من اثنتين فأسلمن في العدة لم يكن له أن يختار أكثر من اثنتين، كابتداء النكاح، وله أن يختار ولو حرة وأمة على الصحيح. قال: وإذا تزوجها وهما كتابيان، فأسلم قبل الدخول أو بعده فهي زوجته. ش: لأنه والحال هذه يجوز له ابتداء نكاحها، فكان له استدامته، مع أن هذا قد حكاه أحمد وابن عبد البر وغيرهما إجماعا والله أعلم. قال: وإن كانت هي المسلمة قبله وقبل الدخول انفسخ النكاح ولا مهر لها. ش: أما الفسخ فلأن المسلمة لا تقر تحت مشرك، وأما عدم المهر فلأن الفرقة جاءت من قبلها، وقد تقدم حكاية رواية أخرى أن لها نصف المهر، ولو كان إسلامها والحال هذه بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة على المذهب، فإن أسلم فيها وإلا انفسخ النكاح، ولو أسلما معا فالنكاح بحاله، والله أعلم.

قال: وما سمي لها وهما كافران فقبضته ثم أسلمت فليس بها غيره، وإن كان حراما، ولو لم تقبضه وهو حرام فلها عليه مهر مثلها، أو نصف مهر مثلها حيث أوجب ذلك. ش: إذا سمي الكافران تسمية فاسدة فقبضتها المرأة فلا شيء لها سواها، لوقوعها الموقع بالقبض، بدليل قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] أمر سبحانه بترك ما بقي دون ما قبض، وقال تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 275] والحكمة في ذلك والله أعلم أن إبطال ما قبض يشق، لتطاول الزمان، وكثرة تصرفهم في الحرام، ولما في ذلك من التنفير عن الإسلام، ولذلك لا يجب عليهم قضاء الفرائض ونحوها، وإن لم تقبضه المرأة فلها عليه مهر مثلها، أو نصف مهر مثلها حيث أوجب ذلك، على المذهب عند الأصحاب بلا ريب، لأن الممضي للتسمية الفاسدة القبض ولم يوجد، والقاعدة أن التسمية إذا كانت فاسدة وجب مهر المثل إن دخل بها، أو نصفه إن لم يدخل بها، وخرج القاضي في تعليقه رواية أخرى في الخمر والخنزير أن لا شيء لها في معينه، لأنه قد تعذر تسليمه، وخرج عن كونه مالا بالإسلام، ومن أصلنا أن المعين إذا تلف قبل قبضه سقط، وأن لها في غير المعين قيمته، لأن أحمد قال في رواية الميموني في عاشر المسلمين: يقوم الخمر عليهم، ويأخذ العشر من ثمنها. انتهى ونقل

عنه ابن منصور في نصراني تزوج نصرانية على قلة خمر، ثم أسلما: فإن دخل بها فهو جائز، وإن لم يدخل بها فلها صداق مثلها، وظاهر هذا أن قبل الدخول يجب صداق المثل بكل حال، وإن قبضت المحرم، قال أبو العباس: وهو قوي؛ إذ تقابض الكفار إنما يمضي على المشهور إذا وجد عن الطرفين، وهنا البضع لم يقبض. وقد تضمن كلام الخرقي أن التسمية الصحيحة تمضي بكل حال، وهو واضح، والله أعلم. قال: ولو تزوجها وهما مسلمان، فارتدت قبل الدخول انفسخ النكاح ولا مهر لها. ش: أما فسخ النكاح فلأن المسلم لا يتزوج مرتدة، فلا يستديم نكاحها، ولا عدة تنتظر، وأما عدم المهر فلأن الفرقة جاءت من قبلها. قال: ولو كان هو المرتد قبلها فكذلك، إلا أن عليه نصف المهر. ش: يعني ينفسخ النكاح لما تقدم، ولظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] ونحوه، وعليه نصف المهر، لوجود الفرقة من جهته. قال: ولو كانت ردتها بعد الدخول فلا نفقة لها. ش: لأنه قد امتنع بردتها من الاستمتاع، فلا يجب لها النفقة كالناشز.

قال: وإن لم تسلم في عدتها انفسخ النكاح. ش: لا إشكال في ذلك كما تقدم، أما إن أسلمت في عدتها فمفهوم كلامه ثبوت النكاح، وهو بناء على مختاره من القول بالوقف، وعلى الرواية الأخرى لا وقف، فينفسخ النكاح حين ارتدادها، وقد تقدم توجيه الروايتين، والله أعلم. قال: ولو كان هو المرتد بعد الدخول، فلم يعد إلى الإسلام حتى انقضت عدتها انفسخ النكاح منذ اختلف الدينان. ش: حكم الرجل في ارتداده بعد الدخول حكم المرأة في فسخ النكاح وعدمه، أما في النفقة فتجب، ولهذا سكت عنها الخرقي، ونفاها فيما إذا كانت هي المرتدة، لأن التسليم منها موجود، والامتناع من جهته بارتداده. (تنبيه) لم يتعرض الخرقي لما إذا ارتدا معا، والحكم أن النكاح ينفسخ إن كان قبل الدخول، إذ كل حكم يتعلق بردة أحدهما تعلق بردة معه، أصله استباحة دمه وماله، ولأن الإنشاء والحال هذه لا يجوز، فكذلك الاستدامة، ويقف على انقضاء العدة إن كان بعد الدخول على المشهور من الروايتين، وهل يجب نصف المهر إن كانت الردة قبل الدخول؟ فيه وجهان، إذ الفرقة منهما، فهو كتلاعنهما ونحوه، وتجب النفقة مع الوقف، لأنها كانت واجبة، ولم تنفرد المرأة بما يسقطها، والله أعلم.

نكاح الشغار

[نكاح الشغار] قال: وإذا زوجه وليته، على أن يزوجه الآخر وليته، فلا نكاح بينهما وإن سموا مع ذلك صداقا. ش: إذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته، فلا يخلو إما أن يسموا مع ذلك صداقا أو لا، فإن لم يسموا مع ذلك صداقا فلا خلاف عن أحمد نعلمه، ولا نزاع بين الأصحاب في بطلان النكاح. 2553 - لما روى نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، وليس بينهما صداق» . رواه الجماعة، لكن الترمذي لم يذكر تفسير الشغار، وأبو داود جعله من كلام نافع، وهو كذلك في رواية متفق عليها. 2554 - وعن ابن عمر أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا شغار في الإسلام» رواه مسلم. 2555 - وروي نحوه من حديث عمران بن حصين، وأنس وجابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وغيرهم، والنهي يدل على فساد المنهي

عنه، والنفي لنفي الحقيقة الشرعية، ويؤيد ذلك فعل الصحابة. 2556 - قال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن عمر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنهما فرقا فيه، وكذلك معاوية أمر بذلك. وخرج أبو الخطاب في هدايته، ومن تبعه رواية ببطلان الشرط، وصحة العقد، من نصه في رواية الأثرم: إذا تزوجها بشرط الخيار أو إن جاءها بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح، أن النكاح جائز، والشرط باطل، إذ فساد التسمية لا يوجب فساد العقد، كما لو تزوجها على خمر أو خنزير، فعلى هذا يجب مهر المثل انتهى. وإن سموا مع ذلك صداقا فالمنصوص عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - الصحة، وعليه عامة الأصحاب، لما تقدم من حديث ابن عمر إذ هذا التفسير إن كان من الرسول فواضح، وإن كان من نافع فهو راوي الحديث، وقد فسره بما لا يخالف ظاهره فيتبع. 2557 - وقد روى البيهقي عن أبي الزبير عن جابر قال: «نهى رسول الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشغار، والشغار أن تنكح هذه بهذه بغير صداق، بضع هذه صداق هذه، وبضع هذه صداق هذه» . وقال الخرقي، وأبو بكر في الخلاف: لا يصح أيضا، وحكاه في الجامع رواية. 2558 - لما روى عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، «أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وأنكحه عبد الرحمن ابنته، وقد كانا جعلا صداقا، فكتب معاوية بن أبي سفيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إلى مروان بن الحكم يأمره بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. رواه أحمد وأبو داود، وأجيب بأن أحمد ضعفه من قبل راويه ابن إسحاق، وبأنه يحمل على أنهما كانا جعلا مهرا قليلا حيلة. وحكى أبو البركات قولا ثالثا وصححه أنه إن قيل فيه: وبضع كل واحدة منهما مهر الأخرى لم يصح، للتصريح بالتشريك المقتضي للبطلان، وإلا صح، لأن غايته شرط فاسد، فيفسد ويصح النكاح، وقد ذكر أن ابن عمر فسر الشغار بأن يقول: وبضع كل واحدة منهما مهر الأخرى. لكن هذا التفسير

لا يعرف في الصحاح ولا في السنن. واعلم أن أبا محمد قال - تبعا للقاضي في الجامع الكبير والمجرد، ولابن عقيل -: إنه متى صرح بالتشريك لا يصح النكاح قولا واحدا، فهذه الصورة عندهم مخرجة من محل الخلاف. (تنبيه) سمي هذا النكاح نكاح الشغار قيل: لقبحه تشبيها برفع الكلب رجله ليبول في القبح يقال: شغر الكلب. إذا فعل ذلك، وهذا قول ابن الأعرابي، وعن الأصمعي: الشغار الرفع، كأن كل واحد رفع رجله للآخر عما يريد، وقيل: لا ترفع رجل بنتي ما لم أرفع رجل ابنتك، وقيل: الشغار البعد، كأنه بعد عن طريق الحق، وقال أبو العباس: الأظهر أنه من الخلو، يقال: شغر المكان. إذا خلا، ومكان شاغر أي خال، وشغر الكلب، إذا رفع رجله، لأنه أخلى ذلك المكان من رجله، وهذا هو العلة عنده في بطلان الشغار

أيضا، قال: لا يعقل له علة مستقيمة إلا إشغاره عن المهر، قال: وهو الذي يدل عليه قول أحمد، وقدماء أصحابه كالخلال، وصاحبه، وقد فسره أحمد بأنه فرج بفرج، فالفروج كما أنها لا توهب ولا تورث بنص القرآن، فلأن لا يعاوض بضع ببضع أولى، وأورد على هذا بأنه إذا ينبغي أن يصح ويجب مهر المثل، كما لو سميا فاسدا، وأجيب إذا رضيا بنكاح لا مهر فيه، فما قصداه لم يبحه الشارع، وما أباحه الشارع لم يقصداه، أما إذا سميا فاسدا فقد قصدا المهر، وأورد أيضا تزويج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بغير مهر، وتزويج الرجل ابنته، والتفويض لا يسمى شغارا، وأجيب بأن الشغار فعال، فيكون من الطرفين، أي إخلاء بإخلاء، بضع ببضع، وهذا منتف في هذه المواضع، وعلل القاضي البطلان وجماعة من أتباعه بالتشريك في البضع، إذ المرأة تملك الصداق، والزوج يملك بضع المرأة، فكان بضع كل واحدة منهما مشتركا بين الزوج والمرأة، ورد بأن هذا ليس هو المقصود قطعا، وإنما كل من المرأتين رضيت بأن الزوج يستبيح بضعها بلا مهر لها، بل يكون لوليها، وهو بضع الأخرى، وعلل القاضي أيضا

نكاح المتعة

البطلان وأبو محمد بأنه جعل كل واحد من العقدين سلفا في الآخر فلم يصح، كبعتك ثوبي بمائة على أن تبيعني ثوبك بمائة، وأبو الخطاب جعله من تعليق كل من النكاحين بالآخر، وتعليق النكاح بالشرط لا يصح، وعلله القاضي أيضا وأبو الخطاب بأنه عقد حصل على وجه جعل المستباح فيه مهرا، فلم يصح، دليله إذا زوج عبده بحرة، وجعل رقبته صداقها لأن ما استباحته من الزوج جعل مهرا، فكذلك هنا ما استباح الزوج من الزوجة جعل مهرا، وقيل غير ذلك وجميعها مستدرك والله أعلم. [نكاح المتعة] قال: ولا يجوز نكاح المتعة. ش: نكاح المتعة، أن يتزوج امرأة إلى مدة، فإذا انقضت زال النكاح، سواء كانت المدة معلومة كشهر ونحوه، أو مجهولة كنزول المطر ونحوه، وسواء وقع بلفظ النكاح وبولي وشاهدين أم لا، والمذهب المنصوص المختار للأصحاب بلا ريب بطلانه. 2559 - لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر» ، وفي رواية: «نهى عن متعة النساء يوم خيبر، وعن لحوم الحمر الأهلية» متفق عليهما.

2560 - «وعن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: رخص لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثم نهى عنها» . 2561 - «وعن سبرة الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه غزا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فتح مكة، قال: فأقمنا بها خمسة عشر، فأذن لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في متعة النساء، وذكر الحديث إلى أن قال: فلم أخرج حتى حرمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - وفي رواية أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء، وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» رواه أحمد ومسلم، وفي رواية لأحمد وأبي داود عن سبرة «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حجة الوداع نهى عن نكاح المتعة» . والنهي يدل على فساد المنهي عنه، لا سيما وقد عضده أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتخلية، والاستدامة أسهل من الابتداء، ولأن الأحكام المختصة بالنكاح من الطلاق والظهار واللعان والتوارث وغير ذلك لا تتعلق به، فدل على أنه ليس بنكاح، إذ هي لازمة

للنكاح الصحيح، وانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم، وسأل ابن منصور الإمام أحمد عن متعة النساء: تقول إنها حرام؟ فقال: يجتنبها أحب إلي. فأثبت ذلك أبو بكر في الخلاف رواية، وأبى ذلك القاضي في خلافه، وكذلك أبو الخطاب، حاملا لها على أنه سئل: هل للعامي أن يقلد من يفتي بمتعة النساء؟ فقال: لا، يجتنبها أحب إلي. أي الأولى أن لا يقلد، وكذلك ابن عقيل، مدعيا أن أحمد رجع عنها، وأبو العباس يقول: توقف عن لفظ الحرام، ولم ينفه، وبالجملة قد استدل لهذه الرواية بقوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] . فعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قرأ: (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن إلى أجل مسمى) . 2562 - «وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نغزو مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليس معنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله:

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الآية» ، متفق عليه. 2563 - «وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - وأبي بكر، حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث، رواه مسلم، وأجيب عن الآية بمنع ثبوت قراءة ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم نسخ الجميع، بدليل ما تقدم. 2564 - وقد روى ابن عدي، عن مؤمل بن إسماعيل قال: ثنا عكرمة بن عمار، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «هدم المتعة الطلاق

والعدة والميراث» قال عبد الحق: وعكرمة إنما يضعف حديثه عن يحيى بن أبي كثير. (تنبيهان) أحدهما قد تقدم في بعض الأحاديث أن النهي كان يوم خيبر، وفي بعضها عام الفتح، وأجيب عن ذلك بأجوبة (أحدها) أن في حديث علي تقديما وتأخيرا، تقديره: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر، ونهى عن متعة النساء» ، ولم يذكر زمن النهي. 2565 - وقد جاء في بعض طرق الحديث «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر» ذكره قاسم بن أصبغ وقال: قال سفيان بن عيينة: يعني أنه نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، لا عن نكاح المتعة. (الثاني) أن النهي قد وقع عنها يوم خيبر وعام الفتح جميعا، فسمعه بعض عام الفتح، وبعض زمن خيبر، ورد بأنه أذن عام الفتح، نعم هذا يجاب به عن النهي عام الفتح، وعام حجة الوداع (الثالث) حمل ذلك على ظاهره، وأنها كانت مباحة، ثم

نسخت يوم خيبر، ثم أبيحت ثم حرمت عام الفتح، قال الشافعي: لا أعلم شيئا أحله الله ثم حرمه، ثم أحله ثم حرمه، إلا المتعة. (الثاني) هل يجب الحد فيها؟ يتلخص للأصحاب فيها وجهان، والله أعلم. قال: ولو تزوجها على أن يطلقها في وقت بعينه لم ينعقد النكاح. ش: لأنه شبيه بالمتعة، والشبيه بالشيء يعطى حكمه، بيان الشبه أنه ألزم نفسه فراقها في وقت بعينه، والمتعة النكاح يزول فيها في وقت بعينه، قال أحمد في رواية أبي داود إذا تزوجها على أن يحملها إلى خراسان، ومن رأيه إذا حملها [إلى خراسان] خلى سبيلها، قال: لا، هذا يشبه المتعة، حتى يتزوجها ما حييت، وفي هذا النص إشعار بتعليل آخر، وهو أن وضع النكاح الدوام، وهذا الشرط ينافيه، وأن النية كافية في المنع، وقال أيضا في رواية عبد الله: إذا تزوجها ومن نيته أنه

نكاح التحليل

يطلقها، أكرهه، هذه متعة، وعلى هذا جمهور الأصحاب، القاضي في خلافه، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، لما علل به أحمد من أن هذا في معنى المتعة، وجزم أبو محمد في مغنيه بالصحة، وقال: إنه لا بأس به، كما لو نوى إن وافقته وإلا طلقها، قال أبو العباس: ولم أر أحدا من الأصحاب صرح أنه لا بأس به، وما قاس عليه لا ريب أنه موجب العقد، بخلاف ما تقدم، فإنه ينافيه، لقصده التأقيت والله أعلم. [نكاح التحليل] قال: وكذلك إذا شرط عليه أن يحلها لزوج كان قبله. ش: يعني فإذا أحلها طلقها، وهذا هو نكاح التحليل، والمذهب المنصوص والمختار بلا نزاع بطلانه. 2566 - لما روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المحلل والمحلل له» . رواه أحمد والنسائي، والترمذي وصححه.

2567 - وللخمسة إلا النسائي عن علي مثله. 2568 - ولأحمد عن أبي هريرة مثله. 2569 - ولابن ماجه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا أخبركم بالتيس المستعار؟» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له» فلعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على

ذلك، ولا يلعن على فعل جائز، فدل ذلك على تحريمه، وفساده وتسميته محللا لقصده الحل في موضع لا يحصل فيه الحل. 2569 - م - كما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما آمن بالقرآن من استحل محارمه» . وقال تعالى: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [التوبة: 37] . 2570 - وعن قبيصة بن جابر: سمعت عمر يخطب الناس وهو يقول: والله إني لا أوتى بمحلل ولا بمحلل له إلا رجمتهما. رواه الأثرم. 2571 - وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: من يخدع الله يخدعه.

2572 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا يزالا زانيين وإن مكثا عشرين سنة، قال: وإن كنا لنعده على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سفاحا. وخرج القاضي وأبو الخطاب رواية ببطلان الشرط، وصحة العقد، من مسألة اشتراط الخيار، وكذلك ابن عقيل، لكنه خرجها من الشروط الفاسدة. فعلى الأول - وهو المذهب بلا ريب - لو نوى ذلك الزوج بقلبه، فهو كما لو شرطه بلسانه، نص عليه أحمد وعليه الأصحاب، لدخوله في عموم: «لعن الله المحلل والمحلل له» الحديث. 2573 - ويؤيده ما روى ابن شاهين في غرائب السنن، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن نكاح المحلل، فقال: «لا نكاح إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة» » ونقل حرب عن أحمد: إذا تزوج امرأة وفي

نفسه طلاقها؟ فكرهه، فأخذ من ذلك الشريف وأبو الخطاب ومن تبعهما رواية بالصحة مع الكراهة، وهو مقتضى قول شيخهما، ومنع ذلك أبو العباس، إذ رواية حرب في من نوى الطلاق، وذلك إنما يكون في من له رغبة في النكاح والمحلل لا رغبة له في النكاح أصلا، ومن هنا قال القاضي وأصحابه - كالشريف، وأبي الخطاب، الشيرازي وغيرهم -: إنه إذا نوى التطليق في وقت بعينه، هو كنية التحليل. ونص أحمد يشهد لهم كما تقدم. وإطلاق كلام الخرقي يشمل ما إذا شرط التحليل حال العقد أو قبله، ولم يرجع عنه، وهذا ينبني على أن الشرط السابق كالمقارن، إلا أن هنا النية كافية في المنع، فغايته أنها أكدت بالشرط السابق، نعم لو شرط قبل العقد، ثم نوى في العقد نكاح الرغبة، فأبو محمد يصحح هذا. 2574 - ويحمل عليه حديث ذي الرقعتين، فإنه يروى عنه أنه أحل امرأة لزوجها، وبلغ ذلك عمر فلم ينكره، وأبو العباس يقول: إن

نكاح المحرم

الشرط المتقدم كالمقارن، فالشرط والحال هذه لا يلزم معه العقد. وأما حديث ذي الرقعتين فقال أحمد: ليس له إسناد. وأبو عبيد أجاب بجوابين (أحدهما) أنه مرسل، فأين هو من الذين سمعوه يخطب على المنبر: لا أوتى بمحلل ولا بمحلل له إلا رجمتهما، (والثاني) كقول أبي محمد، والله أعلم. [نكاح المحرم] قال: وإذا عقد المحرم نكاحا لنفسه أو لغيره، أو عقد أحد نكاحا لمحرم، أو على محرمة فالنكاح فاسد. ش: لا يصح أن يعقد المحرم نكاحا لنفسه. بلا نزاع نعلمه عندنا. 2575 - لما روى عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ينكح المحرم ولا ينكح» وفي رواية ولا يخطب رواه الجماعة إلا البخاري (فإن قيل) :

2576 - فقد روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو محرم» ، رواه البخاري، وأبو داود والترمذي، والنسائي، وإذا فيحمل نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على الكراهة، جمعا بين الدليلين. 2577 - قيل: هذا معارض بما روى يزيد بن الأصم، «عن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قالت: تزوجني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونحن حلالان بسرف؛» رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي. 2578 - «وعن أبي رافع قال: تزوج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول بينهما» . رواه أحمد والترمذي وحسنه، وإذا تعارضت الروايتان طلب الترجيح،

ولا ريب أن من روى أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوجها وهو حلال، يترجح بأمور (أحدها) بكثرة رواته، قال أبو عمر النمري: الرواية «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج ميمونة وهو حلال» ، متواترة عن ميمونة، وعن أبي رافع مولى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وعن سليمان بن يسار مولاها، وعن يزيد بن الأصم وهو ابن أختها انتهى، ولا ريب أن الحمل على الفرد، أولى من الحمل على الجماعة. 2579 - وقد قال أبو داود قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال أحمد في رواية أبي الحارث: هذا الحديث خطأ، يعني حديث ابن عباس (الثاني) أن ميمونة هي صاحبة القصة، وأبا رافع هو الرسول بينهما، ولا يخفى أنهما أعرف وأخبر بالواقعة من غيرهما، وقد أشار أحمد إلى

ذلك في رواية المروذي، لا سيما وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صغير، لا يحضر مثله الوقائع، فلعله روى عن غيره. 2580 - مع أنه قد قيل: إن من مذهب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن من قلد الهدي صار محرما، فلعله رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلد الهدي، فاعتقد أنه محرم (الثالث) أن رواية ميمونة توافق رواية عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعمل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 2581 - فعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فرق في ذلك، رواه مالك الموطأ. 2582 - وعن ابنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه نهى عن ذلك وقال: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذلك. رواه أحمد، وهو قول زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (الرابع) أنه متى تعارض دليلا الحظر والإباحة

كان دليل الحظر مقدما، ثم لو قدر التعارض في فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فيسلم نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رواية عثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ثم لو سلم ترجيح رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فهي فعله، وذاك قوله، والقول مقدم على الفعل، لا سيما وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اختص في النكاح بخصائص لم يشاركه فيها غيره، فلعل هذا منها، ثم لو سلم عدم الاختصاص فلعل فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وارد على مباح الأصل، ولا يلزم نسخ قوله، ودعوى أن المراد بالنهي الكراهة مخالف لظاهر النهي، ولعمل الصحابة، ويلزم منه أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يفعل المكروه، ولا يقال فعله لتبيين الجواز، لأنا نقول تبيينه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوله، ولا يقال: المراد بلا ينكح لا يطأ، ولا ينكح لا يمكن من الوطء، لأنا نقول: غالبا استعمال الشرع للعقد، فيحمل عليه، مع أن قوله في الحديث «ولا يخطب» قرينة على ذلك. 2583 - ثم في الدارقطني عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا

يتزوج المحرم ولا يزوج» وهذا نص ويؤيده أن الصحابة فهمت ذلك. 2584 - ففي الموطأ عن أبي غطفان المري أن أباه طريفا تزوج امرأة وهو محرم، فرد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نكاحه. 2585 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: من تزوج وهو محرم نزعناها منه، ولم نجز نكاحه. 2586 - وعن مولى زيد بن ثابت أنه تزوج وهو محرم، ففرق زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بينهما، رواهما أبو بكر النيسابوري. والله أعلم. وهل له أن ينكح لغيره، كما إذا كان وليا أو وكيلا في النكاح؟ فيه روايتان، أشهرهما لا، لعموم الحديث (والثانية) نعم، اختارها أبو بكر، كما لو حلق المرحم رأس حلال ونحوه، وقيل: إن أصل هذه الرواية من قول أحمد: إن زوج المحرم لم أفسخ النكاح. وقيل: هذا لا يثبت به رواية، لاحتمال أنه منع الفسخ للاختلاف فيه، ولهذا قال: هو والإمام مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه. انتهى.

العيوب التي توجب الخيار في النكاح

فعلى المذهب إذا أحرم الإمام الأعظم منع من تزويج أقاربه، وهل يمنع من التزويج بالولاية العامة؟ فيه احتمالان، (المنع) نظرا للعموم، فعلى هذا يزوج خلفاؤه، قاله القاضي، دفعا للحرج، ولأنهم لا ينعزلون بموته على الأشهر (والجواز) واختاره ابن عقيل، لأن ولاية الحكم يجوز فيها ما لا يجوز بولاية النسب، بدليل الكافرة يزوجها الإمام، لا وليها المناسب المسلم، واعلم أن القاضي قال: إنه لا يعرف الرواية عن أصحابنا في هذا الفرع، إذ إحرامه بالنسبة إلى النكاح كموته، انتهى، وإذا عقد أحد سواء كان حلالا أو محرما نكاحا لمحرم، أو على محرمة، فالنكاح فاسد، لأنه يصدق على المحرم أنه نكح وتزوج، فيدخل في الحديث. وقد خرج من كلام الخرقي ما إذا وكل المحرم حلالا، فلم يعقد له النكاح حتى حل أنه يصح، ودخل في كلامه ما إذا وكله وهو حلال، فلم يعقد له حتى أحرم أن النكاح لا يصح، وهو صحيح، صرح به أبو محمد، فالاعتبار بحال العقد وهو المشهور، والله أعلم. [العيوب التي توجب الخيار في النكاح] قال: وأي الزوجين وجد بصاحبه جنونا أو جذاما، أو برصا أو كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء، أو فتقاء، أو الرجل

مجبوبا، فلمن وجد ذلك منهما بصاحبه الخيار في فسخ النكاح. ش: أما ثبوت الخيار بالجنون والجذام والبرص لكل من الزوجين. 2587 - فلما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أيما امرأة غر بها رجل بها جنون أو جذام أو برص فلها مهرها بما أصاب منها، وصداق الرجل على من غره، رواه مالك في الموطأ والدارقطني، وفي لفظ للدارقطني قضى عمر في البرصاء، والجذماء، والمجنونة، إذا دخل بها فرق بينهما، ولها الصداق بمسيسه إياها وهوله عليها. 2588 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: أربع لا يجري في بيع ولا نكاح، المجنونة، والمجذومة، والبرصاء، والقلفاء، رواه الدارقطني. 2589 - وفي المسند عن كعب بن زيد أو زيد بن كعب «أن رسول الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج امرأة من بني غفار، فلما دخل عليها ووضع ثوبه، وقعد على الفراش أبصر بكشحها بياضا، فانحاز عن الفراش، ثم قال: «خذي عليك ثيابك» ولم يأخذ مما آتاها شيئا» ، ورواه سعيد في سننه عن زيد بن كعب بن عجرة، ولم يشك، ورده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها فسخ للنكاح، لا يقال: يحتمل أنه طلقها أو كنى بالرد عن الطلاق، لأنا نقول: لم ينقل في الحديث طلاق، والرد صريح في الفسخ، فالحمل عليه أولى، وإذا ثبت هذا في أحد الزوجين ثبت في الآخر، والمعنى في ذلك أن الجنون تنفر النفس منه، وتخاف جنايته، والجذام والبرص يخشى تعديهما إلى الولد وإلى النفس، ويثيران نفرة تمنع القربان، وأما ثبوت الخيار للرجل إذا كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء أو فتقاء، فلأن ذلك يمنع معظم المعقود عليه في النكاح، وهو

الاستمتاع فأثبت الخيار كالعنة، إذ المرأة أحد الزوجين، فيثبت الخيار بالعيب فيها كالرجل، وأما ثبوت الخيار للمرأة إذا كان الرجل مجبوبا، فلأن ذلك يمنع المقصود من النكاح وهو الاستمتاع، أشبه العنة بل أولى للإياس من زواله، بخلاف العنة، ودليل الأصل قول الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. وقد دخل في كلام الخرقي ما إذا وجد أحدهما بصاحبه عيبا به مثله، كأن كان مجذوما وهي جذماء ونحوه، وهو أحد الوجهين، نظرا إلى أن الإنسان يعاف عيب غيره، ولا يعاف عيب نفسه (والثاني) لا يثبت خيار والحال هذه، لتساويهما، ويدخل في كلامه أيضا ما إذا حدث العيب بعد العقد، وكذا حكاه عنه القاضي، معتمدا على قوله بعد: فإن جب قبل الدخول فلها الخيار في وقتها، وهذا اختيار القاضي في تعليقه الجديد، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، لأنه معنى يثبت به الخيار مقارنا، فيثبت به طارئا، كالإعسار بالنفقة وكالرق، واختار أبو بكر في الخلاف، وابن حامد، والقاضي في التعليق القديم، والمجرد، وابن البنا أن الخيار لا يثبت والحال هذه، لأنه عيب حدث بالمعقود عليه بعد لزوم العقد، فلم يثبت الخيار، كالحادث بالمبيع المعين

بعد البيع، وفرق بأن النكاح يستوفى شيئا فشيئا، فهو في معنى الإجازة، بخلاف المبيع. وظاهر كلام الخرقي أن الخيار لا يثبت بغير هذه، فلا يثبت بالبخر في الفم، ولا في الفرج، ولا بالقروح السيالة في الفرج، ولا بالباسور ولا بالناصور، ولا بالاستحاضة، ولا باستطلاق البول أو النجو، ولا بالخصاء، وهو قطع الخصيتين، ولا بالوجاء وهو رضهما، ولا بالسل وهو سلهما، ولا بكون أحدهما خنثى غير مشكل، وهو أحد الوجهين في الجميع، ولا يثبت الخيار بما عدا ذلك كالعمى، والعرج، وقطع اليد، أو الرجل، وكون المرأة نضوة الخلق يخاف عليها الجناية بالجماع، وكون الذكر كبيرا والفرج صغيرا ونحو ذلك، على المذهب بلا ريب، واختار ابن عقيل ثبوت الخيار بنضو الخلق كالرتق، واختار ابن حمدان في كبر الذكر وصغر الفرج ثبوت الخيار، وعن أبي البقاء العكبري ثبوت الخيار بكل عيب يرد به في البيع وهو غريب. (تنبيهان) أحدهما (الجنون) معروف وهو زوال العقل، ولا فرق فيه بين المطبق أي الدائم، والخانق أي الذي يخنق

في وقت دون وقت، فإن زال العقل بمرض فهو إغماء، لا يثبت به خيار، فإن دام بعد المرض فهو جنون، (والجذام والبرص) داآن معروفان، نسأل الله العافية منهما ومن كل داء، فإن ظهر أمرهما فواضح، وإن أشكل كأن يتفرق شعر الحاجب، أو يكون به بياض يحتمل أنه برص أو بهق، فمع الاتفاق من الزوجين لا كلام، ومع الاختلاف القول قول المنكر، نظرا للأصل، فإن أقام المدعي بما ادعاه شاهدين حكم بذلك، وخرج قبول واحد كالموضحة، فإن أقام كل منهما بينة بدعواه تعارضتا ولا فسخ، (والجب) القطع، والحكم هنا مرتب على قطع الذكر، أو على قطع بعضه بحيث لا يمكن الجماع بالباقي (والرتق) بفتح الراء والتاء مصدر رتقت بكسر التاء، ترتق رتقا، بفتح التاء فيهما - التحام الفرج، قاله الجوهري (والقرن) مصدر قرنت المرأة بكسر الراء تقرن قرنا بفتحها فيهما، إذا كان في فرجها قرن بسكون الراء، وهو عظم أو غدة تمنع من ولوج الذكر، (والعفل) نتنة تخرج في فرج المرأة وحيا الناقة شبيه بالأدرة التي للرجال في الخصية، والقاضي في الخلاف جعل هذه الثلاثة لحما

ينبت في الفرج، وفي المجرد جعل الرتق السد، والقرن والعفل اللحم، وتبعه على ذلك أبو الخطاب وابن عقيل، وأبو حفص فسر العفل برغوة في الفرج كزبد البعير، وإذا في ثبوت الخيار به وجهان (والفتق) انخراق ما بين السبيلين، وقيل انخراق ما بين مخرج البول والمني، وإذا في ثبوت الخيار به وجهان. (الثاني) يفتقر الفسخ في هذه إلى حكم حاكم، لأنه أمر مختلف فيه، فاحتاج إلى حاكم، كالفسخ للإعسار بالنفقة، وفارق خيار المعتقة، للاتفاق عليه، ولا يرد خيار المعتقة بعد ثلاث، والمعتقة تحت حر، وخيارات البيع، فإنها وإن اختلف فيها فإن أصلها متفق عليه، والمراد بحكم الحاكم أن يحكم بالفسخ، أو يأذن فيه أو يفسخ، ولا يختار إلا بطلب من له الفسخ، وحيث يقع الفسخ كان فسخا وليس بطلاق، نص عليه، والله أعلم. قال: وإذا فسخ قبل المسيس فلا مهر. ش: سواء كان الفاسخ الزوج أو المرأة، لأنها إن كانت هي الفاسخة فالفرقة من جهتها، أشبه ما لو أرضعت زوجة له أخرى، وإن كان هو الفاسخ فهو بسببها، إذ هو لعيبها، فإن قيل: فهلا جعل فسخها لعيبه كأنه منه، لأنه بسببه؟ قيل: أجاب عنه أبو محمد بأن العوض من الزوج في مقابلة

بضعها، فإذا اختارت الفسخ مع سلامة المعقود عليه رجع العوض إلى العاقد، وليس من جهتها عوض في مقابلة بضع الزوج، وإنما يثبت لها الخيار دفعا للضرر اللاحق بها، لا لتعذر ما استحقت في مقابلته عوضا، والله أعلم. قال: فإن كان بعده وادعى أنه ما علم وحلف، كان له أن يفسخ، وعليه المهر يرجع به على من غره. ش: شرط ثبوت الخيار فيما تقدم من العيوب أن لا يعلم بها وقت العقد، ولا بعده ويرضى، أما إن علم بها وقت العقد، أو بعده فرضي، أو وجد منه ما يدل على الرضى فلا خيار له، لأنه قد دخل على بصيرة، أو أسقط حقه، أشبه مشتري المعيب إذا علم بالعيب وقت البيع، أو بعده فرضي، فعلى هذا إن تصادقا على عدم العلم بالعيب، وأنكرته المرأة فالقول قوله، إذ الأصل عدم العلم، وعليه اليمين، لأن ما ادعي عليه محتمل، ولا فرق في ذلك كله بين قبل الدخول وبعده، وإن كان كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يوهم خلاف ذلك، إذا تقرر هذا وفسخ بعد الدخول كان عليه المهر بما استحل من فرجها. وظاهر كلام الخرقي أنه المسمى لتعريفه المهر، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار الشيخين وغيرهما، لظاهر ما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعليه اعتمد أحمد، قال: إذا

تزوجها جذماء برصاء مجنونة أو بكرا فخرجت ثيبا، يقول عمر: يلزمهم المهر الذي أعطاهم (والرواية الأخرى) الواجب مهر المثل، إذ الزوج إنما بذل المسمى مع تمام النكاح، فإذا فسخ لم يرض ببذل إنما رضيت بالمسمى لرجل سليم، وإذا فات الرضى رجع إلى مهر المثل، وبنى القاضي في المجرد، وابن عقيل في الفصول هاتين الروايتين على الروايتين في النكاح الفاسد، هل الواجب فيه المسمى أو مهر المثل؟ لأن الفسخ لمعنى قارن العقد، فإنه لم ينعقد، وقيد أبو البركات رواية مهر المثل بما إذا كان الفاسخ الزوج، لشرط أو عيب قديم، لأنه إنما رضي بالمسمى في مقابلة عين صحيحة، أو بشرط وقد فات ذلك، فيفوت الرضى بالمسمى، وإذا يرجع إلى مهر المثل، أما إن حدث العيب بها بعد العقد فالمسيس قابل عينا صحيحة فيجب، وكذلك إن كانت هي الفاسخة لعيب فيه، أو لفوات شرط، لأن ما بذل فيه المسمى قد وجد فيستقر، لكن قد يقال: ينبغي أن يجب لها مهر المثل إن كان أزيد، إذ رضاها منوط بالشرط وبسليم، وقد يجاب بأن مهر المثل لا يختلف بخلقة الرجل وصفاته، وفيه شيء، ومن رأينا كلامه من الأصحاب على إطلاق هذه الرواية، ولهذا جعل ابن حمدان

تقييد المجد قولا. وفي المذهب (قول ثالث) في أصل المسألة في الزوج إذا اطلع على عيب، أو فاته شرط، ينسب قدر نقص مهر المثل لأجل العيب أو الشرط، إلى مهر المثل كاملا، فيحط عنه من المسمى بنسبة النقص إلى المهرين، سواء فسخ أو أمضى، وهو قياس البيع، مثاله أن يقال: كم مهر هذه بهذا العيب أو مع هذا الشرط؟ فيقال: ثمانون مثلا. وبلا عيب ولا شرط مائة، فنسبة ما بينهما الخمس، فيرجع من المسمى بالخمس، وهذا قول ابن عقيل وأبي بكر، قالاه فيما إذا شرطها بكرا فبانت ثيبا، ووافق أبو بكر الأصحاب في أن الواجب المسمى في الفسخ لعيبها، وإذا (هذا قول رابع) انتهى. ويرجع الزوج بما غرمه على من غره على المشهور المختار من الروايتين، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 2590 - (والرواية الثانية) لا يرجع بشيء، اختارها أبو بكر في الخلاف، وهو قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذلك لأنه ضمن ما استوفى بدله، فلم يرجع به على غيره، كالمبيع المعيب، إذا أكله ثم علم عيبه، وقد روي عن أحمد أنه رجع عن هذه الرواية، قال في رواية ابن الحكم: كنت أذهب إلى قول علي رضي الله

عنه، ثم هبته فملت إلى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال عمر: إذا تزوجها فرأى جذاما أو برصا فلها المهر بمسيسه، ووليها ضامن للصداق. وقول الخرقي يشمل الولي والوكيل والمرأة، وصرح به غيره فعلى هذا أيهم انفرد بالغرور ضمن، فلو أنكر الولي علمه بذلك ولا بينة فثلاثة أوجه، (أحدها) القول قوله مع يمينه، اختاره أبو محمد، إذ الأصل عدم علمه بذلك (والثاني) القول قول الزوج إلا في عيوب الفرج، إذ الظاهر أن الولي لا يخفى عليه ذلك أما عيوب الفرج فلا اطلاع له عليها «والثالث» إن كان مما يخفى عليه أمرها كأباعد العصبات فكالأول، وإلا فكالثاني، قاله القاضي وابن عقيل، أما الوكيل فينبغي أن يكون القول قوله بلا خلاف. وشرط تضمين المرأة أن تكون عاقلة، قاله ابن عقيل، ليوجد قصد الغرور منها وشرط مع ذلك أبو عبد الله ابن تيمية بلوغها، ليوجد تغرير محرم، فعلى هذا حكمها إذا ادعت عدم العلم بعيب نفسها واحتمل ذلك، حكم الولي على ما تقدم، ولو وجد الغرور من المرأة والولي فالضمان على الولي، على مقتضى قول القاضي وابن عقيل وأبي محمد وغيرهم، لأنه المباشر، وقال أبو محمد فيما إذا كان الغرور من المرأة والوكيل الضمان

تخيير العبد والأمة المزوجين حال الرق

عليهما نصفان، فيكون في كل من الولي والوكيل قولان، والله أعلم. قال: ولا سكنى لها ولا نفقة، لأن السكنى والنفقة لمن يجب لزوجها عليها الرجعة. ش: لا نفقة للمفسوخ نكاحها، لأنها بائن، أشبهت البائن بطلاق ثلاث، وهو قسم من أقسام البائن فلا نفقة لها ولا سكنى لها على المشهور، هذا إن كانت حائلا، فإن كانت حاملا فلها النفقة عند أبي محمد، لأنها بائن من نكاح صحيح في حال حملها، أشبهت المختلعة، وفي السكنى روايتان، وقال القاضي وابن عقيل إن قلنا: إن النفقة للحمل، وجبت لها، وإن قلنا لها من أجله لم تجب، كالمعتدة من نكاح فاسد، ولعل هذا أوفق لقول الخرقي، لأنه هنا لم يستثن الحامل، وثم استثناها، وأصل ذلك والدليل عليه يأتي إن شاء الله في النفقات، والله أعلم. [تخيير العبد والأمة المزوجين حال الرق] قال: وإذا أعتقت الأمة وزوجها عبد فلها الخيار في فسخ النكاح. ش: هذا إجماع، حكاه ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما. 2591 - وقد «قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: كان في بريرة ثلاث سنن، خيرت على زوجها حين عتقت» . مختصر، متفق عليه.

2592 - وعن القاسم بن محمد، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن بريرة خيرها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان زوجها عبدا» . رواه مسلم وأبو داود، والنسائي. 2593 - وعن عروة «عن عائشة في قصة بريرة قالت: كان زوجها عبدا، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاختارت نفسها، ولو كان حرا لم يخيرها» . رواه مسلم، وأبو داود والترمذي، والنسائي. 2594 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن زوج بريرة كان عبدا أسود، يسمى مغيثا، فخيرها يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأمرها أن تعتد» . رواه أبو داود، والترمذي والنسائي والبخاري مختصرا. ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا عتقت وزوجها حر فلا خيار لها، وهو المذهب المنصوص والمختار بلا ريب، لما تقدم، إذ الأصل لزوم النكاح إلا حيث قام الدليل على جوازه، ونقل عن

أحمد فيمن زوج أم ولده ثم مات فقد عتقت وتخير، فأخذ من ذلك أبو الخطاب رواية بثبوت الخيار لمن زوجها حر، لإطلاق أحمد. 2595 - وذلك لما روى الأسود «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن زوج بريرة كان حرا حين أعتقت، وأنها خيرت فقالت: ما أحب أن أكون معه، وإن كان لي كذا وكذا» . رواه الجماعة إلا مسلما، وتحمل رواية العبدية على أنه كان عبدا، جمعا بينهما، ورجح الأول بأمور (أحدها) بأن قوله: كان حرا. هو من قول الأسود، وقع مدرجا في الحديث، كذا جاء مفسرا. 2596 - فروى ابن المنذر عن إبراهيم أنه قال: فقال الأسود: وكان زوجها حرا. وقال البخاري: قول الأسود منقطع. 2597 - (الثاني) أنه قد روي عن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن

زوجها كان عبدا، فإذا تتعارض روايتا الأسود، وتسلم رواية غيره (الثالث) لو سلم اتصال رواية الحرية وترجيحها، فقد عارضها رواية الجم الغفير عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه كان عبدا. 2598 - فروى القاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، ومجاهد، وعمرة بنت عبد الرحمن، كلهم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنه كان عبدا، والقاسم هو ابن أخي عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وعروة هو ابن أختها، وكانا يدخلان عليها بلا حجاب، وعمرة كانت في حجرها، ولا ريب أن رواية الجم الغفير الخصيص، أولى من الفرد البعيد. 2599 - قال إبراهيم بن أبي طالب خالف الأسود الناس في زوج بريرة، فقال: إنه حر، وقال الناس: إنه عبد. 2600 - ويؤيد هذا أن مذهب عائشة أنه لا يثبت الخيار تحت الحر، ثم لو قدر تساوي روايته لرواية غيره فتتعارض روايتا عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وتسلم رواية ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ودعوى أنه كان عبدا مجاز، والأصل الحقيقة.

2601 - مع أنه قد روى الإمام أحمد في المسند عن القاسم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن بريرة كانت تحت عبد، فلما أعتقتها قال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اختاري، فإن شئت أن تمكثي تحت هذا العبد، وإن شئت أن تفارقيه» » قال بعض الحفاظ: وإسناده جيد. وهذا تصريح بعبوديته في الحال. ومفهوم كلام الخرقي أيضا أنهما إذا عتقا معا أنه لا خيار لها أيضا، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر والشيخين وغيرهما، وقال القاضي في بعض كتبه: إنها قياس المذهب، لنص أحمد على أن عتقه قبل اختيارها يسقط خيارها، فأولى أن لا يثبت لها إذا عتقا معا وذلك لأن السبب المقتضي للفسخ قارنه ما يقتضي إلغاءه، وهو حرية الزوج، فمنع إعماله (والرواية الثانية) - وهي أنصهما، وصححها القاضي في الروايتين - يثبت لها الخيار، لأنها كملت بالحرية تحت من لم تسبق له حرية، فملكت الفسخ، كما لو عتقت قبل الزوج. 2602 - وقد روى أبو داود والنسائي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها أرادت أن تعتق مملوكين لها زوج، قال: فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة» ، والظاهر أن ذلك حذارا من ثبوت

الخيار لها بعتقهما معا، وأجيب بأن الأمر بذلك خشية أن تبدأ بعتق المرأة. (تنبيه) ولا يفتقر الفسخ هنا إلى حكم حاكم، لأنه مجمع عليه، والله أعلم. قال: فإن أعتق قبل أن تختار أو وطئها بطل خيارها، علمت أن لها الخيار أو لم تعلم. ش: أما بطلان خيارها بعتقه قبل أن تختار فلأن الخيار لدفع الضرر بالرق، وقد زال فيسقط كالمبيع إذا زال عيبه وكما لو تزوجته وبه جنون ونحوه، فزال قبل أن تختار، وقيل: إنه وقع للقاضي وابن عقيل ما يقتضي أنه لا يسقط، كما لو عتقا معا، والأول المذهب المصرح به عند القاضي وغيره، وعليه لو أعتق بعضه فالخيار بحاله، كما هو مقتضى كلام الخرقي. 2603 - وأما بطلان خيارها بوطئها في الجملة فلما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن بريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أعتقت وهي عند مغيث، عبد لآل أحمد، فخيرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال لها: «إن قربك فلا خيار لك» » رواه أبو داود، ولا فرق في بطلان خيارها بالوطء بين أن

تعلم أن لها الخيار أو لم تعلم، وهو أنص الروايتين، واختيار الخرقي، وابن أبي موسى، والقاضي في الجامع والمجرد، لعموم الحديث، ولأن الجهل بالأحكام لا يعذر به، إذ يلزمه السؤال والتعلم. (والرواية الثانية) : لا يبطل خيارها والحال هذه، حكاها أبو محمد في المغني عن القاضي وأصحابه، وفي الكافي عن القاضي وأبي الخطاب، إذ بطلان الخيار يعتمد الرضى، ومع عدم العلم بثبوت الخيار لا رضى، فعلى هذا تقبل دعواها الجهل، قاله أبو محمد، إذ لا يعرف ذلك إلا الخواص، وقيده ابن عقيل بأن يكون مثلها يجهله، أما المتفقهة فلا تقبل دعواها، وحكم مباشرته لها حكم وطئها، وكذلك تقبيلها له، إذ مناط المسألة ما يدل على الرضى. (تنبيه) تقبل دعواها الجهل بالعتق فيما إذا وطئها، نظرا للأصل وهو عدم العلم، وإذا لا رضى، فالخيار بحاله، هذا هو المذهب المشهور المختار لعامة الأصحاب، وعن القاضي في الجامع الكبير: يبطل خيارها، لعموم الحديث، فعلى الأول شرط القبول أن يكون مما يخفى عليها، كأن يكون العتق في غير

بلدها ونحو ذلك، أما إن كان في بلدها ولا يخفى عليها لاشتهاره، أو لكونه في داره ونحو ذلك، لم يقبل قولها، لأن قرينة الحال تكذبها، انتهى ولم يعتبر الأصحاب العلم بأن الوطء مبطل، فلو علمت العتق وعلمت ثبوت الخيار به، ومكنت جاهلة بحكم الوطء، بطل خيارها والله أعلم. قال: وإن كانت لنفسين فأعتق أحدهما فلا خيار لها إذا كان المعتق معسرا. ش: إذا كانت الأمة لنفسين، فأعتق أحدهما نصيبه وهو معسر، فلا خيار لها، على المختار من الروايتين، اختارها ابن أبي موسى والقاضي وأبو محمد وغيرهم، لأنه لا نص فيها، ولا يصح قياسها على المنصوص، لأن كاملة الحرية أكمل من ناقصتها، وعلله أحمد بأن النكاح صحيح، فلا يفسخ بالمختلف، (والرواية الثانية) لها الخيار، اختارها أبو بكر في الخلاف، لأنها قد صارت أكمل منه، فيثبت لها الخيار، كما لو عتق جميعها، وقوله: إذا كان معسرا. يحترز عما إذا كان موسرا، فإن العتق يسري، ويثبت لها الخيار بلا ريب، وقد علم من هذا أن هذا الخلاف على قولنا

بعدم الاستسعاء، أما إن قلنا به، وأن العتق يتنجز فيثبت لها الخيار، والله أعلم. قال: وإن اختارت المقام معه قبل الدخول أو بعده فالمهر للسيد. ش: أما قبل الدخول فلأنه قد وجب للسيد بالعقد، ولم يوجد له مسقط، وكذلك بعد الدخول بل أولى، لاستقراره بذلك، والله أعلم. قال: وإن اختارت الفسخ قبل الدخول فلا مهر. ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار أبي محمد وغيره، نظرا إلى أن الفرقة جاءت من جهتها، أشبه ما لو ارتدت (والثانية) : يجب لسيدها نصف المهر، اختارها أبو بكر، نظرا إلى أن المهر وجب للسيد، فلا يسقط بفعل غيره، وأجاب أبو محمد بأنه وإن وجب له لكن بواسطتها، ويرد بالأمة الزانية على المذهب، وقيل عنه: يجب كله. وبعد، انتهى، فلو كانت مفوضة فلا متعة على الأول، وعلى الثاني تجب للسيد، والله أعلم. قال: وإن اختارته بعد الدخول فالمهر للسيد. ش: إذا اختارت الفسخ بعد الدخول فالمهر للسيد، لما تقدم من استقرار المهر بالدخول، والله أعلم.

باب أجل العنين والخصي غير المجبوب

[باب أجل العنين والخصي غير المجبوب] ش: العنين العاجز عند الوطء، وربما اشتهاه ولا يمكنه، مشتق من عن الشيء، إذا عرض، وقيل: الذي له ذكر لا ينتشر، والخصي من قطعت خصيتاه، وفي معناه الموجوء، وهو المرضوض والمسلول وهو الذي سلت بيضتاه، أما المجبوب فهو الذي قطع ذكره، وقد تقدم حكمه. قال: وإذا ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إليها أجل سنة منذ ترافعه إلى الحاكم فإن لم يصبها فيها خيرت في المقام معه أو فراقه، فإن اختارت فراقه كان ذلك فسخا بلا طلاق. ش: إذا ادعت المرأة أن زوجها عنين لا يصل إلى جماعها، فإن اعترف الزوج بذلك أجل سنة على المذهب المنصوص، والمختار لعامة الأصحاب. 2604 - لما روي عن سعيد بن المسيب عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أجل العنين سنة. 2605 - وعن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يؤجل سنة، فإن أتاها وإلا فرق بينهما. رواهما الدارقطني.

2606 - وعن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: العنين يؤجل سنة، ولأن عجزه عن الوصول إليها يحتمل أن يكون لمرض، فيضرب له سنة، لتمر عليه الفصول الأربعة، فإن كان من يبس زال في زمن الرطوبة، وإن كان من رطوبة زال في زمن الحرارة، وإن كان من انحراف مزاج زال في زمن الاعتدال، فإذا مضت الفصول ولم يزل علم أنه خلقة وجبلة، واختار أبو بكر وأبو البركات أنه لا يؤجل، ويفسخ في الحال، كالجب، ولأن المقتضي للفسخ قد وجد، وزواله محتمل، والأصل والظاهر عدمه، وإن لم يعترف الزوج بذلك، ولم يدع وطأ فهل القول قوله، قاله أبو الخطاب في

الهداية، والقاضي في التعليق وفي غيره، لأنه منكر، لا سيما وقد عضده أن الأصل السلامة، أو القول قولها، فيؤجل بمجرد دعواها، وهو ظاهر قول الخرقي، ووقع للقاضي في التعليق في موضع آخر لأن الأصل عدم الوطء أو القول قوله إن كانت ثيبا، وإن كانت بكرا أجل بقولها، وهو الذي جزم به في المغني، لاعتضاد عدم الوطء بالبكارة، على ثلاثة أقوال، وعلى الأول يحلف على الصحيح من الوجهين، فإن نكل قضي عليه وأجل، وقيل: لا يحلف كمدعي الطلاق انتهى. وحيث أجل فإن ابتداء التأجيل من حين رفعته إلى الحاكم، لأنها مدة مختلف فيها، فاحتيج في ضربها إلى الحاكم، بخلاف مدة الإيلاء، ثم إن أصابها في المدة المضروبة فقد تبينا أن لا عنة، وإن لم يصبها فيها خيرت بين المقام معه وبين فراقه، لقضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بذلك، وكما لو امتنع الوطء من جهتها برتق ونحوه، لا يقال: الوطء حق للرجل دون المرأة، لأنا نقول: بل هو حق لهما، بدليل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ؛ {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ومن الإمساك بالمعروف الجماع.

2607 - ولا يرد حديث امرأة رفاعة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حيث أخبرت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعنة زوجها، ولم يجعل لها الفسخ، لأن ابن عبد البر قال: صح أن ذلك كان بعد طلاقه، فلا معنى لثبوت الفسخ لها على أنا لا نسلم عنته، بل كان ضعيف الجماع، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتى تذوقي عسيلته» ، وذوق العسيلة موقوف على إمكان الجماع، انتهى، ومن اختارت الفراق رجع إلى الحاكم، للاختلاف فيه، فإما أن يفسخ باختيارها، وإما أن يرده إليها، فتفسخ، ويقع الفراق فسخا لا طلاقا. وقول الخرقي: والخصي، ظاهره أن حكمه حكم العنين، وكذا ترجم القاضي في الجامع، فيجري فيه ما تقدم، قال أبو محمد: وقد قيل: إن وطأه أكثر من وطء غيره، وقوله: غير

المجبوب. مقتضاه أن المجبوب لا يثبت فيه هذا الحكم، وقد تقدم له أن المجبوب يثبت لامرأته الفسخ في الحال، لكن قال أبو محمد في المغني: إذا بقي من ذكر المجبوب ما يمكن الوطء به، الأولى ضرب المدة، وبعده أبو العباس، بأنه لا يتجدد له قدرة لم تكن، بخلاف العنين، والله أعلم. قال: فإن قال: قد علمت أني عنين قبل أن أنكحها. فإن أقرت أو ثبت ما قال ببينة، فلا يؤجل، وهي امرأته. ش: إذا ادعت المرأة عنة الرجل، فادعى أنها علمت ذلك قبل أن ينكحها، فإن أنكرت فالقول قولها مع يمينها، إذ الأصل عدم علمها، ويؤجل، وإن أقرت بذلك، أو أنكرت فأقام بينة بما ادعاه، فلا يؤجل، وهي امرأته، لا سبيل لها إلى فسخ العقد بحال، لأنها دخلت على بصيرة، أشبه ما لو علمته مجبوبا ونحو ذلك، والله أعلم. قال: وإن علمت أنه عنين بعد الدخول، فسكتت عن المطالبة، ثم طالبت بعد، فلها ذلك، ويؤجل سنة من يوم ترافعه. ش: لأن نفس السكوت لا يدل على الرضى، وقد أخذ من هذا القاضي، وأبو محمد أن الخيار في العيوب على التراخي، وهو اختيار القاضي في الجامع، وأبي الخطاب في الهداية، والشيخين وغيرهم، لأنه لدفع ضرر متحقق، فكان على التراخي،

كخيار القصاص، وحد القذف، وعكسه خيار الشفعة والمجبرة، فإن ضرره غير متحقق، وقال القاضي في المجرد، وابن عقيل، وابن البنا في الخصال: إنه على الفور، لأنه لدفع ضرر، أشبه خيار الشفعة، قال ابن عقيل: ومعناه أن المطالبة بحق الفسخ تكون على الفور، فمتى أخر ما لم تجر العادة به بطل، لأن الفسخ على الفور، وعلى الأول لا يسقط الخيار إلا بما يدل على الرضى من قول، أو استمتاع أو تمكين منه، ونحو ذلك، ولا يعتبر التصريح بالرضا، لأن الدال على الشيء قائم مقامه، ومنزل منزلته، واستثنى من ذلك أبو البركات خيار العنة، لا يسقط إلا بالقول، لا يسقط بالتمكين من الاستمتاع ونحوه، إذ عنته إنما تعلم بعجزه عن الوطء، وذلك لا بد فيه من التمكين من الوطء، وقال أبو العباس: إنه لم يجد هذه التفرقة لغيره، وجعل أنه متى أمكنته في حال لها الفسخ سقط خيارها، وحيث لم يثبت لها الفسخ، وإن ثبت العيب لا عبرة بتمكينها، ولا فرق في ذلك بين العنة وغيرها، والله أعلم. قال: فإن قالت في وقت من الأوقات: قد رضيت به عنينا. لم تكن لها المطالبة بعد. ش: إذا قالت المرأة في وقت من الأوقات - قبل العقد أو بعده، وقبل التأجيل أو بعده، وقبل مضي الأجل أو بعد مضيه -: قد رضيت به عنينا، سقط خيارها، ولم يكن لها المطالبة بعد،

وذلك لأنها صرحت برضاها به معيبا، أشبه ما لو رضيت به مجبوبا ونحوه، ومن هنا والله أعلم أخذ أبو البركات أن خيار العنة لا يسقط إلا بالقول، والله أعلم. قال: وإن اعترفت أنه قد وصل إليها مرة، بطل أن يكون عنينا. ش: كذا نص عليه أحمد في رواية ابن منصور وغيره، ولا نزاع في ذلك، إذا كان الوصول في الفرج في هذا النكاح، لتحقق قدرته على الوطء، أما لو كان الوصول في الدبر، أو في نكاح سابق، فوجهان (أحدهما) يزول، ويحتمله إطلاق الخرقي، وهو مقتضى قول أبي بكر، لقوله: إن العنين يختبر بتزويج امرأة من بيت المال، وذلك لأن العنة خلقة وجبلة، فلا تختلف باختلاف الأوقات والمحال (والثاني) وهو اختيار القاضي، وأبي الخطاب وأبي محمد وغيرهم، لا يزول، إذ الفسخ ثبت لها دفعا للضرر الحاصل لها بعدم وطئها في هذا النكاح في محل الوطء، فلا يزول بغير ذلك، لبقاء الضرر، ولعل هذين الوجهين مبنيان على تصور طريان العنة، وقد وقع للقاضي وابن عقيل أنها لا تطرأ، وكلامهما هنا يدل على طريانها، وقال ابن حمدان: إنه الأصح. وعموم كلام الخرقي يقتضي أن عنته تزول بالوصول إليها، وإن كان محرما، كما إذا وطئها، وهي حائض أو نفساء ونحو ذلك، وهو الصحيح من الوجهين، لتحقق قدرته على الوطء، والوجه

الآخر: لا تزول، كما لا تحصل به الإباحة للزوج الأول، ولو كان التحريم لأمر خارجي عن المحل، كما لو وطئها وهو في المسجد، أو وهو مانع لصداقها زالت به العنة قولا واحدا ذكره القاضي، وعكسه لو وطئها في حال الردة، لا تزول به العنة، ذكره القاضي في الجامع محل وفاق مع الشافعية. (تنبيه) والوطء الذي يخرج به من العنة في حق سليم الذكر غيبوبة الحشفة في الفرج، كسائر أحكام الوطء، وقيل يشترط إيلاج جميعه، إذ الحشفة قد تدخل بمعالجة، فلا يعلم دخولها باعتماد من الذكر، وفي حق مقطوع الذكر بقدر الحشفة، كما لو كان سليما، وقيل لا بد هنا من تغييب الباقي، قاله القاضي في الجامع، إذ لا حد هنا يعتبر، والله أعلم. قال: وإن جب قبل الحلول كان لها الخيار في وقتها. ش: يعني إذا أجلناه فجب ذكره قبل الحول، فلها الخيار في الحال، لأنه قد تحقق عجزه عن الوطء والحال هذه، فلا حاجة إلى انتظار الحول، وقد تقدم أن القاضي وغيره أخذوا من هذا ثبوت الخيار

بالعيب الحادث، قال أبو محمد: ويحتمل أن ثبوت الفسخ هنا بالجب الحادث لتضمنه مقصود العنة في العجز عن الوطء، بخلاف غيره من العيوب، والله أعلم. قال: وإن زعم أنه قد وصل إليها، وقالت: أنا عذراء أريت النساء الثقات، فإن شهدت بما قالت أجل سنة. ش: يعني إذا أنكر العنة، وادعى أنه وصل إليها، وقالت: أنا عذراء. فإنها ترى النساء، فإن شهدن بما قالت فالقول قولها، فيؤجل، لأنه قد ظهر كذب دعواه، وهل تجب عليها اليمين إن قال: أزلت بكارتها ثم عادت؟ فيه احتمالان، (أحدهما) - وبه قطع القاضي، وأبو الخطاب في الهداية، وأبو البركات وغيرهم - تجب، لأن ما ادعاه محتمل، (والثاني) - ويحتمله كلام الخرقي، وابن أبي موسى -: لا تجب، لأن ما يبعد جدا لا التفات إليه كاحتمال كذب البينة، وإن شهدت بزوال عذرتها فالقول قول الزوج، لتبين كذبها، فلا يؤجل، ولا يمين، حذارا من مخالفة الأصل، وهو وجوب اليمين مع البينة إلا إن قالت: زالت بغير ما ادعاه. وقول الخرقي: أريت النساء. المراد به الجنس، إذ يكتفى بامرأة في رواية مشهورة، وفي أخرى بامرأتين، والله أعلم.

قال: وإن كانت ثيبا وادعى أنه يصل إليها، أخلي معها، وقيل له: أخرج ماءك على شيء. فإن ادعت أنه ليس بمني، جعل على النار، فإن ذاب فهو مني، وبطل قولها، وقد روي عن أبي عبد الله قول آخر أن القول قوله مع يمينه. ش: (الأول) رواه مهنا، وأبو داود، وأبو الحرث وغيرهم، واختاره القاضي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافاتهم، والشيرازي، إذ بذلك يظهر صدقه أو صدقها، إذ الغالب أن العنين لا ينزل، فمع الإنزال يغلب على الظن كذبها، فيكون

القول قوله، ومع عدم الإنزال يظهر صدقها، فيكون القول قولها، ومع الإنزال إذا أنكرت أنه مني يختبر بجعله على النار، فإن ذاب فهو مني، إذ ذلك من علاماته، وإن يبس وتجمع فهو بياض بيض (والثاني) نقله ابن منصور، واختاره أبو محمد، والقاضي في روايتيه، لأنها تدعي عليه ما يقتضي فسخ العقد، والأصل عدمه، وبقاء النكاح، وتجب عليه اليمين على الصحيح. 2608 - لعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن اليمين على المدعي عليه» ، قال القاضي: ويتخرج أن لا يمين، بناء على إنكار الطلاق (وعنه رواية ثالثة) نقلها ابن منصور أيضا: القول قولها، إذ الأصل عدم الوطء، وتجب عليها اليمين على الصحيح أيضا، لما تقدم، وقيل: لا، بناء على أن لا استحلاف في غير المال. واعلم أن هذه الرواية الأخيرة خصها أبو البركات بما إذا ادعى الوطء بعد ما ثبتت عنته وأجل، لأنه انضم إلى عدم الوطء وجود ما يقتضي الفسخ، وجعل على هذه الرواية إذا ادعى الوطء ابتداء، وأنكر العنة القول قوله مع يمينه، وأطلقها جمهور الأصحاب، ولفظها يشهد لهم، قال: إذا ادعت المرأة أن زوجها لا يصل إليها استحلفت انتهى، وقال أبو بكر في التنبيه: يزوج امرأة من بيت المال، قال القاضي: لها دين، وقال أبو

نكاح الخنثى المشكل

محمد: لها حظ من الجمال: فإن ذكرت أنه قربها كذبت الأولى، وخيرت الثانية في الإقامة والفراق، ويكون الصداق من بيت المال، وإن كذبته فرق بينه وبين الأولى، وكان الصداق عليه في ماله. 2608 - م - واعتمد في ذلك على ما روي أن امرأة جاءت إلى سمرة فشكت أنه لا يصل إليها زوجها، فكتب إلى معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فكتب إليه أن زوجه امرأة ذات جمال، يذكر عنها الصلاح، وسق إليها المهر من بيت المال، فإن أصابها فقد كذبت، وإن لم يصبها فقد صدقت، ففعل سمرة ذلك، فجاءت المرأة فقالت: ليس عنده شيء. ففرق بينهما، والله أعلم. [نكاح الخنثى المشكل] قال: وإذا قال الخنثى المشكل: أنا رجل. لم يمنع من نكاح النساء، ولم يكن له أن ينكح بغير ذلك بعد، وكذلك لو سبق فقال: أنا امرأة لم ينكح إلا رجلا. ش: يرجع إلى الخنثى المشكل في التزويج، فإذا قال: أنا رجل. كان له نكاح النساء، وإن قال: أنا امرأة، كان له نكاح الرجال، على قول الخرقي، واختاره القاضي في الروايتين، لأن الله سبحانه أجرى العادة في الحيوانات بميل الذكر إلى الأنثى، وميلها إليه، وهذا الميل في النفس لا يطلع عليه غيره، فرجع فيه إليه، لتعذر معرفته من غيره، كما يرجع إلى المرأة في حيضها

وعدتها، ومنصوص أحمد في رواية الميموني أنه لا يزوج ولا يتزوج حتى يتبين أمره، واختاره أبو بكر، وابن عقيل، لأنه مشكوك في حله للرجال والنساء، فلم يحل نكاحه حتى يتبين أمره، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية، ولا تفريع على هذا أما على قول الخرقي فلو رجع عن قوله الأول، بأن قال: أنا رجل، ثم قال: أنا امرأة، أو بالعكس، فلا يخلو إما أن يكون متزوجا أو غير متزوج، فإن كان غير متزوج منع من نكاح الرجال والنساء، على ظاهر كلام أبي محمد في الكافي، واختاره أبو البركات، لأنه بإقراره مثلا أنه رجل أقر بتحريم الرجال عليه، ثم بقوله ثانيا: إنه امرأة أقر بتحريم النساء عليه. وظاهر كلام الخرقي والأصحاب أن له نكاح ما أبيح له أولا، ولا يعول على قوله بعد، وإن كان متزوجا انفسخ نكاحه من المرأة، لأن النكاح حق للرجل، وقد أقر بما يبطله، أشبه ما لو قال: هي أختي من الرضاع ولا ينفسخ نكاحه من الرجل، لأن النكاح والحال هذه حق عليه، فلا يقبل قوله في إسقاط حق الغير، قال ذلك الشيخان، وقال القاضي: إذا تزوج امرأة ثم عاد، أو بالعكس لم يقبل، ويجري الحكم في النكاح على القول

ما يحصل به الإحصان الذي يجب به الرجم

الأول، وعلله بأنه يتهم في رفع فراش الرجل إذا عاد فقال: أنا رجل، ويتهم في قصد فسخ النكاح، ليسقط عنه مهر المرأة إذا عاد فقال: أنا امرأة. وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب، وابن عقيل انتهى، وفي نكاحه لما يستقبل ما تقدم من قول الأصحاب، وقول أبي البركات والله أعلم. [ما يحصل به الإحصان الذي يجب به الرجم] قال: وإذا أصاب الرجل، أو أصيبت المرأة بعد الحرية والبلوغ بنكاح صحيح، وليس واحد منهما بزائل العقل، رجما إذا زنيا. ش: ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - هنا ما يحصل به الإحصان الذي يجب به الرجم بالزنا، وهو الإصابة، كأن يطأ الرجل المرأة في القبل، أو توطأ المرأة كذلك. 2609 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الثيب بالثيب الجلد والرجم» والثيابة إنما تحصل بالوطء في القبل، ويشترط في هذه الإصابة شروط (أحدها) أن تغيب الحشفة أو قدرها، إذ الأحكام إنما تترتب على ذلك، ولا تكفي الخلوة بلا خلاف، قاله أبو محمد (الثاني) أن يكون بعد الحرية والعقل، لأن الإحصان كمال، فيشترط أن يكون في حال الكمال، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل على الثيب الرجم، فلو حصل الإحصان بذلك لجاز رجم العبد

والمجنون، ولا يجوز (الثالث) أن يكون بعد البلوغ على الصحيح المعروف لما تقدم، وعن ابن أبي موسى: يتحصن البالغ بوطء المراهقة، وتتحصن البالغة بوطء المراهق، لأن ما قارب الشيء أعطي حكمه (الرابع) أن يكون بنكاح، فلا إحصان لواطئ بشبهة، أو ملك يمين ونحو ذلك إجماعا، إذ النعمة إنما تكمل بالوطء بذلك، ويشترط في النكاح أن يكون صحيحا، إذ الفاسد ليس بنكاح شرعي. (تنبيه) يشترط أن تكون الموطوءة مثل الواطئ في الكمال، فيطأ الحر المكلف حرة مكلفة فلو وطئ الحر المكلف بنكاح صحيح رقيقة أو مجنونة فلا إحصان لهما، والله أعلم. قال: والكافر والمسلم الحران فيما وصفت سواء. ش: يعني أنه لا يشترط للإحصان الإسلام، بل يحصل الإحصان للذميين، كما يحصل للمسلمين، بالشروط السابقة. 2610 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم اليهوديين اللذين زنيا، اقتداء بقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] فدل على أنهما قد أحصنا، فتحصن الذمية زوجها المسلم، كما تحصن الذمي، على

المذهب المشهور لما تقدم، (وعنه) لا تحصنه، لأنها أنقص منه، فأشبهت الرقيقة. (تنبيه) كثير من الأصحاب يفرض المسألة في الذمي، وبعضهم زاد معه المستأمن، وهو واضح، لأن له ذمة، وكلام الخرقي يشمل كل كافر، وتبعه على ذلك أبو البركات، ولعله أمشى على قولهم أن حكم نكاح الكفار حكم نكاح المسلمين، وقال ابن حمدان: والمجوسي لا يتحصن بوطء ذات رحمه المحرم. والله أعلم.

كتاب الصداق ش: الصداق العوض الواجب في عقد النكاح أو ما قام مقامه، فالواجب يشمل المسمى ومهر المثل، إن لم يكن مسمى، وما قام مقام النكاح، ليدخل وطء الشبهة، وله ثمانية أسماء (الصداق) ، (والنحلة) ، قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] (والأجر) (والفريضة) ، قال الله سبحانه: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] . 2611 - (والمهر) قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها» . 2612 - (والعلائق) يروى «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أدوا العلائق؟» قالوا: يا رسول الله وما العلائق؟ قال: «ما يرضى به الأهلون»

(والعقر) بضم العين، وسكون القاف. 2613 - قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لها عقر نسائها. (والحباء) ممدودا بكسر الحاء، قال الشاعر: أنكحها فقدها الأراقم في ... جنب وكان الحباء من أدم والأصل في مشروعيته الإجماع، وقد دل عليه ما تقدم من

الآيتين، وقَوْله تَعَالَى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] الآية. 2614 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى عبد الرحمن بن عوف وعليه ردع من زعفران، فقال: «مهيم؟» فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة، قال: «ما أصدقتها؟» قال: وزن نواة من ذهب» . رواه الجماعة. (تنبيه) : (ردع) فتح الراء، وسكون الدال المهملتين، أي لطخ وأثر لم يعمه كله، وروي: درع (ومهيم) بفتح الميم كلمة يمانية، أي ما هذا وما شأنك؟ (ووزن نواة) اسم لما زنته خمسة دراهم، ذهبا كان أو فضة، كالأوقية للأربعين على الأشهر، وقيل: كانت قدر نواة من ذهب قيمتها خمسة دراهم ونصف، وقيل ثلاثة دراهم وربع، وقيل: ربع دينار. والله أعلم.

مقدار الصداق وما يشترط فيه

[مقدار الصداق وما يشترط فيه] قال: وإذا كانت المرأة بالغة رشيدة أو صغيرة عقد عليها أبوها بأي صداق اتفقوا عليه فهو جائز، إذا كان شيئا له نصف يحصل. ش: وضع هذه المسألة أن الصداق يجوز بما اتفقوا عليه من قليل أو كثير، ولا يتقدر أقله بعشرة دراهم ولا غيرها، ولا أكثره، (أما الأول) فلما تقدم من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولظاهر قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] والدرهم والدرهمان مال، فيدخل في الآية الكريمة. 2615 - وعن عامر بن ربيعة أن «امرأة من بني فزارة تزوجت على نعلين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أرضيت من نفسك بنعلين؟» قالت: نعم. فأجازه رسول الله» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رواه أحمد وابن ماجه، والترمذي وصححه.

2616 - وعن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعطى في صداق امرأة ملء كفيه سويقا أو تمرا فقد استحل» رواه أبو داود وغيره. 2617 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي أراد أن يتزوج الموهوبة: «التمس ولو خاتما من حديد» ، ومعلوم أن الخاتم الحديد لا يساوي عشرة دراهم، وحمله على خاتم من حديد صيني يساويها، حمل للفظ على معناه النادر دون المعتاد، لا سيما والتنكير في مثل هذا المقام للتقليل، لكن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يشترط أن يكون له نصف يحصل، فلا يجوز على فلس ونحوه، حذارا من أن

يبتغي بغير مال، كما إذا طلقها قبل الدخول، وتبعه على ذلك ابن عقيل في الفصول، وأبو محمد، وفسره بنصف يتمول عادة، وليس في كلام أحمد هذا الشرط، وكذا كثير من أصحابه، حتى بالغ ابن عقيل في ضمن كلام له، فجوز الصداق بالحبة والتمرة التي ينتبذ مثلها ولا يعرف. وأما (الثاني) فلظاهر قول الله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] الآية. 2618 - قال أبو صالح: القنطار مائة رطل، وهو عرف الناس اليوم. 2619 - وقال أبو سعيد الخدري: ملء مسك ثور ذهبا. 2620 - وعن مجاهد: سبعون ألف مثقال.

2621 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أصدق أم كلثوم ابنة علي أربعين ألفا، رواه أبو حفص، مع أن هذا إجماع حكاه ابن عبد البر وغيره، لكن الأولى تقليل المهر وتخفيفه. 2622 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة» رواه أحمد. 2623 - وعن أبي العجفاء، قال: لا تغالوا بصدق النساء، فإنه لو

كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله، كان أولاكم بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما أصدق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأة من نسائه، ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية. رواه الخمسة، وصححه الترمذي. وكماله عشرة دراهم، على ظاهر كلام القاضي أبي يعلى الصغير، خروجا من الخلاف، واتفق الكل على أن المستحب أن لا يزيد على صداق أزواج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبناته، تأسيا به، وطلبا لبركته والاقتداء به، وهو من أربع مائة درهم إلى خمس مائة، لما تقدم عن عمر. 2624 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: سألت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كم كان صداق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشا، قالت: أتدري ما

النش؟ قلت: لا. قالت: نصف أوقية، فتلك خمسمائة درهم، هذا صداق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأزواجه. رواه مسلم، وكلام أحمد في رواية حنبل يقتضي أنه بلغه أن صداق بنات النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعمائة درهم. وقد تضمن كلام الخرقي أن من شرط صحة التسمية الرضى ممن هو معتبر منه، ولا نزاع في ذلك، قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} [النساء: 24] . 2625 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «العلائق ما تراضى عليه الأهلون» ثم إن كان العاقد الأب وهي صغيرة فالرضى منوط به، وإن كانت بالغة رشيدة اعتبر رضاها، نعم للأب أن يزوجها بدون صداق مثلها، كما تقدم في أول كتاب النكاح، والله أعلم.

(تنبيه) وجوب المهر في ابتداء النكاح هل هو حق لله تعالى أو للآدمي؟ فيه وجهان: (أحدهما) : أنه حق للآدمي، قاله القاضي في التعليق، في ضمن مسألة أقل الصداق، وفي تزويج الدنيء بغير مهر، وفي فساد المهر، وهو قول كثير من أصحابه في الخلاف، وبنوا عليه تزويج عبده من أمته ولا مهر، وذلك لأنه يسقط بالعفو بعد وجوبه، ولو كان حقا لله تعالى لما سقط. (والثاني) : أنه حق لله تعالى، قاله القاضي أبو يعلى الصغير، وابن عقيل في موضع، وهو قياس المنصوص في وجوب المهر فيما إذا زوج عبده من أمته، وذلك لأنه يجب مهر المثل للمفوضة، وإن رضيت بسقوطه، وهذا هو مأخذ المفوضة عند القاضي أبي يعلى الصغير، والقاضي يجيب عن ذلك بأنه إسقاط للحق قبل وجوبه فلذلك لم يسقط، والله أعلم. قال: وإذا أصدقها عبدا بعينه، فوجدت به عيبا فردته به كان لها عليه قيمته. ش: إذا أصدقها عبدا بعينه - كأن قال: تزوجتك على هذا العبد، فوجدت به عيبا، فإن لها رده وإن كان العيب يسيرا، بلا نزاع بين أصحابنا فيما نعلم، كالمبيع المعيب، فإذا ردته فلها قيمته صحيحا، لأنها قد رضيت ببذل نفسها بذلك، لا بما دونه، ولو كان الصداق مثليا والحال هذه، فردته فلها مثله،

فإن اختارت الإمساك وأخذ الأرش كان لها ذلك على المشهور، كالمبيع المعيب، ونقل عنه مهنا ما يدل على أنه لا أرش مع الإمساك، وأظن هذا أصل الرواية المذكورة في البيع، ولعله ظاهر كلام الخرقي هنا، وذلك لأن الأرش زيادة في الصداق لم يلتزمها الزوج، ولا رضي بها، والأرش هنا والله أعلم قيمة الجزء الفائت، ولو كان الصداق على عبد في الذمة، فسلمه لها فوجدت به عيبا، فالواجب إبداله لا أرش ولا قيمة، لأنا قد تبينا أنه قد سلم غير الواجب عليه، فالواجب باق في ذمته، فيجب دفعه، ووقع لأبي محمد في عوض الكتابة إذا بان معيبا أنه يخير بين الرد، والإمساك مع الأرش، وعوض الكتابة إنما يكون في الذمة، وهو سهو، والله أعلم. قال: وكذلك إن خرج حرا أو استحق، سواء سلمه إليها أو لم يسلمه. ش: كذلك إذا تزوجها على عبد بعينه فخرج حرا، أو استحق بأن بان غصبا ونحو ذلك، فإن لها قيمته، لأنه قد تعذر تسليمه، فوجب الرجوع إلى بدله، إذ البدل يقوم مقام المبدل عند تعذره، وتعتبر القيمة يوم التزويج، قاله القاضي في التعليق.

وقد تضمن كلام الخرقي صحة النكاح، ولا نزاع في ذلك، وتضمن كلام الخرقي أيضا وكلام الأصحاب والإمام أنها إذا ردت الصداق بالعيب في المسألة السابقة، أو خرج حرا أو مغصوبا أنها لا ترجع في مقابله وهو نفسها، فيفسخ النكاح، ولا يجب لها بدل ذلك، وهو مهر المثل، وعلل بأنها رضيت بما سمي لها، فلا ترجع إلا إلى بدله، وقد يقال: إن قاعدة المعاوضات خلاف هذا، لأنها متى فسخت في الثمن وتعذر الرجوع في العين المبيعة، فإنها ترجع ببدلها، لا ببدل الثمن، وذلك كما إذا بيع عبد بثوب بشرط الخيار ثلاثا فأعتق المشتري العبد أو تلف، وفسخ البائع البيع في الثوب، على إحدى الروايتين، فإنه يرجع ببدل العبد، لا بقيمة الثوب، وقياس هذا هنا أنه يرجع بمهر المثل، وقد يجاب عن هذا بأن ثم إنما وجب بدل العبد، لا بدل الثوب، لأن العقد انفسخ، ومع الانفساخ يرجع كل واحد منهما إلى ما خرج عنه، وقد تعذر الرجوع في العبد، فيرجع ببدله لمكان العذر، وليس هنا كذلك، إذ العقد لا ينفسخ بذلك، لأنه لا يفسد بفساد الصداق، ولا بعدمه، فبكونه معيبا أولى، وغايته أنه قد عدم الصداق في العقد، وذلك لا يفسده، وأبو العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ - في بعض قواعده ينازع في هذا الأصل، ويختار أن للمرأة الفسخ، كما للبائع والمؤجر الفسخ مع العيب، والرجوع في العين المبيعة والمؤجرة، والجامع أنه عقد

معاوضة، بل هنا أولى، إذ المال والمنفعة يجوز بذلهما بغير عوض، أما النكاح فلا يجوز إلا بصداق، ولأن للمرأة الفسخ إذا ظهر الزوج معسرا قبل الدخول، كما لو ظهر معسرا بالثمن، فلها الفسخ إذا بان عيبه، أو ظهر معيبا بل أولى، ألا ترى أن العيب يثبت الفسخ في المبيع بالإجماع، وفي الإفلاس بالثمن بعد القبض نزاع، والبدل يقوم مقام المبدل في الاتلافات لتعذر الأصل، أما في العقود فالمقصود العين، فإذا لم تحصل فات الرضى المشروط، والقول بأن الصداق تابع لا مقصود لا يجدي، فإن الله سبحانه عظم شأن الصداق في كتابه، وأمر بإيتائه، وعلق الحل عليه، ونهى عن أخذ شيء منه إلا عند تعدي الحدود، فشأنه أعظم من شأن الثمن والأجرة، والوفاء به أوجب. 2626 - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» والله أعلم. قال: وإذا تزوجها على أن يشتري لها عبدا بعينه، فلم يبع، أو طلب به أكثر من قيمته، أو لم يقدر عليه فلها قيمته.

ش: هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الأثرم، وقاله القاضي، وأبو محمد وغيرهما، (وهو دال بتضمنه) على أن التسمية صحيحة إذا، غايته وقصاراه أنه أصدقها ملك الغير، وذلك لا يمنع الصحة، كما لو تزوجها على عبد فخرج حرا، ولأن هذا غرر يسير فيحتمل، إذ المعاوضة في الصداق ليست بمحضة، إذ المقصود الأعظم إنما هو الوصل والاستمتاع، ومقتضى كلام أبي بكر - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هذه التسمية لا تصح، قال في مقنعه: النكاح كالبيع، لا يصح إلا على معلوم كالبيع، وذلك، لأنه عقد معاوضة، فأشبه البيع، (ودل بمنطوقه) على أنه متى لم يبع العبد سيده أو طلب فيه أكثر من قيمته، أو لم يقدر عليه لإباقه أو غير ذلك أن لها قيمته، لما تقدم في التي قبلها، وفيه البحث السابق في وجوب مهر المثل، وفي فسخ النكاح، وقد يقال في الزيادة اليسيرة غير المجحفة: يلزم الشراء كما في نظائره. ومقتضى كلام الخرقي أنه لو قدر على الشراء فبذل القيمة لم يلزمها القبول، وهو اختيار أبي محمد، وقيل: يلزمها، ولعله بناء على ما إذا أصدقها عبدا موصوفا وجاءها بقيمته، والله أعلم. قال: وإذا تزوجها على خمر أو ما أشبهه من المحرم وهما مسلمان ثبت النكاح، وكان لها مهر المثل أو نصفه إن كان طلقها قبل الدخول.

ش: إذا تزوجها على خمر أو ما أشبهه من المحرم، كالخنزير والميتة، والحال أنهما مسلمان، فالنكاح صحيح ثابت، على المشهور من الروايتين، والمختار لجمهور الأصحاب، الخرقي وابن حامد والقاضي، والشريف وأبي الخطاب، وابن عقيل وأبي محمد وغيرهم، حتى بالغ القاضي وأبو محمد فحملا الثانية على الاستحباب، وذلك لإطلاق «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» ظاهره الصحة وإن كان المهر فاسدا، ولأن فساده لا يزيد على عدمه، ولو عدم صح النكاح، فكذلك إذا فسد، ولأن النكاح قد يخلو عن مهر، بدليل تزويج عبده من أمته، على اختيار القاضي، وكثير من أصحابه، وتزويج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإذا انفرد عنه صح وإن فسد الصداق كالعقدين، (والرواية الثانية) : لا يصح، اختاره الخلال وصاحبه، والجوزجاني، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24] فجعل سبحانه الحل بالمال، وما ذكر ليس بمال، ولأن النكاح لا بد فيه من مهر، وما رضيا به لا يصح مهرا، وما جعله الشارع وهو مهر المثل لم يرضيا به، حيث سميا مهرا، وإذا يبطل، وتزويجه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من خصائصه، وتزويج عبده من أمته ممنوع، على

المنصوص، ولا تفريع على هذه الرواية، أما على الأولى فيجب لها مهر المثل، لتعذر المسمى، والرجوع في البضع، وإذا ينزل منزلة التالف، فتجب قيمته، وهو مهر المثل، كالمبيع المقبوض بعقد فاسد، وخرج ابن أبي موسى قولا أنه يجب مثل المثلي، وقيمة غيره، بناء على ما إذا جهلا ذلك، ونظرا إلى أن الرضى شيء رضي ببدله، وهذا اختيار أبي العباس، وظاهر إطلاق أحمد في رواية الأثرم إذا تزوج على شيء بعينه، فطلب ذلك الشيء فلم يقدر عليه، إما مملوك فأعتقوه أو رفعوا في ثمنه، وبلغوا به، فلها قيمته، فقيل له: ولا يكون لها صداق مثلها؟ فقال: كيف وقد تزوجت على شيء بعينه، إنما ذلك إذا تزوجها على حكمها فاختلفا؟ انتهى، ولو طلقها والحال هذه قبل الدخول وجب نصف مهر المثل لا المتعة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، والخلاف فيه. وقول الخرقي: وهما مسلمان. يحترز به عما إذا كانا كافرين، وقد تقدم له ذلك في نكاح أهل الشرك، وقوله: على خمر أو ما أشبهه من المحرم. يحتمل: وما أشبه الخمر من محرم تحريمه لحق الله تعالى، كالخنزير والحر، فيخرج ما إذا كان تحريمه لحق الآدمي، كالمال المغصوب ونحوه، فإنه يصح بلا نزاع، وهذا اختيار

الشيخين، وبالغ أبو محمد فحكى الاتفاق عليه، ويحتمل: وما أشبه الخمر في التحريم، فيدخل ما تقدم، وبهذا صرح أبو بكر في التنبيه، وابن أبي موسى، وابن عقيل، وأبو الخطاب وغيرهم، وهو مقتضى نص أحمد الذي أخذ منه البطلان في الأصل، ومما يتبع أن الصداق لو فسد بجهالة أو عدم لا يفسد النكاح، وهو المعروف، حتى قال جماعة: رواية واحد، وشذ الشاشي في الحلية فحكى عن أحمد أن النكاح يفسد بجهالة العوض، وهو مقتضى إطلاق أبي عبد الله ابن تيمية، حيث قال: فإن فسد الصداق لم يؤثر في النكاح، على المشهور من الروايتين. (تنبيه) محل الخلاف فيما إذا علما بذلك، أما إن جهلاه فإن النكاح يصح، قاله ابن أبي موسى والقاضي، والشيخان وغيرهم، والله أعلم. قال: وإن تزوجها على ألف لها، وألف لأبيها، كان ذلك جائزا، فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الألفين، ولم يكن على الأب شيء مما أخذ. ش: إذا تزوجها على ألف لها، وألف لأبيها، جاز ذلك، ولزم الشرط والعقد، نص على هذا أحمد، معللا بأن له أن يأخذ من

مال ابنه ما شاء، وهو المذهب عند الأصحاب، القاضي، وابن عقيل، وأبي الخطاب، والشيخين وغير واحد، وذلك لقصة شعيب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فشرط الصداق رعي غنمه، وذلك شرط لنفسه، وإذا جاز اشتراط كل الصداق فبعضه أولى، وشرع من قبلنا شرع لنا، ما لم يرد نسخه. 2627 - وأيضا عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج» . 2628 - «المسلمون عند شروطهم» . 2629 - ثم يستدل على صحة هذا الشرط بخصوصه بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت ومالك لأبيك» وإنما يكون الابن لأبيه بمعنى أن منفعته

له، ومن له المنفعة له أن يستوفيها بنفسه وبغيره، والقول بأن المال لا يتبعه حتى يقبضه، يجاب عنه بأن ثبوت الولاية هنا على الأبضاع بمنزلة القبض، وحكى أبو عبد الله ابن تيمية رواية أخرى: يبطل الشرط، وتصح التسمية، وقيل: يبطل ويجب مهر المثل. وعلى المذهب إذا قبضا الألفين ووجد الطلاق قبل الدخول رجع عليها بنصف الألفين، إذ الطلاق قبل الدخول يوجب ذلك ولا شيء على الأب للزوج، لأنه إنما أخذ من مال ابنته، ولا للبنت إذ ما انتفع به من مال ولده لا يضمنه. ومقتضى كلام الخرقي أن غير الأب ليس له ذلك، وهو صحيح، فلا يصح اشتراطه، ويكون الجميع لها على المذهب، وقيل: تبطل التسمية، ويجب لها مهر المثل، وعموم كلام غيره يقتضي أنه يصح اشتراط الأب في جميع أحوال البنت، وظاهر إطلاقه أنه لا يشترط لجواز اشتراط الأب فيما تقدم أن لا يكون الأخذ مجحفا بمال ابنته، وهو ظاهر إطلاق أحمد، والقاضي في

تعليقه، وأبي الخطاب وطائفة، وشرط ذلك القاضي في المجرد، وابن عقيل وأبو محمد في المغني، وأشار أبو العباس إلى ضعف ذلك، بأنه لا يتصور الإجحاف، لعدم ملكها له، وعلى ما في المجرد ومتابعيه إذا لم يوجد الشرط حكم الأب إذا حكم الأجنبي. (تنبيهان) أحدهما: حكم اشتراط الأب للكل حكم اشتراطه للبعض، قاله القاضي وغيره، فلو وجد الطلاق والحال هذه قبل الدخول وبعد القبض، رجع عليها بنصف المسمى إذ أخذ الأب إنما هو من مالها، قاله القاضي، ولأبي محمد احتمال أنه يرجع على الأب بنصف ما أخذ، وهكذا الخلاف لو ارتدت في مسألة الخرقي، هل يرجع على الأب بألف أو عليها بالمجموع؟ على القولين. الثاني: يملك الأب ما اشترطه بنفس العقد، كما تملك هي، حتى لو مات قبل القبض ورث عنه، لكن يقدر فيه الانتقال إلى الزوجة أولا، ثم الانتقال إليه كأعتق عبدك عن كفارتي، ذكر ذلك ابن عقيل في العمد، وعند القاضي وأبي محمد إنما يملك ذلك بالقبض مع النية وضعف بأنه يلزم منه بطلان خصيصة هذه المسألة، ويتفرع من هذا على قول أبي محمد لو وجد الطلاق قبل القبض، فللأب أن يأخذ من الألف التي استقرت ما شاء،

والقاضي يجعل الألف بينهما نصفين، كجملة الصداق، والله أعلم. قال: وإذا أصدقها عبدا صغيرا فكبر، ثم طلقها قبل الدخول، فإن شاءت دفعت إليه نصف قيمته يوم وقع عليه العقد، أو تدفع إليه نصفه زائدا، إلا أن يكون يصلح صغيرا لما لا يصلح له كبيرا، فيكون له عليها نصف قيمته يوم وقع عليه العقد، إلا أن يشاء أخذ ما بذلته له من نصفه. ش: اعلم أنه قبل الخوض في كلام الخرقي نشير إلى قواعد: (أحدها) : أن المذهب المنصوص المعروف المجزوم به عند الأكثرين أن المرأة تملك الصداق جميعه بالعقد. 2630 - لظاهر قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في قصة الموهوبة: «إزارك إن أعطيتها جلست ولا إزار لك» وأيضا قول الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وظاهره الأمر بإيتاء الجميع ولأنه عقد يملك به المعوض بالعقد، فملك به العوض كاملا كالبيع. وحكى القاضي وطائفة من متابعيه رواية أنها لا تملك إلا نصفه، وأخذها القاضي في تعليقه وغيره من رواية ابن منصور وقيل له: سئل سفيان عن رجل تزوج امرأة على خادم، ثم زوجها غلامه فولدت أولادا فطلق امرأته قبل الدخول، فلها نصف قيمتها وقيمة ولدها، قال أحمد: جيد. قال القاضي: وظاهر هذا أنه

لم يحكم لها بملك جميعه، لأنه جعل لها نصف النماء، ولا تفريع على هذه الرواية، مع أن أبا البركات لم يعرج عليها، بل ظاهر كلامه إجراؤها على ظاهرها، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. (القاعدة الثانية) : إذا زادت العين المصدقة فلا يخلو إما أن تكون الزيادة متصلة، كالسمن وتعلم صناعة، أو منفصلة كالولد والكسب، فإن كانت متصلة فالمرأة مخيرة بين دفع النصف زائدا، فيكون ذلك إسقاطا لحقها من الزيادة، ويلزم الزوج القبول، لحصول حقه مع زيادة لا تضر ولا تتميز، وبين دفع نصف القيمة إذ الزيادة لها، لأنها نماء ملكها، فلا يلزمها بذلها، وإذا تعذر دفع الأصل فيصار إلى القيمة، وخرج أبو البركات رواية بوجوب دفع النصف بزيادته، من الرواية الآتية في الزيادة المنفصلة، وهو واضح، وقد يقال: إنه قياس البيع ونحوه، وقد أولع الفقهاء بقولهم: إن الزيادة المتصلة تتبع في الفسوخ والعقود، وقد فرق أبو محمد بين هذا والبيع بأن سبب الفسخ ثم العيب، وهو سابق على الزيادة، وسبب تنصف المهر الطلاق، وهو حادث بعد الزيادة، وبأن الزوج ثبت حقه في نصف المفروض دون العين، ولهذا لو وجدها ناقصة كان له الرجوع إلى نصف مثلها أو قيمتها، بخلاف المبيع المعيب، والمفروض لم يكن زائدا،

فلم يتعلق حقه به، والمبيع تعلق حقه بعينه، فتبعته زيادته، ويعترض على الأول بأنه لا أثر لتقدم السبب، إذ الفسخ للعقد من حينه على المذهب، فهو كالطلاق رفع للنكاح من حينه، وعلى الثاني بأن نصف المفروض هو نصف عين ما أصدقها، فحقه في الحقيقة تعلق بنصف العين، وكونه إذا وجدها ناقصة له الرجوع إلى نصف مثلها أو قيمتها ممنوع، بل الرجوع في ذلك وأخذ الأرش على ما سيأتي، وقد يفرق بأن في البيع لما اختار المشتري الفسخ، من غير أن يمكنه أخذ الزيادة، فقد رضي بإسقاطها، بخلاف هنا، فإن الفسخ جاء للمرأة بغير اختيارها، فلا يجب عليها بذل ملكها بغير رضاها، وقد يعترض على هذا بما إذا كان الفسخ من جهتها. واعلم أن محل التخيير إذا كانت المرأة جائزة التبرع في مالها، فإن لم تكن كالصغيرة والسفيهة والمفلسة تعين للزوج نصف القيمة، يشارك في الفلس الغرماء، لامتناع التبرع من جهتها. وإن كانت الزيادة منفصلة - كالولد الحادث بعد النكاح، والثمرة ونحو ذلك - فالزيادة للمرأة، وللزوج نصف الأصل، لأنها نماء ملكها، ولأن الله سبحانه وتعالى إنما جعل للزوج نصف المفروض، والنماء ليس مفروضا، وحكى أبو البركات رواية أن الزوج يرجع بنصف الزيادة، وكأنه أخذها من رواية ابن منصور المتقدمة، وقد تعلل بأن الطلاق رفع للعقد من أصله تقديرا،

وليس بشيء، ولعل الرواية التي في البيع أخذت من هنا، وفي هذه الرواية بحث ليس هذا موضعه، وبالجملة أبو محمد يستثني من النماء المنفصل ولد الأمة، فلا يجوز للزوج الرجوع في نصف الأمة، حذارا من التفريق في بعض الزمان، وظاهر كلام جماعة من الأصحاب وصرح به القاضي في التعليق عدم الاستثناء. (القاعدة الثالثة) : إذا نقص الصداق بعد القبض، ثم طلقت قبل الدخول فإن الزوج يخير بين أخذه ناقصا، وبين أخذ نصف قيمته، لأنه إن اختار أخذه فقد رضي بإسقاط حقه، وله ذلك، وإن اختار نصف القيمة فله ذلك، لأن في قبوله ناقصا ضرر عليه، وإنه منفي شرعا، وإذا اختار أخذ النصف ناقصا فهل له أرش النقص - وهو مختار القاضي في تعليقه، كالمبيع المعيب، أو لا أرش له كواجد متاعه عند المفلس، وهو اختيار الأكثرين؟ فيه قولان. إذا تقرر هذا فقول الخرقي: إذا أصدقها عبدا صغيرا فكبر، ثم طلقها قبل الدخول، فإن شاءت دفعت إليه نصف قيمته يوم وقع عليه العقد، أو تدفع إليه نصفه زائدا. مبني على أنها ملكت الصداق بالعقد، وإذا الزيادة حدثت على ملكها،

فتخير بين دفع النصف زائدا وبين دفع نصف قيمته، لكن متى تعتبر القيمة؟ اعتبرها الخرقي - وتبعه أبو محمد في الكافي والمغني، وابن حمدان وأطلقوا - بيوم العقد، وحرر ذلك أبو البركات فجعل ذلك في المتميز إذا قلنا على المذهب يضمنه بالعقد، وعلى هذا يحمل قولهم، إذ الزيادة في غير المتميز صورة نادرة، ولذلك علل أبو محمد بأن ضمان النقص عليها، فعلم أن كلامه في المتميز، وجعل غير المتميز أو المتميز إذا قيل ضمانه على الزوج الواجب قيمة نصفه يوم الفرقة على أدنى صفاته من يوم العقد إلى يوم القبض، لأن ما نقص بعد العقد والحال هذه فهو على الزوج، وما زاد فهو لها، ثم إن أبا البركات أوجب القيمة يوم الفرقة بصفته وقت العقد، لأنه وقت الاستحقاق، وكلام الخرقي يقتضي وجوب القيمة يوم العقد بصفته إذ ذاك، ولأبي البركات تحرير آخر، وهو أن الواجب قيمة النصف، لأن الله سبحانه جعل له نصف المفروض، وإذا تعذر رجع في بدله، وهو نصف قيمته، والخرقي وجماعة جعلوا الواجب نصف القيمة. انتهى. وقوله: إلا أن يكون يصلح صغيرا لما لا يصلح له كبيرا، فيكون له نصف قيمته يوم وقع عليه العقد، إلا أن يشاء أخذ ما بذلته له من نصفه، مبني على القاعدة الثالثة، وهي ما إذا تعيب

حكم الاختلاف في مقدار الصداق

الصداق، فإذا كان العبد يصلح صغيرا لشيء لا يصلح له كبيرا، كما إذا كان يقبل تعليم صناعة ونحوها وبالكبر امتنع ذلك منه، فإنه قد تعيب فيخير الزوج بين أخذ نصف قيمته، وبين أخذ ما بذلته له من نصفه، واعتبر الخرقي أيضا القيمة بيوم العقد، واعتبرها القاضي بيوم القبض، وفصل أبو البركات التفصيل السابق، فكأنه حمل كلام القاضي على غير المتميز، وكلام الخرقي يقتضي أن المرأة لها الامتناع من بذل النصف والحال هذه، ولم أره لغيره ولا قاعدة المذهب تقتضيه، إذ الواجد متاعه معيبا عند المفلس له الرجوع فيه، ولا يتوقف ذلك على رضى الغرماء مع أنه إنما جاز له الانتقال إلى القيمة دفعا للضرر عنه، فإذا رضي بالضرر فحقه في العين بحاله، والله أعلم. [حكم الاختلاف في مقدار الصداق] قال: ولو اختلفا في الصداق بعد العقد في قدره، ولا بينة على مبلغه، كان القول قولها ما لم يجاوز مهر مثلها. ش: هذا إحدى الروايات، واختيار عامة الأصحاب، الخرقي، والقاضي، والشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل، والشيرازي، وغيرهم، لأن القول قول من الظاهر في جنبته، والظاهر والحال هذه في جنبة المرأة، لأن الظاهر وقوع النكاح على مهر المثل، وعلى هذه لو ادعت هي أكثر من مهر المثل، وادعى الزوج مهر المثل أو أزيد منه وأنقص منها، فالقول قوله، ولم يذكر أحمد اليمين،

فخرج أصحابه في وجوبها وجهين، بناء على أنه دعوى فيما يتعلق بالنكاح، مع كونه مالا، فمن نظر إلى المال أوجب اليمين، ومن نظر إلى أن النكاح غير مال لم يوجبها، وهذا قول القاضي أظنه في المجرد، والأول اختيار أبي الخطاب في الهداية وأبي محمد، وبه قطع أبو الخطاب والشريف في خلافيهما، ولو كان دعوى الزوج أقل من مهر المثل، ودعواها أكثر من مهر المثل، رد إليه وهل تجب اليمين إن أوجبناها فيما تقدم؟ ظاهر كلام الأكثرين لا، وكذلك قال أبو محمد، ولم يذكر أصحابنا يمينا. قلت: وقد صرح بذلك أبو الخطاب في خلافه الصغير، وهو مقتضى ما حكاه عن شيخه في الهداية، وذلك لأن اليمين على حسب الدعوى، وكل منهما لا يستحق ما ادعاه، فلا يحلف عليه، وقال في المغني والأولى أن يتحالفا، وكذلك قال في الكافي: ينبغي أن يحلف الزوج على نفي الزائد عن مهر المثل، وتحلف هي على إثبات ما نقص منه، وهذا مقتضى قول أبي الخطاب في الهداية. (والرواية الثانية) : القول قول الزوج مع يمينه، لأنه منكر، فيدخل في عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «واليمين على من أنكر» . (والرواية الثالثة) - حكاها

الشيرازي - يتحالفان، لأنه اختلاف في عوض، بمستحق عقد ولا بينة، فيسوغ التحالف كالمتبايعين. وقول الخرقي: بعد العقد. للتنصيص على مخالفة مذهب مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله: إن التخالف إن كان قبل الدخول تحالفا وتفاسخا، وبعده القول قول الزوج، وقوله: في قدره، احترازا مما إذا اختلفا في عينه، كما إذا قال: أصدقتك هذا العبد. قالت: بل هذه الأمة. والحكم فيه أنه على الخلاف السابق، إلا أن الواجب القيمة، لا شيء من المعينين، على أحد الوجهين، وهو مقتضى احتراز الخرقي، وأورده أبو البركات مذهبا، لأنه إن أخذ بقول الزوج فيلزم من إيجاب معينه أن يدخل في ملكها ما لم تدعه، وإن أخذ بقولها فإنما قبل قولها في المهر لموافقة الظاهر، وذلك أجنبي عن التعيين. (والثاني) : إن كان معين المرأة أعلى قيمة وهو كمهر المثل أو أقل، وأخذنا بقولها أعطيته، لأنه لما قبل قولها في القدر تبعه التعيين، والله أعلم.

الحكم لو تزوجها بغير صداق

قال: وإن أنكر أن يكون لها عليه صداق فالقول أيضا قولها قبل الدخول وبعده ما ادعت مهر مثلها إلا أن يأتي ببينة ببراءته منه. ش: لأنها منكرة، والأصل معها، والقول قول المنكر، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» ، والقول قول مدعي الأصل، وقول الخرقي: قبل الدخول وبعده، احترازا من قول مالك والفقهاء السبعة: إن كان بعد الدخول فالقول قول الزوج، وقوله: ما ادعت مهر مثلها. بناء على ما تقدم له، والله أعلم. [الحكم لو تزوجها بغير صداق] قال: وإذا تزوجها بغير صداق لم يكن لها عليه إذا طلقها قبل الدخول إلا المتعة. ش: قد تقدم للخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا تزوجها على محرم كالخمر ونحوه، ثم طلقها قبل الدخول أن لها عليه نصف المهر، وقال: فيما إذا فقد الصداق أن لها عليه المتعة فقط، وهذا إحدى الروايات عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار أبي محمد، والشيرازي،

لقول الله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [البقرة: 236] نفى سبحانه الجناح من جهة الفرض عن التي لم تمس إلا أن يفرض لها فريضة، وأوجب لها المتعة، ثم أوجب بعد للمفروض لها نصف المفروض، وإطلاق الآيتين يشمل من فرض لها مطلقا، إلا أنه لما لم يمكن إعطاء نصف المفروض في التسمية الفاسدة، وجب نصف بدله، وهو نصف مهر المثل. (والرواية الثانية) لا يجب إلا المتعة في الصورتين، وهو اختيار الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وأبي البركات، إذ التسمية الفاسدة وجودها كالعدم، فهي كمن لم يفرض لها، فلا يجب لها إلا المتعة لما تقدم. (والرواية الثالثة) : وهي أضعفها يجب نصف مهر المثل فيهما، وظاهر الآي يخالف ذلك. (تنبيهان) . أحدهما اختلف العلماء في تقدير الآية الكريمة السابقة، فمنهم من قدر (تفرضوا) معطوفا على المجزوم، أي: ما لم تمسوهن أو ما لم تفرضوا لهن. واستشكل بأنه يصير معناه: لا جناح عليكم فيما يتعلق بمهور النساء في مدة انتفاء أحد هذين الأمرين، مع أنه إذا انتفى الفرض دون المسيس، لزم مهر المثل، وإذا انتفى المسيس دون الفرض لزم نصف المسمى، ومنهم من قدره منصوبا بأن مضمرة، وأو بمعنى (إلا) أي ما لم تمسوهن إلا أن تفرضوا لهن فريضة، أو: إلى أن تفرضوا لهن

فريضة، وهذا قول الزمخشري وهو جيد، ومنهم من جعل (أو) بمعنى الواو، أي ما لم تمسوهن وتفرضوا، وهذا أيضا في المعنى صحيح. (الثاني) تخصيص الخرقي هذه بوجوب المتعة ظاهره أنه لا متعة لغيرها، وهو المشهور عن أحمد والمختار للأصحاب من الروايات، لأن الله سبحانه قسم النساء قسمين، فجعل للتي لم يفرض لها ولم يسم المتعة، وجعل للمفروض لها نصف المفروض، وظاهره أنه لا زيادة لها على ذلك لعموم {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [البقرة: 241] أو تحمل هذه الآية على الاستحباب، وكذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أمتعكن) ونقل عنه حنبل، لكل مطلقة متاع، للآيتين الكريمتين، وإليها ميل أبي بكر، وقال: العمل عليها عندي. لولا تواتر الروايات عنه بخلافها، والله أعلم. قال: على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، فأعلاه خادم، وأدناه كسوة يجوز لها أن تصلي فيها، إلا أن يشاء أن يزيدها، أو تشاء هي أن تنقصه. ش: متى تراضيا في المتعة على شيء اتبع ما تراضيا عليه إذا كانا من أهل التراضي، إذ الحق لهما لا يعدوهما، وإن تنازعا رجع الأمر إلى الحاكم، فيعتبر حال الزوج، فيجعل على الموسع قدر

سعته، وعلى المقتر قدر قتره، للآية الكريمة، ثم المشهور والمختار من الروايات للخرقي، والقاضي، وجماعة من أصحابه أنها مقدرة الأعلى والأدنى، فأعلاها خادم، وأدناها كسوة يجزئها أن تصلي فيها. 2631 - لأن ابن عباس ترجمان القرآن قال: أعلى المتعة خادم ثم دون ذلك النفقة، ثم دون ذلك الكسوة. رواه أبو حفص بإسناده. 2632 - وعن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه طلق امرأته تماضر الكلبية فحممها بجارية سوداء يعني متعها. وإنما اشترطنا في الكسوة أن تجزئ في الصلاة حملا على الكسوة الواجبة بمطلق الشرع، وهي الكسوة في الكفارة (والرواية الثانية) يرجع إلى اجتهاد الحاكم في ذلك، لأن التقدير من الشرع، ولم يرد. (والرواية الثالثة) وهي أضعفها هي متاع بقدر نصف مهر

المثل، لأنها بدل عنه، ولا تليق هذه الرواية بمذهب أحمد، لأنه تنتفي فائدة اعتبار الموسع والمقتر ولا تبقى فائدة في إيجاب نصف مهر المثل أو المتعة إلا غايته أن ثم الواجب من النقدين، وهنا الواجب متاع، وهذه الرواية أخذها القاضي في روايتيه من رواية الميموني، وسأله كم المتاع؟ فقال: على قدر الجدة، وعلى من قال تمتع بمثل نصف صداق المثل، لأنه لو كان فرض لها صداقا كان لها نصف الصداق. قال القاضي: وظاهر هذا أنها غير مقدرة، وأنها معتبرة بيساره وإعساره، وقد حكى قول غيره أن قدرها نصف مهر المثل ولم ينكره، وظاهر هذا أنه مذهب له انتهى، وهذا في غاية التهافت، لأنه إنما حكى مذهب غيره بعد أن حكى مذهبه، وإنما نقول على قول أنه إذا حكى عن غيره قولا يكون مذهبا له، إذا لم يبين في تلك الحكاية مذهبه، ثم يلزم من هذا أن يكون قال قولين مختلفين في وقت واحد، والله سبحانه أعلم. قال: وإن طالبته قبل الدخول أن يفرض لها أجبر على ذلك. ش: إذا طالبته المرأة التي لم يفرض لها قبل الدخول أن يفرض لها أجبر على ذلك، لأن حقها ثبت بالعقد، إذ النكاح لا يخلو

من مهر، وظاهر كلام الخرقي أن هذه المطالبة عند الحاكم، لأنه الذي إليه الإجبار، وإذا يفرض مهر المثل، لأنه بدل البضع فيقدر به كالسلعة إذا تلفت، فلو كانت المطالبة بغير حضرة الحاكم جاز ما اتفقا عليه، إذ الحق لهما لا يعدوهما، والله أعلم. قال: فإن فرض لها مهر مثلها لم يكن لها غيره، وكذلك إن فرض لها أقل منه فرضيت به. ش: قوله: فرض. يحتمل أنه مبني للمفعول، والضمير راجع إلى الحاكم، ويرشحه أنه ساق ذلك بعد الإجبار؛ والإجبار مختص بالحاكم، ويحتمل أنه مبني للفاعل، والضمير راجع إلى الزوج، ويرجحه أن الضمير في قوله: وكذلك إن فرض لها أقل منه فرضيت به له، لأن الحاكم لا يفرض إلا مهر المثل، فعلى الثاني: متى فرض لها الزوج مهر المثل لم يكن لها غيره، لأنه الذي وجب لها بالعقد، وكذلك إن فرض لها أزيد منه بطريق الأولى، لكن قال أبو محمد: ولا يستقر لها ما لم ترض به، وفائدة عدم استقراره أنه لو مات قبل الدخول كانت باقية على عدم الفرض، فتجب لها المتعة، وإن فرض لها أقل من مهر المثل فرضيت وهي ممن يعتبر رضاها فلا شيء لها غيره، لأن الحق لها، وإن لم ترض رفع الأمر إلى الحاكم، وعلى الاحتمال الأول - وكذلك قد يجري على الثاني - إذا طلقت قبل الدخول لم يكن لها على ظاهر كلام الخرقي إلا نصف ما فرض لها، وهو إحدى الروايتين، اعتبارا بحالها الراهنة، وهي إذا مفروض لها، فتدخل تحت قوله

سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] (والرواية الثانية) : يسقط ما فرض لها، وتجب لها المتعة، نظرا إلى حالها في حال الابتداء، والله أعلم. قال: ولو مات أحدهما قبل الإصابة وقبل الفرض ورثه صاحبه، وكان لها مهر نسائها. ش: قيد الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هذا الحكم بقبل الإصابة وقبل الفرض، لأن ذلك محل التردد والخلاف، ولا نزاع في الإرث، لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} [النساء: 12] الآية، وهذه زوجة بلا ريب، وأما تكميل المهر فهو المذهب بلا ريب. 2633 - لما «روي عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقا، ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود: لها صداق مثلها، لا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بروع بنت واشق - امرأة منا مثل ما قضيت. ففرح بها ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . رواه الخمسة، وصححه جماعة منهم الترمذي، وهذا لفظه. (وعن

أحمد رواية أخرى) : لا يجب لها إلا نصف مهر المثل، قياسا لفرقة الموت على الطلاق، وهو باطل بالنص، وبأن الموت يتم به النكاح، ولذلك وجبت العدة به قبل الدخول، وكمل به المسمى، بخلاف الطلاق فيهما، انتهى، وإذا أوجبنا المهر فإن الواجب مهر نسائها كما في الحديث، أي أقاربها، ثم هل يعتبر جميع أقاربها من قبل الأب والأم، كأختها وعمتها، وبنت أخيها، وكأمها وخالتها، وهو اختيار أبي بكر وأبي الخطاب، والشريف في خلافيهما، والشيرازي، لعموم الحديث، أو لا يعتبر إلا نساء العصبات كأختها ونحوها وهو اختيار أبي محمد قال: لأن في بعض الروايات: مهر نساء قومها، ولأن الشرف معتبر في المهر، وشرف المرأة بنسبها، وذلك بالأب لا بالأم؟ على

ما يترتب على خلوة الزوجين بعد العقد

روايتين، قال أبو محمد: وينبغي أن يعتبر الأقرب فالأقرب من نساء العصبات، فتقدم أخواتها، ثم عماتها، وعلى ذلك وتعتبر المساواة في العقل والدين، والجمال، وكل ما يختلف به المهر، حتى لو كان عادتهم التأجيل فرض مؤجلا في أحد الوجهين، وفي الآخر: لا يفرض إلا حالا، لئلا يخالف نظائره، وهو أبدال المتلفات، والله أعلم. [ما يترتب على خلوة الزوجين بعد العقد] قال: وإذا خلا بها بعد العقد فقال: لم أطأها، وصدقته لم يلتفت إلى قولهما، وكان حكمهما حكم الدخول في جميع أمورهما إلا في الرجوع إلى زوج طلقها ثلاثا، أو في الزنا فإنهما يجلدان ولا يرجمان. ش: الخلوة بالمرأة بعد العقد في الجملة حكمها حكم الدخول في استقرار المهر وإن لم يطأ، على المذهب المعروف بلا ريب. 2634 - لما روى الإمام أحمد بسنده عن زرارة بن أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أن من أغلق بابا، وأرخى سترا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة. 2635 - ورواه أيضا عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وهو مشهور عنهما،

وكذلك عن زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عليها العدة، ولها الصداق، وهذه قضايا اشتهرت ولم ينقل إنكارها فكانت حجة، (وقيل عن أحمد) رواية أخرى أن المهر لا يتقرر إلا بالوطء. 2636 - ويحكى ذلك عن ابن مسعود وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لقوله سبحانه: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] والمطلقة قبل الدخول وقبل الوطء لم تمس، ومثله قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]

الآية، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] علل سبحانه منع الأخذ بالإفضاء، والإفضاء الجماع، والمعلل بوصف عدم عند عدمه، وأجيب بالطعن فيما روي عن ابن عباس وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال أحمد في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يرويه ليث وليس بالقوي، وقد رواه حنظلة خلاف ما رواه ليث، وحنظلة أقوى من ليث، وقال ابن المنذر في حديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - منقطع، وأما آيتا المس فيحتمل أن المراد بالمس حقيقته وكنى به عن سببه وهو الخلوة، ويحتمل أن المراد به حقيقته أو الجماع، وغايته أنه يدل على أنه قبل المسيس لا يتكمل المهر، ولا تجب العدة، وهو شامل للخلوة ولغيرها،

خرج منه الخلوة بقضاء الصحابة، وأما آية الإفضاء فلا نسلم أن المراد بالإفضاء الجماع، بل المراد الخلوة، نظرا إلى حقيقته، إذ هو مأخوذ من الفضاء وهو المكان الخالي، وكذلك يحكى عن الفراء أن المراد بالإفضاء الخلوة، ولو سلم أن ذلك كناية عن الوطء فإن المراد - والله أعلم - التشنيع والمبالغة في الانتهاء عن الأخذ في مثل هذه الحال أي كيف تأخذونه وقد حصل مباضعتكم لأزواجكم، ومثل ذلك يتعجب منه، وينكره أهل المروءات. إذا تقرر هذا فقول الخرقي: وإذا خلا بها. معنى الخلوة أن يخلو بها بحيث لا يحضرهما مميز مسلم، ولو أنه أعمى أو نائم، قاله ابن حمدان في رعايتيه، وقوله: بعد العقد. يشمل العقد الصحيح والفاسد، وهو منصوص أحمد، ومختار عامة أصحابه، لعموم قضاء الصحابة، ولأن الابتذال يحصل بالخلوة في العقد الفاسد، كما في الصحيح، وخالفهم أبو محمد فاختار عدم الوجوب في النكاح الفاسد، نظرا إلى أن العقد ليس بموجب، وإنما الموجب الوطء ولا وطء. وقوله: فقال: لم أطأها. وصدقته لم يلتفت إلى قولهما،

دفعا لوهم من يتوهم أن الحق لها فيسقط برضاها، وذلك لأن الخلوة يتعلق بها أيضا حق لله تعالى كالعدة ونحوها، ثم قضاء الصحابة مطلق، ونقل عنه ابن بختان إذا صدقته المرأة أنه لم يطأها لم يكمل الصداق، وعليها العدة، إذ الصداق محض حقها. وقوله: وكان حكمهما حكم الدخول، في جميع أمورهما إلا في الرجوع إلى زوج طلقها ثلاثا، أو في الزنا فإنهما يجلدان ولا يرجمان. يعني في استقرار المهر كما تقدم، ووجوب العدة لقضاء الصحابة، وفي تحريم أختها، وأربع سواها إذا طلقها حتى تنقضي عدتها، قياسا على ما تقدم، لوجود مظنة الوطء، وفي ثبوت الرجعة له عليها في العدة، وإن ادعى أنه ما وطئها، على المنصوص والمختار للعامة، لعموم: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] ولم يثبت أبو بكر الرجعة بالخلوة، وفي نشر حرمة المصاهرة، وهو إحدى الروايتين، والمشهور خلافها، حملا لدخوله في قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] على الوطء. واستثنى الخرقي الرجوع إلى المطلق ثلاثا.

2637 - لحديث امرأة رفاعة القرظي: «لا حتى تذوقي عسيلته، ويذوق عسيلتك» ، واستثنى أيضا الإحصان، فلا يثبت بها، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الثيب بالثيب» والثيوبة لا تحصل إلا بالوطء، ثم الحد يدرأ بالشبهة وكأن مراد الخرقي بقوله: حكمهما حكم الدخول، يعني فيما يتعلق بالنكاح، فلا يرد عليه الغسل، فإنه لا يجب بها، ولا الخروج من الفيئة لأنه من باب الأيمان، والذي حلف عليه الوطء ولم يوجد، ولا تفسد بها العبادات، ولا تجب بها الكفارات حيث وجبت، نعم قد يرد عليه ما إذا خلا بها بعد ضرب المدة في العنة، فإنه لا يخرج من العنة، وبالوطء يخرج. (تنبيه) : الخلوة المعتبرة هي خلوة من يطأ مثله، بمن يوطأ مثلها، مع علم الزوج بها كما نص عليه أحمد في المكفوف يتزوج امرأة فأدخلت عليه، فأرخى الستر، وأغلق الباب، فإن كان لا يعلم بدخولها عليه فلها نصف الصداق، وقد أهمل أبو البركات هذا الشرط، ولو خلا بشرطه فمنعته الوطء لم يتقرر الصداق، والله أعلم. قال: وسواء خلا بها وهما محرمان أو صائمان، أو حائض، أو سالمان من هذه الأشياء. ش: يعني أنه لا يشترط للخلوة خلوها من مانع، ومثل الخرقي

بالمانع الشرعي، وقد اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه المسألة (فعنه) فيها روايتان، إحداهما كما قال الخرقي، وهو مختار أصحابه في الجملة، لعموم قضاء الصحابة. 2638 - وعن عمر في العنين يؤجل سنة، فإن هو غشيها وإلا أخذت الصداق كاملا، وفرق بينهما، وعليها العدة (وعنه) لا يكمل بها الصداق، لأن المانع إن كان من جهتها فلم يتمكن من تسليمها، فأشبه ما لو منعته من نفسها، وإن كان من جهته فمظنة الوطء منتفية، واعلم أن الأصحاب قد اختلفت طرقهم في هذه المسألة، بعد اتفاقهم فيما علمت أن المذهب الأول، (فمن زاعم) أن الروايتين في المانع سواء كان من جهته أو من جهتها، شرعيا كان كما تقدم، أو حسيا كالجب والرتق، وهذه طريقة أبي الخطاب في خلافه الصغير، وأبي البركات، (ومن زاعم) أن محلهما فيما إذا كان المانع من جهتها، أما إن كان من جهته فإن الصداق يتقرر بلا خلاف، وهذه طريقة القاضي في الجامع، والشريف في خلافه، (ومن زاعم) أن محلهما فيما إذا منع الوطء ودواعيه، كالإحرام والصيام، أما إن منع الوطء، فقط كالحيض والرتق فيتقرر الصداق، وهذه طريقة القاضي في المجرد فيما أظن وأبي علي ابن البنا، (ومن زاعم) أن محلهما في

العفو عن الصداق أو الإبراء منه

المانع الشرعي، أما المانع الحسي فيتقرر معه الصداق، وهذه طريقة القاضي في الروايتين، وهي قريبة من التي قبلها، ويقرب من ذلك طريقة أبي محمد في المغني، أن المسألة على ثلاث روايات، الثالثة إذا كان المانع متأكدا كالإحرام والصيام لم يكمل الصداق، وإلا كمل. (تنبيه) : لم يجر أبو البركات الخلاف في العدة، بل خصه بالصداق، وأجراه أبو محمد فيها والله أعلم. [العفو عن الصداق أو الإبراء منه] قال: والزوج هو الذي بيده عقدة النكاح، فإذا طلق قبل الدخول فأيهما عفى لصاحبه عما وجب له من المهر - وهو جائز الأمر في ماله - برئ منه صاحبه. ش: اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في الذي بيده عقدة النكاح (فعنه) ما يدل على أنه الزوج، وعليه أصحابه، الخرقي، وأبو حفص، والقاضي، وأصحابه، لأن الذي بيده عقدة النكاح بعد الزواج هو الزوج، لأنه الذي يملك الطلاق، ثم العفو إذا أطلق إنما ينصرف إلى عفو الإنسان عما يملكه، والولي لا يملك من المهر شيئا.

2639 - وروى الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ولي العقدة الزوج» . ونقل عنه ابن منصور: إذا طلق امرأته وهي بكر، قبل أن يدخل بها، فعفى أبوها عن زوجها عن نصف الصداق، فما أرى عفوه إلا جائزا، فأخذ من ذلك القاضي وغيره أنه بيده عقدة النكاح أي أنه الولي لأنه الذي عقد عقدة النكاح، بعد الطلاق، والآية مسوقة في ذلك، وإرادة الزوج بذلك مجاز باعتبار ما كان، والأصل الحقيقة، والدليل على أن العقد هو العقدة قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وأيضا العفو حقيقة عن شيء وجب، وذلك واضح في الزوجة والولي، لأنهما اللذان يجب لهما المهر، إذ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي فعليكم نصف ما فرض، أو

فالواجب نصف {مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أي النساء بلا نزاع {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهو الولي عما وجب له من القبض، وتسمية الزوج عافيا للمشاكلة مجاز، وعلى تقدير أنه ساق إليها المهر الأصل عدمه، ولأن الله سبحانه خاطب الأزواج مواجهة بقوله: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] ثم أتى بضمير الغيبة بقوله: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] فالظاهر أن الضمير لغيره، ولأن الله سبحانه بدأ بعفو الزوجة، وختم بعفو الزوج، فلو حمل (أو يعفو) على الزوج كان تكرارا، وهذا أظهر دليلا. فعلى الأولى أيهما عفى لصاحبه عما وجب له من المهر - وهو جائز التبرع في ماله برئ منه، وعلى الثانية من شرط الولي (أن يكون) أبا، لكمال شفقته، وعدم تهمته، ولهذا قلنا: له أن يزوجها بدون مهرها، (وأن تكون) بكرا على ظاهر كلام أحمد، وصرح به غيره لملك إجبارها وقبض مهرها في رواية، وغفل أبو محمد في المقنع عن هذا الشرط تبعا لأبي الخطاب، (وأن تكون) مطلقة قبل الدخول، فلا يصح عفوه قبل الطلاق ولا بعد الدخول، لأن الآية وردت في ذلك. (قلت) : وفي معنى المطلقة قبل الدخول كل مفارقة تنصف مهرها، وحكى ابن حمدان قولا أن للأب العفو بعد الدخول، ما لم تلد، أو تبقى في بيتها سنة، بناء، والله أعلم على بقاء الحجر عليها، واشترط أبو الخطاب وابن البنا، وأبو محمد في كتبه مع

ذلك أن تكون صغيرة أو مجنونة، لأنها إذا الذي يملك عقدة نكاحها مطلقا، وظاهر كلام أحمد والقاضي عدم الاشتراط، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، ولا يشترط كون الصداق دينا، على ظاهر كلام أحمد والجمهور، وقيل بلى، حكاه ابن حمدان، نعم يشترط أن لا يكون مقبوضا، وهذا مفهوم من كلامهم، لأنه يكون هبة لا عفوا. (تنبيه) : على هذه الرواية لو زوج ابنه الطفل أو المجنون وأقبض مهره، ثم رجع إليه بردة أو رضاع قبل الدخول، لم يجز عفوه عنه رواية واحدة، وكأن الفرق أن الأب أكسب البنت المهر، بالتزويج، فكان له العفو، بخلاف الصغير، فإنه لم يكسبه شيئا، بل المهر رجع إليه بالفرقة، والله أعلم. قال: وليس عليه دفع نفقة زوجته إذا كان مثلها لا يوطأ، أو منع منها بغير عذر، فإن كان المنع من قبله لزمته النفقة. ش: ليس على الزوج نفقة الزوجة إذا كان مثلها لا يوطأ، إذ النفقة في مقابلة الاستمتاع، ولهذا سقطت بالنشوز، وهذه يتعذر الاستمتاع بها شرعا، وكذلك ليس عليه نفقتها إذا كان مثلها يوطأ ومنعت نفسها، أو منعها أولياؤها بغير عذر، لأنها إذا ناشز، أو في معناها لمنعها من تسليم الواجب عليها، وتجب عليه النفقة إن كان المنع من قبله، لأن الواجب عليها قد فعلته. وقول الخرقي: إذا كان مثلها لا يوطأ، يحترز به عما إذا كان

الحكم لو تزوجها على صداقين سرا وعلانية

مثلها يوطأ فإن النفقة تجب، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في النفقات، وقوله: أو منع منها بغير عذر، يحترز عما إذا منع منها لعذر، كما إذا امتنعت حتى تقبض صداقها الحال حين العقد، أو حين الامتناع على وجه، فإن النفقة تجب لها، لأن المنع في الحقيقة من جهته، وقد صرح بذلك حيث قال: فإن كان المنع من قبله لزمته النفقة، ويحتمل أن يريد بالمنع من قبله المنع بالاستمتاع، بأن يكون صغيرا أو مجنونا ونحو ذلك، والأول أظهر، والله أعلم. [الحكم لو تزوجها على صداقين سرا وعلانية] قال: وإذا تزوجها على صداقين سرا وعلانية، أخذ بالعلانية، وإن كان السر قد انعقد النكاح به. ش: إذا تزوج المرأة في السر بمهر، ثم عقد عليها في العلانية بأزيد منه، لزم مهر العلانية، على ما قاله الخرقي، ونص عليه أحمد، لأن الزوج وجد منه بذل الزائد بعد عقد السر، فلزمه، كما لو زادها في صداقها، وقال القاضي: الواجب المهر الذي انعقد به النكاح، سرا كان أو علانية، لأنه هو الذي ثبت به النكاح، والعلانية ليس بعقد حقيقة، إنما هو عقد صورة، والزيادة فيه غير مقصودة، وحمل القاضي كلام أحمد والخرقي على أن المرأة لم

حكم نماء المهر والتصرف فيه

تقر بنكاح السر، وإذا القول قولها، لأن الأصل عدم نكاح السر. (تنبيه) : قد حملنا كلام الخرقي على ما إذا كان العلانية أزيد وهو متأخر، بناء على الغالب وكلام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - جرى على ذلك، قال في رواية ابن منصور: إذا تزوج امرأة في السر بمهر وأعلنوا مهرا ينبغي لهم أن يفوا، ويؤخذ بالعلانية، ولو كان العلانية أزيد وهو متقدم، فهنا يرتفع الخلاف، ويؤخذ بالعلانية قولا واحدا ولو كان أقل وهو متأخر أخذ بالسر، على مقتضى ما تقدم بلا ريب لأنه قد وجب بالعقد، ولا مقتضى للإسقاط، ولو كان أقل مع تقدمه، فمقتضى ما تقدم أن يجري فيه القولان السابقان، والله أعلم. [حكم نماء المهر والتصرف فيه] قال: وإذا أصدقها غنما بعينها فتوالدت، ثم طلقها قبل الدخول، كانت أولادها لها، ويرجع عليها بنصف الأمهات، إلا أن تكون الولادة نقصتها، فيكون مخيرا بين أن يأخذ نصف قيمتها وقت ما أصدقها، أو يأخذ نصفها ناقصة. ش: قد تقدم الكلام على هذا عند قوله: إذا أصدقها عبدا صغيرا فكبر. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين ثم الزيادة المتصلة، وهنا الزيادة المنفصلة، وقد تقدم الكلام على النوعين بما يغني عن إعادته، وقوله: بعينها. يحترز عن المبهمة، فإن التسمية إذا فاسدة، والله أعلم.

قال: وإذا أصدقها أرضا فبنتها دارا، أو ثوبا فصبغته، ثم طلقها قبل الدخول، رجع عليها بنصف قيمته وقت ما أصدقها، إلا أن يشاء أن يعطيها نصف قيمة البناء أو الصبغ، فيكون له النصف، أو تشاء هي أن تعطيه نصفه زائدا فلا يكون له غيره. ش: إذا طلق المرأة قبل الدخول، وقد وصلت العين المصدقة بملكها كما مثل الخرقي، فإنها لا تجبر على زوال ذلك، لأنها وضعته بحق، ويكون للزوج نصف القيمة، لتعذر الرجوع في نصف العين إلا بضرر يلحقها، والضرر منفي شرعا، فإن اختار الزوج أن يدفع إليها نصف قيمة البناء أو الصبغ، ويكون له نصف المجموع فله ذلك، عند أبي محمد تبعا للخرقي، لزوال الضرر عن المرأة، وصار هذا كالشفيع إذا أخذ بالشفعة بعد غرس المشتري أو بنائه، وبذل قيمة ذلك، فإن المشتري يلزمه القبول، وقال القاضي: ليس له إلا القيمة، وحمل كلام الخرقي على التراضي، حذارا من إجبار المرأة على المعاوضة على ملكها بغير رضاها انتهى، فلو بذلت المرأة النصف بزيادته لزم الزوج قبوله، لأنه حقه وزيادة. قلت: وقد يتخرج عدم اللزوم بما إذا وهب الغاصب تزويق الدار ونحوها للمغصوب منه، وهو أظهر في البناء، والله سبحانه أعلم.

باب الوليمة

[باب الوليمة] قال: باب الوليمة ش: حكى ابن عبد البر عن ثعلب وغيره من أهل اللغة أن الوليمة اسم لطعام العرس خاصة، لا يقع على غيره، قال أبو محمد: وقال بعض الفقهاء من أصحابنا وغيرهم: الوليمة تقع على كل طعام لسرور حادث، إلا أن استعمالها في طعام العرس أكثر، قال: وقول أهل اللغة أقوى، لأنهم أهل اللسان، وأعرف بموضوعات اللغة انتهى، وقال السامري: سميت دعوة العرس وليمة لاجتماع الزوجين، ووليمة الشيء كماله وجمعه، والله أعلم. قال: ويستحب لمن تزوج أن يولم ولو بشاة. 2640 - ش: في الصحيحين واللفظ لمسلم عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: «ما هذا؟» قال: يا رسول الله تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب، قال: «فبارك الله لك، أولم ولو بشاة» ؛ والشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حمل هذا الأمر على الاستحباب، موافقة لجمهور العلماء، لأنه طعام لسرور حادث، أشبه سائر الأطعمة، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ولو بشاة التنكير هنا - والله أعلم - للتقليل، أي ولو بشيء قليل كشاة، فيستفاد من هذا أنه يجوز الوليمة بدون شاة.

2641 - وقد جاء عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ما أولم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة» . متفق عليه. 2642 - وجاء في البخاري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أولم على بعض نسائه بمدين من شعير» . ويستفاد من الحديث أن الأولى الزيادة على الشاة، لأنه جعل ذلك قليلا، والخرقي تبع لفظ الحديث، والحكم جار عليه، والله أعلم. قال: وعلى من دعي إليها أن يجيب. ش: يعني إلى وليمة العرس، وهذا هو المذهب المعروف في الجملة، وقول عامة العلماء، حتى أن ابن عبد البر وغيره قال: لا خلاف في ذلك. 2643 - لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها» متفق عليه، في عدة أحاديث سيأتي بعضها إن شاء الله تعالى، وقيل: إنها فرض كفاية، لأنها

إكرام وموالاة أشبه برد السلام، وقيل: إنها سنة كفعلها، والعمل على الأول، لكن يشترط للوجوب شروط (أحدهما) (أن يعين) الداعي المدعو بالدعوى، فلو لم يعينه كقوله: يا أيها الناس أجيبوا إلى الوليمة، ونحو ذلك لم تجب الإجابة بل تستحب، لأن الإجابة معللة بما فيها من كسر قلب الداعي، وإذا عمم فلا كسر. (الثاني) أن يدعوه في اليوم الأول، لأن مطلق الأمر يحصل به. 2644 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «طعام أول يوم حق، وطعام يوم الثاني سنة، وطعام يوم الثالث سمعة، ومن سمع سمع الله به» رواه الترمذي وقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث زياد بن عبد الله، وهو كثير الغرائب المناكير، قال بعض الحفاظ: وزياد روى له البخاري مقرونا بغيره، ومسلم ويستحب

في اليوم الثاني، قاله أبو محمد وابن حمدان، ولا يستحب في الثالث قاله أبو محمد، وقال ابن حمدان: يكره، وقال أحمد: الأول يجب، والثاني: إن أحب، والثالث فلا. (الشرط الثالث) أن يكون مسلما، فلا تجب الإجابة بدعوة الذمي، لأن الإجابة للمسلم للإكرام والموالاة، وتأكيد المودة، وذلك منتف في أهل الذمة، وتجوز إجابتهم، قاله أبو محمد. 2645 - وفي الحديث «أن يهوديا دعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى خبز شعير، وإهالة سنخة، فأجابه» (وعن أحمد) في جواز تهنئتهم وتعزيتهم

وعيادتهم روايتان، فيخرج في إجابتهم كذلك، وقد خرجها أبو العباس في تسميتهم. (الشرط الرابع) : أن يكون المسلم ممن لا يجوز هجره، فإن كان ممن يجوز هجره - كالمبتدع ونحوه - لم تجب إجابته، لما تقدم في الذمي. (الشرط الخامس) : أن لا يكون في الدعوة منكر، فإن كان فيها منكر - كالزمر والخمر - ولم يقدر على إزالته لم يحضر، وإن قدر على إزالته وجب عليه الحضور والإنكار، للتمكن من الإتيان بالفرض، مع التمكن من الإتيان بفرض آخر (وقيل: يشترط) مع ذلك أن لا يخص بها الأغنياء، وأن لا يخاف المدعو الداعي ولا يرجوه، وأن لا يكون في المحل، من يكرهه المدعو، أو لا يليق به مجالسته، أو يكره هو المدعو. 2646 - وقد جاء عن أبي هريرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله» رواه مسلم وأكثر الأصحاب لا يشترطون هذا، والله أعلم.

قال: فإن لم يحب أن يطعم دعا وانصرف. ش: الواجب الإجابة، أما الأكل فغير واجب. 2647 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك» رواه أحمد ومسلم وأبو داود، ثم لا يخلو إما أن يكون صائما أو مفطرا، فإن كان مفطرا استحب له الأكل، لأنه أبلغ في إكرام الداعي وجبر قلبه. 2648 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان صائما فليصل، وإن كان مفطرا فليطعم» رواه مسلم، وفي لفظ له أيضا: «إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل: إني صائم» ، وإن كان صائما فإن

كان صومه واجبا لم يفطر، حذارا من ترك واجب لما ليس بواجب، وإن كان متنفلا فقيل: يستحب الأكل مطلقا، لما فيه من إدخال السرور على قلب الداعي، مع جواز الخروج من الصوم. 2649 - وقد روي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في دعوة ومعه جماعة فاعتزل رجل من القوم ناحية: فقال: إني صائم. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «دعاكم أخوكم، وتكلف لكم، كل ثم صم يوما مكانه إن شئت» » ، وقيل: إن لم ينكسر قلب الداعي بعدم الأكل فإتمام الصوم أولى، لظاهر ما تقدم، ويستحب أن يعلمهم ويدعو لهم لما تقدم، إذ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فليصل» أي يدعو. 2650 - وقد جاء عن ابن عمر أنه حضر وهو صائم، وقال: إني صائم. والله أعلم. قال: ودعوة الختان لا يعرفها المتقدمون. ش: يعني السلف الصالح، كالصحابة والتابعين. 2651 - وقد روي عن عثمان بن أبي العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه دعي إلى ختان فأبى أن يجيب، فقيل له، فقال: إنا كنا لا نأتي الختان

على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا ندعى إليه. رواه أحمد لكنه ضعف، وظاهر كلام الخرقي أنها غير مستحبة، وقد نص أحمد والقاضي، وعامة أصحابه على أنها مباحة لا تكره، ولا تستحب لهذا الأثر وخالفهم أبو محمد في كتبه الثلاثة، فقطع باستحبابها، لما فيها من إطعام الطعام، وهو مندوب إليه في الجملة، وهذان القولان في سائر الطعام، وحكى ابن حمدان قولا بكراهة دعوة الختان خاصة، ويحتمله كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والله أعلم. قال: ولا على من دعي إليها أن يجيب، وإنما وردت السنة في إجابة من دعي إلى وليمة تزويج. ش: ظاهر هذا أن الإجابة إلى دعوة الختان مباحة، وهو منصوص أحمد، وقول القاضي وجماعة من أصحابه كعملها، ولحديث عثمان، وقال أبو محمد بالاستحباب، وهو الظاهر،

النثار في العرس

بل لو قيل بالوجوب لكان متجها. 2652 - لعموم «إذا دعي أحدكم للوليمة فليأتها» «إذا دعي أحدكم فليجب، إذا دعي إلى طعام» . 2653 - وفي مسلم في حديث ابن عمر: «إذا دعا أحدكم أخاه فليجب، عرسا كان أو نحوه» ، وهذان القولان أيضا في سائر الولائم، والله أعلم. [النثار في العرس] قال: والنثار مكروه، لأنه شبيه بالنهبة، وقد يأخذه من غيره أحب إلى صاحب النثار منه. ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، لما علل به الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنه يأخذه من غيره أحب إلى صاحب الطعام منه، ولا يكون طيب القلب بأخذه، وذلك يورث شبهة، وبأنه شبيه بالنهبة والشبيه بالشيء يعطى حكمه.

2654 - ودليل الأصل ما روى عبد الله بن يزيد الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن المثلة والنهبى» . رواه أحمد والبخاري. 2655 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من انتهب فليس منا» رواه أحمد والترمذي وصححه. (والثانية) لا يكره، اختارها أبو بكر. 2656 - لأنه قد «جاء أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضر ملاك رجل من الأنصار الحديث، وفيه: وأقبلت السلال فيها الفاكهة والسكر، فنثر عليهم، فأمسك القوم ولم ينتهبوا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا تنتهبون؟» قالوا: يا رسول الله نهيتنا عن النهبة يوم كذا وكذا، قال: «إنما نهيتكم عن نهبة العساكر، ولم أنهكم عن نهبة الولائم» رواه العقيلي، وضعفه عبد الحق الإشبيلي.

2657 - واعتمد أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البدنات لما نحرهن: «من شاء اقتطع» وحكم الالتقاط حكم النثار، والله أعلم. قال: فإن قسم على الحاضرين فلا بأس بأخذه، لما روي عن أبي عبد الله أن بعض أولاده حذق، فقسم على الصبيان الجوز.

ش: لانتفاء المفسدة السابقة، مع أن فيه إطعام الطعام، وجبر قلب الصبي وتنشيطه، وتنشيط أمثاله، وذلك مصلحة محضة، ولذلك حسنه أبو محمد. (تنبيه) : الأطعمة التي يدعى إليها عشرة (أحدها) : الوليمة طعام العرس؛ (والثاني) : الحذاق وهو الطعام عند حذاق الصبي؛ (والثالث) : العذيرة والإعذار للختان، وهذه الثلاثة ذكرها الخرقي؛ (والرابع) : الخرسة والخرس، لطعام الولادة؛ (والخامس) : الوكيرة، لدعوة البناء؛ (والسادس) : النقيعة لقدوم الغائب؛ (والسابع) : العقيقة، الذبح لأجل الولد؛ (الثامن) : المأدبة، كل دعوة لسبب كانت أو غيره؛ (التاسع) : الوضيمة، طعام المأتم؛ (العاشر) : التحفة، طعام القادم، والله سبحانه أعلم.

باب عشرة النساء والخلع

[باب عشرة النساء والخلع] ش: الأصل في العشرة قول الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] الآية، وقال سبحانه: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] . 2658 - قال ابن زيد: تتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله فيكم. 2659 - وقال ابن عباس: إني لأحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي. وتلا هذه الآية: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] . 2660 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استوصوا بالنساء خيرا، فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنساء خيرا» متفق عليه. 2661 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكمل المؤمنين أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم» رواه

أحمد والترمذي وصححه. 2662 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي» رواه الترمذي وصححه. 2663 - وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة» رواه ابن ماجه والترمذي، وقال: حسن غريب. 2664 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا دعى الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء، فبات غضبان عليها، لعنتها الملائكة حتى تصبح» متفق عليه.

القسم بين الزوجات

2665 - وعنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن. ولهذه الأحاديث وشبهها وقَوْله تَعَالَى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] قال العلماء: إن حق الزوج عليها آكد من حقها عليه. والأصل في الخلع قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] الآية. [القسم بين الزوجات] قال: وعلى الرجل أن يساوي بين زوجاته في القسم. ش: هذا مما لا خلاف فيه والحمد لله، وقد تقدم قَوْله تَعَالَى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ومن المعروف التسوية بينهن. 2666 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كانت له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة يجر أحد شقيه

ساقطا أو مائلا» رواه الخمسة. 2667 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقسم فيعدل، ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» رواه الخمسة إلا أحمد. إذا تقرر هذا فمن عنده نسوة لا بد له أن يبدأ بواحدة منهن، وهن متساويات في الحق، واختيار واحدة منهن تفضيل لها، وهو ممنوع منه، فيتعين أن يبدأ بواحدة بالقرعة، كما لو أراد السفر بواحدة منهن، كما شهدت به السنة، ويقسم ليلة ليلة، ولا يقسم أربعا أربعا إلا برضاهن، وفي اعتبار رضاهن في الليلتين والثلاث وجهان. وقول الخرقي وعلى الرجل؛ يشمل المريض والمجبوب، والخصي والعنين، وهو كذلك، إذ القسم للأنس، وهو حاصل

ممن ذكر، ولا يدخل في كلامه المجنون، لعدم تعلق الخطاب التكليفي به، وقال أبو محمد: إن لم يخف منه طاف به الولي، وإن خيف منه فلا قسم عليه، لانتفاء الأنس، وعلى الأول قال فإن لم يعدل الولي في القسم بينهن ثم أفاق الزوج، قضى للمظلومة؛ لأنه حق ثبت في ذمته. وقوله: أن يساوي بين زوجاته في القسم. يتناول من له زوجات وقسم بينهن، ولا نزاع في ذلك كما تقدم، أما من له زوجة واحدة، أو له زوجات ولم يقسم بينهن، فهل عليه قسم الابتداء، بأن يبيت عند الزوجة أو الزوجات ليلة من أربع؟ فيه قولان مبنيان على وجوب الوطء، وفيه روايتان، ومحلهما إذا لم يترك الوطء ضرارا، أما إن تركه ضرارا فيجب القسم، والله أعلم. قال: وعماد القسم الليل. ش: لأن الليل للسكن والإيواء، قال سبحانه: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: 73]

فالليل محل السكن، والنهار للمعاش ونحو ذلك، وهذا فيمن معاشه بالنهار كما هو الغالب، أما من معاشه بالليل، كالحارس ونحوه، فإن نهاره كليل غيره، وليله كنهار غيره، والنهار تبع لليل في القسم. 2668 - قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «مات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بيتي، وفي يومي» . وموته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان في النهار، ويتبع اليوم الليلة الماضية، بدليل أن أول الشهر الليل، وإن أحب أن يجعل النهار تبعا لليله الذي يتعقبه جاز، لعدم التفاوت، والله أعلم. قال: ويقسم لزوجته الأمة ليلة وللحرة ليلتين. 2669 - ش: لما روى الدارقطني - واحتج به الإمام أحمد - عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول: إذا تزوج الحرة على الأمة، قسم للأمة ليلة، وللحرة ليلتين. (تنبيه) : يقسم للمعتق بعضها بحساب ذلك، والله أعلم.

قال: وإن كانت كتابية. ش: أي وإن كانت الحرة كتابية يقسم لها كما يقسم للمسلمة؛ لأن القسم من حقوق الزوجية، أشبه النفقة والسكنى، وقد شمل كلام الخرقي الرتقاء والمريضة، والحائض والمحرمة، والمظاهر منها والصغيرة، وهو كذلك إذ القصد الأنس والسكن، وهو حاصل لهن، نعم شرط أبو محمد في الصغيرة إمكان وطئها، والمجد تمييزها، وشمل أيضا المجنونة، والشيخان يقيدان ذلك بما إذا لم يخف منها، أما إن خيف منها فلا قسم لها. (تنبيه) : الحق في القسم للأمة دون السيد، فلها أن تهب ليلتها لزوجها أو لبعض ضرائرها، وليس ذلك للسيد، وزعم القاضي أن قياس قول أحمد استئذان سيد الأمة كما في العزل، والله أعلم. قال: وإذا سافرت زوجته بغير إذنه فلا نفقة لها ولا قسم. ش: هذا مما لا خلاف فيه ولله الحمد؛ لأن القسم للأنس والنفقة للتمكين من الاستمتاع وقد تعذر ذلك بفعلها، أشبه ما لو لم تسلمه نفسها ابتداء، والله أعلم. قال: وإن كان هو أشخصها فهي على حقها من ذلك. ش: إذا كان هو سفرها فهي على حقها من النفقة والقسم، لأن

المنع جاء من جهته، لا من جهتها، فلم يسقط حقها، كما لو أتلف المشتري المبيع لم يسقط حق البائع من الثمن. (تنبيه) : الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر ما إذا سفرها هو، أو سافرت بغير إذنه، وبقي إذا سافرت بإذنه لمصلحتها، وفي بعض نسخ الخرقي: وإذا سافرت زوجته بإذنه، وعليها شرح أبو محمد، وبالجملة في المسألة ثلاثة أوجه: (أحدها) ، وهو اختيار القاضي وأبي محمد: لا قسم لها ولا نفقة، لما تقدم في المسألة قبل، (والثاني) : هما لها، لأنه لما أذن لها كأنه رضي بإسقاط حقه، وبقاء حقها، (والثالث) : لها النفقة دون القسم، كما لو سافر عنها، والله أعلم. قال: وإذا أراد سفرا فلا يخرج معه منهن واحدة إلا بقرعة. ش: إذا أراد سفرا وأخذ بعض نسائه دون بعض، فإنه لا يجوز له أخذ إحداهن إلا بقرعة، لتساويهن في الحق، وحذارا من الميل. 2670 - وفي الصحيحين عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه» . ويستثنى من ذلك إذا رضي الزوجات بسفر واحدة معه، فإنه يجوز بلا قرعة، إذ الحق لهن، نعم إذا لم يرض الزوج بها، وأراد غيرها صير إلى القرعة، والله أعلم.

قال: فإذا قدم ابتدأ القسم بينهن. ش: أي إذا قدم من السفر ابتدأ القسم بين النسوة، ولم يقض للمقيمات؛ لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لم تذكر قضاء في حديثها؛ ولأن ما يحصل للمسافر بها من السكن، يقابله ما يحصل لها من المشقة والتعب، والحديث مسكوت فيه عن القضاء، وقيل: يقضي في سفر النقلة دون سفر الغيبة، وقيل: يقضي في السفر القريب دون البعيد، ومحل الخلاف في زمان السير، أما ما تخلل السفر أو تعقبه من الإقامة، فإن أبا البركات قال: يقضيه. وأطلق، وشرط أبو محمد للقضاء أن يقيم مدة يمتنع فيها من القصر، وكلام الخرقي يشمل فيما إذا سافر بقرعة، أما إن سافر بغير قرعة فإنه يقضي للبواقي، قاله غير واحد، وقال أبو محمد: ينبغي أن يقضي مدة الإقامة لا زمان السير، والله أعلم. قال: وإذا أعرس على بكر أقام عندها سبعا ثم دار، ولا يحتسب عليها بما أقام عندها، وإن كانت ثيبا أقام عندها ثلاثا، ولا يحتسب أيضا عليها بما أقام عندها.

2671 - ش: الأصل في ذلك ما في الصحيحين عن أبي قلابة عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «من السنة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا، وإذا تزوج الثيب على البكر أقام عندها ثلاثا ثم قسم» قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: إن أنسا رفعه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 2672 - وفي الدارقطني عن أنس قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «للبكر سبعة أيام وللثيب ثلاثة ثم يعود إلى نسائه» . 2673 - «وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما تزوجها أقام عندها ثلاثة أيام، وقال: «ليس بك هوان على أهلك، فإن شئت سبعت لك، وإن سبعت لك سبعت لنسائي» رواه أحمد ومسلم وأبو داود، والدارقطني ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين دخل بها: «ليس بك هوان على أهلك، إن شئت أقمت عندك

النشوز بين الزوجين

ثلاثا خالصة، وإن شئت سبعت لك وسبعت لنسائي» ، قالت: تقيم معي ثلاثا خالصة» . وعموم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكلام غيره يقتضي أنه لا فرق في ذلك بين الحرة والأمة، وصرح به أبو محمد في المغني، وفي الرعاية احتمال أن الأمة على النصف من الحرة، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجماعة إنما صوروا المسألة فيما إذا تزوج امرأة على أخرى، والحديث إنما ورد في ذلك، وقد يقال: إن ذلك تنبيه على ما إذا لم يكن تحته زوجة، لأنه إذا لا يسقط حق أحد، ثم إن الحكم معلل بإزالة الاحتشام ونحوه وهو شامل. (تنبيه) : لو أرادت الثيب أن يقيم عندها سبعا فعل وقضاهن للبواقي للحديث، والله أعلم. [النشوز بين الزوجين] قال: وإذا ظهر منها ما يخاف معه نشوزها وعظها، فإن أظهرت نشوزا هجرها، فإن أردعها وإلا فله أن يضربها ضربا لا يكون مبرحا.

ش: النشوز كراهة كل واحد من الزوجين صاحبه، وسوء عشرته، مأخوذ من النشز وهو الارتفاع، فكأن كلا منهما ارتفع عما عليه، وإذا ظهر من المرأة ما يخاف معه نشوزها مثل أن تتثاقل إذا دعاها أو تجيب متبرمة متكرهة، وعظها بأن يذكر لها ما يلين قلبها من ثواب وعقاب، فيذكر لها ما وجب له عليها من الطاعة، وما عليها في مخالفته، لقول الله سبحانه: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] فإن أصرت على ذلك وأظهرت النشوز، بأن امتنعت من إجابته إلى الفراش، أو خرجت من بيتها بغير إذنه ونحو ذلك، هجرها في المضجع ما شاء، لقوله سبحانه: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء: 34] وله هجرها في الكلام، لكن فيما دون ثلاثة أيام. 2674 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لمسلم يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» فإن أصرت على الامتناع فله أن يضربها، لقوله سبحانه: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] ويضربها ضربا غير مبرح، أي غير شديد. 2675 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا

تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير مبرح» رواه مسلم، وتقدير الآية الكريمة على هذا التقرير عند أبي محمد: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} [النساء: 34] فإن نشزن فاهجروهن في المضاجع، فإن أصررن فاضربوهن، كآية المحاربة، وفيه تعسف، ومقتضى كلام أبي البركات وأبي الخطاب أن الوعظ والهجران والضرب على ظهور أمارات النشوز، لكن على جهة الترتيب قال المجد: إذا بانت أماراته زجرها بالقول، ثم يهجرها في المضجع والكلام دون ثلاث، ثم يضرب غير مبرح، وهذا ظاهر الآية الكريمة، غايته أن الواو وقعت للترتيب، إما لأن ذلك من مقتضاه أو لدليل من خارج، وهو أن المقصود زوال المفسدة، فيدفع بالأسهل فالأسهل، فله أن يضربها ضربا غير مبرح؛ فأجاز ضربها بمجرد العصيان، وهو مقتضى الحديث السابق، وقد قاله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في خطبته بعرفة. ولو ترتب الضرب على الهجران لبينه، لأنه وقت حاجة، لتفرق الناس ورجوعهم إلى أوطانهم، والله أعلم.

قال: والزوجان إذا وقعت بينهما العداوة، وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان، بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، مأمونين برضى الزوجين وتوكيلهما، بأن يجمعا إن رأيا أو يفرقا، فما فعلا من ذلك لزمهما. ش: قد تقدم إذا ظهر من المرأة النشوز أو أماراته، فإن خرجا من ذلك إلى العداوة، وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان، بعث الحاكم حكمين، إن رأيا المصلحة في الصلح أو التفريق بينهما فعلا، ولزم الزوجين فعلهما، لقول الله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيهما (فعنه) ما يدل على أنهما وكيلان للزوجين، لا يرسلان إلا برضاهما وتوكيلهما، فإن امتنعا من التوكيل لم يجبرا، هذا هو المشهور عند الأصحاب، حتى أن القاضي في الجامع الصغير، والشريف أبا جعفر، وابن البنا لم يذكروا خلافا، ونصبه أبو الخطاب؛ ولأن البضع حق للزوج، والمال حق للمرأة، وهما رشيدان، فلم يجز لغيرهما التصرف عليهما إلا بوكالة منهما، كما في غير ذلك (وعنه) ما يدل على أنهما حكمان، يفعلان ما يريان من جمع أو تفريق، بعوض أو غيره، من غير رضى الزوجين، وهو ظاهر الآية الكريمة، لتسميتهما حكمين، ومخاطبتهما بقوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا} [النساء: 35] وعدم اشتراط رضى الزوجين.

2676 - وقد روى أبو بكر بسنده عن عبيدة السلماني، أن رجلا وامرأة أتيا عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها؛ فبعثوا حكمين، ثم قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - للحكمين: هل تدريان ما عليكما من الحق، عليكما من الحق إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرقا فرقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلي. فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كذبت حتى ترضى بما رضيت به. 2677 - ويروى أن عقيلا تزوج فاطمة بنت عتبة، فتخاصما، فجمعت ثيابها ومضت إلى عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فبعث حكما من أهله عبد الله بن عباس، وحكما من أهلها معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال ابن عباس: لأفرقن بينهما. وقال معاوية: ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف: فلما بلغا الباب كانا قد أغلقا الباب واصطلحا، وعلى كلتي الروايتين يشترط في الحكمين

أن يكونا) من أهل العدالة، أما على الثانية فظاهر، وأما على الأولى فلأن الوكيل إذا كان منصوبا من جهة الحاكم فلا بد وأن يكون عدلا (وأن يكونا) عالمين بالجمع والتفريق؛ لأنهما منصوبان لذلك، وهل تشترط حريتهما؟ فيه وجهان مبنيان عند أبي محمد على الروايتين، وعن القاضي اشتراط الحرية، وصححه ابن حمدان، وذلك يمنع البناء، ويشترط (أن يكونا) ذكرين، قاله أبو محمد؛ لأن ذلك يفتقر إلى رأي ونظر، والمرأة بمعزل عنهما، وقد يقال بالجواز على الرواية الثانية، والأولى أن يكونا من أهلهما، لإرشاد الرب سبحانه لذلك، لكونهما أشفق عليهما، وأدعى لطلب الحظ لهما، ولا يجب، لأن القرابة لا تشترط في الوكالة، ولا في الحكم، وينبني على الروايتين أنه إذا غاب الزوجان أو أحدهما بعد بعث الحكمين فعلى الأولى لا ينقطع نظرهما، إذ الوكالة لا تبطل بالغيبة، وعلى الثانية فيه احتمالان، حكاهما في الهداية (أحدهما) - وقطع به أبو محمد، وأورده أبو البركات مذهبا -: ينقطع، إذ كل من الزوجين محكوم له وعليه، والقضاء للغائب لا يجوز؛ (والثاني) : لا ينقطع، إذ المغلب في الحكم الحكم على كل منهما، وإن جن الزوجان انقطع نظرهما على الأولى، بناء على أن الوكالة تبطل بالجنون على المذهب، وعلى الثانية لا ينقطع قاله أبو محمد تبعا لأبي الخطاب

مشروعية الخلع

في الهداية، وأورده أبو البركات مذهبا، وجزم أبو محمد في الكافي والمغني بامتناع الحكم، معللا بأن من شرط الحكم بقاء الشقاق، ولا يتحقق ذلك مع الجنون، ويظهر أن التعليل هنا كالتعليل في الفرع الذي قبله، والله أعلم. [مشروعية الخلع] قال: والمرأة إذا كانت مبغضة للرجل، وتكره أن تمنعه ما تكون عاصية بمنعه فلا بأس أن تفتدي نفسها منه. ش: إذا كرهت المرأة زوجها لخلقه أو خلقه، أو دينه أو كبره ونحو ذلك، وخشيت أن لا تقوم له بما يجب له عليها، فلا بأس أن تفتدي نفسها منه بعوض، لقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] . 2678 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله إني ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتردين عليه حديقته؟» فقالت: نعم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقبل الحديقة، وطلقها تطليقة» رواه البخاري والنسائي، وفي لفظ: ولكن أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا» . ويسمى هذا خلعا، أخذا من خلع الثوب،

كأنها تنخلع من لباس زوجها. قال: ولا يستحب له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. 2679 - ش: لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن جميلة بنت سلول أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضا. فقال لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتردين عليه حديقته؟» قالت: نعم. فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد؛» رواه ابن ماجه. 2680 - وعن أبي الزبير «أن ثابت بن قيس بن شماس كانت عنده بنت عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان أصدقها حديقة، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتردين عليه حديقته التي أعطاك؟» قالت: نعم وزيادة. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أما الزيادة فلا ولكن حديقته» قالت: نعم. فأخذها له وخلا سبيلها، فلما بلغ ذلك ثابت بن قيس قال:

قد قبلت قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه الدارقطني بإسناد صحيح، وقال: سمعه أبو الزبير من غير واحد. وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل الاستحباب، وأنه لو أخذ أكثر مما أعطاها جاز وصح الخلع، وهذا هو المنصوص والمختار لعامة الأصحاب، لعموم: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وحملا للمنع في الحديث على الكراهة، ومنع أبو بكر من ذلك، وأوجب رد الزيادة، أخذا بظاهر الحديث، وقصرا للعام على بعض أفراده وملخصه أنه لا بد من مخالفة ظاهر، وإنما النظر في أي الظاهرين أولى بالحمل عليه، والله أعلم. قال: ولو خالعته لغير ما ذكرناه كره لها ذلك ووقع الخلع. ش: أي لغير البغض وكراهة منع حقه، وهو أن يكون الحال بينهما مستقيمة، والمذهب المنصوص المشهور المعروف –

حتى أن أبا محمد حكاه عن الأصحاب - وقوع الخلع مع الكراهة، لعموم قول الله سبحانه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} [النساء: 4] (وعن أحمد) ما يدل على عدم الجواز، قال: الخلع مثل حديث سهلة تكره الرجل، فتعطيه المهر فهذا الخلع، وظاهر هذا أن غير هذا ليس بخلع، وفيه أيضا دليل لقول أبي بكر في المسألة قبل، وإلى هذا ميل أبي محمد قال: الحجة مع من حرمه، وذلك لقول الله سبحانه: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229] منع سبحانه من الأخذ مطلقا، واستثنى منه صورة، فيبقى فيما عداها على مقتضى المنع، ثم قال سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] مفهومه أن الجناح لاحق بها إن افتدت من غير خوف ثم أكد سبحانه وتعالى بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] .

2681 - وفي السنن: «أيما امرأة سألت الطلاق من غير ما بأس عليها فحرام عليها رائحة الجنة» وقوله سبحانه: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] الضمير راجع إلى الصداق، وهذا الشيء منه لا بد وأن يكون بعضه، وإذا لا دليل في الآية، أو محمول على غير حال العقد، ولا يلزم من الإباحة بغير عقد الإباحة بعقد، بدليل الربا، ثم إن الله سبحانه قال: {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] ولا هناءة مع الكراهة، فكيف يستدل به. ومما قد يدخل تحت كلام الخرقي إذا عضلها لتفتدي نفسها، فإنه خلع لغير ما ذكره، لكن لا نزاع عندنا في عدم صحة هذا للآية الكريمة: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] ولقوله تعالى: {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] نعم يستثنى من ذلك صور: (إحداها) : إذا زنت له أن يعضلها لتفتدي، لقوله سبحانه: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] ؛ (الثانية) : إذا ضربها على نشوزها ونحو ذلك لم يحرم خلعها

الخلع طلاق أم فسخ

لذلك، لأنها إذا لم تجبه لما يجب له عليها فقد خافت ألا تقيم حدود الله؛ (الثالثة) : إذا ضربها ظلما لا لقصد الافتداء لم تحرم مخالعتها، قاله أبو محمد، وهو مقتضى كلام غيره، لأنه لم يعضلها ليذهب ببعض ما آتاها، نعم عليه إثم الظلم بلا ريب، وحيث قلنا بعدم صحة الخلع فإن النكاح بحاله، والعوض مردود، إلا إن جعلناه طلاقا فإنه يكون رجعيا، والله أعلم. [الخلع طلاق أم فسخ] قال: والخلع فسخ في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى أنه تطليقة بائنة. ش: الرواية الأولى هي المشهورة في المذهب، واختيار عامة الأصحاب، متقدمهم ومتأخرهم اعتمادا على ظاهر القرآن العظيم، فإن الله سبحانه قال: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ثم قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وظاهره أن الخلع ليس بطلاق، وإلا يكون الطلاق أربعا، ولأنها فرقة خلت عن صريح الطلاق، فكانت فسخا كبقية الفسوخ، (ووجه الثانية) أن الخلع من كنايات الطلاق، وقد أتى به قاصدا للفراق، وكان طلاقا كبقية الكنايات، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في

حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «خذ الحديقة، وطلقها تطليقة» ويجاب عن هذا بأنه لا نزاع في أن له أن يأخذ العوض ويطلقها، وأنه إذا أتى بلفظ الطلاق أنه يكون طلاقا، وإنما النزاع فيما وراء ذلك، والله أعلم، وعلى هذه الرواية لا كلام، أما على الأولى فهل الخلع فسخ مطلقا أو بشرط أن لا ينوي به الطلاق؟ فيه روايتان أشهرهما الثانية، وعلى كل حال متى وقع بلفظ الطلاق فهو طلاق بلا ريب، وفائدة الخلاف أنا إذا جعلناه فسخا لم ينقص عدد الطلاق، وإلا نقصه. (تنبيه) : ألفاظ الخلع الصريحة: خالعتك، وفاديتك، وفسخت نكاحك، وما عداها كأبنتك ونحوه كناية، والله أعلم. قال: ولا يقع بالمعتدة من الخلع طلاق ولو واجهها به. 2682 - ش: لأن ذلك قول ابن عمر وابن الزبير، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولا

يعرف لهما مخالف، ولأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد، فلم يلحقها طلاقه، كالمطلقة قبل الدخول، والمنقضية عدتها، وقوله: ولو واجهها به. يحترز من قول النعمان ومن وافقه أنه يلحقها الصريح المعنى، دون الكناية، والطلاق المزيل ككل امرأة له طالق، والله أعلم. قال: ولو قالت له: اخلعني على ما في يدي من الدراهم، ففعل فلم يكن في يدها شيء، لزمها له ثلاثة دراهم. ش: قد تضمن كلام الخرقي صحة الخلع بالمجهول، وهو المذهب المعمول به، لإطلاق قول الله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ولأن الخلع ليس بمعاوضة حقيقة، وإنما هو إسقاط لحقه من البضع، وإذا تدخله المسامحة، وقال أبو بكر: لا يصح الخلع، لأنه معاوضة، أشبه البيع، ولا تفريع على هذا، أما على الأول فمقتضى كلام الخرقي أنه إن كان في يدها دراهم فهي له وإن قلت، ولا شيء له سواها، لأن الذي خالعته عليه وهو شيء من الدراهم قد وجد، وإن لم يكن في يدها شيء فله ثلاثة دراهم، لأنه أقل الجمع حقيقة، بدليل ما لو وصى له بدراهم، ولأبي محمد احتمال أنه إذا كان في يدها دون

الخلع على غير عوض

الثلاثة دراهم لزمها ثلاثة، كما لو لم يكن في يدها شيء، والذي يظهر لي أن (من) هنا لبيان الجنس، وأنه إنما له ما في يدها، أو أقل ما يتناوله الاسم إن لم يكن في يدها شيء. واعلم أن أبا البركات له في الخلع على المجهول تحرير حسن لم أره لغيره، وملخص ما قاله في هذه الصورة أن الذي قاله الخرقي على مختاره من صحة الخلع بغير عوض، أما إن قيل باشتراط العوض فهنا يجري قول أبي بكر بالبطلان، والمشهور خلافه، وعلى المشهور هل يجب كما تقدم أو يبطل المسمى ويجب مهر المثل أو إن وجد شيء فهو له، وإلا وجب مهر المثل؟ على ثلاثة أوجه، والله أعلم. [الخلع على غير عوض] قال: ولو خالعها على غير عوض كان خلعا ولا شيء له. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار الخرقي، وابن عقيل في التذكرة، لأنه قطع للنكاح، فصح من غير عوض كالطلاق، ولأن الأصل في مشروعية الخلع أن يوجد من المرأة رغبة عن زوجها، وتحتاج إلى فراقه فتسأله ذلك، فإذا أجابها فقد حصل المقصود منه، (والثانية) : لا يصح إلا بعوض، اختارها القاضي وجمهور أصحابه، أبو الخطاب، والشريف، والشيرازي وغيرهم، لأن الخلع الذي ورد في الكتاب والسنة ورد بعوض، والأصل عدم جواز ما عداه، ولأن الخلع (إن كان) فسخا فالزوج لا يملك فسخ النكاح إلا لعيبها، بخلاف ما إذا دخله العوض فإنه يصير معاوضة، فلا يجتمع له العوض

والمعوض، (وإن كان) طلاقا فليس بصريح فيه اتفاقا، وإنما هو كناية، والكناية لا بد فيها من النية أو ما يقوم مقامها، وهو والحال هذه بدل العوض، ولم يوجد واحد منهما، فعلى هذه الرواية إن خلا عن عوض لم يقع به شيء إلا حيث نجعله طلاقا، فيكون طلاقا رجعيا، والله أعلم. قال: ولو خالعها على ثوب ونحوه فخرج معيبا، فهو مخير بين أن يأخذ أرش العيب أو قيمة الثوب ويرده. ش: الخلع على ثوب ونحوه له حالتان: (إحداهما) : أن يكون معينا وهو ينقسم قسمين منجزا ومعلقا، (فالمنجز) - وهو مراد الخرقي - أن يقول: خلعتك على هذا الثوب، فهذا إن لم يعلم به عيب حين العقد ثم اطلع على عيب، فإنه يخير بين أخذ أرش العيب عوضا عن الجزء الفائت، وبين رد الثوب وأخذ قيمته سليما، لأن مقتضى المعاوضة أنه إذا رد الثوب رجع في مقابله وهو البضع، لكن ذلك متعذر، لأن البينونة إذا وقعت لا ترتفع، فيرجع ببدل ما رضي به، وهو الثوب، وفيه البحث السابق في الصداق، أنه كان ينبغي أن يرجع في بدل البضع وهو مهر المثل.

وفي المذهب: رواية أخرى أنه لا أرش له مع إمساكه كالرواية المذكورة في البيع والصداق، (والمعلق) أن يقول: إن أعطيتني هذا الثوب فأنت طالق. وهذا المنصوص عن أحمد، وهو اختيار الشيخين، لأنه إذا اطلع فيه على عيب فلا شيء له، تغليبا للشرط، وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنه كالذي قبله، تغليبا للمعاوضة؛ (والحال الثانية) : أن يكون غير معين، وهو قسمان أيضا (أحدهما) : أن يكون موصوفا بصفات السلم في الذمة، فهذا إذا سلمته إليه فوجد به عيبا (فله إمساكه) لأن غايته أنه قد رضي بدون حقه، (ورده) وأخذ بدله، لأن الذي وجب له في الذمة سليم، فيرجع إليه؛ (الثاني) : أن يكون مجهولا، كأن يخالعها على ثوب، فإن لم نشترط العوض فله أقل ما يتناوله الاسم، وإن اشترطناه فهل يصح الخلع والحال هذه؟ فيه وجهان، المذهب منهما الصحة، وعليه فهل يجب أقل ما يتناوله الاسم، أو قدر مهر مثلها؟ فيه وجهان، والله أعلم. قال: وإذا خالعها على عبد فخرج حرا أو استحق كان عليها قيمته. ش: لتعذر أخذه، والرجوع في البضع، وإذا فيرجع في بدل ما رضي به، وهو قيمته، وفيه الإشكال السابق، وقول الخرقي: خرج حرا أو استحق، يحترز عما إذا خالعها على ما يعلمان أنه حر أو مغصوب، فإنه لا شيء له بلا ريب، لكن هل يصح الخلع أو يكون كالخلع بغير عوض؟ فيه طريقتان للأصحاب،

(والأولى) طريقة القاضي في الجامع الصغير، وابن البنا، وابن عقيل في التذكرة، (والثانية) طريقة الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي والشيخين، والله أعلم. قال: ولو قالت له: طلقني ثلاثا بألف، فطلقها واحدة لم يكن له شيء، ولزمتها التطليقة. ش: أما وقوع الطلاق بها فلا خلاف فيه، لأنه أتى بلفظه الصريح، وأما الألف فلا يستحق منها شيئا على المنصوص، والمجزوم به عند عامة الأصحاب، لأنها إنما بذلتها في مقابلة الثلاث، ولم تحصل، وصار كما لو قال: بعني عبديك بألف. فقال: بعتك أحدهما بخمسمائة. وفارق إذا قال: من رد عبيدي فله كذا. فرد بعضهم، فإنه يستحق بالقسط، لأن غرضه يتعلق بكل واحد من العبيد، وهنا غرضها يتعلق ببينونة كبرى وما حصلت، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنه يستحق ثلث الألف، كما لو قال: من رد عبيدي الثلاثة فله ألف درهم. فرد أحدهم كان له ثلث الألف، فلو لم يكن بقي من طلاقها إلا واحدة، فقالت: طلقني ثلاثا بألف. فطلقها الواحدة، فالذي عليه الأصحاب هنا فيما علمت أنه

يستحق الألف، لأن الواحدة إذا تحصل ما تحصل الثلاث من البينونة الكبرى، فالغرض الذي طلبته المرأة حاصل لها، ولأبي محمد في المقنع احتمال أنها إذا لم تعلم ليس له إلا ثلث الألف، لأنها مع العلم معنى كلامها: كمل لي الثلاث. بخلاف ما إذا لم تعلم، فإن الألف مبذولة في الطلقات الثلاث، فتقسطت عليها، والله أعلم. قال: وإذا خالعته الأمة بغير إذن سيدها على شيء معلوم كان الخلع واقعا، ويتبعها إذا عتقت بمثله إن كان له مثل وإلا قيمته. ش: إذا خالعته الأمة فلا يخلو إما أن يكون بإذن سيدها أو بغير إذنه، فإن كان بإذنه صح بلا ريب، كما لو أذن لها في تجارة أو نحوها، ومحل العوض كمحله في استدانتها، يتعلق بذمة سيدها على المذهب، وإن كان بغير إذنه فهل يصح؟ فيه وجهان: (أحدهما) - وهو مقتضى المحكي عن القاضي في المجرد، وأورده أبو البركات مذهبا - لا يصح، لأن الخلع عقد معاوضة، فلم يصح منها كالبيع ونحوه، (والثاني) - وهو الذي قطع به الخرقي، والقاضي في الجامع الصغير، وأبو الخطاب في الهداية، والشريف وأبو محمد في كتبه الثلاثة - يصح، لأنه إذا صح الخلع مع الأجنبي فمع الزوجة أولى، والخلع يفارق البيع، بدليل صحته على المجهول، وبغير عوض على رواية، وغير ذلك، ويتخرج لنا

(وجه ثالث) : أنها إن خالعته في ذمتها صح، وعلى شيء في يدها لا يصح كبيعها، ويجوز في رواية تقدمت، وعلى القول بالصحة قال الخرقي وعامة من تبعه: تتبع بالعوض بعد العتق، لتعذر الأخذ منها في الحال، فيرجع عليها حين يسارها، وقال أبو محمد: إن وقع على شيء في الذمة فكذلك، وإن وقع على عين فقياس المذهب أنه لا شيء له، قال: لأنه إذا علم أنها أمة فقد علم أنها لا تملك العين، فيكون راضيا بغير عوض، ويلزم من هذا التعليل بطلان الخلع على المشهور، لوقوعه بغير عوض، والله أعلم. قال: وما خالع العبد به زوجته من شيء جاز. ش: لأنه إذا صح طلاقه من غير عوض، فبعوض أولى وأحرى. قال: وهو لسيده. ش: يعني عوض الخلع الذي خالع به العبد لسيده، لأنه من كسبه، وكسبه لسيده، ولم يتعرض الخرقي لمن يقبضه، وقد يقال: إن ظاهر كلامه أن السيد هو الذي يقبضه، وهو اختيار أبي محمد، وصاحب النهاية، كبقية أملاك السيد، وظاهر كلام أحمد واختاره القاضي، أن للعبد قبضه، لأنه لما ملك العقد تبعه عوضه والله أعلم.

قال: وإذا خالعت المرأة في مرض موتها بأكثر من ميراثه منها فالخلع واقع، وللورثة أن يرجعوا عليه بالزيادة. ش: مخالعة المريضة صحيحة بلا ريب، كبيعها ونحو ذلك، ثم إن كان المسمى قدر ميراثها منه فأقل فلا كلام، وإن كان أزيد وقف الزائد على إجازة الورثة، لأنها إذا متهمة، لاحتمال قصدها أن يعطى الوارث زيادة على إرثه، فأشبه ما لو أقرت له، والله أعلم. قال: ولو طلقها في مرض موته، وأوصى لها بأكثر مما كانت ترث، فللورثة أن لا يعطوها أكثر من ميراثها. ش: هذا أيضا من مشكاة الذي قبله، لأنه إذا أوصى لها بأكثر من ميراثها فهو متهم، لأنه يريد أن تبقى أجنبية ليتوصل إلى إعطائها أكثر من ميراثها، بخلاف ما إذا كان بالثلث فما دون، فإن التهمة منتفية، انتهى، وفي بعض النسخ: ولو خالعها. وعليها شرح أبو محمد، وهي أمس وفيها دلالة على صحة خلع المريض وهو واضح، لأنه يصح طلاقه، فمخالعته أولى، والله أعلم. قال: ولو خالعته بمحرم وهما كافران، فقبضه ثم أسلما أو أحدهما، لم يرجع عليها بشيء. ش: تخالع الكفار صحيح، لأنه يصح طلاقهم، فصح تخالعهم كالمسلمين، ثم إن كان العوض صحيحا فواضح، وإن كان محرما - كالخمر والخنزير - فإن قبضه الزوج فقد مضى

حكمه، ولا شيء له وإن أسلم، كما لو تبايعا ذلك وتقابضا، ودليل الأصل قوله سبحانه: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] وإن لم يقبضه فقال القاضي في الجامع الكبير: لا شيء له، لرضاه بما ليس بمال، أشبه المسلمين إذا تخالعا على ذلك، وقال في المجرد: يجب مهر المثل، لأن العوض فاسد، فرجع إلى قيمة المتلف، وهو مهر المثل، واختار أبو محمد أنه يجب قيمة ذلك عند أهله، لأنه إنما رضي بعوض، وقد تعذر العوض، فيرجع في بدله، وهذا قياس المذهب، كما لو خالعها على عبد فخرج حرا أو نحو ذلك، وفارق المسلم إذا خالع على ذلك، لأنه رضي بغير عوض، والله سبحانه أعلم.

كتاب الطلاق

[كتاب الطلاق] ش: الطلاق لغة التخلية، يقال: طلقت الناقة. إذا سرحت حيث شاءت، وجلس فلان في الحبس طلقا، إذا كان بغير قيد، والإطلاق الإرسال، وهو في الشرع راجع لذلك، لأنه حل قيد النكاح، ومن حل نكاحها فقد خليت، ويقال: طلقت المرأة وطلقت، بفتح اللام وضمها، تطلق بضم اللام فيهما، طلاقا وطلقة، والله أعلم. [طلاق السنة والبدعة] قال: وطلاق السنة أن يطلقها طاهرا من غير جماع، واحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها. ش: طلاق السنة ما أذن فيه صاحب الشرع، وعكسه طلاق البدعة، ولا خلاف أن المطلق على هذه الصفة مطلق للسنة، قاله ابن المنذر وابن عبد البر وغيرهما، والأصل فيه قول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله سبحانه: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] .

2683 - قال ابن مسعود في تفسيرها: طاهرا من غير جماع، ونحوه عن ابن عباس. 2684 - وفي الصحيحين «أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض، على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء» ، وفي رواية في الصحيحين أيضا: «ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، ثم إن شاء طلقها طاهرا قبل أن يمس، فذلك الطلاق للعدة كما أمر الله تعالى» . وقول الخرقي: طاهرا. يخرج الحائض، وقوله: من غير جماع، يخرج الطاهر المصابة في الطهر، ولا نزاع أن طلاق هاتين للبدعة، وقد دل عليه ما تقدم، وقوله: واحدة ويدعها حتى تنقضي عدتها؛ يحترز عما لو طلقها أكثر من واحدة في طهر، أو طلق في كل طهر طلقة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم.

قال: ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يصبها فيه كان أيضا للسنة، وكان تاركا للاختيار. ش: هذا (إحدى الروايتين) عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -. 2685 - لأن في حديث فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة؛ وفي رواية: طلقها ثلاثا. الحديث. 2686 - وكذلك «امرأة رفاعة قالت: يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي؛» وظاهره وقوع الثلاث بكلمة واحدة. 2687 - وفي حديث المتلاعنين في الصحيح «قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها عويمر ثلاثا قبل أن يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي رواية لأبي داود: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنفذه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - ولم ينقل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنكر ذلك، ولو لم يكن للسنة لأنكره، (والرواية الثانية) وهي أنصهما أن جمع الثلاث بدعة، وهذا اختيار أبي بكر، وأبي حفص، والقاضي والشريف، وأبي الخطاب والشيرازي،

والقاضي أبي الحسين وأبي محمد، لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] إلى قوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا - فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 1 - 2] ثم قال سبحانه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] ؛ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] ومن طلق ثلاثا لم يبق له أمر يحدث، ولم يجعل له مخرجا ولا يسرا. 2688 - قال مجاهد: كنت عند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس؛ وإن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، وإن الله تعالى قال: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) رواه أبو داود.

2689 - وعن محمود بن لبيد قال: «أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فغضب ثم قال: «أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم» حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟» رواه النسائي. 2690 - وأما حديث فاطمة بنت قيس ففيه في مسلم وأبي داود والنسائي أنها قالت: إن أبا حفص طلقها آخر ثلاث تطليقات، وفي رواية أخرى لهم: أنه بعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها. وهذا يبين أن رواية: طلقها ثلاثا. أو طلقها ألبتة، يعني أنه استوفى عدد طلاقها، وكذلك يحمل حديث ركانة، مع أنه لم

يكن بحضرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى ينكر عليه، وأما حديث المتلاعنين فالمنع من الثلاث إنما كان حذارا من سد الباب عليه، والملاعنة تحرم على التأبيد، فلا حاجة للمنع من الثلاث، (وعلى هذه) فهل المحرم جمع الثلاث في طهر واحد، فلو فرقها في ثلاثة أطهار لم يكن محرما، أو لا فرق بين أن يجمعها في طهر واحد أو في ثلاثة أطهار؟ على روايتين (إحداهما) : أن المحرم الجمع، لظاهر حديث ابن عمر الصحيح: «مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد ذلك، وإن شاء طلق قبل أن يمس» ؛ (والثانية) : لا فرق بين الجمع والتفريق، في أن الجميع بدعة. 2691 - لما روى الدارقطني عن الحسن قال: «حدثنا عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه طلق امرأته تطليقة وهي حائض، ثم أراد أن يتبعها بتطليقتين أخريين عند القرأين، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «يا ابن عمر ما هكذا أمرك الله تعالى، إنك قد أخطأت السنة، والسنة أن تستقبل الطهر، فتطلق لكل قرء» قال: فأمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فراجعتها، ثم قال: «إذا طهرت فطلق عند ذلك أو أمسك» فقلت: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا أكان يحل لي أن أراجعها؟ قال: «لا، كانت تبين منك وتكون معصية» .

2692 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو أن الناس أخذوا بما أمر الله من الطلاق ما يتبع رجل نفسه امرأة أبدا، يطلقها تطليقة ثم يدعها ما بينها وبين أن تحيض ثلاثا، فمتى شاء راجعها. رواه النجاد، وحديث ابن عمر محمول على حصول رجعة بعد الطلاق، وإذًا الطلاق بعد الرجعة للسنة بلا ريب، ويتلخص أن في المسألة ثلاث روايات. (الثالثة) : الجمع في الطهر الواحد بدعة، والتفريق سنة. واعلم أن بين الشيخين نزاعا في فرع آخر، وهو لو طلقها طلقتين، فعند أبي محمد أنه للسنة وإن كان الجمع بدعة، لكن الأولى عنده أن يطلق واحدة، وعند أبي البركات أنه كما لو جمع الثلاث، والله أعلم.

(تنبيه) : أكثر الأصحاب على أن العلة في منع الطلاق في الحيض تطويل العدة، وخالفهم أبو الخطاب فقال: تطليقه في زمن رغبته عنها، قال أبو العباس: وقد يقال: إن الأصل في الطلاق النهي عنه، فلا يباح إلا وقت الحاجة، وهو الطلاق الذي تتعقبه العدة، لأنه لا بد من عدة، والعلة في منع الطلاق في الطهر المصاب فيه احتمال الحمل، فيحصل الندم، ولهذا إذا استبان حملها أبيح الطلاق، والعلة في جمع الثلاث سد الباب عليه، وعدم المخرج له، كما أشار إليه الكتاب العزيز، واختلف الأصحاب في الطلاق في الحيض، هل هو محرم لحق الله تعالى، فلا يباح وإن سألته، أو لحقها فيباح بسؤالها؟ على وجهين، (والأول) : ظاهر إطلاق القرآن والسنة، وأما جمع الثلاث فمحرم عند من حرمه لحق الله تعالى، فلا يباح بسؤالها بلا نزاع نعلمه، والله أعلم. قال: وإذا قال لها أنت طالق للسنة؛ وكانت حاملا أو طاهرا طهرا لم يجامعها فيه؛ فقد وقع الطلاق، وإن كانت حائضا لزمها الطلاق إذا طهرت، وإن كانت طاهرة مجامعة فيه فإذا طهرت من الحيضة المستقبلة لزمها الطلاق. ش: اللام في (للسنة) للوقت، فإذا قال لها: أنت طالق للسنة، أي لوقت السنة، فإذا كانت طاهرا غير مجامعة في ذلك

الطهر، فقد وقع الطلاق، لوجود ظرفه، وهو وقت السنة، وكذلك إن كانت حاملا. 2693 - لأن في مسلم والسنن من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا» ؛ وفي لفظ: «إذا طهرت أو وهي حامل» » ، وقال ابن عبد البر: لا خلاف بين العلماء أن الحامل طلاقها للسنة، ولأن المطلق والحال هذه داخل على بصيرة، فلا يخاف ظهور أمر يتجدد معه الندم. انتهى، وإن كانت حائضا فهذا ليس بوقت للسنة، فلم يوجد ظرف الطلاق، فإذا طهرت وجد وقت السنة، فتطلق، وكذلك إن كانت طاهرة مجامعة في الطهر، لم يوجد ظرف الطلاق، ثم هذا الطهر يتعقبه الحيض، وهو أيضا وقت للبدعة لا للسنة، فإذا طهرت منه وجد وقت السنة فتطلق لوجود ظرفه. وظاهر كلام الخرقي أن بمجرد الطهر يوجد وقت السنة، وإن لم تغتسل، وهذا هو المذهب، وقيل: لا يوجد حتى تغتسل، ولعل مبنى القولين على أن العلة في المنع من طلاق الحائض إن قيل تطويل العدة، وهو المشهور أبيح الطلاق بمجرد الطهر، وإن قيل الرغبة عنها لم يبح حتى تغتسل، لمنعها منه قبل الاغتسال، والله أعلم.

قال: ولو قال لها: أنت طالق للبدعة، وهي في طهر لم يصبها فيه، لم يقع الطلاق حتى يصيبها أو تحيض. ش: هذه الصورة عكس التي قبلها، فإذا قال لزوجته: أنت طالق للبدعة. معناه لوقت البدعة، فإذا كانت في طهر لم يصبها فيه فهذا ليس بوقت للبدعة فلا تطلق، فإذا أصابها أو حاضت فقد وجد وقت البدعة فتطلق، هذا قول الأصحاب، واختار أبو البركات أنه إذا قال لها: أنت طالق للبدعة، وهي في زمن السنة أنها تطلق طلقتين في الحال إن قلنا: الجمع بدعة، لأنه لما لم يكن في وقت بدعة فالظاهر أنه لم يرد البدعة إلا من حيث العدد، ومعناه: أنت طالق طلاقا للبدعة. أي موصوفا بأنه للبدعة، وإذا تطلق طلقتين، لأنه طلاق موصوف بالبدعة، والله أعلم. قال: ولو قال لها وهي حائض ولم يدخل بها: أنت طالق للسنة، طلقت من وقتها، لأنه لا سنة فيه، ولا بدعة. ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وأشار إلى علته بأنه لا سنة في هذا الطلاق، أي طلاق غير المدخول بها ولا بدعة، وقد حكى ذلك ابن عبد البر إجماعا في غير العدد، وذلك لما تقدم من أن العلة في المنع من الطلاق في الحيض طول العدة، وفي

طلاق السكران

الطهر المجامع فيه خوف الندم بظهور الحمل، وغير المدخول بها لا عدة عليها، ولا ارتياب في حقها، ولو عكس فقال لغير المدخول بها: أنت طالق للبدعة، وهي طاهر طلقت في الحال لذلك، وكذلك حكم الآيسة والصغيرة، لا سنة لطلاقهما ولا بدعة، وكذلك الحامل المستبان حملها، على أشهر الروايتين، لما تقدم، والرواية الثانية تثبت سنة الوقت للحامل، لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم، وهو ظاهر كلام الخرقي السابق، ولهذا لم يقل إذا قال لها: أنت طالق للبدعة، أنها تطلق إذا كانت حاملا، وعلى هذا إذا قال للحامل أنت طالق للبدعة؛ لم تطلق في الحال، حتى يوجد نفاس أو حيض. (تنبيه) : وقول الخرقي: لا سنة فيه ولا بدعة، أي من حيث الوقت، وكذا من حيث العدد على مختاره، وعلى الرواية الأخرى تثبت لهم السنة من حيث العدد، والله أعلم. [طلاق السكران] قال: وطلاق الزائل العقل بلا سكر لا يقع. ش: طلاق الزائل العقل لجنون أو إغماء أو طفولية لا يقع. 2694 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يعقل» رواه أبو داود.

2695 - وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه. ذكره البخاري في صحيحه، مع أن هذا قد حكي إجماعا والحمد لله، وقد يدخل في كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - النائم، وهو أيضا بالإجماع، وقد شهد له النص. ومما يدخل في كلام الخرقي من تعاطى ما يزيل عقله لغير حاجة، كالبنج ونحوه، وقد اختلف المذهب في هذا، فألحقه ابن حامد وأبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد بالسكران، وفرق أحمد بينهما، فألحقه بالمجنون، ووجه القاضي الفرق بأن الغالب من الناس أنهم يشربون لغير المعصية، بخلاف المسكر، والحكم يتعلق بالغالب، ولأن كثيرا ممن يشرب المسكر يظهر زوال العقل مع إثباته، فحكم بإيقاع الطلاق سدا للذريعة، بخلاف متعاطي البنج ونحوه، ومما قد يلحق بالبنج الحشيش الخبيثة، وأبو

العباس يرى أن حكمها حكم الشراب المسكر، حتى في إيجاب الحد، ويفرق بينها وبين البنج، بأنها تشتهى وتطلب، فهي كالخمر، بخلاف البنج، فالحكم عنده منوط باشتهاء النفس وطلبها، والله أعلم. قال: وعن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - في طلاق السكران روايات، إحداهن: لا يلزمه الطلاق، ورواية: يلزمه، ورواية يتوقف عن الجواب، ويقول: قد اختلف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه. ش: الرواية الأولى اختيار أبي بكر، وابن عقيل فيما أظن، ونص عليها أحمد صريحا في رواية جماعة، بل هي آخر قوليه على ما حكى عنه الميموني، قال: أكثر ما فيه عندي أنه لا يلزمه الطلاق، فقيل له: أليس كنت مرة تخاف أن يلزمه، قال: بلى ولكن أكثر ما عندي أنه لا يلزمه. 2696 - وذلك لقول عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق.

2697 - وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. ذكرهما البخاري في صحيحه، وقال أحمد: حديث عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرفع شيء فيه، وهو أصح، يعني من حديث علي، وقال ابن المنذر: هذا ثابت عن عثمان ولا نعرف أحدا من الصحابة خالفه. 2698 - وقد جاء في حديث بريدة في «قصة ماعز أنه قال: يا رسول الله طهرني. قال: «مم أطهرك؟» قال: من الزنا. فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: «أشرب خمرا؟» فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أزنيت؟» قال: نعم. فأمر به فرجم» . رواه مسلم والترمذي وصححه، وهذا ظاهر في أن وجود ريح الخمر منه

يمنع من ترتب الحكم عليه، ويجعله في حكم المجنون، ولأنه زائل العقل، أشبه المجنون والنائم، ولأن شرط التكليف العقل وهو مفقود، ولا أثر لزوال الشرط بمعصيته، بدليل أن من كسر ساقه جاز أن يصلي قاعدا، ولا قضاء عليه، وكذلك لو ضربت المرأة بطنها فنفست، سقطت عنها الصلاة، (والرواية الثانية) اختارها الخلال والقاضي، وعامة أصحابه، الشريف وأبو الخطاب، والشيرازي وغيرهم. 2699 - لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه» ، وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله، ذكره البخاري في صحيحه. 2700 - وروى ابن وبرة الكلبي قال: أرسلني خالد إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأتيته في المسجد، ومعه عثمان وعلي وعبد الرحمن، وطلحة

والزبير، فقلت: إن خالدا يقول: إن الناس انهمكوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة؛ فقال عمر: هؤلاء عندك فسلهم، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون. فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، فجعله الصحابة في حكم الصاحي، بدليل أنهم أوجبوا عليه حد المفتري، ولأن كثيرا ممن يتعاطى ذلك يظهر زوال العقل مع ثباته، فعومل معاملة الصاحي، سدا للذريعة. ولا يخفى أن أدلة الرواية الأولى أظهر، إذ الحديث الأول وكذلك قصة ابن وبرة لم يذكر من رواهما، ولا يعرف صحتهما. 2701 - ثم يضعف قصة ابن وبرة أن مذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن السكران إنما يجلد أربعين، وما ذكره البخاري عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله: كل الطلاق جائز. فغايته عموم (والرواية الثالثة) نص عليها فيما أظن في رواية حرب، وقد ذكر وجه توقفه، وهو اختلاف أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي التحقيق

لا حاجة إلى ذكر هذه الرواية، لأن أحمد حيث توقف فللأصحاب قولان، وقد نص على القولين، فاستغني عن ذكر رواية التوقف، واعلم أن الروايتين المتقدمتين يجريان في عتقه ونكاحه، وبيعه وردته، وسائر أقواله، وقتله وسرقته، وكل فعل يعتبر له العقل (وعنه) أنه كالمجنون في أقواله، وكالصاحي في أفعاله، لأن تأثير الفعل أقوى من تأثير القول؛ ولهذا قلنا على رواية: إن الإكراه لا يؤثر في الأفعال (وعنه) رابعة أنه في الحدود كالصاحي، وفي غيرها كالمجنون، قال في رواية الميموني: تلزمه الحدود، ولا تلزمه الحقوق، وهذه اختيار أبي بكر، فيما حكاه عنه القاضي، ويلزم أن يقول اختياره في الطلاق عدم الوقوع، وذلك سدا للذريعة، وحذارا من أن تنتهك محارم الله بالاحتمال، ويشهد لها أيضا قصة ابن وبرة إن صحت، (وعنه) رواية خامسة أنه فيما يستقل به مثل عتقه وقتله وغيرهما كالصاحي، وفيما لا يستقل به - مثل بيعه ونكاحه ومعاوضته - كالمجنون، حذارا من أن يلزم غيره بقوله شيء، حكاها ابن حامد، قال القاضي: وقد أومأ إليها في رواية البرزاطي، وقد سأله عن طلاق السكران فقال: لا أقول في طلاقه شيئا، قيل له: فبيعه وشراؤه؟ قال: أما بيعه وشراؤه فغير جائز.

طلاق الصبي

قلت: ونقل عنه إسحاق بن هانيء ما يحتمل عكس هذه الرواية، فقال: لا أقول في طلاق السكران وعتقه شيئا، ولكن شراؤه وبيعه جائز. (تنبيه) : السكر الذي يقع الخلاف فيه أن يخلط في كلامه، ولا يعرف فعله من فعل غيره، ونحو ذلك، قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فجعل سبحانه علامة زوال السكر علمه بما يقول، ولا يعتبر أن لا يعرف السماء من الأرض ونحو ذلك، لأن ذلك لا يخفى على المجنون، والله أعلم. [طلاق الصبي] قال: وإذا عقل الصبي الطلاق فطلق لزمه. ش: هذه إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار عامة أصحابه، الخرقي وأبي بكر، وابن حامد، والقاضي وأصحابه، كالشريف، وأبي الخطاب، وابن عقيل. 2702 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عبد فقال: يا رسول الله سيدي زوجني أمته، وهو يريد أن يفرق بيني وبينها. قال: فصعد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المنبر فقال: «يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته، ثم يريد أن يفرق بينهما، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق» رواه ابن ماجه والدارقطني.

طلاق المكره

2703 - ولما يروى من قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه» المغلوب على عقله؛ (والثانية) : لا يقع طلاقه حتى يبلغ، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاثة» الحديث، وتقييد الخرقي الصبي بالعاقل ليخرج من لم يعقل، ولا نزاع في ذلك، ولينيط الحكم بالعقل، وكذا أكثر الروايات، وهو اختيار القاضي وغيره، (وعنه) تقييد ذلك بابن عشر، وهو اختيار أبي بكر، لجعله حدا للضرب على الصلاة ونحوها، ومعنى عقل الطلاق أن يعرف أن النكاح يزول به، ويلزم من هذا أن يكون مميزا، والله أعلم. [طلاق المكره] قال: ومن أكره على الطلاق لم يلزمه شيء. 2704 - ش: لما يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» رواه ابن ماجه.

2705 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا طلاق ولا عتاق في غلاق» رواه أبو داود وهذا لفظه، وأحمد وابن ماجه، ولفظهما «في إغلاق» قال المنذري: وهو

المحفوظ. قال أبو عبيد والقتيبي: معناه في إكراه. وقال أبو بكر: سألت ابن دريد وأبا طاهر النحويين فقالا: يريد الإكراه، لأنه إذا أكره انغلق عليه رأيه، وقد تقدم قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن طلاق السكران والمستكره ليس بجائز. 2706 - وعن قدامة بن إبراهيم، أن رجلا على عهد عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تدلى يشتار عسلا فأقبلت امرأته فجلست على الحبل، فقالت: ليطلقها ثلاثا، وإلا قطعت الحبل، فذكرها الله والإسلام فأبت، فطلقها ثلاثا، ثم خرج إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكر ذلك له، فقال: ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق. رواه سعيد بن منصور، وأبو عبيد القاسم بن سلام، ويستثنى

من هذا إذا كان الإكراه بحق، كإكراه الحاكم المولي على الطلاق بعد التربص، إذا لم يف، وإكراه الرجلين اللذين زوجهما وليان، ولم يعلم السابق منهما، لأنه قول حمل عليه بحق فصح، كإسلام المرتد. وقول الخرقي: ومن أكره على الطلاق لم يلزمه شيء. ظاهره وإن نوى به الطلاق، وهو أحد القولين، نظرا إلى أن اللفظ مرفوع عنه بالإكراه، فإذا تبقى نيته مجردة، (والقول الثاني) أنه بمنزلة الكناية، إن نوى به الطلاق وقع وإلا لم يقع، حكاهما أبو الخطاب في الانتصار، وكذلك حكى شيخه عن أحمد ما يدل على روايتين، وجعل الأشبه الوقوع، وكذلك أورده أبو محمد مذهبا، ولا نزاع عند العامة أنه إذا لم ينو الطلاق، ولم يتأول بلا عذر، أنه لا يقع، ولابن حمدان احتمال بالوقوع والحال هذه، والله أعلم. قال: ولا يكون مكرها حتى ينال بشيء من العذاب، مثل الضرب، أو الخنق أو عصر الساق، وما أشبهه، ولا يكون التواعد إكراها. ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي وجمهور أصحابه، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم، ونص عليه أحمد في رواية الجماعة، وقال: كما فعل بأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 2707 - وكأنه يشير إلى «قصة عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فروي أن المشركين أخذوه فأرادوه على الشرك، فأعطاهم، فانتهى إليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو

يبكي، فجعل يمسح الدموع عن عينيه، ويقول: «أخذك المشركون فغطوك في الماء، وأمروك أن تشرك بالله ففعلت، فإن أمروك مرة أخرى فافعل ذلك بهم» » رواه أبو حفص، ووجه الدليل منه أن الرخصة وردت في مثل ذلك، فاقتصرت عليه، ولأن التواعد غير محقق، وغايته ظن، ولا يترك بالظن أمر متيقن (والرواية الثانية) يكون التواعد إكراها، اختارها ابن عقيل في التذكرة، وأبو محمد، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الذي اشتار العسل، ولأن الإكراه إنما يتحقق بالوعيد، فإن الماضي من العقوبة لا يندفع بفعل ما أكره عليه وإنما يباح الفعل المكره عليه دفعا لما يتوعد به من العقوبة فيما بعد، (فعلى الرواية الأولى) شرط الضرب أن يكون شديدا، أو يسيرا في حق ذي مروءة، على وجه يكون إخراقا، ومما يشبه الضرب، وعصر الساق القيد والحبس الطويلان، وأخذ المال الكثير، زاد في الكافي: والإخراج من الديار لا السب ونحوه رواية واحدة، قاله في المغني، وجعل في الكافي الإخراق ممن يغض ذلك منه إكراها، وفي تعذيب الولد قولان، وضبط أبو البركات ذلك

بأن يكون مثله يتضرر بذلك تضررا بينا، ولا بد أن يستدام مع الفعل التوعد بذلك، (وعلى الرواية الثانية) شرط التواعد أن يكون بما تقدم من قادر يغلب على ظنه فعله إن خالفه، وعجزه عن دفعه وهربه واختفائه، وهل يستثنى على هذه الرواية التهديد بالقتل فيكون إكراها، لأنه لا يمكن تداركه بعد وقوعه؟ استثناه القاضي في الروايتين، وقال: يجب أن يقال: يكون إكراها، رواية واحدة، وتبعه المجد، وزاد قطع الطرف، ولا شك أن المعنى فيهما واحد، وتبعه المجد، وزاد قطع الطرف، ولا شك أن المعنى فيهما واحد، وظاهر كلام أبي محمد في كتبه عدم استثنائه، وقد أورد على القاضي في التعليق فشمله، وأجاب بالفرق بما تقدم، ثم قال: على أن هذه الرواية لا فرق بين القتل وغيره، على ظاهر كلام أحمد في رواية صالح والمروذي، والله أعلم.

باب صريح الطلاق وغيره

[باب صريح الطلاق وغيره] أي باب حكم صريح الطلاق وغيره من الاستثناء في الطلاق، والتعليق بشرط، وغير ذلك مما يذكر إن شاء الله تعالى، والصريح الخالص من كل شيء، فصريح الطلاق اللفظ الموضوع له، الذي لا يفهم منه عند الإطلاق غيره، أو يفهم لكن على بعد. قال: وإذا قال لها: قد طلقتك، أو قد فارقتك، أو قد سرحتك؛ لزمه الطلاق. ش: ظاهر كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن هذه الألفاظ صريحة في الطلاق، ولا نزاع في أن المذهب أن لفظ الطلاق وما تصرف منه مما يفهم منه الطلاق صريح في الطلاق، لأنه موضوع له على الخصوص، وقد ثبت له عرف في الشرع والاستعمال، ففي الكتاب العزيز: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، فإن طلقها وفي السنة والاستعمال أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض. 2708 - وقالوا: طلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حفصة، وهذا واضح لا خفاء به، وقد دخل في الطلاق وما تصرف منه طلقتك، وأنت

طالق، وأنت مطلقة وأنت الطلاق، وخرج منه أطلقك وطلقي؛ لأنه لا يفهم منهما الطلاق، إذ الأول وعد، والثاني طلب، وليس بخبر ولا إنشاء، وحكى أبو بكر عن أحمد رواية في: أنت مطلقة أنه ليس بصريح، لاحتمال أن يريد طلاقا ماضيا، ويلزمه ذلك في طلقتك؛ ولأبي محمد في الكافي احتمال في: أنت الطلاق؛ أنه لا يكون صريحا، ومن الصريح إذا قيل له: أطلقت امرأتك؟ قال: نعم. إذ السؤال معاد في الجواب، ويحتمل أن لا يكون صريحا من القويل في: أقبلت هذا النكاح. وأطلقك؛ ليس بصريح على المذهب، لانتفاء عرف الاستعمال فيه، وللقاضي فيه احتمال. وأما لفظ السراح والفراق ففيهما وجهان، (أحدهما) - وهو الذي ذكره الخرقي، وتبعه عليه القاضي في التعليقة وفي غيرها، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن البنا والشيرازي وغيرهم - أنهما صريحان، حكمهما حكم لفظ الطلاق، لورودهما في الكتاب العزيز بمعنى الفرقة، فأشبها لفظ الطلاق، قال سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وقال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وقال: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء: 130]

وقال سبحانه: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ} [الأحزاب: 28] (والثاني) - وهو اختيار ابن حامد، وأبي الخطاب في الهداية، والشيخين - ليسا بصريح، لاستعمالهما في غير الطلاق كثيرا، فأشبها سائر كناياته، قال سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] وقال تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] وأما قَوْله تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فليس المراد به الطلاق قطعا، إذ الآية في الرجعية، وهي إذا قاربت انقضاء عدتها فإما أن يمسكها برجعة، وإما أن يترك حتى تنقضي عدتها فيسرح، فالمراد بالتسريح في الآية الكريمة قريب من معناها اللغوي، وهو الإرسال، وهو أن تخلى، وكذلك المفارقة في الآية الثانية، المراد بها ترك مراجعتها، كأنه إذا يظهر حكم الفرقة، لأنها قبل انقضاء العدة في حكم الزوجة، وأما قوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا} [النساء: 130] فليس فيه بيان لما تحصل به الفرقة، وأما أسرحكن يحتمل أرسلكن بالطلاق، ثم المدار على عرف الاستعمال الشرعي، وهو مفقود، وعلى هذا الوجه هما كنايتان ظاهرتان، حكمهما حكم الخلية والبرية على ما سيأتي إن شاء الله تعالى.

(تنبيه) حكم الصريح أنه لا يحتاج إلى نية كما سيأتي إن شاء الله، وأنه إن صرفه بأن قال: من وثاق. أو نحو ذلك فإن كان باللفظ سمع منه، وإن كان بالنية فإنه يدين، وفي الحكم إن قامت قرينة تكذبه كالغضب أو بسؤالها الطلاق لم يسمع، وإلا فروايتان، أنصهما القبول، والله أعلم. قال: ولو قال لها في الغضب: أنت حرة. أو لطمها فقال: هذا طلاقك. لزمها الطلاق. ش: أما إذا قال لها: أنت حرة. فقد اتفق الأصحاب فيما علمت في عدها من كنايات الطلاق، لأن الحرة هي التي لا رق عليها، ولا شك أن النكاح رق. 2709 - ولهذا في الحديث: «اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم» أي أسراء، والزوج ليس له على الزوجة إلا رق الزوجية، فإذا أخبر بزوال الرق فهو الرق المعهود، وهو رق الزوجية، ثم من الأصحاب من يعدها في الكنايات الظاهرة، وهم الأكثرون ومنهم من يعدها في المختلف فيه.

وظاهر كلام الخرقي أنه جعلها من الخفية، لأنه قال: لزمها الطلاق. وظاهره طلقة واحدة، ولم يجعلها كالخلية ونحوها. وقيد الخرقي وقوع الطلاق بحال الغضب، وهو مدل بشيئين (أحدهما) أن الكنايات إذا اقترن بها دلالة حال، من غضب أو ذكر الطلاق ونحو ذلك، قام ذلك مقام النية، وطلقت على المشهور، والمختار لكثير من الأصحاب من الروايتين، إذ دلالة الحال كالنية، بدليل أنها تغير حكم الأقوال والأفعال، فإن من قال لرجل: يا عفيف ابن العفيف؛ في حال تعظيمه كان مدحا، ولو قاله في حال الشتم والسب كان ذما وقذفا (والرواية الثانية) لا بد في الكنايات من النية، لأن نفس اللفظ للطلاق وغيره، ومميزه النية، فلا بد من اعتبارها، دفعا للإيهام، ومال أبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه في الألفاظ التي يكثر استعمالها - نحو: اخرجي، واذهبي، ونحو ذلك - لا يقع بها طلاق، إلا أن ينويه (فعلى المذهب) لو ادعى أنه لم يرد بها الطلاق دين، وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين.

واعلم أن أبا البركات حكى الروايتين في القبول في الحكم وعدمه، إذا ادعى عدم إرادة الطلاق، وغيره يجعل الروايتين في الغضب، هل يقوم مقام النية أم لا؟ فربما ظن ظان أن بينهما تنافيا وليس كذلك، فإن غايته أن الأصحاب ذكروا رواية لم يذكرها المجد، وذكر يعني المجد رواية تؤخذ من كلامهم في غير هذا المحل، وهو ما إذا ادعى أنه أراد بلفظه ما يخالف ظاهره، ونحو ذلك. (الشيء الثاني) أنه إذا أتى بالكناية في غير حال الغضب لا يقع بها طلاق، وهو كذلك، لأن اللفظ بمجرده لا دلالة له على الطلاق، بل هو كالمشترك، فلا بد من شيء يبين المراد منه، ويستثنى من ذلك النية، إذ هي تبين المراد، وكأن الخرقي إنما تركه اكتفاء بذكر الغضب، لأنه إذا اكتفي بالغضب لدلالته على النية، فالنية أولى وأحرى، وأما إذا لطمها وقال: هذا طلاقك. فقوة كلام الخرقي يقتضي وقوع الطلاق بمجرد ذلك من غير نية، وهو قول ابن حامد، لأن معناه أوقعت عليك طلاقا هذا من أجله، واختار أبو محمد أنه كناية في الطلاق، يعتبر له ما يعتبر لها من النية، أو دلالة حال، لأن هذا اللفظ غير موضوع للطلاق، ولا مستعمل فيه شرعا ولا عرفا، فأشبه سائر الكنايات، وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب في الخلاف، ويحتمل كلام الخرقي هذا أيضا، ويكون اللطم قائما مقام النية، لأنه يدل على الغضب، وعلى قياس ما تقدم لو أطعمها أو سقاها ونحو ذلك، فعلى الأول يقع الطلاق بمجرده، وعلى الثاني

لا بد من النية، وعلى القول بالوقوع من غير نية فلو فسره بمحتمل غيره قبل، وعلى هذا فهذا قسم برأسه ليس بصريح وإلا خرج الخلاف إذا صرفه، ولا كناية، لأن الكناية تتوقف على النية، فهو ظاهر في الطلاق، يصرف عند الإطلاق إليه، ويجوز صرفه إلى غيره، والله أعلم. قال: وقال أبو عبد الله: وإذا قال لها: أنت خلية أو أنت برية أو أنت بائن، أو حبلك على غاربك، أو الحقي بأهلك. فهو عندي ثلاث، ولكني أكره أن أفتي به، سواء دخل بها أو لم يدخل بها. ش: وقوع الثلاث بهذه في الجملة هو المشهور عن أحمد، واختيار كثير من الأصحاب، لأنه المشهور عن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 2710 - فعن أحمد أنه قال في الخلية والبرية والبتة قول علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قول صحيح ثلاثا. 2711 - وقال أيضا في البتة: عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجعلها واحدة، وعلي وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ثلاثا.

2712 - وروى النجاد بإسناده أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل البتة واحدة، ثم جعلها بعد ثلاث تطليقات. 2713 - وروي أيضا عن نافع أن رجلا جاء إلى عاصم وابن الزبير فقال: إن ظئري هذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها، فهل تجدان له رخصة؟ فقال: لا، ولكنا تركنا ابن عباس وأبا هريرة عند عائشة فسلهم، ثم ارجع إلينا فأخبرنا، فسألهم فقال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: هي ثلاث. وذكر عن عائشة متابعتهما؛ ولأن

معنى: أنت خلية. أنت متروكة خالية من النكاح، وكذلك: برية. معناه البراءة من النكاح، وكذلك بائن أي منفصلة من النكاح، وكذلك: حبلك على غاربك. أي مرسلة غير مشدودة، ولا ممسكة بعقد النكاح، والغارب مقدم السنام، والحقي بأهلك. كذلك، إذ الرجعية لا تترك بيت زوجها، وإذا كان هذا مقتضى هذه الألفاظ الثلاث ترتب الحكم على مقتضاها، ولو نوى دونها لأن نيته تخالف مقتضاها، فتلغو نيته، (وعن أحمد) رواية أخرى أنه يقع بها ما نواه، اختاره أبو الخطاب في الهداية. 2714 - لما روي أنه «ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة، فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك وقال: والله ما أردت إلا واحدة. فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله ما أردت إلا واحدة؟» فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة. فردها إليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فطلقها الثانية في زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والثالثة في زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفي لفظ قال «هو على ما أردت» رواه أبو داود وصححه، وابن ماجه والترمذي وقال: سألت محمدا يعني البخاري عن هذا الحديث فقال: فيه اضطراب.

2715 - ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لابنة الجون: «الحقي بأهلك» » وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

لا يطلق ثلاثا، لأنه مكروه، وعلى هذه الرواية إن لم ينو شيئا وقعت بها واحدة، (وعنه) ما يدل على أنه يقع بها واحدة بائنة، إعمالا لمقتضى اللفظ والأصل، إذ مقتضاه البينونة، والأصل عدم ما زاد على الواحدة، وهذا الخلاف جار في جميع الكنايات الظاهرة. ثم اعلم أن عامة الأصحاب يحكون الخلاف على نحو ما قدمت، وخالفهم أبو البركات، فجعل محل الخلاف مع الإطلاق، هل تطلق ثلاثا أو واحدة؟ على روايتين أما إذا نوى شيئا فيدين في ما نواه من غير خلاف، وفي قبوله في الحكم روايتان، وظاهر كلام العامة وقوع الثلاث من غير تديين، وكلام أحمد محتمل، فإنه قال في غير رواية في هذه الصور ونحوها: أخشى أن يكون ثلاثا. انتهى، ولا نزاع عندهم أن الخفية يقع بها ما نواه، وقد اختلف الأصحاب في ما عدا الظاهرة والخفية، والمختلف فيها، وليس هذا موضع استقصاء ذلك، إلا أنه لا نزاع عندهم فيما أعلمه أن الخلية والبرية والبائن من الكنايات الظاهرة، وكذلك البتة والبتلة، ولا نزاع أن نحو: اخرجي واذهبي، وروحي؛ من الكنايات الخفية، واختلف في: الحقي بأهلك، وحبلك على غاربك، ولا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك، ونحو ذلك هل هو ظاهر أو خفي؟

وقول الخرقي: سواء دخل بها أو لم يدخل. احترز عن قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - فإنه قبل الدخول يجعلها واحدة، وبعد ثلاثا، وإنما كره أحمد الفتيا بالثلاث في الكنايات الظاهرة لأنه لا نص فيها، بحيث ترفع الشبهة، وأيضا فإن فيه الحكم بتحريم فرج مع الاحتمال، والله أعلم. قال: وإذا أتى بصريح الطلاق لزمه نواه أو لم ينوه. ش: لأن اللفظ صريح فيه، فلم يحتج به إلى نية كالبيع ونحوه، وسواء قصد المزح أو الجد. 2716 - قال أبو هريرة: إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد، النكاح والطلاق والرجعة» رواه أبو داود وابن ماجه، والترمذي وقال: حسن غريب. مع أن هذا اللفظ قد حكي اتفاقا، لكن على كل حال لا بد من قصد اللفظ، ليخرج النائم والساهي ونحوهما.

ومفهوم كلام الخرقي أن الكنايات لا بد فيها من النية، ولا نزاع في ذلك في الخفية، أما الظاهرة فقد نص أحمد على اشتراط النية، وعليه جمهور الأصحاب، القاضي وأصحابه، والشيخين وغيرهم، ولم يشترط أبو بكر للظاهرة نية، وقد وقع لأحمد إطلاقات ظاهرها ذلك، لكنها محمولة على نصوصه الصريحة، وزعم القاضي أن ظاهر كلام الخرقي أيضا عدم الاشتراط، أخذا من إطلاقه الأول، والله أعلم. قال: ولو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا وأراد به الكذب لم يلزمه شيء. ش: لأن قصارى هذا أن يكون كناية، ولم يوجد شرطها وهو النية، فلا يلزمه شيء، ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يرد الكذب تطلق، وذلك مع شرطه وهو النية، هذا هو المشهور من الرواية، والمختار للأصحاب، لأنه لفظ يحتمل الطلاق، لأنها إذا زال نكاحها فليست له بامرأة، ونقل عنه أبو طالب إذا قيل له: ألك امرأة؟ فقال: لا. ليس بشيء، فأخذ أبو البركات من إطلاق هذا رواية أنه يلزمه طلاق وإن نوى، لأنه خبر كذب، وليس بإيقاع، وحمل القاضي الرواية على أنه لم

الحكم لو وهب زوجته لأهلها

ينو الطلاق، وعلى المشهور لو أقسم بالله على ذلك فقد توقف أحمد في رواية مهنا، فخرج وجهان، مبناهما على أن الإنشاءات هل تؤكد فيقع الطلاق، أو لا تؤكد إلا الخبر، فيتعين خبرية هذا، فلا يقع الطلاق، والله أعلم. قال: ولو قال: قد طلقتها. وأراد به الكذب لزمه الطلاق. ش: أي لو قيل له: ألك امرأة؟ فقال: قد طلقتها. وأراد الكذب طلقت، لأنه أتى بصريح الطلاق، فلزمه كما لو قال ابتداء: طلقت زوجتي، ونحو ذلك، هذا هو المشهور، وقال ابن أبي موسى: إنما تطلق في الحكم، أما فيما بينه وبين الله تعالى فيدين، كما لو قال: كنت طلقتها. والله أعلم. [الحكم لو وهب زوجته لأهلها] قال: وإذا وهب زوجته لأهلها فإن قبلوها فواحدة، يملك الرجعة إذا كانت مدخولا بها، وإن لم يقبلوها فلا شيء. ش: هبة الزوجة لأهلها كناية في الطلاق في الجملة، لأن هبتها تدل على رغبته عنها، وذلك محتمل للطلاق، فوقع به بشرطه كبقية الكنايات، ثم الهبة إنما تلزم وتتم بالقبول، ولذلك إن قبلوها ترتب الحكم، وإن ردوها فلا شيء. إذا تقرر هذا فالمشهور في المذهب أنهم إن قبلوها فواحدة، جعلا له كبقية الكنايات الخفية، إذ الرغبة عنها تحصل

بالواحدة، وما زاد مشكوك فيه، فلا يثبت بالشك، وإن ردوها فلا شيء، لأن الهبة لم تتم (وعن أحمد) رواية أخرى إن قبلوها فثلاث، وإن ردوها فواحدة. 2717 - لأنه قول زيد بن ثابت أو يقال: إذا قبلوها فهو كالحقي بأهلك، وهو كناية ظاهرة، في رواية، فكذلك هنا، وإن ردوها فواحدة، بناء على أن الهبة تلزم في المعين بدون القبض، وأنها كناية خفية وحيث أوقعنا طلقة فإن كانت مدخولا بها فهي رجعية، وإن لم تكن مدخولا بها فهي بائن، قال أبو محمد: وهذا كله مع الإطلاق أو نية الواحدة، أما لو نوى اثنتين أو ثلاثا فهو على ما نوى، كبقية الكنايات الخفية انتهى، وشرط وقوع الطلاق أن ينوي الزوج الطلاق، قاله القاضي وأبو الخطاب وغيرهما، كبقية الكنايات، قال القاضي: وينبغي أن تعتبر النية من الذي يقبل أيضا، وتبعه على ذلك ابن حمدان، كما لو قال لزوجته اختاري؛ وفيه شيء، لأن: اختاري. حقيقة في توكيلها في الطلاق، بخلاف هذا فإن حقيقة الهبة تحصل بالقبول، ولهذا كثير من الأصحاب لا يشترطون ذلك.

التوكيل في الطلاق

(تنبيه) : وحكم: وهبتك لنفسك، حكم وهبتك لأهلك، على ما تقدم، قاله أبو الخطاب، والشيخان وغيرهم، وزاد أبو محمد - وتبعه ابن حمدان - إذا وهبها لأجنبي، وقد ينازع في ذلك، فإن الأجنبي لا حكم له عليها، بخلاف نفسها وأهلها، والله أعلم. [التوكيل في الطلاق] قال: وإذا قال لها: أمرك بيدك. فهو بيدها وإن تطاول، ما لم يفسخ أو يطأها. ش: للزوج أن يطلق امرأته بنفسه، وله أن يوكل في ذلك، كما يوكل في عتق عبده ونحوه، وله أن يوكل المرأة كالأجنبي، فإذا قال لها: أمرك بيدك. فتارة يقصد بذلك تنجيز طلاقها، فتطلق في الحال، وماذا تطلق؟ ينبني على ما تقدم في الكنايات الظاهرة، وتارة يقصد بذلك تفويض الطلاق إليها، فهذا نوع توكيل لها في الطلاق، فتملك ذلك على التراخي. 2718 - اعتمادا على أن هذا قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكما لو جعله في يد أجنبي، هذا منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعليه الأصحاب، وخرج أبو الخطاب فيه قولا أنه على المجلس كالاختيار كما سيأتي وقال أبو البركات: إن أحمد نص على المسألتين، مفرقا بينهما، وإذا لا يحسن

التخريج، والذي رأيته في التعليق التفريق بين: أمرك بيدك. تملك به ثلاثا، واختاري. لا تملك به إلا واحدة، نعم نص مفرقا على أن: أمرك بيدك. للتراخي، واختاري. يختص المجلس، وعلى المذهب هو في يدها ما لم يفسخ الزوج ذلك أو يطأها، لقيام ما يدل على بطلان التوكيل نصا أو ظاهرا، وإذا لم تعلم المرأة بالفسخ فينبغي أن يبقى التوكيل في يدها في رواية، بناء على أن الوكيل لا ينعزل قبل علمه بالعزل. قال: فإن قالت: قد اخترت نفسي. فهي واحدة يملك بها الرجعة. ش: يعني إذا قال لها: أمرك بيدك. فقالت: اخترت نفسي. فهي واحدة رجعية، لأن اختيارها لنفسها يحصل بواحدة، والأصل عدم ما زاد على ذلك، وهذا إذا لم تنو أكثر من واحدة، فإن نوت أكثر من واحدة وقع ما نوت، لأنها تملك الثلاث بالصريح، على ما سيأتي، فتملكها بالكناية كالزوج، والله أعلم. قال: وإن طلقت نفسها ثلاثا، وقال: لم أجعل إليها إلا واحدة؛ لم يلتفت إلى قوله، والقضاء ما قضت. ش: كذا نص عليه أحمد، وقال: لا تنفعه نيته. 2719 - وكذلك رواه البخاري في تأريخه عن عثمان، ويروى أيضا عن ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

2720 - «وعن حماد بن زيد، أنه قال: قلت لأيوب: هل علمت أحدا قال في (أمرك بيديك) أنها ثلاث إلا الحسن؟ قال: لا؛ ثم قال: اللهم غفرا إلا ما حدثني قتادة، عن كثير مولى ابن سمرة عن أبي سلمة عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث» قال أيوب: فلقيت كثيرا مولى ابن سمرة، فسألته فلم يعرفه، فرجعت إلى قتادة فأخبرته فقال: نسي» . رواه أبو داود والترمذي، والنسائي، وقال: هذا حديث منكر. وعن البخاري أنه قال: إنما هو عن أبي هريرة موقوف، ولأنه اسم جنس مضاف، فيشمل الطلاق الثلاث، وهذا غير قانع، لأنه إنما يحسن مع الإطلاق، أما مع النية فالنية صالحة للتخصيص، فإذا العمدة ما تقدم، وقول أحمد: لا تنفعه نيته. يؤيد ما يقوله الجماعة، من أن الكناية الظاهرة يقع بها ثلاث وإن نوى واحدة، وقد صرح أبو محمد هنا بأنه لا يدين انتهى، (وعن

أحمد) : رواية أخرى أنه يرجع إلى نيته، كالرواية في الكنايات الظاهرة، وقد سبقت، ولا ريب أن المذهب عند الأصحاب الأول، والله أعلم. قال: وكذلك الحكم إذا جعله في يد غيرها. ش: يعني يكون في يده ما لم يفسخ أو يطأ، وله أن يطلق واحدة، وله أن يطلق ثلاثا، ولو نوى الزوج أقل من ذلك، على المذهب لما تقدم، والله أعلم. قال: ولو خيرها فاختارت فراقه من وقتها وإلا فلا خيار لها. ش: المذهب المنصوص والمعمول به أن خيار المخيرة على الفور، اتباعا لقضاء الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 2721 - فعن سعيد بن المسيب أنه قال: قضى عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في الرجل يخير امرأته أن لها الخيار ما لم يفترقا، رواه النجاد. 2722 - وعن ابن عمر قال: ما دامت في مجلسها. 2723 - وعن ابن مسعود وجابر نحوه، ولم نعرف لهم مخالفا في

الصحابة، ولأنه خيار تمليك، فكان على الفور كخيار القبول، وخرج أبو الخطاب فيه قولا أنه على التراخي، من: أمرك بيدك. وقد تقدم أن أبا البركات حكى عن أحمد أنه نص على التفرقة، فيبطل التخريج (فعلى الأول) هل يختص بالمجلس، ويكون كمجلس القبول في البيع، يبطل بالإعراض عنه، وهو اختيار القاضي والأكثرين، أو يكون على الفور، جوابا لكلامها، وهو ظاهر كلام الخرقي؟ على روايتين، وهذا كله مع الإطلاق، أما لو خيرها مدة، أو قال: اختاري متى شئت. ونحو ذلك، فإنها تملك ذلك حسب ما جعله لها. 2724 - وقد «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لما خيرها - «إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك» والله أعلم. قال: وليس لها أن تختار أكثر من واحدة إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك. ش: إذا خيرها وأطلق فليس لها أن تختار أكثر من واحدة.

الحكم لو طلقها بلسانه واستثنى بقلبه

2725 - قال أحمد: هذا قول ابن عمر وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وعمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولأن: اختاري. تفويض مطلق، فيتناول أقل ما يقع عليه الاسم، وما زاد عليه فهو مشكوك فيه، فلا يثبت مع الشك، وهذا بخلاف: أمرك بيدك. فإنه للعموم كما تقدم، وإن قيد ذلك بواحدة أو أكثر اتبع، ويكون في الواحدة تنصيص على مقتضى الإطلاق، وفي الثلاث والاثنتين من باب إطلاق المطلق، وإرادة العام مجازا، والله أعلم. [الحكم لو طلقها بلسانه واستثنى بقلبه] قال: وإذا طلقها بلسانه، واستثنى شيئا بقلبه، وقع الطلاق ولم ينفعه الاستثناء. ش: إذا طلق زوجته بلسانه، كأن قال مثلا: أنت طالق ثلاثا. واستثنى شيئا بقلبه، كأن نوى إلا واحدة، وقع الطلاق، ولم ينفعه الاستثناء، لأن العدد نص، والنية لا تقاومه، فلا يرتفع بالضعيف ما يثبت بالنص القاطع، واستعمال الثلاث بمعنى اثنتين استعمال للفظ في غير ما يصلح له.

وظاهر كلام الخرقي أنه لا ينفعه الاستثناء لا ظاهرا ولا باطنا، وهو اختيار الشيخين، إذ اللفظ غير صالح لما أراد، ومفهوم كلام أبي الخطاب أنه ينفعه باطنا، لأنه قال: لم يقبل في الحكم، (وقول الخرقي) : وإذا طلقها بلسانه. قد يحترز عما إذا طلق نسوة واستثنى واحدة منهن بقلبه، ولهذا صورتان، (إحداهما) : أن يقول: نسائي الأربع طوالق. ثم يستثنى بقلبه إلا واحدة، فهذه كمسألة الكتاب (الثانية) : أن يقول: نسائي طوالق ويستثني بقلبه إلا واحدة، فهذا ينفعه الاستثناء، لأن (نسائي) عام قابل للتخصيص، والنية صالحة لذلك، (وقوله) : واستثنى شيئا بقلبه. يحترز عما إذا استثنى بلسانه، فإنه ينفعه ذلك، لورود ذلك في الكتاب والسنة، وكلام العرب، وعن أبي بكر: لا يصح الاستثناء في عدد الطلاق بحال، وليس بشيء، وعلى الأول يصح استثناء الأقل بلا نزاع، ولا يصح استثناء الكل بلا نزاع، وفي النصف والأكثر ثلاثة أقوال (ثالثها) : يصح في النصف دون الأكثر، وهو مقتضى قول الخرقي في الأقارير، والله أعلم.

الطلاق المضاف لوقت

[الطلاق المضاف لوقت] قال: وإذا قال لها: أنت طالق في شهر كذا. لم تطلق حتى تغيب شمس اليوم الذي يلي الشهر المشترط. ش: ملخصة أنه إذا جعل زمنا طرفا لوقوع الطلاق، فإن الطلاق يقع في أول ذلك الظرف، لصلاحيته له، كما لو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق. فإنها تطلق إذا دخلت أول جزء منها، فإذا قال لزوجته: أنت طالق في شهر شعبان مثلا؛ فإنها تطلق إذا غربت شمس آخر يوم من رجب، لأن الشهر المشترط للطلاق يلي ذلك فبغروب شمس آخر يوم من رجب، دخل أول جزء من شعبان، وهو أول الظرف فتطلق، والله أعلم. [تعليق الطلاق على الطلاق] قال: وإذا قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق. فإذا طلقها لزمها اثنتان. ش: إذا قال لزوجته المدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق؛ فقد علق طلاقها على طلاقها، فإذا طلقها طلقت طلقتين، طلقة بالمباشرة، وطلقة بوجود الشرط، وقوله: فإذا طلقها. يشمل ما إذا باشرها بالطلاق، كما لو قال لها بعد التعليق: أنت طالق. وما إذا علق طلاقها بعد التعليق على شرط، فوجد الشرط، كما إذا قال لها إذا طلقتك فأنت طالق. ثم قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار، فإنها تطلق طلقتين، طلقة بدخول الدار، وطلقة بالتعليق الأول، وهذا بخلاف ما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق. ثم قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق. ثم دخلت الدار، فإنها لا تطلق

إلا طلقة واحدة بالتعليق الأول، وقاعدة ذلك أن التعليق مع وجود الشرط بمنزلة التنجيز، ففي الصورة الأولى التعليق، ووجود الشرط وجدا بعد التعليق السابق، فكان بمنزلة التنجيز، وفي الثانية لم يوجد بعد التعليق إلا الشرط، وهو أحد جزئي التنجيز، وليس بتنجيز، والله أعلم. قال: ولو كانت غير مدخول بها لزمته واحدة. ش: علم من هذا أن الصورة السابقة فيما إذا كانت مدخولا بها، وهذه فيما إذا كانت غير مدخول بها، فلا تطلق إلا واحدة بالطلاق الثاني، إذ به تبين، والبائن لا يلحقها طلاق، فلا يمكن إعمال الشرط الأول، والله أعلم. قال: وإذا قال لها: إن لم أطلقك فأنت طالق. ولم ينو وقتا، ولم يطلقها حتى مات أو ماتت، وقع الطلاق بها في آخر وقت الإمكان. ش: «إن» المكسورة المخففة موضوعة للشرط، لا تدل على زمان إلا من حيث إن الفعل المعلق بها من ضرورته الزمان، فهي مطلقة في الزمان كله، لا تدل على فور ولا تراخ، ولا فرق بين الإثبات والنفي، فإذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق. ولم ينو وقتا ولم يطلقها، فإنه لا يحنث بالتأخير، إذ الفعل ليس على الفور، فكل وقت يمكن أن يفعل ما حلف عليه، والوقت لم يفت، فإذا مات أحدهما علمنا حنثه حينئذ، لانتفاء إيقاع الطلاق بها بعد موت أحدهما، أما بعد موته فواضح، إذ الطلاق من جهته وقد تعذر، وأما بعد موتها فلانتفاء قابليتها

لوقوع الطلاق عليها، فإذا يتبين أن الطلاق وقع حيث لم يبق زمن يسع لأنت طالق، هذا هو المذهب بلا ريب (وعن أحمد) رواية أخرى أنه متى عزم على الترك بالكلية حنث حال عزمه، وهذا كله إن لم ينو وقتا، أما إن نوى وقتا، كأن قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، ونوى اليوم، فإن اليمين تتعلق بذلك الوقت، بحيث إذا فات طلقت، إذ النية لها مدخل في تقييد المطلق، كما لها مدخل في تخصيص العام، وكذا لو قامت قرينة بفورية، كما لو قال لزوجته مثلا: ادخلي الدار اليوم. فقالت: لا أدخل. فقال: إن لم تدخلي فأنت طالق. فإن يمينه تتقيد باليوم، لأن حاله تقتضي التقييد بذلك، والله أعلم. قال: وإن قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق. لزمها ثلاث إن كانت مدخولا بها. ش: كلما تقتضي التكرار، قال الله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] {مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} [المؤمنون: 44] فيقتضي تكرار الطلاق بتكرار الصفة، وهو عدم الطلاق، فإذا مضى بعد يمينه زمن يمكن أن يطلقها فيه ولم يطلقها، فقد وجد الشرط، فيقع بها طلقة، وتتبعها الثانية والثالثة، إن كانت مدخولا بها، ولما كان زمن وقوع الطلاق متصلا بتكلمه، غير منفصل عنه، قال: لزمها ثلاث، وإن كانت غير مدخول بها

طلقت واحدة لا غير، لأنها تبين بها، فلا يلحقها ما بعدها، والله أعلم. قال: وإذا قال لها: أنت طالق إذا قدم فلان، فقدم به ميتا أو مكرها لم تطلق. ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، لأنه لم يقدم، وإنما قدم به، إذ الميت لم يوجد منه فعل أصلا، والمكره وإن وجد منه فعل، لكنه منسوب إلى من أكرهه، (والرواية الثانية) وهي اختيار أبي بكر في التنبيه: يحنث، لأن الفعل يصح نسبته إليه، ولذلك يقال: دخل الطعام البلد، وقال سبحانه: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا} [الزمر: 71] وأجيب بأنه وإن نسب الفعل إليه، لكنه في الميت ونحوه على سبيل المجاز، والأصل الحقيقة، وفي المكره فالشارع ألغى ذلك، حيث قال: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» فالفعل من المكره مرفوع عنه، فلا ينسب إليه، وهذا كله مع عدم النية، أما مع النية فيحمل الكلام عليها بلا إشكال. ومفهوم كلام الخرقي أنه متى قدم مختارا حنث الحالف، وهو كذلك، سواء علم باليمين أو جهلها، قال الخلال: قولا

واحدا، وقال ابن حامد: إن كان القادم لا يمتنع باليمين، كالسلطان والرجل الأجنبي فكذلك، لأنه إذا تعليق للطلاق على صفة، وإن كان ممن يمتنع من القدوم باليمين، كقرابة لها أو لأحدهما، أو غلام لأحدهما، فجهل اليمين، أو نسيها، خرج على ما إذا حلف على فعل نفسه، وفعل ناسيا أو جاهلا، لأنه إذا بمنزلة اليمين، واليمين يعذر فيها بالجهل والنسيان، قال أبو محمد: وينبغي على هذا القول أن تعتبر نية الحالف، فإن قصد باليمين منع القادم من القدوم كان يمينا، وإن قصد جعله صفة في الطلاق لم يكن يمينا، فلا يفرق بين علم القادم وجهله، وتعتبر قرائن أحواله أيضا، فإذا كان التعليق على قدوم غائب بعيد، يعلم أنه لا يعلم اليمين، أو على فعل صغير أو مجنون، أو ممن لا يمتنع بها، لا يكون يمينا، وإن كان التعليق على من يعلم بيمينه، ويمتنع من أجلها فهو يمين، ومتى أشكلت الحال قال: فينبغي أن يقع نظرا للفظ والله أعلم. قال: وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق؛ لزمتها تطليقتان، إلا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى، فيلزمها تطليقة. ش: أما لزوم التطليقتين لها إذا لم يرد بالثانية إفهاما، فنطرا لمقتضى اللفظ، إذ مقتضاه وقوع الطلاق، وقصد الإفهام صارف له ولم يوجد، فهو كالعام والمطلق، يعمل بهما ما لم يوجد مخصص مقيد، وأما لزوم واحدة لها فقط إذا نوى بالثانية

إفهام الزوجة أن الطلاق قد وقع عليها، فلا ريب فيه، لأنه لم يقصد بالثانية إنشاء الطلاق وإنما أراد الإخبار والبيان عما تقدم، ومثل ذلك لو قصد التأكيد، نعم يشترط أن لا يفصل بينهما بما لم تجر العادة به، إذ التوكيد تابع، فشرطه الاتصال كسائر التوابع، والله أعلم. قال: وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى، ولم يلزمها ما بعدها، لأنه ابتداء كلام. ش: يعني أن الحكم السابق فيما إذا كانت مدخولا بها، أما إن كانت غير مدخول بها فقال لها: أنت طالق، أنت طالق. فإنها تبين بالأولى، لانتفاء العدة عليها، فيصادفها قوله الثاني: أنت طالق. بائنا والبائن لا يقع بها طلاق، ولا فرق أن ينوي بقوله الثاني الطلاق، أو يطلق لما تقدم، وقول الخرقي: لأنه ابتداء كلام. يعني «أنت طالق» الثاني كلام مستقل، لا تعلق له بالأول، واحترز بالأول عن قوله لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثا، ومن: أنت طالق وطالق وطالق، كما سيأتي، والله أعلم. قال: وإذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق وطالق. لزمتها الثلاث، لأنه نسق، وهو مثل قوله: أنت طالق ثلاثا. ش: الواو لمطلق الجمع، أي التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، من غير إشعار بترتيب ولا معية، على المشهور

المعروف من قولي العلماء والأدباء، وأهل الأصول، حتى أن الفارسي حكى اتفاق أهل العربية عليه، ونص عليه سيبويه في بضعة عشر موضعا من كتابه، وعن ثعلب وابن درستويه، وقليل من الأدباء أنها للترتيب، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد واختاره جماعة من الشافعية، وقيل: إنه اختيار أبي بكر من أصحابنا، وحكاه ابن حمدان رواية عن الإمام أحمد وعزي أيضا إلى نص الشافعي، وتوجيه الخلاف، واستقصاؤه له محل آخر، (فعلى الأول) إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق وطالق. طلقت ثلاثا، لما تقدم من أن الواو للجمع، والكلام كله في حكم جملة واحدة، فهو كقوله: أنت طالق ثلاثا، ولهذا قال الخرقي: لأنه نسق. أي غير متفرق، لا يقال: أنت طالق ثلاثا. جملة واحدة بلا ريب، بخلاف: أنت طالق وطالق وطالق لأنها ثلاث جمل، وكل جملة منهن غير مقيدة بشيء، بخلاف: أنت طالق ثلاثا. فإنه مقيد بالثلاث والكلام إنما يتم بآخره، لأنا نقول: الصحيح عند الجمهور - سيبويه وغيره - أن هذا من باب عطف المفردات، لا من باب عطف الجمل، فالعامل في الثاني هو العامل في الأول، بواسطة حرف العطف، ودعوى أن كل جملة غير مقيدة بشيء، ممنوع مع

العطف، فالكلام إنما يتم معه أيضا بآخره، كما في: أنت طالق ثلاثا. انتهى. وعلى الثاني لا تطلق غير المدخول بها إلا طلقة، كما لو قال لها: أنت طالق. ثم طالق. إذ الطلاق الثاني إذا كان مرتبا بعد الأول اقتضى سبق الأول له، وإذا تبين فلا يلحقها طلاق بعد ذلك، وقول الخرقي: وهو مثل قوله: أنت طالق ثلاثا. إشعار بأن هذه الصورة لا خلاف فيها، وهو كذلك، إذ: ثلاثا. تمييز، وتبيين للطلاق الذي لفظ به، والله أعلم. (تنبيه) : إذا ادعى التأكيد فإن ادعى تأكيد الثانية بالثالثة سمع منه، لاتفاق اللفظ، وهذا من العطف المغير الذي قاله أبو البركات، وإن ادعى تأكيد الأولى بالثانية، لم يسمع منه، نعم يدين فيما بينه وبين الله تعالى، والله سبحانه أعلم. قال: وإذا طلق ثلاثا وهو ينوي واحدة فهي ثلاث. ش: لأنه استعمل اللفظ في غير ما يصلح له لغة وعرفا، فلغا استعماله، وأعمل بمقتضى اللفظ، لا يقال: لأنه تجوز في ذلك. لأن الثلاث نص قاطع في العدد، فلا يقبل التجوز، وإرادة الوحدة، إذ صحة ذلك موقوفة على أن مثل ذلك تجوزت العرب فيه، ولم تنقل الوحدة، وقد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه إذا طلق ثلاثا يقع عليه الثلاث، وهذا مذهبنا ومذهب العامة.

2726 - لأنه قد جاء في بعض روايات «ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما طلق امرأته وهي حائض، وأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمراجعة، أنه قال: يا رسول الله أرأيت لو طلقتها ثلاثا، كان يحل لي أن أرجعها؟ قال: «لا كانت تبين منك وتكون معصية» رواه الدارقطني. 2727 - وعن يونس بن يزيد قال: سألت ابن شهاب عن رجل جعل أمر امرأته بيد أبيه قبل أن يدخل بها، فقال أبوه: هي طالق ثلاثا. كيف السنة في ذلك؟ فقال: أخبرني محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، مولى ابن عامر بن لؤي، أن محمد بن إياس بن البكير الليثي - وكان أبوه شهد بدرا - أخبره، أن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بانت منه، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. وإنه سأل ابن عباس عن ذلك فقال مثل قول أبي هريرة، وسأل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال مثل قولهما. رواه البرقاني في كتابه المخرج على الصحيح. 2728 - وعن مجاهد قال: كنت عند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا؛ قال: فسكت حتى ظننت أنه

رادها إليه ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله فلم أجد لك مخرجا، عصيت ربك فبانت منك امرأتك. وإن الله قال: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] رواه أبو داود. وهذا كالإجماع من الصحابة على صحة وقوع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة. 2729 - وقد عورض هذا بما روى طاووس عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان الطلاق على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم» ، رواه أحمد ومسلم، وقد قال بظاهر هذا

طائفة قليلة من العلماء، وهو اختيار أبي العباس، وحمله بعض التابعين على ما قبل الدخول. 2730 - وقد جاء ذلك مصرحا به في رواية أبي داود، وتأوله بعضهم على صورة تكرير اللفظ، بأن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فيلزمه واحدة مع التوكيد، وثلاث مع عدمه، ففي زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لصدقهم صدقوا في إرادة التوكيد، ولما رأى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أحوال الناس قد تغيرت ألزمهم الثلاث، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشار إلى ضعف رواية طاووس هذه، فقال: كل أصحاب ابن عباس رووا عنه خلاف ما قاله طاووس، وكذلك أشار البيهقي، قال: هذا الحديث مما اختلف فيه البخاري ومسلم، وتركه البخاري، قال: وأظنه إنما

حكم من طلق واحدة وهو ينوي ثلاثا

تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال ابن المنذر: وغير جائز أن يظن بابن عباس أنه علم شيئا عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يفتي بخلافه، وقال الشافعي: يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قد علم أن كان شيئا فنسخ، وبالجملة تنقيح هذه المسألة، والكلام على هذه التأويلات، يحتاج إلى بسط أزيد من هذا، ولا يليق بمختصرنا، والله أعلم. [حكم من طلق واحدة وهو ينوي ثلاثا] قال: وإذا طلق واحدة وهو ينوي ثلاثا فهي واحدة. ش: إذا طلق واحدة فله حالتان (إحداهما) : أن يقول: أنت طالق. فهذا إن أطلق وقعت واحدة بلا ريب، وإن نوى ثلاثا فيه روايتان (إحداهما) : - وهي اختيار القاضي، وقال إن عليها الأصحاب، واختيار أصحابه أيضا الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي - لا تطلق إلا واحدة، لأن لفظه لا يتضمن عددا، وإنما هو إخبار في الحقيقة

عن صفة هي عليها، فهو كقوله: قائمة وقاعدة. فإذا نوى به الثلاث فقد نوى ما لا يتضمنه اللفظ، ولا يقتضيه، فيلغى (والرواية الثانية) : تطلق ثلاثا، ولعلها أظهر، لأن قوله: أنت طالق. تقديره الطلاق أو طلاقا، ولو صرح بذلك ونوى الثلاث طلقت ثلاثا، فكذلك إذا لم يصرح به، إذ المقدر كالملفوظ به، ثم لو لم يقدر بشيء فالصفة التي وصفها به، وهي: أنت طالق. تتضمن المصدر وزيادة، ولا ريب أن المصدر يصح تفسيره بالقليل والكثير، فكذلك: أنت طالق. ولهذا لو صرح بالتفسير فقال: أنت طالق ثلاثا. طلقت ثلاثا بلا ريب، فعلى هذه الرواية إذا صرح بالواحدة فقال: أنت طالق واحدة - وهذه هي الحالة الثانية - ونوى ثلاثا، ففيه وجهان (أحدهما) : - وهو الذي قطع به أبو محمد في الكافي والمغني، ومتقضى كلام الخرقي -: لا تطلق إلا واحدة، لأن الواحدة صريح في الوحدة، فإذا نوى بها ثلاثا فقد نوى ما لا يحتمله اللفظ، ثم إن نيته خالفت صريح لفظه، ولا شك أن النية أضعف من اللفظ، فالقوي يقدم على الضعيف، ثم لو قدر تعارض اللفظ والنية لبقي: أنت طالق مجردا. وإنه لا يقع به إلا واحدة (والوجه الثاني) : تطلق ثلاثا، وتكون نيته دالة على محذوف، تقديره: أنت طالق واحدة معها اثنتان، والله سبحانه وتعالى أعلم.

باب الطلاق بالحساب

[باب الطلاق بالحساب] قال: وإذا قال لها: نصفك طالق، أو يدك أو عضو من أعضائك طالق، أو قال لها: أنت طالق نصف تطليقة، أو ربع تطليقة؛ وقعت بها واحدة. ش: أما كونها تطلق طلقة إذا طلق منها جزءا مشاعا كنصفها وثلثها ونحو ذلك، أو معينا كيدها وعينها ونحو ذلك، فلأنها جملة لا تتبعض في الحل والحرمة، وجد فيها ما يقتضي التحريم فغلب، كما لو اشترك مسلم ومجوسي في قتل الصيد، ولأنه أشار بالطلاق إلى ما هو من أصل الخلقة، لا يزال عنها في حال السلامة، فكانت الإشارة إليه كالإشارة إلى الجملة، دليله لو أشار إلى الوجه أو الرأس، وخرج السن، لأنه ليس من أصل الخلقة، وإنما يحدث بعد كمالها، والشعر والظفر لزوالهما في حال السلامة، يحقق ذلك أن الأصل في كلام المكلف الإعمال لا الإلغاء، وإطلاق البعض على الكل مجاز مستعمل سائغ، قال سبحانه وتعالى: ذلك بما كسبت أيديكم وقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] بما كسبتم وتبت جملته.

2731 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في نصل أو خف أو حافر» عبر - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالخف عن الإبل، والحافر عن الخيل، وهو كثير، وإذا فهذا كذلك تصحيحا لكلام المكلف. (تنبيه) : إذا أضاف الطلاق إلى عضو من أعضائها فهل يقع عليها جملة، تسمية للكل باسم البعض، وهو ظاهر كلام أحمد، قاله القاضي، أو على العضو نظرا لحقيقة اللفظ، ثم يسري تغليبا للتحريم؟ فيه وجهان، وينبني عليهما إذا قال: إن دخلت الدار فيدك طالق؛ فدخلت وقد قطعت يدها، أو قال: يدك طالق. ولا يد لها، فعلى الأول تطلق، وعلى الثاني لا، انتهى، وأما كونها تطلق طلقة إذا قال لها: أنت طالق نصف طلقة، أو ربع طلقة، أو ثمن طلقة، ونحو ذلك، وهو قول جمهور أهل العلم، فلما تقدم من إطلاق البعض على الكل، تصحيحا لكلام المكلف، والله أعلم. قال: ولو قال لها: شعرك أو ظفرك طالق، لم يلزمها الطلاق، لأن الشعر والظفر يزولان، ويخرج غيرهما، وليس هما كالأعضاء الثابتة. ش: نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك مع السن، وعلل بأن ذلك يبان، يعني مع السلامة فأشبه الريق والحمل، والدمع والعرق،

الشك في الطلاق

ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بأنها تطلق بذلك، لأنه جزء من الجملة، أشبه يدها. (تنبيه) : توقف أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية مهنا والفضل في الروح، هل يكون مظاهرا بها أم لا؟ والذي أورده أبو الخطاب وأبو البركات مذهبا الطلاق، وقال أبو بكر: لا تطلق. ونقله عن أحمد، وجزم أبو البركات تبعا لأبي الخطاب في الدم بالطلاق، وابن البنا في الخصال بعدمه، والله أعلم. [الشك في الطلاق] قال: وإذا لم يدر أطلق أم لا فلا يزول يقين النكاح بشك الطلاق. ش: يعني لم تطلق، وقد علله الخرقي بأن النكاح متيقن، والطلاق مشكوك فيه، واليقين لا يزول بالشك، وهذه قاعدة مستمرة، تقدم ذكرها في الطهارة، والله أعلم. قال: وإذا طلق فلم يدر أواحدة أم ثلاثا، اعتزلها وعليه نفقتها ما دامت في العدة، فإن راجعها في العدة لزمته نفقتها، ولم يطأها حتى يتيقن كم الطلاق، لأنه متيقن للتحريم، شاك في التحليل. ش: المسألة الأولى إذا شك في أصل الطلاق، وهذه إذا علم أنه طلق وشك في قدر ما طلق، فالمنصوص أيضا وعليه الأصحاب أنه يبني على اليقين لما تقدم، وقال الخرقي: يعتزلها. وهذا

الحكم لو طلق إحدى زوجاته ولم ينو واحدة بعينها

أصل مبني على قاعدته، من أن الرجعة محرمة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، قال: وعليه نفقتها. لأن الأصل بقاؤها. استنادا لبقاء النكاح، قال: فإن راجعها في العدة لزمته نفقتها. لما تقدم، إذ الأصل عدم الثلاث، قال: ولم يطأ حتى يتيقن كم الطلاق، لأنه متيقن للتحريم شاك في التحليل؛ وهذا الأصل والتعليل كلاهما منازع فيه، فالتعليل بناء عنده على أن الرجعة محرمة، وهو إحدى الروايتين، والمشهور - وعليه الأصحاب - خلافه، لما سيأتي إن شاء الله، وإذا انتفى هذا التعليل انتفى الأصل، ثم لو سلم هذا التعليل، وأن الرجعة محرمة لم يبح ما قاله، لأن الذي ينفيه تحريم تزيله الرجعة، فيزول بزوالها، ولهذا عامة الأصحاب لم يلتفت لهذا، وقالوا بالإباحة، ولضعف هذا القول أنه لم يلتفت له القاضي في تعليقه، وحمل كلام الخرقي على الاستحباب، والله أعلم. [الحكم لو طلق إحدى زوجاته ولم ينو واحدة بعينها] قال: وإذا قال لزوجاته: إحداكن طالق، ولم ينو واحدة بعينها، أقرع بينهن، فأخرجت القرعة المطلقة منهن. ش: إذا قال لزوجاته: إحداكن طالق. ونوى واحدة معينة، قبل منه تعيينها وطلقت، لأنه عينها بنيته، أشبه ما لو عينها بلفظه، وإن لم ينو ففيه روايتان (أشهرهما) عن أحمد - وعليها عامة الأصحاب، حتى أن القاضي في تعليقه وأبا محمد وجماعة لا يذكرون خلافا - أنه يقرع بينهما، فمن خرجت عليها القرعة فهي المطلقة، لأنه إزالة ملك بني على التغليب والسراية،

فتدخله القرعة، دليله العتق، ودليل الأصل «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرع بين العبيد الستة» ، ولأن الحق لواحد غير معين، فوجب تعيينه بالقرعة، كالحرية في العبيد، إذا أعتقهم وضاق ثلثه عن جميعهم، وكالبداءة بإحدى نسائه في القسم أو السفر بها، قال أحمد: القرعة سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وجاء بها القرآن (والرواية الثانية) : يرجع إلى تعيينه، فمن عينها فهي المطلقة، لأنه يملك الإيقاع ابتداء والتعيين، وقد أوقع ولم يعين، فيملك ذلك استيفاء لما ملكه، والله أعلم. قال: وكذلك إن طلق واحدة من نسائه وأنسيها أخرجت بالقرعة المطلقة منهن. ش: منصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الميموني وأبي الحرث أنه لا فرق بين هذه الصورة والتي قبلها، وعلى هذا عامة الأصحاب، الخرقي، والقاضي، وأصحابه وغيرهم، وسئل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -

عن ذلك في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: أكره أن أقول في الطلاق بالقرعة؛ فأخذ من ذلك - والله أعلم - أبو البركات رواية بالمنع، وهو اختيار أبي محمد، فلا مدخل للقرعة عنده هنا، ويحرمان عليه جميعا، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية، أو ميتة بمذكاة، وفرق بين هذه والتي قبلها بأن الحق ثم لم يثبت لواحدة بعينها، فدخلت القرعة لتبيين التعيين، وهنا الطلاق واقع في معينة لا محالة، والقرعة لا ترفعه عنها، فلا توقعه على غيرها انتهى. والظاهر ما يقول الجماعة، وإن كان أصل دخول القرعة في هذا ليس بالواضح، لأن هذا الفرق إنما يتم لأبي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - لو قيل بأن الطلاق يقع في غير المعينة من حين القرعة، وليس كذلك، بل الطلاق - على ما صرح به القاضي، وذكر عن الإمام أحمد ما يدل عليه في رواية أبي طالب - يقع من حين الإيقاع، وإذا وقع الطلاق من حين الإيقاع، فلا بد له من محل يتعلق به، ولا يتعلق إلا بمعين، فلا فرق بين الصورتين، وقد دخلت القرعة في الصورة الأولى فتدخل في الثانية، وأبو محمد يوافق الجماعة على هذا الأصل، فإنه يجعل العدة من حين الإيقاع، لا من حين القرعة انتهى. فعلى قول أبي محمد يحرم الجميع عليه، وتجب عليه نفقتهن، لأنهن محبوسات عليه بحكم النكاح، وكذلك في قول الجميع قبل

القرعة، ولم أرهم فرقوا بين الطلاق الرجعي والبائن، مع أن الرجعي لا يحرم على المذهب، فقد يقال: لأنه إذا وطئ فقد يطأ من أصابها الطلاق، فتحصل رجعتها على المذهب، وإذا لا مطلقة منهن، فإذا أقرع بعد ذلك وخرجت القرعة بعد ذلك على واحدة، فيحكم بطلاقها وهي زوجة، فلهذا المحذور حرم الوطء مطلقا، نعم لو أراد وطء الجميع فلا ينبغي أن يمنع من ذلك، لأن بذلك تحصل رجعة من طلقها جزما، فأشبه ما لو قال: من وقع عليها طلاقي فقد راجعتها، وعلى قول الأصحاب إذا أقرعنا مع النسيان فخرجت القرعة على واحدة، فقد حكم بطلاقها ظاهرا، فإذا قال بعد ذلك: ذكرت المنسية وأنها غير التي خرجت عليها القرعة، حكم بطلاق التي ذكرها بإقراره بلا ريب، وهل ترجع إليه التي خرجت عليها القرعة؟ لا يخلو إما أن تكون القرعة بحكم حاكم أم لا، فإن كانت بحكم حاكم لم ترجع إليه، حذارا من إبطال حكم الحاكم بقوله، وكذلك إن لم تكن القرعة بحكم حاكم وتزوجت، نص أحمد على هاتين الصورتين، لتعلق حق الغير بها، وفيما عدا هاتين الصورتين قولان وبعضهم يحكيهما روايتين (إحداهما) : ترجع إليه، وهو اختيار الشيخين وغيرهما، إذ القرعة ليست بطلاق صريح ولا كناية فوجودها كعدمها (والثانية) : - وهي قول أبي بكر وابن حامد - لا ترجع إليه، ويحكم عليه بطلاقهما، الثانية بإقراره، والأولى بالقرعة، احتياطا للفروج، ودفعا للتهمة، والله أعلم.

هدم الطلاق

قال: فإن مات قبل ذلك أقرع الورثة بينهن، وكان الميراث للبواقي منهن. ش: يعني إذا مات الزوج قبل القرعة، أقرع الورثة بين النسوة، فمن خرجت عليها القرعة فلا ميراث لها، والميراث للبواقي، نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على ذلك في رواية الجماعة. 2732 - وهو مروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وذلك لأنهن قد تساوين، فلا سبيل إلى التعيين، فوجب المصير إلى القرعة، كمن أعتق عبيدا في مرضه، لا مال له سواهم، وأبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هنا يوافق الجماعة في القرعة، وإن لم يقل بدخولها في المنسية، واعلم أن هذا فيما إذا كان الطلاق بائنا، أما إن كان رجعيا فإن الجميع يرثنه، وهذا واضح، والله أعلم. [هدم الطلاق] قال: وإذا طلق زوجته أقل من ثلاث فقضت العدة، وتزوجت غيره، وأصابها، ثم طلقها أو مات عنها، وقضت العدة، ثم تزوجها الأول فهي عنده على ما بقي من الثلاث. ش: هذه المسألة الملقبة بالهدم، وهو أن نكاح الثاني هل يهدم طلاق الأول، وملخص الكلام في المسألة أن الرجل إذا طلق امرأته ثم رجعت إليه فإن كان قد طلقها ثلاثا ثم رجعت إليه بشرطه، فإنها ترجع إليه بطلاق ثلاث بالإجماع، وإن كان قد طلقها دون الثلاث، ثم رجعت إليه قبل نكاح زوج آخر، رجعت على ما بقي من طلاقها بلا خلاف أيضا، وإن رجعت

بعد نكاح زوج آخر، والحال هذه، فهذه صورة الخرقي، وفيها روايتان، أشهرهما عن أحمد، وهي اختيار الأصحاب أنها تعود على ما بقي من طلاقها، ولا هدم، نظرا إلى إطلاق قوله سبحانه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] إلى قوله سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وظاهر إطلاق الآية الكريمة أن من طلقها زوجها طلقتين، ثم طلقها الثالثة، أنها قد حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره، وهو يشمل ما إذا رجعت إليه قبل تزويج زوج آخر أو بعده، وأيضا فهذا قول جمهور الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 2733 - قال أحمد هذا قول عمر، وعلي، وأبي، ومعاذ، وعمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

2734 - ورواه ابن المنذر أيضا عن زيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر، ومن جهة القياس أن الزوج الثاني لا يحتاج إليه في إباحتها للأول، فوجب أن لا يؤثر في عدد الطلاق، أشبه وطء السيد أو الزوج الثالث أو الرابع (والرواية الثانية) تعود إليه بطلاق ثلاث، فنكاح الثاني هدم الطلاق الأول. 2735 - وهذا قول ابن عمر، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال أحمد: روي عن ابن عباس وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: نكاح جديد وطلاق جديد، لأن نكاح الثاني إما أن يكون تأثيره في رفع التحريم والعدد، أو في رفع التحريم فقط، لا جائز أن يؤثر في رفع التحريم فقط، لأنه يلزم أن يرفع الثالثة، إذ التحريم تعلق بها، فلزم أن يكون تأثيره في رفعهما جميعا، فإذا طلقها واحدة أو اثنتين فالعدد موجود فيرفعه، وأجيب بأنه يهدم التحريم المتعلق بالثلاث، ولا تحريم فيما دون الثلاث، وعن قول ابن عمر،

وابن عباس، بأن أقوال الصحابة على قاعدتنا إذا اختلفت كانت كدليلين متعارضين، وإذا يصار إلى الترجيح، ولا شك أن قول الأولين أرجح، والقاضي حمل قول ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، على ما إذا كان بعد طلاق ثلاث، وجعل المسألة اتفاقية من الصحابة، والله أعلم. قال: وإن كان المطلق عبدا فطلق اثنتين لم تحل له زوجته حتى تنكح زوجا غيره، سواء كانت الزوجة حرة أو مملوكة، لأن الطلاق بالرجال، والعدة بالنساء. ش: لما ذكر أن الزوج إذا طلق امرأته أقل من ثلاث أنها تعود إليه على ما بقي من طلاقها، فإطلاق هذا شامل للحر والعبد، فأراد أن يخرج العبد ويقول: إن نهاية ما يملكه طلقتان، وإن كان تحته حرة، وأن ملك الثلاث مختص بالحر، وإن كان تحته أمة، فالطلاق معتبر بالرجال، هذا أنص الروايتين وأشهرهما عن الإمام، وعليه الأصحاب، لظاهر قول الله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]

الآية إلى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] فجعل للزوج أن يطلق ثلاثا، والمراد به الحر، بدليل: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة: 229] الآية، والأخذ إنما يصح من الحر، لا يقال: الآية إنما وردت في الحرة، بدليل: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] قيل: الأمة يصح الافتداء منها بإذن سيدها، وفي هذا الاستدلال نظر، (أما أولا) فلأن الله سبحانه قال: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] والافتداء المطلق إنما هو للحرة الرشيدة، دون الأمة، وإذا كان للحرة فلا نزاع أن الحر الذي تحته حرة يملك ثلاثا، (وأما ثانيا) فلو سلم أن الأمة داخلة في هذا فلا نسلم أن المراد من قوله: {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ} [البقرة: 229] ، لأن العبد يصح خلعه، بل وقبضه لعوضه على المنصوص، ولو قيل: إنه لا يصح قبضه، فأخذ السيد كان بسببه فنسب إليه، ثم لو سلم هذا فمثل هذا لا يقتضي تخصيص أول الآية الكريمة، غايته أنه أفرد بعض من دخل في الآية بحكم. 2736 - واستدلوا أيضا على ما تقدم بما روى الدارقطني بإسناده عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طلاق العبد اثنتان وقرء الأمة حيضتان» .

2737 - وقد عورض هذا بأن الحديث رواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طلاق الأمة اثنتان، وعدتها حيضتان» . 2738 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طلاق الأمة اثنتان، وعدتها حيضتان» رواه ابن ماجه والدارقطني، وهذا دليل للرواية الثانية، وأن الطلاق معتبر بالنساء، فيملك زوج الحرة ثلاثا، وزوج الأمة اثنتين، والأحاديث في الباب ضعيفة،

باب الرجعة

والذي يظهر من الآية الكريمة أن كل زوج يملك الثلاث مطلقا، والله سبحانه أعلم. قال: وإذا قال لزوجته: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين؛ طلقت ثلاثا. ش: هذا منصوص أحمد في رواية مهنا، وعليه الجمهور، نظرا إلى أن نصف الطلقتين طلقة، وقد أوقعه ثلاثا، فيقع ثلاث، كما لو قال: أنت طالق ثلاث طلقات، وقال أبو عبد الله بن حامد: تطلق طلقتين، نظرا إلى أن الإضافة بمعنى (من) أي من طلقتين، وذلك طلقة ونصف، ثم تكمل فتصير طلقتين، والله سبحانه أعلم. [باب الرجعة] ش: الرجعة بفتح الراء وكسرها، مصدر رجع يرجع رجعة ورجعة، والأصل فيها قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إلى قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] والمراد به الرجعة عند العلماء، وأهل التفسير، وقال سبحانه: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] قيل: أمسكوهن برجعة. 2739 - وقد ثبت «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر ابن عمر أن يراجع امرأته لما طلقها وهي حائض» .

2740 - «ولما طلق حفصة نزل عليه جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بالأمر بمراجعتها» ، مع أن هذا إجماع والحمد لله. قال: والزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة، وتحرمها الثلاث من الحر، والاثنتان من العبد. ش: أما كون الزوجة إذا لم يدخل بها تبينها تطليقة، فإجماع من أهل العلم، لقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وإذا لم تكن عليها عدة فهي بائن بمجرد

الطلاق، وتصير كالمدخول بها بعد انقضاء عدتها، وأما كون الثلاث أي بكلمة واحدة من الحر تحرمها فلما تقدم، وإنما خص غير المدخول بها بالتحريم بالثلاث، لشهرة الخلاف فيها، بخلاف ما بعد الدخول، فإن الثلاث تحرمها في صورة بالإجماع بلا ريب، وهو ما إذا فرقها، للآية الكريمة، وكذا إذا جمعها على قول العامة كما تقدم، وبالجملة متى حكم بوقوع الثلاث على الزوجة حرمت بذلك بلا ريب، ويرتفع التحريم بأن تنكح زوجا آخر بشروطه، وسيأتي إن شاء الله تعالى في كلام الخرقي ما يشير إلى ذلك، وفرق الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين الحر والعبد، بناء على ما تقدم له قبل، من أن الحر يملك ثلاثا، والعبد اثنتين، والله أعلم. قال: وإذا طلق الحر زوجته بعد الدخول بها أقل من ثلاث، فله عليها الرجعة ما دامت في العدة. ش: أجمع أهل العلم على هذا بشرط أن لا يكون الطلاق بائنا، بأن يكون بعوض أو يقول لها: أنت طالق طلقة بائنا؛ ونصححه على رواية أو يخالعها بغير عوض، ونقول بصحته، وأنه طلاق، وأجمعوا أيضا على أنه لا رجعة له إذا انقضت العدة، وسند الإجماعين قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إلى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228]

أي في مدة القروء فالآية الكريمة دالة بمنطوقها على منطوق كلام الشيخ، وبمفهومها على مفهومه. وقد دل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أنه لا يعتبر رضى المرأة في الرجعة، ولا ريب في ذلك، للآية الكريمة، ولقوله سبحانه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] فخاطب الأزواج بذلك، فإن قيل: قوله سبحانه: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] يقتضي بظاهره أن لغيرهن حقا، قيل: الأحقية والحقية كلاهما بالنسبة إلى الزوج، فإذا أراد إصلاحا - كما نطقت به الآية الكريمة - فهو أحق، وإن لم يرد إصلاحا فله حق، فتصح منه الرجعة مع النهي عن ذلك. قال: وللعبد بعد الواحدة ما للحر قبل الثلاث. ش: قد تقدم أن العبد لا يملك إلا اثنتين، فهو ليس له الرجعة إلا بعد الواحدة، أما بعد الاثنتين فقد استوفى عدد طلاقه، وبانت منه زوجته. قال: ولو كانت حاملا باثنين فوضعت واحدا كان له مراجعتها قبل أن تضع الثاني. ش: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فجعل سبحانه الأجل وضع الحمل، والحمل يتناول

ما تحصل به الرجعة

الولدين وأكثر، وإذا كان الأجل وهو العدة باقيا فله الرجعة، لبقاء العدة، وبطريق الأولى لو وضعت بعض الولد، كان له الارتجاع قبل وضع بقيته. [ما تحصل به الرجعة] قال: والمراجعة أن يقول لرجلين من المسلمين: اشهدا أني قد راجعت امرأتي. بلا ولي يحضره، ولا صداق يزيده، وقد روي عن أحمد رواية أخرى تدل على أن الرجعة تجوز بلا شهادة. ش: الرواية الأولى عزيت إلى اختيار الخرقي، وأبي إسحاق ابن شاقلا في تعاليقه، ونص عليها أحمد في رواية مهنا، لقول الله سبحانه: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] أمر وظاهر الأمر الوجوب، ولأنه استباحة بضع مقصود، فوجبت الشهادة فيه كالنكاح (والثانية) نص عليها في رواية ابن منصور، واختارها أبو بكر، والقاضي وأصحابه، الشريف وأبو الخطاب، وابن عقيل والشيرازي وغيرهم، لإطلاق: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] وإذا يحمل الأمر في الآية الكريمة على الاستحباب، جمعا بينهما، وأيضا فالله سبحانه قال: {وَأَشْهِدُوا} [البقرة: 282] وليس فيه

ما يقتضي المقارنة للرجعة، فلو أشهد بعد الرجعة وفى مقتضى الآية، والإشهاد بعد الرجعة مستحب بالإجماع، فكذلك عند الرجعة، حذارا من الجمع بين الحقيقة والمجاز في اللفظ الواحد، ولأنها لا يشترط لها الولي، فلم تشترط لها الشهادة كالبيع، وما قيل في قياس الأولى أنها استباحة بضع فغير مسلم، إذ الرجعية مباحة على الصحيحة كما سيأتي. إذا تقرر هذا فجعل أبو البركات هاتين الروايتين على قولنا بأن الرجعة لا تحصل إلا بالقول، وهو واضح، أما إن قلنا: إنها تحصل بالوطء فكلامه يقتضي أنه لا يشترط الإشهاد رواية واحدة، وعامة الأصحاب يطلقون الخلاف، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق، قال: لما أورد عليه أن الوطء لا يكون رجعة: لأن الله سبحانه أمر بالشهادة، والشهادة لا تتأتى على الوطء، فأجاب: ليس في الآية ما يقتضي المقارنة، فيطأ ثم يشهد، فأورد عليه أن هذا إشهاد على الإقرار بالرجعة، وليس بإشهاد على الرجعة، فأجاب: الله سبحانه أمر بالإشهاد، وأطلق، (ومقتضى) كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الرجعة محصورة في القول، لقوله: والمراجعة أن يقول. فلا تحصل بالوطء ولا بغيره، (وهذا إحدى الروايات) عن أحمد، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والظاهر من الإشهاد إنما هو

على القول، وقد تقدم جواب القاضي عن هذا، وأيضا فالرجعة تراد لإصلاح الثلم الداخل في النكاح، ونفس النكاح لا يقع بالفعل، كذلك إزالة ما دخله من الثلم (والرواية الثانية) أن الرجعة تحصل بالوطء وإن لم ينو، اختارها ابن حامد، والقاضي وأصحابه، لإطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] والرد حقيقة في الفعل، بدليل: رددت الوديعة. وأيضا: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] وحقيقة الإمساك في الفعل أيضا، ولأنها مدة معلومة، خير بين القول الذي يبطلها، وبين تركها حتى تمضي المدة، فقام الوطء فيها مقام القول، كالبيع بشرط الخيار، والمعنى فيهما أن كلا منهما وطؤه دليل على رغبته في الموطوءة، واختيار رجوعها إليه (والرواية الثالثة) وهي اختيار أبي العباس: إن نوى الرجعة بالوطء حصلت، للعلم برغبته فيها، وإلا لم تحصل. وعلى القول بحصول الرجعة بالوطء لا تحصل بالقبلة ولا باللمس، نص عليه أحمد في رواية ابن القاسم، وعليه

الأصحاب، وإن كانا لشهوة، وخرج القاضي وغيره رواية بحصول الرجعة بذلك، بناء على ثبوت تحريم المصاهرة بهما، وخرجها أبو البركات من نصه في رواية ابن منصور على أن الخلوة تحصل بها الرجعة، قال: فاللمس ونظر الفرج أولى، وقد حكى أبو الخطاب عن الأصحاب أنهم قالوا: إن الرجعة تحصل بالخلوة، واختار هو أنها لا تحصل، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني وغيره، إلا أن مقتضى كلامه في المقنع أن أحمد نص على أن الخلوة لا تحصل بها الرجعة، وليس كذلك فإن نص أحمد في رواية ابن القاسم إنما هو في اللمس والقبلة، إذ الرجعة لا تحصل بهما، ونصه في الخلوة أن الرجعة لا تحصل بها، وقد يقال: إن في كلام الأصحاب تهافتا، حيث قالوا: إن الرجعة لا تحصل بالقبلة ونحوها وقالوا: إنها تحصل بالخلوة، ويجاب بأن الخلوة عندهم بمنزلة الوطء، بدليل تقرر الصداق، ووجوب العدة بها، ونحو ذلك، فكذلك في حصول الرجعة. واعلم أن الأصحاب مختلفون في حصول الرجعة بالوطء، هل هو مبني على القول بحل الرجعية أم مطلقا، على طريقتين للأصحاب (إحداهما) - وهي طريقة الأكثرين، منهم القاضي في روايتيه وفي جامعه وجماعة - عدم البناء (والثانية) - وهي مقتضى كلام أبي البركات، ويحتملها كلام القاضي في التعليق - البناء، فإن قلنا: الرجعية مباحة حصلت الرجعة بالوطء، وإن

قلنا: محرمة. لم تحصل، وهذه طريقة أبي الخطاب في الهداية، قال: لعل الاختلاف مبني على حل الوطء وعدمه، وقد تضمن هذا أن في حل الرجعية خلافا، وهو كذلك كما تقدمت الإشارة إليه، والمذهب المشهور المنصوص حلها، وعليه عامة الأصحاب، لإطلاق: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] والرجعية من نسائه، بدليل لو قال: نساؤه طوالق، فإنها تطلق، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [البقرة: 228] فسماه الله تعالى بعلا، والبعل تباح زوجته، فكذلك هنا، والرد إلى ما كانت عليه، لزوال الثلم الحاصل بالطلاق، ولأنها في حكم الزوجة في الإرث واللعان، وغير ذلك، فكذلك في الحل، وأومأ أحمد في رواية أبي داود إلى التحريم، فقال: أكره أن يرى شعرها، فأخذ من ذلك القاضي ومن تبعه رواية بالتحريم، وهي ظاهر كلام الخرقي حيث قال فيما تقدم: لأنه متيقن للتحريم، شاك في التحليل، لأنه طلاق، فأثبت التحريم كالذي بعوض، أو معتدة فحرم وطؤها كالمعتدة التي قال لها: أنت بائن. انتهى، وقد تقدم أنه مما يبنى على ذلك حصول الرجعة وعدمها، ومما ينبني عليه المهر إذا وطئها، إن قلنا مباحة

الخلاف بين الزوجين في الرجعة

فلا مهر، وكذلك إن قلنا محرمة وطاوعته، أما إن أكرهها وقلنا محرمة فثلاثة أوجه (الوجوب) مطلقا، وهو ظاهر ما جزم به أبو الخطاب في الهداية (وعدمه) وبه قطع القاضي في التعليق، وفي الجامع الصغير، والشريف في خلافه، وإليه ميل أبي محمد (والثالث) التفرقة إن راجعها لم يجب، وإلا وجب، وبه قطع أبو محمد في المقنع، أما الحد فلا يجب بوطئها بلا ريب، وإن قلنا بالتحريم، وينبغي أن يلحق النسب به بلا نزاع، لاندراء الحد، قال أحمد: كل من درأت عنه الحد ألحقت به الولد، ووقع في كلام أبي البركات في الطلاق ما قيل: إنه يقتضي قولين، بناء على الحل وعدمه، وليس بالبين. انتهى. وصرح الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بأنه لا يشترط في الرجعة ولي ولا صداق، وهو إجماع والحمد لله، وظاهر القرآن يشهد له، وهل يبطل الرجعة التواصي بالكتمان، نص في رواية أبي طالب على البطلان، وخرج عدمه من نصه على عدم البطلان بذلك في النكاح. [الخلاف بين الزوجين في الرجعة] قال: وإذا قال: ارتجعتك. فقالت: انقضت عدتي قبل رجعتك. فالقول قولها مع يمينها، إذا ادعت من ذلك ممكنا. ش: قول المرأة مقبول في عدتها في الجملة، لقول الله سبحانه: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قيل: المراد الحمل والحيض، ولولا أن قولها مقبول في ذلك لما حرم عليها

كتمانه، ثم إذا اختلفت هي والزوج هل راجعها في العدة أم لا؟ فلا يخلو إما أن يكون في وقت حكم بأنه من عدتها، أو في وقت حكم بانقضاء عدتها فيه، أو في وقت محتمل لهما، فالأول قول الزوج بلا ريب، لأنه يملك الإنشاء فملك الإقرار، فإذا قال في العدة: راجعتها أمس أو منذ كذا. قبل قوله، وفي الثاني: القول قولها بلا ريب أيضا كذلك، فإذا قال بعد انقضاء عدتها: كنت راجعتها. وأنكرته، فالقول قولها، لأنه لا يملك الإنشاء، فلا يملك الإقرار. وفي الثالث لا يخلو إما أن تسبقه بالدعوى أو يسبقها بالدعوى، أو يتداعيا معا، فإن سبقته بالدعوى كأن قالت في زمن يمكن فيه انقضاء عدتها: قد انقضت عدتي. فيقول هو: كنت راجعتك. فالقول قولها بلا خلاف نعلمه، لأن خبرها والحال هذه بانقضاء عدتها مقبول، فبقولها: انقضت عدتي. حكم بانقضاء عدتها، فدعواه بعد ذلك غير مقبولة، لانتفاء إنشائه، وإذا ينتفي إخباره أيضا. وإن سبقها بأن قال والحال ما تقدم: راجعتك. فتقول هي: انقضت عدتي قبل رجعتك. ففيه قولان (أحدهما) - وهو الذي قاله الخرقي، وتبعه عليه الشيرازي -: القول قولها، لظاهر قول الله سبحانه: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] وإطلاقها يقتضي أن قولها مقبول مطلقا (والثاني) - وبه قطع أبو الخطاب في الهداية، واختاره القاضي وغيره - القول قول الزوج، لما تقدم فيما إذا سبقته هي، وعلى هذا القول

إذا تداعيا معا فهل القول قولها، لترجح جانبها، أو قول من تقع له القرعة لتساويهما؟ (وجهان) . وقول الخرقي: ما إذا ادعت من ذلك ممكنا. يلتفت إلى قاعدة، وهو ما الممكن في انقضاء العدة؟ (فإن كانت) العدة بالأقراء فأقل ما يمكن انقضاء العدة تسعة وعشرون يوما ولحظة، إن قيل: القرء الحيض، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما، وإن قيل: خمسة عشر فثلاثة وثلاثون يوما ولحظة، وإن قيل: القرء الطهر، وأقل الطهر ثلاثة عشر يوما، فثمانية وعشرون يوما ولحظتان، وإن قيل: الطهر خمسة عشر، فاثنان وثلاثون يوما ولحظتان، إلا أن المنصوص عن أحمد أن المرأة إذا ادعت انقضاء عدتها بالأقراء في شهر لا يقبل قولها إلا ببينة، وظاهر قول الخرقي القبول مطلقا، لأنه أناط ذلك بالإمكان، (وإن كانت) العدة بوضع الحمل، وادعت وضع ولد تام فالممكن ستة أشهر فأزيد منذ إمكان الوطء بعد العقد، وإن ادعت سقطا فالممكن ثمانون يوما، (وإن كانت) بالأشهر فهو أمر محدود معروف، والنزاع فيه إنما ينبني على أول وقت الطلاق، والقول قول الزوج في ذلك، فإذا قال: طلقتك في ذي الحجة فلي رجعتك. وقالت: بل طلقتني في شوال، فلا رجعة لك. فالقول قوله، إذ الأصل بقاء النكاح، وعكس هذا لو ادعى أنه طلقها في شوال، لتسقط النفقة، وقالت هي: بل في ذي الحجة، فالقول قولها، نظرا إلى الأصل أيضا، إذ الأصل بقاء وجوب النفقة، فكذلك إذا لم يكن لها نفقة، لأنها تقر على

نفسها بما هو أغلظ، وحيث قيل: القول قولها، فأنكرها الزوج، فهل تجب عليها اليمين، وهو اختيار الخرقي، وأبي محمد لعموم «اليمين على المدعى عليه» أو لا تجب وقال القاضي: إنه قياس المذهب، إذ الرجعة لا يصح بذلها، فأشبهت الحدود، وعن أحمد ما يدل على روايتين، وعلى الأول إن نكلت لم يقض بالنكول، قاله القاضي، ولأبي محمد احتمال أن يستحلف الزوج، وله الرجعة بناء على القول برد اليمين على المدعى عليه. انتهى. قال: ولو طلقها واحدة، فلم تنقض عدتها حتى طلقها ثانية، بنت على ما مضى من العدة. ش: لأنهما طلاقان لم يتخللهما إصابة ولا خلوة، فلم يجب بهما أكثر من واحدة، كما لو والى بينهما، وكذلك الحكم لو طلقها ثم فسخ نكاحها لعيب في أحدهما، ونحو ذلك انتهى. قال: ولو طلقها ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم، فاعتدت ثم نكحت غيره، وأصابها ردت إليه، ولا يطأها حتى تنقضي عدتها في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى: هي زوجة الثاني.

ش: الرواية الأولى هي المذهب بلا ريب، لأنها زوجته، نكحها نكاحا صحيحا، فردت إليه، كما لو غصبها غاصب. 2741 - ويروى ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 2742 - (والثانية) تروى عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وقول الخرقي: ثم أشهد على المراجعة من حيث لا تعلم. لأنه إذا لم يشهد فإن قلنا: الإشهاد شرط لصحة الرجعة؛ فقد فات الشرط، فتبطل الرجعة، وتكون زوجة الثاني بلا ريب، وإن قيل: إنه ليس بشرط، فالنكاح صحيح في الباطن، لكن لا يقبل قوله في ذلك، لا على الزوج، ولا على المرأة، لأنه لا يملك الإنشاء فلا يملك الإقرار، ثم ينظر في الزوج والمرأة فإن صدقاه كان كما لو قامت به البينة، وإن صدقه الزوج وحده فقد اعترف بفساد نكاحه، فتبين منه، وعليه للمرأة مهرها، إن كان بعد الدخول، ونصفه إن كان قبله، لأنه لا يصدق على المرأة في إسقاطه حقها، ولا تسلم المرأة للمدعي لما تقدم، ويكون القول قولها، وهل هو مع يمينها؟ على وجهين، وإن صدقته المرأة وحدها لم يقبل قولها على الزوج الثاني، في فسخ نكاحه، لكن

متى زال نكاحه ردت إلى الأول، لأن المنع من الرد كان لحق الثاني وقد زال، ولا يلزم المرأة مهر الأول، على ما أورده الشيخان مذهبا، لاستقراره لها، أشبه ما لو قتلت نفسها، وألزمها القاضي له بالمهر لإقرارها، بحيلولتها بينه وبين بضعها، وهذا قياس المنصوص في الرضاع، وهو اختيار القاضي أيضا ثم، واختيار الشيخين ثم أيضا عدمه، جريا على قاعدتهم، فإن مات الأول والحال هذه، وهي في نكاح الثاني، فقال أبو محمد: ينبغي أن ترثه، لإقراره بزوجيتها، وتصديقها له، وإن ماتت لم يرثها، لتعلق حق الثاني بالإرث، وإن مات الثاني لم ترثه لإنكارها صحة نكاحه. قلت: ولا يمكن من تزويج أختها، ولا تزويج أربع سواها انتهى؛ وقول الخرقي: من حيث لا تعلم. لأنها إذا علمت لم يصح نكاح الثاني بلا خلاف، وقوله: فاعتدت، لأنها إذا لم تعتد فلا ريب في بطلان نكاح الثاني، وقوله: ثم نكحت غيره وأصابها. لأنه إذا لم يدخل بها فلا خلاف أنها زوجة الأول، لأن بالدخول حصل للثاني مزية، فلذلك قدم في رواية مرجوحة، وقوله: ولم يصبها حتى تنقضي عدتها. يعني إذا ردت إلى الأول بعد إصابة الثاني لها، لم يصبها حتى تنقضي عدتها من الثاني، لتعلم براءة رحمها. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإذا طلقها وانقضت عدتها منه، ثم أتته فذكرت أنها نكحت من أصابها، ثم طلقها أو مات عنها،

وانقضت عدتها منه، وكان ذلك ممكنا، فله أن ينكحها إذا كان يعرف منها الصدق والصلاح، وإن لم تكن عنده في هذه الحال لم ينكحها حتى يصح عنده قولها. ش: ملخص الأمر أن الأحكام تناط بغلبة الظن كثيرا، والمرأة مؤتمنة على نفسها، وعلى ما أخبرت به عنها، ولا سبيل إلى ذلك على الحقيقة إلا من جهتها، فوجب الرجوع إلى قولها، كما لو أخبرت بانقضاء عدتها، ومقتضى قوله أنه إذا لم يعرف منها الصدق والصلاح لا يقبل قولها، وهو كذلك، لأنه لم يوجد ما يغلب على ظنه صدقها، والأصل التحريم، فيبقى عليه، ومقتضى كلامه أنه يرجع إلى قول المرأة، إذا كانت بالصفة المتقدمة، وإن أنكر الزوج الذي ادعت إصابته لها، ولو قال الزوج الأول: أنا أعلم أن الثاني ما أصابها. لم تحل له، إذ لا غلبة ظن مع العلم بالتحريم، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الإيلاء

[كتاب الإيلاء] ش: الإيلاء بالمد الحلف، مصدر آلى يؤلي إيلاء وتألى وأتلى، والألية بوزن فعلية اليمين، وكذلك الألوة بسكون اللام وتثليث الهمزة، والإيلاء شرعا حلف الزوج القادر على الوطء بالله تعالى أو بصفة من صفاته، على ترك وطء زوجته في قبلها مدة زائدة على أربعة أشهر، وفي بعض هذه القيود خلاف، والأصل فيه قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] الآية. 2743 - وثبت «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آلى من نسائه أو من بعض نسائه شهرا» . [ألفاظ الإيلاء] قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والمولي هو الذي يحلف بالله عز وجل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر.

ش: ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن للمولي ثلاث صفات (إحداها) أن يحلف بالله أو بصفة من صفاته سبحانه، ولا نزاع أن من حلف بذلك يكون موليا، لإرادته من الآية الكريمة، إما بخصوصه وإما مع غيره، واختلف فيمن حلف بغير ذلك، كمن حلف بطلاق ونحوه هل يكون موليا أم لا؟ فعنه - وهو المشهور والمنصوص، والمختار لعامة الأصحاب - لا يكون موليا، لأن الإيلاء إذا أطلق ينصرف إلى القسم بالله تعالى. 2744 - وقد قرأ ابن عباس وأبي: {يَقْسِمُونَ} [الزخرف: 32] . 2745 - وفسره ترجمان القرآن عبد الله بن عباس بأنه الحلف بالله تعالى ذكره الإمام أحمد عنه. 2746 - وعن الشعبي عن مسروق عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «آلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نسائه وحرم، فجعل الحرام حلالا، وجعل في اليمين الكفارة» . رواه ابن ماجه والترمذي، وذكر أنه روي عن الشعبي مرسلا وأنه أصح، فدل على أن حلفه كان بالله،

وفعله خرج بيانا للإيلاء المشروع، ثم في الآية قرينة تدل على أن المراد اليمين به سبحانه، وهو قوله: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فالمغفرة لما حصل من انتهاك حرمة القسم، ولا انتهاك للطلاق ونحوه (وعنه) يكون موليا، لإطلاق: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} [البقرة: 226] أي يحلفون، والحالف بالطلاق ونحوه حالف، بدليل: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق. ثم قال: إن وطئتك فأنت طالق (وعنه) واختاره أبو بكر في الشافي: يحصل بكل يمين مكفرة، قال أبو بكر: أصل الإيلاء عند أبي عبد الله اليمين بالله تعالى، وكل يمين من حرام وغيره إذا وجبت في اليمين كفارة. انتهى، وهذا القول متوسط، وعليه فيخص الإيلاء باليمين بالله تعالى، والظهار، والنذر، وتحريم المباح. 2747 - وفي الحديث: «النذر حلف، وكفارته كفارة يمين» وعلى الثانية لا بد أن يحلف بما يلزمه به حق، كالطلاق والعتاق، وتحريم

المباح، والنذر، وإن كان مباحا أو محرما، على مقتضى إطلاق كلام أبي الخطاب وأبي البركات وغيرهما، وقال أبو محمد: إنه قياس المذهب، بناء على انعقاد النذر بهما، ولو قال: إن وطئتك فأنت زانية. لم يكن موليا، لأنه لا يلزمه بالوطء شيء، لأنه إذا وطئ لا يصير قاذفا لانتفاء تعلق القذف بالشرط. (تنبيه) قال أبو الخطاب في خلافه الصغير: هذه المسألة إنما تصح على أصلنا على الرواية التي تقول: إذا ترك وطأها مضارا من غير يمين لا يكون موليا. قلت: كأنه بحلفه علم منه الإضرار، فحكم عليه بالإيلاء على المذهب، وإذا تنتفي هذه المسألة كما قال أبو الخطاب، ومقتضى كلام القاضي في التعليق أنه لا يكون موليا ثم حتى يمتنع من فعل ما حلف عليه، على وجه يعلم به قصد الإضرار، كأن يحلف بالطلاق لأفعلن كذا، ثم يتركه ولا عذر له، أو يظاهر منها ولا يكفر، ونحو ذلك، كذا مثل القاضي انتهى (الصفة الثانية) أن يحلف على أكثر من أربعة أشهر أو مطلقا، وهذا هو المذهب المنصوص، والمختار للأصحاب، لأن قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فظاهر الآية الكريمة يقتضي أن الفيئة بعد

مدة التربص، والفيئة هي الرجوع عما حلف عليه، وذلك إنما يكون مع بقاء اليمين، ولازم ذلك أن تكون اليمين على أكثر من أربعة أشهر (وعن أحمد) رواية أخرى يصح على أربعة أشهر، ولا يصح فيما دون ذلك، وهو مبني على أصل، وهو أن الفيئة تكون في مدة التربص، والتربص إنما هو أربعة أشهر. 2748 - واستدل على ذلك بأن ابن مسعود قرأ: (فإن فاءوا فيهن) أي في الأربعة أشهر، ولأصحابنا ظاهر الآية الكريمة، فإن الفاء للتعقيب، فظاهر الآية الكريمة أن الفيئة والطلاق يكونان بعد مدة التربص. 2749 - يرشح هذا ما قاله أحمد في رواية أبي طالب قال: قال عمر وعثمان وعلي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: يوقف المولي بعد الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.

2750 - وعن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه أنه قال: سألت اثني عشر رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يولي، قالوا: ليس بشيء حتى تمضي أربعة أشهر، فيوقف فإن فاء وإلا طلق. رواه الدارقطني، وما يروى عن ابن مسعود فلا يعلم صحته (الصفة الثالثة) أن يحلف على ترك وطء زوجته، ووطء الزوجة إنما ينصرف غالبا لوطئها في الفرج، فتختص يمينه بذلك، بأن يقول: والله لا وطئتك في قبلك. أو لا وطئتك ويطلق، فلو حلف أن لا يطأها في الدبر، أو دون الفرج، لم يكن موليا، لأنه إنما يصير موليا من امتناعه مما وجب عليه، وهذا ليس بواجب عليه، ولو حلف أن لا يطأ أمته أو أجنبية مطلقا، أو إن تزوجها، لم يكن موليا على المذهب بلا ريب، لأن الإيلاء

الذي ذكره الله تعالى إنما ذكره في النساء، قال سبحانه: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] . وخرج الشريف أبو جعفر وغيره صحته من الأجنبية مطلقا، من قول أحمد في الظهار: يصح قبل النكاح، لأنه يمين، فمقتضى تعليله صحة الإيلاء، لأنه يمين، وخرج أبو البركات صحته بشرط إضافته إلى النكاح كالطلاق في رواية. (ويدخل) في كلام الشيخ الرجعية، لأنها زوجة فيصح الإيلاء منها، وهذا هو المشهور من الروايتين، والمذهب بلا ريب عند الأصحاب، بناء على دخولها في نسائه، (وعنه) لا يصح الإيلاء منها، وعلله بأن الطلاق منعه من الجماع، فبناه على تحريمها، والخرقي يقول بالتحريم فترد عليه، ويدخل في كلامه أيضا كل زوجة وإن كانت ذمية أو أمة أو صغيرة أو مجنونة، للآية الكريمة وتطالب الصغيرة والمجنونة عند تكليفهما، وكذلك يدخل من لم يمكن وطؤها لرتق ونحوه، وقد أومأ إليه أحمد في رواية مهنا، وجزم به القاضي في تعليقه وجامعه، وجماعة من أصحابه، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، للآية الكريمة، وهي قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وزوج الرتقاء ونحوها قد آلى منها، فدخل تحت العموم، والعجز عن الوطء لا يمنع صحة الإيلاء، كما لو آلى منها وبينهما مسافة لا يصل إليها فيها (وفي المذهب) قول آخر

أنه لا يصح الإيلاء من الرتقاء ونحوها، وأورده أبو الخطاب وأبو محمد مذهبا، وصححه صاحب البلغة، لأن المنع هنا ليس باليمين، والمولي هو الممتنع بيمينه من وطء زوجته، وعلى الأول يفيء فيئة المعذور، صرح به القاضي وغيره. ويدخل في كلام الخرقي كل زوج حلف على وطء زوجته وإن كان عبدا، للآية الكريمة، وكذلك إن كان ذميا للآية الكريمة أيضا، وفائدته في أنه يوقف بعد إسلامه، ويؤخذ بالكفارة، كذا قال القاضي في تعليقه، وقال أبو محمد: يلزمه ما يلزم المسلم إذا تقاضوا إلينا؛ وظاهر هذا أنه يوقف في كفره، وكذلك إن كان خصيا أو مريضا يرجى برؤه، للآية أيضا، وكذلك إن لم يتصور منه الوطء لجب أو شلل، على عموم كلام الخرقي، وصرح به من تقدم في المرأة إذا كانت رتقاء، والخلاف هنا كالخلاف ثم سواء. نعم يستثنى من عموم كلام الشيخ إذا كان الزوج غير مكلف كالصبي والمجنون، فإنه لا يصح إيلاؤه، لانتفاء الشرط في حقهما، وهو اليمين بالله تعالى، نعم ينبغي على القول بصحة الإيلاء بالطلاق ونحوه أنه يصح الإيلاء من الصبي، حيث صح طلاقه، لوجود شرط الإيلاء في حقه إذًا، وأطلق أبو الخطاب في الهداية في السكران والمميز وجهين، وقال: بناء على طلاقهما. والله أعلم.

مدة الإيلاء

[مدة الإيلاء] قال: وإذا مضى أربعة أشهر ورافعته أمر بالفيئة. ش: مدة الإيلاء أربعة أشهر، للآية الكريمة، ولا فرق بين الحر والعبد، على المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، تمسكا بالعموم (والرواية الثانية) - واختارها أبو بكر - أنها في العبد على النصف من الحر، وذلك شهران، لأنه على النصف في الطلاق والنكاح، فكذلك في هذا، ولا تفريع على هذه، أما على المذهب فإذا آلى الرجل من زوجته ضرب له مدة أربعة أشهر، لا تطالب فيهن بوطء، فإذا مضت المدة ورافعته الزوجة إلى الحاكم، أمره الحاكم بالفيئة، لظاهر قول الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] وظاهره أن الفيئة بعد مدة التربص، لأنه عقبها للمدة، وهو مقتضى ما تقدم عن الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -. ومقتضى كلام الخرقي أن ابتداء الأربعة أشهر من حين اليمين، وأنه لا يحتاج في المدة إلى ضرب من الحاكم، وهو كذلك، وأنه لا بد في أمره بالفيئة من أن ترفعه بعد ذلك إلى الحاكم، ولا بد من ذلك، لأن الحق لها، فوقف على طلبها، ويؤخذ من هذا أن الصغيرة والمجنونة لا تطالب إلا بعد زوال الصغر والجنون، ليصح طلبهما، وأنها لا تطلق بمضي المدة، ولا نزاع في ذلك عندنا، لظاهر الآية الكريمة وقد تقدم أيضا عن جماعة من الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - ما يقتضي ذلك، ثم في الآية أيضا إنما أخر لذلك، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227]

فمقتضاه أن ثم عزما وطلاقا مسموعا، ومن طلقت بهذه المدة فلا عزم ولا شيء يسمع. 2751 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: إذا مضت أربعة أشهر يوقف حتى يطلق، فلا يقع عليه الطلاق حتى يطلق، يعني المولي. أخرجه البخاري، قال: ويذكر ذلك عن عثمان وعلي، وأبي الدرداء، وعائشة، واثني عشر رجلا من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ومقتضى إطلاق الخرقي أنه لا فرق بين أن يوجد في المدة مانع للوطء من قبلها أو من قبله، أو لا يوجد، ولا نزاع في ذلك إذا كان المانع من قبله، لوجود التمكين، وفيما إذا كان المانع من قبلها قولان (أحدهما) - وهو الذي قطع به القاضي في تعليقه، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا - أنه يحتسب عليه بمدته، كما إذا كان المانع من جهته، وهو ظاهر إطلاق الآية الكريمة (والثاني) - وهو الذي جزم به أبو محمد في كتبه الثلاثة، وقدمه أبو الخطاب في الهداية - لا يحتسب عليه،

معنى الفيئة في الإيلاء

لأن المنع من قبلها لا من قبله، ولعل هذا يلتفت إلى أصل تقدم، وهو أنه يصح الإيلاء ممن يتعذر وطؤها، والعامة على الصحة، فقياس قولهم هنا الاحتساب، وأبو محمد يقول ثم لا يصح، وهنا جرى على ذلك، وعلى هذا القول إن طرأ العذر استأنفت المدة عند زواله، لأن ظاهر الآية يقتضي توالي الأربعة أشهر، وخرج أن يسقط أوقات المنع، وتبني ويستثنى على هذا القول الحيض، فإنه يحتسب من مدته بلا ريب، لئلا يودي إلى إسقاط حكم الإيلاء، لأن الغالب أنه لا يخلو منه شهر، وفي الاحتساب بمدة النفاس وجهان، واعلم أن من شرط مضي الأربعة أشهر والطلب عقبهن أن لا تنحل اليمين فيهن بحنث ولا تكفير ولا غيره، كما إذا أبانها في أثناء المدة، ولم يعدها إلى نكاحه حتى انقضت، لأن المقتضي للطلب الإيلاء وقد زال. [معنى الفيئة في الإيلاء] قال: والفيئة الجماع. ش: الفيئة هي الرجوع عن الشيء الذي قد لابسه الإنسان، والزوج قد لابس الامتناع من الوطء، فيرجع عنه ويجامع، وهذا في حق القادر على الوطء كما سيأتي. قال: أو يكون له عذر من مرض أو إحرام، أو شيء لا يمكن معه الجماع، فيقول: متى قدرت جامعتها. فيكون ذلك من قوله فيئة. ش: يعني أن القادر على الوطء فيئته الجماع بلا ريب، أما العاجز عن الوطء لمرض ونحوه ففيئته باللسان، لأنه لما عجز عن

الوطء، قام اللسان مقامه، لأنه الذي يقدر عليه، فيدخل تحت «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ثم اختلف الأصحاب في صفة ذلك، فقال الخرقي: يعدها فيقول: متى قدرت جامعتك. وعلى هذا لو كان مجبوبا قال: لو قدرت جامعتك. وتبعه على ذلك القاضي في المجرد، وحسنه أبو محمد، وزاد القاضي في تعليقه أن يقول مع ذلك: قد ندمت على ما فعلت، وقال هو: إن صفة الفيئة أن يقول: فئت إليك. وهو مقتضى قول عامة أصحابه، ووقع في كلام القاضي أن المسألة على روايتين، وانبنى على ذلك إذا قدر على الوطء هل يلزمه؟ فالخرقي وأبو محمد يقولان يلزمه، وفاء بالوعد، وإليه ميل القاضي في الروايتين، وهو لازم قوله في المجرد، قال القاضي: وقد أومأ إليه أحمد في رواية حنبل، إذا فاء بلسانه، وأشهد على ذلك كان فايئا، قال: ومعنى قوله: أشهد على ذلك. أي أشهد على ما به من العذر أنه لو كان قادرا أو قدر على ذلك فأنا

أفعل؛ واختار القاضي في التعليق وجمهور أصحابه، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وقبلهما أبو بكر أنه لا يلزمه، لحصول الواجب عليه وهو الفيئة، إذ لا وعد، قال القاضي في التعليق وفي الجامع، متابعة لأبي بكر - إنه ظاهر كلام أحمد في رواية مهنا، وسئل إذا آلى من امرأته وهو غائب عنها، بينه وبينها مسيرة أربعة أشهر، أو تكون صغيرة أو رتقاء أو حائضا، يجزيه أن يفيء بلسانه وقلبه، إذا كان لا يقدر عليها، وقد سقط عنه الإيلاء، واعترض ذلك القاضي في الروايتين، فقال: معنى قوله: سقط عنه الإيلاء، يعني في الحال، لا أنه سقط مطلقا، وقد ذكر الخرقي ممن يفيء بلسانه المحرم، ولم يفرق بين أن تطول مدة إحرامه أو تقصر، قال أبو محمد: وكذلك على قياسه الاعتكاف المنذور، وقال أبو البركات يمهل المحرم حتى يحل، وأطلق ثم قال بعد ذلك: إن الزوج إذا كان به عذر من مرض أو إحرام، أو صوم فرض ونحوه، وطالت مدته، فاء فيئة المعذور، مع أنه قدم أن المظاهر لا يمهل لصيام الشهرين، بل يؤمر بالطلاق، وكذلك قال أبو محمد: إنه لا يمهل لصوم الشهرين، وخرج من المحرم فيه قولا أنه يمهل، وقولا أنه يفيء فيئة المعذور، انتهى. قلت: وهذا من أبي البركات ظاهره التناقض. قال: فمتى قدر فلم يفعل أمر بالطلاق. ش: إذا لم يفعل الفيئة الواجبة - وهي الجماع - مع القدرة، أو

القول مع عدمها، أمر بالطلاق، لظاهر قول الله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 227] فظاهرها أنه إذا لم يفء يطلق، وكذا فهمت الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ -، وقد تقدم، وأيضا فإن الله سبحانه قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وإذا لم يفء فلم يمسك بمعروف، فتسريح بإحسان. والله أعلم. قال: فإن لم يطلق طلق الحاكم عليه. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي في تعليقه، والشريف وأبي الخطاب والشيرازي، وأبي محمد وغيرهم، لأنه حق تدخله النيابة، مستحقه متعين، فإذا امتنع من هو عليه من الإيفاء، كان للسلطان الاستيفاء كالدين، وخرج إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة، ولم يختر، لم يملك الحاكم الاختيار، لأن الحق غير متعين (والرواية الثانية) ليس للحاكم أن يطلق عليه، بل يحبسه ويضيق عليه حتى يطلق، لأن الله تعالى أضاف الطلاق إليه بقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227] . 2752 - ولعموم «الطلاق لمن أخذ بالساق» وحملا على حال الاختيار، وظاهر كلام الخرقي أن المولي إذا طلق واحدة اكتفي

بها، ولا ريب في ذلك، وظاهر كلامه أنها تكون رجعية، كالطلاق من غيره، وسيصرح بذلك، وذلك لأنه طلاق صادف مدخولا بها، من غير عوض ولا استيفاء عدد، فوجب أن يكون رجعيا، كما لو لم يكن موليا، وهذا إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، والقاضي وأصحابه، كالشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن عقيل، وأبي محمد (والرواية الثانية) يكون بائنا، لأن الطلاق إنما ثبت دفعا للضرر عنها، بامتناعه من وطئها، ومع كونه رجعيا لا يزول الضرر، لإمكان مراجعتها، وأجيب بأن الضرر يزول بضرب المدة بعد الرجعة إن بقيت مدة الإيلاء. قال: فإن طلق عليه ثلاثا فهي ثلاث. ش: الحاكم مخير بين أن يفسخ النكاح وبين أن يطلق، فإن فسخ فهل يقع بذلك طلاق؟ على روايتين، حكاهما الشيرازي وجمهور الأصحاب، والمشهور المعروف أنه لا يقع، وعليه فهل تحرم عليه على التأبيد كفرقة اللعان، وهو اختيار أبي بكر أو تحل له وهو المذهب؟ على قولين، حكاهما أبو بكر. وامتنع ابن حامد وجمهور الأصحاب من ذلك، وجعلوا محلهما في فرقة اللعان، وهكذا الطريقتان في كل فرقة من الحاكم، وإن طلق

فله أن يطلق واحدة واثنتين وثلاثا، نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، لأنه قام مقامه، فملك ما يملكه، كما لو وكله في ذلك، وإذا طلق دون الثلاث فهل ذلك رجعي أو بائن؟ مبني على طلاق المولي (وعنه) رواية ثالثة - وهي المنصوصة - أن طلاق الحاكم بائن، لأنه موضوع لرفع النزاع، وطلاق المولي رجعي لما تقدم. قال: وإن طلق واحدة، وراجع وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر، كان الحكم كما حكمنا في الأول. ش: هذا تصريح من الخرقي بأن طلاق المولي يكون رجعيا، فإذا طلق وراجع نظرت في المدة، فإن بقي منها قدر مدة الإيلاء - وهو أكثر من أربعة أشهر على المذهب - كان الحكم كما لو حلف ابتداء، في أنه تضرب له المدة، ثم يؤمر بعدها بالفيئة، فإن فاء وإلا أمر بالطلاق، فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه، وجميع ما تقدم يجري هنا، وذلك لأنها زوجة ممنوع من وطئها بيمينه، أشبه ما لو لم يطلقها، وفقهه أن الحكمة في ضرب المدة في النكاح الأول زوال الضرر عنها، وهذا موجود في النكاح الثاني. ومقتضى كلام الخرقي أنه إذا وقف فطلق أنه لا يبدأ بالمدة من حين طلق، بل من حين راجع، وهو مقتضى قول القاضي وغيره من الأصحاب، قال أبو محمد: ومقتضى قول ابن حامد أنه إذا طلق استؤنفت مدة أخرى من حين طلق، فإن تمت قبل انقضاء العدة وقف ثانيا، فإن فاء وإلا أمر بالطلاق، وهذا أخذه من قول ابن حامد: إنه إذا صح الإيلاء من الرجعية على

المذهب تكون المدة من حين اليمين، وهو قول أبي بكر أيضا، قال القاضي: وهو قياس المذهب، بناء على أن الرجعية مباحة، وهذا من القاضي يقتضي أن على قول الخرقي لا يحتسب بالمدة إلا من حين الرجعة، إذ الرجعية عنده محرمة، وصرح بذلك أبو محمد فقال: يجيء على قول الخرقي أنه لا يحتسب بالمدة إلا من حين الرجعة، وملخصه أن هنا شيئين أحدهما إذا آلى من الرجعية وصححناه، فالمدة على المعروف من حين اليمين، وأبو محمد يأخذ من قول الخرقي بتحريم الرجعية، أن المدة لا تكون إلا من حين الرجعة، وهذا يجيء على قول أبي محمد، من أنه إذا كان مانع من جهتها لم يحتسب عليه بمدته، أما على قول غيره بالاحتساب فلا يتمشى، وإذا قول القاضي: إن هذا قياس المذهب، بناء على أن الرجعية مباحة. ليس بجيد، بل هو قياس المذهب، وإن قلنا بتحريمها، ولهذا قال هو وغيره: إن المدة من حين اليمين (الشيء الثاني) إذا وقف فطلق طلاقا رجعيا، فكل من وقفت على كلامه من الأصحاب يقول: لا تبتدئ المدة من حين الطلاق، وأبو محمد خرج من قول ابن حامد أن المدة تبتدئ من حين الطلاق، وهو غير مسلم له، والله أعلم. قال: ولو أوقفناه بعد الأربعة أشهر فقال: قد أصبتها. فإن كانت ثيبا كان القول قوله مع يمينه.

ش: نظرا للأصل، إذ الأصل بقاء النكاح، والمرأة تدعي ما يلزم منه رفعه، ولا ريب أن القول قول مدعي الأصل، لأن الظاهر معه، ثم هل ذلك مع يمينه؟ اختلفت نسخ الخرقي، وأبو بكر يختار أن لا يمين، والمسألة فيها روايتان، ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا كانت بكرا كان القول قولها، وهذا مشروط بما إذا شهدت البينة ببقاء عذرتها، وإلا فالقول قول الزوج لما تقدم، والله أعلم. قال: ولو آلى منها فلم يصبها حتى طلقها، وانقضت عدتها منه، ثم نكحها وقد بقي من مدة الإيلاء أكثر من أربعة أشهر، وقف لها كما وصفت. ش: لما تقدم فيما إذا طلقها ثم راجعها إذا والحال هذه هو ممتنع من وطء زوجته بيمينه، أكثر من أربعة أشهر، فأشبه ما لو لم يطلق، وقوله: أكثر من أربعة أشهر. بناء على المذهب، وعلى هذا لو بقي أقل من ذلك لم تضرب له مدة، وقوله: كما وصفت. من أنه يؤمر بعد مضي المدة بالفيئة، فإن لم يفء أمر بالطلاق، فإن طلق وإلا طلق الحاكم عليه لما تقدم. قال: ولو آلى منها واختلفا في مضي الأربعة أشهر، كان القول قوله، في أنها لم تمض مع يمينه.

ش: لأن الاختلاف في ذلك يرجع إلى الاختلاف في وقت اليمين، ولو اختلفا في وقت اليمين كان القول قوله بلا ريب، إذ الأصل عدم الإيلاء في ما تقدم، ويكون ذلك مع يمينه، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» واختار أبو بكر والقاضي أنه لا يمين، لأنه اختلاف في حكم من أحكام النكاح، أشبه الاختلاف في أصل النكاح، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الظهار

[كتاب الظهار] ش: الظهار مشتق من الظهر، وخص الظهر دون غيره لأنه موضع الركوب، والمرأة مركوبة إذا جومعت، فأنت علي كظهر أمي. أي ركوبك للنكاح حرام علي، كركوب أمي للنكاح، قال ابن أبي الفتح: وهو عبارة عن قول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. وكأنه يريد في الأصل، وإلا فالظهار في الاصطلاح أعم من هذا، والأصل فيه قول الله سبحانه: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] وما بعدها، ومن السنة ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهو محرم، قال الله سبحانه: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] وأكد ذلك بقوله تعالى بعد: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] وهذا اتفاق والحمد لله، والله أعلم. [قول الرجل لزوجته أنت علي كظهر أمي] قال: وإذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي. أو كظهر امرأة أجنبية. أو أنت علي حرام، أو حرم عضوا من أعضائها فلا يطأها حتى يأتي بالكفارة. ش: قد اشتمل كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على مسائل (إحداها) إذا قال لزوجته: أنت علي كظهر أمي. أنه يكون مظاهرا،

وهذا إجماع والحمد لله، ولذلك قدمه الخرقي، وفي معنى هذه المسألة إذا شبه زوجته بغير أمه ممن تحرم عليه على التأبيد، كأخته وإن كانت من الرضاع ونحو ذلك، إناطة بالتحريم المؤبد، (المسألة الثانية) إذا قال: أنت علي كظهر أجنبية. وفيه روايتان (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر في التنبيه، وجماعة من الأصحاب على ما حكى القاضي، واختاره القاضي أيضا في موضع - يكون مظاهرا، لأنه أتى بالمنكر من القول، أشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه على التأبيد، أو شبهها بمحرمة، أشبه ما لو شبهها بالأم (والرواية الثانية) - وهي اختيار ابن حامد، والقاضي في التعليق، والشريف، والشيرازي، وأبي بكر، على ما حكاه عنه أبو محمد - لا يكون مظاهرا، لأنه شبهها بمن تحل له في حال، أشبه ما لو شبهها بزوجة له أخرى محرمة، أو حائض أو نفساء، ونحو ذلك، وفي معنى هذه المسألة إذا شبه امرأته بأخت زوجته ونحوها، لأن تحريمها تحريم مؤقت، وعلى هذه الرواية هل يلغى، أو تجب فيه كفارة يمين؟ على روايتين. (المسألة الثالثة) إذا قال: أنت علي حرام؛ فعن أحمد - وهي اختيار الخرقي - أنه ظهار وإن نوى غيره، فيكون صريحا، لأن معناه معنى الظهار، لأن: أنت علي كظهر أمي. معناه أنت علي حرام كتحريم ظهر أمي. ولأنه أتى بالمنكر من القول والزور في زوجته، أشبه ما لو قال: أنت علي كظهر أمي.

2753 - وقد ذكر ذلك إبراهيم الحربي عن عثمان وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (والرواية الثانية) أنه ظاهر في الظهار، فعند الإطلاق ينصرف إليه لما تقدم، وإن نوى يمينا أو طلاقا انصرف إليه، لاحتماله لذلك (والثالثة) أنه ظاهر في اليمين، فعند الإطلاق ينصرف إليها، وإن نوى الطلاق أو الظهار انصرف إلى ذلك لعموم قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] الآية إلى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وهذا قد حرم ما أحل الله له، فدخل في الآية.

2754 - وكذا فهم الحبر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: إذا حرم الرجل فهي يمين يكفرها؛ وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] متفق عليه، وفي لفظ أنه أتاه رجل فقال: إني جعلت امرأتي على حراما. فقال: كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] أغلظ الكفارة عتق رقبة؛ رواه النسائي (المسألة الرابعة) إذا حرم عضوا من أعضائها، كأن قال: يدك علي حرام. أو يدك علي كيد أمي. أو كظهرها، ونحو ذلك، فالمذهب المنصوص المشهور أنه يكون مظاهرا، لأن التحريم إذا ثبت في العضو سرى في الجميع، لامتناع تحريم البعض وحل البعض، وصار ذلك كما لو طلق يدها ونحو ذلك. (وفي المذهب رواية أخرى) لا يكون مظاهرا حتى يشبه جملة امرأته، اتباعا للنص، وكما لو حلف لا يمس عضوا منها، والعضو الذي يكون به مظاهرا هو الذي يكون به مطلقا، وما لا فلا. (المسألة الخامسة) أنه في جميع هذه الصور لا يطأ حتى يكفر، وكذلك في كل موضع حكم بظهاره فيه، وهو إجماع إذا كان التكفير بالعتق أو الصيام، وقد شهد به النص وهو قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ - فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 3 - 4]

واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما إذا كان التكفير بالإطعام، (فعنه) - وهو اختيار أبي بكر، وأبي إسحاق ابن شاقلا - يجوز الوطء قبل التكفير، تمسكا بظاهر الكتاب، فإن الله تعالى ذكر عدم التماس في العتق والصيام، ولم يذكره في الإطعام، فاقتصرنا على مورد النص، (وعنه) - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي في خلافه وفي روايتيه، والشريف وأبي محمد وغيرهم - لا يجوز، لأن الله سبحانه لما ذكر عدم المسيس في العتق والصيام، مع أن الصيام تطول مدته، كان ذلك تنبيها على انتفاء المسيس في الإطعام. 2755 - وعن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر؟ فقال: «ما حملك على ذلك يرحمك الله؟» قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: «فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» رواه الخمسة إلا أحمد، وصححه الترمذي، ومن جملة ما أمره الله به الإطعام

(المسألة السادسة) الظهار يختص بالزوجة على ظاهر كلام الخرقي، ونص عليه أحمد، وجزم به جماعة من الأصحاب، حتى قال القاضي في روايتيه: رواية واحدة. فعلى هذا لا ظهار من أمته، ولا أم ولده، لقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] فخص سبحانه الظهار بالنساء، ولأن الظهار كان طلاقا في الجاهلية، فنقل حكمه وبقي محله. 2756 - قال أحمد: قال أبو قلابة وقتادة: إن الظهار كان طلاقا في الجاهلية. والطلاق قطعا لا يؤثر في الأمة كذلك الظهار، واختلف عن أحمد فيما يلزمه، (فعنه) وهو المشهور والمختار: تلزمه كفارة يمين، لأنه تحريم لمباح من ماله، فكان عليه كفارة يمين، كتحريم سائر ماله، (ونقل عنه) أبو طالب: ليس في الأمة ظهار، ولكن حرام، فعليه الكفارة، قيل له: كفارة الظهار؟ قال: نعم. قال أبو بكر: كل من روى عنه ليس عليه فيها كفارة الظهار، إنما هو كفارة يمين، إلا ما رواه أبو طالب، قال: ولا يتوجه على مذهبه. انتهى، وخرج أبو

موت المظاهر أو الزوجة قبل التكفير

الخطاب والشيخان قولا أنه لا شيء فيه، قال أبو الخطاب: من قوله فيما إذا ظاهرت المرأة من زوجها: إنه لا شيء عليها؛ إذ هذا ليس بظهار، فتجب فيه كفارته، وليس بيمين فتجب فيه كفارتها (المسألة السابعة) حيث حرم الوطء قبل التكفير هل يحرم الاستمتاع قبله؟ على روايتين (إحداهما) - وهي ظاهر كلام الخرقي - يجوز، لأن التماسس في الآية الكريمة كناية عن الوطء، وإذا كانت الكناية مرادة فالحقيقة غير مراده (والثانية) - وهي اختيار أبي بكر، والقاضي في خلافه، وأصحابه كالشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا وغيرهم - لا يجوز. 2757 - لأن في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - السابق: «لا تقربها حتى تفعل ما أمر الله به» رواه النسائي عن عكرمة مرسلا، وقال فيه: «فاعتزلها حتى تقضي ما عليك» وقد ادعى القاضي أن المراد بالمسيس في الآية الكريمة حقيقته، وأن الوطء إنما ثبت بالسنة، وفيه بعد. [موت المظاهر أو الزوجة قبل التكفير] قال: فإن مات أو ماتت أو طلقها لم تلزمه الكفارة، فإن تزوجها لم يطأها حتى يكفر، لأن الحنث بالعود وهو الوطء،

لأن الله عز وجل أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث. ش: اعلم أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قد بنى ما بدأ به على أصل، وهو العود ما هو؟ وقال: إنه الوطء. وهذا إحدى الروايتين، نص عليه أحمد، فقال في قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] قال: الغشيان، إذا أراد أن يغشى. وقال أيضا: مالك يقول: إذا أجمع لزمته الكفارة؛ فكيف يكون هذا لو طلقها بعد ما يجمع كان عليه الكفارة. 2758 - إلا أن يذهب إلى قول طاووس: إذا تكلم بالظهار لزمه مثل الطلاق؛ ولم يعجب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول طاووس، وهو اختيار الشيخين، لأن قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أي لقولهم، فـ (ما) والفعل في تأويل المصدر، أي لقولهم، والمصدر في تأويل المفعول، أي مفعولهم ومقولهم الذي امتنعوا منه وهو الوطء، وقرينة هذا العود، إذ هو فعل ضد قوله، ومنه الراجع في هبته، هو الراجع في الموهوب، والعائد فيما نهي عنه فاعل المنهي، والمظاهر مانع لنفسه من الوطء، فالعود فعله، ولأن الظهار يمين مكفرة، فلا تجب الكفارة إلا بالحنث فيها، وهو فعل ما حلف على تركه كسائر الأيمان، وتجب الكفارة بذلك كسائر الأيمان (والثانية) وبها قطع القاضي وأصحابه: أنه العزم على الوطء،

قال القاضي: ونص عليه أحمد في رواية الجماعة، منهم الأثرم، فقال: العود أن يريد أن يغشى، فيكفر قبل أن يمسها، وكذلك نقل أحمد بن أبي عبدة: تلزمه الكفارة إذا أجمع على الغشيان، فذكر له قول الشافعي أنه الإمساك، فلم يعجبه، وذلك لأن التكفير بنص الكتاب والسنة يجب قبل الوطء، وهو مسبب عن الوطء على القول الأول، لأن به يجب، والمسبب لا يتقدم على السبب، فإذا قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أي يريدون العود (فتحرير) أي فالواجب تحرير، وهذا كما في قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6] {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} [النحل: 98] وهو كثير، (ومن قال) بالأول أجاب بأن التكفير شرط الحل، كما أن الطهارة شرط لصحة الصلاة من مريدها، وملخصه أن لنا إخراجا ووجوبا، فإخراج الكفارة يجب عند إرادة الوطء، فهو مسبب عن الإرادة، ووجوب الكفارة - بمعنى استقرارها في ذمته - يجب بالوطء. إذا تقرر هذا انبنى عليه ما تقدم، وهو ما إذا ماتت أو مات، أو طلقها قبل الوطء، فعلى القول الأول لا تجب الكفارة، لأن وجوبها بالوطء ولم يوجد، وعلى القول الثاني إن وجد ذلك بعد العزم وجبت لوجود العود، وإلا لم تجب، كذا فرعه أبو البركات على قول القاضي وأصحابه، وزعم أبو محمد

الظهار من الأجنبية

عن القاضي وأصحابه أنهم على قولهم لا يوجبون الكفارة على من عزم ثم مات أو طلق إلا أبا الخطاب، فإنه قال بالوجوب، فعلى القول بأن الكفارة على المطلق قبل الوطء وإن عزم، إذا عاد فتزوجها فحكم الظهار باق، فلا يطأ حتى يكفر، لإطلاق الآية الكريمة، فإن هذا قد ظاهر من زوجته ثم أراد العود إليها، فدخل تحت: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] ولأن الظهار يمين مكفرة، فلم يبطل حكمها بالطلاق كالإيلاء، وبنى ذلك القاضي على أصلنا من أن النكاح الثاني ينبني على الأول، وأن الصفة لا تزول بالبينونة. وقد دل كلام الخرقي على أن الكفارة لا تجب بمجرد الظهار، ولا بالإمساك بعده، ولا بإعادة القول ثانيا، وقوله: لأن الحنث بالعود وهو الوطء. تعليل لأن الكفارة لا تلزم بالموت، ولا بالطلاق قبل الوطء، وقوله: لأن الله عز وجل أوجب الكفارة على المظاهر قبل الحنث؛ تعليل لقوله: فلم يطأها حتى يكفر. هذا الذي يظهر لي والله أعلم. [الظهار من الأجنبية] قال: ولو قال لامرأة أجنبية: أنت علي كظهر أمي؛ لم يطأها إن تزوجها حتى يأتي بكفارة الظهار. ش: هذا منصوص أحمد، وعليه أصحابه، وقال: ليس هو بمنزلة الطلاق.

2759 - وذلك لما روى الإمام أحمد بإسناده عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال - في رجل قال: إن تزوجت فلانة فهي علي كظهر أمي. فتزوجها، قال -: عليه كفارة الظهار. ولأنها يمين مكفرة، فصح انعقادها قبل النكاح، كاليمين بالله تعالى، ولأبي محمد احتمال بأنه لا يصح، لقول الله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] والأجنبية ليست من نسائه، ولأنه نوع تحريم، فلم يتقدم النكاح كالطلاق. وأجيب عن الآية بأنها خرجت مخرج الطلاق، وعن القياس بالفرق من وجهين (أحدهما) أن الطلاق حل قيد النكاح، ولا حل قبل العقد، والظهار تحريم للوطء، وذلك قد يتقدم على العقد كالحيض (والثاني) أن الطلاق يزيل المقصود من النكاح فلم يصح، وهذا لا يزيله وإنما يعلق الإباحة على شرط. انتهى، وكذلك الحكم إذا عمم فقال: كل النساء على كظهر أمي. والله أعلم. قال: وإذا قال: أنت علي حرام، وأراد في تلك الحال لم يكن عليه شيء، وإن تزوجها، لأنه صادق، وإن أراد في كل

ظاهر من زوجته وهي أمة فلم يكفر حتى ملكها

حال لم يطأها إن تزوج حتى يأتي بالكفارة. ش: أما إذا أراد بقوله: أنت علي حرام. الإخبار عن حرمتها في الحال، فلا شيء عليه، لما علل به من أنه صادق، إذ قد وصفها بصفتها، ولم يقل المنكر من القول والزور، وأما إذا أراد تحريمها في كل حال فهو مظاهر، لأن من جملة الأحوال إذا تزوجها، ولفظة الحرام إذا أريد بها الظهار ظهار في الزوجة بلا ريب، فكذلك في الأجنبية، ولو أطلق فلا شيء عليه، لاحتماله للإنشاء وللإخبار، فلا يتعين أحدهما بغير تعيين. والله أعلم. [ظاهر من زوجته وهي أمة فلم يكفر حتى ملكها] قال: ولو ظاهر من زوجته وهي أمة، فلم يكفر حتى ملكها، انفسخ النكاح، ولم يطأها حتى يكفر. ش: أما انفساخ النكاح فلا ريب فيه، لعدم اجتماع ملك اليمين وملك النكاح، وإذا يغلب الأقوى وهو الملك، ويبطل النكاح، وأما الوطء فقال الخرقي: لا يطأها حتى يكفر؛ واختاره ابن حامد والقاضي وغيرهم، لشمول الآية الكريمة له، وهي: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وهذا قد ظاهر من امرأته، فدخل في الآية وقال أبو بكر في الخلاف: يبطل حكم الظهار، وتحل له، وعليه كفارة يمين، كما لو تظاهر منها وهي أمته، لأنها خرجت عن الزوجات، وصارت ملك يمينه، فأعطيت حكم

ظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة

ذلك، وخرج أبو البركات قولا أنها تحل له بملك اليمين بلا كفارة، مع عود الظهار لو عتقت أو بيعت ثم تزوجها، ولعله مخرج مما إذا ظاهر من أمته لا شيء عليه، وأن الصفة تعود، وبيانه أنه إذا ظاهر منها وهي زوجته، ثم ملكها، فقد زالت الزوجية، وملك اليمين لا يؤثر الظهار فيه شيئا، فيصير كما لو علق طلاق زوجته على شيء، ثم أبانها وفعل المحلوف عليه، فإنه لا شيء عليه، كذلك هنا، تحل له بملك اليمين، ولا شيء عليه، ثم بعد ذلك إذا أعتقها أو باعها ثم تزوجها عاد الظهار، كما تعود الصفة. [ظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة] قال: ولو تظاهر من أربع نسائه بكلمة واحدة، لم يكن عليه أكثر من كفارة واحدة. ش: هذا هو المذهب بلا ريب، حتى أن أبا محمد نفى الخلاف في المذهب. 2760 - اتباعا لقول عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنهما قالا كذلك، رواه عنهما الأثرم، ولا نعرف لهما مخالفا، وكما لو حلف بالله تعالى

كفارة الظهار

على ذلك، وحكى أبو البركات رواية أخرى أن عليه لكل واحدة كفارة. لأنه قد وجد الظهار والعود فيها، فأشبه ما لو أفردها. ومفهوم كلام الخرقي أنه لو تظاهر منهن بكلمات كان عليه لكل واحدة كفارة، وهو إحدى الروايات، واختيار ابن حامد، والقاضي وأبي محمد وغيرهم، لأنها أيمان لا يحنث في أحدها بالحنث في الأخرى، فلا تكفرها كفارة واحدة، كما لو كفر ثم ظاهر، (والرواية الثانية) - وهي اختيار أبي بكر - عليه كفارة واحدة. 2761 - قال أبو بكر: اتباعا لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، لأن كفارة الظهار حق لله تعالى، فلم تتكرر بتكرر سببها كالحد (والرواية الثالثة) إن كان في مجالس فكفارات، وإن كان في مجلس واحد فكفارة واحدة، نقلها الفضل بن زياد، والله أعلم. [كفارة الظهار] قال: والكفارة عتق رقبة. ش: لا نزاع في هذا، وقد شهد له الكتاب العزيز قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] أي فالواجب تحرير رقبة، أو فعليه تحرير رقبة، والله أعلم.

قال: مؤمنة. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار جمهور أصحابه، الخرقي، والقاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي وأبي محمد وغيرهم، حملا للمطلق في آية الظهار، على المقيد في كفارة القتل، لاتحاد الحكم. 2762 - ولما روى «معاوية بن الحكم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت لي جارية فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: علي رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أين الله؟» قالت: في السماء. فقال: «من أنا» فقالت: أنت رسول الله. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتقها فإنها مؤمنة» رواه مسلم والنسائي، فعلل عتقها عما عليه بأنها مؤمنة (والرواية الثانية) لا يشترط إيمانها، بل تجزئ وإن كانت كافرة، نص عليها في اليهودي والنصراني، واختارها أبو بكر، أخذا بإطلاق الكتاب، وهاتان الروايتان يجريان في كل رقبة واجبة، من نذر أو كفارة، ما عدا كفارة القتل، فإن الإيمان شرط فيها بلا نزاع للنص، والله أعلم.

قال: سالمة من العيوب المضرة بالعمل. ش: لأنه لحظ فيه تمليك منافعه، وخروجه من حيز العدم، إلى حيز الوجود، ومع الضرر بالعمل لم يحصل ذلك، فعلى هذا لا يجزئ الأعمى، ولا المقعد، ولا مقطوع اليد أو الرجل، أو أشلهما، أو إبهام اليد، أو سبابتها أو الوسطى، أو الخنصر والبنصر من يد واحدة، وقطع أنملة الإبهام كقطع جميعها، بخلاف قطع غيرها من الأنامل، ولو كان الجميع، ولا يجزئ المجنون، ولا المريض غير مرجو البرء، كالسل، بخلاف المرجو البرء، ولا النحيف العاجز عن العمل، ويجزئ الأعرج، والمجدع الأنف والأذن، والمجبوب والخصي، والأعور على أصح الروايتين، وهل يجزئ الأخرس مطلقا، وهو الذي حكاه القاضي في التعليق، وأبو الخطاب عن أحمد، أو لا يجزئ مطلقا، وهو الذي حكاه أبو محمد منصوصا له، أو إن كان به صمم لم يجزئ وإلا أجزأ، وهو اختيار القاضي، وجماعة من أصحابه، وعليه حمل نص أحمد بالإجزاء، أو إن فهمت إشارته أجزأ وإلا فلا، وهو مختار أبي محمد، أو إن انتفى عنه الصمم، وفهمت إشارته أجزأ وإن وجد أحدهما منع، وهو اختيار أبي البركات، على خمسة أقوال، وهذا كله على المعروف من

المذهب، وقد حكى ابن الصيرفي في نوادره رواية بإجزاء الزمن والمقعد، فيخرج في عامة هذه الصور قول بالإجزاء، وتمام الكلام على ذلك له محل آخر، والله أعلم. قال: فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين. ش: إذا لم يجد رقبة يشتريها، أو وجدها ولم يجد ما يشتريها به، أو وجد ما يشتريها به لكن بزيادة كثيرة، أو مجحفة بماله، أو وجدها ولكن احتاجها لخدمة ونحو ذلك، فالكفارة صيام شهرين متتابعين، لقوله سبحانه: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] والله أعلم. قال: فإن أفطر فيهما من عذر بنى، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ. ش: الإجماع على وجوب التتابع في الشهرين، لشهادة الكتاب، وقد تقدم ذلك، وكذلك السنة. 2763 - «فعن خويلة بنت مالك بن ثعلبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالت: ظاهر مني أوس بن الصامت، فجئت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشكو إليه، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجادلني فيه ويقول: «اتقي الله فإنه ابن عمك» فما برح حتى نزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلى الفرض، فقال: «يعتق رقبة» فقالت: لا يجد. قال: «فيصوم شهرين متتابعين» قالت: يا رسول الله إنه شيخ

كبير ما به من صيام، قال: «فليطعم ستين مسكينا؟» قالت: ما عنده من شيء يتصدق به؟ قال: «فإني سأعينه بعرق من تمر» قلت: يا رسول الله فإني سأعينه بعرق تمر آخر. قال: «قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا، وارجعي إلى ابن عمك» والعرق ستون صاعا» ؛ رواه أبو داود. إذا تقرر هذا فمعنى التتابع أن يوالي بين صيام أيامهما، ولا يفطر فيهما، ولا يصوم عن غير الكفارة، ولا يشترط نية التتابع، وإنما يشترط فعله، ومتى أفطر فيهما من غير عذر ابتدأ، لإخلاله بالشرط وهو التتابع، وكذلك إن صام عن نذر أو قضاء، أو كفارة أخرى لذلك، فلو كان النذر أياما من كل شهر كأيام البيض، أو يوم الخميس قدم الكفارة عليه، وقضى ذلك بعدها، إذ لو وفى بنذره لانقطع التتابع، لا يقال: هذا

الزمن المنذور متعين للصوم، فلا يقطع التتابع كصوم رمضان، لأنا نقول: الزمان لا يتعين، بدليل صحة صوم آخر فيه، بخلاف زمن رمضان، وإن أفطر لعذر فلا يخلو إما أن يكون موجبا أو مبيحا، فإن كان موجبا كالفطر للحيض والمرض المخوف، أو فطر الحامل والمرضع لخوفهما على أنفسهما، أو لكونه يوم عيد، ونحو ذلك لم ينقطع التتابع، لأنه مضطر إلى ذلك، ولا صنع له فيه، أشبه إذا كان الفطر للحيض، ودليل الأصل الإجماع، وإن كان العذر مبيحا - كالسفر، والمرض غير المخوف - فثلاثة أوجه (أحدها) - وهو ظاهر كلام الخرقي، وإليه ميل أبي محمد - لا يقطع، لأنه عذر أباح له الفطر، أشبه ما لو أوجبه (والثاني) يقطع، لأن له مندوحة عنه، أشبه ما لو أفطر بغير عذر (والثالث) - وهو اختيار القاضي، وجماعة من أصحابه - يقطع السفر لأن إنشاءه باختياره ولا يقطع المرض، لأن حصوله بغير اختياره، وهو ظاهر كلام أحمد، بل زعم القاضي أنه منصوصه. وقد دخل في كلام الخرقي إذا أفطرت الحامل والمرضع لخوفهما على ولديهما، وهو أحد الوجهين، واختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، ودخل أيضا من أفطر لجنون أو إغماء، ولا نزاع في ذلك، وكذلك من أفطر لإكراه أو نسيان، كمن وطئ كذلك، أو خطأ كمن أكل يظنه ليلا فبان نهارا، وهو

أحد الوجهين أيضا، وقطع به أبو البركات، نعم قد يستثنى منه كلامه من أكل ناسيا لوجوب التتابع أو جاهلا به، أو ظنا منه أنه قد أتم الشهرين، فإن تتابعه قد ينقطع، قاله أبو محمد. قال: فإن أصابها في ليالي الصوم أفسد ما مضى من صومه، وابتدأ الشهرين. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أصحابه، الخرقي، والقاضي، وأصحابه كالشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا، وابن عقيل وغيرهم، والشيخين، لقول الله تعالى: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] أوجب سبحانه صوم الشهرين بشرطين (أحدهما) تقديم الشهرين على المسيس (والثاني) إخلاؤهما عن المسيس، فإذا وطئ في خلالهما فقد فات أحد الشرطين وهو تقديمهما عليه، وبقي الشرط الآخر يمكنه أن يأتي به فيستأنف الصوم، فيخلو الشهران عن المسيس فوجب ذلك، كمن أمر بشيئين فعجز عن أحدهما وقدر على الآخر، يسقط ما عجز عنه، ويلزمه ما قدر عليه (والرواية الثانية) لا ينقطع التتابع بذلك، لأنه وطء لم يصادف محل الصوم، أشبه ما لو وطئ غير التي ظاهر منها، ولأن التتابع في الصيام عبارة عن اتباع صوم يوم بالذي قلبه، وهذا متحقق وإن وطئ ليلا، وكذلك الروايتان إذا وطئها نهارا ناسيا، قاله غير واحد، وخرجهما أبو محمد فيما إذا وطئها وقد أبيح له الفطر لمرض ونحوه.

واعلم أن ظاهر كلام أبي محمد في المقنع أن شرط عدم انقطاع التتابع فيما إذا وطئ ليلا أن يطأ ناسيا، وهو غفلة منه، فلا يعتبر بذلك. (تنبيه) أخذت الرواية الأولى من قول أحمد في رواية ابن منصور: إذا تظاهر فأخذ في الصوم فجامع يستقبل؛ وأخذت الثانية من قوله في رواية الأثرم - وسئل عن المظاهر إذا صام بعض صيامه، ثم جامع قبل أن يتمه، كيف يصنع؟ قال: يتم صومه. والروايتان مطلقتان كما ترى، ولكن الأصحاب حملوهما على ما تقدم والله أعلم. قال: فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا. ش: إذا لم يستطع صوم الشهرين على الصفة الواجبة فكفارته إطعام ستين مسكينا بالإجماع، وقد شهد لذلك ما تقدم من الكتاب والسنة، وسواء عدم الاستطاعة (لكبر) كما تقدم في قصة أوس بن الصامت، (أو شبق) . 2764 - لما «روى سلمة بن صخر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنت امرءا قد أوتيت من جماع النساء ما لم يؤت غيري، فلما دخل رمضان

ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان، فرقا من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار وأنا لا أقدر على أن أنزع؛ فبينما هي تخدمني من الليل إذ انكشف لي منها شيء فوثبت عليها، فلما أصبحت غدوت على قومي، فأخبرتهم خبري، وقلت لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بأمري؛ فقالوا: والله لا نفعل، نتخوف أن ينزل فينا قرآن، أو يقول فينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مقالة يبقى علينا عارها، ولكن اذهب أنت واصنع ما بدا لك؛ فخرجت حتى أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته خبري، فقال لي: «أنت بذاك؟» فقلت: أنا بذاك. فقال: «أنت بذاك؟» فقلت: نعم، ها أنا ذا فأمض في حكم الله، فأنا صابر له. قال: «أعتق رقبة» فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها، قال: «فصم شهرين متتابعين» قلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصوم؟ قال: «فتصدق» قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا ليلتنا وحشا ما لنا عشاء. قال: «اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق، فقل له فليدفعها إليك، فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكينا، ثم استعن بسائرها عليك وعلى عيالك» فرجعت إلى قومي فقلت لهم: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السعة والبركة، وقد أمر لي بصدقتكم فادفعوها إلي؛ قال: فدفعوها إلي» . رواه الإمام أحمد وأبو داود، والترمذي وحسنه، انتهى،

(أو مرض) وإن رجي زواله، لدخوله تحت الآية الكريمة، لا لسفر، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا بد من تعدد المساكين، وتأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الكفارات. (تنبيه) : فرقا. أي خوفا، والله أعلم. قال: مسلما. ش: من شرط المسكين المدفوع إليه في الكفارة أن يكون مسلما، على المنصوص والمختار للأصحاب، فلا يجوز الدفع لذمي، لأنه كافر، فلم يجز الدفع إليه كالحربي والمستأمن، إذ هو مال يجب دفعه إلى الفقير بالشرع، فلا يدفع إلى أهل الذمة كالزكاة، وحكى الخلال في جامعه رواية بالجواز، قال القاضي: ولعله بنى ذلك على جواز عتق الذمي في الكفارة، وذلك لأنه مسكين، فدخل تحت: {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] . (تنبيه) بحث الأصحاب وكلامهم يقتضي أن الخلاف في الذمي، وأنه لا نزاع أن الحربي لا يدفع إليه، وكذلك نص أحمد في جواز عتق الكافر إنما هو في اليهودي والنصراني.

قال: حرا. ش: أي ومن شرط المسكين أن يكون حرا، فلا يجوز دفعها لعبد ولا أم ولد ونحوها، لعدم حاجتهم، لوجوب نفقتهما على سيدهما، وظاهر كلامه أنه لا يجوز دفعها إلى مكاتب، ويأتي ذلك في الكفارات إن شاء الله تعالى، ويدخل في كلام الخرقي في المسكين الفقير، لأنه مسكين وزيادة، وكذلك الغارم لإصلاح نفسه، لأنه محتاج. والله أعلم. قال: لكل مسكين مد من حنطة، أو نصف صاع من تمر أو شعير. 2765 - ش: أما كونه مدا من حنطة فلما روى الإمام أحمد قال: حدثنا إسماعيل، حدثنا أيوب، عن أبي يزيد المدني، قال: «جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق شعير، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمظاهر: «أطعم هذا، فإن مدي شعير مكان مد بر» » . 2766 - وعلى هذا يحمل ما روي عن أبي سلمة، «عن سلمة بن صخر، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاه مكتلا فيه خمسة عشر صاعا، فقال: «أطعمه ستين مسكينا وذلك لكل مسكين مد» رواه الدارقطني، وللترمذي معناه.

2767 - ثم هذا قول زيد وابن عباس، وابن عمر وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأما كونه نصف صاع تمر أو شعير فلما تقدم من أن مدي شعير مكان مد بر. 2768 - وفي أبي داود قال: وذكر عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال - يعني العرق - زنبيلا يأخذ خمسة عشر صاعا؛ وإذا العرقان ثلاثون صاعا، فيكون لكل مسكين نصف صاع تمر، انتهى، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اقتصر على البر والشعير والتمر، وقال غيره يجزئ هنا ما يجزئ في الفطرة فإن كان قوت بلده غير ذلك كالأرز والذرة، فهل يجزئه، وهو اختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، أو لا يجزئه، وهو اختيار القاضي؟ فيه قولان، وكذلك القولان في إجزاء الخبز، إلا أن القاضي وأصحابه هنا وافقوا على الإجزاء. (تنبيه) المكتل الزنبيل، وقيل القفة، وهما بمعنى واحد، وقيل القفة العظيمة، والعرق قد فسره أبو سلمة بن عبد الرحمن، بأنه يسع خمسة عشر صاعا، وفي حديث خويلة قالت: والعرق ستون صاعا. وفي رواية: العرق مكتل يسع ثلاثين صاعا؛ قال

كفارة العبد في الظهار

أبو داود: وهذا أصح. يعني من كونه ستين صاعا، قال بعضهم: والاختلاف في قدره يدل على أنه يختلف، فيكون بعضه أكبر من بعض، وهو بفتح العين والراء، وسكن بعضهم الراء، والزنبيل بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة مخفف، فإن كسرت الزاي شددت فقلت زبيل، أو قلت زنبيل، سمي زنبيلا لأنه ينقل فيه الزبل للسماد. قال: ومن ابتدأ صوم الظهار من أول شعبان أفطر يوم الفطر وبنى، وكذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة أفطر يوم الأضحى وأيام التشريق، وبنى على ما مضى من صيامه. ش: قد تقدم أنه إذا ترك صوم الكفارة لعذر أنه لا يضره ويبني، فإذا صام من أول شعبان ففي رمضان يترك الصوم للكفارة، لأن هذا الزمن متعين لرمضان، ثم يفطر يوم العيد، فبعد ذلك يكمل، وكذلك إن ابتدأ من أول ذي الحجة فإنه يفطر يوم الأضحى وأيام التشريق، ثم يبني، وإذا قلنا يجوز صوم أيام التشريق عن الفرض مطلقا فإنه لا يفطر أيام التشريق. [كفارة العبد في الظهار] قال: وإن كان المظاهر عبدا لم يكفر إلا بالصوم.

ش: هذا يدل على صحة ظهار العبد، ولا ريب في ذلك، لشمول الآية الكريمة له، وإذا صح ظهاره فكفارته الصيام، لأنه لا يجد الرقبة، لأنه معسر، وأسوأ حالا منه، فيدخل تحت: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [المجادلة: 4] وظاهر كلام الخرقي أن كفارته الصيام وإن أذن له سيده وهو - والله أعلم - بناء على قاعدته، من أنه لا يملك وإن ملك، ومن لا ملك له لا مال له يكفر به، ومن الأصحاب من يقول: يجوز أن يكفر بالمال بإذن السيد، وإن لم نقل إنه يملك، وهو ظاهر كلام أبي بكر، وطائفة من متقدمي الأصحاب، وإليها ميل أبي محمد، ولهم مدركان (أحدهما) : أنه يملك القدر المكفر به ملكا خاصا (والثاني) : أن الكفارة لا يلزم أن تدخل في ملك المكفر، أما إن قلنا يملك، أو أذن له سيده في التكفير بالمال، فلا نزاع أن له أن يكفر به، ثم هل له ذلك على سبيل الوجوب أو الجواز؟ فيه تردد للأصحاب، وأيما كان فله على هذا التكفير بالإطعام، وهل له التفكير بالعتق؟ فيه روايتان (إحداهما) : نعم، اختارها، أبو بكر، ومال إليها أبو محمد كالإطعام (والثانية) : لا، لأنه يقتضي الولاء، والولاء يقتضي ولاية الإرث، وليس العبد من أهل ذلك، ومن أصحابنا من بناهما على الروايتين في المعتق في الكفارة، إن قلنا: عليه الولاء لم يكن له العتق، وإن قلنا:

حكم الوطء قبل الكفارة في الظهار

لا ولاء عليه، صح تكفيره بالعتق، وإذا جوزنا له التكفير بالعتق، فأذن له سيده في إعتاق نفسه عن كفارته جاز ذلك، على مقتضى قول أبي بكر، فإنه حكى فيما إذا أذن له في العتق وأطلق، هل له أن يعتق نفسه، لأن رقبته تدخل في الإطلاق، أو ليس له ذلك، لأن خطابه بالإعتاق قرينة على إرادة غيره. (تنبيه) : إذا أذن له سيده في الإعتاق وأطلق، وجوزنا له عتق نفسه، فلا بد أن تكون رقبته أقل رقبة تجزئ في الكفارة، لأنه إذا أعتق غيره لا بد أن يكون كذلك، لأنه وكيل، فيجب عليه التصرف بالأحظ. قال: وإذا صام فلا يجزيه إلا شهران متتابعان. ش: قد تقدم أن كفارة العبد الصيام، وإذا فحكمه في ذلك حكم الحر في أنه يصوم شهرين متتابعين، لدخوله في الآية الكريمة، من غير قيام ما يقتضي التخصيص. [حكم الوطء قبل الكفارة في الظهار] قال: ومن وطئ قبل أن يأتي بالكفارة كان عاصيا. ش: لمخالفة أمر ربه سبحانه، وأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال الله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وهذا قد مس، وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله» وقد تقدم. قال: وعليه الكفارة المذكورة. ش: إذا خالف ووطئ استقرت عليه الكفارة المتقدمة، لأنه

حكم ظهار المرأة من زوجها

ظاهر وعاد، فيدخل تحت {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] الآية. 2769 - وروى النسائي عن عكرمة، أن «رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي، فوقعت عليها قبل أن أكفر؛ فقال: «ما حملك على ذلك يرحمك الله؟» قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر. قال: «فاعتزلها حتى تقضي ما عليك» ولهذا أيضا قال الأصحاب: ليس له الوطء ثانيا حتى يأتي بالكفارة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه أكثر من كفارة واحدة، وهو كذلك لما تقدم. 2770 - وفي الترمذي وابن ماجه عن سلمة بن صخر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، قال: «كفارة واحدة» وهو إن صح نص. [حكم ظهار المرأة من زوجها] قال: وإذا قالت المرأة لزوجها: أنت علي كظهر أبي. أو أنت علي حرام. لم تكن مظاهرة، ولزمها كفارة الظهار، لأنها قد أتت بالمنكر من القول والزور.

ش: أما كون المرأة لا تكون مظاهرة بذلك فهذا هو المعروف والمشهور، والمجزوم به عند كثير من الأصحاب، حتى أن القاضي قال في الروايتين: رواية واحدة؛ لتخصيص الله سبحانه الظهار بالرجال قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} [المجادلة: 3] الآية، ولأنه قول يوجب تحريما في الزوجة، يملك الزوج رفعه، فاختص به الرجال كالطلاق، وحكى ابن شهاب، وأبو يعلى ابن أبي حازم رواية أخرى أنها تكون مظاهرة، وقالا: اختارها أبو بكر، وزاد ابن أبي حازم: والقاضي، والشريف؛ لأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قضوا في ذلك بكفارة الظهار، وسببها الظهار، فدل على أنها تكون مظاهرة، وقياسا لأحد الزوجين على الآخر، وعلى هذا تجب كفارة الظهار بلا ريب، أما على المذهب (فعنه) - وهو المشهور، واختيار الخرقي والقاضي، وجماعة من أصحابه كالشريف، وأبي الخطاب والشيرازي، وابنه أبي الحسين - يلزمها كفارة ظهار. 2771 - قال أحمد مثل حديث عائشة بنت طلحة، وهو ما روى الأثرم بإسناده عن إبراهيم، أن عائشة بنت طلحة قالت: إن تزوجت مصعب بن الزبير فهو علي كظهر أبي. فسألت أهل المدينة، فرأوا عليها الكفارة.

2772 - وروى علي بن مسلم، عن الشيباني، قال: كنت جالسا في المسجد أنا وعبد الله بن معقل المزني، فجاء رجل حتى جلس إلينا، فسألته من أنت؟ فقال: مولى لعائشة بنت طلحة التي أعتقتني عن ظهارها، خطبها مصعب بن الزبير، فقالت: هو علي كظهر أبي إن تزوجته. ثم رغبت فيه بعد، فاستفتت أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم يومئذ كثير، فأمروها أن تعتق رقبة وتتزوجه، فأعتقتني وتزوجته؛ رواهما سعيد مختصرين. (وعنه) - وهو اختيار أبي محمد -: عليها كفارة يمين، لأنه ليس بظهار، فلا يوجب كفارته كسائر المنكر من القول، وتجب كفارة يمين، لأنه تحريم مباح، أشبه تحريم سائر الحلال (وعنه) لا شيء عليها، لأنه ليس بظهار فتجب فيه كفارته، ولا يمين فتجب كفارتها، وإذا قلنا بوجوب الكفارة عليها فإنما تجب بالحنث، وهو الوطء إن قلنا تجب كفارة يمين، وكذلك إن قلنا كفارة ظهار فلا تكون مظاهرة، صرح بذلك القاضي وغيره، بشرط أن لا تكون مكرهة، وإن قلنا تكون مظاهرة، فقيل: بالعزم على التمكين، حكاه ابن أبي حازم فيما أظن، قال ابن عقيل: رأيت بخط أبي بكر: العود التمكين. (تنبيه) عليها التمكين قبل التكفير، قاله الشيخان، لأن ذلك حق عليها، فلا يسقط بيمينها، قال أبو محمد: وحكي

تكرر الكفارة بتكرار الظهار

عن أبي بكر أنها لا تمكنه قبل التكفير كالرجل، قال: وليس بجيد. لأن ظهار الرجل صحيح، وظهارها غير صحيح، قلت: قول أبي بكر جار على قوله من أنها تكون مظاهرة، وقال أبو البركات: إنها ليس لها ابتداء القبلة والاستمتاع، مع قوله: إنها تمكنه، وإنها غير مظاهرة، وذلك لأنه الذي في يدها، وهي قد منعت نفسها منه. [تكرر الكفارة بتكرار الظهار] قال: وإذا ظاهر من نسائه مرارا فلم يكفر فكفارة واحدة. ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، القاضي، والشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا وغيرهم، لأنه لفظ تتعلق به كفارة، فإذا كرره كفاه كفارة واحدة كاليمين بالله تعالى، ولأن الكفارات زواجر بمنزلة الحدود، فإذا وجدت قبل التكفير تداخلت كالحدود (وعنه) تجب كفارات ما لم ينو التأكيد أو الإفهام، لأن الظهار مع العود قد وجدا، فتجب الكفارة كما بأول مرة، وأبو محمد في الكافي يحكي هذه الرواية إن نوى الاستئناف تكررت، وإلا لم تتكرر، وهو ظاهر كلام القاضي في روايتيه وليس بجيد، فإن مأخذ هذه الرواية في الرجل يحلف على شيء واحد أيمانا كثيرة، فإن أراد تأكيد اليمين فكفارة واحدة، وحكى أبو محمد في المقنع الرواية إن كرره في مجالس فكفارات، ولا أظنه إلا وهما، والله أعلم.

كتاب اللعان

[كتاب اللعان] ش: اللعان مصدر: لاعن لعانا. إذا فعل ما ذكر، أو لعن كل واحد من الاثنين الآخر، قال أبو محمد: مشتق من اللعن، لأن كل واحد من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة إن كان كاذبا، وقال القاضي: لأن الزوجين لا ينفكان من أن يكون أحدهما كاذبا، فتحصل اللعنة عليه. انتهى، قال الأزهري: وأصل اللعن الطرد والإبعاد، يقال: لعنه الله أي باعده. والأصل في اللعان قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] إلى قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] . 2773 - وعن الزهري عن سهل بن سعد الساعدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي، فقال له: يا عاصم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأل عاصم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسائل، حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر، فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال عاصم: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها؛ فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو وسط الناس، فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد أنزل فيك وفي صاحبتك قرآن، فاذهب فأت بها» قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها؛ فطلقها عويمر ثلاثا قبل أن يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ؛ قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين. رواهما الشيخان، وأبو داود وهذا لفظه. قال: وإذا قذف الرجل زوجته البالغة الحرة المسلمة، فقال لها: زنيت، أو يا زانية، أو رأيتك تزنين. ولم يأت بالبينة، لزمه الحد إن لم يلتعن، مسلما كان أو كافرا، حرا كان أو عبدا. ش: الكلام على هذه المسألة أولا من جهة الإجمال، وثانيا من جهة التفصيل. فأما من جهة الإجمال فإذا قذف الرجل زوجته التي هذه صفتها بما ذكر، ولم يأت بالبينة لزمه الحد، فإن التعن سقط عنه الحد، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] الآية، أوجب سبحانه الحد على رامي المحصنات إن لم يأت

بالبينة، وهو شامل للأزواج وغيرهم، ثم خص الأزواج بعد ذلك باللعان، تنبيها على أن اللعان قائم مقام البينة في إسقاط الحد. 2774 - ويشهد لهذا ما في السنن عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة وإلا حد في ظهرك» فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس البينة؟ فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «البينة وإلا حد في ظهرك» مختصر، رواه البخاري وأبو داود، والترمذي وابن ماجه. وأما من جهة التفصيل فقول الخرقي: إذا قذف الرجل زوجته، إلى آخره يقتضي أن اللعان إنما يشرع بين الزوجين، وهو اتفاق في الجملة، أما قذف غير الزوجين فالواجب فيه إما الحد إن كانت المرأة محصنة، أو التعزيز إن لم تكن محصنة، لما تقدم من قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] إلى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] دل على أن كل رام يلزمه الحد، وأن الزوج له مع عدم البينة شيء آخر وهو اللعان، وكذلك لا لعان بقذف الأمة، وإن كان بينهما ولد، لأن اللعان، إنما ورد في الزوجات،

ويدخل في الزوجة الرجعية، لأنها زوجة، وكذلك من قذفها ثم أبانها، لأن القذف ورد على زوجته، وكذلك إذا قال لها: أنت طالق يا زانية ثلاثا؛ لأن قذفها حصل قبل بينونتها، ويستثنى من الأجنبية إذا قذفها في نكاح فاسد، أو أبانها ثم قذفها بزنا في النكاح، أو في العدة أو قال لها: أنت طالق ثلاثا يا زانية، فإن في هذه الصورة إن كان بينهما ولد لاعن لنفيه، للحاجة إلى ذلك، وإن لم تكن زوجة، لإضافة ذلك إلى الزوجية، وإلا حد ولم يلاعن، ويستثنى من الزوجة إذا قذف زوجته بزنا قبل النكاح، فإنه يحد ولا يلاعن على المذهب مطلقا، لإضافة القذف إلى حالة البينونة (وعنه) يلاعن مطلقا، نظرا إلى أنها زوجته، فيدخل في الآية الكريمة (وعنه) إن كان ثم ولد لاعن لحاجته إلى نفيه، وإلا لم يلاعن، انتهى، وقوله: البالغة الحرة المسلمة. إلى آخره، بيان لصفة الزوجين الذين يصح لعانهما، وقد اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في ذلك، فروي عنه أن من شرطهما أن يكونا مكلفين، وإن كانا ذميين، أو رقيقين أو فاسقين، أو كان أحدهما كذلك، لعموم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] وهذا شامل لكل زوج وزوجة، خرج منه غير المكلفين، لأن هذا لا يخلو من حد أو تعزير، وذلك لا يتعلق إلا بمكلف، وبنى القاضي وغيره ذلك على أن اللعان يمين، واليمين لا يشترط لها إسلام ولا حرية، ولا عدالة، ودليل ذلك افتقار اللعان إلى اسم الله تعالى. 2775 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في امرأة هلال: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن» وهذه الرواية هي اختيار القاضي في تعليقه، وجماعة

من أصحابه، كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، واختيار أبي محمد أيضا وغيره (وعنه) يشترط التكليف الإسلام والحرية والعدالة، فلا لعان إلا من مسلمين حرين عدلين، وعلله أحمد بأنه شهادة، وذلك لوجود لفظ الشهادة فيه، ولأن الله سبحانه قال: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] فجعلهم شهداء (وعنه) رواية ثالثة: لا يصح اللعان إلا من المحصنة وزوجها المكلف، ولا لعان في قذف يوجب التعزير، لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ثم قال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] الآية، وظاهره المحصنات (وعنه) لا لعان بقذف غير المحصنة، إلا لولد يريد نفيه، وهذا اختيار القاضي في المجرد، نظرا للحاجة لنفي الولد، وظاهر كلام الخرقي الثالثة، لأنه اعتبر في الزوجة البلوغ والحرية والإسلام، ولم يعتبر ذلك في الزوج، والقاضي والشريف وأبو الخطاب قالوا: إن اختياره الثانية. واعلم أن في كلام الخرقي تساهلا، لأنه قال: لزمه الحد إن لم يلتعن، مسلما كان أو كافرا. والحد إنما يجب بقذف المسلمة، والكافر لا يكون زوجا لمسلمة، وقد يحمل على ما إذا أسلمت فقذفها في عدتها، فإن هنا يلزمه الحد وإن كان كافرا، وله أن يلتعن لإسقاطه إن كان بينهما ولد كما تقدم. انتهى، وقوله:

فقال لها: زنيت أو يا زانية أو رأيتك تزنين، بيان للألفاظ التي يصير بها قاذفا، ويترتب عليها اللعان، ولا يشترط أن يضيف ذلك إلى الرؤية، لعموم: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ولا أن يقذفها بزنا في القبل، بل لا فرق بين القبل والدبر، ولو قذفها بغير الزنا، أو بزنا لكن في غير الفرج فلا حد ولا لعان، ولو لم يقذفها بالزنا أصلا، بأن قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني. ونحو ذلك، فيأتي إن شاء الله تعالى، وقوله: ولم يأت بالبينة لزمه الحد إن لم يلتعن، تقدم الكلام عليه أولا، وظاهر كلامه أنه إذا قدر على البينة له أن يلتعن وهو كذلك، لأنهما بينتان، فكان له الخيرة في أيهما شاء والله أعلم. قال: ولا يعرض له حتى تطالبه زوجته. ش: يعني لا يعرض له في طلب حد ولا لعان حتى تطالبه زوجته، لأن ذلك حق لها، فلا يقام إلا بطلبها، كبقية حقوقها، ولا يملك وليها المطالبة، وإن كانت صغيرة أو مجنونة، أو أمة، لأنه حق ملحوظ فيه التشفي، فليس لغير من هو له طلبه كالقصاص، فإن أراد الزوج اللعان من غير طلبها، ولا ولد لم يكن له ذلك بلا نزاع عندنا، وكذلك مع وجود الولد على أكثر نصوص الإمام أحمد، لأنه أحد موجبي القذف، فلا يشرع مع عدم المطالبة كالحد، واختار القاضي أن له اللعان وحده، لأجل نفي الولد، لحاجته إلى ذلك، وجعله أبو البركات قياس رواية أنه يلاعن إذا نفى الولد، ولم يرمها بالزنا، بأن قال: لم تزن والولد ليس ولدي. ونحو ذلك، كما سيأتي، وهكذا الخلاف في كل موضع تعذر فيه اللعان من جهتها، كما

تحريم الملاعنة على الملاعن على التأبيد

إذا أعفته عن المطالبة أو صدقته أو أقام بينة بزناها، أو قذفها وهي محصنة فجنت، أو وهي مجنونة بزنا قبل الجنون، أو وهي خرساء أو ناطقة ثم خرست ولم تفهم إشارتها. [تحريم الملاعنة على الملاعن على التأبيد] قال: فمتى تلاعنا وفرق الحاكم بينهما لم يجتمعا أبدا. ش: إذا تلاعنا وفرق الحاكم بينهما، حرمت الملاعنة على الملاعن على التأبيد، فلا يجتمعان أبدا على المذهب بلا ريب. 2776 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمتلاعنين: «حسابكما على الله تعالى، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها» . قال: يا رسول الله مالي؟ قال: «لا مال لك، إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك منها» متفق عليه. 2777 - وعن سهل بن سعد في «قصة المتلاعنين: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وقال: «لا يجتمعان أبدا» . 2778 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا» .

2779 - وعن علي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «مضت السنة أن لا يجتمع المتلاعنان» . رواهن الدارقطني. وشذ حنبل عن أصحابه فنقل عن أحمد أنه إذا أكذب نفسه حلت له، نظرا إلى أن اللعان الذي وجد كأن لم يكن بالتكذيب، وقد اختلف نقل الأصحاب في هذه الرواية، فقال القاضي في الروايتين: نقل حنبل: إن أكذب نفسه زال تحريم الفراش، وعادت مباحة كما كانت بالعقد الأول؛ وقال في الجامع والتعليق: إن أكذب نفسه جلد الحد، وردت إليه، وظاهر هذا أنه من غير تجديد عقد، وهو ظاهر كلام أبي محمد، قال في الكافي والمغني: نقل حنبل: إن أكذب نفسه عاد فراشه كما كان؛ زاد في المغني: وينبغي أن تحمل هذه الرواية على ما إذا لم يفرق الحاكم، فأما مع تفريق الحاكم بينهما فلا وجه لبقاء النكاح بحاله؛ وفيما قاله نظر، فإنه إذا لم يفرق الحاكم فإن قيل: الفرقة حصلت باللعان، فهو كتفريق الحاكم، وإن قيل: لا تحصل إلا بتفريق الحاكم، فلا تحريم حتى يقال حلت له، والذي يقال في توجيه ظاهر هذا النقل أن الفرقة إنما استندت للعان، وإذا

أكذب نفسه كأن اللعان لم يوجد، وإذا يزول ما ترتب عليه، وهو الفرقة وما نشأ عنها وهو التحريم. وأعرض أبو البركات عن هذا كله فقال: إن الفرقة تقع فسخا متأبد التحريم (وعنه) إن أكذب نفسه حلت له بنكاح جديد، أو ملك يمين إن كانت أمة، وقد سبقه إلى ذلك الشيرازي، فحكى الرواية أنها تباح بعقد جديد. انتهى. فعلى المذهب متى وقع اللعان بعد البينونة أو في نكاح فاسد، فهل يفيد الحرمة المؤبدة، لأنه لعان صحيح، أو لا يفيدها، لأن الفرقة لم تحصل به؟ على وجهين. ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الفرقة بينهما لا تحصل إلا بتفريق الحاكم، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب في خلافاتهم، وابن البنا وأبي محمد، وأبي بكر فيما حكاه القاضي في التعليق. 2780 - لما روى نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالمرأة» . رواه الجماعة. 2781 - «وعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: رجل قذف امرأته. قال: فرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين أخوي بني عجلان، وقال: «الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب» يرددها ثلاث مرات، فأبيا ففرق بينهما» . متفق عليه، ولو

حصلت الفرقة بمجرد اللعان لما احتيج إلى فرقة. 2782 - وقد تقدم في حديث سهل بن سعد «أن عويمرا قال: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها. فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - قال الزهري: فكانت تلك سنة المتلاعنين، وفي رواية في الصحيح: «ذاكم التفريق بين كل متلاعنين» وفي لفظ لأحمد ومسلم: فكان فراقه إياها سنة المتلاعنين؛ وظاهره يقتضي أن طلاقه وقع، ولو وقعت الفرقة لما وقع، وقوله: فكانت تلك سنة المتلاعنين يعني التفريق بينهما، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - استدل بحديث سهل على أن الفرقة تقع بمجرد اللعان، فقال في رواية ابن القاسم وقد سئل: متى تنقضي الفرقة بينهما؟ فقال: أما في حديث سهل فقال: كذبت عليها إن أمسكتها، هي طالق. وأما حديث ابن عمر فإنه يقول: فرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما؛ وابن عمر أعرف بالحديث، لأن سهلا كان له خمس عشرة سنة، وابن عمر كان رجلا؛ ووجه الدليل من هذا أن قوله: فكانت تلك سنة المتلاعنين. أي الحكم بالفرقة باللعان، ثم يرشح هذا القول أن اللعان معنى يقتضي التحريم المؤبد، فلم يقف على حكم الحاكم كالرضاع، وهذه الرواية عزاها أبو محمد إلى اختيار أبي بكر، وظواهر الأحاديث تدل على الأولى وهي المذهب، وعليها لا يحتاج الحاكم إلى استئذانها، ولو لم يفرق كان النكاح بحاله، قاله أبو محمد، وعلى كلتيهما لا يحصل التفريق قبل تمام اللعان بينهما، لأن النصوص إنما وردت بالتفريق بعد لعانهما.

تكذيب الملاعن نفسه

(تنبيه) فرقة اللعان فسخ لا طلاق، نص عليه، والله أعلم. [تكذيب الملاعن نفسه] قال: وإن أكذب نفسه فلها عليه الحد. ش: إذا أكذب نفسه لزمه ما عليه من وجوب الحد، ولحوق النسب، ولم يثبت ما عليه من عود حلها له، على المذهب كما تقدم، لأن بإكذاب نفسه تبين أن لعانه كذب، وإذا يجب الحد. 2783 - وقد روى الدارقطني بإسناده عن قبيصة قال: قضى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رجل أنكر ولد امرأته وهو في بطنها، ثم اعترف وهو في بطنها، حتى إذا ولد أنكره، فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فجلد ثمانين جلدة، لفريته عليها، ثم ألحق به ولدها، وإنما لم يثبت الحل حذارا من أن يثبت له بمجرد قوله حل، ولما كان من مذهب الخرقي أن اللعان لا يشرع إلا في قذف المحصنة اقتصر على الحد، أما على قول غيره من أنه يشرع وإن لم تكن محصنة، فيقول: أو التعزير إن لم تكن محصنة. والله أعلم. [ما يترتب على اللعان] قال: وإن قذفها وانتفى من ولدها، وتم اللعان بينهما

بتفريق الحاكم، انتفى عنه إذا ذكره في اللعان. ش: إذا ولدت المرأة ولدا لحق زوجها. 2784 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولد للفراش» ولا ينتفي عنه إلا باللعان على الصفة التي ذكرها الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما سيأتي بيانه. 2785 - وذلك لما تقدم في حديث ابن عمر الصحيح: «أن رجلا لاعن امرأته، وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالمرأة» . 2786 - وفي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما لاعن بين هلال وامرأته قال: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد» رواه أحمد وأبو داود،

واختلف بماذا ينتفي (فعنه) بتمام لعانهما (وعنه) بنفي الحاكم مع ذلك، وهذا الخلاف كالخلاف في الفرقة، بماذا تحصل (وعنه) ثالثة تقف الفرقة على حكم الحاكم، فإذا فرق انتفى الولد، لأن قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ففرق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما، وألحق الولد بالأم. ظاهره أن نفي الولد مرتب على التفريق، وخرج أبو البركات قولا آخر، أن الولد ينتفي بلعان الزوج وحده، وكأنه خرجه من القول: إن تعذر اللعان من جهة المرأة، يلاعن الزوج وحده لنفي الولد. وقول الخرقي: وإن قذفها وانتفى من ولدها. لأن عنده كما سيأتي أن من شرط اللعان القذف، وقوله: وتم اللعان بينهما. يحترز عن مذهب الغير أن الولد ينتفي بمجرد لعان الزوج، كالتخريج المتقدم، وقوله: وتم اللعان بينهما بتفريق الحاكم، الظاهر أن الباء فيه للمعية، أي مع تفريق الحاكم، لا للسببية، إذ تفريق الحاكم ليس سببا لتمام اللعان، بل تمامه بألفاظه المشترطة كما سيأتي، وقوله: انتفى عنه إذا ذكره في اللعان، يعني أنه يشترط لنفي الولد أن يذكره في اللعان، فلو لم يذكره لم ينتف، وهذا مختار القاضي وأبي محمد وغيرهما، لما تقدم من حديث ابن عمر أن رجلا لاعن

امرأته وانتفى من ولدها، ولأن غاية اللعان أن يثبت زناها، وذلك لا يوجب نفي الولد، كما لو أقرت به. وعلى هذا يشترط أن يذكره في الألفاظ الخمسة، وحكى أبو محمد تبعا للقاضي في روايتيه عن أبي بكر في الخلاف أنه لا يشترط ذكره، لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم في لعان هلال وامرأته، وقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يدعى ولدها لأب، وليس في القصة أنه ذكر الولد في اللعان، ولم يعرج أبو البركات على هذا الخلاف، بل جزم أنه لا بد أن يتناوله اللعان، إما صريحا بأن يقول في لعانه: وما هذا الولد ولدي. وإما ضمنا، بأن يقول من قذفها بزنا في طهر لم يصبها فيه وأنه اعتزلها حتى ولدت: أشهد بالله أني لصادق فيما ادعيت به، ونحو ذلك، واعلم أنه يشترط لنفي الولد باللعان أن يتقدمه إقرار به، أو ما يدل عليه، والله أعلم. قال: فإن أكذب نفسه بعد ذلك لحقه الولد. ش: قد تقدم أنه إذا أكذب نفسه ثبت ما عليه من الحد، ولحوق الولد، لأن نفقته تجب عليه، وكلام الخرقي يشمل وإن كان الولد ميتا وله مال، وهو كذلك، والله أعلم. قال: وإن نفى الحمل في التعانه لم ينتف حتى ينفيه عند وضعها له ويلاعن. ش: منصوص أحمد في رواية الجماعة أنه لا يصح نفي

الحمل، وقال: ربما لم يكن شيئا، لعله يكون ريحا، وعلى هذا عامة الأصحاب، معتمدين بأنه يكون ريحا، وقد يكون غيره، فيصير نفيه مشروطا بوجوده، ولأن الأحكام التي ينفرد بها الحمل تقف على ولادته، بدليل الميراث والوصية، وغير ذلك، وهذا حكم ينفرد به الحمل، فدخل في القاعدة، وفارق وجوب النفقة على الحامل، وكونها لا توطأ حتى تضع وغير ذلك، لأن هذه أحكام تتعلق بحيوان حامل، لا ينفرد بالحمل، فعلى هذا لا بد أن ينفيه عند وضعها له ويلاعن، ونقل عنه ابن منصور ما يدل على أنه يصح نفيه، وهو اختيار أبي محمد، لأن في حديث سهل: «وقضى أن لا يدعى ولدها لأب» ، ولعان هلال وامرأته كان قبل الوضع، كما جاء في غير حديث. 2787 - وجاء مصرحا في حديث سهل وكانت حاملا. 2788 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لاعن على الحمل» ، رواه أحمد. وينبني على هذا الخلاف في استلحاقه، فعلى الأول لا يصح، وقد نص عليه أحمد في رواية ابن القاسم، وعلى الثاني يصح. والله تعالى أعلم.

قال: ولو جاءت امرأته بولد، فقال: لم تزن، ولكن ليس هذا الولد مني فهو ولده في الحكم، ولا حد عليه لها. ش: أما كون الولد والحال ما تقدم ولده، فلأنه ولد على فراشه، وقد قال: «الولد للفراش» وأما كونه لا حد عليه فلأن شرط وجوب الحد القذف ولم يوجد، وظاهر كلام الخرقي أنه ليس له اللعان لنفي الولد، وهذا اختيار القاضي في الروايتين، وأبي محمد، لأن اللعان الذي ورد في الكتاب والسنة ورد بعد القذف، ولا قذف هنا، فينتفي اللعان، إذ الأصل الانتفاء مطلقا، إلا فيما ورد به الشرع، (والرواية الثانية) وهي اختيار أبي بكر، وابن حامد، والقاضي في تعليقه وفي روايتيه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وأبي البركات: له ذلك، لأن مشروعية اللعان لشيئين، نفي الحد والولد، ولا يلزم من عدم أحدهما عدم الآخر، ولو سلم أن أصل مشروعيته لنفي الحد، فليشرع لأجل الولد من باب الأولى، إذ ضرر الولد يتأكد، ويلزم منه مفاسد عظيمة، لا يوجد بعضها في الحد، فكيف بمجموعها. (تنبيهان) : أحدهما ذكر أبو البركات من صور الروايتين إذ

قال صورة الخرقي، ولم يقل: ولم تزن. ولم يجعله قاذفا، أو قال: وطئت بشبهة، أو مقهورة بنوم أو إغماء أو جنون أو إكراه، وحكى اختيار الخرقي في الجميع، وأبو محمد في المغني قطع فيما إذا قال: وطئت بشبهة أنه لا لعان. وحكى الخلاف فيما إذا قال أكرهت على الزنا. وهذا ظاهر كلام القاضي، لأنه استدل لاختيار الخرقي بأن من رمى أحد الواطئين لم يكن له أن يلاعن، كما لو قذف الزوجة دون الواطئ، فقال: وطئك فلان بشبهة، وكنت عالمة أنه أجنبي. وأجاب عن ذلك في التعليق بأنه إنما لم يكن له اللعان لجواز نفي الولد عنه، بعرضه على القافة، وأبو محمد يقول في هذه الصورة التي جعلها القاضي محل وفاق: له اللعان، وينصب الخلاف مع القاضي، وضابط الباب أنه متى قذف بالزنا، بأن تضمن قذفه رميها ورمي واطئها، شرع اللعان بلا ريب، وعكسه إن لم يقذفها، ولا قذف واطئها، فهنا لا لعان عند أبي محمد في المغني، والقاضي، ولا خلاف، وعند أبي محمد في المقنع وأبي البركات فيه الروايتان، والصحيح عند أبي البركات مشروعية اللعان، وهذا الذي اقتضى لأبي البركات أن يقول: وهو أصح عندي. أي في جميع الصور، وإن قذف واطئها دونها، بأن قال: أكرهت على الزنا. ونحو ذلك، فهنا يجري الخلاف بلا ريب، والمصحح عند القاضي ومن تقدم مشروعية اللعان، خلافا للخرقي، وأبي محمد، وإن قذفها دون الواطئ، كما إذا قال: وطئك فلان بشبهة. وكنت عالمة، فعند القاضي هنا لا خلاف أنه لا يلاعن،

اللعان الذي يبرأ به من الحد

ومختار أبي محمد أنه يلاعن، وكلام أبي البركات محتمل لجريان الخلاف، وأن الصحيح عنده مشروعية اللعان، ومناط المسألة عند القاضي أن لا يكون له طريق إلى نفي الولد إلا اللعان، والمناط عند أبي محمد والخرقي أن يقذف زوجته بالزنا، والمناط عند أبي البركات أنه يحتاج إلى نفي الولد، وإن أمكن نفيه بالعرض على القافة، ونحو ذلك، لأن القافة قد تتعذر، وقد يشتبه الأمر عليها، ونحو ذلك. (التنبيه الثاني) حيث شرع اللعان في هذه الصور فإن الولد ينتفي بمجرد لعان الزوج وحده، ذكره أبو البركات، والله أعلم. [اللعان الذي يبرأ به من الحد] قال: واللعان الذي يبرأ به من الحد أن يقول الزوج بمحضر من الحاكم: أشهد بالله لقد زنت. ويشير إليها، وإن لم تكن حاضرة سماها ونسبها، حتى يكمل ذلك أربع مرات، ثم يوقف عند الخامسة ويقال له: اتق الله، فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فإن أبى إلا أن يتم فليقل: ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فيما رماها به من الزنا، وتقول هي: أشهد بالله لقد كذب. أربع مرات، ثم توقف عند الخامسة، وتخوف كما يخوف الرجل، فإن أبت إلا أن تتم فلتقل: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، فيما رماني به من الزنا، ثم يقول الحاكم: قد فرقت بينكما. ش: هذا بيان لصفة اللعان، والأصل فيه في الجملة الآية الكريمة، وقد تقدمت.

2789 - «وعن سعيد بن جبير أنه قال لعبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يا أبا عبد الرحمن، المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله، نعم أول من سأل عن ذلك فلان ابن فلان، قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك. قال: فسكت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليت به، فأنزل الله هؤلاء الآيات في سورة النور: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فتلاهن عليه، ووعظه وذكره، وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر، فقال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعا بالمرأة فوعظها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ - وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 6 - 7] ثم ثنى بالمرأة فشهدت: {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ - وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 8 - 9] ثم فرق بينهما» ، متفق عليه. وظاهر كلام الخرقي أن جميع ما ذكره تتوقف صحة اللعان عليه، فيكون شرطا فيه، ونحن نتكلم عليه مفصلا، فأما كون ذلك بمحضر الحاكم فلا بد منه. 2790 - لأن في «قصة هلال أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أرسلوا إليها، فتلا عليهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكرهما، وأخبرهما أن عذاب الدنيا

أهون من عذاب الآخرة، فقال هلال: والله لقد صدقت عليهما، فقالت: كذب. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاعنوا بينهما» » وظاهره أنه كان بحضوره، وكذلك بقية الأحاديث، تدل على ذلك، نعم لو كانت المرأة خفرة، بعث الحاكم من يلاعن بينهما، إذ هو نائب عنه، ونائبه قائم مقامه، وأما كون الزوج يقول: أشهد بالله أربع مرات. فللآية الكريمة والحديث، وأما كونه يقول: لقد زنت. فلأن الذي يشهد به هو زناها، وأما كونه يشير إليها فلتتميز عن غيرها، وهذا إذا كانت حاضرة، فإن كانت غائبة أسماها ونسبها، حتى تنتفي المشاركة بينها وبين غيرها، وهذا كله شرط، وقيل لأحمد: كيف يلاعن؟ قال: على ما في كتاب الله، يقول أربع مرات: أشهد بالله إني فيما رميتها به من الزنا لمن الصادقين. وهو ظاهر النصوص، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى استغنى عن ذلك بقوله: لقد زنت. لأن معناهما واحد، قال أبو محمد: واتباع لفظ النص أولى وأحسن. 2791 - وأما كون الزوج يوقف بعد الرابعة، ويقال له ما ذكر، فلأن في «حديث هلال لما قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لاعنوا بينهما» فقيل لهلال: اشهد. فشهد: {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] فلما كانت الخامسة قيل: يا هلال اتق الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخر، وإن هذه الموجبة التي

توجب العذاب. فقال: والله لا يعذبني الله عليها، كما لم يجلدني عليها، فشهد: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 7] ثم قيل لها: اشهدي. فشهدت: {أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8] فلما كانت الخامسة قيل لها: اتقي الله، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] » الحديث رواه أبو داود وأحمد، وهو ظاهر النصوص، وهذا الإيقاف والموعظة مستحبان عند الأصحاب، لأنهما ليسا في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الصحيح، وإنما فيه الموعظة أولا، وأما كونه إن لم يرجع وأبى إلا أن يتم فليقل: ولعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به من الزنا، للآية الكريمة والحديث، وهذا أيضا شرط، إلا أنه لو أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد أو بالغضب ففي الإجزاء ثلاثة أوجه (ثالثها) الاجتزاء بالغضب لا بالإبعاد، وفي إبدال لفظه أشهد بأقسم أو أحلف وجهان، أصحهما: لا يجزئ: وقال الوزير ابن هبيرة من أصحابنا: من اشترط من الفقهاء أنه يزاد بعد قوله: {مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] : فيما رميتها به من الزنا. اشترط في نفيها عن نفسها: فيما رماني به من الزنا. ولا أراه يحتاج إلى ذلك، لأن

الله تعالى أنزل ذلك وبينه، ولم يذكر هذا الاشتراط، وأما كون المرأة تقول بعد ذلك: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين، أو لقد كذب. على ما قال الخرقي إلى آخره، فلما تقدم، وهو كله أيضا شرط إلا الموعظة والإيقاف كما في الرجل، وإذا أبدلت الغضب باللعنة لم يجز، لأن الغضب أبلغ، وإن أبدلت الغضب بالسخط فوجهان، وقد تضمن كلام الخرقي أن لعان الزوج مقدم، وهو كذلك، فلو ابتدأت المرأة لم يعتد بذلك، وكذلك الترتيب في الألفاظ شرط، واعلم أن من شرط اللعان أيضا الإلقاء من الحاكم أو نائبه، فلو ابتدأ الرجل من غير إلقاء لم يعتد به، كما لو حلف من غير أن يأذن له الحاكم، أو شهد من غير سؤال، والله أعلم. قال: فإن كان بينهما في اللعان ولد ذكر الولد، فإذا قال: أشهد بالله لقد زنت، يقول: ما هذا الولد ولدي. وتقول هي: أشهد بالله لقد كذب، وهذا الولد ولده. ش: قد تقدم أنه يشترط لنفي الولد ذكره في اللعان، وأنه لا ينتفي إلا بذلك، على مختار الخرقي، ثم إن الخرقي اكتفى بأن يقول: وما هذا الولد ولدي. وتبعه على ذلك أبو محمد، وقال القاضي: يشترط أن يقول: هذا الولد من زنا، وليس هو مني. يعني خلقا وخلقا، والله أعلم. قال: فإن التعن هو ولم تلتعن هي فلا حد عليها، والزوجية بحالها. ش: أما انتفاء الحد عنها فلا نعلم فيه خلافا في مذهبنا، لأن

الحد يدرأ بالشبهة، ونكولها شبهة، لأنه يحتمل أن يكون لشدة حيائها، أو لعقدة على لسانها، أو غير ذلك، وهذا شبهة فدرأت الحد. 2792 - ويرشح هذا قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن الحد على من زنا وقد أحصن، إذا كانت بينة، أو كان الحمل أو الاعتراف، وظاهره أنه لا حد بغير ذلك، وقول الله سبحانه: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8] يحتمل أن يراد بالعذاب الحد، ويحتمل أن يراد الحبس، ويحتمل أن يراد غيره، فلا يثبت الحد بالاحتمال، وأما كون الزوجية بحالها فلأن الفرقة إنما تحصل بالتعانهما، ولم يوجد ذلك. وظاهر كلام الخرقي أنه يخلى سبيلها، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، لأن هذا لعان لم يوجب حدا، فلم يوجب حبسا، كما لو لم تكمل البينة، (والثانية) : وهي اختيار القاضي، وأبي علي بن البنا، والشيرازي وغيرهم - أنها تحبس حتى تقر أو تلاعن، نظرا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8] فإذا لم تشهد لم يندرئ العذاب عنها، وإنما قلنا: العذاب الحبس لآية النساء وهي قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية إلى {فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] وإنما لم يقل إنه الحد حذارا

من ارتكاب الأثقل بالاحتمال، ومقتضى كلام الخرقي أن الولد لاحق له، وهو كذلك، والله أعلم. قال: وكذلك إن أقرت دون الأربع مرات. ش: يعني لا حد عليها، لأنه لم يثبت بلعانه كما تقدم، ولا بإقرارها المذكور، إذ شرط ثبوت الحد عليها بالإقرار أن تقر أربعا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والزوجية بحالها كما تقدم، وحكم هذه حكم من نكلت على ما تقدم، في حبسها أو تخليتها، وفي أن الولد لاحق بالزوج على المنصوص، وقد تقدم فيه قول آخر أن للزوج أن يلتعن وحده لنفيه، وحكى ابن حمدان قولا أنها إذا أقرت بعد النكول ثلاثا أنها تحد، وكأن مدركه أن شهادة الرجل بمنزلة شاهد، فقد وجد بلعانه ربع النصاب، وبإقرارها ثلاثة أرباعه، ويلزم على هذا لو أقرت ثلاث مرات، وشهد شاهد أنها تحد، ولا أعرف النقل في ذلك، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب العدد

[كتاب العدد] ش: العدة ما تعده المرأة من أيام أقرائها، أو أيام حملها، أو غير ذلك، على ما يعرف إن شاء الله، والأصل فيها قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي فعدتهن كذلك، أو فكذلك، أو واللائي يئسن من المحيض، واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، وملخصه هل في الآية تقديم وتأخير أو تقدير، وعلى الثاني هل المقدر مفرد أو جملة؟ خلاف، وقوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] الآية، وقوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] «وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفاطمة بنت قيس: «اعتدي في بيت ابن أم مكتوم» » في أحاديث غير ذلك، مع أن مشروعية ذلك إجماع والحمد لله، والله أعلم. [وجوب العدة على المخلو بها] قال: وإذا طلق الرجل زوجته وقد خلا بها فعدتها ثلاث حيض.

ش: قد انعقد الإجماع على وجوب العدة على المبتوتة، لعموم {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] مع قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] الآية، وقد اختلف في وجوب العدة على المخلو بها بشرطه، ومذهبنا وجوبها، لقضاء الصحابة بذلك، وقد تقدم الكلام على ذلك مبينا، في وجوب الصداق بالخلوة، ويشترط لوجوب العدة بالخلوة مطاوعتها، وكون الزوج ممن يولد لمثله، وهل يعتبر خلوهما من الموانع كالجب والعنة، والإحرام والصيام، ونحو ذلك؟ لم يعتبره أبو البركات، مع حكايته الخلاف في الصداق، وخرج أبو محمد الخلاف الذي ثم هنا. وظاهر كلام الخرقي أن العدة لا تجب إذا لم يوجد مس أو خلوة، ولو قبل أو لمس، أو تحملت المرأة ماء الرجل، وهو أحد الوجهين في الصور الثلاث، والذي جزم به القاضي في المجرد وجوبها بتحمل المرأة الماء انتهى. وعدة ذات القروء الحرة ثلاثة أقراء بالإجماع، لشهادة النص بذلك، واختلف في القروء هل هي الحيض أو الأطهار؟ على روايتين مشهورتين، هما قولان للعلماء، ولأهل اللغة (إحداهما) أنها الأطهار، ويعزى هذا في الجملة إلى أهل الحجاز.

2793 - ونقله أحمد عن زيد وابن عمر وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وزعم ابن عبد البر أن أحمد رجع أخيرا إلى هذا القول، وعمدته في ذلك قول أحمد في رواية الأثرم: رأيت الأحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف، والأحاديث عمن قال الطهر وأنه أحق بها، حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديث صحاح قوية، والعمدة في ذلك قوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي في عدتهن، كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] أي في يوم القيامة، والمشروع الطلاق في الطهر لا في الحيض بالإجماع، وشهادة السنة له كما تقدم، وقال الأعشى يصف غزوة: مورثة مالا وفي الأصل رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا

والذي ضاع هو الأطهار، (والثانية) القرء الحيض، ويعزى هذا في الجملة إلى أهل العراق، ويحكى عن الأصمعي والكسائي، والفراء، والأخفش، قالوا كلهم: أقرأت المرأة. إذا حاضت. قال الأصمعي: فهي مقرؤ. وقال الكسائي والفراء: فهي مقرئ. 2794 - ونقل ذلك الإمام أحمد عن عمر، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو المشهور عن أحمد، واختيار أصحابه، وآخر قوليه صريحا، كما نص عليه في رواية ابن القاسم، فقال: كنت أقول بقول زيد وعائشة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فهبته،

وكذلك في رواية الأثرم: كنت أقول الأطهار، ثم وقفت لقول الأكابر. وأصرح من ذلك قوله في رواية النيسابوري: قد كنت أقول به، إلا أني أذهب اليوم إلى أن الأقراء الحيض، وهذا تصريح بالرجوع، وعلى إحدى الطريقتين يرتفع الخلاف من مذهبه، وما اعتمده أبو عمر فليس فيه إلا أن مختاره كان إذ ذاك الأطهار، والعمدة في ذلك ما اعتمده أحمد من أن ذلك قول الأكابر، وقد حكاه عن عمر وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. 2795 - وروي عن أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وابن عباس، وأبي موسى، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وأيضا فقد وقع القرء في لسان المبين لكتاب ربه، والمراد به الحيض. 2796 - فعن القاسم «عن زينب بنت جحش - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنها مستحاضة: فقال: «تجلس أيام أقرائها، ثم

تغتسل» ، مختصر، رواه النسائي. 2797 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن أم حبيبة بنت جحش - التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف - شكت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدم، قال: «فلتنظر قرأها الذي كانت تحيض، فلتترك الصلاة، ثم لتنظر ما بعد ذلك، فلتغتسل عند كل صلاة وتصلي» رواه أحمد، والنسائي. 2798 - وعن الأسود عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: أمرت بريرة أن

تعتد بثلاث حيض. رواه ابن ماجه. 2799 - وعنها أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» رواه الترمذي وأبو داود. فعلم من هذا أن عرف الشرع في القرء أنها الحيض، وأيضا موافقة لظاهر الآية، وهو: {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فإن ظاهرها ثلاثة قروء كوامل، وإنما يكون ذلك إذا قلنا إنها الحيض، أما إن قلنا إنها الأطهار فإنما هو قرآن وبعض الثالث، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4] فنقلهن عند عدم المحيض إلى الاعتداد بالأشهر، فظاهره أن الأشهر بدل عن الحيض، وأيضا فالعدة استبراء، فكانت بالحيض كاستبراء الأمة. 2800 - ودليل الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تستبرأ بحيضة» وأما قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فالمراد مستقبلات لعدتهن، كما تقول: لقيته لثلاث بقين من الشهر، أي مستقبلا لثلاث. 2801 - يؤيد هذا أن في «حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما طلق امرأته وهي حائض، وأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمراجعتها، فقال ابن عمر: قرأ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل

عدتهن» رواه أبو داود والنسائي. 2802 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة تطليقة، قال: عصيت ربك، وبانت منك امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا، ثم قرأ: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) وفي لفظ: وإن الله قال: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن) رواه أبو داود، وأما بيت الأعشى فقيل: أراد من أوقات نسائك، ولم يرد لا حيضا ولا طهرا، والقرء والقارئ جاء في معنى الوقت، يقال: هذا قارئ الرياح. لوقت هبوبها، ومن هنا قال بعض أهل اللغة: إن القرء يصلح للحيض والطهر، بناء على أن القرء الوقت، وقال آخر: يصلح لهما، بناء على أن القرء الجمع، ومنه قولهم: قريت الماء في الحوض، وقرأت القرآن. أي لفظت به مجموعا، ولا ريب أن الدم يجتمع في البدن في الطهر، ويجتمع في الرحم في الحيض، وبالجملة من أهل اللغة من يجعل القرء للطهر، ومنهم من يجعله للحيض، ومنهم من يجعله مشتركا بينهما، والله أعلم. قال: غير الحيضة التي طلقها فيها. ش: هذا بناء على مختاره من أن الأقراء الحيض، فعلى هذا لا تعتد بالحيضة التي طلقها فيها من العدة، بل إنما تحتسب بما بعدها، بلا خلاف نعلمه، لظاهر الكتاب، ولأن المنع من

انقضاء العدة بانقضاء الثلاثة قروء

الطلاق في الحيض - والله أعلم - حذارا من تطويل العدة عليها، وإنما يكون ذلك إذا لم تحتسب بالحيضة التي طلقها فيها، ولهذا قلنا والجمهور تحتسب بالطهر الذي طلقها فيه قرءا إن قلنا القروء الأطهار، وإلا يكون الطلاق في الطهر أضر بها، وأطول عليها من الطلاق في الحيض، والله أعلم. [انقضاء العدة بانقضاء الثلاثة قروء] قال: فإذا اغتسلت من الحيضة الثالثة، أبيحت للأزواج. ش: ظاهر هذا أن العدة لا يحكم بانقضائها بانقضاء الحيضة الثالثة، بل لا بد مع ذلك من الاغتسال، وهذا إحدى الروايتين، وأنصهما عن أحمد، واختيار أصحابه، الخرقي، والقاضي، والشريف، والشيرازي وغيرهم، اعتمادا على أن هذا قول أكابر الصحابة. 2803 - قال أحمد: روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يقول: إذا انقطع الدم في الحيضة الثالثة فقد بانت منه. وهو أصح في النظر، قيل له: فلم لا تقول به؟ . 2804 - قال: ذلك يقول به عمر وعلي وابن مسعود، فأنا أتهيب أن أخالفهم، يعني اعتبار الغسل، ويرشح هذا القول أن ظاهر القرآن كما أشار إليه أحمد، يقتضي انقضاء العدة بانقضاء الثلاثة قروء، فترك هؤلاء الأكابر للظاهر، الظاهر إنما هو عن توقيف ممن له البيان.

2805 - وقد روي هذا أيضا عن أبي بكر، وعثمان، وأبي موسى، وعبادة، وأبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (والرواية الثانية) تنقضي العدة بانقطاع دمها من الثالثة وإن لم تغتسل، اختاره أبو الخطاب، نظرا لظاهر القرآن، ولا تفريع على هذه الرواية، أما على الأولى فظاهر كلام الخرقي وجماعة أن العدة لا تنقضي ما لم تغتسل، وإن فرطت في الاغتسال مدة طويلة، وقد قيل لأبي عبد الله: فإن أخرت الغسل تعمدا، فينبغي إن كان الغسل من أقرائها أن لا تبين وإن أخرته؟ قال: هكذا يقول شريك. فظاهر هذا أنه أخذ به، وقال أبو بكر: روي عن أبي عبد الله: إذا وجبت عليها الصلاة ولم يخرج الوقت. قال القاضي: يعني بذلك أنها لا تباح ما لم تجب عليها الصلاة، فإذا وجبت أبيحت انتهى، وقال أبو بكر أيضا: روي عن أبي عبد الله أنها في عدتها إذا انقطع الدم لدون أكثر الحيض، وإن انقطع لأكثره انقضت العدة بانقطاعه انتهى، ومحل الخلاف في المسألة في إباحتها للأزواج، وحلها لزوجها الأول بالرجعة، أما

ما عدا ذلك من انقطاع نفقتها، وعدم وقوع الطلاق بها، وانتفاء الميراث، وغير ذلك، فيحصل بانقطاع الدم رواية واحدة، قال القاضي وغيره: قصرا على مورد حكم الصحابة. والله أعلم. قال: وإن كانت أمة فإذا اغتسلت من الحيضة الثانية. ش: مذهبنا ومذهب الجمهور أن عدة الأمة بالقرء قرءان. 2806 - لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وعدتها حيضتان» وفي لفظ: «وقرء الأمة حيضتان» رواه الدارقطني، وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «طلاق الأمة ثنتان، وعدتها حيضتان» رواه ابن ماجه والدارقطني، إلا أن كلا الحديثين قد ضعف. 2807 - لكن يرشحهما أنه قول عمر وعلي، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، والجمهور، وكان القياس يقتضي أن تكون حيضة ونصفا، كما في كثير من أحكام الأمة مع الحرة، إلا أن الحيض لا يتبعض. 2808 - ولهذا قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو أستطيع أن أجعل العدة حيضة

عدة الآيسات واللائي لم يحضن

ونصفا لفعلت. إذا تقرر هذا فالخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - عنده أن القروء الحيض، فتكون عدة الأمة حيضتين، وعنده أن الحرة لا تحل للأزواج حتى تغتسل من الثالثة، فكذلك الأمة لا تحل حتى تغتسل من الثانية والله أعلم. [عدة الآيسات واللائي لم يحضن] قال: وإن كانت من الآيسات أو ممن لم يحضن فعدتها ثلاثة أشهر. ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أي فكذلك، أو فعدتهن كذلك، أو واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن فعدتهن ثلاثة أشهر، وملخصه أن الآية الكريمة هل فيها تقديم وتأخير، أو تقدير، وعلى الثاني هل المقدر مفرد أو جملة؟ ثلاثة أقوال. (تنبيه) ويحتسب بالساعة التي فارقها، على المشهور من الوجهين، حذارا من الزيادة على ظاهر الكتاب، وقال ابن حامد: إنما يحتسب بأول الليل أو النهار، فإذا طلقها نهارا احتسب من أول الليل الذي يليه، وليلا يحتسب بأول النهار الذي يليه، دفعا لمشقة اعتبار الساعات، والله أعلم.

عدة الأمة

[عدة الأمة] قال: والأمة شهران. ش: يعني أن ما تقدم إذا كانت الزوجة حرة، أما إن كانت أمة فعدتها شهران، وهذا هو المشهور من الروايات، والمختار لعامة الأصحاب، الخرقي والقاضي وأصحابه، وأبي بكر فيما نقله القاضي في الروايتين، إذ الأشهر بدل من القروء، وعدة ذات القروء قرءان، فبدلهما شهران. 2809 - واعتمد أحمد على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عدة أم الولد حيضتان، ولو لم تحض كان عدتها شهران (والرواية الثانية) عدتها شهر ونصف، اختارها أبو بكر فيما نقله أبو محمد. 2810 - ويروى عن علي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لأن عدة الأمة نصف عدة الحرة، وعدة الحرة ثلاثة أشهر، فنصفها شهر ونصف، وإنما اعتدت الأمة ذات القروء بالحيضتين، لتعذر تبعيض الحيضة، (الرواية الثالثة) ثلاثة أشهر، مخرجة على ما قال القاضي من نصه في أن استبراءها بثلاثة أشهر، لظاهر إطلاق الكتاب، ولأن اعتبار الشهور للعلم ببراءة رحمها، ولا تحصل بدون ثلاثة أشهر في الحرة والأمة، إذ الحمل يكون

نطفة أربعين يوما، وعلقة أربعين يوما، ثم يصير مضغة أربعين يوما، ثم يتحرك ويعلو بطن المرأة، ويظهر الحمل، وهذا ظاهر لا خفاء به، إلا أنه ضعف، لأنه مخالف لإجماع الصحابة، لأنهم إنما اختلفوا على القولين السابقين، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين من عادتها أن لا تحيض، وبين من عادتها أن تحيض، كمن بلغت خمسة عشر سنة ونحو ذلك، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار أبي بكر وأبي محمد، واعتمادا على عموم الكتاب، (والرواية الثانية) إذا أتى عليها زمان الحيض ولم تحض تعتد بسنة، اختارها القاضي في خلافه وفي غيره، وعامة أصحابه، الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، لأنها والحال هذه مرتابة، لجواز أن يكون بها حمل منع حيضها فوجب أن تعتد بسنة، كالتي ارتفع حيضها بعد وجوده. (تنبيه) حد الإياس هل هو خمسون سنة أو ستون، أو يفرق بين نساء العرب ونساء العجم، على خلاف سبق في الحيض، وأبو محمد يختار أنها إذا بلغت خمسين، وانقطع حيضها عن عادتها مرات لغير سبب، فقد صارت آيسة، وإن رأت الدم بعد الخمسين، على العادة التي كانت تراه فيها فهو حيض، والله أعلم. قال: وإذا طلقها طلاقا يملك فيه الرجعة، وهي أمة، فلم تنقض عدتها حتى أعتقت، بنت على عدة حرة، وإن طلقها

طلاقا لا يملك فيه الرجعة فعتقت، اعتدت عدة أمة. ش: لأنها إذا أعتقت وهي رجعية فقد وجدت الحرية وهي زوجة، فوجب أن تعتد عدة الحرائر، كما لو أعتقت قبل الطلاق، وإن عتقت وهي بائن فلم توجد الحرية في الزوجية، فلم تجب عليها عدة الحرائر، كما لو أعتقت بعد مضي القرئين، والله أعلم. قال: وإذا طلقها وهي ممن قد حاضت، فارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت سنة. ش: هذا هو المذهب المعمول به بلا ريب، لأنها إذا حصلت مرتابة، فوجب أن تقعد سنة، تسعة أشهر للحمل اعتمادا على الغالب، وثلاثة لعدة الإياس، لتزول الريبة، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنها تقعد للحمل أربع سنين، نظرا إلى أن ذلك هو اليقين، ثم تعتد للإياس. (تنبيه) ولو عاد الحيض قبل الحكم بانقضاء عدتها انتقلت إليه بلا ريب، لأنه الأصل، والبدل لم يتم، وإن عاد بعد العدة وبعد نكاحها لم تنتقل إليه بلا ريب، للحكم بصحة نكاحها، وإن عاد بعد الحكم بانقضاء عدتها، وقبل نكاحها ففي الانتقال إليه وجهان، أصحهما لا تنتقل إليه، للحكم بانقضاء عدتها، والله أعلم. قال: وإن كانت أمة اعتدت بأحد عشر شهرا، تسعة

أشهر منها للحمل، وشهران للعدة. ش: هذا مبني على ما تقدم له من أن عدة الأمة الآيسة شهران، وهو المذهب، أما على رواية أن عدتها شهر ونصف، فتجلس عشرة أشهر ونصف، وعلى رواية ثلاثة أشهر، تساوي الحرة، والله أعلم. قال فإن عرفت ما رفع الحيض كانت في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به، إلا أن تصير من الآيسات، فتعتد بثلاثة أشهر من وقت تصير في عدة الآيسات. ش: إذا عرفت ما رفع الحيض - من مرض أو رضاع ونحوه - لم تزل في عدة حتى يعود الحيض فتعتد به، أو تصير آيسة فتعتد عدة الآيسات، نص عليه أحمد في رواية صالح، وأبي طالب، وابن منصور، والأثرم، إذا حبسها مرض أو علة أو رضاع فلا بد أن تأتي بالحيض وعليه أصحابه. 2811 - لما روى الشافعي في مسنده عن حبان بن منقذ، أنه طلق امرأته طلقة واحدة، وكان لها منه بنية ترضعها، فتباعد حيضها، ومرض حبان، فقيل له: إنك إن مت ورثتك. فمضى إلى عثمان وعنده علي وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فسأله عن ذلك فقال عثمان لعلي وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: ما تريان؟ فقالا: نرى أنها إن ماتت ورثها، وإن مات ورثته، لأنها ليست من القواعد اللائي يئسن من المحيض، ولا من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض. فرجع حبان إلى أهله فانتزع البنت منها، فعاد إليها الحيض، فحاضت

حيضتين، ومات حبان قبل انقضاء الثالثة، فورثها عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والله أعلم. قال: وإن حاضت حيضة أو حيضتين، ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، لم تنقض عدتها إلا بعد سنة من وقت انقطاع الحيض. ش: لأنها إذا تصير مرتابة، فوجب أن تعتد بسنة، كما لو ارتفع حيضها من حين طلقها، والعدة لا تبنى على عدة أخرى، ولذلك لو حاضت حيضة أو حيضتين ثم يئست، انتقلت إلى ثلاثة أشهر، ولو اعتدت الصغيرة شهرا أو شهرين، ثم حاضت، انتقلت إلى القروء. 2812 - واعتمد أحمد في المسألة على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإنه قال - في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين، وارتفع حيضها لا تدري ما رفعه -: تجلس تسعة أشهر، فإن لم يستبن بها حمل، تعتد بثلاثة أشهر. قال ابن المنذر: قضى به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين المهاجرين والأنصار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،

لا ينكره منكر، والله أعلم. قال: وإن طلقها وهي من اللائي لم يحضن، فلم تنقض عدتها بالشهور حتى حاضت، استقبلت العدة بثلاث حيض إن كانت حرة أو بحيضتين إن كانت أمة. ش: لأن الشهور بدل عن الحيض، فإذا وجد المبدل بطل حكم البدل، كالتيمم مع الماء، وإنما لم تبن على ما مضى، لما تقدم من أن العدة لا تبنى على أخرى، وإذا تعتد بثلاث حيض إن كانت حرة، وبحيضتين إن كانت أمة، بناء على أن القروء الحيض، وإن قيل: إنها الأطهار فهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض قرء؟ فيه وجهان، والله أعلم. قال: ولو مات عنها وهو حر أو عبد، قبل الدخول أو بعده، انقضت عدتها بتمام أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة، وبتمام شهرين وخمسة أيام إن كانت أمة. ش: أما كون الحرة تعتد بأربعة أشهر وعشر إذا مات زوجها فلقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] . 2813 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر، أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا»

متفق عليه، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده، إعمالا لعموم الآية والخبر، ثم المعنى يعضده، وهو أن النكاح عقد عمر، فإذا مات انتهى، والشيء إذا انتهى تقررت أحكامه، كتقرر أحكام الإجارة بانقضائها، وأما كون الأمة تعتد بشهرين وخمسة أيام، فقيل لاتفاق الصحابة على أن عدة الأمة المطلقة على النصف من عدة الحرة، فكذلك عدة الوفاة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن تكون صغيرة أو كبيرة، مسلمة أو ذمية، ولا بين أن يوجد حيض في مدة الأربعة أشهر أو لم يوجد، وهو كذلك. (تنبيه) والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال بأيامها، فتجب عشرة أيام مع الليالي، والله أعلم. قال: ولو طلقها أو مات عنها وهي حامل منه، لم تنقض عدتها إلا بوضع الحمل، أمة كانت أو حرة. ش: لقول الله تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وهذا إجماع والحمد لله في الطلاق، وفي كل فرقة في الحياة، وكالإجماع فيما بعد الموت. 2814 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال - في الحامل المتوفى عنها زوجها -: إنها تعتد بأطول الأجلين.

2815 - وهو إحدى الروايتين عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ويحكى عن سحنون من المالكية، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وهذا عام في كل متوفى عنها، وللجماعة الآية السابقة، فإن العموم فيها أصرح، ثم يرشحه عمل العامة على وفقه. 2816 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: من شاء لاعنته لأنزلت سورة النساء القصرى، بعد الأربعة أشهر وعشرا. رواه النسائي وأبو داود، وهذا لفظه، يريد بسورة النساء سورة الطلاق، وهذا

يدل على أنها متأخرة عن الآية التي في سورة البقرة، فيقضي عليها بالنسخ أو بالتخصيص. 2817 - والذي يقطع النزاع ويبين المراد بلا ريب، ما روي «عن سبيعة الأسلمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أنها كانت تحت سعد بن خولة، وهو من بني عامر بن لؤي، وهو ممن شهد بدرا، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك - رجل من بني عبد الدار - فقال لها: ما لي أراك متجملة، لعلك ترجين النكاح، إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي» . قال ابن شهاب: ولا أرى بأسا أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أن لا يقربها زوجها حتى تطهر. متفق عليه. 2818 - وقد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه لما بلغه هذا الحديث رجع إلى قول الجماعة، وهذا الذي يظن به.

الحمل الذي تنقضي به العدة

وقول الخرقي: بوضع الحمل، أي كله، فلو كان ولدين أو أكثر فلا بد لانقضاء العدة من وضع الجميع، ولو كان واحدا فلا بد من انفصال جميعه. (تنبيه) لم تنشب. أي لم تمكث، وتعلت من نفاسها. أي انقطع دمها وطهرت، قال المنذري: وأصله عندهم السواد، كأنه من العلو أي تتعلى عن حالتها من المرض، والله أعلم. [الحمل الذي تنقضي به العدة] قال: والحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه شيء من خلق الإنسان، أمة كانت أو حرة. ش: كأن تضع ولدا. أو يدا أو رجلا أو نحو ذلك، وقد حكي الإجماع على ذلك، إذ بذلك يعلم أنها حامل، فتدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وسواء كان ما تبين ظاهرا أو خفيا شهدت به القوابل. ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا وضعت ما لا يتبين فيه شيء من خلق الإنسان أنها لا تنقضي عدتها به، وهو المشهور عن أحمد، ومختار أبي بكر، والقاضي والشريف وأبي الخطاب في خلافاتهم، وابن عقيل والشيرازي، وأبي محمد وغيرهم، لأنه قد حصل الشك في كونه ولدا، فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة به، حذارا من دفع اليقين بأمر مشكوك فيه، (ونقل حنبل عن أحمد) أنها تصير بذلك أم ولد، فخرج القاضي

وجماعة من ذلك انقضاء العدة به، لأن الظاهر أنه بدء خلق آدمي، أشبه ما لو تصور، وأبى ذلك أبو محمد، وقال: ليس هذا برواية في العدة، إذ أحمد لم يتعرض لها، انتهى. ويؤيد هذا أنه روي عن أحمد في رواية أخرى ما يدل على أنها تصير بذلك أم ولد، ولا تنقضي به العدة، والفرق الاحتياط في الصورتين، ففي الاستيلاد تغليبا للحرية، وفي العدة تغليبا للكمال، ومحل الخلاف فيما إذا ألقت مضغة، أما إن ألقت نطفة، أو دما، أو علقة، فإن العدة لا تنقضي به بحال عند الشيخين وغيرهما، والقاضي في تعليقه جعل الخلاف في العلقة والمضغة، ومحل الخلاف أيضا إذا شهدت القوابل أن المضغة مبدأ خلق آدمي، قاله أبو محمد، فلو لم تشهد بذلك لم يحكم بانقضاء العدة بلا خلاف، ولم يشترط ذلك أبو البركات، والله أعلم. قال: ولو طلقها أو مات عنها، فلم تنكح حتى أتت بولد بعد طلاقه أو موته بأربع سنين، لحقه الولد وانقضت عدتها به. ش: هذا يعتمد أصلا، وهو أكثر مدة الحمل، والمذهب المشهور أن أقصاها أربع سنين، لأن هذا لا نص فيه، فيرجع فيه إلى الوجود، وقد وجد ذلك. 2819 - فروى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حديث جميلة بنت سعد، عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لا تزيد المرأة

على السنتين في الحمل. قال مالك: سبحان الله! من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع سنين قبل أن تلد. 2820 - وقال الشافعي: بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين. 2821 - وقال أحمد: نساء بني عجلان يحملن أربع سنين، وامرأة عجلان حملت ثلاث بطون، كل دفعة أربع سنين. 2822 - وحكى أبو الخطاب أن محمد بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بقي في بطن أمه أربع سنين، وهكذا إبراهيم بن نجيح العقيلي. 2823 - ويؤيد ذلك أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب لامرأة المفقود أربع سنين. والظاهر أنه إنما فعل ذلك لأنه أقصى مدة الحمل.

2824 - وعن أحمد أن أقصاه سنتان، لأن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل. ولأن الاتفاق حصل على ذلك، بخلاف غيره، إذا تقرر هذا، فإذا أتت المرأة بولد لأربع سنين فما دون، من يوم طلاقها أو موت زوجها، ولم تكن تزوجت ولا وطئت، ولا انقضت عدتها بالقروء، ولا بالأشهر على قول، ولا بوضع الحمل، فإن الولد لاحق للزوج، والعدة منقضية به. ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا أتت بولد أكثر من ذلك لم يلحق بالزوج، ولا ريب في ذلك، ومفهومه أيضا أن العدة لا تنقضي به منه، وهذا هو المذهب، بلا ريب، لأن الحمل منفي عنه يقينا، فلم يعتد بوضعه منه، كما لو ظهر بعد موته، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن العدة تنقضي به، لأنها ذات حمل، فتدخل في: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]

وهكذا الخلاف في كل ولد لا يلحق الزوج، كامرأة الطفل المتوفى عنها، والمطلقة عقب العقد، ونحو ذلك (وعن أحمد) تنقضي به من غير الطفل، لأنه يلحقه بالتحاقه، بخلاف الطفل، وأظن هذا اختيار القاضي، وقد يقال: إن ظاهر إطلاق الخرقي أن من تقدم إذا أتت بولد لأربع سنين فما دون أنه يلحق الزوج، وإن كانت قد أقرت بانقضاء عدتها، لكن منصوص أحمد، وقول الأصحاب على خلاف هذا، فإنهم اتفقوا فيما علمت على أنها إذا أقرت بانقضاء عدتها بالأقراء، أن الولد لا يلحق به، وظاهر كلام أحمد وأبي بكر أن الحكم كذلك، وإن أقرت بانقضائها بالأشهر، وصرح بذلك أبو البركات، وابن حمدان، وظاهر كلام القاضي وعامة أصحابه إناطة ذلك بالأقراء، بخلاف الأشهر، وتبعهم أبو محمد على ذلك مصرحا به، والله أعلم. قال: ولو طلقها أو مات عنها، فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها، فرق بينهما، وبنت على عدتها من الأول، ثم استقبلت العدة من الثاني. ش: أما كونه يفرق بينهما والحال هذه، فلأنه نكاح باطل اتفاقا، فوجب التفريق فيه، كما لو تزوجت وهي زوجة، وأما كونها تبني على عدتها من الأول فلسبق عدته، وكونها عن وطء في نكاح صحيح، وليس في كلام الخرقي بيان لمدة مقامها عند الثاني، هل تنقطع به العدة أم لا؟ وفي المسألة وجهان،

والذي جزم به القاضي والشريف وأبو الخطاب في خلافاتهم، أن العدة لا تنقطع به، والذي جزم به أبو محمد في كتبه الانقطاع، وأما كونها تستقبل عدتها من الثاني، فلأنهما حقان مقصودان لآدميين، فلم يتداخلا، كالدينين واليمينين، والعمدة أن عمر وعليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حكما بذلك كما سيأتي، ولا نعرف لهما مخالفا. قال: وله أن ينكحها بعد انقضاء العدتين. ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، لعموم: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] وغير ذلك، ولأنه لو زنا بها لم تحرم عليه أبدا، فهذا أولى، (والرواية الثانية) تحرم أبدا. 2825 - لما روى مالك عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي، فطلقها ونكحت في عدتها، فضربها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وضرب زوجها ضربات بمخفقة، وفرق بينهما، ثم قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطبا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر، فلا ينكحها أبدا، والمعنى في ذلك - والله أعلم - أن الله تعالى

أوجب العدة لبراءة الرحم، حفظا للأنساب، وشرع النكاح بعدها صيانة للفروج، فلما انتهك الحرمة، وأخل بالحكمة، واستعجل السبب الذي رتب عليه الشرع الإباحة في غير محله، اقتضت الحكمة أن يعامل بنقيض قصده المؤبد، كالقاتل لمورثه. 2826 - وقد اعترض على قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإنه روي عنه أنه قال: إذا انقضت العدة فهو خاطب من الخطاب. 2827 - وقد روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رجع إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

ومفهوم كلام الخرقي أنها لا تحل قبل انقضاء العدتين، وعلى هذا الأصحاب كافة، ما عدا أبا محمد، فإنه يميل إلى أن له أن ينكحها في عدتها منه، بعد فراغ عدة الأول، قال بعد أن حكى هذا عن الشافعي: وهذا حسن موافق للنظر، لأن العدة إنما شرعت حفظا للنسب، وصيانة للماء، والنسب لاحق به ها هنا، فأشبه ما لو خالعها ثم نكحها في عدتها، والأصحاب اعتمدوا على قضاء عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقد تقدم. 2828 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في المرأة تتزوج في عدتها، أنه يفرق بينهما، ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما أفسدت من عدة الأول، وتعتد من الآخر. ولا يعرف لهما مخالف في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولعموم: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] الآية والضمير في قول الخرقي: وله أن ينكحها. أي الثاني، أما الأول فإن كان طلاقه ثلاثا لم تحل له بهذا النكاح، لبطلانه وعدم مشروعيته، وإن كان دون الثلاث فله نكاحها بعد العدتين، وإن كانت رجعية فله رجعتها في عدتها منه، قاله أبو محمد، والله أعلم. قال: فإن أتت بولد يمكن أن يكون منهما، أري القافة وألحق بمن ألحقوه به منهما، وانقضت عدتها به منه، واعتدت للآخر.

ش: إذا حملت هذه المنكوحة في العدة فعدتها بوضع الحمل، كغيرها بلا ريب، ثم ينظر في الولد فإن أمكن كونه من الأول دون الثاني، كأن تأتي بالولد لدون ستة أشهر من وطء الثاني، ولأربع سنين فما دون من فراق الأول، فهو ملحق به، وتنقضي عدتها منه به، ثم تعتد للثاني، وإن أمكن كونه من الثاني وحده، كأن تأتي به لستة أشهر فأزيد إلى أربع سنين من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين منذ بانت من الأول، فهو ملحق بالثاني، فتنقضي عدتها منه به، ثم تتم عدة الأول، وإنما قدمت عدة الثاني - والحال هذه - على عدة الأول، حذارا من أن يكون الحمل من إنسان، والعدة من غيره، وإن أمكن كونه منهما، كأن تأتي به لستة أشهر فصاعدا من وطء الثاني، ولأربع سنين فما دون من بينونتها من الأول، وهذه صورة الخرقي، فإنه يرى القافة، فإن ألحقته بأحدهما لحق به، وانقضت عدتها به منه، ثم اعتدت للآخر، وإن ألحقته بهما لحق بهما، وانقضت عدتها به منهما، ولو لم يمكن كونه من واحد منهما، بأن ولدته لدون ستة أشهر من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من فراق الأول، فإنه لا يلحق بواحد منهما، ولا تنقضي عدتها منه، على المذهب كما تقدم، ولو أمكن كونه منهما، ولم توجد قافة أو أشكل أمره عليها، فإنها بعد وضعه تعتد بعدة أخرى، لأن الولد إن كان من الأول فعليها أن تعتد للثاني، وإن كان من الثاني فعليها أن تكمل عدة الأول، ولا يتيقن ذلك إلا بعدة كاملة، وهل يضيع نسب الولد والحال هذه، أو يترك حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء منهما؟ فيه خلاف مشهور، والله أعلم.

عدة أم الولد

[عدة أم الولد] قال: وأم الولد إذا مات سيدها فلا تنكح حتى تحيض حيضة. ش: لأنها قد زال الملك عنها، فلزمها الاستبراء بحيضة عند إرادة النكاح، كالأمة القن إذا زال الملك عنها وأريد وطؤها، ودليل الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة» ومقتضى كلام الخرقي أنه يكتفى في استبرائها بحيضة، وهو المشهور من الروايتين أو الروايات، والمختار للأصحاب، لأنه استبراء لزوال الملك عن الرقبة، فكان حيضة في حق من تحيض، كسائر استبراء المعتقات والمملوكات، (والرواية الثانية) تعتد بعد موته بأربعة أشهر وعشر. 2829 - لما روي عن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا تلبسوا علينا سنة نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، عدة المتوفى عنها أربعة أشهر وعشر. يعني أم الولد، رواه أبو داود وابن ماجه وقد ضعف، قال ابن المنذر: ضعف أحمد وأبو عبيد حديث عمرو بن العاص، وقال الميموني: رأيت أبا عبد الله يعجب من حديث عمرو هذا،

ويقول: أين سنة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هذا؟ وقال: أربعة أشهر وعشرا إنما هي عدة الحرة من النكاح، وإنما هذه أمة خرجت من الرق إلى الحرية. وقال القاسم بن محمد: سبحان الله! الله يقول: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 234] ما هن بأزواج. وقد أول بعضهم الحديث على أنه إنما جاء في أم الولد بعينها، كأن أعتقها صاحبها ثم تزوجها، وحكى أبو محمد عن أبي الخطاب أنه حكى رواية ثالثة أنها تعتد بشهرين وخمسة أيام، قال: ولم أجد هذه الرواية في الجامع، ولا أظنها صحيحة عن أحمد، قلت: ولم أرها أنا في الهداية، ووجهها أنها حين الموت أمة، فكانت عدتها عدة الأمة، وهذا كله ضعيف، إذ لا عدة هنا، إنما هو استبراء، والله أعلم. قال: وإن كانت مؤيسة فبثلاثة أشهر. ش: هذا هو المشهور من الروايتين، ومختار الخرقي وأبي بكر، والقاضي وأبي محمد وغيرهم، لأن المقصود من الاستبراء

العلم ببراءة الرحم، فلا يحصل إلا بذلك، قال أحمد بن القاسم: قلت لأبي عبد الله: كيف جعلت ثلاثة أشهر مكان حيضة، وإنما جعل الله في القرآن مكان كل حيضة شهرا؟ فقال: إنما قلنا ثلاثة أشهر لأجل الحمل، فإنه لا يتبين في أقل من ذلك. 2830 - وقد سأل عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن ذلك، وجمع أهل العلم والقوابل، فأخبروا أن الحمل لا يتبين في أقل من ثلاثة أشهر، فأعجبه ذلك. 2831 - ثم قال: ألا تسمع قول ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «إن النطفة أربعين يوما، ثم علقة أربعين يوما، ثم مضغة بعد ذلك» قال أبو عبد الله: فإذا خرجت الثمانون صار بعدها مضغة، وهي لحم، فيتبين حينئذ، (والرواية الثانية) أنها تستبرأ بشهر، لأن الله جعل ثلاثة أشهر مكان ثلاث حيض، فكل شهر مكان حيضة، وهذه استبراؤها بحيضة، فمكانها شهر، (وعنه) ثالثة تستبرأ بشهرين، (وعنه) رابعة بشهر ونصف، كما لو كانت مطلقة، وهذا الحكم لا يختص بأم الولد، بل يجري في كل مستبرأة آيسة، والله أعلم. قال: وإن ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه اعتدت تسعة أشهر للحمل، وشهرا مكان الحيضة.

ش: إذا ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه فإنها تقعد تسعة أشهر للحمل، بلا ريب، ثم تقعد شهرا للاستبراء عوض الحيضة، قاله الخرقي، وتبعه أبو محمد، مع قولهما إن الآيسة استبراؤها بثلاثة أشهر، وذلك لأن الاستبراء في الآيسة إنما كان بثلاثة أشهر لتعلم براءة رحمها من الحمل وهنا بمضي غالب مدة الحمل علمت البراءة، فجعل الشهر مكان الحيضة، على وفق القياس، وحكى أبو البركات وغيره فيها رواية أخرى أنها تستبرأ بثلاثة أشهر كالآيسة. (تنبيه) وإن علمت ما رفع الحيض لم تزل في الاستبراء حتى يعود الحيض فتستبرأ به، أو تصير آيسة فتستبرأ باستبراء الآيسات، والله أعلم. قال: وإن كانت حاملا فحتى تضع. ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا توطأ حامل حتى تضع» الحديث، والله أعلم. قال: وإن أعتق أم ولده أو أمة كان يصيبها لم تنكح حتى تحيض حيضة كاملة. ش: لا يختلف المذهب أن الاستبراء هنا بحيضة، وذلك لأنها موطوءة وطئا له حرمة، فلم يجز أن تتزوج قبل الاستبراء، كالموطوءة بشبهة، والمعنى فيه الخوف من اختلاط المياه، وامتزاج الأنساب المطلوب عدمه شرعا. ومفهوم كلام الخرقي أنها إذا لم يكن سيدها يطأها لا يلزمها

استبراء، وهو كذلك، للأمن من اختلاط المياه وامتزاج الأنساب، ولو لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما تقدم في أم الولد، وقول الخرقي: حيضة كاملة. يحترز عن قول من يقول إنها إذا طعنت في الحيضة فقد تم استبراؤها، والحديث نص في رد ذلك، والله أعلم. قال: وكذلك إن أراد أن يزوجها وهي في ملكه استبرأها بحيضة ثم زوجها. ش: لما تقدم من الخوف من اختلاط المياه، وامتزاج النسب. (تنبيه) فإن لم تكن من ذوات القروء فاستبراؤها بما تقدم في أم الولد، والله أعلم. قال: وإذا ملك أمة لم يصبها ولم يقبلها حتى يستبرئها بحيضة - بعد تمام ملكه لها - إن كانت ممن تحيض، أو بوضع الحمل إن كانت حاملا، أو بمضي ثلاثة أشهر إن كانت من اللائي يئسن من المحيض، أو من اللائي لم يحضن. ش: إذا ملك أمة لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها. 2832 - لما روي عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في سبي أوطاس: «لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة» رواه أحمد وأبو داود.

2833 - وعن رويفع بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقي ماءه ولد غيره» رواه أحمد والترمذي، وأبو داود وزاد: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها» » والاستبراء بحيضة إن كانت ممن تحيض، أو بوضع الحمل إن كانت حاملا للحديث، أو بثلاثة أشهر على المشهور من الروايات، ومختار الخرقي، وقد تقدم ذلك، ولا تحل له أيضا قبلتها بلا خلاف أعلمه في المذهب في الجملة، حذارا من أن تكون حاملا من المنتقلة عنه، فيكون مستمتعا بأم ولده غيره، ولأنه استبراء حرم الوطء، فحرم القبلة كالعدة. وقول الخرقي: إذا ملك. يشمل كل ملك، فيدخل فيه المملوكة بسبي، فلا يصيبها قبل استبرائها بلا ريب، وكذا لا يستمتع بها، وهو إحدى الروايتين، وزعم أبو محمد أنه الظاهر عن الإمام، لأنه استبراء حرم الوطء، فحرم دواعيه كالعدة، (والثانية) له الاستمتاع بها دون الفرج، لأن المنع في غيرها للحذر من أن تكون أم ولد للغير، فيكون مستمتعا بأم ولد غيره، وبها جزم ابن البنا والشيرازي، وملخصه أن من نظر إلى هذا المعنى أباح، ومن قاس على العدة منع. 2834 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: وقع في سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة، فما ملكت نفسي أن

قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون، (ويدخل فيه) أيضا إذا ملك أمة من مكاتبه، وهو المذهب، وبه جزم أبو محمد، وفيه وجه أنه لا استبراء، اكتفاء باستبراء المكاتب، (ويدخل) أيضا إذا اشترى أمة مزوجة فطلقت، فإن الاستبراء يجب بعد العدة، وقيل: لا يجب بل تدخل فيها إذا أوجب الطلاق عدة، أما إن لم يوجب عدة - كالمطلقة قبل الدخول - فإن الاستبراء يجب قولا واحدا، (ومما يدخل فيه) أيضا إذا باع أمة ثم عادت إليه بإقالة أو فسخ، حيث قيل بانتقال الملك، وهذا إحدى الروايتين، واختيار الشريف وأبي الخطاب، والشيرازي وغيرهم (والرواية الثانية) لا يجب الاستبراء، ومحل الخلاف إذا كان العود قبل القبض، أما إن كان بعد القبض والافتراق فإن الاستبراء يجب بلا خلاف، هذا إذا كان المشتري رجلا، وكذلك إن كان امرأة عند أبي محمد، وعند أبي البركات إن كانت امرأة جرى فيه الخلاف مطلقا. ومفهوم كلامه أنه لا يجب الاستبراء بغير الملك، وقد قال أحمد في الإقالة توجب الاستبراء، قال: لأني أعتبر الملك.

فأناط الحكم بالملك، فعلى هذا لو عجزت مكاتبته، أو فك أمته من الرهن ونحو ذلك، فلا استبراء عليه لذلك، نعم يستثنى من ذلك إذا أسلمت أمته المجوسية أو المرتدة، فإنه يجب عليه استبراؤها على وجه، والمذهب أنه لا يجب لذلك، وبه قطع أبو محمد، (وقوله) : أمة. يشمل كل أمة وإن كانت بكرا أو لا تحمل، أو انتقلت من صغير أو امرأة، وهو كذلك، لعموم الحديث، ويستثنى من ذلك إذا كانت صغيرة لا يوطأ مثلها، فإنه لا يجب استبراؤها على إحدى الروايتين، لأن الاستبراء يراد لمعرفة براءة الرحم، ورحم هذه معروف براءته، ولا ترد الآيسة لأن الإياس قد يخفى، ثم قد وقع حمل الآيسة، كما وقع لامرأة سيدنا إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وهذه الرواية اختيار ابن أبي موسى وأبي محمد، ولا عبرة بقول ابن المنجا أن ظاهر كلامه في المغني ترجيح الوجوب، فإنه صرح بتصحيح عدم الوجود، بل لم يستدل على الوجوب بشيء. (والثانية) وهي ظاهر كلام الخرقي، وابن البنا والشيرازي وغيرهم: يجب، لعموم الحديث. وقوله: ولم يقبلها. وفي معنى القبلة الاستمتاع فيما دون الفرج ونحو ذلك، (وقوله) : بعد تمام ملكه لها. يحترز عما إذا ملك بعضها، فإن الاستبراء لا يحتسب به إلا من حين ملك جميعها، وأما إذا اشتريت بشرط الخيار، وقلنا الملك

إحداد الزوجة المتوفى عنها زوجها

ينتقل، فإن الاستبراء لا يحتسب به إلا من حين انتهاء الخيار، لعدم تمام الملك قبله، وهو أحد الوجهين، والوجه الثاني - وبه جزم أبو محمد - يحتسب به من حين انتقال الملك، إناطة به، وإن لم يتم، وقد دخل في كلام الخرقي إذا وجد الاستبراء في يد البائع قبل القبض، وقد تم الملك، فإنه يجزئ، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي وجماعة من أصحابه، (والثانية) لا يجزئ إلا بعد القبض، وعلى هذه فهل يكفي قبض الوكيل؟ فيه وجهان، أصحهما الإجزاء، لأن يده كيد الموكل، والله أعلم. [إحداد الزوجة المتوفى عنها زوجها] قال: وتجتنب الزوجة المتوفى عنها زوجها الطيب والزينة، والبيتوتة في غير منزلها، والكحل بالإثمد، والنقاب، فإن احتاجت سدلت على وجهها، كما تفعل المحرمة حتى تنقضي عدتها. ش: قد تقدم أن عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة، وشهران وخمسة أيام إن كانت أمة، (فتجتنب) في مدة ذلك الطيب. 2835 - لما روي عن أم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحد المرأة فوق ثلاث إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا، ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، ولا تكتحل، ولا تمس طيبا، إلا أدنى طهرها فإذا طهرت من محيضها بنبذة من قسط وأظفار» متفق عليه. 2836 - وعن «زينب بنت أبي سلمة أنها دخلت على أم حبيبة حين توفي

أبوها أبو سفيان، فدعت بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره، فدهنت منه جارية، ثم مست بعارضيها، ثم قالت: والله ما لي بالطيب من حاجة، غير أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا» متفق عليه وفي معنى الطيب الادهان بالأدهان المطيبة، كدهن الورد ونحوه، لا غير المطيبة كالزيت ونحوه، (وتجتنب) أيضا الزينة، لما تقدم من حديث أم عطية، «ولا تلبس ثوبا مصبوغا» الحديث. 2837 - وعن أم سلمة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورضي عنها، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب، ولا الممشقة، ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل» » رواه أبو داود والنسائي. 2838 - وعن «أم حكيم بنت أسيد، عن أمها، أن زوجها توفي عنها وكانت تشتكي عينها فتكتحل بالجلا، فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة فسألتها عن كحل الجلا، فقالت: لا تكتحلي به إلا من أمر لا بد منه، يشتد عليك، فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار، ثم قالت عند ذلك أم سلمة: دخل علي رسول الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين توفي أبو سلمة، وقد جعلت علي صبرا، فقال: ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب. قال: «إنه يشب الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، وتنزعيه بالنهار، ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحنا، فإنه خضاب» قالت: قلت بأي شيء، أمتشط يا رسول الله؟ قال: «بالسدر تغلفين به رأسك» رواه أبو داود والنسائي. (والزينة تشمل) زينة البدن، كالاختضاب وتحمير الوجه، وجعل الصبر عليه وتحفيفه، ونحو ذلك، لما تقدم في الأحاديث، وما لم يذكر فيها فبالقياس على ما ذكر، ولا تمنع مما يراد للتنظيف كالامتشاط بالسدر، لحديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وكتقليم الظفر، وحلق الشعر المندوب إلى حلقه، ونحو ذلك، (وتشمل) زينة الثياب، فيحرم عليها المصبوغ من الثياب للتحسين، كالمعصفر والمزعفر، والأزرق الصافي والأخضر الصافي، ونحو ذلك، لما تقدم من حديث أم سلمة وأم عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا تمنع من مصبوغ لم يقصد

بصبغه حسنه، كالكحلي والأخضر المشبع ونحو ذلك، نظرا للمعنى، وتخصيصها به، ولا من غير مصبوغ وإن كان حسنا، لعدم دخوله في الحديث، ولأن حسنه من أصل خلقته، أشبه إذا كانت المرأة حسناء، فإنه لا يلزمها أن تشوه نفسها، وفي منعها مما صبغ غزله ثم نسج وجهان، بناء على تفسير ثوب العصب المستثنى في الحديث ما هو، وسيأتي إن شاء الله تعالى، (وتشمل) الزينة أيضا الزينة بالحلي، كالخلخال والسوار، حتى الخاتم، لعموم حديث أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ولا الحلي انتهى. (وتجتنب) أيضا الكحل بالإثمد، وهو نوع من الزينة، وقد تقدم المنع في الأحاديث منه، ولا فرق بين السوداء وغيرها، نظرا للعموم، نعم إن اضطرت إلى التداوي بذلك جاز ليلا، وتمسحه نهارا، لما تقدم عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ولا تمنع من الكحل بالتوتيا أو العنزروت ونحوهما، لعدم الزينة، والمنع ملحوظ فيه الزينة، (وتجتنب) أيضا النقاب، وكأنه لا نص في ذلك عن أحمد، لأن كثيرا من الأصحاب عزا ذلك إلى الخرقي، وذلك لأن المعتدة مشبهة بالمحرمة، والمحرمة تمنع من ذلك، وعلى هذا تمنع مما في معنى ذلك كالبرقع، ولو احتاجت إلى ما يستر وجهها سدلت عليه، كما تفعل المحرمة، وتجتنب) أيضا المبيت في غير منزلها.

2839 - لما «روي عن الفريعة بنت مالك بن سنان - وهي أخت أبي سعيد الخدري - أنها جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا، حتى إذا كانوا بطرف القدوم، لحقهم فقتلوه، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أرجع إلى أهلي، فإني لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم» قالت: فخرجت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني، أو أمرني فدعيت له فقال: «ما قلت» ؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي، قالت: فقال: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت: فلما أن كان عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به» ، رواه الخمسة وصححه الترمذي. وتجب العدة في المنزل الذي مات الزوج وهي ساكنة فيه، سواء كان مملوكا لزوجها أو لم يكن، كحال فريعة، إلا أن تدعو ضرورة إلى خروجها منه،

بأن يحولها مالكه، أو تخشى على نفسها هدما أو غرقا أو عدوا ونحو ذلك، فلها أن تنتقل، لكن هل تنتقل إلى أقرب الأماكن إلى المسكن، وبه جزم أبو الخطاب في الهداية، وأبو البركات، أو حيث شاءت، وهو مختار أبي محمد، وحكاه عن القاضي، فيه وجهان، وقد ذكر أبو محمد من صور الأعذار المبيحة للانتقال إذا لم تجد أجرة المنزل إلا من مالها، فإن لها الانتقال، وذكر هو وغيره أنه لا يجب للمتوفى عنها سكنى إن كانت حائلا بلا نزاع، وفيما إذا كانت حاملا روايتان، وحاصل قوله - وقد صرح به - أن الواجب عليها فعل السكنى، لا تحصيل المسكن، وهو مقتضى قول القاضي في تعليقه، فإنه قال: إذا بذل لها المنزل فإنه يلزمها أن تعتد فيه، ولا يحل لها البيتوتة في غيره، نص عليه في رواية حنبل، وفرق بينها وبين المبتوتة، انتهى، وفي ما قالاه نظر، فإنه يفضي إلى إسقاط العدة في المنزل رأسا، فإن الورثة إذا لم يبذلوا السكن والمرأة إذا لم تبذل الأجرة سقط الاعتداد في المنزل، وظاهر الحديث يخالفه، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «امكثي في بيتك» مع قولها: إنه لم يتركها في مسكن يملكه ولا نفقة، ولو كان لأمرها بالمكث في بيتها شرط، وهو بذل الورثة الأجرة، لبينه، ثم إن عامة الأصحاب يقولون: لا تخرج عن منزلها إلا لضرورة ووزن الأجرة ليس بضرورة عليها، ولفظ أحمد في رواية حنبل: لا تبيت المطلقة والمتوفى عنها إلا في

منزلهما يذهبان بالنهار، فإذا كان الليل أتيا المنزل الذي أدركهما فيه الوفاة، والطلاق أسهل، وهذا النص أيضا على وفق الحديث، والذي يظهر لي أنها يجب عليها بذل الأجرة من مالها إن قدرت على ذلك، وإلا فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وظاهر كلام الخرقي أنها لا تجتنب الخروج نهارا، وهو كذلك، نص عليه أحمد كما تقدم والأصحاب، دفعا للحرج والمشقة، إذ الحاجة قد تدعو إلى ذلك. 2840 - وقد «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: طلقت خالتي ثلاثا، فخرجت تجذ نخلها، فلقيها رجل فنهاها، فذكرت ذلك للنبي، فقال: «اخرجي فجذي نخلك، لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرا» رواه النسائي وأبو داود، لكن اشترط كثير من الأصحاب لخروجها في النهار الحاجة، وأحمد وجماعة لم يشترطوا ذلك، فلا حاجة في التحقيق إلى اشتراطه، لأن المرأة وإن لم يكن متوفى عنها تمنع من خروجها من بيتها لغير حاجة مطلقا، وقوله: وتجتنب الزوجة. يخرج منه غير الزوجة كأم الولد ونحوها، فإنه لا إحداد عليها، ويدخل فيه كل زوجة، وإن كانت ذمية أو غير مكلفة، وهو كذلك، والمخاطب بتحصيل الإحداد على غير المكلف هو الولي. (تنبيه) الإحداد المنع، فالمرأة تمنع نفسها مما كانت

تتهيأ به لزوجها، من تطيب وتزين، فقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تحد المرأة» وقوله بعد: «ولا تلبس ثوبا مصبوغا» إلى آخره، عطف تفسيري للإحداد، يقال: أحدث المرأة إحدادا فهي محد، وحدت تحد وتحد، بالضم والكسر، فهي حاد، وسمي الحديد حديدا لامتناعه به، أو لامتناعه على من يحاوله، و «العصب» برود يمنية يعصب غزلها، أي يجمع ويشد، ثم يصبغ بعد ذلك وتنسج، فيأتي موشيا لبقا، ما عصب منه أبيض، لم يأخذه الصبغ، هذا تفسير المنذري، والقاضي من أصحابنا وغيرهما، ولهذا أباح القاضي ما صبغ غزله مطلقا، وقال أبو محمد - تبعا للسهيلي - إنه نبت يصبغ به لا ينبت إلا باليمن، ومن ثم اختار أبو محمد تحريم ما صبغ غزله ثم نسج للتحسين، نظرا للمعنى، (والنبذة) القطعة من الشي (والقسط) العود الذي يتبخر به، وقيل هو طيب غيره، ويقال بالقاف والكاف (والأظفار) جنس من الطيب، لا واحد له من لفظه، وقيل واحدة ظفر، وروي: «قسط وأظفار» على العطف، وروي: أو أظفار، على الإباحة والتسوية، ورخص في ذلك لأجل قطع الرائحة الكريهة، لا على معنى التطيب (والممشقة) من الثياب المصبوغة بالمشق، بكسر الميم وفتحها، وهو المغرة بفتح الميم (وكحل الجلا) هو الإثمد،

إحداد المرأة المطلقة ثلاثا

وحكى فيه كسر الجيم وفتحها، والمد والقصر (والصبر) معروف الدواء المر (ويشب الوجه) أي يوقد اللون ويحسنه، من قولهم شببت النار، إذ أوقدتها، «وتغلفين» أي تلطخين، و «خدرة» بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة، بطن من الأنصار، «والقدوم» بفتح القاف وضم الدال المهملة موضع على ستة أميال من المدينة، ويشدد ويخفف. [إحداد المرأة المطلقة ثلاثا] قال: والمطلقة ثلاثا تتوقى الطيب والزينة والكحل بالإثمد. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار الخرقي والقاضي، وعامة أصحابه، لأنها معتدة، بائن من نكاح، فلزمها الإحداد كالمتوفى عنها، ولأن العدة تحرم النكاح، فحرمت دواعيه، كالإحرام والصيام، (والثانية) وهي اختيار أبي بكر في الخلاف وابن شهاب: لا يحرم عليها شيء من ذلك، لعموم الحديث، فإنه دل على أن كل امرأة لا تحد إلا امرأة توفي عنها زوجها. وقول الخرقي: المطلقة ثلاثا: تخرج منه الرجعية، لأنها زوجة، ويلحق بالمطلقة ثلاثا كل بائن، وظاهر كلام الخرقي أنها لا تجتنب النقاب، وصرح بذلك أبو محمد في الكتاب

الكبير، وظاهر كلامه في كتابه الصغير، وكذلك أبو البركات منعها من ذلك، وظاهر كلام الخرقي أيضا أنه لا يجب عليها البيتوتة في منزل الطلاق، وهو أشهر الروايتين، والمجزوم به عند كثير من الأصحاب، القاضي وأبي محمد وغيرهما. 2841 - «لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم» . وحكي عنه أنها كالمتوفى عنها، وعلى الأول هل لها البيتوتة عن المنزل الذي تكون فيه، والسفر عن البلد؟ فيه روايتان، أنصهما: نعم، وهذا كله إذا لم يمنعها المطلق من ذلك، فأما إن أراد إسكانها في موضع يصلح لها، ولا محذور فيه، تحصينا لفراشه، لزمها ذلك. قال: وإذا خرجت للحج فتوفي زوجها وهي بالقرب، رجعت لتقضي العدة، وإن كانت قد تباعدت مضت في سفرها. ش: إذا سافرت المرأة إلى الحج، ثم توفي عنها زوجها، فلا يخلو إما أن تكون قريبة أو بعيدة، فإن كانت قريبة لزمها العود، لتأتي بالعدة في المنزل الذي وجبت فيه، لأن القريبة في حكم المقيمة. 2842 - وقد روى سعيد بن منصور: ثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن المسيب، قال: توفي أزواج نساء وهن حاجات أو

معتمرات، فردهن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من ذي الحليفة، حتى يعتددن. وكلام الخرقي يشمل ما إذا أمكنها مع الرجوع الإتيان بالحج، وما إذا لم يمكن، ولا نزاع في ذلك مع الإمكان، اللهم إلا إذا لحقها في الرجوع ضرر، فإنها تمضي، كما لو تباعدت، وإن لم يمكن فهل (تقدم العدة) وهو ظاهر كلام أحمد في رواية حرب ويعقوب بن بختان، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لفريعة: «امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله» وهذه في حكم المقيمة في البيت، (أو الحج) إن كانت قد أحرمت به قبل العدة، وهو اختيار القاضي، لمزيته بالسبق، ولعموم: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ؟ على روايتين، فعلى الأول تتحلل لفوات الحج بعمرة كالمحصرة، وإن كانت بعيدة مضت في سفرها، لأنها تحتاج إلى سفر في رجوعها، فأشبهت من بلغت مقصدها. وظاهر كلام الخرقي أن مضيها على سبيل الوجوب، وجعله أبو محمد على سبيل الجواز إن وصلت إلى منزلها قبل انقضاء

عدتها، وفصل أبو البركات فقال: إن أمكنها الرجوع لقضاء العدة، ثم الإتيان بالحج خيرت، وإن لم يمكنها قدمت الحج، فخصص إطلاق الخرقي. (تنبيه) حد القريب ما لا تقصر فيه الصلاة، والبعيد عكسه، قاله القاضي. قال: فإن رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها أتت به في منزلها. ش: يعني إذا مضت في الحج ثم رجعت وقد بقي عليها شيء من عدتها، فإنها تأتي به في منزلها، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» . قال: ولو توفي عنها زوجها أو طلقها وهو ناء عنها، فعدتها من يوم مات أو طلق، إذا صح ذلك عندها، وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة. ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، نظرا إلى أن العدة سببها ذلك، والمسبب يتعقب السبب، ولأن غاية ما فات القصد، وهو غير معتبر في العدة، بدليل الصغيرة والمجنونة تنقضي عدتها من غير قصد، ولأنها لو وضعت حملها غير عالمة بفرقة زوجها لانقضت عدتها، فكذلك سائر أنواع العدة، (والرواية الثانية) إن ثبت ذلك ببينة فكذلك لتحقق السبب، وإلا فعدتها من يوم بلغها الخبر، لعدم تعلق الحكم بها قبل ذلك، وقوله: إذا صح ذلك عندها. لأنه إذا لم يصح فلا شيء من يقين أو غلبة ظن ينبني الحكم عليه، وقوله: وإن لم تجتنب ما تجتنبه المعتدة. لأن العدة مرور زمن، وقد وجد، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الرضاع

[كتاب الرضاع] ش: الرضاع مص الثدي، بفتح الراء وكسرها، مصدر رضع الصبي الثدي، بكسر الضاد وفتحها، يرضع ويرضع بالفتح مع الكسر، والكسر مع الفتح، والرضاع محرم بالإجماع، وسنده قوله سبحانه وتعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» وقد تقدم ذلك. [شروط الرضاع المحرم] قال: والرضاع الذي لا يشك في تحريمه أن يكون خمس رضعات فصاعدا. ش: اختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في القدر الذي يتعلق به التحريم من الرضاع، فروي عنه أنه لا حد لذلك، بل قليل الرضاع وكثيره سواء، اعتمادا على إطلاق قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة» «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . 2843 - وعن «عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب،

فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعرض عني، قال فتنحيت فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «وكيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما» متفق عليه، وبهذا استدل أحمد (وروي عنه) أن التحريم لا يثبت إلا بثلاث رضعات. 2844 - اعتمادا على ما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحرم المصة والمصتان» رواه مسلم وغيره. 2845 - وعن أم الفضل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رجلا سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتحرم المصة؟ فقال: «لا تحرم الرضعة والرضعتان، والمصة والمصتان» وفي لفظ: «لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان» رواهما مسلم. 2846 - وعن عبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تحرم من الرضاعة المصة والمصتان» رواه أحمد والنسائي

والترمذي، ومفهوم ذلك أن الثلاث تحرم، ثم إطلاق ما تقدم يقتضي التحريم مطلقا، خرج منه الرضعة والرضعتان بالنص، فما عداهما يبقى على مقتضى الإطلاق (وروي عنه) - وهو مختار أصحابه متقدميهم ومتأخريهم - أن التحريم لا يثبت إلا بخمس رضعات. 2847 - لما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها قالت: كان فيما أنزل من القرآن (عشر رضعات معلومات يحرمن) ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهن فيما يقرأ من القرآن. رواه مسلم وأبو داود والنسائي. 2848 - وفي لفظ: قالت: أنزل في القرآن (عشر رضعات معلومات) فنسخ من ذلك خمس، وصارت إلى خمس رضعات معلومات، فتوفي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والأمر على ذلك، رواه الترمذي. 2849 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر امرأة أبي حذيفة فأرضعت سالما خمس رضعات، فكان يدخل عليها

بتلك الرضاعة» ، رواه أحمد، ولو تعلق التحريم بدون الخمس لم يكن لذكر الخمس معنى، ولكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر امرأة أبي حذيفة أن ترضع سالما ثلاثا، وهذا يقضي على إطلاق ما تقدم، وكذا على مفهومه، إذ غايته عموم، فعلى الأولى لا كلام، وعلى الثانية والثالثة متى امتص من الثدي ثم تركه فذلك رضعة بكل حال، وعن ابن حامد إذا ترك بغير اختياره ثم عاد عن قرب فهما رضعة. قال: والسعوط كالرضاع. ش: أصل السعوط صب الدواء في الأنف، والمراد هنا صب اللبن، ومختار الخرقي والقاضي وأصحابه، وأبي محمد وغيرهم ثبوت التحريم به، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، لحصول المعنى الحاصل بالرضاع منه، وهو إنشاز العظم وإنبات اللحم. 2850 - ويدل على التكليف على هذا المعنى قول ابن مسعود رضي الله

عنه: لا رضاع إلا ما شد العظم، وأنبت اللحم وفي رواية: وأنشز العظم. رواه أبو داود (والرواية الثانية) لا يثبت التحريم به، اختارها أبو بكر، نظرا إلى أن هذا ليس برضاع، والتحريم إنما حصل بالرضاع. قال: وكذلك الوجور. ش: أصل الوجور وضع الدواء في الفم، وقال الجوهري: في وسط الفم، والمراد هنا صب اللبن في الفم من غير الثدي، والكلام فيه كالكلام في السعوط نقلا ودليلا، والنص عن أحمد ورد فيه، وقوله: كالرضاع. في أنه يعطى حكمه، ومن ذلك أنه لا يحرم إلا خمس رضعات، فكذلك هنا لا يحرم إلا خمس مصات. قال: واللبن المشوب كالمحض.

ثبوت التحريم بلبن الميتة

ش: المشوب هو المخلوط بغيره، عكس المحض وهو الخالص، ومختار الخرقي، والقاضي والشريف، والشيرازي والشيخين ثبوت التحريم به لحصول إنبات اللحم، وإنشاز العظم منه، وقال ابن حامد - واختاره أبو الخطاب في خلافه الصغير - الحكم لأغلبهما، إذ غير الغالب في حكم العدم، وهذان القولان بناء على القول بالتحريم بالوجور، كذلك صرح به القاضي في تعليقه، وأبو البركات، ومن ثم قال أبو بكر: قياس قول أحمد أنه لا يحرم، لأنه وجور، ثم أبو محمد يقول: الخلاف فيما إذا كانت صفات اللبن باقية، أما إن ذهبت كأن كان يصب في ما لم يتغير به فلا تحريم، لانتفاء الرضاع ومعناه، وهو إنشاز العظم وإنبات اللحم به، وعن القاضي وهو ظاهر كلامه في التعليق جريان الخلاف فيه، إناطة بحصول اللبن في البطن. [ثبوت التحريم بلبن الميتة] قال: ويحرم لبن الميتة، كما يحرم لبن الحي. ش: هذا منصوص أحمد في رواية إبراهيم الحربي، واختيار أبي بكر، والقاضي وأصحابه، لحصول الرضاع على وجه يحصل به الإنبات والإنشاز. 2851 - وقد قال أحمد: إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: إن اللبن لا يموت، واختار الخلال أن التحريم لا يحصل به، وسئل أحمد في رواية مهنا عن صبي رضع من ثدي امرأة ميتة، هل

يكون رضاعا؟ فتوقف وقال: إلا أن عمر قال: إن اللبن لا يموت. وهذا يدل على أن المرجح عنده مع توقفه ثبوت التحريم به، وكأن الخلال - رَحِمَهُ اللَّهُ - نظر إلى أن هذه ليست بمحل الولادة، فأشبهت الرجل. قال: وإذا حبلت ممن يلحق نسب ولدها به فثاب لها لبن، فأرضعت به طفلا خمس رضعات متفرقات في حولين، حرمت عليه وبناتها من أبي هذا الحمل ومن غيره، وبنات أبي هذا الحمل منها ومن غيرها، فإن أرضعت صبية فقد صارت ابنة لها ولزوجها، لأن اللبن من الحمل الذي هو منه. ش: أما تحريم المرضعة المذكورة على الطفل فبنص الكتاب، قال سبحانه: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وأما تحريم بناتها على الطفل من أبي الحمل ومن غيره، فلأنهن أخواته، وقد قال سبحانه: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وأما تحريم بنات أبي هذا الحمل من المرضعة ومن غيرها عليه، فبناء على أن الحرمة تنتشر من قبل الرجل، كما تنتشر من قبل المرأة، وقد تقدمت هذه المسألة في قوله: ولبن الفحل محرم. وأما صيرورة الصبية المرضعة منها بنتا لها فإجماع. 2852 - وقد دل عليه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» وأما صيرورة المرضعة بنتا لزوج المرضعة، فلما علل به الخرقي، من أن اللبن من الحمل الذي هو منه، وهو يلتفت إلى ما تقدم من أن لبن الفحل محرم، وقول الخرقي:

وإذا حبلت. يحترز مما إذا ثاب اللبن من غير حمل، فإنه لا ينشر الحرمة، وهو المنصوص والمختار للقاضي وعامة أصحابه من الروايتين، لأنه لبن لم تجر العادة به لتغذية الطفل، أشبه لبن الرجل، وحكي عن أحمد رواية أخرى أنه ينشر الحرمة، وصححها أبو محمد في الكتاب الكبير، ولم يثبتها في الصغير، بل قال: الظاهر أنها قول ابن حامد. وهي مشعرة بظاهر إطلاق {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وقول الخرقي: ممن يلحق نسب ولدها به. يحترز به عمن لم يلحقه النسب، كالزاني والملاعن، فإن الحرمة لا تنتشر إليهما، وهو قول ابن حامد، إذ التحريم فرع لحرمة الأبوة، وحرمة الأبوة لم تثبت، فكذلك ما هو فرع لها، واختار أبو بكر أن الحرمة تنتشر إليهم، إذ هو رضاع نشر الحرمة إلى المرضعة، فنشرها إلى الواطئ لضرورة الاتفاق، وفي المذهب (قول ثالث) تنتشر الحرمة إلى الزاني، لأنه ولده ظاهرا، دون الملاعن، لانتفائه عنه ظاهرا وحكما، وقوله: فثاب لها لبن. أي اجتمع. وقوله: فأرضعت به طفلا خمس رضعات، بناء على

مختاره من أن التحريم إنما يتعلق بالخمس، وقوله: متفرقات. بناء على أنه لا بد من عدد الرضعات، وأنه لا يكتفى بالمص من غير مفارقة الثدي، وهو المشهور، وعن ابن أبي موسى: حد الرضعة أن يمتص ثم يمسك عن الامتصاص لنفس أو غيره، سواء خرج الثدي من فيه، أو لم يخرج، وكلام الخرقي يقتضي أنه متى وجد التفرق كفى، وإن كان بغير اختياره، وقد تقدم ذلك، وقوله: في حولين. يحترز به عما بعد الحولين، فإنه لا يؤثر، ولا ريب في ذلك عندنا. 2853 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: دخل علي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعندي رجل، فقال: «يا عائشة من هذا؟ فقلت: أخي من الرضاعة، فقال: «يا عائشة انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة» » متفق عليه. 2854 - وعن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحرم الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام» رواه الترمذي وصححه. 2855 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا

رضاع إلا ما فارق الحولين» رواه الدارقطني. 2856 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا رضاعة إلا ما كان في الحولين. رواه أبو داود. 2857 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا رضاعة لكبير. 2858 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا رضاعة إلا لمن أرضع في

الصغر. رواهما مالك في الموطأ. 2859 - وبهذا يتخصص ما روي «عن زينب بنت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قالت: قالت أم سلمة لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي. فقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أما لك في رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسوة حسنة، وقالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله إن سالما يدخل على وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أرضعيه حتى يدخل عليك» » رواه أحمد ومسلم، وفي رواية عن زينب، عن أمها أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قالت: أبى سائر أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يدخلن أحدا عليهن بتلك الرضاعة، وقلن لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: ما نرى هذا إلا رخصة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لسالم خاصة، فما هو بداخل علينا أحد بهذه الرضاعة ولا رائينا. رواه أحمد، ومسلم، والنسائي. (تنبيه) : الأيفع. قال: ولو طلق الرجل زوجته ثلاثا وهي ترضع من لبن

ولده، فتزوجت بصبي مرضع فأرضعته حرمت عليه، ثم تزوجت بآخر ودخل بها، وطلقها أو مات عنها، لم يجز أن يتزوجها الأول، لأنها صارت من حلائل الأبناء لما أرضعت الصبي الذي تزوجت به. ش: أما تحريم المرضعة على الصبي المرضع فلأنها صارت أمه، فدخلت في قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] وأما امتناع تزويج الأول لها فلما علل به الخرقي، من أنها صارت من حلائل أبنائه، لأن المرضع ابن له لما تقدم، والمرضعة زوجته، فهي من زوجات أبنائه، وقيود الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - واضحه. قال: ولو تزوج كبيرة وصغيرة، فلم يدخل بالكبيرة حتى أرضعت الصغيرة في الحولين، حرمت عليه الكبيرة، وثبت نكاح الصغيرة. ش: أما تحريم الكبيرة فلأنها بإرضاعه صارت من أمهات نسائه، وأمهات النساء يحرمن بمجرد العقد، وأما ثبوت نكاح الصغيرة، فلأنها قد صارت ربيبة، ولم يدخل بأمها فلا تحرم، لقوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: 23] وهذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار الخرقي وابن عقيل وغيرهما، (والرواية الثانية) ينفسخ نكاح الصغيرة أيضا، لأنهما قد صارتا أما وبنتا واجتمعا في نكاحه، ولا ريب أن الجمع بينهما محرم، فينفسخ نكاحهما، كما لو عقد عليهما بعد الرضاع جملة، وأجيب عن هذا بأن إزالة الجمع

ممكن بانفساخ نكاح الكبيرة، وهو أولى به لتحريمها بمجرد العقد، بخلاف البنت فإنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم، والدوام يغتفر فيه ما لا يغتفر في الابتداء. قال: وإن كان دخل بالكبيرة حرمتا عليه جميعا. ش: الكبيرة لأنها صارت من أمهات نسائه، والصغيرة فلأنها صارت ربيبة مدخولا بأمها. قال: ويرجع بنصف مهر الصغيرة على الكبيرة. ش: لأن الكبيرة قررته عليه، وألزمته إياه وأتلفت عليه ما في مقابلته، فوجب عليها الضمان كما لو أتلفت عليه المبيع، وقد تضمن كلام الخرقي أن عليه نصف مهر الصغيرة، وهو كذلك، لأن نكاحها انفسخ قبل دخوله بها من غير جهتها، فتنصف مهرها، وفي كلامه أو لا إشعار بأن الكبيرة الغير مدخول بها لا مهر لها، وهو واضح، إذ الفسخ لسبب من جهتها، أشبه ما لو ارتدت. قال: وإذا تزوج بكبيرة لم يدخل بها، وبصغيرتين فأرضعت الكبيرة الصغيرتين، حرمت الكبيرة، وانفسخ نكاح الصغيرتين، ولا مهر للكبيرة، ويرجع عليها بنصف مهر الصغيرتين، وله أن ينكح من شاء منهما. ش: أما تحريم الكبيرة فلأنها صارت من أمهات نسائه، فشملها قوله سبحانه: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] وأما انفساخ نكاح الصغيرتين فلأنهما قد صارتا أختين، وقد اجتمعتا في نكاحه، فينفسخ نكاحهما، إذ ليست إحداهما بأولى بالبطلان من

الأخرى، فأشبه ما لو عقد عليهما ابتداء، وهذا بناء على ما تقدم من مختاره، من أنه إذا أرضعت كبيرة وصغيرة أنه لا ينفسخ نكاح الصغيرة، وإذا إذا ارتضعت الثانية قد صارتا أختين، فينفسخ نكاحهما، أما على الرواية الثانية فإن الصغيرة إذا انفسخ نكاحها مع الكبرى، فالصغيرة الثانية إذا ارتضعت لم يوجد ما يجمع معها، فيبقى نكاحها، وأما كونه لا مهر للكبيرة فلأن الفسخ جاء من جهتها، وأما كونه يرجع عليها بنصف مهر الصغيرتين فلما تقدم من أنها قررت ذلك عليه، وألزمته له. قال وإن كن الأصاغر ثلاثا، فأرضعتهن متفرقات، حرمت الكبيرة، وانفسخ نكاح المرضعتين أولا، وثبت نكاح آخرهن رضاعا. ش: إذا كن الأصاغر ثلاثا، فأرضعتهن الكبيرة متفرقات، حرمت الكبيرة لما تقدم، وانفسخ نكاح المرضعتين أولا، لما تقدم من أنهما قد صارتا أختين، وقد جمع بينهما في النكاح، فيبطل نكاحهما، ويثبت نكاح الأخرى، لأنها لم توجد ما يجمع معه، وهذا أيضا مبني على ما تقدم، أما علي الرواية الأخرى فإنه ينفسخ نكاح الجميع، نكاح الأولى مع الأم، ونكاح الثانية والثالثة لأنهما قد صارتا أختين.

قال: وإن كانت أرضعت إحداهن منفردة واثنتين بعد ذلك معا، حرمت الكبيرة، وانفسخ نكاح الأصاغر. ش: أما تحريم الكبيرة فواضح، وقد تقدم، وأما انفساخ نكاح الأصاغر فلأنه قد صار جامعا بين ثلاث أخوات، لأن الأولى لم ينفسخ نكاحها، فلما أرضعت الاثنتين بعد ذلك حصل الجمع بين الجميع، واعلم أن انفساخ نكاح الأصاغر على الروايتين، أما على المذهب فقد تقدم، وأما على الرواية الأخرى فلأن الأولى ينفسخ نكاحها مع الكبرى، والأخريين ينفسخ نكاحهما، لأنه قد صار جامعا بينهما، غايته أن وقت الفسخ يختلف. فعلى الأولى: ينفسخ نكاح الجميع في حالة واحدة، وعلى الثانية: ينفسخ نكاح الأولى مع الكبيرة، ويتأخر فسخ نكاح الأخريين إلى حين الإرضاع. قال: ولو كان دخل بالكبيرة حرم الكل عليه على الأبد. ش: أما تحريم الكبيرة فلما تقدم، وأما تحريم الأصاغر فلأنهن ربائب مدخول بأمهاتهن، فيحرمن. قال: وإذا شهدت امرأة واحدة على الرضاع حرم النكاح إن كانت مرضية، وقد قال أبو عبد الله في موضع آخر: إن كانت مرضية استحلفت، فإن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها، وذهب في ذلك إلى قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.

ش: شهادة المرأة الواحدة مقبولة في الرضاع، على المذهب المشهور. 2860 - لما روي «عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. قال: فذكرت ذلك للنبي فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك له، فقال: «كيف وقد زعمت أن قد أرضعتكما» فنهاه عنها» ، أخرجه البخاري وغيره «، وللنسائي قال: فأعرض عنه، فأتيته من قبل وجهه، قلت: إنها كاذبة. قال: «كيف بها وقد زعمت أنها قد أرضعتكما، دعها عنك» . 2861 - وقال الزهري: فرق بين أهل أبيات في زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بشهادة امرأة في الرضاع. 2862 - وقال الشعبي: كانت القضاة يفرقون بين الرجل والمرأة بشهادة امرأة واحدة في الرضاع (وعن أحمد) رواية ثانية: لا يقبل إلا بشهادة امرأتين لأن الرجال أكمل من النساء ولا يقبل إلا بشهادة رجلين فكذلك لا يقبل إلا بشهادة امرأتين (وعنه) ثالثة تقبل شهادة المرأة الواحدة، وتستحلف مع شهادتها. 2863 - اعتمادا على قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال في امرأة زعمت أنها أرضعت رجلا وأهله، فقال: إن كانت مرضية

الإقرار بالرضاع قبل الدخول أو بعده

استحلفت، وفارق امرأته، وقال: إن كانت كاذبة لم يحل الحول حتى تبيض ثدياها. يعني يصيبها فيهما برص، عقوبة على كذبها، نسأل الله العافية من ذلك، والظاهر أنه لا يقول مثل هذا إلا عن توقيف، وعلى كل حال فلا يقبل إلا شهادة مرضية، إذ غيرها يدخل في قَوْله تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية. [الإقرار بالرضاع قبل الدخول أو بعده] قال: وإذا تزوج امرأة ثم قال قبل الدخول: هي أختي من الرضاع، انفسخ النكاح. ش: لأن إقراره يتضمن ذلك، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده، وإنما ذكر الخرقي قبل الدخول لما يذكره من المهر، وكلام الخرقي يشمل ما إذا كانت معروفة النسب، وصرح بذلك القاضي في ضمن كلامه في التعليق. قال: فإن صدقته فلا مهر لها، وإن كذبته فلها نصف المهر. ش: إذا قال قبل الدخول: هي أختي من الرضاعة. فإن صدقته فلا مهر لها لإقرارها بفساد نكاحها من أصله. ولا مهر في النكاح الفاسد قبل الدخول، وإن أكذبته فلها نصف المهر، لأن حقها ثبت بالعقد ظاهرا، ودعوى الزوج بعد ذلك إسقاطه دعوى مجردة فلا تسمع.

قال: ولو كانت المرأة هي التي قالت: هو أخي من الرضاعة. فأكذبها، ولم تأت بالبينة على ما وصفت، فهي زوجته في الحكم. ش: أما كون المرأة زوجته في الحكم إذا قالت: هو أخي من الرضاعة. فأكذبها ولا بينة لها، فلأن بقاء النكاح من حقوق الزوج، ودعوى المرأة زواله دعوى مجردة فلا تسمع، ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا صدقها انفسخ النكاح، وهو كذلك للاتفاق على ما يقتضي الفسخ، ومقتضى كلامه أنها متى أقامت البينة على ما ادعته كان القول قولها، وهو واضح؛ إذ البينة تبين الحق وتوضحه.

كتاب النفقات

[كتاب النفقات] [نفقة الزوجة] قال: وعلى الزوج نفقة زوجته ما لا غنى لها عنه وكسوتها. ش: نفقة الزوجة واجبة في الجملة بالإجماع، وسنده قوله سبحانه وتعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [الأحزاب: 50] ، وقول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] الآية. 2864 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حديثه الطويل، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب الناس فقال: «اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» رواه مسلم وغيره. 2865 - وفي حديث هند الصحيح أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، إذا تقرر هذا فقول الخرقي: إن

الواجب على الزوج من النفقة ما لا غنى لها عنه وكسوتها، أي شيئا لا يستغنى عنه، ومعناه ما لا بد لها منه، فظاهر هذا أن الواجب عليه هو أقل الكفاية، فكأنه اعتبر حال الزوج، وقد صرح بذلك أبو بكر في التنبيه فقال: إنها على قدر يسار الزوج وإعساره، على اجتهاد الحاكم، وأومأ إليه أحمد في رواية أحمد بن سعيد، فقال: أما نفقة خادم واحد فلا بد منه، وهو على قدر اليسار؛ وقال في رواية أبي طالب: إذا وجد ما يطعمها رغيفين ثلاثة، يعني لم تملك الفسخ، وذلك لظاهر قول الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] إلى قوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] . 2866 - «وعن معاوية القشيري قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: فقلت: ما تقول في نسائنا؟ قال: «أطعموهن مما تأكلون، واكسوهن مما تلبسون، ولا تضربوهن ولا تقبحوهن» رواه أبو داود. وأومأ

في رواية أبي صالح أن الاعتبار بحالها، فقال: إذا غاب عن زوجته يضرب لها في ماله بقدر نفقة مثلها؛ وذلك لحديث هند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، وهو قضية عين، وقد جمع القاضي في تعليقه بين كلامي أحمد، وجعل الاعتبار بحال الزوجين، فيفرض للموسرة تحت الموسر نفقة الموسرين، وللفقيرة تحت الفقير نفقة الفقراء، وللمتوسطة تحت المتوسط أو إذا كان أحدهما موسرا، والآخر معسرا نفقة المتوسطين، وتبعه فيما علمت من بعده على ذلك، جمعا بين الدليلين. قال: فإن منعها أو بعضه وقدرت له على مال أخذت منه مقدار حاجتها بالمعروف، كما «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند، حين قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» . ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم - وهو ما إذا منعها الواجب عليه أو بعضه - ودليله، وهو حديث هند الذي في الصحيح عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، «أن هندا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني

ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» ، وهو صريح في أن لها أن تأخذ بغير إذنه، والحكم للواحد حكم لغيره، إما بطريق عرف الشرع كما نقوله، أو بالقياس كما يقوله الأكثرون، وكأن المعنى في ذلك أن الحاجة تدعو إلى ذلك، إذ النفقة تجب كل يوم، فالمرافعة إلى الحاكم تشق أو تتعذر، فجوز الشرع أخذ الكفاية بالمعروف، دفعا للحرج والمشقة. قال: فإن منعها أو بعضه ولم تجد ما تأخذ منه، واختارت فراقه فرق الحاكم بينهما. ش: ظاهر هذا الكلام أنه منعها مع قدرته على الإنفاق، ولم تجد له مالا تأخذ منه، ومختار أبي الخطاب في هدايته، وأبي محمد أن لها الفسخ والحال هذه، كما اقتضاه كلام المصنف، لأن الإنفاق عليها من ماله متعذر، فكان لها الفسخ كحال الإعسار، بل أولى، إذ لا عذر هنا، بخلاف ثم. 2867 - وقال ابن المنذر: ثبت أن عمر بن الخطاب كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم، فأمرهم بأن ينفقوا أو يطلقوا، فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما مضى. واختار القاضي أنها

لا تملك الفسخ والحال هذه، لأن الفسخ ثم لعيب الإعسار ولم يوجد، ولأن الموسر الممتنع في مظنة إمكان الأخذ من ماله، بخلاف المعسر، ويؤخذ من عموم كلام الخرقي أو من تنبيهه أنها إذا لم يجد ما ينفق عليها أصلا أن لها الفسخ، وهو المنصوص والمشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، لما تقدم عن عمر، ولقول الله سبحانه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] ، وليس الإمساك مع ترك الإنفاق إمساكا بمعروف، فيتعين التسريح. 2868 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول» فقيل: من أعول يا رسول الله؟ قال: «امرأتك ممن تعول، تقول: أطعمني وإلا فارقني. جاريتك تقول: أطعمني واستعملني. ولدك يقول: إلى من تتركني» رواه أحمد والدارقطني. قال أبو البركات: بإسناد صحيح.

2869 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا، عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته، قال: «يفرق بينهما» رواه الدارقطني.

نفقة الوالدين والأولاد

2870 - وروى سعيد عن سفيان، عن أبي الزناد، قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على زوجته أيفرق بينهما؟ قال: نعم. قلت: سنة؟ قال: سنة. وهذا ينصرف إلى سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ونقل عنه) ابن منصور ما يدل على أنها لا تملك الفسخ بالإعسار، ما لم يوجد منه غرور، فقال: إذا تزوج امرأة وهو مفلس، ولم تعلم المرأة لا يفرق بينهما، إلا أن يكون قال لها: عندي من العروض والأموال؛ وغرها من نفسها، إلا أن القاضي حمل هذا على الإفلاس بالصداق، وبالجملة قد قيل في وجه ذلك: إنه حق لها عليه، فلم يفسخ النكاح لعجزه عنه كالدين، وعلى هذه الرواية ترفع يده عنها لتكتسب ما تقتات به. [نفقة الوالدين والأولاد] قال: ويجبر الرجل على نفقة والديه، وولده الذكور والإناث، إذا كانوا فقراء، وكان له ما ينفق عليهم. ش: أما كون الرجل يجبر على نفقة والديه، وولده الذكور والإناث، فليأت بالواجب، وبيان الوجوب أما في حق الوالدين فلقول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36]

ومن الإحسان لهما الإنفاق عليهما عند حاجتهما إلى ذلك. 2871 - وعن كليب بن منفعة «عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، من أبر؟ قال: «أمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الذي يلي ذاك، حق واجب، ورحم موصولة» رواه أبو داود، وأما في حق الأولاد فلقول الله سبحانه: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] «وحديث هند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» مع أن هذا إجماع في المسألتين في الجملة، حكاه ابن المنذر فقال: أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال، واجبة في مال الولد، وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرء نفقة أولاده الأطفال، الذين لا مال لهم. ويدخل في كلام الخرقي في الوالدين الأجداد والجدات وإن

علوا، وفي الولد ولد الولد وإن سفل، وهو كذلك، بدليل قوله سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] دخل فيه ولد البنين، وقال سبحانه: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 11] يدخل فيه الأجداد، وقال تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] واشترط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لوجوب النفقة على من تقدم شرطين (أحدهما) أن يكون المنفق عليهم فقراء أي لا مال لهم، ولا كسب يقوم بكفايتهم، إذ النفقة تجب على سبيل المواساة، والغني مستغن عن المواساة، (الثاني) أن يكون للمنفق ما ينفق عليهم، إما من مال أو صناعة ونحو ذلك، فاضلا عن نفقة نفسه وزوجته. 2872 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل: «ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، وإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي. 2873 - وعن «طارق المحاربي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمت المدينة وإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قائم على المنبر يخطب، وهو يقول: «يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمك وأباك، وأختك وأخاك،

ثم أدناك أدناك» رواه النسائي. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط غير ذلك، إلا أنه يذكر بعد أن السيد تلزمه نفقة رقيقه، ولا يلزم ابنه نفقته، وإن كان حرا، وهو كذلك بلا ريب، فإذًا الشروط ثلاثة (ثالثها) أن لا يكون أحدهما رقيقا، ولا بد (من شرط رابع) وهو أن يتحد دينهما، فإن اختلف فلا نفقة لأحدهما على صاحبه، لأن النفقة مواساة على سبيل البر والصلة، ولا صلة مع اختلاف الدين، ولأنهما غير متوارثين، فلم تجب لأحدهما نفقة على الآخر، كما لو كان أحدهما رقيقا، ولا نزاع في اشتراط هذا الشرط في غير عمودي النسب، وفي عمودي النسب روايتان، نص عليهما في الأب الكافر، هل تجب عليه نفقة ولده المسلم، وخرجهما القاضي في العكس، وأبو محمد ينصر عدم الوجوب مطلقا، عكس ظاهر كلام الخرقي، فإن ظاهره الوجوب في عمودي النسب، لأنه لم يشترط ذلك، وعدم الوجود في غيرهم، كما هو متفق عليه، لقوله بعد:

نفقة الصبي أو الصبية إذا لم يكن له أب وكان فقيرا

أجبر وارثه. فاشترط الإرث، فدل ذلك على اشتراط الاتفاق في الدين، واختلف في (شرط خامس) وهو أن المنفق عليه هل من شرطه أن يكون زمنا ونحو ذلك، أو لا يشترط ذلك؟ لا نزاع فيما علمت أن الوالدين لا يشترط فيهما ذلك، وهو مقتضى كلام الخرقي، واختلف فيمن عداهما، وعن أحمد ما يدل على روايتين، ومختار القاضي وأبي محمد عدم الاشتراط مطلقا، كما هو ظاهر كلام الخرقي، إناطة بالحاجة، وتمسكا بقول «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك» وهو واقعة عين. [نفقة الصبي أو الصبية إذا لم يكن له أب وكان فقيرا] قال: وكذلك الصبي إذا لم يكن له أب، أجبر وارثه الذكور والإناث على نفقته على قدر ميراثهم منه. ش: كذلك الصبي أو الصبية إذا لم يكن له أب وكان فقيرا، فإن وارثه وإن كان أنثى يجبر على نفقته، لقول الله سبحانه: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] أي مثل ما وجب على المولود له، ولما تقدم من حديث جابر وطارق، وكليب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهذا هو المشهور من الروايتين، (وعن أحمد) رواية أخرى لا تجب النفقة إلا على العصبات، فعلى هذا لا تجب على العمة والخالة ونحوهما، إذ النفقة معونة، فاختصت بالعصبات كالعقل. 2874 - وقال ابن المنذر: روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه حبس عصبة

ينفقون على صبي الرجال دون النساء؛ وعلى كلا الروايتين هل يشترط أن يرثهم بالفرض أو التعصيب في الحال، أو لا يشترط ذلك، بل الشرط الإرث في الجملة؟ فيه روايتان، المختار منهما عند القاضي وأبي الخطاب، وأبي محمد وغيرهم الأولى. ويستثنى مما تقدم ذوو الأرحام من غير عمودي النسب، فإن النفقة لا تجب لهم، على المنصوص والمجزوم به عند كثيرين، حتى قال القاضي: رواية واحدة؛ إذ قرابتهم ضعيفة، وإنما يأخذون المال عند عدم الوارث، فهم كسائر المسلمين، وخرج أبو الخطاب وجوبها على توريثهم، وهو قوي. واشترط الخرقي لوجوب النفقة على الوارث أن لا يكون للمنفق عليه أب، فلو كان له أب اختص بنفقته، لقول الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال:

نفقة الرقيق

{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] «وقال – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فجعل النفقة على أبيهم دونها، وحيث أوجبنا النفقة على الوارث فإنها على قدر ميراثه من المنفق عليه، لأنه لو ورث الجميع لوجب عليه الجميع، فإذا ورث البعض وجب عليه بقدره، إذ السبب هو الإرث. وفرع الخرقي على ذلك فقال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن كان للصبي أم وجد، فإن على الأم ثلث النفقة، وعلى الجد الثلثين، وإن كانت جدة وأخا فعلى الجدة السدس، والباقي على الأخ، وعلى هذا المعنى حساب النفقات. ش: لا ريب أن الأم والجد يرثان المال أثلاثا، فتكون النفقة عليهما أثلاثا، ولا ريب أن الجدة ترث السدس، فيكون عليها من النفقة بقدر ذلك، والأخ يرث الباقي، فيكون عليه باقي النفقة، وعلى هذا أبدا، فلو كان له أم أم وأم أب، فالنفقة عليهما نصفين، لتساويهما في الإرث، وظاهر كلام الخرقي أنها تجب بالقسط، وإن كان بعضهم موسرا والآخر معسرا، وهذا إحدى الروايتين (والرواية الأخرى) : تجب على الموسر والحال هذه كل النفقة، ففي الجدة والأخ إذا كان الأخ موسرا، والجدة معسرة، هل على الأخ خمسة أسداس النفقة حصة إرثه، أو كلها، لأن من معه كالمعدوم؟ على الروايتين. [نفقة الرقيق] [نفقة المعتق إذا كان فقيرا] قال: وعلى المعتق نفقة معتقه إذا كان فقيرا، لأنه وارثه. ش: هذا مبني على ما تقدم من أن الوارث تجب عليه نفقة موروثه، وحديث كليب - وقد تقدم - صريح في ذلك،

ويشترط في وجوب الإنفاق الشروط المذكورة، إذ هذا فرع مما تقدم. قال: وإذا تزوجت الأمة لزم زوجها أو سيده إن كان مملوكا نفقتها. ش: يلزم زوج الأمة نفقتها إن كان حرا، لأنها زوجته، فيدخل في عموم ما تقدم، وكذلك إن كان عبدا، نظرا للعموم أيضا، ولأنه عوض واجب في النكاح، فوجب على العبد كالمهر، ثم هل تكون في ذمة السيد، لإذنه في النكاح المفضي إلى إيجابها، أو في رقبة العبد، إذ الوطء في النكاح بمنزلة الجناية، وجناية العبد في رقبته، فكذلك ما يتعلق بالوطء، أو في كسب العبد؟ على ثلاث روايات، المشهور منهن الأولى. قال: وإن كانت تأوي بالليل عند الزوج، وبالنهار عند المولى، أنفق كل واحد منهما مدة مقامها عنده. ش: لأن النفقة تابعة للتمكين، والتمكين وجد للزوج في الليل، فيختص بنفقة الليل، وتجب نفقة النهار على المولى بأصل الملك، ثم هل تجب النفقة عليهما نصفين، قطعا للتنازع، وهو الذي جزم به أبو محمد، أو تجب نفقة الليل وتوابعه من الغطاء والوطاء، ودهن المصباح، ونحوه على الزوج، وما يتعلق بالنهار على السيد، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا؟ (فيه وجهان) وقد علم من هذه المسألة أن

نفقة أولاد العبد والأمة

المسألة السابقة فيما إذا سلمت الأمة ليلا ونهارا. قال: فإن كان لها ولد لم يلزم الزوج نفقة ولده منها، حرا كان الزوج أو عبدا، إذ نفقتهم على سيدهم. ش: قد تقدمت الإشارة إلى هذا، وذلك لأن ولد الأمة من نمائها، فيكون لسيدها بلا ريب، ونفقة المملوك على سيده، لما سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن أحمد رواية أخرى أن ولد العربي يكون حرا، وعلى أبيه فداؤه، فعلى هذا تكون نفقته عليه. [نفقة أولاد العبد والأمة] قال: وليس على العبد نفقة ولده، حرة كانت الزوجة أو أمة. ش: لأن العبد لا مال له، فتجب عليه النفقة، ولو قيل يملك فملكه ناقص، لا يحتمل المواساة. [نفقة ولد المكاتبة] قال: وعلى المكاتبة نفقة ولدها، دون أبيه المكاتب. ش: ولد المكاتبة يتبعها دون أبيه، وإن كان مكاتبا، بناء على القاعدة، من أن الولد يتبع أمه في الحرية والرق، وإذا تبعها وقف معها، فإن عتقت بالأداء عتق، وإن رقت رق، وإذًا نفقته عليها، لأن له حكم نفسها، ولا ريب أن نفقة نفسها عليها، فكذلك ولدها. قال: وعلى المكاتب نفقة ولده من أمته. ش: لأن ولده من أمته يتبعه، فيصير حكمه حكمه، فتجب عليه نفقته لما تقدم، وتقييده بأمته؛ لأن ولده من غير أمته إما

باب الحال التي تجب فيها النفقة على الزوج

أن يكون من حرة فيكون حرا، والمكاتب لا تجب عليه نفقة قريبه الحر، لأنه وإن ملك لكنه محجور عليه في ذلك، وإما أن يكون من مكاتبة فيتبعها، ويعطى حكمها، كما تقدم، وإما أن يكون من أمة لسيده أو لأجنبي، فالأجنبي يتبعها في رقها وتجب نفقته على سيده، ولسيده كذلك، اللهم إلا أن يشترط أن ولده يتبعه، فإن نفقته تجب عليه، إناطة بالتبعية، هذا هو التحقيق تبعا لأبي البركات، ووقع لأبي محمد أن للمكاتب أن ينفق على ولده من أمة لسيده، معللا بأنه مملوك لسيده، فينفق عليه من المال الذي تعلق به حق سيده، وله احتمالان فيما إذا كان الولد من مكاتبة لسيده. [باب الحال التي تجب فيها النفقة على الزوج] لما تقدم له أن النفقة تجب للزوجة، ذكر الحال التي تجب فيها النفقة، فقال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإذا تزوج بامرأة مثلها يوطأ، فلم تمنعه نفسها، ولا منعه أولياؤها لزمته النفقة. ش: فظاهر هذا أن النفقة تجب بالعقد ما لم تمنعه نفسها، ولا منعه أولياؤها، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، لأن العقد سبب الوجوب، فترتب الحكم عليه (والرواية الثانية) لا تجب النفقة إلا بالتسليم، أو ببذله حيث لزمه القبول، وهو المشهور، لأن النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع، وذلك بالتمكين منه، ومع عدم التسليم أو بذله لم يوجد، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ودخلت عليه بعد مدة،

ولم ينقل أنه أنفق إلا بعد دخوله، ولا أنه كان يرسل نفقة ما مضى، وفي الاستدلال بهذا نظر، فإن من شرط وجوب النفقة على كل حال كون مثلها يوطأ، كما ذكره الخرقي، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حين تزوجها – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كانت بنت ست سنين على الصحيح، ومثلها لا يوطأ غالبا، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أطلق من يوطأ مثلها، ولم يقيده بسن، وكذا جماعة كثيرة من أصحاب القاضي، منهم أبو الخطاب في الهداية، وابن عقيل، والشيرازي، وتبعهم على ذلك أبو محمد مصرحا به، وأناط ذلك القاضي بابنة تسع سنين، وتبعه على ذلك أبو البركات، وهو مقتضى نص أحمد، قال في رواية صالح وعبد الله - وسئل: متى يؤخذ الرجل بنفقة الصغيرة؟ فقال: إذا كان مثلها يوطأ، تسع سنين، ولم يكن الحبس من قبلهم، ففسر من مثلها يوطأ بتسع سنين، وقد يحمل إطلاق من أطلق من الأصحاب على ذلك، فإذًا أبو محمد منفرد عنهم. وقول الخرقي: مثلها يوطأ، يريد به - والله أعلم - في السن، فلو كان بها رتق أو قرن، أو مرض ونحو ذلك، ومثلها في السن يوطأ، فلا يخلو إما أن يكون هذا المانع يمنع الاستمتاع بالكلية، أو لا، فإن لم يمنعه بالكلية وجبت النفقة، للتمكن من الاستمتاع الواجب في الجملة، وإن منع الاستمتاع بالكلية كمرض كذلك أو إحرام ونحو ذلك، فإن لم يرج زواله وجبت النفقة، إذ لا حال لها ينتظر، وإن رجي زواله كالإحرام ونحوه انتظر زوال ذلك، ولم تجب النفقة لأنها والحال هذه كالصغيرة. قال: وإذا كانت بهذه الحال التي وصفت، وزوجها صغير،

أجبر وليه على نفقتها من مال الصبي. ش: والحال التي وصفها أن يكون مثلها يوطأ، ولم تمنع نفسها، ولا منعها أولياؤها، وإذا كان زوجها والحال هذه صغيرا وجبت عليه نفقتها، لأن المنع جاء من قبل الزوج، لا من قبلها، أشبه ما لو كان غائبا، وعلى المشهور لا بد أن تسلم نفسها، أو تبذل له ذلك، إذا تقرر هذا فالمخاطب بالنفقة هو الولي، كما يخاطب بأداء بقية الواجبات عنه، والأداء من مال الصبي كما في بقية الواجبات. قال: فإن لم يكن له مال فاختارت فراقه فرق الحاكم بينهما. ش: قد تقدم الكلام على هذا، وأنه يؤخذ من كلام الخرقي تنبيها، ويؤخذ من كلامه هنا تصريحا، ونزيد هنا بأن المفرق في الفسخ للإعسار بالنفقة هو الحاكم، لأنه أمر مختلف فيه، والأمور المختلف فيها تقف على الحاكم. قال: وإن طالب الزوج بالدخول، وقالت: لا أسلم نفسي حتى أقبض صداقي، كان ذلك لها، ولزمته النفقة إلى أن يدفع إليها صداقها. ش: إذا طالب الزوج بالدخول، وامتنعت المرأة حتى تقبض صداقها، فلها ذلك، لأن عليها في التسليم قبل قبض صداقها ضررا، والضرر منفي شرعا، وبيان الضرر أنها إذا سلمت نفسها قد يستوفي معظم المنفعة المعقود عليها وهو الوطء، فإذا لم يسلم إليها عوض ذلك - وهو الصداق - لا يمكنها الرجوع فيما استوفى منها، فيلحقها الضرر، وفارق المبيع

نفقة المطلقة المبتوتة

إذا تسلمه المشتري، ثم أعسر بالثمن، فإنه يمكنه الرجوع فيه، وإذا كان لها الامتناع لأجل قبض الصداق، مع بذلها للتسليم، فلها النفقة، لأن امتناعها في الحقيقة إنما جاء من جهة الزوج، وكلام الخرقي يشمل الصداق الحال والمؤجل، وهذا الحكم إنما هو في الحال، أما المؤجل فليس لها الامتناع، إذ لا حق لها تطالب به، إذ حقها قد رضيت بتأخيره، نعم لو حل المؤجل قبل التسليم، فهل لها الامتناع نظرا إلى الحال الراهنة، أو ليس لها الامتناع إلى ما دخلت عليه ابتداء؟ فيه وجهان. [نفقة المطلقة المبتوتة] قال: وإذا طلق زوجته طلاقا لا يملك رجعتها، فلا سكنى لها ولا نفقة، إلا أن تكون حاملا. ش: إذا بانت المرأة من زوجها بطلاق أو فسخ أو غير ذلك، فلا يخلو إما أن تكون حاملا أو حائلا، فإن كانت حاملا فلها النفقة والسكنى إجماعا، وسنده قوله سبحانه؛ {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ولأن الحمل ولده، ولا يمكنه الإنفاق عليه إلا بالإنفاق عليها، فوجب نظرا إلى أن ما يتوقف عليه الواجب واجب، وإن كانت حائلا فلا نفقة لها على المشهور المعروف. 2875 - لما «روت فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن زوجها طلقها ألبتة وهو غائب عنها، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله ما لك علينا من شيء. فجاءت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك، فقال: «ليس لك عليه نفقة» وفي لفظ: «ولا سكنى»

فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك» ، متفق عليه. 2876 - وعن الشعبي عن فاطمة أيضا «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المطلقة ثلاثا قال: «ليس لها سكنى ولا نفقة» رواه أحمد ومسلم، وفي رواية عنها قالت: «طلقني زوجي ثلاثا، فلم يجعل لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سكنى ولا نفقة» ، رواه الجماعة إلا البخاري، وأيضا قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] مفهومه أنهن إذا لم يكن أولات حمل لا نفقة لهن. وقد اعترض على خبر فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - بأن من شرط قبول خبر الواحد أن لا ينكره السلف، وهذا الخبر قد أنكر. 2877 - فعن الشعبي أنه حدث بحديث فاطمة بنت قيس «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجعل لها سكنى ولا نفقة، فأخذ الأسود بن يزيد كفا من حصباء فحصبه به، وقال: ويلك تحدث بمثل هذا، قال

عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا نترك كتاب الله وسنة نبينا، لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت» ، رواه مسلم وغيره. 2878 - وعن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لقد عابت ذلك عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أشد العيب، يعني حديث فاطمة بنت قيس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقالت: إن فاطمة كانت في مكان وحش، فخيف على ناحيتها، فلذلك أرخص لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. رواه أبو داود وابن ماجه، وأخرجه البخاري تعليقا. 2879 - وعن سليمان بن يسار في خروج فاطمة قال: إنما كان ذلك من سوء الخلق، رواه أبو داود مرسلا. 2880 - وعن ميمون بن مهران قال: قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب، فقلت: فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها، فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس، إنما كانت لسنة، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم (وقد أجيب) بأن هذا ليس بشرط عندنا، إنما الشرط صحة الخبر، ولا ريب في

صحة خبرها، وقد قال أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، -وسئل عن الأمور المختلفة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد رد أحد الأمرين بعض الخلفاء، مثل حديث فاطمة بنت قيس: هل لنا العمل بما يرد الخليفة فقال -: كان ذلك منه على احتياط، وقد كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقبل من غير واحد قوله وحده، ولا يكون ذلك دفعا للآخر، ثم إنكار عمر قد طعن في صحته الإمام أحمد، قال أبو داود: وسمعت أحمد وذكر له حديث عمر: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا، يصح هذا عن عمر؟ قال: لا. وقال الفضل بن زياد: كتبت إلى أبي عبد الله أسأله عن المطلقة ثلاثا هل لها سكنى أو نفقة، وكيف حديث فاطمة؟ فأتاني الجواب: أما الذي نذهب إليه فعلى حديث فاطمة، وأما ما يروى عن عمر أنه قال: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة. فإنا نرى أن ذلك وهم ممن روى عن عمر، لأن الكتاب يطلق لعدتها، قال: {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] وقال: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فإن قيل: حديث عمر قد رواه مسلم وأبو داود، والترمذي وغيرهم، قيل: لقد أنكره شيخهم، ومن هو أعلم بالآثار منهم، ثم يدل على ضعفه اختلاف ألفاظه، ففي السنن ما تقدم، وقال أحمد وقد ذكر له هذا فقال: أما هذا فلا، ولكن قال: لا نقبل في ديننا قول امرأة. وقال الدارقطني: قوله: وسنة نبينا، غير محفوظ، لم

يذكرها جماعة من الثقات، ثم لو صح ذلك لم يكن فيه حجة، إذ لا حجة لأحد مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم إن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استند في إنكاره إلى كتاب الله وسنة الرسول، ولا يعرف في سنة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما يخالف خبر فاطمة، وكذلك ليس في الكتاب ما يخالفه كما تقدم عن أحمد، فإن الآية الكريمة إنما تدل على الطلاق الرجعي، والإنفاق على الحامل نفقة والد على ولده، لا نفقة زوج على زوجته، وقد قال محمد بن العباس النسائي: سألت أبا عبد الله: ما تقول في حديث عمر: لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها؟ فقال: لا نعرف في كتاب الله ذكرا، ولا في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ وقال إسماعيل بن إسحاق: نحن نعلم أن عمر لا يقول لا ندع كتاب ربنا إلا لما هو موجود في كتاب الله تعالى، والذي في الكتاب أن لها النفقة إن كانت حاملا، لقوله سبحانه: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] أما غير ذات الحمل فلا يدل الكتاب إلا على أنهن لا نفقة لهن، لاشتراطه الحمل في الأمر بالإنفاق.

2881 - ورضي الله عن فاطمة، فعن «عبيد الله - وهو ابن عبد الله بن عتبة - قال: أرسل مروان إلى فاطمة فسألها، فأخبرته أنها كانت عند أبي حفص، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر علي بن أبي طالب على بعض اليمن، فخرج معه زوجها، فبعث إليها بتطليقة كانت بقيت لها، وأمر عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام أن ينفقا عليها، فقالا: والله ما لها نفقة إلا أن تكون حاملا، فأتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا» فاستأذنته في الانتقال، فأذن لها، فقالت: أين أنتقل يا رسول الله؟ فقال: «عند ابن أم مكتوم» وكان أعمى، تضع ثيابها عنده ولا يبصرها، فلم تزل هناك حتى مضت عدتها، فأنكحها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسامة، فرجع قبيصة إلى مروان فأخبره بذلك، فقال مروان: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة، فسنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة حين بلغها ذلك: بيني وبينكم كتاب الله، قال الله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] . . . {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] قالت: فأي أمر يحدث بعد الثلاث» . رواه مسلم وأبو داود والنسائي، وزعم أبو مسعود الدمشقي أنه مرسل، فقد بينت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن الكتاب إنما دل على

ما قالت، وأما قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إن نقلتها إنما كان لكونها كانت في مكان وحش، فليس في حديثها ما يدل على ذلك، ولو كان فيه لما جاز لها تركه، بل قد تقدم عنها في مسلم «أنها قالت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المطلقة ثلاثا، قال: «ليس لها سكنى ولا نفقة» وهذا يشملها وغيرها، وقد تقدم أيضا في السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نفقة لك إلا أن تكون حاملا» فعلل استحقاقها النفقة بالحمل، ولو كان استحقاقها النفقة بالطلاق لكان ذكر الحمل عديم التأثير، وما ذكر عن سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار فالجواب عنه كذلك، ثم قد خالف عمر وعائشة ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 2882 - قال أحمد: روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لا نفقة لها ولا سكنى. إذا طلقت ثلاثا.

2883 - ويروى ذلك عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإذا وقع التنازع بين الصحابة وجب الرجوع إلى الله وإلى الرسول. انتهى. وفي السكنى لها روايتان (إحداهما) لا سكنى لها، وهي اختيار الخرقي، والقاضي وغيرهما، اعتمادا على حديث فاطمة المتقدم، (والثانية) لها السكنى، اعتمادا على قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] الآية، وقد يجاب عنه بأنه في الرجعية كما تقدم، هذا كله إذا كان الطلاق بائنا كما تقدم، أما إن كان رجعيا فلها السكنى والنفقة بلا نزاع، للآية الكريمة. 2884 - وفي «خبر فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة لها ولا سكنى» رواه أحمد. ولأنها في حكم الزوجات في الإرث والطلاق، وغير ذلك، فكذلك في النفقة، والله أعلم.

نفقة المختلعة

[نفقة المختلعة] قال: وإذا خالعت المرأة زوجها، وأبرأته من حملها، لم يكن لها نفقة، ولا لولده حتى تفطمه. ش: إذا خالعت الحامل زوجها، ولم تبرئه من حملها، فلها النفقة والسكنى كما تقدم، وإن أبرأته من حملها - بأن جعلت ذلك عوضا في الخلع - فإنه يصح، بناء على ما تقدم من صحة الخلع بالمجهول، ثم إن عينت مدة الحمل والكفالة إلى حين الفطام صح، وكذلك إن أطلقت الكفالة، وينصرف عند التنازع إلى حولين، وإن أطلقت مدة الحمل فقط انصرف إلى زمن الحمل قبل وضعه، قاله أبو محمد. وظاهر كلام الخرقي أنه ينصرف إلى زمن الرضاع أيضا، وقال القاضي: إنما صح المخالعة على نفقة الولد، وهي للولد دونها، لأنها في حكم المالكة لها، لأنها المستحقة لها، وبعد الولادة تأخذ أجر رضاعها، قال: فأما النفقة الزائدة على هذا - من كسوة الطفل ودهنه، ونحو ذلك - فلا يصح أن يعاوض به، لأنه ليس لها، ولا هو في حكم ما هو لها، فكأنه يخصص كلام الخرقي، والله أعلم. [نفقة المرأة الناشز] قال: والناشز لا نفقة لها، فإن كان لها منه ولد أعطاها نفقة ولدها. ش: الناشر لا نفقة لها، لأن النفقة وجبت في مقابلة تمكينها، ومع النشوز لا تمكين، وإن كان لها منه ولد أعطاها

نفقته، لأنها واجبة له فلا يسقط حقه بمعصيتها كالكبير، وهذا يلتفت إلى قاعدة، وهو أن النفقة هل تجب للحامل لحملها، أو لها من أجله؟ فيه روايتان، أشهرهما أنها للحمل، وهي اختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي في تعليقه، وغيرهم (والثانية) أنها لها من أجله، واختارها ابن عقيل في التذكرة، وللخلاف فوائد (إحداها) هذه المسألة وهي الناشز الحامل، على الرواية الأولى لها نفقة الحمل لما تقدم، وعلى الثانية لا شيء لها لنشوزها (الثانية) إذا كانت المطلقة أمة، فعلى الأولى النفقة على السيد، لأن الحمل ملكه، وعلى الثانية على الزوج، لأن نفقتها عليه (الثالثة) إذا كان الزوج عبدا، فعلى الأولى لا شيء عليه، لأنه لا يلزمه نفقة ولده، وعلى الثانية عليه النفقة لما تقدم (الرابعة) إذا كانت حاملا من نكاح فاسد، أو وطء شبهة، أو ملك يمين، فعلى الأولى تجب لها النفقة، نظرا للولد، وعلى الثانية لا تجب إذ لا نكاح، (الخامسة) إذا كان الزوج غائبا أو معسرا، فعلى الأولى لا شيء لها، إذ نفقة القريب تسقط بمضي الزمان، وبالإعسار، وعلى الثانية تثبت في ذمة الغائب وتلزم المعسر، والله أعلم.

باب من أحق بكفالة الطفل

[باب من أحق بكفالة الطفل] ش: كفالة الطفل واجبة، لأن الصبي يهلك بتركها، فوجبت كالإنفاق عليه، ويتعلق بها حق لقرابته لما سيأتي، والله أعلم. قال: والأم أحق بكفالة الطفل والمعتوه إذا طلقت. ش: إذا افترق الزوجان وبينهما ولد، فالأم أحق به في الجملة، إن كان طفلا، بلا خلاف نعلمه. 2885 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت أحق به ما لم تنكحي» رواه أحمد وأبو داود وهذا لفظه. 2886 - ويروى أن أبا بكر الصديق حكم على عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - بعاصم لأمه أم عاصم، وقال: ريحها وشمها ولطفها خير له منك. رواه سعيد في سننه، ولأنها أقرب الناس

تخيير الغلام والأمة بين أبويه بعد البلوغ

إليه مع أبيه، وتتميز عن الأب بأنها تلي بنفسها، والأب لا يلي بنفسه، وحكم المعتوه حكم الطفل، لاستوائهما معنى، فاستويا حكما، ويشترط فيمن تثبت له الحضانة الحرية والبلوغ، والعقل، والعدالة الظاهرة، والله أعلم. [تخيير الغلام والأمة بين أبويه بعد البلوغ] قال: وإذا بلغ الغلام سبع سنين خير بين أبويه، فكان مع من اختار منهما. ش: أي إذا بلغ الغلام سبع سنين وهو عاقل، لما تقدم له من أن حضانة المعتوه لأمه، والمذهب المشهور أن الغلام والحال هذه يخير بين أبويه. 2887 - لما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خير غلاما بين أبيه وأمه» ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه، وفي رواية «أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأنا قاعد عنده، فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبي عنبة، وقد نفعني، فقال لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «استهما عليه» فقال زوجها: من يحاقني في ولدي؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت» فأخذ بيد أمه فانطلقت به؛ مختصر» رواه أبو داود.

2888 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خير غلاما بين أبيه وأمه رواه سعيد. 2889 - وعن عمارة الجرمي قال: خيرني علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بين عمي وأمي، وكنت ابن سبع سنين أو ثمان، وروي نحو ذلك عن أبي هريرة، ولا نعرف لهم مخالفا، ولأن الحضانة تثبت

لحظ الولد، فيقدم فيها من هو أشفق به، ولا ريب أن ميل الولد إلى أحد الأبوين دليل على أنه أشفق به، فرجح بذلك، وإنما قيدناه بالسبع لأنه إذًا بلغ حدا يعرب عن نفسه، ويميز بين الإكرام وضده، ولأنه أول حال أمر الشرع بمخاطبته فيها (وعن أحمد) رواية أخرى أن الأم أحق به، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب، ولا ريب أن حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخص منه فيقدم، (وعنه) رواية ثالثة الأب أحق به؛ لأنه إذًا يحتاج إلى التأديب والتعليم، والأب أخص بذلك، ولا ريب أنها أضعفهن، لمخالفتها الحديثين معا، وقد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حكم الطفل وحكم الغلام، ولم يتعرض لحكم البالغ، والحكم أنه يكون حيث شاء إن كان رشيدا. (تنبيه) : «يحاقني» أي ينازعني في حقي منه، والله أعلم. قال: وإذا بلغت الجارية سبع سنين فالأب أحق بها. ش: هذا هو المذهب المعروف، نظرا إلى أن المقصود بالحضانة حظ الولد، والحظ للجارية بعد السبع كونها عند أبيها، لقيامه بحفظها، ولأنه وليها، وأعلم بكفئها، ومنه تخطب وتزوج. وفي المذهب رواية أخرى ذكرها القاضي في تعليقه أن الأم أحق بها حتى تبلغ، ولفظها من رواية مهنا: الأم أحق بالجارية

الأحق بكفالة الطلفل بعد الأم

حتى تستغني، قيل له: وما غنى الجارية؟ قال: حتى تتزوج. ويستدل لذلك بقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أنت أحق به ما لم تنكحي» وبقصة ابنة حمزة. 2890 - ويرشحه أن في الحديث «من فرق بين والدة وولدها، فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» والله أعلم. [الأحق بكفالة الطلفل بعد الأم] قال: وإذا لم تكن أم أو تزوجت الأم، فأم الأب أحق من الخالة. ش: إذا لم تكن أم أو تزوجت الأم، أو قام بها مانع من فسق ونحوه، فإن أم الأب مقدمة على الخالة، على المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، لأنها جدة وارثة، فقدمت كأم الأم، ولأن لها ولادة ووراثة، فأشبهت أم الأم، وعن أحمد رواية أخرى أن الأخت من الأم والخالة يقدمان على أم الأب استدلالا بحديث ابنة حمزة. 2891 - فعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن ابنة حمزة اختصم فيها

علي وجعفر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، فقال علي: أنا أحق بها، هي ابنة عمي، وقال جعفر: هي بنت عمي، وخالتها تحتي، وقال زيد: ابنة أخي، فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لخالتها، وقال: «الخالة بمنزلة الأم» متفق عليه. 2892 - ورواه أحمد أيضا من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وفيه: «والجارية عند خالتها، فإن الخالة والدة» وكذلك رواه أبو داود من حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: «إنما الخالة الأم» فجعل الخالة بمنزلة الأم، ولا ريب أن الأم مقدمة على أم الأب، فكذلك من بمنزلتها، وهذا ظاهر في الاستدلال، فعلى هذه الرواية قال أبو الخطاب ومن تبعه: يكون هؤلاء أحق من الأخت من الأم، ومن جميع العصبات، وقال أبو البركات: يحتمل على هذه الرواية تقديم نساء الحضانة على كل رجل، ويحتمل أن يقدمن إلا على من أدلين به، ويحتمل تقديم نساء الأم على الأب وأمهاته، وسائر من في جهته، وأن كل امرأة في درجة رجل تقدم هي ومن أدلى بها عليه. انتهى.

وعلى الأولى ظاهر كلام الخرقي أن أم الأب مقدمة على أم الأم، لقوله: فإن لم تكن أم، أو تزوجت الأم فأم الأب أحق من الخالة، وصرح بذلك بعد في قوله: والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم، وخالة الأب أحق من خالة الأم؛ وهذا إحدى الروايتين، وهو أن قرابة الأب كأمه وأخته، ومن يدلي به هل تقدم على قرابة الأم كأمها وأختها ومن يدلي بها؟ على روايتين منصوصتين، (إحداهما) قرابة الأب مقدمة، كما يقوله الخرقي، وهو مقتضى قول القاضي في تعليقه، وفي جامعه الصغير، والشيرازي وابن البنا، لتقديمهم الأخت للأب على الأخت للأم، وذلك لأن التمييز له مزية في التقديم، وقرابة الأب ساوت قرابة الأم في القرب، وتميزت عنها بإدلائها بعصبة (والرواية الثانية) قرابة الأم مقدمة، وهو اختيار القاضي في روايتيه، وابن عقيل في تذكرته، لتمييز قرابة الأم بإدلائها بمن تقدم على الأب وهو الأم. وقد تضمن كلام الخرقي أن المرأة إذا تزوجت سقطت حضانتها، وهو المذهب في الجملة بلا ريب، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنت أحق به ما لم تنكحي» (وعنه) في الجارية خاصة لا تسقط حضانتها بالتزويج، نظرا لحديث ابنة حمزة، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بها لها مع كونها كانت مزوجة، وأجيب عن هذا بأنها كانت زوجة لقريب، وإنما تسقط الحضانة إذا كانت مزوجة بأجنبي، وهذه مسألة تستثنى من كلام الخرقي،

وهو أن التزويج مسقط للحضانة إلا بقريب من الطفل، وقيل: شرط القريب أن يكون جدا للطفل، ومقتضى كلام أبي محمد في المغني أن من شرطه أن يكون من أهل الحضانة، وإذًا لا يحسن منه الجواب عن الحديث، لأن جعفرا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان ابن عمها، وليس هو من أهل الحضانة، وحيث قيل: إن التزويج مسقط للحضانة فذلك بمجرده من غير دخول، على مقتضى كلام الخرقي وعامة الأصحاب، إعمالا لظاهر الحديث، ولأبي محمد احتمال أن حقها لا يسقط إلا بالدخول، نظرا إلى المعنى المقتضي لإسقاط حقها بالتزويج، وهو الاشتغال بالزوج والتخصيص به، وذلك منتف قبل الدخول، والله أعلم. قال: والأخت من الأب أحق من الأخت من الأم، وأحق به من الخالة، وخالة الأب أحق من خالة الأم. ش: قد تقدم هذا، وأن مذهب الخرقي أن قرابة الأب تقدم على قرابة الأم، فلا حاجة إلى إعادته، وتقدم أن عن أحمد رواية أخرى مشهورة بالعكس، ورواية أخرى أن الخالة أحق من أم الأب، وأن على هذه الرواية تقدم الخالة على الأخت من الأب، لتقديمها على من أدلت به. قال: وإذا أخذ الولد من الأم إذا تزوجت، ثم طلقت عادت على حقها من كفالته. ش: لا نزاع عندنا في ذلك، إذا كان الطلاق بائنا، لأن حقها

إنما زال لمعنى، وهو الاشتغال بالزوج، فإذا طلقت زال ذلك المعنى، فتعود إلى ما كانت عليه، واختلف فيما إذا كان الطلاق رجعيا، فظاهر كلام الخرقي - وهو الذي نصبه القاضي في تعليقه، وقطع به جمهور أصحابه، كالشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا وابن عقيل في التذكرة - أن حقها يعود، نظرا إلى زوال اشتغالها به، لعزلها عن فراشه، وعدم القسم لها عليه، وقال القاضي: قياس المذهب أن حقها لا يعود حتى تنقضي عدتها، بناء على أن الرجعية مباحة، فاشتغالها بالزوج لم يزل، وعلى هذا فقول الخرقي جار على قاعدته من تحريم الرجعية، وأبو محمد خرج الوجه الثاني من كون النكاح قبل الدخول مزيلا للحضانة مع عدم الشغل، والله أعلم. قال: وإذا تزوجت المرأة فلزوجها أن يمنعها من رضاع ولدها إلا أن يضطر إليها، أو يخشى عليه التلف. ش: للزوج منع المرأة من رضاع ولدها من غيره، ومن رضاع ولد غيرها بطريق الأولى، إذ عقد النكاح يقتضي تمليك الزوج الاستمتاع في كل الزمان، ما لم يضر بها، سوى أوقات الصلوات، والرضاع يفوت الاستمتاع في بعض الأوقات، فكان له المنع، كالخروج من منزله، فإن اضطر الولد إليها، بأن لا يوجد مرضعة سواها، أو لا يقبل الولد ثدي غيرها، وخشي عليه التلف، فليس للزوج المنع نظرا لحفظ النفس

المقدم على حق الزوج، وملخصه أنه يجب ارتكاب أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما، وقول الخرقي: من رضاع ولدها. ظاهر سياق كلامه أنه من غيره، وإلا كان يقول: وللزوج منع المرأة من رضاع ولدها. وفي بعض النسخ: ولدها من غيره. قال: وعلى الأب أن يسترضع لولده إلا أن تشاء الأم أن ترضعه بأجرة مثلها، فتكون أحق به من غيرها، سواء كانت في حبال الزوج أو مطلقة. ش: قد دل كلام الخرقي على مسألتين (إحداهما) أن إرضاع الولد على الأب وحده، وليس له إجبار أمه على رضاعه مطلقا، ولظاهر قوله سبحانه: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] الآية إلى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقوله سبحانه: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] ومتى اختلفا فقد تعاسرا (المسألة الثانية) أن الأم إذا شاءت أن ترضعه بأجرة مثلها كان لها ذلك، وقدمت على غيرها إذا كانت مفارقة من الزوج بلا نزاع، وكذلك إذا كانت في حباله على المشهور، وقيل: بل إذا كانت في حباله كان له منعها بأجرة وبغيرها، ومبنى الخلاف على فهم الآية الكريمة، وذلك لأن إرضاعه كنفقته، والجامع أن بنيته لا تقوم

إلا بهما، ونفقته لو كان كبيرا عليه، فكذلك إرضاعه إذا كان صغيرا، ولظاهر الآية الكريمة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] فإن الله سبحانه جعل حكمه الشرعي أن الوالدات يرضعن أولادهن، لكن هل المراد كل والدة، اعتمادا على عموم اللفظ، فتدخل فيه المطلقة وغيرها، أو المراد به الوالدات المطلقات، لذكرهن في سياق المطلقات، والسياق والسباق يخصصان؟ فيه قولان، فعلى الثاني إذا كان المراد المطلقات فالمزوجات لم تتناولهن الآية، وإذًا للزوج منعهن من الإرضاع، نظرا لحقه من الاستمتاع، كما له ذلك في ولد غيره، وقول الخرقي: بأجرة مثلها. مفهومه أنها إذا طلبت أكثر من أجرة المثل لم تكن أحق به، وهو كذلك، لطلبها ما ليس لها، فتدخل في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] نعم لو طلبت أكثر من أجرة المثل، ولم يوجد من ترضعه إلا بمثل تلك الأجرة، فقال أبو محمد: الأم أحق، لتساويهما في الأجرة، وميزة الأم، وقوله: فتكون أحق به. مقتضاه وإن وجد متبرعة برضاعه، وهو كذلك، اعتمادا على إطلاق الآية الكريمة، والله سبحانه أعلم.

باب نفقة المماليك

[باب نفقة المماليك] قال: وعلى ملاك المملوكين أن ينفقوا عليهم ويكسوهم بالمعروف. ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد دلت عليه السنة النبوية. 2893 - فعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال لقهرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته» رواه مسلم. 2894 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل ما لا يطيق» رواه أحمد ومسلم، والواجب له قدر كفايته من غالب قوت البلد وأدمه لمثله بالمعروف، وكذلك الكسوة من غالب كسوة البلد لأمثال العبد بالمعروف.

2895 - لأن في بعض روايات حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «بالمعروف» رواه الشافعي في مسنده، وسواء كان قوت سيده وكسوته مثل ذلك أو أزيد، والمستحب أن يطعمه من طعامه، ويلبسه من لباسه. 2896 - لما روى أبو ذر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هم إخوانكم وخولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه» متفق عليه. (تنبيه) القهرمان قال: وأن يزوج المملوك إذا احتاج إلى ذلك. ش: على السيد أن يزوج مملوكه إذا احتاج إلى ذلك، لقول الله سبحانه: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]

وظاهر الأمر الوجوب. 2897 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من كانت له أمة فلم يزوجها ولم يصبها، أو عبد فلم يزوجه، فما صنعا من شيء كان على السيد. ولأن النكاح مما تدعو الحاجة إليه غالبا، أو يتضرر بفواته، فأجبر عليه السيد كالنفقة وقوله: إذا احتاج إلى ذلك. يخرج به من لا حاجة له إلى ذلك، كالصغير والأمة إذا كان السيد يطؤها، وكذلك إذا سراه السيد لاندفاع حاجته. (تنبيه) : ولا يجب التزويج إلا بطلب المملوك، لأن الحق له، فلا تعلم حاجته إلا بطلبه، والله أعلم. قال: فإن امتنع أجبر على بيعه إذا طلب المملوك ذلك. ش: إذا امتنع السيد مما وجب عليه من طعام، أو كسوة أو تزويج، وطلب المملوك البيع، فإن السيد يجبر على ذلك، لأن بقاء الملك عليه مع الإخلال بما تقدم إضرار بالعبد، وإزالة الضرر واجبة شرعا، والبيع طريق لزواله، فوجب دفعا للضرر المنفي شرعا، وإنما توقف الحق على طلب العبد، لأن الحق له، فلا يستوفى بدنه طلبه، ومفهوم كلام الخرقي أن السيد إذا قام بالواجب عليه لا يجبر على البيع، وإن طلب المملوك ذلك، وقد نص أحمد عليه، إذ لا ضرر يزال، والله أعلم.

قال: وليس عليه نفقة مكاتبه إلا أن يعجز. ش: المكاتب مع سيده في أكسابه ومنافعه ونفقته ونحو ذلك كالأجنبي، فإذا عجز عاد كما كان قبل الكتابة. قال: وليس له أن يسترضع الأمة لغير ولدها إلا أن يكون فيها فضل عن ريه. ش: إذا لم يكن في الأمة فضل عن ري ولدها فليس لسيدها أن يرضعها لغيره، حذارا من إضراره، لنقصه عن كفايته، وصرف اللبن المخلوق له لغيره، وإن كان فيها فضل عن ريه جاز له أن يرضعه غيرها، لانتفاء المحذور، مع وجود المقتضي وهو الملك. قال: وإذا رهن المملوك أنفق عليه سيده. 2898 - ش: لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرهن من راهنه، له غنمه وعليه غرمه» ونفقته من الغرم، فكانت على الراهن. قال: وإذا أبق العبد فلمن جاء به إلى سيده ما أنفق عليه. ش: هذا هو المشهور، حتى إن أبا الخطاب في الهداية وأبا محمد في المقنع، وغيرهما قطعوا بذلك، وخرج أبو محمد قولا آخر أنه لا يرجع، بناء على رواية النفقة على الرهن والوديعة، والجمال إذا هرب الجمال، ونحو ذلك، وكذلك أبو البركات برد الآبق، مع جملة هذه المسائل، وذكر الخلاف، إلا أنه قيد ذلك بما إذا نوى الرجوع، وتعذر استئذان المالك، وبعض الأصحاب لا يشترط تعذر الاستئذان، وقد يفرق بين الآبق وغيره أن الآبق يخشى ضرره،

كتاب الجراح

لاحتمال لحوقه بدار الحرب، وارتداده، وهذا المعنى غير موجود في غيره، والله سبحانه وتعالى أعلم. [كتاب الجراح] ش: الجراح جمع جراحة، بمعنى الجرح بفتح الجيم، مصدر جرحه يجرحه جرحا، والاسم الجرح بضم الجيم، وذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الجراح وإن كان القتل يوجد بغيره لغلبة وقوع القتل به بخلاف غيره. [أنواع القتل] قال: والقتل على ثلاثة أوجه: عمد، وشبه عمد، وخطأ. ش: القتل بحسب صفته يقع على ثلاثة أوجه، لأن الضارب إن قصد القتل بآلة تصلح له غالبا فهذا هو العمد، وإن قصد القتل بآلة لا تصلح للقتل غالبا فهو شبه العمد، وإن لم يقصد القتل فهو الخطأ، وبعض المتأخرين كأبي الخطاب ومن تبعه زاد قسما رابعا، وهو ما أجري مجرى الخطأ كالقتل بالسبب، وكالنائم ينقلب على إنسان ونحو ذلك، ولا نزاع أنه باعتبار الحكم الشرعي لا يزيد على ثلاثة أوجه، (عمد) وهو ما فيه القصاص أو الدية.

2899 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن فيهم الدية، فقال الله لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الآية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بمعروف يتبع الطالب بمعروف، ويؤدي إليه المطلوب بإحسان {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] فيما كتب على من كان قبلكم، رواه البخاري وغيره. 2900 - وفي الصحيحين أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدي» .

(وشبه عمد) وهو ما فيه دية مغلظة، من غير قود. 2901 - فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه، وذلك أن ينزو الشيطان بين الناس، فيكون دم في عميا، في غير ضغينة، ولا حمل سلاح» رواه أحمد وأبو داود.

(وخطأ) وهو ما فيه دية مخففة. 2902 - فعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض ذكر» رواه الخمسة.

القتل العمد وموجبه

(تنبيه) (ينزو الشيطان) أي يثب (في عميا) أي جهالة و (في غير ضغينة) أي ذنب أي يثير الشيطان فتنة بين قوم، فيقتل إنسان، ولا يعرف من قتله في غير ذنب، والله أعلم. [القتل العمد وموجبه] قال: فالعمد أن يضربه بحديدة، أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط، أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله، أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة، أو فعل به فعلا الغالب أنه يتلف. ش: لما ذكر الخرقي أن القتل يقع على ثلاثة أوجه، أراد أن

يعرف كل واحد منها، فعرف العمد بما ملخصه أن يقصد ضربه بمحدد، أو شيء الغالب أنه يتلف. فقوله: ما إذا ضربه بحديدة، أي ما إذا قصد ضربه بحديدة فجرحه، وفي معنى ذلك كل محدد من حجر أو غيره، وقوله: أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط. . . الفسطاط هنا خيمة صغيرة، وعمودها التي تقوم عليه. 2903 - وإنما شرط الخرقي في قتل العمد الزيادة على ذلك لما روى المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن امرأة ضربتها ضرتها بعمود فسطاط، فقتلتها وهي حبلى، قال: فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها، قال: فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل، ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسجع كسجع الأعراب» قال: وجعل عليهم الدية» . رواه مسلم، ولو كان القتل بذلك عمدا لأوجب فيه القود، ولم يجعل الدية على العاقلة، لأنهم لا يحملون عمدا اتفاقا. وقوله: أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله، أي في عرف الناس، ولم يقل في ظنه، لاتهامه في ذلك، (وقوله) : أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة، أي إعادة تقتل غالبا، وفي معنى ذلك إذا ضربه بخشبة صغيرة في مقتل، أو في حال ضعف قوة من مرض، أو صغر أو كبر، أو حر أو برد، ونحو ذلك،

(وقوله) : أو فعل به فعلا الغالب أنه يتلف. كأن ألقاه في ماء كثير يغرقه عادة، أو في نار لا يمكنه التخلص منها، أو في زبية أسد، أو من شاهق، أو أنهشه كلبا أو سبعا أو حية، أو ألسعه عقربا من القواتل، أو سحره بما يقتل غالبا، أو أطعمه طعاما بسم يقتل مثله غالبا، ونحو ذلك. (تنبيه) قال ابن الأثير: الفسطاط الخيمة الكبيرة، ولعله يريد باعتبار عرف زمانه، وإن أراد أنه في اللغة كذلك، فهو محمول على ما تقدم، لما مر من الإجماع على أن العاقلة لا تحمل العمد انتهى، وهو فارسي معرب، وفيه ست لغات، فسطاط، وفستاط، وفساط مع ضم الفاء وكسرها فيهن، (واستهل المولود) إذا بكى حين يولد، والاستهلال رفع الصوت، (ويطل) روي بالمثناة من تحت، وروي بالموحدة، فعلى الأول هو من طل دمه إذا هدر، ولم يطلب بثأره، وعلى الثاني هو فعل ماض من البطلان، (والسجع)

تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد، نحو: وهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه. والاستفهام لما يتضمنه السجع من الباطل، وكذلك جعله له كسجع الأعراب. وفي رواية: الكهان. أما السجع الخالي من الباطل فليس بمذموم، لوروده في الكتاب العزيز، وفي كلام سيدنا محمد – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نحو: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة: 28] {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29] {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13] {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] قال بعضهم: لا يقال في القرآن أسجاع، وإنما يقال فواصل، مستدلا بما تقدم، وقد يقال: إذا كان الإنكار للباطل فيه، فلا تمتنع التسمية، لعدم ورود الإنكار عليها. قال: ففيه القود. ش: أي العمد، سواء كان القتل بمحدد أو بغيره، (أما المحدد) فالقود به اتفاق في الجملة، إذا كان الجرح بسكين

ونحوها، جرحا كبيرا، أما إن كان صغيرا، كشرطة الحجام ونحوها، أو غرزة بإبرة أو شوكة، فإن كان في مقتل كالعين والفؤاد فكذلك، إذ مثل ذلك في هذا المحل يقتل غالبا، وكذلك إن كان في غير مقتل لكن بقي متألما حتى مات، لصلاحية السبب، مع أن الأصل عدم غيره، وإذا كان في غير مقتل ومات في الحال فوجهان (أحدهما) - وهو ظاهر كلام الخرقي - أن فيه القود، لأن المحدد له سراية ونفوذ، وقد عضد ذلك موته في الحال، ولهذا قيل فيه إنه لا يعتبر غلبة الظن في حصول القتل به بخلاف غيره، (والثاني) - وهو قول ابن حامد - لا قود بذلك، لأن الظاهر أن الموت ليس منه. وأما إذا كان بغيره فكذلك عندنا وعند الجمهور، ولإطلاق {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدي» ونحو ذلك. 2904 - ولخصوص ما روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فأخذ اليهودي فأقر، فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرض رأسه بالحجارة، وقال همام: بحجرين» .

متفق عليه. وللبخاري: قتلها على أوضاح لها. ولا يقال: قتله لنقض العهد، لأنه إذا كان يقتله بالسيف، ولما قتله بالرض بالحجارة دل على إرادة المماثلة، المدلول عليها بقوله سبحانه؛ {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . 2905 - وما روي من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا وإن في قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل» فمحمول على حجر

القتل شبه العمد وموجبه

شبيه بالسوط والعصا وهو الصغير، جمعا بين الأدلة. (تنبيه) : «إما أن يقتل، وإما أن يفدي» أي يأخذ الدية، (والرض) دق الشيء بين حجرين، وما جرى مجراهما (والأوضاح) واحدها وضح، الحلي من النقرة. قال: إذا اجتمع عليه الأولياء، وكان المقتول حرا مسلما. ش: أي شرط وجوب القود في العمد اجتماع جميع الأولياء على الاستيفاء، فلو عفا بعضهم سقط القصاص، لعدم تبعيضه، وكذلك إذا كان بعضهم صغيرا أو مجنونا أو غائبا، فإن استيفاءه يتوقف على قدوم الغائب أو توكيله، وحصول التكليف، وسيأتي بيان ذلك بأبسط من هذا إن شاء الله تعالى وشرطه أيضا أن يكون المقتول حرا مسلما، وهذا من حيث الجملة، وتمامه يأتي إن شاء الله تعالى. [القتل شبه العمد وموجبه] قال: وشبه العمد أن يضربه بخشبة صغيرة، أو حجر صغير، أو لكزة أو فعل به فعلا الأغلب من ذلك الفعل أن لا يقتل.

ش: شبه العمد أن يقصد القتل بآلة لا تصلح للقتل غالبا ولم يجرحه، كما مثل الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكما إذا نخزه بشيء لا يقتل غالبا، أو ألقاه في ماء لا يغرقه مثله غالبا، ويسمى ذلك شبه العمد، لأنه جمع عمدا لقصده الجناية، وخطأ لعدم صلاحية الآلة لذلك، وسمي أيضا عمد الخطأ، وخطأ العمد لذلك. (تنبيه) اللكز الضرب بجمع الكف في أي موضع كان من جسده، وعن أبي عبيدة: الضرب بالجمع على الصدر. قال: فلا قود في هذا. ش: لحديث عمرو بن شعيب المتقدم «عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد، ولا يقتل صاحبه» وحديث: «ألا وإن في قتل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل» . قال: والدية على عاقلته. ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، لحديث المغيرة بن شعبة في التي قتلت ضرتها بعمود الفسطاط (والرواية الثانية) وهي اختيار أبي بكر: تجب الدية على الجاني. 2906 - لعموم «لا يجني جان إلا على نفسه» ، ولا يخفى ضعف

القتل الخطأ وموجبه

هذا، إذ الخاص يقضي على العام، فعلى الأول تجب مؤجلة على العاقلة بلا ريب، وعلى الثاني هل تجب على القاتل مؤجلة أو حالة؟ على قولين لأبي بكر. [القتل الخطأ وموجبه] قال: والخطأ على ضربين، أحدهما أن يرمي الصيد، أو يفعل ما يجوز له فعله، فيئول إلى إتلاف حر، مسلما كان أو كافرا. ش: لما فرغ من تعريف العمد وشبهه، أشار إلى تعريف الخطأ، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك، وهو على ضربين، خطأ في الفعل وهو الذي ذكره الخرقي، ولا ريب أن الخطأ واضح فيه، وقد قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن القتل الخطأ أن يرمي الرامي شيئا فيصيب غيره، لا أعلمهم يختلفون فيه. وقوله: مسلما كان أو كافرا. تنبيه على أنه لا فرق في ذلك بين المسلم والكافر، كما دل عليه قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] الآية، ولا بد من تقييد الكافر بأن يكون له عهد، كما في الآية الكريمة، وقوله: أو يفعل ما يجوز له فعله. مفهومه أنه إذا فعل ما ليس له فعله، كأن يقصد رمي آدمي معصوم، أو بهيمة

محترمة، فيصيب غيره، أن الحكم ليس كذلك، فيكون عمدا، وهو منصوص أحمد في رواية الحسن بن محمد بن الحارث، على ما ذكره القاضي في روايتيه، وخرجه أبو محمد على قول أبي بكر فيمن رمى نصرانيا، فلم يقع به السهم حتى أسلم أنه عمد، يجب به القصاص، والذي أورده في المغني مذهبا أن هذا أيضا خطأ، إناطة بعدم قصد من قتل، وهو مقتضى قول المجد، قال: أن يرمي صيدا أو هدفا أو شخصا، فيصيب إنسانا لم يقصده. قال: فتكون الدية على العاقلة، وعليه عتق رقبة مؤمنة. ش: الخطأ لا قود فيه اتفاقا، كما أشعر به قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] الآية، ولأن شبه العمد إذا لم يجب القود فيه كما تقدم، ففي الخطأ أولى، وتجب الدية فيه على العاقلة اتفاقا حكاه ابن المنذر، وقياسا على شبه العمد، وقد ثبت بالنص، وعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة، لعموم «لا يجني جان إلا على نفسه» مع {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] . (تنبيه) : تقدير الآية الكريمة والله أعلم: فالواجب تحرير رقبة

مؤمنة، ودية مسلمة إلى أهله، ومن يتعلق به الواجب ليس في الآية ما يدل عليه، ولا يصح أن يقدر (فعليه تحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) لأن الدية ليست عليه، نعم إن قيل: الدية عليه، وأن العاقلة تحملها عنه، صح ذلك، لكن المعروف خلافه. قال: والوجه الآخر أن يقتل في بلاد الروم من عنده أنه كافر، ويكون قد أسلم وكتم إسلامه، إلى أن يقدر على التخلص إلى بلاد الإسلام، فيكون على قاتله عتق رقبة مؤمنة بلا دية؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] . ش: هذا الضرب الثاني من ضربي الخطأ، وهو الخطأ في القصد، ولا نزاع في كون هذا ونحوه خطأ، ولا نزاع أيضا في وجوب الرقبة على القاتل، للآية الكريمة، ووقع النزاع في الدية، والمشهور عن إمامنا، ومختار عامة أصحابنا - الخرقي، والقاضي، والشيرازي، وابن البنا، وأبي محمد وغيرهم - عدم وجوبها مطلقا، لما أشار إليه الخرقي، وهو أن الله سبحانه ذكر (أولا) قتل المؤمن خطأ، وأن فيه الكفارة والدية، ثم ذكر (ثانيا) إذا كان من قوم عدو لنا وهو مؤمن، وأن فيه الكفارة، ولم يذكر الدية، ثم ذكر (ثالثا) إذا كان من قوم بيننا وبينهم ميثاق، أن فيه الكفارة والدية، فظاهر الآية الكريمة أن القسم الثاني لا دية فيه (وعن أحمد) رواية أخرى تجب الدية على العاقلة، ودليلها يظهر من الكلام على الآية

الكريمة، وذلك أن (من) في قوله {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء: 92] يحتمل أن تكون لبيان الجنس، فيكون ظاهر الآية الكريمة عدم وجوب الدية فيمن تقدم ذكره، كما ذكره الخرقي، ويلحق به من أسلم ودخل دار الحرب، للاشتراك في أنه قصد قتل حربي، وإنما لم تجب الدية والحال هذه والله أعلم لأن الشارع له حرص عظيم على قتل أهل الحرب من غير تثبت، إذا بلغتهم الدعوة، فلو أوجبنا الدية في هذه الحال، ربما توقف فيمن يقتله منهم، ويحتمل - وهو الذي قدمه البغوي أن تكون (من) ظرفية، كقوله سبحانه؛ {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] {مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ} [فاطر: 40] فإذًا معنى الآية: فإن كان في قوم عدو لكم وهو مؤمن، وهذا يشمل ما قاله الخرقي، وما إذا تترس الكفار بمسلم، وخيف على المسلمين إن لم يرموا فرماهم فأصاب المسلم، وهذا رواية ثالثة لإمامنا، وللمفسرين قول آخر، وهو الذي قطع به الزجاج، والزمخشري، أن المعنى في الآية الكريمة أن يسلم الرجل في قومه الكفار، وهو بين أظهرهم فيقتل، ولا دية لأهله لأنهم كفار محاربون، فلا يستحقون الدية، فانتفاء الدية كان لعدم

مستحقها، لا لعدم قبول المحل لها، ولهذا أوجب الله سبحانه وتعالى بعد في من بيننا وبينهم ميثاق الدية، لوجود مستحقها، (ومن) أيضا على هذا القول لبيان الجنس وروايتنا الثانية تتوجه على هذا القول. 2907 - ويؤيد ذلك ما روى محمود بن لبيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «اختلفت سيوف المسلمين على اليمان أبي حذيفة يوم أحد، وهم لا يعرفونه فقتلوه، فأراد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يديه، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين» . رواه أحمد، وفي لفظ رواه الشافعي قال: «فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بديته» . 2908 - وأيضا عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل خطأ فديته مائة من الإبل» مختصر، رواه الخمسة إلا الترمذي.

المماثلة بين القاتل والمقتول من شروط القصاص

[المماثلة بين القاتل والمقتول من شروط القصاص] قال: ولا يقتل مسلم بكافر. 2909 - ش: لما روى أبو جحيفة قال: قلت لعلي: يا أمير المؤمنين هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما علمته، إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: فيها العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مؤمن بكافر. رواه أحمد والبخاري، والنسائي والترمذي. 2910 - وعن قيس بن عباد قال: «انطلقت أنا والأشتر إلى علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقلنا له: هل عهد إليك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - – شيئا لم يعهده إلى الناس عامة؟ قال: لا إلا ما في هذا، وأخرج كتابا من قراب سيفه، فإذا فيه: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثا فعلى نفسه، ومن أحدث حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة، والناس أجمعين» رواه أحمد وأبو داود والنسائي، قال بعض الحفاظ: رجاله رجال الصحيحين.

2911 - ولأبي داود وأحمد عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحوه، وهذا نحوه يخص {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} [الإسراء: 33] . 2912 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «العمد قود، من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتله، وإن أحبوا الدية» على أن {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] إنما ورد - والله أعلم - في المسلمين، بدليل {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178]

فخاطب المسلمين، ثم قال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] والكافر ليس بأخ للمسلم {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة: 45] شرع من قبلنا ولا نسلم أنه شرع لنا، ولو سلم فقد ورد شرعنا بخلافه، ثم قد قيل: إن فيها ما يدل على إرادة المسلمين، وهو قوله سبحانه: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] ولا كفارة للكافر ولا صدقة. 2913 - وما روى ابن البيلماني «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقاد مسلما بذمي، وقال: «أنا أحق من وفى بذمته» رواه الدارقطني. مردود (أولا) بضعفه، فإن أحمد قال في رواية الميموني: ليس له إسناد. وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه: الحق فيمن ذهب إلى حديث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مؤمن بكافر» وإن احتج بحديث البيلماني محتج فهو عندي مخطئ، وإن حكم به حاكم ثم رفع إلى آخر رده، وهذا مبالغة في ضعف الحديث، وأن مثله لا يسوغ معه الاجتهاد، وقال الدارقطني: ابن البيلماني ضعيف، لا تقوم به حجة (وثانيا) بأنه حكاية

فعل لا عموم له، فيحمل إن صح على أنه قتله وهو كافر ثم أسلم. واعترض على دليلنا بأن قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» لا بد فيه من تقدير، وإلا يلزم أن ذا العهد لا يقتل في عهده مطلقا، إذ يقتل بالذمي والمعاهد، والتقدير: ولا ذو عهد في عهده بحربي والقيد في المعطوف قيد في المعطوف عليه، وأجيب (أولا) بالمنع، وأن العطف إنما يقتضي التشريك في أصل الحكم، لا في توابعه، والعطف في أنه لا يقتل، من غير نظر إلى تعيين من يقتل به، كما تقول: مررت بزيد قائما وعمرو، أي ومررت بعمرو، ولا يلزم أن يكون قائما (وثانيا) أنه ليس المراد والله أعلم أنه لا يقتل إذا قتل، بل (في) (إما ظرفية) كما هو الأصل فيها، أي ولا ذو عهد ما دام باقيا في عهده، نبه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن العهد لا يقتضي العصمة مطلقا، كما في الذمة، بل في زمن العهد خاصة، (أو سببية) . 2914 - كما في الصحيح «أن امرأة دخلت النار في هرة» . أي ولا ذو عهد بسبب عهده، نبه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك على أن العهد سبب لعصمة الدم، وناسب ذكر ذلك هنا، لئلا يتوهم من عدم قتل المسلم بالكافر التساهل في قتل الكافر، فبين – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه وإن لم

يقتل المسلم بالكافر، لكن لا يقتل المعاهد، ما دام له عهد. انتهى. وقول الخرقي: ولا يقتل مسلم بكافر. يستثنى منه صورتان (إحداهما) إذا قتله أو جرحه وهو كافر ثم أسلم، فإنه يقتل به على المنصوص، نظرا لابتداء الحال، وفيه احتمال، اعتمادا على إطلاق الحديث (والصورة الثانية) إذا قتله في المحاربة، على إحدى الروايتين، ومفهوم كلامه أن المسلم يقتل بالمسلم، والكافر بالكافر، وهو كذلك في الجملة، إذ لا بد من عصمة المقتول. (تنبيه) : «فلق الحبة» هو شقها للإنبات، «وبرأ النسمة» البرء الخلق، والنسمة كل ذي روح، «والتكافؤ» التماثل والتساوي، أي أنهم متساوون في القصاص والدية، لا فضل لشريف على وضيع، ولا كبير على صغير، ونحو ذلك، «وهم يد على من سواهم» أي أنهم مجتمعون يدا واحدة على غيرهم، من أرباب الملك فلا يسع أحدا منهم أن يتقاعد عن نصرة أخيه المسلم، «ويسعى بذمتهم أدناهم» أي أدنى

المسلمين إذا أعطى أمانا، فعلى الباقين موافقته، وأن لا ينقضوا عهده «وأحدث حدثا» الحدث الأمر الحادث، والمراد هنا الجناية والجرم، «وآوى محدثا» آواه ضمه إليه وحماه، والمحدث الذي يجني الجناية. قال: ولا حر بعبد. ش: لمفهوم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] . 2915 - ولما روى الدارقطني بإسناده عن إسماعيل بن عياش، عن الأوزاعي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، «أن رجلا قتل عبده متعمدا، فجلده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونفاه سنة، ومحا اسمه من المسلمين، ولم يقده به، وأمره أن يعتق رقبة» . وإسماعيل بن عياش حجة في الشاميين على الصحيح.

2916 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «السنة أن لا يقتل حر بعبد» . رواه أحمد، وهو منصرف إلى سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 2917 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقتل حر بعبد» رواه الدارقطني. 2918 - وروى أيضا عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن أبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كانا لا يقتلان الحر بالعبد، ولأن القصاص لا يجري بينهما في الأطراف، فكذلك في النفس، كالأب مع ابنه، وبهذا يتخصص (النفس بالنفس) «العمد قود» «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ونحوه. 2919 - وما في السنن من حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل عبده قتلناه، ومن جدع عبده جدعناه» وفي رواية:

«ومن خصى عبده خصيناه» محمول على من قتل من كان عبده، أراد – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والله أعلم أن يبين أن إنعامه بالعتق لا يمنع القصاص، جمعا بين الأدلة ولأن في الحديث: «ومن جدع عبده جدعناه» وقد نقل الإجماع أن ذلك لا يجب. وعموم كلام الخرقي يقتضي أن الحر لا يقتل بالعبد، وإن كان الحر ذميا، وهو كذلك كما سيأتي، ويستثنى من عموم كلامه إذا قتله أو جرحه وهو رقيق، ثم أعتق، وإذا قتله في المحاربة على رواية، ومفهوم كلامه أن الحر يقتل بالحر، وهو كذلك بلا ريب، وأن العبد يقتل بالعبد، وهو المذهب بلا ريب، لعموم قوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] ، وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ونقل (عنه) جماعة القصاص بينهم إذا استوت قيمتهم، مراعاة لجانب المالية، مع إعمال القصاص في الجملة، قال في المغني: وينبغي أن يختص هذا بما إذا كانت قيمة القاتل أكثر يعني انتفاء القصاص، وكذلك ذكر أبو البركات

الرواية، ويستثنى من عموم المفهوم المكاتب لا يقتل بعبده. قال: وإذا قتل الكافر العبد عمدا فعليه قيمته، ويقتل لنقض العهد. ش: أي أن الكافر لا يقتل بالعبد المسلم، لما تقدم من أن الحر لا يقتل بالعبد، وهو يشمل المسلم والكافر، وإذا انتفى القصاص وجبت الدية، ودية العبد قيمته كما سيأتي، ويقتل الكافر لنقضه العهد، إذ مما ينتقض به عهد الكافر قتل المسلم، هذا هو المذهب المنصوص. 2920 - لما روي أن ذميا كان يسوق حمارا بامرأة مسلمة، فنخسه فرماها، ثم أراد إكراهها على الزنا، فرفع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال: ما على هذا صالحناهم، فقتله وصلبه. 2921 - وروي في شروط عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى عبد الرحمن بن غنم أن ألحق بالشروط: من ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده. وقيل (عنه رواية أخرى) لا ينتقض العهد بذلك،

جناية الصبي والمجنون والسكران

مخرجة مما إذا قذف مسلما، قال أبو البركات: والأصح التفرقة، وعلى هذه الرواية يؤدب بما يراه ولي الأمر. [جناية الصبي والمجنون والسكران] قال: والطفل والزائل العقل لا يقتلان بأحد. ش: لعدم جريان قلم التكليف عليهما، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ» . 2922 - وقد روى الإمام مالك في موطئه عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أن مروان كتب إلى معاوية بن أبي سفيان أنه أتي إليه بمجنون قد قتل رجلا، فكتب إليه معاوية بن أبي سفيان أن اعقله ولا تقد منه، فإنه ليس على مجنون قود، وقد شمل كلام الخرقي السكران، ومن شرب البنج ونحوه، وقد تقدم الكلام على ذلك في الطلاق. 2923 - وفي الموطأ أن مالكا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بلغه أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية أنه أتي بسكران قد قتل فكتب إليه أن اقتله. [القصاص بين الوالد وولده] قال: ولا يقتل والد بولده. 2924 - ش: لما روى حجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:

«سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يقاد الوالد بالولد» رواه أحمد وابن ماجه، والترمذي وهذا لفظه، وقال: وقد روي عن عمرو بن شعيب مرسلا، وروى البيهقي نحوه من رواية ابن عجلان عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وصحح إسناده، وقال ابن عبد البر: هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، يستغنى بشهرته وقبوله والعمل به عن الإسناد فيه. 2925 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقتل الوالد بالولد» . 2926 - وعن سراقة بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: حضرت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقيد الأب من ابنه، ولا يقيد الابن من أبيه رواهما الترمذي، وفي الصحيح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «أنت ومالك

لأبيك» وهذه الإضافة إن لم تثبت حقيقة الملكية فهي شبهة تدرأ القصاص، ولأن الأب سبب إيجاده، فلا يناسب أن يكون الابن سببا في إعدامه. قال: وإن سفل. ش: لا يقتل والد بولده وإن سفل الولد، لأنه ولد، ومن علا والد، فيدخل فيما تقدم، قال سبحانه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] دخل فيه ولد الولد، وقال سبحانه: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . قال: والأم والأب في ذلك سواء. ش: لأنها أحق بالبر من الأب. 2927 - بدليل ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رجل: يا رسول الله، أي الناس أحق مني بحسن الصحبة؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» قال: ثم من؟ قال: «أمك» متفق عليه، ولمسلم في رواية: من أبر. وإذا كانت أحق بالبر اندرأ عنها القصاص

بطريق الأولى، وحكى أبو بكر وأبو محمد عن أحمد قولا بوجوب القصاص على الأم لا الأب، وأخذه أبو بكر من رواية حرب في امرأة قتلت ولدها، قال أحمد: أما الرجل إذا قتل ولده فقد بلغنا أنه لا يقتل، ولم يبلغنا في المرأة شيء، ومنع ذلك القاضي، وقال: هذا نقل للتوقف، لا لوجوب القصاص، فالأم لا تقتل رواية واحدة، وأخذه أبو محمد من قول أحمد في رواية مهنا في أم ولد قتلت سيدها عمدا: تقتل. قال: من يقتلها؟ قال: ولدها. وهذا إنما يدل على أن القصاص لا يسقط بانتقاله إلى الولد، لا أن القصاص يجب بقتل الولد، ولذلك حكى أبو البركات الرواية، ولم يلتفت إلى حكايتها في وجوب القود بقتل الولد. قال: ويقتل الولد بقتل كل واحد منهما. ش: هذا المشهور، والمختار للأصحاب، من الروايتين، لظواهر الآي، والأخبار السالمة عن معارض، ولحديث سراقة المتقدم، ولأنه إذا قتل بالأجنبي فبهما أولى، لعظم حرمتهما، ونقل حنبل: لا يقتل ولد بوالده، ونحوه نقل مهنا، لأنه لا تقبل شهادته له بحق النسب، فلم يقتل به كالأب مع ابنه. (تنبيه) : اختلف في الجد من قبل الأم يقتل ابن ابنته، وابن البنت يقتل جده لأمه، هل حكم ذلك حكم الجد من قبل

قتل الجماعة بالواحد

الأب، وحكم الابن من الصلب، أو لا، فيجري القصاص بينهما بلا ريب؟ على وجهين، وكلام الخرقي محتمل. [قتل الجماعة بالواحد] قال: وتقتل الجماعة بالواحد. ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار من الروايتين. 2928 - لما في الموطأ عن سعيد بن المسيب، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل قتلوه قتل غيلة، وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا. وفي البخاري نحوه. 2929 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قتل ثلاثة برجل، ولأن فيه سدا للذريعة، وحسما للمادة، وتحقيقا لحكمة الردع والزجر التي فيها حياتنا، ونقل حنبل: لا تقتل الجماعة بواحد، فذكر له حديث عمر فقال: ذلك في أول الإسلام، وفي لفظ عنه: هذا تغليظ من عمر. وحسن هذا ابن عقيل في فصوله. وذلك لظاهر قول الله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] . 2930 - ويروى عن معاذ أنه خالف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال: لا

تؤخذ نفسان بنفس. واختلف عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فعلى هذا الواجب دية واحدة بين القاتلين، وعلى الأولى هل تجب عليهم دية لأنها بدل ما أتلفوه، وفارق القصاص، لأنه إنما وجب سدا للذريعة، أو ديات، وهو الذي ذكره أبو بكر، وصححه الشيرازي، إذ كل واحد كالمنفرد بالقتل، بدليل ما لو عفا عن بعضهم، لم يتجاوزه العفو. (تنبيه) : شرط قتل الجماعة بالواحد أن يكون فعل كل واحد منهم صالحا للقتل به، «والغيلة» بكسر الغين القتل خديعة ومكرا، من غير أن يعلم أنه يراد بذلك. قال: وإذا قطعوا يدًا قطعت نظيرتها من كل واحد منهم. ش: لما ذكر أن الجماعة تقتل بالواحد، ذكر أيضا أن الأطراف يؤخذ منها الطرف الواحد بأكثر منه، وهذا هو المذهب، وذلك لما تقدم من سد للذريعة، ولأنه أحد نوعي القصاص، فأخذ فيه الجماعة بالواحد كالأنفس. 2931 - وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن شاهدين شهدا عنده بالسرقة، فقطع يده، ثم جاءا بآخر فقالا: هذا هو السارق، وأخطأنا في الأول، فرد شهادتهما على الثاني، وغرمهما دية الأول، وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما. رواه

اشتراك الأب وغيره في القتل العمد

الأثرم بسنده عن الشعبي، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وذكره الإمام أحمد في رواية الميموني (وعن أحمد) رواية أخرى لا تقطع الأطراف بطرف واحد، كما لا تقتل الجماعة بالواحد بل أولى، إذ النفس أشرف من الطرف، فلا يلزم من المحافظة عليها بأخذ الجماعة بالواحد المحافظة على ما دونها. وقول الخرقي: قطعت نظيرتها، أي إذا كانت يمينا قطعنا من كل واحد منهم اليمين، وكذلك إذا كانت يسارا قطعنا من كل واحد اليسار، ولا تؤخذ يسار بيمين، ولا يمين بيسار، لعدم المماثلة المعتبرة شرعا، وشرط وجوب القصاص على الجماعة في الطرف أن يشتركوا في ذهابه، على وجه لا يتميز فعل أحدهم من فعل صاحبه، كأن يشهدوا عليه بما يوجب قطع طرفه، ثم يرجعوا ويقولوا تعمدنا ذلك، أو يكرهوا إنسانا على قطع طرف فيقطعون مع المكره، أو يلقوا صخرة على إنسان فتقطع طرفه، أو يضعوا حديدة على مفصل، ويتحاملوا جميعا حتى تبين العضو، ونحو ذلك، فإن قطع كل واحد من جانب لم يجب القصاص، لأن كل واحد منهم لم يقطع اليد، ولم يشارك في قطع جميعها. [اشتراك الأب وغيره في القتل العمد] قال: وإذا قتل الأب وغيره عمدا قتل من سوى الأب. ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمقطوع به عند عامة الأصحاب، لأن القتل تمحض عمدا عدوانا، وإنما سقط عن

اشترك الصبي والمجنون والبالغ في القتل

الأب لمعنى قام به، فلا يتعدى إلى غيره، ولأن هذا القتل أعظم إثما وأكبر جرما. 2932 - «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سئل عن أعظم الذنب قال: «أن تجعل لله ندا وهو خلقك، ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» فإذا وجب القصاص في غير هذا القتل ففيه بطريق الأولى والأحرى، وسقوطه عن الأب لما تقدم، لا لقصور في السبب المقتضي، (والرواية الثانية) لا يجب القصاص على غير الأب، كما لم يجب على الأب، إذ الزهوق وجد منهما، فلم يتمحض القتل موجبا للقصاص، وهذا ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه، قال: إذا اجتمع في القود من يقاد ومن لا يقاد فلا قود. [اشترك الصبي والمجنون والبالغ في القتل] قال: وإذا اشترك في القتل صبي ومجنون وبالغ، لم يقتل واحد منهم. ش: هذا أيضا هو المشهور من الروايتين، والمختار لجمهور الأصحاب، إذ عمد الصبي والمجنون في حكم الخطأ، لعدم اعتبار قصدهما شرعا، وإذًا القتل لم يتمحض عمدا عدوانا، فلم يوجب القصاص، كما لو كانا خاطئين وكقتل شبه العمد، (ونقل ابن منصور عن أحمد) القصاص على البالغ دونهما، وهو اختيار أبي بكر فيما حكاه القاضي، وظاهر ما في التنبيه على ما تقدم انتفاء القود، لأن فعله لو

انفرد لأوجب فكذلك إذا وجد مع غيره إذ السقوط عن الغير لمعنى اختص به. قال: وكان على العاقل ثلث الدية في ماله، وعلى عاقلة كل واحد من الصبي والمجنون ثلث الدية، وعتق رقبتين في أموالهما، لأن عمدهما خطأ. ش: أما وجوب الدية عليهم أثلاثا فلأن ذهاب النفس حصل من فعلهم، والنفس فيها دية، وهم ثلاثة، فكانت الدية عليهم أثلاثا، ولأن الدية بدل المحل المتلف، بدليل اختلافها باختلافه، والمحل واحد، فديته واحدة، وكذلك الحكم في المسألة السابقة، إذا عدل الولي إلى طلب المال، يجب على شريك الأب بقسطه، كذا ذكره الشيخان، وقد يقال: يجب على شريك الأب جميع الدية، بناء على المذهب، من أنه يقتل، وعلى رواية أن الجماعة إذا قتلوا واحدا وجبت عليهم ديات، انتهى. وأما كون ما يلزم العاقل يكون في ماله، فلأن فعله عمد، والعاقلة لا تحمل عمدا، وأما كون ما يلزم الصبي والمجنون يكون على عاقلتهما، فلأن فعلهما في حكم الخطأ، والخطأ والحال هذه تحمله العاقلة، فكذلك ما في حكمه. وقد شمل كلام الخرقي الصبي العاقل وغيره، وهو كذلك على المشهور (وعن أحمد) رواية أخرى في الصبي العاقل أن

القصاص بين الذكر والأنثى

عمده في ماله، نظرا إلى أن له قصدا صحيحا في الجملة، بدليل صحة صلاته، ونحو ذلك، وسقوط القصاص عنه كان لعدم جريان القلم الخطابي عليه، انتظار تكامل عقله. وأما كون على الصبي والمجنون عتق رقبتين في أموالهما، فلأن الله سبحانه جعل في قتل الخطأ الدية والكفارة، وهذا القتل جار مجرى الخطأ، فأعطي حكمه، وكان مقتضى قوله سبحانه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النساء: 92] مع قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» أن ذلك على الخاطئ أو من بمعناه، لكن قام الدليل أن الدية في ذلك على العاقلة فيبقى فيما عداه على مقتضى ما تقدم، وهذا أيضا هو المشهور عن أحمد، بناء على أن على كل واحد من المشتركين كفارة (وعن أحمد) رواية أخرى أن على الجميع كفارة واحدة، فعلى هذه يكون على الصبي والمجنون ثلثي رقبة، ونبه الخرقي بوجوب الكفارة على الصبي والمجنون بوجوبها على البالغ، وقوله: لأن عمدهما خطأ، تعليل لإسقاط القصاص في أصل المسألة، وفي أن ما لزمهما يكون على عاقلتهما، وفي لزوم الكفارة لهما. [القصاص بين الذكر والأنثى] قال: ويقتل الذكر بالأنثى. ش: لا نزاع في ذلك، لقوله سبحانه: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] .

2933 - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» ذكر منها: «النفس بالنفس» ولحديث اليهودي الذي قتل الجارية، فقتله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها وقد تقدم. 2934 - وفي كتاب عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، «ويقتل الذكر بالأنثى» رواه مالك والنسائي؛ وإذا قتل الذكر بالأنثى فلا شيء

لورثته على المذهب بلا ريب، اعتمادا على ظاهر الآية والحديث، ونقل إبراهيم بن هانئ عن أحمد: يقتل ويعطى ورثته نصف الدية. 2935 - وروى ذلك سعيد في سننه عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والظاهر أنه مستند أحمد. قال: والأنثى بالذكر. ش: لا خلاف في هذا أيضا لا في القصاص ولا في الدية، إذ هو أعلى منها، أشبه العبد يقتل بالحر. قال: ومن كان بينهما في النفس قصاص فهو بينهما في الجراح. ش: يعني من جرى بينهما في النفس قصاص، جرى بينهما في الجروح، قياسا للجروح على النفس، فيقتص للحر المسلم والعبد، والذمي من مثلهم، ويقتص للذكر من الأنثى، وبالعكس، ويقتص من الناقص للكامل، كالكافر بالمسلم، والعبد بالحر، ولا يقتص من مسلم لكافر، ولا من حر لعبد، ونحو ذلك كما في الأنفس سواء، ولهذه المسألة تتمة تأتي إن شاء الله تعالى.

دية العبد

قال: وإذا قتله رجلان أحدهما مخطئ، والآخر متعمد، فلا قود على واحد منهما. ش: قد تقدم هذا فيما إذا قتل بالغ وصبي ومجنون، وحكينا الخلاف، وأن المذهب ما قاله الخرقي، وكذلك الخلاف هنا والمسألة واحدة، وكان حق الخرقي أن يقدم هذه المسألة. قال: وعلى العامد نصف الدية في ماله، وعلى عاقلة المخطئ نصفها، وعليه في ماله عتق رقبة مؤمنة. ش: قد تقدم مثل هذا سواء في مسألة البالغ والصبي والمجنون، ونزيد هنا بأن ظاهر كلام الخرقي أن العامد لا كفارة عليه فيه، وسيصرح بهذه المسألة فيما بعد، والله أعلم. [دية العبد] قال: ودية العبد قيمته وإن بلغت ديات. ش: هذا هو المشهور والمختار للأصحاب، من الروايتين، نظرا للمالية، مع قطع النظر عما سواها، وبيان ذلك أنه مال متقوم، فضمن بكمال قيمته بالغة ما بلغت، كغيره من الأموال (والرواية الثانية) أنه لا يبلغ به دية الحر، نظرا للمالية والآدمية معا، وبيان ذلك أنه ضمان آدمي، فلم يزد على دية الحر كالحر، وذلك أن الله تعالى لما أوجب في الحر دية مقدرة، وهو أشرف من العبد، كان ذلك تنبيها على أن العبد لا يزاد عليها، بل ينبغي أن ينقص عنها لنقصه عنه قطعا، ولهذا الخلاف التفات إلى أن العبد هل يملك أو لا يملك إذ منشأ الخلاف أن له شبها بالبهائم وبالأحرار، والله أعلم.

باب القود

(تنبيه) : لم يقدر أحمد النقص على هذه الرواية، فينبغي أن يكتفي بما يعد في العرف نقصا، والله أعلم. [باب القود] ش: القود القصاص، والقتل يقع على ثلاثة أضرب، (واجب) وهو قتل المحارب، والزاني المحصن، والمرتد، وتارك الصلاة بشرطه، وكذلك في الدفع عن حرمته، وعن نفسه في رواية، (ومباح) وهو القتل قصاصا أو دفعا عن النفس في رواية (ومحظور) وهو القتل عمدا بغير حق، وهو من الكبائر العظام، والجرائم التي تقرب من الشرك بالله المستعان، حتى إن العلماء اختلفوا في قبول توبة من فعل ذلك، على قولين هما روايتان عن الإمام، وإن كان المشهور عنه وعن غيره قبول ذلك تفضلا من الله وإحسانا، وبسط ذلك لا يليق بهذا المكان. قال: ولو شق بطنه فأخرج حشوته فقطعها، فأبانها منه، ثم ضرب عنقه آخر فالقاتل هو الأول.

ش: الحشوة بكسر الحاء وضمها الأمعاء، فإذا قطع حشوته وأبانها منه، أو فعل به فعلا لا تبقى الحياة معه، ولا حياة مستقرة فيه، فقد صيره في حكم الميت، فيعطى حكمه، وإذًا القاتل هو الأول، ولا شيء على الثاني من قصاص أو دية نعم عليه التعزير، لارتكابه المحرم. قال: ولو شق بطنه ثم ضرب عنقه آخر، فالثاني هو القاتل، لأن الأول لا يعيش مثله، والثاني قد يعيش مثله. ش: ضابط ذلك أن يفعل به فعلا يجوز بقاء الحياة معه، ثم يقتله آخر، فالثاني هو القاتل، لأنه المفوت للنفس جزما، قال أبو محمد: وكذلك الحكم إذا لم يجز بقاؤه مع الجناية، إلا أن فيه حياة مستقرة كخرق المعى وأم الدماغ. 2936 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما جرح سقوه لبنا فخرج، فعلم أنه ميت، فقيل له: اعهد إلى الناس، فعهد إليهم، وجعل الخلافة في أهل الشورى فقبل الصحابة عهده وعملوا به. قال: وإذا قطع يديه ورجليه ثم عاد فضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه، قتل ولم تقطع يداه ولا رجلاه في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى قال: إنه لأهل أن يفعل به كما فعل. ش: الرواية الأولى هي المشهورة عن أحمد، واختيار الأكثرين الخرقي وأبي بكر، والقاضي في خلافه وفي روايتيه،

والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل والشيرازي. 2937 - لما روى عبد الله بن يزيد الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن النهبى والمثلة» ، رواه البخاري، والمثلة تشويه خلقة القتيل، كجدع أطرافه، وقطع مذاكيره، ونحو ذلك، وإذا فعل به مثل ما فعل فقد مثل به فيدخل في النهي. 2938 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» رواه ابن ماجه، إلا أن أحمد قال: ليس إسناده بجيد، ولأن القصاص أحد بدلي النفس، فدخل في حكم النفس كالدية (والرواية

الثانية) نقلها الأثرم وهي أوضح دليلا، لقول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ولحديث أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم «أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين، فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرض رأسه بالحجارة» ، متفق عليه، فرتب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرض على اعترافه. 2939 - وعنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حرق حرقناه، ومن غرق غرقناه» وهذه الأدلة أخص من حديث المثلة، قال أبو العباس - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذا أشبه بالكتاب والسنة والعدل؛ (فعلى هذه الرواية) متى اقتصر على ضرب عنقه فهو أفضل، وإن قطع ما قطعه الجاني أو بعضه، ثم عفا مجانا فله ذلك، فإن عفا إلى الدية لم يجز إذ جميع ما فعل بوليه لم يوجب إلا دية، فإن فعل فله ما بقي من الدية، فإن لم يبق شيء فلا شيء له، (وعلى الأولى) إن فعل به مثل ما فعل فقد أساء ولا شيء عليه، فإن

قطع طرفا ثم عفا إلى الدية كان له تمامها، وإن قطع ما يوجب دية ثم عفا لها لم يكن له شيء، وإن قطع ما يجب به أكثر من دية ثم عفا، فهل يلزمه ما زاد على الدية، أو لا؟ فيه احتمالان، وكذلك لو تساوى العضوان في الدية، واختلفا في المحل، كأن قطع يده فقطع الولي رجله ثم قتله، فهل يلزمه ضمان الرجل لعدم استحقاقها له بوجه، أو لا يلزمه لتساويهما في الضمان؟ فيه احتمالان أيضا. ويستثنى على هذه الرواية إذا قتله بمحرم كتجريعه الخمر، واللواط، والسحر، وفي النار خلاف. وقول الخرقي: قبل أن تندمل جراحه، احترازا مما إذا اندملت كما سيأتي، وقوله: قتل، أي بالسيف، لأنه الآلة التي يشرع القصاص بها. قال: فإن عفا عنه الولي فعليه دية واحدة. ش: لا خلاف في هذا نعلمه في المذهب، لأنه قاتل قبل استقرار الجرح، فدخل أرش الجراحة في أرش النفس، كما لو حصل ذلك بالسراية. قال: ولو كانت الجراح برأت قبل قتله، فعلى المعفو عنه ثلاث ديات، إلا أن يريدوا القود فيقيدوا ويأخذوا من ماله ديتين. ش: إذا قطع يديه ورجليه وبرأ ذلك ثم قتله، فقد استقر حكم القطع، فللولي أن يقتص من الجميع بلا نزاع، وله أن يعفو عنه ويأخذ ثلاث ديات، دية لنفسه، ودية للرجلين، ودية

لليدين، وله أن يقتص منه في النفس، ويأخذ منه دية الأطراف، وله أن يقتص منه في الأطراف ويأخذ دية النفس، وله أن يقتص في بعض الأطراف، ويأخذ دية بعضها، إذ حكم القطع استقر، فلا يتغير حكمه بالقتل بعد ذلك، والله أعلم. قال: ولو رمى حر مسلم عبدا كافرا، فلم يقع به السهم حتى أسلم وعتق، فلا قود وعليه دية حر مسلم إذا مات من الرمية. ش: لا نزاع في وجوب دية حر مسلم إذا مات من الرمية، لأن الإتلاف حصل لنفس حر مسلم، واختلف في وجوب القود، فنفاه الخرقي، وتبعه القاضي، وابن حامد، فيما حكاه تلميذه، إذ الرمي جزء من الجناية، ولا ريب في انتفاء المكافأة حال الرمي، وإذا عدمت المكافأة في بعض الجناية، عدمت في كلها، إذ الكل ينتفي بانتفاء بعضه. وأثبته أبو بكر، وابن حامد فيما حكاه ابن عقيل في التذكرة، وهو ظاهر كلام أحمد، لقوله في رجل أرسل سهما على زيد، فأصاب عمرا: هو عمد، عليه القود؛ فاعتبر الحظر في ابتداء

الرمي، وذلك لأنه قتل مكافئا له ظلما عمدا، فوجب القصاص، كما لو كان حال الرمي كذلك، يحققه لو رمى مسلما فلم يصبه السهم حتى ارتد ومات، فإنه لا قصاص عليه، وملخص ما تقدم أن سبب السبب - وهو الرمي - هل حكمه حكم السبب الذي هو الإصابة أم لا؟ يخرج على قولين، ولهذا شبه بما إذا تعددت الأسباب كما يذكر في مسألة التجاذب، هل يناط الحكم بالجميع أو بآخرها؟ على قولين، فترتب الحكم على الجميع شبه قول أبي بكر، وتعلق الحكم بالآخر، وهو المشهور، شبه قول الخرقي. قال: وإذا قتل رجل اثنين، واحدا بعد واحد، فاتفق أولياء الجميع على القود، أقيد لهما، وكذلك إن أراد أولياء الأول القود، والثاني الدية أقيد للأول، وأعطي أولياء الثاني الدية من ماله، وكذلك إن أراد أولياء الأول الدية، والثاني القود. ش: إذا قتل واحد جماعة فرضي أولياؤهم بأخذه بجميعهم، أخذ بهم، لرضاهم بدون حقهم، أشبه ما لو رضي صاحب اليد الصحيحة بالشلاء، وإن طلب أحدهم القصاص، والآخر الدية، فلهم ذلك، سواء كان من رضي بالقود حقه متقدما أو متأخرا.

شروط القصاص في الجراح

2940 - لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» وإن تشاحوا فيمن يقتص منه منهم على الكمال، فإن كانت حقوقهم تعلقت به في حال واحدة، قدم أحدهم بالقرعة، وإن اختلف وقت التعلق فهل يقدم أحدهم بالقرعة، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا لتساوي حقوقهم بالنسبة إلى البدل والمال، أو أسبقهم، لتميزه بالسبق، وبه جزم أبو محمد؟ فيه وجهان. [شروط القصاص في الجراح] قال: وإذا جرحه جرحا يمكن الاقتصاص منه بلا حيف اقتص منه. ش: الأصل في جريان القصاص في الجروح في الجملة الإجماع، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] . 2941 - وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن الربيع عمته كسرت ثنية جارية، فطلبوا إليها العفو، فأبوا، فعرضوا الأرش فأبوا، فأتوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبوا إلا القصاص، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقصاص، فقال أنس بن النضر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أتكسر ثنية الربيع، والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أنس كتاب الله القصاص» فرضي القوم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره» رواه البخاري، وفي رواية مسلم أن أخت الربيع جرحت إنسانا، وأن السائل أم الربيع، ولعلهما واقعتان. إذا تقرر هذا فيشترط لجريان القصاص في الجروح ثلاثة

شروط (أحدها) إمكان القصاص من غير حيف، ككل جرح ينتهي إلى عظم، كما في الموضحة، لقول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ثم قال سبحانه وتعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 194] أي إذا اقتصصتم، وقال سبحانه: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فأباح لنا سبحانه أن نفعل مثل ما فعل بنا، فإذا لم يمكن الاستيفاء إلا بحيف لم نفعل مثل ما فعل بنا، بل زدنا عليه، فلم نتق الله، كما في الجناية المبتدأة (الشرط الثاني) أن يكون الجارح ممن يؤخذ بالمجروح لو قتله، وذلك بأن يجرحه عمدا محضا، فلا قصاص في الخطأ إجماعا، وكذلك في شبه العمد على المذهب كالأنفس، كما لو ضربه بحصاة لا يوضح مثلها، فأوضحت، وخالف أبو بكر وتبعه الشيرازي، فأوجب القصاص في الجروح في شبه العمد، كأن يضربه بشيء لا يقطع الطرف فيتلفه، لعموم (والجروح قصاص) وهو منتقض بالخطأ، وله أن يجيب بأنه خرج بالإجماع، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم (الشرط الثالث) التكافؤ بين الجارح والمجروح، كما تقدم في قول الخرقي: ومن كان بينهما في النفس قصاص، فهو بينهما في الجراح. ومقتضى كلام الشيخ أبي محمد أن قول الخرقي: ومن كان بينهما قصاص في النفس، فهو بينهما في الجراح. وقوله بعد: إذا كان الجاني

ممن يقاد من المجني عليه لو قتله؛ معناهما واحد، وقد يحمل أحدهما على التكافؤ، والآخر على اشتراط العمدية، دفعا للتكرار، وحذارا من فوات شرط. واعلم أن ظاهر كلام ابن حمدان في الرعاية الصغرى - تبعا لأبي محمد في المقنع - أن المشترط لوجوب القصاص أمن الحيف، وهو أخص من إمكان الاستيفاء بلا حيف، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما اشترط إمكان الاستيفاء، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني، وأبو البركات، وجعل أبو البركات أمن الحيف شرطا لجواز الاستيفاء وهو التحقيق، وعليه لو أقدم واستوفى ولم يتعد وقع الموقع فلا شيء عليه، وكذا صرح أبو البركات، وعلى مقتضى قول ابن حمدان، وما في المقنع، يكون جناية مبتدأة، يترتب عليها مقتضاها. قال: وكذلك إن قطع منه طرفا من مفصل، قطع منه مثل ذلك المفصل، إذا كان الجاني ممن يقاد من المجني عليه لو قتله. ش: لا نزاع في جريان القصاص في الأطراف، وقد دل عليه قَوْله تَعَالَى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] إلى آخر الآية، ويشترط لذلك ما تقدم، وإمكان الاستيفاء هنا من غير حيف، (بأن يكون) القطع من مفصل، كالكوع والكعب ونحو ذلك، ويلتحق بذلك ما له حد ينتهي إليه، كمارن الأنف وهو ما لان

منه، فإن كان من غير مفصل، كنصف الذراع، ونصف الساق ونحو ذلك، فلا قصاص من ذلك الموضع بلا ريب، حذارا من الحيف الممنوع منه شرعا. وهل يقتص من المفصل الذي دونه، كالكوع والكعب، لرضاه بدون حقه، أشبه ما لو رضي صاحب الصحيحة بالشلاء، أو تتعين الدية، وهو المنصوص، واختيار أبي بكر، وحكاه في الهداية عن الأصحاب، حذارا من أن لا يفعل به مثل ما فعل به. 2942 - ولما «روي أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف، فقطعها من غير مفصل، فاستعدى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر له بالدية، فقال: إني أريد القصاص؛ فقال: «خذ الدية بارك الله لك فيها» ولم يقض له بقصاص» ، رواه ابن ماجه؟ فيه قولان، فعلى القول الأول هل يكون للمجني عليه أرش الباقي؟ فيه وجهان، أشهرهما لا، انتهى. (وبأن يكون) الطرفان متماثلين، وذلك في شيئين (في الاسم الخاص) فلا تؤخذ يسار بيمين، ولا يمين بيسار، ولا عليا من الشفة والأجفان بسفلى، ونحو ذلك. (وفي الصحة والكمال) فلا تؤخذ صحيحة بشلاء، ولا كاملة الأصابع بناقصتها، ونحو ذلك، لانتفاء المماثلة المعتبرة

لا قصاص في المأمومة ولا الجائفة

شرعا، وإذًا حصل الحيف، ولا يشترط التماثل في الرقة والغلظ، والصغر والكبر، ونحو ذلك، إذ اعتبار ذلك يفضي إلى إسقاط المماثلة رأسا. [لا قصاص في المأمومة ولا الجائفة] قال: وليس في المأمومة ولا في الجائفة قصاص. ش: لما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من شرط وجوب القصاص في الجروح إمكان الاستيفاء من غير حيف، ذكر جرحا في الرأس وهو المأمومة، وجرحا في الجوف وهو الجائفة، لا يمكن الاستيفاء فيهما إلا بحيف، أو لا يؤمن في الاستيفاء فيهما الحيف. 2943 - وقد روي عن العباس بن عبد المطلب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا قود في المأمومة، ولا في الجائفة، ولا في المنقلة» رواه ابن ماجه. 2944 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا قصاص في المأمومة. 2945 - وعن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه اقتص من المأمومة، فأنكر الناس عليه، وقالوا: ما سمعنا أحدا اقتص منها قبل ابن الزبير، انتهى. والمأمومة هي التي تصل إلى جلدة الدماغ،

وتسمى تلك الجلدة أم الدماغ، لأنها تجمعه، فالشجة الواصلة إليها تسمى مأمومة، وآمة لوصولها إلى أم الدماغ، والجائفة هي التي تصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو نحر، أو غير ذلك، والله أعلم. قال: وتقطع الأذن بالأذن. ش: هذا إجماع في الجملة، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} [المائدة: 45] وكلام الخرقي يشمل كل أذن بكل أذن، ويستثنى من ذلك أذن السميع، هل تؤخذ بأذن الأصم؟ فيه وجهان (أحدهما) لا تؤخذ بها، لنقص أذن الأصم عنها، فأشبه اليد الصحيحة، لا تؤخذ بالشلاء (والثاني) وهو اختيار القاضي، ومقتضى كلام الخرقي وبه قطع أبو محمد في الكافي والمغني - تؤخذ بها منعا للنقص، إذ السمع في الرأس لا في الأذن انتهى، والأذن الصحيحة هل تؤخذ بالشلاء؟ فيه أيضا وجهان (أحدهما) لا تؤخذ لنقص الشلاء (والثاني) - وهو اختيار القاضي أيضا - تؤخذ بها، إذ المقصود من الأذن جمع الصوت والجمال، وهذا حاصل فيها، فلا نقص، والأذن التامة بالمخرومة، وفيها أيضا وجهان، تعليلهما ما تقدم، وأبو محمد والقاضي يختاران عدم الأخذ بخلاف ثم، لأن الخرم نقص جزء ويعد عيبا، أما المثقوبة هل تؤخذ بها الصحيحة؟ فرق أبو محمد بين أن يكون الثقب في محله كموضع القرط، أو في غير محله، ففي محله تؤخذ بها لعدم العيب، وفي غير محله هو كالخرم، لا تؤخذ بها عنده.

قال: والأنف بالأنف. ش: هذا أيضا إجماع في الجملة، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى؛ {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} [المائدة: 45] وكلام الخرقي يشمل كل أنف بكل أنف، ويستثنى من ذلك الأنف الشام، هل يؤخذ بالأخشم، وهو الذي لا شم فيه؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يؤخذ نظرا لنقص الأخشم عنه (والثاني) - وهو مقتضى كلام الخرقي، واختيار القاضي، وبه جزم أبو محمد في الكافي والمغني، يؤخذ به، لأن عدم الشم لعلة في الدماغ، لا لنقص في الأنف، والأنف الصحيح هل يؤخذ بالأشل؟ فيه أيضا وجهان، تعليلهما ما تقدم في الأذن الصحيحة بالشلاء، والمختار للقاضي أيضا الأخذ، والأنف التام هل يؤخذ بالمخروم؟ فيه أيضا وجهان، تعليلهما والمختار فيهما ما تقدم في الأذن، وينبغي أن يجري الوجهان أيضا في الثقب مطلقا، والله سبحانه أعلم. قال: والذكر بالذكر. ش: لا نعلم في ذلك خلافا، وقد دل على ذلك قوله سبحانه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقد شمل كلام الخرقي كل ذكر بكل ذكر، ويستثنى من ذلك ذكر الخصي والعنين، هل يؤخذ بهما الذكر الصحيح؟ على ثلاث روايات (إحداهن) - وهو مقتضى كلام الخرقي - يؤخذ بهما، لعموم {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ودعوى النقص ممنوعة، إذ عدم الإنزال في الخصي

لذهاب الخصية، والعنة لعلة في الظهر (والثانية) وهي اختيار أبي بكر، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم - لا يؤخذ بهما العنين، إذ العنين لا يطأ ولا ينزل، والخصي لا يولد له ولا ينزل، فأشبها ذكر الأشل (والثالثة) يؤخذ بذكر العنين، لأن ذلك مرض، والصحيح يؤخذ بالمريض، دون ذكر الخصي لأنه مأيوس من إنزاله المني، فهو كالأشل، وهذا اختيار ابن حامد، وهذا الخلاف - قال القاضي في الجامع -: مبني على اختلاف الرواية في دية ذلك، والله أعلم. قال: والأنثيان بالأنثيين. ش: لعموم (والجروح قصاص) والله أعلم. قال: وتقلع العين بالعين. ش: هذا إجماع، وقد شهد له قوله سبحانه: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] وشمل كلام الخرقي كل عين بكل عين، ويستثنى من ذلك العين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة، وعين الأعور إذا قلع عين صحيح، فإن عينه لا تقلع بها، حذارا من ذهاب جميع بصره بنصف بصر. 2946 - واعتمادا على أن ذلك يروى عن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وفيه احتمال أن عينه تقلع، ويعطى نصف الدية

ولعلها من رواية قتل الذكر بالأنثى، وإعطاء ورثته نصف الدية، والله أعلم. قال: والسن بالسن. ش: هذا أيضا إجماع، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] وحديث الربيع وقد تقدم، والله أعلم. قال: فإن كسر بعضها، برد من سن الجاني مثله. ش: لظاهر «حديث الربيع، أنها كسرت ثنية جارية فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالقصاص» ، ويكون القصاص بالمبرد ليأمن من أخذ زيادة، بخلاف الكسر، فإنه لا تؤمن معه الزيادة، ويبرد من السن مثل ما ذهب من سن المجني عليه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وتعتبر المثلية بالأجزاء فيؤخذ النصف بالنصف، والربع بالربع، ونحو ذلك، لا بالمساحة، حذارا من أخذ جميع السن بالبعض، إذا كانت سن الجاني صغيرة، وسن المجني عليه كبيرة، والله أعلم. قال: ولا تقطع يمين بيسار، ولا يسار بيمين. ش: لفوات المماثلة المعتبرة، لا يقال ينبغي أن تؤخذ اليسار باليمين، لنقص اليسار عن اليمين، لأنا نقول منافعهما تختلف، فأشبها الرجل مع اليد، والله أعلم.

قال: وإذا كان القاطع سالم الطرف، والمقطوع شلاء فلا قود. ش: لانتفاء المماثلة المعتبرة شرعا، إذ لا نفع فيها إلا الجمال، فلا تؤخذ بها ما كملت منفعته، كالعين الصحيحة لا تؤخذ بالقائمة، ومراد الخرقي بالطرف يجوز أن يكون اليدان والرجلان، ويجوز أن يريد ما هو أعم من هذا، فيدخل فيه الأنف الأشل، والأذن الشلاء، ويكون ظاهر كلام الخرقي أحد الوجهين المتقدمين، والله أعلم. قال: وإذا كان القاطع أشل، والمقطوعة سالمة، فشاء المظلوم أخذها فله ذلك، ولا شيء له غيرها، وإن شاء عفا وأخذ دية يده. ش: يخير صاحب اليد الصحيحة التي قطعت، بين أن يعفو عن الجاني، ويأخذ دية يده بلا ريب، وبين أن يأخذ الشلاء بيده الصحيحة لرضاه بدون حقه، أشبه ما لو رضي المسلم بالقصاص من الذمي، والحر من العبد، ويشترط لذلك ما تقدم من إمكان الاستيفاء من غير حيف، بأن يقول أهل الخبرة: إنا نأمن من قطعها التلف، أما إن قالوا إنه إذا قطعها لم يأمن أن لا تستد العروق، ويدخل الهواء إلى البدن فيفسده فلا قصاص، حذارا من الحيف الممنوع منه شرعا، وإذا أخذت

الشلاء بالصحيحة بشرطه فلا شيء للمقتص على المذهب، لئلا يجمع في العضو الواحد بين القصاص والدية، واختار أبو الخطاب في هدايته أن له الأرش، وقد بقي من تقاسيم مسألة اليدين إذا كانتا صحيحتين وهو واضح، وإذا كانتا أشلتين، والقصاص جار فيهما بشرط أمن الحيف، والله أعلم. قال: وإذا قتل وله وليان بالغ وطفل، أو غائب لم يقتل حتى يقدم الغائب أو يبلغ الطفل. ش: هذا هو المذهب المنصوص بلا ريب، حتى إن أبا محمد في الكافي لم يذكر غيرها. 2947 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية» أضاف القتل إلى اختيار جميع الأهل، والصغير والمجنون من جملتهم، فإذا لم يوجد منهم الاختيار لم يجز القتل، وحكى ابن حمدان في رعايته الصغرى رواية بأن من حضر له الاستيفاء وعممها، وخصها الشيخان ومن رأينا كلامه بالصبي والمجنون، وجعلوا الغائب أصلا قاسوا عليه المذهب، قال القاضي وأتباعه: قود ثابت لجماعة معينين، لم يتحتم استيفاؤه، فلم يجز لبعضهم أن

ينفرد باستيفائه، أصله إذا كان بعضهم غائبا؛ واحترزوا (بمعينين) عما إذا لم يكن له وارث، فإن للإمام الاستيفاء، مع أن القود للمسلمين، وفيهم الصغير والمجنون، (ولم يتحتم استيفاؤه) عن قطاع الطريق إذا قتلوا من في ورثته صغير أو مجنون، فإنهم يقتلون من غير انتظار. واعلم أن أصل هذه الرواية أخذها القاضي من قول أحمد في رواية ابن منصور - في يتيم قطعت يده - فوليه بالخيار، إن شاء الدية، وإن شاء القود، أرأيت إن مات قبل أن يندمل، ووجه الأخذ أن أحمد جوز للولي القصاص، ويلزم منه سقوط تشفي الصغير، فكذلك هنا، إذ غايته سقوط التشفي، والعجب أن القاضي لم يذكر هذه الرواية في محلها، بل خرج ثم على معنى هنا، وبالجملة وجه هذه الرواية أن الصغير والمجنون في حكم المعدومين، ولأن الحسن بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قتل ابن ملجم قصاصا، وفي الورثة صغار، فلم ينكر عليه، وأجيب بوجهين (أحدهما) أنه إنما قتله لكفره، لأنه قتل عليا كرم الله

وجهه مستحلا لدمه، كما هو مذهب الخوارج، ومن استحل ذلك كفر، وقد قال خبيثهم عمران بن حطان قبحه الله في ذلك يمدح قاتله: يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا ولهذا كان أشهر الروايتين عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - تكفيرهم (والوجه الثاني) وهو جواب أبي بكر أن عبد الرحمن بن ملجم شهر السلاح، وسعى في الأرض بالفساد، وحارب الله ورسوله، وإذًا يتحتم قتله فيكون كقاطع الطريق إذا قتل، والحسن هو الإمام، فقتله لذلك، ولذلك لم ينتظر الغائبين، وقد حكي الاتفاق على وجوب انتظارهم، ونقل عبد الله: إذا كان في الأولياء صبي أو مصاب لم يقتل حتى يشب الصغير، وإن كان

مصابا يصيرون إلى الدية، قال القاضي: وظاهر هذا أنه أسقط القصاص رأسا في حق المجنون، وأثبته في حق الصغير، كما قال، وهو محمول على أن جنونه مطبق، لا يرجى زواله. قال: ومن عفا من ورثة المقتول عن القصاص، لم يكن إلى القصاص سبيل، وإن كان العافي زوجا أو زوجة. ش: (قد تضمن) كلام الخرقي صحة العفو عن القصاص، وهو إجماع ولله الحمد، بل هو أفضل، لقوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] وقال تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] . 2948 - «وقال أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما رأيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رفع إليه شيء فيه القصاص إلا أمر فيه بالعفو» . رواه الخمسة إلا الترمذي. 2949 - وعن عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –

قال: «ثلاث والذي نفس محمد بيده إن كنت لحالفا عليهن، لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله تعالى بها عزا يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر» رواه أحمد. (وتضمن أيضا أن القصاص حق لجميع الورثة يرثه من يرث المال. 2950 - وذلك لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن يعقل عن المرأة عصبتها من كانوا، ولا يرثوا منها إلا ما فضل من ورثتها، وإن قتلت فعقلها بين ورثتها، وهم يقتلون قاتلها» ، رواه الخمسة إلا الترمذي، ويتفرع على هذا أنه من عفا من الورثة عن القصاص سقط، إذ القتل عبارة عن زهوق الروح بآلة صالحة، وذلك لا يتبعض، فإذا أسقط بعض مستحقيه حقه منه سقط، لتعذر استيفائه. 2951 - وقد روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وعلى المقتتلين أن ينحجزوا الأول فالأول وإن كان امرأة» رواه

النسائي، وأبو داود ولفظه: «الأولى فالأولى» . وقوله: وإن كان العافي زوجة، تنصيص على مخالفة مذهب الغير، وذلك لما تقدم. 2952 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجل قد قتل قتيلا، فجاء ورثة المقتول ليقتلوه، فقالت امرأة المقتول - وهي أخت القاتل: قد عفوت عن حقي. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الله أكبر عتق القتيل. رواه أبو داود (وقوله) : عن القصاص: يحترز به والله

أعلم عما إذا عفا عن الدية، فإنه يكون مختارا للقود، ولم أعلم من صرح بذلك، وأظن ذلك وقع للقاضي في روايتيه، وقال: أومأ إليه أحمد في رواية الميموني (وقوله) : لم يكن إلى القصاص سبيل، أي طريق، ويفهم منه أن له إلى الدية سبيل، وهو كذلك، أما في حق من لم يعف فواضح، لتعذر القصاص عليه، وذلك يوجب تعين الدية له، وأما في حق من عفا فهو ينبني على أصل، وهو أن الواجب في قتل العمد أحد شيئين، القصاص أو الدية على المذهب، فعلى هذا إذا عفا عن القصاص ثبتت له الدية، ويأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام على ذلك. (تنبيه) : «المقتتلين» هنا أن يطلب أولياء القتيل القود، فيمتنع القتلة، فينشأ بينهم الحرب والقتال من أجل ذلك، فجعلهم مقتتلين بفتح التائين من أجل ذلك، يقال: اقتتل فهو مقتتل، غير أن هذا إنما يستعمل أكثره فيمن قتله الحرب قاله الخطابي. «وينحجزوا» أي ينكفوا عن القود، بعفو أحدهم ولو كان امرأة، «والأول فالأول» أي الأقرب فالأقرب. قال: وإذا اشترك الجماعة في القتل فأحب الأولياء أن يقتلوا الجميع فلهم ذلك، وإن أحبوا أن يقتلوا البعض، ويعفوا عن البعض، ويأخذوا الدية من الباقين، كان لهم ذلك. ش: إذا اشترك الجماعة في القتل فللأولياء أن يقتلوا الجميع، بناء على المذهب، من أن الجماعة تقتل بالواحد وقد تقدم، ولهم أن يقتلوا البعض، لأنهم إذا كان لهم قتل الجميع فقتل

البعض بطريق الأولى، ويعفوا عن البعض، لأن من له قتل شخص، له العفو عنه كما تقدم، ولا يسقط القصاص عن البعض بالعفو عن البعض، لأنهما شخصان فلا يسقط القصاص عن أحدهما بإسقاطه عن الآخر، كما لو قتل كل واحد رجلا، ويأخذوا الدية من البعض، لأن من ملك قتل شخص، ملك العفو عنه إلى الدية كما سيأتي، وماذا يأخذ منه، هل يأخذ منه دية كاملة، أو بقسطه من الدية، فلو كان القاتلون أربعة فعليه ربع الدية؟ فيه روايتان تقدمتا. وقول الخرقي: ويأخذوا الدية، ظاهره وإن لم يرض الجاني، وهو يستدعي بيان أصل، وهو أن موجب العمد ما هو؟ عن أحمد ثلاث روايات (إحداهن) ، وهو المذهب عند الأصحاب وتقدمت الإشارة إليه موجبه أحد شيئين، القصاص أو الدية، لقوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أوجب سبحانه الاتباع بالمعروف بمجرد العفو، وهو يشمل ما إذا عفا مطلقا، وذلك فائدة أن الواجب أحد شيئين. 2953 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم تكن الدية فيهم، فقال الله سبحانه لهذه الأمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] الآية {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] قال: فالعفو أن يقبل في العمد الدية، مختصر، رواه

البخاري وغيره، قال الزمخشري في قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 178] أهل التوراة كتب عليهم القصاص، وحرم العفو وأخذ الدية، وأهل الإنجيل العفو، وحرم القصاص والدية، وخيرت هذه الأمة بين الثلاث، القصاص والدية والعفو، ونحوه قال البغوي، إلا أنه قال: وأهل الإنجيل الدية. 2954 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، إما أن يقتل، وإما أن يفدى» متفق عليه. 2955 - وعن أبي شريح الخزاعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أصيب بدم أو خبل - والخبل الجراح، فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، بين أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يديه» ثم تلا؛ {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] » رواه أحمد وأبو داود. وهذا نص (والرواية الثانية) موجب العمد القود عينا،

وله العفو إلى الدية من غير رضا الجاني، فتكون الدية بدلا عن القصاص، اختارها ابن حامد، لظاهر قول الله تعالى؛ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] . 2956 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل عمدا فهو قود، ومن حال دونه فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» رواه أبو داود والنسائي. (والثالثة) موجب القود عينا، وليس له العفو على الدية بدون رضا الجاني، لأن هذا متلف يجب به البدل، فكان بدله معينا، كسائر أبدال المتلفات. إذا تقرر هذا فكلام الخرقي جار على الرواية الأولى، إذ عليها إذا اختار الدية كانت له بلا ريب، وكذلك إذا عفا مطلقا، أما على الثانية فلا شيء عليه إذا عفا مطلقا، وإنما تجب له الدية إذا عفا عن القود إليها، كذا قال الشيخان وغيرهما، وشذ الشيرازي فقال: لا شيء له أيضا على هذه الرواية، وفي موضع

آخر من المبهج أيضا ظاهر كلامه موافقة الجماعة، وعلى الثالثة لا يستحق العفو إلا برضا الجاني. (تنبيه) : «يفدي» المراد هنا بالفدية الدية، بدليل أن في رواية أخرى: «إما أن يودى، وإما أن يقاد» . «والصرف» التوبة «والعدل» الفدية. قال: وإذا قتل من للأولياء أن يقيدوا به، فبذل القاتل أكثر من الدية على أن لا يقاد، فللأولياء قبول ذلك. ش: إذا قتل من للأولياء أن يقيدوا به، أي يأخذوا به القود، فبذل القاتل أكثر من الدية، على أنه لا يقاد بالمقتول، فللأولياء قبول ذلك، لأن الحق لهم، لا يعدوهم. 2957 - وفي الترمذي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوا، وإن شاءوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم» وذلك لتشديد القتل، ولأبي البركات احتمال بالمنع من ذلك، وربما فهم من كلام الخرقي أن الأولياء لو رضوا بدون الدية كان لهم ذلك، وهو كذلك بلا ريب. قال: وإذا قتله رجل وأمسكه آخر، قتل القاتل، وحبس

الماسك حتى يموت. ش: هذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار القاضي، والشريف وأبي الخطاب في خلافاتهم، والشيرازي، لظاهر قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] الآية، والقاتل اعتدى بالقتل فيقتل، والممسك اعتدى بالحبس إلى الموت فيحبس إلى أن يموت. 2958 - وقد روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أمسك الرجل، وقتله الآخر، يقتل الذي قتل، ويحبس الذي أمسك» رواه الدارقطني. 2959 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجلين قتل أحدهما، وأمسك الآخر، فقتل الذي قتل، وقال للذي أمسك؛ أمسكته للموت، فأنا أحبسك في السجن حتى تموت. رواه الأثرم والشافعي في مسنده. ولا يعرف له مخالف في الصحابة (والرواية الثانية) يقتلان جميعا، لظاهر قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:

لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به، ولأن القتل وجد منهما، أحدهما بالسبب، والآخر بالمباشرة، أشبه ما لو باشراه، وأجيب عن قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن المراد بقوله: لو تمالأ عليه لو تشاركوا، ثم هو معارض بقول علي، وشرط قتل الممسك قصد القتل بإمساكه، أما إن لم يعلم أن القاتل يقتله فلا شيء عليه، ذكره أبو محمد، وكذلك ذكر القاضي أنه إذا أمسكه للعب أو الضرب فقتله القاتل أنه لا قود على الممسك، ذكره محل وفاق. (تنبيه) : «أمسك ومسك» لغتان، والخرقي جمع بينهما فقال: وأمسكه آخر. وقال: وحبس الماسك حتى يموت. والماسك اسم فاعل من مسك، واسم فاعل: أمسك، ممسك. قال: ومن أمر عبده أن يقتل، وكان العبد أعجميا، لا يعلم أن القتل محرم قتل السيد. ش: الأعجمي هو الذي لا يفصح، وله حالتان، تارة يعلم أن القتل محرم وسيأتي وتارة لا يعلم، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما ذكر الأعجمي لأنه الذي لا يعلم غالبا، فالعجمة قرينة تصديقه، وهذا ما لم تقم قرينة تكذبه، كالناشئ في بلاد الإسلام، وبالجملة إذا أمر السيد من هذه صفته بالقتل فقتل، فإن السيد يقتل، لأن العبد والحال هذه كالآلة له، فإذًا السيد قد تسبب في قتله بما يقتله غالبا، فأشبه ما لو أنهشه حية أو كلبا ونحو ذلك، ولا يقتل العبد، لأن العبد والحال هذه معتقد الإباحة،

وذلك شبهة تمنع القصاص، ولأن حكمة القصاص الردع والزجر، ولا يحصل ذلك في معتقد الإباحة، واختلف عن أحمد فيما يفعل به (فعنه) يؤدب ويترك، حذارا من إقدامه على ذلك مرة أخرى (وعنه) يحبس حتى يموت. 2960 - اعتمادا على أن هذا قول أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يستودع السجن. قال: وإن كان العبد يعلم حظر القتل قتل العبد، وأدب السيد. ش: إذا كان العبد يعلم حظر القتل، فإنه يقتل إذا كان مكلفا، لأنه مباشر مكلف، عالم بتحريم القتل، فكان موجب القتل عليه للعمومات، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ولأن المباشرة تقطع حكم السبب، أشبه الحافر مع الدافع، ويؤدب السيد، لتسببه بما أفضى إلى القتل، وهذه التفرقة التي قالها الخرقي تبعه عليها أبو الخطاب والشيخان وغيرهم، وحكى الشيرازي في العبد من حيث الجملة روايتين (إحداهما) يحبس إلى الممات ويقتل السيد، (والثانية) يقتل

باب ديات النفس

العبد، ويؤدب السيد، ثم حكى قول الخرقي، والله أعلم. [باب ديات النفس] ش: الديات واحدتها دية مخففة، وأصلها (ودي) والهاء بدل من الواو، كالعدة من الوعد، والزنة من الوزن، تقول: وديت القتيل أديه دية ووديا. إذا أعطيت ديته، وأتديت إذا أخذت الدية، فالدية في الأصل مصدر، سمي به المال المؤدى إلى المجني عليه أو إلى أوليائه، كالخلق بمعنى المخلوق، والأصل في الدية الإجماع، وسنده قَوْله تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في النفس مائة من الإبل» في عدة أحاديث نذكر ما تيسر منها إن شاء الله تعالى. [دية الحر المسلم] قال: ودية الحر المسلم مائة من الإبل. ش: لا نزاع أن دية الحر المسلم مائة من الإبل، وأن الإبل أصل في الدية، واختلف عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - هل هي الأصل لا غير، أو معها غيرها، وهل ذلك الغير أربعة أو خمسة؟ (فعنه) - وهو ظاهر كلام الخرقي ونصبه أبو محمد في المغني للخلاف - أنها الأصل لا غير.

2961 - لأن في حديث عمرو بن حزم: «في النفس مائة من الإبل» رواه النسائي ومالك في الموطأ. 2962 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: «قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن من قتل خطأ فديته من الإبل مائة، ثلاثون بنت مخاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حقة، وعشرة ابن لبون ذكر» ، رواه أبو داود والنسائي. 2963 - وعن عقبة بن أوس، عن رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خطب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم فتح مكة فقال: «ألا وإن في قتيل خطأ العمد بالسوط والعصا والحجر مائة من الإبل، منها أربعون ثنية إلى بازل عامها، كلهن خلفة» رواه النسائي. 2963 - م - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطب يوم الفتح على درجة البيت، فقام في خطبته فكبر ثلاثا، ثم قال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن كل مأثرة كانت في الجاهلية تذكر وتدعى، من دم أو مال تحت قدمي، إلا ما كان من سقاية الحاج، وسدانة البيت» ثم قال: «ألا إن دية الخطأ شبه العمد - ما كان بالسوط والعصا - مائة من الإبل، منها أربعون في بطونها أولادها» رواه أبو داود

والنسائي، وقال: ورواه القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وظاهر هذه الأحاديث أن الدية هي الإبل خاصة، ويؤيد ذلك أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق بين دية العمد والخطأ، فغلظ العمد، وخفف الخطأ، ولم يرد ذلك عنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في الإبل. (وعنه) أنها خمسة أشياء كل منها أصل بنفسه، الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، أما في الإبل فلما تقدم، وأما في البقر والغنم فلأن في حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى على أهل البقر بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاء فألفا شاة» . 2964 - وأما في الذهب والفضة فلما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، «أن رجلا من بني عدي قتل، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ديته اثني عشر ألفا» ، رواه الترمذي والنسائي وأبو داود وهذا لفظه، وروي عن عكرمة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرسلا، قال بعضهم: وهو أصح وأشهر.

2965 - ولمالك في الموطأ: بلغه أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوَّم الدية على أهل القرى، فجعلها على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، قال مالك: فأهل الذهب أهل الشام، وأهل مصر، وأهل الورق أهل العراق. (وعنه) أنها ستة أشياء، ويضاف إلى الخمسة السابقة مائتا حلة، وهذه اختيار القاضي وكثير من أصحابه، الشريف وأبي الخطاب والشيرازي وغيرهم. 2966 - لما روي عن عطاء بن أبي رباح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وعلى أهل القمح شيئا لم يحفظه محمد بن إسحاق» ، وفي رواية عنه عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ما تقدم، وقال: وعلى أهل الطعام شيئا لا أحفظه» . رواه أبو داود (والرواية الأولى) أظهر دليلا، لأن

أحاديث هذه الرواية لا تقاوم تلك الأحاديث، وعلى تقدير مقاومتها فتحمل على أنه جعل ذلك بدلا عن الإبل، وهذا ظاهر في حديث عمرو بن شعيب، إذ أوله: أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يُقَوِّمُ دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار، أو عدلها من الورق، ويقومها على أثمان الإبل، إذا غلت رفع في قيمتها، وإذا هاجت رخصت نقص من قيمتها، وبلغت على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما بين أربعمائة إلى ثمانمائة، وعدلها من الورق ثمانية آلاف درهم، قال: وقضى على أهل البقر بمائتي بقرة، ومن كان دية عقله في شاء فألفا شاة، وهذا ظاهر في أنه إنما كان يعتبر الإبل لا غير، بل هو نص في الذهب والورق، أنه كان يعتبرهما بالإبل، وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - واقعة عين لا عموم لها، إذ قوله: جعل ديته اثني عشر ألفا يحتمل على أنها أصل، ويحتمل على أنها بدل، والاحتمالان متقابلان، وإذًا يترجح احتمال البدلية، لموافقته لما تقدم، والكلام على حديث عطاء كالكلام على حديث أستاذه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وفعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ظاهر في أن ذلك على سبيل التقويم، فهو مؤيد لما قلناه، وأبو محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - يختار في العمدة قولا رابعا، هو بعض الرواية الثانية، وهو أن الدية مائة من الإبل أو ألف مثقال، أو اثنا عشر ألف

درهم، وهو ظاهر في الورق، لحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إن صح، فإن فيه في رواية للترمذي «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الدية اثني عشر ألفا» ، وليس بظاهر في الذهب، لأن المعتمد فيه على حديث عمرو بن شعيب، وفعل عمر، وهما ظاهران أو صريحان في أن ذلك على سبيل التقويم. إذا تقرر هذا فعلى الرواية الثانية والثالثة إذا أحضر من عليه الدية شيئا من الخمسة أو الستة سالما من العيب لزم قبوله، أما على الرواية الأولى فإن من وجبت عليه الدية متى قدر على الإبل لا يجزئه غيرها، وإن عجز عنها انتقل إلى ما شاء من الأربعة أو الخمسة المتقدمة، على اختلاف الروايتين، وكذلك إذا لم توجد إلا بأكثر من ثمن المثل، وقال أبو محمد: هذا ينبغي فيما إذا كانت الإبل موجودة بثمن مثلها إلا أن هذا لا يجدها، لكونها في غير بلده ونحو ذلك، فإذًا ينتقل إلى غيرها، أما إن غلت الإبل كلها فلا ينتقل إلى غيرها. وظاهر كلام الخرقي أن الواجب الإبل من غير نظر إلى قيمة، وهذا إحدى الروايتين، واختيار الشيخين، لظاهر حديث عمرو بن حزم، وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده وغيرهما، فإنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أطلق الإبل، ولم يقيدها بقيمة، فتقييدها بها يحتاج إلى دليل، وكذلك الأحاديث التي فيها ذكر البقر والغنم والحلل، ليس فيها اعتبار قيمة، وأيضا فإنه – - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرق

بين دية العمد والخطأ، فغلظ دية العمد وشبهه، وخفف دية الخطأ، واعتبار القيمة يقتضي التسوية بينهما، وهو خلاف ما تضمنته سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأيضا فحديث عمرو بن شعيب نص في أنه كان يعتبر الذهب والورق بالإبل، ويقومها على أثمانها، لا أنه كان يعتبر الإبل بغيرها من ورق أو غيره. (والرواية الثانية) يعتبر أن لا تنقص المائة بعير عن دية الأثمان، كذلك حكى الرواية أبو البركات، واختارها أبو بكر، نظرا إلى أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قومها كذلك، فجعل على أهل الذهب ألف مثقال، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، فظاهره أن قيمتها كذلك، وأجيب بأنه اتفق أن قيمتها في ذلك الوقت كان كذلك، وصرنا إليه بعد ذلك، حذارا من التنازع، وحكى أبو محمد الرواية في الكافي أنه يعتبر أن تكون قيمة كل بعير مائة وعشرين درهما، وحكى ذلك في المقنع عن أبي الخطاب، ولا ريب أنه قطع بذلك في الهداية، وقال في المغني: إن الأصحاب ذكروا أن ذلك مذهب أحمد، والتحقيق هو الأول، وعليه يحمل كلام أبي الخطاب وغيره، وسيأتي في كلام أبي محمد ما يدل عليه، والقول في البقر والغنم والحلل كالقول في الإبل على ما تقدم، كذا ذكره أبو البركات، وأبو محمد في المغني، قال: كذا قول أصحابنا في البقر والشاء والحلل، يجب أن يكون مبلغ الواجب من كل صنف منها اثني عشر ألفا، فقيمة كل بقرة أو حلة ستون درهما، وقيمة كل شاة ستة دراهم، وقال في المقنع: يؤخذ

في الحلل المتعارف، فإن تنازعا فيها جعلت قيمة كل حلة ستين درهما، وهو ذهول، بل عند التنازع يقضى بالمتعارف على المختار. وظاهر كلام الخرقي أيضا أن الدية لا تغلظ، لا بحرم ولا إحرام ولا غير ذلك، وكثير من الأصحاب أنه لا يعتبر أن تكون الإبل من جنس إبله، ولا إبل بلده، واعتبر ذلك القاضي أظنه في المجرد، والقول في البقر والغنم كالقول في الإبل. قال: فإن كان القتل عمدا فهي في مال القاتل حالة أرباعا، خمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة. ش: إذا كان القتل عمدا فالإجماع على أن الدية في مال القاتل. 2967 - وقد شهد له ما روى عمرو بن الأحوص، أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه، لا يجني والد على ولده، ولا مولود على والده» رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه. 2968 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه» رواه النسائي.

2969 - وعن «أبي رمثة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأيت برأسه ردع حناء، وقال لأبي: «هذا ابنك» ؟ قال: نعم، قال: «أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه» وقرأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] » رواه أحمد وأبو داود. وإذا وجبت في مال القاتل وجبت حالة عندنا لأنها بدل متلف، فوجبت حالة كسائر أبدال المتلفات، ولأن ما وجب بالعمد المحض كان حالا كأرش الأطراف، واختلف في مقدارها (فعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أشهر الروايتين عنه - أنها تجب أرباعا، كما ذكره الخرقي، واختاره أبو بكر، والقاضي وعامة أصحابه، الشريف وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن البنا، وابن عقيل. 2970 - لما روى الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: «كانت الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرباعا، خمسا وعشرين جذعة،

وخمسا وعشرين حقة، وخمسا وعشرين بنت لبون، وخمسا وعشرين بنت مخاض» ، (وعنه) «أنها تجب أثلاثا، ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها» . 2971 - وذلك لحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قتل متعمدا دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاءوا قتلوه، وإن شاءوا الدية، وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، وما صولحوا عليه فهو لهم، وذلك لتشديد القتل» رواه الترمذي. ولما تقدم من حديث عقبة بن أوس، وعبد الله بن عمرو، وهذه الرواية اختيار أبي محمد في العمدة، وهو الصواب، إذ حديث الزهري لا يعرف من رواه، ولو عرف لم يقاوم هذه الأحاديث، وقد قال أحمد في رواية حنبل: الذي أذهب إليه في دية العمد أثلاثا، وهؤلاء يقولون أرباعا خلاف الحديث، وعلى هذه الرواية هل يعتبر في الخلفات - وهن الحوامل - كونهن ثنايا، وهن اللاتي استكملن خمس سنين، وبه قطع القاضي في الجامع، لحديث عقبة بن أوس، أو لا يعتبر، لإطلاق حديث عمرو بن شعيب، وهو الذي ذكره القاضي؟ فيه وجهان، ويرجح الأول بأن فيه زيادة، فيحمل المطلق عليها، ويجاب بأن القيد ذكر نظرا للغالب، إذ الغالب أنه لا يحمل إلا ثنية.

قال: فإن كان القتل شبه العمد فكما وصفت في أسنانها، إلا أنها على العاقلة في ثلاث سنين، في كل سنة ثلثها. ش: القول في أسنان دية شبه العمد كالقول في دية العمد سواء، لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل» وهي واجبة على العاقلة على المذهب، وقد تقدم ذلك في أول كتاب الجراح، وعليه فإنها تجب عليهم في ثلاث سنين، في كل سنة ثلثها. 2972 - نظرا إلى أن هذا يروى عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا يعرف لهما مخالف، مع أن هذا قول العامة ولا عبرة بمخالفة الخوارج. (تنبيه) : لم يتعرض الخرقي لسن غير الإبل، والحكم أنه يجب في البقر النصف مسنات، والنصف أتبعة، وفي الغنم النصف ثنايا، والنصف أجذعة، في العمد والخطأ على ظاهر كلام الشيخين وغيرهما، وجعل ذلك القاضي في جامعه في العمد وشبهه، وقال في الخطأ: يحتمل أن يخفف فيجب من البقر تبيع وتبيعة ومسنة، أثلاثا، ومن الغنم جذعة وجذع من

الضأن، وثنية من المعز، أثلاثا أيضا، وحكي عنه أنه جزم بذلك في خلافه. قال: وإن كان القتل خطأ كان على العاقلة مائة من الإبل، تؤخذ في ثلاث سنين أخماسا، عشرون بنات مخاض، وعشرون بني مخاض، وعشرون بنات لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. ش: لا نزاع أن دية قتل الخطأ على العاقلة، وقد تقدم، ولا نزاع أيضا في أنها مائة من الإبل، وأنها تؤخذ منهم في ثلاث سنين، واختلف في كيفية وجوبها، ومذهبنا أنها تجب أخماسا كما ذكره الخرقي. 2973 - لما روى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض ذكر» رواه الخمسة، وقال أبو داود: وهو قول عبد الله. وكلام الخرقي يشمل إذا كان المقتول امرأة أو ذميا أو جنينا، وهو قول القاضي في الخلاف والجامع. (تنبيه) : ابتداء الحول في النفس من حين الزهوق، وفيما دونها من حين الاندمال على المشهور، وبه قطع القاضي في

ما تحمله العاقلة من الدية

الجامع، وقال القاضي: ابتداؤه في القتل الموحي والجرح الذي لم يسر عن محله من حين الجناية. [ما تحمله العاقلة من الدية] قال: والعاقلة لا تحمل العمد، ولا العبد، ولا الصلح، ولا الاعتراف، ولا ما دون الثلث. ش: لا تحمل العاقلة العمد، وإن لم توجب جنايته قصاصا، ولا العبد إذا قتله قاتل، ولا الصلح، وهو أن يدعى عليه القتل فينكره ثم يصالح المدعي على مال، وفسره القاضي بأن يصالح الأولياء عن دم العمد إلى الدية، ورد بأن هذا عمد، فيدخل في الأول، ولا الاعتراف، وهو أن يقر القاتل بقتل الخطأ أو شبه العمد، ولا ما دون ثلث الدية التامة، كدية المجوسي ونحوه. 2974 - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: العمد والعبد، والصلح والاعتراف لا تعقله العاقلة، رواه الدارقطني. وحكى أحمد عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مثله.

2975 - وقال الزهري: مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن يشاءوا، رواه مالك في الموطأ. 2976 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الدية أن لا يحمل منها شيء حتى يبلغ عقل المأمومة. ولأن الخطأ إنما جعل على العاقلة لكون الجاني معذورا، تخفيفا عنه، ومواساة له، والعامد لا يناسب أن يخفف عنه ولا يواسى، والعبد الواجب فيه قيمة، تختلف باختلاف صفاته، فلم تحمله العاقلة كسائر القيم، والاعتراف ثبت بإقراره، ولا يثبت على إنسان شيء بإقرار غيره، والصلح في معنى الاعتراف، وما دون الثلث يسير فلا يجحف به، فلا يناسب التخفيف به، وبهذا ونحوه تتخصص العمومات المطلقة في حمل العاقلة.

جناية الرقيق

(تنبيه) : يستثنى مما دون الثلث الجنين إذا مات هو وأمه بجناية واحدة، فإن العاقلة تحمل ديته، وإن نقصت عن الثلث مع دية أمه، سواء سبقها بالزهوق أو سبقته، كذا صرح به أبو البركات، وقال أبو محمد في المغني: إذا مات قبل موت أمه لا تحمله العاقلة، نص عليه، وإن مات مع أمه حملته العاقلة نص عليه، ومقتضى كلامه أنه لو تأخر عنها بالزهوق لم تحمله العاقلة، وكذلك مقتضى كلامه في المقنع، قال: وإن ماتا منفردين لم تحملهما العاقلة. 2977 - وإنما استثني ذلك في الجملة لما روى المغيرة بن شعبة قال: «ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى، فقتلتها، قال: وإحداهما لحيانية، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها، فقال رجل من عصبة القاتلة: أنغرم دية من لا أكل، ولا شرب ولا استهل، فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أسجع كسجع الأعراب» قال: وجعل عليهم الدية» ، وهذا كان بجناية واحدة، ثم إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل هل سبقها بالزهوق أو سبقته، ولو اختلف الحكم لبينه، فإذًا الصواب ما قاله أبو البركات. [جناية الرقيق] قال: وإذا جنى العبد فعلى سيده أن يفديه أو يسلمه. ش: جناية العبد تتعلق برقبته، لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» وسيده مخير بين أن يفديه لزوال

أثر الجناية إذا، وبين أن يسلمه في الجناية، لتأديته المحل الذي تعلق به الحق برمته، هذا إحدى الروايات (والرواية الثانية) يخير بين فدائه، أو بيعه في الجناية (والرواية الثالثة) يخير بين الثلاثة، وإذا اختار البيع فهل يلزمه أن يتولاه إذا طلب منه ولي الجناية ذلك، أو يكفي تسليمه للبيع فيبيعه الحاكم؟ فيه روايتان. وقول الخرقي: وإذا جنى العبد، أي جناية أوجبت مالا، بقرينة ذكر الفداء إذ الفداء إنما يدخل فيما فيه المال، وذلك بأن يكون خطأ أو شبه عمد، أو عمدا لا قصاص فيه، أو فيه القصاص واختير فيه المال، وكذلك الحكم لو أتلف مالا، وقد يدخل في لفظه، لأن الجناية تشمل الجناية على المال والبدن، والله أعلم. قال: فإن كانت الجناية أكثر من قيمته لم يكن على السيد أن يفديه بأكثر من قيمته. ش: جناية العبد لا تخلو إما أن تكون وفق قيمته أو أكثر من قيمته، فإن كانت وفق قيمته فلا نزاع أن السيد لا يلزمه أكثر من ذلك، لأنه لا حق للمجني عليه في أكثر من ذلك، وكذلك إن كانت أقل من قيمته على المذهب المعروف لذلك، (وعن أحمد) رواية أخرى يلزم فداؤه بجميع قيمته، وإن جاوزت دية المقتول، إذا كانت الجناية موجبة للقود، لأنه إذا استحق إتلافه، فكان له بدله، وتشبه هذه الرواية أنه يملكه بغير رضا

المقصود بالعاقلة

السيد، فيما إذا كانت الجناية كذلك، وإن كانت أكثر من قيمته فكذلك، لا يلزم السيد أن يفديه بأكثر من قيمته إن لم يختر فداءه بلا ريب، لأن الجناية تعلقت برقبة العبد لا غير، والسيد إنما يؤدي بدل الرقبة، وبدل الرقبة هو القيمة، فلا يلزمه أكثر منها، وإن اختار الفداء ففيه روايتان مشهورتان، أشهرهما وأنصهما - وهي اختيار القاضي، والخرقي، وأبي الحسين وغيرهم - لا يلزمه إلا القيمة، لما تقدم، (والثانية) - وهي اختيار أبي بكر - يلزمه والحال هذه أرش الجناية بالغة ما بلغت، لاحتمال أنه إذا بيع رغب فيه راغب فتزيد قيمته، والله أعلم. [المقصود بالعاقلة] قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والعاقلة العمومة وأولادهم وإن سفلوا في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى الأب والابن والإخوة، وكل العصبة من العاقلة. ش: (وجه الرواية الأولى) حديث المغيرة بن شعبة، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل دية المقتول على عصبة القاتلة، وغرة لما في بطنها» . رواه مسلم وغيره وقد تقدم، وهذا يشمل كل عصبة، خرج منه الآباء والأبناء. 2978 - بدليل «ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن امرأتين من هذيل قتلت

إحداهما الأخرى، ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية المقتولة على عاقلة القاتلة، وبرأ زوجها وولدها، لأنهما ما كانا من هذيل، فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا، ميراثها لزوجها وولدها» » رواه أبو داود، وهذا يقتضي أن الأولاد ليسوا من العاقلة، فكذلك الآباء، قياسا لأحد العمودين على الآخر، وخرج منه الإخوة أيضا. 2979 - بدليل ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه، ولا بجريرة أخيه» رواه النسائي، فظاهره أنه لا يؤخذ بجريرة أخيه مطلقا، وإذا خرج الأخ والابن والأب من التحمل بقي من عداهم، وهم العمومة وأولادهم وإن سفلوا. (ووجه الثانية) - وهي اختيار أبي بكر فيما حكاه القاضي في الجامع والقاضي أبو الحسين، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وغيرهم - عموم حديث المغيرة، وحديث جابر لا يقاومه، ثم لا يدل على خروج الابن مطلقا، وحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لا يؤخذ بجريرته، أي إذا كان عمدا، جمعا بين الأدلة (وعن

أحمد) رواية ثالثة: العاقلة جميع العصبة إلا الآباء والأبناء، وزعم القاضي في روايتيه أنها اختيار الخرقي، لتقديمه إياها، ولانتفاء الخلاف عنده في الإخوة، ووجه هذه الرواية يعرف مما سبق (وعنه) رواية رابعة أن العاقلة كل العصبة إلا أبناء الجاني، إذا كان امرأة، نص عليها أحمد فقال: لا يعقل الابن عن أمه، لأنه من قوم آخرين، وهي اختيار أبي البركات وعليها يقوم الدليل، إذ حديث المغيرة يقتضي أن العاقلة هم كل العصبة، وحديث جابر صريح في أن ابن المرأة لا يعقل عنها، وإذا خرج ابن المرأة بقينا فيما عداه على العموم، ثم قد علل في الحديث خروج الولد والزوج بأنهما ما كانا من هذيل، يعني والمرأة هذلية، فليسا من قبيلتها، والمعنى في ذلك أن قبيلة الشخص هي التي تواليه وتنصره، بخلاف غيرها، وكذلك قال أحمد، لأنه من قوم آخرين، ومقتضى الحديث وتعليل أحمد أن ابن المرأة إذا كان من قبيلتها كابن ابن عمها يعقل عنها، وصرح به ابن حمدان، وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أن العاقلة كل العصبة إلا الأبناء، ولعله يقيس أبناء الرجل على أبناء المرأة، وليس بشيء (واعلم) أن أبا الخطاب في خلافه حكى عن شيخه أنه أخذ رواية أن العاقلة العصبة إلا عمودي النسب من هذا النص، قال: وفيه نظر، ولا شك في ضعف هذا المأخذ. قال: وليس على فقير من العاقلة ولا امرأة، ولا صبي ولا زائل العقل حمل شيء من الدية. ش: لا خلاف أن الصبي غير المميز والزائل العقل لا يحملان

من العقل شيئا، لأنهما ليسا من أهل النصرة، وقد حكى ذلك ابن المنذر إجماعا، وحكم المميز حكم غيره على المذهب، وحكاية ابن المنذر تشمله، وقيل: بل حكم البالغ، (ولا ريب) أن المذهب أن الفقير لا يحمل من العقل شيئا، حذارا من أن نخفف عن من جنى، ونثقل على من لم يجن. 2980 - وقد «روى عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن غلاما لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء، فأتى أهله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: يا رسول الله إنا أناس فقراء. فلم يجعل عليه شيئا» ، رواه أبو داود والنسائي. (وعن أحمد) رواية أخرى أن الفقير يحمل من العقل، بناء على أنه من أهل النصرة، كذا أطلق الرواية أبو محمد، وقيدها أبو البركات بالمعتمل، وهو حسن، (ولا ريب) أيضا أن المذهب أن المرأة لا تحمل من العقل شيئا، لعدم التناصر منها (وعنه) تحمل بالولاء لأنها إذا عصبة، ويخرج عليها الأم الملاعنة إذا قلنا: إنها عصبة، وإن عمودي النسب من العاقلة أنها تعقل، وتشبه هذه الرواية رواية أنها تلي على معتقها في النكاح، وحكم الخنثى حكم المرأة، وظاهر كلامه أن البعيد والغائب، والشيخ والمريض، والزمن والهرم

حكم من وجبت عليه دية ولم تكن له عاقلة

يحملون كغيرهم، وهو كذلك، نعم في الزمن والهرم وجه أنهما لا يحملان. [حكم من وجبت عليه دية ولم تكن له عاقلة] قال: ومن لم تكن له عاقلة أخذت من بيت المال. ش: هذا هو المشهور من الروايتين لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودى الأنصاري الذي قتل بخيبر. 2981 - ففي الصحيح قال: «فكره رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة، وفي لفظ: فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده، فبعث إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة ناقة حمراء» . 2982 - وروي أن رجلا قتل في زحام، في زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولم يعرف قاتله، فقال علي لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: يا أمير المؤمنين لا يبطل دم امرئ مسلم، فأدى ديته من بيت المال، (والرواية الثانية) لا شيء على بيت المال، اختارها أبو بكر في التنبيه، لأن فيه حقا للنساء والصبيان والمجانين والفقراء، ولا عقل عليهم، فلا يصرف حقهم والمجانين والفقراء، ولا عقل عليهم، فلا يصرف حقهم فيما لا يجب عليهم، قال أبو محمد: ولأن بيت المال ليس بعصبة، وما يصرف إليه من مال من لا وارث له إنما يأخذه على أنه فيء، لا أنه إرث. (قلت) : وقد يكون هذا منشأ الخلاف، وهو أن بيت المال

هل هو عصبة أم لا؟ لكن المشهور أنه ليس بعصبة، والمشهور أن يدي، ولا يستقيم البناء (واعلم) أن محل الروايتين عند أبي محمد تبعا للقاضي في المسلم، أما الذمي فإن بيت المال لا يحمل عنه عندهما بلا خلاف، بل تكون الدية عليه على المذهب، وقيل: لا شيء عليه كالمسلم على المذهب، وعند أبي البركات أنهما جاريتان فيهما وهو ظاهر كلام الخرقي، وهو مما يضعف البناء، وحيث حمل بيت المال فهل ذلك في ثلاث سنين كالعاقلة أو في دفعة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أدى دية الأنصاري في دفعة، والعاقلة التأجيل عليهم تخفيفا بهم، ولا حاجة بنا إلى التخفيف في بيت المال؟ فيه وجهان، أصحهما الثاني، والله أعلم. قال: فإن لم يقدر على ذلك فليس على القاتل شيء. ش: إذا لم يقدر على أخذ شيء من بيت المال سقطت الدية، فلا شيء على القاتل، على المعروف عند الأصحاب، بناء عندهم على أن الدية وجبت على العاقلة ابتداء، فلا تجب على غير من وجبت عليه، كما لو عدم القاتل فإن الدية لا تجب على أحد، كذلك هاهنا، وخالفهم أبو محمد فاختار وجوبها على القاتل لعموم قَوْله تَعَالَى: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] مع قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يجني جان إلا على نفسه» وسقوطها لقيام العاقلة مقامه، فإذا لم توجد عاقلة، أو وجدوا

دية الحر الكتابي

وانتفى حملهم لدليل، بقيت واجبة عليه، ولأن الأمر دائر بين أن يبطل دم المقتول، وبين إيجاب ديته على المتلف، لا يجوز الأول لمخالفة إطلاق الكتاب والسنة، فيتعين الثاني، وفي كلامه - رَحِمَهُ اللَّهُ - إشعار بأن الدية تجب على القاتل، وتتحملها العاقلة. (تنبيه) : سميت العاقلة عاقلة لأن الإبل تجمع فتعقل بفناء أولياء المقتول، أي تشد عقلها لتسلم إليهم، ولذلك سميت الدية عقلا، وقيل سموا بذلك لإعطائهم العقل الذي هو الدية، وقيل لأنهم يمنعون عن القاتل. [دية الحر الكتابي] قال: ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم. ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب. 2983 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «دية المعاهد نصف دية الحر» رواه أبو داود، والنسائي ولفظه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «عقل أهل الذمة نصف عقل المسلمين» وهم اليهود والنصارى، ورواه الترمذي ولفظه: «دية عقل الكافر نصف عقل المؤمن» قال الخطابي: ليس في دية أهل الكتاب شيء أبين من هذا، ولا بأس به، وبه قال أحمد. (قلت) : وهذا يبين الآية الكريمة. (والرواية الثانية) ثلث دية المسلم، إلا أن أحمد رجع عنها، قال في رواية أبي الحارث: كنت أذهب إلى حديث عمر أن دية اليهودي

والنصراني أربعة آلاف، ثم نزلت عن حديثه لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن ثم قال أبو بكر: المسألة رواية واحدة، أنها على النصف. وقد بين أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - مأخذه في الروايتين، وحديث عمرو بن شعيب قد تقدم. 2984 - أما حديث عمر فهو ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثمانمائة دينار، أو ثمانية آلاف درهم، قال: وكانت دية أهل الكتاب يومئذ على النصف من دية المسلم، قال: فكانت كذلك حتى استخلف عمر قام خطيبا فقال: إن الإبل قد غلت، ففرضها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة؛ قال: وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية، رواه أبو داود. (تنبيه) : ولا فرق في ذلك بين الذمي منهم والمستأمن، لاشتراكهم في الكتاب مع حقن الدم. قال: ونساؤهم على النصف من دياتهم. ش: لما كانت دية نساء المسلمين على النصف من دياتهم، كانت نساء أهل الكتاب على النصف من دياتهم،

مع أن هذا قد حكاه ابن المنذر إجماعا. قال: وإن قتلوا عمدا أضعفت الدية على قاتله المسلم، لإزالة القود، هكذا حكم عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وذكر دليله. 2985 - والمحكي عن عثمان رواه عنه أحمد عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم عن أبيه، أن رجلا قتل رجلا من أهل الذمة، فرفع إلى عثمان، فلم يقتله وغلظ عليه ألف دينار. ولهذا نظائر في الشريعة (منها) سارق الثمر والكثر يغرم بمثله مرتين، لإزالة القطع، (ومنها) الأعور إذا قلع عين صحيح، تجب عليه دية كاملة، كما حكم به الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، لدرء القصاص عنه، ويقرب من ذلك غرامة اللقطة بمثلها مرتين إذا كتمها، وكذلك أخذ شطر مال الكاتم ماله في الزكاة على رواية. 2986 - لحديث بهز بن حكيم، وغير ذلك، وهذا ونحوه يخصص

دية المجوسي

عموم ما تقدم، وقول الخرقي: على قاتله المسلم. يحترز عن قاتله إذا كان ذميا، فإن الدية لا تضعف عليه، لوجوب القصاص عليه، والله أعلم. [دية المجوسي] قال: ودية المجوسي ثمانمائة درهم. 2987 - ش: لما روى الشافعي في مسنده، والدارقطني عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يجعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، والمجوسي ثمانمائة. 2988 - ويروى ذلك أيضا عن عثمان وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولا يعرف لهم في عصرهم مخالف، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» لا عموم فيه، ثم المراد به والله أعلم في أخذ الجزية، جمعا بين الأدلة، وسواء كان المجوسي ذميا

دية الحرة المسلمة

أو مستأمنا، وإن قتله مسلم عمدا أضعفت الدية عليه، لإزالة القود، نص عليه أحمد، قياسا على الكتابي فتجب ألف وستمائة درهم. قال: ونساؤهم على النصف من ذلك. ش: كنساء المسلمين وأهل الكتاب، وقد حكي إجماعا والله أعلم. [دية الحرة المسلمة] قال: ودية الحرة المسلمة نصف دية الحر المسلم. 2989 - ش: لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عقل المرأة مثل عقل الرجل، حتى يبلغ الثلث من ديته» رواه النسائي. 2990 - «وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر من الإبل. قلت: فكم في إصبعين؟ فقال: عشرون من الإبل. قلت: فكم في ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون. قلت: فكم في أربع أصابع؟ فقال: عشرون. قلت: حين عظم جرحها، واشتدت مصيبتها، نقص عقلها؟ قال سعيد: أعراقي أنت؟ قلت: بل عالم متثبت أو جاهل متعلم. قال: هي السنة يا ابن أخي» . رواه مالك في الموطأ، وذكر أبو محمد أن في كتاب عمرو بن حزم: دية المرأة على

النصف من دية الرجل. ولم أجد ذلك في حديث عمرو بن حزم في جامع الأصول، ولا في المنتقى. قال: وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث، فإذا جاوزت الثلث فعلى النصف. ش: لا نزاع عندنا أن جراح المرأة تساوي جراح الرجل فيما دون ثلث الدية، ففي إصبعها عشر من الإبل، وفي الإصبعين عشرون من الإبل، وفي الثلاث أصابع ثلاثون، ولا نزاع عندنا أيضا أنها فيما زاد على الثلث على النصف، ففي أربع أصابع منها عشرون، وفي يدها خمس وعشرون، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب وسعيد، واختلف هل تساوي الرجل في قدر الثلث، كالجائفة والمأمومة، ونحو ذلك؟ على روايتين (إحداهما) تساويه - وهو اختيار الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم، لأنه في حد القلة، بدليل جواز الوصية به (والثانية) يختلفان، فيجب في جائفتها سدس دية الرجل - وهو اختيار أبي محمد - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

دية العبد والأمة

سماه كثيرا قال: «الثلث والثلث كثير» ، وحديث عمرو بن شعيب محتمل للقولين، بناء على أن الغاية هل تدخل في المغيا، وذلك وإن كان في (إلى) الأكثر عدم الدخول، ففي (حتى) الكثير الدخول، والله أعلم. [دية العبد والأمة] قال: ودية العبد والأمة قيمتهما بالغة ما بلغ ذلك. ش: قد تقدمت هذه المسألة والكلام عليها، فلا حاجة إلى إعادتها، ونزيد هنا بأنه لا فرق في ذلك بين العبد القن والمدبر والمكاتب، وأم الولد، لدخول الكل في إطلاق العبد، وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» . [دية الجنين] قال: ودية الجنين إذا سقط من الضربة ميتا وكان من حرة مسلمة غرة عبد أو أمة، قيمتها خمس من الإبل، موروثة عنه كأنه سقط حيا. ش: الواجب في دية الجنين والحال هذه غرة. 2991 - لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها، وورثها ولدها ومن معهم؛ مختصر» متفق عليه.

2992 - «وعن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سأل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن إملاص المرأة، وهي التي يضرب بطنها فتلقي جنينها، فقال: أيكم سمع من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه شيئا؟ قال: فقلت: أنا، قال: ما هو؟ قلت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «فيه غرة عبد أو أمة» قال: لا تبرح حتى تجيء بالمخرج. قال: فخرجت فوجدت محمد بن مسلمة فجئت به، فشهد معي أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «فيه غرة عبد أو أمة» » متفق عليه. والغرة عبد أو أمة، لما تقدم من الحديثين السابقين، وما روي «عبد أو أمة أو فرس أو بغل» وهم عند أهل العلم بالنقل، والصحيح ما تقدم، ويشترط أن تكون قيمة العبد أو الأمة عشر دية الأم. 2993 - لأن ذلك يروى عن عمر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، فقيد إطلاق ما تقدم، مع أنه أقل مقدر، وقدره الشارع في الجنايات، وهو أرش الموضحة، ودية السن، فاعتبر

بذلك، ولا ترد الأنملة، لأنه لا نص فيها، إنما هو اجتهاد. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: قيمتها خمس من الإبل. بناء عنده على أن الأصل في الدية الإبل، فجعل التقويم بها، وغيره من الأصحاب مقتضى كلامه أن التقويم بواحد من الخمسة أو الستة على ما تقدم، وأن ذلك راجع إلى اختيار الجاني، كما له الاختيار في دفع أي الأصول شاء إذا كان موجب جنايته دية كاملة. وحكم هذه الغرة أنها موروثة عن الجنين، كأنه سقط حيا، لأنها دية له وبدل عنه، فورثها ورثته كما لو قتل بعد الولادة، وشرط الخرقي للضمان السابق أن يسقط من الضربة ميتا، أي بسبب الضربة، بأن يسقط عقيبها، أو يبقى بها متألما إلى أن يسقط، أما إن ضربها فماتت بحملها ولم تلقه، أو ضرب من في بطنها شيء يتحرك فذهب فلا شيء عليه، لعدم العلم بوجوده، والأصل براءة الذمة. وكلام الخرقي يشمل ما إذا ألقته في حياتها، أو بعد موتها، وهو كذلك، والحكم فيما إذا ظهر بعضه ولم يظهر جميعه حكم ما إذا ظهر جميعه، قاله أبو محمد. وقول الخرقي: وكان من حرة مسلمة؛ يريد به أن الأم متى كانت كذلك كان الولد حرا مسلما، فيجب ما تقدم، وقد تكون الأم رقيقة كافرة، والجنين حر مسلم، بأن يغر بأمة، أو يتزوج المسلم كتابية، فتجب الغرة السابقة، أما إن كان الجنين رقيقا فسيأتي حكمه، وإن كان كافرا

كالمولود بين كتابيين ونحوهما، فإن الواجب فيه عشر دية أمه إن ساوت الأب في الدين، أو كانت أعلى منه كنصرانية تحت مجوسي، وإن نقصت عنه - كمجوسية تحت كتابي - وجب عشر ديتها لو كانت على دين الأب. (تنبيه) : الولد الذي تجب به الغرة ما تصير بن الأمة أم ولد، وما لا فلا، وأصل «الغرة» بياض في جبهة الفرس، ومن ثم قال أبو عمرو بن العلاء: الغرة عبد أبيض أو أمة بيضاء، ولم يعتبر ذلك الفقهاء، نظرا لإطلاق الحديث، مع قرينة غلبة السواد على أرقاء أهل الحجاز، والغرة أيضا أول الشيء وخياره، ومن ثم قال أصحابنا: لا يقبل في الغرة معيب، لأن ذلك ليس بخيار، وبنى على ذلك جمهورهم أن من لم يبلغ سبع سنين لا يجزئ لأنه يحتاج إلى من يكفله ويقوم به، فليس من الخيار، وقال أبو محمد: إن ظاهر كلام الخرقي الإجزاء، والله أعلم. قال: وإن كان الجنين مملوكا ففيه عشر قيمة أمه. ش: هذا هو المذهب المعروف، قياسا على الجنين الحر، فإن فيه عشر دية أمه، كذلك المملوك فيه عشر قيمة

أمه، إذ قيمة الأمة بمنزلة دية الحرة، وحكى أبو الخطاب في خلافه رواية أخرى أن الواجب نصف عشر قيمة أمه، ولا عمل عليه، ثم الواجب هنا قيمة لا عبد أو أمة لأن الرقيق الواجب فيه قيمة، بخلاف الحر فإن الواجب فيه إما الإبل، أو أحد خمسة أشياء أو ستة. قال: وسواء كان الجنين ذكرا أو أنثى. ش: أما الجنين الحر فلإطلاق الحديث، وأما المملوك فبالقياس على الحر، والله أعلم. قال: فإن ضرب بطنها فألقت جنينا حيا، ثم مات من الضربة ففيه دية حر إن كان حرا، أو قيمته إن كان مملوكا، إذا كان سقوطه لوقت يعيش لمثله، وهو أن يكون لستة أشهر فصاعدا. ش: أما وجوب دية الحر أو قيمة المملوك على الضارب والحال ما تقدم فلأنه مات من جنايته، بعد ولادته لوقت يعيش لمثله، أشبه ما لو قتله بعد وضعه، وقد قال ابن المنذر: إن هذا مما أجمع عليه كل من يحفظ عنه من أهل العلم، وتعلم الحياة باستهلاله بلا ريب.

2994 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا استهل المولود ورث وورث» وهل تعلم بارتضاعه، أو تنفسه، أو عطاسه، أو نحو ذلك مما يدل على الحياة؟ فيه روايتان (إحداهما) لا، لمفهوم الحديث السابق (والثانية) - وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد - نعم، لأن الارتضاع ونحوه أدل على الحياة من الاستهلال، فاستفيد من الحديث بطريق التنبيه، أما مجرد الحركة والاختلاج فلا يدلان على الحياة، لأن ذلك قد يكون لخروجه من مضيق فلم تتيقن حياته. وشرط الخرقي لوجوب الضمان السابق أن يموت من الضربة أي بسببها، وذلك بسقوطه في الحال وموته، أو بقائه متألما إلى أن يموت، أو بقاء أمه متألمة إلى أن تلقيه حيا فيموت، أما لو ألقته ثم بقي زمنا سالما لا ألم به ثم مات فلا ضمان، ولو وضعته حيا، فجاء آخر فقتله وفيه حياة مستقرة فهو

الحكم لو رمى ثلاثة بالمنجنيق فرجع الحجر فقتل رجلا

القاتل، وإن لم تكن فيه حياة مستقرة، بل حركة كحركة المذبوح فالقاتل هو الأول، ويؤدب الثاني (وشرط) أيضا أن تضعه لوقت يعيش لمثله، وإلا فحكمه حكم الميت فيه الغرة، لعدم تصور بقائه، وبين - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن الوقت الذي يعيش لمثله ستة أشهر فصاعدا، لأن ذلك أقل مدة الحمل والله أعلم. قال: وعلى كل من ضرب ممن ذكرت عتق رقبة مؤمنة، سواء كان الجنين حيا أو ميتا. ش: هذا قول جمهور أهل العلم، لأن الله سبحانه قال: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وقال: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] أي المقتول، وهذا الجنين إن كان من مؤمنين أو كان أحد أبويه مؤمنا فهو محكوم بإيمانه تبعا، فيدخل في الآية، وإن كان من كتابيين فهو من قوم بيننا وبينهم ميثاق فتشمله الآية، ولأنه نفس مضمونة بدية، فوجبت فيه الرقبة كالكبير. قال: وإذا شربت الحامل دواء فأسقطت به جنينها فعليها غرة لا ترث منها شيئا، وتعتق رقبة. ش: أما وجوب الغرة فلأن الجنين مات بجنايتها، أشبه ما لو كان الجاني غيرها، وأما كونها لا ترث منها شيئا فلأنها قاتلة، وقد تقرر أن القاتل لا يرث المقتول، فعلى هذا تكون الغرة لبقية الورثة، وأما كونها تعتق رقبة فلما تقدم قبل والله أعلم. [الحكم لو رمى ثلاثة بالمنجنيق فرجع الحجر فقتل رجلا] قال: وإذا رمى ثلاثة بالمنجنيق، فرجع الحجر فقتل رجلا

فعلى عاقلة كل واحد منهم ثلث الدية. ش: لأنه قتل حصل بفعلهم وجنايتهم، وهم ثلاثة، فوجب تثليث الدية على عواقلهم، لأنه كما سيأتي إما خطأ، وإما شبه عمد، هذا هو المذهب المعروف وقيل: بل تجب الدية في بيت المال، لأن ذلك من مصالح المسلمين، فإن تعذر فعلى العاقلة، وكلام الخرقي يشمل ما إذا قصدوا معينا أو لم يقصدوا، وهو كذلك لأن قصد الواحد بالمنجنيق يندر أن يصيبه، فلا يكون عمدا، نعم مع قصد معين أو جماعة يكون ذلك شبه عمد وقد تقدم حكمه ومع عدم القصد يكون خطأ، واختار ابن حمدان أنه عمد إن كان الغالب الإصابة، وقول الخرقي: قتل رجلا. يحتمل أن يكون من غيرهم، ويحتمل أن يكون منهم، وعلى هذا يكون مقتضى قول الخرقي أن جناية الإنسان على نفسه تكون خطأ، تحملها العاقلة لورثته، وهو إحدى الروايتين، والرواية الثانية لا شيء فيها، وقال ابن عقيل في التذكرة: تكون عليه يدفعها إلى ورثته، والله أعلم. قال: وعلى كل واحد منهم عتق رقبة مؤمنة في ماله. ش: هذا مبني على المذهب من أن المشتركين في القتل على كل واحد منهم كفارة، لا أن الواجب على الجميع كفارة واحدة، وقد تقدم ذلك، وتقدم أيضا أن الكفارة تجب في مال القاتل.

قال: فإن كانوا أكثر من ثلاثة فالدية حالة في أموالهم. ش: هذا هو المذهب المختار للأصحاب بلا ريب لما تقدم لأن الواجب على كل واحد والحال هذه دون الثلث، والعاقلة لا تحمل ما دون الثلث لما تقدم، وإذا انتفى حمل العاقلة وجبت الدية في أموالهم، لأن ذلك أثر فعلهم. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» وتجب حالة، لأنها بدل متلف، فوجبت حالة كسائر أبدال المتلفات، وقد يستشكل بأن الجاني إذا حمل دية شبه العمد كانت من ماله مؤجلة على المذهب، كذلك هاهنا قد يقال، وحكى أبو بكر رواية أخرى أن العاقلة تحمل ذلك، نظرا إلى أن هذه جناية واحدة أوجبت ما زاد على الثلث، فحملته العاقلة كما لو كانوا ثلاثة، واستشهد القاضي في روايتيه على هذه الرواية بما نقل يعقوب بن بختان عن أحمد، في قوم رموا بالمنجنيق فرجع فقتل رجلا من المسلمين فالدية على عواقلهم والكفارة في أموالهم. قال: وهذا يحتمل أن يكونوا ثلاثة فما دون، ويحتمل أن يكونوا أكثر من ذلك؛ قلت: من حمل مطلق كلامه على مقيده لا ينبغي له أن يثبت هذه الرواية، بخلاف من لم يحمل، وظاهر كلام الأصحاب أنه لا خلاف في الخمسة أن الدية لا تكون على العاقلة،

باب ديات الجراح

وصرح بذلك ابن حمدان، وهو مما يضعف تعليل الرواية الثانية. (تنبيه) : الضمان في الرمي بالمنجنيق يتعلق بمن مد الحبال، ورمى الحجر، دون من وضعه في الكفة وأمسك الخشب، إذ الأول مباشر، والثاني متسبب، والمباشرة تقطع حكم السبب، والمنجنيق أعجمي معرب، بفتح الميم وكسرها، وحكي فيه منجنوق ومنجليق. . . والله أعلم. [باب ديات الجراح] ش: لما فرغ الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - من بيان ديات الأنفس شرع يتكلم على ديات الجراحة. قال: ومن أتلف ما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية، وما فيه منه شيئان ففي كل واحد منهما نصف الدية. 2995 - ش: الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن حزم في العقول: «إن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعب جدعا الدية كاملة، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثله، وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرجل خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي كل سن خمس، وفي الموضحة خمس» رواه مالك في موطئه، وهذا لفظه، والنسائي وفي روايته: «وفي الأنف إذا أوعب جدعه بالدية، وفي اللسان الدية،

وفي الشفتين الدية، وفي البيضتين الدية، وفي الذكر الدية، وفي الصلب الدية، وفي العينين الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل، وفي السن خمس من الإبل، وفي الموضحة خمس من الإبل، وأن الرجل يقتل بالمرأة، وعلى أهل الذهب ألف دينار، ذكره في رواية، وفي العين الواحدة نصف الدية، وفي اليد الواحدة نصف الدية» ، قال ابن عبد البر: كتاب عمرو بن حزم معروف عند العلماء، وما فيه متفق عليه إلا قليلا، انتهى. ففي هذا الحديث مما في الإنسان منه شيء واحد الأنف، والذكر، واللسان والصلب، وغير ذلك مقيس عليها، وفيه مما في الإنسان منه شيئان الشفتان والبيضتان، والعينان، والرجلان، واليدان، وغير ذلك مقيس عليها وملحق بها والله أعلم. قال: وفي العينين الدية. ش: لما تقدم في حديث عمرو بن حزم، مع أنه إجماع، ولا فرق بين أن يكونا صحيحتين أو مريضتين، أو حولاوين، وفي العين الواحدة نصف الدية، على مقتضى كلام الخرقي، لما تقدم في حديث عمرو بن حزم، وعموم كلامه يقتضي شمول عين الأعور، وهو مقتضى حديث عمرو بن حزم، والمذهب

أن في عين الأعور دية كاملة. 2996 - نظرا إلى قضاء الصحابة عمر وعثمان وعلي وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يعرف عن غيرهم خلافهم، ولأن قلع عينه يتضمن ذهاب بصره كله، إذ الأعور يبصر بعينه كما يبصر الصحيح، فوجبت الدية كما لو أذهب البصر من العينين. قال: وفي الأشفار الأربعة الدية. ش: في الأشفار الدية، لأن ذلك هو جميع الجنس، فوجب فيه جميع الدية كاليدين والرجلين، والأشفار فسرها أبو محمد بالأجفان، وهو مقتضى كلام غيره، وابن أبي الفتح يجعل الشفر منبت الهدب، والجفن غطاء العين، والله أعلم. قال: وفي كل واحد منها ربع الدية. ش: لأنه عدد تجب الدية في جميعه، فوجب في بعضه بالقسط، كاليدين والأصابع والله أعلم.

قال: وفي الأذنين الدية. . . ش: لأنهما مما في البدن منه شيئان. 2997 - ويروى ذلك عن عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وادعى أبو محمد أنه في كتاب عمرو بن حزم، ولم أره، وقد شمل كلام الخرقي الأذن الصماء، والأذن المستحشفة، والأذن المخرومة، وهو صحيح إن قلنا: يؤخذ به السالم من ذلك في العمد، وإلا الواجب في ذلك حكومة، والله أعلم. قال: وفي السمع إذا ذهب من الأذنين الدية. 2998 - ش: يروى هذا عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 2999 - ويروى أيضا عن معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «وفي السمع الدية» وقال ابن المنذر: أجمع عليه عوام أهل العلم. ولأنه حاسة تختص بنفع، فكان فيه الدية كالبصر، ولو ذهب السمع من أحد الأذنين وجب نصف الدية والله أعلم.

قال: وفي الأنثيين الدية. ش: لحديث عمرو «في البيضتين الدية» ، ويجب في إحداهما نصفها. قال: وفي الصعر الدية. ش: لذهاب المنفعة والجمال، أشبه سائر المنافع. 3000 - ولأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت، ولا يعرف له مخالف. قال: والصعر أن يضربه فيصير الوجه في جانب. ش: قال الجوهري: الصعر الميل في الخد خاصة، وقال أبو محمد: أصله داء يأخذ البعير في عنقه فيلتوي له عنقه، وفي التنزيل: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ} [لقمان: 18] أي لا تعرض عنهم بوجهك تكبرا كإمالة وجه البعير الذي به الصعر، والله أعلم. قال: وفي المثانة إذا لم يستمسك البول الدية. ش: لأنه عضو فيه منفعة كثيرة، ليس في البدن مثله أشبه سائر الأعضاء، ومنفعة المثانة حبس البول، فإذا غيرت فقد زالت المنفعة. قال: وفي قرع الرأس إذ لم ينبت الشعر الدية، وفي الحاجبين إذا لم ينبت الشعر الدية، وفي اللحية إذا لم ينبت الشعر الدية. ش: هذا هو المذهب المشهور من الروايتين، لأنه إذهاب للجمال على الكمال، فوجبت الدية كاملة كأنف الأخشم،

وأذن الأصم، (والرواية الثانية) في الجميع حكومة، لأنه إذهاب جمال من غير منفعة، فأشبه اليد الشلاء، وألحق الأصحاب بهذه الثلاثة أهداب العينين، فجعلوا فيها دية على المذهب، وفي الواحد منها ربع الدية، كما أن في الحاجب نصفها، وقوله: إذا لم ينبت. شرط لوجوب الدية، فلو نبتت فلا دية. قال: وفي المشام الدية. . . ش: قال أبو محمد: أراد الشم، انتهى. ويجوز أن يكون أراد المنخرين. وفي كل واحد من ذلك نصف الدية، أما الأول فلأنها حاسة تختص بمنفعة، أشبهت سائر المنافع، مع أن القاضي يدعي أن في حديث عمرو «وفي المشام الدية» ولم أر ذلك، وأما الثاني فلأنه مما في الإنسان منه شيئان، وهو إحدى الروايتين، والمشهور منهما، وعليها ففي الحاجز حكومة، (والرواية الثانية) فيهما ثلثا الدية، وفي الحاجز ثلثها، اختارها أبو بكر، والله أعلم.

قال: وفي الشفتين الدية. ش: لحديث عمرو «وفي الشفتين الدية» وفي كل واحدة نصف الدية على المذهب المشهور من الروايتين، قياسا على ما في الإنسان منه شيئان. 3001 - واتباعا لأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، (والرواية الثانية) في الشفة السفلى ثلثا الدية، وفي العليا ثلثها. 3002 - اتباعا لزيد بن ثابت، ولأن نفع السفلى أكثر، فناسب أن تزيد ديتها على دية العليا. قال: وفي اللسان المتكلم به الدية. ش: لحديث عمرو بن حزم، وقد حكى إجماعا، وقوله: المتكلم به، يحترز به عن لسان الأخرس، فإن الدية لا تكمل فيه، بل الواجب فيه إما ثلث الدية، أو حكومة على اختلاف الروايتين، ويستثنى من عموم المفهوم لسان الطفل، فإن الكلام منتف فيه، والدية واجبة فيه، نعم إن بلغ إلى حد يتحرك فيه بالبكاء ولم يحركه فحكمه حكم لسان الأخرس، والله أعلم. قال: وفي كل سن خمس من الإبل إذا قلعت ممن قد ثغر. ش: في كل سن خمس من الإبل على المذهب، لما تقدم

من حديث عمرو بن حزم. 3003 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «في كل إصبع عشر من الإبل، وفي كل سن خمس من الإبل، والأصابع سواء، والأسنان سواء» . . . رواه الخمسة إلا الترمذي، وقال في المغني: وحكي عن أحمد أن في جميع الأسنان والأضراس دية. . قال: ويتعين حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد، للإجماع على أن في كل سن خمسا من الإبل، والأسنان فيها ستون بعيرا، لأنها اثنا عشر سنا، أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، ففيها خمس، والأضراس فيها أربعون، لأنها عشرون ضرسا. . . انتهى. 3004 - وقول سعيد هو أن في كل ضرس بعيرين، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال تبعه عليه في المقنع أن الواجب في الجميع دية واحدة وأطلق، وحقق أبو البركات هذا القول فقال: وقيل: إن قلع الكل أو فوق العشرين دفعة لم يجب سوى الدية، وذلك لأن هذه تشتمل على منفعة الجنس، فكان الواجب فيه دية كاملة، كبقية المنافع، ويحمل الحديث على ما إذا قلعها

متفرقة، أو قلع دون العشرين. وشرط وجوب ما تقدم أن تكون قد قلعت ممن قد أثغر، وهو الذي قد سقطت رواضعه، فأما سن الصبي الذي لم يثغر فهل يجب فيها ما يجب في سن من أثغر، لعموم الحديث، وهو اختيار أبي الخطاب، وأبي محمد، أو لا يجب إلا حكومة وهو اختيار القاضي، ويحتمله كلام الخرقي، لعدم مساواتها لسن الكبير، وذلك يقتضي أن ينقص عنها؟ على روايتين، (وشرط الوجوب) في سن الصغير وغيره عدم عود مثلها، فلو نبت مثل السن في محلها فلا شيء له، حتى لو كان قد أخذ الدية أخذت منه، كالشعر إذا نبت، نعم لو عادت قصيرة أو متغيرة فله الأرش، (ويشترط) أيضا لوجوب أخذ الدية الإياس من عودها، فإن رجي عودها لم تجب ديتها، والمرجع في ذلك إلى قول أهل الخبرة، قاله أبو البركات (وعن أحمد) أنه قيد ذلك في سن الصغير بسنة، فإذا مضت وجبت الدية، وقال القاضي: إذا سقطت أخواتها ولم تعد هي أخذت الدية وهو حسن، وإنما وقع لأحمد والقاضي التقييد في الصغير دون غيره لأن الغالب أن سن الكبير لا يرجى عودها، فلا انتظار. تنبيهان (أحدهما) لو مات من قلعت سنه في مدة الانتظار فهل تجب دية السن لوجود سبب الدية. . . والأصل عدم العود، أو لا تجب، لاحتمال العود، والأصل براءة الذمة؟ فيه قولان،

وأبو محمد يخصهما بسن الصغير، لأن الانتظار عنده إنما هو فيه. (والثاني) تجب دية السن فيما ظهر منها من اللثة، لأن ذلك هو المسمى بها سنا، وما في اللثة يسمى سنخا، ولو قلعها ابتداء بسنخها لم يجب فيها أكثر من الدية. قال: والأضراس والأنياب كالأسنان. ش: أي يجب فيهم ما يجب في الأسنان، وذلك لما تقدم. 3005 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الأسنان سواء الثنية والضرس سواء» رواه ابن ماجه وهو نص، وقد تقدم لنا قويل أن في كل ضرس بعيرين ولا عمل عليه. قال: وفي الثديين الدية سواء كان من رجل أو امرأة. ش: لأنهما مما في الإنسان منه شيئان، وقد تقدم أن كل ما في الإنسان منه شيئان فيه الدية، ولأن في ثدي المرأة جمالا ونفعا، أشبها اليدين وفي ثندوتي الرجل جمالا كاملا، أشبها أذني الأصم، وعلى هذا في أحدهما نصفها. قال: وفي الأليتين الدية. . . ش: لما تقدم، قال ابن المنذر: كل من نحفظ عنه من أهل

العلم يقولون في الأليتين الدية، ولأن فيهما جمالا ومنفعة، لأنه يجلس عليهما كالوسادتين، فأشبها اليدين، وفي إحداهما نصفها لما تقدم. قال: وفي الذكر الدية. ش: لحديث عمرو بن حزم وقد تقدم، مع أنه إجماع والحمد لله، ولا فرق بين ذكر الكبير والصغير، وإن لم يقدر أن يجامع به، لعموم الحديث، مع صلاحيته لذلك، وعموم كلام الخرقي يدخل فيه ذكر العنِّين والخصي، والذكر الأشل، ولا نزاع فيما نعلمه أن الذكر الأشل لا تكمل فيه الدية، وإنما الواجب فيه هل هو حكومة أو ثلث ديته؟ على روايتين يأتي توجيههما في اليد الشلاء أما ذكر الخصي والعنين ففيهما ثلاث روايات، (إحداها) وهي المشهورة حكمها حكم الذكر الأشل، لأن منفعة الذكر الإنزال والإحبال، وذلك مفقود فيهما. (والثانية) فيهما كمال الدية، لعموم الحديث، ولأنه عضو سليم في نفسه، فكملت ديته كذكر الشيخ. (والثالثة) يجب الكمال في ذكر العنين، لأنه غير مأيوس من الإنزال به والإحبال، بخلاف ذكر الخصي. (تنبيه) ينبني على الخلاف السابق في ذكر الخصي إذا قطع الذكر والخصيتين معا، أو الخصيتين ثم قطع الذكر، وجبت

ديتان بلا ريب، ولو قطع الخصيتين أولا، ثم قطع الذكر، وجبت دية الخصيتين، وفي الذكر روايتان، إحداهما دية، والأخرى حكومة أو ثلث ديته، على اختلاف الروايتين في الواجب فيه إذا لم يجب فيه كمال الدية. قال: وفي اليدين الدية. ش: هذا إجماع والحمد لله، وقد شهد له حديث عمرو بن حزم، وفي إحداهما نصفها، وقد شمل كلامه اليد الشلاء والزائدة، وسيأتي الكلام على اليد الشلاء إن شاء الله تعالى، وحكم اليد الزائدة حكمها، وتجب الدية في قطعها من الكوع إذ اليد إذا أطلقت في الغالب أريد بها ذلك، بدليل التيمم، وقطع السارق، وغسل اليدين إذا قام من نوم الليل، فإن قطهما من فوق ذلك فهل في الزائد حكومة، وهو اختيار القاضي فيما حكاه عنه أبو محمد، وأبو الخطاب، كما لو قطعه بعد قطعها من الكوع، أولا تجب، وهو منصوص أحمد في رواية أبي طالب، وقول القاضي في الجامع؟ على قولين، لأن اليد في الأصل اسم لليد إلى المنكب، مع أن الأصل براءة الذمة. وفي إحداهما نصفها إلا على رواية ضعيفة، وهو إذا لم تكن له إلا يد واحدة ففيها دية كاملة، كعين الأعور، وعلى

هذه لو قطع يد من له يدان لم تقطع يده، بل يكون عليه دية كاملة. قال: وفي الرجلين الدية. ش: هذا أيضا إجماع والحمد لله، وحديث عمرو بن حزم يدل عليه، وكلامه يشمل رجل الأعرج، وهو المذهب، لأن العرج لمعنى في غير القدم، وعن أبي بكر: فيها ثلث الدية كاليد الشلاء، ويستثنى من عموم كلامه الرجل الشلاء فإن حكمها حكم اليد الشلاء، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وتجب دية الرجل في قطعها من الكعب، فإن قطعها من فوق ذلك فقولان، كما تقدم في قطع اليد، وحكم قطع إحداهما حكم قطع إحدى اليدين. قال: وفي كل إصبع من اليد والرجل عشر من الإبل. ش: لما تقدم من حديث عمرو بن حزم، وعمرو بن شعيب. 3006 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «هذه وهذه سواء» . . . يعني الخنصر والإبهام رواه الجماعة إلا مسلما، وللترمذي وصححه: «أصابع اليدين والرجلين سواء، عشر من الإبل لكل أصبع» ويستثنى من كلامه الإصبع الزائدة، فإن فيها ثلث ديتها، أو حكومة، على اختلاف

الروايتين، والله أعلم. قال: وفي كل أنملة منها ثلث عقلها، إلا الإبهام فإنها مفصلان، ففي كل مفصل خمس من الإبل. ش: في كل أنملة من الأصابع ثلث عقل الإصبع لأن كل إصبع فيه ثلاث أنامل، فديته مقسومة عليها، إلا الإبهام فإنها مفصلان، فتقسم دية الإصبع عليهما، فيجب في كل مفصل نصف ديته، وهو خمس من الإبل. قال: وفي البطن إذا ضرب فلم يستمسك الغائط الدية، وفي المثانة إذا لم يستمسك البول الدية. ش: لأن كل واحد من هذين العضوين فيه منفعة ليس في البدن مثله، فوجب في تفويت منفعته دية كاملة، كسائر الأعضاء، وحكى ابن أبي موسى رواية في المثانة أن فيها ثلث الدية، والله أعلم. قال: وفي ذهاب العقل الدية. 3007 - ش: لأن ذلك يروى عن عمر وزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأن به يتميز من البهائم، ويعرف به حقائق المعلومات، ويدخل به في التكليف، وهو شرط في ثبوت الولايات، وصحة التصرفات، وأداء العبادات، فكان بإيجاب الدية أحق من

بقية الحواس، وقد ادعى أبو محمد أن في كتاب عمرو بن حزم «وفي العقل الدية» ، ولم أر ذلك، والله أعلم. قال: وفي اليد الشلاء ثلث ديتها، وكذلك العين القائمة، والسن السوداء. ش: هذا إحدى الروايتين عن إمامنا، واختيار عامة أصحابنا. 3008 - لما روي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست بثلث ديتها، وفي اليد الشلاء إذا قطعت بثلث ديتها، وفي السن السوداء إذا نزعت بثلث ديتها» ؛ رواه النسائي، ولأبي داود منه: «قضى في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية» . 3009 - وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في العين القائمة إذا خسفت، واليد الشلاء إذا قطعت، والسن السوداء، إذا كسرت ثلث دية كل واحدة منهن. (والرواية الثانية) في جميع ذلك حكومة، ولعله قال ذلك قبل أن يبلغه الخبر، أو قبل أن يثبت عنده، وإذا لا مقدر في ذلك، ولا يمكن إيجاب الدية فيه كاملة، لذهاب نفعه، فيجب فيه حكومة.

تنبيهان: (أحدهما) العين القائمة هي الباقية في موضعها صحيحة، وإنما ذهب نظرها وإبصارها، واليد الشلاء التي بطلت لآفة تعتريها، ومن ثم قال القاضي: الروايتان في السن السوداء التي ذهب نفعها، أما إن لم يذهب نفعها بالكلية، ففيها ديتها كاملة، وخالفه أبو محمد عملا بإطلاق أحمد، وبظاهر الحديث. (الثاني) : الروايتان السابقتان جاريتان في الرجل الشلاء، والإصبع الشلاء، والذكر الأشل، والثدي الأشل، ولسان الأخرس، ولسان الصبي الذي أتى عليه أن يحركه بالبكاء ولم يحركه، والثدي دون حلمته، والذكر دون حشفته، والكف دون أصابعه، وقصبة الأنف، واليد والإصبع، والرجل والسن الزوائد [وذكر الخصي والعنين على رواية، إلا أن المختار لأبي محمد في اليد والأصبع والرجل والسن الزوائد] أن فيها حكومة، وكذلك مختاره في الذكر، دون حشفته، والكف دون أصابعه، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اقتصر على ما تقدم، إما لورود النص فيها دون غيرها، وإما لأن مختاره وجوب الحكومة فيما عداها. واعلم أن أبا محمد جعل من صور الخلاف هنا شحمة الأذن، وكلامه في المغني في هذا الموضع يقتضي أن مختاره أن فيها حكومة، ولما تكلم في قطع الأذن، وأن في بعضها بالحساب من ديتها، قال: إنه روي عن أحمد أن في شحمة

الأذن ثلث ديتها، وأن المذهب الأول، وعلى هذا الثاني جرى أبو البركات، ولم يحك رواية الحكومة. قال: وفي إسكتي المرأة الدية. ش: الإسكتان بكسر الهمزة وفتحها شفرا الرحم، وقيل جانباه مما يلي شفريه، وفيهما الدية، لأن فيها جمالا ومنفعة، وليس في البدن غيرهما من جنسهما، فوجبت فيهما الدية كسائر ما في البدن منه شيئان، والله أعلم. قال: وفي موضحة الحر خمس من الإبل. ش: لما تقدم في حديث عمرو بن حزم. 3010 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «في الموضحة خمس من الإبل» رواه الخمسة. وقوله: في موضحة الحر. يحترز به عن موضحة العبد، فإن فيها نصف عشر قيمته أو ما نقص من قيمته، على اختلاف الروايتين والله أعلم. قال: سواء كان رجلا أو امرأة. ش: أي سواء كان المجني عليه رجلا أو امرأة، لعموم الحديث، ولما تقدم من أن جراحها تساوي جراح الرجل إلى الثلث، ونص الخرقي على ذلك لينبه على مذهب الشافعي

جراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى الثلث

- رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أن موضحتها على النصف من موضحة الرجل. [جراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى الثلث] قال: وجراح المرأة تساوي جراح الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زادت صارت على النصف. ش: قد تقدم الكلام على هذا بما فيه كفاية، ونزيد هنا أن مقتضى كلامه أنها تساويه في الثلث، وهذا اللفظ في هذا الموضع غير موجود في بعض النسخ. قال: والموضحة في الوجه والرأس سواء. ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي وعامة أصحابه، لعموم ما تقدم. 3011 - وعن أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الموضحة في الرأس والوجه سواء. (والرواية الثانية) : في موضحة الوجه عشر من الإبل، قال القاضي: نقلها حنبل انتهى. . . واختارها الشيرازي، وذلك لأن شينها أكثر، لظهورها، بخلاف موضحة الرأس فإنه يسترها

الرأس والشعر، وأول أبو محمد هذه الرواية بعد أن زعم أن لفظها موضحة الوجه أحرى أن يزاد في ديتها. بأن معناها أنها أولى بإيجاب الدية، لا أنها يجب فيها أكثر، وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا مقدر في غير موضحة الرأس والوجه من المواضح، وهو كذلك، إذ اسم الموضحة إنما يطلق على الجراحة المخصوصة في الوجه والرأس، وغيرهما ليس في معناهما، لأن شينهما أكثر، وخطرهما أعظم والله أعلم. قال: وهي التي تبرز العظم وتوضحه. ش: هذا بيان للموضحة أنها التي تبرز العظم أي تظهره، سميت بذلك لأنها أبدت وضح العظم أي بياضه، ولا فرق بين قليل ذلك وكثيره، حتى لو أبدت من العظم قدر إبرة فهي موضحة، ولو كانت كل الرأس فهي موضحة، ومن ثم قال الأصحاب: لو شجه في رأسه شجة بعضها موضحة وبعضها دون الموضحة، لم يلزمه أكثر من أرش الموضحة. قال: وفي الهاشمة عشر من الإبل. 3012 - ش: لأن ذلك يروى عن زيد بن ثابت، ولأنها شجة فوق الموضحة، تختص باسم، فكان فيها مقدر كالمأمومة، والله أعلم. قال: وهي التي توضح العظم وتهشمه.

ش: هذا بيان للهاشمة، وسميت بذلك لهشمها العظم، وكان ابن الأعرابي يجعل بعد الموضحة المفرشة، وهي التي يصير منها في العظم صديع مثل الشعرة، ويلمس باللسان لخفائه، انتهى. وتختص أيضا بالرأس والوجه كما في الموضحة، ولو هشمت العظم من غير إيضاح لم يجب أرش الهاشمة، على مقتضى كلام الخرقي، وهو كذلك بلا ريب، وهل تجب خمس من الإبل، لأنه الذي يخص الهشم، أو حكومة لأن زيدا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم يحكم إلا في إيضاح وهشم؟ فيه وجهان. قال: وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل. ش: قد حكى ذلك ابن المنذر إجماعا، وشهد له حديث عمرو بن حزم، والله أعلم. قال: وهي التي توضح وتهشم وتسطو حتى تنقل عظامها. ش: المنقلة زائدة على الهاشمة، لأنها التي توضح العظم وتهشم وتزيد في الهشم، حتى تزيل العظام عن مواضعها، وبذلك سميت المنقلة، لنقلها العظام. قال: وفي المأمومة ثلث الدية. ش: لحديث عمرو بن حزم. 3013 - وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في المأمومة بثلث العقل، ثلاث وثلاثون من الإبل، أو قيمتها من الذهب، أو الورق أو البقر، أو الشاء،

والجائفة مثل ذلك» ، مختصر رواه أبو داود والنسائي. قال: وهي التي تصل إلى جلدة الدماغ. ش: وتسمى أم الدماغ سميت بذلك لأنها تحوط الدماغ وتجمعه. قال: وفي الآمة ما في المأمومة. ش: الآمة والمأمومة حكمهما واحد، وهما شيء واحد، قال ابن المنذر: أهل العراق يقولون لها الآمة، وأهل الحجاز المأمومة أي لهذه الجراحة، وسميت بذلك لوصولها إلى جلدة الدماغ التي هي أم الدماغ. (تنبيه) : فإن خرق جلدة الدماغ فهي الدامغة يعني بالغين المعجمة، وفيها ما في المأمومة، وقيل فيها مع ذلك حكومة لخرق الجلدة. قال القاضي: ولم يذكرها أصحابنا لمساواتها المأمومة في أرشها. قال أبو محمد: ويحتمل أنهم تركوا ذكرها لكون صاحبها لا يسلم غالبا والله أعلم. قال: وفي الجائفة ثلث الدية. ش: لما تقدم من حديث عمرو بن حزم وعمرو بن شعيب.

حكم من وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها

قال: وهي التي تصل إلى الجوف. ش: وبذلك سميت، وقد خرج من كلام الخرقي إذا طعنه في خده فوصل إلى فمه، أنها لا تكون جائفة، وهو المذهب، لأن الفم في حكم الظاهر لا في حكم الباطن، ولأبي الخطاب احتمال أنه جائفة، لوصوله إلى جوفه، والله أعلم. قال: فإن جرحه في جوفه فخرج من الجانب الآخر، فهي جائفتان. 3014 - ش: اقتداء بأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعن سعيد بن المسيب أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه، فقضى أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بثلثي الدية رواه سعيد بن منصور في سننه، وروى ذلك أيضا عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [حكم من وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها] قال: ومن وطئ زوجته وهي صغيرة ففتقها لزمه ثلث الدية. ش: معنى الفتق أن يجعل مدخل الذكر، وهو مخرج المني والحيض والولد، ومخرج البول واحدا، وقيل: بل هو خرق

ما بين القبل والدبر، وبعده أبو محمد، لغلظ الحاجز بينهما، فيبعد ذهابه بالوطء، وفي ذلك ثلث الدية. 3015 - لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنها جناية تخرق الحاجز بين مسلك البول والذكر، فكان موجبها ثلث الدية كالجائفة، ويجب ذلك في ماله إن تعمد، بأن يعلم أنها لا تطيقه، وإن وطأها يفضيها، أما إن لم يعلم ذلك، وكان مما يحتمل أن لا يفضي إليه فهو شبه عمد، تحمله العاقلة على الصحيح، وقيد الخرقي بالصغيرة، وفي معناها النحيفة التي لا تحتمل الوطء، ولتخرج الكبيرة المحتملة له، فإنه إذا وطئها فأفضاها لا شيء عليه، لأنه وطء مستحق له، فلم يجب ضمان ما تلف به كالبكارة، أو فعل مأذون فيه ممن يصح إذنه، فلم يضمن ما تلف بسرايته كما لو أذنت في مداواتها بما أفضى إلى ذلك. وقال: زوجته لتخرج الأجنبية، فإنه إن زنا بها مطاوعة فلا شيء لها، وإن كانت مكرهة واستمسك البول وجب ثلث الدية، وإن لم يستمسك فالدية كاملة، وإن وطئها بشبهة فكذلك مع المهر. قال: وفي الضلع بعير. 3016 - ش: يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى في الضلع بجمل، وشرط أبو البركات لذلك أن يجبر مستقيما، ومفهوم

كلامه أنه لو لم يجبر مستقيما كان فيه حكومة، ولم أر هذا الشرط لغيره، وقد حكى القاضي في روايتيه أن أحمد قال: في الضلع بعير، وهذا لا قيد فيه. قال: وفي الترقوة بعيران. ش: الترقوة بفتح التاء، قال الجوهري: ولا تقل ترقوة بالضم، وهي العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق، وفيها بعيران على ظاهر كلام الخرقي، فيكون في الترقوتين أربعة أبعرة. 3017 - وهذا قول زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والمنصوص أن في الواحدة بعيرا، فيكون فيهما بعيران. 3018 - وهذا قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهو المذهب عند القاضي وأصحابه، حتى إن القاضي قال: مراد الخرقي

بقوله: الترقوة: الترقوتان، وإنما اكتفى بلفظ الواحد لإدخال الألف واللام المقتضية للاستغراق، والله أعلم. قال: وفي الزند أربعة أبعرة لأنه عظمان. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، وقاله ابن عقيل في التذكرة، لما علل به الخرقي من أنه عظمان، ففي كل عظم بعيران. والمنصوص في رواية صالح وأبي الحارث أن في الزند الواحد بعيران، وفيهما جميعا أربعة من الإبل، وعليه القاضي وأصحابه وحمل القاضي كلام الخرقي أيضا على الزندين. 3019 - وذلك لما روى سعيد: حدثنا هشيم، أخبرنا يحيى بن كثير، ثنا سعيد، عن عمرو بن شعيب، أن عمرو بن العاص كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في أحد الزندين إذا كسر، فكتب إليه عمر أن فيه بعيرين، وإذا كسر الزندين ففيهما أربعة من الإبل. وظاهر كلام الخرقي أنه لا مقدر في غير هذه العظام، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية ابن منصور. 3020 - وقيل له: إذا كسرت الذراع أو الساق، فقال: يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في كل واحد فريضتان، ولا تكتبه،

دية الشجاج التي لا توقيت فيها

وظاهر هذا أنه لم يأخذ به، ونص في رواية أبي طالب أن في كسر الساق وفي كسر الفخذ بعيران، كذا في روايتي القاضي، وظاهر كلام أبي البركات أن في رواية أبي طالب مع ذلك العضد والذراع، وأن أحمد نص في رواية صالح أن في كل واحد من الأربعة بعيرا، قال: ورواه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (والرواية الثانية) اختيار القاضي وابن عقيل وأبي الخطاب، وزاد على ذلك عظم القدم، فجعل فيه بعيرين. (تنبيهان) : (أحدهما) حيث أوجبنا بعيرا أو بعيرين ونحو ذلك، فإن في ذلك من البقر ونحوها بحساب ذلك، ذكره ابن عقيل. (الثاني) الزند بفتح الزاي، قال الجوهري: موصل طرف الذراع في الكف وهما زندان بالكوع والكرسوع، وهو طرف الزند الذي يلي الخنصر، وهو الناتئ عند الرسغ، والله أعلم. [دية الشجاج التي لا توقيت فيها] قال: قال أبو عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والشجاج التي لا توقيت فيها أولها (الحارصة) وهي التي تحرص الجلد يعني تشقه قليلا، وقال بعضهم: هي الحرصة ثم (الباضعة) وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، ثم (البازلة) وهي التي يسيل منها الدم ثم (المتلاحمة) وهي التي أخذت في اللحم، ثم (السمحاق) وهي التي بينها وبين العظم قشرة

رقيقة، ثم (الموضحة) . ش: الشجاج جمع شجة، وهي المرة إذا جرحه في رأس أو وجه، وقد تستعمل في غيرهما، والشجاج عشر، خمس فيها مقدر، وهي الموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والدامغة، وخمس لا مقدر فيها على المذهب المشهور، والمختار للأصحاب من الروايتين، وهي هذه المذكورة، لعدم التقدير فيها من جهة الشرع، وما لا مقدر فيه الواجب فيه حكومة. 3021 - ويروى عن مكحول قال: «قضى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الموضحة بخمس من الإبل، ولم يقض فيما دونها» . 3022 - ونقل أبو طالب عنه حكم زيد في البازلة ببعير، وفي الباضعة ببعيرين، وفي المتلاحمة بثلاثة، وفي السمحاق بأربعة، وأذهب إليه، وهذا حكم أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما حكموا في الصيد، وهذا اختيار أبي بكر، وحكى الشيرازي عن ابن أبي موسى أنه اختار ذلك في السمحاق، انتهى. وعن القاضي أنه قال: متى أمكن اعتبار

هذه الجراحات من الموضحة، مثل أن يكون في رأس المجني عليه موضحة إلى جانبها، قدرت هذه الجراحة منها، فإن كانت بقدر النصف وجب نصف أرش الموضحة، وإن كانت بقدر الثلث وجب ثلث الأرش. وعلى هذا، إلا أن تزيد الحكومة على ذلك، فيجب ما تخرجه الحكومة، مثاله الجراحة قدر نصف الموضحة، وشينها ينقص قدر ثلثيها، الواجب ثلثا أرش الموضحة، وإن نقص الشين عن النصف، فالواجب النصف، وملخصه أنه يوجب الأكثر مما تخرجه الحكومة أو قدرها من الموضحة. قال أبو محمد: وهذا لا نعلمه مذهبا لأحمد، ولا يقتضيه مذهبه. . . انتهى. وأما تفسير هذه الشجاج وترتيبها (فأولها) الحارصة، قال الأزهري: هي التي تحرص الجلد أي تشقه قليلا ومنه: حرص القصار الثوب. أي خرقه، بالدق، (ثم يليها) - على ما قال الخرقي، وتبعه ابن البنا - الباضعة، وهي التي تشق اللحم بعد الجلد، يعني ولا يسيل منها دم، بدليل ما ذكر بعد، وكذلك قال الجوهري، وابن فارس: الباضعة الشجة التي تقطع الجلد، وتشق اللحم، إلا أنه لا يسيل الدم، فإن سال فهي الدامية، وقال أبو محمد: الصواب الحارصة، ثم

دية ما لم يكن فيه من الجراح توقيت

البازلة، ثم الباضعة، وقال: لعل ما في النسخ غلط من الكتاب، قال: لأن الباضعة التي تشق اللحم بعد الجلد، ويسيل منها دم كثير في الغالب، بخلاف البازلة، فإنها الدامعة، لقلة سيلان دمها. 3023 - قال: ولأن زيدا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جعل في البازلة بعيرا، وفي الباضعة بعيرين، فدل على أن الباضعة أشد، انتهى. وهذا قول الأصمعي والأزهري، وبالجملة اتفقوا فيما علمناه على تقديم الحارصة، وتأخير السمحاق، واختلفوا في البازلة مع الباضعة، أيهما يقدم على الأخرى - والبازلة فاعلة من: بزلت الشجة الجلد، أي شقته فجرى الدم، يقال: بزلت الخمر. ثقبت إناءها فاستخرجتها، فالدم محبوس في محله، كالمائع في وعائه، والشجة بزلته، والسمحاق قشرة رقيقة فوق عظم الرأس، فإذا وصلت الشجة إليها سميت سمحاقا باسمها، والله أعلم. [دية ما لم يكن فيه من الجراح توقيت] قال: وما لم يكن فيه من الجراح توقيت، ولم يكن نظيرا لما وقتت ديته ففيه حكومة. ش: الذي فيه من الجراح توقيت كالموضحة، والمنقلة، وكذلك الأنف واللسان، ونحو ذلك، والذي هو نظير الموقت كالهاشمة، والأليتين، ونحو ذلك، أي تقدير من جهة

تعريف الحكومة

الشرع، وما عدا هذين، وهو ما لا موقت فيه، ولا يمكن قياسه على الموقت، كجراح البدن سوى الجائفة، وكسر العظام سوى ما تقدم، كخرزة الصلب والعصعص، ونحو ذلك ففيه حكومة، حذارا من أن تخلو الجراحة من أرش. [تعريف الحكومة] قال: والحكومة أن يقوم المجني عليه كأنه عبد لا جناية به ثم يقوم وهي به قد برأت، فما نقص من القيمة فله مثله من الدية، كأنه قيمته وهو عبد صحيح عشرة، وقيمته وهو عبد به الجناية تسعة، فيكون فيه عشر ديته. ش: قال ابن المنذر: إن هذا قول كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وإنما كان كذلك لأن جملته مضمونة، فأجزاؤه مضمونة، كما أن المبيع إذا كان مضمونا على البائع، كانت أجزاؤه مضمونة عليه، ولو كان مضمونا على المشتري كانت أجزاؤه مضمونة عليه، فالأجزاء تابعة للأصل، وإذا كانت الأجزاء مضمونة، ولم يرد فيها تقدير من جهة الشرع، فالواجب سلوك هذه الطريقة، لنصل إلى الواجب، فيجعل الحر عبدا ليمكن تقويمه، إذ الحر ليس بمال، وغير المال لا يقوم، فيقال: كم قيمة هذا لو كان عبدا لا جناية به؟ فيقال مثلا: مائة، ويقال: وكم قيمته وبه الجناية؟ فيقال

مثلا: ثمانون. فما بينهما من القيمتين هو الخمس، فيكون له خمس الدية، لأن ديته بمنزلة قيمته. قال: وعلى هذا ما زاد من الحكومة أو نقص. . . ش: يعني إنما ذكرته مثالا، وقد تزيد الحكومة على مثاله كما مثلنا، وقد تنقص، كما لو قيل: قيمته وهو صحيح عشرة، وقيمته وبه الجناية تسعة ونصف، فما بينهما نصف عشر قيمته، فيكون فيه نصف عشر ديته. قال: إلا أن تكون الجناية في رأس أو وجه، فتكون أسهل مما وقت ديته فيه، فلا يجاوز به أرش الموقت. ش: يعني أن الواجب ما أخرجته الحكومة مطلقا، ويستثنى من ذلك إذا كانت الجراحة في شيء فيه مقدر، فإنه لا يجاوز به المقدر، حذارا من أن يجب في بعض الشيء أكثر مما يجب فيه كله، ولأن الضرر في الموضحة مثلا أكثر من الضرر في البازلة، وشينها أعظم، فلا يناسب أن يزيد أرش البازلة على أرش الموضحة، وفي بلوغ المقدر وجهان (أحدهما) - وهو ظاهر كلام الخرقي، وإليه ميل أبي محمد - يبلغ، نظرا إلى أن مقتضى الدليل وجوب ما أخرجته الحكومة، سقط الزائد على أرش الموضحة مثلا لمخالفة تنبيه النص، ففيما لم يزد يجب البقاء على الأصل. (والثاني) - وهو اختيار الشريف، وابن عقيل، وقال القاضي في جامعه: إنه المذهب - لا يبلغه، بل ينقص عنه شيئا، حسب ما يؤدي إليه الاجتهاد، حذارا من أن يجب في البعض ما يجب في الكل، ونقضه أبو محمد بأن دية الأصابع فيها ما

في اليد، قال: وإن صح ما ذكر فينبغي أن ينقص أدنى ما تحصل به المساواة المحدودة، ومثال المسألة لو شجه بازلة أو سمحاقا، لم تبلغ بأرش ذلك (زيادة) على أرش الموضحة، وفي بلوغه أرش الموضحة وجهان، وكذلك لو جرحه في بطنه جرحا لا يصل إلى الجائفة، لا يزيد أرشه على أرش الجائفة، وفي مساواتها وجهان، وكذلك لو جرحه في أنملته جرحا لم يزد على أرش الأنملة، وفي مساواتها على الوجهين. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اقتصر على ذكر الرأس والوجه، ومفهوم كلامه اختصاص الامتناع بهما، فعلى هذا يجوز أن يزيد أرش جرح الأنملة على ما فيها، وغيره من الأصحاب عدى الحكم إلى كل ما فيه مقدر كما تقدم. (تنبيه) : التقويم بعد البرء قياسا على أرش الجرح المقدر، فإنه لا يستقر إلا بعد برئه، فإن لم تنقصه الجناية شيئا حال البرء، فعنه - وهو اختيار أبي محمد - لا شيء فيها، إذ الحكومة لأجل جبر النقص، ولا نقص، أشبه ما لو لطم وجهه فلم يؤثر (وعنه) وهو المنصوص، واختيار القاضي وغيره: بلى، لأن هذا جزء من مضمون، فلم يخل عن ضمان، كما لو أتلف منه مقدرا ولم ينقصه شيئا، فعلى هذا هل يقوم حال الجناية، أو قبيل الاندمال التام، فإن لم ينقص فحال الجناية؟ فيه وجهان، فإن لم ينقص حال الجناية أو

دية العبد والأمة والخنثى فيما ليس فيه توقيت

زادته حسنا كإزالة لحية المرأة، أو سن زائدة، فلا شيء على الأصح عند الشيخين، وقال أبو الخطاب في الهداية: يقوم كأنه عبد كبير له لحية فذهبت، وأشانته، فما نقص لزمه من دية المرأة بقسطه، قال: وفيه نظر. وفي السن الزائدة قال أبو محمد على هذا القول: يقوم كأن لا سن له زائدة ولا خلقة أصلية، ثم يقوم وقد ذهبت الزائدة، قال: ولو كانت المرأة إذا قدرناها ابنة عشرين فنقصها ذهاب لحيتها يسيرا، وإذا قدرناها ابنة أربعين تنقصها كثيرا، قدرناها ابنة عشرين كما يقوم الجرح الذي لم ينقص بعد الاندمال أو قبله. [دية العبد والأمة والخنثى فيما ليس فيه توقيت] قال: وإن كانت الجناية على العبد مما ليس فيه من الحر شيء موقت، ففيه ما نقصته بعد التئام الجرح، وإن كان فيما جني عليه شيء موقت في الحر، فهو موقت في العبد. ش: لا نزاع أن ما لا مقدر فيه من الحر يضمن العبد إذا جني عليه فيه بما نقص، لأن ضمانه ضمان الأموال، فيجب ما نقص كالبهائم، ولأنه مما يضمن بالقيمة، وإن كثرت فيضمن بما نقص، كسائر الأموال، واختلف فيما فيه مقدر من الحر، إذا جني على العبد فيه، (فعنه) - وهو اختيار الخلال - يضمن ما نقص أيضا، لما تقدم. 3024 - واعتمادا من أحمد على أنه قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -

و (عنه) - وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي وأصحابه - أن ما كان مقدرا في الحر فهو مقدر في العبد من قيمته، نظرا إلى أنه آدمي، يضمن بالقصاص والكفارة، فكان في أطرافه مقدرا كالحر، ولأن له شبها بالآدميين وبالبهائم، كما هو مقرر في موضعه، فجعلناهم فيما لا مقدر فيه كالبهائم، وفيما فيه مقدر كالأحرار، إعمالا لكل من الشبهين. 3025 - وقد روي هذا عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال: ففي يده نصف قيمته، وفي موضحته نصف عشر قيمته، سواء نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر. ش: لا تفريع على الرواية الأولى، بل الواجب النقص مطلقا، أما على مختار الخرقي - وهو المذهب - ففي يد العبد نصف قيمته، كما في يد الحر نصف ديته وفي موضحته نصف عشر قيمته كما في موضحة الحر نصف عشر ديته، وفي لسانه أو ذكره، أو يديه جميع قيمته، مع بقاء الملك عليه، كما أن في الحر في كل واحد من هذه الدية، وعلى هذا، وسواء نقصته الجناية أقل من ذلك أو أكثر، إناطة بالتقدير، وعلى هذا لو جني عليه جناية لا مقدر فيها في الحر، إلا أنها في شيء فيه مقدر، كما لو جني عليه في رأسه أو وجهه دون الموضحة، هل يضمن بما نقص مطلقا، وإليه

ميل أبي محمد اعتبارا بالأصل، أو إن نقص أكثر من أرشها وجب نصف عشر قيمته، كالحر إذا زاد أرش شجته التي دون الموضحة على نصف عشر ديته؟ فيه قولان، والله أعلم. قال: وهكذا الأمة. ش: الأمة كالعبد فيما تقدم، لأنها مال كهو. (تنبيه) : فإن بلغت جراحتها ثلث قيمتها، فقال أبو محمد: يحتمل أن يرد جنايتها إلى النصف، فيكون في ثلاثة أصابعها ثلاثة أعشار قيمتها، وفي الأربع خمس قيمتها، كالحرة تساوي الرجل في جراحها إلى الثلث، فإذا زادت ردت إلى النصف، قال: ويحتمل أن لا ترد إلى النصف؛ لأن ذلك في الحرة على خلاف الأصل، إذ الأصل زيادة الأرش بزيادة الجناية. قلت: وهذا هو الصواب، إذ قياسها على الحرة إنما يقتضي أن تكون فيما نقص عن الثلث تساوي الذكر من الأرقاء في قيمته، ولا يتأتى هذا. قال: فإن كان المقتول خنثى مشكلا ففيه نصف دية ذكر، ونصف دية أنثى. ش: كما يرث نصف ميراث ذكر، ونصف ميراث أنثى، ولأنه يحتمل الذكورية والأنوثية، احتمالا واحدا، وقد يئس من انكشاف حاله، فوجب التوسط بينهما، حذارا من ترجيح أحدهما على الآخر بلا مرجح. (تنبيه) : جراحه ما لم يبلغ الثلث منها الواجب فيه دية

ذكر، وما زاد على الثلث الواجب فيه ثلاثة أرباعها نصف دية ذكر، ونصف دية أنثى، وفي الثلث قولان، والله أعلم. قال: وإن كان المجني عليه نصفه حرا، ونصفه عبدا فلا قود. ش: يعني إذا كان الجاني حرا، لعدم الكفاءة المعتبرة شرعا كما تقدم، ولو كان الجاني رقيقا وجب القود بلا ريب، لأن المجني عليه أكمل منه. وكذلك لو كان نصفه حرا لتساويهما، ومن ثم لو كانت الحرية في القاتل أكثر فلا قود، لعدم التساوي. قال: وعلى الجاني إذا كان عمدا نصف دية حر، ونصف قيمته. ش: لأنه والحال ما تقدم نصفه حر، والواجب في الحر الدية، ففي نصفه نصفها، ونصفه رقيق، والواجب قيمة الرقيق، ففي نصفه نصفها، ويكون ذلك في مال الجاني، لأنه عمد، والعاقلة لا تحمل عمدا. قال: وهكذا في جراحه. ش: يعني يجب فيه نصف ما يجب في الحر، ونصف ما يجب في العبد، ففي لسانه نصف دية حر، ونصف قيمة عبد، وفي يده أو رجله ربع دية حر، وربع قيمة عبد. وفي موضحته ربع عشر دية حر، وربع عشر قيمة عبد، وعلى هذا - هذا على مختار الخرقي الذي هو المذهب، في أن العبد يضمن بالمقدر، أما على الرواية الأخرى ففي لسانه نصف دية

حر، ونصف ما نقص، وفي يده أو رجله ربع دية حر، ونصف ما نقص، وفي موضحته ربع عشر دية حر، ونصف ما نقص، والله أعلم. قال: فإن كان خطأ ففي ماله نصف قيمته. ش: أي وإن كان القتل خطأ ففي مال الجاني نصف قيمته في ماله، لأنها وجبت بدل رقيق، والعاقلة لا تحمل رقيقا. قال: وعلى عاقلته نصف الدية. ش: لأنها بدل حر، والعاقلة تحمل الحر في الخطأ. (تنبيه) : والحكم في الجراح أن ما كان عمدا كان في مال الجاني، وكذلك إن كان خطأ ولم يبلغ الثلث، وإن بلغه فعلى العاقلة.

كتاب القسامة

[كتاب القسامة] ش: القسامة الأيمان يقسم بها أولياء الدم على استحقاق دم صاحبهم، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، وهو مصدر يقال: أقسم يقسم قسامة إذا حلف. 3026 - والأصل فيها ما «روى سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل، ومحيصة بن مسعود إلى خيبر، وهي يومئذ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا، فدفنه ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل، ومحيصة وحويصة ابنا مسعود، إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: «كبر كبر» وهو أحدث القوم، فسكت فتكلما، فقال: «أتحلفون وتستحقون قاتلكم أو صاحبكم» ؟ قالوا: كيف نحلف ولم نشهد ولم نر؟ قال: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا» فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار؟ فعقله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده» ، وفي رواية فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» قالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» . قالوا: يا رسول الله قوم كفار» . رواه الجماعة. 3027 - وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، «عن

أناس من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن القسامة كانت في الجاهلية، فأقرها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ما كانت في الجاهلية، وقضى بها بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على يهود خيبر.» رواه مسلم وغيره. (تنبيه) : «يتشحط في دمه» أي يضطرب، «وكبر كبر» أي ليتكلم الأكبر، «وبرمته» يقال: أخذت الشيء برمته، إذا أخذته جميعه، والرمة الحبل، كأنه أعطاه بحبله الذي يكون فيه يقاد به. قال: وإذا وجد قتيل فادعى أولياؤه على قوم لا عداوة بينهم ولا لوث، ولم تكن لهم بينة، لم يحكم لهم بيمين ولا غيرها. ش: غير اليمين القصاص، أو الدية، ولا نزاع عندنا أنه لا يحكم لهم والحال هذه بذلك. 3028 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه مسلم وغيره، وظاهره أنه ليس على المدعى عليه غير اليمين، ولأن الأصل براءة الذمة، فلا يثبت شغلها إلا بدليل ولم يوجد، واختلف عن أحمد

- رَحِمَهُ اللَّهُ - هل يحكم لهم باليمين على المدعى عليه. (فعنه) - وهو اختيار الخرقي - لا يحكم لهم بذلك، لأنها دعوى لا يقضى فيها بالنكول، فلم يستحلف فيها كالحدود، وإنما لم يقض فيها بالنكول حذارا من قتل نفس بأمر محتمل. (وعنه) - وهو اختيار أبي محمد وهو الحق - يحكم لهم بذلك، لعموم الحديث المتقدم، لا سيما والدماء مذكورة في أوله، وذلك قرينة دخولها في اللفظ العام، ولأنه حق لآدمي، فاستحلف فيه كبقية الحقوق، وعدم القضاء بالنكول ليس هو العلة في عدم الحلف في الحدود، وإنما العلة تمحض حقيقته لله تعالى، كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى فعلى هذه هل يحلف المدعى عليه يمينا واحدة، اعتمادا على ظاهر الحديث وكبقية الحقوق، وهو اختيار أبي محمد، وابن البنا، وأبي الخطاب، أو خمسين يمينا، لأنها دعوى في قتيل، فكان المشروع فيها خمسين يمينا، كما لو كان بينهما لوث؟ على روايتين، وحيث حلف المدعى عليه فلا كلام، وحيث امتنع لم يقض عليه بالقود، بلا نزاع عندنا، حذارا مما تقدم، وهل يقضى عليه بالدية؟ فيه روايتان، وإذا لم يقض فهل يخلى سبيله، أو يحبس؟ على وجهين. واعلم أن محل الخلاف في أصل المسألة في قتل العمد، أما قتل الخطأ فيستحلف فيه رواية واحدة، لأن موجبه مال. وقول الخرقي: وإذا وجد قتيل، وادعى أولياؤه على قوم. شرط هؤلاء القوم أن يكونوا معينين، فلو كانت الدعوى على

أهل مدينة ونحو ذلك لم تسمع، قياسا على سائر الدعاوي، وقوله: لا عداوة بينهم ولا لوث. يحترز عما لو كان بينهم ذلك كما سيأتي. . . وقوله: ولم تكن لهم بينة. يحترز عما لو كانت بينة، فإنها تبين الحق وتظهره، فيعمل بمقتضاها، والله أعلم. قال: وإن كان بينهم عداوة ولوث، وادعى أولياؤه على واحد منهم، وأنكر المدعى عليه، ولم يكن للأولياء بينة، حلف الأولياء خمسين يمينا على قاتله، واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمدا. ش: الأصل في هذه الجملة من جهة الإجمال ما تقدم من حديث سهل بن أبي حثمة، فإن القتيل كان من الأنصار، ولا ريب أن الأنصار ويهود خيبر كانوا متعادين، ولما ادعى أولياء الأنصاري القتل على اليهود، وأنكروا ذلك، ولم تكن لأولياء الأنصاري بينة، قال لهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أتحلفون وتستحقون قاتلكم» ، وفي لفظ قال: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الأولياء يقسمون على القاتل ويستحقونه. أما من جهة التفصيل فقول الخرقي: وإن كان بينهم عداوة ولوث تنبيه على أن القسامة المذكورة من شرطها ذلك، وهو كذلك بلا ريب، لأن الحديث ورد على مثل ذلك، وهو

المثبت للقسامة، فلا يتعداه، ولأنه مع العداوة ونحوها يغلب على الظن صدق المدعين، فتكون اليمين في جهتهم، إذ اليمين في جنبة أقوى المتداعيين، ولا نزاع عن إمامنا وأصحابنا أن الحكم يثبت بالعداوة الظاهرة بين المقتول والمدعى عليه، كنحو ما بين الأنصار وأهل خيبر، وكما بين القبائل التي يطلب بعضها بعضا بالثأر، وكما بين أهل البغي وأهل العدل، وبين الشرطة واللصوص، ونحو ذلك، نظرا إلى واقعة الحديث، وما في معناها، من حيث أن لا فارق، فهو كقياس الشيرج على السمن، والأمة على العبد. واختلف عن إمامنا هل يقتصر على ذلك، وبه قطع جماعة من الأصحاب، وقال أبو الخطاب: إنه اختيار عامتهم، اقتصارا على مورد النص وما في معناه، أو يتعدى ذلك إلى كل ما يغلب على الظن صحة الدعوى، كتفرق جماعة عن قتيل، ووجود قتيل عند من معه سيف ملطخ بدم، وشهادة من لا يثبت القتل بشهادته، كالعدل الواحد، أو النساء أو الصبيان، أو الفساق ونحو ذلك، إناطة بغلبة الظن، لأن ذلك معنى مناسب، ولأن كثيرا من الأحكام يناط بها؟ على روايتين ثم قول الخرقي: عداوة ولوث، ظاهره أنه لا بد من الجمع بينهما، فيحتمل أن يريد أنه لا يكتفى بمجرد العداوة، بل لا بد من قدر

زائد، وهو (إما) ظهور العداوة كما تقدم، وعبر عن ذلك باللوث، (وإما) أن لا يكون في الموضع الذي وقع به القتل غير العدو، كما هو رأي القاضي في موضع، لكن منصوص أحمد أن ذلك لا يشترط، وكذلك وقع للقاضي في موضع، قال في قوم ازدحموا في مضيق، فافترقوا عن قتيل: إن كان في القوم من بينه وبينه عداوة، وأمكن أن يكون هو قتله، لكونه يقر به فهو لوث، (وإما) أن يكون بالقتيل مع العداوة أثر القتل. وقد اختلف عن أحمد هل فقد الأثر قادح في اللوث لضعف غلبة الظن إذا، إذ القتل لا يخلو غالبا من أثر، ولأن الواقعة التي وقعت في الأنصاري كان به أثر القتل، لأنه كان يتشحط في دمه قتيلا - وهذا اختيار أبي بكر - أو ليس بقادح، لأن القتل لا يستلزم الأثر، لأنه قد يغمه أو يعصر خصيتيه، ونحو ذلك - وهو اختيار القاضي وجماعة من أصحابه، الشريف وابن البنا، وأبي الخطاب والشيرازي وغيرهم؟ على روايتين (وإما) أن الواو بمعنى أو، ويكون مختاره الرواية الثانية، انتهى. وقوله: وادعى أولياؤه، ظاهره أنه لا بد من اتفاق جميع الأولياء في الدعوى على المتهم بقتله. فلو ادعى أحدهم أنه قتل، وقال آخر: بل مات حتف أنفه، أو ادعى أحدهم أن زيدا قتله، وآخر أن عمرا قتله، لم

تشرع القسامة، إذ مع ذلك تضعف غلبة الظن أو تزول، ومن ثم قال أبو البركات: إن ذلك قادح في اللوث، انتهى. وقوله: على واحد منهم، يحترز عما لو ادعوا القتل على جماعة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، وقوله: وأنكر المدعى عليه، ولم تكن للأولياء بينة. لأن مع الإقرار أو البينة يثبت الحق وتزول القسامة. وقوله: حلف الأولياء، فيه أمران (أحدهما) أن البادئ باليمين هم أولياء المقتول، وهذا مذهبنا، لحديث سهل بن أبي حثمة، وحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: «لو يعطى الناس بدعواهم، لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» غايته عموم فيتخصص بذلك. 3029 - وقول عبد الرحمن بن بجيد أن سهلا والله أوهم الحديث، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى يهود: «أنه قد وجد بين أظهركم قتيل فدوه» فكتبوا يحلفون بالله خمسين يمينا: ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا، فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده بمائة ناقة» . 3030 - وكذلك حديث «أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار، عن رجل من الأنصار، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لليهود وبدأ بهم: «يحلف منكم خمسون رجلا» فأبوا، فقال

للأنصار: «استحقوا» ، قالوا: نحلف على الغيب يا رسول الله، فجعلها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دية على اليهود، لأنه وجد بين أظهرهم» . رواهما أبو داود، لا يقاومان حديث سهل، لاتفاق الأئمة على إخراجه وصحته، ودعوى الوهم الأصل عدمه، لا سيما وسهل ممن حضر الواقعة وعرفها. قال في الصحيح: «فبعث إليهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مائة ناقة حمراء، حتى أدخلت عليهم الدار، فقال سهل: فلقد ركضتني منها ناقة حمراء» . فإن قيل: ففي بعض الروايات عن سهل، عن رجال من كبراء قومه، وهذا يدل على أنه لم يشهد الواقعة، قيل: يجمع بين الروايات بأن يكون ابتداء القصة كان عن إخبار، ثم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحويصة ومحيصة ولليهود كان عن مشاهدة، ثم لو ثبت أن الجميع كان عن غير مشاهدة، فسهل صحابي، ومراسيل الصحابة حجة، وقد قال: عن رجال من كبراء قومه، لا ريب أنهم من الصحابة، ثم حديث عبد الرحمن بن بجيد، والرجل الذي من الأنصار متعارضان،

إذ في حديث عبد الرحمن أن اليهود كتبوا يحلفون بالله خمسين يمينا، وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وداه، وفي حديث الأنصاري أن اليهود أبوا أن يحلفوا، وأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل الدية عليهم. 3031 - وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة» رواه الدارقطني، وهذا نص يقطع النزاع إن ثبت. (الأمر الثاني) من هم الأولياء؟ فيه عن أحمد روايتان. . (إحداهما) - وهي اختيار ابن حامد، وزعم أبو محمد أنه ظاهر قول الخرقي، من قوله: إذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم، وليس بالبين - أنهم الرجال الوراث، من ذوي الفروض أو العصبات، دون غيرهم، لأنهم المستحقون للقتل، المطالبون به، فاختصت اليمين بهم، كبقية الدعاوي ويؤيد هذا حديث عمرو بن شعيب المتقدم: «البينة على المدعي، واليمين على من أنكر إلا في القسامة» ، فظاهره أن في القسامة اليمين على المدعي، والمدعي هو المستحق للدم.

(والثانية) : واختارها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا وشيخهم فيما أظن، أنهم العصبة وراثا كانوا أو غير وراث، لحديث سهل: «يقسم خمسون منكم» ، والظاهر أنه لم يكن له من الورثة خمسون رجلا، وفي الحديث قال: «فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن؛ «أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟» قالوا: لا.» وهذا تصريح بأن الخطاب والجواب وقع لعصبة غير وراث، وهما حويصة ومحيصة، إذ هما ابنا عم القتيل. ولا نسلم أن الدعوى في القسامة إنما تكون من المستحقين للدم، بل تكون للعصبة مطلقا، بدليل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - منع عبد الرحمن من الكلام، وأذن لحويصة ومحيصة، ففي الحديث: فذهب عبد الرحمن ليتكلم، لمكانه من أخيه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كبر كبر» ، فتكلم حويصة ومحيصة، وكأن المعنى فيها والله أعلم طلب الثأر، وذلك لا يختص الورثة، وهذا ظاهر لا خفاء به، ومن الغريب جزم أبي البركات بالرواية الأولى، مع مخالفتها لظاهر الحديث، وعلى هذه الرواية يبدأ من العصبة بالمستحقين للدم، فإن لم يبلغوا خمسين تمموا من سائر العصبات، الأقرب فالأقرب، فإن لم يوجد من نسبه خمسون رددت الأيمان عليهم، وقسمت بينهم، انتهى. وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أنهم العصبة الوراث.

وقول الخرقي: خمسين يمينا؛ للحديث وفيه لفظان، يقسم خمسون منكم، أتحلفون خمسين يمينا؛ وقوله: على قاتله، قد يقال: إنه يشمل القاتل عمدا أو خطأ، وقول الخرقي بعد: واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمدا؛ أي وإن كانت غير عمد فالدية، لما تقرر أن الواجب في غير العمد الدية، وهذا منصوص أحمد، وقول الأصحاب: لأنها دعوى قتل، فشرعت فيها القسامة كالعمد، وأخذ أبو محمد في المغني من هذه المسألة، ومما يأتي بعد، أن ظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تشرع في الخطأ، وقطع بذلك عنه في المقنع، فقال: وذكر الخرقي أن من شروط القسامة أن تكون الدعوى عمدا، ومال هو أيضا إلى ذلك، لأن من شرط القسامة اللوث، واللوث على الصحيح عندهم هو العداوة، وتبعد التهمة مع الخطأ، وهذا نظر حسن إلا أن كلام الخرقي ليس بالبين في ذلك، ولذلك لم أر أحدا من الأصحاب عرج عليه، وقول أبي البركات، وقيل: لا قسامة في الخطأ؛ يشير إلى قول أبي محمد، ولو اتضح له أن ذلك ظاهر كلام الخرقي أو نصه لصرح بذلك عنه، وبالجملة القول بالقسامة في الخطأ واضح إن قيل: اللوث ما يغلب على الظن صدق المدعي، أما إذا قيل: اللوث هو العداوة فقط ففي القسامة في الخطأ نظر انتهى. وقوله: واستحقوا دمه إن كانت الدعوى عمدا. هذا مذهبنا

أن القسامة قد توجب القصاص، لما تقدم في الحديث: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» . 3032 - وفي لفظ لأحمد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه خمسين يمينا ثم نسلمه» . 3033 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل بالقسامة رجلا من بني نصر بن مالك ببحرة الرغاء على شط لية، فقال القاتل والمقتول منهم» ، رواه أبو داود. 3034 - وقول أبي قلابة في صحيح البخاري: «ما قتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا في إحدى ثلاث خصال، رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنا بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله» ، وإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما قال: أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم مردود بحديث سهل، وهو صحابي، وأعرف منه بالقصة لحضورها، ثم هو مثبت، والمثبت مقدم على النافي. (تنبيه) : «الجريرة» الذنب والجرم الذي يجنيه الإنسان، «وبحرة الرغاء» البلدة. قال: فإن لم يحلف الأولياء حلف المدعى عليه خمسين

يمينا وبرئ. ش: هذا هو المذهب المعروف، لحديث سهل «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» أي يتبرؤون منكم، وفي لفظ: «فتحلف لكم يهود» ولأنها أيمان مشروعة في حق المدعى عليه، فبرئ بها كسائر الأيمان، وحكي (عن أحمد) رواية أخرى أنهم يحلفون ويغرمون الدية، لحديث أبي سلمة بن عبد الرحمن، وسليمان بن يسار المتقدم، وهو إن صح لا يدل، لأن اليهود لم يحلفوا، فعلى المذهب لو نكل المدعى عليه عن اليمين لم يجب عليه القود، وهل تجب عليه الدية - وهو اختيار أبي بكر والشريف، وأبي الخطاب وأبي محمد - كبقية الدعاوي، أو لا تجب بل تكون في بيت المال؟ على روايتين، وعلى الثانية. . . هل يخلى سبيله، أو يحبس حتى يقر أو يحلف؟ على روايتين. قال: فإن لم يحلف المدعون ولم يرضوا بيمين المدعى عليه، فداه الإمام من بيت المال. ش: لما تقدم من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدى عبد الله بن سهل لما لم يرض الأولياء بيمين اليهود، فإن تعذر الفداء من بيت المال لم يجب على المدعى عليه شيء، إذ الواجب عليه اليمين، ومستحقها امتنع من استيفائها. قال: وإذا شهدت البينة العادلة أن المجروح قال: دمي عند فلان. فليس ذلك بموجب للقسامة ما لم يكن لوث. ش: لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس

بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» ولأنه خصم، فلم تكن مجرد دعواه لوثا كالخصم، والله أعلم. قال: والنساء والصبيان لا يقسمون. ش: لا نزاع أن الصبيان لا يقسمون، سواء كانوا من أهل القتيل أو مدعى عليهم، لأن الأيمان حجة للحالف، والصبي لا يثبت بقوله حجة، حتى إنه لو أقر على نفسه لم يقبل، فعلى هذا إذا كان مستحق الدم بالغا وصبيا فهل تشرع القسامة في حق البالغ، وهو المشهور، أو لا تشرع حتى يبلغ الصبي، وهو اختيار أبي محمد؟ فيه وجهان، وعلى المذهب يحلف البالغ ويستحق نصف الدية، وهل يحلف خمسين يمينا، قاله أبو بكر في الخلاف، أو خمسا وعشرين، وهو اختيار ابن حامد؟ فيه وجهان، وعلى الوجهين إذا بلغ الصبي حلف خمسا وعشرين، واستحق بقية الدية، وفيه وجه آخر أنه يحلف خمسين يمينا، كالبالغ ابتداء في وجه قوي، والحكم في المجنون والغائب، والناكل عن اليمين، كالحكم في الصبي. وأما النساء فلا يقسمون أيضا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما خاطب الرجال فقال: «يقسم خمسون منكم» الحديث، وزعم أبو محمد أن في الحديث «يقسم خمسون رجلا منكم» ولم أره، ولأن الأيمان في القسامة من المدعين نزلت

منزلة الشهادة، ولا مدخل للنساء في شهادة القتل، فعلى هذا إذا كان في الأولياء نساء أقسم الرجال، وسقط حكم النساء، فإن كان الجميع نساء فهو كما لو نكل الورثة وقد تقدم. (تنبيه) : هل للخنثى المشكل مدخل في القسامة؟ فيه وجهان (أحدهما) نعم، وهو ظاهر كلام الخرقي، لأن سبب القسامة وهو الاستحقاق قد وجد، والمانع مشكوك فيه. (والثاني) لا، إذ القتل لا يثبت بشهادته فهو كالمرأة. قال: وإذا خلف المقتول ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم، وحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا. ش: لما تقدم للخرقي أن النساء لا مدخل لهن في القسامة، أشار إلى أنها تشرع في حق الرجال الوارثين، وأنها تقسم بينهم على قدر إرثهم - ومن هنا قال أبو محمد: إن ظاهر كلام الخرقي أنها تختص بالوراث، وقد تقدم، فعلى هذا إذا خلف المقتول ابنين، حلف كل واحد منهما خمسا وعشرين يمينا، ولا كسر، وإن خلف ثلاثة بنين جبر الكسر عليهم، فحلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينا، إذ تكميل الخمسين واجب، ولا يمكن تبعيض اليمين ولا حمل بعضهم عن بعض، حذارا من الترجيح بلا مرجح، فوجب تكميل اليمين المكسورة على الجميع، نظرا إلى أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب. قال: وسواء كان المقتول مسلما أو كافرا. حرا أو عبدا، إذا كان المقتول يقتل به المدعى عليه إذا ثبت عليه القتل، لأن

القسامة توجب القود، إلا أن يحب الأولياء أخذ الدية. ش: أما المسلم الحر فلا نزاع فيه، لورود الحديث فيه، وأما الكافر والعبد ففي معناه، إذ المقتضى للقسامة اللوث، وهو موجود في قتلهما، وعلى هذا يحلف سيد العبد، ويستحق القصاص أو قيمته، ثم إن ظاهر كلام الخرقي أن القسامة لا تشرع إلا فيما يوجب القصاص، كذا فهم أبو محمد، واختار ذلك، فعلى هذا لا تشرع في غير العمد المحض، ولا في قتل غير المكافئ ونحو ذلك، والمشهور مشروعية القسامة في جميع ذلك، حتى إني لم أر الأصحاب عرجوا على كلام الخرقي، والذي يظهر مشروعيتها في غير الخطأ، لوجود اللوث المقتضي لها، بخلاف الخطأ، فإن اللوث وهو العداوة على المشهور لا يتأتى، والله أعلم. قال: وليس للأولياء أن يقسموا على أكثر من واحد. ش: لا نزاع عندنا أن القسامة [عندنا] لا تشرع على أكثر من واحد، إذا كانت الدعوى موجبة للقصاص، اعتمادا على الحديث، وهو قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يقسم خمسون منكم على رجل منهم، فيدفع برمته» وحذارا من أخذ أنفس بنفس واحدة، ببينة ضعيفة، وبيان ضعفها أن الحق هنا ثبت بقول المدعي مع يمينه، مع التهمة في حقه، وقيام العداوة المانعة من صحة شهادته على عدوه في حق لغيره، فما بالك في حق لنفسه، وفارق البينة، فإنها قوية بالعدد، وعدالة الشهود، وانتفاء التهمة في حقهم، لأنهم لا يثبتون لأنفسهم حقا، ولا عداوة بينهم وبين المشهود عليه، واختلف عن إمامنا هل تشرع القسامة على أكثر من

كفارة القتل الخطأ

واحد، إذا كانت الدعوى موجبة للدية؟ (فعنه) - وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر والقاضي، وجماعة من أصحابه، الشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي وابن البنا، وابن عقيل - لا تشرع، اقتصارا على مورد النص (وعنه) تشرع، لأنها بمنزلة البينة في إثبات القود، فكذلك في القسامة على أكثر من واحد، وإنما تركنا ذلك فيما إذا كانت موجبة للقصاص، للمحذور السابق، وقد انتفى هنا، فعلى هذا هل يحلف كل واحد من المدعى عليهم خمسين يمينا، أو قسطه منها؟ على وجهين. [كفارة القتل الخطأ] قال: ومن قتل نفسا محرمة، أو شارك فيها، أو ضرب بطن امرأة، حرة كانت أو أمة، فألقت جنينا ميتا، وكان القتل خطأ، فعلى القاتل عتق رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، توبة من الله عز وجل. . . وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - ما يدل على أن على قاتل العمد أيضا تحرير رقبة. ش: الأصل في كفارة القتل في الجملة الإجماع، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وقَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] الآية.

إذا تقرر هذا فقول الخرقي: من قتل، يشمل الذكر والأنثى، والحر والعبد، والمكلف وغير المكلف، والمسلم والكافر، والآية الكريمة صالحة لدخول جميع ذلك فيها إلا غير المكلف، فإنه لا يتناوله الخطاب التكليفي، فإذا وجوب الكفارة في ماله بضرب من القياس، وهو أن الكفارة حق مالي يتعلق بالقتل، فتعلقت بغير المكلف كالدية، وفيه شيء، إذ الدية لا تتعلق به، إنما تتعلق بالعاقلة على المذهب. وقوله: نفسا، يشمل الذكر والأنثى، والحر والعبد، والمسلم والكافر، والمكلف وغير المكلف، حتى لو قتل نفسه، أو عبده، أو إنسانا بإذنه، والكتاب العزيز شامل لجميع ذلك، إذ يدخل في {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92] الذكر والأنثى بعرف الشرع، والحر والعبد، والمكلف وغير المكلف، إذ الصبي ونحوه مؤمن حكما، وعبده والأجنبي بإذنه، وكذلك قد تدخل نفسه، ونازع في ذلك أبو محمد، واختار أن الكفارة لا تجب في قتله نفسه، وقال: الآية أريد بها إذا قتله غيره، بدليل قوله سبحانه: {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وقاتل نفسه لا تجب فيه دية. 3035 - بدليل عامر بن الأكوع، فإنه قتل نفسه خطأ ولم يأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه بكفارة ولا دية، وفيه نظر، إذ هذه واقعة عين،

فيجوز أن يكون الحكم كان مقررا معروفا عندهم، ثم غايته أنه لم ينقل إلينا ذلك، وعدم النقل لا يدل على العدم. ويشمل كلام الخرقي أيضا القتل بمباشرة أو سبب، والآية صالحة لذلك، إذ المتسبب يصلح نسبة القتل إليه، وقوله: محرمة، يخرج منه القتل المباح، كقتل الحربي، والباغي، والزاني المحصن، والمستحق قتله قصاصا، ونحو ذلك، أما الحربي ونحوه فلا يدخل في الآية الكريمة، لخروجه من قوله: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا} [النساء: 92] وعدم دخوله في قوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء: 92] الآية، وأما من عداه فبالنظر إلى المعنى، إذ الكفارة وجبت ماحية أو زاجرة، وقتل من ذكر أمر مطلوب، فلا شيء يمحى ولا يزجر عنه. ويشمل كل نفس محرمة، وقد استثنى أبو محمد من ذلك نساء أهل الحرب وصبيانهم، ومن لم تبلغه الدعوة، إذ لا إيمان لهم ولا أمان، فلم يدخلوا في مقتضى الكتاب العزيز، وقد يقال: إن كلام الخرقي يخرج منه قتل الخطأ، فإنه على الصحيح لا يوصف بتحريم ولا إباحة، ويجاب بأنه لم يصف القتل بأنه محرم، بل وصف النفس بكونها محرمة، ولا ريب أن المقتول خطأ نفسه محرمة الإزالة، وأبو البركات كأنه استشعر ذلك فعدل عن «محرمة» إلى: بغير حق. وقوله: أو شارك فيها، هذا هو المذهب المشهور أن

الكفارة تتعدد بتعدد القاتلين، لأنها من موجب قتل الآدمي، فكملت في حق كل واحد من المشتركين كالقصاص، (وعن أحمد) رواية أخرى أن على الجميع كفارة واحدة، وهي أظهر من جهة الدليل، للآية الكريمة، إذ هي تتناول الواحد والجماعة، والله سبحانه جعل الواجب كفارة واحدة، وكون القصاص يجب على كل واحد من المشتركين ممنوع، ولو سلم فذلك سدا للذريعة، وحسما للمادة، وقتل الخطأ ونحوه لا يقصد، فلا سد، ثم هو منقوض بالدية، فإنها لا تكمل في حق كل واحد من الشركاء على المذهب. (تنبيه) : قال أبو محمد في المغني فيما إذا رمى ثلاثة بالمنجنيق، فرجع الحجر فقتل رجلا أن على كل واحد منهم عتق رقبة، لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم، لأن كل واحد منهم مشارك في قتل آدمي معصوم، والكفارة لا تتبعض، وغفل عن رواية أن على الجميع كفارة واحدة، مع أنه حكاه هنا عن أبي ثور، قال: وحكي عن الأوزاعي، وحكاه أبو علي الطبري عن الشافعي. (وقوله) : أو ضرب بطن امرأة حرة كانت أو أمة، فألقت جنينا ميتا. قد تقدم ذلك في دية الجنين، فلينظر ثم، (وقوله) وكان القتل خطأ. يخرج العمد وشبهه، ولا نزاع أن في قتل العمد روايتان (إحداهما) - وهي

اختيار أبي بكر وابن حامد، والقاضي وولده أبي الحسين، والشريف وأبي الخطاب، والشيرازي وابن البنا - لا كفارة فيه، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} [النساء: 92] الآية. . . إلى قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] فإنه سبحانه قسم القتل إلى قسمين قسم أوجب فيه الدية والكفارة، وقسم جعل الجزاء فيه جهنم، وظاهر ذلك أنه لا كفارة فيه، يرشح ذلك أن الكفارة وجبت محوا لما حصل من ذهاب نفس مستحقة للبقاء، والعمد أعظم من أن يمحى ما حصل فيه من الإثم بذلك. 3036 - ولأن ذلك قول ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. (والثانية) فيه الكفارة. 3037 - لما «روى واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في صاحب لنا أوجب يعني النار بالقتل، فقال: «أعتقوا عنه، يعتق

الله بكل عضو منه عضوا من النار» رواه أحمد وأبو داود، ولأنه أعظم جرما، فالحاجة إلى تكفيره أبلغ، وهذه الرواية زعم القاضي والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما أنها اختيار الخرقي، وليس في كلامه ما يدل على ذلك، بل تقديمه يشعر بخلافه، وقد حكى أبو محمد عن القاضي أنه قال: يلزم الشهود والكفارة، سواء قالوا: أخطأنا أو تعمدنا. قال أبو محمد: وهذا يدل على أن القتل بالسبب تجب به الكفارة بكل حال، ولا يعتبر فيه الخطأ والعمد، قال أبو محمد: لأنه وإن قصد به القتل فهو جار مجرى الخطأ، في أنه لا يجب به القصاص. (قلت) : وهذا ذهول عن المسألة، بل متى قالت الشهود: تعمدنا القتل، وجب القصاص. (تنبيه) : قال أبو محمد: ولا فرق بين العمد الموجب للقصاص وغيره، كقتل الوالد ولده، والسيد عبده، والمسلم الكافر ونحو ذلك، نظرا للعمدية، انتهى. أما شبه العمد فوقع لأبي محمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في المقنع إجراء الروايتين فيه، وهو ذهول، فقد قال في المغني: لا

ما يثبت به القصاص

أعلم لأصحابنا فيه قولا، ومقتضى الدليل وجوب الكفارة فيه، لأنه أجري مجرى الخطأ في نفي القصاص، وحمل العاقلة ديته وغير ذلك، فكذلك في الكفارة. قلت: وقد نص على وجوب الكفارة في شبه العمد الشيرازي وابن البنا، والسامري وأبو البركات، وبالله التوفيق. ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما فرغ من ذكر من تجب عليه الكفارة بين صفة الكفارة فقال: إنها عتق رقبة مؤمنة. وذلك بنص الكتاب العزيز، فمن لم يجدها في ملكه فاضلا عن حاجته، ولم يجد ثمنها فاضلا عن كفايته، فعليه صيام شهرين متتابعين، بنص الكتاب العزيز أيضا، فإن لم يستطع فهل يلزمه إطعام ستين مسكينا، ككفارة الظهار، والوطء في نهار رمضان، أو لا يلزمه، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي الخطاب، والشريف في خلافيهما؟ فيه روايتان، ثم إن كلام الخرقي هنا يشمل العبد، وهو مستثنى من ذلك، فإن كفارته الصيام، لعجزه عما سواه، نعم إن أذن له السيد في التكفير بالمال فهل يملك ذلك مطلقا، أو إن قلنا: يملك؟ على طريقتين قد تقدمتا، وحيث ملك ذلك فله التكفير بالإطعام، وفي العتق روايتان. [ما يثبت به القصاص] قال: وما أوجب القصاص فلا يقبل فيه إلا عدلان.

ش: هذا هو المذهب المشهور، والمختار من الروايتين. 3038 - لما روى «رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أصبح رجل من الأنصار مقتولا بخيبر، فانطلق أولياؤه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكروا ذلك له، فقال: «لكم شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم؟» قالوا: يا رسول الله لم يكن ثم أحد من المسلمين، وإنما هم يهود، وقد يجترون على أعظم من هذا، قال: «فاختاروا منهم خمسين فأستحلفهم» فوداه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من عنده» ، رواه أبو داود. 3039 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، «أن ابن محيصة الأصغر أصبح قتيلا على أبواب خيبر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أقم الشاهدين على من قتله أدفعه إليكم برمته» وذكر الحديث رواه النسائي وهو يدل بمنطوقه على الاكتفاء بشاهدين، وبمفهومه على أنه لا يكتفى بغير ذلك، فلا يقبل رجل وامرأتان، ولا رجل ويمين المدعي، وقد قال أبو محمد: إنه لا يعلم في ذلك خلافا، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: لا يقبل في ذلك إلا أربعة، كشهادة الزنا، والجامع حصول القتل منهما، وهي مردودة بما تقدم. قال: وما أوجب من الجنايات المال دون القود قبل فيه رجل وامرأتان، أو رجل عدل مع يمين الطالب.

ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار القاضي، والشيرازي، وابن البنا، وأبي محمد، لأنها شهادة على ما يقصد به المال على الخصوص، فوجب أن يقبل فيه ذلك، كالشهادة على البيع، وفارق قتل العمد، فإنه موجب العقوبة، فلذلك احتيط له. (والثانية) : لا يقبل فيه إلا رجلان، اختارها أبو بكر، وابن أبي موسى، لأنها شهادة على قتل، فلم تسمع من النساء، كالقتل العمد، فعلى الأول لو كان القصاص في بعضها، كالهاشمة والمأمومة، فهل يغلب جانب القصاص، فلا يقبل إلا رجلان، أو جانب المال، فيقبل رجل وامرأتان، أو رجل ويمين المدعي؟ على روايتين.

باب قتال أهل البغي

[باب قتال أهل البغي] ش: الأصل في جواز قتالهم في الجملة قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] الآية. . . إلى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] . 3040 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تكون أمتي فرقتين، فيخرج من بينهما مارقة، يلي قتلهم أولاهما بالحق» رواه مسلم وغيره. 3041 - وقد قاتل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أهل الجمل وأهل صفين. قال: وإذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه حوربوا. ش: الأصل في هذا ما تقدم.

3042 - وروى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته ميتة جاهلية» متفق عليه. 3043 - وعن حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس» قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: «تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك» . 3044 - وعن عرفجة الأشجعي قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، أو يفرق جماعتكم فاقتلوه» . رواهما أحمد ومسلم. 3045 - «وعن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بايعنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا

أنواع البغي

كفرا بواحا، عندكم فيه من الله برهان» متفق عليه، إذ تقرر هذا فالإمام الذي هذا حكمه هو من اتفق المسلمون على إمامته كأبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أجمعوا على إمامته وبيعته، أو عهد الإمام الذي قبله إليه كما عهد أبو بكر الصديق إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فأجمع الصحابة على قبول ذلك، وفي معنى ذلك لو خرج رجل على الإمام فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له، وأذعنوا لطاعته وبايعوه، كعبد الملك بن مروان، فإنه حرج على ابن الزبير فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بويع طوعا وكرها، فإنه يصير إماما، لما تقدم من حديث عرفجة وغيره. [أنواع البغي] (تنبيه) : الخارجون على الإمام أربعة أصناف (أحدها) قوم امتنعوا من طاعته، وخرجوا عن قبضته بلا تأويل، أو بتأويل غير سائغ، فهؤلاء قطاع الطريق، يأتي حكمهم إن شاء الله تعالى. (الثاني) قوم خرجوا عن قبضة الإمام أيضا، ولهم

تأويل سائغ، إلا أنهم غير ممتنعين لقلتهم، فحكى أبو الخطاب فيهم روايتين (إحداهما) وصححها، وكذلك صححها الشريف، وحكاها أبو محمد عن الأكثرين - حكمهم حكم قطاع الطريق أيضا (والثانية) - وحكاها أبو محمد عن أبي بكر - حكمهم حكم البغاة (الثالث) الخوارج الذين يكفرون بالذنب، ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم، فهؤلاء فيهم عن أحمد روايتان، حكاهما القاضي في تعليقه (إحداهما) أنهم كفار، فعلى هذا حكمهم حكم المرتدين، تباح دماؤهم وأموالهم، وإن تحيزوا في مكان، وكانت لهم منعة وشوكة، صاروا أهل حرب، وإن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كالمرتدين، فإن تابوا وإلا قتلوا. 3046 - لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول) «سيخرج قوم في آخر الزمان، حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة» متفق عليه.

3047 - «وعن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رأى رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق، فقال: كلاب النار، شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه، ثم قرأ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] إلى آخر الآية. . . فقيل له: أنت سمعته من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فقال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه. .» . رواه الترمذي وحسنه. (والثانية) لا يحكم بكفرهم. 3048 - لما روى أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «يخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وأعمالكم مع أعمالهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا، وينظر في الريش فلا يرى شيئا، ويتمارى في الفوق» رواه البخاري وغيره. قال أبو عمر بن عبد البر قوله: يتمارى في الفوق، يدل على أنه لم يكفرهم، لأنهم علقوا من الإسلام بشيء، بحيث يشك في خروجهم منه.

3049 - ولعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» فعلى هذه قال أبو محمد في المغني ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين أنهم بغاة، حكمهم حكمهم. وحكى ذلك في الكافي عن فقهاء الأصحاب، واختار هو أنه يجوز قتلهم ابتداء، والإجازة على جريحهم، لما تقدم من مروقهم من الدين، وأنهم كلاب النار، وأن في قتلهم أجرا لمن قتلهم. 3050 - وفي الصحيح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال فيهم: «لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» » وهذا توسط حسن، وهو اختيار أبي العباس، بل قال: إن الذي عليه أئمة الحديث كالأوزاعي، والثوري، ومالك، وأحمد، وغيرهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، الفرق بين البغاة وبين الخوارج، وأن قتال علي الخوارج كان ثابتا بالنصوص الصريحة عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وبالاتفاق، وأما القتال يوم صفين ونحوه فلم يتفق عليه الصحابة، بل امتنع منه أكابرهم، كسعد بن أبي وقاص، الذي لم يكن بعد علي مثله، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة رضي الله

عنهم، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يحب الإصلاح بين الطائفتين لا القتال. 3051 - ففي البخاري «أنه خطب الناس والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - معه فقال: «إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين» ، فأصلح الله تعالى به بين أهل العراق وأهل الشام، فنزل عن الأمر لمعاوية. 3052 - وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم،

والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي» وذلك نحو ما وقع لأهل الجمل، وهذا ظاهر في أن الذي فعله الحسن هو الذي كان يحبه الله ورسوله، وأن الإصلاح بين الطائفتين ما أمكن أولى من القتال، وهذا بخلاف الخوارج، فإن الذي يحبه الله ورسوله كما دلت عليه الأحاديث هو قتالهم. (الصنف الرابع) : قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ويرومون خلعه، لتأويل سائغ، وإن كان صوابا، وقيل: لا بد وأن يكون خطأ، ولهم منعة وشوكة، فهؤلاء البغاة المبوب لهم بلا ريب، وكلام الخرقي يقتضي أن كل من طلب موضع الإمام فإنه يحارب، وقرينة «حوربوا» تقتضي أن لهم منعة وشوكة، والله أعلم. (تنبيه) : «جثمان إنس» ، «يريد أن يشق عصاكم» ، «المنشط» الأمر الذي تنشط له وتخف إليه، وتؤثر فعله، «والمكره» الأمر الذي تكرهه وتتثاقل عنه، «والأثرة» الاستئثار بالشيء والانفراد، والمراد في الحديث إن منعنا حقنا من الغنيمة والفيء، وأعطي غيرنا، نصبر على ذلك،

طرق دفع البغي

«والكفر البواح» الجهار، «والبرهان» الحجة والدليل، و «الرمية» و «الفوق والقدح» . [طرق دفع البغي] قال: ودفعوا عن ذلك بأسهل ما يعلم أنهم يندفعون به. ش: البغاة إذا خرجوا على الإمام فإنه يراسلهم، ويسألهم ما ينقمون منه؟ فإن ذكروا مظلمة أزالها، وإن ادعوا شبهة كشفها، لما تقدم من قول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] ، فأمر سبحانه بالإصلاح أولا. 3053 - ويروى أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل، ثم أمر أصحابه أن لا يبدؤوهم بالقتال، ثم قال: إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة، ثم سمعهم يقولون:

الله أكبر يا ثارات عثمان، فقال: اللهم أكب قتلة عثمان لوجوههم. فإن رجعوا وإلا خوفهم بالقتال، ومتى أمكن دفعهم بغير القتل لم يجز قتلهم، إذ المقصود كف شرهم، وإن لم يمكن قاتلهم، وعلى رعيته معونته، لما تقدم من حديث عرفجة وغيره، وصرح أبو محمد، والقاضي في جامعه، بأنه يجب قتالهم، وهو ظاهر حديث عرفجة، وظاهر الآية الكريمة: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] وظاهر قصة الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ستكون فتنة» ونحو ذلك يقتضي أن القتال لا يجب، وكيف يجب وقد امتنع منه مَنْ تقدم من الصحابة، وأشار الحسن على أبيه بترك القتال، وعلى هذا فللإمام أن يترك الأمر الذي في يده للذي خرج عليه إن لم يخف مفسدة، كما فعل الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويجوز له القتال، كما فعل الإمام علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ويجب إذا على رعيته معونته بلا ريب، وعلى ذلك تحمل الآية الكريمة والحديث، فإنه متى ترك الإمام الأمر الذي في يده حصل

حكم القتيل من أهل العدل

الإصلاح، فإذًا لا حاجة إلى القتال، وإن لم يترك فهو محق وغيره متعد عليه، فيجب قتاله، وكف شره؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات: 9] وقوله سبحانه: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وحديث عرفجة وغير ذلك، والله أعلم. قال: فإن آل ما دعوا به إلى نفوسهم فلا شيء على الدافع. ش: يعني أنهم إذا دفعوا بالأسهل فالأسهل، فآل ما دفعوا به إلى نفوسهم فلا شيء على الدافع، من إثم ولا ضمان، لأنه فعل مأذون فيه شرعا، أشبه قتال الكفار ونحوهم، وكذلك بطريق الأولى ما أتلفه العادل على الباغي حال الحرب من المال، والله أعلم. [حكم القتيل من أهل العدل] قال: وإن قتل الدافع فهو شهيد. ش: لأنه قتل في قتال مأمور به، أشبه قتيل الكفار، والله أعلم. [الآثار المترتبة على قتال البغاة] قال: وإذا اندفعوا لم يتبع لهم مدبر، ولم يجيزوا على جريح. 3054 - ش: لما روي عن مروان بن الحكم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صرخ صارخ لعلي يوم الجمل: لا يقتلن مدبر، ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن. رواه سعيد، ويروى نحوه عن عمار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن

المقصود كف شرهم وقد حصل، فأشبهوا الصائل، وعموم كلام الخرقي، يقتضي أنه لا فرق بين أن تكون لهم فئة ممتنعة يلجؤون إليها، أو لم تكن، وهو كذلك. قال: ولم يقتل لهم أسير. ش: لأن شره قد اندفع بأسره. 3055 - «وعن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا ابن أم عبد ما حكم من بغى على أمتي؟» قلت: الله ورسوله أعلم، فقال: «لا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يقسم فيئهم» » ، ذكره القاضي في شرحه.

(تنبيه) : «ولا يجاز على جريحهم» أي لا يقتل، «ولا يذفف» . قال: ولم يغنم لهم مال. ش: لحديث ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 3056 - وعن أبي أمامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يقتلون موليا، ولا يسلبون قتيلا، ولأنهم معصومون، أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم، فيبقى ما عداه على أصل التحريم. قال: ولم تسب لهم ذرية. ش: لما تقدم في التي قبلها، ولأنهم كالصائل لا يستباح منهم إلا ما حصل به ضرورة دفعهم. 3057 - ويروى أن مما نقمت الخوارج على علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنهم قالوا: إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم، فإن حلت له دماؤهم، فقد حلت له أموالهم، وإن حرمت عليه أموالهم، فقد حرمت عليه دماؤهم. فقال لهم ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أتسبون أمكم يعني عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -؟ أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فإن قلتم: ليست أمكم فقد كفرتم، وإن قلتم: إنها أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم.

قال: ومن قتل منهم غسل وكفن وصلي عليه. ش: يعني من البغاة، وذلك لأنهم مسلمون، وغايته أنهم مخطئون، فيجري عليهم حكم المسلمين. 3058 - وعن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «صلوا على من قال: لا إله إلا الله» قال أبو محمد: ولم يفرق أصحابنا بين الخوارج

وغيرهم، وظاهر كلام أحمد أنه لا يصلى على الخوارج، قال: أهل البدع إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم، وقال: الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم، قد ترك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصلاة بأقل من هذا. 3059 - وذكر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى أن يقاتل في خيبر من ناحية من نواحيها، فقاتل رجل من تلك الناحية وقتل، فلم يصل عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قال: وما أخذوا في حال امتناعهم من زكاة أو خراج لم يعد عليهم. ش: لأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما ظهر على أهل البصرة لم يطالبهم بشيء مما جبوه.

3060 - وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا أتاه ساعي نجدة الحروري دفع إليه زكاته، وكذلك سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن في الرجوع عليهم تنفيرا لهم عن الرجوع إلى الطاعة، ومن ثم قلنا: لا يضمنون ما أتلفوه في حال الحرب على المذهب، وفي الرجوع على أرباب الأموال ضرر عظيم، ومشقة عظيمة، وإنهما منتفيان شرعا، وحكم الجزية حكم الخراج، ويقبل قول أرباب الصدقات في أنهم قد أخذوا الصدقة منهم بغير يمين، ولا يقبل مجرد قول أهل الذمة، لأنهم غير مأمونين، وقيل: يقبل بعد مضي الحول، إذ الظاهر أن البغاة لا يدعون الجزية لهم، فكان الظاهر معهم، وهل يقبل مجرد قول من عليه الخراج إن كان مسلما في دفع الخراج إليهم، لأنه حق على مسلم، فهو كالزكاة، أو لا يقبل، لأنه عوض فهو كالجزية؟ على وجهين. قال: ولا ينقض من حكم حاكمهم إلا ما ينقض من حكم غيره. ش: هذا مبني على أصل، وهو أن البغاة إذا لم يكونوا مبتدعين لا يفسقون، لأن لهم تأويلا سائغا، أشبه اختلاف الفقهاء، فعلى هذا إذا نصبوا قاضيا فحكمه حكم قاضي أهل العدل، إن حكم بما يخالف نص كتاب أو سنة أو إجماع،

كأن يحكم على أهل العدل بضمان ما أتلفوه في الحرب، أو على أهل البغي بنفي ضمان ما أتلفوه في غير حال الحرب، نقض حكمه، وإن حكم بمختلف فيه لم ينقض، كأن حكم بسقوط الضمان عن أهل البغي فيما أتلفوه في الحرب، ونحو ذلك، وإن كتب إلى قاضي أهل العدل قبل كتابه لما تقدم، والأولى عند أبي محمد عدم القبول، كسرا لقلوبهم، وإن كان البغاة مبتدعين لم يجز قضاء من ولوه، لانتفاء شرط القضاء وهو العدالة، ولأبي محمد احتمال بصحة القضاء، ونفوذ الأحكام، حذارا من الضرر بفساد العقود المدة الطويلة، والله أعلم.

كتاب المرتد

[كتاب المرتد] ش: المرتد في اللغة الراجع، وفي الشرع الراجع عن دين الإسلام، إلى دين الكفر، والأصل فيه قوله سبحانه: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: 217] الآية. 3061 - وفي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من بدل دينه فاقتلوه» والله أعلم. [استتابة المرتد] قال: ومن ارتد عن الإسلام من الرجال والنساء وكان بالغا عاقلا، دعي إليه ثلاثة أيام، وضيق عليه، فإن رجع وإلا قتل. 3062 - ش: الأصل في قتل المرتد في الجملة ما روى عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا

يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» رواه الجماعة. 3063 - وعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف «أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أشرف يوم الدار، فقال: أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنا بعد إحصان، أو كفر بعد إسلام، أو قتل نفس بغير حق فقتل به» ، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام، ولا ارتددت منذ بايعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا قتلت النفس التي حرم الله، فبم تقتلوني» . . . رواه النسائي والترمذي، ولا فرق عندنا بين الرجل والمرأة لهذا.

3064 - «وعن عكرمة قال: أتي علي بزنادقة فأحرقهم، فبلغ ذلك ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم، لنهي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تعذبوا بعذاب الله» ولقتلتهم لقوله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من بدل دينه فاقتلوه» رواه الجماعة إلا مسلما، وللترمذي فيه: فبلغ ذلك عليا فقال: صدق ابن عباس، وأدوات الشرط يدخل فيها المؤنث على الصحيح. 3065 - وروى أبو أحمد بن عدي من «حديث جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ارتدت امرأة عن الإسلام، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعرض عليها الإسلام فأبت أن تقبل» ، فقتلت. لكن قال: هذا يرويه عبد الله بن عطارد بن أذينة الطائي، ولا يتابع عليه، وهو منكر الحديث.

3066 - وما في الصحيح «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتل النساء» ، فعام في الردة وفي غيرها، وما تقدم خاص في الردة، فيخص كما خص بالثيب الزانية، وبالقاتلة، هذا إذا لم نقل من أول الأمر إنه خاص بالسبب الذي ورد عليه، وهو نساء أهل الحرب، وهو الظاهر. 3067 - وما في الدارقطني عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقتل المرأة إذا ارتدت» فمن رواية عبد الله بن عيسى الجزري، عن عفان، وقد قال العلماء بالحديث: إنه كذاب يضع الحديث على عفان وغيره. إذا تقرر هذا فيشترط لصحة الردة التكليف، بأن يكون عاقلا بالغا، إذ غير المكلف لا يتعلق به حكم خطابي. 3068 - وفي السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون

حتى يفيق» » فعلى هذا لا تصح ردة من زال عقله بنوم أو إغماء، أو مرض أو شرب مباح، وفي السكران ونحوه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى، ولا ردة غير مميز، وفي المميز خلاف أيضا، ويشترط لقتل المرتد حيث صحت ردته أن لا يرجع إلى الإسلام، أما إن رجع إلى الإسلام فإنه لا يقتل، لزوال المقتضي للقتل وهو الردة، وقد قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . 3069 - وصح عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها» وهذا قد أسلم وقد تاب، فاقتضى أن ينقطع ما قبل ذلك، ولا نزاع في هذا في غير الزنديق، ومن تكررت ردته، ومن سب الله تعالى، ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والساحر، أما في هؤلاء الخمسة ففيهم روايتان (إحداهما) تقبل توبتهم كغيرهم، وهي ظاهر كلام الخرقي هنا في الجميع، واختيار الخلال في الساحر، ومن تكررت ردته والزنديق، وآخر قولي أحمد في الزنديق، قال في رواية أبي طالب: أهل المدينة يقولون: يضرب عنقه ولا يستتاب، وكنت أقوله ثم هبته، ليس فيه حديث، واختيار القاضي في روايتيه فيمن تكررت ردته، وظاهر كلامه في تعليقه في ساب الله

تعالى، وذلك لما تقدم. 3070 - وفي الموطأ «أن رجلا سار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلم يدر ما ساره به حتى جهر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أليس يشهد أن لا إله إلا الله» ؟ قال: بلى ولا شهادة له. قال: «أليس يصلي» ؟ قال: بلى ولا صلاة له. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم» » . 3071 - وفي الحديث: «يقول الله تعالى: يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، يجعل لي صاحبة وولدا» ، وبالاتفاق متى أسلم

ذلك وتاب قبل منه. (والثانية) لا تقبل، وهي اختيار أبي بكر، والشريف وأبي الخطاب، وابن البنا، والشيرازي في الزنديق، وقال القاضي في التعليق: إنه الذي ينصره الأصحاب، واختيار أبي الخطاب في خلافه في الساحر، وقطع به القاضي في تعليقه، والشيرازي في ساب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والخرقي لقوله في من قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قتل مسلما كان أو كافرا. (أما في الزنديق) فلأنه كان مظهرا للإسلام، مسرا للكفر، فإذا وقف على ذلك منه، فأظهر التوبة، لم يزد على ما كان منه قبلها، وهو إظهار الإسلام، ولأنه ربما أفسد عقائد المسلمين في الباطن، وفي ذلك خطر وضرر عظيم، ولقصة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي بزنادقة فأحرقهم، والظاهر أنه لم يستتبهم، ويجاب بأن قصة علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - واقعة عين، مع أنه قد يكون من مذهبه أن الاستتابة لا تجب، وما تقدم ليس بقانع في إهدار دم ناطق بالشهادتين. (وأما فيمن تكررت ردته) فلأن تكررها قرينة تكذبه في توبته، ولقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء: 137] الآية.

3072 - وروى الأثرم بإسناده أن رجلا من بني سعد مر على مسجد بني حنيفة، فإذا هم يقرؤون برجز مسيلمة، فرجع إلى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فذكر ذلك له، فبعث إليهم فأتي بهم، فاستتابهم فتابوا، فخلوا سبيلهم إلا رجلا منهم يقال له ابن النواحة، قال: قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت، وأراك قد عدت فقتله، ويجاب بأن الدماء تحقن بالشبهة، لا أنها تراق بها. 3073 - وعن الآية بأن قتادة قال: نزلت في اليهود، آمنوا بموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم كفروا بعبادتهم العجل، ثم آمنوا بالتوراة ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

3074 - وعن مجاهد {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا} [النساء: 137] أي ماتوا عليه، فإذا هذا ليس مما نحن فيه. 3075 - وعن قصة ابن مسعود بأن أبا داود رواه عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بالكوفة فقال ما بيني وبين أحد من العرب حنة وإني مررت بمسجد بني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبد الله فجيء بهم فاستتابهم غير، وهذا يبين أنه إنما قتله تحقيقا لقول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أنك رسول لقتلتك» ، فكأنه استوجب عنده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القتل، وإنما منعه الرسالة، وقد زالت.

3076 - (وأما في الساحر) فلما روى جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حد الساحر ضربة بالسيف» ، رواه الدارقطني والترمذي، وقال: الصحيح عن جندب موقوف. 3077 - وعن بجالة بن عبدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف بن قيس فأتانا كتاب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل موته بسنة أن اقتلوا كل ساحر وساحرة وفرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس، وانهوهم عن الزمزمة، فقتلنا ثلاث سواحر، وجعلنا نفرق بين الرجل وحريمه في كتاب الله. رواه أحمد وأبو داود.

3078 - وفي الموطأ عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه بلغه أن حفصة زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورضي الله عنها قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها فأمرت بها فقتلت وظاهر هذه الآثار القتل بكل حال. 3079 - ويروى أن ساحرة طافت في أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهم متوافرون، تسألهم هل لها من توبة، فما أفتاها أحد إلا ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال لها: إن كان أحد من أبويك حيا فبريه، وأكثري من عمل البر ما استطعت، ويجاب بأن

قصة عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لا يعرف من رواها، مع أن الحبر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قد جعل لها توبة، وغير ذلك وقائع أعيان. (وأما في من سب الجناب) الرفيع - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: 3080 - فلما روى الشعبي عن «علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يهودية كانت تشتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقع فيه، فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دمها» ، رواه أبو داود. 3081 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلة، جعلت تقع في النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتشتمه، فأخذ المعول فوضعها في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، فلما أصبح ذكر ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فجمع الناس

فقال: «أنشدكم الله رجلا فعل ما فعل، لي عليه حق» قال: فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المعول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألا اشهدوا أن دمها هدر» رواه أبو داود والنسائي، واحتج به أحمد في رواية عبد الله. (وأما فيمن سب الله سبحانه) فبالقياس على ساب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بطريق الأولى، قال أبو محمد: والخلاف في قبول توبتهم في الظاهر من أحكام الدنيا، من ترك قتلهم، وثبوت أحكام الإسلام في حقهم، وأما قبول الله في الباطن، وغفرانه لمن تاب وأقلع باطنا وظاهرا فلا اختلاف فيه، فإن الله تعالى قال في حق المنافقين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 146] انتهى. واعلم أن الروايتين في ساب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإن كان كافرا، ويكون ذلك نقضا لعهده، فيقتل وإن أسلم، والروايتين

في الساحر حيث يحكم بقتله بذلك، وإنما يحكم بقتله بالسحر حيث كفر به وكان مسلما، أما إن كان السحر مما لا يكفر به، أو يكفر به والساحر من أهل الكتاب، فإنه لا يقتل. 3082 - «لأن لبيد بن الأعصم سحر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقالت له عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يا رسول الله أفلا أحرقته؟ قال: «لا» . » 3083 - وفي البخاري «أن ابن شهاب سئل أعلى من سحر من أهل العهد قتل؟ قال: بلغنا أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد صنع له ذلك فلم يقتل من صنعه، وكان من أهل الكتاب» ، (وعنه) ما يدل على قتله كما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

إذا تقرر ذلك فكل موضع قلنا: لا تقبل التوبة فلا استتابة، لعدم فائدتها، وكل موضع قلنا بقبول التوبة فإنه لا يقتل حتى يستتاب، احتياطا للدماء. 3084 - وعن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري، عن أبيه قال: قدم على عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في زمن خلافته رجل من أهل اليمن من قبل أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وكان عاملا له، فسأله عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن الناس، ثم قال: «هل فيكم من مغربة خبر» قال: نعم، رجل كفر بعد إسلامه، قال: فما فعلتم به؟ قال: قربناه فضربنا عنقه. قال: فهلا حبستموه ثلاثا، وأطعمتموه كل يوم رغيفا، واستتبتموه، لعله يتوب ويراجع أمر الله تعالى، اللهم إني لم أحضر ولم آمر، ولم أرض إذ بلغني. . . رواه مالك في موطئه والشافعي في مسنده. . . وهل ذلك على سبيل الاستحباب، لظاهر «من بدل دينه فاقتلوه» . 3085 - وفي حديث «لأبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «اذهب إلى اليمن» ثم أتبعه معاذ بن جبل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

فلما قدم عليه ألقى له وسادة، وقال: انزل؛ وإذا رجل عنده موثق، قال: ما هذا؟ قال: كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال: لا أجلس حتى يقتل، قضاء الله ورسوله» . . . متفق عليه، ولأحمد: قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه، وظاهر ذلك من غير استتابة، وإنكار عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يحمل على الاستحباب، لأنهم كانوا ينكرون في المستحب، أو على الوجوب، وهو المذهب عند الأصحاب، لظاهر قصة عمر، وحديث جابر الذي رواه ابن عدي، وبذلك يتقيد ما تقدم، على أن في حديث أبي موسى الأشعري في رواية أبي داود: وكان قد استتيب قبل ذلك بعشرين ليلة أو قريبا منها، فجاء معاذ: فدعاه فأبى، فضرب عنقه، إلا أن أبا داود قال: قد روي هذا الحديث من طرق، وليس فيه ذكر الاستتابة، انتهى.

أحكام الزنديق

ويستتاب ثلاثا اتباعا، لقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هلا حبستموه ثلاثا، ويضيق عليه، لقوله أيضا: وأطعمتموه كل يوم رغيفا، والله أعلم. [أحكام الزنديق] (تنبيه) : «الزنديق» هو الذي يظهر الإسلام ويخفي الكفر، وهو الذي كان يسمى منافقا في الصدر الأول، و «رجز مسيلمة» و «حنة» هنا بمعنى الأحنة، وهي العداوة، قال الجوهري: ولا تقل حنة، وقال الهروي: هي لغة رديئة، وقد جاءت «ومغربة خبر» بكسر الراء وفتحها، وأصله من الغرب وهو البعد، المعنى: هل من خبر جديد، جاء من بلد بعيد، «والموثق» المأسور المشدود في الوثاق من حبل أو قيد، و «الوسادة» المخدة. قال: وكان ماله فيئا بعد قضاء دينه. ش: قد تقدمت هذه المسألة في كتاب الفرائض وهو أن المرتد متى مات أو قتل على ردته فماله فيء، على المشهور من الروايات، لا لورثته ولا لأهل الدين الذي اختاره، وزاد هنا أن ذلك بعد قضاء دينه، لأنه حق واجب عليه، وأولى ما يؤخذ من ماله. واعلم أن كلام الخرقي يعتمد أصلا، وهو أن أملاك المرتد لا تزول بنفس الردة، وهذا هو المشهور من الروايتين. والمختار لعامة الأصحاب، وعليه هل لا تزول إلا بالموت، أو يتبين بالموت زوالها من حين الردة، فيكون مراعى؟ فيه روايتان

استتابة تارك الصلاة

أيضا، واختلف الأصحاب هنا في التصحيح، وعليها تقضى ديونه مطلقا. (والرواية الثانية) في الأصل تزول أملاكه بنفس الردة، وهي اختيار أبي بكر، وعليها فلا تقضى ديونه، كذا قال القاضي في الجامع الصغير، وأطلق، وظاهر كلام أبي البركات أن الذي يمنع على هذه الرواية قضاء الدين المتجدد، وأما اللازم له قبل الردة فيقضى على الروايات الثلاثة. . . والله أعلم. [استتابة تارك الصلاة] قال: وكذلك من ترك الصلاة دعي إليها ثلاثة أيام، فإن صلى وإلا قتل، جاحدا تركها أو غير جاحد. ش: قد تقدمت هذه المسألة بأتم من هذا اللفظ، في باب حكم من ترك الصلاة، وقد يقال إنه إنما أعادها هنا لينبه على أن الزكاة والصوم والحج ليسوا كذلك، وفيه نظر، لأنه من ترك واحدا من الثلاثة جاحدا كفر بلا ريب. نعم إذا تركها غير جاحد، فالمختار لعامة الأصحاب عدم الكفر، ثم عن أحمد في الزكاة ثلاث روايات، ثالثهن إن قاتل عليها كفر، وإلا لم يكفر، وعنه في الصوم روايتان، وللأصحاب في الحج ثلاث طرق، فأبو محمد يقول لا يكفر بحال، ومقابله أبو بكر

ذبيحة المرتد

يقول يكفر بكل حال، قال في الخلاف: من تخلف عن الإقرار بالتوحيد، مع القدرة عليه، وعن الصلاة بعد الإقرار والقدرة على عملها، وإيتاء الزكاة بعد الإقرار بوجوبها عليه، وصوم رمضان بعد الإقرار والقدرة عليه، وكذلك الحج، فعند أحمد أنه مرتد، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، وقال أيضا: لا فرق بين الصوم والصلاة والزكاة والحج، لأن هذا كله فرض كالتوحيد، وتوسط أبو البركات فقال: إن أخره إلى وقت يغلب على ظنه موته قبله، أو عزم على تركه بالكلية كفر وإلا فلا. [ذبيحة المرتد] قال: وذبيحة المرتد حرام، وإن كانت ردته إلى دين أهل الكتاب. ش: أما إذا لم تكن ردته إلى دين أهل الكتاب فاتفاق والحمد لله، وأما إذا كانت إلى دين أهل الكتاب فهو قول العامة، لأنه لا يقر على دينه، أشبه الوثني، ولأنه لا يثبت له أحكام أهل الكتاب في الجزية، ولا في النكاح، ولا في الاسترقاق، فكذلك في الذبيحة. [الحكم بإسلام الصبي] قال: والصبي إذا كان له عشر سنين، وعقل الإسلام فأسلم فهو مسلم. ش: هذا هو المذهب المعروف، والمختار لعامة الأصحاب، حتى إن جماعة منهم أبو محمد في المغني وفي الكافي جزموا بذلك. 3086 - لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة» .

3087 - «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» . . . الحديث. 3088 - وفي الصحيحين «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - انطلق مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رهط من أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قِبَلَ ابن صياد، حتى وجده يلعب مع الصبيان عند أطم بني مغالة، وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم، فلم يشعر حتى ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظهره بيده، ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لابن صياد: «أتشهد، أني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ، فنظر إليه ابن صياد، فقال: أشهد أنك رسول الأميين. فقال ابن صياد لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أتشهد أني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فرفضه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «آمنت بالله وبرسوله» » وذكر الحديث، فعرض عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الإسلام وهو دون البلوغ، وعرضه (عليه) يقتضي صحته منه. 3089 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة، حتى يعرب عنه لسانه، فإذا أعرب عنه لسانه فإما شاكرا وإما كفورا» ، رواه أحمد والإعراب

منه يحصل قبل البلوغ، وقد جعله إذا إما شاكرا وإما كفورا ولأن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسلم صغيرا. 3090 - قال عروة: أسلم علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو ابن ثمان سنين. . . أخرجه البخاري في تاريخه، فاعتبر ذلك الصحابة ومن بعدهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وعد من السابقين. 3091 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أول من أسلم من الناس بعد خديجة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، رواه أحمد. 3092 - وعن عمرو بن مرة عن أبي حمزة، عن رجل من الأنصار، قال: سمعت زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقول: أول من أسلم علي؛ قال عمرو بن مرة: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: أول من أسلم أبو بكر الصديق رضي الله

عنه. . . رواه أحمد والترمذي وصححه، وجمع العلماء بين الأقوال فقالوا: أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي، ومن الموالي زيد، ومن العبيد بلال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. وحكى أبو محمد في المقنع، وأبو البركات رواية بعدم صحة إسلام الصبي، لأنه ليس بمكلف، أشبه الطفل، أو قول يثبت به حكم، فلم يصح منه كالهبة، ولحديث: «رفع القلم عن ثلاث» وأجيب بأن الطفل لا يعقل بخلاف هذا، وعدم صحة الهبة ونحوها حذارا من لحوق الضرر به، وهذا محض مصلحة، ولهذا قلنا على الصحيح: تصح وصيته، والحديث ظاهره أنه لا يكتب عليه شيء، والإسلام يكتب له لا عليه، (فعلى المذهب) شرطه أن يعقل الإسلام قطعا، بأن يعلم أن الله ربه لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، إذ من لا يعقل كلامه لا يدل على شيء، وهل يحد مع ذلك بسن. حكى ابن المنذر عن أحمد أنه لا يحد، وإليه ميل أبي

محمد؛ إذ المقصود عقل الإسلام، والسن لا مدخل له في ذلك، ولأن قوله في الحديث: «حتى يعرب عنه لسانه» يقتضي أن الحكم منوط بذلك فقط. 3093 - وقد روى البخاري في تأريخه عن جعفر بن محمد عن أبيه، قال: قتل علي وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وهذا يقتضي أنه أسلم وله نحو ست سنين، لأنه أسلم في أول المبعث، وعاشر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد مبعثه ثلاثا وعشرين سنة، وعاش علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعد وفاته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحو الثلاثين، (وعن أحمد) يشترط أن يكون ابن سبع، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مروهم بالصلاة لسبع» ، فدل على أن ذلك حد لأمرهم، وظاهره صحة عباداتهم، والإسلام هو أول العبادات ورأسها، (وعنه) وهو الذي اعتمده الخرقي: يشترط أن يكون ابن عشر، لتوجه الضرب إذا، ولم يتعرض الخرقي لردته، لكنها تفهم من المسألة الآتية، وفيها أيضا روايتان، لكن الخلاف هنا أشهر، ولهذا كثير من الأصحاب

جزم ثم بالصحة، وحكى الخلاف هنا، ومن ثم جمع أبو البركات كلام الأصحاب، وحكى فيها ثلاث روايات (الثالثة) يصح الإسلام دون الردة، وإليها ميل أبي محمد، نظرا إلى قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «رفع القلم عن ثلاث» ، والمذهب عند الأصحاب الصحة، لحديث جابر المتقدم، ولأن من صح إسلامه صحت ردته كالبالغ. (تنبيهان) : أحدهما إذا صححنا إسلام الصبي، أو لم نصحح ردته فلا ريب أنه يحال بينه وبين أهل الكفر، وكذلك إن لم نصحح إسلامه، أو صححنا ردته، حذارا من فتنته، ورجاء ثبوته على الإسلام، أو عوده إليه حين بلوغه. (الثاني) : «الأطم» البناء المرتفع، «وحتى يعرب عنه لسانه» أي يبين عنه. قال: فإن عاد وقال: لم أدر ما قلت. لم يلتفت إلى مقالته، وأجبر على الإسلام. ش: إذا حكم بإسلام الصبي فرجع، وقال: لم أدر ما قلت. لم يلتفت إلى قوله على المشهور، وأجبر على الإسلام، لأنه عاقل صح إسلامه، فلا يلتفت إلى قوله، كالبالغ إذا أسلم ثم قال: لم أنو الإسلام على المذهب، ولأنه قد ثبت عقله للإسلام ومعرفته، فلا يبطل ذلك بمجرد دعواه كالبالغ،

حكم الأولاد إذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب

(وعنه) يقبل منه، فلا يجبر على الإسلام. قال أبو بكر: هذا قول محتمل، لأن الصبي في مظنة النقص، فجاز أن يكون صادقا، والدماء يحتاط لها. قال: ولا يقتل حتى يبلغ. ش: يعني إذا أقام على رجوعه، فإنه يصير مرتدا، لكن لا يقتل حتى يبلغ، لأن القتل عقوبة متأكدة، فلا تجب على الصبي كالحد، وحذارا من قتله بأمر محتمل. قال: ويجاوز بعد بلوغه ثلاثة أيام، فإن ثبت على كفره قتل. ش: قد تقرر أنه لا يقتل حتى يبلغ، فإذا حكم الردة لم يتعلق به إلا بعد البلوغ، فتكون الاستتابة بعده. [حكم الأولاد إذا ارتد الزوجان ولحقا بدار الحرب] قال: وإذا ارتد الزوجان فلحقا بدار الحرب، لم يجر عليهما ولا على أحد من أولادهما ممن كانوا قبل الردة رق. ش: لا يجوز استرقاق المرتد، رجلا كان أو امرأة، وإنما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى الزوجين والله أعلم، لأجل ذكر الأولاد، وذلك لعموم ما تقدم: «من بدل دينه فاقتلوه» ، «قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه» ونحو ذلك، وإذا جاز استرقاقه وبقاؤه لم يقتل، وأدوات الشرط كما تقدم تشمل

المذكر والمؤنث، وأما أولاد المرتدين فمن ولد قبل الردة لم يسترق، لأنه مسلم تبعا لأبيه، فلا يتبعه في الردة، لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه وقد تبعوهم في الإسلام، فلا يتبعونهم في الكفر، وإذا لا يسترقون صغارا، لأنهم مسلمون، ولا كبارا لأنهم إن ثبتوا على إسلامهم فواضح، وإن ارتدوا فحكمهم حكم آبائهم كما تقدم، ومن علقت به أمه بعد الردة وولدته بعدها جاز استرقاقه على ظاهر كلام الخرقي، ومنصوص أحمد في رواية الفضل بن زياد، واختيار أبي بكر في الخلاف، والقاضي وأبي الخطاب، والشريف وابن البنا والشيرازي وغيرهم، لأنه مولود بين أبوين كافرين، لم يسبق عليه حكم الإسلام، أشبه ما لو كان أبواه كافرين أصليين، واختار ابن حامد أنه لا يجوز استرقاقه، وحكاه رواية، لأنه لا يقر بالجزية، فلا يسترق كأبيه، ولعل ابن حامد إنما أخذ

الرواية من عدم إقراره بالجزية، وإن علقت به في الإسلام ووضعته في الردة فعند أبي البركات وأبي محمد في الكافي حكمه حكم ما لو وضعته في الإسلام، وهو التحقيق، لانعقاده مسلما، وكلام الخرقي يوهم العكس، وقد أقره أبو محمد في المغني على ظاهره، معللا بأن أكثر الأحكام إنما تتعلق بالوضع، فكذلك هذا، وقد وقع نحو هذه العبارة للخرقي في النكاح، وقد تقدم ذلك. قال: ومن امتنع منهما أو من أولادهما الذين وصفت من الإسلام بعد البلوغ، استتيب ثلاثا، فإن لم يتب قتل. ش: أما من امتنع منهما أو من أولادهما الذين حكم عليهما من الإسلام، فلا إشكال في قتلهم إذا لم يتوبوا، كبقية المرتدين، وقوله: الذين وصفت، يعني الذين ولدوا قبل الردة، وقوله: بعد البلوغ، لما تقدم من أن حكم الردة إنما يتعلق بالصبي بعد البلوغ، ومفهوم كلام الخرقي أن أولادهم الذين ولدوا بعد الردة لو امتنعوا من الإسلام لم يقتلوا، وتحت هذا صورتان (إحداهما) اختاروا كفرا لا يقر أهله عليه بالجزية، فهنا لا ريب في قتلهم. (الثانية) اختاروا كفرا يقر أهله عليه بالجزية، فهنا روايتان، حكاهما أبو البركات، وأبو محمد في المقنع (إحداهما) وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي في روايتيه، يقرون بالجزية، لأنهم ولدوا بين كافرين، ولم يسبق لهم حكم الإسلام، فجاز إقرارهم بالجزية

كأولاد الحربيين. (والثانية) ، وهي اختيار أبي بكر، وبها قطع أبو محمد في الكافي، وأبو الخطاب في الهداية، لا يقرون بالجزية، لأنهم أولاد من لا يقر على كفره، فلا يقرون بالجزية كالولد الذي قبل الردة. ولهذا الخلاف التفات إلى أن من تهود أو تنصر بعد المبعث هل يقر بالجزية أم لا. . .؟ وسلك أبو محمد في المغني طريقة لم نرها لغيره، فقال: إذا وقع أبو الولد في الأسر بعد لحوقه بدار الحرب، فحكمه حكم سائر أهل دار الحرب، وإن بذل الجزية وهو في دار الحرب، أو وهو في دار الإسلام، لم يقر بها، لانتقاله إلى الكفر بعد نزول القرآن. قال: ومن أسلم من الأبوين كان أولاده الأصاغر تبعا له. 3094 - ش: لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما من الناس مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث، إلا أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم» ، رواه البخاري وأحمد وقال فيه: «ما من رجل مسلم» ، وهو يشمل ما إذا كانوا من كافرة.

3095 - قال البخاري وكان ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مع أمه من المستضعفين، ولم يكن مع أبيه على دين قومه، ولأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه. ومن علوه التبعية له، (وظاهر كلام الخرقي) أن هذا الحكم ثابت للصغير ما لم يبلغ، وهو المنصوص والمشهور، لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم، وقيل في المميز: لا يحكم بإسلامه حتى يسلم بنفسه كالبالغ، لأنه يصير مستقلا بنفسه، ولعله يلتفت إلى أن المميز يصح إسلامه، فصار كالبالغ، لكن المذهب صحة إسلام المميز، والمذهب التبعية إلى البلوغ، ومراد الخرقي بالأبوين الأبوان الأدنيان الحقيقيان، ولا يتبع الصغير جده ولا جدته في الإسلام. قال: وكذلك من مات من الأبوين على كفره قسم له من الميراث، وكان مسلما بموت من مات منهما. ش: أما كون الصغير يحكم بإسلامه بموت أحد أبويه الكافرين على المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين. 3096 - فلما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء» ، ثم يقول أبو هريرة: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] الآية. وفي رواية: «قالوا: يا رسول الله

أفرأيت من يموت منهم وهو صغير؟ قال: «الله أعلم بما كانوا عاملين» متفق عليهما. فجعل تهوده وتنصره وتمجسه بسبب أبويه، فإذا ماتا فقد فات السبب، وكذلك إذا مات أحدهما إذ لا ريب أن الشيء يفوت بفوات جزئه، ومتى فات السبب بقي على أصل الفطرة التي خلقه الله عليها، وهي الإقرار بالربوبية والوحدانية. (والرواية الثانية) : لا يحكم بإسلامه، لأنه ثبت كفره، ولم يوجد منه إسلام، ولا ممن هو تابع له، فوجب إبقاؤه على ما كان عليه، ولأنه لم ينقل عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا عن أحد من خلفائه أنه أجبر أحدا من أهل الذمة على الإسلام لموت أبيه، مع أنه لا يخلو زمنهم من موت بعض أهل الذمة عن يتيم، والحكم في موت الأبوين كالحكم في موت أحدهما. وهل حكم المميز حكم البالغ أو حكم الطفل؟ فيه القولان السابقان.

وكلام الخرقي يشمل الموت في دار الحرب ودار الإسلام، وهو قويل بعده أبو البركات، وعموم الحديث يقتضيه، والذي أورده أبو البركات مذهبا - وبه قطع أبو محمد في المغني - اختصاص الحكم بدار الإسلام، إذ قضية الدار الحكم بإسلام أهلها، خرج منه الطفل الذي له أبوان، فإذا عدما أو أحدهما؛ بقي على الأصل. وأما كونه يقسم له من ميراث من مات من أبويه الذي جعل مسلما بموته، فلأن المانع من الإرث وهو الإسلام لم يتحقق وجوده حين الإرث، إذ بالموت انتقل الإرث وحصل الإسلام. فالمانع إنما تحقق وجوده لما انتقل الإرث، أما وقت الانتقال فلم يتحقق، لا سيما ومن قاعدتنا على المشهور أن من أسلم قبل قسم الميراث قسم له. وقد استشكل على هذا نص أحمد في الكافر: إذا مات عن حمل منه أنه لا يرثه، والقاضي أظنه في المجرد حمل هذا على أنها وضعته بعد قسم الميراث، وجعل أنها متى وضعته قبل ذلك ورث كما في هذه المسألة. وأبو البركات جرى على المنصوص في الموضعين، وأشار للفرق بأن الحمل حكم بإسلامه قبل وضعه، والإرث لا يحكم له إلا بانفصاله، وقد يقال: الظاهر من كلام الأصحاب أنا نتبين بوضعه حيا إرثه، فالإرث حصل له أيضا من حين موت أبيه، فهو كهذه المسألة، والظاهر أن هذه شبهة القاضي، فيجاب بأنه على كل حال المانع قد تحقق قبل الحكم بإرثه، فلم يحصل شرط

حكم من شهد عليه بالردة فأنكر

إرثه إلا والمانع قد تحقق، فانتفى الإرث لوجود المانع. (تنبيه) : «الفطرة» والله أعلم. [حكم من شهد عليه بالردة فأنكر] قال: ومن شهد عليه بالردة فقال: ما كفرت، فإن شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله لم يكشف عن شيء. ش: من شهد عليه بالردة فأنكر، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله لم يكشف عن شيء مما شهد عليه، ولم يكلف الإقرار بما نسب إليه. 3097 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله» . 3098 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله»

متفق عليهما، ولأن هذا يثبت به إسلام الكافر الأصلي، فكذا هذا. وظاهر كلام الخرقي: أنه لا يلتفت مع ذلك إلى ما شهد عليه به، ولو كان إنكار فرض، أو إحلال محرم، وحمل أبو محمد كلامه على من كفر بجحد الوحدانية أو الرسالة أو هما، أما من كفر بغير هذا فلا يحصل إسلامه إلا بالإقرار بما جحده. ومفهوم كلام الخرقي أنه لا يكفي والحال ما تقدم جحده للردة، وهذا والله أعلم كأنه مقصود الخرقي من ذكر هذه المسألة، لينص على مخالفة بعض الحنفية، وذلك لأنه بالبينة قد بان كفره، فلم يحكم بإسلامه بدون الشهادتين، كالكافر الأصلي. 3099 - وقد روى الأثرم بإسناده، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي برجل عربي قد تنصر، فاستتابه فأبى أن يتوب فقتله، وأتي برهط يصلون وهم زنادقة، قد قامت عليهم بذلك الشهود العدول، فجحدوا وقالوا: ليس لنا دين إلا دين الإسلام، فقتلهم ولم يستتبهم، ثم قال: تدرون لم استتبت النصراني؟ استتبته لأنه أظهر دينه، فأما الزنادقة الذين قامت عليهم البينة، فإنما قتلتهم لأنهم جحدوا، وقد قامت عليهم البينة.

ومقتضى كلام الخرقي: أن حصول الشهادتين كاف في إسلام المرتد، وهو كذلك، وكذلك كل كافر، ولا يشترط أن يقول مع ذلك: وأنا بريء من الدين الذي كنت عليه، لما تقدم. 3100 - ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للغلام اليهودي: «يا غلام، قل: لا إله إلا الله، وأني رسول الله» . 3101 - «وقوله لعمه أبي طالب: «أدعوك إلى كلمة أشهد لك بها عند الله، لا إله إلا الله، وأني رسول الله» . نعم من كفر بجحد

فرض، أو تحريم أو تحليل، أو نبي أو كتاب، أو رسالة نبينا محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى غير العرب ونحو ذلك، فلا بد مع الشهادتين أن يقر بالمجحود به، لأن الشهادتين كانت موجودة منه قبل ذلك. ومفهوم كلام الخرقي: أنه لا يكتفى بأشهد أن محمدا رسول الله عن كلمة التوحيد، وهو (إحدى الروايات) ، وهو مقتضى ما تقدم من الأحاديث. . . (والثانية) : يكتفى بذلك. 3102 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن يهوديا قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أشهد أنك رسول الله، ثم مات، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا على صاحبكم» ، ذكره أحمد في رواية مهنا محتجا به، ولأن الإقرار برسالة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يتضمن الإقرار بوحدانية الرب سبحانه، لتصديقه الرسول فيما جاء به. (والثالثة) : إن كان ممن يقر بالتوحيد كأكثر اليهود اكتفي بذلك، لأن بانضمام تصديقه بالرسالة إلى ما عنده من

حكم من أقر بالردة ثم رجع أو أنكر

التوحيد يكمل إسلامه، وإن لم يقر بالتوحيد كالنصارى ونحوهم، لم يكتف بذلك، لأن الجاحد جحد شيئين، فلا يزول جحده لهما إلا بالإقرار بهما، وهذه الرواية اختيار أبي محمد. ومفهوم كلام الخرقي أيضا: أنه إذا قال: أنا مؤمن أو أنا مسلم، لم يكتف بذلك، ونص القاضي وابن البنا على الاكتفاء بذلك عن الشهادتين، لتضمنهما إياها. 3103 - وقد «روى المقداد أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: «لا تقتله، فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها» . رواه مسلم. قال أبو محمد: ويحتمل أن هذا فيمن كفره بغير جحد فرض، أو كتاب أو نحو ذلك، أما من كفره بذلك فلا نكتفي منه بقوله: أنا مسلم أو مؤمن، لأنه قد يعتقد أن الإسلام ما هو عليه، إذ أهل البدع كلهم يعتقدون أنهم هم المسلمون. [حكم من أقر بالردة ثم رجع أو أنكر] (تنبيه) : لو أقر بالردة ثم رجع، أو أنكر، قبل منه بدون تجديد إسلام، على ما قطع به ابن حمدان في رعايتيه، وأبو محمد، لما أورد عليه ذلك في أصل المسألة قال: يحتمل أن

حكم ردة السكران

يقول فيه كمسألتنا، وإن سلمنا فالفرق أن هنا ثبت بقوله، فقبل رجوعه عنه، وثم ثبت بالبينة فلا يقبل رجوعه كالزنا، والله أعلم. [حكم ردة السكران] قال: ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يفيق ويتم له ثلاثة أيام من وقت ردته، فإن مات في سكره مات كافرا. ش: هل تصح ردة السكران؟ فيه روايتان تقدمتا في طلاقه، إلا أن أبا محمد كلامه ثم يوهم عدم صحة طلاقه، وكلامه هنا بالعكس، وربما أشعر كلام الخرقي بذلك. وبالجملة متى لم تصح ردته فلا كلام. وإن صحت فلا يقتل حتى يفيق من سكره، ليكمل عقله، ويفهم ما يقال له، وتزول شبهته؛ ولأن القتل جعل للزجر، ولا يحصل الزجر في حال سكره، ويتم له ثلاثة أيام من وقت صحوه، كما قلنا في الصبي من حين بلوغه. هذا الذي أورده أبو البركات مذهبا، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جعل الثلاث من وقت ردته، وتبعه على ذلك أبو محمد، لأن مدة سكره لا تدوم غالبا أكثر من ثلاثة أيام، بخلاف الصبي، فعلى هذا لو استمر سكره أكثر من ثلاثة أيام، فقال أبو محمد: لا يقتل حتى يصحو ويستتاب عقيب صحوه، فإن تاب، وإلا قتل في الحال. (تنبيه) : والحكم في إسلامه في سكره كالحكم في ردته، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الحدود

[كتاب الحدود] الحدود جمع حد، والحد في الأصل: المنع، ومنه قيل للبواب حدادا، لمنعه الداخل والخارج إلا بإذن، وسمي الحديد حديدا؛ للامتناع به، أو لامتناعه على من يحاوله. والحد عقوبة تمنع من الوقوع في مثله، وحدود الله محارمه. قال سبحانه تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، وما قدره كجعل الطلاق ثلاثا، ونحو ذلك، قال سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] ولعل تسمية المحارم حدودا، وكذلك المقدرات؛ إشارة إلى المنع من قربان ذلك، أو تجاوزه، والله أعلم. [حد الزنا] قال: وإذا زنى الحر المحصن أو الحرة المحصنة؛ جلدا ورجما حتى يموتا، في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى: يرجمان ولا يجلدان. ش: الزنا مما علم تحريمه من دين الله بالضرورة، وقد شهد له قوله سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] ،

وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا} [الفرقان: 68] {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الفرقان: 69] ، وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأنعام: 151] . 3104 - وعده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السبع الموبقات، وجعله من أعظم الذنب. إذا تقرر ذلك (فالرواية الأولى) اختيار أبي بكر عبد العزيز، ونصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وصححها الشيرازي، لقول الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] الآية، وهذا عام في البكر والثيب، ثم قد ورد رجم المحصن في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلا ريب، وفعله خلفاؤه من بعده، بل وفي الكتاب العزيز. 3105 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: سمعت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وهو على منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: إن الله بعث

محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمن أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله في كتابه، فإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى، إذا أحصن من الرجال والنساء، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، وايم الله لولا أن يقول الناس زاد في كتاب الله لكتبتها. . . متفق عليه. وإذا ورد رجم الثيب في الكتاب وفي السنة، وورد الجلد في الكتاب، وهو يعمه ويعم غيره، وجب الجمع بينهما، وقد أشار علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، والله أعلم إلى ذلك. 3106 - ففي البخاري عن الشعبي أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين رجم المرأة ضربها يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

3107 - مع أن في صحيح مسلم، وسنن أبي داود والترمذي، عن عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» ، وما يعترض على هذا من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يجلد ليس بنص صريح، إذ غايته أنه لم ينقل أنه جلد، وعدم النقل لا يدل على العدم. (والرواية الثانية) : هي أشهر الروايتين عن الأثرم، واختارها ابن حامد، ونصرها الجوزجاني والأثرم في منتهاهما. 3108 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجم ماعزا والغامدية، وامرأة من جهينة، ورجلا وامرأة من اليهود، ولم ينقل - مع كثرة الروايات التي

يبلغ مجموعها التواتر المعنوي - بلا ريب - أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلدهم. 3109 - وقال: « «واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» متفق عليه، ولم يأمر بجلدها، وهذا يبين أن هذا هو آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقد أشار إلى هذا أحمد، قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يقول في حديث عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنه أول حد نزل، وإن حديث ماعز بعده رجمه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يجلده، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رجم ولم يجلد، وكذلك نقل إسماعيل بن سعيد نحو هذا، والذي في الآية الكريمة يحمل على البكر. 3110 - وقد ورد في أبي داود في رواية - قال أبو السعادات: ذكرها رزين - عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أول ما كان الزنا في الإسلام أخبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأنزل الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] ثم نزل بعد ذلك: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، ثم نزلت آية الرجم في النور، فكان الأول للبكر، ثم رفعت آية الرجم من التلاوة، وبقي الحكم بها، وهذا إن ثبت فيه جمع بين الأدلة.

3111 - وقد عمل على ذلك عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فرجما، ولم ينقل أنهما جلدا. وتقييد الخرقي بالحر والحرة ليخرج العبد والأمة، وسيأتي إن شاء الله تعالى حدهما، وتقييد الحر بالمحصن والحرة بالمحصنة ليخرج غير المحصن كما سيأتي، ولا نزاع في أن الإحصان شرط في الرجم، وقد شهد لذلك حديث عبادة وحديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. 3112 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني» ، وفي رواية: «أو زنا بعد إحصان» الحديث. . . وقد تقدم ذلك. 3113 - وفي قصة ماعز أنه قال له: «أحصنت» ؟ قال: نعم، فأمر به فرجم. والإحصان قد تقدم الكلام عليه في آخر كتاب النكاح، فلا حاجة إلى إعادته.

(تنبيه) : الزنا الفاحشة يمد ويقصر، فالقصر لأهل الحجاز، والمد لأهل نجد، أنشد ابن سيده: أما الزناء فإني لست قاربه ... والمال بيني وبين الخمر نصفان والزاني من أتى الفاحشة، وسيأتي كلام الخرقي إن شاء الله تعالى فيه، والله أعلم. قال: ويغسلان ويكفنان، ويصلى عليهما، ويدفنان. ش: أما التغسيل والتكفين والدفن فاتفاق، حكاه أبو محمد. 3114 - وقال أحمد: سئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن شراحة - وكان رجمها - فقال: اصنعوا بها ما تصنعون بموتاكم. وصلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على شراحة، وأما الصلاة، فهي أيضا قول الأكثرين.

3115 - لما روى عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن «امرأة من جهينة أتت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي حبلى من الزنا، فقالت: يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي، فدعا نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليها فقال: «أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها» ففعل، فأمر بها نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فشدت عليها ثيابها، ثم أمر بها فرجمت، ثم صلى عليها، قال عمر: أتصلي عليها وقد زنت؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل» رواه مسلم وأبو داود والترمذي. 3116 - وفي مسلم أيضا وسنن أبي داود، من حديث بريدة في «قصة ماعز والغامدية قال: ثم أمر بها فصلي عليها ودفنت.» 3117 - وما في الصحيح من حديث ابن عباس، ومن حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يصل على ماعز» ،

فقضية عين، يحتمل أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحضره، أو اشتغل عنه لعارض، أو غير ذلك، ولأن عموم «صلوا على من قال لا إله إلا الله» يدخل فيه من مات بحد. قال: وإذا زنى الحر بالبكر جلد مائة جلدة، وغرب عاما. ش: أراد بالبكر من لم يحصن، وإنما عبر بالبكر اتباعا للفظ الحديث، وقد حصل اتفاق العلماء ولله الحمد على الجلد، بشهادة الكتاب والسنة بذلك، وجمهورهم أيضا على القول بالتغريب، لحديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم. 3118 - وعن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قالا: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو جالس، فقال: يا رسول الله أنشدك الله ألا قضيت لي بكتاب الله. فقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه -: نعم فاقض بيننا بكتاب الله وأذن لي، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قل» ، قال: إن ابني كان عسيفا على هذا، فزنى بامرأته، وإني أخبرت أن على ابني

الرجم، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة، فسألت أهل العلم فأخبروني إنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» فغدا عليها فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرجمت» ، أخرجه الجماعة. والدلالة منه من وجهين: (أحدهما) - وهو العمدة - قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام» . (والثاني) : قوله: سألت أهل العلم، وأهل العلم هم جلة الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وهذا يدل على أن هذا كان معروفا مشهورا عندهم، وقد تأكد قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بفعله. 3119 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب وغرب» ، وأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب وغرب، وأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب وغرب، رواه النسائي. لكن قال النسائي: الصواب في هذا الحديث أن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وليس فيه أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ودعوى أن هذا زيادة على

النص، وهو {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] الآية، والزيادة على النص نسخ، والكتاب لا ينسخ بالسنة - ممنوع؛ أما (أولا) : فلأن النص ليس فيه تعرض لنفي التغريب إلا من جهة المفهوم، والحنفي لا يقول به، وبالاتفاق متى عارض المفهوم نص قدم عليه. وأما (ثانيا) : فإنا لا نسلم أن الزيادة على النص نسخ، كما هو مقرر في موضعه. وأما (ثالثا) : فإنا لا نسلم أيضا أن النسخ لا يحصل بالسنة، بل يحصل بالسنة، وإن كانت آحادا، على رواية اختارها فحل الفقهاء أبو الوفاء ابن عقيل، والله أعلم. قال: وكذلك المرأة. ش: يعني أنها تجلد، ولا نزاع في ذلك، لنص الكتاب، وتغرب، وهو أيضا قول الأكثرين ممن قال بالتغريب، ثم وعليه

المعول في المذهب، لعموم حديث عبادة بن الصامت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن ما كان حدا في حق الرجل كان حدا في حق المرأة كسائر الحدود، واختار أبو محمد في مغنيه أنها لا تغرب، كقول مالك، وله في كتبه الثلاثة احتمال بسقوطه إذا لم تجد محرما. 3120 - ومدركهما قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم» ؛ ولأن تغريبها بدون محرم تضييع لها، ومعه يفضي إلى نفي من لا ذنب له، وإن كلفت بأجرته فذلك زيادة على عقوبتها بما لم يرد الشرع به. (تنبيه) : شرط التغريب أن يكون إلى مسافة القصر في الجملة، إذ ما دونها في حكم المقيم، قال أبو محمد: ويحتمل كلام أحمد في رواية الأثرم أنه لا يشترط ذلك، لقوله: ينفى من عمله إلى عمل غيره. ولا تفريع على هذا، أما على المذهب فالرجل ينفى إلى مسافة القصر بلا ريب، وكذلك المرأة إذا كان معها محرمها، ومع تعذره هل تنفى إلى مسافة القصر لما تقدم، أو إلى ما دونها، لحديث: «لا تسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم» ؟ على روايتين، هذه طريقة القاضي في

الروايتين، وأبي محمد في المغني، وجعل أبو الخطاب في الهداية الروايتين فيها مطلقا، سواء نفيت مع محرمها أو بدونه، وتبعه على ذلك أبو محمد في الكافي والمقنع، وعكس أبو البركات طريقة المغني، فجعل الروايتين فيها فيما إذا نفيت مع محرمها، أما بدونه فإلى ما دونها قولا واحدا، كما اقتضاه كلامه. قال: وإذا زنى العبد أو الأمة جلد كل واحد منهما خمسين جلدة، ولم يغربا. 3121 - ش: أما جلدهما فلما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الأمة إذا زنت ولم تحصن، قال: «إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» » ، متفق عليه. 3122 - وعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: «خطب علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: يا أيها الناس أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم، من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زنت، فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس، فخشيت إن أنا جلدتها أن أقتلها، فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «أحسنت اتركها حتى

تماثل» » رواه مسلم وأبو داود والترمذي، لكن قال فيه: «وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم» جعله من لفظ الرسول، والعبد في معنى الأمة، وبهذين يضعف دليل خطاب {فَإِذَا أُحْصِنَّ} [النساء: 25] . 3123 - على أنه نقل عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن المراد بالإحصان الإسلام. وأما كونه خمسين جلدة، فلقوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]

والعذاب الذي في كتاب الله هو جلد مائة جلدة، ولهذا عرفه. 3124 - وعن عبد الله بن عياش قال: أمرني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن أجلد ولائد للإمارة، أنا وفتية من قريش خمسين خمسين في الزنا. أخرجه مالك في الموطأ. 3125 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أرسلني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى أمة له سوداء زنت، لأجلدها الحد، قال: فوجدتها في دمها، فأتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرته بذلك، فقال لي: «إذا تعالت من نفاسها فاجلدها خمسين» ، رواه عبد الله بن أحمد في المسند. وأما كون ذلك بلا تغريب؛ فلأن ما تقدم جميعه ليس فيه تغريب، ولو وجب لذكر، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، والعذاب كما تقدم والله أعلم المراد به الذي في الكتاب، ولا تغريب فيه، ثم إن التغريب في حق العبد في الحقيقة عقوبة لسيده دونه، لما يفوته من خدمته، وما يحتاجه

الموضع الذي يجب فيه الحد في الزنا

من حفظه ونفقته، والعبد غريب أينما كان، والعقوبة لا تشرع على غير الزاني، والله أعلم. [الموضع الذي يجب فيه الحد في الزنا] قال: والزاني من أتى الفاحشة من قبل أو دبر. ش: مقصود الخرقي بهذا والله أعلم، أن الموضع الذي يجب فيه الحد في القبل يجب فيه في الدبر، فلا فرق بين القبل والدبر، وذلك لأنه فرج مشتهى طبعا، محرم شرعا، فأشبه القبل، ولأن الله تعالى قال: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية، ثم بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك بقوله: «قد جعل الله لهن سبيلا» الحديث، والفاحشة تشمل الوطء في القبل والدبر، وقد سمى الله الوطء في الدبر فاحشة فقال لقوم لوط: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} [الأعراف: 80] أي: الوطء في دبر الرجل، ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أشار إلى تعريف الزاني الذي يترتب عليه الحد السابق بما ذكره. وفي قوله (الفاحشة) إشعار بأن شرط الإتيان في القبل أو الدبر أن يكون حراما محضا، فيخرج بالأول الوطء الحلال، ووطء الشبهة، كمن وطئ امرأته في دبرها أو أمته الوثنية، أو أمة لبيت المال وهو حر مسلم، أو من ظنها زوجته، أو بنكاح

حكم اللواط

باطل اعتقد صحته، أو لم يعلم بالتحريم لقرب عهده بالإسلام ونحو ذلك، وقد تضعف الشبهة فيجري الخلاف، كمن وطئ أمته وهي مزوجة، أو مؤبدة التحريم، أو أمة والده، مع علمه بالتحريم، أو وطئ في نكاح أو ملك مختلف في صحته مع علمه بالتحريم، ونحو ذلك، وبيان ذلك وشرحه على ما ينبغي له محل آخر، إلا أنه لا بد أن يطأ بفرج أصلي، في فرج أصلي، وأن يغيب الحشفة أو قدرها، فلو جامع الخنثى بذكره، أو جامع في قبله فلا حد، وقد فهم من كلام الخرقي أنه لا حد بالإتيان دون الفرج، ولا بإتيان المرأة المرأة، وهو كذلك والله أعلم. [حكم اللواط] قال: ومن تلوط قتل بكرا كان أو ثيبا، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى، حكمه حكم الزاني. ش: (الرواية الأولى) اختيار الشريف. 3126 - لما روي أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» رواه الخمسة إلا النسائي، قال الترمذي: وكذا روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

وهو شامل للبكر والثيب، لكن الحديث من رواية عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقد اختلف في عمرو بن أبي عمرو، فعن ابن معين ومالك: تضعيفه، وعن أحمد وأبي حاتم وغيرهما: ليس به بأس. 3127 - ورواه أبو أحمد ابن عدي من رواية عباد بن منصور، عن عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولفظه: «في الذي يعمل عمل قوم لوط، وفي الذي يؤتي في نفسه، وفي الذي يقع على ذات محرم، وفي الذي يأتي

البهيمة يقتل» ، وقد اختلف أيضا في الاحتجاج بعباد بن منصور. 3128 - وقد روى أبو أحمد أيضا من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الذي يعمل عمل قوم لوط فارجموه الأعلى والأسفل، ارجموهما جميعا» لكنه ضعفه، وبالجملة هذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، إذ ليس فيها متهم بكذب وسوء الحفظ يزول بتتابعها، مع أن الجارحين لم يبينوا سبب الجرح، وقد قال يحيى بن سعيد: عباد بن منصور ثقة، لا ينبغي أن يترك حديثه لرأي أخطأ فيه، وهذا يدل على أن تضعيفهم له كان بسبب خطئه في رأيه، ويقوي الحديث عمل راويه عليه.

3129 - فعن سعيد بن جبير ومجاهد، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في البكر يؤخذ على اللوطية يرجم. رواه أبو داود، ثم عمل الصحابة على ذلك. 3130 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن عليا أحرقهما، وأبا بكر هدم عليهما حائطا، ذكر ذلك أبو السعادات في جامع الأصول، ولذلك احتج أحمد بقول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقيل: إن الصحابة أجمعوا على قتله، وإنما اختلفوا في صفته. (ووجه الرواية الثانية) أنه فاحشة، فكان كالفاحشة بين الرجل والمرأة. 3131 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان» ، وإذا كان زنا دخل في عموم الآية، والأخبار السابقة والأحاديث السابقة لم تثبت.

إتيان البهيمة

وقول الخرقي: بكرا كان أو ثيبا، أي محصنا كان أو غير محصن، وإنما أراد لفظ حديث عبادة، والله أعلم. [إتيان البهيمة] قال: ومن أتى بهيمة أدب وأحسن أدبه. ش: هذا منصوص أحمد في رواية ابن منصور، واختيار الخرقي، وأبي بكر، لأنه أتى محرما لا حد فيه ولا كفارة، وذلك مقتضى للتأيب. وقوله: وأحسن أدبه، أي يبالغ فيه لشدة تحريمه، إذ قد اختلف في قتل فاعل ذلك، وورد فيه ما يدل على ذلك، وذلك يقتضي المبالغة في تحريمه، وإنما لم يحد لأن الحديث الذي ورد فيه قد تكلم فيه، وقياسه على الوطء في فرج المرأة متعذر، إذ ليس بمقصود، يحتاج في الزجر عنه إلى حد، بل يكتفى بالباعث الطبعي، إذ النفوس الشريفة بل وغيرها تنفر من ذلك. (ونقل عنه) حنبل: يحد حد الزاني، كذا حكى القاضي في روايتيه، والشيخان وغيرهما يحكون الرواية: أن حده حد اللوطي، يعني هل يرجم مطلقا، أو يحد

حد الزاني، وهذه اختيار القاضي والشيرازي، وأبي الخطاب والشريف في خلافيهما. 3132 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها» رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وراويه عمرو بن أبي عمرو راوي حديث: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط» الحديث، فهذا لازم للقائل ثم بالقتل. 3133 - إلا أنه هنا قد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: ليس على الذي يأتي البهيمة حد، رواه أبو داود والترمذي، وذلك يوهن روايتيه مع ما فيهما، والله أعلم.

قال: وقتلت البهيمة. ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار الخرقي، وبه قطع أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في الكافي، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، لما تقدم من الحديث، وهو وإن تكلم فيه فذلك لا يبلغ اطراحه بالكلية، بل هو صالح لأن يؤثر شبهة في درء الحد الذي يندرئ بالشبهة، ولا يؤثر في غيره لعدم درئه بالشبهة. (والرواية الثانية) : لا تقتل، لأن المعتمد في ذلك على الحديث، والحديث لم يثبت، والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة، فيدخل في عمومه،

وظاهر كلام أبي البركات، أن قتلها لا يشرع على هذه الرواية، وعن أبي بكر أنه توسط فقال: الاختيار قتلها، وإن تركها فلا بأس، (ومحل هاتين الروايتين) إذا قلنا بتعزير الفاعل، أما إذا قلنا بحده حد اللوطي؛ فإنها تقتل بلا نزاع، كذا ذكره أبو البركات وهو واضح، لأنا إذا اعتمدنا على الحديث، وهو أخص من النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكلة، وكلام الخرقي يشمل المملوكة والمأكولة وغيرهما، وهو كذلك ولم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لأكلها إن كانت مأكولة، وأحمد كره ذلك، فخرج لأصحابه فيه وجهان: (أحدهما) - ويحتمله كلام الخرقي -: الجواز، لعموم: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} [المائدة: 1] وغير ذلك. (والثاني) - وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، وقطع به الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وشيخهما في الجامع، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي -: المنع، لأنه حيوان مأمور بقتله، وكل ما أمر بقتله لا يجوز أكله، كما هو مقرر في موضعه، ولعل الخلاف في ذلك مبني على علة قتلها، فقيل: لئلا يعير فاعلها لذكره برؤيتها. 3134 - فروى ابن بطة بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة» قالوا: يا رسول الله

ما يثبت به حد الزنا

ما بال البهيمة؟ قال: «لئلا يقال هذه وهذه» ، وقيل: لئلا تلد خلقا مشوها، وبه علل ابن عقيل، وعلى هذين يباح الأكل، وقيل القتل لئلا تؤكل. 3135 - «قيل لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لما ذكر الحديث: ما شأن البهيمة؟ قال: ما سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في ذلك شيئا، ولكن أراه كره أن يؤكل لحمها أو ينتفع بها، وقد فعل بها ذلك» . . رواه أبو داود والترمذي، واعلم أن محل الخلاف حيث شرعنا قتلها، أما إن لم نشرعه فلا ريب في جواز أكلها، والله أعلم. [ما يثبت به حد الزنا] قال: والذي يجب عليه الحد ممن ذكرت من أقر بالزنا أربع مرات، وهو بالغ صحيح عاقل، ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد، أو يشهد عليه أربعة رجال من أحرار المسلمين عدول، يصفون الزنا. ش: ملخص ذلك أن الحد لا يجب إلا بأحد شيئين؛ إقرار أو بينة، فإن ثبت بإقرار اشترط أن يقر أربع مرات، فلو أقر دونها لم يجب الحد.

3136 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أتى رجل من أسلم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في المسجد، فناداه: يا رسول الله، إن الآخر قد زنى، يعني نفسه، فأعرض عنه، فتنحى لشق وجهه الذي أعرض قبله، فقال له ذلك، فأعرض، فتنحى الرابعة، فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه، فقال: «أهو به جنون» ؟ قال: لا، قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهبوا به فارجموه» متفق عليه. 3137 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترف بالزنا، فأعرض عنه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبك جنون» ؟ قال: لا، قال: «أحصنت» ؟ قال: نعم، فأمر به فرجم» . . رواه أبو داود والترمذي والنسائي. وظاهر هذا: أن الحكم مرتب على الأربعة، وقد جاء أصرح من هذا. 3138 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء ماعز إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاعترف بالزنا مرتين، فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين، فقال: «شهدت على نفسك أربع مرات، فاذهبوا به فارجموه» .

3139 - وعن يزيد بن نعيم بن هزال عن أبيه قال: «كان ماعز بن مالك يتيما في حجر أبي، فأصاب جارية من الحي، فقال له أبي: ائت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره بما صنعت، لعله يستغفر لك، وإنما يريد بذلك رجاء أن يكون له مخرج، فأتاه فقال: يا رسول الله إني زنيت، فأقم علي كتاب الله؛ حتى قالها أربع مرات، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنك قد قلتها أربع مرات فبمن» ؟ قال: بفلانة. قال: «هل ضاجعتها» ؟ قال: نعم، قال: «هل باشرتها» ؟ قال: نعم، قال: «هل جامعتها» ؟ قال: نعم، قال: فأمر به أن يرجم» ، وذكر الحديث. . . رواهما أبو داود، وهذا ظاهر وصريح في أن الأربع علة في ترتب الحكم عليها. 3140 - وفي المسند «أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال له بحضرة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك؛ وقوله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأنيس: «واغد يا أنيس إلى

امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» ونحو ذلك واقعة عين، إذ يحتمل أنه أحاله على ما عرفه من شرط الاعتراف، وكذلك قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الرجم حق على من أحصن، إذا قامت البينة، أو كان الحبل أو الاعتراف، يرجع إلى الاعتراف المعهود كالبينة، وشرط اعتبار الإقرار أن يكون من مكلف، وهو العاقل البالغ، فلو أقر المجنون أو الصبي فلا عبرة بإقرارهما، إذ لا حكم لكلامهما، وقد رفع القلم عنهما. 3141 - قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: « «رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المعتوه حتى يبرأ» رواه أبو داود. 3142 - وفي الحديث «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لماعز: «أبك جنون» ؟ قال: لا، وفي رواية في الصحيح أنه سأل قومه: «أتعلمون بعقله بأسا، تنكرون منه شيئا» ؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفي العقل، من صالحينا فيما نرى» ، انتهى.

ومما في معنى المجنون من زال عقله بنوم، أو إغماء، أو شرب دواء، أو سكر، هذا ظاهر كلام الخرقي، وأقره عليه أبو محمد، وجزم بذلك. ومقتضى كلام أبي البركات: جريان الخلاف فيه، وفي بعض نسخ الخرقي: وهو صحيح بالغ عاقل، وعلى ذلك شرح القاضي وأبو محمد، وفسر القاضي ذلك بحقيقته، وهو الصحة من المرض، فلا يجب على مريض في حال مرضه، وإن وجب عليه أقيم عليه بما يؤمن به تلفه، وهذا فيه نظر، فإن الحد إما أن يجب ويؤخر استيفاؤه إلى حين صحته، أو يجب ويستوفى منه على حسب حاله، فعلى كل حال ليس الصحة شرطا للوجوب، قاله أبو محمد. ويحتمل أن يريد بالصحيح الذي يتصور منه الوطء، فلو أقر بالزنا من لا يتصور منه الوطء؛ كالمجبوب، فلا حد عليه، وهو كالذي قبله، لأن هذا فهم من قوله: عاقل. (قلت) : ويحتمل أن يريد بالصحيح الناطق فلا يقبل إقرار الأخرس، لأنه إن لم تفهم إشارته فواضح، وإن فهمت فهي محتملة، وذلك شبهة تدرأ الحد، وهذا احتمال لأبي محمد، والذي قطع به القاضي الصحة، ويحتمل أن يريد بالصحة الاختيار، وأراد الصحة المعنوية فلا يصح إقرار المكره، ولا نزاع في ذلك. واعلم أنه يشترط في الإقرار أن يذكر حقيقة الفعل لتزول الشبهة. 3143 - وفي قصة ماعز «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «أنكتها» ؟ قال: نعم. قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حتى غاب ذلك منك في

ذلك منها» ؟ قال: نعم، قال: «كما يغيب الميل في المكحلة والرشاء في البئر» ؟ قال: نعم، قال: «هل تدري ما الزنا» ؟ قال: نعم، أتيت منها حراما ما يأتي الرجل من أهله حلالا» . . رواه أبو داود. 3144 - وفي الصحيح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «قال: لما أتى ماعز النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت» ؟ قال: لا يا رسول الله، قال: «أنكتها» ؟ قال: لا يكني، قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه» ، انتهى. ولا يعتبر أن يكون في مجالس، لأن أكثر الأحاديث ليس فيها تعريض لذلك، ويعتبر في استقرار الإقرار دوامه، أن لا ينزع عنه حتى يتم عليه الحد، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى، انتهى. وإن ثبت الزنا بالبينة اعتبر أن يكون أربعة، وهذا إجماع في الجملة والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] الآية، وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] ،

وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور: 13] . 3145 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن سعد بن عبادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أرأيت لو أني وجدت مع امرأتي رجلا، أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نعم» رواه مسلم ومالك في الموطأ. اهـ. ويعتبر في الأربعة شروط: (أحدها) : أن يكونوا رجالا، فلا يقبل فهم امرأة، ولا خنثى مشكل بحال، لأن لفظ الأربعة اسم لعدد المذكرين، فظاهره الاكتفاء بأربعة، فلو أقمنا المرأتين مقام الرجل خرجنا عن ظاهر الآية لاشتراط خمسة. (الثاني) : أن يكونوا من المسلمين، فلا تقبل شهادة أهل الذمة، كما لا تقبل روايتهم، ولا أخبارهم الدينية. وسواء كانت الشهادة على مسلم أو ذمي، ولا عبرة برواية حنبل في قبول

شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض. (الثالث) : أن يكونوا أحرارا، فلا تقبل شهادة العبد، للاختلاف في شهادته في سائر الحقوق، وذلك يؤثر شبهة في عدم قبوله في الحد، لاندرائه بالشبهة. (وعن أحمد) لا يشترط ذلك، ولعله أظهر، لدخوله في عامة النصوص. (الرابع) : أن يكونوا عدولا، فلا تقبل شهادة فاسق، كما لا يقبل خبره، وكبقية الشهادات بطريق الأولى. وقد قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الآية، ولا مستور الحال، وإن قبلناه في الأموال، احتياطا لهذا الباب وتضييقا له. (الخامس) : أن يصفوا الزنا، فيقولوا: رأيناه غيب ذكره في حشفته أو قدرها في فرجها؛ لما تقدم عن ماعز، وإذا اعتبر ذلك في الإقرار ففي البينة أولى. 3146 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا، فقال: «ائتوني بأعلم رجل منكم» فأتوه بابني صوريا فنشدهما: «كيف تجدان أمر هذين في التوراة» ؟ قالا: نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما. قال: «فما يمنعكم أن ترجموهما» ؟ قالوا: ذهب سلطاننا فكرهنا القتل؛ فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

بالشهود، فجاء أربعة فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - برجمهما» . . رواه أبو داود. وهل يعتبر مع ذلك أن يذكروا (المكان) لاحتمال الاختلاف، فتكون شهادة أحدهم على غير الفعل الذي شهد به الآخر، (والمزني بها) لاحتمال الاختلاف في إباحتها، ولذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لماعز: «فبمن» ؟ وهو اختيار القاضي، أو لا يعتبر ذلك، كما لا يعتبر في الإقرار، ولهذا لم يذكر المكان في قصة اليهود، ولا المزني بها في أكثر الأحاديث، وهذا اختيار ابن حامد؟ على وجهين، وأجراهما أبو البركات في الزمان والمكان، وهو واضح، وكلام أبي محمد يقتضي أنه لا يشترط ذكر الزمان بلا خلاف. (السادس) : أن يشهدوا كلهم في مجلس واحد، ذكره الخرقي في غير هذا الموضع، فقال: إن جاء الأربعة متفرقين، والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم، قبلت شهادتهم، وإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة، وعليهم الحد. 3147 - وذلك لما روي أن أبا بكرة ونافعا، وشبل بن معبد شهدوا عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على المغيرة بن شعبة بالزنا، ولم يشهد

الرجوع عن الإقرار بالزنا

زياد، فحد الثلاثة، ولو لم يشترط المجلس لم يحدهم، لجواز أن يكملوا أربعة في مجلس آخر، وفيه نظر، لأن قرينة حالهم تقتضي أنه لا رابع لهم إلا زياد، ولا يشترط مجيئهم جملة، بل شهادتهم في مجلس واحد، وفي قصة المغيرة أن أبا بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرأيت لو جاء آخر فشهد أكنت ترجمه؟ قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إي، والذي لا إله إلا هو، والذي نفسي بيده، والله أعلم. [الرجوع عن الإقرار بالزنا] قال: ولو رجم بإقراره، فرجع قبل أن يقتل كف عنه، وكذلك إن رجع بعد أن جلد، وقبل كمال الحد خلي عنه. 3148 - ش: لأن في الصحيح وفي السنن من رواية أبي هريرة ونعيم بن هزال وغيرهم: «أن ماعزا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما وجد مس الحجارة

فر، وفي رواية: خرج يشتد، فضرب حتى مات، وذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «هلا تركتموه» وفي هذا تحضيض على تركه، وفي رواية: «لعله أن يتوب فيتوب الله عليه» ، وفي هذا دليل على تركه وقبول رجوعه. 3149 - وفي حديث بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نتحدث أن الغامدية وماعز بن مالك لو رجعا بعد اعترافهما، أو قال لو لم يرجعا بعد اعترافهما لم يطلبهما، وإنما رجمهما عند الرابعة. . رواه أبو داود. ولأن ذلك شبهة، والحد يدرأ بها، ولأن الإقرار أحد بينتي الحد، فسقط بالرجوع، كالبينة إذا رجعت قبل إقامة الحد. إذا تقرر هذا فصفة الرجوع عن الإقرار أن يقول: كذبت في إقراري، أو لم أفعل ما أقررت به، ونحو ذلك، فإذا يجب الكف عنه، ومتى قتل ضمن والحال هذه، لزوال إقراره صريحا، فكأنه لم يقر وضمانه بالدية فقط، للاختلاف في صحة رجوعه، وذلك شبهة دارئة للقصاص، ولو هرب، أو قال:

تكرار الزنا هل يوجب تكرار الحد

ردوني إلى الإمام ونحو ذلك ترك أيضا، لكن متى قتل والحال هذه فلا ضمان على قاتله؛ لأن ذلك ليس بصريح في رجوعه، ولذلك والله أعلم لم يضمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ماعزا من قتله. وقول الخرقي: ولو رجم بإقراره، فيه أشعاره بأنه لو رجم بالبينة ثم رجع أو هرب لم يسمع منه، وهو كذلك بالإجماع فيما أظن، والله أعلم. [تكرار الزنا هل يوجب تكرار الحد] قال: ومن زنا مرارا ولم يحد فحد واحد. ش: حكى ذلك ابن المنذر عمن يحفظ عنه من أهل العلم، في مسألتي المنطوق والمفهوم، ولأن قوله سبحانه وتعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] يشمل من زنى مرة، ومن زنى مرارا، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأمة: «إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها» ، يقتضي أن من زنا بعد أن حد يحد ثانيا. [تحاكم أهل الذمة إلينا في الزنا] قال: وإذا تحاكم إلينا أهل الذمة حكمنا عليهم بما حكم الله عز وجل علينا به. ش: أما الحكم عليهم بما حكم الله علينا به؛ فلا ريب فيه،

حد القذف

قال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] ، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] . وهل الحكم بينهم (على طريق الوجوب) ، ويحتمله كلام الخرقي، للآية الأولى، (أو على طريقة التخيير) وهو المشهور، للآية الثانية، إذ صدرها: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] وكالمستأمنين، (أو إن اتحدت ملتهم خير) ؛ لأن الآية وردت في اليهود، وملتهم واحدة، وإن اختلفت وجب، كما لو تحاكموا مع مسلم، (أو يخير للآية) إلا أن يتظالموا في حقوق الآدميين، فيجب دفعا للظلم الواجب دفعه على كل أحد، لا سيما على الحكام المنتصبين لذلك، وهو مختار أبي البركات؟ على أربع روايات، وهل يحكم آن ويعدى آن خبرناه بطلب أحدهما، أو لا بد من اتفاقهما كالمستأمنين؟ على روايتين، والله أعلم. [حد القذف] قال: وإذا قذف بالغ عاقل حرا مسلما أو حرة مسلمة

بالزنا، جلد الحد ثمانين جلدة إن طالب المقذوف، ولم تكن للقاذف بينة. ش: القذف محرم بالإجماع، للأذى الحاصل به المأمور بانتفائه شرعا، وقد نص الله تعالى ورسوله على القذف بالزنا، لتأكد تحريمه، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور: 23] . 3150 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجتنبوا السبع الموبقات» قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» متفق عليه. ويجب الحد بالقذف بالزنا بالإجماع، للآية الكريمة، ووجوبه بشروط أربعة: اثنان منها في القاذف، واثنان في المقذوف؛ فأما اللذان في القاذف: (فأحدهما) : أن يكون مكلفا، وهو العاقل البالغ، إذ غيرهما لا يتعلق به حكم خطابي، لرفع القلم عنه، فلا حد على مجنون، ولا مبرسم، ولا نائم، ولا سكران، على ظاهر كلامه، وعموم كلام غيره

يقتضي أنه على الروايتين، ولا على صبي. (الثاني) : أن لا يكون له بينة بما قاله على المقذوف؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] الآية، شرط سبحانه للجلد عدم البينة، وفي معنى البينة الإقرار من المقذوف، فإن كان القاذف زوجا اشترط شرط ثالث، وهو عدم لعانه، فإن لاعن فلا حد عليه، لقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية. وأما الاثنان اللذان في المقذوف: (فأحدهما) : أن يكون محصنا، والمحصن هنا فسره الأصحاب بالحر المسلم العاقل، العفيف عن الزنا، الذي يجامع مثله، وفي اشتراط سلامته من وطء الشبهة وجهان، وكذلك في اشتراط بلوغه روايتان، وهذا قد يؤخذ من كلام الخرقي مفرقا، فالحرية والإسلام نص عليهما هنا، والعفة عن الزنا تؤخذ من الشرط الثاني في القاذف. وكونه يجامع مثله يذكره بعد، واقتصاره على ذلك يفهم منه أنه لا يشترط البلوغ، والعقل يؤخذ من نفيه الحد عن قاذف الطفل، والسلامة من وطء الشبهة لا يشترطها، وبيان ذلك، أما الحرية والإسلام، فلأن العبد والكافر حرمتهما ناقصة، فلا ينتهض لإيجاب الحد، والآية الكريمة وردت في الحرة المسلمة، وغيرهما ليس في معناهما، وأما العقل فلأن غير العاقل لا يعير بالزنا، لعدم تكليفه، والحد إنما

وجب دفعا للعار عن المقذوف، وأما العفة عن الزنا؛ فلأن غير العفيف لا يشينه القذف، والحد إنما وجب من أجل ذلك، وقد أسقط الله تعالى الحد عن القاذف إذا كانت له بينة بما قال، وأما كونه مثله يجامع؛ فلأن غير ذلك لا يعير بالقذف، لتحقق كذب القاذف، والقذف إنما وجب لذلك، وأقل من يجامع مثله أن يكون له عشر سنين إن كان ذكرا، أو تسع سنين إن كان أنثى، كذا ذكر أبو محمد تبعا لظاهر كلام الخرقي. وأما اشتراط البلوغ على رواية قيل: إنها مخرجة، وليست بمنصوصة. فلأن غير البالغ غير مكلف أشبه المجنون. وأما عدم اشتراطه على أخرى - وهو مقتضى كلام الخرقي، وقطع بها القاضي والشريف وأبو الخطاب في خلافاتهم، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة - فلأن ابن عشر سنين ونحوه يلحقه الشين بإضافة الزنا إليه. ويعير بذلك، ولهذا جعل عيبا في الرقيق، وأشبه البالغ. وأما اشتراط السلامة من وطء الشبهة وعدمه، فلعل مبنى ذلك على أن وطء الشبهة هل يوصف بالتحريم أم لا، وقد تقدم عن القاضي أنه وصفه بالتحريم، وأن ظاهر كلام الخرقي وجماعة عدم وصفه بذلك، وكذلك ظاهر كلام جماعة هنا أنه لا يشترط السلامة من ذلك. (تنبيه) : ظاهر كلام الأصحاب أنه لا يشترط العدالة، بل لو كان المقذوف فاسقا لشرب خمر ونحوه أو لبدعة، ولم

يعرف بالزنا، فإن الحد يجب بقذفه، وقال الشيرازي: لا يجب الحد بقذف مبتدع ولا مبتدعة. (الشرط الثاني) : في المقذوف مطالبته بالقذف، لأنه حق له، فلا يستوفى بدون طلبه كبقية حقوقه. وهذا سواء قلنا: إنه للقاذف محض حق له، كما هو المنصوص، والمختار للأصحاب، أو قلنا: هو حق الله تعالى، وليست بالبينة، لأنه أذى للآدمي فيه حق، قطعا للأذى الحاصل له، مع أن مقتضى كلام أبي البركات نفي الخلاف رأسا، والقطع بأنه حق للآدمي، وهو الصواب، وبيان ذلك له محل آخر، وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامة الحد، فلو طالب ثم عفى عن الحد سقط، على المذهب وعلى الرواية المحكية بأنه حق لله تعالى لا يسقط بالعفو. (تنبيهان) : أحدهما: إذا وجب الحد بقذف من لم يبلغ لم يقم حتى يبلغ ويطالب، لعدم اعتبار كلامه قبل البلوغ، وليس لوليه المطالبة، حذارا من فوات التشفي، ولو قذف غائبا اعتبر قدومه وطلبه، إلا أن يثبت أنه طالب في غيبته، فيقام على المذهب، وقيل: لا، لاحتمال عفوه، ولو قذف عاقلا فجن أو أغمي عليه قبل الطلب، لم يقم حتى يفيق ويطالب، فإن

كان قد طالب ثم جن أو أغمي عليه جازت إقامته. (الثاني) : يستثنى مما تقدم الوالد لا يحد بقذف ولده، والله أعلم. قال: وإن كان القاذف عبدا أو أمة جلد أربعين، بدون السوط الذي يجلد به الحر. ش: الإجماع على وجوب الحد على العبد بقذف المحصن، لشمول الآية الكريمة له، ثم مقدار الحد إن كان القاذف حرا ثمانون للآية الكريمة، وإن كان القاذف عبدا فأربعون، جعلا له على النصف من الحر، لأن ذلك مما يتبعض. 3151 - وقد قال أبو الزناد: جلد عمر بن عبد العزيز عبدا في فرية ثمانين، قال أبو الزناد: فسألت عبد الله بن عامر بن ربيعة عن ذلك، فقال: أدركت عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، والخلفاء هلم جرا، فما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين. . رواه مالك في الموطأ. 3152 - وقال سعيد: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه، قال: حضرت عمر بن عبد العزيز جلد عبدا في فرية ثمانين، فأنكر ذلك من حضره من الناس والفقهاء، وهذا كنقل الإجماع

من الصحابة، والإنكار على من خالفهم، وهو يخص عموم الآية، وإن كان القاذف نصفه حرا فبحساب ذلك، على ظاهر كلام أحمد، لأن ذلك مما يتبعض، وقيل: هو كالعبد، لأن الإجماع إنما انعقد على الثمانين في الحر، فيبقى فيما عداه على أصل براءة الذمة، ولو قيل بالعكس لاتجه، لشمول الآية الكريمة للجميع، خرج منه العبد لأقوال الصحابة، فما عداه على العموم. واشترط الخرقي أن يكون جلد العبد بسوط دون الذي يجلد به الحر، تخفيفا للصفة كما خفف في القدر، ولأبي محمد احتمال بتساويهما، وهو ظاهر كلام جماعة من الأصحاب، لأنه على النصف، ولا يتحقق التنصيف إلا مع المساواة. قال: وإذا قال له: يا لوطي، سئل عما أراد، فإذا قال: أردت أنك من قوم لوط، فلا شيء عليه، وإن قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط، فهو كمن قذف بالزنا. ش: إذا قال له: يا لوطي، فعند الخرقي - وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن هذا ليس بصريح في القذف،

لاحتماله له ولغيره، إذ يحتمل أنه منهم أي ينسب إليهم. وإذا احتمل واحتمل، والحد يدرأ بالشبهة، مع أن الأصل براءة الذمة، لم يحكم بأنه صريح، وعند ذلك يسأل عما أراد، فإن فسره بما لا يوجب الحد، كما إذا قال: أردت أنك من قوم لوط، أي تنسب إليهم، فلا حد عليه، لأنه فسر كلامه بما يحتمله مما لا يوجب حدا، وإن فسره بما يوجب الحد، كما إذا قال: أردت أنك تأتي الذكران؛ وجب الحد عندنا بلا ريب، لوجوب حد الزنا على فاعل ذلك كما تقدم، وهذا هو الضابط، وهو أن كل ما وجب حد الزنا بفعله، وجب الحد بالقذف به، وما لا، فلا، ومن ثم خرج الخلاف إذا قذفه بإتيان بهيمة، انتهى. وكذلك إن فسره بما يشمل الوطء

وغيره، كقوله: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط؛ لأن من أشهر أعمالهم إتيان الذكران. (وعن أحمد) لا يقبل تفسيره في حال الغضب، لأن القرينة تكذبه، والمنصوص عن أحمد في رواية الجماعة - وعليه عامة الأصحاب - أن ذلك صريح في القذف، فلا يقبل قوله بما يحيله، لأن هذا اللفظ إذا أطلق لا يكاد يفهم منه إلا إتيان الذكران، وإرادة الانتساب إلى قوم لوط بعيدة جدا؛ إذ الظاهر أو القطع بأنهم لم يبق منهم أحد، والاحتمال البعيد وجوده كعدمه، ومن ثم بعد الشيخان قول الخرقي، فعلى هذا إذا قال: أردت أنك تعمل عمل قوم لوط غير إتيان الذكران، فهل يقبل منه، نظرا إلى أنه من باب إطلاق العام، وإرادة الخاص، وهو سائغ كثيرا، أو لا يقبل، لمخالفته الظاهر؟ فيه وجهان. أما على قول الخرقي فيقبل منه بطريق الأولى، لأنه إذا قبل منه صرف اللفظ عن مقتضاه عرفا، فلأن يقبل منه إطلاق العام وإرادة الخاص أولى، هذا هو التحقيق، تبعا لأبي البركات. وأبو محمد في مغنيه يبني الوجهين على روايتي الصراحة وعدمها، فإن قلنا صريح لم يقبل، وإلا قبل، والله أعلم. قال: وكذلك من قال يا معفوج. ش: هذا التشبيه (يحتمل) أن يرجع إلى أصل المسألة السابقة، فعلى هذا إن فسره بما لا يوجب الحد، كما إذا قال: أردت أنك معفوج دون الفرج ونحوه، قبل منه عند الخرقي، ولم يقبل منه عند غيره، وعلى هذا جرى الشيخان.

(ويحتمل) أن يرجع إلى قوله: فهو كمن قذف بالزنا، فيجب الحد، ولا يقبل التفسير. ولعله أظهر، إذ المعفوج مفعول من عفج بمعنى نكح، فهو بمعنى منكوح أي موطوء. (تنبيه) : قد أخذ من كلام الخرقي في هذه المسألة، وفي التي قبلها أن الحد لا يجب إلا بلفظ صريح، كقوله: يا زاني، أو يأتي باللفظ الحقيقي في الجماع، أما الألفاظ المحتملة كقوله لامرأة: يا قحبة، أو لرجل: يا مخنث، أو يقول لعربي: يا نبطي، يا فارسي، أو يعرض بالزنا، كأن يقول لمن يخاصمه: ما أنت بزان، ما يعرفك الناس بالزنا، يا حلال ابن الحلال، ونحو ذلك، فلا يجب به الحد، وهذا إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، وأبي محمد. (والثانية) : يجب الحد بجميع ذلك في الجملة، وهي اختيار القاضي، وكثير من أصحابه في التعريض، وتحقيق الروايتين وتوجيههما له محل آخر، والله أعلم. قال: ولو قذف رجل فلم يقم عليه الحد حتى زنا المقذوف، لم يزل الحد عن القاذف.

ش: نظرا إلى أن شرط وجوب الحد وهو الإحصان قد وجد، فلا عبرة بما يطرأ بعده، وصار هذا كما لو سرق عينا ثم ملكها، ونحو ذلك، وفي قوله: فلم يقم عليه الحد حتى زنى إشعار بأنه لو ثبت أنه كان زنى قبل القذف أن الحد يزول عن القاذف، وهو كذلك، لتبين زوال شرط الوجوب، والله أعلم. قال: ومن قذف عبدا أو مشركا، أو مسلما له دون العشر سنين أو مسلمة لها دون تسع سنين؛ أدب ولم يحد. ش: قد تقدم أن من شرط وجوب الحد إسلام المقذوف، وحريته، وكونه يجامع مثله، أو بالغ على ما تقدم، مع العقل، والعفة عن الزنا، والسلامة من وطء الشبهة على وجهيه، فمتى عدم واحد من هذه انتفى الوجوب، وإذا يؤدب زجرا عن عرض المعصوم، وكفا له عن أذاه. (وعن أحمد) : لا يؤدب لقذف كافر، والأول المذهب بلا ريب، ولا عبرة بإيراد ابن حمدان في الكبرى المذهب الثاني، جعل الأول قويلا، (وعن أحمد) في أم الولد إذا كان لها ولد يحد قاذفها، وبه قطع الشيرازي، وقيل: يحد العبد بقذف العبد، ولا عمل على ذلك.

(تنبيه) : لا يحد والد لقذف ولده، نص عليه في رواية ابن منصور وأبي طالب، وهل يؤدب؟ لفظه في رواية ابن منصور: لا يحد، فيحتمل أنه يؤدب، ولفظه في رواية أبي طالب: ليس عليه شيء، لا يؤخذ لابن من أبيه حد، فيحتمل أنه لا يؤدب، وهو أظهر، وهل حكم الأم حكم الأب؟ فيه وجهان، أصحهما - وهو الذي قطع به أبو محمد في الكافي، وابن البنا - أن حكمها حكمه، وحكم الجد والجدة، وإن علوا حكم الأب، قاله ابن البنا والله أعلم. قال: ومن قذف من كان مشركا، وقال: أردت أنه زنى وهو مشرك؛ لم يلتفت إلى قوله، وحد إذا طالب المقذوف. ش: نظرا إلى الحالة الراهنة، وهو إذا مسلم، فيدخل في الآية الكريمة، ولو كان قال: زنيت وأنت مشرك، فهل يحد أو لا يحد؟ على روايتين، أصحهما وأنصهما الثاني، وعليها إذا قال: أردت قذفي في الحال، فأنكره، فهل يحد، وهو اختيار القاضي، أو لا يحد، وهو اختيار أبي الخطاب؟ فيه وجهان، وأبو محمد يحكي الروايتين فيما إذا قال: زنيت في شركك، ولعل مدرك ذلك أنه وصل قوله بما يبطله، ومدرك الأول أن الواو هل هي للحال أو عاطفة؟ وقوله: إذا طالب المقذوف، زيادة إيضاح، وإلا لا بد من شروط الوجوب في كل موضع، والله أعلم. قال: وكذلك من كان عبدا. ش: أي إذا قذفه بعد أن أعتق وقال: أردت أنه زنى وهو عبد.

الحد في قذف الملاعنة

لم يلتفت إلى قوله، كالمسألة السابقة، لأنهما متساويان معنى، فتساويا حكما، والله أعلم. [الحد في قذف الملاعنة] قال: ويحد من قذف الملاعنة. ش: لأن لعانها لم يثبت زناها، فإحصانها باق. 3153 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الملاعنة أن لا ترمى، ولا يرمى ولدها، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد» ، رواه أبو داود، والله أعلم. قال: وإذا قذفت المرأة لم يكن لولدها المطالبة إن كانت الأم في حال الحياة. ش: لأن الحق لها، فلا يطالب به غيرها، ولا فرق بين أن يتعذر الطلب منها لجنونها ونحو ذلك، أو لا يتعذر، لما فيه من فوات التشفي المقصود قطعا. وقول الخرقي: إذا كانت الأم في حال الحياة، مفهومه أن للولد المطالبة إذا ماتت الأم، وهذا بشرط أن تطالب الأم على المذهب المنصوص، وعلى تخريج لا يشترط الطلب، واعلم أن هذا الذي ذكره الخرقي على سبيل المثال، وإلا جامع المسألة بأن الحي ليس لوارثه المطالبة بموجب قذفه في

حياته، وله ذلك بعد مماته بشرطه، ثم من يرثه هل هم جميع الورثة، وهو ظاهر كلام أبي محمد، وبه قطع القاضي في خلافه فيما أظن، ونص عليه أحمد في رواية ابن منصور، أو يختص به من سوى الزوجين، وهو قول القاضي في موضع آخر، أو تختص به العصبة؟ على ثلاثة أقوال، والله أعلم. قال: وإذا قذفت أمه وهي ميتة، مسلمة كانت أو كافرة، حرة أو أمة، حد القاذف إذا طالب الابن وكان حرا مسلما. ش: دفعا للحقوق العار بالابن، فإنه والحال هذه يلحقه العار، بخلاف ما إذا كانت الأم في الحياة، فإن معظم العار لاحق بها، وقول الخرقي: وهي ميتة، مسلمة كانت أو كافرة، حرة أو أمة، إذا طالب الابن، وكان حرا مسلما؛ تنبيه على أن شرط الوجوب من الإحصان والمطالبة إنما يشترطان في الولد نظرا إلى أن القذف في الحقيقة كأنه له، لا في الأم. (تنبيه) : جعل أبو البركات ذكر الخرقي الأم هنا على سبيل المثال، فقال: إن حد قذف الميت يثبت لجميع الورثة حتى الزوجين؛ نص عليه، وقال في موضع: يختص به من سواهما، وقيل تختص به العصبة، وأبو محمد عدى ذلك

قذف أم النبي

إلى الأمهات بطريق القياس، معللا بالقدح في النسب كالمسألة قبل، وحكى فيمن يرث قذف الميت الأقوال الثلاثة في القذف الموروث، والقاضي في الجامع الصغير قطع بأن الوارث هنا جميع الورثة، وأبو محمد والشيرازي وابن البنا اقتصروا على الأم، معللين بالقدح في النسب، واقتصر على ذلك. ولا خلاف عنده أنه لو كان المقذوف جده أو أخاه ونحوهما من الأقارب عدا الأمهات أن الحد لا يجب، لانتفاء القدح في النسب والأقوال التي ذكرها أبو البركات جارية عنده في القذف الموروث، والمنصوص والله أعلم إنما هو فيه، فإن القاضي في تعليقه جزم فيه بأنه لجميع الورثة، معتمدا على قول أحمد في رواية ابن منصور في رجل قذف يهودية أو نصرانية، ولها ولد مسلم، أو زوج مسلم، يقام عليه الحد. قال: فقد جعل للزوج حقا فيه. اهـ. وأبو محمد يوافق في هذه الصورة أنه لجميع الورثة على ظاهر كلامه، والله أعلم. [قذف أم النبي] قال: ومن قذف أم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل، مسلما كان أو كافرا. ش: لأن ذلك قدح في نسب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتعريض لسبه وتنقيصه، وذلك موجب للقتل لما تقدم، وقوله: قتل؛ ظاهره، ولا يستتاب، وهو إحدى الروايتين، وهو المذهب، وقد تقدم ذلك، وكذلك الروايتان فيما إذا أسلم الكافر هل يسقط عنه

قذف الجماعة بكلمة واحدة

القتل أم لا، والخلاف في سقوط القتل، أما توبته فيما بينه وبين الله تعالى فمقبولة بلا ريب، والله أعلم. [قذف الجماعة بكلمة واحدة] قال: ومن قذف الجماعة بكلمة واحدة فحد واحد إذا طالبوه، أو واحد منهم. ش: هذا هو المشهور من الروايات، نظرا إلى أن الحد إنما وجب بإدخال المعرة على المقذوف بقذفه، وبحد واحد يظهر كذب هذا القاذف في قوله، ولأن الذين شهدوا على المغيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تضمن قولهم قذف امرأة، ولم يحدهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلا حدا واحدا. (وعن أحمد) : لكل واحد حد، نظرا إلى أن كل واحد مقذوف، والبراءة من المقذوف بحد كامل. (والرواية الثالثة) : إن طلبوا جملة فحد واحد وإلا فحدود، لأنهم إذا اجتمعوا على طلبه وقع الحد للجميع، بخلاف ما إذا تفرقوا، فإن طلب أحدهم لا يكون طلبا من الآخر، ولا مسقطا لحقه، وعلى المذهب: الحق واجب لهم على سبيل البدل، فأيهم طلب به استوفى، ولم يكن لغيره الطلب، وإن أسقط أحدهم فلغيره طلبه واستيفائه، لأن المعرة عنه لم تزل. ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا قذف الجماعة بكلمات أن لكل واحد حدا، وهو المذهب المشهور من الروايتين، لأن ظهور كذبه في أحد اللفظين لا يدل على كذبه في اللفظ

إقامة الحد في الحرم

الآخر، وبهذا فارق ما إذا كان بكلمة واحدة، ولأنها حقوق لآدميين، فلم تتداخل كالديون. (والرواية الثانية) : إن طلبوا جملة فحد واحد، لوقوع الحد إذا لهم كالأيمان، وإلا فحدود، والله أعلم. [إقامة الحد في الحرم] قال: ومن أتى حدا خارج الحرم، ثم لجأ إلى الحرم لم يبايع ولم يشار حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه الحد. ش: من حل دمه بقصاص أو ردة، أو غير ذلك، أو وجب عليه حد لسرقة، أو شرب خمرة ونحوه، ثم لجأ إلى الحرم، فإنه لا يقام عليه ذلك فيه، ولكن لا يبايع، ولا يشارى، ولا يطعم ولا يسقى، حتى يخرج من الحرم فيقام عليه؛ هذا هو المشهور من الروايتين عن الإمام أحمد، والمختار لأصحابه، لقول الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] أي: الحرم، وهو خبر بمعنى الأمر، أي آمنوا من دخل الحرم، أو خبر عما استقر في حكم الشرع. 3154 - ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب» متفق عليه. وفي لفظ: «وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم عادت إلى حرمتها، فلا يسفك فيها

دم» . والحجة فيه من وجهين: (أحدهما) : أنه حرم سفك الدم بها وأطلق، وتخصيص مكة بذلك يدل على أن الدم الحلال مراد، وهو المراد، إذ سفك الدم الحرام لا يختص بمكة، مع أن اللفظ الآخر نكرة في سياق النفي، فيعم كل دم. (الثاني) قوله: وإنما حلت لي ساعة من نهار، والذي أحل له سفك دم حلال، منع منه الحرم وأحل له، ثم عادت الحرمة، وبهذا تتقيد إطلاقات قطع السارق، وجلد الزاني، ونحو ذلك، وما وقع في الحديث من قوله: «إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ولا فارا بدم ولا فارا بخربة» ، هو من قول عمرو بن سعيد الأشدق، يدفع به الحديث المتقدم، وقوله هو المدفوع. (والرواية الثانية) : يجوز استيفاء كل شيء ما عدا القتل، لأن الحديث إنما صرح فيه بسفك الدم، وغير النفس لا يقاس عليها، لعظم النفس، والمذهب الأول، وعليه لا يبايع ولا يشارى، ولا يطعم ولا يؤوى، ويقال له: اتق الله

واخرج، ليؤخذ منك الحق الذي عليك، ليكون ذلك وسيلة إلى استيفاء ما عليه، إذ لا يجوز تركه بالكلية. 3155 - وتبعا لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال ذلك، رواه عنه الأثرم، إذا تقرر هذا فالخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما نص على الحد؛ لأنه إذا منع في الحد، فالقتل، وقطع الطريق بطريق الأولى، أو يقال: كلها حدود، لأن الله تعالى حدها وشرعها. (تنبيه) : إذا استوفي منه في الحرم وقع الموقع مع الإساءة. قال: وإن قتل أو أتى حدا في الحرم، أقيم عليه الحد في الحرم. ش: لأنه لما انتهك حرمة الحرم انتهكت حرمته، وقد قال الله تعالى: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] إلى قوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] . 3156 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من أحدث حدثا في الحرم أقيم عليه ما أحدث فيه من شيء، رواه الأثرم.

(تنبيه) : التعريف في الحرم لمعهود ذهني، وهو حرم مكة، أما حرم مدينة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا يمنع من إقامة حد ولا قصاص فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب القطع في السرقة

[كتاب القطع في السرقة] ش: وهو مشروع بشهادة النص والإجماع، قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38] . 3157 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا» والله أعلم. [مقدار النصاب في السرقة] قال: وإذا سرق ربع دينار من العين، أو ثلاثة دراهم من الورق، أو قيمة ثلاثة دراهم طعاما كان أو غيره، وأخرجه من الحرز قطع. ش: لا نزاع عندنا أن القطع لا يكون إلا في نصاب، فلا قطع في القليل. 3158 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا» . وفي رواية قالت: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا» متفق عليهما. . وفي رواية قال: « «اقطعوا في ربع

الدينار، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك» ، وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنا عشر درهما. رواه أحمد، وهذا يقيد إطلاق الآية الكريمة. 3159 - ويصرف قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الصحيح: «لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» عن ظاهره، أن المراد بذلك ما يساوي ثلاثة دراهم. 3160 - ففي الحديث قال الأعمش: كانوا يرون أنه بيض الحديد، وأن من الحبال ما يساوي دراهم. وهذا نقل للإجماع، أو قول قريب منه، أو أن المراد البيضة والحبل على ظاهرهما، وأن ذلك وسيلة إلى القطع، لأنه إذا سرق التافه تدرج إلى ما هو أعلى منه، إلى أن يسرق نصابا فيقطع. واختلف عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قدر النصاب، ولا نزاع عندنا أن الفضة أصل في القطع وفي التقويم، وأن أقل نصابها ثلاثة دراهم. 3161 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع يد السارق في مجن قيمته ثلاثة دراهم. وفي رواية:

ثمنه ثلاثة دراهم» . رواه الجماعة. والأصل عدم القطع فيما دون ذلك، إذ قد علم أن إطلاق الآية الكريمة ليس بمراد. 3162 - وعن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: إن سارقا سرق في زمن عثمان أترجة، فأمر بها عثمان أن تقوم، فقومت بثلاثة دراهم، من صرف اثني عشر درهما بدينار، فقطع عثمان يده. . رواه مالك في الموطأ، وهذا ظاهر في أن التقويم حصل بهما. واختلف عن أحمد في المذهب: هل هو أصل في القطع بنفسه؟ (فعنه) : نعم، وهو المذهب، لحديث عائشة المتقدم. (وعنه) : لا، ولعل ذلك يحتج له برواية أحمد في حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - المتقدم: وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، فعلى هذه يقوم بالدراهم، فما يساوي منه ثلاثة دراهم قطع به، وإن لم يبلغ ربع الدينار، [وما لم يساو ثلاثة دراهم لم يقطع به، وإن بلغ ربع دينار] ، (وعلى المذهب) أقله ربع دينار، فلو كان دونه وساوى ثلاثة دراهم لم يقطع، لعموم حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «لا قطع إلا في ربع دينار» ، ثم على هذا هل هو

أصل في التقويم، وهو اختيار ابن عقيل في تذكرته، وأبي محمد في كافيه، لأنه أحد النقدين، فكان التقويم به كالأجزاء، وأن ما كان أصلا في القطع، كان أصلا في التقويم كالأجزاء، أو ليس بأصل في التقويم، وإنما الأصل الدراهم، وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أكثر الأصحاب، القاضي والشيرازي، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن البنا؛ لأن التقويم في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حصل بها، وكذلك عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قوم بها؟ على روايتين؛ فعلى الأولى متى بلغت قيمة المسروق أدنى النصابين قطع. وعلى الثانية الاعتبار بالدراهم فقط؛ وسواء كان المسروق طعاما أو غيره، بعد أن يكون مالا، لما تقدم عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولما سيأتي إن شاء الله تعالى في حديث الثمر. وإنما يجب القطع إذا أخرج ذلك من حرز مثله. 3163 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الثمر المعلق، فقال: «من أصاب منه بفيه من ذي حاجة، غير متخذ خبنة؛ فلا شيء عليه» . رواه الترمذي والنسائي، وأبو داود، وزاد: «ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة، ومن سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن؛ فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة» ، وللنسائي في رواية قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في كم تقطع اليد؟ قال: «لا تقطع في تمر معلق، فإذا ضمه

الجرين قطعت في ثمن المجن، ولا تقطع في حريسة الجبل، فإذا ضمها المراح قطعت» » . 3164 - وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين المكي، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا قطع في تمر معلق، ولا في حريسة جبل، فإذا آواه المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» رواه مالك في الموطأ، فنفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - القطع في التمر المعلق، وفي حريسة الجبل، لعدم الحرز فيهما، وأوجب القطع فيما ضمه الجرين أو المراح، لوجود الحرز فيهما، والأحراز تختلف باختلاف الأموال، وبيان ذلك له محل آخر. هذا بيان كلام الخرقي مجملا، أما بيانه مفصلا فقوله: وإذا سرق، يخرج منه المنتهب والمختلس، والغاصب والخائن، فلا قطع على واحد منهم.

3165 - لما روى جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع» رواه الخمسة وصححه الترمذي؛ ولأن الله ورسوله إنما أوجب القطع على السارق، وهؤلاء ليسوا بسارقين، ويخرج منه أيضا جاحد العارية، وهو إحدى الروايتين، واختيار ابن شاقلا، وأبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد، لما تقدم من أن الشارع إنما أوجب القطع على السارق، وجاحد العارية ليس بسارق، ولدخوله في الخائن، وقد أسقط عنه الشارع القطع. (والرواية الثانية) وهي أشهرهما، وبها قطع القاضي في جامعه، وأبو الخطاب والشريف في خلافيهما، وابن البنا وغيرهم: يقطع. 3166 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كانت مخزومية تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة بن زيد فكلموه، فكلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيها، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا أسامة ألا أراك تشفع في حد من حدود الله عز وجل» ، ثم قام النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خطيبا فقال:

«إنما هلك من كان قبلكم بأنه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، والذي نفسي بيده لو كانت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها» رواه مسلم وغيره. وفي رواية قالت: «استعارت امرأة - تعني حليا - على ألسنة أناس يعرفون ولا تعرف هي، فباعته، فأخذت، فأتي بها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر بقطع يدها، وهي التي شفع فيها أسامة بن زيد، وقال فيها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال» . . . رواه أبو داود والنسائي. 3167 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن امرأة مخزومية كانت تستعير المتاع وتجحده، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بها فقطعت يدها» . . رواه أبو داود والنسائي وقال فيه: «كانت تستعير متاعا على ألسنة جاراتها وتجحده، وفي رواية: كانت تستعير الحلي للناس وتمسكه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لتتب هذه إلى الله ورسوله، وترد ما تأخذ على القوم» ثم قال: «قم يا بلال فخذ بيدها فاقطعها» ، وهذه الألفاظ منها ما هو ظاهر، ومنها ما هو صريح في أن القطع كان لجحد العارية، وتسميتها

سارقة في الصحيح؛ دليل على أن جاحد العارية يسمى سارقا، والاعتبار بالتسمية الشرعية. اهـ. ويخرج من كلامه أيضا الطرار، وهو الذي يبط الجيب أو غيره، ويأخذ منه، وهذا أيضا إحدى الروايتين. (والثانية) : يقطع، وإليها ميل أبي محمد، وبني القاضي في روايتيه الخلاف على أن الجيب والكم هل هما حرز مطلقا، أو بشرط أن يقبض على كمه، ويزر جيبه، ونحو ذلك. وقوله: ربع دينار من العين، أو ثلاثة دراهم من الورق؛ ظاهره أن يكون ذلك خالصا من الغش، أما إن كان فيه غش، فلا قطع حتى يبلغ ما فيه نصابا، وهل يكفي وزن التبر منهما، أو تعتبر قيمته بالمضروب؟ فيه وجهان، المذهب منهما الأول. وقوله: أو قيمة ثلاثة دراهم، قد تقدم أن من مذهب الخرقي أن الذهب أصل في القطع، وليس بأصل في التقويم، ثم إن أبا محمد قال: إذا قومنا بذلك قومنا بالمضروب، لأن الإطلاق إنما ينصرف إليها دون المكسرة. وقوله: طعاما كان أو غيره. قد تقدم أنه يشترط أن يكون مالا، ليخرج الحر، ولا نزاع في ذلك في غير النائم والمجنون، أما فيهما فروايتان، ويدخل في ذلك العبد، بشرط أن يكون صغيرا أو نائما، أو مجنونا، أو أعجميا لا يميز بين سيده وبين غيره.

وقد استثني من ذلك ما لا يتمول عادة كالماء ونحوه، والمحرم كالصليب ونحوه، والتابع لغيره كإناء الخمر ونحوه، على خلاف في الجميع، واستقصاء ذلك له محل آخر. وقوله: وأخرجه من الحرز، مفهومه أنه لو أتلفه في الحرز، أو أكله أنه لا قطع عليه، وهو كذلك، نعم لو ابتلع جوهرا ونحوه وخرج به ففي القطع ثلاثة أوجه، ثالثها: إن خرج قطع وإلا فلا. وقوله: وأخرجه، سواء أخرجه بنفسه، أو كان الإخراج ينسب إليه، كأن تركه في ماء فخرج به، أو على دابة فخرجت به، أو دفعه لمجنون فأخرجه، ونحو ذلك، ومقتضى كلامه أن الإخراج يترتب الحكم عليه، ولو ملكه بعد ذلك بهبة أو غيرها وهو كذلك. (تنبيه) : «الخبنة» ما تحمله في حضنك، وقيل: هو ما تأخذه في خبنة ثوبك، وهو ذيله وأسفله. «والجرين» : موضع التمر الذي يجفف فيه، مثل البيدر للحنطة. «والمجن» : الترس. «وحريسة الجبل» : فعيلة بمعنى مفعولة، أي ليس فيما يحرس بالجبل إذا سرق قطع، لأنه ليس بموضع حرز. «والمراح» بضم الميم: الموضع الذي تأوي إليه الماشية ليلا. «والخائن» : اسم فاعل من خان، وهو يشمل الخيانة في الوديعة وفي غيرها. «والمنتهب» : اسم فاعل من انتهب الشيء استلبه ولم يختلسه. «والمختلس» : اسم فاعل من اختلس الشيء اختطفه. قاله ابن فارس. «والسرقة» : فسرها أبو محمد بأنها

ما لا قطع فيه في السرقة

أخذ المال في وجه الخفية والاستتار، قال: ومنه استراق السمع، وقال: إن الاختلاس نوع من الخطف والنهب، وإنما المختلس يختفي في ابتداء اختلاسه، بخلاف السارق، والله أعلم. [ما لا قطع فيه في السرقة] قال: إلا أن يكون المسروق ثمرا أو كثرا فلا قطع فيه. ش: الكثر جمار النخل، وهذا الاستثناء من قوله: طعاما كان أو غيره. أو من قوله: وأخرجه من الحرز، لأنه إذا كان في بستان محوط، وأخرجه منه، يتوهم أنه محرز، فلذلك استثناه، والأصل في عدم القطع بذلك حديث عمرو بن شعيب، المتقدم. 3168 - وعن رافع بن خديج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا قطع في ثمر ولا كثر» رواه الترمذي والنسائي، وأبو داود. وقد علم مما تقدم أنه لا فرق بين أن

يكون ذلك في بستان محوط أو غيره، واستثنى من ذلك أبو محمد ما إذا كانت النخلة أو الشجرة في دار محرزة، فسرق منها نصابا، فإن عليه القطع. (تنبيه) : ويغرم ذلك بمثليه للخبر، ثم إن بعض الأصحاب اقتصر على ذلك. وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنهم عدوا ذلك إلى الماشية تسرق من المرعى، إذا لم تكن محرزة، واقتصروا على ذلك، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب في حريسة الجبل، وكذلك الحديث الذي في الموطأ، وأن أبا بكر عدى ذلك إلى كل ما سرق من غير حرز، أنه يغرم بمثليه. وحكى أبو البركات ذلك نصا، قياسا على ما تقدم في حديث عمرو بن شعيب.

3169 - وعن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن رقيقا لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أراك تجيعهم، ثم قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والله لأغرمنك غرما يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ فقال المزني: كنت والله أمنعها من أربعمائة درهم؛ فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أعطه ثمان مائة درهم. . . رواه مالك في الموطأ، واحتج به أحمد، فأوجب غرامة مثليها، لما أسقط القطع، ومقتضى هذا الحديث، وكذلك مقتضى حديث عمرو بن شعيب أن المسروق متى فات القطع فيه، إما لعدم حرزه، أو عدم بلوغه نصابا، أو لشبهة ونحو ذلك؛ أنه يغرم بمثليه، وهذا مقتضى احتجاج أحمد، وإذا يتلخص في المسألة أربعة أقوال، هل يختص غرامة المثلين بالثمر والكثر، أو بهما وبالماشية، أو بكل ما سرق من غير حرز، أو يتعدى ذلك لكل ما سقط فيه القطع، وهو أظهر، ثم هل يجب مع غرامة المثلين تعزير؟ أوجبه ابن عقيل في تذكرته، وأكثر الأصحاب لم يذكروا ذلك.

محل القطع وكيفيته في السرقة

[محل القطع وكيفيته في السرقة] قال: وابتداء قطع يد السارق أن تقطع يده اليمنى. 3170 - ش: لأن ذلك يروى عن أبي بكر الصديق وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. 3171 - وفي الموطأ عن القاسم بن محمد أن رجلا من اليمن أقطع اليد والرجل قدم المدينة، فنزل على أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فشكى إليه أن عامل اليمن ظلمه وقطع يده، وكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأبيك ما ليلك بليل سارق، ثم إنه بيت حليا لأسماء بنت عميس، فافتقدوه، فجعل يطوف معهم، ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل دويرة الرجل الصالح، ثم وجدوا الحلي عند صائغ، فزعم أن الأقطع جاء به، فاعترف الأقطع أو شهد عليه، فأمر به أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقطعت شماله، فقال أبو بكر: والله إن دعاءه على نفسه أشد عندي من سرقته، وهذا يدل على أن عادتهم كان البداءة باليمين. 3172 - وفي قراءة ابن مسعود (فاقطعوا أيمانهما) وهذا إن ثبت فهو

حجة عندنا على المشهور، ولأنها آلة السرقة غالبا، فناسب عقوبته بإزالتها، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك اتفاقا، والله أعلم. قال: من مفصل الكف. ش: حكى ذلك أبو محمد أيضا اتفاقا، ولأنه اليقين، وما زاد عليه مشكوك فيه. 3173 - وقد روى الدارقطني عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقطعه من المفصل» ، أي السارق. قال: وتحسم. ش: الحسم غمس اليد في زيت مغلى بعد القطع، لتشتد أفواه العروق، لئلا ينزف الدم فيموت. 3174 - والأصل فيه ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بسارق قد سرق شملة، فقالوا: يا رسول الله إن

حكم السارق إذا عاد للسرقة بعد القطع

هذا قد سرق. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما إخاله سرق» فقال السارق: بلى يا رسول الله، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه، ثم ائتوني به» فقطع فأتي به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «تب إلى الله» فقال: تبت إلى الله، فقال: «تاب الله عليك» رواه الدارقطني، ورواه عبد الرزاق من رواية محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا، وهل الزيت من بيت المال، أو من مال السارق؟ فيه وجهان، المجزوم به منهما عند أبي محمد أنه من بيت المال، وابن حمدان بنى على أنه احتياط له، أو من تتمة الحد. [حكم السارق إذا عاد للسرقة بعد القطع] قال: فإذا عاد قطعت رجله اليسرى. ش: أما قطع رجله فلما يأتي في المسألة الآتية، مع الأمن من المحذور الذي في قطع الثالثة. 3175 - مع أن ذلك قول العامة، منهم أبو بكر وعمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وناهيك بهم.

3176 - وما روى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع على السارق بعد قطع يمينه» فمنقطع، مع أنه والله أعلم مخالف للإجماع، وأما كونها اليسرى فلأنه أرفق به، لتمكنه من المشي على خشبة ونحو ذلك، بخلاف ما لو قطعت اليمنى، وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك في المحاربين، فقال: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] والله أعلم.

قال: من مفصل الكعب. ش: كما في اليد. قال: وحسمت. ش: لما تقدم في اليد، والله أعلم. قال: فإن عاد حبس ولا تقطع غير يد ورجل. ش: هذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار الخرقي وأبي بكر، وأبي الخطاب في خلافه، وابن عقيل والشيرازي، وأبي محمد وغيرهم، لعموم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] إلى قوله: {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] وهذا محارب لله ورسوله، فشملته الآية، وقد أشار علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى ذلك. 3177 - فروى سعيد: حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن عبد الرحمن بن عائذ قال: أتي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - برجل أقطع اليد والرجل قد سرق، فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن تقطع رجله. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلى آخر الآية، وقد قطعت يد هذا ورجله، فلا ينبغي أن تقطع رجله، فتدعه ليس له قائمة يمشي عليها، إنما تعزره، أو تودعه السجن، فاستودعه السجن، ولأن ذلك بمنزلة إهلاكه، فإنه لا يمكنه أن يتوضأ، ولا يغتسل، ولا يتحرز من نجاسته،

ولا يزيلها عنه، ولا يدفع عن نفسه، ولا يأكل ولا يبطش، وبذلك علل علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 3178 - فروى سعيد: حدثنا أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، قال: حضرت علي بن أبي طالب أتي برجل مقطوع اليد والرجل، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟ قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين، قال: قتلته إذا وما عليه القتل، بأي شيء يأكل الطعام، بأي شيء يتوضأ للصلاة؟ بأي شيء يغتسل من جنابته؟ بأي شيء يقوم على حاجته؟ فرده إلى السجن أياما ثم أخرجه، فاستشار الصحابة فقالوا مثل قولهم الأول، وقال لهم مثل ما قال أول مرة، فجلده جلدا شديدا ثم أرسله. (والرواية الثانية) : تقطع يده اليسرى في الثالثة، والرجل اليمنى في الرابعة. 3179 - لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جيء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسارق فقال: «اقتلوه» قالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: «اقطعوه» فقطع، ثم جيء به الثانية، فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق. فقال: «اقطعوه» فقطع ثم جيء به في الثالثة فقال: «اقتلوه» قالوا: يا رسول الله إنما سرق. فقال: «اقطعوه» فقطع ثم أتي به الرابعة فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق. فقال: «اقطعوه» فقطع فأتي به الخامسة فقال: «اقتلوه» قال جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه فألقيناه في بئر، ورمينا عليه

بالحجارة.» رواه أبو داود وهذا لفظه والنسائي. وروى النسائي نحو ذلك أيضا من رواية الحارث بن حاطب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعل ذلك، كما تقدم عنه. 3180 - وكذلك روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حكاه عنه أحمد، واحتج به، وهما اللذان أمرنا بالاقتداء بهما، وقد أجاب أبو محمد عن الحديث بأنه في شخص استحق القتل، بدليل الأمر بقتله في أول مرة، وقد يقال على هذا بأنه إذا كان مستحق القتل، فكيف جاز تأخيره، مع أنه إذا اجتمع مع القتل غيره سقط، واستوفي القتل، فكيف قطع، والذي يظهر في الجواب عن الأمر بالقتل أن هذا مما علم الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حقيقة الأمر فيه، وأن أمر هذا يؤول إلى القتل ولا بد، وأنه لا يجيء منه خير، فهو كالصبي الذي قتله الخضر، الذي طبع كافرا. 3181 - وفي النسائي ما يشعر بهذا، فروى عن الحارث بن حاطب «أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق، فقال: «اقتلوه» فقالوا: يا رسول الله إنما سرق،

قال: «اقطعوا يده» قال: ثم سرق فقطعت رجله، ثم سرق على عهد أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، حتى قطعت قوائمه كلها، ثم سرق أيضا الخامسة، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعلم بهذا، حين قال اقتلوه، ثم دفعه إلى فتية من قريش، منهم عبد الله بن الزبير، وكان يحب الإمارة. فقال: أمروني عليكم، فأمروه عليهم، فكان إذا ضرب ضربوه حتى قتلوه» . اهـ. والذي يظهر الرواية الثانية إن ثبتت الأحاديث، فإن النسائي ضعف حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: لا أعلم في هذا الباب حديثا صحيحا، فعلى المذهب فيمنع من تعطيل منفعة الجنس، وهما اليدان والرجلان، وهل يمنع من تعطيل عضوين من شق؟ على وجهين. (وعلى الثانية) لا أثر لذلك، فعلى هذا من سرق وهو أقطع اليد اليسرى، والرجل اليمنى، قطعت يده اليمنى على الثانية دون الأولى، لإفضائه إلى تعطيل منفعة الجنس، وإن كان أقطع اليد اليسرى فقط، قطعت يمينه على

الثانية دون الأولى. لكن في قطع رجله اليسرى وجهان، بناء على تعطيل منفعة الشق، واستقصاء التفريع له محل آخر. (تنبيه) : أطلق الخرقي الحبس، وتبعه الشيخ، وقال القاضي في الجامع، والشيرازي وابن البنا: يحبس حتى يحدث توبة، وقال ابن حمدان: يحبس ويعزر حتى يتوب، والله أعلم. قال: والحر والحرة والعبد والأمة في ذلك سواء. ش: الاتفاق في الحر والحرة بشهادة النص بذلك. قال سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية، ولفعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإنه قطع سارق رداء صفوان، وقطع المخزومية، أما العبد والأمة فهو قول العامة، لعموم النص، ولما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرقيق الذين سرقوا الناقة. 3182 - وروى القاسم عن أبيه أن عبدا أقر بالسرقة عند علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقطعه. رواه أحمد. 3183 - وعن نافع أن عبدا لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - سرق وهو آبق، فبعث به إلى سعيد بن العاص وهو أمير المدينة ليقطع يده، فقال سعيد: لا تقطع يد الآبق، فقال له ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: في أي كتاب الله وجدت هذا؟ فأمر به

ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقطعت يده. 3184 - وكذلك قضى به عمر بن عبد العزيز أيضا، رواه مالك في الموطأ. 3185 - وقطعت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - يد عبد. . رواه مالك أيضا في الموطأ. وهذه قضايا اشتهرت ولم تنكر، فكانت حجة. ويدخل في الحر المسلم والكافر، فيقطع الذمي بسرقة مال المسلم، وكذلك يقطع المسلم بالسرقة من مال الذمي. أما الحربي الذي لا أمان له فلا يقطع المسلم بالسرقة من ماله، ولا هو بسرقة مال المسلم، فإن كان له أمان قطع المسلم بسرقة ماله. وهل يقطع هو بسرقة مال المسلم؟ فيه وجهان: أصحهما:

يقطع. والثاني وهو اختيار ابن حامد: لا يقطع، ويدخل في العبد العبد الآبق، وذلك لعموم ما تقدم، ويؤيده قصة ابن عمر. 3186 - أما ما رواه الدارقطني عن ابن عباس، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على العبد الآبق إذا سرق قطع، ولا على الذمي» فقال: الصواب أنه موقوف، والله أعلم. قال: ويقطع السارق وإن وهبت له السرقة بعد إخراجها. 3187 - ش: لما روي عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «تعافوا الحدود فيما بينكم، فما بلغني من حد؛ فقد وجب» رواه النسائي وأبو داود. 3188 - «وعن صفوان بن أمية قال: كنت نائما في المسجد على خميصة لي، ثمن ثلاثين درهما، فجاء رجل فاختلسها مني، فأخذ الرجل فأتي به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - به ليقطع، فأتيته فقلت: تقطعه من أجل ثلاثين درهما، أنا أبيعه وأنسيه ثمنها. قال: «فهلا كان قبل أن تأتيني به» ، زاد في

أخرى: إني قد وهبتها له» . . رواه النسائي. وهذا يدل على أن ملك العين المسروقة بعد الرفع إلى الحاكم لا يؤثر، بخلاف ما قبله. وكذلك قيد أبو محمد المسألة، بل وزاد: والمطالبة بها؛ وإن كان كلام الخرقي مطلقا. وقوله: بعد إخراجها يحترز عما لو وهبت له السرقة قبل إخراجها، فإنه لا قطع قطعا، والله أعلم. قال: ولو أخرجها وقيمتها ثلاثة دراهم، فلم يقطع حتى نقصت قيمتها قطع. ش: اعتبارا بحال الإخراج، لأنه به كمل السبب، ولعموم: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] والله أعلم.

تلف الشيء المسروق

قال: وإذا قطع فإن كانت السرقة قائمة ردت إلى مالكها. ش: هذا اتفاق ولله الحمد، لأنها عين ماله، ولا مقتضي لنقله عنه، والله أعلم. [تلف الشيء المسروق] قال: وإن كانت متلفة فعليه قيمتها، موسرا كان أو معسرا. ش: أما إن كانت تالفة وقد قطع، فعليه مثلها إن كانت مثلية، وقيمتها إن كانت متقومة، كما لو أتلفها من غير سرقة، ولأن القطع والغرم حقان لمستحقين، فجاز اجتماعهما، كالجزاء والقيمة في الصيد الحرمي المملوك. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر المسألة فيما إذا قطع، لأن النعمان يقول: إذا كانت تالفة إذا فلا غرم عليه، وقال: موسرا كان أو معسرا، لأن مالكا يوافق النعمان في المعسر، ونحن في الموسر، والله أعلم. [قطع النباش] قال: وإذا أخرج النباش من القبر كفنا قيمته ثلاثة دراهم قطع. 3189 - ش: يروى هذا عن عائشة وابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -،

القطع في سرقة المحرم كالخمر الخنزير والميتة وآلات اللهو

ولأنه أخذ للمال على وجه الخفية، فدخل في مسمى السارق، وإذا يدخل في الآية الكريمة، والأحراز تختلف باختلاف الأموال، ألا ترى أن حرز الباب تركيبه في موضعه. 3189 - م - وقد روى أبو داود «عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: دعاني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلت: لبيك، فقال: كيف أنت إذا أصاب الناس موت، يكون البيت فيه بالوصيف، يعني «القبر» ، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «عليك بالصبر» » ، قال حماد: فبهذا قال من قال بقطع يد النباش، لأنه دخل على الميت بيته، والكفن الذي يقطع بسرقته ما كان مشروعا، فلو سرق لفافة رابعة من على الرجل، أو التابوت الذي هو فيه، ونحو ذلك لم يقطع، لعدم مشروعيته. وقوله: أخرج من القبر، فلو أخرجه من اللحد فلا قطع، والله أعلم. [القطع في سرقة المحرم كالخمر الخنزير والميتة وآلات اللهو] قال: ولا يقطع في محرم.

ش: كالخمر والخنزير والميتة ونحو ذلك، لأن له سلطانا على ذلك، لإباحة الشرع إزالته، ولأنه غير مال، أشبه الحشرات، وبذلك علل أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية الميموني، فيمن سرق لذمي خمرا أو خنزيرا: لا يقطع، ليس لهما قيمة عندنا. اهـ. وقد يتخرج لنا قول أن الذمي يقطع بسرقة خمر الذمي، بناء على أنها مال لهم، ولهذا قلنا بتضمينها على الذمي للذمي على تخريج، وقد يقال بعدم التخريج، لقيام الشبهة، وهو وقوع الخلاف في ذلك، وقد يدخل في كلام الخرقي إذا سرق صليبا، أو صنم ذهب ونحو ذلك، وهو قول القاضي، وخالفه تلميذه أبو الخطاب، فأوجب القطع. والله أعلم. قال: ولا في آلة لهو. ش: كالطنبور، والمزمار، والشبابة ونحو ذلك، وإن بلغت قيمته مفصلا نصابا، لأنه آلة للمعصية بالإجماع؛ فأشبه الخمر، ولأن الشارع سلطه عليه، حيث جعل له إفساده وزواله.

القطع في سرقة الأب والأم من ولدهما

3190 - ودليل الأصل «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكسر دنان الخمر، وشق زقاقه» ، مع أنه يمكن زوال المحرم وتبديده، وقد حرق موسى العجل، وقذفه في البحر، ولم يكتف بحرقه ودفع الحلي إلى أربابه، والله أعلم. [القطع في سرقة الأب والأم من ولدهما] قال: ولا يقطع الوالد فيما أخذه من مال ولده، لأنه أخذ ما له أخذه. ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم، وذكر دليله، وهو أنه أخذ ما له أخذه، ومن أخذ ما له أخذه لا يقطع، لأنه أخذ مباحا له. 3191 - ودليل ذلك ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم» رواه الخمسة.

3192 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لي مالا وولدا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: «مالك لأبيك» » رواه ابن ماجه، وروى أحمد نحوه من حديث عمرو بن شعيب، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في تعليله قصور، لأنه لو أخذ ما ليس له أخذه، كما إذا كان الأخذ يضر بالولد لم يقطع، ثم إن جواز الأخذ مختص بالأب الأدنى، وعدم القطع يتناول الأب وإن علا، فإذا توجيه ذلك أن له فيه شبهة، وهو وجوب نفقته أو نحو ذلك، والله أعلم. قال: ولا تقطع الوالدة فيما أخذت من مال ولدها. ش: لما تقدم في الأب الأعلى، ولأنها أحد الأبوين فأشبهت الآخر، وكذلك أمها وإن علت، واقتصار الخرقي على الوالد والوالدة يخرج به غيرهما، ولا نزاع أن هذا المذهب في غير الابن، لظاهر الكتاب، فإن قيل: فالنفقة تجب لغير هؤلاء، فيصير له في المال شبهة، وإذا لا قطع، قيل: النفقة وإن وجبت لبعضهم لكن وجوبها لمن تقدم أقوى، ثم إن القرابة التي بينهما لا تمنع قبول الشهادة، فلا تمنع القطع، بخلاف الوالدين. وجرى الشيرازي على مطلق الشبهة، فلم ير القطع على ذي الرحم المحرم، أما الابن فالمذهب المجزوم به عند القاضي والشيخين والشيرازي، وابن عقيل والشريف، وأبي الخطاب

حكم سرقة العبد من مال سيده

وابن البنا أنه لا يقطع بسرقة مال أبيه وإن سفل، لأن بينهما قرابة تمنع من قبول شهادة أحدهما لصاحبه، فلم يقطع بماله كالأب، ولأن النفقة تجب على الأب حفظا للابن، فلا يناسب إتلافه حفظا لماله، وكلام الخرقي يوهم القطع، وهو رواية حكاها ابن حمدان، وهو مقتضى ظواهر النصوص، والله أعلم. [حكم سرقة العبد من مال سيده] قال: ولا العبد فيما سرق من مال سيده. 3193 - ش: لما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: جاء رجل إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بغلام له، فقال: اقطع يده، فإنه سرق مرآة لامرأتي. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا قطع عليه، هو خادمكم أخذ متاعكم. . رواه مالك في الموطأ. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه، ولا يعرف لهما

ما يثبت به حد السرقة

مخالف، ولأن له فيه شبهة، وهو وجوب النفقة، والمدبر، وأم الولد، والمكاتب كالقن. [ما يثبت به حد السرقة] قال: ولا يقطع السارق إلا بشهادة عدلين أو إقرار مرتين. ش: أما كونه لا يقطع إلا بشهادة عدلين فلعموم قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، أما قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] فنزلت في سياق الأموال، فاقتصر على ذلك، وغير المال من النكاح والحدود ونحوهما ليس في معناه، لأن ذلك يحتاط له ما لا يحتاط للمال، ومن الاحتياط له عدم قبول المرأة، لضعف عقلها، وسرعة نسيانها، وأما قطعه بشهادتهما فللآية الكريمة أيضا، وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن قطع يد السارق تجب إذا شهد بالسرقة شاهدان حران مسلمان، ووصفا ما يوجب القطع، ويشترط في الشاهدين أن يكونا رجلين لما تقدم، مسلمين وإن كان السارق ذميا، حرين على المذهب، عدلين وإن قبلنا مستور الحال في الأموال، احتياطا للأموال، ويشترط مع ذلك أن يصفا السرقة والحرز، وجنس النصاب وقدره، والمسروق منه، ليزول الاختلاف في ذلك. وأما كونه يقطع بإقرار مرتين، ولا يقطع بما دونهما. 3194 - فلما روى أبو أمية المخزومي، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي بلص فاعترف اعترافا، ولم يوجد معه متاع، فقال له رسول

الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما إخالك سرقت» ؟ قال: بلى، مرتين أو ثلاثا، قال: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقطعوه» » مختصر. . رواه أحمد وأبو داود، ولو وجب القطع بأول مرة لما أخره. 3195 - وعن القاسم بن عبد الرحمن، عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا يقطع السارق حتى يشهد على نفسه مرتين. حكاه أحمد في رواية مهنا، واحتج به؛ ولأنه حد يتضمن إتلافا، فكان من شرطه التكرار كحد الزنا، قال أبو محمد: ويعتبر أن يذكر في إقراره شروط السرقة من النصاب، والحرز، وإخراجه منه. وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في ذلك بين الحر والعبد، وهو المذهب بلا ريب، كبقية الحدود. وروى مهنا عن أحمد: إذا أقر العبد أربع مرات أنه سرق قطع، وظاهر هذا اعتبار أربع مرات، ليكون على النصف من الحر. قال: ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع. ش: لأنه حد لله ثبت بالاعتراف، فقبل رجوعه عنه كحد

اشتراك الجماعة في السرقة

الزنا، وهذا بخلاف ما لو ثبتت سرقته بالبينة، فإن رجوعه لا يقبل كالزنا سواء، هذا إن شهدت البينة على الفعل، أما إن شهدت على إقراره بالسرقة ثم جحد، فقامت البينة بذلك، فهل يقطع نظرا للبينة، أو لا يقطع نظرا للإقرار؟ على روايتين حكاهما الشيرازي. (واعلم) أن هذا الذي ذكره الخرقي من أن القطع لا يثبت إلا بإقرار مرتين، وأنه إذا رجع عن الإقرار قبل منه؛ مختص بالقطع، أما المال فيكفي في ثبوته مرة، وإذا رجع عنه لم يقبل رجوعه، والله أعلم. [اشتراك الجماعة في السرقة] قال: وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا. ش: هذا هو المذهب بلا ريب، لأن سرقة النصاب فعل يوجب القطع، فاستوى فيه الواحد والجماعة كالقصاص، والمعنى في ذلك أن الشارع له نظر إلى حفظ الأموال كالأنفس، فكما أن في الأنفس تقتل الجماعة بالواحد سدا للذريعة، فكذلك في الأموال، واختار أبو محمد في مغنيه عدم القطع إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا، لأن كل واحد لم يسرق نصابا، فلم يجب عليه قطع كما لو انفرد. 3196 - ويرجح ذلك ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعا» رواه ابن ماجه.

3197 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» رواه الترمذي، وقال: وروي موقوفا وهو أصح. اهـ. 3198 - وروي نحو ذلك عن غير واحد من الصحابة، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين أن يكون المسروق ثقيلا، يشترك الجماعة في حمله، وبين أن يخرج كل واحد منه جزءا، ونص عليه أحمد والأصحاب، لاشتراكهم في الهتك والإخراج، ولهذا أيضا قلنا: لا فرق إذا هتكا الحرز بين

أن يدخلا معا، أو يدخل أحدهما فيخرج بعض النصاب، ثم يدخل الآخر فيخرج باقيه، والله أعلم. قال: ولا يقطع وإن اعترف بالسرقة أو قامت بينة، حتى يأتي مالك المسروق فيدعيه. ش: هذا المذهب المختار للخرقي، والقاضي وأصحابه، لأن المال مما يباح بالبذل، فيحتمل أن مالكه أباحه له، أو وقفه على طائفة السارق منهم، أو أذن له في دخول حرزه ونحو ذلك، فاعتبرت المطالبة لتزول الشبهة، ويرشح هذا ما تقدم في المسألة قبل، وقال أبو بكر في الخلاف: لا تشترط المطالبة، وهو قوي، عملا بإطلاق الآية الكريمة، وعامة الأحاديث، فإنه ليس في شيء منها اشتراط المطالبة ولا ذكرها، ولو اشترطت لبين ذلك وذكرها، وإلا يلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، والإخلال بما الحكم متوقف عليه، وإنه لا يجوز. (تنبيه) : وهل يفتقر إلى المطالبة في القطع بالكفن كسائر المسروقات، ويكون المطالب ورثة الميت، أو لا يفتقر، لأن

الطلب شرع لاحتمال كون المسروق مملوكا للسارق. وقد يئس من ذلك هنا؟ فيه احتمالان، أظهرهما الثاني. والله أعلم.

كتاب قطاع الطرق

[كتاب قطاع الطرق] ش: والأصل فيهم قول الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] إلى قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] . وقد اختلف أهل العلم في سبب نزول هذه الآية. 3199 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن ناسا أغاروا على إبل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وارتدوا عن الإسلام، وقتلوا راعي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مؤمنا، فبعث في آثارهم، فأخذوا فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم» ، قال: فنزلت فيهم آية المحاربة وهم الذين أخبر عنهم أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين سأله الحجاج. 3200 - وعن أبي الزناد «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار، عاتبه الله في ذلك، فأنزل الله

تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] » الآية، رواهما أبو داود والنسائي. 3201 - وفي حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية لأبي داود، «في قصة العرنيين قال: فبعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في طلبهم، فأتي بهم، قال: فأنزل الله في ذلك: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية» . وأصل الحديث متفق عليه. . فهؤلاء أخبروا أن الآية نزلت في العرنيين، وكانوا مرتدين. 3202 - وكذلك حكي عن سعيد بن جبير. 3203 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 34] نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم قبل أن يقدروا

عليهم لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه. رواه أبو داود والنسائي، وهو قريب من قول الأولين، وقال أبو محمد: إن الآية في قول ابن عباس وكثير من العلماء نزلت في قطاع الطريق من المسلمين. 3204 - وكأن مدرك أبي محمد في حكاية ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ما روى الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مسنده عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أنه قال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال؛ قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال؛ قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا؛ قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا؛ نفوا من الأرض. وقد يجمع بين القولين، بأن الآية نزلت في المرتدين، كما أخبر ابن عمر وأنس وغيرهما - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رأى أن نزول الآية على سبب لا يقتضي الاختصاص به، بل يتبع لفظها، ولفظها دل على أن كل محارب لله ورسوله هذا حكمه، وقطاع الطريق من المسلمين محاربون لله ولرسوله، لمخالفتهم أمره وارتكابهم نهيه.

المقصود بالمحاربين

(تنبيه) : «اللقاح» : جمع لقحة، وهي ذوات اللبن من الإبل، وقيل: ذوات المخاض. «وسملت عينه» : إذا فقئت بحديدة محماة، والله أعلم. [المقصود بالمحاربين] قال: والمحاربون: هم الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء، فيغصبونهم المال مجاهرة. ش: لا نزاع أن هؤلاء محاربون، تثبت لهم أحكام المحاربة التي تذكر بعد، واختلف فيمن يفعل ذلك في المصر، فظاهر كلام الخرقي أنه لا يكون محاربا، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، لأن الغوث يلحقه غالبا، فتزول شوكة المعتدي، ويكون في حكم المختلس، والمختلس ليس بمحارب. وقال أبو بكر: يكون محاربا، وتبعه على ذلك القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم، قال أبو محمد: إنه قول كثير من أصحابنا، وقال أبو العباس: إنه قول الأكثرين، تمسكا بعموم الآية الكريمة. ونظرا إلى أن ذلك في المصر أعظم خوفا، وأكثر ضررا، فكان بذلك أولى. وتوسط القاضي أظنه في المجرد أو في الشرح الصغير فقال: إن كانوا في المصر مثل أن كبسوا دارا، وكان أهل الدار بحيث لو صرخوا أدركهم الغوث فليسوا بمحاربين، وللحوق الغوث عادة، وإن حصروا قرية أو بلدا ففتحوه، وغلبوا على أهله، أو محلة مفردة، بحيث

عقوبة المحاربين

لا يلحقهم الغوث فهم محاربون، لعدم لحوق الغوث لهم، وهو يرجع إلى الأول، غايته أنه نقح كلام الخرقي، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - توقف عن الجواب في المسألة. وقول الخرقي: يعرضون للقوم السلاح، مفهومه أنهم لو عرضوا بغير سلاح لم يكونوا محاربين، وهو كذلك. ويدخل في السلاح كل ما أتى على النفس أو الطرف، وإن لم يكن محددا، كالحجر والعصا، وقوله: فيغصبونهم المال مجاهرة؛ مفهومه أنهم لو أخذوا المال خفية، أو على وجه الخطف فليسوا بمحاربين، وهو كذلك. وأنه لو خرج الواحد والاثنان على آخر الركب فأخذوا منه شيئا فليسوا بمحاربين، وإن خرجوا على عدد يسير فقهروهم فهم محاربون، والله أعلم. [عقوبة المحاربين] قال: فمن قتل منهم وأخذ المال؛ قتل، وإن عفا صاحب المال، وصلب حتى يشتهر، ودفع إلى أهله، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال؛ قتل ولم يصلب، ومن أخذ المال ولم يقتل؛ قطعت يده اليمنى، ورجله اليسرى في مقام واحد، ثم حسمتا وخلي. ش: مذهب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن قاطع الطريق إذا قتل وأخذ المال قتل وصلب، وإن قتل ولم يأخذ المال؛ قتل فقط، وإن أخذ المال ولم يقتل؛ قطعت يده اليمنى، ورجله

اليسرى، وإن لم يأخذ المال ولم يقتل؛ نفي، لما تقدم عن ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. 3205 - وذكر الزجاج أنه روي في التفسير أن أبا بردة الأسلمي كان عاهد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا يعرض لمن يريد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأن لا يمنع من ذلك، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يمنع من يريد أبا بردة، فمر قوم يريدون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأبي بردة، فعرض أصحابه لهم فقتلوهم وأخذوا المال، فأنزل الله على نبيه، وأتاه جبريل وأعلمه أن الله عز وجل يأمره أن من أدركه منهم قد قتل وأخذ المال؛ قتله وصلبه، ومن قتل ولم يأخذ المال؛ قتله، ومن أخذ المال ولم يقتل؛ قطع يده لأخذ المال، ورجله لإخافته السبيل. اهـ. وفي ثبوت هذا نظر، فإنه قد ثبت عن ابن عمر وغيره - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن الآية نزلت في غير هذا، ولا يغرنك قول أبي محمد في الكافي أن قضية أبي بردة رواها أبو داود، فقد قال هو في المغني قيل رواها أبو داود.

قلت: والقطع أنها ليست في سنن أبي داود، وإلا لذكرها ابن الأثير في جامع الأصول وغيره. والمعتمد في ذلك على قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو إن خالف ظاهر الآية الكريمة لكن يرجحه أن قوله موافق للقاعدة الشرعية، من أن العقوبات على قدر الإجرام. ولهذا اختلف حد الزاني والسارق والقاذف وغيرهم، بخلاف ظاهر الآية الكريمة. . فإن ظاهرها أن من حارب حصل فيه هذا التخيير من القتل أو القطع، وإن لم يقتل ولا أخذ المال. وأيضا عموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يحل دم امرئ مسلم، يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير الحق» . وهذا قد يعترض عليه بأنه عموم، والآية تخصه. وكون العقوبة تختلف باختلاف الجرم مسلم، ولكن الشارع رأى أن هذه المفسدة العظيمة جزاؤها هذا الجزاء، سدا للذريعة، وحسما للمادة، ثم إن صاحب الشرع لم يذكر القتل أو القطع فقط في مقابلة مجرد المحاربة، وإنما خير بين عقوبات، والأمر في ذلك موكول إلى الأئمة والحكام الذين عليهم إقامة الحدود، وتخييرهم تخيير مصلحة، لا تخيير استشفاء، فهم لا يفعلون إلا ما يرون أنه أصلح، فإذا رأوا توزيع العقوبات

على قدر الإجرام وجب ذلك عليهم، وإن رأوا أن هذا المحارب وإن لم يقتل لا يندفع شره إلا بالقتل، ككبير محاربين يجمعهم قوله، ويفرقهم عدمه، ونحو ذلك وجب قتله، وما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فيسأل أولا عن صحة سنده، فإن صح فهو معارض بنص القرآن. اهـ. (وعن أحمد) رواية أخرى: أن من قتل وأخذ المال؛ يقتل لقتله، ويقطع لأخذه المال، لأن كلا منهما لو انفرد لأوجب ذلك، فإذا اجتمعا وجبا معا كالزنا والسرقة. (وعنه) أيضا فيمن قتل ولم يأخذ المال: أنه يصلب مع القتل، والمذهب الأول. وقول الخرقي: قتل وإن عفى صاحب المال: يعني أنه يقتل حتما، ولا يدخله العفو، قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وذلك لأنه أجري مجرى الحدود، فلم يدخله العفو كبقيتها، ولهذا قلنا على إحدى الروايتين: لا يعتبر التكافؤ بين القاتل والمقتول، بل يؤخذ الحر بالعبد، والمسلم بالذمي، والأب بالابن، واعتبرناه على أخرى، نظرا إلى أن الحد فيه انحتامه، بدليل أنه لو تاب قبل القدرة سقط الانحتام، وبقي القصاص. ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقتل مسلم بكافر» .

فعلى هذه إذا فاتت المكافأة قطعت يده ورجله إن كان قد أخذ المال، وإلا نفي، وأغرم دية الذمي أو قيمة العبد، وهذا اختيار أبي الخطاب، والشريف والشيرازي وغيرهم، وهو أمشى على قاعدة المذهب. وقوله: وصلب حتى يشتهر، هذا أحد الوجهين، واختيار أبي محمد، وأبي الخطاب، وشيخه في الجامع. وقال: إنه ظاهر كلام أحمد، لأن المقصود من الردع للغير والزجر إنما يحصل بذلك. (والثاني) وقاله أبو بكر: يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب، اعتمادا منه على أن أحمد لم يوقت الصلب. ونظرا إلى إطلاق الآية الكريمة، وظاهر كلام الخرقي أن صلبه بعد قتله، وهو كذلك، إذ هو تتمة للحد، وكمال له، ولهذا قلنا: إذا مات قبل أن يقتله، أو قتل لغير المحاربة لم يصلب على أشهر الوجهين، إذ الحد قد فات بموته، كبقية المحدودين، وإنما قطعت يمنى يدي من أخذ المال لما تقدم في السارق، وإنما قطعت يسرى رجليه لتتحقق المخالفة المأمور بها، وإنما حسمتا لما تقدم في السارق. (تنبيه) : إذا كان القتل شبه عمد فقال أبو محمد: ظاهر كلام الخرقي أنه يقتل بذلك. (قلت) : وفي هذا نظر، فإنه متى اعتبر إطلاق الخرقي دخل فيه قتل الخطأ، وقد جعله أصحاب الخلاف محل وفاق، قاسوا عليه إذا فاتت المكافأة، والله أعلم.

قال: ولا يقطع منهم إلا من أخذ ما يقطع السارق في مثله. ش: لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا قطع إلا في ربع دينار» . وقد يتخرج لنا عدم اشتراط ذلك، من رواية عدم اعتبار المكافأة، ومن ثم قلت: إن الأمشى على المذهب اعتبارها. (تنبيه) : ويشترط الحرز، وانتفاء الشبهة في المال المسروق، والله أعلم. قال: ونفيهم أن يشردوا، فلا يتركون يأوون في بلد. ش: يعني من لم يقتل من المحاربين، ولم يأخذ المال، فإنه ينفى كما تقدم عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ثم إن النفي الكلي هو التشريد. وهذا هو المذهب المجزوم به عند القاضي وغيره، لظاهر الآية. (وعن أحمد) : نفيهم: تعزيرهم بما يردعهم من تشريد وغيره. (وعنه) : نفيهم: حبسهم. وعلى الأول إذا شردوا لم يتركوا يأوون في بلد، لظاهر {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] فظاهره نفيهم عن جميعها، ولا يتأتى إلا بما قلناه. (تنبيه) : قال أبو محمد: ولم يذكر أصحابنا قدر مدرة نفيهم، فيحتمل أن يتقدر ذلك بما تظهر فيه توبتهم، ويحتمل أن

توبة المحارب قبل القدرة عليه

يقدر بعام، كنفي الزاني، والله أعلم. [توبة المحارب قبل القدرة عليه] قال: فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم سقطت عنهم حدود الله عز وجل، وأخذوا بحقوق الآدميين من الأنفس والجراح والأموال، إلا أن يعفى لهم عنها. ش: إذا تاب المحاربون قبل القدرة عليهم سقطت عنهم حدود الله تعالى، كالصلب والقطع، والنفي وانحتام القتل، أما بعد القدرة فلا يسقط عنهم شيء للآية الكريمة: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] الآية. أوجب سبحانه الحدود، واستثنى من تاب قبل القدرة، فمن عداه يبقى على العموم، والمعنى في ذلك أن من تاب قبل القدرة؛ الظاهر أن توبته توبة إخلاص، بخلاف من تاب بعدها، فالظاهر أنه إنما فعل ذلك تقية، أما حقوق الآدميين فلا تسقط إلا بأدائها، أو إسقاط أربابها كالضمان، ووقع في المبهج في أول باب قطاع الطريق أن توبتهم قبل القدرة لا تسقط عنهم الحدود في رواية كما بعدها، وجزم في آخر الباب بالقبول كما يقوله الجماعة، وهو الصواب، والله سبحانه أعلم.

كتاب الأشربة وغيرها

[كتاب الأشربة وغيرها] [حد الشرب] قال: ومن شرب مسكرا قل أو كثر جلد ثمانين جلدة، إذا شربها مختارا لشربها، وهو يعلم أن كثيرها يسكر. ش: تحريم الخمر إجماع أو كالإجماع، وقد شهد لذلك من الكتاب قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] . 3206 - قال بعض المفسرين: نزل في الخمر أربع آيات، نزلت بمكة: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] فكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم، ثم «إن عمر ومعاذا ونفرا من الصحابة قالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر، فإنها مذهبة للعقل، مسلبة للمال. فنزلت {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] فشربها قوم وتركها آخرون، ثم دعا عبد الرحمن ناسا منهم فشربوا وسكروا، فأم بعضهم فقرأ: (قل يا أيها الكافرون، أعبد ما تعبدون)

فنزلت: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] . فقل من يشربها، ثم دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقاص، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا، حتى أنشد سعد شعرا فيه هجاء للأنصار، فضربه أنصاري بلحي بعير فشجه موضحة، فشكى إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انتهينا يا رب» . 3207 - وفي السنن قريب من ذلك، فعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في البقرة {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] الآية، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في النساء: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الآية، فدعي عمر فقرئت عليه فقال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت التي في المائدة: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] فدعي عمر فقرئت عليه، فقال: انتهينا انتهينا. رواه أبو داود والترمذي والنسائي.

قال بعض العلماء: والتحريم في الآية من نحو عشرة أوجه، تسميتها رجسا وهو المستقذر، وجعلها من عمل الشيطان، والأمر باجتنابها، وجعل الفلاح مرتبا على اجتنابها، فمن لم يجتنبها لا يفلح، وجعلها توقع العداوة والبغضاء، وتصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، ثم طلب الانتهاء عنها بقوله سبحانه: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: جدير وحقيق أن ينتهي عن شيء جمع هذه الأوصاف. وورد في تحريمها من السنة ما يبلغ مجموعه التواتر. 3208 - فعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل شراب أسكر فهو حرام» . 3209 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» رواهما الجماعة.

وفي رواية لمسلم: «ومن شرب الخمر في الدنيا، ومات وهو يدمنها لم يتب منها، لم يشربها في الآخرة» . 3210 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب مسكرا بخست صلاته أربعين صباحا، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة كان حقا على الله أن يسقيه من طينة الخبال» . قيل: وما طينة الخبال يا رسول الله؟ قال: «صديد أهل النار» . 3211 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» رواهما أبو داود. والأخبار في ذلك كثيرة جدا، وسيمر بك إن شاء الله تعالى طرف منها وبالغ الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في تحريمها والمباعدة منها.

3212 - فعن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اجتنبوا الخمر؛ فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد، فلقيته امرأة أغوته، فأرسلت إليه جاريتها فقالت: إنها تدعوك لشهادة، فانطلق مع جاريتها، فطفق كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، عندها غلام وباطية خمر، فقالت: والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام. قال: فأسقيني من هذا الخمر كأسا، فسقته كأسا، فقال: زيدوني. فلم يرم حتى وقع عليها وقتل الغلام، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر. . إلا يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه. . رواه النسائي.

3213 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو بني مكانها منارة لم أؤذن عليها، ولو نبت مكانها كلأ لم أرعه. 3214 - وما روي عن بعض الصحابة كقدامة بن مظعون، وعمرو بن معدي كرب، وأبي جندل بن سهيل، أنهم قالوا: إنها حلال تمسكا بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الآية، فتأويل منهم أخطئوا فيه، فبين لهم علماء الصحابة معنى الآية، وحدهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لشربها، فقيل إنهم رجعوا عن قولهم. 3215 - وقد قال البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في هذه الآية قال: مات رجل من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن تحرم الخمر، فلما حرمت قال رجال: كيف بأصحابنا وقد ماتوا يشربون الخمر؟ فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة: 93] .

3216 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قالوا: يا رسول الله أرأيت الذين ماتوا وهم يشربون الخمر لما نزل تحريم الخمر؟ فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} [المائدة: 93] الآية، رواهما الترمذي. 3217 - وفي الصحيحين من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قصة تحريم الخمر قال: فقال بعض القوم: قد قتل قوم وهي في بطونهم، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] . إذا تقرر هذا، فالاتفاق أيضا على حد شاربها في الجملة، واختلف في مقداره، وعن إمامنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في ذلك روايتان: (إحداهما) : أن مقداره ثمانون. اختارها الخرقي، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وغيرهم. 3218 - لما روى ثور بن زيد الديلي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار في حد الخمر، فقال له علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أرى أنه يجلد ثمانين جلدة، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى؛ فجلد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حد الخمر ثمانين. . رواه مالك في الموطأ والدارقطني.

3219 - وفي الصحيح أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الناس، فقال عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أخف الحدود ثمانون. فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وهذا كالإجماع من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - على الجلد ثمانين. الرواية الثانية، وهي اختيار أبي بكر: قدره أربعون. 3220 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين. وفي رواية: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أتي برجل شرب الخمر فجلده بجريد نحو أربعين. قال: وفعله أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فلما كان

عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - استشار الناس، فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -» . متفق عليه. 3221 - وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود عن حضين بن المنذر، قال: شهدت عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أتي بالوليد قد صلى الصبح، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان؛ أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيأها. فقال عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنه لم يتقيأها حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قم يا حسن فاجلده، فقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ولّ حارها من تولى قارها؛ فكأنه وجد عليه. فقال: يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده؛ فجلده، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يعد حتى بلغ أربعين. فقال: أمسك ثم قال: «جلد النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعين» ، وأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعين، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثمانين، وكل سنة، وهذا أحب إلي. ورواه أبو داود أيضا مختصرا قال: فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «جلد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخمر» وأبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعين، وكملها عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثمانين، وكل سنة. وفعل كل أحد بل وقوله المخالف لفعل رسول الله -

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ملغى، واعلم أن عامة الأصحاب يحكون الروايتين كما تقدم، وأبو العباس يحكي الرواية الثانية أن الواجب أربعون، وأن الزيادة على الأربعين يفعلها الإمام عند الحاجة، إذا أدمن الناس الخمر. أو كان الشارب لا يرتدع بدونها، قال: وهذا أوجه القولين. قلت: ولا ريب أن هذا القول هو الذي يقوم عليه الدليل؛ إذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضرب نحوا من أربعين، ولم يوقت فيه مقدارا معينا. 3222 - قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ما كنت لأقيم على أحد حدا فيموت فأجد في نفسي شيئا، إلا صاحب الخمر، فإنه لو مات وديته، وذلك أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسنه، متفق عليه. وفي رواية أبي داود: فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسن فيه شيئا، إنما هو شيء قلناه نحن. 3223 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوقت في الخمر حدا» ، رواه أبو داود.

وإذا كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يوقت فيه قدرا معينا، وضرب نحوا من أربعين، وجب اتباع فعله، وكذلك فعل أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في صدر خلافته. ولما رأى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عتو الناس وازديادهم؛ ضرب ثمانين. 3224 - قال السائب بن يزيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإمرة أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وصدر من خلافة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فنقوم إليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا، حتى كان آخر إمرة عمر، فجلد أربعين، حتى إذا عتوا، وفشوا؛ جلد ثمانين. . رواه البخاري، ووافقه الصحابة على ذلك، بل وأشاروا عليه كما تقدم. 3225 - ولما كان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جلد الحدين كليهما ثمانين وأربعين كما في أبي داود، وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

جلد أربعين، وقال: إن الكل سنة. وقد جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه زاد فيه النفي وحلق الرأس لما كثر الشرب، مبالغة في الزجر. وهذا كله يدل على جواز الزيادة على الأربعين. اهـ. وقول الخرقي: (ومن) ، يدخل فيه الرجل والمرأة، والحر والعبد، وسيأتي الكلام على العبد، والمسلم والكافر، ولا يخلو الكافر إما أن يكون ملتزما أو غير ملتزم، فغير الملتزم كالحربي لا حد عليه، والملتزم كالذمي والمستأمن فيه روايتان، أصحهما عند أبي محمد وأبي الخطاب في الهداية: لا حد عليه؛ لأنا صالحناهم على أن لا نتعرض لهم فيما لا ضرر علينا فيه. (والثانية) : عليه الحد، لأنه مكلف، فجرى عليه الحد كالمسلم. وقد تنبني الروايتان على تكليفهم بالفروع، لكن المذهب ثم قطعا تكليفهم بها. واختار أبو البركات هنا أنه إن سكر؛ حد، وإلا فلا، إناطة باعتقاده التحريم وعدمه. وقوله (شرب) خرج على الغالب، وكذلك الحكم لو ثرد الخمر أو اصطبغ به، أو لت به سويقا، أو خلطه بطعام فأكله أو

استعط به، أو احتقن به، نص أحمد على أكثر ذلك، وأومأ إلى بقيتها، وكذلك إن طبخ به لحما فأكل من مرقته، قاله أبو محمد. أما إن عجن به دقيقا وخبزه فإنه لا يحد بأكله، لأن النار أكلت أجزاء الخمر، ولم يبق إلا أثره. وكذلك مختار أبي محمد في الاحتقان، كما لو داوى به جرحه، وكلامه يوهم أن ذلك رواية، ووقع في كلام أحمد أنه لو تمضمض به وجب الحد. فقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه في الرجل يستعط بالخمر، أو يحتقن به، أو يتمضمض أرى عليه الحد، فهم يقولون: لو أن رجلا لت سويقا بخمر، أو صب على خمر ماء كثيرا، ثم شربه؛ لم يحد، ذكر هذا النص القاضي في التعليق، وهو محمول على أن المضمضة وصلت إلى حلقه. قال ابن حمدان في الكبرى: وكذا قيل في المضمضة به، يعني يحد. قال: وهو بعيد. اهـ. وقوله: مسكرا قل أو كثر، يخرج به غير المسكر، وهو واضح، ويعم كل مسكر وإن قل ولم يسكر به. وهذا مذهبنا لما تقدم من حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كل شراب أسكر فهو حرام» وحديث ابن عمر

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام» ، وحديث ابن عباس: «كل مخمر خمر، وكل مسكر حرام» وإذا كان كل مسكر خمرا فقد دخل في آية التحريم، مع أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نص على تحريمه. 3226 - ودخل في وجوب الحد، بقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من شرب الخمر فاجلدوه» ، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما من رواية معاوية وابن عمر وأبي هريرة وغيرهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

3227 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا قدم من جيشان، وجيشان من اليمن، فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له المزر، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أومسكر هو» ؟ قال: نعم، قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام، وإن الله عهد لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال» . قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: «عرق أهل النار، أو عصارة أهل النار» رواه مسلم والنسائي. 3228 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «خطب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر آية الخمر، فقال رجل: يا رسول الله أرأيت المزر؟ قال: «وما المزر» ؟ قال: حبة تصنع باليمن، قال: «تسكر» ؟ قال: نعم، قال: «كل مسكر حرام» . وفي رواية قال: «المسكر قليله وكثيره حرام» . 3229 - وعن سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أنهاكم عن قليل ما أسكر وكثيره» ، رواه النسائي.

3230 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن البتع، وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال: «كل شراب أسكر فهو حرام» متفق عليه. 3231 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما أسكر كثيره؛ فقليله حرام» . 3232 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أيضا قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام» . رواهما أبو داود والترمذي. والأحاديث في الباب كثيرة، وقد صنف الإمام أحمد في ذلك كتابا كبيرا وافيا بالمقصود، وقد اختلف الناس في الحشيش: هل يحد بها، أو لا يحد؟ ومختار أبي العباس: وجوب الحد بها.

وقول الخرقي: وهو مختار لشربها، يعلم أن كثيرها يسكر. يعني أنه يشترط لوجوب الحد شرطان: (أحدهما) : أن يكون مختارا، فإن كان مكرها فلا حد عليه، هذا هو المذهب المعروف، والمختار من الروايتين. 3233 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» الحديث. قال أبو محمد: وسواء أكره بالوعيد، أو بالضرب أو ألجئ إلى شربها بأن فتح فوه وصب فيه. (والرواية الثانية) : يحد، حملا للحديث على الإكراه على الأقوال، والأفعال تؤثر ما تؤثر الأقوال، ولا نزاع أنه يجوز أن يدفع بها لقمة غص بها، إذا لم يجد مائعا سواها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] . (الثاني) أن يعلم أن كثيرها يسكر، لأنه إذا لم يعلم ذلك لم يقصد ارتكاب المعصية، فهو كمن زفت إليه غير زوجته، وفي معنى ذلك من لم يعلم بالتحريم لما تقدم. 3234 - وعن عمر وعثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا حد إلا على من علمه. نعم مدعي ذلك إن نشأ بين المسلمين لم تقبل

موت شارب الخمر أثناء الحد

دعواه، وإلا قبل، ولا تقبل دعوى الجهل بالحد، قاله ابن حمدان. [موت شارب الخمر أثناء الحد] قال: فإن مات في جلده فالحق قتله. ش: لأنه مأذون في جلده من جهة الحق سبحانه، فإذا مات في ذلك من غير اعتداء فقتله منسوب إلى البارئ سبحانه، ولأنه حد وجب لله، فلم يجب ضمان من مات به كسائر الحدود. وما تقدم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في شارب الخمر من قوله: لو مات وديته، محمول على التورع؛ لأن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينص عليه بلفظه، وليس فيه أنه يديه من بيت المال، وقد قال هو: «إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جلد أربعين» ، وحصل الإجماع على ذلك، فهو كبقية الحدود، ولا فرق بين أن يموت في الأربعين أو بعد الأربعين، وإن قلنا: الزيادة عليها تعزير، إذ التعزير واجب فهو كالحد. [كيفية إقامة الحدود] قال: ويضرب الرجل في سائر الحدود قائما. ش: هذا هو أشهر الروايتين.

3235 - لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لكل موضع من الجسد حظ. يعني في الحد إلا الوجه والفرج، وقال للجلاد: اضرب وأوجع، واتق الرأس والوجه، وقيامه وسيلة إلى إعطاء كل عضو حظه من الضرب. (والرواية الثانية) : يضرب جالسا، لأن الله تعالى لم يأمر بالقيام، واستعمل الخرقي «سائر» بمعنى جميع على قاعدته، ومراده الحدود التي فيها ضرب. قال: بسوط. ش: يعني أن الضرب يكون بسوط، لا بعصا ولا بغيرها، إذ الجلد إذا أطلق إنما يفهم منه الضرب بالسوط. 3236 - وقد روى زيد بن أسلم «أن رجلا اعترف على نفسه بالزنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدعا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسوط، فأتي بسوط مكسور، فقال: «فوق هذا» فأتي بسوط جديد لم تقطع ثمرته فقال: «بين هذين» فأتي بسوط قد لان وركب به فأمر به فجلد» ، وهذا بيان للجلد المأمور به في الآية الكريمة.

وقد دخل في كلام الخرقي حد الخمر، ولا ريب عندنا أنه يجوز الجلد فيه بالسوط لما تقدم. 3237 - وقد جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه جلد قدامة بن مظعون بسوط، ولا يتعين ذلك، بل للإمام أن يضربه بالجريد والنعال إذا رأى ذلك، لما تقدم. قاله أبو الخطاب في الهداية، وأبو البركات وابن حمدان. وعموم كلام الخرقي يقتضي تعين ذلك، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني، فأورده مذهبا، وهو ظاهر كلامه في الكافي، وكلام القاضي في الجامع الصغير، والشريف والشيرازي وابن عقيل وغيرهم، قالوا: يضرب بسوط. وأجاب أبو محمد عما تقدم بأنه كان في بدء الإسلام، ويرده حديث السائب بن يزيد وقد تقدم. قال: لا جديد ولا خلق. ش: لما تقدم عن زيد بن أسلم، ولأنه إن كان خلقا قل ألمه، وإن كان جديدا جرح، والمقصود ردعه لا قتله. 3238 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ضرب بين ضربين، وسوط بين سوطين. ومن ثم قال أحمد: لا يبدي إبطه في

شيء من الحدود، أي لا يبالغ في رفع يده فيبالغ في الألم، وربما قتله، وقال الأصحاب: يضرب وعليه القميص والقميصان لا الفراء ونحوها. قال: ولا يمد ولا يربط. ش: لأن ذلك لم ينقل عن الخلفاء الراشدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 3239 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ليس في ديننا مد، ولا قيد، ولا تجريد. 3240 - وفي مسلم في قصة ماعز قال: فما أوثقناه ولا حفرنا له. قال: ويتقي وجهه. 3241 - ش: لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه» رواه أبو داود، واقتصر الخرقي على الوجه لهذا الحديث، وزاد غيره (الرأس) لما تقدم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (والمقاتل) حذارا من قتله، ويفرق الضرب على جميع أعضائه.

وهذا على رواية أنه يضرب قائما، وعلى الأخرى يضرب الظهر وما قاربه. قال: وتضرب المرأة جالسة. ش: لأن المرأة عورة، وجلوسها أستر لها. 3242 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: تضرب المرأة جالسة والرجل قائما. قال: وتشد عليها ثيابها، وتمسك يداها لئلا تنكشف. ش: ذكر الخرقي الحكم ودليله، وهو خشية تكشفها وهي عورة. قال: ويجلد العبد والأمة أربعين بدون سوط الحر. ش: يجلد العبد والأمة نصف جلد الحر، وذلك أربعون على اختيار الخرقي، وعشرون على اختيار أبي بكر. 3243 - لأن ابن شهاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل عن حد العبد في الخمر فقال: بلغني أن عليه نصف حد الحر في الخمر وكان عمر وعثمان وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يجلدون عبيدهم في الخمر نصف حد الحر. . . رواه مالك في الموطأ،

حكم العصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام

ويكون سوطه دون سوط الحر، تخفيفا للصفة كما في العدد، ولأبي محمد احتمال - وهو ظاهر إطلاق جماعة - أنه كسوط الحر، لأن التنصيف إنما يتحقق إذا كان كذلك. [حكم العصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام] قال: والعصير إذا أتت عليه ثلاثة أيام فقد حرم إلا أن يغلي قبل ذلك فيحرم. ش: لا ريب أن العصير إذا غلى وقذف بالزبذ أنه حرام وإن لم تأت عليه ثلاثة أيام. 3244 - لما «روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فأخذه فإذا هو ينش ويغلي فقال لي: «اضرب به الحائط، فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر» رواه أبو داود والنسائي، نعم، إذا علم من شيء أنه لا يسكر فلا بأس به وإن غلى كالفقاع، إذ العلة في التحريم الإسكار، ولا إسكار فيه. ولا ريب أنه إذا لم يغل ولم يأت عليه ثلاثة أيام، أنه مباح. 3245 - لما روت «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: كنا ننبذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سقاء غدوة فيشربه عشية، وعشية فيشربه غدوة، مختصر» . . . رواه أبو داود والترمذي

والنسائي، واختلف فيما إذا أتت عليه ثلاثة أيام ولم يغل، فمنصوص أحمد وعليه عامة أصحابه تحريمه. 3246 - لما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ينبذ له أول الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك، والليلة التي تجيء، والغد والليلة الأخرى، والغد إلى العصر، فإن بقي شيء سقى الخادم، أو أمر به فصب. وفي رواية: كنا ننقع لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الزبيب فيشربه اليوم والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر فيسقى أو يهراق» . رواه مسلم وأحمد وأبو داود، وظاهر هذا أن هذا كان دأبه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وعادته، لا أنه فعل ذلك في شيء، الغالب أنه يتخمر بعد ذلك. 3247 - وقد «روى الشالنجي بإسناده عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «اشربوا العصير ثلاثا ما لم يغل» . »

حكم النبيذ

3248 - وقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في العصير: اشربه ما لم يأخذه شيطانه. قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: في ثلاث. . . حكاه أحمد. والمعنى في ذلك أن الشدة تحصل في الثلاث كثيرا، وهي خفية تحتاج إلى ضابط، فجعلت الثلاث ضابطا لها، ولم يلتفت أبو الخطاب إلا إلى الغليان، وحمل كلام أحمد على عصير الغالب أن يتخمر في الثلاث، ولأبي محمد احتمال بكراهة ذلك من غير تحريم، لأن أحمد قال في موضع: أكرهه. [حكم النبيذ] قال: وكذلك النبيذ. ش: يعني أنه مباح ما لم يغل، أو يأت عليه ثلاثة أيام لما تقدم من حديث ابن عباس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، والنبيذ ما يلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو به الماء. [حكم انقلاب الخمر خلا] قال: والخمرة إذا أفسدت فصيرت خلا لم تزل عن تحريمها. ش: هذا هو المذهب المشهور المجزوم به. 3249 - لما روي عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الخمر يتخذ خلا فقال: «لا» . .» . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وصححه.

3250 - وعنه أيضا «أن أبا طلحة سأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن أيتام ورثوا خمرا، فقال: «أهرقوها» قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: «لا» » رواه أحمد وأبو داود، فنهى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن التخليل، والنهي يقتضي الفساد، وأمر بإراقتها مع كونها لأيتام، ولو زال تحريمها بالتخليل لأرشده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك، حذارا من ضياع المال، لا سيما وهي لأيتام. 3251 - وقد روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - صعد المنبر فقال: لا تحل خمر أفسدت، حتى يكون الله تعالى هو الذي تولى إفسادها، ولا بأس على مسلم ابتاع من أهل الكتاب خلا ما لم يعتمد إفسادها، فعند ذلك يقع النهي. رواه أبو عبيد في الأموال بنحو من هذا المعنى، وهذا قاله بمحضر من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - ولم ينكر فكان إجماعا،

الشرب في آنية الذهب والفضة

وقيل: يزول تحريمها مطلقا، لأن علة التحريم الشدة المطربة، وقد زالت فيزول التحريم، وقيل - وهو احتمال لأبي محمد - إن قصد تخليلها بنقلها من الشمس إلى الفيحاء أو بالعكس حلت لما تقدم، وإن خللت بما يلقى فيها لم تحل، لنجاسة الملقى فيها، فإذا انقلبت بقي الملقى فيها على نجاسته. قال: وإن قلب الله تعالى عينها فصارت خلا فهي حلال. ش: لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولزوال علة التحريم من غير فعل محرم. [الشرب في آنية الذهب والفضة] قال: والشرب في آنية الذهب والفضة حرام. 3252 - ش: لما روت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم» متفق عليه. ولمسلم: «الذي يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب» » . 3253 - «وعن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنهم كانوا عند حذيفة بالمدائن فاستسقى فسقاه مجوسي في إناء من فضة، فرماه به وقال: إني قد أمرته أن لا يسقيني فيه، إني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في

آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» متفق عليه. فنهى، والنهي يقتضي التحريم، وأخبر أن الذي يفعل هذا تجرجر النار في بطنه، أو أنه هو يجرجرها في بطنه، وعلى كليهما لا يكون ذلك إلا بفعل محرم. (تنبيه) : «الديباج» كذا، والله أعلم. قال: وإن كان قدح عليه ضبة فضة فشرب من غير موضع الضبة فلا بأس. ش: إباحة الضبة في الجملة إجماع حكاه أبو البركات. 3254 - ويشهد له ما «روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن قدح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - انكسر، فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة.» . . رواه البخاري، ولفظه: انصدع. وهذا يخصص حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

المتقدم في الآنية: «أو إناء فيه شيء من ذلك» إن صح، إلا أن البيهقي أشار للاعتراض على حديث البخاري فقال: إنه يوهم أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة قال: فصح بهذا السند أيضا إلى أنس وفيه: فجعلت مكان الشعب سلسلة. 3255 - «وروى أيضا عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان قد انصدع فسلسله بفضة» ، قلت: وإنما يجيء الوهم إذا ضبط الرواة (جعلت) مبنيا للفاعل، أما إن لم يضبطوا ذلك فيحتمل البناء للمفعول، وإذا لا يتعين أن يكون الفاعل هو أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بل يجوز أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هو الفاعل، وهذا أولى، لموافقته رواية البخاري، ثم على البناء للفاعل ليس فيه أن ذلك كان بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيجوز أن يكون في حياته بأمره، ثم تارة أضاف الفعل إلى نفسه لأنه الفاعل حقيقة، وتارة أضافه إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمره بذلك، كما يقال: بنى الأمير المدينة، ونحو ذلك.

وعاصم فيه كلام، ثم قوله: فسلسله ليس فيه أن ذلك بعد موت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيجوز أن يكون في حياته، وأضاف الفعل إليه كما تقدم، وبالجملة الإجماع فيه كفاية، على أنا نقول بحجية قول الصحابي، وتخصيصه للعموم. إذا تقرر هذا، فظاهر كلام الخرقي اختصاص الجواز بضبة الفضة، وهو المذهب المنصوص اتباعا لقضية النص. (وعن أبي بكر) جواز اليسيرة من الذهب لحاجة. وظاهر كلامه أيضا أنه يشترط أن لا يباشر الضبة بالاستعمال، ولا يشرب من موضعها، وهو ظاهر كلام أحمد، واختيار ابن عقيل، وابن عبدوس، إذ الأصل التحريم تبعا للنص، ثم أبيح ما تدعو الحاجة إليه، فما عداه يبقى على الأصل، وقيل: يكره ذلك من غير تحريم.

وبه قطع أبو الخطاب في الهداية، وابن البنا، وصاحب التلخيص، وأبو محمد في الكافي والمغني، ولابن تميم احتمال بالإباحة، ويحتمله كلام القاضي في تعليقه، وأبي البركات في محرره، وطائفة لسكوتهم عن ذلك. ومحل الخلاف إذا لم يحتج إلى المباشرة، أما إن احتاج إلى ذلك كلحس الطعام والشراب إذا كانت في موضعه فيباح. واختلف في شرطين آخرين (أحدهما) هل يشترط في الضبة أن تكون يسيرة، وهو المذهب، لأنها إذا تابعة في حكم العدم، أو لا يشترط، بل تجوز الكبيرة للحاجة إناطة بها - وهو اختيار ابن عقيل؟ على قولين. (الثاني) هل يشترط أن تكون مع قلتها للحاجة، وهو المنصوص، قاله أبو البركات، وقطع به أبو الخطاب في هدايته، وابن البنا، وصاحب التلخيص فيه، قصرا للحكم على مورد الأثر، أو لا يشترط، وجزم به جماعة، نظرا لاغتفار اليسير مطلقا كما تقدم؟ على قولين، ثم على الثاني هل تكره والحال هذه، وبه جزم القاضي في تعليقه، ويحتمله كلام أحمد في رواية أحمد بن نصر، وجعفر بن محمد، قال: لا بأس بالضبة، وأكره الحلقة، أو تباح، وبه قطع ابن عقيل، والشيرازي؟ على قولين أيضا. وكلام الخرقي محتمل في الشرطين، لكن لا نعرف قائلا بجواز الكبيرة لغير حاجة بل ملخص الشرطين أن الكبيرة لغير

التعزير

حاجة لا تباح، واليسيرة لحاجة تباح، وفي الكبيرة لحاجة واليسيرة لغير حاجة قولان. (تنبيه) : المراد بالحاجة هنا أن يحتاج إلى تلك الصورة، سواء كانت من حديد أو فضة، أو نحاس أو غير ذلك، لا أن يحتاج إلى كونها من فضة، بل هذه ضرورة يباح معها الذهب ولو مفردا، كما لو احتاج إلى اتخاذ أنف من ذهب ونحو ذلك، والله أعلم. [التعزير] [تعريف التعزير ومقداره] قال: ولا يبلغ بالتعزير الحد. ش: أصل التعزير في اللغة المنع، فقوله تعالى؛ {وَعَزَّرُوهُ} [الأعراف: 157] أي منعوا أعداءه من الظفر به. وقول القائل: عزرت فلانا، إذا ضربته في معصية، أي منعته بضربي إياه من معاودة مثل ذنبه. وقال السعدي: عزرته، أي أدبته، وعزرته وقرته، فهو من الأضداد، وهو مشروع في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، كالوطء دون الفرج، وسرقة ما لا قطع فيه، والجناية على الناس في أموالهم أو في أبدانهم بما لا قصاص فيه. . . ونحو ذلك.

3256 - سئل علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن قول الرجل للرجل: يا فاسق يا خبيث، قال: هن فواحش فيهن تعزير، وليس فيهن حد. ولا يشرع فيما فيه حد إلا على ما قاله أبو العباس في شارب الخمر، وفيما إذا أتى حدا في الحرم، فإن بعض الأصحاب قال: إن حده يغلظ، وهو نظير تغليظ الدية بالقتل في ذلك. وكذلك نص أحمد، وقاله جماعة من الأصحاب فيمن شرب الخمر في رمضان: يغلظ حده، وهل يشرع فيما فيه كفارة، كالظهار، وقتل شبه العمد ونحوهما؟ فيه وجهان. إذا تقرر هذا فلا تقدير لأقل التعزير، بل هو على قدر ما يراه الإمام، إلا في وطء جارية زوجته التي أحلتها له، فإنه لا ينقص عن مائة، بل ولا يزاد عليها للنص، ويختلف باختلاف الأشخاص والأجرام، ولا يتعين الضرب فيه، بل يجوز بالحبس والإحراق إلا في وطء جارية زوجته.

قال في الكافي: والجارية المشتركة، ولا يجوز بقطع الطرف والجرح، وأخذ المال. قاله أبو محمد. وجوز أبو العباس التعزير بقطع الخير، والعزل عن الولايات. 3257 - مستندا لعزل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعض نوابه لما بلغه عنه أنه تمثل بأبيات في العقار. 3258 - وعنه أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه عزر فيه بالنفي وحلق الرأس، واختلف في أعلاه، فروى جماعة عن أحمد أنه لا يزاد فيه على عشر جلدات. 3259 - اعتمادا على حديث أبي بردة هانئ بن نيار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط، إلا في حد من حدود الله عز وجل» ، وفي لفظ: «لا عقوبة فوق عشر ضربات إلا في حد من حدود الله تعالى» رواه البخاري، وهذا عام في كل عقوبة، خرج منه بالاستثناء حدود الله تعالى. والمتيقن من ذلك الحدود المقدرة الطرفين، فما عداها يبقى على العموم. وحكى أبو الخطاب (رواية أخرى) أنه لا يزاد على تسع جلدات، ولا يظهر لي وجهها، ونقل جماعة عن أحمد في

الرجل يطأ جارية بينه وبين شريكه: يجلد مائة إلا سوطا. 3260 - قال: كذا قال سعيد بن المسيب، قال الراوي: وذهب إلى حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ونص أيضا فيما إذا وطئ جارية زوجته وقد أحلتها له أنه يجلد مائة. 3261 - لحديث النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه رفع إليه رجل غشي جارية زوجته، فقال: لأقضين فيها بقضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة، وإن كانت لم تحلها لك رجمتك. رواه الخمسة، فاستثنى القاضي في الروايتين هاتين الصورتين. وقال: المذهب عندي أنه لا يزاد على عشر جلدات إلا في هاتين الصورتين، لقضية النص. وقال: هو في خلافه، وعامة أصحابه وغيرهم: إنه يؤخذ من هذا أن كل ما كان سببه الوطء كوطء الجارية المشتركة والمزوجة، والمحرمة برضاع، ووطء الأجنبية دون الفرج،

وإذا كان مع امرأة في لحاف، ووطء الأب جارية ابنه، ووطء البهيمة حيث قيل بالتعزير فيهما: يجوز أن يزاد فيه على عشر جلدات، ما لم يبلغ به الحد في ذلك الجنس، فيجوز أن يضرب الحر مائة، ولا ينفي، وبعضهم يقول مائة إلا سوطا، أو مائة بلا نفي. وبعض الأصحاب اعتمد نص أحمد كما تقدم، ففي المشتركة مائة إلا سوطا، وفي أمة الزوجة مائة، ونص أيضا فيما إذا وطئ دون الفرج أنه يضرب مائة. 3262 - وقد نقل عن الخلفاء الراشدين في رجل وامرأة وجدا في لحاف يضربان مائة، وفرع أبو البركات على هذا في أن العبد يضرب خمسين إلا سوطا، قال ابن حمدان: وقيل خمسون، ومن قال بهذا وهم الأكثرون قالوا: إن في ما عدا الوطء يجوز أن يزاد فيه على عشر جلدات، ولا يبلغ به أدنى الحدود. 3263 - أخذا بما روى صالح قال: حدثني أبي، ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن عطاء بن أبي مروان أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب النجاشي ثمانين، ثم أخرجه من الغد فضربه عشرين، وقال: هذا لتجريك على الله، وإفطارك في رمضان. قال

أبي: أذهب إليه، وظاهر كلام الخرقي أن جميع التعزيرات يجوز أن يزاد فيها على العشر، ولا يبلغ به أدنى الحدود، كذا فهم عنه القاضي وغيره. ثم أكثر الأصحاب يقولون: لا يبلغ بالحر أدنى حده وهو الأربعون أو الثمانون، ولا بالعبد أدنى حده، وهو عشرون أو أربعون. وقيل: لا يبلغ بكليهما حد العبد. وقال أبو محمد: إن كلام أحمد في وطء الأمة المشتركة ونحوها، وكلام الخرقي يحتمل أن لا يبلغ بالتعزير في الذنب حد جنسه، ويجوز أن يزيد على حد جنس آخر، وإلى هذا ميل أبي العباس، وهو أقعد من جهة الدليل. 3264 - لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا نقش على خاتمه، وأخذ من بيت المال، فضربه مائة، ثم ضربه في اليوم الثاني مائة، ثم ضربه في اليوم الثالث مائة، وهذا كله دون حد جنسه وهو القطع، وحديث النعمان لم يبلغ به الحد

الصيال

في جنسه، لأن حد واطئ جارية امرأته الرجم لإحصانه. وكذلك قصة عمر والخلفاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - في الأمة المشتركة، وفيمن وجد مع امرأة في لحاف، ويحمل حديث أبي بردة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - على أن أحدا لا يؤدب فوق عشرة أسواط، والتأديبات تكون في غير محرم، وقوله: «إلا في حد من حدود الله تعالى» فالمراد به في المحرمات التي حرمها الله سبحانه، كما في قوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، وذلك يشمل الحدود المقدرة وغيرها، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. [الصيال] [حكم دفع الصائل] قال: وإذا حمل عليه جمل صائل، فلم يقدر على الامتناع منه إلا بضربه، فضربه فقتله فلا ضمان عليه. ش: إذا صالت عليه بهيمة فلم يقدر على التخلص منها إلا بضربها، فله ذلك إجماعا، ولا ضمان عليه، لأنه حيوان جاز إتلافه، فلم يضمنه كالآدمي المكلف، ولأنه قتله لدفع شره، فأشبه العبد، وفارق المضطر إلى طعام الغير، حيث يضمنه فإن الطعام لم يلجئه إلى إتلافه، ولم يصدر منه ما يزيل عصمته. قال: ولو دخل رجل منزله بسلاح، فأمره بالخروج فلم يفعل، فله ضربه بأسهل ما يخرجه به، فإن علم أنه يخرج بضرب عصا لم يجز أن يضربه بحديدة. ش: إذا دخل رجل منزل غيره بغير إذنه فلصاحب المنزل

أمره بالخروج، لتعديه بالدخول، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] الآية. 3265 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي، قال: «فأنشده بالله» قال: فإن أبوا علي؟ قال: «فقاتل، فإن قتلت ففي الجنة، وإن قتلت ففي النار» رواه النسائي. فإن خرج بالأمر لم يكن له ضربه لظاهر الحديث، ولزوال تعديه وإن لم يخرج بالأمر فله ضربه، دفعا للضرر الحاصل له بتسليط الغير عليه. وللحديث، ويضربه بأسهل ما يعلم أنه يندفع به، لأن الزائد لا حاجة به إليه، إذ المقصود الدفع، ولهذا قلنا في البغاة لا يتبع مدبرهم، ولا يجاز على جريحهم، وقد أشار في الحديث إلى هذا حيث أمر بالإنشاد أولا، ويتفرع على هذا أنه إذا علم أنه يندفع بعصا لم يجز أن يضربه بحديدة، وكذلك لو غلب على ظنه أنه يندفع بقطع بعض أعضائه لم يكن له قتله، فلو قتله والحال هذه ضمنه، وكذلك لو ضربه فقطع يده فولى، لم يكن له ضربه ثانيا، فإن فعل فقطع رجله ضمنها فقط، وعلى هذا.

3266 - وقد يستشكل هذا بالحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» . والأمر باللسان أسهل على المنكر عليه من التغيير باليد بكسر أو إتلاف ونحو ذلك. 3267 - وقد روي أن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رأى لصا فأصلت عليه السيف، قال: فلو تركناه لقتله. وحمل أبو محمد فعل ابن عمر على قصد الترهيب، وقد يحمل على أنه خشي إن لم يبادره بذلك بادره اللص بالقتل. وفي هذه الصورة يجوز بدأته بالقتل. (تنبيه) الخرقي ذكر الحكم فيما إذا كان مع الداخل سلاح، وأبو محمد قال في المغني: وإن لم يكن معه سلاح، ولعل كلام الخرقي أصوب إذ المسألة مفروضة عند كثير من الأصحاب فيمن دخل متلصصا أو صائلا، والغالب من حال هذين أن معهما سلاحا، أما إن دخل إنسان على غير هاتين الحالتين، فظاهر كلام الأصحاب أنه لا يجرى

عليه هذا الحكم. نعم يؤمر بالخروج قطعا، فإن لم يخرج فينبغي أن يخرج بالشرط ونحو ذلك. قال: فإن آل الضرب إلى نفسه فلا شيء عليه. ش: يعني إذا آل الضرب إلى نفس الداخل فلا شيء على الضارب، لأنه تلف لدفع شره فلم يضمنه كالباغي. 3268 - وقد روي أن رجلا أضاف إنسانا من هذيل، فأراد امرأة على نفسها، فرمته بحجر، فقتلته فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: والله لا يودى أبدا. 3269 - وفي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - السابق في رواية مسلم قال: «يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار» . »

قال: وإن قتل صاحب الدار كان شهيدا. ش: لأنه قتل لدفع ظالم فكان شهيدا كالعادل يقتله الباغي، ولحديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 3270 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد» رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. . . 3271 - وقد روي من حديث بريدة رواه النسائي، ومن حديث

ضمان جناية الدواب وما أفسدته من الزروع

سعيد بن زيد رواه الترمذي، وأبو داود والنسائي، ولفظه: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد» . [ضمان جناية الدواب وما أفسدته من الزروع] قال: وما أفسدت البهائم بالليل من الزرع فهو مضمون على أهلها، وما أفسدت من ذلك نهارا لم يضمنوه. ش: كذا قال جماعة من الأصحاب، منهم القاضي في الجامع الصغير، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، وابن عقيل في التذكرة، وغيرهم. 3272 - لما «روى حرام بن محيصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطا فأفسدت فيه، فقضى نبي الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأن ما أفسدت المواشي بالليل مضمون على أهلها» . رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه. قال ابن عبد البر: هذا وإن كان مرسلا فهو مشهور، حدث به الأئمة الثقات، وتلقاه فقهاء

الحجاز بالقبول. ولأن عادة أهل المواشي إرسالها نهارا، وحفظها ليلا، وعادة أهل الحوائط حفظها نهارا لا ليلا، فإذا أتلفت ليلا فالتفريط من أهلها لتركهم حفظها، وإن أتلفت نهارا فالتفريط من أرباب الحوائط، لعدم حفظها، ومن التفريط منه الغرم عليه. وحكى أبو البركات رواية، وأوردها مذهبا، وقطع بها أبو الحسين في فروعه، أن الضمان إنما يجب على أرباب البهائم في الليل إذا لم يحفظوها عن الخروج فيه، لتفريطهم إذا، بخلاف ما إذا حفظوها فأفسدت، كما إذا انفلتت من الربط، أو سقط الحائط أو فتح اللص الباب ونحو ذلك، فخرجت فأفسدت فلا ضمان، لانتفاء التفريط ولعموم «العجماء

جبار» نعم في صورة ما إذا فتح الباب لص ونحوه الضمان على الفاتح، قاله في الكافي، واستثنى أبو البركات من عدم الضمان في النهار ما إذا أرسلت عمدا بقرب ما تفسده عادة، لقصد التعدي والحال هذه، ونحو هذا قول القاضي في موضع قال: المسألة عندي محمولة على موضع فيه مزارع ومراعٍ، أما القرى العامرة التي لا يرعى فيها إلا بين قراحين كساقية وطريق، وطرق زرع، فليس لصاحبها إرسالها بغير حافظ عن الزرع، فإن فعل فعليه الضمان لتفريطه. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على الزرع، فقد يوهم كلامه أن غير الزرع لا ضمان فيه على أربابها مطلقا، وصرح بذلك أبو محمد. 3273 - مستندا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «العجماء جبار» ، ولم يفرق القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وأبو البركات وغيرهم بين الزرع، وغيره، ويرشحه حديث ناقة البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فإن الحوائط البساتين. (تنبيه) : «العجماء» الدابة، «والجبار» الهدر الذي لا شيء فيه.

قال: وما جنت الدابة بيدها ضمن راكبها ما أصابت من نفس أو جرح أو مال، وكذلك إن قادها أو ساقها. ش: لإمكان حفظها والحال هذه عن الجناية، فإذا لم يحفظها الراكب أو السائق أو القائد فقد فرط، والمفرط عليه الضمان. 3274 - وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرجل جبار» رواه أبو داود، فمفهومه أن غير الرجل ليس بجبار، فيحمل على ما إذا كان معها راكب أو سائق أو قائد، وتحمل روايته في الصحيحين: «العجماء جرحها جبار» ، على ما إذا لم يكن معها أحد، وحكم ما أتلفته بفمها حكم ما أتلفته بيدها، وكلام الخرقي يشمل الليل والنهار وهو كذلك، وعلم من ذلك أن المسألة السابقة فيما إذا لم تكن في يد أحد.

قال: وما جنت برجلها فلا ضمان عليه. ش: يعني راكبها، وهذا إحدى الروايتين، وبه قطع الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، لعموم الحديث السابق. 3275 - وفي «رواية ذكرها رزين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى في الدابة تنفح برجلها أنه جبار» . (والثانية) عليه الضمان في الحال التي يضمن فيها اليد أو الفم، قياسا للرجل عليهما، وفصل أبو البركات فجعل وطأها يضمنه من معها من راكب أو سائق أو قائد، لإمكان حفظها إذا بخلاف نفحها ابتداء، فإنه لا يضمنه، لعدم إمكان حفظها، ونحو ذلك، قاله ابن البنا قال: إن نفحت برجلها وهو يسير عليها فلا ضمان، وإن كان سائقا لها ضمن ما جنت برجلها. واتفق الشيخان على أنه يضمن نفحها لكبحها باللجام ونحوه، قال أبو البركات: ولو أنه لمصلحته، لأنه السبب في جنايتها، ومن ثم قيل: إذا كان السبب من غيره كأن نخسها ونحو ذلك، فالضمان على ذلك الغير.

الحكم لو تصادم فارسان أو رجلان فمات الرجلان أو الدابتان

(تنبيه) : لو أوقفها في طريق فإنه يضمن جنايتها بيدها أو رجلها، وإن لم يكن معها، قاله ابن عقيل وابن البنا، إن كان الطريق ضيقا، وإن كان واسعا فروايتان، حكاهما ابن البنا. 3276 - ومنشأهما حديث النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وقف دابة في سبيل من سبل المسلمين، أو في سوق من أسواقهم، فأوطأت بيد أو رجل فهو ضامن» رواه الدارقطني، فهل يؤخذ بعمومه مطلقا، أو يحمل على ما إذا وقفها في طريق ضيق، أو حيث يضر بالمارة، لتعديه إذا بخلاف الطريق الواسع. [الحكم لو تصادم فارسان أو رجلان فمات الرجلان أو الدابتان] قال: وإذا تصادم الفارسان فماتت الدابتان ضمن كل واحد منهما قيمة دابة الآخر. ش: لأن كلا منهما ماتت دابة الآخر بصدمته، فكان عليه ضمانها كما لو أتلفها من غير صدم، وإن ماتت إحدى الدابتين فعلى الآخر قيمتها. قال: وإن كان أحدهما يسير والآخر واقفا فتلفت الدابتان، فعلى السائر قيمة دابة الواقف.

ش: هذا الذي أورده أبو البركات مذهبا، ونص عليه أحمد، قاله أبو محمد، لأن السائر والحال هذه هو الصادم المتلف، فوجب عليه الضمان، واختار أبو محمد أنه إن كان الواقف في طريق ضيق فلا ضمان على السائر، لتعدي الواقف إذا بخلاف السائر، ويشهد لهذا حديث النعمان وقد تقدم. ومقتضى كلام الخرقي أن الواقف لا يضمن السائر مطلقا، وهو منصوص أحمد، لأنه هو المتلف لنفسه أو ماله بصدمته، وقيل يضمنه مطلقا، لأنه لولاه ما تلف. وقيل: يضمنه مع ضيق الطريق، لتعديه بالوقوف إذا دون سعته، لعدم تعديه، وهو مختار أبي محمد، ومقتضى حديث النعمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قال: وإذا تصادم نفسان يمشيان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر، وفي مال كل واحد منهما عتق رقبة. ش: لأن كل واحد منهما مات من صدمة الآخر، ووجوب الدية على عاقلتيهما، لأن ذلك إما خطأ أو شبه عمد، لأنهما وإن تعمدا ذلك فالصدمة لا تقتل غالبا، ولا فرق بين البصيرين والأعميين، والبصير والأعمى والله أعلم. قال: وإذا وقعت السفينة المنحدرة على الصاعدة، فغرقتا فعلى المنحدرة قيمة السفينة الصاعدة، أو أرش ما نقصت إذا

أخرجت، إلا أن تكون المنحدرة غلبتها الريح فلم يقدر على ضبطها. ش: أما كون السفينة المنحدرة إذا وقعت على المصعدة على قيم المنحدرة قيمة السفينة المصعدة إن غرقت، أو أرش ما نقصت إن خرجت من الغرق، لأن المنحدرة تنزل عليها من علو فتكون بمنزلة السائر، والمصعدة بمنزلة الواقف، وأما كونه يستثنى من ذلك إذا غلب المنحدرة ريح فلم يقدر على ضبطها، لأنه والحال هذه لا ينسب للقيم تفريط ألبتة، بخلاف ما تقدم. ومقتضى كلام الخرقي أنه لو غرقت المنحدرة أنه لا شيء على قيم المصعدة، وهو كذلك كالسائر مع الواقف، نعم، يستثنى من ذلك إذا كان قيم المصعدة مفرطا بأن كان يمكنه العدول بسفينته، والمنحدر غير قادر ولا مفرط، فإن الضمان على المصعد، إناطة بالتفريط. . . ولهذه المسألة التفات إلى مسألة السائر مع الواقف، والله أعلم.

كتاب الجهاد

[كتاب الجهاد] ش: لا ريب في مشروعية الجهاد والحث عليه. 3277 - وقد روي عن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» متفق عليه. 3278 - وعن أبي عبس الحارثي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار» رواه البخاري والترمذي والنسائي.

3279 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» رواه أحمد والترمذي. 3280 - وعن ابن أبي أوفى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الجنة تحت ظلال السيوف» رواه أحمد والبخاري. . . 3281 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: «لا تستطيعونه» قال: فأعادوا عليه مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: «لا تستطيعونه» قال في الثالثة: «مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم بآيات الله، لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله» رواه مسلم.

حكم الجهاد

3282 - وللبخاري من رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة» مختصر. والأحاديث في فضله كثيرة جدا، وكيف لا وبه قيام الدين. [حكم الجهاد] قال: والجهاد فرض على الكفاية. ش: هذا قول عامة أهل العلم، لقول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] إلى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] الآية. وهذا يدل على أن القاعد بلا ضرر غير آثم مع جهاد غيره.

3283 - وفي الصحيحين عن البراء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما نزلت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله تعالى) قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ادعوا فلانا» فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف، فقال: اكتب (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) وخلف النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله أنا ضرير، فنزلت مكانها: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ} [النساء: 95] الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] الآية. » 3284 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] ، و {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة: 120] قال: نسختها {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] . . . رواه أبو داود. ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يبعث السرايا ويقيم هو وسائر أصحابه. وعلى هذا تحمل

الأوامر المطلقة؛ كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ} [البقرة: 216] ، وقوله: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة: 191] وقَوْله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] وقوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] ونحو ذلك. 3285 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا» رواه أبو داود. 3286 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم» رواه أبو داود والنسائي. 3287 - وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» رواه مسلم وغيره.

وابن المبارك يقول في هذا الحديث: نرى أن ذلك كان على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (تنبيه) : يتعين الجهاد في ثلاثة مواضع: (أحدها) إذا التقى الزحفان، وتقابل الصفان، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] ، وقَوْله تَعَالَى؛ {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} [الأنفال: 15] إلى قوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] . (الثاني) إذا استنفره الإمام، لقوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] إلى قوله: {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة: 39] . 3288 - وفي الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» . (الثالث)

إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم، والنفير إليهم، لأنهم في معنى حاضري الصف فتعين عليهم كما يتعين عليه لعموم: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41] الآية. . . ولم يذكر أبو محمد في الكافي والمقنع تعينه إلا في موضعين، إذا حضر الصف، وإذا حضر العدو بلدة، وكلام ابن المنجا يقتضي أن «حصر» بالصاد المهملة، لأنه قال: ولأن البلد إذا حصر قرب شبه من فيه بمن حضر الصف، وإنما هو بالمعجمة، فإن عبارته في الكافي والمغني كما تقدم. قال: إذا قام به قوم سقط عن الباقين. ش: هذا تفسير لفرض الكفاية، وهو يشترك وفرض العين أن الجميع مخاطبون به على الصحيح، وأن الكل إذا تركوه أثموا وقوتلوا عليه، كما في فرض العين سواء، ويخالفه في أنه إذا قام البعض به سقط عن الباقين، بخلاف فرض العين كالصلاة ونحوها، فإنه لا يسقط عن البعض بفعل البعض، قال أحمد في رواية حنبل: الغزو واجب على الناس كلهم، فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم، والفرض في ذلك موقوف على غلبة الظن، فإذا غلب على الظن أن الغير يقوم بذلك سقط

فضل الجهاد

عن الباقين، كما إذا كان ثم جند لهم ديوان لذلك، وفيهم كفاية، أو قوم أعدوا أنفسهم لذلك وفيهم منعة للقاء العدو، ونحو ذلك. وإن غلب على الظن أن لا قائم به وجب على كل أحد القيام به. (تنبيه) : إذا قام بفرض الكفاية طائفة، ثم قام به أخرى، فهل يقع فعل الثانية فرضا؟ فيه وجهان، وكلام ابن عقيل يقتضي أن فرضيته محل وفاق، وكلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - محتمل. [فضل الجهاد] قال: قال أبو عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أعلم شيئا من العمل بعد الفرائض أفضل من الجهاد. ش: روى ذلك عن أحمد جماعة، قال الأثرم: قال أحمد: لا نعلم شيئا من أبواب البر أفضل من السبيل. وقال في رواية الفضل بن زياد: ما من أعمال البر أفضل منه، وذلك لما تقدم في فضله، وقد تقدم حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «وقيل للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ما يعدل الجهاد في سبيل الله؟ قال: «لا تستطيعونه» . 3289 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «مر رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشعب فيه عيينة من ماء عذبة،

فأعجبته لطيبها، فقال: لو اعتزلت الناس فأقمت في هذا الشعب، ولن أفعل حتى أستأذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكر ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا تفعل، فإن مقام أحدكم يوما في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما، ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة» . 3290 - وعن المقدام بن معديكرب قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «للشهيد عند الله ست خصال، يغفر الله له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين من أقاربه» رواهما الترمذي، وقال في الثاني: حسن صحيح غريب.

3291 - وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: أي الناس أفضل؟ قال: «رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه» قال: ثم من؟ قال: «ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب، يعبد ربه ويدع الناس من شره» . » 3292 - وفيهما أيضا عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الحج المبرور» .» 3293 - وفيهما أيضا «عن عبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: «الصلاة على وقتها» قلت: ثم أي؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أي؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قال: حدثني بهن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولو استزدته لزادني» . 3294 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا

غزو البحر أفضل أم غزو البر

أخبركم بخير الناس؛ رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله» . . . رواه الترمذي وحسنه. 3295 - وعن النعمان بن بشير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. فأنزل الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} [التوبة: 19] إلى آخرها. رواه مسلم. ولأن فيه إعلاء كلمة الله سبحانه، وبذل المهجة، ونفعه يعم جميع المسلمين. [غزو البحر أفضل أم غزو البر] قال: وغزو البحر أفضل من غزو البر. 3296 - ش: روى أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن رسول

الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأطعمته، ثم جلست تفلي رأسه، فنام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «أناس من أمتي عرضوا على غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة، أو مثل الملوك على الأسرة» مختصر رواه مسلم. 3297 - وعن أم حرام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «المائد في البحر الذي يصيبه القيء له أجر شهيد، والغريق له أجر شهيدين» رواه أبو داود. 3298 - وفي حديث رواه ابن ماجه: «شهيد البحر مثل شهيد البر، والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر، وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله، وإن الله وكل ملك الموت بقبض

الغزو مع الإمام البر والفاجر

الأرواح، إلا شهيد البحر فإنه يتولى قبض أرواحهم، يغفر لشهداء البر الذنوب كلها إلا الدين، ويغفر لشهيد البحر الذنوب والدين» . وقد دل كلام الخرقي على مشروعية الغزو في البحر، وقد دل عليه ما تقدم، والله أعلم. [الغزو مع الإمام البر والفاجر] قال: ويغزى مع كل بر وفاجر. 3299 - ش: روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير، برا كان أو فاجرا» » مختصر. 3300 - وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاث من أصل الإيمان، الكف عمن قال لا إله إلا الله، لا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله، إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال، لا يبطله جور جائر، ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار» رواهما أبو داود.

(تنبيه) : قال أحمد: لا يعجبني أن يخرج مع الإمام أو القائد إذا عرف بالهزيمة وتضييع المسلمين، وإنما يغزو مع من له شفقة على المسلمين. فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر والغلول يغزى معه، إنما ذلك على نفسه. 3301 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» . قال: ويقاتل كل قوم من يليهم من العدو. ش: نص أحمد على ذلك، مستدلا بقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] الآية، وهذا إذا لم يكن ثم عذر، فإن كان ثم عذر بكون الأبعد أخوف، أو الأقرب مصالحا، ونحو ذلك، فلا بأس بتقديم الأبعد.

مدة الرباط في سبيل الله

[مدة الرباط في سبيل الله] قال: وتمام الرباط أربعون يوما. 3302 - ش: يروى هذا عن أبي هريرة وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 3303 - وروى أبو الشيخ في كتاب الثواب عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «تمام الرباط أربعون يوما» ، أما أقل الرباط فقال أحمد: يوم رباط، وليلة رباط، وساعة رباط. 3304 - وعن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل» رواه أحمد والنسائي والترمذي.

3305 - ولأحمد عنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها» . 3306 - وفي مسلم عن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان» .

إذن الوالدين في الجهاد

[إذن الوالدين في الجهاد] قال: وإذا كان أبواه مسلمين لم يجاهد تطوعا إلا بإذنهما. 3307 - ش: الأصل في ذلك ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستأذنه في الجهاد؟ قال: «أحي والداك» ؟ قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» » رواه الجماعة. 3308 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا من أهل اليمن هاجر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: «هل لك أحد باليمن» ؟ قال: أبواي. قال: «أذنا لك؟» قال: لا. قال: «فارجع إليهما فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد، وإلا فبرهما» » رواه أبو داود. 3309 - وعن معاوية بن جاهمة «أن جاهمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله أردت الغزو، وقد جئت

أستشيرك، فقال: «هل لك من أم» ؟ قال: نعم. قال: «فالزمها، فإن الجنة عند رجليها» » رواه النسائي. وهذا نص في المنع منه بدون إذنهما وجوازه بإذنهما. وقول الخرقي: مسلمين. وكذلك إذا كان أحدهما مسلما، إذ يجب بر الواحد منهما كما يجب برهما. وحديث جاهمة في أحدهما، وعموم كلام الخرقي يشمل وإن كانا رقيقين، ويؤيد ذلك عدم الاستفصال من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيل: لا يعتبر إذنهما إذا كانا رقيقين، وبه قطع أبو البركات، لعدم ولايتهما، أشبها المجنونين، ويخرج به ما إذا كانا كافرين، وهو كذلك، لأن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وغيره كانوا يجاهدون بدون إذن آبائهم، وقوله: تطوعا. المراد به إذا لم يتعين عليه الجهاد، وسماه تطوعا لأن فرض الكفاية له شبه بالتطوع، لسقوطه عن البعض بفعل البعض. ويخرج منه ما إذا تعين عليه، وقد صرح به حيث قال: وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لهما. قال: وإذا خوطب بالجهاد فلا إذن لأبويه. ش: أي إذا خوطب به على التعيين، لأنه والحال هذه تركه

معصية، ولا طاعة لأحد في معصية الله، وقد قال سبحانه وتعالى في حقهما: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] . 3310 - نزلت في سعد بن أبي وقاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت أمي حلفت أن لا تأكل ولا تشرب حتى أفارق محمدا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فأنزل الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} [لقمان: 15] الآية. قال: وكذلك كل الفرائض لا طاعة لهما في تركها. ش: كالحج، والصلاة في الجماعة، وطلب العلم الواجب، ونحو ذلك، لمساواتها للحج معنى، فتساويا

قتال أهل الكتاب والمجوس قبل الدعوة للإسلام

حكما وقد نص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - على الحج والصلاة في الجماعة، معللا بالفرضية. 3311 - وما أحسن ما قال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وسئل عن البر والعقوق، قال: البر أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما فيما أمراك به، ما لم يأمراك بمعصية الله، والعقوق أن تهجرهما وتحرمهما. [قتال أهل الكتاب والمجوس قبل الدعوة للإسلام] قال: ويقاتل أهل الكتاب والمجوس، ولا يدعون، لأن الدعوة قد بلغتهم. ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وعلته، وهو أن الدعوة قد بلغتهم، فلا حاجة إليها ثانيا. 3312 - وفي الصحيحين «عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب إلي: إنما كان ذلك في أول الإسلام، وقد أغار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على بني المصطلق وهم غارون، وأنعامهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث، حدثني به عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وكان في ذلك الجيش» .

دعوة عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا

[دعوة عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا] قال: وتدعى عبدة الأوثان قبل أن يحاربوا. 3313 - ش: لما «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: ما قاتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قوما قط إلا دعاهم» . رواه أحمد. 3314 - ولمسلم وغيره «من حديث بريدة قال: «إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو ثلاث خلال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم» وذكر الحديث إلى آخره. 3315 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتب إلى كسرى وقيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار يدعوهم

إلى الله تعالى» . رواه مسلم وليس هذا بالنجاشي الذي صلى عليه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهذا من الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - خرج على الغالب، إذ لو كان في عبدة الأوثان من بلغته الدعوة لجاز قتالهم من غير دعوة، ولو كان في أهل الكتاب ونحوهم من لم تبلغه الدعوة لدعوا قبل القتال، فالحكم منوط بالبلوغ وعدمه. قال أحمد: الدعوة قد بلغت وانتشرت، ولكن إن جاز أن يكون قوم خلف الروم وخلف الترك على هذه الصفة، لم يجز قتالهم قبل الدعوة، وعن أحمد ما يدل على أن اليوم لا يجب أن يدعى أحد، وأن الدعاء كان في ابتداء الإسلام. قال: كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يدعو إلى الإسلام قبل أن يحارب، حتى أظهر الله الدين وعلا الإسلام. ولا أعرف اليوم أحدا يدعى، قد بلغت الدعوة كل أحد، والروم قد بلغتهم الدعوة، وعلموا ما يراد منهم، وإنما كانت الدعوة في أول الإسلام، وإن دعا فلا بأس. وعلى هذا حديث

ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وإذًا تكون الدعوة مستحبة مطلقا. 3316 - وقد «روى سهل بن سعد أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر قال: «أين علي» ؟ فقيل: إنه يشتكي عينيه فأمر فدعي له فبصق في عينيه فبرئ مكانه حتى كأن لم يكن به شيء، فقال: نقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: «على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم» متفق عليه، وأهل خيبر كانت الدعوة قد بلغتهم. قال: ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. ش: أهل الكتاب هم اليهود والنصارى، ومن اتخذ التوراة والإنجيل كتابا، كالسامرة والأفرنج ونحوهم، والمجوس عباد الشمس والقمر، فهؤلاء يقاتلون على أحد شيئين الإسلام أو الجزية. . . وهذا والله أعلم اتفاق، وقد شهد له (أما

في أهل الكتاب) ومن دان بدينهم، فقوله سبحانه وتعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . 3317 - وعن ابن شهاب قال: أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران وكانوا نصارى. رواه أبو عبيد في الأموال. 3318 - (وأما في المجوس) فلما «روى بجالة بن عبدة قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية، عم الأحنف بن قيس، فأتى كتاب عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي رحم محرم من المجوس، ولم يكن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذها من مجوس هجر» . رواه البخاري وغيره. 3319 - وعن جعفر بن محمد عن أبيه «، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في

أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» رواه مالك في موطئه والشافعي في مسنده. 3320 - «وعن المغيرة بن شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال لعامل كسرى: أمرنا نبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية» ، رواه أحمد والبخاري. ومقتضى كلام الخرقي أن المجوس ليسوا أهل كتاب، لعطفهم على أهل الكتاب، والعطف يقتضي المغايرة، وهو كذلك، ويدل عليه قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» فدل على أنهم غيرهم. وقال الله سبحانه: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] فدل على أن الكتاب إنما أنزل على طائفتين فقط، وهم اليهود والنصارى، ومما يرشح ذلك توقف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أخذ الجزية منهم، ولو كان لهم كتاب لما توقف، لدخولهم في الذين أوتوا الكتاب، المأمور بأخذ الجزية منهم.

3321 - وما يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن لهم كتابا، فقال أبو عبيد: لا أحسبه محفوظا، ثم عموم كلام الخرقي يشمل أهل الكتاب والمجوس من العرب وغيرهم، وهو كذلك لما تقدم أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من أهل نجران وهم من العرب. 3322 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أكيدر دومة، فأخذوه فأتوا به، فحقن له دمه، وصالحه على الجزية» . رواه أبو

داود، وهو عربي من غسان. 3323 - ولا يغرنك ما روى أبو داود في المراسيل عن الحسن، قال: أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يقاتل العرب على الإسلام، ولا يقبل منهم غيره، وأمر أن يقاتل أهل الكتاب على الإسلام، فإن أبوا فالجزية؛ إذ مراسيل الحسن عند أهل العلم بالحديث من أضعفها، وقول الخرقي: حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. تبع فيه لفظ الآية. قال أبو الخطاب: يمتهنون عند أخذها، ويطال قيامهم، وتجر أيديهم. قال: ويقاتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا. ش: هذا هو المذهب المعروف، لعموم {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ونحو ذلك. وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» الحديث،

خرج من ذلك أهل الكتاب والمجوس بالآية الكريمة وبالحديث، فيبقى فيما عداه على العموم، ثم في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» دليل على أن أهل الكتاب هم المختصون ببذل الجزية وإلا فليس للتخصيص فائدة. ومما يرشح ذلك أيضا توقف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيهم حتى أخبره عبد الرحمن بما أخبره، ولو جاز أخذ الجزية من كل كافر لم يكن لتوقفه معنى. (وعن أحمد) رواية أخرى: يقبل من جميع الكفار، إلا عبدة الأوثان من العرب، لأنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق، فأقروا بالجزية كالمجوس. وقد دخل في كلام الخرقي أهل الصحف، كصحف إبراهيم وشيث ونحو ذلك، وهو المذهب بلا ريب، لعدم دخولهم في الكتاب إذا أطلق، ولهذا قال سبحانه: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156] الآية، ولأنها مواعظ، لا أحكام فيها، وقيل: يقر أهلها بالجزية، لأنه يصدق أنه نزل لهم كتاب.

قال: وواجب على الناس إذا جاء العدو أن ينفروا. ش: هذا أحد الصور الثلاث التي يتعين الجهاد فيها، وهو ما إذا نزل العدو بالبلد، وقد تقدم ذلك، والدليل عليه، ونزيد هنا بأنه لا يجوز لأحد التخلف إلا من يحتاج إليه لحفظ البلد، ومن يمنعه الأمير من الخروج، أو من لا قدرة له على الخروج أو القتال، ونحو ذلك. قال: المقل منهم والمكثر. ش: يعني أن العدو إذا نزل بالبلد وجب على كل أحد الخروج إليه، سواء كان غنيا يقدر على الزاد، أو فقيرا لا يقدر على ذلك، إذ العدو نازل على البلد، فلا حاجة إلى ذلك، فإن كان قريبا من البلد دون مسافة القصر اشترط الزاد، ولم تشترط الراحلة. قال: ولا يخرجون إلى العدو إلا بإذن الأمير، إلا أن يفجأهم عدو غالب يخافون كلبه، فلا يمكنهم أن يستأذنوه. ش: لا يجوز الخروج إلى العدو إلا بإذن الأمير، إذ أمر الحرب موكول إليه، وهو أعلم بكثرة العدو وقلته ومكامنه، فاتبع رأيه في ذلك، إلا أن يتعذر استئذانه، كطلوع عدو غالب عليهم بغتة، ويخافون شره إن استأذنوه فإن إذنه إذًا يسقط، ارتكابا لأدنى المفسدتين لدفع أعلاهما. 3324 - «وقد أغار الكفار على لقاح النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فصادفهم سلمة

دخول النساء مع المسلمين إلى أرض العدو

بن الأكوع خارجا من المدينة، فتبعهم فقاتلهم من غير إذن، فمدحه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال: «خير رجالنا سلمة بن الأكوع» وأعطاه سهم فارس وراجل» . (تنبيه) لا يكون الإذن العام كالنفير مثلا إذنا لمن منعه الإمام قبل ذلك. وقال: لا تصحبني، نص عليه أحمد. [دخول النساء مع المسلمين إلى أرض العدو] قال: ولا يدخل مع المسلمين من النساء إلى أرض العدو إلا امرأة طاعنة في السن، لسقي الماء ومعالجة الجرحى، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. ش: لا تدخل النساء مع المسلمين أرض العدو، حذارا من ظفر العدو بهن، واستحلال ما حرم الله منهن مع أنهن لسن من أهل القتال، إذ الغالب عليهن الجبن والخور. 3325 - وقد روى البخاري «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: استأذنت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الجهاد، فقال: «جهادكن الحج» ويجوز دخول المرأة الكبيرة لسقي الماء، ومعالجة الجرحى.

3326 - «لما روي عن أم عطية الأنصارية قالت: غزوت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبع غزوات، أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى» . 3327 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يغزو بأم سليم ونسوة معها من الأنصار، يسقين الماء، ويداوين الجرحى» . رواه أحمد ومسلم. وظاهر كلام الخرقي أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، وهو ظاهر كلام أبي البركات، قال: يلزم الإمام أن يمنع المخذل والمرجف والنساء. وجعله في المغني مكروها، وجوز للأمير خاصة أن يدخل بالمرأة الواحدة إذا احتاج إليها، كما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرع بين نسائه فتخرج معه من تقع عليها القرعة.

ما يجب على الجند تجاه الأمير في الجهاد

[ما يجب على الجند تجاه الأمير في الجهاد] قال: وإذا غزا الأمير بالناس لم يجز لأحد أن يتعلف ولا يحتطب، ولا يبارز علجا، ولا يخرج من العسكر ولا يحدث حدثا إلا بإذنه. ش: لأن الأمير أعرف بحال الناس وحال العدو، ومكامنهم وقوتهم، فإذا خرج إنسان أو بارز بغير إذنه لم يأمن أن يصادف كمينا للعدو فيأخذوه، أو يرحل الأمير بالمسلمين ويتركه فيهلك، أو يكون ضعيفا لا يقوى على المبارزة فيظفر العدو به، فتنكسر قلوب المسلمين. بخلاف ما إذا أذن، فإنه لا يأذن إلا إذا انتفت المفسدة، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك حيث قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62] الآية. وقد فهم من كلام الخرقي جواز المبارزة بإذن الأمير، وهو قول العامة، وقد شاع وذاع مبارزة الصحابة في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومن بعده. 3328 - قال قيس بن عباد: سمعت أبا ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يقسم قسما أن {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] أنها نزلت في الذين برزوا يوم بدر، حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة. . . متفق عليه.

3329 - وكذلك قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نزلت هذه الآية في مبارزتنا يوم بدر {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19] رواه البخاري. 3330 - ويروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: قتلت تسعة وتسعين رئيسا من المشركين مبارزة، سوى من شاركت فيه. وقد صرح الخرقي بأن المبارزة بدون إذن حرام، وظاهر كلام أبي محمد في المغني الكراهة، قال: ينبغي أن يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن. قال: ومن أعطي شيئا يستعين به في غزاته فما فضل فهو له، فإن لم يعط لغزاة بعينها رد ما فضل في الغزو. ش: من أعطي شيئا ليستعين به في الغزاة فله حالتان (إحداهما) أن يعطى لغزوة بعينها، فهذا إذا غزا وفضلت فضلة فهي له، لأن المقصود أن يغزو هذا المعين هذه الغزوة، والدفع على سبيل المعاونة، أشبه ما لو وصى أن يحج عنه فلان بألف.

3331 - وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إذا أعطى شيئا للغزو يقول لصاحبه: إذا بلغت وادي القرى فشأنك به. (الثانية) أن يعطى للغزو مطلقا، أو للنفقة في سبيل الله، فهذا إذا غزا وفضلت منه فضلة أنفقه في غزاة أخرى، لأن الدفع لجهة قربة، فلزم صرف جميعه فيها، كما إذا أوصى أن يحج عنه بألف، وهذه المسألة غير مسألة الدفع في الزكاة. قال: وإذا حمل الرجل على دابة فإذا رجع من الغزو فهي له، إلا أن يقول: هي حبيس فلا يجوز بيعها إلا أن تصير في حال لا تصلح للغزو، فتباع وتجعل في حبيس آخر. ش: إذا حمل الرجل على دابة للغزو، فإذا رجع من الغزو فالدابة له، كالنفقة المدفوعة إليه. 3332 - «وقال عمر: حملت على فرس في سبيل الله، فأضاعه صاحبه الذي كان عنده، فأردت أن أشتريه منه، وظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في

صدقته كالعائد في قيئه» متفق عليه. وهذا يدل على ملكه له، ولولا ذلك لما باعه، ولم يفرق الخرقي هنا بين أن يدفعه ليغزو عليه غزوة معينة، أو للغزو وأطلق، وقياس ما تقدم التفرقة، وهذا كله مع الإطلاق، أما لو صرح له بالعارية أو بالحبسية، ونحو ذلك فإنه يعمل على ذلك، ففي العارية يرد إلى مالكه، وفي الحبسية يجعل في الحبس، ولا يجوز بيعه، لما تقدم في الوقف من أنه لا يجوز بيع العين الموقوفة إلا أن يئول الفرس إلى حال لا يصلح للغزو، فإنه يباع ويجعل في حبيس آخر، وقد تقدم ذلك في الوقف. قال: وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله، أو كان في مكان لا يصلى فيه، جاز أن يباع ويصير في مكان ينتفع به. ش: يعني وكذلك المسجد إذا ضاق بأهله، أو كان في مكان لا ينتفع به، كأن ينتقل أهل القرية عنه، أو يخاف في الذهاب إليه من اللصوص ونحو ذلك، فإنه يجوز بيعه على المذهب المشهور، قال أحمد في رواية صالح: يحول المسجد خوفا من اللصوص، وإذا كان موضعه قذرا، قال القاضي: يعني إذا كان ذلك يمنع من الصلاة فيه. ونص على بيع عرصته في رواية عبد الله، وذلك لما تقدم في جواز بيع الوقف،

وبيع الفرس الحبيس، وقد بالغ أحمد في رواية أبي داود، فقال في مسجد أراد أهله رفعه من الأرض، ويجعل تحته سقاية وحوانيت، فامتنع بعضهم من ذلك، فقال: ينظر إلى قول أكثرهم، وقد أخذ القاضي بظاهر اللفظ، وأن أهل المسجد لهم رفعه، وجعل سقاية تحته، لحاجتهم إلى ذلك، وأبى ذلك ابن حامد، وحمل كلام أحمد على مسجد أراد أهله إنشاءه ابتداء، واختلفوا كيف يعمل، وفي هذا التأويل بعد من اللفظ. (وعن أحمد) رواية أخرى في أصل المسألة أن المساجد لا تباع، ولكن تنقل آلتها إلى مسجد آخر، لإمكان بقاء العين مع صرفه في جهة المسجدية، ولذلك قلنا على المذهب أنه إذا لم يمكن إنشاء مسجد بالثمن صرف في شقص مسجد. (تنبيه) يكون البائع لذلك الإمام أو نائبه، نص عليه، وكذلك المشتري بالثمن، وكذلك كل وقف لا ناظر له. قال: وكذلك الأضحية إذا أبدلها بخير منها. ش: سيأتي الكلام على الأضحية إن شاء الله تعالى في بابها.

ما يفعله الإمام بالأسرى

[ما يفعله الإمام بالأسرى] قال: وإذا سبى الإمام فهو مخير إن رأى قتلهم، وإن رأى من عليهم وأطلقهم بلا عوض، وإن رأى فادى بهم، وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم، وإن رأى استرقهم، أي ذلك رأى أن فيه نكاية للعدو وحظا للمسلمين فعل. ش: يخير الإمام في الأسرى بين أربعة أشياء في الجملة، القتل، والمن، والفداء، والاسترقاق، أما القتل فلعموم: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل رجال بني قريظة، وهم بين الستمائة والسبعمائة، وقتل يوم بدر عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وفيه تقول أخته:

ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق 3333 - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو سمعت شعرها لما قتلته» . (وأما المن والفداء) فلقوله سبحانه: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] . 3334 - «وعن أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه من جبال التنعيم، عند صلاة الفجر ليقتلوهم فأخذهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلما فأعتقهم، فأنزل الله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} [الفتح: 24] إلى آخر الآية» رواه مسلم وغيره.

3335 - وعن جبير بن مطعم «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» رواه البخاري وغيره. 3336 - وثبت في الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من على ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة» . 3337 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة.»

3338 - وعن «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم، بعثت زينب في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة لها كانت عند خديجة، أدخلتها بها على أبي العاص، قالت: فلما رآها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رق لها رقة شديدة. وقال: «إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها الذي لها» ؟ قالوا: نعم» . رواهما أبو داود. 3339 - وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل» ، رواه أحمد والترمذي وصححه. 3340 - (وأما الاسترقاق) فلما روي «عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لا أزال أحب بني تميم بعد ثلاث سمعتهن من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقولها فيهم، سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «هم أشد أمتي على الدجال» ، قال: وجاءت صدقاتهم

فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هذه صدقات قومنا» قال: وكان سبية منهم عند عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل» » متفق عليه. 3341 - وعنها أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: «لما قسم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبايا بني المصطلق، وقعت جويرية بنت الحارث في السبي لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها، وكانت حلوة ملاحة، فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك، فجئتك أستعينك على كتابتي؛ قال: «فهل لك في خير من ذلك» ؟ قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقضي كتابتك، وأتزوجك» ؟ قالت: نعم يا رسول الله، قال: «قد فعلت» قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تزوج جويرية ابنة الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها» . رواه أحمد واحتج به، وهذا التخيير تخيير مصلحة واجتهاد، لا تخيير تشهي فمتى رأى الإمام المصلحة في خصلة تعينت عليه، لأنه ناظر للمسلمين،

فوجب عليه فعل الأصلح كولي اليتيم، ومتى تردد فقال أبو محمد: القتل أولى. (وقوله) : فادى بهم، أي بمسلم، ولا نزاع في جواز ذلك، لما تقدم من حديث عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، (وقوله) : وإن رأى أطلقهم على مال يأخذه منهم. هذا هو المذهب المجزوم به عند القاضي، وأبي البركات، وأبي محمد في المغني، وغيرهم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فادى أهل بدر بالمال بلا ريب. وحكى أبو محمد في المقنع رواية أنه لا تجوز المفاداة بمال، وحكاها أبو الخطاب في هدايته وجها، لأن الله سبحانه عاتب نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك ونزل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى} [الأنفال: 67] الآية. 3342 - «قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لما أسروا الأسارى - يعني يوم بدر - قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «ما ترون في هؤلاء الأسارى» ؟ قال أبو بكر: يا نبي الله، هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية، فتكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ترى يا ابن الخطاب» ؟ قال: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكنني أرى أن تمكنني فنضرب أعناقهم، فتمكن

عليا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيبا لعمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبكي للذي عرض على أصحابك من أخذهم الفداء؛ لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة» شجرة قريبة منه، وأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] ، فأحل الله لهم الغنيمة» . رواه أحمد ومسلم. (وأجيب) بأن العقاب كان على أخذ المال ابتداء، ثم إن الله سبحانه أقر ما فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأحل لهم الغنيمة كما في الحديث. 3343 - قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لما كان يوم بدر وأخذ - يعني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الفداء - فأنزل الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] إلى

قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} [الأنفال: 68] من الفداء عذاب عظيم ثم أحل لهم الغنائم» . . . رواه أبو داود. إذا تقرر هذا، فاعلم أن هذا التخيير الذي ذكره الخرقي هو في الأحرار المقاتلة، أما الأرقاء فإن الإمام يخير بين قتلهم إن رأى ذلك لمضرة بقائهم ونحو ذلك، أو تركهم غنيمة كالبهائم، وأما النساء والصبيان فيصيرون أرقاء بنفس السبي، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن قتلهم، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسترقهم إذا سباهم، وأما من يحرم قتله غير النساء والصبيان - كالشيخ الفاني، والراهب، والزمن، والأعمى - فقال أبو محمد في الكافي والمغني: لا يجوز سبيهم لتحريم قتلهم، وعدم النفع في اقتنائهم. (وحكى عنه) ابن المنجا أنه قال في المغني: يجوز استرقاق الشيخ والزمن، ولعل هذا في المغني القديم، وحكى أيضا عن الأصحاب أنهم قالوا: كل من لا يقتل - كالأعمى ونحوه - يرق بنفس

السبي، وأما أبو البركات فجعل من فيه نفع من هؤلاء حكمه حكم النساء والصبيان، وظاهر كلامه أن من لا نفع فيه لا يسبى، وهذا هو أعدل الأقوال. (تنبيه) : إذا أسلم الأسير تعين رقه، نص عليه أحمد، وعليه الأصحاب، لأنه أسير يحرم قتله، أشبه المرأة، وقال أبو محمد في الكافي: يسقط القتل، ويخير فيه بين الثلاثة الأخر، لأن القتل امتنع لمانع، وهو «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» ونحوه، فيبقى ما عداه على الأصل. 3344 - وفي مسلم وغيره «عن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كانت ثقيف حلفاء لبني عقيل، فأسرت ثقيف رجلين من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأسر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلا من بني عقيل، وأصابوا معه العضباء، فأتى عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في الوثاق، فقال: يا محمد، فأتاه قال: «ما شأنك» فقال: بما أخذتني وأخذت سابقة الحاج؟ يعني العضباء، فقال: «أخذتك بجريرة حلفائك ثقيف» ثم انصرف عنه فناداه فقال: يا محمد يا محمد، قال: «ما شأنك» ؟ قال: إني مسلم. قال: «لو قلتها وأنت تملك أمرك أفلحت كل الفلاح» ثم انصرف عنه فناداه: يا محمد يا محمد، فأتاه فقال؛ «ما شأنك» ؟ فقال: إني جائع وظمآن فأسقني. قال: «هذه حاجتك» ففدي بعد

بالرجلين» . (وأجاب) القاضي بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحتمل أنه علم من حاله أنه كان منافقا، وفيه نظر، وأجاب أبو محمد في المغني بأن هذا لا ينافي رقه، فإن رقيق المسلمين يجوز أن يفادى بهم، ويعترض على هذا بأنه إذا صار رقيقا فكيف ترك موثوقا، ثم إنه إنما تجوز المفاداة برقيق المسلمين بإذنهم على قوله، وليس في الحديث إذن، ويجاب بأن ترك ذكر الإذن في الحديث لا يدل على عدمها، ثم لو ثبت أنه لم يستأذنهم فذلك لعلمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنهم راضون بما يفعله. قال: وسبيل من استرق منهم وما أخذ منهم على إطلاقهم سبيل تلك الغنيمة. ش: طريق من استرق منهم، والمال الذي أخذ منهم على إطلاقهم طريق الغنيمة، في أنه يخمس، ثم تقسم أربعة أخماسه بين الغانمين، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، لأنه مال غنمه المسلمون، أشبه الخيل والسلاح. قال: وإنما يكون له استرقاقهم، إذا كانوا من أهل الكتاب، أو مجوسا، فأما من سوى هؤلاء من العدو فلا يقبل من

بالغي رجالهم إلا الإسلام أو السيف أو الفداء. ش: يعني أن الذين يجري عليهم الاسترقاق هم الذين يقرون بالجزية، وهم أهل الكتاب والمجوس. أما من عداهم من مشركي العرب والعجم، فالمنصوص عن أحمد - في رواية محمد بن الحكم وإليه ميل أبي محمد، وهو الصواب - جواز استرقاقهم، واحتج بحديث جويرية وقد تقدم. 3345 - وقال: لا أذهب إلى قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ليس على عربي ملك. قد سبى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العرب في غير حديث. وأبو بكر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حين سبى بني ناجية. 3346 - ونقل عنه ابن منصور، وقد سئل عن قول عمر رضي

الله عنه في العربي يتزوج الأمة فولدت: لا يسترقون يفديهم. قال: لا أقول في العربي شيئا، قد اختلفوا فيه، فتوقف عن الجواب، فيخرج له قول بعدم الجواز، وابن حامد قال: في المسألة روايتان، وتبعه من بعده على ذلك، وكأن مستند المنع قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأنه لا يقر بالجزية فأشبه المرتد. وهذه الرواية هي اختيار الخرقي، والشريف، وابن عقيل في التذكرة والشيرازي. (تنبيه) : أبو محمد وأبو الخطاب ومن تبعهما يحكون الخلاف كما تقدم في غير أهل الكتاب والمجوس، وأبو البركات جعل مناط الخلاف فيمن لا يقر بالجزية، فعلى قوله نصارى بني تغلب يجري فيهم الخلاف، لعدم أخذ الجزية منهم، ويقرب من هذا قول القاضي في الروايتين، فإنه حكى الخلاف في مشركي العرب من أهل الكتاب، ثم حكى كلام الخرقي، وكلام أحمد في رواية محمد بن الحكم، فيمن لا كتاب له، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن لم يكن عنه نص بالمنع

حكم النفل من الغنيمة

إلا رواية ابن منصور، فليس له توقف إلا في العرب، وهو لم يعلل بعدم الإقرار بالجزية، حتى يؤخذ بعموم علته في كل من لا يقر بالجزية من العجم ونحوهم. [حكم النفل من الغنيمة] قال: وينفل الإمام ومن استخلفه الإمام - كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بدأته الربع بعد الخمس، وفي رجعته الثلث بعد الخمس. ش: النفل في اللغة الزيادة، ومنه نفل الصلاة، زيادة على فرضها، وقَوْله تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] فيعقوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - هو ولد ولد إبراهيم وهو زائد على ما طلبه إبراهيم من الولد. إذا تقرر هذا فينبغي للإمام أو نائب الإمام إذا غزا غزاة أن يبعث أمامه سرية تغير على العدو، ويجعل لها الربع بعد الخمس، أو تغير خلفه إذا رجع، ويشترط لها الثلث بعد الخمس، فما أتت به أخرج خمسه، وأعطى السرية ما جعل لها، ثم قسم الباقي على الجيش والسرية معا، اقتداء برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 3347 - فعن حبيب بن مسلمة «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفل الربع بعد الخمس في بدأته، ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته» ، رواه أحمد وأبو داود.

3348 - وعن عبادة بن الصامت مثله، ولم يقل: بعد الخمس. . . رواه أحمد والترمذي. 3349 - «وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش، والخمس في ذلك كله واجب» . 3350 - وعنه أيضا «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث سرية قبل نجد، فخرجت فيها فبلغت سهماننا اثني عشر بعيرا، ونفلنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعيرا بعيرا.» . . متفق عليهما، وهذا على سبيل الندبية، فللإمام أن لا ينفل شيئا، وأن ينفل ما دون ذلك، لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه قال: كان ينفل بعض من يبعث من السرايا، وقال: إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نفلهم بعيرا بعيرا، (وهل له) أن ينفل ذلك بلا شرط، وهو ظاهر كلام الخرقي، وظاهر الأحاديث، أو ليس له ذلك إلا بشرط، وهو الذي ذكره في المغني، لأن مع عدم الشرط تتعلق جميع حقوق الغازين بالمال، فلا يخص بعضهم ببعضه؟ على روايتين. (وهل له) أن يزيد على الثلث، لا يجوز له

استحقاق القاتل للسلب

بلا شرط رواية واحدة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه أنه زاد على ذلك، وهل له ذلك بالشرط، لأن زيادة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ونقصه يدل على أن ذلك غير مقدر، أو ليس له ذلك، وهو ظاهر كلام الخرقي، وبه قطع أبو محمد لما تقدم؟ على روايتين. قال: ويرد من نفل على من معه في السرية إذ بقوتهم صار إليه. ش: يعني أنه إذا جاء بعض السرية بشيء فنفله، ولم يأت بعضهم بشيء فلم ينفله، فإن من نفل يرد على من لم ينفل من السرية، لما علله الخرقي، من أن بقوة من لم ينفل صار المال لمن نفل. [استحقاق القاتل للسلب] قال: ومن قتل منا واحدا منهم مقبلا على القتال فله سلبه. ش: القاتل يستحق السلب في الجملة بلا ريب. 3351 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه» متفق عليه، رواه أبو قتادة وغيره، إذا علم هذا فيشترط لاستحقاقه شروط (أحدها) أن يغرر بنفسه في قتله في حال الحرب، بأن يقتله حال المبارزة، أو والحرب قائمة، ونحو ذلك، قال أحمد: السلب للقاتل إنما هو في المبارزة،

لا يكون في الهزيمة. 3352 - لما «روى ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نفلني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم بدر سيف أبي جهل وكان قتله» . رواه أبو داود. 3353 - وإنما أدرك ابن مسعود أبا جهل وبه رمق، فأجهز عليه، كذا روي معنى ذلك في أبي داود وغيره، ولو لم يكن التغرير شرطا لدفع إليه السلب أجمع، فعلى هذا لو رمى بسهم إلى صف الكفار، فقتل فلا سلب له، لعدم التغرير، وكذلك لو حمل جماعة من المسلمين على واحد فقتلوه، فلا سلب لهم، ويكون غنيمة لذلك، وكذلك إذا قتله اثنان على المنصوص في رواية حرب، (وعن القاضي) : هو لهما؛ لعموم «من قتل قتيلا» واستثنى أبو محمد ما إذا قتله اثنان، وكانت ضربة أحدهما أبلغ في قتله من الأخرى، أن السلب يكون له.

3354 - مستدلا «بأن أبا جهل ضربه معاذ بن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح، وأتيا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبراه، فقال: «أيكما قتله» ؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته. فقال: «هل مسحتما سيفيكما» ؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: «كلاكما قتله» وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح» ، متفق عليه. وهذا يحتمل أن يكون كما قاله أبو محمد، ويحتمل أنه نفل السلب لمعاذ بن عمرو وإن لم يستحقه، ويكون في هذا دليل على أن للإمام أن ينفل بعض الغانمين. ومن صور التغرير أن يكون المقتول مقبلا على القتال، فإن كان مدبرا فلا سلب له، لعدم التغرير في قتله، ولأن المسلمين قد كفوا شره بانهزامه، فأشبه ما لو كان مأسورا، واستثنى أبو محمد من ذلك ما إذا انهزم والحرب قائمة، فأدركه إنسان فقتله فإن سلبه له. 3355 - معتمدا على «أن سلمة بن الأكوع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قتل طليعة الكفار وهو منهزم، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل الرجل» ؟ قالوا: سلمة بن الأكوع، قال: «له سلبه أجمع» » ، والحديث في الصحيحين، ومن صوره أيضا أن يكون الكافر ممتنعا، فإن كان مثخنا بالجراح، وقتله إنسان فلا شيء له، لعدم التغرير، وقد تقدم حديث ابن مسعود في ذلك، (واعلم) أن جماعة من الأصحاب يجعلون كل واحد من هذه

شرطا، والذي يظهر أنها كلها ترجع إلى التغرير، والإشارة إلى هذا الشرط في قول الخرقي: مقبلا على القتال. (الشرط الثاني) أن يقتل الكافر، كما في الحديث «من قتل قتيلا» أو يثخنه بجراح يصيره في حكم المقتول، لأنه إذا صار في حكم الميت، ولو قطع أربعته، وقتله آخر فسلبه للقاطع، [لا أعلم فيه خلافا] ، لأنه الذي كفى المسلمين شره، وصيره في حكم الميت. وكذلك لو قطع يديه أو رجليه على وجه لذلك، وعلى آخر هو للقاتل، لعموم الحديث، وعلى ثالث هو غنيمة، كما لو اشترك اثنان في قتله، وكذلك الأقوال الثلاثة فيما إذا قطع يده ورجله، ثم قتله آخر، والمنصوص أنه غنيمة، وهو المقدم في التي قبلها أيضا، ولو قطع يدا أو رجلا ثم قتله آخر، فالسلب للقاتل على ما قطع به أبو البركات، وحكاه في المغني احتمالا، لأنه الذي كفى المسلمين شره، وقطع في الكافي بأنه غنيمة، كما لو اشترك اثنان في قتله، وهذا الذي أورده في المغني مذهبا، ولو أسره فقتله الإمام فلا شيء له من السلب، على المذهب المنصوص لعدم القتل. (الشرط الثالث) أن يكون القاتل ممن له حق في الغنيمة، فإن لم يكن له فيها حق أصلا، كالمخذل والمرجف، والمعين

على المسلمين فلا شيء له لأنه ليس من أهل الجهاد، وإن كان له فيها حق لكن إرضاخ لا إسهام، كالصبي والمرأة ونحوهما، فهل يستحق السلب إذا قتل، لعموم الحديث، وبه قطع أبو محمد، أو لا يستحقه، لأن السهم آكد منه للإجماع عليه وهو لا يستحقه، فالسلب أولى؟ (الشرط الرابع) أن يكون المقتول من المقاتلة، فإن كان شيخا فانيا، أو صبيا، أو امرأة، ونحو ذلك ممن قد نهي عن قتله، لم يستحق قاتله سلبه، بلا خلاف نعلمه، فإن قاتل هؤلاء فهل يستحق قاتلهم سلبهم، وبه قطع أبو محمد، لجواز قتلهم إذا، أو لا يستحق سدا للذريعة؟ فيه وجهان. (تنبيه) : قال أبو محمد: إذا بارز العبد بغير إذن مولاه لم يستحق السلب، لأنه عاص، وكذلك كل عاص كمن دخل بغير إذن، (وعن أحمد) فيمن دخل بغير إذن يؤخذ منه الخمس، وباقيه له كالغنيمة، قال: ويخرج في العبد مثله، قلت: قد يقال تعلق الحق بالغنيمة آكد للإجماع عليها، بخلاف السلب، فإن منهم من يجعله كالنفل، لا يستحق إلا بالشرط، ثم قال: إنه لا يشترط في استحقاق

السلب أن تكون المبارزة بإذن الإمام، لعموم الخبر، ولأن كل من قضي له بالسلب في عصره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل أنه أذن له في المبارزة، (قلت) : وهذا يتمشى على قوله، من أن الإذن في المبارزة مندوب إليه لا واجب، أما على ما يقوله الخرقي وغيره فلا. قال: غير مخموس. ش: يعني أن القاتل يستحق السلب إذا وجدت شروطه من غير تخميس، لعموم ما تقدم. 3356 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «من قتل رجلا فله سلبه» فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا، وأخذ أسلابهم» . رواه أحمد وأبو داود، «وفي لفظ: «من تفرد بدم رجل فقتله فله سلبه» قال: فجاء أبو طلحة بسلب أحد وعشرين رجلا» . رواه أحمد، وفيه دليل على أن من شرط استحقاق السلب التغرير في القتل، وأن المشتركين في القتل لا يستحقان السلب كما تقدم.

3357 - «وعن عوف بن مالك وخالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يخمس السلب» ، رواه أحمد وأبو داود. ومقتضى كلام الخرقي أن السلب يكون من أصل الغنيمة، لا من خمس الخمس، وهو كذلك لإطلاق الحديث. قال: قال ذلك الإمام أو لم يقل. ش: يعني أن السلب يستحقه القاتل، اشترط ذلك الإمام أو لم يشترطه، هذا هو المنصوص المشهور، والمذهب عند عامة الأصحاب، واختار أبو بكر أنه لا يستحقه إلا من شرطه له الإمام، وحكى ذلك غير واحد من الأصحاب رواية عن أحمد، وأخذها القاضي في الروايتين من قول أحمد في رواية حرب: ليس له ذلك إلا أن يكون قتاله بإذن الإمام، وهذا المأخذ لا يدل على المدعى، وبالجملة مدرك الخلاف في ذلك أن قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من قتل قتيلا فله سلبه» هل ذلك بيان لشرع عام، أو مختص بتلك

الواقعة، فلا يستحق إلا بالشرط، وكذلك حكم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالسلب للقاتلين، كسلمة بن الأكوع وغيره، هل ذلك لاستحقاقهم إياه مطلقا، أو من باب النفل؟ ويرجح الأول أن الأصل عدم التخصيص، وبيان الشرع العام، ثم إن أبا قتادة كان قد قتل القتيل قبل أن يقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا فله سلبه» » وأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سلبه، ولو كان إنما يستحق بالشرط لما أعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلب. 3358 - «قال أبو قتادة: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام حنين، فلما التقينا كانت للمسلمين جولة، قال: فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين، فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه، وضربته على حبل عاتقه، وأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: ما للناس؟ فقلت: أمر الله، ثم إن الناس رجعوا، وجلس رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه» قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال مثل ذلك، قال: فقمت فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، ثم قال ذلك الثالثة، فقمت فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما لك يا أبا قتادة» ؟ فقصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله، سلب ذلك القتيل عندي، فأرضه من حقه، فقال أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا ها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن

الله وعن رسوله فيعطيك سلبه. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صدق فأعطه إياه» » متفق عليه. لا يقال: فالرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دفع إليه السلب من غير بينة ولا يمين، لأنا نقول: قد شهد له واحد، وقد يكتفي في مثل ذلك بالواحد، لتعذر إقامة اثنين، أو يكون قبول الواحد إذا خاصا بأبي قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 3359 - وما في مسلم والمسند «عن عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قتل رجل من حمير رجلا من العدو، فأراد سلبه فمنعه خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان واليا عليهم، فأتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عوف بن مالك، فأخبره فقال لخالد: «ما منعك أن تعطيه سلبه» ؟ قال: استكثرته يا رسول الله، قال: «ادفعه إليه» فمر خالد بعوف فجر بردائه، ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسمعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستغضب فقال: «لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركون لي أمرائي، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استرعى إبلا وغنما، فرعاها ثم تحين سقيها، فأوردها حوضا، فشرعت فيه، فشربت صفوه وتركت كدره، فصفوه لكم، وكدره لهم» » فقيل: منع رسول الله

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السلب عقوبة، ويرد أنه عاقب من لم يذنب، والله أعلم. قال: والدابة وما عليها من آلتها من السلب، إذا قتل وهو عليها، وكذلك جميع ما عليه من الثياب والسلاح والحلي وإن كثر، فإن كان معه مال لم يكن من السلب، وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - قول آخر في الدابة أنها ليست من السلب. ش: في الدابة ثلاث روايات (إحداها) أنها من السلب مطلقا، أعني سواء كان يقاتل عليها أو ممسكا بعنانها. 3360 - أما إذا كان يقاتل عليها فلما «روى عوف بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجت مع زيد بن حارثة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في غزوة مؤتة، ورافقني مددي من أهل اليمن، ومضينا فلقينا جموع الروم، وفيهم رجل على فرس أشقر، عليه سرج مذهب، وسلاح مذهب، فجعل الرومي يغري بالمسلمين، فقعد له المددي خلف صخرة، فمر به الرومي فعرقب فرسه فخر وعلاه فقتله، وحاز فرسه وسلاحه، فلما فتح الله عز وجل للمسلمين، بعث إليه خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فأخذ منه السلب، قال عوف: فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بالسلب

للقاتل؟ قال: بلى، ولكني استكثرته. وذكر الحديث إلى آخره. . .» رواه أحمد وأبو داود، وأما إذا كان ماسكا بعنانها فلأنها معدة للقتال عليها، متمكن من ذلك، فأشبهت سيفه أو رمحه الذي في يده. (والثانية) : ليست من السلب مطلقا، اختارها أبو بكر، لأن السلب اسم لما كان على البدن، وذكر أبو عبد الله حديث عمرو بن معديكرب: فأخذ سواريه ومنطقته، يعني ولم يذكر فرسه. (والثالثة) : إن قاتل عليها فهي من السلب، لما تقدم في حديث عوف، وإن كان ممسكا بعنانها فليست من السلب، لما تقدم في دليل الثانية، خرج منه إذا كان يقاتل عليها، لفهم الصحابة، فيبقى ما عداه على مقتضى اللغة، وهذه الرواية أعدل الأقوال، وهي اختيار الخرقي، والخلال، ولا يغرنك قول أبي محمد في الكافي: إن اختيار الخلال الرواية الثانية كتلميذه، فإنه وهم، ولا نزاع أن التي في بيته أو مع غلامه أو مجنوبة ونحو ذلك لا تكون من السلب، وحيث حكم بالدابة أنها من السلب فكذلك ما عليها من آلتها، من سرج ولجام ونحو ذلك، لا ما كان محمولا عليها من دراهم

ونحو ذلك، إذا علم حكم الدابة، فالذي هو سلب عندنا بلا ريب ما كان على المقتول، من ثياب كعمامة، ودرع ومغفر ونحو ذلك، وسلاح كرمح وسيف، وسكين ونحو ذلك، وحلي كتاج وأسورة ونحوهما، لأن ذلك يدخل في اسم السلب. فشمله قول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل قتيلا فله سلبه» . 3361 - وفي حديث عمرو بن معديكرب أنه حمل على أسوار فطعنه فدق صلبه فصرعه، فنزل إليه فقطع يده، وأخذ سوارين كانا عليه، ويلمقا من ديباج وسيفا ومنطقة، فسلم ذلك له، فأما المال الذي معه في كمرانه أو خريطته فليس من السلب، وكذلك خيمته ورحله، ونحو ذلك مما ليس في يده، لأن ذلك لا يدخل في مسمى السلب، فلا يتناوله الحديث.

إعطاء الأمان للكفار

[إعطاء الأمان للكفار] قال: ومن أعطاهم الأمان منا من رجل أو امرأة أو عبد جاز أمانه. ش: يصح إعطاء الأمان للكفار في الجملة بالإجماع، فيحرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم، قال الله تعالى؛ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] وقد شاعت الأحاديث بذلك. 3362 - «قالت أم هانئ أخت علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: ذهبت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسلمت عليه فقال: «من هذه» ؟ فقلت: أنا أم هانئ بنت أبي طالب، فقال: «مرحبا بأم هانئ» ، فلما فرغ من غسله قام فصلى ثمان ركعات، ملتحفا في ثوب واحد، فلما انصرف قلت: يا رسول الله زعم ابن أمي علي أنه قاتل رجلا قد أجرته، فلان بن هبيرة، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» قالت أم هانئ: وذلك ضحى» . . . متفق عليه. 3363 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» . . . رواه البخاري والنسائي،

وقال) «من قتل قتيلا من أهل الذمة» . 3364 - وعن صفوان بن سليم، عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن آبائهم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من ظلم معاهدا أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة» رواه أبو داود. إذا تقرر هذا فيشترط لمعطي الأمان أن يكون (مسلما) ، ولهذا قال الخرقي: منا. فلا يصح أمان الكافر، وإن كان ذميا. 3365 - لما روى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم» رواه أحمد، وهو بعض حديث في الصحيح، فقيد ذلك بالمسلمين

(عاقلا) فلا يصح من مجنون، ولا طفل، ولا مغمى عليه، لأن كلامهم غير معتبر، وكذلك السكران، قاله أبو محمد، ويخرج فيه قول (مختارا) فلا يصح من مكره بلا ريب، وهل يشترط البلوغ؟ فيه روايتان (إحداهما) - وهي أنصهما وأشهرهما - لا يشترط، وبه قطع القاضي في الجامع الصغير، والشيرازي، والشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وأبو بكر، وقال: رواية واحدة، حاملا لرواية الاشتراط على غير المميز، وهو مقتضى كلام شيخه، وذلك لعموم الحديث، إذ هو من المسلمين. (والثانية) - ويحتملها كلام الخرقي - يشترط، لأنه غير مكلف، ولا يلزمه بقوله حكم، فلا يلزم غيره كالمجنون، فعلى الأولى من شرطه أن يكون عاقلا، قاله جماعة وبعضهم يقول: مميزا، وقيده الخلال بابن سبع، بشرط أن يعقل التخيير بين أبويه، (ولا فرق) بين الرجل والمرأة بالإجماع، لحديث أم هانئ. 3366 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن المرأة لتأخذ على القوم» يعني تجير على المسلمين، رواه الترمذي، (ولا بين) الحر والعبد، لعموم الحديث.

3367 - وقد جاء أن عبدا أعطى أمانا، فكتب بذلك إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: إن العبد المسلم رجل من المسلمين، ذمته ذمتهم، رواه سعيد ولا بين المطلق والأسير، والأجير والتاجر وغيرهم، لعموم الحديث. قال: ومن طلب الأمان ليفتح الحصن ففعل، فقال كل واحد: أنا المعطى، لم يقتل واحد منهم. ش: هذا منصوص أحمد في رواية أبي طالب وأبي داود، وإسحاق بن إبراهيم، في قوم في حصن استأمن عشرة، ونزلت عشرة عشرة، فيقولوا: لنا الأمان، فيؤمنون كلهم ولا يقتل واحد منهم، مع أن هذا والله أعلم اتفاق، لأنه اشتبه المباح بالمحرم فيما لا ضرورة إليه، فحرم الكل، كما لو اشتبهت أخته بأجنبية، أو ميتة بمذكاة، وهل يجوز استرقاقهم؟ فيه قولان (أحدهما) - وهو ظاهر كلامه السابق - لا، لما تقدم. (والثاني) : يقرع بينهم، فيخرج واحد بالقرعة، ويسترق الباقون، لأن الحق لواحد منهم،

فعين بالقرعة، كما لو أعتق عبدا من عبيده وأشكل، وهذا القول عزاه الشيخان وغيرهما إلى أبي بكر، والذي في الروايتين أن أبا بكر قال: من أصحابنا من قال: يقرع بينهم، وأن أبا بكر قال: ظاهر كلام أحمد أنه لا يسترق واحد منهم، وذكر كلام أحمد السابق. قال: ومن دخل إلى أرضهم من الغزاة فارسا، فنفق فرسه قبل إحراز الغنيمة، فله سهم راجل، ومن دخل راجلا فأحرزت الغنيمة وهو فارس، فله سهم فارس. ش: نفق فرسه أي مات، وكذلك يقال في كل دابة، ولا يقال لغيرها إلا مجازا، والاعتبار في الاستحقاق بحال الإحراز، فإن أحرزت الغنيمة وهو راجل فله سهم راجل، وإن أحرزت وهو فارس فله سهم فارس، ولا عبرة بما قبل ذلك، قال أحمد: أنا أرى أن كل من شهد الوقعة على أي حالة كان يعطى، إن كان فارسا ففارس، وإن كان راجلا فراجل. 3368 - لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الغنيمة لمن شهد الوقعة. اهـ - وذلك لأنها الحال التي يحصل فيها الاستيلاء الذي هو سبب الملك، فكان الاعتبار به بخلاف غيره.

سهم الفارس والراجل في الجهاد

[سهم الفارس والراجل في الجهاد] قال: فيعطى ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه. ش: أي يعطى الفارس ثلاثة أسهم، سهم له وسهمان لفرسه. 3369 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم للفرس سهمين، وللراجل سهما» . متفق عليه، وفي رواية لأبي داود وأحمد: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهما له وسهمين لفرسه» . 3370 - وعن ابن الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «ضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام خيبر للزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أربعة أسهم، سهم للزبير، وسهم لذي القربى بصفية بنت عبد المطلب أم الزبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وسهمان للفرس. .» . رواه النسائي. 3371 - «وعن أبي عمرة عن أبيه قال: أتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أربعة نفر، ومعنا فرس، فأعطى كل إنسان منا سهما، وأعطى

الفرس سهمين» ، رواه أحمد وأبو داود. 3372 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قسم لمائتي فرس بخيبر سهمين سهمين» . 3373 - وعن خالد الحذاء قال: لا يختلف فيه عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم» رواهما الدارقطني. 3374 - ولا يعارض الأحاديث هذه حديث مجمع بن حارثة الأنصاري قال: «قسمت خيبر على أهل الحديبية، فقسمها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ثمانية عشر سهما، فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهما» . . . رواه أبو داود، لترجحها عليه بكثرة رواتها، وأعلميتهم، وأصحيتها، ولذلك قال أبو داود: حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أصح، قال: وأتى الوهم في حديث مجمع أنه قال: ثلاثمائة فرس، وإنما كانوا مائتي فرس، ثم إن حديث مجمع يحتمل أنه أعطى الفارس

سهمين لفرسه، والراجل سهما، أي صاحبه، توفيقا بين الكل. قال: إلا أن تكون فرسه هجينا، فيكون له سهمان، له سهم، ولهجينه سهم. ش: الهجين الذي أبوه عربي وأمه غير عربية، وعكسه يسمى المقرف، فإن كان أبواه غير عربيين فهو البرذون، وهذه الثلاثة حكمها واحد، ولهذا قال أبو محمد: أراد الخرقي بالهجين ما عدا العربي، واختلف في هذه (هل يسهم لها) وهو المذهب، كما يسهم لمن أبواه عربيان بالإجماع. ويسمى العتيق، لدخولها في قَوْله تَعَالَى: والخيل وفي مسمى الفرس، وقد قال الصحابة: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفرس سهمين، (أو لا يسهم لها) لأنها لا تعمل عمل العراب، فأشبهت البغال، (أو إن أدركت) العراب أسهم لها مثل العربي، لأنها من الخيل، وقد عملت عمل العراب فأعطيت حكمها، وإن لم تدركها لم يسهم لها، لأنها كالبغال إذا؟ على ثلاث روايات، وحيث قلنا:

يسهم لها. فهل يسهم لها كما يسهم للعربي سهمان، وهو اختيار الخلال، لما تقدم من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم للفرس سهمين، وهذه من الأفراس، أو لا يسهم لها إلا سهم، وهو اختيار الخرقي، وأبي بكر، والقاضي، والشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وابن عقيل، وأبي محمد. 3375 - لما «روى مكحول أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطى الفرس العربي سهمين، وأعطى الهجين سهما» ، رواه سعيد، وأبو داود في المراسيل، وروي موصولا عن مكحول، عن زياد بن حارثة، عن حبيب بن سلمة، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال عبد الحق: والمرسل أصح. ولأن نفع العربي وأثره في الحرب أفضل، فيكون سهمه أرجح، وقول الصحابي: أسهم للفرس سهمين. حكاية واقعة عين لا عموم لها، فيحتمل أنه لم يكن في تلك الخيل غير عربي، وهو الظاهر، لقلتها عند العرب؟ على روايتين. قال: ولا يسهم لأكثر من فرسين. ش: يعني أن الرجل إذا كان معه أفراس، أسهم لفرسين منها فقط، لأن به إلى الثاني حاجة، لاحتمال موت الواحد، وضعفه بإدامة ركوبه. 3376 - وقد روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى

أبي عبيدة بن الجراح - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن يسهم للفرس سهمين، وللفرسين أربعة أسهم، ولصاحبهما سهم، فذلك خمسة أسهم، وما كان فوق الفرسين فهو جنائب. 3377 - وعن الأوزاعي «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسهم للخيل، وكان لا يسهم للرجل فوق فرسين، وإن كان معه عشرة أفراس» . . . رواهما سعيد في سننه. قال: ومن غزا على بعير وهو لا يقدر على غيره قسم له ولبعيره سهمان. ش: (هل يسهم) للبعير مطلقا، وهو منصوص أحمد في رواية مهنا، واختيار القاضي، وجمهور أصحابه، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل. وحكاه في الهداية عن الأصحاب، لقول الله تعالى: {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] ولأنه حيوان يسابق عليه بعوض، فجاز أن يسهم له كالخيل (أو لا يسهم له) وهو اختيار أبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد في المغني، وأورده في المقنع، وكذا أبو البركات مذهبا، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم ينقل عنه

أنه أسهم لغير الخيل، مع أنه لم تخل غزوة من غزواته من الإبل، ولو أسهم لها لنقل، ولأنه لا يتمكن صاحبه من الكر والفر عليه، فلم يسهم له كالبغل والحمار، (أو إن قدر) على غيره لم يسهم له، وإلا أسهم له لمكان العذر، وهو منصوص أحمد في رواية الميموني، واختيار الخرقي، وابن البنا، على ثلاثة أقوال، وحيث أسهم له فهل يسهم له سهم واحد، وهو قول العامة، لأنه لا يساوي الخيل قطعا، فاقتضى أن ينقص عنها، أو حكمه حكم الهجين، وهو مقتضى قول أبي محمد في المغني، وقول القاضي في الأحكام السلطانية؟ على قولين، وشرط أبو محمد في استحقاق السهم له أن يشهد الوقعة عليه، ويمكن القتال عليه، قال: فأما الإبل الثقيلة التي لا تصلح إلا للحمل فلا يستحق راكبها شيئا، لأنه أدنى حالا من الراجل. (تنبيه) : ما عدا الخيل والإبل من البغال والحمير والفيلة لا يسهم لها على المذهب المعروف، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وخلفاءه لم ينقل عنهم أنهم أسهموا لشيء من ذلك، وجعل القاضي في الأحكام السلطانية حكم الفيل حكم البعير، وهو حسن. قال: ومن مات بعد إحراز الغنيمة قام وارثه مقامه في قسمه.

الرضخ للعبد والمرأة في الجهاد

ش: لأنه والحال هذه ملك الحاضرون الوقعة الغنيمة واستحقوها، فالميت بعد ذلك مات عن حق، فيكون لورثته، لقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من مات عن حق فلورثته» . ومفهوم كلام الخرقي أنه لو مات قبل ذلك لا حق له، وهو كذلك، لعدم الملك. وهذا هو مناط المسألة، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. قال: ويعطى الراجل سهما. ش: هذا اتفاق والله أعلم، وقد استفاضت الأحاديث بذلك. [الرضخ للعبد والمرأة في الجهاد] قال: ويرضخ للمرأة والعبد. ش: الرضخ قال الجوهري: العطاء ليس بالكثير، والمراد هنا إعطاء شيء دون السهم من غير تقدير. 3378 - لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى، ويحذين من الغنيمة، وأما سهم فلا يضرب لهن» . 3379 - وعنه أيضا أنه كتب إلى نجدة الحروري: سألت عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا حضر الناس؟ وإنه لم يكن لهما سهم معلوم، إلا أن يأخذا من غنائم القوم، رواهما

أحمد ومسلم. 3380 - وعنه أيضا قال: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعطي المرأة والمملوك من الغنائم دون ما يصيب الجيش» . . . رواه أحمد. 3381 - وما روي عن الأوزاعي قال: «أسهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للصبيان بخيبر» ، رواه الترمذي. 3382 - وكذلك قول بعض الصحابيات - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ -: أسهم لنا في خيبر، كما أسهم للرجال. رواه أحمد وأبو داود

إعطاء الكافر من الغنيمة إذا قاتل مع المسلمين

محمولان إن صحا على الإرضاخ، وقولها: كما أسهم للرجال، أي أعطانا كما أعطى الرجال، فالتشبيه في الإعطاء، لا في القدر، وحكم الصبي المميز حكم العبد، يرضخ له كما يرضخ له، لتساويهما معنى، وهو كونهما ليسا من أهل القتال، فتساويا حكما. 3383 - وعن سعيد بن المسيب قال: كان الصبيان والعبيد يحذون من الغنيمة إذا حضروا الغزو في صدر هذه الأمة؛ والمدبر، والمكاتب، والمعلق عتقه بصفة كالقن، لأنهم عبيد، أما المعتق بعضه فقال أبو بكر: يرضخ له بقدر ما فيه من الرق، ويسهم له بقدر الحرية، لأن ذلك مما يتبعض، فأشبه الميراث. وظاهر كلام أحمد - على ما قال أبو محمد - أنه يرضخ له فقط، لعدم وجوب القتال عليه، ومن ثم قلنا في الخنثى المشكل أنه يرضخ له، ولأبي محمد احتمال أنه يعطى نصف سهم، ونصف رضخ كالميراث، قال: فإن انكشف حاله فتبين أنه رجل أعطي تمام السهم، لأنا تبينا أنه أخذ دون حقه. [إعطاء الكافر من الغنيمة إذا قاتل مع المسلمين] قال: ويسهم للكافر إذا غزا معنا. ش: هذا أشهر الروايتين عن أحمد، واختيار الخرقي، والخلال وصاحبه والقاضي، وجماعة من أصحابه الشريف، والشيرازي وابن عقيل وغيرهم. 3384 - لما روى الزهري «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أسهم لقوم من اليهود

قاتلوا معه.» رواه الترمذي وأبو داود في المراسيل، ولفظه: استعان بناس من اليهود فأسهم لهم، ولأن الكفر نقص في الدين، فلم يمنع السهم كالفسق، (والثانية) لا يسهم له، بل يرضخ له، لأنه من غير أهل الجهاد، فأشبه المرأة والعبد، وقد يمنع من هذا لمخاطبته بالفروع على الصحيح. وقول الخرقي: غزا معنا. لم يشترط أن يكون بإذن الإمام، وشرط ذلك الشيخان، وأبو الخطاب، لأنه غير مأمون، فأشبه المخذل، وكون المشهور أنه يسهم له، مع أن المشهور فيما أظن أنه لا يستعان به، قد يتناقض. قال: وإذا غزا العبد على فرس لسيده، قسم للفرس وكان للسيد، ويرضخ للعبد.

ش: أما الرضخ للعبد فلما تقدم، وأما القسم للفرس فلأنه فرس حضر الوقعة، وقوتل عليه، فاستحق السهم، كما لو كان السيد راكبه، وفارق فرس الصبي ونحوه حيث لا يستحق السهم، لأن الفرس له، فإذا لم يستحق السهم لنفسه فلفرسه أولى، والعبد الفرس لغيره، وكأن الخرقي أشار إلى هذا التعليل بقوله: وكان للسيد، وإلا فالرضخ الذي يدفع للعبد هو للسيد. قال: وإذا أحرزت الغنيمة لم يكن فيها لمن جاءهم مددا أو هربا من أسر حظ. ش: هذا يعتمد أصلا، وهو أن الغنيمة تملك بالإحراز على ظاهر كلام الخرقي، لأن به يحصل تمام الاستيلاء، فعلى هذا إذا جاء مدد بعد ذلك، أو انفلت أسير فلا شيء له، لأنه حصل بعد ملك الغنيمة. وإن وجد قبل ذلك شاركهم (وعن القاضي) أن الغنيمة تملك بانقضاء الحرب، وإن لم تحرز، وهو الذي اعتمده أبو البركات في محرره، لأنها إذا حصل الاستيلاء عليها، فملكت كسائر المباحات، فعلى هذا إذا جاء المدد أو الأسير بعد انقضاء الحرب فلا شيء له وإن لم تحرز الغنيمة. 3385 - وقد روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبان بن سعيد بن العاص على سرية من المدينة

قبل نجد، فقدم أبان بن سعيد وأصحابه على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخيبر، بعد أن فتحها وإن حزم خيلهم ليف، قال أبان: اقسم لنا يا رسول الله، قال أبو هريرة فقلت: لا تقسم لهم يا رسول الله. فقال أبان: وأنت بهذا يا وبر متحدر من رأس ضأن. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجلس يا أبان» ولم يقسم لهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - رواه أبو داود، والبخاري تعليقا، وهذا ظاهره أنه بعد الإحراز. 3386 - وما «جاء عن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قدمنا فوافقنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين افتتح خيبر، فأسهم لنا؛ أو قال: أعطانا منها شيئا؛ وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلا أصحاب سفينتنا، مع جعفر وأصحابه، قسم لهم معهم» . محمول على أنهم

إعطاء الطليعة والجاسوس والرسول من الغنيمة

قدموا وقت الفتح، قبل الإحراز، أو أن هذا كان خاصا بهم. [إعطاء الطليعة والجاسوس والرسول من الغنيمة] قال: ومن بعثه الأمير لمصلحة الجيش فلم يحضر الوقعة أسهم له. ش: وذلك كالطليعة والجاسوس والرسول. 3387 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام - يعني يوم بدر - فقال: «إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله، وأنا أبايع له» فضرب له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بسهم، ولم يضرب لأحد غاب غيره» ، رواه أبو داود. 3388 - وعنه أيضا قال: أما «تغيب عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكانت مريضة، فقال له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لك أجر رجل وسهمه» رواه أحمد والبخاري والترمذي وصححه، ولأنه في مصلحتهم، فأشبه السرية مع الجيش. [التفريق بين الوالد وولده والوالدة وولدها في السبي] قال: وإذا سبوا لم يفرق بين الوالد وولده، ولا بين الوالدة وولدها. ش: يعني لا يفرق بينهم في القسم.

3389 - أما بين الوالدة وولدها فلما روي عن أبي أيوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من فرق بين الوالدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة» رواه أحمد والترمذي. 3390 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه فرق بين والدة وولدها، فنهاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن ذلك، ورد البيع» . رواه أبو داود، مع أن هذا إجماع فيها مع ولدها الطفل، وأما بين الوالد وولده فلأنه أحد الأبوين فأشبه الأم، ولما سيأتي في الأخوين، وإذا منع التفريق بين الأخوين فبين الأب وولده أولى، والله أعلم. قال: والجد في ذلك كالأب، والجدة كالأم. ش: لأنه إذا منع التفريق بين الأخوين فبين الجد وابن ابنه والجدة وابن ابنها أولى، ويقال من الأعز من الولد وولد الولد، ولأنهما يقومان مقام الأبوين في الحضانة، والميراث، والنفقة، فكذلك في تحريم التفريق، ولا فرق بين الجد والجدة من قبل الأب والأم، ولا بين الجد الأعلى والأدنى، لأن للجميع ولاية.

قال: ولا يفرق بين أخوين ولا أختين. 3391 - ش: لما روي «عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أبيع غلامين أخوين، فبعتهما وفرقت بينهما، فذكرت ذلك له فقال: «أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعا» رواه أحمد. وفي «رواية: وهبني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غلامين أخوين، فبعت أحدهما، فقال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما فعل غلامك» ؟ فأخبرته، فقال: «رده» » رواه الترمذي وابن ماجه. وظاهر كلام الخرقي أنه يجوز التفريق بين سائر الأقارب عدا من تقدم، وهو الذي نصبه أبو محمد في المغني للخلاف، إذ الأصل حل البيع، خرج منه من تقدم، فمن عداه يبقى على مقتضى الأصل، وقال عامة الأصحاب - وتبعهم أبو محمد في كتابه الصغير -: لا يفرق بين كل ذي رحم محرم، قياسا على الإخوة، ولا نزاع في جواز التفريق بين سائر الأقارب عدا ذي الرحم المحرم، كما يجوز التفريق بين الأم وابنتها من الرضاع، لعدم النص في ذلك، وامتناع القياس على

المنصوص لقوته، وحيث منع التفريق (فهل ذلك مطلقا) وإن حصل البلوغ. وهو ظاهر إطلاق الخرقي، وإطلاق الأحاديث السابقة (أو يجوز) ذلك بعد البلوغ. 3391 - م - لما روى «سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أمره علينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فغزونا فزارة، فلما دنونا من الماء أمرنا أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فعرسنا، فلما صلينا الصبح أمرنا أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فشنينا الغارة، فقتلنا على الماء من قتلنا، قال: فنظرت إلى عنق من الناس فيه الذرية والنساء نحو الجبل، وأنا أعدو في أثرهم، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل، فرميت بسهم فوقع بينهم وبين الجبل، قال: فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، وفيهم امرأة من فزارة، عليها قشع من أدم، ومعها ابنة لها من أحسن العرب، قال: فنفلني أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ابنتها، فلم أكشف لها ثوبا حتى قدمت المدينة، ثم بت فلم أكشف لها ثوبا، قال: فلقيني النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في السوق، فقال: «يا سلمة هب لي المرأة» فقلت: يا رسول الله لقد أعجبتني، وما كشفت لها ثوبا، فسكت وتركني، حتى إذا كان من الغد لقيني في السوق فقال: «يا سلمة هب لي المرأة، لله أبوك» فقلت: هي لك يا رسول الله، قال: فبعث بها إلى أهل مكة وفي أيديهم أسارى من المسلمين، ففداهم بتلك المرأة» ، رواه أحمد ومسلم وأبو داود.

(تنبيه) : والتفريق الممنوع منه التفريق في الملك، سواء كان ذلك بالبيع أو بالهبة، أو بغير ذلك إلا في العتق، وافتداء الأسرى، وكذلك إذا اشترى أمة فحملت عنده وولدت، ثم اطلع على عيب فأراد رد الأم وإمساك الولد، قاله جماعة من الأصحاب، وخالفهم الشيخان وهو الصواب، فقالا: يتعين هنا الأرش لتعذر التفرقة. قال: ومن اشترى منهم وهم مجتمعون، فتبين أن لا نسب بينهم رد إلى المقسم الفضل الذي فيه بالتفريق. ش: إذا اشترى إنسان من لا يجوز التفريق بينهم، أو حصلوا في سهمه، ثم تبين أن لا نسب بينهم، رد الفضل الذي فيهم على المغنم، أو على الذي اشترى منه، لأن قيمتهم تزيد بذلك وتنقص، لكونهما نسيبين، وصار هذا كما لو اشترى شيئا فبان معيبا، فإنه يرجع بالأرش، كذلك هنا، يرجع عليه بالزيادة (واعلم) أن الخرقي لم يذكر إلا أنه يرد الفضل، وتبعه على ذلك أبو محمد في المغني والكافي، والقياس أنه يخير بين الرد أو رد الفضل، والله أعلم. قال: ومن سبي من أطفالهم منفردا، أو مع أحد أبويه فهو مسلم، ومن سبي مع أبويه كان على دينهما. ش: من سبي من أطفال الكفار منفردا عن أبويه حكم بإسلامه إجماعا، لانقطاع تبعيته عنهما الذي صار بها كافرا،

حكم ما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم فأدركه صاحبه قبل القسمة

وإن سبي معهما فهو باق على دينهما في قول العامة، لبقاء التبعية. 3392 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» الحديث وقد تقدم، فهنا الأبوان باقيان، فهو باق على كفره، وفي التي قبلها قد عدما، فيصير على أصل الفطرة، وإن سبي مع أحدهما (فهل يحكم) بإسلامه، لانقطاع تبعيته عن مجموع الأبوين، إذ تبعيته لهما معلقة بوجودهما، وتغليبا للسابي والدار، وهو الذي قطع به أبو محمد، (أو لا يحكم) بإسلامه، لأنه قد ثبتت له التبعية، فلا تنقطع إلا بانعدامهما؟ على روايتين. (تنبيه) المميز كالطفل على المنصوص، وقيل بل كالبالغ، فلا يحكم بإسلامه حتى يسلم بنفسه. [حكم ما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم فأدركه صاحبه قبل القسمة] قال: وما أخذه أهل الحرب من أموال المسلمين وعبيدهم، فأدركه صاحبه قبل القسمة فهو أحق به. 3393 - ش: لما روى نافع أن عبدا لابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أبق فلحق بالروم، فظهر عليه خالد فرده إلى عبد الله وأن فرسا لعبد الله غار فظهروا عليه، فرده إلى عبد الله؛ رواه البخاري وأبو داود. قال البخاري: وقال في رواية في الفرس: على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولأبي داود في العبد

في رواية قال: فرده عليه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يقسم. 3394 - ولحديث العضباء ناقة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 3395 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من وجد ماله في الفيء قبل أن يقسم فهو له» رواه الدارقطني، ولكنه ضعيف. 3396 - وعن رجاء بن حيوة أن أبا عبيدة كتب إلى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: فيما أحرز المشركون من المسلمين، ثم

ظهر المسلمون عليهم بعد؟ قال: ومن وجد ماله بعينه فهو أحق به ما لم يقسم، رواه سعيد. قال: فإن أدركه مقسوما فهو أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى إذا قسم فلا حق له فيه بحال. ش: (الرواية الأولى) نص عليها في رواية إسحاق بن إبراهيم، جمعا بين الحقين، إذ حق مالكه تعلق به قبل القسمة، فلما قسم أو بيع، إن قيل: إنه يأخذه بغير شيء. أفضى إلى ضياع حق الآخذ له، وإن قلنا: لا يأخذه أصلا أفضى إلى ضياع حقه، فقلنا: يرجع فيه، ويغرم القيمة أو الثمن جميعا، إعمالا للحقين ما أمكن. 3397 - ويروى «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن رجلا وجد بعيرا له في المغنم، وقد كان المشركون أصابوه قبل ذلك، فسأل عنه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن وجدته قبل أن يقسم فهو لك، وإن وجدته قد قسم أخذته بالثمن إن شئت» ذكره ابن حزم أو ابن عدي، لكنه من رواية الحسن بن عمارة وهو متروك، وروي أيضا من حديث مسلمة بن علي، وإسماعيل بن عياش وهما ضعيفان.

(والرواية الثانية) رواها عنه جماعة، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 3398 - وعنه أيضا أنه كتب إلى السائب: أيما رجل من المسلمين أصاب رقيقه أو متاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما قسم فلا سبيل إليه. 3399 - وعن سلمان بن ربيعة: إذا قسم فلا حق له فيه. رواهما سعيد. ولأن الأصل أن صاحبه لا يرجع فيه بحال، لأنه مال انتقل إلى المسلمين من أموال الكفار، فكان غنيمة كبقية أموالهم، خرج منه ما قبل القسمة لقضية النص، ولعدم تعلق حق معين به، فما عداه يبقى على مقتضى الأصل.

وقول الخرقي: أحق به بالثمن الذي ابتاعه من المغنم، يحتمل أنه يريد إذا اشتراه مشتر من المغنم بثمن، فصاحبه أحق به بذلك الثمن، ويحتمل أن يريد إذا حسب عليه بثمن، أي بقيمة فصاحبه أحق به بذلك، والأول أظهر في كلامه، وبالجملة الخلاف في كلتي الصورتين، وأبو البركات يحكي رواية ثالثة: أن في المقسوم لا حق له، وفي المشترى يأخذه بالثمن، وقال: إنه المشهور عن الإمام. واعلم أن هذا الذي ذكره الخرقي يستدعي أصلا، وهو أن الكفار يملكون أموال المسلمين في الجملة، وإلا إذا لم يملكوها فلا فرق بين قبل القسم وبعده، وهذا هو المشهور، وعليه تجري عامة نصوص الإمام، واختار أبو الخطاب في تعليقه أنهم لا يملكونها، وقال: إنه ظاهر كلام أحمد، وتوجيه القولين، والتفريع عليهما له محل آخر، ومن المتأخرين من قال: إن الخلاف في الملك مبني على الخلاف في تكليف الكفار بالفروع، وليس بجيد، فإنه لا ريب أن المشهور ثم تكليفهم بها، والمشهور الحكم بملكهم هنا، ثم إنه لا نزاع أن الحربي لا يجري عليه حكم الإسلام في زناه وسرقته وقتله ونحو ذلك، إنما فائدة ذلك العقاب في الآخرة، وإذا قلنا يملكونها فهل ذلك بمجرد القهر والغلبة، أو لا بد مع ذلك من الحوز إلى ديارهم، وهو اختيار القاضي في روايتيه؟ فيه روايتان.

قال: ومن قطع من مواتهم حجرا أو عودا، أو صاد حوتا أو ظبيا، رده على سائر الجيش إذا استغنى عن أكله والمنفعة به. ش: ملخصه أن من أصاب من مباح دار الحرب شيئا له قيمة فهو غنيمة. 3400 - لما «روي عن أبي الجويرية قال: أصبت جرة حمراء فيها دنانير، في إمارة معاوية، في أرض الروم، قال: وعلينا رجل من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من بني سليم، يقال له معن بن يزيد، فأتيته بها فقسمها بين المسلمين، وأعطاني مثل ما أعطى رجلا منهم، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا نفل إلا بعد الخمس» لأعطيتك. قال: ثم أخذ يعرض علي من نصيبه فأبيت» . رواه أحمد وأبو داود، ولأنه أخذ بقوة المسلمين، فكان غنيمة كالمأخوذ منهم، وإن كان المأخوذ لا قيمة له، كالأقلام والأحجار فهو لآخذه، وإن صار له قيمة بعد ذلك بنقله ومعالجته، نص عليه أحمد، وقاله الشيخان اعتبارا بحاله الراهنة، وهذا يدخل في كلام الخرقي، وشرط الرد في المغنم أن يستغني عن أكله

والمنفعة به، لأنه لو وجد طعاما مملوكا لهم كان له أكله إذا احتاج إليه، فالمباح أولى. قال: ومن تعلف فضلا عما يحتاج إليه رده على المسلمين. ش: إذا تعلف الإنسان من دار الحرب علفا، فله أن يعلف دابته بغير إذن. 3401 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه، رواه البخاري. 3402 - «وعنه أيضا أن جيشا غنموا في زمان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طعاما وعسلا، فلم يؤخذ منه الخمس» . رواه أبو داود. 3403 - «وعن عبد الله بن مغفل قال: أصبت جرابا من شحم يوم خيبر، فالتزمته فقلت لا أعطي اليوم من هذا شيئا، فالتفت فإذا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مبتسما» . رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي، وحكم علف دوابنا حكم طعامنا، بجامع

أن الحاجة قد تدعو إليهما، إذ الحمل فيه مشقة، وكذلك الشراء من دار الحرب، فاقتضت الحكمة إباحة ذلك توسعة على الناس، ورفعا للحرج والمشقة، ومن ثم إذا كان معه فهد أو كلب لم يكن له إطعامه، لأن هذا يراد للتفريج، فلا حاجة إليه في الغزو، فإن تعلف فضلا عما يحتاج إليه رد الفاضل، لأن المقتضي للجواز في الأصل الحاجة ، فإذا انتفت انتفى الجواز، وإذا يرد الفاضل على المسلمين، إما في المغنم وإما لبعض الجيش، فيصير ذلك كالواجد له ابتداء، وحكم الطعام حكم العلف إذا أخذ طعاما له أن يأكل منه، والأحاديث إنما وردت فيه، فإن أخذ أكثر مما يحتاج إليه رد الفاضل. 3404 - وقد روى ابن أبي أوفى قال: أصبنا طعاما يوم خيبر، فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينطلق. رواه أبو داود. (تنبيهان) : «أحدهما» الاحتياج هنا أن يكون به حاجة إلى مثله في الجملة، وإن كان مما يمكنه أن يستغني، فلو أصاب طعاما أو علفا وعنده مثل ذلك، كان له أكله، وعلف دوابه، وإمساك ما عنده، هذا مقتضى كلام أبي محمد، وهو حسن، ونظير الحاجة هنا نظير الحاجة إلى الضبة كما تقدم. (الثاني) قد تقدم للخرقي وغيره من الأصحاب

أنه لا يجوز التعلف إلا بإذن الأمير. وقالوا هنا: من أخذ علفا له أن يعلف دوابه منه بغير إذن، وهذا يشمل ما إذا تعلف بإذن وبغير إذن، وأبلغ من هذا أن في كلام أبي محمد ما يقتضي أن له ذلك وإن نهاه الإمام، قال: إذا دخل الغزاة دار الحرب فلهم أن يأكلوا ما وجدوا من الطعام ويعلفوا دوابهم. 3405 - وقال الزهري: لا يؤخذ إلا بإذن الإمام، وقال سليمان بن موسى: لا يتركه إلا أن ينهى عنه الإمام، وهذا يقتضي أنه ينتفع بذلك وإن نهى عنه الإمام، لا يقال تحمل هذه المسألة على ما إذا وجد علفا، وثم على ما إذا تعلف، أي خرج لطلب العلف، لأن الخرقي قال هنا: تعلف كما قال ثم. قال: فإن باعه رد ثمنه في المقسم. ش: أي إذا باع شيئا من العلف رد ثمنه في المغنم، كذا قال الشيخان وغيرهما. 3406 - لما روى سعيد في سننه أن صاحب جيش الشام كتب إلى

عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنا أصبنا أرضا كثيرة الطعام والعلف، وكرهت أن أتقدم في شيء من ذلك، فكتب إليه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دع الناس يعلفون ويأكلون، فمن باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس الله، وسهام المسلمين. ولأن له فيه حقا فصح بيعه، كما إذا تحجر مواتا، وفرق القاضي، وتبعه أبو محمد في الكافي، فقال: إن باعه لغير غاز فالبيع باطل، لأنه باع مال الغنيمة بغير إذن، وإذا يرد المبيع إن كان باقيا، أو قيمته أو ثمنه إن كان أكثر - إن كان تالفا، وإن باعه لغاز فلا يخلو إما أن يبيعه بطعام أو علف مما له الانتفاع به، أو بغير لك. (فالأول) ليس بيعا في الحقيقة، إنما دفع إليه مباحا، وأخذ مثله، فلكل منهما الانتفاع بما صار إليه، ويصير أحق به لثبوت يده عليه، ويتفرع على هذا أنه لو باع صاعا بصاعين، أو افترقا قبل القبض جاز إذ لا بيع، وإن أقرضه إياه فقبضه فهو أحق به، ولا يلزمه إيفاؤه، فإن وفاه أو رده إليه عادت يده كما كانت، (والثاني) لا يصح البيع أيضا، ويصير المشتري أحق به، استنادا لليد، ولا ثمن عليه، حتى لو أخذ منه رد إليه.

مشاركة الجيش وسراياه في الغنيمة

[مشاركة الجيش وسراياه في الغنيمة] قال: ويشارك الجيش سراياه فيما غنمت وتشاركه فيما غنم. ش: يعني أن الجيش إذا دخل دار الحرب، فخرجت منه سرية أو أكثر، فإذا غنم الجيش شاركته السرية، وإن غنمت السرية شاركها الجيش، بعد أن يدفع إليها نفلها كما تقدم. 3407 - لما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «المسلمون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، ويرد مشدهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم» » رواه أبو داود، وقال أحمد في رواية أبي طالب قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السرية ترد على العسكر، والعسكر يرد على السرية» . قال: ومن فضل معه من الطعام، فأدخله البلد، طرحه في مقسم تلك الغنيمة، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى: مباح له أكله إذا كان يسيرا.

ش: الرواية الأولى نص عليها في رواية ابن إبراهيم، واختارها الخلال وصاحبه والقاضي وأبو الخطاب في خلافيهما، للاستغناء عنه، وإذا يزول المقتضي للإمساك. (والثانية) نص عليها في رواية أبي طالب في الطبخة والطبختين من اللحم، والعليقة والعليقتين من الشعير، يدخله طرسوس، لا بأس به، لأن اليسير مما تجري المسامحة فيه. 3408 - وقد قال الأوزاعي: أدركت الناس يقدمون بالقديد، فيهديه بعضهم إلى بعض، لا ينكره إمام ولا عامل ولا جماعة. 3409 - وعن القاسم مولى عبد الرحمن، عن بعض أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: كنا نأكل الجزر في الغزو ولا نقسمه، حتى إن كنا لنرجع إلى رحالنا وأخرجتنا منه مملوءة. رواه أبو داود، وهذه واقعة عين، لأنه يحمل إلى رحالهم وهم مسافرون، ولا نزاع في وجوب رد الكثير، إذ المسامحة لم

تجربه، بخلاف الكثير، ولأن المبيح الحاجة، وفي الكثير قد بينا أن لا حاجة به إليه. قال: وإذا اشترى المسلم أسيرا من أيدي العدو، لزم الأسير أن يؤدي إليه ما اشتراه به. ش: لأن الأسير يجب عليه فداء نفسه، ليخرج من حكم الكفار، فإذا ناب عنه غيره في ذلك وجب عليه قضاؤه، كما لو قضى الحاكم عنه حقا امتنع من أدائه. 3410 - وقد روى سعيد في سننه بسنده عن الشعبي قال: أغار أهل ماه وأهل جلولاء على العرب، فأصابوا سبايا من سبايا العرب، فكتب السائب بن الأقرع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سبايا المسلمين ورقيقهم ومتاعهم، قد اشتراه التجار من أهل ماه، فكتب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أيما رجل أصاب رقيقه ومتاعه بعينه فهو أحق به من غيره، وإن أصابه في أيدي التجار بعدما قسم فلا سبيل إليه، وأيما حر اشتراه التجار فإنه يرد إليهم رءوس أموالهم، فإن الحر لا يباع ولا يشترى؛ ولم يفرق الخرقي بين أن يكون ذلك بإذن الأمير

أو بغير إذنه، وصرح به غيره، ولم يجروا فيه رواية الضمان. وقول الخرقي: إذا اشترى المسلم، خرج مخرج الغالب، وإلا لو اشترى الأسير ذمي كان الحكم كذلك. قال: وإذا سبى المشركون من يؤدي إلينا الجزية، ثم قدر عليهم ردوا إلى ما كانوا عليه ولم يسترقوا. ش: أهل الحرب إذا استولوا على أهل ذمتنا، ثم قدر عليهم وجب ردهم إلى ذمتهم، فلا يجوز استرقاقهم، لبقاء ذمتهم، وانتفاء ما يوجب نقضها، وهذا - والله أعلم - اتفاق. قال: وما أخذه العدو منهم من رقيق أو مال رد إليهم إذا علم به قبل أن يقسم. ش: يعني أن حكم أموالهم حكم أموال المسلمين، على ما تقدم شرحه. 3411 - قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا، وأموالهم كأموالنا، فيدفع إليه قبل القسمة

حكم الأكل من الغنيمة

وفيما بعدها على الخلاف. قال: ويفادى بهم بعد أن يفادى بالمسلمين. ش: ظاهر كلام الخرقي أنه يجب فداؤهم وإن لم يكونوا في معونتنا، وتبعه على ذلك أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في المغني، لأنا التزمنا حفظهم بمعاهدتهم، فلزمنا القتال دونهم، فإذا عجزنا عن ذلك وأمكننا تخليصهم، لزمنا ذلك كالمسلمين، والمنصوص عن أحمد، واختيار القاضي أنه إنما يجب فداؤهم إذا استعان بهم الإمام، لأن أسرهم إذا كان لمعنى من جهته، وحيث وجب فداؤهم فإنه يبدأ بفداء المسلمين قبلهم، إذ حرمة المسلمين أعظم، وهو بصدد أن يفتن عن دينه الحق، بخلاف الذمي، وقد فهم من كلام الخرقي أنه يجب فداء المسلم، وهو كذلك. 3412 - «وقد فادى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -. 3413 - وفي الحديث: «أطعموا الجائع، وعودوا المرضى، وفكوا العاني» أي الأسير. [حكم الأكل من الغنيمة] قال: وإذا حاز الأمير المغانم، ووكل بها من يحفظها، لم يجز أن يؤكل منها إلا أن تدعو الضرورة بأن لا يجدوا ما يأكلون. ش: هذا تقييد للمسألة السابقة، وهو أن من أخذ من دار الحرب طعاما أو علفا، فله أكله وعلف دابته منه بغير

إذن، بشرط أن لا يحوز الإمام المغانم، أما إذا حازها ووكل بها من يحفظها، فإنه لا يجوز لأحد أخذ شيء منه إلا لضرورة على المنصوص، واختيار أبي محمد، لأنها قبل ذلك بمنزلة المباحات، فإذا فعل فيها ذلك قوي ملك المسلمين فيها، ولا فرق في ذلك بين دار الحرب ودار الإسلام، وجوز القاضي في المجرد الأكل منها في دار الحرب مطلقا لأن دار الحرب مظنة الحاجة، بخلاف دار الإسلام. قال: ومن اشترى من المغنم في بلاد الروم، فتغلب عليه العدو، لم يكن عليه شيء، وإن كان قد أخذ منه الثمن رد إليه. ش: إذا باع الإمام بعض الغنيمة لمصلحة قبل قسمها، أو قسمها فباع بعضهم بعضا وتقابضا، ثم غلب العدو على المشتري فأخذه، فهل هو (من ضمان البائع) وهو اختيار الخرقي، لعدم كمال القبض، إذ الغنيمة في دار الحرب على خطر من العدو، لتشوف أنفسهم إليها، فأشبهت التمر المبيع على رؤوس النخل إذا تلف قبل الجذاذ. أو (من ضمان المشتري) وهو المشهور عن أحمد، واختيار الخلال وصاحبه، والقاضي، لأنه مال مقبوض، أبيح لمشتريه التصرف فيه، فكان ضمانه عليه، كما لو أحرز إلى دار الإسلام، ولأن نماءه للمشتري، فكان ضمانه عليه، لقوله

- عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الخراج بالضمان؟» . على روايتين، وقيد أبو محمد الخلاف بما إذا لم يحصل تفريط من المشتري، أما إن حصل منه تفريط، كأن خرج بما اشتراه من العسكر ونحو ذلك، فإن ضمانه عليه بلا خلاف. ثم إن الخرقي إنما ذكر ذلك فيما اشتري من المغنم، وكذلك الشيخان وأبو الخطاب، ونصوص أحمد أيضا إنما وردت في ذلك، فعلى هذا ما اشتري من غير الغنيمة يكون ضمانه على المشتري بلا نزاع، والقاضي ترجم المسألة في روايتيه فيما إذا تبايع نفسان في دار الحرب وتقابضا، ثم غلب المشركون على المبيع فأخذوه. وعلل رواية أن الضمان على البائع بأنه إذا كانت حال خوف فالقبض غير حاصل، بدليل ما لو ابتاع شيئا في دار الإسلام، وسلمه في موضع فيه قطاع الطريق، لم يكن ذلك قبضا صحيحا، ويتلف من ضمان البائع، كذلك هنا، وهذه الترجمة والتعليل يشمل الغنيمة وغيرها. وهنا شيء آخر وهو أن القاضي والشيخين إنما حكوا الخلاف بعد القبض، ومقتضى هذا أن قبل القبض

تحريق العدو بالنار وقطع الشجر وقتل الدواب في الجهاد

يكون ذلك من ضمان البائع. رواية واحدة. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض للقبض، فقد يقال: إن كلامه محمول على ما قبل القبض، والذي أخذ منه القاضي في روايتيه مذهب الخرقي، وهو رواية أبي طالب، ظاهرها كذلك، فإنه قال: إذا اشتروا الغنيمة في أرض العدو، ثم غلبوا عليها، لا يؤخذ منهم الثمن، لأنه لم يسلم لهم ما اشتروه، وعلى هذا يرتفع الخلاف، ويكون قبل القبض من مال البائع، وبعده من مال المشتري. وأبو الخطاب ترجم المسألة بما إذا وقع بعد لزوم البيع، وقد فهم من كلام الخرقي أنه يجوز قسم الغنيمة وتبايعها في دار الحرب، وهو كذلك. [تحريق العدو بالنار وقطع الشجر وقتل الدواب في الجهاد] قال: وإذا حورب العدو لم يحرقوا بالنار. ش: أي لا يرموا بالنار ونحو ذلك، (وهو إحدى الروايتين) ، وبها قطع أبو محمد في المغني. 3414 - لما روى «أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: بعثنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعث فقال: «إن وجدتم فلانا وفلانا - لرجلين من قريش - فأحرقوهما بالنار» . ثم قال حين أردنا الخروج: «إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانا وفلانا، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن وجدتموهما فاقتلوهما» » . رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي وصححه. 3415 - وفي الصحيح أيضا من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا يعذب بالنار إلا رب

النار» . ويستثنى من ذلك إذا لم يقدر عليهم إلا بذلك، ارتكابا لأدنى المفسدتين لدرء أعلاهما، ولهذا جاز رمي المسلم المتترس به إذا خيف على المسلمين، وكذلك إذا كانوا يفعلون ذلك بنا نفعل بهم، لينتهوا عن ذلك، ولعموم: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ، وقَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، ونحو ذلك. 3416 - وعلى هذا يحمل ما روي عن أسامة بن زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: بعثني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قرية يقال لها أبنى فقال: «أيتها صباحا ثم حرق» . رواه أحمد وأبو داود،

ويحمل ذلك على أنه كان قبل النهي عن التحريق. (والرواية الثانية) : يجوز رميهم بالنار، لحديث أسامة. 3417 - ولما روى سعيد بإسناده عن صفوان بن عمرو وحريز بن عثمان، أن جنادة بن أبي أمية الأزدي، وعبد الله بن قيس الفزاري، وغيرهما من ولاة البحر ومن بعدهم، كانوا يرمون العدو من الروم وغيرهم بالنار، ويحرقونهم هؤلاء لهؤلاء، وهؤلاء لهؤلاء. قال عبد الله بن قيس: ولم يزل أمراء المسلمين على ذلك. ويحمل ما تقدم على ما إذا صاروا في قبضتنا، فإنه لا نزاع أنهم لا يحرقون، ويستثنى من ذلك على هذه الرواية ما إذا كان تحريقهم يضر بالمسلمين، فإنه لا يفعل بلا ريب. قال: ولم يغرقوا النخل. 3418 - ش: لما روي عن يحيى بن سعيد، أن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث جيوشا إلى الشام، فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان، وكان يزيد أمير ربع من تلك الأرباع، فقال: إني موصيك بعشر خلال: لا تقتلوا امرأة، ولا

صبيا، ولا كبيرا هرما، ولا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخربن عامرا، ولا تغرقن شاة، ولا بعيرا إلا لمأكله، ولا تغرقن نخلا، ولا تحرقه، ولا تغلل، ولا تجبن. رواه مالك في الموطأ. 3419 - وروي عن مكحول قال: «أوصى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثم قال: «إذا غزوت - فذكر أشياء قال: - ولا تحرقن نخلا، ولا تغرقنه، ولا تؤذين مؤمنا» » . 3420 - وعن القاسم مولى عبد الرحمن، قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وذكر نحوه: - «ولا تحرقن نخيلا ولا تغرقها، ولا تقطع شجرة ثمر، ولا تقتلن بهيمة ليست لك بها حاجة، واتق أذى المؤمن» . رواهما أبو داود في المراسيل. 3421 - ولعموم نهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل النحل، وقتل شيء

من الحيوان صبرا، وحكم تغريقه حكم قتله. قال: ولا تعقر شاة ولا دابة إلا لأكل لا بد لهم منه. ش: أما عقر ذلك وإتلافه لغير الأكل فلا يخلو إما أن يكون في الحرب، أو في غيرها، فإن كان في الحرب فإنه يجوز بلا خلاف، قاله أبو محمد، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، إذ قتل بهائمهم مما يتوصل به إلى قتلهم وهزيمتهم، وهو المراد كيف ما أمكن. ولهذا جاز قتل نسائهم وصبيانهم في البيات، بخلاف ما إذا قدر عليهم منفردين، وقد تقدم حديث المددي الذي عقر فرس الرومي، وإن كان في غير حال الحرب لم يجز، لما تقدم في وصية أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولنهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل الحيوان صبرا، واختار أبو محمد جواز ذلك إن كان مما يستعين به الكفار في القتال، كالخيل، بشرط أن يعجز المسلمون عن سياقته وأخذه، لأنه

يحرم إيصال ذلك إلى الكفار بالبيع ونحوه، فتركه لهم بلا عوض أولى بالتحريم، ومال أبو العباس إلى الجواز على سبيل المقابلة، كما سيأتي في الزرع، وأما العقر للأكل فإن لم يكن بد من ذلك فيباح بلا خلاف. إذ ذلك يبيح مال المعصوم، فالكافر أولى، وإن لم تكن الحاجة داعية إلى ذلك فإن كان الحيوان لا يراد إلا للأكل كالدجاج والحمام، وسائر الطيور، فهذا كالطعام في قول الجميع، قاله أبو محمد، وإن كان مما يحتاج إليه في القتال كالخيل، لم يبح ذبحه للأكل في قولهم جميعا، قاله أبو محمد أيضا. وإن كان قد تقدم أنه هو يبيح عقر هذا لغير الأكل بشرطه فللأكل أولى، وإن كان غير ذلك كالبقر والغنم ونحوهما لم يبح في قول الخرقي وغيره. 3422 - لما «روي عن رجل من الأنصار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد، وأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي، إذ جاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يمشي على قوسه، فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب، ثم قال: «إن النهبة ليست بأحل من الميتة، أو إن الميتة ليست بأحل من النهبة» . رواه أبو داود. وقال القاضي: ظاهر كلام أحمد إباحة ذلك، وهو اختيار أبي محمد، لظاهر ما تقدم

عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقياسا لذلك على الطعام، وأبو البركات قال: لا يعقر إلا لأكل يحتاج إليه، فيحتمل أن يكون كقول الخرقي، ويحتمل أن يكون أعم، واستثنى أبو محمد من قول الخرقي أن يأذن الإمام في ذلك. 3423 - لما روى عطية بن قيس قال: كنا إذا خرجنا في سرية فأصبنا غنما نادى منادي الإمام: ألا من أراد أن يتناول شيئا من هذه الغنم فليتناول، إنا لا نستطيع سياقها. رواه سعيد. قال: ولا يقطع شجرهم، ولا يحرق زرعهم إلا أن يكونوا يفعلون ذلك في بلدنا، فنفعل بهم ذلك لينتهوا. ش: حرق الشجر والزرع ينقسم ثلاثة أقسام، (أحدها) : يجوز بلا خلاف على ما قال أبو محمد، وهو ما إذا كانوا يفعلون ذلك بنا فنفعل ذلك بهم لينتهوا، ولما تقدم، أو لا يقدر عليهم إلا بذلك، كالذي يقرب من حصونهم، ويمنع من قتالهم، أو يستترون به من المسلمين ونحو ذلك، قال أبو محمد: أو يحتاج إلى قطعه لتوسعة طريق، أو تمكن من قتال أو سد بثق أو إصلاح طريق، أو ستارة منجنيق، ونحو ذلك.

(القسم الثاني) : ما يضر بالمسلمين قطعه، لكونهم ينتفعون ببقائه للعلف أو الاستظلال، أو أكل الثمرة، أو لكون العادة لم تجر بذلك بيننا وبين عدونا، فإذا فعلناه بهم فعلوه بنا، فلا يجوز دفعا للضرر المنفي شرعا. (القسم الثالث) : ما عدا هذين، وهو ما لا ضرر فيه ولا نفع سوى غيظ الكفار والإضرار بهم، فهذا فيه روايتان. (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي وأبي الخطاب -: لا يجوز، لما تقدم في وصية أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وحديث القاسم. (والثانية) - وهي أظهر -: يجوز، لما تقدم في حديث أسامة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 3424 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قطع نخل بني النضير وحرق، ولها يقول حسان: وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير وفي ذلك نزلت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا} [الحشر: 5] الآية» ، متفق عليه، ويحمل دليل الرواية الأولى على ما فيه نفع لنا، وقرينة ذلك قوله: شجر مثمر.

حكم الزواج في أرض العدو

[حكم الزواج في أرض العدو] قال: ولا يتزوج في أرض العدو إلا أن تغلب عليه الشهوة، فيتزوج مسلمة ويعزل عنها، ولا يتزوج منهم. ش: هذا تقييد لكلامه السابق، وهو أن حرائر أهل الكتاب حلال، وقد تقدم أن ظاهر كلامه الجواز، بناء على عدم القيد، وإذا ظاهر كلامه المنع في دار الحرب وإن اضطر، والجواز في دار الإسلام كما هو القول الثالث ثم. والقاضي لما كان مختاره جواز نكاح الحربيات من أهل الكتاب، حمل كلام الخرقي على الكراهة التنزيهية، وأبو محمد حمل كلام الخرقي على من دخل إليهم بأمان، دون من كان في جيش المسلمين، فيباح له التزويج. 3425 - لما «روي عن سعيد بن أبي هلال أنه بلغه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زوج أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أسماء بنت عميس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وهم تحت الرايات» . . رواه سعيد. وقال: إن ظاهر كلام أحمد في الأسير المنع. وإذا هذا قول خامس: يمنع الأسير، ومن دخل بأمان، دون الداخل في الجيش. وقال الخرقي: إنه إذا تزوج مسلمة يعزل عنها، لأن أحمد كما تقدم إنما منع من أجل الولد، خشية أن يستعبد، ويصير على دينهم.

حكم المعاملة بالربا في أرض العدو

قال: ومن اشترى منهم جارية لم يطأها في الفرج وهو في أرضهم. ش: هذا من نمط الذي قبله، لأنه إذا وطئ في الفرج لا يأمن أن تلد ويغلبوه على ولدها، فيسترقوه ويفتنوه عن الفطرة التي فطره الله عليها. قال: ومن دخل في أرض العدو بأمان لم يخنهم في مالهم. ش: لأن إعطاءه الأمان مشروط بذلك عرفا، وإن لم يكن مذكورا لفظا، ولذلك من جاءنا منهم بأمان فخاننا كان ناقضا للعهد، وإذا كان ذلك مشروطا لزم الوفاء به، إعمالا للشرط، وحذارا من الغدر، فعلى هذا إن خانهم أو سرق منهم، أو اقترض منهم، ونحو ذلك وجب عليه رد ذلك إلى أربابه. وقوله: لم يخنهم في مالهم، يفهم منه بطريق التنبيه أنه لا يخونهم في أنفسهم. [حكم المعاملة بالربا في أرض العدو] قال: ولم يعاملهم بالربا. ش: لأن ذلك نوع خيانة، ولأن عقد الأمان اقتضى أنه يجري معهم على حكم الإسلام، ومن حكم الإسلام تحريم الربا. ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يكن ثم أمان كان له أن يعاملهم بالربا، وهذا إحدى الروايتين. وبه قطع أبو البركات، نظرا إلى أن له أن يتحيل على أخذ أموالهم بكل وجه من الوجوه، إذ ليس ذلك بأسوأ حالا من السرقة ونحوها. (والرواية الثانية) ، وبها قطع أبو محمد: لا يجوز، إعمالا لعموم آية تحريم الربا.

قال: ومن كان لهم مع المسلمين عهد فنقضوه حوربوا وقتل رجالهم. ش: لأن المقتضي لعدم حربهم العهد وقد زال. قال: ولم تسب لهم ذرية، ولم يسترقوا إلا من ولد بعد نقضه. ش: لأن العهد يشمل الرجال والذرية، والنقض إنما وجد من الرجال، فتختص إباحة الدم بهم، وتبقى عصمة ذريتهم. 3426 - قال الإمام أحمد: قالت امرأة علقمة بن علاثة لما ارتد: إن كان علقمة ارتد فأنا لم أرتد، أما من حملت به أمه وولدته بعد النقض فإنه يجوز سبيه واسترقاقه بلا ريب، لعدم ثبوت الأمان له بحال، وكذلك من حملته قبل النقض ثم ولدته بعده، على ظاهر كلام الخرقي، وكلام أبي محمد، اعتبارا بالولادة، لأن بها ترتب الأحكام، وظاهر كلام أبي البركات أنه لا يجوز سبيه ولا استرقاقه، اعتبارا بحال انعقاده، وقد تقدم للخرقي مثل ذلك في موضعين فنبهنا عليهما، وحكم النساء حكم الذرية، ولا فرق في هذا

بين أن يكون العهد الذي لهم بذمة أو بأمان، أما لو كان بهدنة فإن عهد ذريتهم ونسائهم ينتقض لنقضه فيهم، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سبى ذراري بني قريظة حين نقضوا عهده. قال: وإذا استأجر الأمير قوما يغزون مع المسلمين لمنافعهم لم يسهم لهم، وأعطوا ما استؤجروا به. ش: ظاهر هذا أنه يصح الاستئجار على الجهاد مطلقا، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية أبي الحارث وغيره، قال في قوم استأجرهم الأمير في دار الإسلام، على أن يغزو بهم، هل يسهم لهم مع سهام المسلمين؟ فقال: لهم الأجرة التي استؤجروا بها، وليس لهم في الغنيمة شيء، ولا يسهم لهم. 3427 - وذلك لما روي عن جبير بن نفير قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مثل الذي يغزون من أمتي ويأخذون الجعل يتقوون به على عدوهم، مثل أم موسى، ترضع ولدها وتأخذ أجرها» . رواه سعيد في سننه، ولأنه أمر لا

يختص فاعله أن يكون من أهل القربة، بدليل صحته من الكافر، فصح الاستئجار عليه كبناء المساجد، (وعن أحمد) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنه لا يصح الاستئجار عليه مطلقا، وهو اختيار القاضي في تعليقه، وحمل كلام أحمد والخرقي على الاستئجار لخدمة الجيش، كالاحتطاب ونحوه لا للقتال، وذلك لأنه قربة وطاعة، فلا يصح الاستئجار عليه، كالأذان وصلاة الجنازة، وتوسط القاضي في غير التعليق، وأبو محمد في المقنع، فصححه بمن لا يلزمه الجهاد، كالعبد والمرأة، بخلاف من يلزمه كالرجل الحر، لأنه يتعين عليه بحضوره، فلم يصح استئجاره عليه كالحج، ومقتضى اختيار أبي محمد وأبي البركات صحة الاستئجار وإن لزمه، إلا أن يتعين عليه فلا يصح. وعليه حمل أبو محمد إطلاق الخرقي، وهو متعين، وحيث قلنا: لا يصح الاستئجار فإن وجود الإجارة كعدمها، فللأجير السهم كما لو لم يكن إجارة، وحيث قلنا بالصحة فهل يقسم للأجير؟ فيه روايتان، (إحداهما) وهي اختيار الخرقي، وتبعه على ذلك أبو محمد في المقنع: لا يسهم له. 3428 - لما «روى يعلى ابن منية قال: أذن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغزو وأنا شيخ كبير، ليس لي خادم، فالتمست أجيرا يكفيني، وأجري له سهمه، فوجدت رجلا، فلما دنا الرحيل أتاني فقال: ما أدري ما السهمان، وما يبلغ سهمي؟ فسم لي

شيئا، كان السهم أو لم يكن، فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمته أردت أن أجري له سهمه فذكرت الدنانير فجئت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت له أمره، فقال: «ما أجد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي سماها» . رواه أبو داود. (والثانية) : وهي اختيار الخلال وصاحبه: يسهم له، لما تقدم من حديث جبير بن نفير، وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الغنيمة لمن شهد الوقعة. 3429 - وفي مسلم وغيره في حديث طويل «أن سلمة بن الأكوع كان أجيرا لطلحة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حين أدرك عبد الرحمن بن عيينة، لما أغار على سرح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعطاه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سهم الفارس والراجل» . وقد حمل هذا على أجير يقصد مع الخدمة والجهاد، وحديث يعلى على من لم يقصد الجهاد أصلا، فعلى الرواية الأولى يعطى ما استؤجر به للجهاد، لأنه عوض على عمل وقد عمله

حكم الغلول من الغنيمة

فاستحق ما جعل له في مقابلته، وكذلك ينبغي على الثانية، غايته أنه حصل له مع العوض زيادة وهو السهم. (تنبيه) : محل الخلاف فيمن استؤجر للجهاد، أما الغزاة الذين يدفع إليهم من الفيء فلهم السهم، لأن ذلك حق جعله الله لهم ليغزوا، لا أنه عوض عن الجهاد، وكذلك من يعطى من الصدقات، وكذلك لو دفع دافع إلى الغزاة ما يتقوون به كان له أجره ولم يكن عوضا. 3430 - قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من جهز غازيا كان له مثل أجره» . [حكم الغلول من الغنيمة] قال: " ومن غل من الغنيمة حرق كل رحله، إلا المصحف وما فيه روح ". ش: الغال: هو الذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة، ولا يطلع عليه الإمام، وهو محرم بلا ريب. 3431 - «فعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لما كان يوم خيبر أقبل

نفر من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: فلان شهيد، وفلان شهيد. حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إني رأيته في النار في بردة غلها، أو عباءة» . ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون» » . رواه أحمد ومسلم. 3432 - وعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان على ثقل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل يقال له: كركرة، فمات فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو في النار» ، فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءة قد غلها» ، رواه أحمد والبخاري. 3433 - وحكمه أنه يحرق رحله لما روي عن صالح بن محمد بن زائدة قال: دخلت مع مسلمة أرض الروم، فأتي برجل قد

غل، فسأل سالما عنه فقال: سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه» . قال: فوجدت في متاعه مصحفا، فسألت سالما عنه فقال: بعه وتصدق بثمنه. رواه أحمد وأبو داود والترمذي. 3434 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - حرقوا متاع الغال» رواه أبو داود، وزاد في رواية تعليقا: ومنعوه سهمه، ويختص التحريق بالمتاع الذي غل وهو معه، فلو استحدث متاعا، أو رجع إلى بلده وله فيه متاع، أحرق ما معه حال الغلول فقط، وإن انتقل المتاع عنه بهبة أو بيع

ونحوهما فهل ينقض ذلك ويحرق لتعلق التحريق به قبل ذلك، أو لا، لأنه صار إلى غيره، أشبه ما لو مات فصار إلى الورثة؟ فيه احتمالان، (ويستثنى) من المتاع الذي يحرق (المصحف) لحرمته. ولما تقدم من قول سالم فيه: (وما فيه روح) ، لحرمته أيضا، ولنهي النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يعذب بالنار إلا ربها، ولم يستثن الخرقي غير هذين. (واستثنى غيره السلاح) لحاجته إليه في القتال، وآلة دابته تبعا لها، وثيابه التي عليه، حذارا من تركه عريانا، ونفقته لأنها لا تحرق عادة. قال أبو محمد: وينبغي أن يستثنى أيضا كتب العلم والحديث، إذ نفع ذلك يعود إلى الدين، والمقصود إضراره في دنياه لا دينه. وجميع ما استثني وكذلك ما أبقت النار من حديد ونحوه فإنه يبقى للغال. . ولأبي محمد احتمال في المصحف أن يباع ويتصدق بثمنه، اتباعا لقول سالم. وقول الخرقي: ومن غل، يشمل الذكر والأنثى، والمسلم والذمي، وهو كذلك، وكذلك يشمل العبد والصغير، وهما مستثنيان، فالعبد، لأن متاعه لسيده، ولا يجني جان إلا على نفسه، والصبي، لأن الإحراق عقوبة، والصبي ليس من أهلها. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يحرم سهمه، وهو إحدى الروايتين، إذ أكثر الروايات ليس فيها ذلك، (والثانية) : يحرم، للرواية التي رواها أبو داود، وظاهر كلامه أيضا أن الحكم مختص بالغال، فيخرج السارق، وهو أحد الوجهين، اقتصارا على مورد النص. (والثاني) حكم

إقامة الحد على المسلم في أرض العدو

السارق حكم الغال، بجامع الخيانة فيهما. [إقامة الحد على المسلم في أرض العدو] قال: ولا يقام الحد على مسلم في أرض العدو. 3435 - ش: لما «روى بسر بن أرطاة أنه وجد رجلا سرق في الغزو، فجلده ولم يقطع يده. وقال: نهانا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن القطع في الغزو.» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي؛ ولأن إقامة الحد والحال هذه مما يطمع العدو في المسلمين، وربما كان المقام عليه الحد ضعيف الإيمان فيلحق بالعدو، وبذلك علل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.

قتل الأطفال النساء والرهبان والمشايخ في الحرب

3436 - فعن علقمة قال: كنا في جيش في أرض الروم، ومعنا حذيفة بن اليمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وعلينا الوليد بن عقبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده فقال حذيفة: أتحدون أميركم، وقد دنوتم من عدوكم، فيطمع فيكم؟ 3437 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى الناس أن لا يجلدن أمير جيش ولا سرية، ولا رجلا من المسلمين حرا وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلا، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار، رواه سعيد. 3438 - وعن أبي الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثل ذلك. وقد أشعر كلام الخرقي أنه إذا رجع من أرض العدو أقيم عليه الحد، وهو كذلك، لعموم أمر الله ورسوله بإقامة الحدود، ولقصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [قتل الأطفال النساء والرهبان والمشايخ في الحرب] قال: وإذا فتح حصن لم يقتل من لم يحتلم، أو ينبت، أو يبلغ خمس عشرة سنة.

ش: إذا ظفر الأمير بالكفار لم يقتل صبيا. 3439 - لما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فنهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل النساء والصبيان، وفي رواية: فأنكر» . رواه الجماعة إلا النسائي، ولأن الصبي رقيق بنفس السبي، ففي قتله إتلاف مال بلا ضرورة، وإنه ممتنع والحال هذه بلا ريب. والصبي هو من لم يبلغ، ويعرف البلوغ بواحد من ثلاثة أشياء (أحدها) : الاحتلام إجماعا، بشهادة النص بذلك، قال الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] . 3440 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل» .

3441 - «وقال لمعاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «خذ من كل حالم دينارا» . 3442 - وقال: «رفع القلم عن ثلاثة - ذكر منها - الصبي حتى يحتلم» . رواه أبو داود. (والثاني) إنبات الشعر الخشن حول القبل. 3443 - لما روي عن عطية القرظي قال: «عرضنا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم قريظة، فكان من أنبت قتل، ومن لم ينبت خلي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فخلي سبيلي» . رواه الخمسة وصححه الترمذي. وفي لفظ: فمن كان محتلما أو نبتت عانته قتل، ومن لا، ترك. رواه أحمد والنسائي. (الثالث) بلوغ خمس عشرة سنة. 3444 - لما «روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: عرضت على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني» . رواه الجماعة، قال نافع: فحدثت عمر بن عبد العزيز بهذا الحديث فقال: هذا فصل ما بين الرجال وبين

الغلمان. فمن لم يوجد فيه علامة من هذه فهو صبي، وهذه العلامات يشترك فيها الذكر والأنثى، وتزيد الأنثى بالحيض والحمل. قال: ومن حارب من هؤلاء أو النساء أو الرهبان أو المشايخ في المعركة قتلوا. ش: هذا والله أعلم اتفاق. 3445 - وقد روي «عن رباح بن ربيع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه خرج مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في غزوة غزاها، وعلى مقدمته خالد بن الوليد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فمر رباح وأصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على امرأة مقتولة، مما أصابت المقدمة، فوقفوا ينظرون إليها، ويعجبون من خلقها، حتى لحقهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على راحلته، فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ما كانت هذه لتقاتل» . فقال لأحدهم: «الحق خالدا، فقل له: لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا» » . رواه أحمد وأبو داود. وهذا يدل على أن المانع من القتل عدم القتال،

فمتى وجد القتال زال المانع، ولعموم: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: 191] . وفي معنى القتال إذا كان لهم رأي فيه، لأن الرأي أبلغ من القتال. قال أبو الطيب: الرأي قبل شجاعة الشجعان ... هو أول وهي المحل الثاني فإذا هما اجتمعا لنفس حرة ... بلغت من العلياء كل مكان ولربما طعن الفتى أقرانه ... بالرأي قبل تطاعن الفرسان 3446 - ولهذا قتل الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - دريد بن الصمة، لأنه يدبر أمر الحرب. وقد فهم من كلام الخرقي أن النساء والرهبان والمشايخ إذا

لم يقاتلوا لا يقتلون، وهو كذلك، أما في النساء فلما تقدم. 3447 - (وأما في الرهبان) فلما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا بسم الله، تقاتلون في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع» » . رواه أحمد. 3448 - (وأما في المشايخ) فلما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «انطلقوا بسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا صغيرا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، أصلحوا، وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين» . رواه أبو داود، ولما تقدم في وصية أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا تقتلوا امرأة ولا صبيا، ولا كبيرا هرما.

3449 - وعن راشد بن سعد قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتل الشيخ الذي لا حراك به» . رواه ابن حزم من طريق ابن أبي شيبة، وهو مرسل. 3450 - وروى أيضا من طريق حماد بن سلمة قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض أمرائه أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تقتلوا صغيرا ولا امرأة ولا شيخا كبيرا» . 3451 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه وصى سلمة بن قيس فقال: لا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا شيخا. رواه سعيد. 3452 - ويحمل حديث سمرة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقتلوا شيوخ المشركين، واستحيوا شرخهم» . رواه أبو داود والترمذي، وقيل: إنه صححه. (على الشيوخ) الذين فيهم قوة

على القتال، إذ عدم القتال مختص بالشيوخ الفانين، لما تقدم من النصوص، والخاص مقدم على العام (أو على شيوخ) لهم رأي في القتال، جمعا بين الأدلة، على أنه قد ذكر عبد الحق سنده، وأنه من رواية حجاج بن أرطأة وسعيد بن بشير، وقال: إنه لا يحتج بهما؛ ثم لو تعذر الجمع من كل وجه فحديثنا أولى، لعمل الشيخين عليه، وذلك دليل على أنه آخر الأمرين من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وحكم الزمن والأعمى حكم الراهب ونحوه. وقد أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث رباح إلى ذلك، حيث علل بكون المرأة لم تقاتل، وكذلك المريض الميؤوس من برئه، أما لو كان ممن لو كان صحيحا لقاتل فإنه يقتل، لأنه بمنزلة الإجهاز على الجريح، قال ذلك أبو محمد، وكذلك قال في العبيد لا يقتلون لحديث رباح، وقال في الفلاحين إذا لم يقاتلوا: ينبغي أن لا يقتلوا، قياسا لهم على الشيوخ والرهبان، ولأن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لم يقتلوهم حين فتحوا البلاد، والخنثى المشكل لا يقتل

لاحتمال كونه امرأة، ذكره في الكافي. قال: وإذا خلي الأسير منا وحلف لهم أن يبعث إليهم بشيء بعينه أو يعود إليهم فلم يقدر عليه لم يرجع إليهم. ش: إذا أسر الكفار مسلما، وأطلقوه بشرط أن يبعث إليهم شيئا معلوما، أو يعود إليهم إن لم يقدر على ذلك، فإنه يلزمه الوفاء لهم، كما اقتضاه كلام الخرقي، لعموم: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ} [النحل: 91] ، {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . ولما تقدم من نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الغدر. 3453 - وقال: «إنه لا يصلح في ديننا الغدر» . 3454 - وجعل ذلك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من علامات المنافق، ولأن في الوفاء مصلحة للأسارى، وفي تركه مفسدة، لأنهم لا

يؤمنون بعده، والشارع بعث بجلب المصالح، ودرء المفاسد، ولأنه عاهدهم على مال، فلزمه الوفاء لهم، كثمن المبيع، أو كالمشروط في عقد الهدنة، فإن لم يقدر عليه، (فإن كان امرأة) لم ترجع إليهم، بل ولا يحل لها، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] الآية. 3455 - وفي قصة الصلح بين النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقريش التي رواها البخاري وغيره من حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال فيها: ثم جاء نساء مؤمنات، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] ، حتى بلغ: {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] . 3456 - وعن مروان والمسور بن مخرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «لما كاتب سهيل بن عمرو يومئذ كان فيما اشترط سهيل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك، وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلا ذلك، فكاتبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلما، وجاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذ

وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم، لما أنزل الله فيهن: {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] ، إلى: {وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] .» رواه البخاري. فمنع الله سبحانه من رجوع النساء إلى الكفار، وامتنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ردهن. وقد اختلف في دخول النسوة في قضية الصلح، فقيل: لم يدخلن، لقوله في القصة: على أن لا يأتيك منا رجل إلا رددته. وقيل: دخلن فيه، لقوله في رواية أخرى: ولا يأتيك منا أحد. لكن نسخ ذلك أو بين فساده بالآية اهـ. (وإن كان رجلا) فهل يرجع إليهم؟ فيه روايتان: (إحداهما) - وهي التي ذكرها الخرقي - لا يرجع أيضا كالمرأة، ولأن تمكنهم منه والبقاء في أيديهم معصية، فلم يجز كما لو شرط قتل مسلم، أو شرب خمر. (والثانية) : يلزمه الرجوع إليهم وفاء بالعهد، لما تقدم في بعث المال، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما عاهد قريشا على رد من جاءه مسلما، وفى لهم بذلك، ولم ينهه الله سبحانه عن ذلك، وقول الخرقي: حلف. ذكره على سبيل المثال، وإلا المقصود الشرط.

قال: ولا يحل لمسلم أن يهرب من كافرين، ومباح له أن يهرب من ثلاثة. ش: الأصل في ذلك قول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ، إلى قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] ، أوجب سبحانه أولا على الواحد الثبات للعشرة، ثم رحم ضعفنا وخفف عنا فأوجب ثبات الواحد للاثنين، إذ هذا خبر في معنى الأمر، أو خبر عما استقر في حكم الشرع، وهذا أحسن، أو متعين هنا، إذ لو كان خبرا بمعنى الأمر لكان التقدير: إذا كان عشرون صابرون فليغلبوا؛ فيكون التكليف إنما هو للصابر فقط، والصبر واجب على المكلف، لا شرط في التكليف، وأيضا فيكون أمرا بالغلبة وذلك ليس إليهم إنما الذي إليهم الصبر والقتال والغلبة من الله تعالى، فإذا المعنى المقرر في حكم الشرع أن المائة الصابرة تغلب مائتين فلتصبر، وحيث غلبت المائة من المائتين فلعدم صبرها. 3457 - وقد بين ذلك وفسره ترجمان القرآن عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ، كتب عليهم أن لا يفر واحد من عشرة، ولا عشرون من مائتين، ثم نزلت: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الآية، فكتب أن لا يفر مائة من مائتين. رواه البخاري. وله أيضا في رواية، ولأبي داود قال: لما نزلت: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ،

شق ذلك على المسلمين، فنزلت: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الآية، قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص عنهم من الصبر بقدر ما خفف عنهم. 3458 - ويروى عنه أيضا أنه قال: من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر. وعلى هذا يحمل ما ورد من النهي المطلق عن تحريم الفرار يوم الزحف، كقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا} [الأنفال: 15] الآية. 3459 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجتنبوا السبع الموبقات» . قالوا: وما هن يا رسول الله، قال: «الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» » . متفق عليه. (ويستثنى) من تحريم الفرار من المثلين فما دون (الفرار للتحرف) لمصلحة قتال بأن ينحاز

إلى موضع يكون القتال فيه أمكن، كما إذا كان في مقابلة الشمس، أو الريح فاستدبرهما، أو كان في وهدة أو في معطشة، فانحاز إلى علو أو إلى ماء، أو استند إلى جبل، أو نفر بين أيدي الكفار لتنتقض صفوفهم، ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب، أو (الفرار للتحيز) إلى فئة من المسلمين، ليتقووا بها على عدوهم، وإن بعدت الفئة، حتى قال القاضي: لو كانت الفئة بخراسان، والفئة بالحجاز جاز التحيز إليها، وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا} [الأنفال: 16] إِلَى فِئَةٍ الآية. 3460 - ويروى أن عمر كان يوما في خطبته إذ قال: يا سارية بن زنيم الجبل، ظلم الذئب من استرعاه الغنم. فأنكرها الناس، فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: دعوه فلما نزل سألوه عما قال، فلم يعترف به، وكان قد بعث سارية إلى ناحية العراق ليغزوهم، فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم جمعة فظهر عليهم، فسمعوا صوت عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فتحيزوا إلى الجبل، فنجوا من عدوهم، وانتصروا عليهم.

3461 - ويروى عنه أيضا أنه قال: أنا فئة كل مسلم. وكان بالمدينة، وجيوشه بمصر والعراق والشام وخراسان. رواه سعيد. 3462 - «وعن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف؟ وبؤنا بالغضب، ثم قلنا: لو دخلنا المدينة فبتنا، ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا، فأتيناه قبل صلاة الغداة فخرج فقال: «من الفرارون؟» فقلنا: نحن الفرارون. قال: «لا بل أنتم العكارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين» . قال فأتيناه حتى قبلنا يده» . رواه أحمد وأبو داود. وقوله: حاصوا

حيصة، أي: حادوا حيدة. ومنه قَوْله تَعَالَى: {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت: 48] . وقول الخرقي: ومباح له أن يهرب من ثلاثة. ذكره على سبيل المثال، والمراد أنه يباح للمسلمين الفرار مما زاد على مثليهم. هذا هو المعروف، واختار أبو العباس تفصيلا ملخصه: أن القتال لا يخلو إما أن يكون قتال دفع أو طلب، (فالأول) كأن يكون العدو كثيرا لا يطيقهم المسلمون، ويخافون أنهم إن انصرفوا عنهم عطفوا على من تخلف من المسلمين، قال: فهنا قد صرح أصحابنا بأنه يجب عليهم أن يبذلوا مهجهم في الدفع حتى يسلموا، ونظير ذلك أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، والمقاتلة أقل من النصف، لكن إن انصرفوا استولوا على الحريم، (والثاني) لا يخلو إما أن يكون بعد المصافة أو قبلها، فقبلها هي مسألة الكتاب، وبعدها حين الشروع في القتال لا يجوز الإدبار مطلقا إلا لتحرف أو تحيز، كما دل عليه قوله سبحانه: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} [الأنفال: 15] . وقصة بدر مرادة منها، والمشركون إذ ذاك

ثلاثة أضعاف المسلمين، مع أحاديث الفرار من الزحف، ومفهوم آية الأنفال الناسخة تحمل على ما قبل الشروع، إذ المفهوم يكتفى فيه بمطلق المخالفة، اهـ. وظاهر كلامه أنه يباح لهم الفرار والحال هذه وإن غلب على ظنهم الظفر، وهو المعروف عن الأصحاب، عملا بإطلاق الآية الكريمة، ولأبي محمد في المغني احتمال بوجوب الثبات والحال هذه، لما فيه من المصلحة، وهو ظاهر كلامه في المقنع، وظاهر كلام الشيرازي، قال: إذا كان العدو أكثر من مثلي المسلمين، ولم يطيقوا قتالهم، لم يعص من انهزم، لأن الله تعالى جعل الرجل منا بإزاء الرجلين منهم، فإذا صاروا ثلاثة جاز للمسلم أن ينهزم منهم إذا خشي قهرهم، اهـ. ولو غلب على ظنهم والحال هذه الهلاك فالفرار أولى، حذارا من كسر قلوب المسلمين، وإن غلب على ظنهم الهلاك في الثبات وفي الانصراف فالأولى أن يقاتلوا، ولا يفروا ولا يستأسروا، لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين، ويسلموا من تحكم الكفار عليهم، ولجواز أن

يغلبوا، قال الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] ، ويجوز لهم أن يفروا لظاهر الآية، وأن يستأسروا على المشهور المختار من الروايتين فيهما. 3463 - لأن خبيبا الأنصاري وابن الدثنة سلما أنفسهما للأسر عند العجز والغلبة، وامتنع من ذلك عاصم بن ثابت الأنصاري في سبعة من الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - حتى قتلوا، وكان الكل محمودين والقصة في البخاري وغيره. (والرواية الثانية) : يلزمهم القتال. 3464 - لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس منا من استأسر للمشركين من غير حاجة» . ذكره ابن حزم لكنه ضعيف، وهو اختيار الخرقي، قال: فإن خشي الأسر قاتل حتى يقتل.

قال: ومن آجر نفسه بعد أن غنموا على حفظ الغنيمة، فمباح له ما أخذ إن كان راجلا أو على دابة يملكها. ش: يجوز للإنسان أن يؤجر نفسه على حفظ الغنيمة، ويباح له ما أخذ، لأنه أجر نفسه لفعل بالمسلمين إليه حاجة، فجاز كما لو أجر نفسه. [ليدلهم على الطريق ونحو ذلك، وهذا إذا كان راجلا أو على دابة يملكها، أما لو أجبر نفسه] على حفظ الغنيمة وأطلق، فإنه يجوز له أن يركب دابة من المغنم، حذارا من استعمال ملك الغير بغير إذن شرعي، ولا عرفي. فإن شرط في الإجارة ركوب دابة معينة، فقال الشيخان: يجوز، إذ ذاك بمنزلة الأجرة وإطلاق الخرقي يحتمل المنع. وقد فهم من كلام الخرقي بطريق التنبيه أنه لا يجوز لأحد ركوب دابة من المغنم، ولا ريب في ذلك في غير الغانمين، وكذلك في الغانمين في غير القتال، وأما في القتال فهل يجوز كما في السلاح، أو لا يجوز لتعرض الفرس للعطب غالبا بخلاف السلاح؟ على روايتين. 3465 - وقد روى رويفع بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوم حنين: «لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبتاع مغنما حتى يقسم، ولا يلبس ثوبا من فيء المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه، ولا أن يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه» . رواه أحمد وأبو

داود. قال: ومن لقي علجا فقال له: قف أو ألق سلاحك. فقد أمنه. ش: الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر ما فيه اشتباه، إذ ذلك تنبيه على الواضح كأجرتك وأمنتك، ولا تخف ولا تذهل، ولا خوف عليك، ولا بأس عليك، ونحو ذلك مما يدل على الأمان، وقد ورد الشرع بأجرتك وأمنتك. قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأم هانئ: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ» . 3466 - وقال: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن» . وبقية الألفاظ في معناهما، وعند أصحابنا أن حكم: قف أو ألق

حكم السرقة من الغنيمة

سلاحك. حكم ذلك، لأن الكافر يعتقده أمانا، أشبه ما لو قال: أمنتك. 3467 - وقد روى مالك في موطئه عن رجل من أهل الكوفة أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كتب إلى عامل جيش كان بعثه: بلغني أن رجالا منكم يطلبون العلج حتى إذا اشتد في الجبل وامتنع قال رجل: مترس. يقول لا تخف؛ فإذا أدركه قتله. وإني والذي نفسي بيده لا أعلم مكان أحد فعل ذلك إلا ضربت عنقه. وحكى أبو محمد احتمالا ومال إليه أنه لا يكون أمانا، لأن ذلك يستعمل للإرهاب والتخويف، أشبه ما لو قال: لأقتلنك؛ ويرجع إلى القائل، فإن نوى به الأمان فهو أمان، وإلا فيسأل الكافر فإن قال: اعتقدته أمانا، رد إلى مأمنه، وإلا فليس بأمان. [حكم السرقة من الغنيمة] قال: ومن سرق من الغنيمة ممن له فيها حق أو لولده أو لسيده لم يقطع. ش: من سرق من الغنيمة ممن له فيها حق لم يقطع، لأن له فيها شبهة، وهو حقه المتعلق به، والحد يدرأ بالشبهة، وصار كما لو سرق من مال مشترك بينه وبين

وطئ جارية السبي قبل قسمة الغنيمة

غيره، وكذلك إذا سرق من غنيمة لولده فيها حق، لأن له في مال ولده حقا في الجملة، ولهذا لا يقطع بسرقته، وحق ولده متعلق بهذا المال، فصار كالذي قبله، وكذلك إذا سرق العبد من الغنيمة الذي لسيده فيها حق، لأنه لا يقطع بسرقة مال سيده، كما تقدم، فكذلك بما لسيده فيه جزء. وقوله: ممن له فيها حق. يخرج ما إذا لم يكن له فيها حق، وله حالتان (إحداهما) : سرق قبل أن تخمس، وهو حر مسلم، فلا قطع عليه، لأن له حقا في الفيء. (الثاني) : سرق بعد أن خمست، فإنه يقطع لانتفاء الحقية. [وطئ جارية السبي قبل قسمة الغنيمة] قال: وإن وطئ جارية قبل أن يقسم أدب ولم يبلغ به حد الزاني. ش: يعني ممن له في الغنيمة حق أو لولده، فإنه لا حد عليه، لأن الملك يثبت للغانمين في الغنيمة، فيكون للواطئ حق في الجارية أو لولده، فيدرأ عنه الحد لذلك للشبهة، وصار كالجارية المشتركة، وإذا انتفى الحد وجب التعزير بلا ريب، للمعصية المنتفي فيها الحد والكفارة، وقدره قد سبق بيانه فلا حاجة إلى إعادته. وقوله: لا يبلغ به حد الزاني، يبين أن قوله ثم: لا يبلغ بالتعزير الحد، أن مراده ليس أدنى الحدود بل إما أعلاها، وإما أن كل ذنب لا يبلغ به حد جنسه.

قال: وأخذ منه مهر مثلها فطرح في المغنم. ش: لأن ذلك بدل منفعتها ومنفعتها لجميع الغانمين، فكذلك بدلها، فعلى هذا يطرح في المغنم ليعم جميع الغانمين، وقال القاضي يسقط عنه من المهر قدر حصته منها، ويجب عليه بقيته كالجارية المشتركة. ورده أبو محمد بأن قدر حصته قد لا يمكن، لكثرة الغانمين وقلة المهر، ثم إذا أخذناه فقد لا يمكن قسمته على بقية الغانمين مفردا، وإن طرح في المغنم وقسم على الجميع أخذ سهما مما ليس له فيه حق. قال: إلا أن تلد منه فتكون عليه قيمتها. ش: يعني أنها إذا ولدت منه والحال هذه فإنها تصير أم ولد له، لأنه وطء لحق به النسب لشبهة الملك، أشبه وطء الأب جارية ابنه، وإذا صارت أم ولد له فعليه قيمتها تطرح في المغنم، لأنه أتلفها بفعله، أشبه ما لو قتلها، وسواء كان موسرا أو معسرا. وعن القاضي: إذا كان معسرا حسب قدر حصته من الغنيمة فصارت أم ولد، وباقيها رقيق للغانمين كالإعتاق. وفرق بأن الاستيلاد أقوى، لكونه فعلا، ولهذا نفذ من المجنون. وظاهر كلام الخرقي أنها إذا صارت أم ولد لا مهر لها عليه، لأنه استثنى ذلك من وجوب المهر، وهو إحدى الروايتين، ولعل مبناهما على أن المهر هل يجب بمجرد

الإيلاج فيجب المهر أو لا يجب إلا بتمام الوطء، وهو النزع، فلا يجب لأنه إنما تم وهي ملك له، وظاهر كلامه أيضا أنه لا تجب قيمة الولد، وهو إحدى الروايتين، لأن ملكه حصل بالعلوق ولا قيمة للولد إذا. (والثانية) : يجب عليه قيمة الولد حين وضعه، لأنه فوته عليهم، إذ من حقه أن يصير لهم. وقد علم من كلام الخرقي أن الولد حر لاحق نسبه بالواطئ، وإلا لم تصر أم ولد، وذلك لأنه وطء سقط فيه الحد لشبهة الملك، أشبه واطئ جارية ابنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الجزية

[كتاب الجزية] ش: الجزية قال أبو محمد: الوظيفة المأخوذة من الكافر لإقامته بدار الإسلام في كل عام. وظاهر هذا التعريف أن الجزية أجرة الدار. قال: مشتقة من جزاه بمعنى قضاه، كقوله: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] . وقال القاضي في الأحكام السلطانية: اسمها مشتق من الجزاء، إما جزاء على كفرهم، لأخذها منهم صغارا، أو جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقا. قال أبو العباس: وهذا أصح، وهو يرجع إلى أنها عقوبة أو أجرة، والأصل في جوازها الإجماع. وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] ، إلى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . وما تقدم من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخذ الجزية من نصارى نجران. 3468 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي ما تريد من قومك؟ قال: «أريد منهم كلمة

من تقبل منه الجزية

تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية» . قال: كلمة واحدة؟ قال: «كلمة واحدة، قولوا: لا إله إلا الله» . قالوا: إلها واحدا؟ {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7] . قال: فنزل فيهم القرآن: {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] إلى قوله {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7] » . رواه أحمد والترمذي وحسنه، في أحاديث أخر. [من تقبل منه الجزية] قال: ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني، أو مجوسي، إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه، ومن سواهم فالإسلام أو القتل. ش: قد تقدم أن الجزية تقبل من اليهود والنصارى والمجوس، وإن كانوا من العرب، ولا تقبل ممن سواهم على المذهب وإن كانت لهم صحف على الأشهر، ونزيد هنا بأن ظاهر كلام الخرقي أن من أحد أبويه غير كتابي فاختار دين الكتابي أنه تقبل منه الجزية. وكذلك ظاهر كلامه أن من انتقل إلى أحد هذه الأديان الثلاثة بعد مبعث سيدنا ونبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه لا تقبل منه الجزية، وهو أحد القولين في الصورتين، نظرا لعموم النص. وشرط الخرقي لكل من تقبل منه الجزية أن يكون مقيما

مقدار الجزية

على ما عوهد عليه، من بذل الجزية في كل عام، لقوله سبحانه: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] . أي: يلتزموا أداءها والتزام أحكام الملة، من ضمان الأنفس والأموال وإقامة الحدود، وغير ذلك على ما هو مقرر في بابه، إعمالا لحكم الإسلام لنسخه كل ملة. [مقدار الجزية] قال: والمأخوذ منهم الجزية على ثلاث طبقات، فيؤخذ من أدونهم: اثنا عشر درهما، ومن أوسطهم: أربعة وعشرون درهما، ومن أيسرهم: ثمانية وأربعون درهما. ش: لأن ذلك يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينكره منكر، وعمل عليه فكان إجماعا. 3469 - ففي البخاري عن ابن أبي نجيح قال: قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير، وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: فعل ذلك من قبل اليسار. 3470 - وفي الموطأ عن أسلم أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعين درهما، ومع ذلك أرزاق المسلمين، وضيافة ثلاثة أيام، لكن مقتضى هذا أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قابل الدينار بعشرة دراهم، وأبو محمد نقل عنه أنه قابله

باثني عشر درهما، وزعم أنه حديث لا شك في صحته، مع أنه لم يذكر من رواه، وليس هو والله أعلم في السنن. 3471 - فإن قيل ففي سنن أبي داود عن معاذ بن جبل، «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم - يعني: محتلما - دينارا، أو عدله من المعافري» ، ثياب تكون باليمن، فظاهر هذا إجزاء الدينار في حق كل أحد؟ قيل هو محمول على أن الغالب على أهل اليمن كان الفقر، كما أشار إليه مجاهد، أو أن للإمام الزيادة والنقصان في الجزية كما هو إحدى الروايات، واختيار الخلال، قال: العمل في قول أبي عبد الله على ما رواه عنه الجماعة، بأنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص عنه، على ما رواه عنه أصحابه في عشرة مواضع، فاستقر قوله على

ذلك، اهـ. 3472 - وقد «روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: صالح رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل نجران على ألفي حلة، النصف في صفر، والبقية في رجب، يؤدونها للمسلمين، وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح، يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد ذات غدر، على أن لا تهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنوا عن دينهم، ما لم يحدثوا حدثا، أو يأكلوا الربا» . رواه أبو داود، وهذا مع الذي قبله مع فعل عمر

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يدل على أن المرجع في ذلك إلى رأي الإمام فيما يطيقونه من الزيادة والنقصان. والرواية الثانية: لا تجوز الزيادة ولا النقص على ما تقدم من أن على الأدون اثنا عشر درهما، والمتوسط أربعة وعشرون درهما، والغني ثمانية وأربعون درهما، وهي اختيار القاضي في روايتيه، وقال: إنها اختيار الخرقي، ولا شك أنها ظاهر كلامه، وذلك لما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. والرواية الثالثة: تجوز الزيادة ولا يجوز النقص، قال في رواية يعقوب بن بختان: لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك، وله أن يزيد، وهذا اختيار أبي بكر، لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لم ينقص عن الدينار، بل زاد عليه، فيقتصر على ذلك، فظاهر هذه الرواية أن الأدون لا ينقص عن الدينار، والمتوسط لا ينقص عن الدينارين، والغني عن الأربعة، ويجوز أن يزادوا على ذلك. وقال ابن أبي موسى: لا يجوز النقص عن الدينار بحال، وتجوز الزيادة عليه، وهذا قول رابع. (تنبيهات) أحدها: الغني هنا من عده أهل العرف غنيا، على المشهور والمقطوع به لأبي البركات، وأبي محمد في المغني وغيرهما، لأن ما لا تقدير فيه من جهة الشرع المرجع فيه إلى العرف كالقبض والحرز. (وقيل عن أحمد) : الغني: من ملك نصابا، (وقيل عنه) بل من ملك عشرة آلاف

من لا تجب عليه الجزية

درهم، (وقيل) بل من ملك مائة ألف درهم فهو غني، ومن ملك دونها إلى عشرة آلاف فمتوسط، ومن ملك عشرة آلاف فما دون ففقير. الثاني: يقوم الدينار مقام الاثني عشر درهما. الثالث: «عدله من المعافري» ، عدل الشيء: ما يعادله ويماثله، والمعافري: منسوب إلى معافر، بفتح الميم، موضع باليمن، وهي ثياب تكون به. [من لا تجب عليه الجزية] قال: ولا جزية على صبي. ش: هذا والله أعلم اتفاق، وقد شهد له مفهوم حديث معاذ المتقدم: «خذ من كل حالم دينارا» ، مع أن الله تعالى إنما أمر بأخذ الجزية ممن يقاتل، فقال سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] ، إلى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ، والصبي لا يقاتل. 3473 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن اضربوا الجزية، ولا تضربوها على النساء والصبيان، ولا

تضربوها إلا على من جرت عليه الموسى. رواه سعيد وأبو عبيد. قال: ولا زائل العقل. ش: لأنه أسوأ حالا من الصبي، ولقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق» . مع أن هذا أيضا، والله أعلم، اتفاق والحمد لله. قال: ولا امرأة. ش: هذا أيضا والله أعلم اتفاق، لما تقدم ولأن الجزية تؤخذ حقنا للدم، كما أشعرت به الآية الكريمة، والمرأة محقون دمها، بدليل ما تقدم. قال: ولا فقير. ش: سواء كان معتملا أو غير معتمل، أما غير المعتمل فبالاتفاق مذهبا، لعموم: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الآية، وهذا خبر، فتخصيص غيره من الإنشاءات أولى بلا ريب، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذ من

كل حالم دينارا أو نحوه» ، وأما المعتمل ففيه روايتان: (إحداهما) وبه قطع أبو محمد في كتبه، وأبو الخطاب في الهداية: تجب عليه، لعموم: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] ، إلى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خذ من كل حالم دينارا» ، أخرج منه غير المعتمل، فيبقى فيما عداه على مقتضى العموم. (والثانية) : وهي ظاهر كلام الخرقي، وأوردها أبو البركات مذهبا: لا يجب عليه، لأنه مال يجب بحلول الحول، فلا يلزم الفقير كالزكاة والعقل. والرواية الأولى أسعد دليلا، ولأبي الخطاب احتمال بوجوب الجزية على الفقير غير المعتمل، ويطالب بها إذا أيسر، والمراد بالفقير هنا والله أعلم: الفقير الذي هو أحد الأصناف في الزكاة، ويدخل فيه المسكين لأنهما في غير باب الزكاة صنف واحد. قال: ولا شيخ فان، ولا زمن ولا أعمى. ش: لما تقدم من أن الجزية وجبت لحقن الدم، وهؤلاء دماؤهم محقونة، ودليل الأصل ما تقدم، وفي معنى هؤلاء الراهب ونحوه ممن لا يقتلون على ما تقدم، لحقن دمائهم، ولأبي محمد احتمال بوجوبها على الراهب، ويحتمله كلام الخرقي لعموم النصوص. قال: ولا على سيد عبد عن عبده، إذا كان السيد مسلما.

حكم إسلام من وجبت عليه الجزية

ش: هذا والله أعلم اتفاق، حذارا من إيجاب الجزية على مسلم، إذ ما يجب على العبد إنما يؤديه السيد. ومفهوم كلام الخرقي أن السيد إذا كان ذميا وجبت عليه الجزية عن عبده، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، لعموم: «خذ من كل حالم دينارا» ، ونحوه مع انتفاء المحذور المتقدم. (والرواية الثانية) : وهي اختيار أبي بكر والقاضي، وأبي محمد: لا يجب عليه أيضا، كما لو كان السيد مسلما، لأن العبد محقون الدم، فأشبه المرأة والصبي، أو لا مال له فأشبه الفقير. 3474 - ويروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا جزية على العبد» . وقد قال ابن المنذر: إن هذا مما أجمع عليه كل من نحفظ عنه من أهل العلم. [حكم إسلام من وجبت عليه الجزية] قال: ومن وجبت عليه الجزية فأسلم قبل أن تؤخذ منه سقطت عنه. ش: الجزية تجب بحلول الحول، فإذا أسلم الذمي بعد حلول الحول فقد وجبت عليه الجزية، فإن لم تكن أخذت منه سقطت عنه، لعموم قول الله تعالى:

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . 3475 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الإسلام يجب ما قبله» . ويؤيد دخول ذلك في العموم أن الجزية عقوبة سببها الكفر، فسقطت بالإسلام كالقتل، وخرج بذلك الديون، فإن سببها ليس هو الكفر، فلذلك لا تسقط بالإسلام. 3476 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ليس على مسلم جزية» . رواه الترمذي، وأبو داود وهذا لفظه، وقد فسره سفيان الثوري بما قلناه، قال: معناه إذا أسلم الذمي بعد ما وجبت عليه الجزية بطلت عنه. 3477 - ويروى أن ذميا أسلم، فطولب بالجزية، وقيل: إنما أسلمت تعوذا. قال: إن في الإسلام معاذا. فرفع إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن في الإسلام معاذا. وكتب أن لا تؤخذ منه الجزية، رواه أبو

عبيد بنحو من هذا المعنى، وقد دل كلام الخرقي من طريق التنبيه أنه لو أسلم قبل الوجوب لا تؤخذ منه، وهو واضح. قال: وإذا أعتق العبد لزمته الجزية لما يستقبل، سواء كان المعتق له مسلما أو كافرا. ش: هذا هو الصحيح المشهور من الروايتين أو الروايات، إذ هو حر مكلف موسر، من أهل القتال، فدخل في عمومات النصوص. (ونقل أبو محمد) عن أحمد رواية أخرى أنه يقر بغير جزية مطلقا، لأن الولاء شعبة من الرق، وهو ثابت عليه، فلم تجب عليه الجزية، كما لو لم يعتق. ووهن الخلال هذه الرواية، وقال: هذا قول قديم رجع عنه أحمد، والعمل على ما رواه عنه الجماعة. وحكى أبو البركات الرواية أنه لا جزية عليه، إذا كان المعتق له مسلما، قال: وقال، أي أحمد، لأن ذمته

حكم من نصارى بني تغلب بالنسبة للجزية والزكاة ونحوها

ذمة مولاه، اهـ. والمسلم لا يجب عليه جزية، فكذلك مولاه، ويجتمع من النقلين على هذا ثلاث روايات. وقول الخرقي: لزمته الجزية لما يستقبل، أي: لما بقي من الحول الذي عتق فيه بالقسط، ثم لما بعده. وظاهر كلامه أنه لا يحتاج إلى عقد ذمة، بل يتبع أهل الذمة في ذلك، وهذا هو المشهور، وللقاضي في موضع أنه يخير بين التزام العقد، وبين أن يرد إلى مأمنه، فإن اختار الذمة عقدت له، وإلا ألحق بمأمنه. - وحكم الصبي يبلغ، أو المجنون يفيق، أو الفقير يوسر في أثناء الحول، حكم العبد يعتق على ما مر، إلا أنه لا خلاف فيما أعلمه أنهم لا يقرون بغير جزية. [حكم من نصارى بني تغلب بالنسبة للجزية والزكاة ونحوها] قال: ولا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب. ش: «تغلب» : علم منقول من تغلب مضارع غلبت، لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل، وبنو تغلب هم بنو تغلب بن وائل، من العرب، من ربيعة بن نزار. 3478 - انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، فدعاهم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلى أداء الجزية فأبوا وأنفوا، وقالوا: نحن عرب،

خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لا آخذ من مشرك صدقة، فلحق بعضهم بالروم، فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس وشدة، وهم عرب يأنفون من الجزية، فلا تعن عليك عدوك بهم، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في طلبهم، فردهم وضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين، ومن كل ثلاثين بقرة تبيعان، ومن كل عشرين دينارا دينار، ومن كل مائتي درهم عشرة دراهم، وفيما سقت السماء الخمس، وفيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر، فاستقر ذلك من قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينقل أن أحدا من الصحابة خالفه، مع أن ذلك مشتهر فكان إجماعا أو بمنزلته.

وظاهر كلام الخرقي أن الجزية لا تؤخذ منهم وإن بذلوها راضين بها، وفصل أبو محمد فقال: إن بذلها حربي قبلت منه، لعموم قوله سبحانه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] الآية. وغيرها من الأحاديث، وإن بذلها من دخل في عقد صلحهم وذمتهم فهل تقبل منه، وهو احتمال ذكره لما تقدم، أو لا تقبل، وهو الذي أورده مذهبا، وقطع به غيره، حذارا من تغيير ما وقع عليه الصلح؟ فيه قولان. قال: وتؤخذ الزكاة من أموالهم ومواشيهم وثمرهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين. ش: لما تقدم، وظاهر كلام الخرقي أنه يؤخذ ذلك من نسائهم وصبيانهم ومجانينهم، وكل من يؤخذ منه الزكاة، ولا تؤخذ ممن لا تؤخذ منه الزكاة وإن كان له مال، بأن يكون غير زكوي كالدور ونحوها، وعلى هذا الأصحاب، نظرا إلى أن السؤال وقع منهم على أن يأخذ منهم كما يأخذ بعضنا من بعض، فأجابهم إلى ذلك بعد الامتناع، واستقر رأيه على ذلك، والذي يأخذه بعضنا من بعض زكاة، ولأن صبيانهم ونحوهم دخلوا في حكم الصلح، فدخلوا في الواجب به كالرجال العقلاء، ومال أبو محمد إلى أن هذا المأخوذ جزية باسم الصدقة، فلا تؤخذ ممن لا جزية عليه كالصبيان ونحوهم، لأن النعمان بن زرعة قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: خذ منهم الجزية باسم الصدقة.

3479 - ولهذا يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: هؤلاء حمقى، رضوا بالمعنى وأبوا الاسم، ولأن الزكاة طهرة، ولا طهرة لهم. فعلى هذا مصرف المأخوذ منهم مصرف الجزية. وعلى المذهب: هل مصرفه مصرف الجزية، وهو اختيار القاضي وأبي محمد، نظرا للمعنى، أو مصرف الزكاة، وهو اختيار أبي الخطاب، ويحتمله كلام الخرقي، نظرا للاسم؟ فيه روايتان. وظاهر كلام الخرقي أن هذا الحكم مختص بنصارى بني تغلب، ولا يشاركهم غيرهم ممن تهود أو تنصر أو تمجس من العرب، وهو الذي أورده أبو محمد في المقنع والمغني مذهبا. 3480 - وقال في المغني: نص عليه أحمد، ورواه عن الزهري، قال: نذهب إلى أن تؤخذ من مواشي بني تغلب خاصة الصدقة، وتضعف عليهم. كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وذلك لعموم: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] ، ولأخذ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزية من أكيدر دومة وغيره من العرب، وقد تقدم ذلك، (وعن القاضي) وأبي الخطاب حكم من

تنصر من تنوخ وبهرا، أو تهود من كنانة وحمير، أو تمجس من تميم حكم بني تغلب، قياسا لهم عليهم، والمنصوص أن من كان من العرب من أهل الجزية وأباها إلا باسم الصدقة مضعفة، وله شوكة يخشى الضرر منها، فإنه يجوز مصالحتهم على مثل ما صولح عليه بنو تغلب، لأنهم إذا في معناهم، والقياس حيث فهم المعنى وهذا هو الصواب، وعليه يحمل إطلاق أحمد أولا، وإطلاق القاضي ومن تبعه، ولهذا قطع به أبو البركات، وعليه استقر قول أبي محمد في المغني، لكنه شرط مع ذلك أن يكون المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية أو أزيد، وهذا الشرط ليس في كلام

أحمد، ولا هو مشترط في بني تغلب، ولا يشترط في غيرهم. قال: ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم في إحدى الروايتين. عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى: تؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم. ش: الرواية الأولى هي المشهورة عند الأصحاب. 3481 - اتباعا لعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فإن ذلك يروى عنه. وقال: لم يتمسكوا من دينهم إلا بشرب الخمر، وألحق بعض الأصحاب بهم تنوخ وبهرا، وبعضهم جميع نصارى العرب، بناء على ما تقدم لهم قبل. والرواية الثانية: اختيار أبي محمد، وقال: إنها آخر الروايتين عن أحمد، وأن إبراهيم الحربي، قال: فكان آخر قوليه أنه لا يرى بذبائحهم بأسا، لعموم:

أخذ العشور من أهل الذمة

{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] . 3482 - ويروى ذلك عن ابن عباس وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. [أخذ العشور من أهل الذمة] قال: ومن اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده أخذ منه نصف العشر في السنة. ش: من اتجر من أهل الذمة إلى غير بلده يبيع فيه أو يشتري منه أخذ من تجارته نصف العشر في الجملة. 3483 - لما روي «عن حرب بن عبد الله عن جده أبي أمه، عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلمت، فعلمني الإسلام، وعلمني كيف آخذ الصدقة من قومي ممن أسلم، ثم رجعت إليه فقلت: يا رسول الله كل ما علمتني فقد حفظته إلا الصدقة، أفأعشرهم؟ قال: «إنما العشور على النصارى واليهود» . رواه أبو داود، «وفي رواية: «ليس على المسلم عشور، إنما العشور على اليهود والنصارى» » .

3484 - ولأن هذا يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولم ينكر، فكان بمنزلة الإجماع. 3485 - وروى الإمام أحمد عن سفيان، عن هشام، عن أنس بن سيرين قال: بعثني أنس بن مالك إلى العشور، فقلت: تبعثني إلى العشور من بين عمالك؟ قال: أما ترضى أن أجعلك على ما جعلني عليه عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؟ أمرني أن آخذ من المسلمين ربع العشر. ومن أهل

الذمة نصف العشر. 3486 - وعن لاحق بن حميد، أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة فجعل على أهل الذمة في أموالهم التي يختلفون فيها في كل عشرين درهما درهما. رواه أبو عبيد في الأموال، وظاهر هذا كله أن هذا حكم مقرر في الشرع، لا أنه موقوف على مصالحتهم على ذلك، ولا على أخذهم منا ذلك، اهـ. 3487 - ولا تؤخذ منهم في السنة إلا مرة، كما ذكره الخرقي، ونص عليه أحمد، وقال: كذا روي عن إبراهيم النخعي، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين كتب أن لا تؤخذ في السنة إلا مرة واحدة، أن يأخذ من الذمي نصف العشر. وروى أحمد بإسناده قال: جاء شيخ نصراني إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقال: إن عاملك عشرني في السنة مرتين. قال: ومن أنت؟ قال: أنا الشيخ النصراني. قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وأنا الشيخ الحنيفي. ثم كتب إلى عامله أن

لا تعشروا في السنة إلا مرة. وقول الخرقي: ومن اتجر، يدخل فيه المرأة، وهو المذهب، لعموم ما تقدم، وقال القاضي: لا يلزم المرأة إلا أن تتجر بالحجاز. وقوله: من أهل الذمة، يحتمل أن يدخل فيه التغلبي، لكونه من أهل الذمة، ويحتمل أن لا يدخل لتقدم حكم التغلبي، وفيه روايتان، فعدم التعشير لأن المشترط عليه ضعف ما على المسلمين في ماله، سواء اتجر أو لم يتجر، والتعشير لعموم: «إنما العشور على اليهود والنصارى» ولأن ما جعل عليه في مقابلة الجزية، فعلى هذا يكمل عليه العشر مضاعفة عليه، نص عليه أحمد. 3488 - وروى بإسناده عن زياد بن حدير أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعثه مصدقا، فأمره أن يأخذ من نصارى بني تغلب العشر، ومن نصارى أهل الكتاب نصف العشر.

وقال أبو محمد: إن الأقيس أن يجب عليهم ضعف ما على المسلمين، لا ضعف ما على أهل الذمة، كما في بقية أموالهم. قال: وهو ظاهر كلام الخرقي، لقوله: مثلي ما يؤخذ من المسلمين، ومقتضى حديث لاحق بن حميد. قال: وإذا دخل إلينا منهم تاجر حربي بأمان أخذ منه العشر. 3489 - ش: لأن في حديثه عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه بعث مصدقا، وأمره أن يأخذ من المسلمين من كل أربعين درهما درهما، ومن أهل الذمة من كل عشرين درهما درهما، ومن أهل الحرب من كل عشرة واحدا. 3490 - وعلى ذلك يحمل ما روى السائب بن يزيد قال: كنت عاملا مع عبد الله بن عتبة بن مسعود، في زمن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فكنا نأخذ من النبط العشر. رواه مالك في الموطأ. 3491 - وقال: سألت ابن شهاب على أي وجه كان يأخذ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - من النبط العشر؟ فقال: كان ذلك يؤخذ منهم في الجاهلية، فألزمهم ذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وقول الخرقي: أخذ منه العشر، ولم يقل في

السنة، كما تقدم له في الذمي، فيحتمل أنه اكتفى بما تقدم قبل، وهذا منصوص أحمد، ويحتمل أنه أراد الإطلاق، وأنه يؤخذ منه كلما دخل إلينا، وهو قول ابن حامد. وإطلاق كلام الخرقي يقتضي الأخذ من كل قليل وكثير من المال، وهو قول ابن حامد، ويستدل له بإطلاقات ما تقدم، والمذهب المشهور أنه إنما يؤخذ من شيء مقدر، لأن أنسا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرني عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن آخذ من المسلمين ربع العشر، ومن أهل الذمة نصف العشر، وإنما يؤخذ من المسلم إذا كان معه نصاب، فكذلك الذمي. ثم اختلف في ذلك المقدر، (فعنه) - وهو الذي قطع به أبو محمد في المقنع، وحكاه في الهداية عن القاضي - أنه عشرة دنانير مطلقا، للذمي والحربي، لأن العشرة مال يبلغ واجبه نصف دينار، فوجب فيه كالعشرين في حق المسلم. (وعنه) اعتبار العشرين مطلقا لهما، لأن المسلم لا يجب عليه فيما دونها، فكذلك هما. (وعنه) اعتبار العشرين للذمي، والعشرة للحربي، لأن المسلم لا يجب عليه فيما دون العشرين، فكذلك الذمي، والعشرة في حق الحربي كالعشرين في حق الذمي. واعتبر القاضي أبو الحسين للذمي عشرة، وللحربي خمسة، إذ الخمسة في حق الحربي كالعشرة في حق الذمي. ومقتضى كلام الخرقي أنه إنما يؤخذ من مال التجارة لا من غيره، وهو كذلك، فلو مر الذمي بنا منتقلا، ومعه

أمواله لم يؤخذ منه شيء، ثم هو يشمل جميع أموال التجارة، وكذا ظاهر كلام جماعة من الأصحاب، وقال القاضي: إذا دخلوا لنقل ميرة بالناس حاجة إليها أذن لهم في الدخول بغير عشر. ومال إلى هذا أبو محمد، لكنه عمم في الكافي، فجوز للإمام الترك رأسا للمصلحة. 3492 - لما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل بالمدينة، ويأخذ من القطنية العشر؛ وهذا دليل على التخفيف عنهم للمصلحة، وإذا له الترك للمصلحة. (قلت) : وهذا والله أعلم كان في المستأمنين، إذ غيرهم يؤخذ منهم نصف العشر مطلقا. واختلف في الخمر والخنزير المتبايع بينهم هل يعشران أو لا يعشران؟ على روايتين منصوصتين. 3493 - وقد اضطرب في النقل عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - –

حكم من نقض عهده من المشركين

وخرج أبو البركات قولا بتعشير ثمن الخمر دون الخنزير، بناء والله أعلم على أنها مال لهم دون الخنزير، ولو كان في يد التاجر منهم جارية فادعى أنها أخته أو نحو ذلك، فهل يقبل قوله، لأن الأصل عدم الملك فيها، أو لا يقبل نظرا لليد؟ فيه روايتان، ولا يقبل مجرد قوله: إن عليه دينا، نظرا للأصل، فإن ثبت ذلك فقال أبو محمد: ظاهر كلام أحمد أن ذلك يمنع الأخذ منه إذا كان الدين بقدر ما عليه، أو ينقص به نصابه المعتبر، قياسا على الزكاة. [حكم من نقض عهده من المشركين] قال: ومن نقض العهد بمخالفته شيئا مما صولحوا عليه حل دمه وماله. ش: ينبغي للإمام عند عقد الذمة أن يشترط عليهم شروطا، كما روي في السنة ففي حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتقدم، الذي رواه أبو داود في مصالحة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل نجران، فقال: «ما لم تحدثوا حدثا، أو تأكلوا الربا» ، والحدث: الشيء الذي ينكر فعله. 3494 - وفي البخاري وسنن أبي داود: «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أهل خيبر، فقاتلهم حتى ألجأهم إلى قصرهم، وغلبهم على الأرض والزرع والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم، ولرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصفراء والبيضاء والحلقة، وهي

السلاح، ويخرجون منها، واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب، كان احتمله معه إلى خيبر، حين أجليت النضير، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعم حيي واسمه سعية -: «ما فعل مسك حيي الذي جاء به من بني النضير؟» فقال: أذهبته النفقات والحروب، فقال: «العهد قريب، والمال أكثر من ذلك» ، وقد كان حيي قتل قبل ذلك، فدفع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعية إلى الزبير فمسه بعذاب، فقال: قد رأيت حييا يطوف في خربة ها هنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابني أبي الحقيق، أحدهما زوج صفية بنت حيي بن أخطب، وسبى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نساءهم وذراريهم، وقسم أموالهم بالنكث الذي نكثوا» ، وذكر الحديث إلى آخره.

3495 - وروى سفيان الثوري عن مسروق، عن عبد الرحمن، قال: كتبت لعمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين صالح نصارى الشام، وشرط فيها أن لا يحدثوا في مدينتهم، ولا ما حولها ديرا ولا كنيسة، ولا قلية ولا صومعة راهب ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزل بها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يأووا جاسوسا، ولا يكتموا غشا للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن، ولا يظهروا شركا، ولا يمنعوا ذوي قراباتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم من مجالسهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين في شيء من لباسهم في قلنسوة، ولا عمامة، ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتسموا بأسماء المسلمين ولا يتكنوا بكناهم، ولا يركبوا سرجا ولا يتقلدوا سيفا، ولا يتخذوا شيئا من سلاح، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجزوا مقادم رؤوسهم، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا، وأن يشدوا الزنانير على أوساطهم، ولا يظهروا صليبا، ولا شيئا من كتبهم في شيء من طرق المسلمين، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا مع أمواتهم أصواتهم، ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين، فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق. ورواه

الخلال بنحو من هذا، وزاد عليه، وفيه قال: ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده. إذا تقرر هذا فإذا شرط عليهم الإمام هذه الشروط ونحوها مما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كما هو مقرر في موضعه، فخالف بعضهم شيئا منها، فظاهر كلام الخرقي أن عهده ينتقض بذلك، هو مقتضى ما تقدم، إذ في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا» ، وفي قصة خيبر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل وسبى، وأخذ المال بالنكث الذي نكثوا، وفي قصة عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده، وقال: فإن خالفوا ما شرطوه فلا ذمة لهم، وقد تقدم.

وظاهر كلامه أيضا أن ما لم يصالحوا عليه لا ينتقض به عهدهم وإن لزمهم، لعدم دخولهم على ذلك، ولا يرد عليه بذل الجزية، والتزام أحكام الملة، لأن عقد الذمة عبارة عن هذين، فمتى زالا أو أحدهما زال عقد الذمة. وأما حكم المذهب فملخصه أن ما لزم أهل الذمة بشرط أو غيره كما هو مقرر في موضعه ينقسم أربعة أقسام، (أحدها) : ما ينتقض به العهد بلا خلاف، وهو ما إذا امتنعوا من بذل الجزية، والتزام أحكام الملة لما تقدم، لكن قال أبو محمد في المغني: إذا حكم بها حاكم. ولم أر هذا الشرط لغيره، وكذلك قتال المسلمين، لأن إطلاق الأمان يقتضي ترك القتال، فإذا فعلوه نقضوا الأمان. (الثاني) : ما لا ينتقض به إلا أن يشترط عليهم، كما يقوله الخرقي، وهو قذف المسلم أو إيذاؤه في تصرفاته بسحر، على المنصوص في رواية الجماعة. 3496 - لما روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن امرأة يهودية أتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بشاة مسمومة، فأكل منها، فجيء بها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسألها عن ذلك فقالت: أردت أن أقتلك. قال: «ما كان الله ليسلطك على ذلك» قالوا: ألا نقتلها؟ قال: «لا» . فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . رواه أحمد، والأذى بالقذف

دون ذلك، وقيل ينتقض، وحكاه أبو محمد في المقنع رواية، ولعله أراد مخرجة مما سيأتي. (والثالث) : ما ينتقض به على المنصوص والمختار للأصحاب، وإن لم يشترط عليهم، كما إذا فتن المسلم عن دينه أو قتله، أو قطع الطريق عليه، أو الزنا بمسلمة، أو التجسس للكفار، أو إيواء جاسوس، أو ذكر الله أو كتابه أو رسوله بسوء، ذكر هذه الشيخان وغيرهما، وزاد أبو محمد وغيره ذكر دين الله بسوء، وزاد جماعة أصاب مسلمة بعقد نكاح، أو الاجتماع على قتال المسلمين، ثم إن أبا الخطاب في خلافة الصغير قيد القتل بأن يكون عمدا وهو حسن، وأطلقه غيره، وقد جاء في القتل قول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ومن ضرب مسلما عمدا فقد خلع عهده، وجاء في سب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ما تقدم في قتل سابه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 3497 - وجاء في قتل من تجسس ما روي «عن فرات بن حيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بقتله، وكان عينا لأبي سفيان، وحليفا لرجل من الأنصار، فمر بحليفه

من الأنصار، فقال: إني مسلم. فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله إنه يقول: إنه مسلم. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن حيان» . رواه أحمد وأبو داود، وترجمه بحكم الجاسوس الذمي. 3498 - وجاء في الزنا ما روي أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رفع إليه رجل قد أراد استكراه امرأة مسلمة على الزنا، فقال: ما على هذا صالحناكم. وأمر به فصلب في بيت المقدس. وبقية الصور في معنى ذلك، وحكى كثير من أصحاب القاضي، وتبعهم أبو محمد رواية أخرى بعدم النقض بذلك ما لم يشترط عليهم، على رأي الخرقي، وقال أبو البركات: إنهم خرجوها من نصه في القذف، واختار هو التفرقة، وتقرير النصوص على بابها.

(الرابع) : ما عدا ذلك من عدم إظهار المنكر، وعدم رفع صوتهم بكتابهم، ونحو ذلك مما هو مذكور في أحكام الذمة، فهذا لا خلاف فيما أعلمه أنه إذا لم يشترط عليهم لا ينتقض به عهدهم، وأما إن شرط عليهم فقولان، اختار الخرقي النقض كما تقدم، واختيار الأكثرين عدمه. وحيث لم ينتقض العهد فإنه يلزمه موجب ما فعله من حد أو قصاص وإلا يعزر، قال أبو محمد: وفعل به ما ينكف به أمثاله عن فعله، وحيث انتقض العهد به فإن كان بسب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تعين قتله كما تقدم، وإن أسلم على المذهب، وإن كان بغير ذلك فظاهر كلام الخرقي تعين قتله، وهو المنصوص، وظاهر قصة فرات بن حيان، وقطع فيه أبو محمد بالتخيير كالأسير الحربي، وهو اختيار القاضي. ومن انتقض عهده في نفسه انتقض عهده في ماله، على ما قاله الخرقي، وهو ظاهر كلام الإمام، واختيار أبي البركات فيكون فيئا، لأن المال لا حرمة له في نفسه، إنما هو تابع لمالكه حقيقة، وقد انتقض عهد المالك في نفسه، فكذلك في ماله. (وقال أبو بكر) : لا ينتقض العهد في ماله، كما لا ينتقض في نسائه وذريته، على ما تقدم، فعلى هذا يدفع إليه إن طلبه، وإن مات فهو لورثته، فإن لم يكن له وارث فهو فيء.

قال: ومن هرب إلى دار الحرب من ذمتنا ناقضا للعهد عاد حربا لنا. ش: يعني أنه يصير حكمه حكم الحربي الأصلي، فيخير الإمام فيه إذا قدر عليه كالأسير الحربي، وينتقض عهد ماله إعمالا لحكم الدار، ولا خلاف فيما أعلمه في التخيير، أما انتقاض عهد ماله ففيه الخلاف، فإذا قيل بعدم النقض فيه فقد تقدم أنه يعطاه إن طلبه، وإن مات فهو لورثته، ولو لم يمت حتى أسر واسترق فقيل يوقف ماله، ثم إن عتق رد إليه وإن مات رقيقا ففي كونه فيئا أو لورثته لو كان حرا وجهان، واختار أبو البركات أنه يصير فيئا بمجرد استرقاقه، والله سبحانه وتعالى أعلم.

كتاب الصيد والذبائح

[كتاب الصيد والذبائح] ش: الصيد في الأصل مصدر صاد يصيد صيدا فهو صائد، ثم أطلق على المصيد، تسمية للمفعول بالمصدر، قال الله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] . والصيد: قال ابن أبي الفتح: ما كان ممتنعا حلالا لا مالك له. والأجود قول بعضهم: ما كان متوحشا طبعا، غير مقدور عليه، مأكولا بنوعه. والأصل في إباحته في الجملة الإجماع، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، الآية. وقَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] ، الآية. وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] . ومن السنة فكثير، وسيأتي طرف من ذلك إن شاء الله تعالى. [شروط الصيد بالحيوان] قال: ومن سمى فأرسل كلبه أو فهده المعلم، فاصطاد وقتل ولم يأكل منه، جاز أكله.

ش: وذلك لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ، أي: أحل لكم الطيبات، وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح، وقرينة ذلك قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، ولو لم يقدر ذلك لزم أن يحل ما علمنا من الجوارح كالكلب ونحوه، ولا قائل بذلك، إذ القائل بحل الكلب لا يخصه بالمعلم. 3499 - وقد «روى أبو ثعلبة الخشني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت يا رسول الله إنا بأرض صيد، أصيد بقوسي، وبكلبي المعلم، وبكلبي الذي غير معلم، فما يصلح لي؟ فقال: «ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلم، فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل» » . 3500 - «وعن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: قلت يا رسول الله، إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن علي، وأذكر اسم

الله؛ فقال: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل» . قلت: وإن قتلن؟ قال: «وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها» . قلت: فإني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ قال: «إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله» . متفق عليهما. إذا تقرر هذا فيشترط لإباحة الصيد شروط. (أحدها) : التسمية عند إرسال الجارح، على المشهور والمختار للأصحاب من الروايات، لما تقدم من الآية الكريمة، ولقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، الآية، أمر سبحانه بالتسمية ونهى عن أكل ما لم يسم عليه، والأمر ظاهر في الوجوب، كما أن النهي ظاهر في التحريم، ولحديثي أبي ثعلبة وعدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقف حل الأكل على التسمية، فقال: «وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل» . وفي رواية في الصحيح: «واذكر اسم الله» ، بصيغة الأمر. (والرواية الثانية) : لا تشترط التسمية

مطلقا [وإنما تسن، حملا لهذه الظواهر على ذكر اسم الله بالقلب، وهو لا يخلو حال المسلم عنه] وفي لفظ في الصحيح أيضا «في حديث عدي: فإن وجدت مع كلبي كلبا آخر فلا أدري أيهما أخذه؟ قال: فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» . وهو لا يخلو حال المسلم عنه، إذ معنى ذلك القصد إلى فعل ما أباحه الله تعالى على الوجه الذي شرعه، وأصل ذلك أن الذكر هو التنبه بالقلب للمذكور. ومنه قَوْله تَعَالَى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] . 3501 - وقوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» . ثم يسمى القول الدال على الذكر ذكرا. 3502 - وقد روى أبو داود في المراسيل، وأسنده الدارقطني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذبيحة المسلم حلال، ذكر اسم الله أو لم يذكر، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله» . 3503 - «وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فيمن نسي التسمية،

قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسم الله على فم كل مسلم» . رواه الدارقطني. وقد قال الزجاج في قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، أي: ما لم يخلصوا ذبحه لله ونحوه. قال أحمد: في معنى الميتة.

وقيل: إن الآية المراد بها ذبائح المشركين. وعلى هذه الرواية تسن خروجا من الخلاف. (والرواية الثالثة) : تشترط في العمد، ولا تشترط في السهو. 3504 -[لعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» . الحديث. ولا نزاع أن المذهب هو الأول، وحمل التسمية على ذكر الله بالقلب خلاف ظاهر اللفظ، ثم لا تخصيص للصيد بذلك إذ جميع ما يفعله المكلف يجب أن يذكر اسم الله تعالى فيه بأن يفعله على الوجه الذي ذكره سبحانه. ثم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» ، ظاهر في إبطال هذا التأويل، وحديثا: «ذبيحة المسلم حلال» ، «واسم الله على فم كل مسلم» ، ضعيفان عند أهل المعرفة بالحديث، والعفو في النسيان عن الإثم، ثم قصارى النسيان أن يجعل الموجود كالمعدوم، كالأكل في الصوم، والكلام في الصلاة، ونحو ذلك، لا أنه يجعل المعدوم كالموجود، بدليل أن من نسي الطهارة أو الستارة ونحوهما

لا تصح صلاته، وقد خطأ الخلال حنبلا في التفرقة هنا بين العمد والسهو، وقال: إن في أول مسألته إذا نسي وقتل لم يأكل. إذا تقرر هذا فصفة التسمية المعتبر: (بسم الله) . 3505 - وقد «ثبت أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا ذبح قال: «بسم الله والله أكبر» ، فإن كبر أو هلل، أو سبح بدلا عنها لم يجزئه. نص عليه أحمد في رواية أبي طالب في التكبير والتحميد، نظر إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين ذلك بقوله: «بسم الله» ، فيقتصر عليه، وللشيخين احتمال بالإجزاء، لأنه يصدق عليه أنه ذكر اسم الله، فيدخل في الآية والحديث. ولا نزاع أنه لو قال: اللهم اغفر لي، أنه لا يجزئه، إذ ذلك طلب حاجة، ولو سمى بغير العربية وهو يحسنها فقولان، نظرا إلى ما تقدم من أن المقصود المعنى أو اللفظ، وأبو محمد جزم هنا بالجواز، وهو موافق لاحتماله ثم، والقاضي بالمنع، وقال: إنه المنصوص،

وأظنه أراد رواية أبي طالب. ومحل التسمية عند الإرسال، لأنه الفعل الموجود من المرسل، فاعتبرت التسمية عنده، كما تعتبر عند الذبح من الذابح، ولا يضر التقديم اليسير كالنية في العبادات، وكذلك التأخير اليسير على إطلاق أحمد، قال: إذا أرسل ثم سمى فانزجر، أو أرسل فسمى. فالمعنى قريب من السواء، وصرح بذلك أبو بكر في التنبيه، وكذلك في التأخر الكثير، بشرط أن يزجره فينزجر، كما دل عليه كلام أحمد، وقاله أبو محمد والشيرازي، نظرا إلى أن الإرسال بدون تسمية وجوده كعدمه، لفقدان شرطه، فتعلق الحكم بالزجر، ومنع ذلك القاضي، نظرا إلى أن الحكم تعلق بالإرسال الأول. (تنبيه) : عموم كلام الخرقي يشمل الكتابي، وهو إحدى الروايتين عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لإطلاق: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] . ولعله الحكمة في عدم التصريح بالفاعل، وقياسا على المسلم. (والرواية الثانية) :

لا تشترط التسمية في حق الكتابي، بخلاف المسلم، لإطلاق: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . 3506 - قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيره، أي: ذبائحهم. وهي من آخر ما نزل، ونصوص السنة، وكذلك قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] ، الخطاب فيه للمسلم. (الشرط الثاني) : أن يرسل الجارح قاصدا للصيد، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل» ، فعلق الحل على ذكر اسم الله مع إرسال كلبه المعلم. (وأفعل) فعل الفاعل، فلا بد أن يوجد منه فعل، وعلى هذا لو استرسل الكلب أو الفهد بنفسه لم يبح، نعم لو استرسل بنفسه فزجره فزاد في طلب الصيد فإنه يباح، لأن زجره لما أثر في عدوه صار بمنزلة إرساله له، إذ فعل الإنسان متى انضاف إلى فعل غيره أنيط الحكم بالإنسان، بدليل ما لو صال كلب على آدمي فأغراه آخر تعلق الضمان عليه به. (ويحتمل) كلام الخرقي المنع، لأنه إنما علق الحكم بالإرسال. (الشرط الثالث) : أن يكون الجارح معلما بلا نزاع، للآية الكريمة، ولحديثي أبي ثعلبة وعدي بن حاتم - رضي الله

عنهما - وتعليم ذي الناب كالكلب والفهد بأن يسترسل إذا أرسل، وينزجر إذا زجر، بلا نزاع، وبأنه إذا أمسك لم يأكل، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . والإمساك علينا بأنه لا يأكل إذا أمسك، ولهذا «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث عدي في الصحيح: «فإن أكل فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه» » ، وفي رواية: «فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» ، فدل على أن إمساكه علينا علامته ترك الأكل. 3507 - وقد صرح بذلك في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل، فإنما أمسكه على نفسه، وإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل، فإنما أمسك على صاحبه» » ، رواه أحمد. 3508 - ولا يعارض هذا ما رواه أبو داود وغيره في حديث أبي ثعلبة: «إذا أرسلت كلبك - ينظر هل فيه (المعلم) - وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه» ، لترجح ما تقدم بكثرة رواته

وصحته، ثم هو محمول على كلب معلم أكل بعد تعليمه، ومن ثم اختلف عن الإمام أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيما أكل منه الصائد بعد تعليمه هل يحرم؟ على روايتين، (إحداهما) - وهو المذهب -: يحرم، تقديما لحديث عدي لصحته، قال أحمد: حديث الشعبي عن عدي من أصح ما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقال في حديث أبي ثعلبة: يختلفون عن هشيم فيه؛ ولاعتضاده بحديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . (والثانية) : لا يحرم، لحديث أبي ثعلبة، جمعا بين الدليلين كما تقدم، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - جمع بأن حمل حديث عدي على الكراهة. 3509 - فقال: الرخصة في الكلب يأكل من صيده أربعة من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنما حديث عدي في الكراهة. قلت: ويخرج لنا من هذا أنه لا يعتبر ترك الأكل في التعليم رأسا، إذ العمدة في ذلك حديث عدي، وقد حمله الإمام على الكراهة، وقد يقال: العمدة الآية،

ويرجح حمل حديث عدي على الكراهة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيه في الصحيح: «فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» » ، فعلله بالخوف. ويرشح ذلك بأن عديا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما كان موسعا عليه أفتاه بالكف ورعا، بخلاف أبي ثعلبة. إذا تقرر هذا فهل يعتبر فيما ذكرناه من التعليم التكرار، لاحتمال أن يكون تركه في أول مرة شبعا؟ وهو قول القاضي، واختيار أبي محمد في المغني وغيرهما، أو لا يعتبر التكرار، بل يكتفى بأول مرة، وبه قطع أبو الخطاب في كتابيه، والشريف وأبو محمد في المقنع، وأورده أبو البركات مذهبا، لأنه تعليم صناعة، فلا يعتبر فيه التكرار كسائر الصنائع؟ على قولين، (وعلى الأول) هل المرجع في ذلك إلى العرف من غير تقدير بمرة أو مرات، لعدم التقدير من الشارع، وهو قول ابن البنا في الخصال، أو يعتبر أن يتكرر ذلك منه مرتين، فيباح صيده في الثالثة، أو ثلاثة مرات فيباح صيده في الرابعة، وهو قول القاضي، ولعل أصل القولين الروايتان في التكرار في الحيض؟ على ثلاثة أقوال.

(تنبيه) : الانزجار بالزجر يعتبر قبل إرساله على الصيد أو رؤيته، أما بعد ذلك فإنه لا ينزجر بحال. (الشرط الرابع) : أن يكون الإرسال على صيد، فإن أرسل وهو لا يرى شيئا فأصاب صيدا لم يبح، إذ الإرسال جعل بمنزلة الذكاة، ولو نصب سكينا لا لقصد الصيد، فانذبحت بها شاة لم تبح، كذلك ها هنا، وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا الشرط مزيد تمام عند قوله: إذا رمى صيدا فأصاب غيره، ومن ثم يؤخذ هذا. (الشرط الخامس) أن يكون الصائد من أهل الذكاة، فإن كان وثنيا أو مرتدا، أو من غير المسلمين وأهل الكتاب، أو مجنونا ونحو ذلك لم يبح صيده، إذ الاصطياد أقيم مقام الذكاة، والصائد بمنزلة المذكي، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن أخذ الكلب ذكاته» ، وإذا تشترط الأهلية في المذكي، وهذا الشرط يؤخذ من قول الخرقي: ولا يؤكل صيد مرتد. وبقية الشروط أخذها من كلامه واضح. واختلف في شرطين آخرين: (أحدهما) : هل يعتبر في الجارح المعلم أن لا يأكل من الصيد؟ وقد تقدم فيه روايتان، وتقدم أن المذهب اعتبار ذلك، وهو الذي ذكره الخرقي، وعليه لو شرب من دمه ولم يأكل فإنه لا يحرم، إذ المنع إنما ورد في أكل ما أكل منه الكلب، فيبقى فيما عداه على مقتضى عموم الآية والخبر. (والثاني) : هل يعتبر في الجارح أن يجرح الصيد، فلا يباح

ما قتله بخنقه أو صدمته، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه، وبه قطع القاضي في الجامع، والشريف، والشيرازي، وأبو محمد في المغني، أو لا يعتبر فيباح ذلك، وهو اختيار ابن حامد، وظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي في المجرد: إنه ظاهر كلام أحمد؟ على روايتين، مناطهما أن خنق الجارح أو صدمه هل هو بمنزلة قتل المعراض بعرضه أم لا؟ 3510 - ويرشح الأول مفهوم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل» . ويرشح الثاني قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإن أدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته» . . متفق عليه، وهو يشمل القتل صدما أو خنقا. وأيضا فالجارح حيوان له اختيار ما، وقد أمسك على صاحبه، فيدخل تحت قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، بخلاف المعراض، فإنه لا يقال فيه: أمسك عليك. قال: فإن أكل الكلب أو الفهد من الصيد لم يؤكل منه، لأن أمسكه على نفسه، فبطل أن يكون معلما. ش: قد تقدمت هذه المسألة، وقد نبه الخرقي على علتها، وهو كونه أمسكه على نفسه، ثم قوله: بطل أن يكون

معلما. ظاهر أنه يصير كالمبتدئ تعليمه، فيعتبر له شروط التعليم ابتداء، وظاهر كلام أحمد - وهو اختيار أبي محمد - عدم ذلك، لاحتمال أن يكون ذلك لفرط جوع أو نحو ذلك. قال: وإذا أرسل البازي أو ما أشبهه فاصطاد وقتل أكل، وإن أكل من الصيد، لأن تعليمه بأن يأكل. ش: مذهب أحمد - رحمه لله - أنه لا يقتصر على الكلب في الصيد، بل يلحق به ما في معناه مما يقبل التعليم ويصطاد به من سباع البهائم كالفهد، كما ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - والنمر كما ذكر بعضهم، أو جوارح الطير كالبازي والصقر ونحوهما، نظرا للمعنى، إذ ما يتأتى من الكلب يتأتى من الفهد مثلا، فلا فارق في المعنى، وهذا هو القياس في معنى الأصل. 3511 - ولما روي «عن عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك» . قلت: وإن قتل. قال: «وإن قتل ولم يأكل منه شيئا، فإنما أمسك عليك» .» رواه الإمام أحمد وأبو داود، ثم قَوْله تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] ، الجوارح يشمل الجميع، إذ الجوارح الكواسب، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: 60] ، أي:

كسبتم، وقوله سبحانه: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] ، وقَوْله تَعَالَى: {مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] ، أي: مضرين على الصيد كما تضرى الكلاب، فالتكليب: التضرية. وقال أبو محمد: التكليب: الإغراء. إذا تقرر هذا فلا بد في الجميع من التعليم بلا ريب، فتعليم الفهد ونحوه من سباع البهائم كما تقدم في الكلب، وأما جوارح الطير فبأن ينزجر إذا زجر، ويجيب إذا دعي، ولا يعتبر ترك الأكل، فيخالف الكلب من هذه الحيثية. وقد أشار الخرقي إلى الفرق، وهو أن تعليم الجوارح بالأكل، ويتعذر - تعليمها بدونه، بخلاف الكلب ونحوه. 3512 - وهذا يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل الصيد، وإذا أكل الصقر فكل، لأنك تستطيع أن تضرب الكلب، ولا تستطيع أن تضرب الصقر. رواه الخلال. فإن قيل: فحديث عدي صريح في التسوية بين الكلب والبازي؟ قيل: هو كذلك، لكنه من رواية مجالد وهو ضعيف عندهم. قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تصير القصة واحدة، كم من أعجوبة لمجالد! والرواية

حكم الصيد بالكلب الأسود

الصحيحة تخالفه، اهـ، والله أعلم. [حكم الصيد بالكلب الأسود] قال: ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود إذا كان بهيما، لأنه شيطان. ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وأشار إلى دليله وهو أنه شيطان، والشيطان آلة محرمة، وإباحة الصيد المقتول رخصة، والرخصة لا تباح بمحرم. 3513 - ودليل كونه شيطانا ما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتل الكلاب، حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله، ثم نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن قتلها، وقال: «عليكم بالأسود البهيم ذي الطفيتين، فإنه شيطان» » . رواه أحمد ومسلم. 3514 - وعن عبد الله بن مغفل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم» . رواه الخمسة وصححه الترمذي، ثم إنه مأمور بقتله، وإذا يحرم

حكم أدرك الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات

اقتناؤه وتعليمه، فلم يبح صيده كغير المعلم، وقد قال أحمد: لا أعلم أحدا يرخص فيه. يعني: من السلف. (تنبيه) : البهيم: الذي لا يخالطه لون آخر، قال ثعلب وإبراهيم الحربي: كل لون لم يخالطه لون آخر فهو بهيم. قيل لهما: من كل لون؟ قالا: نعم. فإن كان فيه نكتتان فوق عينيه فهل يخرج بذلك عن كونه بهيما؟ فيه روايتان أصحهما - وبه قطع أبو محمد - لا، للخبر. [حكم أدرك الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات] قال: وإذا أدرك الصيد وفيه روح فلم يذكه حتى مات لم يؤكل. ش: الذي تقدم للخرقي فيما إذا قتل الجارح الصيد، وأما إذا لم يقتله وأدركه الصائد حيا فلا يخلو إما أن يكون فيه حياة مستقرة أم لا، فإن لم يكن بل كانت كحياة المذبوح فإنه يحل بلا ريب، إذ ذلك مذكى، أو بمنزلة المذكى، فالذكاة لا تفيد فيه شيئا. وإن كانت فيه حياة مستقرة فلا يخلو إما أن يتسع الزمان لذكاته أم لا، فإن لم يتسع فهو كالأول، لأنه لم يقدر على ذكاته بوجه، أشبه الذي قبله، وفي حديث أبي ثعلبة: «فأدركت ذكاته فكل» » ، أي: فذكه وكل، وهذا لم يدرك ذكاته، فلم يدخل تحت الأمر بالذكاة، وإن اتسع الزمان لذكاته لم يحل إلا بها، لأنه حيوان مقدور عليه، أشبه ما لو لم يصده، وقد تقدم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

في حديث عدي: «فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاته» . واعلم أن هذا التقسيم تبعت فيه أبا محمد، وقد يقال: إن القسم الأول لا يدخل تحت التقسيم، إذ ما حركته كحركة المذبوح هو بإطلاق المذكى عليه أولى من إطلاق الحي، وعلى هذا لا يدخل هذا القسم تحت كلام الخرقي، نعم كلامه يشمل القسمين الأخيرين، وهذا ظاهر حديث عدي. قال: فإن لم يكن معه ما يذكيه به أشلى الصائد له عليه حتى يقتله فيؤكل. ش: هذا إحدى الروايات عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - واختيار الخرقي، وأبي الخطاب في الهداية، لأنه صيد قتله الجارح، من غير إمكان ذكاته فيباح، كما لو أدركه ميتا يحققه أن قتل الجارح الصيد، إنما جعل ذكاة له رخصة لتعذر تذكيته، وهذا قد تعذرت تذكيته. ومقتضى هذه الرواية أنه لو مات من غير إشلاء لم يحل وإن كان عن قرب، وهو اختيار أبي محمد وأبي الخطاب، لأنه حيوان مقدور عليه أشبه ما لو وجد آله. (والرواية الثاني) : عكس هذه الرواية، يحل بالموت من الجرح عن قرب الزمان، دون إشلاء الصائد، اختاره القاضي أظنه في المجرد، إذ ما قارب الشيء بمنزلته، ولو كان الزمان لا يتسع للذكاة

أبيح، فكذلك ما قاربه، وأما قتل الجارح فإنما يؤثر في غير المقدور عليه، وهذا مقدور عليه. (والرواية الثالثة) : يحل بهما بإشلاء الجارح، أو الموت عن قرب الزمان لما تقدم. (والرواية الرابعة) - وهي اختيار أبي بكر وابن عقيل في التذكرة -: لا يحل مطلقا، وهو الراجح، لظاهر حديثي عدي وأبي ثعلبة، فإنهما ظاهران في وجوب تذكية ما أدركه حيا، ولأنه مقدور عليه، فأشبه بهيمة الأنعام، وقرب الزمان فسره أبو البركات بأن لا يمضي عليه معظم يوم. ومحل الخلاف إذا لم يوجد ما يذكيه به، كما ذكره الخرقي، وفي معناه إذا كان يمكنه الذهاب به إلى منزله فيذكيه ونحو ذلك، فإنه لا يحل إلا بالذكاة. (تنبيه) : «أشلى» ، بمعنى: دعى، يقال: أشليت الكلب: إذا دعوته إليك، والعامة تقول: أشليته: إذا حرضته على الصيد وأغريته به، وإنما يقال في ذلك: أشرته على الصيد، فعلى هذا يحمل كلام الخرقي على أنه دعاه ثم أرسله، لأن إرساله على الصيد يتضمن دعاءه إليه، مع أن بعضهم أجاز أشلى بمعنى أغرى.

قال: وإذا أرسل كلبه فأصاب معه غيره لم يأكل الصيد إلا أن يدركه في الحياة فيذكيه. ش: أما إذا أدركه في الحياة وذكاه فواضح، وأما إذا لم يدركه في الحياة، والحال ما تقدم فإنما لم يحل لأن في حديث عدي: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل» . قلت: وإن قتلن؟ قال: «وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس معها» . وفي رواية: «وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل» . وفي رواية: «قلت: فإن وجدت مع كلبي كلبا آخر، فلا أدري أيهما أخذه؟ قال: فلا تأكل، فإنما سميت على كلبك، ولم تسم على غيره» . وفي رواية: «فإن وجدت عنده كلب آخر، فخشيت أن يكون أخذه معه وقد قتلنه فلا تأكل، فإنما ذكرت اسم الله على كلبك، ولم تذكر على غيره» . روى الجميع مسلم. وقد علم من تعليل هذه الروايات - وعليه يحمل كلام الخرقي - أن هذا الحكم في كل كلب جهل حاله؛ هل سمي عليه أو لم يسم؟ وهل استرسل بنفسه أو أرسله صاحبه؟ أو جهل حال مرسله؛ هل هو من أهل الذكاة أم لا؟ ولا يعلم أيهما قتله، أو يعلم أنهما قتلاه معا، وكذلك بطريق الأولى إن علم أن المجهول هو القاتل، أما إن علم حال الكلب الذي وجده مع كلبه، وأن الشرائط المعتبرة قد وجدت فيه، فإنه

يحل، ثم إن كان الكلبان قد قتلاه معا فهو لصاحبيهما، وإن علم أن أحدهما قتله فهو لصاحبه، وإن جهل الحال فإن كان الكلبان متعلقين به فهو بينهما، كما لو كان الصيد في يد عبديهما، وإن كان أحدهما متعلقا به دون الآخر، فهو لمن كلبه متعلق به، إذ هو بمنزلة يده، وعلى من حكم له به اليمين كصاحب اليد. وإن كان الكلبان ناحية والصيد قتيل، فقال أبو محمد: يقف الأمر حتى يصطلحا، وحكى احتمالا بالقرعة، فمن قرع حلف وأخذ، وهذا قياس المذهب فيما إذا، تداعيا عينا ليست بيد أحد، وعلى الأول إن خيف فساده بيع واصطلحا على ثمنه، والله أعلم. قال: وإذا سمى ورمى صيدا فأصاب غيره جاز أكله. ش: لعموم قَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] ، وحديث عدي وغيره، ولأنه أرسل آلة الصيد قاصدا للصيد، فحل ما صاده، كما لو أرسلها على كبار، فتفرقت عن صغار، فأخذها على مالك، أو كما لو أخذ صيدا لا يحل في طريقه على الشافعي. ومفهوم كلام الخرقي أنه لو رمى لا إلى صيد فأصاب صيدا أنه لا يحل، لأن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إذا أرسلت كلبك» ، معناه: إلى صيد، وهنا لم يرسل إلى صيد. ولأبي محمد في الكافي احتمال بالحل، كما لو أرسل على صيد فأصاب

غيره، وعموم مفهوم كلام الخرقي يشمل ما إذا قصد غير صيدا قصدا محققا، كأن قصد حجرا أو هدفا أو إنسانا فأصاب صيدا، أو مظنونا كأن رأى سوادا أو خشبا فظنه آدميا، فرماه فإذا هو صيد، وما إذا رمى لا إلى صيد فأصاب صيدا. وقول الخرقي: ورمى صيدا، يحتمل أن يريد ما يظنه صيدا، إذ الأحكام تنبني على غلبة الظن، فيدخل في ذلك ما إذا رأى سوادا فظنه صيدا، فوجده كذلك، وما إذا رمى حجرا يظنه صيدا فأصاب صيدا، وهو أحد الوجهين، ويحتمل أن يريد: رمى صيدا محققا، فيخرج هاتين الصورتين، لكن صورة السواد لم نر فيها خلاقا. وقد علم من كلام الخرقي جواز الصيد بالسهام، ويلحق بها ما في معناها من المحددات، ولا نزاع في ذلك، وفي الصحيح في حديث عدي: «وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله» ، وفي حديث أبي ثعلبة: «ما صدت بقوسك فاذكر اسم الله عليه ثم كل» » . قال: وإذا رماه فغاب عن عينيه، فأصابه ميتا وسهمه فيه، ولا أثر به غيره، جاز أكله. ش: هذا هو المشهور من الروايات، واختيار الخرقي

والقاضي، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وأبي محمد وغيرهم. 3515 - لأن في حديث عدي: «وإن رميت بسهمك فاذكر اسم الله عليه، فإن غاب عنك يوما فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل» . رواه مسلم وغيره، وفي رواية: «إذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس فيه إلا أثر سهمك فكل، فإن وقع في الماء فلا تأكل» . رواه البخاري. 3516 - وفي حديث أبي ثعلبة الخشني: «إذا رميت بسهمك فغاب عنك فكل ما لم ينتن» . وفي رواية، «في الذي يدرك صيده بعد ثلاث: فكله ما لم ينتن» . رواهما مسلم وغيره. (والرواية الثانية) : إن غاب نهارا فلا بأس، وإن غاب ليلا لم يأكله، قال في رواية ابن منصور: إذا غاب الصيد فلا تأكله إذا كان ليلا، وإذا كان نهارا ولم ير به أثرا غيره يأكله. 3517 - لما يروى عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه قال: إذا رميت فأقعصت فكل، وإن رميت فوجدت فيه سهمك من

يومك أو ليلتك فكل، وإن بات عنك ليلة فلا تأكل، فإنك لا تدري ما حدث فيه بعدك. (والرواية الثالثة) إن كان جرحه موحيا حل وإن فلا، لأن مع الإيحاء يبعد تأثير المشاركة، بخلاف ما إذا لم يوح. 3518 - وفي بعض روايات «حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قلت: أرضنا أرض صيد، فيرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه ليلة أو ليلتين، فيجد فيه سهمه؟ قال: «إذا وجدت سهمك ولم تجد فيه أثرا غيره، وعلمت أن سهمك قتله فكله» . رواه أحمد والنسائي، «وفي رواية أخرى قلت: يا رسول الله أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد؟ قال: «إذا علمت أن سهمك قتله ولم تر فيه أثر سبع فكله» . رواه الترمذي وصححه. فوقف

- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحل على العلم بكون سهمه قتله، ولا نعلم ذلك إلا إذا كان الجرح موحيا. (والرواية الرابعة) : إن غاب مدة طويلة لم يبح، وإن كانت يسيرة أبيح، قيل له: إن غاب يوما؟ قال: يوم كثير. ذكرها أبو محمد، ولم يذكرها عامة الأصحاب، كأنهم حملوها على الرواية الثانية. وعن أحمد (رواية خامسة) : كراهية ما غاب مطلقا. 3519 - ويروى نحوه عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - خروجا من الخلاف. والمذهب هو الأول بلا ريب. وأرجح الروايات بعده رواية التفرقة بين الإيحاء وعدمه، بناء على الزيادة المذكورة في حديث عدي، وقد تقدم أن الترمذي صحح ذلك، والزيادة من الثقة مقبولة، ويجاب عن ذلك بأن رواية الصحيحين وغيرهما تخالف ذلك، أو يحمل العلم بالقتل على الظن، وإذا وجد فيه سهمه أو أثره فقد ظن أن سهمه قتله، وإذا تتفق الروايات. واعلم أن علم المذهب يشترط للحل شرطان: (أحدهما) أن يجد فيه سهمه، ليتحقق وجود السبب المقتضي للحل، إذ الأصل عدم ما سواه، ويقوم مقام وجود سهمه وجود أثره، قاله الشيخان وغيرهما، لما تقدم

في حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «ليس به إلا أثر سهمك فكل» . وفي رواية: «فلم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل» . وظاهر ذلك الاكتفاء بأثر السهم. وكلام الخرقي وطائفة من الأصحاب يوهم اشتراط وجود سهمه فيه، وسؤال أحمد وقع عمن عرف سهمه فيه أيأكله؟ قال: نعم. ولو لم يجد سهمه فيه ولا أثره، كأن غاب الصيد قبل تحقق الإصابة، ثم وجده عقيرا، والسهم ناحية، فإنه لا يباح، لأن السبب المقتضي للحل لم يعلم، والأصل التحريم. (الشرط الثاني) : أن لا يجد به أثرا آخر يحتمل أنه أعان في قتله، لما تقدم في الحديث، وذلك لأنه والحال هذه قد تحقق المعارض، والأصل التحريم، فلم يبح بالشك، ولو كان الأثر مما لا يحتمل القتل به كالسنور ونحوه لم يؤثر، إذا المعارض والحال هذه وجوده كعدمه. وفي الصحيحين في حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «فإن وجدته قد قتل فكل، إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» . وإذ كان الأثر مما لا يحتمل إعانته في القتل فقد روي أنه ليس بقاتل فلا شك. (تنبيهان) «أحدهما» : حكم الكلب إذا عقر ثم غاب حكم السهم، على ما تقدم من الخلاف إن لم يجد الصيد

الحكم لو رمى الصيد فوقع في ماء أو تردى من جبل

في فمه، فأما إن وجده في فم الكلب، أو وهو يعبث به، فإنه يحل بلا خلاف، على ما حكى أبو البركات. (الثاني) : «ينتن» ، رباعي مضموم الأول، من: أنتن الشيء: إذا تغيرت رائحته، وقال بعض اللغويين: يقال: أنتن اللحم: إذا تغير بعد طبخه. وقيل: وأصله إذا تغير وهو نيئ. وهذا الحديث يرد ما قاله، بل يقال: أنتن اللحم نيئا أو مطبوخا. [الحكم لو رمى الصيد فوقع في ماء أو تردى من جبل] قال: وإذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل لم يؤكل. ش: هذا يشمل ما إذا كانت الجراحة موحية، كما إذا ذبحه، أو أخرجت حشوته ونحو ذلك، وما إذا لم تكن موحية، ولا خلاف في التحريم إذا لم تكن موحية، للشك في السبب المقتضي للحل، وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن وجدته قد قتله فكل، إلا أن تجده قد وقع في ماء، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» . متفق عليه. وأما إذا كانت موحية (فعنه) - وقال أبو محمد: إنه المشهور عنه، وهو ظاهر كلام الخرقي، وأبي بكر، وبه جزم الشيرازي - التحريم أيضا، لما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل» . رواه

مسلم، وفي البخاري: «وإن وقع في الماء فلا تأكل» . (وعنه) - وهو الصواب، وقال أبو محمد: إنه اختيار أكثر المتأخرين -: لا يحرم، لما تقدم من قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» . وإذا كان الجرح موحيا فقد علم أن سهمه قتله فلا تردد، ومحل الخلاف فيما إذا كان الماء أو التردي يقتله، مثله، فلو لم يكن يقتله مثله، كما إذا كان رأس الحيوان خارجا من الماء، أو كان مما لا يموت بالماء كطير الماء، فإنه لا خلاف في إباحته، قاله أبو محمد، إذ لا شك إذا في أن الماء لم يقتله. ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكل» . (تنبيه) : لو رمى طائرا في الهواء، أو على شجرة أو جبل فوقع إلى الأرض فمات حل، قاله أبو محمد، ولم يذكر خلافا، لعدم إمكان التحرز من ذلك، ومسألة الخرقي فيما إذا رمى الصيد فوقع على جبل، ثم تردى منه، أو على شجرة ثم تردى منها، والله أعلم. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وإذا رمى صيدا فقتل جماعة فكل ذلك حلال.

الحكم لو رمى صيدا فأبان منه عضوا

ش: قد تقدم نحو هذه المسألة في قوله: إذا رمى صيدا فأصاب غيره. إلا أن ثم أصاب غير الصيد الذي قصده، وهنا أصابه مع غيره، وهو أولى بالجواز مما ثم، والله أعلم. [الحكم لو رمى صيدا فأبان منه عضوا] قال: وإذا رمى صيدا فأبان منه عضوا لم يأكل ما أبان منه، وأكل ما سواه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى: يأكله وما أبان منه. ش: محل هذا الخلاف فيما إذا أبان منه عضوا وبقيت فيه حياة غير مستقرة، وقد أشار الخرقي إلى ذلك بقوله: وأكل ما سواه. وإنما يأكل ما سواه إذا مات في الحال، وذلك إذا كانت الحياة فيه غير مستقرة، أما لو ضربه فقطع رأسه، أو قطعه نصفين، فإن هذا يحل بلا نزاع، إذ هذا ذكاة، ولو أبان منه عضوا وبقيت فيه حياة معتبرة فإنه لا يحل ما بان منه بلا نزاع. 3520 - لانطباق قوله: - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ما أبين من حي فهو ميت» ، عليه، اللهم إلا أن يكون مما يحل ميتته

نصب المناجل للصيد

كالسمك والجراد، فإنه يحل ما بان منه، إذ غاية المبان أنه ميتة، وميتة هذا حلال. إذا تقرر هذا (فوجه الرواية الأولى) قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أبين من حي فهو ميت» . وهذا يصدق عليه أنه أبين من حي فيكون ميتا، (ووجه الثانية) - وهي المشهورة، والمختارة لعامة الأصحاب، أبي بكر والقاضي والشريف، وأبي الخطاب والشيرازي، وابن عقيل وابن البنا - أن ما كان ذكاة لبعض الحيوان كان ذكاة لجمعيه. والخبر نقول بموجبه، إذ هذا ما أبين من حي، إنما أبين ممن هو في حكم الميت، وقد أشار أحمد إلى ذلك فقال: إنما حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما قطعت من الحي ميتة» ، إذا قطعت وهي حية تمشي وتذهب، أما إذا كانت البينونة والموت جميعا، أو بعده بقليل فلا بأس به، ألا ترى الذي يذبح ربما مكث ساعة، وربما مشى حتى يموت، اهـ. وقول الخرقي: أبان منه عضوا، ظاهره أنه لو بقي معلقا بجلده حل بحل الصيد بلا خلاف، وهو كذلك، صرح به أبو الخطاب، وغيره، والله أعلم. [نصب المناجل للصيد] قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وكذلك إذا نصب المناجل للصيد.

حكم الصيد بالمعراض

ش: يعني أنه يباح الصيد المقتول بها، وأن ما أبين منه هل يحل أم لا؟ على الخلاف والتفصيل السابق. 3521 - وذلك لدخوله في عموم: «كل ما ردت عليك يدك» ، ولأنه قتل الصيد بحديدة، على الوجه المعتاد، أشبه ما لو رماه بها، وحكم السكاكين حكم المناجل، ولا بد أن يلحظ أن شرائط الصيد موجودة في الناصب، كأن يكون أهلا للذكاة ويسمي. بقي: هل يشترط أن يرى الصيد كما في السهم والكلب؟ لم أر من صرح بذلك، بل ربما كلامهم يوهم عدم ذلك، والله أعلم. [حكم الصيد بالمعراض] قال: وإذا صاد بالمعراض أكل ما قتل بحده، ولم يأكل ما قتل بعرضه. ش: في الصحيح من «حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

قال: فقلت له: إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ قال: «إذا رميت بالمعراض فخزق فكله، وإن أصابه بعرضه فلا تأكله» . وفي لفظ: «إذا أصابه بحده فكل، وإذا أصابه بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكله» » . (تنبيهان) : أحدهما: المعراض: خشبة ثقيلة، أو عصا غليظة، في طرفها حديدة، وقد تكون بغير حديدة، غير أنها يحدد طرفها. وقال أبو عبيد: هو سهم لا ريش فيه ولا نصل. والتفسير الأول أليق بالحديث، وحكم سائر آلات الصيد حكم المعراض في أنها إذا قتلت بعرضها ولم تجرح لم يبح الصيد، وإن قتلت بحدها أبيح، إلا أن لا تجرح. 3522 - وفي المسند من «حديث عدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت يا رسول الله إنا قوم نرمي فما يحل لنا؟ قال: «يحل لكم ما ذكرتم اسم الله عليه، وخزقتم، فكلوا منه» » . (الثاني) : «الوقيذ» : فعيل بمعنى مفعول، أي: الموقوذ، وهو: المضروب بالعصا حتى يموت، وبه فسر قَوْله تَعَالَى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] ، والله أعلم.

قال: وإذا رمى صيدا فعقره، ورماه آخر فأثبته، ورماه آخر فقتله، لم يؤكل. ش: أما عقر الأول فلم يؤثر في الصيد ملكا لعدم إثباته له، وأما رمي الثاني فإنه ملكه بإثباته، لأنه أزال امتناعه، وإذا تتعين ذكاته للقدرة عليه، فلما رماه الثالث فقتله لم يؤكل، لأن ذكاته بذبحه أو نحره، ولم يوجد واحد منهما. وكلام الخرقي محمول على أن من أثبته لم يوحه، ولذلك نسب القتل إلى الثالث، وعلى أن الثالث لم يذبحه، ولذلك أتى بلفظ القتل في حقه، أما إن كان المثبت له جرحه موحيا، وجرح الثالث غير موح فإنه يحل بلا ريب، لأنه قد صار بالجرح الأول في حكم المذبوح، فلم يؤثر الثاني شيئا، وكذلك إن كان جرح الثالث موحيا لذلك. وخرج التحريم من قول الخرقي فيمن ذبح فأتى على المقاتل، فلم تخرج الروح حتى وقعت في ماء، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل. وقوله أيضا - فيما إذا رماه فوقع في ماء أو تردى من جبل - لم يؤكل، وأما إن كان الثالث أصاب مذبحه فإنه يحل، لمصادفته محل الذبح، نعم إن قيل أن من ذبح ملك الغير لا يحل، فكذلك ها هنا. قال: وكان لمن أثبته القيمة مجروحا على من قتله. ش: قد علم من هذا أن العاقر له لا شيء له، لأنه لم يثبت له فيه حق، لبقائه على امتناعه، ولا عليه، لأنه حين

ضربه كان مباحا، أما من أثبته فله القيمة على قاتله، لأنه ملكه بالإثبات لإزالته امتناعه، فالثالث قتل حيوانا مملوكا لغيره، فيكون عليه الضمان. وقد تقدم أن مسألة الخرقي فيما إذا كان المثبت له لم يوحه، وأن القاتل لم يذبحه. ولنبين ذلك إن شاء الله تعالى بيانا شافيا فنقول: المثبت إن أوحاه فلا شيء على الثالث إلا قيمة ما خرق من جلده، لأنه هو الذي فوته على المثبت، وإن كان المثبت لم يوحه فلا يخلو، إما أن يكون الثالث ذبحه برميته أو لا. فإن كان قد ذبحه بها فقال الشيخان في مختصريهما: لا شيء عليه أيضا إلا قيمة ما خرق من جلده. وقال في المغني: عليه أرش ذبحه، كما لو ذبح شاة لغيره، وهذا أصوب في النظر، فإن الفرض أن المثبت لم يوحه، فلو ترك لعاش، فالثالث فوت حياته، فيكون عليه أرش ذلك، وهو تفاوت ما بين قيمته مجروحا حيا بالجرح الأول، وبين قيمته مذبوحا. وإن لم يكن ذبحه برميته فلا يخلو إما أن يوحيه برميته أو لا، فإن أوحاه ضمن جميعه، لأنه حرمه على مالكه، وحال بينه وبينه، وكذلك إن لم يوحه ولم يدرك مالكه ذكاته، أما إن أدرك مالكه ذكاته وذبحه أو تركه فعاش فلا شيء عليه الثالث إلا أرش جرحه. وإن تركه بلا ذكاة حتى مات بالجرح. (فقيل) : إن الثالث يضمن جميعه أيضا، نظرا إلى أنه مات من جرحين

حكم صيد السمك بالشيء النجس

مباح ومحرم، فاختص الضمان بالمحرم. (وقيل) - وهو قول القاضي -: يضمن نصف قيمته مجروحا بالجرحين، مع أرش ما نقصه بجرحه، لأنه مات من الجرحين، ومالكه لما ترك ذكاته اختار موته، فتعلق الضمان بجرحه، ثم يجب على الثالث مع نصف القيمة أرش ما نقصه بجرحه، لانفراده إذا بالتعدي. (وقيل) - وهو اختيار أبي البركات - إن الثالث إنما يضمن نصف قيمته مجروحا بالجرح الأول لا غير، ويدخل أرش الجرح في بدل النفس، كما في الجناية على الآدمي، والله أعلم. قال: ومن كان في سفينة فوثبت سمكة فسقطت في حجره، فهي له دون صاحب السفينة. ش: السمك من المباح، يملكه من سبق إليه، فإذا وقع في حجر إنسان فهو له، لثبوت يد الإنسان على ما في حجره، هذا اختيار الخرقي، وتبعه عليه أبو محمد وغيره. (وقيل) : هو قبل الأخذ على الإباحة، إذ حجره ملكه، فهو كما لو وقع في أرضه صيد. ومفهوم كلام الخرقي أن السمكة لو وقعت في السفينة كانت لمالكها، وكذلك قال ابن أبي موسى، وقياس القول الآخر أنها تكون قبل الأخذ على الإباحة. [حكم صيد السمك بالشيء النجس] قال: ولا يصاد السمك بشيء نجس. ش: كالميتة والعذرة ونحو ذلك، لما يتضمن من أكل

ذبيحة المرتد وصيده

السمك للنجاسة، وكره أحمد أيضا الصيد ببنات وردان معللا بأن مأواها الحشوش، وكذلك الصيد بالضفدع، معللا بالنهي عن قتله، وهذا المنع من الخرقي يحتمل التحريم ويحتمل الكراهة، وهو المشهور، وكذلك كلام أحمد يحتمل وجهين، لأنه كره ذلك. [ذبيحة المرتد وصيده] قال: ولا تؤكل ذبيحة مرتد ولا صيده، وإن تدين بدين أهل الكتاب. ش: لأنه كافر لا يقر على كفره، أشبه عبدة الأوثان وقوله: وإن تدين بدين أهل الكتاب، ينبه به على مذهب إسحاق والأوزاعي فإنهما أجازا ذبيحته إذا تدين بدين أهل الكتاب. وقوله: «ولا يؤكل صيد مرتد» ، أي: ما قتله من الصيد. أما ما لم يقتله وذكاه من هو من أهل الذكاة فلا إشكال في حله. والله أعلم. [ترك التسمية على الصيد أو الذبيحة عمدا أو سهوا] قال: ومن ترك التسمية على صيد عامدا أو ساهيا لم يؤكل. ش: قد تقدمت هذه المسألة والخلاف فيها، وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين الصيد بالكلب والسهم، وهو المذهب. (وعن

أحمد) رواية أخرى يعفى عن تركها سهوا في السهم، إلحاقا له بالذبح، بخلاف الكلب، والله أعلم. قال: ومن ترك التسمية على الذبيحة عامدا لم تؤكل، وإن تركها ساهيا أكلت. ش: ملخص ذلك أن الخلاف الذي تقدم في الصيد مثله في الذبيحة، والتوجيه كالتوجيه، إلا أن الأصحاب لا يختلفون فيما علمت في اشتراط التسمية في الصيد مطلقا. ثم منهم من المذهب عنده في الذبيحة كذلك، كأبي الخطاب في خلافه. ومنهم - وهم العامة - من فرق بينهما. ثم منهم من قال بعدم الاشتراط في الذبيحة مطلقا وهو أبو بكر. ومنهم من قال بالاشتراط في العمدية دون حالة السهوية، وهم الأكثرون؛ الخرقي والقاضي في روايتيه، وأبو محمد وغيرهم. ووجه الفرق أن الله تعالى أمرنا بالتسمية على الصيد بقوله:

{وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: 4] . وكذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث أبي ثعلبة وعدي وغيرهما، والذبيحة لم يرد فيها ذلك، فالأصل عدم الاشتراط، مع أن عموم قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5]- والظاهر أنهم لا يسمون - يقتضي ذلك. 3523 - وقد جاء في حديث رواه ابن منصور في سننه، عن راشد بن سعد قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذبيحة المسلم حلال وإن لم يسم» . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] ، وقد تقدم أن المراد بها الميتة وذبائح المشركين، وقيل: المراد بها ما تعمد ترك التسمية عليه، بدليل قَوْله تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] . مع أنها متقدمة على قوله: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، ويعضد هذا من جهة المعنى أن الذبح وقع في محله، فجاز أن يسامح فيه بخلاف الصيد. (تنبيهان) : «أحدهما» : الجاهل بوجوب التسمية لا يعذر، بخلاف الناسي، ولذلك أفطر الجاهل بالأكل في الصوم

دون الناسي. «الثاني» : يشترط قصد التسمية على ما يذبحه، فلو سمى على شاة وأخذ غيرها فذبحها بتلك التسمية لم يجزئه، لعدم قصدها بالتسمية، وكذلك لو رأى قطيعا فسمى وأخذ منه شاة فذبحها بالتسمية الأولى لم يجزئه، ولا يشترط أن يقصد بالتسمية صيدا معينا، فلو سمى على صيد فأصاب غيره حل، دفعا للحرج والمشقة، نعم هل يشترط قصد الآلة بالتسمية، فلو سمى على سهم ثم ألقاه وأخذ غيره فرمى بالثاني من غير تسمية لم يجزئه، لأنه لما تعذر غالبا اعتبار التسمية على صيد بعينه اعتبرت على آلته، أو لا يشترط كما في الذبيحة، فإنه لو سمى على سكين ثم ألقاها وأخذ غيرها أجزأه؟ فيه قولان، والله أعلم. قال: وإن ند بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه وقتله أكل. 3524 - ش: الأصل في ذلك ما «روى رافع بن خديج قال: كنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سفر، فند بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما فعل منها هذا فافعلوه به هكذا» . رواه الجماعة، وزاد الحميدي: «وكلوه» .

3525 - وعليه يحمل «حديث أبي العشراء، عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قلت: يا رسول الله، أما تكون الزكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: «لو طعنت في فخذها لأجزأك» . رواه الخمسة. وقول الخرقي: ند بعير: تبع فيه واقعة الحديث، ويلحق به ما في معناه، ولهذا عمم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحكم فقال: «إن لهذه البهائم» . وقوله: فلم يقدر عليه. هذه صورة المسألة، وإلا لو قدر عليه وجبت ذكاته، وقوله: فرماه بسهم أو نحوه، يحترز به عما لو رماه بما لا يجرحه فقتله فإنه لا يباح، كما إذا قتل بثقل المعراض، والله أعلم.

قال: وكذلك إن تردى في بئر أو نحوه فلم يقدر على تذكيته، فجرحه في أي موضع قدر عليه فقتله أكل. ش: لأنه ساوى البعير إذا ند معنى، فساواه حكما إذ المعنى فيهما عدم القدرة على الذكاة الأصلية. 3526 - ويروى أن بعيرا تردى في بئر فذكي من قبل شاكلته، فبيع بعشرين درهما، فأخذ ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عشره بدرهمين، والله أعلم. قال: إلا أن يكون رأسه في الماء فلا يجوز أكله، لأن الماء يعين على قتله. ش: يعني أن المتردي في بئر أو نحوه إذا كان رأسه في الماء فلا يحل، لما علل به الخرقي من أن الماء قد أعان على قتله، وإذا حصل قتله بسبب مباح ومحرم فغلب جانب التحريم. وأيضا من شرط الحل وجود الذكاة المعتبرة أو ما يقوم مقامها، وهنا لم يعلم وجود ذلك، وبهذا فارق إذا رمى الصيد فوقع في ماء وكان جرحه موحيا، لأن ثم قد علم وجود السبب، وشك في المانع.

صيد الكتابي

وقد علم من كلام الخرقي هنا بطريق التنبيه أن من شرط الماء ثم أن يعين على قتل الصيد. [صيد الكتابي] قال: والمسلم والكتابي في كل ما وصفت سواء. ش: يعني في الاصطياد، فيباح ما صادوه، خلافا لمالك في منعه في صيدهم، بخلاف ذبائحهم، والحجة عليه عموم: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . وفي أنه يشترط لصيدهم ما يشترط لصيد المسلمين، وكذلك يشترط لذبيحتهم التسمية حيث اشترطت في المسلمين، وقد تقدم. وعن أحمد في هذه المسألة روايتان، ثم ظاهر كلام الخرقي أن حربي أهل الكتاب كذميهم، وقد قال أحمد في ذبائح أهل الحرب: لا بأس بها. وحديث عبد الله بن مغفل في الشحم قال: إسحاق أجاد. وحكى ابن المنذر

حكم أكل ما قتل بالبندق والحجر

إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ذلك. وظاهر كلامه أيضا أن عربي أهل الكتاب كغيره، وهو إحدى الروايتين. واختيار أبي محمد، تمسكا بعموم الكتاب. (والرواية الثانية) - وهي المختارة للقاضي وأصحابه - لا تباح ذبيحة نصارى العرب، ومنهم من يحكي الخلاف في بعض العرب، وقد تقدمت هذه المسألة في النكاح. وظاهر كلامه أيضا أن العبرة بالذابح لا بأبويه، إلا أنه قد نص في النكاح على أن من أحد أبويه غير كتابي لا تؤكل ذبيحته، ولا تنكح نساؤه، وقد تقدم الكلام على ذلك، والله أعلم. [حكم أكل ما قتل بالبندق والحجر] قال: ولا يأكل ما قتل بالبندق ولا الحجر لأنه موقوذة. ش: وكذلك ما في معنى البندق والحجر مما ليس بمحدد، كالعصا والشبكة والفخ ونحو ذلك، والأصل في ذلك آية المائدة: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]- إلى قوله - {وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة: 3] ، مع القياس على المعراض. 3527 - وقد قال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في المقتولة بالبندق: تلك الموقوذة.

حكم صيد المجوسي

3528 - وعن عبد الله بن المغفل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الخذف، وقال: «إنها لا تصيد صيدا، ولا تنكأ عدوا، ولكنها تكسر السن وتفقأ العين» ، متفق عليه. ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يؤكل ما قتل بالبندق أو الحجر وإن خرق، حتى لو قطع الحجر رأس الطائر وذهب به فإنه لا يحل، وهو كذلك، لإطلاق ما تقدم. 3529 - وعن إبراهيم عن عدي بن حاتم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا رميت فسميت فخزق فكل، وإن لم يخزق فلا تأكل، ولا تأكل من المعراض إلا ما ذكيت، ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت» . رواه أحمد، وهو مرسل، لأن إبراهيم لم يلق عديا. واعلم أن كلام الخرقي محمول على حجر لا حد له، أما ما له حد فحكمه حكم سائر المحددات إن أصابت بحدها أبيح وبغيره لم يبح. [حكم صيد المجوسي] قال: ولا يؤكل صيد المجوسي إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له. ش: أما صيد المجوسي - عدا ما لا ذكاة له كما سيأتي

إن شاء الله تعالى - فإن عدم إباحته إجماع أو كالإجماع، قال أحمد: لا أعلم أحدا قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة، وقال أيضا: ها هنا قوم لا يرون بذبائح المجوس بأسا، ما أعجب هذا؟ يعرض بأبي ثور، وقال إبراهيم الحربي: خرق أبو ثور الإجماع، فقد حكى هذا الإمام أن أبا ثور خرق الإجماع، مع أن خلاف الواحد في الاعتداد به نزاع. وقد دل مفهوم قَوْله تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] ، على أن طعام غير أهل الكتاب ليس حلا لنا، وقد دللنا على أن المجوس لا كتاب لهم في النكاح بما فيه كفاية فلينظر ثم. وأما ما لا يشترط له ذكاة كالسمك، وما لا يعيش إلا في الماء، وكذلك الجراد على المذهب فإن صيد المجوس لا يضره، لأن قصاراه أنه ميتة، وميتة ذلك حلال. 3530 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحل لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» . رواه أحمد وابن ماجه والدارقطني لكنه ضعيف، وهذا والله أعلم السبب في ذكر الخرقي الحوت.

وقد تقدم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» . قال أحمد: هذا خير من مائة حديث. 3531 - وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كل من صيد البحر صيد نصراني أو يهودي أو مجوسي. ذكره البخاري في صحيحه. (تنبيه) : حكم من لا كتاب له كعبدة الأوثان ونحوهم حكم المجوس بطريق الأولى، وإنما نص الخرقي على المجوس لوقوع الخلاف فيهم، وإن كان الخلاف شاذا. قال: وكذلك كل ما مات من الحيتان في الماء. ش: هذا معطوف على قوله: إلا ما كان من حوت فإنه لا ذكاة له. أي فيؤكل، وكذلك كل ما مات من الحيتان

حكم أكل السمك الطافي

في الماء فإنه يؤكل، وذلك لما تقدم من حديث ابن عمر وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - والخرقي نص على الحيتان اتباعا للحديث، فيلحق بذلك كل ما في معناه مما يسمى سمكا، أو مما لا يعيش إلا في البحر، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى، والله أعلم. [حكم أكل السمك الطافي] قال: وإن طفا. ش: يعني وإن طاف ما مات من الحيتان، أي: علا على وجه الماء، وإنما ذكر الخرقي ذلك لأن بعض السلف كرهه، والمذهب عندنا بلا ريب حله. قال أحمد: الطافي يؤكل، وما جزر عنه الماء أجود، والسمك الذي نبذه البحر لم يختلف الناس فيه، وإنما اختلفوا في الطافي، وليس به بأس، وذلك لعموم ما تقدم. 3532 - وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: الطافي حلال. 3533 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] . قال: صيده: ما أصيد، وطعامه:

ما رمى به، ذكرهما البخاري في صحيحه، وخرج أبو البركات فيه قولا أنه لا يباح منه ما مات بلا سبب، من رواية ضعيفة في الجراد. 3534 - ووجه ذلك في الجملة ما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما ألقى البحر أو جزر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه» . رواه أبو داود. وهذا نص، إلا أن الصحيح وقفه على جابر، قال أبو داود: رواه الثقات فأوقفوه على جابر، وقد أسند من وجه ضعيف. (تنبيه) على المذهب: هل يكره أكل الطافي؟ ظاهر كلام أبي محمد الكراهة، لأنه قال في حديث جابر: إن صح نحمله

ذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام

على نهي الكراهة، لأنه إذا مات رسب، فإذا انتن طفا فكره لنتنه لا لتحريمه. 3535 - قلت: وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نحو هذا، فقال في قَوْله تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] . طعامه ميتته إلا ما قذرت منها. ذكره البخاري في صحيحه، وكلام أحمد السابق محتمل الكراهة وعدمها، والله أعلم. [ذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام] قال: وذكاة المقدور عليه من الصيد والأنعام في الحلق واللبة. ش: قد تقدم حكم غير المقدور عليه منهما، أما المقدور عليه منهما فإن ذكاته في الحلق واللبة والذكاة هي الذبح والنحر، فالذبح في الحلق، والنحر في اللبة، وهي الوهدة التي في أصل العنق والصدر، وهذا والله أعلم إجماع. 3536 - وقد شهد له ما روى الدارقطني عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعث رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: بديل بن الورقاء الخزاعي على جمل أورق يصيح في فجاج منى: «ألا إن الذكاة في الحلق واللبة، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق، وأيام منى

أيام أكل وشرب وبعال» . 3537 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا أنه نادى: إن النحر في الحلق واللبة لمن قدر، وحديث أبي العشراء المتقدم يقتضي أن المعروف عندهم ذلك. وظاهر كلام الخرقي أنه يكتفي بقطع الحلقوم وهو مجرى النفس، والمريء وهو مجرى الطعام والشراب، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي الخطاب في خلافه الصغير، لظاهر ما تقدم، ولأنه قطع في محل الذكاة ما لا تبقى الحياة معه، أشبه ما لو قطع مع ذلك الودجين. (والرواية الثانية) : يشترط مع ذلك قطع الودجين، اختارها أبو بكر وابن البنا. 3538 - لما روي عن ابن عباس وأبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قالا: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عن شريطة الشيطان، زاد ابن

عيسى: وهي التي تذبح فيقطع منها الجلد، ولا تفرى الأوداج، ثم تترك حتى تموت» ، رواه أبو داود. 3539 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كان يقول: ما فرى الأوداج فكله. رواه مالك في الموطأ، واجتزأ في الكافي بقطع أحد الودجين عنهما، وحكى الرواية على ذلك، والمعروف في النقل الأول.

(تنبيه) «شريطة الشيطان» : هي الناقة ونحوها التي شرطت أي أثر في حلقها أثر يسير، كشرط الحجام، من غير قطع الأوداج ولا إجراء الدم، وكان هذا من فعل الجاهلية، وأضيفت إلى الشيطان فإنه حملهم على ذلك، والفري القطع، والأوداج جمع ودج، وهو عرق في العنق، وهما ودجان في جانبي العنق. قال: ويستحب أن ينحر البعير ويذبح ما سواه من الأنعام. ش: هذا اتفاق والحمد لله وقد قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] . وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] . 3540 - قال مجاهد: أمرنا بالنحر، وأمر بنو إسرائيل بالذبح، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث في قوم ماشيتهم الإبل، وبنو إسرائيل ماشيتهم البقر.

3541 - وفي الصحيح «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نحر بدنه، وضحى بكبشين أقرنين ذبحهما بيده» . قال: فإن ذبح ما ينحر، أو نحر ما يذبح فجائز. 3542 - ش: هذا هو المذهب المعروف لما في الصحيحين «من حديث أسماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: نحرنا فرسا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فأكلناه.» متفق عليه. والظاهر أن مثل هدا لا يخفى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم حكايتها ذلك تدل على أن هذا كان أمرا مشتهرا بينهم. قال: وإذا ذبح فأتت على المقاتل فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل. ش: هذه المسألة نظير مسألة ما إذا رمى الصيد فوقع في ماء، أو تردى من جبل، والكلام فيها كالكلام ثم نقلا ودليلا، ولا بد أن يلحظ أن الماء والوطء يقتل مثله غالبا، وقد تقدم نحو ذلك.

قال: فإن ذبحها من قفاها وهو مخطئ، فأتت السكين على موضع ذبحها وهي في الحياة أكلت. ش: فسر القاضي الخطأ بأن تلتوي الذبيحة عليه، فتأتي السكين على القفا، لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها، فيسقط اعتبار المحل، المتردية في بئر، أما مع عدم الالتواء فلا تباح، إذ الجرح في القفا سبب للزهوق، وهو في غير محل الذبح، فإذا اجتمع مع الذبح منع الحل، لخروج الروح بجائز وممنوع منه، وإذا يغلب جانب المنع. وقد روي عن أحمد ما يعضد هذا التفسير، فقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله عن ذبح القفا، قال: عامدا أو غير عامد؟ قلت: عامدا. قال: لا يؤكل، فإذا كان غير عامد كأن التوى عليه فلا بأس. ففسر غير العمد بالالتواء، وأبدل أبو البركات لفظ الخطأ بالسهو، وهو أعم من كلام القاضي، لدخول غير الالتواء فيه، ويقرب من كلام الخرقي، إلا أن إطلاق الخرقي يدخل فيه حال الجهل، اهـ. ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا فعل ذلك عمدا أنها لا تؤكل، وهو منصوص أحمد المتقدم، لخروج الروح بسبب مباح ومحرم، فغلب جانب التحريم.

3543 - وعن ابن عباس وابن عمر وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -: إذا قطع الرأس مع ابتداء الذبح من الحلق فلا بأس، ولا يتعمد، فإن ذبح من القفا لم تؤكل، سواء قطع الرأس أو لم يقطع. (وحكى القاضي) والشيرازي وغيرهما رواية أخرى بالإباحة بشرطه، وهو اختيار القاضي، والشيرازي، وأبي محمد وغيرهم، لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحله، دليله المتردية، وأكيلة السبع، ونحوهما. وشرط الحل حيث قلنا به أن تأتي السكين على موضع الذبح وفيه حياة مستقرة، ويعلم ذلك بوجود الحركة القوية قاله القاضي، ولم يعتبر أبو البركات القوة، وقوة كلام الخرقي وغيره يقتضي أنه لا بد من علم ذلك، وقال أبو محمد: إن لم يعلم ذلك فإن كان الغالب البقاء لحدة الآلة

الحكم لو ذبح الشاة وفي بطنها جنين

وسرعة القطع، فالأولى الإباحة، وإن كانت الآلة كالة، وأبطأ القطع لم يبح، والله أعلم. [الحكم لو ذبح الشاة وفي بطنها جنين] قال: وإذا ذبح الشاة وفي بطنها جنين أكلا، لأن ذكاتها ذكاة جنينها. 3544 - ش: لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذكاة الجنين ذكاة أمه» . رواه أبو داود. 3545 - وعن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مثله رواه الترمذي، ورواه أبو داود، ولفظه قال: «قلنا: يا رسول الله ننحر الناقة، ونذبح البقرة والشاة في بطنها الجنين؟ قال: «كلوه إن شئتم، فإن ذكاته ذكاة أمه» . وهذا ظاهره جواز الأكل مطلقا، وبين - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علة ذلك،

وهو كون ذكاته ذكاة أمه، وهو يبعد رواية من روى: «ذكاة أمه» ، بالنصب، على تقدير: يذكى تذكية مثل تذكية أمه، ثم حذف المصدر وصفته، وأقيم المضاف إليه مقامه، أو التقدير كذكاة أمه، فحذف الجار ونصب، وتترجح رواية الرفع من وجه آخر، وهو أنه لا تقدير فيها، ورواية النصب لا بد فيها من تقدير، ثم إن ابن المنذر قد قال: لم يرو عن أحد من الصحابة والتابعين وسائر العلماء أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذبح غير ما روي عن النعمان، (واعلم) أن شرط كون ذكاته ذكاة أمه أن

يخرج ميتا، أو متحركا كحركة المذبوح، أما إن كانت فيه حياة مستقرة فإنه كالمنخنقة، قاله أبو البركات، وقال أحمد: إن خرج حيا فلا بد من ذكاته، لأنه نفس أخرى. (وعنه) رواية (أخرى) : إن مات بالقرب حل. قال: أشعر أو لم يشعر. ش: يعني أن ذكاة الأم عين ذكاة جنينها، أشعر الجنين - أي: نبت عليه الشعر - أو لم يشعر، أي: لم ينبت عليه الشعر. 3546 - وإنما ذكر الخرقي ذلك لأن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وجماعة من التابعين والأئمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قالوا: إن أشعر فذكاته ذكاة أمه، وإن لم يشعر فلا، فنبه الخرقي على عدم التفرقة، اتباعا لإطلاق الحديث. قال: ولا يقطع عضوا مما ذكي حتى تزهق نفسه. ش: لما تقدم عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «ولا تعجلوا الأنفس حتى تزهق» .

ذبيحة الأعمى والأقلف والأخرس

3547 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كذلك، ولأن فيه تعذيبا للحيوان وإنه منهي عنه. وظاهر إطلاق الخرقي أن هذا النهي على سبيل التحريم، وإذا قد يقال: لا يحل أكله على قياس قوله: إذا ذبح فأتى على المقاتل، ثم وقعت في ماء، أو وطئ عليها شيء أنها لا تؤكل؛ إذ الزهوق حصل من مباح وممنوع منه. وظاهر كلام أبي محمد الكراهة، لأنه قال: كره ذلك أهل العلم، ثم قال في العضو: أن الظاهر إباحته. [ذبيحة الأعمى والأقلف والأخرس] قال: وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال. ش: هذا والله أعلم مما لا نزاع فيه، وقد قال أبو محمد: لا نعلم فيه خلافا، وقد دخل فيه البصير والأعمى، والعدل والفاسق، والمجبوب والأقلف على المذهب.

3548 - (وعنه) لا تصح ذكاة الأقلف، اعتمادا في ذلك على ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - والطاهر والجنب، والناطق والأخرس، وسيأتيان، والرجل والمرأة، والبالغ والصبي، وقد حكاه ابن المنذر فيهما إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم. 3549 - وفي صحيح البخاري وغيره «عن نافع أنه سمع ابنا لكعب بن مالك يخبر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن أباه أخبره، أن جارية لهم كانت ترعى غنما بالجبيل الذي بالسوق وهو بسلع، فأبصرت بشاة منها موتا، فكسرت حجرا فذبحتها، فقال لأهله: لا تأكلوا حتى آتي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسأله أو أرسل إليه من يسأله، فسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأمره بأكلها والحر والعبد سواء في الاعتبار» ، اهـ.

ويشترط مع الإطاقة للذبح العقل، فلا تصح ذكاة مجنون ولا طفل ولا سكران، لانتفاء القصد منهم المعتبر في الذكاة شرعا. قال: إذا سموا أو نسوا التسمية. ش: قد تقدم هذا، وأن مذهب الخرقي اشتراط التسمية في العمد دون السهو، وإنما نص الخرقي على ذلك ليصرح بأن حكم أهل الكتاب حكم المسلمين في اشتراط التسمية، وقد تقدم هذا أيضا والخلاف فيه، وإن كان الأليق ذكره هنا. (تنبيه) : إذا لم يعلم أسمى الذابح أم لا، أو ذكر اسم غير الله أم لا؟ فالذبيحة حلال، لعدم الوقوف من ذلك على كل ذابح. 3550 - «وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: إن قوما قالوا لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ قال: «سموا عليه أنتم وكلوه» . قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر» . رواه البخاري، وأبو داود

ولفظه قالوا: يا رسول الله إن قوما حديث عهد بكفر، وذكره بمعناه. قال: فإن كان أخرس أومأ إلى السماء. ش: قد دل هذا على حل ذبيحة الأخرس. وقد حكاه ابن المنذر إجماع كل من يحفظ عنه من أهل العلم ويشترط له ما يشترط للناطق من التسمية، إلا أنه لما تعذر النطق في حقه أقيمت إشارته مقام نطقه، كما أقيمت مقام ذلك في سائر تصرفاته. وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا بد من الإشارة إلى السماء، لأن ذلك علم على قصد تسمية الباري سبحانه وتعالى. 3551 - وهذا كما «قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للجارية: «أين الله» ؟ فأشارت إلى السماء، فقال: «من أنا» ؟ فأشارت بأصبعها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى السماء، أي أنت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أعتقها فإنها مؤمنة» .»

ذبيحة الجنب

فجعل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إشارتها إلى السماء علما على الوحدانية، وإلى رسالته، وحكم بإيمانها، قال أبو محمد: ولو أشار الأخرس إشارة تدل على التسمية وعلم ذلك كان كافيا. قلت: وهذا يقتضي أن التنبيه السابق في حال الغيبة، أما في حال الحضور فلا بد من العلم أو الظن بوجود التسمية. [ذبيحة الجنب] قال: وإن كان جنبا جاز أن يسمي ويذبح. ش: لبقاء أهليته، إذ الجنابة لا تخرجه عن الإسلام، وقد قال ابن المنذر: لا أعلم أحدا منع من ذلك. ويسمي كما يسمي عند اغتساله، لأن الذي منع منه هو قراءة القرآن، وليس المقصود بالتسمية على الذبيحة القراءة.

قال: والمحرم من الحيوان ما نص الله - عز وجل - عليه في كتابه. ش: الذي نص الله - عز وجل - عليه في كتابه هو قوله سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] . إلى آخرها. ولا نزاع في تحريم هذه الأشياء في الجملة، (أما لحم الخنزير) فلا ريب في تحريمه، وكذلك بقية أجزائه، اعتمادا على الإجماع، أو أن الشحم ونحوه داخل في مسمى ذكر اللحم لكونه صفة له، بدليل قولهم: لحم سمين، أي: لحم شحيم، أو أن ذكر اللحم خرج مخرج الغالب، لأنه معظم ما يقصد، مع ما فيه من مراغمة الكفار الذين يتدينون بأكل لحمه. (وأما الميتة) فيستثني منها ما استثناه المبين لكتاب ربه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو الحوت والجراد، ويلحق بالحوت ما في معناه مما يسمى سمكا، أو مما لا يعيش إلا في البحر، أو مما مات فيه - على ما تقدم - نعم بقي النظر في الطافي فإن عموم الآية يقتضي تحريمه. 3552 - وعموم قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لما سئل عن التوضؤ بماء البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . يقتضي إباحته، فلا بد من

مرجح، (فقد يقال) بترجيح عموم الكتاب لقوته، ولهذا قيل: إن عموم الكتاب لا يتخصص بالسنة، وبما تقدم من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وما مات فيه وطفا فلا تقربوه» . » 3553 - وبما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ما طفا من صيد البحر فلا تأكله. (وقد يقال) بترجيح عموم السنة، لأن عموم الكتاب قد دخله التخصيص ولا بد، بخلاف عموم السنة فإنه قد شك في تخصيصه، والأصل عدم التخصيص، وبما تقدم من قول أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الطافي حلال. 3554 - وقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في قوله سبحانه: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] ، قال: صيده ما أصيد، وطعامه ما رمى به. وهذا تفسير من عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وإذا يكون مخصصا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ، وتكون السنة عاضدة لهذا التفسير، وما روي عن علي

- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلا يعرف أصله، وحديث جابر الصحيح وقفه عليه، وقد قال بعضهم: إن الآية الكريمة لا تخصيص فيها، بل وردت على ما يتعارفه الناس في العادة، والعرف في السمك أنه لا يطلق عليه ميتة، ولهذا إذا قيل: أكل فلان ميتة، لم يسبق الوهم إلى السمك والجراد، وكذلك إذا قال: أكل دما، لم يسبق إلى الكبد والطحال. وقد أدخل بعضهم في الآية الكريمة الأجنة، وقد تقدم الاعتماد على رواية الرفع، وأن ذكاته عين ذكاة أمه، وإذا هي مذكاة لا ميتة على أن رواية النصب تخرج الحديث عن كثير فائدة، إذ الجنين إذا خرج حيا حياة مستقرة فلا يخفى حكم الذكاة في حقه، لأنه نفس أخرى. ومما قيل بدخوله في الميتة: جلدها، ولبنها، وشعرها، وعظمها، والكلام على تسليم ذلك أولا، وعلى خروجه بالتخصيص ليس هذا محله. وأما الدم فالمراد به ما عدا الكبد والطحال، إما بالخطاب العرفي، أو ببيان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وقيل: إن ذلك خرج بقوله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] إذ الكبد والطحال لا يمكن سفحهما فلا يدخلان في الدم المحرم. (ومما قيل) أنه خرج بقوله سبحانه: {دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145]

ما على العروق، وما يبقى على اللحم من الدم. (ومما قيل) أيضا بخروجه الذباب ونحوه مما لا دم له سائل، ولذلك قيل بطهارة ميتته على المذهب، وبحله في رواية، وتحريم الخنافس ونحوها للخبث. وأما {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: 173] ، أي: الذي رفع عليه الصوت بتسمية غير الله، كأن يسمى عليه اسم المسيح - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه - أو اسم صنم، ونحو ذلك كما كانوا في الجاهلية يذبحون فيقولون: باسم اللات والعزى؛ وقد اختلف في حل ما ذبح كذلك، على قولين للعلماء هما روايتان عن إمامنا: (إحداهما) - وبها قطع أبو محمد، وحكاه عن القاضي، وصححها أبو البركات -: التحريم، لذلك. 3555 - ولما في صحيح مسلم وغيره عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لعن الله من ذبح لغير الله» . و (الثانية) - ويحكى ذلك عن الشافعية -: الحل،

لقوله سبحانه: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . وقد علم أنهم يذكرون اسم المسيح، فيكون المراد بالآية الأولى: من عدا أهل الكتاب. وأما (المنخنقة) : فهي التي اختنقت بحبل أو غيره. (والمتردية) : التي تردت من جبل أو نحوه. (والنطيحة) : التي تنطح أو تنطح فتموت. (والموقوذة) : التي تقتل ضربا، يقال: وقذتها أقذها وقذا. وأوقذتها أوقذها إيقاذا: إذا أثخنتها ضربا. (وما أكل السبع) : التي أكل منها السبع، والعرب تسمي ما قتله السبع، وما أكل منه وبقيت منه بقية: أكيلة السبع، وهي فريسته. والحكم في هذه الأربعة أنها إذا أدرك ذبحها على التمام حلت وإلا فلا، وبيان ذلك أن قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] إنما يرجع إلى ما تمكن ذكاته، وهو المنخنقة وما بعدها، أما الميتة والدم، ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، فلا يتصور فيه ذكاة، والمعنى: إلا الشيء الذي أدركت ذكاته من هذه الأربعة، وأصل الذكاة في اللغة: تمام الشيء، ومنه: الذكاء في السن والفهم تمامهما، فتمام السن: النهاية في الشباب، فقبل ذلك أو بعده لا يسمى ذكاء، وتمام الفهم: سرعة القبول، وذكيت النار: أتممت إشعالها،

فقوله سبحانه: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] أي: ما أدركتم ذبحه على التمام. واختلف في الذبح على التمام ما هو في هذه الآية، (وعن إمامنا) في ذلك ثلاث روايات. (إحداهن) : بأن يكون في ذلك حياة يمكن أن تزيد على حركة المذبوح، أو تتحرك كحركة المذبوح عند الذبح، ولو بيد أو رجل أو طرف عين ونحو ذلك. (الثانية) : أن ما يمكن أن يبقى معظم اليوم يحل، وما يعلم موته لأقل منه في حكم الميت. (والثالثة) : ما تيقن أنه يموت من السبب في حكم الميت مطلقا، اختارها ابن أبي موسى. واختار أبو محمد قولا رابعا أنها إن تيقن موتها بالسبب، كأن تعيش زمنا يكون الموت بالذبح أسرع منه حلت بالذبح، وإن كانت مما لا يتيقن موتها فكالمريضة، متى تحركت وسال دمها حلت وإلا فلا. وتوجيه هذه الأقوال، والاتساع في الآية الكريمة يحتاج إلى بسط لا يليق بهذا الشرح. وقوله سبحانه: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] . أي: الحجارة التي كانت لهم يعبدونها، واحدها: نصاب، و (على) ، قيل: بمعنى اللام، أي: وما ذبح لأجل الأصنام، والذابح للأصنام هم عبادها، فالمنع هنا للشرك، وعلى هذا يحل ما ذبحه الكتابي لعيده أو لكنيسته ونحو ذلك، وهو مذهبنا، لعموم:

ما تستطيبه العرب وما تستخبثه من الدواب

{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . نعم يكره ذلك على الصحيح، وعلى هذا تستوي هذه الآية، وقَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] إن قيل: المراد بها ذبائح المشركين، وظاهر هذه، أن المنع إنما كان لأجل الذبح للصنم، وإذا فالذبح للكنيسة ونحوها في معناه. 3556 - ويؤيده حديث علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «لعن الله من ذبح لغير الله» . وقد قيل: إن الذبح لهذه الأشياء يدخل أيضا في قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] وإذا هذا من ذكر الخاص بعد العام. [ما تستطيبه العرب وما تستخبثه من الدواب] قال: وما كانت العرب تسميه طيبا فهو حلال، وما كانت تسميه خبيثا فهو محرم، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] . ش: يعني أن الله - سبحانه وتعالى - نص على تحريم أشياء وقد تقدمت، وأجمل حل أشياء وتحريم أشياء، وترك بيان ذلك إحالة على عرف من وقع الخطاب لهم وهم العرب، والمراد بهم: أهل الحجاز من أهل الأمصار، لأنهم الذين نزل عليهم الكتاب، ولا عبرة بأهل البوادي، لأنهم للضرورة والمجاعة يأكلون ما وجدوا، ولو وجد شيء لا يعرفه أهل الحجاز، رد إلى أقرب الأشياء شبها به في الحجاز، فإن تعذر شبهه بشيء منها فهو مباح، كذا قاله الشيخان، لدخوله

في قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] . الآية. 3557 - وعن سلمان الفارسي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الجبن والسمن والفراء، فقال: «الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت الله عنه فهو مما عفي عنه» » . رواه ابن ماجه، والترمذي. قلت: وقد يستشكل هذا، يعني أن الأصل في الأطعمة الحل، وظاهره مخالف لما هو مقرر في الأصول من أن الأصل في الأعيان (هل هو الحظر) كما هو اختيار ابن حامد والقاضي والحلواني، (أو الإباحة) كما هو اختيار أبي الحسين الخرزي وأبي الخطاب، (أو الوقف) كما هو اختيار ابن عقيل وأبي محمد على ثلاثة أقوال، وبنوا على ذلك أن من حرم

المحرم من الحيوان

شيئا أو أباحه، وقال: طلبت دليل الشرع فلم أجد، فبقيت على حكم الأصل من حظر أو إباحة، فهل يصح ذلك أم لا؟ وكذلك من كان في برية لا يعرف شيئا من الشرعيات، وهناك فواكه وأطعمة، فهل تكون في حقه على الإباحة أو الحظر؟ وبسط ذلك يحتاج إلى طول. إذا علم هذا فمن السمتخبثات: الحشرات، كالديدان، وبنات وردان، والخنافس، والفأر، والأوزاغ، والجراذين، والعقارب، والحيات، ونحو ذلك، وكذلك القنفذ. 3558 - لما في السنن من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ذكر القنفذ لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «هو خبيثة من الخبائث» » . [المحرم من الحيوان] قال: وبسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحمر الأهلية. ش: أي: والمحرم من الحيوان بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أشياء منها الحمر الأهلية. 3559 - وذلك لما روى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال:

«نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية نضيجا ونيئا» . 3560 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «إن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية» . 3561 - وعن أبي ثعلبة الخشني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الحمر الأهلية» ، متفق عليهن. قال ابن عبد البر: روى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تحريم الحمر الأهلية: علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وجابر، والبراء، وعبد الله بن أبي أوفى، وأنس، وزاهر الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بأسانيد صحاح حسان. قال: ولا خلاف بين علماء المسلمين اليوم في تحريمها، وقال أحمد: خمسة عشر من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كرهوها. والله أعلم.

قال: وكل ذي ناب من السباع. ش: أي: ومن المحرم بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كل ذي ناب من السباع. 3562 - وذلك لما روى أبو ثعلبة الخشني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع» . رواه الجماعة. 3563 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل ذي ناب من السباع حرام» . رواه مسلم وغيره، وهذا نص في أن المراد بالنهي: التحريم، كما هو ظاهره، ولا يعارض هذا قَوْله تَعَالَى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} [الأنعام: 145] ، الآية، لأن سورة الأنعام مكية نزلت قبل الهجرة، وكان القصد بالآية الكريمة الرد على الجاهلية في تحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ولم

يكن في ذلك الوقت محرم إلا ما ذكر في الآية، ثم بعد ذلك حرم أمورا كثيرة؛ كالحمر والبغال وغير ذلك، والله أعلم. قال: وهي التي تضرب بأنيابها الشيء وتفرس بها. ش: هذا تبيين وتوضيح لصاحب الناب من السباع، والأنياب: مما يلي الرباعيات من الأسنان، ويدخل في هذا الأسد، والنمر، والفهد، والذئب، والكلب، والخنزير، والفيل، وابن آوى، وابن عرس، والنمس. وسئل أحمد عن ابن آوى وابن عرس فقال: كل شيء ينهش بنابه فهو من السباع. فكأنه لم يتحقق عنده حالهما، كما لم يتحقق عنده كال الدب، فقال: إن لم يكن له ناب فلا بأس به، وكذلك قال أبو محمد: ينظر فيه فإن كان ذا ناب يفرس به حرم وإلا أبيح، وقطع أبو بكر بتحريمه، وقطع أبو محمد في ابن آوى وابن عرس والنمس بأنها من السباع فتحرم. واختلفت

الرواية عن أحمد في الثعلب وسنور البر هل هما محرمان أو مباحان؟ على روايتين، للتردد في كون لهما نابان يفرسان به أم لا. والشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - علل التحريم بكونهما من السباع، والإباحة بكونهما يفديان في الحرم والإحرام، ولا يفدى إلا المأكول، وقد يقال: الفداء للتردد فيهما احتياطا. وكذلك اختلف الأصحاب في السنجاب فرآه القاضي مما له ناب فحرمه، ولم يتحقق ذلك لأبي محمد، فحكى فيه احتمالا بالإباحة، ورجحه اعتمادا على الأصل. قال: وكل ذي مخلب من الطير. ش: هذا عطف على ما تقدم. 3564 - وذلك لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» . رواه مسلم وغيره.

حكم أكل المضطر

3565 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «حرم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يعني: يوم خيبر - لحوم الحمر الأهلية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» . رواه أحمد والترمذي. قال: وهي التي تعلق بمخاليبها (الشيء) وتصيد بها. ش: كالعقاب، والبازي، والصقر، والشاهين، والحدأة، والبومة، ونحو ذلك. [حكم أكل المضطر] قال: ومن اضطر إلى أكل الميتة فلا يأكل منها إلا ما يأمن معه الموت. ش: أي: الميتة التي نص الله تعالى على تحريمها في الآية الكريمة، وإباحتها في حالة الاضطرار في الجملة إجماع والحمد لله، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173] ، وفي آية المائدة: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 3]

ولا نزاع في إباحة ما يؤمن معه الموت، كما أنه لا نزاع في تحريم ما زاد على الشبع، لانتفاء الاضطرار المبيح إذا، وفي الشبع روايتان أنصهما - وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار عامة الأصحاب -: ليس له ذلك، لأن الله سبحانه حرم الميتة أولا، ثم أباح ما اضطررنا إليه بقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ} [البقرة: 173] ، وفي آية أخرى {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، ومع أمن الموت لا اضطرار، ويؤيده ذلك قوله سبحانه: {غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ} [البقرة: 173] ، أي: ولا عاد سد لجوعه. (والثانية) - وهي اختيار أبي بكر فيما حكاه عنه الشيخ وغيره، والذي رأيته في التنبيه ظاهره الرواية الأولى -: له ذلك. 3566 - لما روى جابر بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده، فقال رجل: إن ناقة لي ضلت، فإن وجدتها فأمسكها. فوجدها فلم يجد صاحبها، فمرضت فقالت امرأته: انحرها. فأبى، فنفقت، فقالت: اسلخها حتى نقدد حتى شحمها ولحمها ونأكله. فقال: حتى أسأل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأتاه فسأله فقال: «هل عندك غنى يغنيك؟» قال: لا. قال: «فكلوه» . قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر، فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك.» رواه أبو داود، فأطلق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأكل، ولم يقيده بما يسد الرمق.

وفرق أبو محمد بين ما إذا كانت الضرورة مستمرة - كحال الأعرابي - فيجوز له الشبع، اتباعا لإطلاق الحديث، إذ لو اقتصر على سد الرمق عادت الضرورة إليه عن قرب، وأفضى إلى ضعف بدنه، وربما أدى ذلك إلى تلفه، وبين ما إذا لم تكن مستمرة فلا يجوز له الشبع، لانتفاء المحذور المتقدم، وعملا بمقتضى الآية. إذا تقرر هذا، فمعنى الاضطرار أنه متى ترك الأكل خاف التلف. قال أحمد: إذا كان يخشى على نفسه، سواء كان من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل عجز عن المشي، وانقطع عن الرفقة فهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك. ومقتضى هذا أنه يجوز له الشبع إذا كان سد الرمق يقطعه عن الرفقة، أو يعجزه عن الركوب (فيهلك) ، وهو مقتضى كلام الخرقي، وظاهر الآية الكريمة، لأنه والحال هذه مضطر. ولم يفرق الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بين الحاضر والمسافر، وهو كذلك، اعتمادا على ظاهر الآية، ولأن الاضطرار قد يكون في الحضر في سنة المجاعة. (وعن أحمد) أنه قال: أكل الميتة إنما يكون في السفر. قال أبو محمد: يعني أنه في الحضر يمكنه السؤال. قال: وهذا من أحمد خرج مخرج

الغالب، إذ الغالب وجود الطعام الحلال في الحضر، ودفع الضرورة بالسؤال، قلت: وظاهر هذا التقرير أن الميتة لا تباح لمن يقدر على دفع الضرورة بالمسألة. وقد قال أبو محمد: إنه ظاهر كلام أحمد، اهـ. وكلام الخرقي في شموله للمسافر يشمل السفر الجائز والمحرم، وهو اختيار صاحب التلخيص، وقال عامة الأصحاب: لا يباح للعاصي بسفره تناول الميتة بحال، وأصل هذا أن قَوْله تَعَالَى: {غَيْرَ بَاغٍ} [البقرة: 173] ، هل هو غير باغ على المسلمين، أو غير باغ على مضطر آخر بالاستئثار عليه، أو بمن أكلها تلذذا؟ فيه ثلاثة أقوال للمفسرين. وكذلك في قوله - سبحانه -: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ} [المائدة: 3] ، هل التجانف بالسفر أو بالزيادة على سد الرمق؟ فيه أيضا قولان.

ويرجح ظاهر إطلاق الخرقي بقوله تعالى: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] ، فإنه أطلق فيه، وبقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، وبأن أكل الميتة عزيمة واجبة، حتى لو امتنع كان عاصيا، كما هو المشهور من الوجهين لهذه الآية، وهو ظاهر كلام أحمد. 3567 - قال في رواية الأثرم - وقد سئل عن المضطر يجد الميتة ولم يأكل، فذكر قول مسروق: من اضطر فلم يأكل ولم يشرب فمات دخل النار. وعلى هذا اعتمد صاحب التلخيص، وقد يقال أن أصل هذا الخلاف أن المسكين إذا امتنع من المسألة حتى مات هل يأثم أم لا؟ قال القاضي: كلام أحمد يقتضي روايتين، فإن قلنا: يأثم، وجب الأكل، وإن قلنا: لا يأثم لم يجب الأكل. (تنبيه) : حكم جميع المحرمات حكم الميتة فيما تقدم في الجملة. (والحرة) : أرض تركبها حجارة سود. (وضلت) ، أي: ضاعت. (ونفقت) ، أي: ماتت. قال: ومن مر بثمرة فله أن يأكل منها ولا يحمل، فإن كان عليها محوطا فلا يدخل إلا بإذن. ش: اختلفت الرواية عن إمامنا في هذه المسألة (فروي عنه) إباحة ذلك مطلقا، أعني: سواء كان محتاجا أو لم يكن،

وسواء أكل من المعلق أو من المتساقط، وهذه ظاهر كلام الخرقي، واختيار القاضي وغيره، قال القاضي في خلافه الصغير: اختاره عامة أصحابنا. وقال أبو الخطاب في هدايته: عامة شيوخنا. 3568 - وذلك لما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من دخل حائطا فليأكل ولا يتخذ خبنة» . رواه الترمذي وابن ماجه. 3569 - وعن عبد الله بن عمرو، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الرجل يدخل الحائط فقال: «يأكل غير متخذ خبنة» . رواه أحمد، (وعنه) : لا يحل له ذلك مطلقا إلا بإذن المالك. حكاها ابن عقيل في التذكرة. 3570 - لعموم: « «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام» . متفق عليه.

3571 - وعن العرباض بن سارية أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ألا وإن الله لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم» . أخرجه أبو داود. وغاية هذين عموم فنخصه بما تقدم. (وعنه) جواز ذلك من المتساقط دون غيره. 3572 - لما «روى رافع بن عمرو، قال: كنت أرمي نخل الأنصار، فأخذوني فذهبوا بي إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «يا رافع لم ترم نخلهم؟» قلت: يا رسول الله الجوع. قال: «لا ترم، وكل ما وقع، أشبعك الله وأرواك» .» وقد يقال: إن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - علم أنه يسقط من نخلهم ما يشبعه، وكيف لا يحصل له الشبع، وقد حصل له دعاء النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

ومع حصول ذلك فلا حاجة إلى الرمي، لأنه نوع إفساد. (وعنه) : يحل له ذلك لحاجة، ولا يحل لغير حاجة. 3573 - لما روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن التمر المعلق، فقال: «ما أصاب منه من ذي الحاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن أخرج منه شيئا فعليه غرامة مثليه، والعقوبة» » . رواه الترمذي وحسنه. (وعنه) : إن كان مضطرا أكل وإلا لم يأكل. . حكاها القاضي في الجامع وغيره، وهي ظاهر كلامه في رواية أبي طالب، وسئل إذا لم يكن تحت الشجرة شيء يصعد؟ فقال: لم أسمع يصعد، فإن اضطر أرجو أن لا يكون به بأس. (وهذه الرواية) قد تحمل على أن المراد بالضرورة الحاجة، لأن أبا محمد صرح بأنه هنا لا يعتبر حقيقة الاضطرار، والظاهر حملها على ظاهرها، وأن المراد بالضرورة هنا: الضرورة المبيحة للميتة، ولهذا قال القاضي هنا - بعد أن ذكر الرواية -: وعندي أنه يباح له الأكل إذا احتاج إلى ذلك، مثل أن تشتهي نفسه الثمرة وتلتهف عليها، ولا شيء معه لشرائها، ولا يجد من يبيعه إياها نسيئا. لا يقال: فلا فائدة في هذه المسألة على هذه الرواية، لأن غير الثمرة تباح أيضا عند الضرورة، لأنا نقول: فائدة ذلك أن الثمرة تباح مجانا حيث أبيح تناولها. (وعنه) : يباح ذلك في السفر دون الحضر، قال في الرواية صالح - وسئل عن ذلك: إنما الرخصة للمسافر، وهذه

الرواية قد تحمل على رواية اشتراط الحاجة. واعلم أن هذا الخلاف كله في الأكل بفيه دون الحمل كما صرح به الخرقي، وشهدت به الأحاديث، وهو أن لا يتخذ خبنة، وهي ما تحمله في حضنك؛ وقيل: هو أن يأخذه في خبنة ثوبه، وهو ذيله وأسفله. ثم شرط جواز الأكل حيث قيل به أن لا يكون على الثمرة حائط، نص عليه أحمد والأصحاب، قال أحمد: لأنه شبه الحريم. 3574 - وبأنه استند في ذلك إلى قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إن كان عليها حائط فهو حريم، فلا تأكل، وإن لم يكن عليها حائط فلا بأس. وسيأتي في الحديث ما يرشد إلى ذلك أيضا. (نعم) إن كان مضطرا جاز له الدخول والأكل، وفي معنى الحائط الناطور، قاله غير واحد من الأصحاب، وقال في المغني: قال بعض أصحابنا: الناطور بمنزلة المحوط.

وظاهر كلام الخرقي أن هذا الحكم مختص بالثمرة، فلا يثبت هذا الحكم لغيرها من مال الغير، ولا نزاع في ذلك إلا في صورتين، فإنه قد اختلف عن إمامنا فيهما، (إحداهما) : الزرع، (فعنه) المنع كغيره من الأموال، وقال: إنما رخص في الثمار، وقال: ما سمعنا في الزرع أن يمس منه، وذلك لأن الثمار النفوس تتشوف إليها رطبة، بخلاف الزرع. (وعنه) يأكل من الفريك، إذ العادة جارية بأكله رطبا فأشبه الثمرة. قال أبو محمد: وكذلك الحكم في الباقلاء والحمص، وشبههما مما يؤكل رطبا، فأما الشعير وما لم تجر العادة بأكله فلا يجوز الأكل منه. قلت: ولهذه المسألة التفات إلى ما تقدم في الزكاة من أنه يوضع لرب المال عند خرص الثمرة الثلث أو الربع، ولا يترك له شيء من الزرع إلا ما العادة أكله فريكا. (تنبيهان) : «أحدهما» : قد علم أن الخلاف إنما هو في الفريك، وأبو محمد ألحق بذلك ما في معناه كما تقدم، وهو حسن، والشيخان في مختصريهما وغيرهما يحكون الخلاف في الزرع على الإطلاق. (الثاني) ظاهر كلام أحمد أن الخلاف في الزرع حيث

رخص له في الثمرة، وأبو البركات جعل الخلاف على الرواية الأولى، وظاهر كلامه المنع على ما بعدها مطلقا. (الصورة الثانية) : شرب لبن الماشية، فيه أيضا روايتان، (إحداهما) : له أن يحلب ويشرب ولا يحمل، اختارها أبو بكر. 3575 - لما روى الحسن عن سمرة بن جندب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه فإن أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فليصوت ثلاثا، فإن أجابه فليستأذنه، فإن أذن له، فليحتلب وليشرب ولا يحمل» . رواه أبو داود والترمذي وصححه، وقال ابن المديني: سماع الحسن من سمرة صحيح. 3576 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا أتى أحدكم حائطا فأراد أن يأكل فليناد: يا صاحب الحائط. ثلاثا، فإن أجابه وإلا فليأكل، وإذا مر أحدكم بإبل فأراد

أن يشرب من ألبانها فليناد: يا صاحب الإبل، أو يا راعي الإبل. فإن أجابه وإلا فليشرب» . رواه أحمد وابن ماجه. (والثانية) : ليس له ذلك، نص عليه. 3577 - مفرقا بينه وبين الثمر؛ لأن أكل الثمر فعله غيره واحد من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 3578 - ومستدلا على المنع هنا بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وقال: هو أجود إسنادا، وهو ما روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى

مشربته فينتقل طعامه، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه» » . متفق عليه. (قلت) : وقد يحمل على ما إذا كان صاحبها فيها، توفيقا بين الحديثين. (تنبيهان) : «أحدهما» : الخلاف أيضا في الماشية حكاه أبو البركات على الرواية الأولى، وينبغي أن يكون حيث أبيح الأخذ. (الثاني) : إذا جوزنا الأكل من الثمار وغيرها، فقال أبو محمد: الأولى أن لا يأكل إلا بإذن، للخلاف والأخبار الدالة على التحريم. (قلت) : وينبغي أن يتقيد جواز الحلب والشرب من الماشية بما إذا صوت بصاحبها ثلاثا فلم يجبه، كما في الحديث، وقد نص أحمد على ذلك فقال: ناد ثلاثا، فإن أجابك وإلا فاشرب. قال: ومن اضطر فأصاب ميتة وخبزا لا يعرف مالكه أكل الميتة. ش: هذا منصوص أحمد، وبه قطع عامة الأصحاب، منهم أبو محمد في المغني، لأن الميتة منصوص عليها، ومال الغير مجتهد فيه، والمنصوص عليه أولى، ولأن حق الله تعالى مبني على المسامحة والمساهلة، بخلاف حق الآدميين.

ولأبي محمد في المقنع احتمال بجواز أكل طعام الغير، بشرط أن لا تقبل نفسه الميتة، وبه جزم في الكافي لأنه والحال هذه عليه ضرر في أكل الميتة، وإنه منفي شرعا. قال: فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه أخذه منه قهرا، ليحيي به نفسه، وأعطاه ثمنه، إلا أن يكون بصاحبه مثل ضرورته. ش: إذا لم يجد المضطر إلى طعام الغير فلا يخلو إما أن يكون صاحبه مضطرا إليه أيضا أو لا، فإن كان صاحبه مضطرا إليه فهو أحق به، وليس لأحد أخذه منه، لمساواتهما في الضرورة، ويرجح المالك بالملك، وقد أشار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ذلك حيث قال: «ابدأ بنفسك» . وإن لم يكن مضطرا إليه لزمه أن يبذل للمضطر ما يسد رمقه على المذهب، أو قدر شبعه على رواية بقيمته، لما فيه من إحياء نفس آدمي معصوم، أشبه بذلك منافعه في إنجائه من الغرق ونحو ذلك، فإن امتنع من ذلك فللمضطر أن يأخذ منه ما يسد رمقه أو قدر شبعه ولو قهرا، حتى لو قتل صاحب الطعام فهو هدر، ولو قتل المضطر ضمنه صاحب الطعام، لأنه والحال هذه مستحق له دون مالكه، ويلزمه عوض ما أخذ، فإن كان معه في الحال وإلا لزمه في ذمته.

وقول الخرقي: فإن لم يصب إلا طعاما لم يبعه مالكه، إلى آخره، ظاهره أنه لو وجد ميتة وطعاما وامتنع صاحبه من بذله له ببيع أو غيره لم يجز له أخذه منه قهرا، وهو كذلك، لأنه لم يتعين طريقا لإحياء نفسه. (وقوله) : لم يبعه مالكه أخذه قهرا، مقتضاه أنه لو باعه له لم يكن له أخذه منه قهرا وهو واضح، وفي معنى ذلك إذا بذله له مجانا. وكلام الخرقي يشمل ما إذا باعه له بأكثر من ثمن المثل، وهو مختار أبي محمد في المغني، وجوز القاضي والحال هذه أخذه قهرا وقتاله عليه، وعلى كلا القولين لا يلزمه أكثر من ثمن مثله، لأنه صار مستحقا له بذلك. (ثم قول الخرقي) : لم يبعه. يريد البيع الشرعي، فلو امتنع المالك من البيع إلا بعقد ربا كان للمضطر أخذه قهرا، على ظاهر كلام الخرقي، ونص عليه بعض الأصحاب، معللا بأن عقد الربا محظور لا تبيحه الضرورة، والمقاتلة والحال هذه طريق أباحه الشرع، نعم إن لم يقدر على قهره دخل في العقد ملافظة وعزم على أن لا يتم عقد الربا، بل إن كان نسأ عزم على أن العوض الثابت في الذمة يكون قرضا، وقال بعض المتأخرين: لو قيل: إن له أن يظهر معه صورة الربا ولا يقاتله، بل يكون بمنزلة المكره فيعطيه من عقد الربا صورته لا حقيقته لكان أقوى. وقوله: وأعطاه ثمنه. وبعضهم يقول قيمته؛ والأجود

حكم أكل الضب والضبع والثعلب

عوضه، وهي عبارة المغني، لشمولها المثلي والمتقوم. [حكم أكل الضب والضبع والثعلب] قال: ولا بأس بأكل الضب. 3579 - ش: لما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الضب فقال: «لا آكله ولا أحرمه» . وفي رواية لمسلم أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كلوه فإنه حلال، ولكنه ليس من طعامي» . 3580 - وقال أبو سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كنا معشر أصحاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأن يهدى إلى أحدنا ضب أحب إليه من دجاجة. قال: والضبع. 3581 - ش: لما روي «عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عمار قال: قلت لجابر: الضبع أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: آكلها؟ قال: نعم. قلت: أقاله رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قال: نعم» .

رواه الخمسة وصححه الترمذي والبخاري، واحتج به أحمد، ولفظ أبي داود: «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الضبع فقال: «هي صيد ويجعل فيه كبش إذا صاده المحرم» . وبهذا يتخصص عموم النهي عن كل ذي ناب من السباع إن سلم أن له نابا، وقد قيل: إنه لا ناب له، وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والثعلب. ش: قد تقدمت الروايتان في الثعلب، وأن الخلاف فيه للتردد فيه هل هو من السباع العادية فيدخل في عموم النهي، أم لا فيبقى على أصل الإباحة، والشريف أبو جعفر يختار إباحته كالخرقي، وأبو محمد يقول: إن أكثر الروايات عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - التحريم، والله أعلم. قال: ولا يؤكل الترياق، لأنه يقع فيه لحوم الحيات. ش: الترياق: دواء مركب يتعالج به من السم وغيره، وقد علل الخرقي المنع منه لما فيه من لحوم الحيات، وقد تقدم أن ذلك من الخبائث الممنوع منها، وفي كلام الخرقي

إشارة إلى أنه لا يجوز التداوي بمحرم، ولا ريب في ذلك عندنا. 3582 - لما روى أبو الدرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا ولا تداووا بحرام» . رواه أبو داود. 3583 - وعن وائل بن حجر، «أن طارق بن سويد الجعفي سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الخمر فنهاه عنها، فقال: إنما أصنعها للدواء. فقال: «إنه ليس بدواء ولكنه داء» . رواه مسلم وغيره. 3584 - وقال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في المسكر: إن الله

حكم أكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم

لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم. رواه البخاري. [حكم أكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم] قال: ولا يؤكل الصيد إذا رمي بسهم مسموم إذا علم أن السم أعان على قتله. ش: لأنه مات من سبب مباح وهو السهم، ومحرم وهو السم، فلم يبح كما لو مات من رمية مسلم ومجوسي، وكما لو رماه فوجده غريقا في الماء. وقد دل على الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن وجدته غريقا في الماء فلا تأكله، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك» » . ومفهوم كلام الخرقي أنه إذا لم يعلم أن السم أعان على قتله أنه يباح، وله صورتان: تارة يعلم عدم إعانته، وتارة يشك، وهو كذلك، لأن سبب الحل قد وجد، وشك في المحرم، والأصل عدمه، وكأن مراد الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - بالعلم هنا الظن، لإناطة الأحكام بغلبة الظن كثيرا، وكذا قال الشيخان في مختصريهما، وإن كان أبو محمد لم ينبه

حكم ما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر فمات

على ذلك في شرح الكتاب، والله أعلم. [حكم ما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر فمات] قال: وما كان مأواه البحر وهو يعيش في البر، لم يؤكل إذا مات في بر أو بحر. ش: وذلك ككلب الماء وطيره والسلحفاة ونحو ذلك، لأنه حيوان له نفس سائلة، يعيش في البر، فأشبه بهيمة الأنعام، ولمفهوم: «أحل لنا ميتتان» ، وسيأتي، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد، واختيار عامة الأصحاب. (والرواية الثانية) - وعن بعض الأصحاب أنه صححها - أنه يحل ميتة كل بحري، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وهو حديث صحيح، تقدم الكلام عليه في أول الكتاب، قال أحمد: هذا خير من مائة حديث. وهو شامل لكل ما مات في البحر. 3585 - وعن شريح من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله ذبح ما في البحر لبني آدم» . رواه الدارقطني، وذكره البخاري عن شريح موقوفا. 3586 - وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كل ما في

البحر قد ذكاه الله تعالى لكم. واستثنى أبو محمد في المغني السرطان، فأباحه من غير ذكاة، معللا بأن مقصود الذبح إخراج الدم، وتطييب اللحم بإزالته عنه، والسرطان لا دم فيه، فلا حاجة إلى ذبحه، وظاهر كلامه في المقنع الصغير وغيره من الأصحاب جريان الخلاف فيه. وظاهر كلام أبي محمد أيضا استثناء الطير، وأن شرط حله الذكاة بلا خلاف، لأنه جعله أصلا قاس عليه، وقال: لا خلاف فيه فيما علمناه. ومفهوم كلام الخرقي أن ما لا يعيش إلا في البحر تباح ميتته، ويحل بلا ذكاة، وهو يشمل شيئين (أحدهما) السمك، ولا نزاع في حل ميتته ما عدا الطافي، على ما تقدم، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحل لنا ميتتان ودمان، فالميتتان: الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال» . وغير الحوت مما يسمى سمكا في معناه، مع ما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في البحر: «هو الطهور ماؤه، الحل ميتته» . وغير ذلك. (الثاني) : ما عدا السمك مما لا يعيش إلا في البحر، وفيه روايتان. (إحداهما) - وبها قطع أبو محمد في كتبه، بل قال في كتابه الكبير: لا نعلم فيه

خلافا. وهي ظاهر كلام الخرقي - أنه يحل بلا ذكاة، لحديثي أبي هريرة وشريح. 3587 - وفي الصحيح «أن أبا عبيدة وأصحابه وجدوا على ساحل البحر دابة يقال لها العنبر، فأكلوا منها شهرا حتى سمنوا وادهنوا، فلما قدموا على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبروه، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء تطعمونا» (والرواية الثانية) - وهي ظاهر اختيار جماعة من الأصحاب -: لا يحل شيء من ذلك إلا بالذكاة، نظرا لتخصيص حديثي أبي هريرة وشريح بمفهوم: «أحل لنا ميتتان: الحوت والجراد» . فإن التخصيص بالحوت يدل على نفي الحكم عما عداه، وإنما ألحق بالحوت ما يسمى سمكا بقياس أن لا فارق، وقد يمنع صاحب الرواية الأولى هذا المفهوم، لأنه مفهوم لقب وهو غير حجة، ولو قيل بحجيته فلا يقاوم عموم ما تقدم. ولصاحب الرواية الثانية أن يقول: حديثا أبي هريرة وشريح قد دخلهما التخصيص باتفاقنا بما يعيش في البر، فالتخصيص بمفهوم الحديث في الصورتين، أولى من إخراج إحدى الصورتين بقياس يعارضه العموم مع أنه طردي.

وقوع النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه

(تنبيه) : كلام الخرقي السابق في الحوت إذا مات في البحر أنه يحل، فقد يقال: مفهوم أنه إذا مات في البر أنه لا يحل، وليس كذلك بالاتفاق، والله أعلم. [وقوع النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه] قال: وإذا وقعت النجاسة في مائع كالدهن وما أشبهه نجس. ش: ما أشبهه من اللبن والخل ونحو ذلك، وعموم هذا يشمل القليل والكثير، وما أصله الماء كالخل ونحوه وغيره، (وهذا إحدى الروايات) ، واختيار عامة الأصحاب. 3588 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن ميمونة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل عن الفأرة تقع في السمن، فقال: «إن كان جامدا ألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه» » . رواه أبو داود والنسائي، وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحوه، رواه أحمد وأبو داود، وقد احتج أحمد بهذا الحديث، وثبته محمد بن يحيى الذهلي. والمائع يشمل القليل والكثير، وهو حكاية حال مع قيام الاحتمال، فينزل منزلة العموم في المقال، لا يقال: هذا خرج على ما يتعارفه أهل المدينة، ولم يكن عند أهل

المدينة وعاء في الغالب يبلغ خمسمائة رطل ونحوه، لأنا نقول: الخطاب وإن وقع لأهل الحجاز، فالحكم لا يخصهم بل يعمنا أيضا، فلا احتيج إلى تفصيل لفصل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (والرواية الثانية) : أن حكم المائع حكم الماء، اختارها أبو العباس، نظرا إلى أن المعروف في الحديث: «ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم» » . أما التفرقة بين المائع وغيره فضعيف، وبأنه خرج على المعتاد لأهل الحجاز، وهم لا يعتادون السمن إلا في أوان صغار. (والرواية الثالثة) : ما أصله الماء كالخل ونحوه، حكمه حكم الماء اعتبارا بأصله، وما لا كاللبن ونحوه فلا. قال: واستصبح به إن أحب. ش: يجوز الاستصباح بالدهن المتنجس في (إحدى الروايتين) عن أبي عبد الله، وهي أشهرهما عنه، واختيار الخرقي وغيره.

3589 - لأن ذلك يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولأنه انتفاع أمكن من غير ضرر، فأشبه الطاهر.

3590 - وقد جاء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في العجين الذي عجن بماء من أبيار ثمود، أنه نهاهم عن أكله، وأمرهم أن يعلفوه النواضح. (والرواية الثانية) : لا يجوز، لأنه دهن نجس فلم يجز الاستصباح به كدهن الميتة. 3591 - ودليل الأصل «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: «لا، هو حرام» » . ولا تفريع على هذه، أما على الرواية الأولى فيستصبح به على وجه لا يمسه، ولا تتعدى نجاسته إليه، بأن يجعل الزيت في إبريق له بلبلة، ويصب منه في المصباح ولا يمسه، أو يضع على رأس الوعاء الذي فيه الزيت سراجا مثقوبا، ويطينه على رأس الوعاء، وكلما نقص زيت السراج صب فيه ماء، بحيث يرتفع الزيت، حذارا من تلطخه بالنجاسة.

3592 - ولهذا منع أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - من دهن الجلود به، وعجب من قول ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه تدهن به الجلود. قال: ولم يحل أكله. ش: هذا مما لا ريب فيه؛ لأن النجس خبيث، والله سبحانه وتعالى قد حرم الخبائث، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فلا تقربوه» ، والله أعلم. قال: ولا ثمنه. ش: هذا هو المذهب المشهور، والمجزوم به عند عامة الأصحاب. 3593 - لما في الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم، فجملوها فباعوها فأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه» . (وعن أحمد) رواية أخرى: أنه يجوز بيعه لكافر يعلم بنجاسته، نظرا لاعتقاد الكافر حله. 3594 - واعتمادا على أن ذلك روي عن أبي موسى الأشعري، وخرج أبو الخطاب في الهداية - ومن تبعه كصاحب التلخيص وأبي محمد وغيرهما - قولا بجواز بيعه مطلقا من رواية الاستصباح به، لأنه إذا منتفع به، وضعف لأن

المعروف عن أحمد وغيره جواز الاستصباح وتحريم البيع، فدل على أنهم فرقوا بينهما، وخرج ذلك أبو البركات على القول بتطهيره بالغسل، لأنه إذا كالثوب النجس، وهذا واضح، لأنه بناء ضعيف على ضعيف. وكلام الخرقي كله في الدهن المتنجس، أما الدهن النجس العين، كدهن الميتة، فلا يجوز الانتفاع به باستصباح ولا غيره. 3595 - لما في الصحيحين عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول عام الفتح: «إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» . فقيل: أرأيت يا رسول الله شحوم الميتة، فإنه تطلى بها السفن، وتدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس، فقال: «لا، هو حرام» . ثم قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند ذلك: «قاتل الله اليهود، إن الله لما حرم عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنه» . لا يقال: يحتمل أن يرجع الضمير إلى البيع، لأنا نقول: الاستصباح ونحوه أقرب مذكور، فالرجوع إليه أولى، ثم الرجوع إلى البيع تأكيد لما علم حكمه وهو التحريم، بخلاف الرجوع إلى الاستصباح ونحوه، فإنه لم يعلم حكمه، فيكون تأسيسا، ولا ريب أن التأسيس أولى، والله أعلم.

كتاب الأضاحي

[كتاب الأضاحي] ش: الأضاحي جمع أضحية، وإضحية بضم الهمزة وكسرها، والضحايا جمع ضحية، وقد أتى الخرقي بهذا الجمع بعد، والأضحى جمع أضحاة كأرطاة وأرطى، وبها سمي يوم الأضحى. [حكم الأضحية] قال: والأضحية سنة، لا يستحب تركها لمن يقدر عليها. ش: لا نزاع في مشروعية الأضحية ومطلوبيتها، اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلا وقولا. 3596 - فقد صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما» . 3597 - «وعن زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت أو قالوا: يا رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا: ما لنا فيها؟ قال: «بكل شعرة حسنة» قالوا:

فالصوف، قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» » . رواه أحمد، وابن ماجه. 3598 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة في يوم عيد» رواه الدارقطني، في أحاديث أخر، وقد قيل في قَوْله تَعَالَى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] المراد الأضحية. 3599 - قال الحسن: صلاة يوم النحر والبدن، وقال عطاء ومجاهد:

صل الصبح بجمع، وانحر البدن بمنى، واختلف في هذه المطلوبية هل تنتهي إلى الوجوب؟ والمعروف المشهور المنصوص من مذهبنا أنه لا ينتهي إلى ذلك. 3600 - لما روي عن «جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صليت مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه، وقال: «باسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي» رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، فمن لم يضح منا فقد كفاه تضحية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وناهيك بها أضحية. 3601 - وعن علي بن حسين، عن أبي رافع، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضحي بكبشين يقول في أحدهما: «اللهم هذا عن أمتي جميعا، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ» ويقول في الآخر: «هذا عن محمد وآل محمد»

قال فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي، قد كفاه الله المؤمنة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والغرم. رواه أحمد. 3602 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث كتبت علي وهي لكم تطوع: الوتر، والنحر، وركعتا الفجر» رواه الدارقطني. وهو نص إن ثبت. 3603 - وفي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أراد أن يضحي فدخل العشر» الحديث وسيأتي، فعلق ذلك على الإرادة، والواجب لا يتعلق على الإرادة، وحكى أبو الخطاب (رواية بالوجوب مع الغنى) وأخذها من نص أحمد على أن للوصي أن يضحي عن اليتيم من ماله، قال: فأجراها مجرى الزكاة وصدقة الفطر، ونازعه أبو محمد في ذلك، وقال: بل هذا على سبيل التوسعة عليه في يوم العيد، كما يشتري

له في ذلك اليوم ما جرت عادة أمثاله بلبسه. قلت: وهذا حسن، ويرجحه أنه قال: للوصي أن يضحي. وما قال: عليه أن يضحي له. كما أن عليه أداء الزكاة عنه. 3604 - وبالجملة استدل للوجوب بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا» رواه أحمد وابن ماجه. 3605 - وعن مخنف بن سليم، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة» رواه أحمد، وأبو داود، وقال: العتيرة منسوخة. وقد ضعفا، أما الأول فقال الترمذي والدارقطني وغيرهما: الصحيح وقفه، وأما الثاني فقال عبد الحق: إسناده ضعيف، ثم على تقدير صحتهما يحملان على تأكيد الاستحباب، جمعا بين الأدلة، وقول الخرقي: سنة لا يستحب تركها. إشعار بتأكيدها.

ما يستحب للمضحي إذا دخل عشر ذي الحجة

[ما يستحب للمضحي إذا دخل عشر ذي الحجة] قال: ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته (شيئا) . 3606 - ش: لما روي عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره» رواه الجماعة إلا البخاري، ولفظ أبي داود وغيره «فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي» . وظاهر كلام الخرقي وابن أبي موسى والشيرازي وطائفة أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، وهو أحد الوجهين، ونصره أبو محمد، اعتمادا على ظاهر الحديث، (والوجه الثاني) - وهو اختيار القاضي وطائفة - أن ذلك على سبيل الكراهة. 3607 - لقول «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يقلدها بيده، ثم يبعث بها، ولا يحرم عليه شيء

تجزئ البدنة والبقرة عن سبعة في الأضحية

أحله الله له حتى ينحر الهدي» . متفق عليه. ولا ريب أن دلالة الأول أقوى، لاحتمال خصوصية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، واحتمال أن قص الشعر ونحوه مما يقل فعله، إذ لا يفعل في الجمعة إلا مرة واحدة، فلعل عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لم ترد بقولها ذلك ثم حديث أم سلمة في الأضحية، وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - في الهدي المرسل، فلا تعارض بينهما، وعلى هذا إذا فعل فليس عليه إلا التوبة، ولا فدية إجماعا. (تنبيه) : ينتهي المنع بذبح الأضحية، صرح به ابن أبي موسى وغيره، لأن المنع لذلك، فيزول بزواله، فإذا نحر استحب له الحلق، قاله ابن أبي موسى والشيرازي. [تجزئ البدنة والبقرة عن سبعة في الأضحية] قال: وتجزئ البدنة عن سبعة وكذلك البقرة. 3608 - ش: لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة» . متفق عليه، وفي لفظ: «قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اشتركوا في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة» رواه البرقاني على شرط الصحيحين. وفي «رواية أنه قال: اشتركنا مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة، فقال رجل لجابر: أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من البدن» . رواه مسلم وهو كذلك.

ما يجزئ في الأضحية من الضأن

(تنبيه) : فلو اشترك جماعة في بدنة أو بقرة على أنهم سبعة فبانوا ثمانية، ذبحوا معها شاة وأجزأتهم، وصححه الشيرازي على ما قاله أبو بكر وصاحب التلخيص، قال الشيرازي وقال بعض أصحابنا: لا يجزئ عن الثامن، ويعيد الأضحية. [ما يجزئ في الأضحية من الضأن] قال: ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، والثني من غيره. 3609 - ش: لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» . رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي. 3610 - «وعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ضحى خال لي يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «شاتك شاة لحم» فقال: يا رسول الله، إن عندي داجنا جذعة من المعز. قال: «اذبحهما ولا تصلح لغيرك» . متفق عليه.

3611 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «نعم أو نعمت الأضحية الجذع من الضأن» . رواه أحمد والترمذي. 3612 - وعلى هذا يحمل ما روى مجاشع بن سليم، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية» . رواه أبو داود، أي الجذع من الضأن. قال: والجذع من الضأن الذي له ستة أشهر وقد دخل في السابع.

ما يجزئ في الأضحية من البقر

ش: قد تقدم الكلام على ذلك في الزكاة، وأن لنا وجها آخر أن الجذع من الضأن ما استكمل ثمانية أشهر، وقد قال وكيع: الجذع من الضأن يكون ابن ستة أشهر أو سبعة، وعرفه الخرقي هنا بصفة يعرف بها عند اشتباه سنه، فقال: وسمعت أبي يقول: سألت بعض أهل البادية: كيف تعرفون الضأن إذا أجذع؟ قال: لا تزال الصوفة قائمة على ظهره ما دام حملا، فإذا نامت الصوفة على ظهره علم أنه قد أجذع. قال: وثني المعز إذا تمت له سنة ودخل في الثانية. ش: قد تقدم أيضا الكلام على هذا، وأن هذا الذي قاله الأصحاب، وأن ابن الأثير قال: ما كمل له سنتان. [ما يجزئ في الأضحية من البقر] قال: والبقرة إذا صار لها سنتان ودخلت في الثالثة. ش: لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا تذبحوا إلا مسنة» ومسنة البقر التي لها سنتان، ورأيت في نسخة من الجامع الصغير أن الثنية من البقر التي كمل لها ثلاث سنين.

ما يجزئ في الأضحية من الإبل

[ما يجزئ في الأضحية من الإبل] قال: والإبل إذا صار لها خمس سنين ودخلت في السادسة. ش: قال الأصمعي، وأبو زياد الكلابي، وأبو زيد الأنصاري: إذا مضت السنة الخامسة على البعير، ودخل في السادسة، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني. ويرى أنه يسمى ثنيا لأنه ألقى ثنيته، فظاهر هذا أن أهل اللغة يعتبرون في تسميته ثنيا حين كمال خمس سنين وإلقاء ثنيته، والفقهاء جعلوا الضابط استكمال خمس سنين. [ما يشترط في الأضحية] قال: ويجتنب في الضحايا العوراء البين عورها. والعرجاء البين عرجها، والمريضة التي لا يرجى برؤها، والعجفاء التي لا تنقي. ش: لا إشكال في اجتناب هذه الأربعة في الضحايا، وأنها لا تجزئ. 3613 - لما روى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين

عرجها - وفي لفظ - ظلعها، والكسيرة التي لا تنقي» رواه الخمسة وصححه الترمذي، وفي لفظ «والعجفاء التي لا تنقي» بدل الكسيرة، وهذا نص. وفسر الخرقي العوراء بالبين عورها كما في الحديث، وقال أصحابنا: هي التي انخسفت عينها وذهبت، إذ العين عضو

مستطاب، فإن كان بها بياض لا يمنع النظر أجزأت ولو نقصه، وكذلك إن أذهبه على أشهر الوجهين، لأن ذلك لا ينقص لحمها، (وفسر العجفاء) بالتي لا تنقي كما في الحديث، «والكسيرة التي لا تنقي» وفي لفظ كما تقدم «العجفاء التي لا تنقي» وهي التي لا مخ في عظامها لهزالها، والنقي المخ، وهذه بالمنع أجدر من التي قبلها، لأنها عظام مجتمعة، (وفسر العرجاء) بالبين عرجها كما في الحديث، وفسر ذلك أبو الخطاب وابن البنا، وصاحب التلخيص، وأبو محمد وغيرهم بالتي تعجز عن مصاحبة جنسها في المشي، والمشاركة في العلف، لأن ذلك ينقص لحمها، ويفضي إلى هزالها، فلو كان عرجها يسيرا لا يفضي بها إلى ذلك، أجزأت، وقال أبو بكر وتبعه القاضي في الجامع الصغير، هي التي لا تطيق أن يبلغ المنسك، فإن كانت تقدر على المشي إلى موضع الذبح أجزأت. وفسر الخرقي المريضة بالتي لا يرجى برؤها، لأن ذلك ينقص لحمها نقصا كثيرا ويهزلها، والحديث قال فيه: البين مرضها أي التي تبين أثره عليها، واختاره أبو محمد، معللا بأن ذلك ينقص اللحم ويفسده، وقال القاضي، وأبو الخطاب وابن البنا: المريضة هي الجرباء، لأن الجرب يفسد اللحم. وأناط أبو البركات وصاحب التلخيص الحكم بفساد اللحم، وهو أضبط وأشمل، ولعل القاضي ومن تبعه أرادوا ضرب مثال.

قال: والعضباء. ش: أي ومما يجتنب في الضحايا العضباء. 3614 - وذلك لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضحى بأعضب القرن أو الأذن» ، قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: العضب النصف فأكثر من ذلك. رواه الخمسة وصححه الترمذي، وظاهر النهي التحريم والفساد، وبهذا يتخصص مفهوم «أربع لا تجوز في الضحايا» إن سلم المفهوم وأن له عموما. قال: والعضب ذهاب أكثر من نصف الأذن أو القرن. ش: العضب القطع مطلقا، والعضب المانع هنا هو المذهب لأكثر الأذن أو القرن على أشهر الروايتين. واختيار أكثر الأصحاب، لأن الأكثر يعطى حكم الكل، بخلاف اليسير فإنه في حكم العدم، إذ اعتباره يشق، وقد تقدم عن ابن المسيب - وناهيك به - أنه النصف فأكثر، ولهذا - والله أعلم - قال أبو محمد في الهدايا إنه النصف، لكن الأصحاب - وهو أيضا هنا - على حكاية المذهب كما تقدم. (والرواية الثانية) أن المانع ذهاب الثلث فأكثر، اختاره أبو بكر،

لتسمية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - له كثيرا. ومنهم من حكى الرواية على أنه ذهاب أكثر من الثلث، وملخصه أن للأصحاب في الثلث على هذه الرواية قولين، كما أنه يتلخص في النصف على الأولى كذلك، لكن الخلاف في الثلث أشهر من الخلاف ثم. (تنبيه) : يفهم من كلام الخرقي أن ما عدا هذه الخمسة لا يجتنب فيجزئ، وهو كذلك، إلا أن منها ما جعل في معنى ما تقدم فيمنع من التضحية به، ويكون قد دخل في كلام الخرقي، إما بطريق التنبيه، وإما بطريق المساواة، ومنها ما اختلف في التضحية به، ونشير إن شاء الله تعالى إلى طرف من ذلك، فمما جعل في معنى الممنوع منه فلا تجوز الأضحية به (العمياء) ، فإنها لا تجزئ بلا ريب، إذ هي أولى بالمنع من العرجاء بلا ريب، لمنعها من المشي مع جنسها، ومشاركتها لهم في الرعي، وما أحسن ما قال أبو البركات: لا تجزئ قائمة العينين. فإنه نبه على أن العلة ما قلناه، لإذهاب عضو كما في العوراء التي انخسفت عينها، ومن ذلك (الجدباء) ، وقال السامري: الجدباء. قال أحمد: هي التي قد يبس

ضرعها، لأن ذلك أبلغ من ذهاب شحمة العين، ومنه على ما قال في التلخيص (العصماء) وهي التي انكسر غلاف قرنها، وفيه شيء، ومنه (الهتماء) وهي التي ذهبت ثناياها من أصولها، قاله صاحب التلخيص، زاعما أنه قياس المذهب، قال: لأن أثر ذهاب الأسنان لا سيما إذا ذهبت كلها أكثر من ذهاب بعض القرن، وقال: إنه لم يعثر فيه للأصحاب بشيء. ومما اختلف في التضحية به (الجماء) وهي التي لم يخلق لها قرن، وقال ابن البنا: ولا أذن. فقال ابن حامد: لا يجوز، لأن ذهاب جميع القرن أبلغ من ذهاب بعضه، وقال القاضي، وابن البنا، وأبو محمد وغيرهم: يجوز، نظرا إلى أن هذا ليس بعيب، بخلاف كسر بعض القرن، ومن ذلك (البتراء) وهي التي لا ذنب لها، قال أبو محمد: سواء كان خلقة أو مقطوعا، واختار هو الإجزاء.

3615 - وقد «روي من حديث الحجاج بن أرطأة، عن بعض شيوخه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل أيضحى بالبتراء؟ قال: «لا بأس به» إلا أن هذا منقطع، مع أن الحجاج ضعيف، وقطع صاحب التلخيص بالمنع، وقال: وهي المبتورة الذنب، وظاهر هذا أنها المقطوعة الذنب، وقد قال أبو محمد: إن التي قطع منها عضو كالألية لا يجوز التضحية بها، ومنه أيضا (الخصي) قاله جماعة من الأصحاب منهم الشيخان. 3616 - لما روي عن أبي رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ضحى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبشين أملحين موجوءين خصيين» . وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نحوه. . . رواه أحمد، والوجاء رض

الخصيتين، وما قطعت خصيتاه أو شلتا فكالموجوء، ولأن الخصاء إذهاب عضو غير مستطاب، يسمن الحيوان ويطيب لحمه، بخلاف ذهاب شحمة العين، وقيد ابن حمدان ذلك تبعا لصاحب التلخيص بغير المجبوب، فظاهره أن المجبوب لا يجزئ عندهما. وقد فسر ابن البنا الخصي بالذي قطع ذكره، وهو صريح لمخالفتهما، ومن ذلك (المقابلة) وهي التي قد انقطع من طرف أذنها قطعة (والمدابرة) وهي التي قد انقطع من خلف الأذن مثل ذلك (والخرقاء) وهي التي شقت أذنها، وقال القاضي: التي انثقبت أذنها. (والشرقاء) وهي التي تشق أذنها لسمة، فقال عامة الأصحاب بإجزاء ذلك مع الكراهة، عملا بمفهوم حديث البراء بن عازب «أربع لا تجوز في الأضاحي» وقال ابن أبي موسى بالمنع في الأربعة، اتباعا للنهي عن ذلك. 3617 - فعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة، ولا شرقاء ولا خرقاء» . رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وهذا منطوق فيقدم على عموم ذلك المفهوم.

الحكم لو أوجب الأضحية سليمة فتعيبت عنده

[الحكم لو أوجب الأضحية سليمة فتعيبت عنده] قال: ولو أوجبها سليمة فعابت عنده ذبحها وكانت أضحية. ش: نص أحمد على هذا في رواية صالح. 3618 - لما روي «عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اشتريت كبشا لأضحي به، فعدا الذئب فأخذ الألية، قال: فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ضح به» » . رواه أحمد، وابن ماجه، ويخرج لنا عدم الإجزاء بناء على القول بوجوب

الأضحية، كما لو أوجبها بنذره ثم عينها فعابت، وقول الخرقي: فعابت. أي عيبا يمنع الإجزاء، وإلا ما لا يمنع الإجزاء لا يحتاج إلى التنبيه عليه، وفي قوله: فعابت. إشعار بأنه لو أعانها هو أنها لا تجزيه، وهو كذلك. قال: وإن ولدت ذبح ولدها معها. ش: حكم ولد المعينة حكمها، يذبحه كما يذبحها لأنه كجزئها، ولأنه حكم قد ثبت له بطريق السراية من الأم، فيثبت له ما ثبت لها كولد أم الولد. 3619 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا سأله فقال: يا أمير المؤمنين، إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها، وإنها ولدت هذا العجل. فقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لا تحلبها إلا فضلا عن تيسير ولدها، فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة» . رواه سعيد في سننه، وكذلك قال أبو بكر وغيره من الأصحاب: إذا أوجب سبعة أنفس أضحية ذبحت وولدها عن السبعة، والضمير في: وإن ولدت. راجع

ما تتعين به الأضحية

للتي أوجبها، فلو لم يوجبها كان ولدها له كبقية نمائها، ثم إن كلامه يشمل الولد الموجود حال التعيين وبعده، وهو كذلك. (تنبيه) : لو عين أضحية عما ثبت في ذمته فولدت ذبح ولدها معها، فلو تعيبت الأم فبطل التعيين فيها فهل يتبعها الولد كما يتبعها ابتداء فيبطل التعيين فيه، أو لا، لأن البطلان في الأم لمعنى اختص بها؟ فيه وجهان. [ما تتعين به الأضحية] قال: وإيجابها أن يقول: هي أضحية. ش: لا ريب في صيرورة الحيوان واجبا بقوله هذا أضحية، لأن هذا هو اللفظ الموضوع لذلك، أشبه ما لو قال لعبده: هذا حر. ولا يتعين لفظ الأضحية، بل كل لفظ دل على ذلك، كقوله: هذا لله. ونحوه من ألفاظ النذر، كما هو قاعدة المذهب، وصرح به الأصحاب، وقد يتعين بالنية كما في البيع والوقف والهبة ونحوهن، في رواية ضعيفة. والخرقي والله أعلم إنما أراد بذلك المبالغة في أنه لا يحصل بالنية مع الشراء، كما يقوله المالكي والحنفي، وهو احتمال قاله أبو الخطاب، وذلك لأنه إزالة ملك على وجه القربة، فلا تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق والوقف. (تنبيه) : وكذلك حكم الهدي يحصل بقوله: هذا

بيع الأضحية في الدين

هدي، أو لله، ونحو ذلك، لا بالنية ولو مع سوقه، ولا بإشعاره وتقليده، قاله عامة الأصحاب، وخالفهم أبو محمد فقال بوجوبه بذلك، جازما به كما يحصل الوقف ببناء مسجد والإذن في الصلاة فيه، والله أعلم. قال: ولو أوجبها ناقصة وجب عليه ذبحها ولم تجزئه. ش: إذا أوجب التي اشتراها ناقصة - أي نقصا يمنع الإجزاء - وجب عليه ذبحها، لأن إيجابها كالنذر لذبحها، فيلزمه الوفاء به، وصار هذا كنذر هدي من غير بهيمة الأنعام، فلا يجزئه عن الأضحية الشرعية، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أربع لا تجوز في الأضاحي» ويكون شاة لحم منذورة، فإن زال عيبها كأن كانت عجفاء فزال عجفها ونحو ذلك أجزأت عن الأضحية، قاله جماعة من الأصحاب. [بيع الأضحية في الدين] قال: ولا تباع أضحية الميت في دينه. ش: لأن ذبحها قد تعين، أشبه ما لو كان حيا، ولأنه خرج عنها لله تعالى في حياته، أشبه الوقف، ولم يفرق الأصحاب فيما علمته بين أن يوجبها في حال صحته أو في حال مرضه، وقد يقال: إن قولهم: إن التبرعات في المرض تعتبر من الثلث وتنقض للدين المستغرق. يخرج ذلك، وقول الخرقي: أضحية الميت. يشمل ما إذا أوجبها، أو ذبحها ثم مات، فإنها إذا تتعين بالذبح، وخرج منه ما إذا عدم ذلك،

كيفية تقسيم الأضحية بعد الذبح

كما لو اشتراها بنية الأضحية ثم مات، فإنها تباع في دينه لانتفاء تعيينها بذلك على المذهب. قال: ويأكلها ورثته. ش: يعني على الوجه المشروع في الأكل كما سيأتي، لقيامهم مقامه، والله أعلم. [كيفية تقسيم الأضحية بعد الذبح] قال: والاستحباب أن يأكل ثلث أضحيته ويتصدق بثلثها ويهدي ثلثها. ش: قال الإمام أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبد الله، يأكل هو الثلث، ويطعم من أراد الثلث، ويتصدق على المساكين بالثلث. 3620 - قال علقمة: «بعث معي عبد الله بهديه فأمرني أن آكل ثلثها، وأن أرسل إلى أهل أخيه بالثلث، وأن أتصدق بالثلث» . 3621 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «الهدايا والضحايا ثلث لك، وثلث لأهلك، وثلث للمساكين» .

3622 - وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في صفة أضحية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق على السؤال بالثلث» . رواه الحافظ أبو موسى في «الوظائف» ، وقال: حديث حسن. ولأن الله قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] . وظاهر ذلك القسم على ثلاثة. وقول الخرقي: والاستحباب. ظاهر في أنه لو أكل أو أهدى أو تصدق بأكثر من الثلث جاز، ولا ريب في ذلك، نعم كلامه أيضا يقتضي أنه لو أكلها كلها، أو أهداها كلها، أو تصدق بها كلها جاز، وليس كذلك، بل الأصحاب على أنه لا يجب الأكل منها، ويجب أن يتصدق منها ولو بأوقية، نظرا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] . وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] أمر، وظاهر الأمر الوجوب، خرج منه الأكل. 3623 - بدليل ما روى عبد الله بن قرط أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

قال: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم يوم القر» . 3624 - «وقرب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس بدنات أو ست ينحرهن، فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها، فلما وجبت جنوبها قال كلمة خفية لم أفهمها، فسألت بعض من يليني ما قال؟ قالوا: قال «من شاء اقتطع» » وظاهر هذا أنه لم يأكل من ذلك شيئا، وفيه نظر، لأن هذه واقعة عين، والمعتمد أن الأمر بالأكل يرد كثيرا، والمراد به الإباحة، كما في قَوْله تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] . ونحوه فكذلك ها هنا، بخلاف الأمر بالصدقة، وغاية ما يقال أنه يلزم إذا استعمال الأمر في حقيقته ومجازه، ونلتزمه على أن المندوب مأمور به عندنا حقيقة. إذا تقرر هذا فالذي يجب عليه الصدقة به هو أقل ما ينطلق عليه الاسم، قاله جمهور الأصحاب، نظرا لإطلاق الآيتين المتقدمتين، وقال أبو بكر في التنبيه: لا يدفع إلى المساكين ما يستحي من توجهه به إلى خليطه، اهـ. ومن لم يأت

بالواجب من الصدقة، بأن أكل الجميع، أو أهدى الجميع، فهل يضمن ما كان يجب أن يتصدق به، أو ما كان يشرع أن يتصدق به وهو الثلث؟ فيه وجهان. (تنبيهان) : «أحدهما» : عموم كلام الخرقي في الإطعام يشمل الكافر، وهو كذلك في الصدقة المستحبة منها، كبقية صدقة التطوع، أما الصدقة الواجبة منها فلا تدفع إليه كالزكاة ونحوها، ولهذا قيل: لا بد من دفع الواجب إلى فقير وتمليكه، وهذا بخلاف الإهداء فإنه يجوز إلى غني وإطعامه، " الثاني " هذا الذي قاله الخرقي بناء على قوله باستحباب الأضحية، ففي الأكل وجهان (الجواز) كما في هدي التمتع والقران (وعدمه) كالأضحية المنذورة على قول الأكثرين، وعن أبي بكر - وتبعه أبو محمد - جواز الأكل من الأضحية المنذورة أيضا، لأن أكثر ما في النذر التزام حكم الأضحية، ومن حكمها جواز الأكل، والله أعلم. قال: ولا يعطي الجازر بأجرته شيئا منها. 3625 - ش: «قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحومها وجلودها وأجلتها، وأن لا أعطي الجزار منها شيئا، وقال: «نحن نعطيه من عندنا» . متفق عليه. وفي قوله: بأجرته. إشعار بأنه

يجوز الدفع إليه لا على سبيل الأجرة، كأن يدفع إليه لفقره أو هدية، وهو كذلك، لأنه ساوى غيره في ذلك، وزاد عليه بمباشرته لها، وتشوف نفسه إليها، وبهذا المعنى يتخصص عموم الحديث، ولو قيل بعمومه سدا للذريعة لكان حسنا. قال: وله أن ينتفع بجلدها. ش: لا نزاع في ذلك، لأن الجلد جزء من الأضحية، أشبه اللحم. 3626 - وعن أبي سعيد الخدري، أن قتادة بن النعمان أخبره، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فقال: «إني كنت أمرتكم أن لا تأكلوا من الأضاحي فوق ثلاثة أيام لتسعكم، وإني أحله لكم، فكلوا منه ما شئتم، ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي، وكلوا وتصدقوا، واستمتعوا بجلودها، وإن أطعتم من لحومها شيئا فكلوا إن شئتم» . رواه أحمد، وفي قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن أطعمتم من لحومها شيئا فكلوا إن شئتم» إشعار بوجوب الإطعام منها، وتوقف الأكل عليه.

قال: ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئا منها. ش: هذا هو المذهب بلا ريب، لما تقدم من حديثي علي والنعمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال أحمد: سبحان الله، كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك وتعالى! . وحكى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يعطي في جزارته شيئا منها» (وعن أحمد) رواية أخرى: يجوز بيع الجلد والصدقة بثمنه. 3627 - لأن ذلك يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولأنه إذا كان له منع الفقراء منه رأسا بأن ينتفع به، فلأن يمنعهم من عينه ويدفع ثمنه إليهم أولى، (وعنه ثالثة) يباع بمتاع البيت كالغربال ونحوه، فيكون إبدالا بما يحصل منه مقصودها، كما جاز إبدال الأضحية، (وعنه رابعة) يباع جلد البقرة والبدنة ويتصدق بثمنه، دون الشاة، ولعله اعتمد في ذلك على أثر. (تنبيه) : حكم جل الأضحية حكم جلدها، قاله أبو

استبدال الأضحية

البركات، لكنه إنما حكى الروايتين الأولتين. [استبدال الأضحية] قال: ويجوز أن يبدل الأضحية - إذا أوجبها - بخير منها. ش: هذا مبني على أصل، وهو أنه إذا أوجب أضحية فهل يزول ملكه عنها؟ بذلك قال عامة الأصحاب، وزعم أبو محمد في الكافي أن أحمد نص على أنه لا يزول بذلك، إذ النذور محمولة على أصولها في الفروض، وفي الفرض لا يزول ملكه وهو الزكاة، وله إخراج البدل فكذلك في النذر، وخالفهم أبو الخطاب في هدايته وخلافه الصغير، فقال بالزوال، معتمدا على قول أحمد في الهدي إذا عطب في الحرم: قد أجزأ عنه. وقوله في الأضحية إذا هلكت: ليس عليه بدلها. وقوله إذا عين الهدي أو الأضحية فأعورت أو عجفت يذبحها وتجزئه، وكذا لو ذبحت فسرقت، أو ذبحها ذابح بغير إذنه أجزأت، قال: ولو كان ملكه باقيا لوجب عليه بدلها في جميع هذه المواضع، ووجه ذلك أنه جعلها

لله تعالى، فأشبهت المعتق والموقوف، فعلى هذا القول لا يجوز البيع ولا الإبدال مطلقا. أما على المذهب فيجوز إبدالها بخير منها وقد نص عليه أحمد، نظرا لمصلحة الفقراء في ذلك، ولا يجوز بدونها قطعا، لما فيه من تفويت حرمتها وإنه لا يجوز، وهل يجوز بمثلها؟ فيه وجهان: (أحدهما) : وهو ظاهر كلام الخرقي، واختاره أبو محمد لا يجوز، لأنه تفويت للعين من غير فائدة تحصل، أشبه ما لو أبدلها بدونها. (والثاني) : يجوز لأن الواجب لم ينقص. وحيث جاز الإبدال فهل يجوز البيع؟ فيه روايتان: (إحداهما) : وهي اختيار أبي بكر والقاضي - يجوز، إذ الإبدال بيع في الحقيقة، «ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق مائة بدنة في حجته، وقدم علي من اليمن فأشركه فيها» . رواه مسلم وغيره. (والثانية) : وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد - لا يجوز. 3628 - لما روي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أهدي عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بختيا، فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني أهديت بختيا فأعطيت بها ثلثمائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال:

وقت ذبح الأضحية

«لا، انحرها إياها» رواه أحمد وأبو داود، والبخاري في تأريخه، وهذا نص، وفيه دليل على المنع من الإبدال، كما يقوله أبو الخطاب، ويجاب عن تشريك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بأن ذلك في الأجر والثواب، أو كان قبل الإيجاب. وحيث جاز البيع فهل ذلك بشرط أن يبيعها لمن يضحي بها، قاله الشيرازي، وصاحب التلخيص، أو مطلقا، وهو ظاهر كلام القاضي وأبي بكر؟ فيه قولان، ثم على القولين يشتري خيرا منها، قاله أبو بكر وصاحب التلخيص، وحكاه أبو محمد عن القاضي، وظاهر كلام القاضي في الجامع جواز شراء مثلها، قال: عليه بدنة مكانها. ثم قال صاحب التلخيص: يصرف ثمنها في خير منها، وقال غيره: يشتري خيرا منها، وأطلق. (تنبيه) : حكم الهدي الواجب حكم الأضحية فيما تقدم. [وقت ذبح الأضحية] قال: وإذا مضى من نهار يوم الأضحى مقدار صلاة الإمام العيد وخطبته فقد حل الذبح.

ش: يوم الأضحى يوم لذبح الأضحية في الجملة بالإجماع، واختلف بماذا يدخل وقت الذبح، فعند الخرقي أنه يدخل بمقدار مضي صلاة العيد وخطبته، لأن الصلاة تتقدم وتتأخر، وقد تفعل وقد لا تفعل، وذلك ضابط لا يختلف، فأنيط الحكم به، ولم يعتبر أبو محمد في المقنع تبعا لأبي الخطاب في الهداية غير قدر الصلاة، لأن المذكور في الأحاديث - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - الصلاة، وقال القاضي وعامة أصحابه - الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا، وأبو محمد في المغني، وهو إحدى الروايات عن الإمام -: المعتبر في حق أهل المصر صلاة الإمام فقط. 3629 - لما «روي عن جندب بن سفيان البجلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه صلى مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أضحى، قال: فانصرف فإذا هو باللحم وذبائح الأضحى تفرق، فعرف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها ذبحت قبل أن يصلي، فقال: «من كان ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله» .

3630 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر: «من كان ذبح قبل الصلاة فليعد» متفق عليهما، وللبخاري من حديث أنس «من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب نسك المسلمين» . (والرواية الثانية) - وهي اختيار أبي محمد في الكافي، وزعم في المغني أنها ظاهر كلامه -: المعتبر مع الصلاة الفراغ من الخطبة، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنكاره كان بعد الفراغ من الخطبة، ولأن الخطبة كالجزء من الصلاة. (والرواية الثالثة) : يعتبر مع ذلك ذبح الإمام. 3631 - لما «روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «صلينا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال فنحروا، وظنوا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نحر، فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -» . . . رواه أحمد ومسلم. وهذه الروايات في حق أهل الأمصار، أما أهل القرى الذين لا صلاة عليهم لقلتهم، ومن كان في حكمهم كأصحاب الطنب والخركاوات، فعامة الأصحاب هنا

يوافقون الخرقي، لأنه لما تعذر في حقهم اعتبار حقيقة الصلاة اعتبر قدرها، ثم إن عامة أصحاب القاضي على أن المعتبر قدر الصلاة فقط، بعد دخول وقتها، بناء على اعتبارهم الصلاة ثم، وظاهر كلام القاضي في الجامع وأبي محمد أن المعتبر قدر الصلاة والخطبة، ولنا وجه ثالث أن المعتبر مع ذلك ذبح الإمام من الرواية الثالثة ثم، وحكى صاحب التلخيص وجها آخر أن المعتبر ذلك الوقت، أي وقت صلاة الإمام، وهو ظاهر إطلاق أبي البركات، أو صلاة الإمام وخطبته، أو خطبته وذبحه، ويتلخص أن في أهل الأمصار خمسة أقوال، وفي أهل القرى ستة. إذا تقرر هذا فلا فرق في أهل الأمصار بين من عليه الصلاة ومن لا صلاة عليه، كالنساء ونحوهن، ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكثيرا من الأصحاب أطلقوا قدر الصلاة والخطبة، فيحتمل أن يعتبروا ذلك بمتوسطي الناس، وأبو محمد اعتبر قدر صلاة وخطبة تامتين في أخف ما يكون، وإذا اعتبرنا الصلاة فإذا صلى الإمام في المصلى واستخلف من صلى في المسجد، فمتى صلوا في أحد الموضعين جاز الذبح، ولو لم يصل الإمام في المصر لعذر أو غيره لم يجز الذبح حتى تزول

الشمس، لأن الصلاة تفوت إذا، وأما الذبح في اليوم الثاني والثالث فيجوز قبل الصلاة، لأنه مرتب على أداء صلاة العيد، وذلك قد سقط. قال: إلى آخر يومين من أيام التشريق. ش: وقت الذبح عندنا ينتهي بمضي يومين من أيام التشريق، فأيام النحر عندنا ثلاثة أيام يوم الأضحى، ويومان بعده. 3632 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ثبت عنه بلا ريب أنه نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ويلزم منه تأقيت الذبح بثلاث، ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، لا يقال: فقد ثبت نسخ ذلك، لأنا نقول الحديث دل على

حكمين، المنع من الادخار فق ثلاث، وأن وقت الذبح ذلك، ونسخ المنع من الادخار فوق ثلاث لا يلزم منه نسخ الحكم الآخر. 3633 - ثم إن هذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس، وأبي هريرة وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي رواية

قال: خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكر أنسا. 3634 - ولا مخالف لهم إلا رواية رويت عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.

(تنبيه) : فإن خرج الوقت ولم ينحر ذبح الواجب قضاء، إذ الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كتفرقة اللحم، وخير في التطوع، فإن ذبح فهو شاة لحم، والله أعلم. قال: نهارا ولا يجوز ليلا. ش: لما تكلم الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أول وقت الأضحية وآخره، شرع يتكلم على محله، فقال إن محله النهار دون الليل، ولا نزاع أن النهار محل للذبح، واختلف في الليل هل هو محل لذلك أم لا؟ (فعنه) - وهو اختيار الخرقي - ليس بمحل لذلك، نظرا لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] واليوم اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. 3635 - وفي مراسيل أبي داود - فيما أظن - من طريق بقية بن الوليد، عن مبشر بن عبيد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الذبح بالليل» ، لكن مبشرا، قالوا: متروك. فهو عكس اسمه، (وعنه) - وهو اختيار أبي بكر، والقاضي وأصحابه، وصاحب التلخيص وغيرهم - هو محل للذبح أيضا، لأن النهي عن الادخار فوق ثلاث، يدخل فيه الليل، واليوم يطلق ويراد مع ليلته، ومحل

الخلاف فيما عدا ليلة النحر، وهذا واضح، لأن الوقت في الذبح إنما يدخل بعد مضي جزء من النهار كما تقدم، اهـ. فعلى الأولى إن ذبح ليلا لم تجزئه أضحيته، لكن في الواجب يلزمه البدل، وفي التطوع يكون ذبحه ذبح لحم، وعلى الثانية تجزئ لكنه يكره حذارا من الخلاف، والله أعلم. قال: فإن ذبح قبل ذلك لم تجزئه. ش: إذا ذبح قبل وقت الذبح، بأن ذبح في اليوم الأول قبل مقدار الصلاة والخطبة، أو مقدار الصلاة على ما تقدم من الخلاف، وفي اليوم الثاني، وكذا الثالث قبل طلوع فجرهما على مختاره لم تجزئه لإيقاع ذلك في غير وقته، أشبه ما لو صلى قبل الوقت، وقد شهد لذلك ما تقدم في حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه» والله أعلم. قال: ولزمه البدل. ش: لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى» وفي لفظ «فليعد»

وكلام الخرقي يشمل الأضحية الواجبة وغيرها، وهو ظاهر الحديث، لكن أبا محمد وغيره حملوا على الواجب بنذر أو بتعيين، أما ما ذبحه تطوعا فلا بدل عليه إلا أن يشاء، لأن غايته أنه قصد تطوعا فأفسده، فصار كما لو خرج بصدقة تطوع فدفعها لغير مستحقها، وحمل أبو محمد الحديث على الندب، أو على التخصيص بمن وجبت عليه. قلت: وأولى المحملين الأول، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم حكما عاما، فدعوى التخصيص لا دليل عليه. والبدل الواجب مثل المذبوح أو خير منه، قال أبو محمد: وهو بظاهره مشكل، إذ الحيوان عند الأصحاب متقوم بلا ريب، وكأن أبا محمد إنما أراد أن يشتري بقيمته مثله، وترك بيان ذلك إحالة على ما تقدم له، وقد قال هو والأصحاب فيما إذا أوجب أضحية ثم أتلفها: إنه يضمنها بقيمتها تصرف في مثلها، ثم اختلفوا هل يضمنها بقيمتها يوم الإتلاف فقط، وهو قول القاضي، وتبعه أبو الخطاب في خلافه، أو بأعلى القيمتين، وهو قول أكثر أصحاب القاضي؟ على قولين. وعلى القول الثاني: أعلى القيمتين هو من حين الإيجاب إلى حين التلف، عند ابن عقيل، وصاحب التلخيص، ومن حين التلف إلى حين جواز الذبح، عند الشريف وأبي الخطاب في الهداية، والشيرازي والشيخين وغيرهم. (تنبيه) : الشاة المذبوحة شاة لحم كما في الحديث، يصنع بها ما شاء، هذا المشهور، ولأبي محمد احتمال أن حكمها

ذبح الكتابي للأضحية

حكم الأضحية، كالهدي إذا عطب، لا يخرج عن حكم الهدي على رواية، ويكون معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شاة لحم» أي في فضلها وثوابها خاصة، دون ما يصنع بها. [ذبح الكتابي للأضحية] قال: ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم. ش: لا نزاع في ذلك، لأنها قربة وطاعة، فلا يليها غير أهل القرب، ومقتضى كلام الخرقي أنه يجوز أن يذبحها غير المسلم، ومراده بذلك الكتابي، بدليل ما تقدم له، وقد اختلف عن أحمد في ذلك، (فعنه) - وهو اختيار الخرقي وعامة الأصحاب - يجوز، لأنه يجوز له ذبح غير الأضحية، فجاز له ذبح الأضحية كالمسلم، ولأن الكافر يجوز أن يتولى ما هو قربة للمسلم كبناء المساجد ونحو ذلك، (وعنه) المنع. 3636 - لأن في حديث ابن عباس الطويل «ولا يذبح ضحاياكم إلا طاهر» . 3637 - وقال جابر: لا يذبح النسك إلا مسلم. وحملا على الكراهة التنزيهية، اهـ. ويشترط أن ينوي المسلم ذلك، ويكون توكيل الذمي في

استحباب أن يذبح المضحي بنفسه

مجرد النحر، نعم في المعينة لا يحتاج إلى نية، نظرا للتعيين. (تنبيه) : عامة الأصحاب على حكاية الروايتين على الإطلاق، وخصهما ابن أبي موسى والشيرازي بالبقر والغنم، وجزما في الإبل بعدم الإجزاء، وقال الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما: هذا - أي جواز ذبح الكتابي - على الرواية التي تقول: الشحوم المحرمة على اليهود لا تحرم علينا، زاد الشريف: أو على كتابي نصراني، ومقتضى هذا أن محل الروايتين على القول بحل الشحوم، أما إن قلنا بتحريم الشحوم فلا يلي اليهودي بلا نزاع، وقد أشار أبو محمد إلى هذا، فإنه علل المنع بأن الشحم محرم علينا، فيكون ذلك إتلاف جزء منها، وأجاب بمنع تحريم الشحم. [استحباب أن يذبح المضحي بنفسه] قال: فإن ذبحها بيده كان أفضل. ش: اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أقرنين أملحين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما، ونحر من البدن التي ساقها في حجته ثلاثا وستين بدنة، ولأن فعل القرب أولى من الاستنابة فيها، فإن استناب جاز بلا نزاع، وقد استناب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما غبر عليه من بدنه، والمستحب إذا لم يذبح بيده أن يمسك المدية بيده حال الإمرار، فإن لم فليحضر، لأن في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الطويل «واحضروها إذا ذبحتم، فإنه يغفر

النية والتسمية عند الأضحية

لكم عند أول قطرة من دمها» والله أعلم. [النية والتسمية عند الأضحية] قال: ويقول عند الذبح: باسم الله والله أكبر. ش: قد تقدم هذا، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى وكبر، والأولى أن يكون ذلك عند تحريك يده بالذبح، والله أعلم. قال: فإن نسي لم يضره. ش: إذا نسي التسمية فلا يضره، وقد تقدم ذلك والخلاف فيه، فلا حاجة إلى إعادته. قال: وليس عليه أن يقول عند الذبح عمن، لأن النية تجزئ. ش: لا ريب في الاكتفاء بالنية، إذ الأعمال بها، نعم إن ذكر من ضحى عنه فحسن. 3638 - لأن في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللهم منك وإليك عن محمد وأمته، باسم الله والله أكبر» ثم ذبح» .

الاشتراك في الأضحية

وقول الخرقي: لأن النية تجزئ. إشعار بأنه لا بد من النية، ولا إشكال أنها لا تصير أضحية إلا بالنية، بقي هل تحتاج إلى تجديد النية عند الذبح؟ قال في التلخيص: إذا قال: جعلت هذه أضحية. أغناه عن تجديد النية عند الذبح، وكذا إذا نذرها بعينها، بخلاف ما إذا نذرها في ذمته، ثم قال: جعلتها هذه. فإنه لا بد وأن ينويه وقت الذبح. قلت: وعلى هذا ففي المتطوع به لا بد وأن ينويه عند الذبح. [الاشتراك في الأضحية] قال: ويجوز أن يشترك السبعة فيضحوا بالبقرة أو البدنة. ش: قد تقدمت هذه المسألة في أول الباب، وقد يقال: إنه إنما أعادها هاهنا لأن كلامه السابق في أن البدنة أو البقرة تجزئ عن سبعة، فهذا قد يقال فيما إذا ذبحها ذابح عنهم ونحو ذلك، وهذه المسألة فيما إذا اشتركوا فيها، والأجود أن يقال: إن كلامه السابق في الواجب، إذ الإجزاء مشعر بذلك، وهنا في التطوع، ونبه بذلك على مخالفة من فرق بينهما اهـ.

حكم العقيقة

(تنبيه) : الاعتبار أن يشترك الجميع دفعة، فلو اشترك ثلاثة في بقرة أضحية، وقالوا: من جاء يريد أضحية شاركناه. فجاء قوم فشاركوهم، لم تجزئ إلا عن الثلاثة، قاله الشيرازي. [حكم العقيقة] قال: والعقيقة سنة. ش: قال الأزهري: قال أبو عبيد: قال الأصمعي وغيره: العقيقة أصلها الشعر الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وسميت الشاة المذبوحة عند حلق شعره عقيقة، على عادتهم في تسمية الشيء باسم سببه، ثم اشتهر ذلك فلا يفهم من العقيقة عند الإطلاق إلا الذبيحة، وقال ابن عبد البر: أنكر أحمد هذا التفسير، وقال: إنما العقيقة الذبح نفسه، وذلك لأن أصل العق القطع، ومنه: عق والديه. إذا قطعهما، والذبح قطع الحلقوم والمريء. والعقيقة مشروعة مطلوبة عندنا بلا ريب. 3639 - لما روي «عن أم كرز الكعبية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سألت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العقيقة، فقال: «نعم عن الغلام شاتان، وعن الأنثى واحدة، ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثا» » . رواه أحمد، والترمذي وصححه.

3640 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا» . رواه أبو داود والنسائي، وقال: بكبشين كبشين. 3641 - وعن بريدة الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا في الجاهلية إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران. رواه

أبو داود وقال أحمد: العقيقة سنة عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد عق عن الحسن والحسين، وفعله أصحابه. واختلف أصحابنا هل تنتهي هذه المطلوبية إلى الوجوب؟ فقال أبو بكر في التنبيه بانتهائها إلى ذلك، قال أبو الخطاب: ويحتمله كلام أحمد. 3642 - لما روى الحسن، عن سمرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه ويسمى» . رواه الخمسة وصححه الترمذي. وقال الإمام أحمد والنسائي وغيرهما: لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة.

3643 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتسمية المولود يوم سابعه، ووضع الأذى عنه والعق» . رواه الترمذي وقال: حسن غريب. وقال عامة الأصحاب - وهو المعروف عن أحمد - بعدم انتهائها إلى ذلك، ووقفوا عند القول باستحبابها. 3644 - لما روي عن عمرو بن شعيب أيضا، عن أبيه، عن جده، قال: «سئل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العقيقة، فقال: «لا أحب العقوق» وكأنه كره الاسم، فقالوا: يا رسول الله، إنما نسألك عن

على من تكون العقيقة ووقت ذبحها

أحدنا يولد له. قال: «من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل، عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة» » رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وإذا يحمل ما تقدم على تأكيد الاستحباب، جمعا بين الأدلة، ويرجحه الأمر بالتسمية يوم السابع والحلق، وليس ذلك بواجب، وإذا كانا مستحبين فكذلك الذبح، حذارا من استعمال الأمر في حقيقته ومجازه، لا لمجرد دلالة الاقتران. [على من تكون العقيقة ووقت ذبحها] قال: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة. ش: لما تقدم من حديثي أم كرز، وعبد الله بن عمرو، وعق النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحسن والحسين قد جاء فيه كبش، وجاء كبشان، مع أن رواية الكبش قد تحمل على الجواز، وعلى عدم الوجدان، وكذا نقول بجواز أن يذبح شاة واحدة إذا لم يقدر على غيرها، والأولى كون الشاتين متماثلتين، لما تقدم في الحديث «متكافيتان» قال أحمد: يعني متقاربتين

أو متساويتين. قال: تذبح يوم السابع. ش: وذلك لما تقدم من حديثي سمرة وعبد الله بن عمرو، وظاهر كلام الخرقي أن جميع العقيقة تذبح يوم السابع، وقال ابن البنا: تذبح إحدى شاتي الغلام يوم ولادته، والأخرى يوم سابعه، والأول هو المعروف في النقل، وهو ظاهر الحديث، فإن فات السابع فقال الأصحاب في أربع عشرة، فإن فات ففي إحدى وعشرين. 3645 - لأن ذلك يروى عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وهذا على سبيل الاستحباب وبعد يجزئ لحصول المقصود، وكذلك قبل بعد الولادة، إذ هو أول الوقت، فإن تجاوز إحدى وعشرين ففيه احتمالان: (أحدهما) : يستحب في كل سابع، فيذبح في ثمانية وعشرين، ثم في خمس وثلاثين، وعلى هذا قياسا على ما تقدم. (والثاني) : يفعل في كل وقت، لأن هذا قضاء، فلم يتوقت كقضاء الأضحية وغيرها.

ما يجزئ في العقيقة ومصرفها

[ما يجزئ في العقيقة ومصرفها] قال: ويجتنب فيها من العيوب ما يجتنب في الأضحية. ش: يجتنب في العقيقة من العيب ما يجتنب في الأضحية، لأنها قربة يتقرب بها إلى الله تعالى، شكرا على نعمته، فأشبهت الأضحية، فعلى هذا لا يعق بعوراء بين عورها، ولا عرجاء بين عرجها، ولا مريضة بين مرضها، ولا عجفاء لا تنقي، وبيان ذلك مفصلا قد تقدم. قال: وسبيلها في الأكل والصدقة والهدية سبيلها. ش: لأنها نسيكة مشروعة، أشبهت الأضحية، قال أبو محمد: وإن طبخها ودعا إخوانه فأكلوها فحسن. قال: إلا أنها تطبخ أجدالا. ش: يعني أن الأولى في العقيقة أن تفصل الأعضاء، فتطبخ كذلك، ولا تكسر عظامها، تفاؤلا بسلامة المولود. 3646 - وفي مراسيل أبي داود، عن جعفر، عن أبيه «، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن والحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن يبعثوا إلى بيت القابلة برجل، وكلوا وأطعموا، ولا تكسروا منها عظما» ولهذا قال أبو بكر في التنبيه: يعطي القابلة منها فخذا. (تنبيه) : الأجدال واحدها جدل بالدال غير المعجمة وهو العضو، والله سبحانه أعلم.

كتاب السبق والرمي

[كتاب السبق والرمي] ش: الأصل في مشروعية ذلك الإجماع. 3647 - وقد شهد له ما روى نافع عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سابق بالخيل التي قد أضمرت من الحفيا، وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بالخيل التي لم تضمر من الثنية، إلى مسجد بني زريق» ، وكان ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فيمن سابق فيها. متفق عليه، واللفظ لمسلم، زاد البخاري قال سفيان: من الحفيا إلى ثنية الوداع خمسة أميال أو ستة، ومن ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل. 3648 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «كانت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ناقة تسمى العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إن حقا على الله أن الله تعالى لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه» رواه أحمد والبخاري، وقال

الله سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] . 3649 - قال «عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» رواه مسلم وغيره. 3650 - وعنه أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من علم الرمي ثم تركه فليس منا» » . رواه أحمد ومسلم وغيره. 3651 - وعنه أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قال: إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي

ما يكون فيه السبق

به في سبيل الله» ، وقال: «ارموا واركبوا، وأن ترموا خير لكم من أن تركبوا» ، وقال: «كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل إلا ثلاثا، رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق» رواه الخمسة، والله أعلم. [ما يكون فيه السبق] قال: والسبق في الحافر والنصل والخف لا غير. ش: السبق بفتح الباء الجعل المخرج في المسابقة، وبسكونها مصدر سبقه سبقا ومسابقة، ولا نزاع في جواز المسابقة بغير عوض مطلقا، من غير تقييد بشيء معين، كالمسابقة على الأقدام والسفن والمزاريق، والطيور والفيلة ونحو ذلك، وكذلك المصارعة، ورفع الحجر ليعرف الأشد. 3652 - «وقد سابقت عائشة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على رجليها» . رواه أبو داود.

3653 - «وصارع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ركانة فصرعه» . رواه الترمذي. 3654 - «ومر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقوم يربعون حجرا، أي يرفعونه ليعرفوا الأشد منهم» ، وأما المسابقة بعوض فمذهبنا أنه لا يجوز إلا

في الثلاثة التي ذكرها الخرقي، (في النصل) ، وهو السهام من النشاب والنبل دون غيرها (والخف) وهو الإبل وحدها (والحافر) وهو الخيل وحدها، وهو تسمية الشيء باسم جزئه، أو على حذف مضاف، أي ذي خف، وذي حافر، وذي نصل، وتبع الخرقي في ذلك لفظ الحديث الذي هو المعتمد عليه في المسألة. 3655 - وهو ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل» رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وصححه ابن القطان، أي لا سبق شرعي، أو لا سبق يعتبر في الشرع في غير هذه الثلاثة، وقد صرح بمعنى هذا في رواية النسائي، فقال: «لا يحل سبق إلا على خف، أو حافر، أو نصل» وإنما خصت هذه الثلاثة، والله أعلم، بتجويز العوض فيها، لأنها من آلات الحرب المأمور بتعلمها وأحكامها، ولأنها المعهودة المعتادة للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، ولهذا قلنا: إن المراد بالنصل والخف والحافر ما تقدم، دون المزاريق، والفيلة، والبغال والحمير، نظرا للمعتاد.

أخذ العوض في المسابقة

[أخذ العوض في المسابقة] قال: وإذا أراد أن يستبقا أخرج أحدهما ولم يخرج الآخر. ش: لا نزاع في جواز جعل العوض في المسابقة من الإمام، لما في ذلك من الحث على تعلم الجهاد، والنفع للمسلمين، وكذلك يجوز عندنا جعله من غير المتسابقين، نظرا لما فيه من المصلحة، فأشبه شراء السلاح والخيل لذلك، ويجوز أيضا عندنا جعله من أحد المتسابقين، كأن يقول مثلا من أراد الإخراج: إن سبقتني فلك عشرة، وإن سبقتك فلا شيء عليك، لما في ذلك من المصلحة، وبهذا خرج عن أن يكون قمارا، إذ المتقامران لا يخلو كل منهما من أن يكون غارما أو غانما، فكل منهما دخل على خطر، وهنا ليس كذلك، إذ أحدهما لا خطر عليه، لأنه إما أن يكون غانما، أو غير غارم، وصاحبه إما غارما أو غير غانم. (تنبيه) : وشرط العوض كونه معلوما بالمشاهدة، أو بالقدر، والصفة. قال: فإن سبق من أخرج أحرز سبقه ولم يأخذ من المسبوق شيئا، فإن سبق من لم يخرج أحرز سبق صاحبه. ش: اعتمادا على الشرط السابق. قال: وإن أخرجا جميعا لم يجز إلا أن يدخلا بينهما محللا يكافئ فرسه فرسيهما، أو بعيره بعيريهما، أو رميه رمييهما. ش: قد تقدم أن الفاصل بين المسابقة الشرعية والقمار، أن المقامر يكون على خطر من أن يغنم أو يغرم، بخلاف المسابق، فعلى هذا إذا كان الجعل منهما، ولم يدخلا محللا لم يجز، لوجود معنى القمار فيه، وهو الخطر في كل واحد منهما.

3656 - وقد نبه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، حيث قال فيما رواه عنه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «من أدخل فرسا بين فرسين، وهو لا يأمن أن يسبق فلا بأس به، ومن أدخل فرسا بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار» . رواه أحمد واللفظ له، وأبو داود وابن ماجه، فجعله قمارا إذا أمن أن يسبق، لأن كل واحد منهما إذا على خطر من أن يغنم أو يغرم، ولم يجعله قمارا إذا لم يأمن أن يسبق، لأن كل واحد منهما إذا يجوز أن يخلو من ذلك، وإن كان الجعل منهما، وأدخلا محللا جاز للحديث، لكن بشرط أن يكون كما قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يكافئ، أي يماثل فرسه فرسيهما إن كانت المسابقة على الخيل، أو بعيره بعيرتهما إن كانت على الإبل. أو رميه رمييهما إن كانت على الرمي لأنه إذا كان كذلك لم يؤمن أن يسبق، فيجوز كما في الحديث، لانتفاء معنى القمار، وإن لم يكن كذلك بأن كان فرساهما

جوادين، وفرسه بطيئا، فهو مأمون سبقه، فيكون وجوده كعدمه، وإذا يكون قمارا كما في الحديث. (تنبيه) : سمي الداخل بينهما محللا لأن العوض صار حلالا به، فهو السبب لحل العوض، والله أعلم. قال: فإن سبقهما أحرز سبقهما، وإن كان السابق أحدهما أحرز سبقه، وأخذ سبق صاحبه، فكان كسائر ماله، ولم يأخذ من المحلل شيئا. ش: إذا جاز إخراج السبق وهو الجعل من كل واحد منهما بالشرط السابق، فلا يخلو من خمسة أحوال: (الحال الأولى) : جاءوا جميعا، فإن كل واحد منهما يحرز سبق نفسه، ولا شيء للمحلل، لأنه لا سابق فيهم. (الثانية) : سبق المستبقان المحلل، فكذلك لتساويهما، وانتفاء سبق المحلل. (الثالثة) : سبقهما المحلل، فإنه يحرز سبقيهما لسبقه. (الرابعة) : سبق أحدهما، فإنه يحرز سبق نفسه، لأنه لا سابق له، ويأخذ سبق صاحبه لسبقه، ولا يأخذ من المحلل شيئا، إذ وضع المحلل أنه لا يدفع شيئا. (الخامسة) : سبق أحدهما مع المحلل، فإن السابق يحرز سبقه، ويكون سبق الآخر بينهما. (واعلم) أنه يشترط في المسابقة (تعيين) المركوبين والراميين، لا الراكبين والقوسين، (واتحاد) نوع القوسين والمركوبين، فلا يجوز بين قوس عربية وفارسية، ولا بين فرس عربي وهجين على المذهب، وخرج الجواز بناء على تساويهما في السهم (وتحديد) المسافة بما جرت به العادة، وقد تقدم شرط العوض.

قال: ولا يجوز إذا أرسل الفرسان أن يجنب أحدهما إلى فرسه فرسا يحرضه على العدو، ولا يصيح به في وقت سباقه، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا جنب ولا جلب» . ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وذكر دليله. 3657 - وهو ما روى عمران بن حصين، «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لا جلب ولا جنب يوم الرهان» . رواه أبو داود، والنسائي، وزاد «ولا شغار في الإسلام» وكذلك الترمذي، وزاد «ومن انتهب نهبة فليس منا» . 3658 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا جلب ولا جنب، ولا شغار في الإسلام» . رواه أحمد، والمعروف في تفسير الحديث ما قاله الخرقي، وفسر القاضي - وكذلك ابن الأثير في جامع الأصول - الجنب بأن يجنب فرسا آخر معه، فإذا قصر المركوب ركب المجنوب،

وهذا التفسير قديم، فإن ابن المنذر قال: كذا قيل، ولا أحسب هذا يصح، لأن الفرس التي يسابق بها لا بد من تعيينها، فإن كانت التي يتحول عنها فما حصل السبق بها، وإن كانت التي يتحول إليها فما حصلت المسابقة بها في جميع الحلبة. ومن شرط السباق ذلك، وعن أبي عبيد أنه فسر الجلب بأن يحشر الساعي أهل الماشية ليصدقهم، قال: فلا يفعل، ليأتيهم على مياههم فيصدقهم، وهذا يرده ظاهر الحديث، وقد يقال يوم الرهان ظرف للجلب فقط، فلا دلالة في الحديث، والله أعلم.

كتاب الأيمان والنذور

[كتاب الأيمان والنذور] [أولا: كتاب الأيمان] ش: الأيمان جمع يمين، وهي في أصل اللغة الحلف بمعظم في نفسه أو عند الحالف، على أمر من الأمور، بصيغ مخصوصة، كقوله: والله لأفعلن. وحياتك لأركبن، والأصل في مشروعيتها الإجماع، وقد شهد لذلك أمر الله تعالى نبيه بها، قال سبحانه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] وقال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] وقال سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] الآية. 3659 - ومن السنة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها» متفق عليه. [اليمين المنعقدة] قال: ومن حلف أن يفعل شيئا فلم يفعله، أو لا يفعل شيئا ففعله فعليه الكفارة. ش: الأصل في هذا في الجملة قول الله تعالى:

{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية. 3660 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير» رواه مسلم وغيره. 3661 - وعن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير، أو أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني» متفق عليه. في عدة أحاديث سوى هذين. وقد شمل كلام الخرقي ما كان فعله معصية، فلو حلف أن يفعل معصية فلم يفعلها فعليه الكفارة، وهذا قول العامة لما تقدم، وقيل لا كفارة في ذلك. 3662 - لما روي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية، ولا في قطيعة رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها، وليأت الذي هو خير،

فإن تركها كفارتها» رواه أبو داود والنسائي، لكن قال فيه أبو داود: الأحاديث كلها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليكفر عن يمينه إلا ما لا يعبأ به. وهذه إشارة إلى ضعفه وشذوذه. 3663 - وقد «روى الأحوص عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت ابن عم لي آتية أسأله فلا يعطيني، ولا يصلني، ثم يحتاج إلي فيأتيني فيسألني، وقد حلفت أن لا أعطيه ولا أصله؟ فأمرني أن آتي الذي هو خير، وأكفر

من شرط الحنث في اليمين التذكر

عن يميني» . رواه النسائي. وقول الخرقي: حلف أن يفعل شيئا فلم يفعله، هذا إذا كانت يمينه مؤقتة ففات الوقت، أو كانت مطلقة ففات وقت الإمكان، وبيان ذلك له محل آخر، والله أعلم. [من شرط الحنث في اليمين التذكر] قال: فإن فعله ناسيا فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق. ش: لما قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من حلف على ترك شيء ففعله فعليه الكفارة، قال: إن هذا مقيد بما إذا فعله ذاكرا ليمينه، أما إذا فعله ناسيا لها - واليمين بغير الطلاق والعتاق فلا شيء عليه، لعموم قول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] . 3664 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» .

وإن كانت اليمين بالطلاق والعتاق فإنهما يلزمانه، لترددهما بين التعليق بالشرط - لأن صورتهما صورته - وبين اليمين، لوجود معنى اليمين فيهما وهو الحث أو المنع، فغلب جانب التعليق احتياطا للفروج، ولفكاك الرقاب، وأيضا فقد تقدم أن أصل اليمين في اللغة الحلف بمعظم، والحلف بالطلاق والعتاق - كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو فعبدي حر - ليس كذلك، وإنما هو جزاء أو شرط، والأصل البقاء وعدم النقل، وتسمية ذلك حلفا إنما هو مجاز، لما فيه من الحث أو المنع، والأصل الحقيقة، وهذا هو المذهب عند الأصحاب. وفي المذهب (رواية ثانية) لا يحنث في الجميع، اعتمادا على عموم الآية والحديث، إذ الحث والمنع في اليمين بمنزلة الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، وقد استقر أن فاعل المنهي عنه ناسيا أو مخطئا لا يكون آثما ولا مخالفا، فكذلك من فعل المحلوف على تركه ناسيا أو جاهلا، لا يكون حانثا، ولا مخالفا ليمينه، وهذه الراوية اختيار أبي العباس، وقال: قد نظرت جوابه في هذه الرواية فوجدت الناقلين له بقدر الناقلين لجوابه في الرواية الأولى، التي هي رواية التفرقة (وعنه رواية ثالثة) يحنث في الجميع، وهي أضعفهن، لأنه فعل ما حلف عليه قاصدا لفعله، فأشبه الذاكر. (تنبيه) : وحكم جاهل المحلوف عليه - كمن حلف لا يسلم

اليمين الغموس

على فلان، فسلم عليه يحسبه غيره، أو أن لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه، فأعطاه قدر حقه، ففارقه ظنا منه أنه قد بر فوجد ما أخذه ردئيا ونحو ذلك حكم الناسي على ما تقدم، (أما المكره) بغير الإلجاء ففيه روايتان، والذي نصره أبو محمد عدم الحنث، نظرا إلى أن الفعل لا ينسب إليه، وخرج التفرقة بين الطلاق والعتاق وغيرهما من الرواية ثم وإن كان الإكراه بالإلجاء - كمن حلف لا يدخل دارا، فحمل وأدخلها، ولم يقر على الامتناع - لم يحنث، لعدم نسبة الفعل إليه، وإن قدر على الامتناع فوجهان: (الحنث) لأن قدرته على الامتناع بمنزلة فعله (وعدمه) لانتفاء الفعل منه حقيقة، والفاعل في حال الجنون قيل كالناسي، لأن فعله قد يعتبر، بدليل صحة إيلائه، والأصح عدم حنثه مطلقا كالنائم. [اليمين الغموس] قال: من حلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فلا كفارة عليه، لأن الذي أتى به أعظم من أن تكون فيه الكفارة. ش: كذلك قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية الجماعة: هو أعظم من أن تكون فيه كفارة، وعليه الأصحاب. 3665 - وذلك لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل

النفس بغير حق، ونهب المؤمن، والفرار يوم الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق» . 3666 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «اختصم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلان، فوقعت اليمين على أحدهما، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء. قال: فنزل جبريل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنه كاذب، إن له عنده حقه، فأمره أن يعطيه حقه وكفارة يمينه معرفته أن لا إله إلا الله أو شهادته» . . . رواهما أحمد، وروى الثاني أبو داود بنحوه،

فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأول أن هذه اليمين لا كفارة لها، وأخبر جبريل في الثاني أن كفارتها الشهادة، لا الكفارة التي أوجبها الله تعالى في تعقيد الأيمان، وكلامنا فيها، وأيضا فإن هذه اليمين أعظم من أن تكفر، كما قال أحمد، إذ الكفارة لا ترفع إثمها، ولا تمحو ما حصل بها، وبيان ذلك أنها كبيرة، أو من أعظم الكبائر. 3667 - ففي البخاري عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: «الإشراك بالله» قال: ثم ماذا؟ قال: «ثم عقوق الوالدين» قال: ثم ماذا؟ قال: «اليمين الغموس» قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب.» 3668 - وعن عبد الله بن أنيس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر، فأدخل فيها جناح بعوضة، إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة» رواه أبو داود،

وأيضا فهي يمين غير منعقدة، فلا توجب كفارة كاللغو، وبيان عدم انعقادها أنها لا تقتضي برا، ولا يمكن فيها، واليمين المنعقدة هي التي يمكن فيها البر والحنث. 3669 - وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين حنث أو ندم» » فجعل اليمين مترددة بين شيئين الحنث أو الندم، وهذه حنث فقط بل وندم. (وعن أحمد) رواية أخرى تجب فيها الكفارة، لأنه وجدت منه اليمين والمخالفة مع القصد، فأوجبت الكفارة كالمستقبلة ولأن الكفارة إذا وجبت مع غير الغموس أولى، وجواب هذا قد تقدم، وهو أن هذه لعظمها قصرت الكفارة عن الدخول فيها. 3670 - قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كنا نعد من الأيمان التي لا كفارة فيها اليمين الغموس.

اليمين اللغو

(تنبيه) اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهي يمين الصبر، وأصل الصبر الحبس، فيمين صبر أي يمين حبس، لأنها تحبس صاحبها. [اليمين اللغو] قال: والكفارة إنما تلزم من حلف وهو يريد عقد اليمين. ش: الكفارة إنما تلزم من حلف وهو قاصد لعقد اليمين، فلو مرت اليمين على لسانه من غير قصد إليها، كقوله: لا والله، وبلى والله، في عرض حديثه، فلا كفارة عليه، لأنه من لغو اليمين. 3671 - قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنزلت هذه الآية: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] في قول الرجل: لا والله وبلى والله. أخرجه البخاري وأبو داود، وقال بعض المحدثين: وطريقة البخاري في صحيحه تقتضي أن نحو هذا من باب المرفوع، قلت: وكذلك جاء مصرحا به في

رواية أخرى لأبي داود، قال: اللغو في اليمين قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو قول الرجل في بيته كلا والله، وبلى والله» » . وكذلك قال أهل اللغة: اللغو ما اطرح ولم يعقد عليه، وإذا كان من اللغو فلا كفارة فيه بدليل الآية الكريمة، فإن الله سبحانه نفى المؤاخذة فيه، وجعل المؤاخذة والكفارة فيما عقدنا من الأيمان، وكلام الخرقي يشمل الماضي والمستقبل، وهو ظاهر قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (وفي المذهب رواية أخرى) في المستقبل أنه ليس من اللغو، فيجب فيه الكفارة. وقد خرج من كلام الخرقي من لا قصد له أصلا، كالنائم والطفل، والمجنون، ونحوهم، وفي معنى ذلك السكران، لانتفاء القصد منه، وأبو محمد يجري فيه القولين من الروايتين في طلاقه. ومما يلحق بذلك المكره، لأن قصده كلا قصد، وكذلك الصبي، لأنه وإن كان له قصد إلا أن الشارع رفع القلم عنه، ورفع القلم يقتضي أن لا تلزمه كفارة.

ودخل في كلامه الكافر فتصح يمينه، وتلزمه الكفارة، وإن حنث في كفره، لأنه مكلف، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عمر بالوفاء بنذر الاعتكاف الذي نذره في الجاهلية والنذر حلف. قال: ومن حلف على شيء وهو يرى أنه كما حلف عليه فلم يكن فلا كفارة عليه، لأنه من لغو اليمين. ش: اليمين على الماضي إما صادقا فيها فهو بار إجماعا، وإما كاذبا فيها متعمدا فهي اليمين الغموس، وقد تقدمت، وإما مخطئا معتقدا أن الأمر كما حلف عليه، فهذه صورة الخرقي، وهي عنده من لغو اليمين وإذا كانت من لغو اليمين فلا كفارة فيها، وبيان أنها من لغو اليمين أن المؤاخذة منتفية فيها، إذ المؤاخذة إنما تكون مع قصد المخالفة ولا مخالفة، ولهذا لا يأثم الحالف والحال هذه، وقيل عن أحمد (رواية أخرى) : إن هذا ليس من لغو اليمين، وتجب به الكفارة، نظرا لظاهر حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فإن ظاهره حصر اللغو في الأول، ولأن اليمين بالله وجدت مع المخالفة، فأوجبت الكفارة، كاليمين على مستقبل. (تنبيه) : الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجعل لغو اليمين شيئين: (أحدهما) : أن لا يقصد عقد اليمين، كقوله: لا والله وبلى والله، سواء كان ذلك في الماضي أو في المستقبل. (والثاني) : أن يحلف على شيء فيتبين بخلافه، وهذه طريقة ابن أبي موسى

اليمين المكفرة

وغيره، وهي في الجملة ظاهر المذهب، والقاضي يجعل الماضي لغوا قولا واحدا، وفي سبق اللسان في المستقبل روايتان، وأبو محمد عكسه يجعل سبق اللسان في المستقبل لغوا قولا واحدا وفي الماضي روايتان، ومن الأصحاب من يحكي روايتين في الصورتين، ويجعل اللغو في إحدى الروايتين هذا دون هذا، وفي الأخرى هذا دون هذا، وجمع أبو البركات بين طريقتي القاضي وأبي محمد، فحكى المسألة على ثلاث روايات، فإذا سبق على لسانه في الماضي: لا والله، وبلى والله. في اليمين معتقدا أن الأمر كما حلف عليه فهذا لغو اتفاقا، وإن سبق على لسانه اليمين في المستقبل، أو تعمد اليمين على أمر يظنه كما حلف عليه فتبين بخلافه، فثلاث روايات (كلاهما لغو) وهو المذهب (الحنث) في الماضي دون ما يسبق على لسانه (وعكسه) وقد تلخص لك في المسألة خمس طرق، والمذهب منها في الجملة قول الخرقي. [اليمين المكفرة] قال: واليمين المكفرة أن يحلف بالله عز وجل، أو باسم من أسمائه. ش: لا نزاع أن الحلف بالله عز وجل يمين مكفرة. 3672 - وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من كان حالفا فليحلف بالله أو

ليصمت» متفق عليه، وكذلك الحلف باسم من أسمائه في الجملة، وقد أمر الله سبحانه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحلف بربه كما تقدم. 3673 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أكثر ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحلف لا ومقلب القلوب» رواه البخاري وغيره. 3674 - وفي النسائي والمسند أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة» . ولا يناقض هذا قول

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» إذ الحالف بجميع أسماء الله أو صفاته حالف بالله، وأسماء الله بالنسبة إلى هذا المقام تنقسم ثلاثة أقسام: (أحدها) : ما لا يسمى به غيره، نحو والله، والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، والحي الذي لا يموت، وخالق الخلق، ونحو ذلك، وكذلك والرحمن، على الصحيح، فهذا القسم به يمين مكفرة بكل حال، لاستحالة صرف ذلك إلى غير الله تعالى. (الثاني) : ما قد يسمى به غير الله، لكن إطلاقه ينصرف إلى الله سبحانه، كالخلق، والرازق والرب، والمولى والرحيم، ونحو ذلك، فهذا إن نوى به اسم الله أو أطلق كان يمينا، نظرا لما يفهم منه عند ذلك، وإن نوى غير الله فليس بيمين على المذهب، لصحة إطلاقه عليه، قال الله سبحانه حكاية عن يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50] و {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] وقال سبحانه: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] وقال عن نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وإذا نوى

بلفظه ما يحتمله فينصرف إليه، وقال طلحة العاقولي: إن أتى بذلك معرفا نحو: والخالق والرازق. كان يمينا مطلقا، لأنه لا يستعمل مع التعريف إلا في اسم الله تعالى. (الثالث) : ما يسمى به الله سبحانه، لكن لا ينصرف إطلاقه إلى الله سبحانه، كالحي والعالم والموجود، والكريم، فهذا إن نوى به غير الله، أو أطلق فليس بيمين، نظرا لما يفهم منه عند الإطلاق، وإن نوى به الله تعالى فهو يمين عند الشيخين وغيرهما، لأنه قصد الحلف بما يسمى به الله سبحانه، أشبه القسم الذي قبله، وقال القاضي وابن البنا: لا يكون يمينا، لأن اليمين انعقادها لحرمة الاسم، ومع الاشتراك لا حرمة، والنية المجردة لا تنعقد بها اليمين، وأجيب بأن الانعقاد بالاسم المحتمل المنوي به أحد محتملاته، فيصير كالمصرح به، والله أعلم. قال: أو بآية من القرآن. ش: لما قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن الحالف بالله تعالى أو بأسمائه تكون يمينه مكفرة، أشار إلى أن الحالف بصفاته سبحانه كذلك، كأن يحلف بكلام الله، أو بالمصحف،

أو بالقرآن، أو بآية منه، أو بعزة الله، أو بعظمته، أو علمه، ونحو ذلك. 3675 - وفي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لما خلق الله الجنة أرسل جبريل فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها. فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها» . 3676 - وفي حديثه أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يبقى رجل بين الجنة والنار، فيقول: يا رب اصرف وجهي عن النار، لا وعزتك لا أسألك غيرها» متفق عليهما.

3677 - وفي حديث اغتسال أيوب «بلى وعزتك» ثم إن الصفات أيضا تنقسم ثلاثة أقسام: (أحدها) ما هو صفة لذاته سبحانه، لا يحتمل غيرها، كعزة الله، وعظمته، وكبريائه، وكلامه، ونحو ذلك، فهذا القسم به يمين بكل حال. (الثاني) : ما هو صفة لذاته لكن قد يعبر به عن غيرها مجازا، كعلم الله وقدرته، فإنها قد يراد بها معلوم الله ومقدوره، كقولهم: اللهم اغفر لنا علمك فينا. أي ما علمته فينا، ويقال: انظر إلى قدرة الله، أي مقدوره، فهذا مع الإطلاق يكون يمينا، اعتمادا على ما يفهم منه عند التخاطب، وكذلك مع قصد صفة الله تعالى بلا ريب، ومع إرادة المعلوم أو المقدور لا يكون يمينا، على قياس ما تقدم فيما إذا نوى بالرب غير الله سبحانه، والمنصوص عن أحمد أن ذلك يكون يمينا بكل حال، ولا يقبل منه فيه غير صفة الله، ولعله يريد في الحكم. (الثالث) : ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى، لكن ينصرف بالنية أو بإضافته إليه لفظا، كالعهد والميثاق، ونحو ذلك، فهذا لا يكون يمينا مكفرة إلا بالنية. أو بالإضافة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال: أو بصدقة ملكه أو بالحج. ش: أي ومن الأيمان المكفرة الحلف بصدقة ملكه

أو الحج، كأن يقول: إن دخلت الدار، أو كلمت زيدا، أو نحو ذلك فعلي الحج، أو فلله علي الصدقة بمالي أو عتق عبدي، ونحو ذلك، وضابطه أن يخرج النذر مخرج اليمين، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا، أو يحث به على شيء، ويسمى هذا نذر اللجاج والغضب، واختلف عن أحمد في حكمه، (فعنه) أن الواجب فيه الكفارة ليس إلا، حتى لو فعل المنذور لم يجزئه. 3678 - لما روى سعيد بن منصور في سننه، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن عمران بن حصين، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين» لكنه ضعيف من قبل محمد بن الزبير.

3679 - وروى عبد الرزاق، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من بني حنيفة، وعن أبي سلمة كلاهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا نذر في غضب، ولا في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» ، وهذا وإن كان مرسلا لكنه يتقوى بالذي قبله. 3680 - ثم يعضد ذلك ما روى أبو داود في سننه، عن سعيد بن المسيب، أن «رجلين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني فكل مال لي في رتاج الكعبة، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك،

سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك» » . 3681 - ويروى نحو هذا أيضا عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وحفصة، وزينب بنت أبي سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولا يعرف عن غيرهم خلافهم، ومثل ذلك لا يتقاصر عن تخصيص إطلاق الأمر بالوفاء بالنذر، ثم بالنظر إلى المعاني، وقد علم أن قول القائل: إن فعلت كذا فعلي الحج، ونحو ذلك ليس مقصوده الشرط ولا الجزاء، بل منع نفسه من ذلك، فهو كاليمين، فيدخل في قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]

الآية، وهذا بخلاف قوله: إن شفى الله مريضي فعلي الحج، ونحو ذلك، فهذا المقصود فيه وجود الشرط والجزاء، والمعتبر المقاصد، (وعنه) - وهو ظاهر كلام الخرقي، والمذهب بلا ريب - يتخير بين فعل ذلك، عملا بما التزمه، وبين كفارة اليمين لما تقدم، ويحكى عن ابن عقيل في الواضح أنه قال: يفعله. قال: أو بالعهد. ش: أي ومن اليمين المكفرة الحلف بالعهد، وقد يشمل كلام الخرقي (ما إذا نوى بذلك صفة الله تعالى) ، وما إذا لم ينو، ولا ريب أنه إذا نوى به صفة الله تعالى أنه يكون يمينا، إذ العهد يحتمل أن يراد به كلام الله تعالى الذي أمرنا أو نهانا به، كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ} [يس: 60] ولا ريب أن كلامه صفة له سبحانه، ويحتمل أن يراد به استحقاقه لما تعبدنا به، فإذا نوى بالعهد الأول فقد نوى به أحد محتمليه، بل هو الظاهر منه، فيصير كما لو صرح به، (أما إذا لم ينو) فهل هو يمين - وهو ظاهر كلام الخرقي، إذ الألف واللام بدل من المضاف، فكأنه قال: وعهد الله. ولو قال ذلك فهو يمين بلا ريب أو ليس بيمين - وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية، لتردده بين صفة الله تعالى وغيرها، والأصل براءة الذمة؟ فيه روايتان. (تنبيه) : حكم الميثاق، والعظمة والجلال، والأمانة، حكم

العهد، إن أضاف ذلك إلى الله، أو نوى به صفة الله، فهو يمين، وإن أطلق فروايتان. قال: أو بالخروج من الإسلام. ش: أي ومن اليمين المكفرة الحلف بالخروج من الإسلام، كأن يقول: إن فعل كذا فهو يهودي، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام، أو القرآن، أو النبي – عليه أفضل الصلاة والسلام - أو يعبد الصليب، أو يستحل الزنا، أو ترك الصلاة، ونحو ذلك، (وهذا أشهر الروايتين) عن أحمد، واختيار جمهور الأصحاب القاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن عقيل وغيرهم، لأن التزام ذلك يقتضي الكفر، وذلك أبلغ في انتهاك الحرمة من انتهاك حرمة القسم، فكان بإيجاب الكفارة أولى. 3682 - وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام، في اليمين يحلف بها، فيحنث في هذه الأشياء، قال: «عليه كفارة يمين» » . رواه أبو بكر، وهذا نص إن ثبت، لكنه بعيد الثبوت، (والرواية الثانية) لا كفارة في ذلك، وهي اختيار أبي محمد، إذ الوجوب من الشرع، ولم يثبت، ولأن

ذلك ليس باسم الله ولا صفته، فلا يدخل في الأيمان المشروع الحلف بها. 3683 - وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» . 3684 - وفي الصحيحين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال» ولم يأمر في ذلك بكفارة، قال أبو محمد: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرواية الأولى على الندب، لأنه قال في رواية حنبل: أحب إلي أن يكفر كفارة يمين. (قلت) : وهذا الذي أخذ القاضي منه عدم وجوب الكفارة، وقد نقل عنه حرب التوقف. وقد خرج من كلام الخرقي إذا قال: أنا أسرق، أو أقتل النفس التي حرم الله، أو قال: أخزاه الله، ونحو ذلك أنه لا يكون يمينا، لأنه ليس بخروج من الإسلام، وكذلك إن قال: عصيت الله في كل ما أمرني به إن فعلت كذا، عند الأصحاب، لأن المتبادر إلى الفهم من ذلك المأمور به من

الفروع، واختار أبو البركات أنه من الأول، لدخول التوحيد فيه، نظرا للعموم، وكذلك عندهم في: محوت المصحف، ونص عليه أحمد، واختار ابن عقيل أنه يمين، لأن ذلك إهانة للمصحف، وإسقاط لحرمته، وإنه كفر، ولو قال: لا يراني الله في موضع كذا إن فعلت كذا، فعند القاضي - وقال: إن أحمد نص عليه - وأبي البركات، هو من الأول، وهو واضح، وخالف أبو محمد فلم يوجب في ذلك كفارة، وظاهر كلامه وإن سلم وجوب الكفارة في الأول. (تنبيه) : حيث وجبت الكفارة فيما تقدم فإنما تجب بالحنث. 3685 - وفي صحيح مسلم «من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله» فجعل كفارة ما حصل منه قول لا إله إلا الله. قال: أو بتحريم مملوكه أو شيء من ماله. ش: أي ومن الأيمان المكفرة إذا حلف بتحريم مملوكه، أو بتحريم شيء من ماله، كأن قال: هذا العبد أو هذا الطعام علي حرام، أو الحل علي حرام. ونحو ذلك - ما عدا الزوجة - إن فعلت كذا، وفعله فعليه الكفارة. نص عليه أحمد، مستدلا بحديث العسل، وهو الذي نزل فيه على الصحيح

قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فسمى سبحانه تحريم ما أحله يمينا، وفرض له تحلة وهي الكفارة، وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية. 3686 - ففي الصحيحين أنها نزلت في العسل لما شربه، وقال: لن أعود له أو «لا حاجة لي فيه» ثم اختلف في الحديث هل كان ذلك عند حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأن عائشة وسودة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في حديث طويل وصفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تواصوا، وقالوا للنبي: نجد منك ريح مغافير. أو كان ذلك عند زينب بنت جحش - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأن عائشة وحفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تواصيا بما تقدم. وقيل نزلت في تحريمه أمة له. 3687 - «فعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له أمة يطؤها،

فلم تزل به عائشة وحفصة رض الله عنهما حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] » . رواه النسائي، وقيل: إن هذه الأمة مارية القبطية، وأيا ما كان فهو حجة لما تقدم. ولم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما حرمه هل يحرم أم لا؟ والمذهب أنه لا يحرم، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بالتحريم، لكنه يزول بالكفارة، ومنشأ الخلاف أن من نظر إلى أنه تحريم لمباح ألحقه بتحريم الزوجة بالظهار، فحرمه كما تحرم هي، ومن نظر إلى أن هذا داخل بظاهر الآية في الأيمان، فيعطى حكمها، وحكمها أنها لا تحرم شيئا لم يحرمه الله. ونص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على تحريم المملوك والمال، لتخرج الزوجة، لأن عنده أن ذلك ظهار، وقد تقدم ذلك. قال: أو بنحر ولده. ش: هذا ساقط في بعض النسخ، وثابت في أكثرها،

وبالجملة قد ذكر فيه بعد روايتين، فلنؤخر الكلام عليه إن شاء الله تعالى إلى ثم، والله أعلم. قال: أو يقول: أقسم بالله، أو أشهد بالله، أو أعزم بالله. ش: أي ومن اليمين المكفرة الحلف بواحد من هذه الأشياء، هذا قول عامة أهل العلم، إذ لو قال: بالله. ولم يقل: أقسم ولا أشهد. كان يمينا، بتقدير الفعل قبله، لأن الباء تتعلق بمقدر، فإذا نطق بالفعل المقدر كان أولى بثبوت الحكم، لا سيما وقد ثبت لذلك عرف الشرع والاستعمال، قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] . 3688 - «وعن عبد الرحمن بن صفوان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان صديقا للعباس أنه لما كان يوم الفتح جاء بأبيه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، بايعه على الهجرة، فأبى وقال: «إنها لا هجرة» فانطلق إلى العباس، فقام العباس معه، فقال: يا رسول الله، قد عرفت ما بيني وبين فلان، وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنها لا هجرة» فقال العباس: أقسمت عليك لتبايعنه: قال: فبسط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده فقال: «هات أبررت عمي ولا هجرة» .

3689 - وعن أبي الزاهرية، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن امرأة أهدت إليها تمرا في طبق، فأكلت بعضه وبقي بعضه، فقالت: أقسمت عليك ألا أكلت بقيته، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبريها فإن الإثم على المحنث» رواهما أحمد، وإذا كان يمينا من غير ذكر اسم الله، فمع اسم الله أولى وأحرى. وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في هذه الثلاثة بين أن ينوي اليمين أو لا ينوي، وهو قول الجمهور، وخالف أبو بكر في: أعزم بالله. فقال: إن لم ينو اليمين لم يكن يمينا، زاعما بأنه

لم يثبت لذلك عرف الشرع ولا الاستعمال، وللأول احتمال اليمين مع الاقتران بما يقوم مقام النية، وهو الجواب بجواب القسم، والخرقي صور المسألة فيما إذا أتى بذلك بلفظ الاستقبال مع ذكر اسم الله، فلو أتى به بلفظ الماضي، كأن قال: شهدت بالله، أو أقسمت بالله. فكذلك، لما تقدم من حديثي عائشة وعبد الرحمن، ولو لم يأت باسم الله، كأن قال: أقسم أو أقسمت، وفي حديث سليمان - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - أنه قال: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة» ولم يذكر اسم الله، وهو ظاهر في انعقاد اليمين وإن لم يذكر اسم الله في لفظه، أو شهدت أو أشهد، فإن نوى اليمين فهو يمين عندنا بلا خلاف نعلمه، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، وإن لم ينو اليمين فروايتان: (إحداهما) : - وهي اختيار عامة الأصحاب، الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل، والشيرازي، والخرقي، وأبي بكر، فيما قاله أبو الخطاب في الهداية - هو يمين، (أيضا) لما تقدم من حديثي عبد الرحمن وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل فيهما هل نويا اليمين أم لا. 3690 - وكذلك في «حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قال: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت. فقال

النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقسم يا أبا بكر» . رواه أبو داود، (والثانية) - وهي اختيار أبي بكر - لا تكون يمينا، لاحتماله للقسم بالله وبغيره، وإذا لا بد من النية لتميز المراد وتبينه. (تنبيهان) : «أحدهما» : ظاهر كلام أبي محمد في المقنع، وأبي البركات أن حكم: أعزم. حكم أقسم وأشهد، إن نوى به اليمين كان يمينا، وإن أطلق فروايتان، وقال أبو محمد في المغني: إذا قال: أعزم أو عزمت. لم يكن قسما، نوى به القسم أو لم ينو، لأنه لم يثبت له عرف في الشرع، ولا الاستعمال في كونه قسما. قلت: وأكثر الأصحاب لم أرهم ذكروا ذلك، وإنما ذكروا: أشهد وأقسم. وزادوا مع ذلك أحلف. (الثاني) : لو قال: نويت بأقسمت بالله الخبر عن قسم ماض، أو بأقسم. الخبر عن قسم يأتي دين، وهل يقبل منه في الحكم، وهو اختيار أبي محمد، أو لا يقبل، وهو اختيار القاضي؟ فيه قولان. قال: أو بأمانة الله. ش: أي ومن الأيمان المكفرة الحلف بالأمانة، وحكم

الحلف بذلك حكم الحلف بعهد الله أو ميثاقه، على ما مر إن أضافها إلى الله، أو نوى بها صفة الله تعالى فهو يمين، وإن قال: والأمانة. وأطلق فروايتان. (تنبيهان) : «أحدهما» : قال أبو محمد: يكره الحلف بالأمانة. 3691 - لأن في السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف بالأمانة فليس منا» . 3692 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان ينهى عن ذلك أشد النهي. (قلت) وظاهر الحديث والأثر التحريم. (الثاني) : ظاهر كلام الخرقي أن ما عدا ما تقدم من الأيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وما ذكره لا يكون يمينا مكفرة، وذلك كالحلف بغير الله تعالى، سواء كان معظما أو غير معظم، أضافه إلى الله تعالى أو لم يضفه، كقوله: ومعلوم الله ومقدوره وخلقه، والكعبة، والنبي، ورأس السلطان، وزيد، ونحو ذلك، وهو كذلك، للنهي عن الحلف بذلك.

3693 - ففي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . 3694 - وقال: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» . 3695 - وقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» وإذا كان منهيا عن الحلف بذلك فلا يدخل في الأيمان المشروعة. واستثنى من ذلك عامة الأصحاب الحلف برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعلوا الحلف به يمينا مكفرة. ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب لأنه أحد شطري الشهادة، فأشبه الحلف بالشطر الآخر وهو اسم الله، وخالفهم أبو محمد نظرا لما تقدم، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخلوق، فأشبه إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأورد أبو البركات المذهب عدم وجوب الكفارة، وظاهر نقله أن المسألة على روايتين، وخرج على رواية وجوب الكفارة بجواز الحلف به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أما إن لم يجب بالحلف به كفارة فحكمه في الحلف به حكم غيره، هل يكره ذلك، وهو الذي جزم به أبو الخطاب في الهداية، وأبو علي، وابن البنا، وأورده

أبو محمد مذهبا، أو يحرم وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، وهو ظاهر الحديث؟ على قولين، (وعن أحمد) ما يحتملهما، وقال حرب: قلت لأحمد: الرجل يقول: وبيت الله. فكرهه، وقال: هذا حلف بغير الله، والله أعلم. قال: ولو حلف بهذه الأيمان على شيء واحد فحنث لزمته كفارة واحدة. ش: كأن حلف بالله، وبالرب، وبالرحمن، وبعهد الله وميثاقه. ونحو ذلك على شيء واحد، فكفارة واحدة، لأن ذلك يمين واحدة، وإنما ذلك تأكيد ومبالغة في الحلف، فهو كما لو قال: والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الطالب الغالب. إلى غير ذلك من تعداد الصفات، وعكس هذه المسألة في الصورة مع الاتفاق في الحكم إذا حلف يمينا واحدة على أشياء مختلفة، إناطة بأنها يمين واحدة، فلم يجب بها أكثر من كفارة واحدة. وقول الخرقي: ولو حلف بهذه الأشياء كلها على شيء واحد. مفهومه أنه لو حلف بها على أشياء فحنث أنه يجب عليه لكل يمين كفارة، وقد اختلف فيما إذا كرر اليمين على شيء واحد، بأن قال: والله لا أكلت، والله لا أكلت، والله لا أكلت. أو على أشياء بأن قال: والله لا لبست، والله لا شربت، والله لا مشيت، ثم أكل وشرب، ولبس ومشى،

(فعنه) - وهو اختيار أبي بكر والقاضي - تجزئه كفارة واحدة، نظرا إلى أن الكفارات زواجر بمنزلة الحدود، والحدود تتداخل، فكذلك الكفارات، (وعنه) يجب عليه كفارات بعدد ما حلف عليه، نظرا إلى أن كل واحدة يمين منعقدة، فأشبهت الأيمان المختلفة الكفارة، (وعنه) - وإليه ميل أبي محمد، ويحتمله كلام الخرقي - أنها إن كانت على فعل واحد - كوالله لا أكلت، ووالله لا أكلت، ووالله لا أكلت - فكفارة واحدة، نظرا إلى أن ذلك غالبا يستعمل للتأكيد، وإن كانت على أفعال - كوالله لا شربت، ووالله لا لبست، ووالله لا مشيت - فكفارات، لانتفاء التأكيد إذا، (ومحل الخلاف) في الأول إذا لم يرد التأكيد، أما إن أراد التأكيد فلا تجب إلا كفارة واحدة بلا ريب، كما قد نص عليه أحمد في رواية حرب، (ومحل الخلاف) في الثاني إذا كان ذلك قبل التكفير، أما إن حنث مثلا في اللبس فكفر عنه، ثم حنث في الشرب فإنه تجب عليه كفارة ثانية بلا ريب، لانتفاء التداخل إذا. قال: ولو حلف على شيء واحد بيمينين مختلفتي الكفارة لزمته في كل واحدة من اليمينين كفارتها. ش: كأن حلف بالله وبالظهار، لانتفاء التداخل، إذ التداخل إنما يكون مع اتحاد الجنس كالحدود من جنس،

والكفارات هنا جنسان، فأشبهتا حد الزنا والسرقة. قال: ولو حلف بحق القرآن لزمته بكل آية كفارة يمين. ش: نص أحمد على هذا في رواية حرب وغيره. 3696 - وذلك لما ذكر أبو محمد بن حزم في كتاب الإعراب، قال: وروينا من طريق الحجاج بن منهال، قال: حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها كفارة يمين صبر، إن شاء بر وإن شاء فجر» وذكر أبو محمد بن قدامة أن الأثرم رواه عن مجاهد، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيحتمل أنه روي من طريقين. 3697 - وهو وإن كان مرسلا، فقد عضده أن ذلك قول ابن مسعود، ولا يعرف عن صحابي غيره خلافه، (وعنه) - وقال أبو محمد: إنه قياس المذهب - يجزئه كفارة واحدة،

بناء على أن الحلف بجميع صفات الله تعالى كما تقدم لا يجب بها أكثر من كفارة واحدة، فالحلف بصفة واحدة - وهي كلامه سبحانه - أولى، قال أبو محمد: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في الأول على الاستحباب، لأنه قال: عليه بكل آية كفارة، فإن لم يمكنه فكفارة واحدة. قلت: وهذا للوجوب أقرب منه للاستحباب، لأن أحمد إنما نقله لكفارة واحدة عند العجز، إذ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهو لا يطيق إلا ذلك، والحكم فيما إذا حلف بالمصحف أو بكلام الله، كالحكم فيما تقدم، لأن ذلك عبارة عن القرآن، والحكم فيما إذا حلف بسورة من القرآن كالحكم في الحلف بكله، هل يجب عليه بكل آية منها كفارة، أو لا تجب إلا كفارة واحدة؟ فيه القولان. قال: وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن حلف بنحر ولده روايتان: إحداهما كفارة يمين، والأخرى يذبح كبشا.

ش: هذا أولا مبني على قاعدة تأتي للخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أن نذر المعصية ينعقد موجبا لكفارة يمين، إذ ذبح الولد معصية، بل من أعظم المعاصي، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] . 3698 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قيل: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» » وأمر إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذبح ولده أمر مختص به، لا يتعداه إلى غيره، ثم قد نسخ ذلك بالفداء بالكبش. إذا تقرر هذا فمن أوجب كفارة يمين جرى على القاعدة في نذر المعصية، إذ الواجب فيه كفارة يمين كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإلى هذا ميل أبي محمد، وقال أبو الخطاب في خلافه: إنه الأقوى. ومن أوجب ذبح كبش، قال: لأنه الذي أوجبه الله تعالى على إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بدلا عما أوجبه الله تعالى عليه من ذبح ولده، إذ مقتضى النذر أن يلزم ذبح

الولد، لكن لما منعنا الله من ذلك كان بمنزلة منع إبراهيم من ذبح ولده، ثم إبراهيم - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - أوجب الله عليه ذبح كبش بدلا عن ذبح الولد، فكذلك نحن. 3699 - وقد اختلف عن الحبر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - على قولين، كالروايتين السابقتين، وأنصهما عنه ذبح كبش، كما هو أنص الروايتين عن أحمد، وهو اختيار القاضي، ونصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صور المسألة فيمن حلف بنحر

الحلف بالعتق

ولده، كأن قال: إن فعلت كذا فلله علي نحر ولدي. أو: ولدي نحير إن فعلت كذا، وكذلك الحكم فيما إذا نذر وأطلق، كأن قال: لله علي نحر ولدي، والحكم في نذر نحر نفسه أو نحر أجنبي كذلك، قاله القاضي وأبو محمد، وقد نص عليه أحمد في ذبح نفسه، في رواية ابن منصور، وأشار إليه في ذبح الأجنبي، في رواية أبي طالب. وقول الخرقي: فيمن حلف بنحر ولده، هذه العبارة تشمل ما إذا كان له ولد واحد أو أولاد، لكن مراده والله أعلم إذا لم يكن له إلا ولد واحد، لأن أحمد نص في الثانية أن الكبش يتعدد بتعدد الأولاد، وهو جار على قاعدته، ومنصوصه في الطلاق وغيره من أن المفرد المضاف يعم. وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا تجب عليه الكفارة إلا إذا حنث، ونص عليه أحمد فيمن نذر أن ينحر نفسه يفدي نفسه إذا حنث، وقوله: يذبح كبشا، كذا قال بعضهم، وبعضهم قال شاة، وأحمد قد أجاب تارة بهذا، وتارة بهذا. [الحلف بالعتق] قال: ومن حلف بعتق ما يملك فحنث عتق عليه كل ما يملك من عبيده، وإمائه، ومدبريه، وأمهات أولاده، ومكاتبيه وشقص يملكه من مملوك. ش: صورة هذه المسألة إذا قال: إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر، أو كل مملوك لي عتيق إن فعلت كذا، فإذا فعل ذلك فقد وجد الشرط فيعمل بمقتضاه، وهو عتق من تقدم، كما لو قال: إن فعلت كذا، فكل زوجة لي طالق، ونحو ذلك، وما ذاك إلا أن هذا صورته صورة الشرط

كفارة اليمين قبل الحنث أم بعده

حقيقة، وكذلك معناه، إذ ليس فيه التزام حتى يشبه اليمين، كما في نذر اللجاج: إن فعلت كذا فلله علي عتق عبيدي، ونحو ذلك، وإنما عتق عليه عبيده وإماؤه لأن ملكه عليهم تام بلا ريب، وإنما عتق مكاتبوه ومدبروه وأمهات أولاده لبقاء ملكه عليهم، فيدخلون فيما يملك، وكذلك أيضا عتق الشقص الذي يملكه، لدخوله فيما يملكه، (وقيل عن أحمد) رواية أخرى لا يعتق الشقص إلا أن ينويه، لأن ذلك لا يخطر ببال الحالف غالبا، فلا يتعلق به اليمين، والله أعلم. [كفارة اليمين قبل الحنث أم بعده] قال: ومن حلف فهو مخير في الكفارة قبل الحنث أو بعده، وسواء كانت الكفارة صوما أو غيره، إلا في الظهار والحرام، فعليه الكفارة قبل الحنث. ش: قد تقدم أن مذهب الخرقي أن الحرام ظهار، فحكمه حكمه، وإنما عطفه عليه لتغاير لفظيهما كما في قوله: فألفيت قولها كذبا ومينا.

وقد تقدم أيضا أن كفارة الظهار يجب إخراجها قبل الحنث، فلا حاجة إلى إعادة ذلك، والكلام الآن في كفارة اليمن، ومذهبنا ومذهب جمهور السلف أن الحالف إذا أراد الحنث في الجملة فهو مخير إن شاء أخرج الكفارة قبل الحنث، وإن شاء بعده. 3700 - لما روي «عن عبد الرحمن بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك. وائت الذي هو خير» . متفق عليه. وهذا أمر، وأقل أحواله الجواز، وللبخاري «فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» ، وفي لفظ «إذا حلفت علي يمن، فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير» رواه أبو داود، والنسائي، وهذا أصرح من الذي قبله. 3701 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من

حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير» رواه مسلم وغيره. 3702 - وعن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير» ، أو قال: «أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني» هذا لفظ أبي داود، وعند النسائي في رواية «إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير» وهو في الصحيحين بنحو ذلك أيضا. وظاهر كلام الخرقي أن التكفير قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة، لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وهو اختيار أبي محمد، لورود الأحاديث بهذا تارة، وبهذا أخرى، فدل على استواء الأمرين، وقال ابن أبي موسى: بعده أفضل عند أحمد، للخروج من الخلاف، وإذا ينبغي براءة الذمة، إذ عند الحنفي لا يجزئ الإخراج إلا بعد الحنث، وكذلك عند الشافعي في الصوم فقط، وهذا المقتضي لتنصيص الخرقي على التسوية بين الصوم وغيره، وعورض الخروج من الخلاف بتعجيل النفع للفقراء.

الاستثناء في اليمين

وظاهر كلام الخرقي أن التخيير جار وإن كان الحنث محظورا، وهو أحد الوجهين، إناطة بوجود السبب، (والوجه الثاني) : لا يجزئه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حلف على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير» والإتيان هنا ليس بخير، فلا يتناوله الأمر بالتقديم، على أن الملحوظ في التقديم الرخصة، والرخص لا تباح بالمعاصي. (تنبيه) : الكفارة قبل الحنث محللة لليمين، قال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وبعد الحنث مكفرة، قال سبحانه: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] قال بعضهم: أي فحنثتم. [الاستثناء في اليمين] قال: وإذا حلف بيمين فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك، ولا كفارة عليه إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام. ش: إذا حلف فقال مثلا: والله لأدخلن الدار إن شاء الله. فهو مخير في الجملة بين الفعل والترك، فإن ترك لم يحنث إجماعا. 3703 - وقد شهد له ما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول

الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه» رواه الخمسة، وحسنه الترمذي. 3704 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من

حلف فقال: إن شاء الله، لم يحنث» رواه الترمذي والنسائي. 3705 - وفي الصحيحين أيضا من حديثه «قال سليمان بن داود - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لأطوفن الليلة بمائة امرأة، تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله. فقال له الملك، قل: إن شاء الله، فلم يقل ونسي، وطاف بهن ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان» قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو قال إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركا لحاجته» . إذا تقرر هذا فشرط صحة الاستثناء الاتصال المعتاد على

المذهب المعروف، فلو سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه، أو تكلم بكلام أجنبي، ونحو ذلك بطل استثناؤه، ولا يضر السكوت لعارض من تنفس أو عطاس، ونحو ذلك، إذ الاستثناء أحد المخصصات، فاعتبر اتصاله كبقية المخصصات، من الشرط والصفة وغيرهما. 3706 - وفي حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من رواية أبي داود وغيره «من حلف علي يمين فاستثنى» فظاهره أن الاستثناء يكون عقب الحلف، وقال أحمد: حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الرحمن بن سمرة «إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فكفر عن يمينك» ولم يقل: واستثن. قلت: والظاهر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما حكم على اليمين التي يحنث بتركها، ولهذا لم يقل له ولم يستثن، (وعن أحمد) رواية أخرى: لا يضر الفصل اليسير، بشرط أن لا يخلط كلامه بغيره. 3707 - لما روي عن عكرمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوما: «والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا» ثم قال: «إن شاء الله» » ، وفي رواية عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي رواية عن عكرمة يرفعه أنه قال: «والله لأغزون قريشا ثم قال: إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشا إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال: إن شاء الله» زاد فيه بعض الرواة: ثم لم يغزهم. رواه

أبو داود، واحتج به أحمد، فقال: حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والله لأغزون قريشا» ثم سكت ثم قال: إنما هو استثناء بالقرب، ولم يخلط كلامه بغيره، اهـ. 3708 - وفي الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مكة: لا يختلى خلاها الحديث، فقال له العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: إلا الإذخر» فأثر الاستثناء وهو منفصل.

3709 - وفي حديث سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الملك قال له: قل إن شاء الله، فلم يقل، وظاهره أنه قال له ذلك بعد الفراغ من اليمين. وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لو قال: إن شاء الله - يعني وقت قال له الملك - لم يحنث» (وحكى ابن أبي موسى) عن بعض الأصحاب أن المشترط المجلس، لأن حالة المجلس كحالة الكلام، وينبغي أن يقيد هذا أيضا بما قيد به الذي قبله، من أنه لا يخلط كلامه بغيره، وكلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - محتمل للقولين الأولين، (واشترط) القاضي، وأبو البركات وغيرهما مع ما تقدم أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه، لأن المخرج بالاستثناء غير مراد بالحكم عليه، وإلا لزم أن يكون مرادا غير مراد، وهو متناقض، فيلزم منه رفع ما أوقعه، وظاهر بحث أبي محمد أن المشترط قصد الاستثناء فقط، حتى لو نوى عند تمام يمينه صح استثناؤه، وفيه نظر، وظاهر إطلاق الخرقي عدم الاشتراط أصلا، وهو وجه حكاه ابن البنا، وبناه على أن لغو اليمين عندنا صحيح، وهي ما كان على الماضي، وإن لم يقصده، وهو ظاهر حديث الإذخر وحديث سليمان. وقول الخرقي: وإذا حلف، يشمل كل حلف، وكذلك ظاهر الحديث، وقد استثنى من ذلك الطلاق والعتاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإذا يصير ملخص الأمر أن كل يمين تدخلها الكفارة، كاليمين بالله تعالى، والنذر والظهار يدخلها الاستثناء، وقد نص أحمد على ذلك.

الاستثناء في العتق والطلاق

وقوله: فقال. ظاهره أنه لا ينفعه الاستثناء بقلبه، وهو كذلك لظاهر الحديث، ولأن الاستثناء كالجزء من اليمين، واليمين لا تنعقد بالنية، فكذلك الاستثناء، وعن أحمد في المظلوم يستثنى في نفسه: أرجو أن يجوز إذا خاف على نفسه، وكأنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نظر إلى أن ذلك تأويل، والمظلوم ينفعه تأويله. [الاستثناء في العتق والطلاق] قال: وإذا استثنى في الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه توقف عن الجواب، وقد قطع في موضع أنه لا ينفعه الاستثناء. ش: وذلك كأن قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله. أو لعبده: أنت حر إن شاء الله. وتوقف أحمد عن الجواب في ذلك، لاختلاف الناس فيه، مع عدم نص قاطع في ذلك، وحظر ذلك، وهو الحكم بحل فرج أو تحريمه، والذي استقر عليه قوله أنه لا ينفعه الاستثناء، معللا ذلك في رواية حنبل بأنهما ليسا من الأيمان، وإذا لم يكونا من الأيمان فلا يدخلان في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث» ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في أول الباب، وأن المغلب فيهما التعليق على شرط، وإذا هذا الشرط الذي قد علق عليه الطلاق - وهو مشيئة الله تعالى - أمر لا سبيل إلى علمه، فهو كالتعليق على مستحيل، أو أمر يفضي

اعتباره إلى رفع الطلاق بالكلية، أشبه ما لو قال: أنت طالق طلقة لا تلزمك. ونحو ذلك. 3710 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله. هي طالق. رواه أبو حفص بسنده، وعن أبي بردة نحوه. 3711 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قالوا: كنا معاشر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نرى الاستثناء جائزا في كل شيء إلا في العتاق والطلاق. ذكره أبو

الخطاب (وحكى أبو محمد رواية أخرى) عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بصحة الاستثناء في الطلاق والعتاق، بناء على أنهما من الأيمان، فيدخلان في عموم من حلف على يمين إذ ذلك نكرة في سياق الشرط، فتشمل كل يمين، ونظرا إلى أن التعليق يحصل على مشيئة لم يعلم وجودها، أشبه ما لو علقه على مشيئة زيد، وأجيب بأن مشيئة الله تعالى قد علمت بمباشرة الآدمي سبب ذلك، وهو النطق بالطلاق، ونقل الشيخ أبو حامد الاسفرائيني ومن تبعه عن إمامنا رواية بالتفرقة بين الطلاق العتاق، وقطع أبو البركات وغيره بأن ذلك غلط على الإمام، وسبب الغلط - والله أعلم - أن أحمد قال فيمن قال: إن ملكت فلانا فهو حر إن شاء الله، فملكه صار حرا، وقال فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق إن شاء الله، فتزوجها لم تطلق، ففرق بين التعليقين،

حكم تعليق العتق والطلاق على شرط

وذلك أن من أصله أن العتق يصح أن يعلق بالملك، بخلاف الطلاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ففرق أحمد لأجل هذا، لا لأجل الاستثناء بالمشيئة، وللمسألة فروع أخر ليس هذا موضعها، والله أعلم. [حكم تعليق العتق والطلاق على شرط] قال: وإن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، لم تطلق إن تزوج بها، وإن قال: إن ملكت فلانا فهو حر، فملكه صار حرا. ش: اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هاتين المسألتين على ثلاث روايات: (إحداهن) صحة التعليق فيهما، فيقع العتق والطلاق، (والثانية) عدم الصحة فيهما فلا يقعان، وهي اختيار أبي محمد، وأبي الخطاب. 3712 - ومدركهما أن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده. 3713 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك»

رواه ابن ماجه من رواية المسور بن مخرمة، هل هذا الطلاق والعتاق وقعا قبل ملك، أو لم يقعا إلا في ملك، وأصل هذا فيما قيل إن الشرط هل منع انعقاد السبب، أو إنما منع ترتب حكمه عليه، فمن نظر إلى الأول قال بوقوع الطلاق والعتاق، لوجود سببهما في الملك، ومن نظر إلى الثاني قال بعدم وقوعهما، لوجود السبب قبل الملك، والمشهور عن أحمد - وهو المختار لعامة أصحابه، حتى إن بعضهم لا يثبت ما يخالف ذلك - التفرقة بين الطلاق والعتاق، كما قاله الخرقي، فيقع العتق دون الطلاق، نظرا إلى أن العتق قربة وطاعة، فصح تعليقه على الملك كالنذر، وقد دل على الأصل قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] الآية. وهذا بخلاف الطلاق، فإنه ليس بقربة من حيث

ما تحمل عليه ألفاظ اليمين

هو، بل عدمه هو القربة، والأصل أن الإنسان لا ينفذ له تصرف إلا فيما يملك، وأيضا الملك قد يقصد للعتق، كما في شراء من يعتق عليه برحم أو بشرط، والنكاح لا يقصد للطلاق، بل قد تذهب فائدته، اهـ. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صور المسألة فيما إذا علق طلاق معينة على تزوجها، وكذلك الحكم في غير المعينة، كما إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. وكلامه في تعليق العتق يشمل ما إذا كان المكلف حرا أو عبدا، والصحيح عندهم أن العبد لا يصح تعليقه، وإن صح تعليق الحر، لعدم ملكه حين التعليق. [ما تحمل عليه ألفاظ اليمين] قال: ولو حلف أن لا ينكح فلانة، أو لا اشتريت فلانة، فنكحها نكاحا فاسدا، أو اشتراها شراء فاسدا لم يحنث. ش: هذا هو المشهور والمختار من الأوجه، حملا لذلك على النكاح الشرعي والشراء الشرعي، ولا ريب أنهما الصحيحان، إذ كلام المكلف محمول على المراد من كلام الشارع، وكلام الشارع المراد به الصحيح، فكذلك كلام المكلف، (وقيل بحنثه) مطلقا، نظرا لإطلاق اللفظ الشامل للشرعي واللغوي، وملخصه أن الأول غلب الحقيقة الشرعية، والثاني غلب الحقيقة اللغوية (وفي المذهب وجه ثالث) اختاره ابن أبي موسى ولا بأس به أنه يحنث بالنكاح

أو الشراء المختلف فيه، لعدم الجزم بكونه ليس بشرعي، مع تيقن دخوله في الحقيقة اللغوية، دون النكاح أو الشراء المتفق على بطلانهما، لتيقن كونه ليس بشرعي، مع أن المغلب في الإطلاق هو الشرعي، والله أعلم. قال: ولو حلف أن لا يشتري فلانا، أو لا يضربه، فوكل في الشراء أو الضرب حنث ما لم تكن له نية. ش: لأن فعل الوكيل قائم مقام فعل الموكل، فكأنه هو، والدليل على أن الفعل يضاف إلى الموكل، قال الله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] وقال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم ارحم المحلقين» ولا ريب في تناول ذلك لمن حلق رأسه بأمره، ولو حلف لا يدخل دارا، فأمر من حمله وأدخله إليها حنث، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر الصورتين على سبيل المثال، ولينبه بهما على مذهب المخالف، والحكم منوط بما إذا حلف لا يفعل شيئا، وإنما ذكر هاتين الصورتين على سبيل المثال، إذ الشافعي يخالف فيهما في الجملة، والنعمان يخالف في صورة البيع دون الضرب،

حكم فعل المحلوف عليه ناسيا

ثم محل هذه المسألة إذا لم يكن ثم نية أو ما يقوم مقامها من قرينة حال ونحو ذلك، أما مع النية أو بدلها فإن الحكم يناط بها ويعتمد عليها، والله أعلم. [حكم فعل المحلوف عليه ناسيا] قال: وإذا حلف بعتق أو طلاق أو لا يفعل شيئا ففعله ناسيا حنث. ش: قد تقدمت هذه المسألة في قوله: وإن فعله ناسيا فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق، والخلاف فيها فلا حاجة إلى إعادتها، والله أعلم. [حكم التأويل في اليمين] قال: ومن حلف فتأول في يمينه فله تأويله إذا كان مظلوما، فإن كان ظالما لم ينفعه تأويله، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» . ش: التأويل أن يقصد بلفظه ما يخالف ظاهره مع احتمال اللفظ له، كأن يحلف أنه أخي وينوي بذلك أخوة الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] أو المشابهة استعارة، أو يحلف أنه كان تحت سقف، وينوي به السماء، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] أو يحلف أنه كان على فراش أو بساط، مريدا بذلك الأرض، قال سبحانه: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} [الذاريات: 48] وقال سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] أو يحلف ما لفلان عندي

وديعة، مريدا بـ «ما» الذي، أو ما فلان ها هنا، ويريد موضعا معينا، ونحو ذلك مما هو سائغ في اللغة، مع أن السابق إلى فهم السامع خلافه. ولا يخلو المتأول من ثلاثة أحوال: (أحدها) أن يكون الحالف مظلوما، كأن يستحلفه ظالم على شيء لو صدقه لناله أو مسلما أو ذميا ضرر، فهذا له تأويله بلا ريب. 3714 - لما «روى سويد بن حنظلة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: خرجنا نريد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنا أنه أخي، فخلي عنه، فأتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فقال: «أنت كنت أبرهم وأصدقهم، صدقت، المسلم أخو المسلم» رواه أحمد وابن ماجه. 3715 - وفي حديث الإسراء المتفق عليه: «مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح» .

3716 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» ، (الحال الثانية) : أن يكون ظالما، كالذي يستحلف على حق عنده، فهذا لا ينفعه التأويل، وتنصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي يقصده المستحلف بلا ريب أيضا. 3717 - لما استدل به الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» وفي لفظ: يصدقك عليه صاحبك وعنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على نية المستحلف» رواهما مسلم وغيره، ولأنه لو ساغ التأويل والحال ما تقدم

لاتخذ ذلك وسيلة إلى جحود الحق، وبطل المعنى المقصود باليمين، وهو تخويف الحالف من عاقبة اليمين، ولا ريب أن الشريعة تأبى مثل ذلك، والشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتمد في الاستدلال على اللفظ الأول، وكذلك غيره من الأئمة من أصحابنا وغيرهم، وبعض العلماء اعتمد في الاستدلال على الثاني، وقال: إن معنى الأول أن يمينك التي يجوز لك أن تحلفها هي التي تكون صادقة في نفسها، بحيث لو اطلع عليها صاحبك لعلم أنها حق وصدق، وأن ظاهرها كباطنها، فيصدقك على ما حلفت عليه، وإذا فائدة هذا الحديث أن الحالف يعرض على نفسه اليمين، فإن وجدها كما تقدم حلف إن شاء، وإلا أمسك. (الحال الثالثة) إذا كان المتأول لا ظالما ولا مظلوما، وهذه الحالة لم يتعرض الخرقي لها بنفي ولا إثبات، وفيها قولان حكاهما أبو العباس، وقال: إن ظاهر كلام أحمد المنع في اليمين، اهـ. وظاهر كلام الشيخين الجواز، واعتمد أبو محمد على ما روي أن مهنا كان عنده هو والمروذي وجماعة،

فجاء رجل يطلب المروذي ولم يرد المروذي أن يكلمه، فوضع مهنا إصبعه في كفه، فقال: ليس المروذي ها هنا، وما يصنع المروذي ها هنا، يريد ليس في كفه، ولم ينكر ذلك الإمام أحمد. 3718 - واستدل بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمزح ولا يقول إلا حقا، والمزح أن يوهم السامع بكلامه غير ما يفهم من ظاهره، كما قال لتلك العجوز: «لا يدخل الجنة عجوز» يعني أن الله ينشئهن أبكارا، عربا أترابا. 3719 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله احملني. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا حاملوك على ولد ناقة» فقال: وما أصنع بولد الناقة. قال: «وهل تلد الإبل إلا النوق» رواه أبو داود. 3720 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرجل احتضنه من ورائه: «من يشتري

العبد» فقال: يا رسول الله، تجدني إذا كاسدا. قال: «لكنك عند الله لست بكاسد» ، وهذا كله من التأويل الحق الجائز، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقول إلا حقا، (قلت) : وهذا كله ورد في غير اليمين وهو واضح، أما اليمين فلها حرمة، فقد يقال: لا حاجة إلى ارتكابها والتعريض فيها، لا سيما وقد عضد هذا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على نية المستحلف» خرج منه المظلوم لما تقدم، وللاتفاق أيضا فيما أظن، فيبقى ما عداه على مقتضى العموم، والله أعلم.

كتاب الكفارات

[كتاب الكفارات] ش: أجمع المسلمون على مشروعية الكفارة، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] ومن السنة ما تقدم من قوله: «فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» ونحوه، والله أعلم. [خصال الكفارة في اليمين على التخيير] قال: وإذا وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير إن شاء أطعم. ش: لما تقدم للخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اليمين الموجبة للكفارة شرع يبين الكفارة، فقال: ومن وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير إن شاء أطعم، وهذا والحمد لله إجماع في أنه إن شاء أطعم، وإن شاء كسى، وإن شاء أعتق، وقد شهد النص المتقدم لذلك، وهو واضح، إذ أصل موضوع، «أو» للتخيير بين شيئين أو أشياء. 3721 - ولهذا قال ترجمان القرآن - كما ذكره عنه الإمام أحمد في

الإطعام في كفارة اليمين

التفسير -: كل ما كان في كتاب الله «أو» فهو للتخيير، وما كان (فمن لم يجد) فالأول الأول، والله أعلم. [الإطعام في كفارة اليمين] قال: عشرة. ش: الكلام في الإطعام في ثلاثة أمور: (أحدها) : في عددهم، وهو عشرة بنص الكتاب، نعم هل يقوم تكرار إطعام الواحد مقام تعداد الأشخاص، أم لا، أو يفرق بين العدم والوجود؟ فيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: مساكين مسلمين أحرارا، كبارا كانوا أو صغارا، إذا أكلوا الطعام. ش: هذا (الأمر الثاني) مما يتعلق بالإطعام وهو صفة المطعمين، وقد اشترط الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لهم أربعة أوصاف: (الأول) : أن يكونوا مساكين، اعتمادا على ما تقدم من الآية، وعلى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية. ويدخل في المسكين الفقير، لأنه مسكين وزيادة على قاعدتنا، ولما تقدم من أن الفقير والمسكين في غير الزكاة صنف واحد، لأن

جهة استحقاقهم واحدة وهي الحاجة، وإنما جعلا صنفين في الزكاة للتفريق بينهما في الاسم والعطف المقتضي للمغايرة، ويخرج ما عدا هذين، وإن كان من أهل الزكاة، نعم يجوز الدفع للغارم لإصلاح نفسه لاحتياجه، فهو كالمسكين، وكلام أبي محمد يوهم المنع. (الثاني) : أن يكونوا مسلمين، وقد تقدم هذا في الظهار فلا حاجة إلى إعادته. (الثالث) : أن يكونوا أحرارا، وهذا أيضا قد تقدم في كفارة الظهار، ونزيد هنا بأن ظاهر كلامه أنه لا يجوز دفعها إلى مكاتب، لأنه ليس بحر، وهذا (إحدى الروايتين) واختيار القاضي في المجرد، وأبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد، لأنه صنف آخر غير المساكين، والله سبحانه إنما جعل الإطعام للمساكين، ولأنه يأخذ ليفك رقبته، لا لتحصيل كفايته كالمسكين. (والثانية) : - وهي اختيار القاضي، والشريف، وأبي الخطاب في خلافاتهم - يجوز، لأنه محتاج للأخذ فأشبه المسكين. (الرابع) : أن يكونوا قد أكلوا الطعام، فلا يجوز دفعها إلى صغير لم يأكل الطعام، وهذا (إحدى الروايتين) واختيار القاضي، لظاهر قَوْله تَعَالَى: {فَإِطْعَامُ} [المجادلة: 4] فظاهره أن الواجب إطعامهم، فإذا لم يعتبر ذلك فلا أقل من اعتبار إمكانه ومظنته، ولا يتحقق المظنة فيمن لم يأكل. (والثانية) - وهي اختيار

أبي الخطاب - لا يشترط ذلك، إذ حقيقة الأكل ليس بشرط، والإطعام مصدر أريد به المطعوم، فالواجب مطعوم عشرة مساكين، بأن يملكهم ذلك، وهذا يمكن في حق من لم يأكل الطعام، بأن يقبض له وليه فيحصل له الملك، كما يقبض للصغير الذي قد أكل الطعام. قال: لكل مسكين مد من حنطة أو دقيق، أو رطلان بالعراقي خبزا، أو مدان تمرا أو شعيرا. ش: هذا الأمر الثالث، وهو في قدر ما يدفع للمساكين وهو مد حنطة، أو نصف صاع تمر أو شعير، وقد تقدمت هذه المسألة في الظهار، وتقدم أن غيره قال: يجزئ في الكفارة ما يجزئ في الفطرة، وقد نص الخرقي هنا على جواز إخراج الدقيق، ولم يتعرض له في الظهار، ولا ريب في إجزائه في الكفارتين، كما يجزئ في الفطرة، ومراد الخرقي بالدقيق دقيق الحنطة، أما دقيق الشعير فالواجب منه مدان، ثم المعتبر في الدقيق الوزن لتفرق أجزائه في الطحن، ولهذا قال أحمد: يجزئه بالوزن رطل وثلث، ولا يجزئه إخراج مد دقيق بالكيل، اهـ. نعم لو طحن مد الحنطة وأخرجه أجزأه،

وكذلك إن أخرج من الدقيق ما يعلم أنه مد. ونص هنا أيضا على جواز إخراج الخبز، (وهو إحدى الروايتين) عن أحمد، واختيار القاضي وعامة الأصحاب، لدخول ذلك في قوله: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] والخبز من أوسط طعام أهلينا، وعلى هذا جرى السلف. 3722 - فروى الإمام أحمد في التفسير، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] قال: الخبز واللبن، وفي رواية عنه، قال: الخبز والتمر، والخبز والزيت، والخبز والسمن.

3723 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الخبز والتمر، الخبز والسمن، الخبز واللحم. 3724 - وعن الأسود بن يزيد: الخبز والتمر. 3725 - وعن ابن سيرين كانوا يقولون: إن أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز والسمن، وأخسه الخبز والتمر. وهذا يقرب من حكاية الإجماع، وفارق زكاة الفطر ونحوها، لأن النص هنا تناول الخبز، بخلاف ثم، فإن قول الراوي: فرض رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر صاعا من تمر. لا يتناوله، مع أنه لو قيل بالإجزاء في زكاة الفطر دون غيرها لكان متوجها، لأن قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» الملحوظ فيه سد حاجتهم، وحاجتهم تندفع بدفع الخبز، وهذا بخلاف غير زكاة الفطر، فإن الدفع يراد للاقتيات في جميع

العام، فيحتاج إلى الادخار ولا بد في المدخر من أن يكون على صفة يمكن ادخاره، (والرواية الثانية) : لا يجوز إخراج الخبز، لخروجه عن حال الكمال والادخار، أشبه الهريسة ونحوها. فعلى المذهب لا بد أن يدفع رطلي خبز بالعراقي، لأن ذلك لا يكون أقل من مد، نعم لو طحن مدا وخبزه ودفع خبزه أجزأه، نص عليه أحمد. تنبيهان: (أحدهما) : شرط إجزاء المخرج في الكفارة أن يكون سالما من العيب، بأن لا يكون مسوسا، ولا فيه تراب يحتاج إلى تنقية، لأنه مخرج في حق الله تعالى عما في الذمة، أشبه الشاة المخرجة في الزكاة. (الثاني) : قال أبو محمد: الأفضل البر، خروجا من الخلاف، قلت: وهذا كأنه على مختاره في الفطرة. وعلى المذهب ثم الأفضل التمر، فكذلك هنا، وقد قال أحمد: التمر أعجب إلي، والدقيق ضعيف، والتمر أحب إلي. ولأبي محمد احتمال بأفضلية الخبز على غيره، نظرا لرفع الكلفة عن المسكين وهو واضح والله أعلم. قال: ولو أعطاهم مكان الطعام أضعاف قيمته ورقا لم يجزئه. ش: لما ذكر صفة الدفع للفقراء في الإطعام أراد أن يبين أنه لا يجزئ إخراج قيمة ذلك، وأرشد إلى ذلك بمثال، وهو

أنه لا يجزئ إخراج أضعاف قيمة ذلك من الورق، وذلك لما فيه من العدول عن المنصوص، لأن المطعوم أو الثياب ليسا بورق ولا ذهب، ولأن الشارع خير بين ثلاثة، وجواز إخراج القيمة يفضي إلى التخيير بين أربعة، وهو خلاف النص أيضا، وقد حكى أبو محمد في المقنع وغيره من الأصحاب رواية بالجواز، وقطع في المغني هنا بالمنع، وكأنه بنى ذلك على المذهب. والله أعلم. قال: ويعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله. ش: لأنه حق لله واجب، فجرى مجرى الزكاة، فعلى هذا لا يجوز الدفع للوالدين وإن علوا، أو للولد وإن سفل، وفي بقية الأقارب الواجبة نفقتهم روايتان، ويجوز الدفع إلى من عدا ذلك من الأقارب. قال: ومن لم يصب إلا مسكينا واحدا ردده عليه في كل يوم تتمة عشرة أيام. ش: إذا ردد الكفارة على مسكين واحد عشرة أيام في كفارة اليمين، أو ستين يوما في كفارة الظهار ونحوها، فهل يجزئه؟ فيه ثلاث روايات (إحداها) - وهي اختيار أبي بكر وابن بطة فيما حكاه عنه أبو حفص في تعاليقه -: يجزئه مطلقا، نظرا إلى أن تكرار الإطعام قائم مقام تكرار الأشخاص، ولأنه لو أطعم كل يوم مسكينا حتى كملت

الكسوة في كفارة اليمين

العدة جاز بلا ريب، فكذلك إذا كرر إطعام الواحد، لأنه صدق عليه أنه أطعم كل يوم مسكينا. (والثانية) - وهي اختيار ابن شهاب -: لا يجزئه مطلقا، اعتمادا على قَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] فمن لم يطعم عشرة لم يمتثل الأمر. (والرواية الثالثة) - وهي اختيار الخرقي، والقاضي وأصحابه، وعامة الأصحاب -: لا يجزئه مع الوجود، لما تقدم في التي قبلها، ويجزئه مع العدم، إناطة بالعذر، إذ معنى الشيء يقوم مقامه عند تعذره، كما أقيم التراب مقام الماء عند تعذره، وكذلك غيره من المبدلات والله أعلم. [الكسوة في كفارة اليمين] قال: وإن شاء كسا. ش: قد تقدم الدليل على التخيير بين الإطعام والكسوة والعتق. قال: عشرة مساكين، للرجل ثوب يجزئه أن يصلي فيه، وللمرأة درع وخمار. ش: الكلام في الكسوة على ثلاثة أشياء؛ (أحدها) : في عدد المكسوين وذلك عشرة بنص الكتاب. (والثاني) : في صفتهم بأن يكونوا مساكين، وهو بنص الكتاب أيضا، وقد تقدم إيضاح ذلك في الإطعام، إذ هؤلاء المساكين هم الذين في

العتق في كفارة اليمين

الإطعام فيشترط لهم ما يشترط لهم. (والثالث) : في صفة ما يدفع إليهم من الكسوة، وهو ما تصح صلاة الفريضة معه، إذ الكفارة عبادة، تعتبر فيها الكسوة، فلم يجز فيها أقل مما ذكرناه كالصلاة ولأن اللابس لما لا يستر عورته ليس بمكتس شرعا، إذا تقرر هذا فيدفع للرجل ثوب يستر عورته وعاتقه أو بعضه، على الخلاف في الواجب في المنكب، وللمرأة ما يستر عورتها وهي جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها على إحدى الروايتين، ولما كان ذلك لا يحصل غالبا إلا بدرع وهو القميص، وخمار، ذكر الخرقي ذلك، وإلا لو أعطاها ثوبا واسعا يستر بدنها ورأسها أجزأه ذلك، إناطة بستر عورتها المعتبرة في الصلاة، وقد وقع لابن البنا أنه يدفع للرجل قميص ومنديل، وفيه نظر، والله أعلم. [العتق في كفارة اليمين] قال: وإن شاء أعتق. ش: قد تقدم الإجماع على التخيير في ذلك. قال: رقبة مؤمنة قد صلت وصامت، لأن الإيمان قول وعمل، وتكون سليمة ليس فيها نقص يضر بالعمل. ش: الكلام في العتق في شيئين: (أحدهما) في عدد المعتق وهو رقبة واحدة بالإجماع، وشهادة الكتاب والسنة.

(والثاني) : في صفة الرقبة، ويعتبر لها أمران (أحدهما) : أن تكون مؤمنة، وهو اتفاق في كفارة القتل، لنص الكتاب عليه، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] أما في غيرها من الكفارات فروايتان تقدمتا في الظهار، والمذهب منهما بلا ريب عند الأصحاب اشتراط ذلك أيضا، وأبو بكر يختار عدم الاشتراط كالرواية الأخرى، ومبنى ذلك على أنه هل يحمل المطلق على المقيد مع الاختلاف في السبب، والاتحاد في الحكم أم لا؟ وفيه ثلاثة أقوال، ثالثها - وهو اختيار أبي الخطاب - يحمل بضرب من القياس، وبيانه هنا أن الإعتاق يتضمن تكميل أحكامه، ومن تكميل أحكامه بل هو رأسها الإسلام، فاشترط فيه ذلك، كالمعتق في كفارة القتل وحيث اشترط الإيمان فهل يشترط له الصوم والصلاة أم لا؟ فيه عن أحمد ما يدل على روايتين (إحداهما) - وهي اختيار الأكثرين - لا يشترط ذلك، فعلى هذا يجوز عتق الطفل الصغير، لأنه محكوم بإيمانه شرعا، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] .

3726 - وفي الصحيح من حديث «معاوية بن الحكم أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجارية، فقال لها: «أين الله؟» قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله، قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» » ، فحكم لها بالإيمان بهذا القول، وكذلك في حديث أبي هريرة، ولأن أحكام الإسلام جارية على الطفل في إرثه وغسله، ودفنه والصلاة عليه، وغير ذلك، فكذلك في عتقه في الكفارة، وعلى هذه الرواية لا يجزئ الجنين، لعدم ثبوت أحكام الدنيا له. (والثانية) وهي اختيار الخرقي يشترط ذلك، وعللها الخرقي - تبعا لأحمد في رواية الأثرم - بأن الإيمان قول وعمل، وإذا لا بد من وجود العمل،

إما حقيقة، وإما تأهلا، وعلى هذا هل يشترط حقيقة العمل أو التأهل لذلك؟ فيه أيضا عن أحمد ما يدل على قولين (أحدهما) : المشترط التأهل، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل: أحب إلي أن يكون كبيرا، وهو الذي اعتمده القاضي، وأبو البركات، فحكيا الرواية على أنه لا يجزئ من له دون سبع سنين، ويجزئ من بلغها لتأهله لعمل ذلك. (والثاني) : المشترط العمل، وهو ظاهر كلام الخرقي، وأحمد في رواية الأثرم، وقد تقدمت، فعلى هذا من صام وصلى وصح ذلك منه أجزأ وإن كان صغيرا، ومن لا فلا وإن كان كبيرا، اهـ. وحيث لم يشترط الإيمان فأحمد إنما نص على إجزاء اليهودية والنصرانية، وكذلك قال أبو محمد (وعنه) تجزئ الذمية، وهذا ربما أعطى أنه لا يجزئ غير الذمية بلا خلاف، وبعض الأصحاب يطلق الخلاف في اشتراط الإيمان في غير كفارة القتل وعدمه، اهـ. (الأمر الثاني) : أن تكون الرقبة سليمة، ومعنى سلامتها أن لا يكون فيها نقص يضر بالعمل، وقد تقدم ذلك في الظهار، فلا حاجة إلى إعادتها والله أعلم.

قال: ولو اشتراها بشرط العتق وأعتقها في الكفارة عتقت ولم تجزئه عن الكفارة. ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، لأن عتقه مستحق بسبب آخر فلم يجزئه، كما لو اشترى قريبه ينوي به عتقه عن الكفارة، أو علق عتقه على شرط، ونواه عند وجوده. (والثانية) : تجزئ لأن عتقه لم يتحتم، أشبه المعلق عتقه بصفة قبل وجودها، ولعل هذا يلتفت إلى أن شرط العتق هل هو حق لله تعالى بحيث يجبر المشتري عليه، وإذا لا يجزئ في الكفارة، أو لآدمي، فلا يجبر المشتري عليه، بل للبائع الفسخ، وإذا يجزئ في الكفارة؟ فيه قولان. وقد فهم من كلام الخرقي جواز اشتراط هذا الشرط في البيع، وصحة البيع المشروط فيه هذا الشرط، ولنشر إلى المسألتين، (فأما) جواز اشتراط العتق في البيع ففيه روايتان، (المذهب منهما) عند الأصحاب جواز ذلك وصحته. 3727 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها أرادت أن تشتري بريرة للعتق، فاشترطوا ولاءها، فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق» متفق عليه. إلا أن البخاري لم يذكر لفظ: أعتقيها.

(والثانية) لا يصح ذلك، وهي ظاهر كلام صاحب الوجيز، لأنه شرط مناف لمقتضى البيع، أشبه اشتراط أن لا يبيعه ولا يهبه، ونحو ذلك على المذهب، (فعلى الأولى) هل يجبر المشتري على العتق إن أباه، وهو المشهور، أو يكون للبائع الفسخ؟ فيه قولان مبنيان على ما تقدم، (وعلى الثاني) : هل يبطل البيع، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه، لأن فواته يفوت الرضى الذي هو شرط لصحة البيع قطعا، أو لا يبطل، وهو اختيار أبي محمد، لحديث بريرة، فإن أهلها اشترطوا الولاء، ولم يبطله النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فيه روايتان، والله أعلم. قال: وكذلك لو اشترى بعض من يعتق عليه إذا ملكه، ينوي بشرائه الكفارة، عتق ولم يجزئه. 3728 - ش: أما العتق فلعموم: «من ملك ذا رحم محرم عتق عليه» » ، وأما عدم الإجزاء في الكفارة فلأن الواجب تحرير الرقبة، كما نص الله عليه سبحانه، والتحرير فعل العتق، ولم يحصل هنا، إنما الذي حصل الشراء، ولأنه لم يخلص العتق

لله سبحانه، أشبه ما لو أعتقه رياء وسمعة، والله أعلم. قال: ولا يجزئ في الكفارة أم ولده. ش: هذا هو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، لأن عتقها مستحق بسبب آخر، أشبه المعلق عتقه بصفة عند وجودها ونحوه. (والثانية) : يجزئ لدخول ذلك تحت قوله سبحانه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] والله أعلم. قال: ولا مكاتب قد أدى من كتابته شيئا. ش: هذا إحدى الروايات، واختيار القاضي وأصحابه وغيرهم، لأنه إذا أدى فقد حصل العوض عن بعض الرقبة في المعين، فلم يجز كما لو أعتق بعضها، وإذا لم يؤد فهي رقبة كاملة لم يؤد عن شيء منها عوض، أشبهت المدبرة. (والثانية) : وهي اختيار أبي بكر يجزئ مطلقا، لأنه عبد ما بقي عليه درهم، كما ثبت بالنص فأجزأ عتقه كغيره، ولدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] . (والثالثة) : لا يجزئه مطلقا، لأن عتقه مستحق بسبب آخر، أشبه أم الولد، ولا نزاع أنه لو أعتق عبدا على مال يأخذه منه لم يجزئه عن الكفارة، والله أعلم.

قال: ويجزئ المدبر. ش: لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] ولأن التدبير إما وصية أو تعليق بصفة، وأيا ما كان فإنه يجزئ كما يجزئ الموصى به، والمعلق عتقه بصفة قبل وجودها. قال: والخصي. ش: لأن ذلك لا يضر بالعمل، فأشبه الفحل، ولا فرق بين المقطوع والأشل والموجوء، لتساويهم في المعنى والله أعلم. قال: وولد الزنا. ش: لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] ولأنه كغيره في جواز بيعه وعتقه، وقبول شهادته ونحو ذلك، فكذلك في إعتاقه عن الكفارة. 3729 - وما ورد من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولد الزنا شر الثلاثة» فقد قال الطحاوي: المراد به الملازم للزنا، كما يقال: ابن السبيل، للملازم لذلك، وقال غيره: هو شر

الصيام في كفارة اليمين

الثلاثة أصلا ونسبا وعنصرا، لخبثه، وهو نشوءه من ماء الزنا، على أن الكلام في أحكام الدنيا، وليس في الحديث تعرض لذلك، والله أعلم. [الصيام في كفارة اليمين] قال: فمن لم يجد من هذه الثلاثة واحدا صام ثلاثة أيام. ش: إذا لم يجد واحدا من الثلاثة السابقة - وهي الإطعام والكسوة والعتق - بأن لا يجد ذلك أصلا أو وجده وتعذر عليه شراؤه لعدم الثمن، أو لكونه محتاجا إلى ما هو أهم منه، كما هو مفصل في موضعه، فإنه ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام بالإجماع، وشهادة الكتاب والله أعلم. قال: متتابعة. ش: قدر الصيام ثلاثة أيام بنص الكتاب والإجماع، وشرطها التتابع على المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين. 3730 - نظرا إلى أن ذلك قد ورد في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ذكره الإمام أحمد في التفسير

وغيره، وناهيك بهما، وهو وإن لم يثبت كونه قرآنا - لعدم تواتره - فلا أقل من أن ينزل منزلة خبر الآحاد، على أنهما سمعاه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سبيل التفسير، فظناه قرآنا، وإذا فهو حجة يجب المصير إليه. (والثانية) : لا يجب التتابع فيها، عملا بإطلاق الآية الكريمة، والصحابي إنما نقل ذلك على كونه قرآنا، وإذا لم يثبت كونه قرآنا سقط اعتباره رأسا، وأصل ذلك أن ما صح من القراءة الشاذة هل يكون حجة، بحيث يخصص العام، ويقيد المطلق، ونحو ذلك أم لا؟ فيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن إمامنا أشهرهما نعم، وهو مذهب الحنفية، والثانية: لا، وهو مذهب الشافعية، وحيث اشترطنا التتابع فأفطر فيها فلا يخلو إما أن يكون لعذر أو لغير عذر، وبيان ذلك قد تقدم مفصلا في الظهار والله أعلم. قال: ولو كان الحانث عبدا لم يكفر بغير الصوم. ش: قد تقدم الكلام على هذا في الظهار بما فيه كفاية، ونزيد هنا بأن ظاهر كلامه صحة يمين العبد، ولا ريب في

ذلك، لدخوله تحت الخطاب، وأن السيد ليس له منعه من الصيام وإن أضر به، وهو كذلك، لأنه حق لله تعالى، فأشبه صوم رمضان أو قضائه، وهذا بخلاف الحج، لأن الضرر كثير، لطول مدته، وفوات خدمته والله أعلم. قال: ولو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق فعليه الصوم ولا يجزئه غيره. ش: هذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم، في عبد حلف فحنث وهو عبد، ولم يكفر حتى عتق: يكفر كفارة عبد، لأنه إنما يكفر ما وجب عليه يوم حنث، ولو افترى وهو عبد ثم أعتق فإنما يجلد جلد العبد؛ وقد ذكر أحمد الحكم ودليله، وملخص القياس أن هذا حق تعلق به وهو رقيق فلم يتغير بحريته كالحد، وأيضا فإن الذي خوطب به وتعلق به هو الصوم، لا سيما على قول الخرقي، فإنه لو أذن له في التكفير بالمال لم يكن له ذلك، فإذا فعل غير ما خوطب به لم يجزئه. [كما لو وجبت عليه صلاة الصبح فصلى بدلها مائة ركعة أو أكثر فإنها لا تجزئه] . وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى. واعلم أن هذا على مختار الخرقي من أنه ليس له التكفير

بغير الصوم، أما من قال: يجوز له التكفير بالمال في الجملة في حال رقه فبعد عتقه أولى، ولهذا قال القاضي في قول الخرقي: إن فيه نظرا، قال: لأن المنصوص أنه يكفر كفارة عبد، أي لا يلزمه التكفير بالمال فإن كفر به أجزأه. (قلت) : ولا نظر في ذلك على قول الخرقي، إنما النظر لو كان الخرقي يجوز له التكفير بالمال في حال رقه، كما يقوله القاضي، ثم قال ذلك، اهـ. وظاهر كلام الخرقي أن الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب، إذ لو اعتبر أغلظ الأحوال لأوجب على العبد التكفير بالمال إذا قدر عليه قبل أن يأتي بالصوم، وقد اختلف عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه المسألة، (فعنه) - كما هو ظاهر كلام الخرقي - الاعتبار بحال الوجوب، وهذا اختيار القاضي في تعليقه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن شهاب وأبي الحسين، والشيرازي، وابن عقيل وغيرهم، لأنه حين الاستقرار في الذمة، لأنه لو فعل ما وجب عليه إذ ذاك لأجزأه بلا ريب، ولأن الكفارة وجبت على وجه الطهرة، فاعتبرت بحال الوجوب كالحد (وعنه) : الاعتبار بأغلظ الأحوال، اختارها القاضي في روايتيه، وحكاها الشريف وأبو الخطاب عن الخرقي، وكأنهما أخذا ذلك من قوله: ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى العتق أو الإطعام إلا أن يشاء. إذ

ظاهره أن من لم يدخل في الصوم كان عليه الانتقال إلى العتق أو الإطعام، وما تقدم أظهر (وبالجملة) وجه هذا القول بأنه حق يجب في الذمة بوجود مال، فاعتبر بأغلظ الحالين كالحج، والجواب القول بالموجب في الحج، لأنه ليس له حالتان، إنما له حالة واحدة، وهي حالة اليسار، يجب فيها ويستقر، وقبل ذلك لا يخاطب به أصلا، والكفارة يخاطب بها على كل حال، (وعنه) رواية ثالثة حكاها الشيرازي: الاعتبار بحال الأداء، قياسا على الوضوء، فالجامع أنه حق له بدل من جنسه، فكان الاعتبار فيه بحال الأداء كالوضوء. إذا تقرر هذا (فعلى الرواية الأولى) يعتبر اليسار والإعسار حال الوجوب عليه، فإذا كان موسرا إذ ذاك ففرضه العتق لا يجزئه غيره، وإن كان معسرا ففرضه الصوم، ولا يجب عليه العتق بعد وإن أيسر، (وعلى الثانية) متى وجد رقبة من حين الوجوب إلى حين التكفير لم يجزئه إلا العتق، (وعلى الثالثة) الاعتبار بحال الأداء، فإذا كان موسورا إذًا وجب عليه العتق، وإن كان حين الوجوب معسرا، ولو كان حين الأداء معسرا أجزأه الصوم، وإن كان حين الوجوب موسرا، اهـ. وقول الخرقي: ولو حنث وهو عبد. إلى آخره إشعار بأن حالة الوجوب هي حالة الحنث، وهو كذلك قطعا، فعلى هذا لو حلف العبد ولم يحنث حتى عتق فحكمه حكم الأحرار، وهذا في اليمين، أما في الظهار والقتل فوقت الوجوب العود والزهوق، والله أعلم. قال: ويكفر بالصوم من لم يفضل عن قوت عياله يومه وليلته مقدار ما يكفر به.

ش: قد تقدم أن من لم يجد واحدا من الثلاثة المتقدمة - وهي العتق، والإطعام والكسوة - انتقل إلى الصيام، وبيان عدم الوجدان أن لا يفضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته مقدار ما يكفر به، لأنه إذا يدخل تحت قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] بخلاف ما إذا وجد ما يكفر به فاضلا عما تقدم، فإنه واجد، فلا يدخل تحت الآية الكريمة. وعموم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقتضي أن من وجد ما يكفر به فاضلا عما تقدم لا يجوز له أن يكفر بالصوم، وإن كان ماله غائبا، وهو كذلك بلا نزاع فعلمه، فيما إذا أمكنه الشراء بنسيئة، وكذلك إن لم يمكنه كما هو مقتضى كلام الخرقي، ومختار عامة الأصحاب، حتى أن أبا محمد، وأبا الخطاب والشيرازي وغيرهم جزموا بذلك، وقيل: يجوز والحال هذه العدول إلى الصوم، وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، وقيل: إنما يعدل إليه في كفارة الظهار خاصة إذا رجا إتمامه قبل حصول المال، وحكم الدين المرجو الوفاء حكم المال الغائب قاله أبو محمد. وعموم كلامه أيضا يقتضي أن الدين لا يمنع وجوب الكفارة، وهو إحدى الروايتين، والرواية الثانية –

وصححها أبو محمد - يمنعها، ثم أن أبا محمد في المغني جعل محلهما في الدين غير المطالب به، أما المطالب به فيمنعها بلا خلاف، وغيره يطلق الخلاف. قال: ومن له دار لا غنى له عن سكناها، أو دابة يحتاج إلى ركوبها، أو خادم يحتاج إلى خدمته، أجزأه الصيام في الكفارة. ش: لأن ذلك من حوائجه الأصلية، أشبه الطعام المحتاج إليه، وفي معنى ما تقدم ما يلبسه ولو للتجمل، وما يحتاج إليه من كتب علم ونحو ذلك. ومقتضى كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه متى استغنى عن سكنى الدار، أو لم يحتج إلى دابة أو عبد، فإن الصيام لا يجزئه، وهو كذلك في الجملة، كما إذا كان له داران أو عبدان أو دابتان ونحو ذلك، يستغني بإحداهما، فإنه يبيع الأخرى، وينتقل إلى التكفير بالمال، وكذلك إذا كان له دار واحدة أو دابة واحدة، ونحو ذلك، وأمكنه بيعها وشراء ما يسكنه مثله أو يركبه مثله، ويفضل ما يشتري به رقبة، فإنه يلزمه ذلك، جمعا بين الحقين، وكذلك إذا كان مثله يخدم نفسه وله خادم، فإنه يلزمه عتقه، قاله أبو محمد، لأنه غير محتاج إليه، وعلى قياسه لو كان له دار يسكنها، ومثله يسكن بالأجرة، ولا ضرر عليه في ذلك، فإنه يلزمه بيعها والتكفير بالمال، ويستثنى من ذلك إذا كان له سرية يمكنه بيعها وشراء

سرية ورقبة يعتقها، فإنه لا يلزمه ذلك، وينتقل إلى الصيام، لتعلق الغرض بعينها، وكذلك إذا تعذر عليه بيع ما تقدم، أو أمكن البيع وتعذر الشراء، فإن له الانتقال إلى الصوم، لتعذر الجمع بين الحقين، فأشبه ما لو لم يكن له فضل، وتمام الكلام على ذلك له محل آخر، والله أعلم. قال: ويجزئه إن أطعم خمسة مساكين وكسا خمسة. ش: مناط المسألة أن يطعم بعضا ويكسو بعضا، بحيث يستوفي من المجموع عشرة، والخرقي ذكر صورة على سبيل المثال، وإنما أجزأ ذلك لأن كل فقير من العشرة مخير فيه بين إطعامه وكسوته، فإذا أطعم مثلا خمسة وكسا خمسة، فقد قام بالواجب عليه، فوجب أن يجزئه، ولأن كلا من الطعام والكسوة يقوم مقام الآخر في جميع العدد، فكذلك في بعضه، كالتيمم لما قام مقام الماء في البدن كله في الجنابة، قام مقام البعض فيما إذا كان بعض البدن صحيحا وبعضه جريحا. ويتخرج لنا وجه آخر أنه لا يجزئه، كما لو أعطى في الجبران شاة وعشرة دراهم، لاستلزامه التخيير ثم بين ثلاثة أشياء، وهنا بين أربعة أشياء، والشارع إنما خيره ثم بين شيئين، وهنا بين ثلاثة أشياء. (تنبيه) : لو أطعم المسكين بعض الطعام وكساه بعض الكسوة لم يجزئه بلا ريب، لأنه لم يأت بالواجب من أحدهما، والله أعلم.

قال: وكذلك إن أعتق نصفي عبدين، أو نصفي أمتين، أو نصفي عبد وأمة أجزأ عنه. ش: هذا اختيار القاضي في تعليقه، وعامة أصحابه كالشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن البنا والشيرازي، لأن نصف الشيئين بمنزلة الشيء الواحد، بدليل ما لو كان له نصف ثمانين شاة مشاعا، وجبت عليه الزكاة كما لو ملك أربعين، واختار ابن حامد فيما حكاه القاضي في روايتيه، وأبو بكر وحكاه نصا عن أحمد أنه لا يجزئه ذلك، لأن إطلاق الرقبة ينصرف إلى الكاملة، ثم إن المراد من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل من ذلك، وفي المذهب وجه ثالث اختاره الشيخان: إن كان نصفهما حرا أجزأ لتكميل الأحكام، إذ بذلك يحصل تكميل عبدين لا عبد واحد، فهو بالجواز أولى، وإلا لم يجزئ لما تقدم في دليل أبي بكر، والله أعلم. قال: وإن أعتق نصف عبد، وأطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه. ش: لأن الأصل عدم التلفيق، لأنه عدول عن

المنصوص، وإنما قلنا به في الإطعام والكسوة لتساويهما في المعنى، وهنا لم يتساويا، بل تباينا، إذ القصد من العتق تكميل الأحكام، وتخليص الرقبة من الرق، والقصد من الإطعام والكسوة سد الخلة بدفع الحاجة، ودفع ضرر الحر والبرد مع ستر العورة، وهما متباينان، بخلاف الطعام والكسوة، فإنهما لتقاربهما أجريا مجرى الجنس الواحد، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - نص على جواز التلفيق من الطعام والكسوة، وعلى منع ذلك في العتق مع أحدهما، وبقي عليه لو أتى ببعض واحد من الثلاثة ثم عجز عن تمامه، هل له التتميم بالصوم؟ ليس له ذلك قاله أبو محمد، قال: لأنه إذا لم يجز تكميل أحد نوعي المبدل من الآخر وهو الطعام أو الكسوة فتكميله بالمبدل أولى. (قلت) : وقد يقال بذلك كما في الغسل والوضوء مع التيمم، فإنه لو وجد ماء يكفي لبعض طهارته لزمه استعماله ثم تيمم للباقي، وأبو محمد استشعر هذا، وأجاب عنه بأن التيمم لا يأتي ببعضه عن بعض الطهارة، وإنما يأتي به بكماله، قال: وها هنا لو أتى بالصيام جميعه أجزأه. قلت: وهذا الجواب فيه نظر، فإنه وإن أتى به بكماله، فإنه إنما يأتي به عن بعض الطهارة لا عن كلها، ولهذا لو قدر على الماء لزمه غسل ما بقي من بدنه ولا يلزمه غسل الجميع وإنما كان يأتي به بكماله، لأنه التيمم ليس له إلا صفة واحدة ويرجح هذا أيضا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» .

قال: ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى العتق أو الإطعام إلا أن يشاء. ش: هذا المذهب المجزوم به عند عامة الأصحاب، منهم أبو محمد في المغني، لأنه بدل لا يبطل بالقدرة على المبدل، فلم يلزمه الخروج إلى المبدل بعد الشروع فيه، كالمتمتع العاجز عن الهدي إذا شرع في صوم السبعة الأيام، فإنه لا يلزمه الخروج اتفاقا، وفارق التيمم فإنه يبطل بالقدرة على الماء بعد فراغه منه، وليس كذلك الصوم، فإنه لا يبطل إذا قدر على العتق وأيضا فإن الصوم يجري كل يوم منه مجرى عبادة منفردة، بدليل افتقاره إلى نية، وعدم تعدي فساده إلى ما قبله، وليس كذلك الصلاة. ولأبي محمد في المقنع احتمال أنه يلزمه الانتقال، لقدرته على المبدل قبل إتمام البدل، فأشبه المتيمم إذا قدر على الماء قبل إتمام الصلاة، وقد تقدم الفرق. وصريح كلام الخرقي أن له أن ينتقل إلى العتق والإطعام إذا شاء ذلك، لأنه إنما سقط عنه ذلك للرفق به، فإذا أتى به أجزأه، كالمريض الساقط عنه حضور الجمعة إذا حضرها، وقد تقدم للخرقي في العبد أنه إذا أعتق لا يجزئه غير الصوم، والفرق أن العبد ليس له أهلية التكفير بغير

الصوم كما تقدم، بخلاف الحر المعسر، وخرج أبو الخطاب في الحر المعسر قولا أنه كالعبد لا يجزئه غير الصوم، نظرا إلى أنهما إنما خوطبا بالصوم، ففعل غيره يكون عدولا عما وقع به الخطاب، ويتلخص أن في العبد والحر المعسر ثلاثة أقوال: (ثالثها) : للحر الانتقال بخلاف العبد، وهو اختيار الخرقي. (تنبيه) : قال الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما: فائدة هذه المسألة إذا قلنا: الاعتبار بأعلى الحالين، أما إن قلنا بحال الوجوب فلا، لأنه إذا لو قدر على العتق قبل الشروع في الصوم لم يلزمه. (قلت) : ومن هنا قالا: إن مذهب الخرقي أن الاعتبار بأعلى الحالين، والذي يظهر أن الخرقي إنما نص على هذه المسألة للخلاف فيها؛ إذ مذهب الحنفية لزوم الانتقال والحال ما تقدم، ومن هنا يقال: إنه لا مفهوم لقوله: ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه الخروج منه. والله سبحانه أعلم.

باب جامع الأيمان

[باب جامع الأيمان] [الرجوع في الأيمان إلى النية أم العرف] ش: الأولى قراءة باب، أي هذا باب جامع الأيمان، لأن المقصود الحكم على أيمان مختلفة، لا الحكم على من جمع أيمانا والله أعلم. قال: ويرجع في الأيمان إلى النية. ش: وذلك لما تقدم في المعاريض من حديث سويد بن حنظلة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. 3731 - وعن «أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقبل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف، ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاب لا يعرف، قال فيلقى الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا الرجل يهديني السبيل. فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق؛ وإنما يعني سبيل الخير» . رواه أحمد والبخاري. 3732 - وفي «حديث ركانة الذي في السنن أنه لما طلق امرأته ألبتة، وقال للنبي: والله ما أردت إلا واحدة: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والله ما أردت إلا واحدة؟» : فقال: «والله ما أردت إلا واحدة» ؛ وأيضا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما الأعمال

بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وأيضا فإن كلام الشارع ورد على لغة العرب، ولا ريب أنه محمول على مراده الثابت بالدليل. 3733 - كما في قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل عمران: 173] ؛ والمراد نعيم بن مسعود {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173] والمراد أبو سفيان وأصحابه، وهو كثير لا يكاد يحصى، فكذلك كلام غيره يحمل على مراده، إذا تقرر هذا فشرط الرجوع إلى النية احتمال اللفظ لها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، أما إذا نوى باللفظ ما لا يحتمله أصلا، كأن حلف لا يكلم زيدا، وأراد لا يدخل بيتا ونحو ذلك فهذه نية مجردة، لا ارتباط لها باللفظ، فوجودها كعدمها، ثم النية تارة توافق ظاهر اللفظ، كما إذا نوى بالعموم العموم، وبالخصوص الخصوص، وبالإطلاق الإطلاق، ونحو ذلك، فهذه مؤكدة للفظ ومقوية له، كالشرط الموافق في العقد لمقتضاه، وتارة تخالف ظاهره، كأن يريد بعام خاصا، أو بمطلق مقيدا، أو بخاص عاما، ونحو ذلك مثل أن يحلف لا يأكل لحما ويريد لحم الإبل مثلا لا غيره، أو ليعتقن عبدا، ويريد عبدا بعينه، أو لا يأوي

مع امرأته في دارها مثلا، ويريد جفاءها بترك اجتماعه معها في جميع الدور ونحو ذلك. (تنبيه) : رجوع الحالف إلى نيته هو فيما بينه وبين الله تعالى، بشرط احتمال اللفظ له كما تقدم، وعدم ظلمه كما تقدم أيضا، أما عند الحاكم فإن قرب ما ادعاه أنه قصده من الظاهر سمع منه، وإن بعد لم يسمع، وإن توسط فروايتان، والناظر الفهم في مظان ذلك لا يخفى عليه ما قلناه والله أعلم. قال: فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها. ش: إذا لم ينو شيئا - لا ظاهر اللفظ ولا غير ظاهره كما تقدم - رجع إلى سبب اليمين وما هيجها، أي أثارها، فإذا حلف مثلا أن لا يأوي مع امرأته في هذه الدار، وكان سبب يمينه غيظا من جهة الدار، لضرر لحقه من جيرانها، أو منة حصلت عليه بها ونحو ذلك اختصت يمينه بها كما هو مقتضى اللفظ، وإن كان لغيظ من المرأة يقتضي جفاءها، ولا أثر للدار فيه، تعدى ذلك إلى كل دار، المحلوف عليها بالنص، وما عداها بعلة الجفاء التي اقتضاها السبب، (وكذلك) : إذا حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه، أو لا يكلم زيدا لشربه الخمر مثلا، فزال الظلم، وترك زيد شرب الخمر، جاز له الدخول والكلام، لزوال العلة المقتضية لليمين، وذلك لأن السبب يدل على النية؛ لأنه الداعي للحالف على الحلف، والداعي إلى الشيء تتعلق الإرادة

به فيصير مرادا، ولهذا لما قال الحطيئة يهجو بني عجلان: ولا يظلمون الناس حبة خردل كان ذلك هجاء قبيحا، ولو قاله في مقام المدح كان مدحا حسنا، وما ذاك إلا لاختلاف المقام.

وكلام الخرقي يشمل ما إذا كان اللفظ خاصا والسبب يقتضي التعميم كما مثلناه أولا، أو عاما والسبب يقتضي التخصيص كما مثلناه ثانيا، ولا نزاع بين الأصحاب فيما علمت في الرجوع إلى السبب المقتضي للتعميم لما تقدم، واختلف في عكسه فقيل فيه وجهان، وقيل روايتان، وبالجملة فيه قولان أو ثلاثة: (أحدها) - وهو المعروف عن القاضي في التعليق، وفي غيره، واختيار عامة أصحابه، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما - يؤخذ بعموم اللفظ، وهو مقتضى نص أحمد في رجل حلف لا صدت من هذا النهر. وكان سبب يمينه ظلم السلطان فزال السلطان، لم

يصطد فيه، وكذلك قال فيمن حلف لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه فزال الظلم، فقال: النذر يوفى به، وقال أيضا في رواية المروذي فيمن قالت له زوجته: قد تزوجت علي، فقال: كل امرأة لي طالق، فإن المخاطبة تطلق مع نسائه مع أن دلالة الحال تقتضي إخراجها، إذ القصد إرضاؤها، ووجه ذلك الاعتماد على ظاهر اللفظ وهو العموم، والسبب لا ينافيه ولا معارضة بينهما، وصار هذا كألفاظ الشارع العامة، على المعروف عندنا وعند الأصوليين، تحمل على مقتضاها من العموم، ولا تخصص بأسبابها، وبنى أبو الخطاب ذلك على ما إذا اجتمع التعيين والإضافة. والقول الثاني - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، وحكي عن القاضي في موضع -: يحمل اللفظ العام على السبب، ويكون ذكر السبب مبنيا على أن العام أريد به خاص، لما تقدم، وأيضا فإن السبب هو العلة المقتضية للحكم، فيزول الحكم بزوالها، وخرج عن ذلك ألفاظ الشارع، فإن العلة في وجودها ليس السبب، ثم المقصود في ألفاظ الشارع تقرير الحكم وتعميمه لجميع المكلفين وفي جميع الصور، بخلاف غيره. والقول الثالث: لا يقتضي التخصيص فيما إذا حلف لا يدخل البلد لظلم رآه فيه، ويقتضي التخصيص فيما إذا دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى، أو حلف لا يخرج عبده أو زوجته إلا بإذنه والحال يقتضي ما داما كذلك، وقد أشار القاضي إلى هذا في التعليق، فقال - بعد ذكر صورة الغداء، وفيما إذا تأهبت امرأته للخروج فقال: إن خرجت فأنت

طالق -: لا يعرف الرواية عن أصحابنا في هذا، وقياس المذهب أن يمينه لا تقصر على الخروج الذي تأهبت له، ولا على الغداء عنده، لعموم اللفظ، ولقول أحمد - وذكر مسألة الصيد من النهر - قال: وقيل تقصر يمينه على الغداء عنده، وعلى الخروج الذي تأهبت له لأنه لا عموم لهذا اللفظ، إذ قوله: إذا خرجت، يقتضي خروجا واحدا، وكذلك: إن تغديت، يقتضي غداء واحدا، فيختص ذلك الواحد المنكر بدلالة الحال. تنبيهان: (أحدهما) : هذا الذي قاله الخرقي - من تقديم النية على السبب - هو الذي اعتمده عامة الأصحاب، وعكس ذلك الشيرازي، فقدم السبب على النية. (الثاني) : إذا اختلف السبب والنية، كأن تمن امرأته عليه بغزلها، فحلف: لا لبست ثوبا من غزلها؛ وقصده اجتناب اللبس خاصة، دون الانتفاع بالثمن، قدمت النية على السبب وجها واحدا، لموافقتها مقتضى اللفظ، وإن قصد ثوبا واحدا فكذلك في ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، إذ السبب إنما اعتبر لدلالته على القصد، فإذا خالف حقيقة القصد كان وجوده كعدمه، وقدم القاضي والحال هذه السبب لموافقته العموم، فيجتمع ظاهران على مخالفة النية، قلت: وهذا متوجه في الحكم.

(الثالث) : بحث شهاب الدين القرافي بحثا ملخصه الفرق بين النية المخصصة والمؤكدة، وقال: إن أهل العصر لا يكادون يفرقون بينهما، فالحالف إذا حلف لا يلبس ثوبا ونوى الكتان لا يحنثوه بغيره، قال: وهو خطأ بالإجماع، إذ العام إذا أريدت به أفراده حصل التحنيث بها في اللفظ والنية المؤكدة، وإن لم ترد حنث باللفظ، وإن نوى بعض الأفراد غافلا عن البعض الآخر حنث في المنوي باللفظ والنية المؤكدة وفي البعض الآخر باللفظ، وإن أطلق العام ونوى إخراج بعض أفراده لم يحنث بالمخرج، ثم بين ذلك بقاعدة، وهي أن من شرط المخصص أن يكون منافيا للمخصص ومعارضا له، وقصد البعض مع الغفلة عن الباقي لا معارضة فيه، ونظر ذلك بـ (اقتلوا الكفار، اقتلوا اليهود) فاقتلوا اليهود، لا يعارض الأول، بل يؤكد بعض أنواعه، ولو قال: لا تقتلوا أهل الذمة؛ لخصص لحصول المنافاة،

ثم أورد على نفسه أن العلماء يستعملون العام في الخاص وهو ما تقدم، وأنه لو قال: لا لبست ثوبا كتانا، اختصت يمينه بالكتان، وأجاب عن الأول بأن معنى قولهم، إطلاق اللفظ، وإخراج بعض مسمياته عن الحكم المسند للعموم، لا قصد بعض العموم، وعن الثاني بأن المستقل إذا لحقه غير مستقل صيره غير مستقل، والصفة هنا وهي «كتانا» لا تستقل، فإذا لحقت مستقلا وهو الموصوف قبلها صيرته غير مستقل فأبطلت عمومه، وأورد على هذا لم لا تجعل الصفة مؤكدة للعموم في البعض، ويبقى الباقي على عمومه كما في النية، إذ التأكيد يكون باللفظ إجماعا، وأجاب بأن الصفة لفظ له مفهوم مخالفة، وهو دلالته على العدم عن غير المذكور، والمفهوم من دلالة الالتزام، والنية لا دلالة لها، لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما، لأنها من المعاني، والمعاني مدلولات، فليس فيها ما يقتضي إخراج غير المنوي، فبقي الحكم للعموم. وهذا البحث الذي قاله حسن، إلا أن ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا وغيرهم يخالفه، والظاهر أن مثل هذا من باب إطلاق العام وإرادة الخاص، وقوله: إن معنى ذلك إطلاق اللفظ وإخراج بعض مسمياته؛ منازع فيه، بل هو إطلاق العام مريدا لخاص، كإطلاق الثوب مريدا به الكتان، وقد وقع للقاضي من أصحابنا أن اللفظ في نفسه لا يتصف بعموم ولا خصوص إلا بقصد المتكلم، فإذا قال

الحالف: لا لبست ثوبا، يقصد الكتان، فقصده لا يتناول غير الكتان، فلا يحنث إلا به، وقد حكى القاضي عبد الوهاب - وناهيك به - أن العموم هل يقصر على مقصوده، أو يحمل على عموم لفظه؟ على قولين لأصحابه وغيرهم، ونصر قصره، وهذا هو هذه المسألة بعينها والله أعلم. قال: ولو حلف لا يسكن دارا هو ساكنها خرج من وقته، فإن تخلف عن الخروج حنث. ش: لأن يمينه اقتضت المنع من السكنى، فمتى تأخر عن الخروج حنث، لأنه يصدق عليه أنه ساكن، (وظاهر) إطلاق الخرقي يقتضي أنه لو أقام لنقل متاعه وأهله، أو لخوف من الخروج، ونحو ذلك أنه يحنث، والمعروف خلاف هذا، إذ الانتقال عرفا إنما يكون بالأهل والمال وعلى وجه يمكنه، فهو غير داخل في اليمين، (وظاهر) إطلاقه أيضا أنه لو خرج دون أهله ومتاعه أنه لا يحنث، والمعروف حنثه أيضا في الجملة، اعتمادا على العرف كما تقدم، إذ العرف أن السكنى تكون بالأهل والمال، ألا ترى أنه يقال: فلان ساكن في كذا. وهو غائب عنه، وفرق أبو محمد في المغني، فحنثه

بالأهل دون المتاع، واتفق هو والأصحاب فيما علمت أنه لو أودع متاعه أو أعاره، أو أزال ملكه عنه، أو أبت امرأته من الخروج ولم يمكنه إكراهها أنه لا يحنث بالخروج وحده. (تنبيه) : هذا مع عدم النية والسبب، أما مع وجود أحدهما فالاعتماد عليه كما تقدم، وكذلك في كل صورة تأتي والله أعلم. قال: ولو حلف لا يدخل دارا فحمل وأدخلها ولم يمكنه الامتناع لم يحنث. ش: لأن الفعل غير منسوب إليه ولا موجود منه، وخرج من كلامه ما إذا دخلها من غير حمل فإنه يحنث مطلقا، حتى لو دخلها في ماء أو من ظهرها، لوجود المحلوف عليه، نعم يستثنى من ذلك ما إذا دخلها ناسيا على المذهب، إلا في الطلاق والعتاق، أو مكرها على أشهر الروايتين، وخرج التفرقة بين الطلاق والعتاق وغيرهما وخرج أيضا ما إذا أمكنه الامتناع ولم يمتنع فإنه يحنث، وهو أحد الوجهين، واختيار أبي محمد، لأن له نوع اختيار، أشبه ما لو كان الدخول بأمره؛ (الوجه الثاني) - وحكي عن القاضي -: لا يحنث، لأن الفعل منسوب إلى غيره، وحيث لم نحنثه بالدخول ففي حنثه بالاستدامة وجهان، والله أعلم. قال: ولو حلف لا يدخل دارا فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئا منه حنث.

ش: إذا حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه - كما إذا حلف لا يأكل هذا الرغيف، أو لا يشرب ماء هذا الإناء، فأكل أو شرب بعضهما - ففيه روايتان مشهورتان: (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي والقاضي وغيره وأبي بكر، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا، وابن عقيل في التذكرة، وغيرهم -: يحنث بفعل البعض، لأنه منع نفسه من فعل المحلوف عليه، فوجب أن يمتنع من كل جزء منه كالنهي والجامع المنع فيهما. ودليل الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» ، وقد رد هذا بأن النهي عن الشيء ليس نهيا عن أجزائه، كالنهي عن خمس ركعات في الظهر، نعم النهي عن الشيء نهي عن أجزائه، كالنهي عن الحرير، نهي عن الأسود والأبيض منه، فالقياس على النهي غير صحيح، (والرواية الثانية) - واختارها أبو الخطاب فيما قاله أبو محمد - لا يحنث إلا بفعل الجميع. 3734 - لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج رأسه إلى عائشة - رضي الله

عنها - وهو معتكف فتغسله وهي حائض» والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد. 3735 - ويروى «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بن كعب: «لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة من القرآن» ، فلما أخرج رجله من المسجد علمه إياها، ولأن اليمين تناولت الجميع فلم يحنث بالبعض

كالإثبات، وبهذا استدل أحمد فقال: الكل لا يكون بعضا، والبعض لا يكون كلا، وقد يجاب عن هذا بأن الاعتكاف عبارة عن ملازمة المسجد للطاعة، ومن أخرج بعضه يصدق عليه أنه ملازم للمسجد، لا أنه مفارق له، على أن هذه واقعة عين، فيحتمل أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استثنى هذا القدر، وهذا هو الجواب عن قصة أبي بن كعب إذ هي واقعة عين، فيحتمل أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ترك ذلك ناسيا، ولعله الظاهر، فلما ذكر حين خرج استدرك فعلمه في الحال. إذا تقرر هذا (فمن صور) الخلاف إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها أو نسجها أو شرائها فلبس ثوبا شوركت في غزله أو نسجه أو شرائه، أو لا يبيع أمته أو لا يهبها فباع بعضها ووهب بعضها، وما أشبه ذلك، واختلف الأصحاب فيما إذا قال: لا ألبس من غزلها، فلبس ثوبا فيه منه، فقال القاضي وأبو الخطاب في الهداية: إنه على الروايتين، لأن المعنى لا ألبس ثوبا من غزلها لأن الغزل لا يلبس بمفرده، واختار الشيخان تحنيثه على الروايتين، لأنه يصدق أنه لبس من غزلها، (ومن صور) المسألة عند الأكثرين والقاضي

وغيره مسألة الخرقي، وهو ما إذا حلف لا يدخل دارا فأدخلها بعض جسده، يده أو رجله ونحو ذلك، لأنه منع نفسه من الدخول، وإذا تساويا معنى تساويا حكما، كمنع نفسه من أكل الرغيف مثلا، ولا ريب أن المسألة فيها روايتان منصوصتان وإنما اختلف الأصحاب في المختار منهما، فالقاضي والأكثرون على التحنيث كالمسألة السابقة، تسوية بينهما، وأبو بكر وأبو الخطاب في الهداية اختارا عدم التحنيث، بخلاف المسألة السابقة، فإن أبا بكر يختار فيها الحنث كالجماعة، وكأن الفرق أن الحالف لا يدخل دارا إذا أدخلها بعض جسده لا يصدق عليه أنه دخل، وإنما أدخل يده أو رجله مثلا، فلا يكون مخالفا ليمينه. (تنبيهان) : «أحدهما» : محل الخلاف كما تقدم في اليمين المطلقة، أما إن نوى الجميع أو البعض اعتمدت نيته، وكذلك إذا قامت قرينة تقتضي أحد الأمرين كما إذا حلف لا يشرب النهر، أو: لا أكلت الخبز، أو لا كلمت المشركين، أو لا أهنت الفقراء؛ ونحو ذلك، فإن يمينه تتعلق ببعض ذلك وجها واحدا، وعكس هذا إذا حلف لا يصوم يوما، أو لا يصلي صلاة، أو علق طلاق امرأته على وجود حيضة ونحو ذلك، فإن يمينه تتعلق بالجميع. «الثاني» مما مثل به أبو محمد في الكافي، وابن عقيل في التذكرة للمسألة: إذا حلف لا يأكل رغيفا فأكل بعضه، وترجمها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما: إذا حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه، وظاهر هذا أنه لا فرق بين أن تكون اليمين على شيء معين أو مبهم، والله أعلم.

قال: ولو حلف أن يدخل لم يبر حتى يدخل جميعه. ش: لا نزاع في هذا فيما نعلمه، إذ اليمين تناولت فعل الجميع، فلم يبر إلا به، كما لو أمر بشيء فإنه لا يخرج عن عهدة الأمر إلا بفعل الجميع بلا ريب، ومثل هذا إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف ونحوه، فإنه لا يبر إلا بأكل جميعه والله أعلم. قال: ولو حلف أن لا يلبس ثوبا هو لابسه، نزعه من وقته، فإن لم يفعل حنث. ش: أما نزعه من وقته فليمتثل ما حلف على تركه، وأما تحنيثه إذا لم ينزع في الحال فلأن استدامة ذلك يسمى لبسا، ولذلك يقال: لبست هذا الثوب شهرا ويرشح هذا منع الشارع من استدامة المخيط في الإحرام كابتدائه، وحكم: لا يركب دابة هو راكبها كذلك، بخلاف: لا يتزوج، ولا يتطيب، ولا يتطهر، فإنه لا يحنث باستدامة ذلك على المذهب، لأنه لا يقال: تزوج شهرا، إنما يقال: منذ شهر، وكذلك في التطيب والتطهير، وحنثه القاضي في كتاب إبطال الحيل، والله أعلم. قال: وإن حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد، فأكل طعاما اشتراه زيد وبكر، حنث إلا أن يكون أراد أن لا ينفرد أحدهما بالشراء.

ش: أما مع النية فواضح، وأما مع عدمها فاختلف الأصحاب في ذلك، فعن بعضهم أنه خرجها على الروايتين في فعل بعض المحلوف عليه، لأن الضمير في: اشتراه. يرجع إلى الطعام، والطعام لم ينفرد زيد بشرائه، إنما اشترياه معا. واختار الشيخان أنه يحنث على الروايتين، لأن زيدا مشتر لنصفه، ونصفه طعام، فوجب أن يحنث به لوجود المحلوف عليه، كما لو انفرد زيد بشرائه، وهذا مقتضى قول القاضي في جامعه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن البنا وغيرهم، فإنهم جزموا في هذه الصورة بالحنث، مع حكايتهم الخلاف في الصورة السابقة، وكذلك قطع هؤلاء بالحنث فيما إذا قال: لا آكل مما طبخه زيد، أو لا ألبس ثوبا خاطه زيد، أو لا أدخل دارا لزيد، مع حكايتهم الخلاف في الأصل السابق، ووافقهم أبو محمد في الأولى، وخالفهم في اللتين بعدها، فأجرى فيهما الخلاف، والله أعلم. قال: ولو حلف أن لا يكلمهما أو لا يزورهما، فكلم أو زار أحدهما حنث، إلا أن يكون أراد أن لا يجتمع فعله بهما. ش: أما إذا كانت له نية فلا إشكال في اعتمادها، كما إذا قصد أن لا يجتمع فعله وهو الزيارة أو الكلام بأحدهما، فإنه لا يحنث إلا بزيارتهما أو كلامهما، ولو قصد ترك كلام أو زيارة كل منهما منفردا حنث بكلام أو زيارة أحدهما، وإن أطلق خرج على الروايتين في فعل بعض المحلوف عليه، لأن

الحالف على كلام شخصين أو زيارتهما إذا كلم أو زار أحدهما فعل بعض المحلوف عليه، قال أبو محمد: ويمكن أن يقال: إن تقدير يمينه: لا كلمت هذا، ولا كلمت هذا؛ لأن المعطوف يقدر له بعد حرف العطف فعل وعامل مثل العامل الذي قبل المعطوف عليه، فيصير كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] أي وحرمت عليكم بناتكم، وإذا يصير كل واحد منهما محلوفا عليه منفردا، كما لو صرح بذلك. قلت: هذا على القول الضعيف للنحاة من أنه يقدر للمعطوف عامل مثل عامل المعطوف عليه، أما على القول المشهور من أن العامل فيهما واحد - وهو الأول - فلا يمشي ما قاله، وحكم: لا آكل خبزا ولحما ونحو ذلك حكم ما تقدم، أما: لا أدخل هاتين الدارين، ولا أعصي الله في هذين البلدين ونحو ذلك ففيه الروايتان بلا ريب، ولا يجري فيه تردد أبي محمد، إذ لا عاطف ومعطوف، أما إن كان تعليق على شيئين، كأن

قال لزوجته: إن كلمت زيدا وعمرا فأنت طالق، أو قال لامرأتيه: إن حضتما فأنتما طالقتان. ونحو ذلك، فعن بعض الأصحاب تخريجه على الخلاف، واختار أبو محمد في المغني - وهو احتمال له في الكافي - أنه لا يحنث إلا بفعل الشيئين، إذ المشروط لا يوجد إلا بتكامل مشروطه، وجعل في الكافي مسألة: إن حضتما. مسألة اتفاق، في أنه لا يحنث إلا بوجود الحيض منهما. والله أعلم. قال: ولو حلف أن لا يلبس ثوبا، فاشترى به أو بثمنه ثوبا فلبسه حنث إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب، وكذلك إن انتفع به أو بثمنه. ش: هذه المسألة من فروع اعتبار سبب اليمين، وأن الحكم قد يتعدى لغير الملفوظ به، نظرا لسبب اليمين الجاري مجرى العلة الشرعية، فإذا امتنت عليه زوجته بثوب، فحلف أن لا يلبسه، والباعث له على ذلك المنة، فإن يمينه تتعدى سبب ذلك إلى غير الثوب، فإذا اشترى به أو بثمنه ثوبا حنث، وكذلك إن انتفع بثمنه، لوجود المنة بالثوب، إذ بدل الشيء يقوم مقامه، وخرج ما إذا انتفع لها بثوب آخر، لأن المحلوف عليه ثوب بعينه، فتعلقت اليمين به. وقول الخرقي: إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب، يحترز عما إذا لم يمتن عليه به، ولا قصد هو أيضا قطع منتها، فإن يمينه تتعلق بلبسه خاصة، اعتمادا على اللفظ المجرد. قال: ولو حلف أن لا يأوي مع زوجته في دار، فأوى

معها في غيرها، حنث إذا كان أراد بيمينه جفاء زوجته، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه. ش: هذا من فروع اعتبار النية، فإذا حلف لا يأوي مع زوجته في دار عينها، يقصد بذلك جفاءها، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه، فأوى معها في غيرها حنث، لأن وجود الدار والحال هذه كعدمها، لما اقتضته نيته من جفائها الموجود بالإيواء معها في كل دار، وإن كان للدار سبب باعث على اليمين، كأن امتن عليه بها ونحو ذلك، لم يحنث بالإيواء معها في غيرها، لعدم ما يقتضي التعدية إلى غيرها، فصار ذلك كما لو عدمت النية والسبب، فإن يمينه لا تتجاوز ما حلف عليه، وهو الإيواء معها في تلك الدار. (تنبيه) : معنى الإيواء المبيت والله أعلم. قال: ولو حلف أن يضرب عبده في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث عليه. ش: لأن اليمين على الغد، وفي الغد لم يكن الحالف مكلفا، فلم يتعلق به حنث، وكذلك لو جن في اليوم واستمر به ذلك إلى فوات الغد، لما تقدم من خروجه عن التكليف في وقت اليمين. (قلت) : وهذا بخلاف ما لو أغمي عليه، فإنه يحنث، لبقاء التكليف، أما لو ارتد فينبغي بناؤه على تكليف الكفار بالفروع، والمذهب التكليف. ومقتضى كلامه أنه لو مات الحالف في غد أنه يحنث،

وهو يشمل وإن لم يتمكن من ضربه، وهو المذهب، لأنه أدرك وقت الفعل وهو من أهل التكليف، ويشهد لهذا من قاعدتنا أن الوجوب في الصلاة والزكاة ونحوهما يتعلق بأول الوقت، وإن لم يتمكن من الفعل، وقيل: لا يحنث مطلقا، وقيل: إن تمكن من الضرب في الغد حنث، وإن لم يتمكن فلا، لأن الترك لم يكن باختياره فهو كالمكره، وهذه الأقوال الثلاثة لم أرها مصرحا بها في هذه المسألة بعينها، لكنها تؤخذ من مجموع كلام أبي البركات وغيره. ومقتضى كلام الخرقي أيضا أنه لو لم يمت الحالف في اليوم لكنه مرض فيه أو نحو ذلك، بحيث تعذر عليه الفعل في الغد أنه يحنث، وهو كذلك والله أعلم. قال: فإن مات العبد حنث. ش: لا نزاع في هذا إذا كان موت العبد باختيار الحالف، كما إذا قتله، أما إن كان بغير اختياره فلا يخلو إما أن يكون قبل الغد أو فيه، فإن كان قبل الغد ففيه قولان، المذهب المنصوص منهما الحنث أيضا، كما قاله الخرقي، لعدم المحلوف عليه في وقته، أشبه ما لو ترك الضرب مع بقاء العبد لصعوبته عليه، ونحو ذلك. (والثاني) : لا يحنث، لأن عدم ضربه بغير فعل منه، أشبه المكره. وحيث حنث فهل يحنث في الحال - وهو المذهب المنصوص - لأن يمينه منعقدة وقد تحقق عدم الفعل، فأشبه

ما لو لم يوقت بوقت، أو لا يحنث إلا إذا جاء الغد، أو لا يحنث إلا في آخر الغد؟ على ثلاثة أقوال، وإن كان في الغد بعد التمكن من ضربه حنث، وكذلك قبله على المذهب، ثم هل يحنث عقب التلف، أو في آخر اليوم؟ فيه القولان السابقان والله أعلم. قال: وإذا حلف أن لا يكلمه حينا، فكلمه قبل ستة أشهر حنث. ش: الحين عند الإطلاق يحمل على ستة أشهر، نص عليه أحمد والأصحاب، فإذا حلف لا يكلمه حينا، وكلمه قبل ستة أشهر حنث، لمخالفته لما حلف عليه، وإن كلمه بعدها لم يحنث، لأنه وفى بمقتضى يمينه، وهو عدم كلامه حينا، وإنما قلنا: الحين عند الإطلاق ستة أشهر - وإن كان الحين في أصل الوضع زمنا مبهما، يطلق على القليل والكثير - لأن الله سبحانه أطلقه وفسر بذلك في قَوْله تَعَالَى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] . 3736 - كذا قال سعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، ويروى ذلك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وناهيك به لمعرفته بالقرآن إن صح عنه، وما أطلق والمراد به أكثر من ذلك،

كما في قوله سبحانه وتعالى: {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] فإنه عبر به عن عدة سنين، قيل: ثلاث عشرة سنة. فما ذكرناه هو الأقل وهو المتيقن، ولا يرد نحو قوله سبحانه: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] لقيام القرينة الدالة على أن المراد وقت المساء ووقت الصباح، ولا نحو: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] أي يوم القيامة، لقيام القرينة أيضا على إرادة الزمن الطويل، والله أعلم. قال: وإذا حلف أن يقضيه حقه في وقت، فقضاه قبله لم يحنث، إذا كان أراد بيمينه أن لا يجاوز ذلك الوقت. ش: كما إذا حلف ليقضينه حقه في رمضان، فقضاه في شعبان ونحو ذلك، وهذه المسألة من فروع اعتبار النية، فإنه إذا قصد أن لا يتجاوز رمضان، فمعنى يمينه أني لا أؤخر القضاء لبعد رمضان، فما قبل رمضان كله ظرف للقضاء، فإذا قضاه في شعبان مثلا لم يحنث، لوجود القضاء

في وقته، وكذلك إذا كان السبب يقتضي ذلك، لقيامه مقام النية، كما تقدم ذلك للخرقي، أما إن عدما فظاهر كلام الخرقي وأبي البركات واختاره أبو محمد أنه لا يبر إلا بالقضاء في الوقت الذي حلف عليه، وهو رمضان على ما مثلنا، اعتمادا على اللفظ، وقال القاضي: يبر مطلقا، نظرا للعرف، فإنه يقضي بالتعجيل في مثل هذه اليمين، والله أعلم. قال: ولو حلف أن لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه حنث، إلا أن يكون أراد أن لا يشربه كله. ش: هذه المسألة قد تقدم الكلام عليها عند قوله: إذا حلف لا يدخل دارا فأدخلها بعض جسده، فلا حاجة إلى إعادتها والله أعلم. قال: ولو قال: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك، فهرب منه لم يحنث. ش: لأن يمين الحالف انصبت على أنه لا يفارقه، فهي على فعل نفسه، فمتى هرب منه المحلوف عليه لم يوجد منه فعل، فلم يحنث، ومنصوص أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في رواية جعفر بن أحمد بن شاكر أنه يحنث لأن المقصود من نحو هذه

اليمين أن لا يحصل بيننا مفارقة، فاليمين توجهت على فعل الحالف والمحلوف فيحنث، فهو كما لو قال: لا افترقنا، واختار أبو البركات متابعة لما جزم به أبو محمد في الكافي أنه متى أمكنه متابعته وإمساكه فلم يفعل حنث، لأنه والحال هذه مختار للمفارقة، فينسب إليه، بخلاف ما إذا لم يمكنه ذلك، فإنه لم توجد منه المفارقة ولا نسبت إليه. (تنبيه) : لو فلسه الحاكم وحكم عليه بفراقه، فهل يحنث نظرا إلى أن المفارقة وإن كان سببها من غيره قد وجدت منه، أو لا يحنث لأن الفعل والحال هذه لا ينسب إليه، لعدم اختياره له؟ يخرج على روايتي ما إذا فارقه مكرها بضرب، وما أجري مجراه والله أعلم. قال: ولو قال: لا افترقنا. فهرب منه حنث. ش: قد تقدمت الإشارة إلى هذا، وأن المحلوف عليه هنا عدم المفارقة منهما، وقد وجدت مع الهرب، فيحنث، نعم لو أكرها معا على الفرقة ففي الحنث خلاف كما تقدم. (تنبيه) : الفرقة ما يعده الناس فراقا كما في البيع، والله أعلم. قال: ولو حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه فذلك في كل مرة، إلا أن يكون نوى مرة واحدة. ش: إذا حلف على زوجته أنها لا تخرج إلا بإذنه، أو بغير إذنه، أو حتى يأذن لها، فخرجت بغير إذنه حنث، لوجود المخالفة فيما حلف عليه، وانحلت يمينه بلا نزاع، إذ حرف «أن» لا يقتضي التكرار، وإن أذن لها فخرجت لم يحنث

بلا ريب، لعدم المخالفة، ثم هل يحتاج بعد ذلك في كل خروج إلى إذن أو قد انحلت يمينه بالإذن الأول؟ فيه روايتان، المذهب منهما الأول، وهذا معنى قول الخرقي: فذلك في كل مرة، أي إذا لم يحنث، وأصل الخلاف والله أعلم من قوله: إن خرجت. معناه خروجا، وخروجا نكرة في سياق الإثبات، لكنها في سياق الشرط، فمن لحظ كونها في سياق الشرط - وهو التحقيق - قال: تعم كل خروج، فكل خروج محلوف عليه أنها لا تخرج إلا على صفة، وهو الإذن فإذا خرجت بغير إذنه حنث، وإن كان قد أذن لها في خروج سابق، ومن لحظ كونها نكرة في سياق الإثبات، مع قطع النظر إلى الشرط، قال: إنما تناولت خروجا واحدا على صفة وهو الإذن، فإذا أذن لها فخرجت زالت اليمين، لوجود المحلوف عليه، هذا كله مع الإطلاق، أما مع التقييد باللفظ، كما إذا قال: حتى آذن لك مرة، أو في كل مرة، فلا ريب في اعتماد ذلك، وتقوم مقام اللفظ النية، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله. (تنبيه) : أخذ أبو الخطاب في الهداية الرواية الثانية من قول عبد الله عن أبيه: إذا حلف أن لا تخرج امرأته إلا بإذنه، إذا أذن لها مرة فهو إذن لكل مرة، وتكون يمينه على ما نوى، وإن قال: كلما خرجت فهو بإذني، أجزأه مرة واحدة، وهذا ظاهر في الأخذ، وكذلك تبعه أبو البركات، وأبو محمد

في المقنع على حكاية الرواية، إلا أن قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في: كلما خرجت فهو بإذني، أنه يجزئه مرة واحدة، فيه نظر، لأن هذا صريح في العموم، وقد يحمل قوله: أجزأه مرة واحدة. إذا نوى بالمرة الإذن في كل مرة، أو أنه عبر بالعام - وهو كل خروج - عن الخاص، وهو خروج واحد مجازا، اهـ. وقطع أبو محمد في المغني بالرواية الأولى، وجعل رواية عبد الله فيما إذا أذن لها مرة أنه يسمع منه، وكأنه أخذ ذلك من قوله في الرواية: وتكون يمينه على ما نوى. والظاهر خلافه والله أعلم. قال: ولو حلف أن لا يأكل هذا الرطب، فأكله تمرا حنث، وكذلك كلما تولد من ذلك الرطب. ش: أصل هذه المسألة إذا اجتمع في المحلوف عليه التعيين والصفة، أو التعيين والاسم، فهل يغلب التعيين - كما اختاره الخرقي وعامة الأصحاب، منهم ابن عقيل في تذكرته، ولهذا كان التعريف بالإشارة من أعرف المعارف - أو الصفة والاسم، وهو اختيار ابن عقيل على ما حكاه عنه أبو البركات، وأومأ إليه أحمد في رواية مهنا، فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ، فثرد فيه وأكله أنه لا يحنث، لأن ذلك بمنزلة العلة، فيزول الحكم بزوالها. على قولين.

ويدخل تحت ذلك صور (منها) مسألة الخرقي وهي ما إذا حلف لا يأكل هذا الرطب، فصار تمرا أو دبسا أو خلا، ونحو ذلك؛ (ومنها) : إذا حلف لا آكل هذه الحنطة؛ فصارت دقيقا، أو خبزا، أو هريسة أو نحو ذلك. (ومنها) : لا آكل هذا اللبن، فصار جبنا، أو كشكا ونحو ذلك، أو لا آكل هذا الحمل، فصار كبشا، أو لا أدخل هذه الدار، فصارت فضاء أو حماما، ونحو ذلك، أو لا أكلم هذا الصبي، فصار شيخا، أو لا أكلم زوجة فلان هذه، أو عبده سعيدا ونحو ذلك، فطلق الزوجة، وباع العبد، أو: لا لبست هذا القميص فصار سراويل أو رداء ونحو ذلك، واستثنى أبو محمد من ذلك إذا استحالت الأجزاء، أو تغير الاسم، مثل أن يحلف لا آكل هذه البيضة، فتصير فرخا، أو الحنطة، فتصير زرعا، فهذا لا يحنث بأكله، قال: وعلى قياسه الخمر إذا صارت خلا، وعن ابن عقيل أنه طرد القول حتى في البيضة والزرع، ولعله أظهر، إذ لا يظهر بين صيرورة البيضة فرخا وصيرورة الرطب خلا ونحو ذلك فرق طائل، وأبعد من ذلك الخمر إذا صارت خلا، فإن الماهية باقية، وإنما تغيرت الصفة، وقد قال أبو البركات: إذا حلف ليأكلن من هذه البيضة أو التفاحة ثم عمل منها ناطفا أو شرابا، بر على القول بتقديم التعيين، ولا يبر على القول

باعتبار الصفة، وليس في الشراب إلا مائية ماء من التفاح. (تنبيه) : محل الخلاف مع عدم النية والسبب، أما مع وجود أحدهما فالحكم له كما تقدم، والله أعلم. قال: وإذا حلف أن لا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث. ش: هذا واضح، إذ المحلوف عليه التمر، والرطب غيره فلا يحنث به، والله أعلم. قال: ولو حلف أن لا يأكل اللحم، فأكل الشحم أو المخ أو الدماغ لم يحنث، إلا أن يكون أراد اجتناب الدسم، فيحنث بأكل الشحم. ش: أما مع عدم الإرادة فلأن الشحم والمخ - وهو الذي في العظام - والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ليسوا بلحم حقيقة ولا عرفا، فالحالف لا يأكل لحما لا يحنث بذلك، لعدم تناول يمينه له، وعلى قياس ذلك الألية وكل ما لا يسمى لحما، كالكبد والطحال، والرئة والمصران، والكرش والقانصة، والقلب والأكارع والكلية، وكذلك ما كان لحما إلا أنه اختص باسم، إما لغة أو عرفا، كلحم خد الرأس، على ظاهر كلام أحمد، واختيار القاضي،

وكاللسان على أظهر الاحتمالين، وعن أبي الخطاب: يحنث بأكل لحم الخد، وهو مناقض لاختياره في الهداية، فيما إذا حلف لا يأكل رأسا؛ لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة بأكله منفردا، فغلب العرف، مع أنه قد يقال: إنه عرف فعلي ولم يغلب هنا العرف مع أنه نقلي، وقد ناقض القاضي أيضا قوله هذا فقال - تبعا لابن أبي موسى - فيما إذا أكل هنا مرقا يحنث، لأنه لا يخلو من أجزاء لحم تذوب فيه، وجرى أبو الخطاب على الصواب، وتبعه الشيخان فقالا: لا يحنث؛ لأنه على تقدير تسليم أن فيه أجزاء لحم ذائبة فذلك لا يسمى لحما، لا حقيقة ولا عرفا، وأحمد قال في رواية صالح لا يعجبني. اهـ. وأما مع إرادة الدسم، فظاهر كلام الخرقي أنه لا يحنث بشيء من ذلك إلا بالشحم، لأنه المتبادر من إرادة الدسم، وقال الشيخان وغيرهما من الأصحاب: يحنث بجميع ذلك، لوجود الاسم فيه. (تنبيه) : اختلف في بياض اللحم - كسمين الظهر ونحوه - (هل حكمه حكم اللحم) فيحنث من حلف لا يأكل لحما فأكله، وهو قول ابن حامد والقاضي، وظاهر كلام أبي البركات أن المسألة اتفاقية، لدخوله في مسمى اللحم، ولهذا لو اشتراه من وكل في شراء لحم لزم موكله، (أو حكم الشحم) فيحنث من حلف لا يأكل شحما فأكله، وهو اختيار أكثر الأصحاب، القاضي والشريف، وأبي الخطاب

والشيرازي وابن عقيل، واختيار أبي محمد، وقال: إنه ظاهر كلام الخرقي، وقول طلحة العاقولي، لشبهه للشحم في صفته وذوبه، ولأن الله تعالى استثناه من الشحم حيث قال: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] الآية؛ على قولين، وفي كلا الدليلين نظر؛ إذ مجرد شبه الشيء بالشيء لا يقتضي أن يسمى باسمه، ويعطى حكمه، على أن شبه سمين الظهر بالألية أقرب من شبهه بالشحم، وأما الاستثناء فقال البغوي وغيره: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] أي ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما؛ اهـ. فالمستثنى شحم حقيقة وعرفا، إلا أن الله تعالى أرخص لهم فيه دفعا للحرج عنهم، والله أعلم. قال: فإن حلف أن لا يأكل الشحم فأكل اللحم حنث، لأن اللحم لا يخلو من شحم. ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وذكر دليله، وهو أن اللحم لا يخلو من شحم، فالحالف لا يأكل الشحم يمينه تشمل كل شحم، وهذا شحم فيدخل في يمينه، وقال عامة الأصحاب: لا يحنث، لأن وجود هذا والحالة هذه كالعدم، فاليمين لا تتناوله عرفا. (تنبيه) : استنبط أبو محمد من هذا أن الشحم عند الخرقي كل ما يذوب بالنار، قال: وهذا ظاهر قول أبي الخطاب،

وقول طلحة، قال: ويشهد له ظاهر الآية والعرف، وبنى على هذا أنه يحنث بأكل الألية، وقال القاضي وغيره: إن الشحم هو الذي يكون في الجوف، من شحم الكلى أو غيره، فعلى هذا لا يحنث بأكل الألية واللحم الأبيض، ونحو ذلك، وهذا هو الصواب، وقد تقدم أن الآية لا تدل على ما ادعاه، وأن العرف عكس هذا، والله أعلم. قال: وإن حلف أن لا يأكل لحما ولم يرد أكل لحم بعينه، فأكل من لحم الأنعام أو الطائر أو السمك حنث. ش: أما إذا أكل من لحم الأنعام أو الطائر فلا نزاع فيما نعلمه في حنثه، لدخول المحلوف عليه، وهو اللحم حقيقة وعرفا، وأما إذا أكل من لحم السمك ففي الحنث به وجهان، المشهور منهما - وهو اختيار الخرقي والقاضي، وعامة أصحابه - الحنث. (والثاني) - وهو اختيار ابن أبي موسى -: عدمه، ولعله الظاهر، لأن لحم السمك وإن كان لحما حقيقة، بدليل قَوْله تَعَالَى: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] إلا أن أهل العرف خصصوا ذلك، كما خصصوا لفظ الدابة بذوات الأربع، وصاروا لا يسمونه لحما، وإنما يسمونه سمكا، ولهذا لا يكادون يقولون إذا أكلوا سمكا: أكلنا لحما. وإنما يقولون: سمكا، ولا ريب أن العرف ناسخ للحقيقة اللغوية،

إذ هي بالنسبة إليه مجاز، ولعل هذا الخلاف مبني على أنه هل وصل إلى حد النقل أم لا؟ فيكون الخلاف في تحقيق المناط، والظاهر وصوله، لأن ضابط المنقول أن يتبادر الذهن عند الإطلاق للمنقول إليه، ولا ريب أن إطلاق اللحم لا يفهم منه عند الإطلاق السمك، اهـ. وظاهر إطلاق الخرقي أنه يحنث بأكل كل لحم، فيدخل في ذلك اللحوم المحرمة، كلحم الخنزير ونحوه، وهو أشهر الوجهين، وبه قطع أبو محمد، لدخوله في مسمى اللحم حقيقة وعرفا. (والثاني) : لا يدخل ذلك، لأن قرينة حال المسلم تقتضي أنه لا يريد ذلك، والقرائن تخصص، وينبغي على هذا التعليل أن يدخل ذلك في يمين الكافر وجها واحدا، وقد يدخل في كلام الخرقي أيضا لحم الخد، ولحم اللسان، وقد تقدم الكلام على ذلك، والله أعلم. قال: وإذا حلف أنه لا يأكل سويقا فشربه، أو لا يشربه فأكله حنث، إلا أن يكون له نية. ش: أما مع النية فلا كلام كما تقدم غير مرة، وأما مع عدمها ففيه ثلاثة أقوال. (أحدها) : الحنث كما قاله الخرقي، لأن مقصود اليمين في مثل ذلك الاجتناب، فكأنه حلف أن يتجنب ذلك عن إيصاله إلى باطنه. (والثاني) : عدم الحنث، أخذا من قول أحمد في رواية مهنا - فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ، فثرد فيه وأكل -: لا يحنث، لأن أنواع الأفعال

كالأعيان، ولا ريب أنه لو حلف على نوع من الأعيان لم يحنث بغيره، فكذلك الأفعال. (والثالث) : إن عين المحلوف عليه: كلا أكلت هذا السويق. حنث بشربه تغليبا للتعيين كما تقدم، بخلاف ما إذا لم يعين: كلا أكلت سويقا. فإنه لا يحنث، وهذا قول القاضي في المجرد، وعنده في الروايتين أن محل الخلاف مع التعيين، أما مع عدمه فلا يحنث قولا واحدا، وخرج أبو الخطاب وأبو محمد الخلاف في كل ما حلف لا يأكله فشربه، أو لا يشربه فأكله، حتى قال أبو محمد - فيمن حلف لا يشرب شيئا فمصه ورمى به -: أنه يجيء على قول الخرقي أنه يحنث، ونص أحمد في رواية إبراهيم الحربي - فيمن حلف لا يشرب شيئا، فمص قصب السكر -: ليس عليه شيء، وكذلك لو حلف لا يأكل شيئا، فمص قصب السكر، لم يكن عليه شيء، على ما يتعارفه الناس أن الرجل لا يقول: أكلت قصب السكر، وتبع النص ابن أبي موسى. والله أعلم. قال: وإذا حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة، فوقعت في تمر، فإن أكل منه واحدة منع من وطء زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها، ولا يتحقق حنثه حتى يأكل التمر كله. ش: مسألة الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا شك في التمرة التي أكلها هل هي المحلوف عليها أم لا، واختياره والحال هذه اجتناب

الزوجة، للشك في تحريمها، أشبه ما لو اشتبهت أخته بأجنبية، وتبعه على ذلك ابن البنا، وقال أبو الخطاب وغيره: إنه لا يجب عليه اجتنابها، بل الأولى له ذلك، إذ الأصل الحل، فلا يزول بالشك، وفارق المقيس عليه، إذ الأصل عدم الحل، إلا بعقد يتحقق صحته، بوجود شروطه، وانتفاء موانعه ولم يوجد، أما إذا علم أكل التمرة التي حلف عليها، بأن أكل التمر كله، أو الجانب الذي وقعت فيه، ونحو ذلك فلا ريب في حنثه، وإن علم أن التمرة التي أكلها غير المحلوف عليها فلا ريب أيضا في عدم حنثه، وحل زوجته. وقول الخرقي: من حلف بالطلاق؛ يشمل البائن والرجعي، وهو مبني على قاعدته في تحريم الرجعية، أما على قول غيره في حلها فلا اجتناب، إذا كان الطلاق رجعيا لأن قصاراه وطء رجعية وهو مباح، والله أعلم. قال: ولو حلف أن يضربه عشرة أسواط، فجمعها فضربه بها ضربة واحدة، لم يبر في يمينه. ش: هذا هو المذهب المشهور، لأن الأسواط آلة أقيمت مقام المصدر، فمعنى الكلام: لأضربنه عشر ضربات بسوط، ولو قال كذلك لم يبر إلا بعشر ضربات، فكذلك هذا، يحقق ذلك أنه لو ضربه عشر ضربات بسوط بر اتفاقا، ولو عاد إلى السوط لم يبر بالضرب بسوط واحد، كما لو حلف ليضربنه بعشرة أسواط. 3737 - ولا ترد قصة أيوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وإن قلنا: شرع من قبلنا

شرع لنا؛ لأن ذلك رخصة في حقه، رفقا بامرأته، لإحسانها إليه، ولذلك امتن عليه بذلك، ولو كان الحكم عاما له ولغيره لما اختص بالمنة، وكذلك الكلام في المريض الذي يخشى تلفه، يقام عليه الحد بعثكال من النخل ونحوه، ترخيصا من الشارع، رفعا للحرج والمشقة، ولهذا لا يجوز أن يضرب في حال الصحة بالسياط المجموعة بلا ريب، (وعن ابن حامد) أنه يبر بذلك، أخذا من قول أحمد في المريض عليه الحد: يضرب بعثكال النخل، يسقط عنه الحد، واستدلالا بقصة أيوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. 3738 - وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المريض الذي زنا: «خذوا له عثكالا، فيه مائة شمراخ، فاضربوه بها ضربة واحدة» ، وقد تقدم الجواب عن ذلك، ثم كان من حق ابن حامد أن

يسوي بين الأصل والفرع، فلا يقول بالبر إلا في حق من له عذر يبيح ضربه في الحد بالعثكال، وإذا كان يقرب قوله، ولهذا قال أبو محمد: لو قيل بهذا كان له وجه، والله أعلم.

قال: ولو حلف أن لا يكلمه فكتب إليه أو أرسل إليه رسولا حنث، إلا أن يكون أراد أن لا يشافهه. ش: أما إذا قصد بيمينه أن لا يكلمه مشافهة، أو كان السبب يقتضي ذلك، فلا إشكال في أنه لا يحنث بمكاتبته أو مراسلته، لعدم التكليم مشافهة، وإن قصد ترك مواصلته، أو كان السبب يقتضي ذلك، فلا ريب أيضا في حنثه بمكاتبته ومراسلته، لوجود مواصلته المحلوف على تركها، وإن عريت اليمين عن قصد وسبب ففيه روايتان، حكاهما في الكافي (إحداهما) - وهي التي حكاها في المغني عن الأصحاب -: الحنث أيضا، لأن الظاهر من هذه اليمين هجرانه، فتحمل يمينه عليه، اعتمادا على الظاهر؛ (والثانية) - وإليها ميل أبي محمد -: عدم الحنث والحال هذه، لأن ذلك ليس بكلام حقيقة، ولهذا يصح نفيه فيقال: ما كلمته، وإنما كاتبته، ولأن الله تعالى امتن على موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال سبحانه: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ولو كانت الرسالة تكليما لشارك موسى غيره من الرسل، وأما قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] فاستثنى الرسول من التكليم، وذلك بالنظر إلى الاشتراك في أصل معنى التكليم وهو التأثير، إذ هو مأخوذ من الكلم وهو الجرح، ولا شك أن المراسلة والمكاتبة يؤثران في المرسل إليه والمكتوب له، ولذلك جعل سبحانه الكلام قسيما للوحي في

موضع آخر، لا من أقسامه فقال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] الآية إلى قَوْله تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] نظرا إلى أن كلا منهما يختص عند الإطلاق باسم، وبالجملة ميل أبي محمد هنا إلى الحقيقة، وميل الأصحاب إلى المعنى، وهو أوجه، والله أعلم.

ثانيا: كتاب النذور

[ثانيا: كتاب النذور] كتاب النذور ش: النذور جمع نذر، كفلس وفلوس، يقال: نذرت أنذر وأنذر بفتح الذال في الماضي، وكسرها وضمها في المضارع، ونذرت بالقوم أنذر، بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع، إذا علمت بهم، واستعددت لهم، ولا نزاع في صحة النذر، ولزوم الوفاء به في الجملة، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] . 3739 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» وهو عبارة عن قول يلتزم به المكلف المختار لله تعالى حقا، والله أعلم.

أنواع النذر

[أنواع النذر] قال: ومن نذر أن يطيع الله عز وجل لزمه الوفاء به، ومن نذر أن يعصيه لم يعصه وكفر كفارة يمين، ونذر الطاعة الصلاة والصيام، والحج والعمرة، والعتق والصدقة، والاعتكاف والجهاد، وما كان في هذه المعاني، سواء نذره مطلقا، بأن يقول: لله علي أن أفعل كذا وكذا. أو علقه بصفة، مثل قوله: إن شفاني الله عز وجل من علتي، أو شفى فلانا، أو سلم مالي الغائب، أو ما كان في هذا المعنى، فأدرك ما أمل بلوغه من ذلك، فعليه الوفاء به، ونذر المعصية أن يقول: لله علي أن أشرب الخمر، أو أقتل النفس المحرمة، وما أشبهه، فلا يفعل ذلك، ويكفر كفارة يمين لأن النذر كاليمين؛ وإذا قال: لله علي أن أركب دابتي، أو أسكن داري، أو ألبس أحسن ثيابي، وما أشبهه، لم يكن هذا نذر طاعة ولا معصية، فإن لم يفعل كفر كفارة يمين، وإذا نذر أن يطلق زوجته، استحب له أن لا يطلق، ويكفر كفارة يمين. ش: النذر أولا على ضربين، مطلق ومقيد (فالمطلق) أن يقول: لله علي نذر، ولا ينوي شيئا، فيجب عليه كفارة يمين. 3740 - لما روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كفارة النذر إذا لم يسم شيئا كفارة يمين» رواه أبو داود والترمذي وصححه، ومسلم والنسائي ولم يقولا: «إذا لم يسم شيئا» .

3741 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا أطاقه فليف به» رواه أبو داود، (والمقيد) على ضربين (أحدهما) : ما يقصد به المنع من الشيء، أو الحمل عليه، ويسمى نذر اللجاج والغضب، وقد تقدم الكلام عليه في الأيمان؛ (والثاني) : ما ليس كذلك، وهو على خمسة أقسام (أحدها) : أن ينذر قربة تستحب ولا تجب، من صوم وصلاة ونحوهما، فيجب الوفاء به بلا خلاف نعلمه عندنا، سواء نذره مطلقا، كقوله: لله علي صوم يوم، أو صلاة ركعتين، أو مقيدا كقوله: إن شفاني الله أو شفى ولدي فلله علي الحج، فوجد القيد، وسواء كانت القربة مما لها أصل وجوب في الشرع كما تقدم، أو لم تكن كالاعتكاف، وهو إجماع في المقيد، وفيما له أصل وجوب، وقول الجمهور في

الآخرين، ويشهد للجميع عموم حديث ابن عباس، وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] الآية. 3742 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» وفي رواية: «فليف بنذره، ومن نذر أن يعصي الله فلا يف به» رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي. 3743 - ويشهد لغير المقيد ولما لا أصل لوجوبه في الشرع ما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن «عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة، - وفي رواية - يوما في المسجد الحرام. فقال: «أوف بنذرك» متفق عليه. 3744 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن «رجلا قام يوم الفتح فقال: يا رسول الله: إني نذرت لله عز وجل إن فتح الله عليك مكة أن أصلي صلاة في بيت المقدس. فقال: «صل ها هنا» ثم أعاد عليه، فقال: «صل ها هنا» ثم أعاد عليه، فقال: «فشأنك إذا» . رواه أبو داود، وله في رواية: فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ها هنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس» » .

(الثاني) : أن ينذر معصية، كشرب الخمر، وقتل النفس التي حرم الله بغير حق، وصوم يوم الحيض، والتصدق بمال الغير، ونحو ذلك، فلا يجوز الوفاء به إجماعا، ويشهد له حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - المتقدم. 3745 - ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه الله تعالى، ولا يمين في قطيعة رحم» . 3746 - وللنسائي عن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم» ثم فيه روايتان (إحداهما) : أنه لاغ ولا شيء فيه،

قال أحمد - فيمن نذر ليهدمن دار غيره لبنة لبنة -: لا كفارة عليه. وذلك لما تقدم. 3747 - ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم: «مروه فليتكلم، وليجلس وليستظل، وليتم صومه» رواه البخاري وغيره. 3748 - «وقال للمرأة التي نذرت أن تنحر ناقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد» رواه مسلم وغيره، وظاهر هذا أنه لا نذر صحيح في معصية الله، أو لا نذر مشروع، وغير المشروع وجوده كعدمه، مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر في ذلك بكفارة، ولو وجبت لبينها. (والرواية الثانية) وهي المذهب المعروف عند الأصحاب أنه منعقد.

3749 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» رواه أبو داود والترمذي والنسائي. 3750 - وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «النذر نذران فما كان نذر طاعة فذلك لله

فيه الوفاء، وما كان نذر معصية فذلك للشيطان ولا وفاء فيه، ويكفره ما يكفر اليمين» . رواه النسائي، وهذا المبين يقضي على ذلك المجمل ويبين أن المراد به: لا وفاء لنذر في معصية الله. وكذلك جاء مصرحا به في مسلم في التي نذرت نحر ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه العبد» . 3751 - وقد استشهد ترجمان القرآن لذلك من الكتاب، فعن يحيى بن سعيد، أنه سمع القاسم بن محمد يقول: أتت امرأة إلى عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فقالت: إني نذرت أن أنحر ابني. فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: لا تنحري ابنك، وكفري عن يمينك. فقال شيخ عند ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كيف يكون في هذا كفارة؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] ثم جعل فيه من الكفارة ما رأيت. رواه مالك في الموطأ، فعلى هذه الرواية إن لم يفعل ما نذره من

المعصية وجبت عليه كفارة يمين، وإن فعل ذلك أثم ولا شيء عليه على المعروف، كما لو حلف على فعل معصية ففعلها، ولأبي محمد احتمال بوجوب الكفارة مطلقا، وهو ظاهر كلام الخرقي، وظاهر الحديث. (الثالث والرابع) : نذر مكروها أو مباحا، كطلاق زوجته من غير حاجة ونحوه، أو ركوب دابة، أو لبس ثوب له ونحوها، وفي ذلك أيضا روايتان، (إحداهما) : أنه لاغ لا شيء فيه، لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله» ، وهذا لم يبتغ به وجه الله تعالى، ولحديث أبي إسرائيل، فإنه نذر أفعالا تكره المداومة عليها وقد تحرم، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكفارة. 3752 - وعن «عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستفتيته فقال: «لتمش ولتركب» » . 3753 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رأى شيخا يهادى بين ابنيه، فقال: «ما بال هذا؟» قالوا: نذر أن يمشي. قال: «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني» وأمره أن يركب» ، متفق عليهما، ولم يأمره في ذلك بكفارة، ولو وجبت

لبينها. (والثانية) - وهي المذهب أنه منعقد، لأن في حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا، فلتحج راكبة، ولتكفر عن يمينها» . رواه أبو داود، وفي رواية له أيضا وللترمذي: ولتصم ثلاثة أيام؛ وهذه زيادة فيجب قبولها، ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين» فعلى هذه الرواية إن لم يفعل ما نذره وجبت عليه الكفارة، وإن فعل فلا شيء عليه، إلا أنه في المكروه لا يستحب له الفعل، وفي المباح يتخير بين الفعل وتركه قاله الأصحاب. 3754 - وقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن «امرأة قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب

على رأسك بالدف. قال: «أوفي بنذرك» » . (القسم الخامس) : نذر الواجب، كقوله: لله علي أن أصوم رمضان، أو أحج حجة الإسلام، ونحو ذلك، فحكى أبو محمد عن الأصحاب عدم انعقاد النذر والحال هذه، لأن النذر التزام، والواجب لازم له، فالتزامه تحصيل الحاصل، وحكى في المغني احتمالا - وجعله في الكافي قياس المذهب - أنه ينعقد موجبا للكفارة إن لم يفعله، كما لو حلف على ذلك. 3755 - وقد سمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك يمينا فقال: «النذر حلف» ولا نسلم أن نذر الواجب تحصيل الحاصل، لاختلاف جهة الإيجاب، إذ الواجب بالشرع غير الواجب بإيجاب المكلف، ولهذا لو ترك الناذر صوم رمضان والحال ما تقدم لزمه كفارة يمين، ولو تركه من غير نذر لم يلزمه غير القضاء، وقال في المغني في موضع آخر: إن قياس قول الخرقي الانعقاد،

ما يلزم من نذر التصدق بجميع ماله

وقول القاضي عدمه، فيما إذا نذر صوم يوم يقدم فلان، فوافق قدومه يوما من رمضان، وأبو البركات حكى المسألة على روايتين، وأورد المذهب بالانعقاد كنذر المباح. (تنبيه) : قد علم من كلام الخرقي أن الطلاق مكروه، وهذا مع عدم الحاجة إليه، وهو المذهب، (وعنه يحرم) والحال هذه، كالطلاق في حال الحيض، وطلاق الثلاث في رواية، أما عند الحاجة إليه فيباح، وقد يستحب، كما إذا كان بقاء النكاح ضررا، وقد يجب كالمولي إذا امتنع من الفيئة. [ما يلزم من نذر التصدق بجميع ماله] قال: ومن نذر أن يتصدق بكل ماله أجزأه أن يتصدق بثلثه لما روي عن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأبي لبابة - حين قال: إن من توبتي يا رسول الله أن أنخلع من مالي - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجزئك الثلث» » . ش: لما تقدم للخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن نذر الطاعة يلزم الوفاء به، والصدقة طاعة وقربة، أراد أن ينبه على هذه المسألة، وإلا لاقتضى كلامه وجوب الصدقة بالجميع، والذي قاله الخرقي هو المذهب المعروف. 3756 - لما ذكره من حديث «أبي لبابة - وهو رفاعة بن عبد المنذر - أنه قال: يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي

وأساكنك، وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز وجل ولرسوله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجزئ عنك الثلث» » رواه أحمد. 3757 - وعن كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي.

سهمي من خيبر. وقد اعترض على هذا بأنه ليس فيه تصريح بالنذر، فيحتمل أنه أراد أن يتصدق بذلك، فأرشده النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ما هو أولى، ويجاب بأن هذا ظاهر في جعله لله تعالى، ويرشحه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يجزئ عنك الثلث إذ لفظة الإجزاء ظاهرة في الوجوب، ثم لو سلم أنه ليس بنذر، فلا نسلم أن الصدقة بما زاد على الثلث قربة لمنع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك، وهو لا يمنع القرب، ونذر ما ليس بقربة لا يلزم الوفاء به. ويحكى عن أحمد رواية أخرى أن الواجب في ذلك كفارة يمين. 3758 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سئلت عن رجل قال: مالي في رتاج الكعبة، فقالت: يكفره ما يكفر اليمين. رواه مالك في الموطأ. اهـ. (وعنه ثالثة) حكاها ابن أبي موسى:

يجب إخراج الجميع نظرا إلى أن الصدقة قربة وطاعة، فدخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع الله فليطعه» . ومقتضى كلام الخرقي أن من نذر الصدقة ببعض ماله لزمه ذلك البعض، وإن كان أكثر من النصف، (وهو إحدى الروايتين) وزعم أبو محمد في المغني أنه الصحيح من المذهب، عملا بما تقدم من الوفاء بنذر الطاعة، خرج منه إذا نذر الجميع فيبقى فيما عداه على مقتضى الأصل، (والرواية الثانية) : أنه يجزئه إخراج ثلث ذلك البعض المعين أو المقدر، وبها قطع القاضي في الجامع، جعلا للبعض كالكل ولأبي محمد احتمال أن البعض إن كان الثلث فما دون لزمه، وإن كان أكثر أجزأه قدر ثلث المال، لما تقدم من أن الحديث يتضمن أن الصدقة بزيادة على الثلث ليس بقربة، وهذا الاحتمال هو الرواية الثانية التي حكاها أبو البركات وصححها، وعنده أن محل الخلاف فيما إذا زاد المسمى على ثلث الكل، هل يلزمه الكل أو قدر ثلث

حكم من نذر نذرا فعجز عنه

المال؟ على روايتين، أما إذا كان المسمى قدر الثلث فما دون فإنه يلزمه الوفاء به رواية واحدة، تضمن هذا أن للأصحاب في نقل الخلاف طريقتين، والأولى طريقة أبي الخطاب، وأبي محمد، ومقتضى كلام القاضي، وجمع ابن حمدان في رعايتيه الطريقتين، فحكى المسألة على ثلاث روايات. (تنبيه) : هل يختص ذلك بالصامت، أو يعم كل مال، إن لم يكن له نية وهو ظاهر إطلاق الأكثرين، ومقتضى حديث كعب بن مالك، لأنه جعل سهمه الذي بخيبر من المال، وأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وقياس مسألة إذا حلف لا مال له وله مال غير زكوي، أو دين على الناس أنه يحنث؟ على روايتين. [حكم من نذر نذرا فعجز عنه] قال: ومن نذر أن يصوم وهو شيخ كبير، لا يطيق الصيام، كفر كفارة يمين، وأطعم لكل يوم مسكينا. ش: هذا هو المذهب المنصوص (أما الكفارة) فلأنه لم يأت بالمنذور بعينه، ولما تقدم في حديث أخت عقبة الذي رواه أبو داود قال فيه: ولتكفر يمينها. 3759 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين» . رواه أبو داود، (وأما الإطعام)

حكم من نذر صياما أو صلاة ولم يذكر عددا

فكالصوم الواجب بأصل الشرع؛ وقيل: لا يجب إلا الكفارة لظاهر الحديثين، وقيل: لا يجب إلا الإطعام، كالواجب بأصل الشرع وهو صوم رمضان، وقيل: إن هذا النذر غير منعقد أصلا، لأنه تكليف ما لا يطيق، وهو غير جائز شرعا، وحكم ما إذا نذر الصوم وهو قادر ثم عجز حكم ما تقدم، إلا أنه لا نزاع في انعقاد نذره. [حكم من نذر صياما أو صلاة ولم يذكر عددا] قال: وإذا نذر صياما ولم يذكر عددا ولم ينوه فأقل ذلك صوم يوم. ش: لأنه ليس في الشرع صوم مفرد أقل من يوم، فيجب ذلك، لأنه اليقين، وهذا مع الإطلاق، أما مع التقييد بلفظه أو بنيته فيعمل على ذلك بلا ريب. قال: وأقل الصلاة ركعتان. ش: أي وإذا نذر صلاة فأقلها ركعتان، ما لم ينو أكثر أو يسمه، وهو إحدى الروايتين، وهي التي نصبها أبو الخطاب والشريف في خلافيهما، وقطع بها القاضي في الجامع، وابن عقيل في التذكرة. (والرواية الثانية) : يجزئه ركعة، ومبناهما على أن أقل ما يصح التطوع به هل هو ركعة أو ركعتان؟ على روايتين تقدمتا ومفهوم كلامه ثم أن أقله ركعتان، وعليه جرى ها هنا. [ما يلزم من نذر المشي إلى بيت الله الحرام] قال: وإذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزئه إلا أن يمشي في حج أو عمرة.

ش: من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه الوفاء بنذره، كما تضمنه كلام الخرقي، لأنه قربة وطاعة فلزمه كنذر الصلاة. 3760 - ودليل الأصل ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» متفق عليه، ولا يجزئه الذهاب إلا في حج أو عمرة لأنه المشي المعهود في الشرع إلى البيت، فحمل إطلاق الناذر عليه، ولقد غالى أبو محمد فقال: إذا نذر إتيان البيت غير حاج ولا معتمر لزمه الحج أو العمرة، وسقط شرطه، لمناقضته لنذره. وفيه نظر، لجواز التصريح بخلاف الظاهر، والكلام إنما يتم بآخره ويلزمه المشي من دويرة أهله، والإحرام من حيث يحرم للواجب، وحكم من نذر المشي إلى موضع من الحرم كذلك، بخلاف غيره، كعرفة وغيرها، والله أعلم. قال: فإن عجز عن المشي ركب وكفر كفارة يمين. ش: إذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه المشي، لظاهر حديثي أنس وأخت عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وسيأتيان، ولأن المشي

والحال هذه قربة، لأنه مشي إلى عبادة، والمشي إلى العبادة أفضل، فإن عجز عن المشي جاز له الركوب. 3761 - لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال: «ما بال هذا؟» قالوا: نذر أن يمشي. قال: «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني» وأمره أن يركب» . متفق عليه. 3762 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إن أختي نذرت أن تمشي إلى البيت، أو قال: أن تحج ماشية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئا، فلتحج راكبة ولتكفر عن يمينها» . رواه أبو داود.

وإذا ركب كفر كفارة يمين (على إحدى الروايتين) واختيار القاضي، وأبي محمد، لهذا الحديث، وبه احتج أحمد، ولأبي داود في رواية والترمذي في حديث عقبة بن عامر قال: «ولتصم ثلاثة أيام» ، ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين» ؛ (وعن أحمد رواية أخرى) : يجب عليه هدي من الميقات لأنه أخل بواجب في الإحرام، فلزمه الهدي كتارك الإحرام من الميقات، والإحرام دونه. 3763 - ولما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إن «أخت عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية، وإنها لا تطيق ذلك، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتهد بدنة» » ، وفي رواية: أمرها أن تركب وأن تهدي هديا. رواه أبو داود، ويخرج لنا (رواية ثالثة) أنه لا شيء عليه، بناء على تارك المنذور لعذر، وهو ظاهر حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم. 3764 - وعن «عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نذرت أختي أن تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتيته فقال: «لتمش ولتركب» متفق عليه، وليس في الصحيح ذكر كفارة.

وإن عجز عن مشي البعض وقدر على البعض، فإنه يمشي ما قدر عليه، ويركب ما عجز عنه، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأخت عقبة: «لتمش ولتركب» أي لتمشي ما قدرت عليه ولتركب ما عجزت عنه، وحكم الكفارة على ما سبق. هذا كله إذا ترك المشي لعجزه عنه، أما إذا تركه مع قدرته عليه فلا ريب في وجوب الكفارة عليه، ثم هل هي كفارة يمين أو هدي؟ على الروايتين السابقتين والمذهب على إجزاء حجه، وقال أبو محمد: قياس المذهب أنه يستأنف الحج ماشيا لتركه صفة النذر، كما لو نذر صوما متتابعا ففرقه، وعلى هذا لو مشى بعضا وركب بعضا ففيه احتمالان، (أحدهما) : يحج ثانيا فيمشي ما ركب؛ (والثاني) : لا يجزيه إلا حج يمشي في جميعه، اعتمادا على ظاهر نذره. تنبيهان: (أحدهما) : عكس مسألة الخرقي إذا نذر الركوب إلى بيت الله الحرام فإنه يلزمه، لأن فيه إنفاقا في الحج، فإن تركه ومشى لزمته الكفارة، ثم هل هي كفارة أو هدي؟ على الروايتين السابقتين، وهذا كله مع الإطلاق، أما لو نوى بالمشي أو بالركوب إلى البيت إتيانه، فإنه يلزمه إتيانه في حج أو عمرة، ولا يلزمه مشي ولا ركوب. (الثاني) يلزم المنذور من المشي أو الركوب في الحج أو العمرة إلى التحلل، لانقضاء النسك إذًا، وقال أحمد: يركب في الحج إذا رمى، وفي العمرة إذا سعى، لأنه لو وطئ بعد ذلك لم يفسد حجا ولا عمرة، وظاهر هذا أنه إنما

ما يلزم من نذر عتق رقبة

يلزمه ذلك إلى التحلل الأول والله أعلم. [ما يلزم من نذر عتق رقبة] قال: وإذا نذر عتق رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب، إلا أن يكون نوى رقبة بعينها. ش: إذا نذر رقبة وأطلق حمل ذلك على ما يجزئ في الواجب، وهي الرقبة المؤمنة على المذهب، السالمة من عيب مضر بالعمل على ما تقدم، حملا للمطلق على المعهود الشرعي، وهو الواجب في الكفارة وإن نوى رقبة معينة أجزأته وإن كانت كافرة أو معيبة، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، قال أحمد فيمن نذر عتق عبد بعينه فمات العبد قبل أن يعتقه: يلزمه كفارة يمين، ولا يلزمه عتق عبد، لأن هذا شيء فاته، على حديث عقبة بن عامر، وإليه أذهب في الفائت وما عجز عنه، اهـ. [حكم إضافة النذر لوقت] قال: وإذا نذر صيام شهر من يوم يقدم فلان، فقدم في أول يوم من شهر رمضان، أجزأه صيامه لشهر رمضان ونذره. ش: النذر والحال هذه منعقد في الجملة، قال القاضي في روايتيه: من نذر أن يصوم يوم يقدم فلان انعقد نذره، ذكره أبو بكر في الاعتكاف من كتاب الخلاف، وحكى صحته عن أحمد في مواضع، اهـ، وكذلك جزم غير واحد من الأصحاب

بالصحة وذلك لأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به غالبا، فأشبه غيره من النذور، فإذا قدم فلان في أول شهر رمضان فهل يتبين بذلك عدم انعقاده؟ المشهور - وهو اختيار أبي محمد -: لا، وظاهر كلام الخرقي نعم؛ لقوله: أجزأه صيامه لرمضان ونذره؛ وعن القاضي أن ظاهر كلام الخرقي عدم الانعقاد، وأخذ ذلك من كون الخرقي لم يوجب القضاء والحال هذه. إذا تقرر هذا فلقدوم زيد حالات: (إحداها) : أن يقدم والناذر صائم صوما واجبا، ففيه روايتان (إحداهما) : وهي اختيار الخرقي، وابن عقيل في التذكرة: يجزئه صومه عن الواجب والنذر، لأن الذي نذره صوم يوم يقدم فلان وقد صامه (والثانية) - وهي أنصهما، واختيار أبي بكر والقاضي، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما -: لا يجزئه عن النذر، لأنه لم يأت بما وجب عليه لأن الواجب عليه صوم يوم قدوم زيد عن النذر، ولم يأت به عن النذر، إنما أتى ببعضه عنه، ولهذا

الخلاف التفات إلى نذر صوم الواجب، وإلى أنه هل يلزمه الصوم حين القدوم، أو من أول اليوم؟ وعلى هذا فمذهب الخرقي صحة نذر الواجب كما هو المذهب، وأنه إنما يلزمه من حين القدوم، وهو أحد الوجهين أو الروايتين، ونظير ذلك إذا قال: أنت طالق يوم يقدم زيد، هل تطلق من حين قدومه أو من أول اليوم؟ على قولين، اهـ. فإن قلنا: لا يجزئه لزمه القضاء لتركه المنذور، وهل عليه كفارة؟ فيه روايتان يأتي الكلام عليهما إن شاء الله تعالى، ويتخرج أن لا شيء عليه، كنذر الواجب في رواية، وقد تقدم في كلام القاضي ما يدل عليه. (الحال الثانية) : وهي التي ذكرها الخرقي في قوله: ومن نذر أن يصوم يوم يقدم فلان فقدم يوم فطر أو أضحى لم يصمه، وصام يوما مكانه، وكفر كفارة يمين. ش: إذا قدم يوم فطر أو أضحى ففيه روايتان (إحداهما) : لا شيء عليه، لأن يوم الفطر والأضحى ليسا بمحل للصوم، لمنع الشارع منه، فأشبه ما لو قدم ليلا، إذ الممنوع منه شرعا كالممنوع منه حسا، وحكى أبو محمد هذه الرواية تخريجا من نذر المعصية، وفيه نظر، لأن العصيان يعتمد المخالفة، ولا مخالفة هنا من الناذر. (والرواية الثانية) - وهي المذهب -: عليه القضاء، لأن النهار محل للصوم في الجملة، بخلاف الليل، والمانع عارض، وإذا يجب القضاء لترك المنذور، ولهاتين الروايتين التفات إلى الصلاة في الدار المغصوبة، من

حيث إنه هل ينظر إلى عين الصلاة، أو إلى الصلاة من حيث هي؟ لكن المشهور ثم النظر إلى عين الصلاة، والمشهور هنا النظر إلى ذات اليوم من حيث هو، وقد يفرق بأن ثم المصلي آثم عاص لارتكابه النهي؛ بخلاف هنا فإنه لا مخالفة منه، وإنما وجد أمر بغير اختياره، منعه من الصوم. اهـ؛ وعلى هذه إذا قضى هل عليه كفارة؟ فيه روايتان (أشهرهما) عن الإمام وعند الأصحاب: نعم؛ لتركه المنذور في وقته. (والثانية) : لا؛ لأنه معذور في الترك، أشبه المكره، وخرج أبو محمد (قولا رابعا) بوجوب الكفارة من غير قضاء، مما إذا نذرت المرأة صوم يوم حيضها، وحكم ما لو وافق يوم حيض أو نفاس حكم ما تقدم إلا أن عن أحمد رواية فيما إذا وافق يوم عيد أنه إن صام صح صومه، وهنا لا يصح الصوم بلا خلاف. (الحال الثالثة) : قدم وهو مفطر، ففيه روايتان إحداهما: لا شيء عليه، والثانية وهي المذهب: عليه القضاء، وقد تقدم توجيههما، وعلى هذه ففي الكفارة روايتان، بناء على تارك المنذور لعذر. (الحال الرابعة) : إذا قدم وهو ممسك، ففيه روايتان

(إحداهما) - وهي ظاهر كلام الشيرازي، واختيار ابن عبدوس - أنه ينوي صيامه عن النذر ولا شيء عليه، لوجود الصوم منه في اليوم، ولا تضر نيته من النهار لأن الواجب إنما تعلق به إذا، وقد شهد لذلك قضية صوم يوم عاشوراء. (والثانية) : عليه القضاء، ويمنع أن الواجب إنما تعلق به إذ ذاك، بل تبين تعلقه به من أول اليوم، وفي الكفارة لكونه معذورا روايتان، هذا نقل الشيخين، وقال القاضي في الجامع: إنه ينوي صوم ذلك اليوم ويقضي ويكفر. وهذا الذي نصبه الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وقال الشريف: إنه اختيار أبي بكر وهو مبني على لزوم الإمساك له وإن لم يصح صومه عن النذر كرمضان، والمختار خلافه. (الحال الخامسة) : قدم وهو صائم تطوعا، ففيه أيضا روايتان كالممسك: (إحداهما) : أنه يعتقده عن النذر ويجزئه. (والثانية) : عليه القضاء، وفي الكفارة الخلاف. (الحال السادسة) إذا قدم في الليل، أو والناذر مجنون، فلا شيء عليه وإن أفاق في اليوم، على ظاهر إطلاق أبي البركات، وقد يقال فيما إذا أفاق في اليوم إنه كالمفيق في أثناء يوم من رمضان. (الحال السابعة) قدم في النهار، وكان قد بيت له النية،

نذر صيام شهر ولم يسمه فمرض أو حاضت المرأة

لخبر سمعه من الليل، فيجزئه بلا ريب. قال: وإن وافق قدومه يوما من أيام التشريق صامه في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى: لا يصومه، ويصوم يوما مكانه، ويكفر كفارة يمين. ش: هذا مبني على أصل تقدم، وهو أن أيام التشريق هل يصح صومها عن الفرض أم لا؟ فإن قلنا يصح، صام هنا، وصار كما لو كان القدوم في غير يوم تشريق، وإن قلنا لا يصح فهو كما لو قدم في يوم عيد وقد تقدم، وقد علم من هذا أن يوم العيد لا يصح صومه وهو المذهب، وعن أحمد رواية أخرى أنه إن صام صح صومه، كالصلاة في الدار المغصوبة. (تنبيهان) : «أحدهما» : إذا قلنا بالإجزاء عن رمضان والنذر، فهل ينوي النذر؟ قد يقال: إنه ينويه كما إذا قلنا فيما إذا كان صائما تطوعا أو ممسكا، ويحتمل هذا كلام الخرقي، وعلى هذا يكون كلامه مشعرا بصورتي التطوع والممسك، اهـ. (الثاني) : إذا كان القدوم في الليل، أو والناذر مجنون فقد يقال: بطل النذر إذا لعدم تصور الفعل، إذ الليل ليس بمحل للصوم أصلا، والمجنون لا يتوجه إليه خطاب تكليفي، وقد يقال: بل قد تبينا عدم انعقاده، فيكون النذر موقوفا. وهذان المدركان يلحظان أيضا فيما إذا كان القدوم في يوم عيد أو وهو مفطر، والله أعلم. [نذر صيام شهر ولم يسمه فمرض أو حاضت المرأة] قال: ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه فمرض في بعضه أفطر فإذا عوفي بنى، وكفر كفارة يمين، وإن أحب أتى بصيام شهر متتابع ولا كفارة عليه.

ش: إذا نذر أن يصوم شهرا والحال هذه فصام ثم في أثنائه مرض مرضا مجوزا للفطر فأفطر فإنه إذا عوفي يخير بين الإتيان بشهر متتابع ولا كفارة عليه، لإتيانه بالمنذور على وجهه، وبين البناء على ما صامه والتكفير بكفارة يمين، لتركه صفة المنذور، كما «أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخت عقبة بالكفارة لتركها المشي» ، ويخرج رواية أخرى بعدم وجوب الكفارة للعذر، لإمكانه الإتيان بالمنذور على وجهه. وقول الخرقي: مرض. قد قلنا: أي مرضا مجوزا للفطر. وهو شامل للموجب للفطر وهو المخوف، وغير الموجب وهو المبيح، ولا ريب أن حكم الموجب ما تقدم، أما المبيح فهل حكمه كذلك أو حكم من أفطر لغير عذر، فيلزمه الاستئناف بلا كفارة؟ على وجهين، وكذلك هذان الوجهان فيما إذا سافر سفرا يبيح الفطر، ولنا وجه ثالث يفرق بين المرض والسفر، ففي المرض يخير، لأن السبب وجد بغير اختياره، وفي السفر يتعين الاستئناف، لوجود السبب منه باختياره، وقد تقدم نحو ذلك في الظهار، وكلام الخرقي مشعر بأنه لو نذر شهرا وأطلق أنه لا يلزمه التتابع فيه، وهو إحدى الروايتين، لوقوع الشهر على ما بين الهلالين وعلى ثلاثين يوما، ولهذا لو صام ثلاثين يوما أجزأه بلا ريب والله أعلم. قال: وكذلك المرأة إذا نذرت صيام شهر متتابع وحاضت فيه.

ش: يعنى أنها تخير بين الاستئناف فلا شيء عليها وبين البناء مع الكفارة. قال: ومن نذر أن يصوم شهرا بعينه فأفطر يوما بغير عذر ابتدأ شهرا وكفر كفارة يمين. ش: إذا نذر صوم شهر بعينه - كرجب مثلا - فأفطر يوما فيه أو أكثر، فلا يخلو إما أن يكون لعذر أو لغير عذر، فإن كان لغير عذر ففيه روايتان: (إحداهما) - وهي المشهورة واختيار الخرقي وأبي الخطاب في الهداية وابن البنا - أنه ينقطع صومه ويبتدئ شهرا كاملا، (والثانية) - وقال أبو محمد: إنها الأقيس -: لا ينقطع صومه، فيتم على ما صامه ثلاثين يوما إذا زال عذره؛ وأصل الخلاف أن التتابع في الشهر المعين هل وجب لضرورة الزمن، وإليه ميل أبي محمد، أو لإطلاق النذر، وإليه ميل الخرقي والجماعة، ولهذا لو شرط التتابع بلفظه أو نواه لزمه الاستئناف قولا واحدا، ومما ينبني على ذلك أيضا إذا ترك صوم الشهر كله، فهل يلزمه شهر متتابع، أو يجزئه متفرقا؟ على الروايتين ولهاتين الروايتين أيضا التفات إلى ما إذا نذر صوم شهر وأطلق، هل يلزمه متتابعا أم لا؟ وقد تقدم أن كلام الخرقي يشعر بعدم التتابع، وقضية البناء هنا يقتضي اشتراط التتابع، كما هو المشهور عند الأصحاب ثم. انتهى. وعلى كلتا الروايتين

يلزمه كفارة، جبرا للفطر الذي أفطره فيه، وإن كان الفطر لعذر فإنه يبني قولا واحدا، لكن هل يجب وصل القضاء وتتابعه أم لا؟ على الروايتين السابقتين، وهل يلزمه كفارة؟ على الروايتين أيضا في ترك المنذور لعذر. قال: ومن نذر أن يصوم فمات قبل أن يأتي به صام عنه ورثته من أقاربه. ش: أما جواز صوم النذر عن الميت في الجملة فهو المذهب المعروف. 3765 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «امرأة قالت: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان ذلك يؤدي عنها؟» قالت: نعم، قال: «فصومي عن أمك» متفق عليه؛ وفي رواية: «أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله نجاها أن تصوم شهرا، فأنجاها الله فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فقال: «صومي عنها» » رواه أحمد وأبو داود، والنسائي.

3766 - وعلى هذا يحمل عموم ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» متفق عليه. 3767 - بدليل ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن نذر قضى عنه وليه. رواه أبو داود، فقد فهم من الحديث الأول اختصاص الحكم بالنذر، وأنه لا يتعدى إلى غيره، وقد جاء نحو هذا صريحا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 3768 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا» إلا أن سنده ضعيف، وقال الترمذي: الصحيح أنه عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - موقوف.

قضاء نذر الطاعة عن الميت

وقيل: لا يصوم أحد عن أحد، كما لا يفعل ذلك عنه في الحياة، وهو مردود بالنصوص، والذي يصوم عنه ورثته من أقاربه، لأنهم لما خلفوه في أخذ ميراثه كذلك فيما عليه، وهذا على سبيل الاستحباب، فلو لم يصوموا فلا شيء عليهم، إلا أنه وقع للقاضي في تعليقه ما ظاهره أنه لو خلف إذا تركة فالورثة مخيرون، إن شاءوا صاموا، وإن شاءوا أنفقوا على من يصوم، وهو حسن، ولو صام عنه قريبه غير الوارث، أو وارثه غير القريب أو أجنبي أجزأ عنه، كما لو قضى عنه دينه، وقد شبهه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالدين، ولتشبيهه بالدين قلنا: لا يجب على الوارث القريب القضاء، بل يستحب له، إذ قضاء الدين عن الميت لا يجب على الوارث ما لم يخلف تركة يقضى منها، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صومي عنها» ونحو ذلك أمر بالصوم على جهة الفتوى فيما سئل عنه، والغرض منه بيان الجواز. 3769 - وقد جاء مصرحا به «من مات وعليه صيام صام عنه وليه لمن شاء» . وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب مع القضاء فدية، وهو كذلك، لظاهر الحديث. [قضاء نذر الطاعة عن الميت] قال: وكذلك كل ما كان من نذر طاعة.

ش: كحج وصدقة، وعتق واعتكاف، ونحو ذلك من القرب. 3770 - وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «امرأة من جهينة جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نعم، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» رواه البخاري والنسائي بمعناه، وفي رواية لأحمد والبخاري قال: جاء رجل فقال: إن أختي نذرت أن تحج. وهو دليل على الإجزاء من الوارث وغيره، حيث لم يستفسره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوارث هو أم لا، فقد ورد النص بالقيام في الصوم والحج خصوصا، وورد في غيرهما عموما. 3771 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «سعد بن عبادة استفتى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقض عنها» رواه أبو داود والنسائي.

وقد عمل على ذلك ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وهما راويا الحديث، وكذلك ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. 3772 - قال البخاري: أمر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء يعني ثم ماتت فقال: صلي عنها، قال: وقال ابن عباس نحوه. 3773 - وروى سعيد عن سفيان، عن عبد الكريم أبي أمية عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه سأل ابن عباس عن نذر كان على أمه من اعتكاف، قال: صم عنها، واعتكف عنها.

3774 - وقال: حدثنا أبو الأحوص، عن إبراهيم بن مهاجر، عن عامر بن مصعب، أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعدما مات. ولنا قول آخر ضعيف أنه لا يفعل شيئا من ذلك كما تقدم في الصوم. وقد شمل كلام الخرقي الصلاة المنذورة، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، والقاضي في التعليق وغيرهما، قياسا على ما تقدم (والرواية الثانية) : لا يفعل الصلاة بخلاف الصوم

وغيره، لأنها عبادة تختص بالبدن، لا بدل لها بحال. ومفهوم كلام الخرقي أن الولي لا يفعل ما هو واجب بغير النذر، من قضاء رمضان، وصوم كفارة، وصوم السبعة أيام للمتمتع، وحج، وزكاة مال، وعتق في كفارة، وقد صرح بذلك الأصحاب في قضاء رمضان، لما تقدم من الإشارة في الاستدلال، وكذلك نص عليه أحمد في السبعة الأيام للمتمتع في رواية المروذي، قياسا على قضاء رمضان، لوجوبها بأصل الشرع، وهو فرق صوري، وقد يقال: الأصل عدم الاستنابة إلا ما استثناه الدليل، وكذلك نص أحمد في صوم الكفارة في رواية ابن منصور، إذ الكفارة زاجرة كالحد، فلم ينب فيها الولي؛ بخلاف نذر الصوم فإنه نذر طاعة، أشبه نذر صدقة المال. وأما الحج الواجب فقد قال الأصحاب إن لوارثه ولغير وارثه أن يفعله عنه بعد مماته وإن لم يوص بذلك، سواء كان له تركة أو لم يكن. 3775 - وقد شهد لذلك ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال: «أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه أقضيته عنه؟» قال: نعم. قال: «فاحجج عن أبيك» رواه الدارقطني، وأما

زكاة المال فلا يحضرني الآن فيه نقل، والقياس أنه كالعتق الواجب، وقد صرح القاضي وأبو البركات وغيرهما بصحته عن الميت مطلقا، وقد علم من مجموع هذا أن مفهومه إنما عمل به في الصوم فقط. (تنبيه) : قول الخرقي: صام عنه ورثته من أقاربه، ظاهره كما تقدم أن الذين يطلب منهم الصوم هم الورثة من الأقارب، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال - في من مات وعليه اعتكاف -: ينبغي لأهله أن يعتكفوا عنه. وهو شامل للوارث وغير الوارث، وقال ابن عبدوس: إذا صام الولي صام الأقرب من الأولياء. ثم قول الخرقي أيضا: ورثته. يشمل جميع الورثة، وظاهره أنه لو صام عنه الكل صح، كأن يكونوا مثلا عشرة، وعليه عشرة أيام،

فيصوموا عنه كل واحد يوما، وقد ذكر لأحمد في رواية أبي طالب من كان عليه صوم شهر، هل يصوم عشرة أنفس شهرا؟ فقال: يصوم واحد؛ وقد قرر القاضي في تعليقه هذا النص على ظاهره، لما أورده على لسان الخصم، وقال فيه: كما لا يصح أن يطوف واحد ويسعى آخر والله أعلم.

كتاب أدب القاضي

[كتاب أدب القاضي] ش: قال الأزهري: القضاء في الأصل إحكام الشيء والفراغ منه، ويكون القضاء إمضاء الحكم، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] وسمي الحاكم قاضيا لأنه يمضي الأحكام ويحكمها، ويكون (قضى) بمعنى أوجب، فيجوز أن يكون سمي قاضيا لإيجابه الحكم على من يجب عليه. انتهى؛ قلت: ويجوز أن يكون سمي من الأول، لأنه ينبغي أن يكون محكما في نفسه، أي كاملا في صفاته وأفعاله. والأصل في مشروعيته قَوْله تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقَوْله تَعَالَى: {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] . 3776 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –

أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران» ، متفق عليه. 3777 - ولأبي داود والنسائي من رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» ، وكذا من مسلم، مع أن هذا

-ولله الحمد - إجماع والقضاء من فروض الكفايات، لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، فكان واجبا كالجهاد والإمامة، ولما تقدم من قَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ونحوه. 3778 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود.

3779 - وله من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله. 3780 - وعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم» رواه أحمد، ونقل إسماعيل بن سعيد عن أحمد أنه سئل: هل يأثم القاضي بالامتناع إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به؟ قال: لا يأثم. وظاهر هذا أنه غير واجب، والأول المذهب، قال أبو محمد: ويحتمل أن تحمل هذه الرواية على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان وغيره.

شروط القاضي

[شروط القاضي] قال: ولا يولى قاض حتى يكون بالغا عاقلا، مسلما حرا عدلا، عالما فقيها ورعا. 3781 - ش: (أما اشتراط البلوغ) فلما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعوذوا بالله من رأس السبعين، وإمارة الصبيان» رواه أحمد، ولأن الصبي مولى عليه فلا يكون مولى على غيره، ولأن الصبي يستحق الحجر عليه، والقاضي يستحق الحجر على غيره فتنافيا، (وأما اشتراط الإسلام) فلأن ذلك شرط في الشهادة، ففي القضاء أولى، ودليل الأصل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ولأن الكفر يقتضي إذلال صاحبه، والقضاء يقتضي احترامه، وبينهما منافاة، وقد قال الله سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وأي سبيل أعظم من أن يلزمه، ويحكم عليه بغير

اختياره، (وأما اشتراط الحرية) فقياسا لمنصب القضاء على منصب الإمامة؛ ولأن العبد في أعين الناس ممتهن، والقاضي موضوع للفصل بين الخصومات، وبين الحالتين منافاة. 3782 - وما ورد من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي، ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل» رواه مسلم وغيره، فمحمول على من كان عبدا مجازا، أو على غير ولاية الحكم، (وأما اشتراط العدالة) فلقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] والقاضي يخبر بقول، فلا يجوز قبوله مع فسقه لذلك، ولأن العدالة شرط في الشاهد، ففي

القاضي أولى، ولأن قوله ألزم، وضرره أشمل، ودليل الأصل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] (وأما اشتراط كونه عالما) أي عالما بوجوه الكتاب والسنة، واختلاف علماء المسلمين - فقيها - وهو من صار الفقه له سجية، لأن الفقيه اسم فاعل من فقه - بالضم - ككرم فهو كريم، وذلك من صار له أهلية استنباط الأحكام الشرعية. 3783 - فلما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، إذ فيه في صحيح مسلم: إذا حكم الحاكم فاجتهد؛ قال العلماء: معناه إذا أراد أن يحكم، فعند ذلك يجتهد، وإلا لو حمل على ظاهره لاقتضى أن الاجتهاد مؤخر عن الحكم، وليس كذلك اتفاقا. 3784 - وعن بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة «ثلاثة، واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى على جهل فهو في النار» رواه أبو داود وابن ماجه.

3785 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفتي بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه» رواه أحمد وابن ماجه. 3786 - وعن عمرو بن الحارث يرفعه إلى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال له: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء» ؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟» قال: أقضي بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإن لم

تجد في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما يرضي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -» رواه أبو داود والترمذي، وقد شهد لهذا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الآية.

(وأما اشتراط كونه ورعا) فلأن غير الورع لا يؤمن أن يتساهل، فيأخذ الرشا الملعون آخذه عن الله وعن الحق. 3787 - فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم» رواه الترمذي. 3788 - وعن ابن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نحوه رواه أبو داود.

3789 - وعن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ينبغي للقاضي أن يجتمع فيه سبع خصال، وإن فاتته واحدة كانت فيه وصمة، العقل، والعفة، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنن، والحلم. رواه سعيد. وظاهر كلام الخرقي أن الورع شرط لصحة تولية القضاء، وهو ظاهر كلام أحمد على ما حكاه أبو بكر في التنبيه قال: إذا كان فيه ست خصال فقيها، عالما، ورعا، عفيفا، بصيرا بما يأتي بصيرا بما يذر، أي صلح للقضاء، أو صلح أن يستقضى، وعامة المتأخرين كالقاضي ومن بعده لا يشترطون ذلك، بل

يجعلونه من المندوبات. إذا تقرر هذا فقد أهمل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - شروطا أخر لا بد من التنبيه عليها، ولعله لوضوحها، أو لإشعار كلامه بها تركها، (منها كونه عاقلا) وهذا واضح جدا، لأن المجنون أسوأ حالا من الصبي، (ومنها كونه ذكرا) ويحتمله كلام الخرقي لذكره ما تقدم بصيغة التذكير، وذلك لما تقدم من قوله: القضاة ثلاثة قال: «فرجل» إلى آخره، وظاهره حصر القضاة في الثلاثة الموصوفين بما ذكر. 3790 - وعن أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما بلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى، قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري والنسائي والترمذي وصححه، ولأن القاضي يحضره الرجال، ويحتاج فيه إلى كمال رأي، وتمام عقل،

وفطنة، والمرأة لا تحضر محافل الرجال، وهي ناقصة عقل بدليل النص، قليلة رأي وفطنة، وقد نبه الله سبحانه على ذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] فأشار سبحانه إلى كثير نسيانها وغلطها، (ومنها) أن يكون متكلما سميعا بصيرا، لأن الأخرس يتعذر عليه النطق بالحكم، وإشارته إن فهمت لكن لا يفهمها كل أحد، والأصم لا يسمع قول الخصمين، والأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه، والشاهد من المشهود له، (واختلف) هل يشترط كونه كاتبا، وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، حذارا من أن يخفى عليه ما يكتبه كاتبه، فربما دخل عليه الخلل، أو لا يشترط، وهو ظاهر كلام عامة الأصحاب، الخرقي وأبي بكر، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا وغيرهم، ونصبه أبو محمد للخلاف، نظرا إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أميا، وهو سيد الحكام؟ على قولين، (وكذلك اختلف) أيضا في اشتراط كونه زاهدا،

والمذهب عدم الاشتراط، وحكى ابن حمدان قولا بالاشتراط، وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أنه يشترط أن يكون أعلم من غيره، وهو يرجع إلى صحة تولية المفضول مع وجود الفاضل، والمذهب الصحة فيما أظن. (تنبيهات) : «أحدها» : ما يتصور فقده من هذه الشروط إذا فقد في الدوام أزال الولاية، إلا فقد السمع أو البصر فيما ثبت عنده ولم يحكم به، فإن ولايته ثابتة فيه، «الثاني» : العاقل من عرف الواجب والممتنع والممكن، وما ينفعه وما يضره غالبا، والعقل ضرب من العلوم الضرورية، مثل العلم باستحالة اجتماع الضدين ونحوه، قاله القاضي وغيره، وقال التميمي: هو نور كالعلم، وعن إبراهيم الحربي، عن أحمد أنه قال: العقل غريزة، والحكمة فطنة، والعلم سماع، والرغبة في الدنيا هوى، والزهد فيها عفاف.

قال القاضي: معنى قوله أنه غريزة، أنه خلق الله ابتداء وليس باكتساب، وللناس فيه أقوال كثيرة، وهل محله القلب أو الدماغ؟ فيه روايتان، المختار منهما للأصحاب الأول، قال التميمي: الذي نقول به أن العقل في القلب، يعلو نوره إلى الدماغ فيفيض إلى الحواس، ما جرى في العقل. انتهى، وجعل الماوردي الاختلاف في محله مفرعا على قول من زعم أنه جوهر لطيف، يفصل به بين حقائق المعلومات كلها، وقال: كل من نفى كونه جوهرا أثبت محله في القلب، لأن القلب محل العلوم كلها. (الثالث) : العدالة المشترطة هنا هل هي العدالة ظاهرا وباطنا كما في الحدود، أو ظاهرا فقط كما في إمامة الصلاة، والحاضن، وولي اليتيم، ونحو ذلك، أو فيها الخلاف كما في العدالة في الأموال؟ ظاهر إطلاقات الأصحاب أنها كالذي في الأموال، وقد يقال إنها كالذي في الحدود. (الرابع) غير واحد من الأصحاب يقول: من شرط القاضي كونه مجتهدا، وهو الذي أشار إليه الخرقي بقوله: عالما فقيها، والمجتهد من له أهلية يمكنه أن يعرف بها غالب الأحكام الشرعية الفرعية بالدليل إذا يشاء. مع معرفة جملة كثيرة منها

بأدلتها، فيحتاج أن يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام المذكورة جملة، ويعرف حقيقة ذلك ومجازه، وأمره ونهيه، ومبينه ومجمله، ومحكمه ومتشابهه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وناسخه ومنسوخه، والمستثنى والمستثنى منه ويزيد في السنة بأن يعرف مما يتعلق بالأحكام صحيحه وسقيمه، وتواتره وآحاده، ومرسله ومنقطعه ونحو ذلك،

ويعرف موضع الوفاق من موضع الخلاف فيما يتعلق بالأحكام، والقياس وما يتعلق به، والعربية، المتداولة بالحجاز واليمن والشام والعراق، ومن حولهم من العرب، وزاد ابن عقيل في التذكرة: والاستدلال، واستصحاب الحال، والقدرة على إبطال شبه المخالف، وإقامة الدلالة على مذهبه. والله أعلم. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان. ش: هذا - والله أعلم - اتفاق. 3791 - وقد شهد له ما روى «عبد الرحمن بن أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كتب أبي وكتبت له إلى ابنه عبيد الله بن أبي بكرة، وهو قاض بسجستان، أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» رواه الجماعة. وفي معنى هذا كل مشغل للفكر،

كشدة جوع أو عطش أو ألم، أو هم أو حزن، أو فرح أو نعاس، أو حر مزعج، أو برد مؤلم، أو مدافعة بول أو غائط ونحو ذلك. وظاهر كلام الخرقي وعامة الأصحاب أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، وفي الخصال لابن البنا الإتيان بلفظ الكراهة، وفي المغني: لا خلاف نعلمه أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان، وعلى كل حال فإذا خالف وحكم فوافق الحق (فعن القاضي) لا ينفذ حكمه، لارتكاب النهي. 3792 - فيدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، (وعنه) - في المجرد وهو الذي أورده الشيخان، وأبو الخطاب مذهبا - أنه ينفذ، إذ المنع من ذلك كان حذارا من

شغل فكره المؤدي إلى عدم استيفاء النظر في الحكم، فربما وقع الخلل فيه، والفرض أن لا خلل في الحكم. 3793 - وأما ما روي عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن «رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر. فأبى عليه، فاختصما عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: «اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك» ، فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال للزبير: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» ، فقال الزبير: والله إني لأحسب أن هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الآية» متفق عليه. فهذا الذي وجد من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان غضبا

مشاورة القاضي لأهل العلم والأمانة

يسيرا، ومثله لا يمنع الحكم، أو أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحكم حتى زال عنه ذلك. انتهى. وقيل: إن عرض ذلك بعد فهم الحكم نفذ لاستبانة الحق قبل الشاغل، وإلا فلا، هذا نقل أبي البركات، وتبعه ابن حمدان، ولفظ أبي محمد في الكافي: وقيل: إنما يمنع الغضب الحكم قبل أن يتضح حكم المسألة، أما إذا حدث بعد اتضاح الحكم لم يمنع حكمه فيها لقضية الزبير، وهذا ظاهر في جواز الحكم وعدم جوازه، لا في نفوذه وعدم نفوذه. [مشاورة القاضي لأهل العلم والأمانة] وقال: وإذا نزل به الأمر المشكل عليه شاور فيه أهل العلم والأمانة. ش: إذا نزلت بالقاضي قضية واتضح له حكمها حكم، لما تقدم من حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإن لم يتضح له الحكم وأشكل عليه شاور فيه، لقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وكذلك فعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أسارى بدر، وفي لقاء الكفار يوم بدر، وفي غير ذلك.

3794 - وروي: «ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 3795 - وكذلك شاور أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصحابة في ميراث الجدة. 3796 - وكذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حد الخمر. قال أحمد: لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة، كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما

قضاء القاضي بعلمه

ويشاور أهل العلم والأمانة، إذ الجاهل لا قول له فيعتبر، وغير الأمين قوله هدر. إذا تقرر هذا فهذه المشاورة لمعرفة الحق بالاجتهاد، فإذا إذا اتضح له الحكم حكم، وإلا أخره حتى يتضح له، لا لتقليد غيره فإنه لا يجوز، وإن كان أعلم أو ضاق الوقت. (تنبيه) : هذه المشاورة على سبيل الاستحباب، قاله في المغني، وهو ظاهر كلام المجد، لأنه أتى بلفظ الابتغاء، ولا ريب أنه لا يقضي على جهل وتردد. [قضاء القاضي بعلمه] قال: ولا يحكم الحاكم بعلمه. ش: هذا هو المذهب المنصوص، والمختار لعامة الأصحاب من الروايات. 3797 - لما روت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار» متفق عليه، وظاهره

أنه لا يحكم إلا بما يسمع في حال حكمه، وقد روي: وإنما أحكم وهذا صريح أو كالصريح في أنه لا يحكم إلا بما يسمع. 3798 - وأيضا «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث هلال بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما لاعن زوجته: «أبصروه فإن جاءت به - يعني الولد - على نعت كذا فهو لهلال، وإن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك» فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه» فلم يحكم بعلمه، لعدم قيام البينة.

3799 - وأصرح من هذين ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا، فلاجه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: القود يا رسول الله. فقال: «لكم كذا وكذا» فلم يرضوا، فقال: «لكم كذا وكذا» فرضوا، فقال: «إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم» قالوا: نعم، فخطب فقال: «إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود، فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا، أفرضيتم؟» قالوا: لا، فهم المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكفوا عنهم فكفوا، ثم دعاهم فزادهم فقال: «أفرضيتم؟» فقالوا: نعم، قال: «إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم» قالوا: نعم. فخطب فقال: «أرضيتم؟» قالوا: نعم» . رواه الخمسة إلا الترمذي، فلم يحكم عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعلمه لما جحدوا، تعليما لأمته، وسدا لباب التهم والظنون.

3800 - وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو رأيت رجلا على حد من حدود الله عز وجل ما أخذته ولا دعوت له أحدا حتى يكون معي غيري، حكاه الإمام أحمد.

(والرواية الثانية) : يجوز أن يحكم بعلمه، أخذا من قول أحمد فيما نقله أبو طالب في الأمة إذا زنت يقيم مولاها الحد إذا تبين له الزنا، حملت لو رآها، قال أبو الخطاب: فإذا جاز للسيد ذلك برؤيته في الحدود فالحاكم أولى، ومن قوله في رواية حرب: إذا أقر في مجلسه بحد أو حق لزمه ذلك وأخذ به. وفي كلا المأخذين نظر، إذ السيد لا يتهم في ماله اتهام الحاكم، ولا يعم ضرره كضرر الحاكم، والإقرار في المجلس يخالف الإقرار في غيره كما سيأتي. 3801 - وبالجملة استدل لهذه الرواية بما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن «هندا قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه، كذا ترجم عليه البخاري فقال: باب حكم الحاكم بعلمه إذا لم يخف الظنون والتهم، وكان أمرا مشهورا؛ ولأنه

إذا جاز الحكم بشاهدين مع أنهما إنما يحصلان غلبة الظن، فما يجزم به أولى، وقد أجيب عن قضية أبي سفيان بأنها فتيا لا حكم، وإلا فكيف يحكم على الغائب مع إمكان حضوره؟ لا يقال: يجوز أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عالما بتعذر حضوره، لأنا نقول: ويجوز خلاف ذلك، فإذا هي واقعة عين. (والرواية الثالثة) : يجوز ذلك في غير الحدود لما تقدم، لا في الحدود لدرئها بالشبهة، وذلك شبهة. إذا تقرر هذا فلا فرق في ذلك بين ما سمعه قبل ولايته أو بعدها، ولا بين ما علمه في مجلس حكمه أو قبله، إلا أنه استثني من ذلك الحكم بالبينة في مجلسه بلا نزاع أعلمه، وكذلك الإقرار على منصوصه في رواية حرب المتقدمة، وهو الذي أورده الشيخان وأبو الخطاب مذهبا، لأن مجلس الحكم التهمة منتفية عنه غالبا، وطرد القاضي القاعدة في الإقرار، فقال: لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان، حذارا من الحكم بالعلم، واستثنى عامة الأصحاب الجرح والتعديل، فإنه يحكم بعلمه فيه، وإلا يتسلسل، فإن الشاهدين يحتاج إلى معرفة عدالتهما، فإذا لم يحكم بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين، ثم كل واحد منهما إلى مزكيين وتسلسل، وحكى ابن

نقض القاضي حكم غيره

حمدان في رعايتيه قولا بالمنع وهو مردود إن صح ما حكاه القرطبي، فإنه حكى اتفاق الكل على الجواز. (تنبيه) : الخلاف في جواز حكمه بعلمه ولا نزاع أنه لا يحكم بخلاف علمه و «ألحن» أي أفصح وأفطن، وقد جاء مفسرا في رواية أخرى قال: «فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض» أي أكثر بلاغة وإيضاحا لحجته، والله أعلم. [نقض القاضي حكم غيره] قال: ولا ينقض من حكم غيره إذا رفع إليه إلا ما خالف كتابا أو سنة، أو إجماعا. ش: لأن الواجب أن لا يعدل عن هذه الثلاثة مع وجودها، بدليل حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم. 3802 - وعن شريح أنه كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسأله، فكتب إليه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فيما قضى به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر

إلا خيرا لك، رواه النسائي، وإذا من خالف حكمه واحدا من الثلاثة فقد عدل عنها، فيرد قوله، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، ويرجح هذا أيضا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الآية. 3803 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ردوا الجهالات إلى السنة، وقول الخرقي: خالف كتابا أو سنة. مقيد بنصيهما، بخلاف ما إذا كانت المخالفة لظاهريهما، فإنه لا ينقض إذ الظواهر تختلف آراء المجتهدين فيها، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. 3804 - ولأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سوى بين الناس في العطاء، وأعطى العبيد، وخالفه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ففاضل بين الناس،

وخالفهما علي فسوى بين الناس، وحرم العبيد. ولم ينقض واحد ما فعله من قبله، وهذا إجماع أو كالإجماع من الصحابة على أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. والحكم في حكم نفسه كذلك، فإذا تبين له خطأ نفسه فإن كان لمخالفة نص كتاب أو سنة أو إجماع نقض حكمه، وإلا لم ينقضه. وعموم كلام الخرقي وغيره يقتضي النقض لمخالفة نص السنة وإن كانت آحادا، ونص عليه الإمام، وظاهر كلامه وكلام غيره أن حكم الحاكم وحكم غيره لا ينقض لمخالفة ما عدا هذه الثلاثة، وهو كذلك، واختار ابن حمدان النقض لمخالفة قياس جلي قطع فيه بنفي الفارق. وقول الخرقي: لا ينقض من حكم غيره إلى آخره، يشمل ما إذا كان الغير متوليا أو معزولا، يصلح للقضاء أو لا يصلح، وكذلك أطلق أبو بكر وابن عقيل، والشيرازي وابن البنا، ومنهم من صرح بالقبلية، وقال أبو الخطاب في الهداية: إذا كان من قبله لا يصلح للقضاء نقض أحكامه كلها وإن وافقت الصواب. وخالفه أبو محمد في المغني والكافي، واختار أنه لا ينقض الصواب منها لعدم الفائدة في ذلك، وإنما ينقض ما

اشتراط عدالة الشهود

خالف الحق منها، وإن لم يخالف واحدا من الثلاثة. ويتلخص فيمن هذه حاله ثلاثة أقوال. (النقض) مطلقا، (النقض) إن خالف الصواب، وإن لم يخالف واحدا من الثلاثة (حكمه حكم غيره) إن خالف حكمه واحدا من الثلاثة نقض وإلا فلا، وهو ظاهر كلام المجد، ويشهد له إطلاق الأكثرين. وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا يجب عليه تتبع قضايا من كان قبله، وصرح بذلك أبو محمد في كتابيه، وظاهر كلامه في المقنع - تبعا لأبي الخطاب في الهداية - الوجوب، وهو الذي أورده ابن حمدان في الكبرى مذهبا، والله أعلم. [اشتراط عدالة الشهود] [شهادة مستور الحال] قال: وإذا شهد عنده من لا يعرفه سأل عنه، فإن عدله اثنان قبل شهادته. ش: وضع هذه المسألة أن مستور الحال - وهو من عرف إسلامه وجهل حاله - هل تقبل شهادته؟ فيه روايتان مشهورتان (إحداهما) - وهي اختيار أبي بكر والخرقي فيما قاله القاضي في روايتيه، اعتمادا على قوله فيما بعد: والعدل من لم تظهر منه ريبة - تقبل شهادته في الجملة (والرواية الثانية) - وهي المذهب عند الأكثرين، القاضي وأصحابه، وأبي محمد والخرقي، فيما قاله أبو البركات، اعتمادا على لفظه هنا، وهو ظاهر - لا تقبل،

ومنشأ الخلاف أن العدالة هل هي شرط لقبول الشهادة، والشرط لا بد من تحقق وجوده، وإذا لا يقبل مستور الحال لعدم تحقق الشرط فيه، أو الفسق مانع فيقبل، إذ الأصل عدم الفسق، ويشهد للأول قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فوصف الشاهدين بعد كونهما من رجالنا - وهم المسلمون - بأن يكونا من الذين نرضاهم، فدل على اشتراط زيادة على الإسلام وهي العدالة، ويؤيد ذلك ويوضحه قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فأمر باستشهاد العدل، ومستور الحال لا تعلم عدالته، فلا يخرج من عهدة الأمر باستشهاده، ويشهد للثاني قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] أو (فتثبتوا) فأمر سبحانه بالتثبت أو بالتبين عند مجيء الفاسق، ومقتضاه أنه لا يتبين ولا يتثبت عند عدم الفسق، إذ الفسق هو السبب للتثبت، فإذا انتفى الفسق انتفى التثبت، إذ لا بقاء للمسبب عند انتفاء السبب. 3805 - وأيضا ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني رأيت الهلال. يعني رمضان، فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: نعم. قال: «أتشهد أن محمدا رسول

الله؟» قال: نعم. قال: «يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا» رواه الخمسة إلا أحمد فاكتفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمجرد إسلامه، وأجيب عن الحديث بأن الصحابة عدول، فلا حاجة إلى البحث عن عدالتهم، وعن الآية الكريمة بأنا نقول بموجبها، وأنه إذا انتفى الفسق انتفى التثبت، لكن إنما ينتفي الفسق بالخبرة به أو بالتزكية، فإن قيل: ينتفي بأن الأصل في المسلمين العدالة. قيل: لا نسلم هذا، إذ العدالة أمر زائد على الإسلام، ولو سلم هذا فمعارض بأن الغالب - لا سيما في زماننا هذا - الخروج عنها، وقد يلتزم أن الفسق مانع، ويقال: المانع لا بد من تحقق ظن عدمه كالصبي والكفر. إذا تقرر هذا فإذا عرف الحاكم عدالة الشاهد أو فسقه عمل على ذلك، كما أشار إليه الخرقي بقوله: من لا يعرفه. لما تقدم من أن الحاكم يحكم بعلمه في ذلك، وإن جهلهما فعلى الأولى إن كان مسلما قبل شهادته ما لم يظهر له منه ريبة، من غفلة أو غير ذلك، ولم يقدح فيه خصمه، فإن جهل إسلامه فلا بد من المعرفة به، وذلك إما بخبره عن نفسه بأنه مسلم، أو بإتيانه بما يصير به مسلما، وإما ببينة أو اعتراف من المشهود عليه، ولا

شهادة الفاسق

يكتفى بظاهر الدار. وإن جهل حريته حيث تعتبر فلا بد من معرفتها، إما ببينة، وإما باعتراف المشهود عليه، وهل يرجع إلى قول الشاهد في ذلك؟ فيه وجهان، الذي جزم به أبو محمد لا، إذ لا يملك أن يصير حرا، فلا يملك الإقرار بذلك، بخلاف الإسلام، وإن ارتاب، أو قدح فيه خصمه سأل عنه، كما يسأل عن عدالته على الرواية الثانية بلا ريب، وذلك بأن يكتب الحاكم ما يعرف به الشاهد في الجملة فيكتب اسمه وكنيته وحليته، ونسبه وصنعته، وسوقه ومسجده ومسكنه، ويكتب اسم المشهود له، [حذارا من أن يكون بينه وبين المشهود له ما يمنع قبول شهادته له، ويكتب المشهود عليه] حذارا من أن يكون بينه وبين الشاهد ما يمنع من قبول شهادته عليه، ويكتب قدر الدين، لأنهم قد يرون قبوله في اليسير دون الكثير، في رقاع، ويرفعها إلى أصحاب مسائله الذين يعرفونه بحال من جهل حاله، ثم إذا أخبره منهم اثنان بجرح أو تعديل اعتمد عليه، وهل يراعى في أصحاب مسائله شروط الشهادة بالجرح والتعديل والعدد، ولفظ الشهادة عند الحاكم أو في المسؤولين؟ على وجهين، والله أعلم. [شهادة الفاسق] قال: وإن عدله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى.

ش: لتضمن قول الجارح زيادة خفيت على المعدل، من محل محرم، أو شرب خمر ونحو ذلك، والأخذ بالزائد أولى، لأن المعدل قوله متضمن لنفي ما يقدح في العدالة، والجارح مثبت لذلك، ولا ريب أن المثبت مقدم على النافي، والخرقي إنما نص على ما إذا استوى عدد الجارحين والمعدلين، أما إن زاد عدد أحدهما على الآخر، كما إذا عدله اثنان وجرحه واحد وقبلناه، فالتعديل أولى، لأنها بينة تامة والعكس بالعكس بطريق الأولى، ولو عدله ثلاثة وجرحه اثنان وبينا السبب فالجرح أولى لما تقدم، ولو لم يبينا السبب وقبلنا ذلك فالتعديل أولى. تنبيهات (أحدها) هل يقبل في الجرح والتعديل قول عدل - وهو اختيار أبي بكر - بناء على أنه خبر، أو قول اثنين - وهو ظاهر قول الخرقي، واختيار القاضي وعامة الأصحاب - بناء على أنه شهادة؟ على روايتين وعليهما تنبني تزكية المرأة وتزكية الأعمى لمن لم يخبره قبل عماه بل بعده، وتزكية الوالد للولد ونحوه، والتزكية بدون لفظ الشهادة، وظاهر كلام أبي محمد اشتراط الذكورية ولفظ الشهادة عليها، (الثاني) لا يقبل التعديل إلا ممن له خبرة باطنة ومعرفة بالجرح والتعديل، غير

متهم بمعصية ولا غيرها. 3806 - ومعنى الخبرة الباطنة كما جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي بشاهدين فقال: لا أعرفكما، ولا يضركما أن لم أعرفكما، جيئا بمن يعرفكما؛ فأتيا برجل فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أتعرفهما؟ فقال: نعم. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صحبتهما في السفر الذي يتبين فيه جواهر الناس؟ قال: لا. قال: عاملتهما في الدراهم والدنانير الذي يقطع فيها الرحم؟ قال: لا. قال: كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا. قال يا ابن أخي لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما. وظاهر قول الأصحاب أن الحاكم لا يقبل تعديل المعدل حتى يعلم أو يظن أن له خبرة بالمعدل، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهذا هو أحد احتمالي أبي محمد (والثاني) أن معنى كلام الأصحاب أن

المعدل لا يجوز له التعديل إلا إذا كان ذا خبرة، أما الحاكم فله أن يقبل التعديل وإن لم يعرف حقيقة الحال، وله أن يستكشف كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (الثالث) يقبل التعديل المطلق، وصفته أن يقول: هو عدل رضي، أو عدل مقبول الشهادة؛ ولا يشترط أن يقول: علي ولي. ولا يكفي: لا أعلم منه إلا الخير. وهل يكفي: هو عدل. من غير بيان السبب؟ على وجهين، ظاهر كلام أبي محمد الجواز، وظاهر كلام أبي البركات المنع، وهل يقبل الجرح المطلق؟ فيه روايتان، المذهب منهما عدم القبول، وقيل: إن اتحد مذهب الجارح والحاكم، أو عرف أسباب الجرح قبل المطلق. وهو حسن، والمطلق أن يقول: هو فاسق، أو: ليس بعدل. والمبين أن يذكر قادحا في عدالته برؤية أو سماع منه، أو استفاضة عنه، هذا هو المشهور، وعن القاضي في خلافه، فالمبين أن يقول: هو فاسق ونحوه، والمطلق أن يقول: الله أعلم به. ونحوه. انتهى ولا يكفي قوله: بلغني عنه كذا. (الرابع) التزكية حق للشرع، يطلبها الحاكم وإن سكت عنها الخصم، وقيل بل حق للخصم، فلو أقر بها حكم عليه بدونها، وعلى الأول لا بد منها. والله أعلم.

اتخاذ القاضي كاتبا عدلا

[اتخاذ القاضي كاتبا عدلا] قال: ويكون كاتبه عدلا. ش: لا ريب في كون كاتب القاضي يكون عدلا، لأنها موضع أمانة، وقد لزم من اشتراط عدالته كونه مسلما، وهو كذلك. 3807 - لما يروى أن أبا موسى قدم على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعه كاتب نصراني، فأحضر أبو موسى شيئا من مكتوباته عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فاستحسنه وقال: قل لكاتبك يجيء فيقرأ كتابه. قال: إنه لا يدخل المسجد. قال: ولم؟ قال: إنه نصراني. فانتهره عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: لا تأمنوهم وقد خونهم الله، ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله. وفي رواية: أن أبا موسى قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن لي كاتبا نصرانيا، قال: مالك قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] . ويستحب أن يكون مع عدالته فقيها، ليعرف مواقع الألفاظ التي تتعلق بها الأحكام، وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز اتخاذ الكاتب وهو كذلك، بل يستحب، لأن الحاكم يكثر

حكم الهدية للقاضي

اشتغاله، فتتعذر عليه الكتابة بنفسه، وإن اشتغل بها ترك ما هو أهم منها. قال: وكذلك قاسمه. ش: لأنه أمينه، فاشترطت فيه العدالة كبقية أمنائه، ويشترط مع عدالته كونه حاسبا، لأنه عمله الذي هو مرصد له، فهو كالفقه للحاكم. [حكم الهدية للقاضي] قال: ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي له قبل ولايته. ش: لأن حدوث الهدية إذا دليل على أنها لأجل الولاية، توسلا إلى استمالة قلب الحاكم معه على خصمه، فأشبهت الرشوة. 3808 - ولهذا قال مسروق: إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت، وإذا قبل الرشوة بلغت به إلى الكفر.

3809 - والسحت قد فسره الحبر وسعيد بن جبير أنه الرشوة. 3810 - وعن كعب الأحبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قرأت في بعض كتب الله: الهدية تفقؤ عين الحاكم. قال ابن عقيل: معناه أن المحبة الحاصلة للمهدي إليه منعته من تحديق النظر إلى معرفة باطل المهدي. انتهى. 3811 - وشاهد هذا الحديث المرفوع «حبك الشيء يعمي ويصم» رواه

أحمد في مسنده. 3812 - وقد روي عن أبي حميد الساعدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «هدايا العمال غلول» رواه أحمد.

وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل التحريم، وصرح به غيره، وعن ابن عقيل الكراهة إذا لم يكن له حكومة، أما مع الحكومة فلا نزاع في التحريم. ومفهوم كلام الخرقي أنه يقبل هدية من كان يهدي إليه قبل ولايته، وهو كذلك، صرح به غير واحد، لأن ولايته ليست سببا لها. 3813 - وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عامل الزكاة «هلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدى إليه أم لا» فدل على أن الهدية متى لم يكن سببها الولاية جاز قبولها، قال القاضي: ويستحب له التنزه عنها، وصرح ابن حمدان بالكراهة، وهذا إن لم يكن له حكومة، أما مع الحكومة، أو مع توقعها فلا يجوز القبول بلا

عدل القاضي بين الخصمين

ريب، مع أن أبا بكر في التنبيه منع من الهدية وأطلق. وظاهر كلام الخرقي والأصحاب الاقتصار في الاستثناء على هذه الصورة، وفي الجامع الصغير: ينبغي ألا يقبل هدية إلا من صديق كان يلاطفه قبل ولايته، أو ذي رحم محرم منه، بعد أن لا يكون له خصم، وكأنه أناط المنع بالتهمة، ونفاه عند ظن عدمها. [عدل القاضي بين الخصمين] قال: ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه. ش: أي يدخلهما عليه معا، ولا يقدم أحدهما في الدخول، لئلا ينكسر قلب صاحبه، وربما كان ذلك سببا لعدم قيامه بحجته. 3814 - وقد روى عمر بن شيبة في كتاب قضاة البصرة بإسناده عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من يلي القضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه، وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر» » ، والله أعلم.

قال: والمجلس. ش: أي يجلسهما مجلسا واحدا لما تقدم، والأولى أن يكونا بين يديه. 3815 - لما روى «عبد الله بن الزبير قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم» . رواه أحمد وأبو داود. وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في ذلك بين المسلم والكافر، وهو أحد الوجهين. حذارا من انكسار قلبه المؤدي غالبا أو كثيرا لعدم قيامه بحجته، وإنه ظلم له (والوجه الثاني) يقدم المسلم على الكافر في الدخول، ويرفعه في الجلوس، لقوله سبحانه {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] الآية والذي في المغني أنه يجوز تقديم المسلم على الكافر في الجلوس. 3816 - لما روى إبراهيم التيمي قال: «وجد علي كرم الله وجهه درعه مع يهودي، فقال: درعي سقطت وقت كذا. فقال اليهودي: درعي وفي يدي، بيني وبينك قاضي المسلمين. فارتفعا إلى شريح، فلما رآه شريح قام من مجلسه، فأجلسه في موضعه،

وجلس مع اليهودي بين يديه، فقال علي: إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك، ولكن سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تساووهم في المجالس» . ذكره أبو نعيم في الحلية

وظاهر كلامه أنه يسوي بينهما في الدخول، وفي الرعاية قول بالعكس يقدمه ولا يرفعه، وإذا الأقوال أربعة. قال: والخطاب. ش: أي يسوي بينهما في الخطاب، فلا يرفع صوته على أحدهما دون صاحبه من غير سبب، وكذلك لا يسمع من أحدهما أو ينصت له دون الآخر لما تقدم. 3817 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء» رواه أحمد وأبو داود والترمذي. والله أعلم.

كتاب القاضي إلى القاضي

[كتاب القاضي إلى القاضي] قال: وإذا حكم على رجل في عمل غيره وكتب بإنفاذ القضاء عليه إلى قاضي ذلك البلد قبل كتابه، وأخذ المحكوم عليه بذلك الحق. ش: كتاب القاضي إلى القاضي مقبول في الجملة بالإجماع، ويرجحه مكاتبة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ملوك الأطراف كقيصر وكسرى وغيرهما. 3818 - وفي الصحيح «أنه كتب إلى قيصر «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى قيصر عظيم الروم أما بعد فأسلم تسلم أسلم يؤتك الله أجرا عظيما، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين و {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] الآية» ومكاتبة سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بلقيس، قال سبحانه حكاية عنها

{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ - إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ - أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 29 - 31] الآية. إذا تقرر هذا فاعلم أن كتاب القاضي إلى القاضي لا يقبل في حق الله تعالى كالحدود ونحوها، ويقبل في كل حق لآدمي يثبت بشاهدين أو بشاهد ويمين، أو شاهد وامرأتين، وهل يثبت فيما عدا ذلك؟ فيه ثلاث روايات (القبول مطلقا) ويحتمله إطلاق الخرقي (وعدمه مطلقا) وهو مختار كثير من أصحاب القاضي (والقبول إلا في الدماء) وحكم حد القذف، حكم الحدود، إن قيل المغلب فيه حق الله تعالى وإلا حكم الدماء. ثم الكتاب على ضربين (أحدهما) أن يكتب بما حكم به، وهو الذي ذكره الخرقي، وذلك بأن يحكم على رجل بحق فيغيب قبل إيفائه أو تقوم البينة على حاضر بحق فيهرب قبل الحكم عليه ويثبته، ويسأل الحاكم الحكم بذلك فيحكم به، ففي جميع ذلك متى سأل المحكوم له الحاكم أن يحكم بذلك وأن يكتب له كتابا بحكمه، فإنه يلزمه إجابته، ويلزم

المكتوب له قبول ذلك والعمل به، وإن قربت المسافة، فيؤخذ المحكوم عليه بذلك الحق، إن اعترف أنه المحكوم عليه، وإن أنكر أنه المسمى في الكتاب، ولم يقم المدعي عليه بينة بذلك فالقول قوله مع يمينه. (الضرب الثاني) أن يكتب بما ثبت عنده ليحكم به حاكم آخر، مثل أن تقوم عنده بينة بحق لشخص على شخص، فيسأله صاحب الحق أن يكتب له كتابا بما حصل عنده، فإنه يكتب له بذلك، قال القاضي: يكتب له: شهد عندي فلان وفلان بكذا. ليحكم به المكتوب إليه، ولا يقول: ثبت عندي. لأن قوله: ثبت عندي. حكم بشهادتهما، ولا يقبل هذا الكتاب إلا أن يكون بين الحاكمين مسافة القصر على المذهب، وبه قطع أبو محمد، وقيل: يقبل إذا لم يمكن الذاهب إليه بكرة أن يعود إليه عشية، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما ذكر إذا كتب إلى قاض معين، والحكم فيما إذا كتب إلى قاض مبهم كمن يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين - كذلك، والله أعلم. قال: ولا يقبل الكتاب إلا بشهادة عدلين يقولان: قرأه علينا، أو قرئ عليه بحضرتنا، فقال: اشهدا على أنه كتابي إلى فلان. ش: أما اشتراط شاهدين لقبول كتاب القاضي إلى القاضي فلا ريب فيه، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من أن ما ليس بمال،

ولا يقصد، منه المال، لا يقبل فيه إلا شاهدان، وأما صفة الشهادة فإنه يقرؤه عليهما، أو يقرؤه غيره بحضرتهما، ثم يقول: اشهدا علي أن هذا كتابي إلى فلان. وقال القاضي: يكفي أن يقول: هذا كتابي إلى فلان. من غير أن يقول: اشهدا علي. انتهى. ثم إذا وصلا إلى المكتوب إليه قالا. نشهد أن هذا كتاب فلان إليك، كتبه بقلمه وأشهدنا عليه بما فيه؛ ولو كتب كتابا وأدرجه وختمه، وقال: هذا كتابي إلى فلان اشهدا علي بما فيه. لم يصح على المذهب المشهور، وهو مقتضى قول الخرقي، لأن شهادته وقعت على ما فيه وأنه مجهول، وبنى أبو محمد ذلك على قول أحمد فيمن كتب وصيته وختمها وقال: اشهدا علي بما فيها. أنه لا يصح وخرج رواية أخرى بالصحة من قوله فيمن وجدت وصيته مكتوبة عند رأسه، وعرف خطه وكان مشهورا، أنه ينفذ ما فيها، وقد تقدم في الوصايا أن الأولى تقرير هذين النصين على بابهما، كما هو طريقة ابن حمدان، وأبو البركات قال هنا: وعنه ما يدل على الصحة، ولم يبين المأخذ، انتهى. فعلى هذه الرواية قال أبو محمد في المقنع: إذا عرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب وختمه جاز قبوله. وكذا قال

ابن حمدان وزاد قيل لا. وظاهر هذا أن على هذه الرواية يشترط لقبول الكتاب أن يعرف المكتوب إليه أنه خط القاضي الكاتب وختمه، وفيه نظر، وأشكل منه حكاية ابن حمدان قولا بالمنع، فإنه إذا تذهب فائدة الرواية، والذي ينبغي على هذه الرواية أن لا يشترط شيء من ذلك، وهو ظاهر كلام أبي البركات، وأبي محمد في المغني، نعم إذا قيل بهذه الرواية فهل يكتفي بالخط المجرد من غير شهادة؟ فيه وجهان حكاهما أبو البركات، وعلى هذا يحمل كلام ابن حمدان وغيره، انتهى. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يشترط ختم كتاب القاضي إلى القاضي، وهو كذلك. 3819 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كتب الكتاب إلى قيصر لم يختمه، فقيل له: إنه لا يقرأ كتابا غير مختوم، فاتخذ الخاتم، وهذا يدل على أن الختم ليس بشرط، وأنه إنما فعله لمصلحة، وهي قراءة الكتاب. (تنبيهان) (أحدهما) هل يشترط في الشاهدين أن يكونا عدلين عند المكتوب إليه، أو يكتفي بذلك عند الكاتب؟ فيه قولان حكاهما ابن حمدان (الثاني) جعل ابن حمدان من صور الروايتين إذا شهدا أن هذا كتاب فلان إليك من عمله، وجهلا ما فيه، والذي ينبغي قبول مثل هذه الشهادة، لانتفاء الجهالة عنها، وقصاراه أنها لم تفد فائدة، إذ ما في الكتاب لا يثبت بذلك، والله أعلم.

قال: ولا يقبل الترجمة عن أعجمي حاكم إليه إذا لم يعرف لسانه إلا من عدلين يعرفان لسانه. ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار عامة الأصحاب، بناء على إجراء ذلك مجرى الشهادة (والثانية) يقبل في ذلك عدل واحد، بناء على إجرائه مجرى الخبر، وهو اختيار أبي بكر. 3820 - وقد استشهد لذلك بما في حديث «زيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمره فتعلم كتاب اليهود، قال: حتى كتبت للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه» ، رواه البخاري وأحمد. 3821 - وقال البخاري: وقال أبو جمرة: كنت أترجم بين ابن عباس

وبين الناس فعلى هذا يشترط للمترجم ما يشترط للراوي من الإسلام والتكليف، والعدالة والضبط، كما هو معروف في موضعه، ولا تشترط الذكورية ولا الحرية، ولا الإتيان بلفظ الشهادة، وعلى الأولى الترجمة شهادة، يشترط فيها ما يشترط في الشهادة على الإقرار بذلك الحق الذي وقعت الترجمة فيه، ففي الحدود والقصاص تشترط الحرية على المشهور، وعدلان ذكران، وفي الزنا هل يكفي مع الحرية والذكورية اثنان، أو لا بد من أربعة؟ فيه وجهان من الروايتين في الإقرار بذلك، وفي غير ذلك وغير المال لا تشترط الحرية، ويكتفى بذكرين حرين، وفي المال يكفي رجل وامرأتان، ولا بد من لفظ الشهادة في جميع ذلك. (تنبيه) حكم التعريف والرسالة كذلك، والله أعلم. قال: وإذا عزل فقال: كنت قد حكمت في ولايتي لفلان على فلان بحق. قبل قوله، وأمضي ذلك الحق.

ش: هذا منصوص أحمد، وبه جزم القاضي في جامعه، وأبو الخطاب في خلافه، وابن عقيل في تذكرته وغيرهم، لأنه أخبر بما حكم به، وهو غير متهم، فأشبه ما لو أخبر بذلك حال ولايته، ولأنه لو لم يقبل ذلك منه لأفضى إلى ضياع حقوق كثير من الناس، وذلك ضرر وإنه منفي شرعا، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بأنه لا يقبل قوله، وعلله بأنه في حال ولايته لا يجوز حكمه بعلمه، فبعد عزله أولى، واستثنى أبو البركات من هذا الاحتمال ما كان على وجه الشهادة عن إقرار، فعلى هذا لو كان حكمه مستندا إلى بينة لم يشهد، لأنه شهادة على شهادة، ولم يتحقق وجود شرطها، واستثنى ابن حمدان منه ما إذا شهد مع غيره أن حاكما حكم به، ولم يذكر نفسه، وحكى قول أبي البركات قولا انتهى. وشرط القبول على المذهب أنه لا يتهم، ذكره أبو الخطاب وغيره. وقد فهم من كلام الخرقي أنه لو قال ذلك في حال ولايته قبل منه بطريق الأولى وهو كذلك، حتى مع التصريح أنه حكم بالنكول أو بعلمه، ونحو ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد (ومقتضى كلامه) أيضا أنه لو أخبر في حال ولايته بحكم في غير محل ولايته أنه يقبل منه، لأنه إذا قبل قوله بعد العزل فلأن يقبل

القضاء على الغائب

قوله مع بقائها في غير موضع ولايته أولى، وقال القاضي: لا يقبل إذا كانا جميعا في غير محل ولايتهما، أما إن اجتمعا في عمل أحدهما - كأن اجتمع قاضي دمشق وقاضي مصر في مصر - فإن قاضي مصر لا يعمل بخبر قاضي دمشق لإخباره في غير محل ولايته، وهل يعمل قاضي دمشق بما أخبره به قاضي مصر إذا رجع إلى دمشق؟ فيه وجهان بناء على حكم الحاكم بعلمه، وكأن الفرق ما يحصل من الضرر بترك قبول قوله ثم بخلاف هنا، ومال أبو محمد إلى الأول، ومن هنا قال إن قول القاضي في فروع المسألة يقتضي أن لا يقبل قوله فيها، والله أعلم. [القضاء على الغائب] قال: ويحكم على الغائب إذا صح الحق عليه. ش: القضاء على الغائب في الجملة هو المذهب المعروف المشهور، حذارا من دخول الضرر على صاحب الحق بضياع حقه، أو تأخره لا إلى أمد، واستدلالا بحديث هند، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» فقضى عليه مع غيبته، وفيه نظر، فإن أبا سفيان يجوز أن يكون حاضرا في البلد، ثم إنها لم تقم بينة على ذلك، والصواب في الحديث أنه ورد على سبيل الفتيا لها لا الحكم، والمعتمد عليه هو الأول، وأيضا فإن تعذر الوصول إلى إقرار الخصم يجعل للمدعى عليه سبيلا إلى إقامة البينة لفصل القضاء، كما لو حضر إلى مجلس

الحكم وامتنع من الكلام (وعن أحمد رواية أخرى) - واختارها ابن أبي موسى - لا يجوز القضاء على الغائب مطلقا، لما تقدم من «قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعلي كرم الله وجهه: «إذا جلس إليك خصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء» رواه أبو داود وغيره. وأجيب بأنا نقول بموجبه، فإن هذا فيما إذا كان الخصمان حاضرين، ولقائل أن يقول: الاستدلال بما أشار إليه في التعليل - وهو أن الحاكم إذا سمع من الخصم تبين له القضاء - ومقتضاه أنه إذا لم يسمع منهما لا يتبين له القضاء، وإذا كان أحدهما غائبا لم يسمع منه، ولا ممن يقوم مقامه وهو وكيله فلم يسمع منهما. والتفريع على الأول، وعليه فلا يحكم على الغائب إلا إذا صح الحق عنده وعليه، وصحته بأن تقوم به بينة، فلو لم يكن به بينة لم يحكم، بل ولا يسمع الدعوى، لعدم فائدتها، ومع قيام البينة هل يحلفه الحاكم على بقاء حقه على الغائب، وقال ابن حمدان في رعايتيه: إنه الأصح احتياطا للغائب لجواز الاستيفاء أو الإبراء ونحو ذلك، أو لا يحلفه - وهو اختيار أبي الخطاب، والشريف والشيرازي وغيرهم، ومن ثم قال أبو محمد في المغني: إنه المشهور، لإطلاق قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة على

المدعي، واليمين على من أنكر» وظاهره أنه لا شيء على المدعي غير البينة، كما أنه لا شيء على المنكر غير اليمين؟ على روايتين. ثم إذا قدم الغائب فهو على حجته، ويعتبر في الغيبة أن تكون إلى مسافة القصر فأزيد، قاله أبو محمد في الكافي، وابن حمدان في رعايتيه، وحكى في الكبرى قولا أن يكون فوق نصف يوم، والخرقي لم يحد ذلك بحد، وكذلك أبو الخطاب والشريف وأبو البركات وغيرهم، ويعتبر أيضا أن يكون في غير محل ولايته، أما لو كان غائبا بمكان في ولايته ولا حاكم فيه، فإن الحاكم يكتب إلى من يصلح للقضاء بالحكم بينهما، فإن تعذر فإلى ثقة بالصلح بينهما، فإن تعذر قال للمدعي: حقق دعواك. فإن فعل أحضر خصمه، وإن بعدت المسافة على المذهب، وقيل: يحضر من مسافة القصر فأقل، وقيل: إن جاء وعاد في يوم أحضر ولو قبل تحرير الدعوى، وحيث لم يلزم بالحضور فإنه يقضي عليه كمن في غير عمله، وإذا قضى على الغائب فإن كان في عين سلمت إلى المدعي، وفي دين يوفى من ماله إن وجد له مال. وفي أخذ كفيل بذلك من المدعي وجهان (أشهرهما) - وهو

ظاهر كلام أحمد - لا، ثم قال ابن البنا وأبو محمد وابن حمدان: إنما يقضي على الغائب في حقوق الآدميين، لا في حقوق الله كالزنا والسرقة، نعم في السرقة يقضي بالمال فقط، وفي حد القذف وجهان، بناء والله أعلم على أن المغلب فيه هل هو حق لله تعالى، أو حق لآدمي، ولم يقيد الخرقي وأبو الخطاب وأبو البركات وغيرهم القضاء بذلك انتهى. وحكم المستتر في البلد والميت، والصبي والمجنون حكم الغائب فيما تقدم - من الحكم على كل واحد منهم إذا ثبت الحق عليه، ومن حلف المدعي إن قيل به، ومن كون المستتر إذا ظهر، والصبي والمجنون إذا حكم برشدهما على حججهم، ومن أخذ كفيل بالمدعي، إنه قيل بذلك - حكم الغائب، إلا أن مقتضى كلام أبي الخطاب والشيخين وغيرهم عدم جريان الخلاف فيهم، وأجراه ابن حمدان في رعايتيه في المستتر. وقول الخرقي: يحكم على الغائب. مفهومه أنه لا يحكم على الحاضر، وهو يشمل الحاضر في البلد والحاضر في مجلس الحكم، ولا نزاع في الثاني، أما الأول فقيل - وهو مقتضى كلام أبي محمد في كتبه، وأحد احتمالي أبي الخطاب -: لا يسمع البينة ولا الدعوى عليه حتى يحضر، كالحاضر مجلس الحكم، وقيل يسمعان، وهو الاحتمال الآخر لأبي الخطاب، وقيل

يسمعان ولا يحكم عليه حتى يحضر؛ وهو اختيار أبو البركات، وقال: إن أبا طالب نقله عن أحمد، وكأنه أشار إلى رواية أبي طالب في رجل وجد غلامه عند رجل، فأقام البينة أنه غلامه، فقال الذي عنده الغلام: أودعني هذا رجل. فقال أحمد: أهل المدنية يقضون على الغائب، يقولون: إنه لهذا الذي أقام البينة، وهو مذهب حسن، وأهل البصرة يقضون على غائب يسمونه الإعذار، وهو إذا ادعى على رجل ألفا وأقام البينة، فاختفى المدعى عليه يرسل إلى بابه، فينادي الرسول ثلاثا، فإن جاء وإلا قد أعذر إليه، فهذا يقوي قول أهل المدينة، وهو معنى حسن، فلم ينكر أحمد سماع البينة ولا الدعوى، ثم إنه حكى قول أهل المدينة في القضاء على الغائب وأطلق وحسنه، وهو يشمل الغائب في البلد، وحكى قول أهل العراق في القضاء على غائب مختف، وجعله كالشاهد لقول أهل المدينة، فكأنه عنده محل وفاق. ومن هنا والله أعلم قال أبو البركات: إن الحاضر في البلد إذا امتنع من الحضور ألجئ إليه بالشرطة والتنفيذ إلى منزله مرارا، وإقعاد من يضيق عليه ببابه في دخوله وخروجه، أو ما يراه الحاكم من ذلك، فإن أصر على التغيب سمعت البينة وحكم بها عليه قولا واحدا، وتبعه ابن حمدان على ذلك فيما أظن [وفي المقنع أنه إذا امتنع من الحضور هل تسمع البينة ويحكم بها؟

حكم القسمة وكيفيتها

على روايتين] ، مع أنه قطع بجواز الحكم على الغائب وفيه نظر، وكلام القاضي وكثير من أصحابه محتمل لذلك، فإنهم قالوا واللفظ للقاضي في الجامع: يجوز القضاء على الغائب إذا أقام المدعي البينة بالحق، وكذلك إن كان حاضرا ممتنعا من حضور مجلس الحاكم في إحدى الروايتين، والأخرى لا يجوز، وهذا يحتمل أن يعود إليهما، ويحتمل عوده إلى الامتناع فقط، وعلى كل حال فهو مخالف لقول أبي البركات، والله أعلم. [حكم القسمة وكيفيتها] قال: وإذا أتاه شريكان في ربع أو نحوه فسألاه أن يقسمه بينهما قسمه وأثبت في القضية بذلك أن قسمته إياه بينهما كان عن إقرارهما، لا عن بينة شهدت لهما بملكهما. ش: الأصل في جواز القسمة في الجملة الإجماع، وقد شهد له قسم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خيبر على ثمانية عشر سهما، وقسمه الغنائم، وقوله «الشفعة فيما لم يقسم» ثم الحكمة تقتضي ذلك، إذ بالشركاء حاجة إلى ذلك، ليتمكن كل منهم من التصرف، في حقه بما شاء، ويتخلص من سوء المشاركة.

إذا ثبت ذلك فإذا أتى الحاكم اثنان أو أكثر فادعيا أنهما شريكان في ربع - وهو العقار من الدور ونحوها - أو نحوه، وهو ما عداه من الأموال وسألاه أن يقسمه بينهما، فإنه يقسمه بينهما وإن لم يثبت عنده ملكهما، اعتمادا على ظاهر أيديهما، ولهذا جاز شراؤه واتهابه منهما ونحو ذلك، وإذا قسمه أثبت في كتاب القسمة أن قسمته بينهما بسؤالهما، لا ببينة شهدت لهما، حذارا من أن يكون لغيرهما، وذكر الخرقي العقار لينبه على مذهب النعمان، فإن عنده أن الشريكين إذا نسبوا العقار إلى إرث لا بد وأن يثبت الموت والورثة، بخلاف غيره، والشافعي يعمم الثبوت في الجميع، والله أعلم. قال: ولو سأل أحدهما شريكه مقاسمته فامتنع الآخر أجبره الحاكم على ذلك، إذا ثبت عنده ملكهما، وكان مثله ينقسم، وينتفعان به مقسوما. ش: الأموال على ضربين (أحدهما) ما لا ضرر في قسمته ولا رد عوض، كأرض واسعة، ودكان كبيرة، وقرية وبستان، ومكيل أو موزون من جنس واحد، وإن مسته النار كدبس ونحوه، ومذروع متساوي الأجزاء والقيمة، فلا تنقص قيمته بقطعه ونحو ذلك، فهذا تجب قسمته إذا طلب أحد الشريكين ذلك، لتضمنه جلب مصلحة من تصرف كل واحد منهما في ماله بحسب اختياره، من غراس وبناء وإجارة وغير ذلك وزوال مفسدة، وهي ضرر الشركة، وإن مبنى الشريعة على ذلك.

واشترط الخرقي مع ذلك أن يثبت عند الحاكم ملكهما، وأقره أبو محمد على ذلك مريدا ببينة، ومعللا بأن الإجبار على القسمة حكم على الممتنع منهما، فلا يثبت إلا بما يثبت به الملك لخصمه، وفي هذا نظر، فإنهما إذا أقرا بالملك فينبغي أن يلزما بمقتضى إقرارهما، فيجبر الممتنع منهما على القسمة، كما لو قامت البينة بذلك، وقد أهمل هذا الشرط أبو الخطاب وأبو البركات، وابن حمدان في الصغرى، وألحقه بخطه في الكبرى، ويحتمل أن يكون مراد الخرقي بثبوت الملك ما هو أعم من البينة أو الإقرار، ويحترز عما إذا ادعى أحدهما الشركة وأنكر الآخر، وسكت غيره عن ذلك لوضوحه. (الضرب الثاني) ما في قسمته ضرر أو رد عوض، كدار صغيرة وحمام، أو طاحون كذلك، وأرض لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة، كبئر، أو بناء أو شجر في بعضها ونحو ذلك، وكعبد وسيف، فهذا ونحوه إذا رضي الشريكان بقسمته قسم، لأن الحق لهما لا يعدوهما، وإن امتنع أحدهما لم يجبر. 3822 - أما مع الضرر فلقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا ضرر ولا ضرار» رواه ابن ماجه، وفي لفظ: «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى أن لا ضرر ولا

إضرار» . وأما مع رد العوض فلأنه إذًا بيع، والبيع لا إجبار فيه والحال هذه، قال سبحانه {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] لا يقال: وفي عدم القسمة ضرر. لأنا نقول: يندفع ذلك بالبيع عليهما إذا طلب أحدهما ذلك، كما نص عليه أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في دابة مشتركة بينهما، وعممه غير واحد من الأصحاب في كل ما في قسمته ضرر، ويرشح ذلك أيضا بأن حق الشريك في نصف القيمة، لا قيمة النصف، انتهى. واختلف في الضرر المانع من القسمة (فعنه) - وهو ظاهر كلامه في رواية الميموني - هو أن تنقص القيمة بالقسمة، إذ مثل ذلك يعد ضررا، وإنه منفي شرعا (وعنه) - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد في العمدة - هو ما يتعذر معه انتفاع أحدهما بقسمه مفردا فيما كان ينتفع به مع الشركة، كدار صغيرة إذا قسمت حصل لكل واحد منهما موضع لا ينتفع به، قال أبو محمد: أو ينتفع به لا على وجه الدارية، بل على وجه المخزنية ونحو ذلك لأن كل واحد منهما دخل على الانتفاع بها

على وجه الدارية. ففي العدول إلى دون ذلك ضرر، وإنه منفي شرعا (فعلى الأول) إذا نقصت القيمة بالقسمة فلا إجبار، وإن انتفع بها فيما كان ينتفع به قبل (وعلى الثاني) الاعتبار بالنفع وإن لم تنقص القيمة، وظاهر كلام أحمد في رواية حنبل اعتبارهما، قال: كل قسمة فيها ضرر لا أرى قسمتها. (فإن كان الضرر على أحدهما دون الآخر، كرجلين لأحدهما الثلث، وللآخر الثلثان، يستضر صاحب الثلث بالقسمة، دون صاحب الثلثين (فعنه) - وهو ظاهر رواية حنبل المتقدمة، وبه جزم القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما والشيرازي - لا يجبر واحد منهما، إذ هذه القسمة لا تخلو من ضرر (وعنه) - وإليه ميل الشيخين - إن طلبها صاحب الثلث والحال هذه أجبر الآخر عليه، لأنه رضي بإدخال الضرر على نفسه، ولا ضرر على شريكه، وإن طلبها صاحب الثلثين لم يجبر الآخر، لما فيه من الضرر عليه، وحكي عن القاضي عكس ذلك في الصورتين وفيه بعد، انتهى. (تنبيه) حيث توقفت القسمة على التراضي فهي بيع بلا ريب، وحيث لم تتوقف عليه بل يجبر الممتنع عليها فهي إفراز، على المذهب المشهور المختار لعامة الأصحاب لأنها تنفرد عن البيع باسم وحكم، فلم تكن بيعا كسائر العقود، يحقق ذلك دخول الإجبار فيها مطلقا، وليس لنا نوع من البيع كذلك،

ووقع في تعاليق أبي حفص العكبري عن شيخه ابن بطة، أنه منع قسمة الثمار التي يجري فيها الربا خرصا وأخذ من هذا أنها عنده بيع، كما أخذ من نص أحمد على جواز الخرص في هذه الصورة أنها إفراز، وذلك لأنه يبذل نصيبه من أحد السهمين، بنصيب صاحبه من السهم الآخر، وهذا حقيقة المنع. وينبني على الخلاف فوائد (منها) جواز قسمة الثمار التي يجري فيها الربا بالخرص (ومنها) جواز قسمة المكيل وزنا والموزون كيلا (ومنها) التفرق قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض في المبيع (ومنها) إذا حلف لا يبيع فقسم أنه لا يحنث (ومنها) جواز قسمة العقار الموقوف أو بعضه، وعلى قول ابن بطة ينعكس جميع ذلك، ولو كان بعض العقار وقفا، وبعضه طلقا، واحتيج إلى رد عوض، فإنه يتوقف كما تقدم على التراضي، ثم إن كان العوض من صاحب الطلق لم يجز، لأنه يشتري بعض الوقف، وإنه ممتنع، وإن كان من رب الوقف جاز على الأصح، المقطوع به عند أبي محمد، وعلى كلا القولين لا يوجب شفعة، وينفسخ بالعيب، والله أعلم. قال: وإذا قسم طرحت السهام، فيصير لكل واحد ما وقع

سهمه عليه، إلا أن يتراضيا فيكون لكل واحد منهم ما رضي به. ش: أي وإذا أريد القسم طرحت السهام، ويصير لكل واحد من الشركاء ما وقع سهمه عليه، إذ القرعة دخلت لقطع التنازع، وبيان المستحق، وقد حصلت فوجب أن يترتب حكمها عليها، فإن تراضيا على أن يأخذ كل واحد سهما بغير قرعة جاز، لأن الحق لهما لا يتجاوزهما، ويكون اللزوم هنا بالتراضي والتفرق كالبيع. وظاهر كلام الخرقي يشمل كل قاسم، ونوعي القسمة، وكذلك تبعه على هذا الإطلاق أبو الخطاب في الهداية، وأبو البركات والشيرازي وابن البنا، وأبو محمد في المقنع، وزاد أبو الخطاب ومن تبعه قولا أنها لا تلزم فيما فيه رد؛ بخروج القرعة إلا بالرضا لأنها إذا بيع بعد القرعة، وعلى مقتضى هذا التعليل جميع قسمة التراضي لا تلزم إلا بالرضا، وفصل أبو محمد في المغني والكافي فقال في قاسم الحاكم في قسمة الإجبار: تلزم القسمة بخروج القرعة، إذ قرعة قاسم الحاكم كحكمه،

وفي قسمة التراضي وجهان (أحدهما) كالأول لما تقدم (والثاني) لا تلزم إلا بالتراضي، لأنها إذا بيع، وجعل حكم قاسمها حكم قاسم الحاكم إن كان بصفته، وإن كان كافرا، أو غير عارف بالقسمة ونحو ذلك لم تلزم القسمة إلا بتراضيهما، كما لو قسما بأنفسهما، وتبعه على ذلك ابن حمدان، وعلى هذا التفصيل كلام الخرقي ومن تبعه محمول على قاسم الحاكم. (تنبيه) كيفما أقرع جاز إلا أن الأولى عند الأصحاب أن يكتب اسم كل شريك في رقعة ثم تدرج في بنادق شمع أو طين متساوية، قدرا ووزنا، وتطرح في حجر رجل لم يحضر ذلك، ويقال له: أخرج بندقة على هذا السهم. فمن خرج اسمه كان له، ثم الثاني كذلك، والسهم الباقي للثالث إذا كانوا ثلاثة، واستوت سهامهم، ولو كتب اسم كل سهم في رقعة ثم قال: أخرج بندقة لفلان، وبندقة لفلان، وبندقة لفلان جاز، ولو كانت سهام الثلاثة مختلفة كنصف وثلث وسدس، جزئ المقسوم ستة أجزاء، وأخرج الأسماء على السهام لا غير، فيكتب باسم رب النصف ثلاث رقاع، ولرب الثلث رقعتين، ولرب السدس رقعة، ثم يخرج بندقة على أول سهم، فإن خرج عليه اسم رب النصف أخذه مع الثاني والثالث، وإن خرج اسم رب الثلث أخذه مع الثاني، ثم يقرع بين الآخرين كذلك، والباقي للثالث. والله سبحانه أعلم.

كتاب الشهادات

[كتاب الشهادات] ش: الشهادات جمع شهادة وهي الإخبار عما شوهد أو علم، ويلزم من ذلك اعتقاد ذلك، ومن ثم كذب الله المنافقين في قولهم لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1] لأن قلوبهم لم تواطئ ألسنتهم، والشهادة يلزم منها ذلك، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم، وإذا لم يصدق إطلاق نشهد. انتهى ومن ذلك قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] أي من حضر منكم الشهر، وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة: 6] أي محيط، فالأول من الحضور، والثاني من الإحاطة بالشيء، وهو أعم من الأول، واشتقاقها قيل: من المشاهدة، لأن الشاهد يخبر عما يشاهده وقيل لأن الشاهد بخبره يجعل الحاكم كالشاهد للمشهود عليه، وتجيء الشهادة بمعنى الخبر. 3823 - ومنه «قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: شهد عندي رجال

مرضيون، وأرضاهم عندي عمر، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب» ، ولا نزاع في مشروعية الشهادة والإشهاد، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] . 3824 - وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ألا أخبركم بخير الشهداء، الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها» رواه مسلم وغيره، في عدة أحاديث كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: ولا يقبل في الزنا إلا أربعة.

شروط الشاهد

ش: هذا إجماع ولله الحمد، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] وقَوْله تَعَالَى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] الآية، وحكم اللواط حكم الزنا، على أنه قد يدخل في اسم الزنا، وكذلك حكم من أتى البهيمة إن قلنا يحد وإن قلنا يعزر فهل يكتفى بشاهدين كبقية التعزيرات، أو لا بد من الأربعة؟ فيه وجهان. (تنبيه) حكم الشهادة على الإقرار بالزنا حكم الشهادة على المقر به وهو الزنا، لا يثبت إلا بأربعة في رواية، وفي أخرى حكم بقية الإقرارات، يثبت بشاهدين والله سبحانه أعلم. [شروط الشاهد] قال: رجال.

نصاب الشهادة

ش: فلا مدخل للنساء في ذلك، وهو قول العامة، اعتمادا على ظاهر الآية، فإن الله سبحانه خاطب الحكام بقوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] أي والله أعلم من جنسكم وصفتكم، وهم الرجال المسلمون، وإلا لاكتفى بقوله: أربعة ثم الآية الكريمة تقتضي الاجتزاء بأربعة، ومن أجاز شهادة النساء فأقل ما يجزئ عنده خمسة، ثلاثة رجال وامرأتان مقام رجل، وإنه خلاف ظاهر الآية الكريمة، والله أعلم. قال: أحرار. ش: فلا تقبل شهادة العبيد في ذلك، على المشهور من المذهب، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ذلك، والله أعلم. قال: مسلمين. ش: لما تقدم من الآية الكريمة، مع أن أبا محمد قد حكى ذلك إجماعا فقال: أجمعوا على أنه يشترط كونهم مسلمين، عدولا ظاهرا وباطنا، وسواء كان المشهود عليه ذميا أو مسلما، ومقتضى هذا اشتراط عدالة الباطن في ذلك بلا خلاف، والله أعلم. [نصاب الشهادة] قال: ولا يقبل فيما سوى الأموال مما يطلع عليه الرجال أقل من رجلين.

ش: أي عدا ما تقدم وهو الزنا، وقد شمل هذا أمورا (أحدها) الحدود والقصاص، ولا نزاع عندنا فيما نعلمه أنه لا يقبل في ذلك إلا شهادة رجلين، فلا مدخل للنساء في ذلك وهو قول العامة، لأن شهادة النساء فيها شبهة، لتطرق الخطأ والنسيان إليها، كما شهد له النص في قَوْله تَعَالَى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] وذلك مما يندرئ بالشبهة، فوجب ألا يقبل فيه ذلك، وقد تقدم الكلام في القصاص في كتاب الجراح، وتقدم فيه رواية أخرى أنه لا يقبل فيه إلا أربعة. (الثاني) من ادعى الفقر ليأخذ من الزكاة لم يقبل منه إلا بثلاثة، نص عليه أحمد في رواية علي بن سعيد. لحديث قبيصة الذي رواه مسلم وغيره قال فيه: «ورجل أصابته فاقة، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة» الحديث، والمذهب عند القاضي الاجتزاء في ذلك بشاهدين كغيره، وهو ظاهر إطلاق الخرقي، اعتمادا على {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ونحوه قال القاضي: وحديث قبيصة في حل المسألة لا في الإعسار (الأمر الثالث) معرفة الموضحة وداء الدابة ونحوهما، يقبل فيه طبيب واحد، وبيطار واحد، إذا لم يوجد غيره، نص عليه أحمد، نظرا للحاجة، ونحو هذا ما نقل عنه في رجل يوصي ولا يحضره

إلا النساء، قال: أجيز شهادة النساء، وكذلك نقل عنه أنه أجاز شهادة النساء على الجراح، وفي الحمام، وهو حسن. 3825 - ولعل شهادة خزيمة من هذا الباب، وعليه يحمل قول الإمام أحمد: لا يقبل أنه وصي حتى يشهد له رجلان أو رجل عدل. أي والله أعلم إذا لم يوجد غيره.

وظاهر كلام الخرقي وغيره أنه لا يقبل في جميع ذلك إلا رجلان، وقد صرح بذلك القاضي في الوصية، فقال: المذهب أن هذا لا يثبت إلا بشاهدين. (الرابع) ما عدا ما تقدم وما عدا المال وما يتعلق بالمال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، كالنكاح، والرجعة والولاء، والولاية والنسب، والتوكيل والإيصاء إليه في غير مال، فلا يقبل فيه على المذهب إلا رجلان، كما قال الخرقي، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] خرج منه المال ونحوه لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] لوروده في سياق المال، ففيما عداه يبقى على مقتضى الأمر، ولا يحسن إلحاق ما تقدم بالمال، إذ المال يسامح فيه، ما لا يسامح في النكاح ونحوه، ويكثر وقوعه بخلاف غيره، ونقل حرب عن أحمد: إذا تزوج بشهادة نسوة لم يجز، فإن كان معهن رجل فهو أهون. فأخذ من ذلك أبو البركات رواية أن النكاح

يثبت بشاهد وامرأتين، وكذلك الرجعة لأنها في معناه، دون ما تقدم، وأخذ القاضي روايتيه من هذا النص نحوه أن كل ما لا يسقط بالشبهة هل يثبت بشاهدين، أو شاهد ويمين الطالب؟ على روايتين، وحكى عنه أبو محمد أن النكاح وحقوقه من الرجعة، والطلاق والخلع لا يثبت إلا بشاهدين رواية واحدة، وما عدا ذلك يخرج على روايتين، وعلى هذا يتلخص في المذهب ثلاث طرائق، واتفقوا على أن المذهب أنه لا يقبل في الجميع إلا رجلان. قال: ولا يقبل في الأموال أقل من رجل وامرأتين أو رجل عدل مع يمين الطالب. ش: وذلك كالقرض والغصب، والديون كلها، وتسمية المهر، ودعوى رق مجهول النسب ونحو ذلك وذلك أما في الرجل والمرأتين فهو ولله الحمد إجماع، وقد شهد له قوله سبحانه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] الآية. 3826 - وأما في الشاهد واليمين فلما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى بيمين وشاهد» ، رواه أحمد ومسلم، وأبو

داود، وزاد: في الحقوق. ولأحمد في رواية: إنما كان ذلك في الأموال. 3827 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قضى باليمين مع الشاهد» ، رواه أحمد وابن ماجه والترمذي.

3828 - ولأحمد من حديث عمارة بن حزم، ومن حديث سعد بن عبادة مثله.

3829 - أبي داود والترمذي وغيرهما عن ربيعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، نحوه. 3830 - ولابن ماجه عن سرق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز

شهادة الرجل ويمين الطالب» . وهذه الأحاديث تنتهض لرتبة الاستفاضة، وزيادة أبي داود وأحمد في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تخرج ذلك عن أن تكون واقعة عين، وهو ظاهر بقية الأحاديث، وإذا يخصص عموم «ولكن اليمين على المدعى عليه» لا سيما وقد دخله التخصيص بدعاوى الأمناء المقبولة، وبالقسامة بالنص، وإذا يضعف على رأيهم، على أن الأصيلي قال: إنه لا يصح رفعه، وإنما هو من قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، لكن الأجود ثبوت رفعه، لرفع الإمامين البخاري ومسلم له، ولا يعارض ما تقدم الآية الكريمة، إذ ليس فيها تصريح بالحصر، ولذلك يثبت المال بنكول المطلوب منه وبيمين الطالب إجماعا ثم لو سلم ذلك فذلك زيادة

والزيادة على النص ليست بنسخ، على أنا نقول بموجب الآية الكريمة، إذ موجبها الأمر بمن يستشهد به في المعاملات، لا ما يقضى به عند الدعاوي والخصومات، وهذا واضح لا خفاء به. 3831 - ويؤيد ذلك ويرشحه أن هذا يروى عن الخلفاء الراشدين. وعن أبي بن كعب، ومعاوية، وشريح، وعمر بن عبد العزيز، وأنه كتب به إلى عماله.

وهو مذهب الفقهاء السبعة، وغيرهم، وكذلك قال مالك، وإنه ليكفي من ذلك ما مضى من السنة، وقال أحمد: مضت السنة أن يقضى باليمين مع الشاهد الواحد.

وحكم ما يقصد به المال من البيع والأجل والخيار فيه، والوصية لمعين أو الوقف عليه ونحو ذلك حكم المال، لأنه في معناه، وقد تقدم الخلاف في الجراح في الجناية الموجبة للمال فقط، كجناية الخطأ، هل تثبت بذلك أم لا تثبت إلا برجلين، وأن على القول بالثبوت ففيما إذا كان القود في بعضها كالهاشمة والمنقلة روايتان. (تنبيه) اختلف عن أحمد في العتق، والوكالة في المال، والإيصاء فيه ودعوى قتل الكافر لاستحقاق سلبه، ودعوى الأسير إسلاما سابقا لمنع رقه، هل يثبت بالشاهد واليمين، والرجل والمرأتين، لأن ذلك يؤول إلى طلب دعوى مال أو التصرف فيه، أو لا يثبت إلا برجلين، نظرا للحال الراهنة؟ على روايتين. انتهى. وقول الخرقي: ويمين الطالب، يدخل فيه وإن كان كافرا أو امرأة، وهو كذلك نص عليه أحمد، ويشهد له حديث سرق، وظاهر كلامه أنه لا يشترط أن يقول فيها: وأن شاهدي صادق في شهادته، وهو المذهب من القولين، وظاهر الأحاديث، وهل تقوم المرأتان واليمين مقام الرجل واليمين

لقيامهما مقامه فيما تقدم، أو لا نظرا لظاهر الأحاديث، ولأن شهادة المرأتين ضعيفة تَقَوَّتْ بالرجل، وقد عدم ذلك هنا؟ على قولين، المذهب منهما - وبه قطع أبو محمد في المغني - الثاني؛ والله أعلم. قال: ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاع، والولادة، والحيض والعدة، وما أشبهها شهادة امرأة عدل. ش: ما أشبهها كالحمل، وعيوب النساء تحت الثياب ونحو ذلك. 3832 - وذلك لما روي «عن عقبة بن الحارث - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. قال: فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعرض عني، قال: فتنحيت فذكرت ذلك للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «وكيف وقد زعمت أنها قد أرضعتكما» فنهاه عنها رواه البخاري وغيره، وفي رواية أخرى «دعها عنك» .

حكم الشهادة

3833 - وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال، رواه أحمد وسعيد. ونص الخرقي على الاكتفاء بامرأة واحدة، وهو إحدى الروايتين، واختيار القاضي وأبي بكر وغيرهما، لما تقدم، (والرواية الثانية) لا يكفي إلا امرأتان، لأن الرجال في غير ذلك أكمل منهن ولا يقبل منهم إلا رجلان، فكذلك النسوة. انتهى، وحكم الرجل في ذلك حكم المرأة، لأنه أكمل منها، وظاهر كلام الخرقي أن ضبط ذلك بما لا يطلع عليه الرجال، وكذا أبو البركات، وخص القاضي ذلك بخمسة أشياء. الولادة، والاستهلال، والرضاع، والعيوب تحت الثياب، والعدة، والله أعلم. [حكم الشهادة] قال: ومن لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد، لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك. ش: ظاهر هذا أن أداء الشهادة (فرض عين) في الجملة، وهو منصوص أحمد، قاله أبو البركات، وقال السامري: إنه ظاهر كلامه، وذلك لقوله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]

وقوله سبحانه: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ولأنها أمانة، فلزمه أداؤها كبقية الأمانات، ودليل القاعدة قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] الآية وقيل: بل أداؤها (فرض كفاية) ، وهذا ظاهر ما جزم به أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في الكافي والمغني، وحكاه ابن المنجا رواية، مستندا للفظ المقنع، فعلى هذا إذا كان المتحمل جماعة فالأداء متعلق بالجميع، فإذا قام به من يكفي منهم سقط عن الباقين، وإذا امتنع الكل أثموا، كسائر فروض الكفايات، وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه، كما لو لم يوجد في القرية إلا مؤذن واحد ونحو ذلك، ولو كان عبدا لم يكن لسيده منعه، من ذلك، كما لا يمنعه من صلاة الفرض فإن دعي بعضهم للفعل مع وجود غيره فهل يتعين عليه ذلك، بحيث يأثم إذا امتنع، نظرا للدعاء، أو لا يأثم، كما لو لم يدع؟ فيه وجهان، حكاهما في المغني، وفي ذلك بحث، فإن أدى شاهد وأبى الآخر، وقال: احلف أنت بدلي. فهل يأثم؟

فيه وجهان، وإنما يأثم الممتنع إذا لم يكن عليه ضرر كما سيأتي بيانه، أما على الأول فيتعين على كل من المتحملين القيام بالشهادة، كما يجب على جميع المكلفين بالصلاة القيام بها، وسواء كان المشهود عليه نسيبا أو غيره، وهو الذي عبر عنه الخرقي بالقريب والبعيد، ولكن تشترط القدرة على أدائها، كما صرح به الخرقي، فلو كان عاجزا عن أدائها لحبس أو مرض ونحو ذلك لم يلزمه، إذ جميع التكاليف ملحوظ فيها القدرة، ولا بد مع ذلك أن لا يلحقه ضرر، فإن كان يلحقه بأدائها ضرر في نفسه أو ماله لم يلزمه، لقول الله سبحانه {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] . على أن يكون مبنيا للمفعول. 3834 - كما صرح بذلك ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في قراءته حيث قرأ (ولا يضارر) بالفتح، ولكن يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل. 3835 - وقد صرح بذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقرأ (ولا يضارر)

بالكسر، فيخرج من هذا أن النهي إذا للشاهد عما يطلب منه أو عن التحريف والزيادة والنقصان، انتهى، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا ضرر ولا ضرار» ولأن القاعدة أن الإنسان لا يلزمه أن يضر نفسه لنفع غيره، ومن ثم قلنا: إذا عجز الشاهد عن المشي فأجرة المركوب والنفقة على رب الشهادة، كما قلنا في نفقة المحرم في الحج ونحوه، أنه على المرأة، وقلنا: إنما يلزمه الأداء إذا كان فيما دون مسافة القصر، إذ مسافة القصر فما زاد يلحق الضرر بالسعي إليه قال ابن حمدان وقيل: أو ما يرجع فيه إلى منزله ليومه، قلت: وإبدال أو هنا ببل أظهر. تنبيهان (أحدهما) الأداء يختص بمجلس الحكم. (الثاني) الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض لحكم التحمل، وهو فرض كفاية في الجملة، لأن الحاجة العامة تدعو إليه، فهو كالقضاء ونحوه، ثم هل ذلك مطلقا، وهو ظاهر إطلاق أبي محمد وغيره، ولذلك أورده ابن حمدان مذهبا مطلقا، أو يختص بالمال، وكل حق لآدمي، وبه قطع أبو البركات؟ فيه قولان، وقد تقدم التفريع

على القول بفرض الكفاية، والله أعلم. قال: وما أدركه من الفعل نظرا أو سمعه تيقنا، وإن لم ير المشهود عليه شهد به. ش: ملخص هذا أن ما عمله الشاهد شهد به، وما لا فلا، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] . قال علماء التفسير: من شهد بالحق وهو توحيد الله، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإيقان، وجوزوا في الاستثناء الانقطاع، على معنى: لكن من شهد بالحق. والاتصال، لأن من جملة ما يدعون من دون الله الملائكة، وقوله سبحانه: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] أي لا تتبع ما لا علم لك به. 3836 - وقد فسره ابن الحنفية بشهادة الزور.

3837 - وقد روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الشهادة قال: «ترى الشمس؟» قال: نعم. قال: «على مثلها فاشهد أو دع» رواه الخلال. إذا تقرر هذا فمدرك العلم الذي تحصل به الشهادة الرؤية بالبصر، والسماع بالسمع دون ما عداهما من مدارك العلم، وهو اللمس، والذوق، والشم، وقد أشار الله سبحانه إلى ذلك حيث قال: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] فخص سبحانه الثلاثة بالسؤال، لأن العلم بالفؤاد وهو القلب، ومستنده السمع والبصر، انتهى. فالرؤية تختص بالأفعال، كالقتل والغصب،

والسرقة والزنا، وشرب الخمر، والصفات المرئية كالعيوب في المبيع ونحو ذلك، والسماع ضربان سماع من جهة الاستفاضة وسيأتي وسماع من المشهود عليه، كالإقرار والعقود، والطلاق ونحو ذلك، ولا يعتبر في ذلك عندنا رؤية المشهود عليه، بل المعتبر تيقن صوت المشهود عليه، وقد شهد لذلك جواز رواية الأعمى، ورواية من روى عن أزواج رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من غير محارمهن، وقول الخرقي: شهد به. ظاهره اللزوم وهو يرشح أن مذهبه أن الأداء فرض عين، ثم كلامه يشمل وإن كان المشهود عليه غائبا، وهو كذلك إذا عرف المشهود عليه باسمه وعينه ونسبه، فإن لم يعرفه إلا بعينه لم يشهد عليه إلا بحضرته، نص عليه في رواية مهنا، وسأله عن رجل يشهد لرجل بحق له على رجل، وهو لا يعرف اسم هذا ولا اسم هذا، إلا أنه يشهد له فقال: إذا قال: أشهد أن لهذا على هذا، وهما شاهدان جميعا فلا بأس، وإذا كان غائبا فلا يشهد حتى يعرف اسمه. انتهى. وظاهر كلام أحمد الاكتفاء بمعرفة الاسم، وقد يقال إذا حصل به التمييز فلا حاجة إلى معرفة النسب والله أعلم.

قال: وما تظاهرت به الأخبار، واستقرت معرفته في قلبه شهد به، كالشهادة على النسب والولادة. ش: هذا أحد ضربي السماع، وهو ما يحصل من جهة الاستفاضة، والشهادة بها إجماع في الجملة، إذ يتعذر العلم غالبا بدونها، فلو وقفت الشهادة على الرؤية، أو السماع من المشهود عليه، لامتنعت الشهادة على كثير من الأشياء، وفي ذلك ضياع لكثير من الحقوق، وإنه لمناف لأصل وضع الشهادة، وفيه ضرر عظيم، وإنه منفي شرعا، قال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس عندنا من يشهد على أحباس أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا بالسماع إذا ثبت ذلك في الجملة فمحل ذلك اختلف العلماء فيه، بعد أن حصل إجماعهم - على ما قال أبو محمد - ولله الحمد على الصورتين اللتين ذكرهما الخرقي، فخص ذلك القاضي في الجامع وأظن وفي الخلاف الكبير، وأتباعه كالشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا في سبعة أشياء الملك المطلق، والوقف، والنكاح، والعتق، والولاء، والنسب والموت، وكأنهم أدخلوا الولادة في النسب لما تقدم من الإجماع، قال ابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا: وما عدا ذلك فلا بد من سماعه من المشهود عليه، وحكى أبو محمد عن الأصحاب أنهم زادوا

اشتراط العقل والإسلام والعدالة والبلوغ في الشاهد

على ذلك مصرف الوقف، والولاية والعزل، ونحوه في الكافي، ومقتضى كلامه في المقنع عدم حصر ذلك، بل ضبطه بما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك، ومثل له بما في المغني، وزاد الخلع تبعا للهداية، ثم قال: وما أشبه ذلك. وزاد عليه أبو البركات الطلاق، وقال فيه وفي الخلع: نص عليه. وكلامه محتمل للحصر وعدمه. إذا تقرر هذا فمن شرط الشهادة بالاستفاضة على ظاهر كلام الخرقي والإمام أن يستفيض ذلك، بحيث يسمعه من عدد يقع له العلم بخبرهم، لما تقدم من قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - على مثلها فاشهد أو دع ونحو ذلك، وقال القاضي في المجرد: يكفي أن يسمع من عدلين فصاعدا، ويسكن قلبه إلى خبرهما، لأن الحقوق تثبت باثنين، قال أبو البركات: والأصح أنه متى وثق بمن أخبره، وسكنت نفسه له فليشهد، وإلا فلا، ومقتضى هذا ولو أنه واحد، والله أعلم. [اشتراط العقل والإسلام والعدالة والبلوغ في الشاهد] قال: ومن لم يكن من الرجال والنساء عاقلا مسلما بالغا عدلا، لم تجز شهادته. ش: يشترط للشاهد - سواء كان رجلا أو امرأة - شروط (أحدها) العقل فلا تقبل شهادة منه ليس بعاقل إجماعا قاله ابن

المنذر، وسواء كان عدم عقله بجنون أو سكر، أو طفولية أو غير ذلك، إذ هؤلاء لا تحصل الثقة بهم، ولا يحصل لهم علم بما يشهدون به، فمعنى الشهادة منتف فيهم (الثاني) الإسلام، وهو - والله أعلم - إجماع في الجملة، لقول الله سبحانه {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] والكافر ليس بذي عدل، ولا هو من رجالنا، ولا هو ممن نرضاه، ثم من العلماء من عمم ذلك في كل شيء، ومنهم من استثنى صورة أو صورتين، ومذهبنا استثناء صورة بلا نزاع، وهي الوصية في السفر كما سيأتي، واختلف عن إمامنا في صورة ثانية وهي شهادة بعضهم على بعض، والمشهور عنه رواية الجماعة - قيل رواه عنه نحو عشرين نفسا - عدم القبول فلا استثناء لما تقدم.

3838 - ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة» رواه أهل السنن وهم أخون الخونة، ونقل عنه حنبل: تقبل شهادة بعضهم على بعض، كما يلي بعضهم على بعض.

3839 - ولما يروى «عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض» ، رواه ابن ماجه، وقد رد هذا لضعفه، والأول بأن مناط الولاية القرابة والشفقة، وذلك موجود فيهم، على أنا نمنع ذلك على وجه عندنا، وأجاز ذلك البرمكي في صورة خاصة للحاجة، وهي شهادة السبي بعضهم لبعض في النسب، إذا ادعى أحدهم أن الآخر أخوه، ولا نزاع عند الأصحاب أن المذهب الأول، وإنما اختلفوا في إثبات الخلاف، فابن حامد والقاضي وأصحابه على إثباته، والخلال خطأ حنبلا في ذلك ولم يثبته رواية، بناء على قاعدته في أن ما انفرد به حنبل عن الرواة لا يحكى رواية، وكذلك خطأه صاحبه عبد العزيز، وقال: إنه غلط لا شك فيه، ومال أبو محمد إلى قولهما، وقال: الظاهر الغلط. وبالجملة على هذا القول تعتبر عدالته في دينه، مع بقية شروط الشهادة، وهل يعتبر اتحاد الملة؟ فيه وجهان.

(تنبيه) الحاكون لهذه الرواية يقولون فيما رأيت: (وعنه) تقبل شهادة بعضهم على بعض. ومقتضاه أن شهادة بعضهم لبعض لا تقبل بلا نزاع (الشرط الثالث) البلوغ على المشهور من الروايات، والمختار للأصحاب، متقدميهم ومتأخريهم، لظاهر قوله سبحانه {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] والصبي ليس من الرجال، وقوله سبحانه: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] والصبي لا يرضى لعدم الثقة بقوله، إذ لا وازع له عن الكذب، وأيضا قوله سبحانه: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] والصبي لا يتعلق به مأثم، ولا ينهى نهي تأثيم، فدل على أنه لا مدخل له في الشهادة، ولأن من لا يقبل قوله على نفسه لا يقبل قوله على غيره كالمجنون (والرواية الثانية) يقبل ممن هو في حال أهل العدالة، لإمكان الضبط منه، ولهذا صح تحمله فأشبه البالغ، ثم إن ابن حامد على هذه الرواية استثنى الحدود والقصاص، فلم يقبل شهادته فيها احتياطا لذلك، وهل يكتفى بالعقل على هذه الرواية، وهو مقتضى نص أحمد في رواية حنبل، وقول القاضي في روايتيه،

وأبي البركات أو لا بد من بلوغ عشر سنين، وهو ظاهر منصوصه، في رواية ابن إبراهيم، وقول أبي محمد في المغني والكافي؟ على قولين (والرواية الثالثة) لا يقبل إلا في الجراح. 3840 - لأن ذلك يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولأن الحاجة داعية إلى ذلك، فأشبه شهادة النساء على الولادة، قال الشريف وأبو الخطاب: قال شيخنا: إذا جاءوا قبل أن يتفرقوا. أي عن الحالة التي تجارحوا عليها، فإن جاءوا بعد أن تفرقوا لم تقبل شهادتهم، لاحتمال أن يلقنوا، وظاهر كلام الشيخين أن هذا القيد من تمام الرواية، وقال القاضي في الجامع: أو يشهد على شهادتهم قبل أن يتفرقوا، وزاد ابن عقيل في التذكرة فيما إذا

وجد الجراح في الصحراء (الشرط الرابع) العدالة لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال سبحانه: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] أو (فتثبتوا) فأمر سبحانه بالتبين أو التثبت عند مجيء الفاسق. 3841 - وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت» رواه أحمد وأبو داود.

وكان أبو عبيد لا يراه خص بالخائن والخائنة أمانات الناس، بل جميع ما فرض الله تعالى على العباد القيام به، وهو حسن، ويؤيده قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: 72] الآية ولأن الثقة لا تحصل بقوله، لارتكابه محظور الدين، والكذب من جملته. 3842 - وما أحسن ما يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يؤسر رجل بغير العدول. ويتفرع على هذا عدم قبول شهادة

الفاسق، ثم هو على قسمين (فاسق من جهة الأفعال) وهو من ارتكب كبيرة كالزنا، أو شرب الخمر، أو قتل النفس التي حرم الله تعالى بغير الحق، أو الغيبة، أو النميمة، أو ترك الصلاة ونحو ذلك، أو أدمن على صغيرة، كنظرة محرمة، وسب بغير الزنا ونحو ذلك. (وفاسق من جهة الاعتقاد) وهو الذي يعتقد البدعة، كمن يذهب مذهب الرافضة الذين يسبون الصحابة، ويزعمون في علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه الأحق بالخلافة من أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ونحو ذلك، أو مذهب الجهمية القائلين بنفي غالب الصفات، ومن جملة ذلك الاستواء اللائق بذاته سبحانه وتعالى، أو مذهب المشبهة

المشبهين الله تعالى بخلقه، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وخرج أبو الخطاب رواية بقبول شهادة الفاسق من جهة الاعتقاد، إذ لم يتدين بالشهادة لموافقه على مخالفه، كالخطابية الذين يشهد بعضهم لبعض بتصديقه، من رواية قبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض، إذ لهم وازع عن الكذب، قال أبو محمد: وروي عن أحمد جواز الرواية عن القدري إذا لم يكن داعية، فكذلك الشهادة قلت: وهذا لعله لتخريج أبي الخطاب، ومن الفساق من فعل شيئا من الفروع المختلف فيها معتقدا للتحريم، كحنبلي أو شافعي نكح امرأة بغير ولي، أو شرب من النبيذ ما لم يسكره، ونحو ذلك على المذهب المنصوص، ولأبي الخطاب احتمال بقبول شهادته، لوقوع الخلاف في ذلك، أما من فعل من الفروع ما يعتقد إباحته،

كحنفي شرب من النبيذ ما لا يسكره، أو تزوج بلا ولي، وشافعي أخر الحج الواجب مع إمكانه، أو نكح نكاح تحليل ونحو ذلك، فهل يفسق وترد شهادته، وهو ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله في الحج، واختيار أبي بكر والشيرازي، أو لا يفسق، ولا ترد شهادته، وهو منصوصه في رواية صالح في شارب النبيذ، واختيار القاضي والشيخين؟ على قولين، ولعل مبناهما على أن كل مجتهد مصيب أو المصيب واحد. تنبيهات (أحدها) الكبيرة على نص أحمد ما فيها حد في الدنيا، كشرب الخمر، والزنا والسرقة، أو وعيد في الأخرى كاليمين الفاجرة، وأكل الربا، والغيبة، على الأشهر ونحو ذلك. (الثاني) بقي على الخرقي من شروط من تقبل شهادته شرطان (أحدهما) الحفظ، فلا تقبل شهادة مغفل، ولا معروف بكثرة الغلط والنسيان وسيأتي (الثاني) النطق، فلا تقبل شهادة

الأخرس، على المنصوص المجزوم به عند الأكثرين، وإن فهمت إشارته، لأن الشهادة يعتبر فيها التحقيق والتيقن، والإشارة فيها نوع احتمال، وقيل: - وأومأ إليه أحمد -: إنها تقبل من المفهوم إشارته، كما يصح لعانه إذا قلنا إنه شهادة ونحو ذلك، ويحتمل هذا كلام الخرقي، وتوقف الإمام فيما إذا أداها بخطه، وقال أبو بكر: لا تقبل، وهو (أحد احتمالي) القاضي، مفرقا بينهما وبين الطلاق ونحوه، بأن الطلاق له كناية فضعف، فلهذا وقع فيه بالكناية، والشهادة ليس لها إلا صريح، فقويت فلم تدخلها الكناية، (والاحتمال الثاني) - وهو اختيار أبي البركات - تقبل، إذ الكناية عندنا بمنزلة الصريح على أصح الروايتين وأشهرهما، ولذلك صح نكاح القادر على النطق بها على المذهب (الثالث) قد يقال: إن ظاهر كلام الخرقي قبول شهادة البدوي على من هو من أهل القرية كالعكس، وهذا اختيار أبي الخطاب في الهداية، وإليه ميل أبي محمد، لدخوله في العمومات، والذي قطع به القاضي في الجامع، وأظن وفي التعليق، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وغيرهم عدم القبول. 3843 - لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يقول: «لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية» رواه أبو داود وابن

تعريف العدالة

ماجه، وعلل ذلك أبو عبيد بما فيه من الجفاء في حقوق الله تعالى، والله أعلم. [تعريف العدالة] قال: والعدل من لم تظهر منه ريبة. ش: من هنا أخذ القاضي وغيره أن مذهب الخرقي قبول مستور الحال، لعدم ظهور الريبة منه، وليس بالبين، لما تقدم له من أنه إذا شهد عنده من لم يعرف حاله سأل عنه، فدل على أن كلامه هنا فيمن عرف حاله. إذا تقرر هذا فالعدل هو الذي تعتدل أحواله وأقواله، وأصله في اللغة الاستقامة، والاعتدال ضد الاعوجاج، والريبة التهمة، فمتى ظهرت منه تهمة لم يعتدل، لكن قد يقال: إن ظاهر هذا أن مجرد التهمة ولو بصغيرة تخرجه عن العدالة، والمشهور خلاف هذا، وأن العدالة يعتبر لها شيئان (أحدهما) الصلاح في الدين، وهو أداء الفرائض - كالصلاة، والزكاة ونحو ذلك،

وقد نص أحمد على رد شهادة من لم يؤد الزكاة - واجتناب المحارم، وقد ضبط ذلك بأنه لا يرتكب كبيرة - وقد تقدم تفسيرها، لأن الله سبحانه نهى أن تقبل شهادة القاذف، فيقاس على ذلك كل من ارتكب كبيرة، وقد نص أحمد على رد شهادة آكل الربا، والعاق وقاطع الرحم، ومن أخرج أسطوانة أو كنيفا في طريق المسلمين، وكذلك من ورث ذلك حتى يرد ما أخذ من الطريق - ولا يدمن على صغيرة، كإدمان نظرة محرمة ونحو ذلك، وقد اختلف عن أحمد في رد الشهادة بالكذبة الواحدة، ولعل ذلك للتردد في أنها هل هي صغيرة أو كبيرة. 3844 - واستدل أحمد للمنع بأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رد شهادة رجل في كذبة» وجعل ابن حمدان الروايتين في الكذب، وأورد ذلك مذهبا، وفيه نظر، ولا يمنع مجرد وجود الصغيرة، لقول الله سبحانه {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] قيل:

المراد الصغائر (الشيء الثاني) المروءة، وهي اجتناب الأمور الدنيئة، التي تزري به كالأكل في السوق، كأن ينصب مائدة ويأكل عليها، ولا يضر أكل الشيء اليسير كالكسرة، ونحوها أو كأن يكشف ما جرت العادة بتغطيته من يديه، أو يمد رجليه في مجمع الناس، أو يتمسخر بما يضحك الناس به، أو يخاطب امرأته أو سريته بحضرة الناس بالخطاب الفاحش، أو يحدث الناس بمباضعته لهما، ونحو ذلك من الأفعال الدنيئة التي يجتنبها ذوو المروءات، وإنما اعتبر ذلك في الشهادة وإن لم يكن حراما، لأن مرتكبه لا تحصل الثقة بقوله، لأن من فعل ذلك لا يمتنع غالبا من الكذب ونحوه، ومن ثم قلنا: من داوم على ترك السنن الراتبة ردت شهادته لا لارتكابه محرما، بل لأن من هذه حاله لا يؤمن أن يترك شيئا من الفرائض. 3845 - وقد روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت» أي من لم يستح

شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر

صنع ما شاء، واختلف في الصنائع الدنيئة هل مرتكبها مخل بالمروءة كالزبال، والحجام، والحائك، والحارس ونحوهم، على وجهين المشهور منهما لا، لكن لا يقبل مستور الحال منهم وإن قبل من غيرهم، وهذا المكان يحتاج إلى بسط لا يليق بهذا المختصر، والله أعلم. [شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر] قال: وتجوز شهادة الكفار من أهل الكتاب في الوصية في السفر، إذا لم يكن غيرهم. ش: الأصل في ذلك قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} [المائدة: 106] الآية وهذا ظاهر في ذلك. 3846 - ثم قد زاده إيضاحا بحيث صيره نصا ما روي «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري، وعدي بن بداء، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم، فلما قدموا بتركته فقدوا جاما من فضة، مخوصا بذهب، فأحلفهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم وجدوا الجام بمكة فقالوا: ابتعناه من تميم

الداري، وعدي بن بداء، فقام رجلان من أوليائه فحلفا: لشهادتنا أحق من شهادتهما. وأن الجام لصاحبهم، قال: وفيهم نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] » رواه البخاري وأبو داود فقد وافق قضاء الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الآية الكريمة، ثم إن الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قضوا بذلك، فدل على بقاء الحكم بعد وفاته. 3847 - «فعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه، ولم يجد أحدا من المسلمين، يشهده على وصيته، فأشهد رجلين من أهل الكتاب، فقدما الكوفة فأتيا الأشعري يعني أبا موسى، فأخبراه وقدما بتركته ووصيته، فقال الأشعري: هذا أمر

لم يكن بعد أن كان في عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأحلفهما بعد العصر ما خانا ولا كذبا، ولا بد لا ولا كتما، ولا غيرا، وأنها لوصية الرجل وتركته، وأمضى شهادتهما» . رواه أبو داود. 3848 - وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قضى بذلك في زمان عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه أبو عبيد في الناسخ والمنسوخ، وقد تبين بمجموع هذا (رد قول من زعم) أن المراد {مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] أي من غير عشيرتكم، (وقول من زعم) أن المراد بالشهادة الحضور، كما في قوله {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ويكون المعنى فليحضر اثنان، أي يوصي إليهما في هذه الحالة، تأكيدا أو نحو ذلك، (وقول من زعم) أن المراد بالشهادة اليمين، كما في آية

اللعان أيضا، وأبعد من هذه الأقوال (من زعم) نسخ الآية [الكريمة، إذ لا دليل على ذلك، مع أن السلف عملت عليه، ومن ثم أخذ أكثر السلف بظاهر الآية] قال ابن المنذر: به قال أكابر الماضين. والظاهر أن الأئمة لو بلغتهم الأحاديث لأكدت عندهم ظاهرا الآية، ولم يعدلوا عنها، قال أحمد: أهل المدينة ليس عندهم حديث أبي موسى، من أن يعرفونه؟ إذا تقرر هذا (فشرط الخرقي) لشهادة الكفار والحال ما تقدم أن يكونوا من أهل الكتاب، وهو المشهور من الروايتين، لأن الأحاديث التي وردت في ذلك إنما وردت في أهل الكتاب، ولا يحسن إلحاق غيرهم بهم (والرواية الثانية) لا يشترط ذلك، تمسكا بإطلاق الآية الكريمة، ونظرا لحال العذر، وقيل (يشترط) مع كونهم من أهل الكتاب أن يكون لهم ذمة وليس بشيء، (ويشترط) أيضا أن لا يوجد غيرهم، وهو كذلك كما في الأحاديث، وكما أومأت إليه الآية الكريمة (ويشترط) أيضا أن يحضر الموصي الموت، كما في الآية والأحاديث، وعموم كلامه يشمل الوصية من المسلم والكافر وهو كذلك.

موانع قبول الشهادة

إذا تقرر هذا فيحلف الحاكم الشاهدين من الكفار، إذا شهدا في الوصية كما تقدم، بعد العصر: ما خانا ولا كذبا ولا حرفا، وإنها لوصية الرجل. وهل ذلك على سبيل الوجوب - وهو الأشهر - أو الاستحباب؟ على وجهين، ثم إن اطلع على أنهما استوجبا إثما لخيانتهما وأيمانهما الكاذبة، قام رجلان من أولياء الموصي، فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما، ويقضي لهم اقتداء بالآية الكريمة والله أعلم. قال: ولا تجوز شهادتهم في غير ذلك. ش: قد تقدم ذلك عن قرب، والخلاف في شهادة بعضهم على بعض، فلا حاجة إلى إعادته. [موانع قبول الشهادة] قال: ولا تقبل شهادة خصم. ش: لما فرغ الخرقي من شروط الشهادات، شرع يتكلم في موانعها وقوله: خصم. (يحتمل) : أن يريد به العدو، وهو الظاهر، فلا تقبل شهادة القاذف على من قذفه، أو من قطع عليه الطريق على القاطع، ونحو ذلك، لما تقدم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت» والقانع الذي ينفق عليه أهل

البيت، رواه أحمد وهذا لفظه، وأبو داود والغمر الحقد، ولأن العداوة تورث تهمة شديدة، فمنعت الشهادة كالقرابة القريبة، ولا ترد قبول شهادة الكفار في الوصية، لأن الشارع استثنى ذلك للحاجة الداعية إليه، وأبو محمد أجاب بأن العداوة ثم دينية، والدين يمنع شهادة الزور، ومقتضى تعليله قبول شهادة الكفار مطلقا، ويرد عليه أن البدعي لا تقبل شهادته على السني، بخلاف العكس، وإن كانت العداوة دينية تمنع شهادة الزور. ويحتمل أن يريد كل خصم فيدخل فيه من خاصم في حق، كالوكيل أو الوصي، لا تقبل شهادته فيما هو وكيل أو وصي فيه، وكالشريك أو المضارب، لا تقبل شهادته فيما هو شريك أو مضارب فيه، وذلك لأنه يشهد لنفسه فأشبه المالك. واعلم أن إطلاق الخرقي غير مراد، إذ شهادة العدو تقبل لعدوه، لانتفاء التهمة، إنما الممتنع شهادته عليه، وكذلك شهادة الوكيل أو الوصي تقبل في غير ما هو وصي أو وكيل فيه، وكذلك الشريك والمضارب تقبل شهادتهم في غير مال الشركة والمضاربة.

تنبيهان (أحدهما) شرط العداوة أن تكون ظاهرة، وأن تكون لغير الله، كذا قيده ابن حمدان (الثاني) لو كان القذف في حال الشهادة، كمن شهد على رجل بحق، وقذفه المشهود عليه، لم ترد شهادته بذلك، لئلا يتخذ ذلك وسيلة في إبطال الشهادات والحقوق، والله أعلم. قال: ولا جار إلى نفسه نفعا. ش: أي نفعا بشهادته، كشهادة الغرماء للمفلس المحجور عليه، أو للميت بمال، لأن حقوقهم تتعلق بذلك لو ثبت، وخرج قبل الحجر لأن الحق متعلق بالذمة، لا يقال: تتوجه المطالبة إذا لأنا نقول: المطالبة لليسار، مع أن ابن حمدان اختار في الكبرى الرد والحال هذه، لأن توجه المطالبة تهمة تصلح لرد الشهادة. انتهى. ومن ذلك شهادة أحد الشريكين بعفو الآخر عن شفعته، وشهادة السيد لعبده المأذون له في التجارة، أو لمكاتبه، والأجير لمستأجره فيما استأجر فيه نص عليه، والوارث لمورثه بجرح قبل الاندمال، ونحو ذلك، لما في ذلك كله من التهمة المانعة من قبول الشهادة. 3849 - وقد روي عن الزهري قال: مضت السنة في الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين، والظنين المتهم.

3850 - «وعن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن لا شهادة لخصم ولا ظنين» . والاعتبار بالوارث حال الموت، كما في الوصية، وفي شهادة الوارث لمورثه في مرضه بدين وجهان، والقبول قطع به أبو محمد، وفرق بينه وبين ما تقدم، لأن منع الشهادة للجرح كان لاحتمال إفضائه إلى الموت، فتجب الدية للوارث الشاهد ابتداء، فيكون شاهدا لنفسه، وهنا الحق إنما يجب للمشهود له ثم يجوز أن ينتقل، ويجوز أن لا ينتقل، قلت: وعلى هذا الفرق ينبغي أن يخرج في الشهادة بالجرح خلاف، بناء على أن الشهادة هل تجب للمجروح ابتداء أو للورثة، انتهى. ثم على القول بالقبول متى حكم بها لم يتغير الحكم بالموت بعده، والله أعلم.

قال: ولا دافع عنها. ش: أي دافع عن نفسه ضررا، كأن يشهد المشهود عليه بجرح الشهود، أو العاقلة بجرح شهود قتل غير العمد، لأنهم يدفعون بذلك الدية عن أنفسهم، وقيل: إن كان الشاهد منهم فقيرا أو بعيدا قبلت شهادته، لانتفاء التهمة في الحال الراهنة، وكذلك شهادة الضامن للمضمون عنه بقضاء الحق، أو الإبراء منه ونحو ذلك، لما في ذلك من التهمة المخلة بالثقة من الشاهد، والله أعلم. قال: ولا تجوز شهادة من يعرف بكثرة الغلط والغفلة. ش: قد تقدم أن هذا أحد شروط الشهادة، لأن من كان كذلك لا تحصل الثقة بقوله، ولهذا لم تقبل روايته، قال ابن حمدان: إلا في أمر جلي مع بحث الحاكم عنه. انتهى. وتقييده بكثرة الغلط يحترز عن قليله، إذ أحد لا يسلم من ذلك، وإنما تتفاوت مراتب الناس فيه، ولا شك أن كثرة غلطه تخل بغلبة ظن صدقه ومقتضى قول الخرقي وغيره أنه لو تساوى حاله أو تقارب قبل قوله، وكلام أبي محمد في المغني يحتمل خلاف هذا، لأنه قال: ولا يمنع من الشهادة وجود غلط نادر، أو غفلة نادرة، والله أعلم.

قال: وتجوز شهادة الأعمى إذا تيقن الصوت. ش: لعموم: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ونحو ذلك، وكما في روايته وفي شهادته بالاستفاضة، مع أنه لا بد أن يسمعها من عدلين، ولا بد من معرفتهما، ليعرف عدالتهما، ودعوى عدم تيقن الصوت ممنوع، إذ قد يكون المشهود عليه ممن ألفه الأعمى، وكثرت صحبته له، فيعرف صوته يقينا. 3851 - ولهذا قال قتادة: للسمع قيافة كقيافة البصر. وقد أشعر كلام الخرقي أنه لا تجوز شهادة الأعمى على الأفعال، وهو كذلك، لعدم آلة ذلك منه، نعم لو تحمل الشهادة على ذلك قبل العمى جاز أن يشهد به بعده، إذا عرف المشهود عليه باسمه ونسبه، وكذلك إن لم يعرفه بذلك، بل تيقن صوته، قاله في المغني فإن لم يعرفه إلا بعينه فوصفه فهل تقبل لقيام الصفة مقام المشاهدة، وهو قول القاضي، أو لا تقبل لعدم ضبط ذلك غالبا؟ فيه وجهان، ولعل لهما التفاتا إلى القولين في السلم

في الحيوان وقد تقدم، والله أعلم. قال: ولا تجوز شهادة الوالدين وإن علوا للولد وإن سفل. ش: وسواء في ذلك ولد البنين، وولد البنات، لما في ذلك من التهمة المانعة كما تقدم ولأن بينهما بعضية، فكأنه شهد لنفسه. 3852 - قال: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها» ولأنه إذا شهد له في المال ونحوه كأنه شهد لنفسه، لأن ماله كماله، بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «أنت ومالك لأبيك» (وفي المذهب) رواية أخرى بالقبول، قال الجمهور: فيما لا يجر به نفعا غالبا، نحو أن يشهد أحدهما لصاحبه بعقد نكاح، أو قذف، قال القاضي وأصحابه، وأبو محمد في المغني: أو مال، وهو مستغن عنه، لانتفاء التهمة غالبا، وأطلق القبول في الكافي، فإن ثبت الإطلاق فمستنده العمومات، ولا ريب أن المذهب على كل حال الأول.

قال: ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا. ش: الخلاف في شهادة الولد لهما كالخلاف في شهادتهما له، والمذهب هنا كالمذهب ثم، إلا أن التهمة في شهادة الولد للوالد أخف من العكس، فلهذا (عن أحمد رواية ثالثة) تقبل شهادة الولد لهما، ولا تقبل شهادتهما له، وعللها بأن مال الابن لأبيه، بخلاف مال الأب، فإنه لا يضاف إلى ابنه، وقول الخرقي: ولا تجوز شهادة الوالدين إلى آخره، مقتضاه أن شهادة أحدهما على صاحبه تقبل، وهو المذهب بلا ريب، حتى إن أبا البركات جزم بذلك، إذ شهادته له إنما ردت للتهمة، ولا تهمة في شهادته عليه، وقد قال سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] فأمر سبحانه بالشهادة عليهم، ولو لم تقبل لما كان في الشهادة عليهم فائدة، وحكى القاضي في المجرد رواية أخرى - وقال في الروايتين: نقلها مهنا - لا تقبل كما في الشهادة له، جعلا له كالفاسق. تنبيه: الولد هنا والوالد المراد بهما من النسب، لا من الرضاع والزنا، والله أعلم. قال: ولا السيد لعبده. ش: لأن العبد له، فشهادته له شهادة لنفسه في الحقيقة.

قال: ولا العبد لسيده. ش: لأنه متهم، وقد دخل في كلامه المكاتب لا تجوز شهادته لسيده، لأنه عبد له. قال: ولا الزوج لامرأته، ولا المرأة لزوجها. ش: هذا هو المذهب المشهور، المجزوم به عند الأكثرين، لتبسط كل منهما في مال الآخر عادة، فأشبه الولد مع الوالد وبالعكس، ولهذا أضيف مال أحدهما إلى الآخر، قال سبحانه وتعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] وقال {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] فأضاف البيوت إليهن تارة، وإلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخرى، (وعن أحمد) - رَحِمَهُ اللَّهُ - رواية أخرى: تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه، تمسكا بالعمومات، وقد خرج من كلام الخرقي شهادة أحدهما على صاحبه، فتقبل بلا خلاف، وهو أمثل الطريقتين، والطريقة الثانية في ذلك الخلاف أيضا، والله أعلم. قال: وشهادة الأخ لأخيه جائزة. ش: للعمومات، ولا يصح إلحاقه بالوالد والولد،

لضعف التهمة في حقه أو انتفائها، وقد علم من كلام الخرقي قبول شهادة كل قريب ما عدا الوالدين والمولودين بطريق الأولى، وكذلك الأجنبي، وإن كان صديقا ملاطفا، على الأشهر المقطوع به عند الشيخين وغيرهما. قال: وتجوز شهادة العبد في كل شيء إلا في الحدود. ش: مذهبنا قبول شهادة العبد في كل شيء ما عدا الحدود والقصاص، لأنه منا ومن رجالنا، وممن نرضاه، ومن ذوي العدل، فدخل في الآيات الكريمات، وكما في روايته وفتياه، وأخباره الدينية. 3853 - وفي الصحيح «عن عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت أمة سوداء فقالت: قد أرضعتكما. فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «كيف وقد زعمت» وفي رواية: فنهاه عنها، وفي رواية «دعها عنك» ودعوى أنه لا مروءة له ممنوع، بل هو كالحر، ينقسم إلى من له مروءة ومن لا مروءة له، وقد كان كثير من سلف هذه الأمة وعلمائها وصالحيها موالي، ولم يحدث فيهم بالإعتاق إلا الحرية والحرية لا تحدث علما ولا

دينا، واختلف في الحدود والقصاص (فعنه) تقبل فيهما أيضا، وهو اختيار القاضي يعقوب، وإليه ميل ابن عقيل في التذكرة، فإنه قال: لي عن أحمد منع في الحدود، وذلك لما تقدم من العمومات (وعنه) لا تقبل، لما في شهادته من الخلاف، إذ كثير من الفقهاء أو أكثرهم لا يقبلها، وذلك شبهة، والحدود والقصاص تندرئ بالشبهة، وقيل: يقبل في القصاص، لأنه حق لآدمي، مبني على الشح والضيق، لا الحدود، لأنها حق لله تعالى، وحقوق الله سبحانه مبنية على المساهلة والمسامحة، وهو ظاهر كلام الخرقي. قال: وتجوز شهادة الأمة فيما تجوز فيه شهادة النساء. ش: أي الأحرار، لدخولها في {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] الآية، مع حديث عقبة المتقدم. (تنبيه) حكم المكاتب والمدبر، وأم الولد حكم القن في ذلك، وكذلك المعتق بعضه، قاله أبو محمد في المغني، ولا معنى لقول ابن حمدان في الكبرى: قلت: وكذا المعتق بعضه.

قال: وشهادة ولد الزنا جائزة في الزنا وغيره. ش: لعموم الآيات، ولأنه عدل مقبول الشهادة في غير الزنا، فيقبل في الزنا كغيره. قال: وإذا تاب القاذف قبلت شهادته. 3854 - ش: لعموم «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» . 3855 - «التوبة تجب ما قبلها، والإسلام يجب ما قبله» أي يقطع ما

قبله، وإذا يصير كمن لم يقذف، ولأنه تائب من ذنبه، فقبلت شهادته كالتائب من الزنا، أو قتل النفس، بل أولى، لأنها أعظم من القذف، وأما قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] فمعناه إن لم يتوبوا، بدليل آخر الآية، بناء عندنا على أن الاستثناء إذا تعقب جملا عاد إلى جميعها، ما لم يمنع منه مانع، وبيان ذلك له موضع آخر. 3856 - ويدل عليه هنا ما يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان يقول لأبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حين شهد على المغيرة به شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لست أقبل شهادتك. ولم ينكر ذلك منكر فكان إجماعا.

3857 - قال: سعيد بن المسيب: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة رجال أبو بكرة، ونافع بن الحارث، وشبل بن معبد، ونكل زياد، فجلد عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الثلاثة، وقال لهم: توبوا تقبل شهادتكم. فتاب رجلان وقبل عمر شهادتهما، وأبى أبو بكرة فلم تقبل شهادته، وكان قد عاد مثل النصل من العبادة. 3858 - وما رواه ابن ماجه بسنده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام» فقال ابن عبد البر: لم يرفعه من روايته حجة. ثم يدل على ضعفه قبول شهادة كل محدود تائب في غير القذف، انتهى. واللام في القاذف للعهد، أي القاذف بالزنا، ويحتمل أنها للجنس، فيدخل فيه القذف

بالشتم ونحوه، وهو أمشى على ما قال أبو محمد، فإنه أي القاذف بالشتم ترد شهادته وروايته، وهذا يدل على أن القذف بالشتم ونحوه عنده كبيرة، وإلا كان اعتبر تكرر ذلك، وإطلاق الخرقي يقتضي: وإن لم يجلد، وهو كذلك عندنا، لأن الله سبحانه رتب على رمي المحصنات ثلاثة أشياء، الجلد، وانتفاء الشهادة، والفسق، فيتبين بمجرد الرمي. (تنبيه) إذا جاء القاذف مجيء الشاهد كما في قصة الذين شهدوا على المغيرة، فإن شهادته ترد دون روايته، بدليل ما تقدم عن عمر في حق أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، مع أنه مقبول الرواية بلا تردد، بخلاف من قصد الشتم والقذف، فإن شهادته وخبره وفتياه لا يقبلن حتى يتوب. قال: وتوبته بأن يكذب نفسه. ش: هذا هو المشهور من المذهب، جزم به القاضي في الجامع الصغير، وأظن وفي التعليق الكبير، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة وغيرهم. 3859 - لأنه يروى عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال في قَوْله تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 5]

قال: «توبته إكذاب نفسه» » . وهذا نص إن ثبت، ولأن عرض المقذوف تلوث بالقذف، والإكذاب يزيل ذلك التلوث، فيصير كأن لم يوجد قذف وهو المقصود، وفرق القاضي أظنه في المجرد، وزعم أنه المذهب، فقال إن كان قذفه بالسب والشتم فكما تقدم، وإن كان بالشهادة فتوبته أن يقول: القذف حرام باطل، ولن أعود إلى ما قلت. حذارا من أن يكون صادقا، فلا يؤمر بالكذب، ونحو هذا قال السامري، ولفظه: ندمت على ما كان مني، ولا أعود إلى ما أتهم فيه. قال: ولا يقول: ولا أعود إلى ما كان مني. لما فيه من منع الشهادة، واختار أبو محمد في المغني أنه إن لم يعلم صدق نفسه فكالأول، وإن علم صدقه فتوبته الاستغفار والإقرار ببطلان ما قاله، وتحريمه، وأنه لا يعود إلى مثله، وعلله بأنه قد يكون كاذبا في الشهادة، صادقا في السب، ونحو هذا جزم به في

الكافي، وفيه نظر، فإن الكذب مخالفة الواقع، والصادق لم يخالف الواقع، فكيف يقر ببطلان ما قاله، ثم كيف يكون كاذبا في الشهادة، مع أنه صادق فيما لفظ به، نعم الشرع منعه من الشهادة حيث لم يكمل النصاب ونحو ذلك، فإن قيل: إن الله سبحانه جعله عنده - أي في حكمه - كاذبا مطلقا، قلنا: فإذا يتوجه إطلاق الخرقي والأكثرين، ويكون تكذيبه نفسه راجعا لما في حكم الله سبحانه، وحكى في المقنع قولا ظاهره أنه رابع أنه إن علم صدق نفسه فتوبته أن يقول: قد ندمت على ما قلت، ولا أعود إلى مثله، وأنا تائب إلى الله تعالى منه. وهو حسن. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يعتبر مع توبة القاذف إصلاح العمل، وجزم به كثير من الأصحاب، وظاهر كلام أبي محمد في المقنع - وتبعه ابن حمدان - أن فيه الخلاف الآتي، ومقتضى ما في المغني نفي الخلاف من القاذف بلفظ الشهادة، أما غير القاذف فهل يكتفى بمجرد توبته، أو لا بد من إصلاح عمله سنة؟ فيه روايتان مشهورتان، المشهور منهما الأول، ولأبي محمد في الكافي احتمال أنه يعتبر مضي مدة نعلم

توبته فيها، من غير توقيت، والقاضي يجعل محل الخلاف في غير المبتدع، أما المبتدع فيعتبر له مضي سنة، وهو مقتضى كلام السامري. (تنبيه) : هل من إصلاحه مجانبة من كان يواليه في ذلك أم لا؟ على روايتين. والله أعلم. قال: ومن شهد وهو عدل بشهادة قد كان شهد بها وهو غير عدل وردت عليه لم تقبل منه في حال عدالته. ش: هذا هو المذهب المعروف، المجزوم به عند الأكثرين، لأنه يتهم بأدائها، لما لحقه بردها من الغضاضة والمعيرة، فيحتمل أنه أظهر العدالة ليزول عنه ما حصل له من ذلك، ولا يرد ما إذا ردت لكفره أو صغره، أو جنونه أو رقه، أو حرابته ثم أعيدت بعد زوال ذلك، فإنها تقبل على الأصح، لانتفاء التهمة في ذلك غالبا أو قطعا، وأيضا الفسق يخفى فيحتاج في معرفته إلى بحث واجتهاد، وكذلك العدالة، وإذا نقول شهادة مردودة بالاجتهاد، فلا تقبل بالاجتهاد، حذارا من نقض الاجتهاد بالاجتهاد، ومن ثم قيل - وصححه أبو

البركات، وقال أبو محمد في الكافي: إنه الأولى - فيما إذا ردت لتهمة رحم، أو زوجية، أو عداوة، أو جلب نفع، أو دفع ضرر، ثم زال ذلك: إنها لا تقبل لذلك، وقيل - وقال في المغني: إنه الأشبه بالصحة - يقبل نظرا للتعليل الأول، إذ لا عار على الشاهد في الرد بذلك، بخلاف الرد بالفسق، والله أعلم. قال: وإن كان لم يشهد بها عند الحاكم حتى صار عدلا قبلت منه. ش: إذ العدالة - وكذلك البلوغ والإسلام والحرية - إنما تعتبر حال الأداء، لأنه حال ترتب الحكم، بخلاف ما قبل ذلك، ولذلك قبلت رواية من كان صبيا في زمن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كابن عباس، والنعمان بن بشير، وغيرهما - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - من صبيان الصحابة، وقد أجمع الناس على إحضار الصبيان مجالس السماع، وفائدته ذلك، والله أعلم. قال: ومن شهد وهو عدل فلم يحكم بشهادته حتى حدث منه ما لا تجوز شهادته معه لم يحكم بها.

حكم الشهادة على الشهادة

ش: لأن حدوث ذلك يورث تهمة حال الشهادة، لأن كثيرا من الناس يستر الفسق، ويظهر العدالة، وخرج ما إذا شهد ثم خرس أو عمي، أو صم أو جن أو مات، فإن ذلك لا يمنع الحكم، لأن ذلك لا يورث تهمة، لأنه لا يحتمل أنه كان موجودا حال الشهادة. [حكم الشهادة على الشهادة] قال: وشهادة العدل على شهادة العدل جائزة في كل شيء إلا في الحدود، إذا كان الشاهد الأول ميتا أو غائبا. ش: الشهادة على الشهادة جائزة في الجملة بالإجماع، قال أبو عبيد: أجمعت العلماء من أهل الحجاز والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في الأموال، وللحاجة الداعية إلى ذلك، إذ قد يتأخر إثبات الوقوف ونحوها عند الحاكم، ثم يموت شهود ذلك، فلو لم تقبل لأفضى ذلك إلى ضرر كثير، وإنه منفي شرعا، ومحل قبولها الأموال بلا ريب، للإجماع والمعنى المتقدمين، لا الحدود بلا نزاع عندنا، لانتفاء المعنى المتقدم وهو الحاجة، إذ الستر فيه أولى، ولأن الحدود تندرئ بالشبهة، والشهادة على الشهادة فيها نوع شبهة، لتطرق السهو والغفلة والكذب إلى كلا الفريقين، شاهدي الأصل، وشاهدي الفرع، واختلف عن إمامنا فيما عدا ذلك (فعنه) -

وهو ظاهر كلام الخرقي -: تقبل، لأنه حق لا يندرئ بالشبهة، فأشبه المال (وعنه) - وهو ظاهر كلام أبي بكر وابن حامد - لا تقبل، لأنه حق لا يثبت إلا بشاهدين، فأشبه حد السرقة (وعنه) تقبل إلا في الدماء والحدود، وإليه ميل أبي محمد (واعلم) بأن بابي الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي عند الشيخين في مختصريهما باب واحد، ما قيل في أحدهما قيل في الآخر، وما لا فلا. (تنبيه) : وأبو البركات يستثني حقوق الله سبحانه من محل الخلاف، وهو أشمل مما تقدم. إذا تقرر هذا فيشترط للشهادة على الشهادة شروط (أحدها) تحقق شروط الشهادة من العدالة وغيرها في كل واحد من شاهدي الأصل، وشاهدي الفرع، إذ الحكم ينبني على الشهادتين جميعا، فاعتبرت الشروط في كل منهما، كالراوي عن الراوي، وهذا والله أعلم اتفاق، فإن عدل شهود الفرع شهود الأصل، بأن شهدا بعدالتهما، وعلى شهادتهما جاز، وإن لم يشهدا بعدالتهما، بل على شهادتهما جاز وتولى ذلك الحاكم. (الشرط الثاني) : أن تتعذر شهادة شهود الأصل، لأن المقتضي لجواز الشهادة على الشهادة الحاجة، ولا حاجة مع حضور شهود الأصل، ولا ترد الرواية، لأنها أخف، ولهذا لم يعتبر فيها العدد، ولا الذكورية، ولا الحرية، ولا انتفاء التهمة، ولا اللفظ ونحو ذلك، انتهى. ولا ريب أن لا تعذر أبلغ من الموت، واختلف عن إمامنا في التعذر بما عداه، كالتعذر

بغيبة، أو مرض يمنع الحضور ونحوه، أو لكبر أو حبس، أو خوف من سلطان أو لص، أو فتنة ونحو ذلك (فعنه) - وهو الأشهر، والمختار للأصحاب - الاجتزاء بذلك، كالتعذر بالموت، والجامع التعذر (وعنه) لا يكتفى بذلك، لاحتمال زوال العذر، وتأول القاضي ذلك على الموت، وما في معناه من الغيبة البعيدة، وعلى المذهب اختلف في حد الغيبة، فالمختار للشيخين وأبي الخطاب وغيرهم أنها مسافة القصر، لأنها الغيبة المعتبرة شرعا في كثير من الأحكام، فكذلك هنا إلحاقا للفرد الواحد بالأعم الأغلب، وعن القاضي أنها مسافة لا تتسع للذهاب والعود في اليوم، لأنها والحال هذه يلحق شاهد الأصل بأداء الشهادة حرج ومشقة، وإنهما منتفيان شرعا. (الشرط الثالث) أن يعين شاهدا الفرع شاهدي الأصل، ولا يكفي أن يقولا حرين عدلين ذكرين، لاحتمال عدالتهما عندهما، دون غيرهما، فيتمكن المشهود عليه من الجرح. (الشرط الرابع) الاسترعاء، وهو أن يطلب شاهد الأصل من الشاهد عليه حفظ الشهادة وأداءها، فيقول: اشهد على شهادتي بكذا. ثم هل يشترط أن يسترعيه بعينه، وهو احتمال ذكره في المغني، أو يكتفي بمجرد الاسترعاء، فلو سمعه يسترعي

شاهدا جاز له أن يشهد على شهادته، وهو الذي أورده في المغني مذهبا؟ فيه قولان، فإن عدم الاسترعاء لم يشهد، كأن يسمعه يقول: أشهد على فلان بكذا. لم يشهد، لاحتمال أن يقول ذلك على سبيل الاستفهام الإنكاري، ويحتمل أن يكون هازلا ونحو ذلك، ولهذا قال أحمد: لا تكون شهادة إلا أن يشهدك، فإذا سمعته يتحدث فإنما ذلك حديث. ونحو ذلك. نعم إن سمعه يشهد بذلك عند الحاكم، أو يعزوه إلى سبب من بيع أو قرض، ونحو ذلك فهل يقوم مقام الاسترعاء - وهو الذي قاله القاضي وابن البناء وغيرهما -، لزوال الاحتمال إذا، أو لا يقوم مقامه لأن الشهادة على الشهادة فيها معنى النيابة، والنيابة يعتبر فيها الإذن؟ فيه روايتان. (الشرط الخامس) أن يشهد شاهدان على شاهدي الأصل، سواء شهدا على كل واحد منهما، أو شهد على كل واحد واحد، على المذهب المنصوص. 3860 - قال أحمد: شاهد على شاهد يجوز، لم يزل الناس على ذا، شريح فمن دونه، وشرط أبو عبد الله بن بطة شهادة أربعة، على كل أصل فرعان، وقيل يكتفى بشهادة فرعين، بشرط أن يشهدا

على كل واحد من الأصلين، واختلف في (شرط سادس) وهو اشتراط ذكورية شهود الأصل وشهود الفرع (فعنه) اشتراط ذلك، لأن في الشهادة على الشهادة ضعفا، وفي شهادة النساء ضعف، فيجتمع ضعفان، فلا يدخل النساء في ذلك (وعنه) لا يشترط ذلك، أما في الأصول فلعموم ما تقدم {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ونحو ذلك، وأما في الفروع فنظرا للمقصود، إذ هو إثبات الحق المشهود به، وقد ثبت أنه يثبت بالنساء (وعنه) وهو الأشهر لا يشترط ذلك في شهود الأصل لما تقدم، ويشترط في شهود الفرع، نظرا لعين ما شهدوا به، وهو شهادة الأصول، وأن ذلك ليس بمال، ولا المقصود منه المال، ويتفرع على ذلك أنه لو شهد رجلان على رجل وامرأتين، جاز على الثانية والثالثة، دون الأولى، ولو شهد رجل وامرأتان على الثانية والثالثة، دون الأولى، ولو شهد رجل وامرأتان على مثلهم، أو على رجلين، لم يجز على الأولى، وكذا على الثالثة، وجاز على الوسطى انتهى. وقد علم من تعليل ما تقدم - وهو لأبي محمد - أن المرأة لا تكون فرعا إلا فيما يقبل فيه شهادة النساء منفردات أو مع الرجال، وحكى ابن حمدان ذلك قولا، والذي قدمه وهو مقتضى إطلاق أبي البركات وغيره جواز كونها فرعا مطلقا.

قال: ويشهد على من سمعه يقر بحق، وإن لم يقل للشاهد: اشهد علي. ش: هذا يشمل الإقرار بحق في الحال، كقوله: له علي كذا، والإقرار بسابقة الحق، كقوله: أقرضني، أو كان له علي، أو كان له علي وقضيته، إذا جعلناه إقرارا، وهذا إحدى الروايات عن الإمام، نقلها ابن منصور، وهو المذهب عند أبي محمد، لعموم {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وغير ذلك، والشاهد هنا قد حصل له العلم بسماعه، فجاز له أن يشهد به، كما لو حصل له العلم بالرؤية. (والرواية الثانية) لا يجوز له أن يشهد بذلك مطلقا، نقلها بكر بن محمد، واختارها أبو بكر، لجواز أن يكون قال ذلك على سبيل الممازحة، لا على سبيل الحقيقة، وكما في الشهادة على الشهادة. (والرواية الثالثة) أنه إن أقر بحق في الحال شهد به،

وإن أقر بسابقة الحق لم يشهد به، نقلها أبو طالب، واختارها أبو البركات، لأن المقر بحق في الحال معترف به، فالشاهد يجزم تبعا لإقراره بأنه عليه، والمقر بسابقة الحق لا يلزم منه أنه عليه، لأنه يجوز أن يكون وفاه، فالشاهد لا يجزم بأنه عليه. (والرواية الرابعة) يخير الشاهد في الشهادة في الشهادة والحال ما تقدم، ولا يجب عليه ذلك، نقلها أحمد بن سعيد لأن وقوع الخلاف شبهة درأت الوجوب، وتورع ابن أبي موسى فقال في القرض ونحوه: لا يشهد به لما تقدم وفي الإقرار بحق في الحال: يقول: حضرت إقرار فلان فكذا، ولا يقول: أشهد على إقراره. فعلى الأولى لو قال المتحاسبان للشاهدين: لا تشهدا علينا بما يجري بيننا. فهل يمنع ذلك الشهادة، أو لا يمنع ويلزم إقامتها، وبها قطع أبو محمد في المغني؟ على روايتين. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يذكر إلا الإقرار، وبقي عليه سماع الحكم، وغير ذلك من العقود، والطلاق، ونحو ذلك مما مرجعه القول، أما سماع الحكم ففيه الروايات الثلاث الأول المبدوء بهن في الإقرار، وأما الطلاق والعقود ونحو ذلك فيشهد به، وإذا شهد بذلك فالأولى أن يشهد على الأفعال، وقد حكى القاضي في الأفعال روايتين أيضا. (إحداهما) لا يشهد

بها حتى يقول له المشهود عليه: اشهد. (والثانية) يشهد، قال أبو محمد: فإن أراد بذلك العموم لم يصح، لأدائه إلى منع الشهادة عليه بالكلية، إذ الغاصب لا يستشهد أحدا على غصبه، وكذا السارق ونحوهما، ثم إن أبا بكرة وأصحابه لما شهدوا على المغيرة لم يقل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هل أشهدكم على ذلك؟ قال: وإن أراد الأفعال التي تكون بالتراضي، كالقبض في الرهن، والقبض والتفرق في البيع، ونحو ذلك جاز. (قلت) : وإذا جرى الخلاف في ذلك فينبغي جريانه في الطلاق والعقود ونحو ذلك، وكلام أبي البركات الجزم بالشهادة بذلك، ويحتمل أن يريد القاضي بالأفعال الشهادة على الإقرار بالأفعال. والله أعلم. قال: وتجوز شهادة المستخفي إذا كان عدلا. ش: هذا أحد نوعي الشهادة على المقر، وإن لم يشهده على ما سمعه، والخلاف فيه كالخلاف فيه ثم، ومختار أبي بكر إنما هو والله أعلم مصرح به هنا، وتبعه ابن أبي موسى على مختاره، وإنما قال الخرقي: إذا كان عدلا. لئلا يتوهم أن هذا يدخل تحت قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] فيكون مرتكبا للنهي، فيمنع من الشهادة لذلك، فأشار إلى أن هذا التجسس غير ممنوع منه للحاجة الداعية، وإنما المشترط العدالة، لأنها تمنع من التجسس في غير ذلك، والمستخفي يشمل المستخفي في كل ما سمعه أو حضره، والله أعلم.

كتاب الأقضية

[كتاب الأقضية] قال: وإذا هلك رجل وخلف ولدين ومائتي درهم، فأقر أحدهما بمائة درهم دينا على أبيه لأجنبي، دفع إلى المقر له نصف ما في يده من إرثه عن أبيه، إلا أن يكون المقر عدلا فيشاء الغريم أن يحلف مع شهادة الابن، ويأخذ مائة، وتكون المائة الباقية بين الابنين. ش: وضع هذه المسألة إذا أقر بعض الورثة بدين على مورثهم، فإن عندنا يلزمه من الدين بقدر إرثه، ففي مسألة الخرقي إرثه النصف، فيلزمه نصف الدين، ولو كان إرثه الثلث، لزمه ثلث الدين، ولو كان إرثه الثمن كما لو كان المقر والحال ما تقدم زوجة، لزمها ثمن الدين وعلى هذا، لأن إقراره تضمن أن المقر له يستحق من أصل التركة هذا المبلغ، وفي يده مثلا نصفها، فيلزمه نصفه، وأن إقراره تضمن حقا عليه وحقا على غيره، فيسمع على نفسه، ولم يسمع على غيره، فإن كان المقر عدلا فالغريم مخير، إن شاء استشهده على ذلك، فإذا أتى بلفظ الشهادة حلف مع شهادته واستحق الباقي، إذ لا تهمة في حق المقر، لأنه لا يجر إلى نفسه بالشهادة نفعا، ولا

يدفع بها ضررا والحال هذه، وإن شاء لم يستشهده، واقتصر على ما حصل له بالإقرار، ولو كان المقر عدلين فأكثر وشهدا بذلك، ثبت الدين بشهادتهما، ولزمه قضاؤه من أصل التركة. واعلم أن في كلام كثير من الأصحاب في المسألة تساهلا يعرف مما أصلوه، وهو أن قولهم: يلزمه من الدين بقدر إرثه. يشمل ما لو كان الدين المقر به مثلا ألف درهم، وإرثه النصف، وهو مائة درهم، فإن إطلاقهم يقتضي أنه يلزمه خمسمائة درهم لأنها قدر إرثه، وليس كذلك، وإنما تركوا التنبيه على ذلك لأنه أصلوا أولا أن الدين إنما يلزم قضاؤه من التركة، ولا يلزم الورثة شيء زائد عليها، والله أعلم. قال: وإذا هلك رجل عن ابنين، وله حق بشاهد، وعليه من الدين ما يستغرق ماله، فأبى الوارثان أن يحلفا مع الشاهد، لم يكن للغريم أن يحلف مع شاهد الميت ويستحق. ش: إنما لم يكن للغريم الذي هو صاحب الدين أن يحلف مع الشاهد ويستحق، لأن الحق ليس له، إنما هو للميت أو للورثة، فأشبه ما لو لم يستغرق حقه الدين، وقد أشعر كلام

الخرقي بأنه لا يجب على الورثة أن يحلفوا، وهو كذلك، لأنهم قد يقوم عندهم شبهة تمنعهم من اليمين، والإنسان لا يجب عليه أن يضر نفسه لنفع غيره. وقوله: فأبى الوارثان أن يحلفا. يعلم منه أن الحق لا يثبت إلا بيمين جميع الورثة، وهو كذلك، نعم إذا حلف بعضهم ثبت له من الحق بقدر إرثه، ولا يشاركه فيه صاحبه، ويتعلق به من الدين بقدر ما ثبت له. قال فإن حلف الوارثان مع الشاهد حكم بالدين ودفع إلى الغريم. ش: هذا مبني على ما تقدم من أن الحقوق المالية تثبت بشاهد ويمين الطالب، وإذا إذا حلف الورثة مع الشاهد حكم بالدين، فصار تركة، ودفع إلى الغريم، لوجوب قضاء الدين قبل الإرث والوصية. واعلم أن في كلام الخرقي ما يشعر بأن الدين يمنع نقل التركة إلى الورثة لأنه قال أولا: ولو هلك رجل عن ابنين وله حق بشاهد. إلى آخر المسألة، فأضاف الحق إلى الميت، والأصل في الإضافة الحقيقية، وقد اختلفت الرواية في هذه المسألة، والمنصوص المشهور المختار للأصحاب أن الدين لا يمنع نقل التركة إلى الورثة (وعن أحمد) رواية أخرى أنه يمنع في قدره، وعلى هذه يكون نماء التركة حكمه حكمها، وما تحتاج إليه من المؤونة منها، ولا يصح تصرفهم فيها، لعدم ملكهم لها، وعلى

المذهب هل يصح تصرفهم فهيا؟ فيه خلاف مبني على أن تعلق حق الغرماء بالتركة هل هو كتعلق حق المرتهن بالرهن، وهو الذي ذكره القاضي في تعليقه في الزكاة في موضعين استطرادا، فعلى هذا لا يصح تصرفهم، أو كتعلق حق المجني عليه بالعبد الجاني؟ وهو الذي أورده أبو محمد في المغني مذهبا، وقال ابن حمدان: إنه الأقيس، وعلى هذا يصح تصرفهم، ثم إن قضوا الدين وإلا نقض، قاله أبو محمد في المغني، وحكى ابن حمدان قولا آخر على هذا القول أن الوارث لا يتصرف قبل الوفاء بدون إذن الغريم، أو التوثيق برهن يفي بالحق، أو كفيل مليء، وينبني أيضا على الخلاف في التعلق حكم النماء، فإن قيل كتعلق المرتهن بالرهن، تعلق الدين بالنماء، وإن قيل كتعلق حق المجني عليه بالجاني؛ اختصت الورثة بالنماء، والله أعلم. قال: ومن ادعى دعوى على رجل، وذكر أن بينته بالبعد منه فحلف المدعى عليه، ثم أحضر المدعي بينته حكم بها، ولم تكن اليمين مزيلة للحق. ش: لأن البينة تبين الحق وتظهره ولعموم قول: النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «البينة لمن ادعى» وهذا قد ادعى وأقام البينة، فيكون له،

واليمين لا تزيل الحق، ولا تبطل الحكم بالبينة، لأن أثرها عند عدم البينة، أما مع وجودها فالحكم لها. والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر المسألة في البعد، ولم يتعرض لحد البعد، وكذا أبو محمد في المغني، وظاهر الإطلاق يقتضي مسافة القصر، ومقتضاه أنها لو كانت قريبة لم يكن الحكم كذلك، فيحتمل أنه لا يملك تحليف المدعى عليه، ويحتمل أنه إذا أحلفه ثم أحضر بينة لم يحكم بها، وأبو الخطاب قال: إذا قال: لي بينة وأريد تحليفه. فهل يحلف له؟ يحتمل وجهين، وقيد في المغني الوجهين بما إذا كانت حاضرة، وفصل في الكافي فقال: إن قال مع الحضور: أحلفوه ثم أقيم بينتي، لم يستحلف، وإن قال: ولا أقيمها. أحلف، ثم هل يمكن من إقامة البينة بعد؟ فيه وجهان، وفصل أبو البركات تفصيلا آخر فقال: إن كانت البينة غائبة عن البلد ملك تحليفه، ثم إقامة البينة، وإن كانت حاضرة في مجلس الحكم لم يملك إلا أحدهما. (إقامة) البينة من غير تحليف أو (تحليفه) ولا تسمع البينة، وإن كانت غائبة عن المجلس حاضرة في غير مجلس الحكم فوجهان، الذي أورده مذهبا ملكهما، وحكى ابن حمدان فيما إذا كانت حاضرة ثلاثة أوجه، (يملكهما) (يملك) أحدهما فقط، (لا يملك) إلا إقامة البينة.

اليمين التي يبرأ بها المدعى عليه

[اليمين التي يبرأ بها المدعى عليه] قال: واليمين التي يبرأ بها المطلوب هي اليمين بالله عز وجل. ش: لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] وقال سبحانه {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] . 3861 - وعن عبد الله بن أنيس الجهني قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إن من الكبائر الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وما حلف حالف بالله يمين صبر، فأدخل فيها مثل جناح بعوضة إلا جعل الله نكتة في قلبه إلى يوم القيامة» رواه أحمد والترمذي. 3862 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض

فليس من الله» رواه ابن ماجه. (تنبيه) الحالف بصفات الله حالف بالله، فحكمه حكمه، والله أعلم. قال: وإن كان الحالف كافرا إلا أنه إن كان يهوديا قيل له: قل: والله الذي أنزل التوراة على موسى، وإن كان نصرانيا قيل له: قل: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وإن كان لهم مواضع يعظمونها، ويتقون أن يحلفوا فيها كاذبين حلفوا فيها. ش: يعني أن حكم الكافر حكم المسلم، في أنه يبرأ إذا حلف بالله سبحانه فقط، لإطلاق ما تقدم، ولقول الله سبحانه: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106] وزاد أنه إن كان يهوديا قيل له: قل والله الذي أنزل التوراة على موسى. 3863 - لما روي «عن عكرمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له - يعني لابن صوريا: - «أذكركم بالله الذي نجاكم من آل فرعون، وأقطعكم البحر، وظلل عليكم الغمام، وأنزل عليكم المن والسلوى، وأنزل التوراة على موسى، أتجدون في كتابكم الرجم؟» قال: ذكرتني بعظيم،

ولا يسعني أن أكذبك» رواه أبو داود. وإن كان نصرانيا قيل له: قل: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى. قياسا على اليهودي. وظاهر كلام الخرقي أن التغليظ لا يشرع إلا في حق أهل الكتاب، لقضية النص المتقدم، وإلى هذا ميل أبي محمد، ويحتمل أن ميله إلى عدم مشروعيته مطلقا، وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، مع تصريحه بالكراهة، لكنه استثنى القسامة واللعان، ولا يستثنيان، لأن صفتهما كذلك، إذ لو لم يكرر الأيمان في القسامة واللعان، ولو يأت باللعنة والغضب لم

يجزه. والخلاف إنما هو في تغليظ زائد على المجزئ، وجوزه أبو الخطاب وأتباعه إن رآه الحاكم، ويتلخص ثلاثة أوجه المشروعية، وعدمها، والمشروعية في حق أهل الذمة فقط، وحيث قيل به فظاهر كلام أبي البركات جوازه مطلقا، وكذا الخرقي، وخصه أبو الخطاب بما له خطر كالجنايات، والطلاق، والحدود، واللعان ونحو ذلك، وكذا في المال لكنه هل من شرطه أن يبلغ نصاب الزكاة، أو يكتفى ببلوغه نصاب السرقة؟ فيه وجهان، ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر التغليظ باللفظ والمكان، والنص في اليهود إنما ورد باللفظ فقط. 3864 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لرجل حلفه «احلف بالله الذي لا إله إلا هو ماله عندي شيء» » يعني للمدعي، رواه أبو داود وكذا وقع لأحمد في رواية الميموني، قال: يقال للمجوسي: والله الذي خلقني ورزقني، ولم يتعرض للمكان، وزاد أبو الخطاب على المكان الزمان، كبعد العصر، وبين الأذانين.

واعلم أنه لا نزاع عندنا فيما علمت في عدم الاستحباب، وإنما النزاع في المشروعية، وإذا لم يستحب لم يجب بلا ريب، وقد حكي الإجماع على ذلك، ولا عبرة بوجه حكاه بعض الشافعية بالوجوب، وأنكره بعضهم، ومن ثم لو بذل الحالف اليمين بالله تعالى، وأبى التعظيم والتغليظ، لم يكن ناكلا، ولو قيل بالاستحباب في اللفظ كان حسنا، لحديثي عكرمة وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو ظاهر كلام الخرقي بل والإمام. قال: ويحلف الرجل فيما عليه على البت. ش: معنى البت القطع والجزم، والذي عليه يشمل الإثبات كقوله: والله لقد بعتك داري، أو أقرضتك ألفا؛ أو لقد باعك أبي داره، أو أقرضك ألفا. ونحو ذلك، والنفي كقوله: والله ما اشتريت هذا العبد، ولا له علي هذا الألف. ونحو ذلك، والمذهب في جميع ذلك أن اليمين على الجزم والقطع، لحديث [ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء» وهو خرج بيانا لمجمل اليمين، وحكي عن أحمد (رواية أخرى) أن اليمين في ذلك كله على نفي العلم.

3865 - واستشهد له أحمد بحديث] الشيباني، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا ما لا يعلمون» وأبو البركات خص هذه الرواية بما إذا كانت الدعوى في النفي وهو أقرب، (وعن أحمد) رواية أخرى في البائع يحلف لنفي عيب السلعة على نفي العلم بذلك، لأنه فعل الغير، والله أعلم. قال: ويحلف الوارث على دين الميت على نفي العلم. ش: هذا مما لا أظن فيه خلافا في المذهب، وهو أن الحالف على فعل الغير يحلف على نفي العلم، وعليه يحمل حديث القاسم بن عبد الرحمن، والمعنى أنه لا يمكنه الإحاطة بفعل الغير، بخلاف فعل نفسه. 3866 - وقد روي «أن رجلا من كندة ورجلا من حضرموت اختصما إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن أرضي اغتصبها أبو هذا، وهي في يده، قال: «هل لك بينة؟» قال: لا ولكن أحلفه والله ما يعلم أنها أرضي، اغتصبها أبوه،

حكم اختلاف شهود الزنا

فتهيأ الكندي لليمين» ، رواه أبو داود ولم ينكر ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وحكم نفي الدعوى على الغير كذلك، كما إذا ادعى عليه أنه ادعى على أبيه ألفا، فأقر له بشيء فأنكر الدعوى، ونحو ذلك، فإن يمينه على نفي العلم على المذهب. (تنبيه) حيث قيل: إنها على البت لم تجزه على نفي العلم، وحيث قيل: إنها على نفي العلم أجزأ الحلف على البت، وكان التقدير فيه العلم، كما في الشاهد إذا شهد بعدد الورثة، وقال ليس له وارث غيره، سمع ذلك وكان التقدير فيه علمه والله أعلم. [حكم اختلاف شهود الزنا] قال: وإذا شهد من الأربعة اثنان أن هذا زنا بهذه في هذا البيت، وشهد الآخران أنه زنا بها في البيت الآخر، فالأربعة قذفة وعليهم الحد. ش: هذا مبني على أصل أشعر به كلام المصنف، وهو أن شهادتهم لا تكمل على ذلك، وهو المذهب بلا ريب، لأن أحد

الفريقين كاذب ولا بد، إذ لا يمكن أن يكون زنا واحدا في موضعين، ولأنهما لما تعارضا تساقطا، وصارا كالعدم (وعن أحمد) رواية أخرى - واختارها أبو بكر - تكمل شهادتهم، لأنهم جاءوا أربعة على زنا واحد، فدخلوا تحت قوله سبحانه: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] ونحو ذلك، وقد استبعد أبو الخطاب هذه الرواية، وجعلها غلطا، وعليها يحد المشهود عليه، ولا حد على الشهود، وأما على المذهب فلا حد على المشهود عليه، أما الشهود فهل هم قذفة فيجب عليهم الحد - وهو الذي قاله الخرقي، وهو المذهب - أم لا فلا حد عليهم؟ على روايتين، ولعل مبناهما على الخلاف في مجيء القاذف مجيء الشاهد، هل يندفع عنه الحد بذلك، أم لا وفيه شيء انتهى. وحكم الاختلاف في البلد واليوم حكم الاختلاف في الموضع. (تنبيه) محل الخلاف في أصل المسألة إذا شهدوا بزنا واحد، أما إن شهدوا بزنائين، فلا ريب أن الشهادة لا تكمل، وأن الشهود قذفة، إذ لا يمكن جعل الفعلين فعلا واحدا، كذا حققه أبو البركات. ومقتضى كلام أبي محمد جريان الخلاف وإن شهدوا بزنائين، وليس بشيء.

حكم الرجوع عن الشهادة

قال: ولو جاء الأربعة متفرقين، والحاكم جالس في مجلس حكمه لم يقم قبلت شهادتهم، فإن جاء بعضهم بعد أن قام الحاكم كانوا قذفة وعليهم الحد. ش: قد تقدمت هذه المسألة في الحدود فلا حاجة إلى إعادتها. [حكم الرجوع عن الشهادة] قال: ومن حكم بشهادتهما بجرح أو بقتل ثم رجعا فقالا عمدنا، اقتص منهما، وإن قالا: أخطأنا، غرما الدية أو أرش الجرح. ش: أما إذا حكم بالشهادة واستوفي فلا شيء على المشهود له، كما تضمنه كلام الخرقي، وأما الشهود فإن رجعوا وقالوا: عمدنا القتل بذلك، اقتص منهما، لأن هذا سبب قوي يفضي إلى القتل غالبا، أشبه المباشرة بالقتل. 3867 - وقد روى سعيد في سننه فيما أظن أن عليا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شهد عنده رجلان على رجل بالسرقة فقطعه، ثم عادا وقالا: أخطأنا ليس هذا هو السارق. فقال - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما.

وإن قالا: أخطأنا وظننا أن هذا هو القاتل، وليس هو القاتل، فعليهما الدية إن كان المشهود به مما تجب به الدية، أو أرش الجرح إن كان دون ذلك، لأن قولهما محتمل، وهو مما لا يعلم إلا من جهتهما، ولا شيء على العاقلة، لأن ذلك ثبت باعترافهما، وإن قالا: عمدنا الشهادة عليه، ولم نعلم أنه يقتل بمثل هذا. وهما ممن يجهلان ذلك فكما تقدم، لكن تكون دية ذلك دية شبه العمد، لقصدهما الجناية، أما إذا حكم بالشهادة ولم تستوف ثم رجعوا فالمذهب المجزوم به عند أبي محمد في مغنيه - وأورده أبو البركات مذهبا - أنه لا يستوفى، لأن الرجوع والحال هذه شبهة، والعقوبات تدرأ بالشبهات، وقيل - ويحتمله كلام الخرقي - إن كان الحق لآدمي استوفى، لأن الحق تعلق بالحكم فلا يسقط بالرجوع كما في المال، والحكم في الشهود كما تقدم. ومقتضى كلام الخرقي أنه لو لم يحكم بالشهادة لم يكن الحكم كذلك وهو صحيح، إذ لا يجوز الحكم، وتلغى الشهادة، لأن الشهادة شرط الحكم، وقد زالت قبله، فأشبه ما لو فسقوا انتهى، وحكم الحد فيما تقدم حكم القود، والله أعلم.

ظهور كفر الشاهدين أو فسقهما بعد تنفيذ الحكم

قال: وإن كانت شهادتهما بمال غرماه. ش: لأنهما أقرا أنهما حالا بينه وبين ماله بغير حق، فأشبه ما لو أتلفاه، والله أعلم. قال: ولا يرجع به على المحكوم له، سواء كان المال قائما أو تالفا. ش: لأن المحكوم له حقه وجب بالحكم، فلا يسقط بقولهما، إذ ليس قولهما الثاني بأولى من الأول، وفارق إذا بانا كافرين، لتبين زوال شرط الحكم وهو العدالة، وهنا لم يتبين، لجواز كونهما عدلين في شهادتهما، وإنما كذبا في رجوعهما، وكلام الخرقي يشمل ما إذا قبض المال، وما إذا لم يقبض، وهو كذلك، ومن ثم قلنا إن ظاهر كلام الخرقي أن القود يستوفى إذا كان الرجوع بعد الحكم والله أعلم. قال: وكذلك إن كان المحكوم به عبدا أو أمة غرما قيمته. ش: العبد والأمة مال من الأموال، فيجري عليهما حكم المال، ثم تارة يشهدان بعتق ذلك، وتارة يشهدان به لشخص، والحكم فيهما واحد، وكأن الخرقي إنما أفرد ذلك عن بقية الأموال ليبين أن الواجب فيه قيمة لا مثل، ومتى كان الرجوع في جميع ذلك قبل الحكم لغت الشهادة كما تقدم، والله أعلم. [ظهور كفر الشاهدين أو فسقهما بعد تنفيذ الحكم] قال: وإذا قطع الحاكم يد السارق بشهادة اثنين، ثم علم

أنهما كافران أو فاسقان، كانت دية اليد في بيت المال. ش: هذا مبني على أن خطأ الحاكم والإمام في بيت المال، لأنه وكيل عن المسلمين، ونائب منابهم، فكان خطؤه عليهم كالأجير الخاص خطؤه في حق مستأجره عليه، ولأن خطأهما يكثر لكثرة تصرفاتهما، فإيجابه على عاقلتيهما يفضي إلى حرج ومشقة، وإنهما منفيان شرعا، وهذا إحدى الروايتين. (والرواية الثانية) أن خطأهما على عاقلتيهما كغيرهما. 3868 - ويشهد له ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن امرأة ذكرت عنده بسوء، فأرسل إليها فأجهضت جنينها، فبلغ ذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فشاور الصحابة فقال بعضهم: لا شيء عليك، إنما أنت مؤدب. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عليك الدية. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: عزمت عليك لا تبرح حتى تقسمها على قومك. يعني قريشا لأنهم عاقلته.

وقد تضمن كلام الخرقي أنه لا شيء على الشهود وهو كذلك، لأنهما مقيمان على أنهما صادقان، وإنما الشرع منع من قبول شهادتهم، وبذلك فارقوا الراجعين، لاعترافهم بالكذب، واعلم أن كلام الخرقي (مبني) على أن الحكم ينقض والحال هذه (وعن أحمد) رواية أخرى: لا ينقض إذا بانا فاسقين، وإذًا لا ضمان، (ومبني) أيضا على أنه لا تزكية له، أما إن كان ثم تزكية فهل الضمان على المزكين، لأنهم الذين ألجئوا الحاكم إلى الحكم، وهو اختيار أبي محمد، أو على الحاكم على ما تقدم، وهو قول القاضي، وظاهر إطلاق الخرقي، أو على أيهما شاء المستحق، والقرار على المزكين، أو على الشهود، وهو قول أبي الخطاب في خلافه الصغير؟ (على أربعة أقوال)

حكم شهادة الزور

والحكم فيما إذا بان الشهود عبيدا حكم ما إذا بانوا كفارا عند أبي محمد في مغنيه، وقال أبو البركات: للحاكم والحال هذه نقضه إذا كان لا يرى قبولهم في ذلك، وعلى هذا إن لم ينقضه فلا ضمان، وإن نقضه كان ما تقدم. (تنبيه) لو كان المحكوم به قودا ثم بان ما تقدم، فمقتضى كلام أبي محمد في مغنيه أن الحكم كذلك، وقال أبو البركات: يرجع ببدل القود المستوفى على المحكوم له. قال: وإذا ادعى العبد أن سيده أعتقه، وأقام شاهدا حلف مع شاهده وصار حرا. ش: هذا إحدى الروايتين، واختيار أبي بكر، والرواية الثانية لا يثبت إلا بشاهدين، اختارها الشريف أبو الخطاب في خلافيهما، وغيرهما، واختلف اختيار القاضي، فتارة اختار الأول، وتارة اختار الثاني، كأنه آخر قوليه، ومنشأ الخلاف أن من نظر إلى أن العتق إتلاف مال في الحقيقة قال بالأول كبقية الإتلافات، ومن نظر إلى أن العتق نفسه ليس بمال، وإنما المقصود به تكميل الأحكام قال بالثاني: وصار ذلك كالطلاق والقصاص ونحوهما، والله أعلم. [حكم شهادة الزور] قال: ومن شهد شهادة زور أدب، وأقيم للناس في المواضع التي يشتهر بها أنه شاهد زور إذا تحقق تعمده لذلك.

3869 - ش: أما أدبه فاتباعا لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأنه أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة، تضر بالناس، فأشبه السب بل أولى، ويؤدب بما يراه الحاكم من جلد أو حبس، أو كشف رأس ونحو ذلك، وأما قيامه للناس في المواضع التي يشتهر فيها فليعرفه الناس فيجتنبوه، فيؤتى به في سوقه أو في قبيلته ونحو ذلك، فيطاف به ويقال: هذا شاهد زور فاجتنبوه. وهذا كله إذا تحقق تعمده لشهادة الزور، وذلك إما بإقراره أو بما يلزم ذلك منه قطعا، بأن يشهد على رجل بعقد في مصر، ويعلم أنه في ذلك الوقت في الشام، أو يشهد بقتل رجل وهو حي ونحو ذلك، أما إذا لم يتحقق كما في تعارض

البينتين، أو ظهور فسق ونحو ذلك فلا، لأن الفاسق قد يكون صادقا، والتعارض لا يعلم به كذب إحدى البينتين بعينها. وقد علم من كلام الخرقي أن شهادة الزور حرام، ولا ريب في ذلك، بل هي من أعظم الكبائر أو أعظمها، وقد قرنها الله سبحانه بالأوثان فقال: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] . 3870 - وفي الصحيحين عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ذكر لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الكبائر، أو ذكر الكبائر فقال: «الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين» وقال «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور، أو قال شهادة الزور» . 3871 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النار» رواه ابن ماجه.

وكيف لا يكون كذلك وهو من الساعين في الأرض بالفساد، بل هو أعظم من المحاربين، لإمكان الاحتراز منهم، وهذا لا يمكن الاحتراز منه، وعلى هذا فينبغي المبالغة في تعزيره بما يردعه ويكف شره، ولكي يرتدع أمثاله، والله أعلم. قال: وإن غير العدل شهادته بحضرة الحاكم، فزاد فيها أو نقص قبلت منه ما لم يحكم بشهادته. ش: وذلك بأن يقول فيما إذا شهد بمائة ثم قال: بل هي مائة وعشرة؛ أو بل هي خمسون ونحو ذلك، وذلك لاحتمال دخول السهو والغلط عليه الذي لا يسلم منه إنسان، والفرض أنه عدل غير متهم، فقبلت زيادته أو نقصه، كما لو تم على

الأولى، وقوله: ما لم يحكم بشهادته. احترازا مما إذا حكم بها فإنه لا تقبل زيادته ولا نقصه، لثبوت الحق الحكم، والله أعلم. قال: وإذا شهد شاهد بألف، وآخر بخمسمائة حكم لمدعي الألف بخمسمائة، وحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى إن أحب. ش: أما كونه يحكم لمدعي الألف بخمسمائة فلحصول الاتفاق عليها من الشاهدين، وأما كونه يحلف مع شاهده على الخمسمائة الأخرى إن أحب فمبني على الحكم بشاهد ويمين وقد تقدم ذلك، وهذا مع الإطلاق كما صوره الخرقي، أو مع الاتفاق على السبب أو الصفة، أما مع الاختلاف، كأن يشهد أحدهما بألف من قرض، والآخر بخمسمائة من ثمن مبيع، أو أحدهما بألف بيض، والآخر بخمسمائة سود ونحو ذلك، فإن البينة لا تكمل على شيء، ويكون للمدعي بما ادعاه منهما شاهد واحد، فيحلف معه إن أحب، والله أعلم. قال: ومن ادعى شهادة عدل فأنكر العدل أن تكون عنده، ثم شهد بها بعد ذلك، وقال: كنت قد أنسيتها. قبلت منه. ولم ترد شهادته.

ش: لأن الفرض أنه عدل، وما ادعاه من النسيان محتمل، فلا يرد قوله مع احتمال صدقه، وعدم تحقق قادح في عدالته. قال: ومن شهد شهادة تجر إلى نفسه نفعا بطلت شهادته في الكل. ش: وذلك بأن يشهد على زيد بدار له ولعمرو، ونحو ذلك، لأنها شيء واحد، فإذا بطل بعضه بطل كله، إذ الشيء يفوت بفوات جزئه، وخرج أبو محمد قولا آخر أن البطلان يختص بما هو متهم فيه، قال: من قولنا في عبد بين ثلاثة، اشترى نفسه منهم بثلاثمائة درهم، فادعى أنهم قبضوها منه، فأنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا، فأقر له اثنان وشهدا على المنكر بالقبض، فإن شهادتهما تقبل عليه في عتق حصته، وبراءة المكاتب منه على المنصوص، والله أعلم. قال: وإذا مات رجل وخلف ابنا وألف درهم، فادعى رجل على الميت ألف درهم، فصدقة الابن، وادعى آخر مثل ذلك وصدقة الابن، فإن كان في مجلس واحد كانت الألف بينهما، وإن كانا في مجلسين كانت الألف للأول، ولا شيء للثاني. ش: وضع هذه المسألة إذا مات رجل وخلف وارثا وتركة، فأقر الوارث لشخص بدين على مورثه يستغرق التركة، ثم أقر

لآخر، فإن كان في مجلسين فهي للأول بالإقرار، ولا شيء للثاني، لأنه إقرار على الغير وإنه غير مقبول، ولأن إقراره الأول منع من تصرفه في التركة تصرفا يضر بالأول، فلم يقبل إقراره عليه، كإقرار الراهن بجناية عبده المرهون، وإن كان في مجلس واحد فهل هي للأول لتعلق حقه بمجرد الإقرار له، أو يتشاركان فيها وهو قول الخرقي، وجزم به أبو محمد، لأن حال المجلس كحالة العقد، فهو كما لو أقر لهما معا، أو إن تواصل الإقراران تشاركا وإلا اختص الأول بها، وهو ظاهر كلام أحمد وهو حسن؟ على ثلاثة أقوال. (تنبيه) لو كان الإقرار بعين التركة أولا، ثم أقر بها ثانيا، فإنها تكون للأول ثم يغرمها للثاني، لأنه حال بإقراره بينه وبينها. قال: وإذا ادعى على مريض دعوى فأومأ برأسه أي نعم لم يحكم بها عليه حتى يقول بلسانه. ش: ملخصه أنه لا يصح الإقرار بالإشارة من الناطق، وإن عجز عن الكلام في الحالة الراهنة، لأنه ناطق بالقوة، فأشبه الناطق بالفعل، ويخرج لنا صحة إقرار من اعتقل لسانه، وأيس من نطقه، كما في لعانه في وجه، وتعليل أبي محمد يقتضيه،

لأنه علل المسألة بأنه غير ميئوس من نطقه، فأشبه الصحيح، وقوله: على مريض: يخرج الصحيح، وهو على ضربين، من لا يصح إقراره بالإشارة بلا ريب، وهو القادر على النطق، ومن يصح إقراره بالإشارة إن فهمت وهو الأخرس، والله أعلم. قال: ومن ادعى دعوى وقال: لا بينة لي. ثم أتى بعد ذلك ببينة لم تقبل، لأنه مكذب لبينته. ش: هذا منصوص أحمد، وبه جزم أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في مغنيه وكافيه، وغيرهما، لما علل به الخرقي من أنه مكذب لبينته، لإخباره بأنه لا بينة له، وقيل - وهو احتمال لأبي محمد في المقنع - يقبل سواء أحلفه الحاكم أو لم يحلفه، لاحتمال أن تكون البينة سمعت ذلك من غير أن يعلم، فأشبه ما لو قال: لا أعلم لي بينة. أو لاحتمال أن يكون قال ذلك عن نسيان، والله أعلم. قال: وإذا شهد الوصي على من هو موصى عليهم قبلت شهادته. ش: هذا والله أعلم اتفاق، لأنه غير متهم في ذلك، وقد يخرج عدم القبول من رواية عدم قبول شهادة عمودي

النسب بعضهم على بعض، والله أعلم. قال: وإن شهد لهم لم تقبل إذا كانوا في حجره. ش: لأنه متهم في ذلك، لجواز ذلك عند الحاجة إليه، ولأنه هو الذي يخاصم لهم، فلم تقبل شهادته لهم، كما لو شهد لنفسه، وقوله: إذا كانوا في حجرة. يحترز عما لو شهد لهم بعد زوال ولايته عنهم، فإن شهادته إذا تقبل لزوال المقتضي للمنع، والحكم في أمين الحاكم يشهد ليتيم تحت ولايته كالحكم في الوصي سواء، ونص الخرقي على هذه المسألة يؤيد أن قوله ثم: ولا تقبل شهادة خصم. أن مراده العدو. قال: وإذا شهد من يخنق في الأحيان قبلت شهادته في حال إفاقته. ش: حكى ابن المنذر هذا إجماعا ممن يحفظ عنه من أهل العلم، ويشهد له أن الاعتبار في الشهادة بحال أدائها، بدليل الصبي إذا كبر، وهذه العبارة تشعر بأن الغالب عليه الإفاقة، وهي عبارة الشيخين، ونحوها عبارة ابن حمدان قال:

شهادة الطبيب العدل في الموضحة

تقبل ممن يصرع في شهر مرتين. قال: وقيل ممن، يخنق أحيانا في حال إفاقته، وكل هؤلاء لم يشترطوا أن يتحمل حال إفاقته، بل التعليل السابق - وهو لأبي محمد - يقتضي عدم اشتراط ذلك، وفيه نظر. [شهادة الطبيب العدل في الموضحة] قال: وتقبل شهادة الطبيب العدل في الموضحة، إذا لم يقدر على طبيبين، وكذلك البيطار في داء الدابة. ش: هذا منصوص أحمد، للحاجة الداعية إلى ذلك، إذ لا يمكن كل أحد أن يشهد به، بل يختص بنوع خاص، فأشبه العيوب تحت الثياب، وكذلك الحكم في كل ما يختص بمعرفته الأطباء، والله سبحانه أعلم.

كتاب الدعوى والبينات ش: الدعوى - قال ابن عقيل - الطلب، قال الله سبحانه: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] وزاد ابن أبي الفتح عليه: زاعما ملكه، وكأنهما يريدان لغة، وقال أبو محمد في المغني: الدعوى أي في اللغة إضافة الإنسان إلى نفسه شيئا ملكا أو استحقاقا أو صفة أو نحو ذلك، قال: وفي الشرع إضافته إلى نفسه استحقاق شيء في يده غيره أو في ذمته، والمدعى عليه من يضاف إليه استحقاق شيء عليه، وقيل: المدعي من يلتمس بقوله أخذ شيء من يد غيره، أو إثبات حق في ذمته، والمدعى عليه من ينكر ذلك. وهو قريب من الذي قبله، وقال الشيخان في مختصريهما: المدعي من إذا سكت ترك. قال ابن حمدان وقيل: مع إمكان صدقه. ولا بد من هذا القيد - والمدعى عليه من إذا سكت لم يترك. وقد يكون كل من الخصمين مدعيا ومدعى عليه، كما في الاختلاف في قدر الثمن. 3872 - والأصل في الدعوى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى

حكم من ادعى زوجية امرأة فأنكرته

عليه» متفق عليه. وشرط المدعي والمدعى عليه التكليف والرشد، وجواز التبرع، قاله ابن حمدان، وهو أخص من قول أبي محمد: ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف، والله أعلم. [حكم من ادعى زوجية امرأة فأنكرته] قال: ومن ادعى زوجية امرأة فأنكرته، ولم تكن له بينة، فرق الحاكم بينهما ولم تحلف. ش: إذا ادعى إنسان زوجية امرأة فلا يخلو إما أن تقر له أو تنكر، (فإن أقرت) له فهل يسمع إقرارها؟ وهو ظاهر كلام الخرقي، وصححه أبو البركات، لأنها غير متهمة في ذلك، لتمكنها من إنشاء العقد بشروطه، أو لا يسمع إقرارها؟ لأن ذلك مما لا يستباح بالبذل، وهو مفتقر إلى شرائطه ولم يعلم حصولها، أو إن ادعى زوجيتها واحد قبل، لأنه لا معارض له، وإن ادعاها اثنان لم تقبل للمعارضة، وهي التي قطع بها في المغني، مع أنه حكى الخلاف في مختصره؟ (على ثلاث روايات) (وإن أنكرته) وثم بينة عمل بها بلا ريب، وإن لم يكن بينة فرق بينهما، لعدم ثبوت الزوجية، ولم تحلف الزوجة على المذهب المشهور المعروف، حتى قال أبو محمد: إنه رواية

حكم من ادعى دابة في يد رجل فأنكره

واحدة، لأنه مما لا يباح بالبذل، فلم تستحلف فيه كالحد (وعنه) ما يدل على الاستحلاف فيه، وجعله أبو محمد تخريجا، لعموم «ولكن اليمين على المدعى عليه» فعلى هذه هل يقضى فيه بالنكول؟ على روايتين. (تنبيه) إطلاق الخرقي يقتضي أن من ادعى الزوجية سمع منه وإن لم يذكر شرائط النكاح، وهو قويل قاله في المقنع تبعا للهداية، لأنه نوع ملك، فأشبه ملك العبد ونحوه على المذهب، والمذهب - وبه جزم في المغني وأبو البركات وغيرهما - أنه لا بد من ذكر الشروط، احتياطا للنكاح، لا سيما وقد وقع الاختلاف في شروط كثيرة، وبهذا فارق غيره من الأملاك، والله أعلم. [حكم من ادعى دابة في يد رجل فأنكره] قال: ومن ادعى دابة في يد رجل فأنكره، وأقام كل منهما بينة، حكم بها للمدعي ببينته، ولم يلتفت إلى بينة المدعى عليه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باستماع بينة المدعي، أو يمين المدعى عليه، وسواء شهدت بينة المدعي أنها له، أو قالت: ولدت في ملكه.

ش: إذا ادعى إنسان دابة أو شيئا في يد إنسان، فإن أقر له فلا كلام، وإن أنكره وأقام كل واحد منهما بينة فالمشهور من الروايات - والمختار للأصحاب - تقديم بينة المدعي مطلقا، لما استدل به الخرقي من أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر باستماع بينة المدعي، أو يمين المدعى عليه. 3873 - «فعن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «شاهداك أو يمينه» مختصر متفق عليه. 3874 - وعن وائل بن حجر قال: «جاء رجل من حضرموت، ورجل من كندة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي، أزرعها، ليس له فيها حق. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي «ألك بينة؟» قال: لا. قال: «فلك يمينه» » مختصر رواه مسلم وغيره. وظاهر هذا أنه جعل البينة للمدعي مطلقا.

3875 - ويرشحه ما روي أيضا في الحديث «البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه» وظاهر هذا الحصر، وأيضا فإن شهادة المدعى عليه يجوز أن يكون مستندها اليد والتصرف، فتصير بمنزلة اليد المفردة، وإذا تقدم بينة المدعي (وعنه) رواية ثانية، تقدم بينة المدعى عليه مطلقا، أثبتها أبو الخطاب وأتباعه، ونفاها القاضي، لأن البينتين لما تعارضتا تساقطتا وصارا كمن لا بينة لهما، وإذا القول قول المدعى عليه، أو يقال: لما تعارضتا ترجحت بينة المدعى عليه، [لموافقتها الأصل (وعنه) رواية ثالثة: تقدم بينة المدعي إلا أن تختص بينة المدعى عليه] بسبب، كأن تشهد بأنها له، نتجت في ملكه. أو أقطعها له الإمام ونحو ذلك، أو سبق، كأن تشهد بأنها له منذ سنتين، وتقول بينة المدعي: منذ سنة. فتقدم بينة المدعى عليه، لأنه بذلك يزول أن مستند البينة اليد. 3876 - ولما «روي عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اختصم إليه رجلان في دابة أو بعير، وأقام كل واحد منهما البينة، أنها له أنتجها، فقضى بها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للذي هي في يده» . إلا أن أحمد قال في رواية محمد بن الحكم: أصحاب أبي

حنيفة يروون في النتاج حديثا ضعيفا، لم يجب الأخذ به (وعنه) رواية رابعة عكس الثالثة، تقدم بينة المدعى عليه إلا أن تختص بينة المدعي بسبب أو سبق، وعلى هاتين الروايتين هل يكفي مطلق السبب، كالشراء، أو الهبة ونحو ذلك، أو لا بد من إفادته للسبق كالنتاج والإقطاع؟ على روايتين، وللمسألة تفاريع أخر ليس هذا موضعها. واعلم أن بينة المدعى عليه تسمى بينة الداخل، وبينة المدعي تسمى بينة الخارج، لأنه جاء من خارج، ينازع الداخل، ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يمين على المدعي مع البينة، وهو كذلك، وكذلك لا يمين على المدعى عليه إن

قدمت بينته، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يتعرض لما إذا اختص أحدهما بالبينة لوضوحه، ولا ريب أن يحكم له بذلك، لأن البينة تبين الحق وتوضحه، ثم إن كانت البينة للمدعي فلا يمين عليه، قال أبو محمد: بغير خلاف في المذهب. ثم قال: قال أصحابنا: ولا فرق بين الحاضر والغائب، والحي والميت، والصغير والكبير والمجنون، والمكلف، وقال الشافعي: إن كان المشهود عليه لا يعبر عن نفسه حلف المشهود له أنه لم يقض، ولم يبر لتزول الشبهة، وهذا حسن. انتهى، وهذا عجيب، فإن في مختصره ومختصر غيره أن الدعوى إذا كانت على غير حاضر أو غير مكلف وثم بينة حكم بها، وهل يحلف المدعي مع بينته أنه لم يقض ولم يبر؟ على روايتين وهذه هي المسألة بعينها، فكيف يقول: بلا خلاف في المذهب. وأن الأصحاب لم يفرقوا بين الحاضر وغيره، ولا بين المكلف وغيره. انتهى. وإن كانت البينة للمدعى عليه فلا يمين عليه على المذهب، وفيه احتمال لأبي محمد، لاحتمال أن يكون مستند البينة اليد والتصرف، فيصير وجودها كالعدم، والله أعلم. قال: ولو كانت الدابة في أيديهما، فأقام أحدهما البينة أنها له، وأقام الآخر البينة أنها له نتجت في ملكه، أسقطت

البينتان، وكانا كمن لا بينة لهما، وجعلت بينهما نصفين، وكانت اليمين لكل واحد منهما على الآخر في النصف المحكوم به له. ش: إذا كانت الدابة أو العين في أيديهما فتداعياها، وأقام كل واحد منهما بينة بدعواه، فإن البينتين تتعارضان، وإذا هل يتساقطان - وهو قول الخرقي، واختيار كثير من الأصحاب، - أو يستعملان؟ على روايتين، ولعل مبناهما إذا تعارض الدليلان، هل يتوقف المجتهد أو يتخير في العمل بأحدهما؟ فيه خلاف وإذا قلنا: باستعمالهما فهل ذلك بقسمة لتساويهما في البينة، أو بقرعة، [لأنها تبين المستحق؟ على روايتين، فعلى رواية القرعة من خرجت له حلف أنها له، لجواز خطأ

القرعة] ، أما على رواية القسمة فلا يمين، لأنا أعملنا البينة، فلو أوجبنا اليمين لجمعنا بين البينة واليمين وإنه ممنوع أما على رواية التساقط التي هي المشهورة فإنهما يصيران كمن لا بينة لهما، وإذًا تقسم العين بينهما، لتساويهما في اليد، ويجب لكل واحد منهما اليمين على صاحبه فيما حكم له به كما قال الخرقي، فاليمين تارة تجب بلا نزاع، وتارة لا تجب بلا نزاع، وفي المغني: واختلفت الرواية هل يحلف كل واحد منهما على النصف المحكوم له به - وهو الذي ذكره الخرقي - أو لا يحلف وهي أصح؟ على روايتين، وظاهر هذا أن في اليمين روايتين، سواء قلنا باستعمال البينتين أو بإلغائهما. وقول الخرقي: أنها نتجت في ملكه، ينبه به على أن ذلك ليس بمرجح لإحدى البينتين على الأخرى وقد تقدم ذلك وأن في الترجيح بذلك، وكذلك في الترجيح بالسبق روايتين، ومختار القاضي وجماعة من أصحابه الترجيح بذلك، عكس ظاهر كلام الخرقي، وإذا قيل بالترجيح بالسبب فهل يكتفى بمطلق السبب، أو لا بد من إفادته للسبق؟ على روايتين. 3877 - واعلم أنه قد ورد في الباب حديث عن أبي موسى، «أن رجلين ادعيا بعيرا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فبعث كل واحد منهما

بشاهدين، فقسمه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بينهما نصفين» . رواه أبو داود، وهذا قد يستدل به على إلغاء البينتين، وقسمة العين بينهما، وعلى إعمالهما بالقسمة وهو أرجح، لعدم ذكر اليمين فيه، ومن ثم رجح أبو محمد عدم وجوب اليمين. (تنبيه) قد تقدم لنا رواية بالقرعة، فيحتمل أنها بين البينتين، وهو ظاهر ما في روايتي القاضي، ويحتمل أنها بين المتداعيين وهو الذي حكاه عنه الشريف فقال: وعنه يقرع بينهما، إلا أن شيخنا كان يقول: يقرع بين المتداعيين لا بين البينتين، واللفظ

محتمل، والله أعلم. قال: ولو كانت الدابة في يد غيرهما، واعترف أنه لا يملكها، وأنها لأحدهما لا يعرفه عينا، أقرع بينهما، فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه. ش: إذا تداعيا دابة أو عينا في يد غيرهما، فاعترف أنه لا يملكها، وأنها لأحدهما لا يعرف عينه، فإنه يقرع بينهما، فمن قرع صاحبه حلف وسلمت إليه، لتساويهما في الدعوى، وعدم البينة واليد، والقرعة تميز المستحق عند التساوي، بدليل عتق المريض عبيده الذي لا مال له سواهم. 3878 - وعلى هذا يحمل ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلين تدارأا في دابة، ليس لواحد منهما بينة، فأمرهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستهما على اليمين أحبا أو كرها» ، رواه أحمد وأبو داود.

ولم يتعرض الخرقي لوجوب اليمين على المقر، وكذلك أحمد في رواية ابن منصور إذا قال: أودعني أحدهما لا أعرفه عينا، أقرع بينهما، فمن تقع عليه القرعة حلف أنها له وأعطي، وحمل هذا القاضي وغيره على ما إذا صدقاه في عدم العلم، وأما إن كذباه فقال القاضي والشيخان وغيرهم: لهما عليه يمين واحدة أنه لا يعرف العين، ولو أقام كل واحد منهما بينة والحال هذه، فالحكم على ما تقدم في التي قبلها، هل تتساقط البينتان، ويصيران كمن لا بينة لهما كما تقدم - وهو ظاهر إطلاق الخرقي، لأنه لم يفصل، وقياس قوله في التي قبلها، واختيار جماعة من الأصحاب - أو تستعملان؟ على روايتين، ثم في كيفية استعمالهما روايتان (إحداهما) يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة حلف وأخذها، قاله أبو الخطاب وأبو البركات، وعلى هذه تستوي رواية الاستعمال ورواية التساقط، وقال أبو محمد: من غير يمين (والثانية) تقسم بينهما بغير يمين كما تقدم.

حكم من كان في يده دار فادعاها رجل وأقر بها لغيره

وقول الخرقي: واعترف أنه لا يملكها. يخرج ما إذا ادعى ملكها، فإن القول قوله مع يمينه بلا ريب، وقوله وأنها لأحدهما لا يعرفه عينا، يخرج ما إذا أقر بها لأحدهما بعينه، فإنها تكون لمن أقر له مع يمينه، لأن بذلك تصير اليد له، ومن له اليد القول قوله مع يمينه ما لم يكن بينة، ويحلف المقر للآخر على المذهب، وللمسألة تقاسيم أخر ليس هذا محلها، والله أعلم. [حكم من كان في يده دار فادعاها رجل وأقر بها لغيره] قال: وإذا كان في يده دار فادعاها رجل وأقر بها لغيره، فإن كان المقر له بها حاضرا جعل الخصم فيها، وإن كان غائبا وكانت للمدعي بينة حكم له بها ببينته، كان الغائب على خصومته متى حضر. ش: إذا كانت في يده دار أو عين فادعاها إنسان، فأقر بها من هي في يده لغيره، نظر في المقر له، فإن كان حاضرا مكلفا جعل كأنه الخصم فيها، لأن اليد بصدد أن تصير له، وإذا يسأل فإن صدق المقر ثبتت اليد له، وصار الخصم فيها حقيقة، فإن لم يكن بينة حكم بها له مع يمينه لليد، وللمدعي اليمين على المقر أيضا على المذهب، وإن كان للمقر له أو للمدعي بينة عمل على ذلك، وإن كان لكل منهما بينة انبنى على بينة الداخل والخارج كما تقدم، وإن لم يصدق المقر في

إقراره وقال: ليست لي، ولا أعلم لمن هي، فهل تسلم للمدعي بلا يمين، لأنه يدعيها ولا منازع له، وهو اختيار أبي محمد في المغني وقال: إنه الأقوى، أو مع اليمين بناء على القول برد اليمين إذا نكل المدعى عليه، أو يحفظها أمين الحاكم، لأنه مال لم يثبت مستحقه أشبه المال الضال، وهو الذي ذكره القاضي، أو تقر في يد رب اليد لأن اليد كانت له، ولم يعلم ما يزيلها، وهو المذهب قاله أبو البركات، مع أن أبا محمد لم يذكره في المغني؟ على أربعة أوجه، فعلى الوجه الأخير لو عاد المقر فادعاها لنفسه سمع، لأنه إقرار على ما في يده، بخلاف ما قبله لزوال يده. وإن كان المقر له غائبا ومثله الصبي والمجنون ولا بينة أقرت في يد المقر لعدم ثبوت المزيل لها، وللمدعي أن يحلف المقر أنه لا يستحق تسليمها إليه، إلا أن يقيم المقر بينة أنها لمن سماه فلا يحلف، وإن كان للمدعي بينة حكم بها له، بناء على ما تقدم من القضاء على الغائب، ثم إذا قدم الغائب، أو بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، فهم على حججهم من القدح في بينة المدعي، أو إقامة بينة تشهد بانتقال الملك إليهم من المدعي، فإن أقاموا بينة بالملك فقط انبنى على بينة الداخل

حكم من مات وخلف ولدين مسلما وكافرا فادعى كل منهما أنه على دينه

والخارج، أما مع عدم الحضور والتكليف فإذا كان مع المقر بينة تشهد لمن سماه فإن الحاكم يسمعها، لزوال التهمة عن المقر، وسقوط اليمين عنه كما تقدم، ولا يحكم بها لعدم الدعوى من الغائب، أو وكيله، وخرج القضاء بها على صفة ما تقدم، بناء على أن للمودع وغيره المخاصمة فيما في يده، وإن أقر بها المدعى عليه لمجهول - وهذه الصورة لم يذكرها الخرقي - قيل له: عرفه وإلا فأنت ناكل عن الجواب، فإن عاد فادعاها لنفسه فهل تسمع دعواه كما لو عين المقر له، إذ قد يعني بالمجهول نفسه، أو لا تسمع - وجزم به في المغني - كما لو أقر بها لغائب ونحوه؟ على وجهين. والله أعلم. [حكم من مات وخلف ولدين مسلما وكافرا فادعى كل منهما أنه على دينه] قال: ولو مات رجل وخلف ولدين مسلما وكافرا، فادعى المسلم أن أباه مات مسلما، وادعى الكافر أن أباه مات كافرا، فالقول قول الكافر مع يمينه، لأن المسلم باعترافه بأخوة الكافر مقر بأن أباه كان كافرا مدع لإسلامه، وإن لم يعترف المسلم بأخوة الكافر، ولم تكن بينة بأخوته كان الميراث بينهما نصفين، لتساوي أيديهما.

ش: إذا مات إنسان وخلف ابنين أحدهما مسلم، والآخر كافر، فادعى كل واحد من الابنين أن أباه مات على دينه فلا يخلو إما أن يعترف المسلم بأخوة الكافر أو لا، فإن اعترف بأخوته فالميراث للكافر في إحدى الروايتين، واختاره الخرقي، لما علل به من أن المسلم باعترافه بأخوة الكافر يعترف ظاهرا بأن أباه كان كافرا، وأنه أسلم، وإذا دعوى أخيه على وفق الأصل، وهو يدعي زوال ذلك، والأصل البقاء، وإنما قلنا: إنه معترف بأن أباه كان كافرا، لأنه إن لم يعترف بذلك بل ادعى أنه مسلم الأصل، فإذا أولاده تبع له، فيلزم أن أخاه ارتد، والأصل عدم ذلك، والظاهر أيضا يكذبه، إذ الظاهر أن المرتد لا يقر على ردته في دار الإسلام (والرواية الثانية) المال بينهما، لأنهما تنازعا عينا في أيديهما فتقسم بينهما، وهو ظاهر كلام القاضي في الجامع الصغير، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وقال القاضي أظنه في المجرد: قياس المذهب أن التركة إن كانت في أيديهما قسمت بينهما، وإن لم تكن في أيديهما أقرع بينهما، فمن قرع حلف واستحقها، كما إن تداعيا عينا في يد غيرهما، وقال أبو محمد: ومقتضى كلامه أنها إذا كانت في يد أحدهما أنها له مع يمينه، قال: ولا يصح، لاعترافهما بأن التركة للميت، وأن استحقاقهما بالإرث، فلا حكم لليد. انتهى. ولأبي الخطاب احتمال أن الأمر يقف حتى يظهر أصل دينه أو

يصطلحان، ولأبي محمد احتمال وهو اختياره في العمدة، أن القول قول المسلم، لأن حكم الميت حكم المسلمين في غسله، والصلاة عليه، ودفنه، فكذلك في إرثه. وإن لم يعترف المسلم بأخوة الكافر فالمشهور أنه بينهما، لتساويهما في الدعوى، وقيد ذلك الشيرازي بما إذا كانت أيديهما على التركة، وفيه ما تقدم من الخلاف، إلا رواية أن القول قول الكافر، هذا كله إذا لم يعرف أصل دينه، أما إن عرف أصل دينه فالذي جزم به القاضي في الجامع الشريف وأبو الخطاب وأبو البركات - وقال: رواية واحدة - أن القول قول من يدعيه، لأن دعواه ترجحت بموافقة الأصل، وأجرى ابن عقيل في التذكرة كلام الخرقي على إطلاقه، فحكى عنه أن الميراث للكافر والحال هذه، ويقدم كما تقوله الجماعة، وشذ الشيرازي فحكى فيه الروايتين اللتين قدمناهما فيما إذا اعترف المسلم بالأخوة، ولم يعرف أصل الدين. قال: وإن أقام الكافر بينة أن أباه مات كافرا، وأقام المسلم بينة أن أباه مات مسلما، أسقطت البينتان، وكانا كمن لا بينة

لهما، وإن قال شاهدان: نعرفه كان كافرا، وقال شاهدان: نعرفه كان مسلما. حكم بالميراث للمسلم، لأن الإسلام يطرأ على الكفر، إذا لم يؤرخ الشهود معرفتهم. ش: إذا أقام المسلم والحال ما تقدم بينة أن أباه مات مسلما، وأقام الكافر بينة أن أباه مات كافرا، أو قالت بينة: نعرفه مسلما، وبينة: نعرفه كافرا، ولم يؤرخا (فعن أحمد) ما يدل على تقديم بينة الإسلام بكل حال في الصورتين، وهو اختيار أبي محمد في العمدة، وظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية لترجحها بالدار، ولذلك حكم للميت بأحكام المسلمين، من الغسل والدفن، ونحو ذلك، ولما أشار إليه الخرقي من أن الإسلام يطرأ على الكفر، فيدل على تأخره، والكفر لا يطرأ على الإسلام، لعدم الإقرار عليه في دار الإسلام، وفرق الخرقي - وتبعه الشيرازي - بين الصورتين فاختار في الصورة الثانية تقديم بينة الإسلام لما تقدم، واختار في الأولى التعارض، لأن قول البينة: مات مسلما، ومات كافرا، ظاهره أنه مات ناطقا بذلك، وإذا يتعارضان، لأن النطق بالإسلام يعارضه النطق بالكفر، وسوى القاضي وجماعة بين الصورتين، وقالوا فيهما: إن

عرف أصل دينه قدمت البينة الناقلة عنه، لأنها تشهد بزيادة، فهو كبينة الجرح مع بينة التعديل، وإن لم يعرف تعارضتا، وأبو محمد في المغني يوافق الخرقي في الصورة الثانية، ويوافق القاضي ومن دان بقوله في الأولى، ولو أرخ البينتان معرفتهما، فإن كان بتأريخين مختلفين عمل بالآخر منهما، لأنه ثبت بالبينة أنه انتقل عما كان عليه أولا، وإن اتحد التأريخ فقال أبو محمد: إن لم يعرف أصل دينه تعارضتا، وإن عرف قدم الناقلة عنه. (تنبيه) لو قالت بينة: مات ناطقا بكلمة الإسلام، وبينة: مات ناطقا بكلمة الكفر. فقال الشيخان وغيرهما: تتعارضان سواء علم أصل دينه أو لم يعلم، ولم يذكروا خلافا، وشذ ابن عقيل في التذكرة فقال: إن عرف أصل دينه فالقول قول من يدعي نفيه، لأنه يدعي أمرا طارئا، وحيث قيل بالتعارض هنا وفيما تقدم فهل يتساقطان، ويصيران كمن لا بينة لهما على ما تقدم - وهو الذي قاله الخرقي، جريا على قاعدته - أو يستعملان بقسمة أو قرعة كما تقدم، على الروايتين المتقدمتين، وفيه نظر إن عرف أن أصل دينه الإسلام، لأن بينة الكفر يلزم منها أن يكون قد ارتد، فيكون المنازع في النصف أو الكل أهل الفيء، وقد يقال: إن البينة ألغت اعتبار الأصل، والله أعلم.

قال: ولو ماتت امرأة وابنها فقال زوجها: ماتت قبل ابني فورثناها، ثم مات ابني فورثته، وقال أخوها: مات ابنها فورثته، ثم ماتت فورثناها. ولا بينة لأحدهما، حلف كل واحد منهما على إبطال دعوى صاحبه، وكان ميراث الابن لأبيه، وميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين. ش: إنما حلف كل واحد منهما والحال هذه على إبطال دعوى صاحبه، لأن كل واحد منهما ينكر ما ادعى عليه به، والمنكر عليه اليمين، وإنما كان ميراث الابن لأبيه، لأنه وارثه الحي المتيقن، وغيره مشكوك فيه، وإنما كان ميراث المرأة لأخيها وزوجها نصفين لأنهما اللذان يرثانها يقينا، وغيرهما مشكوك فيه، وهذا منصوص أحمد، واختيار أبي البركات، وقال ابن أبي موسى: يعين السابق بالقرعة، كما لو قال: أول ولد تلدينه فهو حر. فولدت ولدين، وأشكل السابق منهما عين بالقرعة، كذلك هنا: وقال أبو الخطاب ومن تبعه: يرث كل واحد منهما من صاحبه من تلاد ماله دون ما ورثه عن الميت معه، كما لو جهل الورثة موتهما، فيقدر أن المرأة ماتت أولا فورثها زوجها وابنها أرباعا، ثم يؤخذ ما ورثه الابن فيدفع لورثته الأحياء وهم الأب، فيجتمع له جميع مالها، ثم يقدر أن الابن

مات أولا، فورثه أبواه أثلاثا، ثم يؤخذ ثلث الأم، ويقسم بين ورثتها الأحياء، وهم أخوها وزوجها نصفين، فلا يحصل للأخ إلا سدس مال الابن. انتهى. وقال أبو بكر: يحتمل أن المال بينهما نصفان، قال: وهذا اختياري. قال: لأن كل رجلين ادعيا مالا، يمكن صدقهما فيه فهو بينهما، وظاهر هذا الذي قاله أن ماله ومالها بينهما نصفين، وأبطله أبو محمد، بأنه يفضي إلى أن يعطى الأخ ما لا يدعيه ولا يستحقه يقينا، لأنه لا يدعي من مال الابن أكثر من سدسه ولا يمكن أن يستحق أكثر منه، وذكر احتمالات أخر لقوله كلها تخالف ظاهره، والله أعلم. قال: ولو شهد شاهدان على رجل أنه أخذ من صبي ألفا، وشهد شاهدان على رجل آخر أنه أخذ من الصبي ألفا، كان على ولي الصبي أن يطالب أحدهما بالألف، إلا أن تكون كل بينة لم تشهد بالألف التي شهدت بها الأخرى، فيأخذ الولي الألفين. ش: المسألة الأولى شهدت البينة على ألف بعينها، يدل عليه ما ذكره في الثانية، وإنما كان على الولي المطالبة بذلك، لأنه

المطالب باستيفاء حقوق الصبي والقيام بأمره، وقد ثبت له بالبينة حق، فيجب على الولي استيفاؤه، وإنما كان له أن يطالب أيهما شاء إذا شهدت البينة بألف معينة فلأنه قد ثبت بالبينة أن كل واحد أخذ الألف فإن كان باقيا في يده فواضح، وإن كان دفعه إلى الصبي لم يبرأ بذلك، لأنه ليس له قبض صحيح فقد فرط، وإن دفعه إلى أجنبي فكذلك، لأنه ليس له الدفع إليه، وإنما كان له أن يطالب بالألفين إذا شهدت البينة بألف غير معين، لأن كل واحد من الرجلين ثبت أنه أخذ ألفا، فيلزمه أداؤه، والله أعلم. قال: ولو أن رجلين حربيين جاءانا من أرض الحرب مسلمين، فذكر كل واحد منهما أنه أخو صاحبه جعلناهما أخوين. ش: لأن ذلك إقرار، ولا ضرر على أحد فيه فقبل، كالمسلمين إذا أقر كل واحد منهما بأخوة صاحبه بشرطه، وكالإقرار بالحقوق المالية، والله أعلم. قال: ولو كانا سبيا فادعيا ذلك بعد أن أعتقا فميراث كل واحد منهما لمعتقه إذا لم يصدقهما، إلا أن تقوم بما ادعياه من الأخوة بينة من المسلمين، فيثبت بها النسب، فيورث كل

الحكم لو افترق الزوجان وادعى كل منهما أن ما في البيت له

واحد منهما من أخيه. ش: يعني إذا كان الأخوان سبيا فادعيا ذلك قبل عتقهما فقد تقدم، وإن ادعياه بعد أن أعتقا وصدقهما المولى، ثبت نسبهما وإرثهما، لأن الحق للمولى، ومن له حق يقبل إقراره عليه، وإن لم يصدقهما وأقاما بذلك بينة من المسلمين ثبت النسب وتوارثا، لأن البينة تبين الحق وتظهره، وإن لم تكن لهما بينة معتبرة لم تقبل إقرارهما، حذارا من إضرار المولى بتفويت حقه من الولاء، وإذا يكون إرث كل منهما لمعتقه، وخرج أبو البركات قبول إقرارهما، ولعله مما إذا أقرا بمعتق لهما، فإنه يقبل وإن أسقطا به وارثا معروفا. وقول الخرقي: بينة من المسلمين. يحترز به عن البينة من الكفار، فإنها لا تقبل في ذلك، وقد تقدم عن أبي حفص قبول قولهما والحال هذه، وحكاه أبو محمد هنا رواية، والله أعلم. [الحكم لو افترق الزوجان وادعى كل منهما أن ما في البيت له] قال: وإذا كان الزوجان في البيت فافترقا أو ماتا، فادعى كل واحد منهما ما في البيت أنه له أو ورثته، حكم بما كان يصلح للرجال للرجل، وبما كان يصلح للنساء للمرأة، وبما كان يصلح أن يكون لهما فهو بينهما نصفين.

ش: ما يصلح للرجال كالعمائم، والأقبية، والطيالسة ونحو ذلك، وما يصلح للنساء كحليهن، ومغازلهن، ومقانعهن، وقمصهن ونحو ذلك، وما يصلح لهما كالمفارش والأواني ونحو ذلك، والذي قاله الخرقي هو المنصوص في رواية الجماعة، وسواء كانا حرين أو رقيقين، أو أحدهما، وسواء كان في أيديهما من طريق الحكم أو المشاهدة، اختلفا في حال الزوجية أو بعدها، أو اختلف ورثتهما لأن اليد لكل منهما على البيت، بدليل لو نازعهما غيرهما فإن القول قولهما، ثم إن لم تقم قرينة لأحدهما تساويا، وإن قامت قرينة لأحدهما ترجحت دعواه بها، وصار كما لو تنازعا دابة، أحدهما راكبها والآخر آخذ بزمامها، ونحو ذلك، وقال القاضي: إن كانت أيديهما عليه من طريق الحكم فكذلك، وإن كانت أيديهما عليه من طريق المشاهدة قسم بينهما نصفين، وإن كانت اليد المشاهدة عليه لأحدهما فهو له مع يمينه، وإن لم يصلح له، لأن اليد المشاهدة أقوى من القرينة. وقوله: إذا كان الزوجان في البيت، يريد بذلك أن لهما يدا حكمية أو حسية، ويخرج بذلك ما لو لم تكن لهما يد حكمية، وتنازعا في عين، فإنه لا يرجح أحدهما بصلاحية ذلك له، بل

حكم من كان له على أحد حق فمنعه منه فقدر له على مال

إن كانت في أيديهما فهي بينهما، وإن كانت في يد أحدهما فهي له، وإن كانت في يد غيرهما اقترعا عليها، فمن قرع حلف واستحق كما تقدم، والله أعلم. [حكم من كان له على أحد حق فمنعه منه فقدر له على مال] قال: ومن كان له على أحد حق فمنعه منه فقدر له على مال، لم يأخذ منه مقدار حقه، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» . ش: من كان له على أحد حق فمنعه، ولم يقدر على أخذه منه بالحاكم، وقدر له على مال، لم يكن له في الباطن أن يأخذ قدر حقه على المذهب المنصوص المشهور. 3879 - لما استدل به الخرقي، وهو ما رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك» رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وإذا لم يخن من خانه فمن لم يخنه أولى.

3880 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه» . وخرج أبو الخطاب قولا بالأخذ من قول أحمد في المرتهن: يركب ويحلب بقدر ما ينفق، والمرأة تأخذ مؤونتها، والبائع للسلعة يأخذها من مال المفلس بغير رضاه، وخرجه أبو البركات من تنفيذ الوصي الوصية مما في يده إذا كتم الورثة بعض التركة، وهو أظهر في التخريج، وحكى ابن عقيل هذا القول عن المحدثين من الأصحاب. 3881 - وذلك لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن هند قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه، فجوز لها - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الأخذ في مقابلة حقها بغير علمه. 3882 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يقول: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا

كان مرهونا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة» رواه البخاري وغيره، فجعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المرتهن ينفق ويأخذ عوض حقه وهو نفقة المركوب، ويجاب عن هذا بأن المرتهن لم يكن له حق قبل الراهن، وإنما الشارع جوز له المعاوضة عملا بالأصلح، لئلا يفوت الركوب على الراهن مجانا، وأما حديث هند فإن أحمد أجاب عنه بأن حقها واجب عليه في كل وقت، يعني أن جواز الأخذ لها كان دفعا للحرج والمشقة عنها، لأن حقها يتجدد كل يوم، فلو لم يجز ذلك لأفضى إلى المحاكمة في كل وقت والمخاصمة، وفي ذلك حرج عظيم، وأجاب أبو بكر بجواب ثان، وهو أن قيام الزوجية كقيام البينة، فكأن الحق صار معلوما بعلم قيام مقتضيه، وفيه شيء، لأن المسألة وإن علم ثبوت الحق، ولأبي محمد (جواب ثالث) وهو أن للمرأة من التبسط في مال الزوج ما يؤثر في إباحة أخذ الحق وبذل اليد فيه بالمعروف، بخلاف الأجنبي (وجواب الرابع) وهو أن النفقة تراد لإحياء النفس، ولا سبيل إلى تركها، فلذلك جاز أخذ ما تندفع به هذه الحاجة، بخلاف الدين، ومن ثم قلنا: لو صارت

النفقة ماضية لم يكن لها أخذها، وكذلك لو كان لها دين آخر، قلت: وهذا الفرع يرد جوابه الثالث، ويندفع هو أيضا بأنها لو وجدت ما تندفع به حاجتها من مالها جاز لها الأخذ، انتهى. فعلى المذهب إن أخذ لزمه الرد مع البقاء، ووجب المثل أو القيمة مع التلف، ثم إن كان من جنس حقه تقاصا وتساقطا، وإلا لزمه غرمه (وعلى القول الآخر) إن وجد جنس حقه أخذ منه قدر حقه، ولا يأخذ من غيره مع قدرته عليه، وإن لم يجد إلا من غير جنس حقه أخذ منه قيمة حقه، متحريا للعدل في ذلك، جزم به أبو البركات، وأبو الخطاب في الهداية وغيرهما، وهو أحد احتمالي أبي محمد كما في الرهن (والاحتمال الثاني) ليس له ذلك، لإفضائه إلى بيع مال غيره من نفسه بغير إذن له في ذلك، وهذه المسألة تلقب بمسألة الظفر، وقول الخرقي: فمنعه منه، يخرج ما لم يمنعه، فإنه ليس له الأخذ اتفاقا، فإن أخذ لزمه الرد، وإن كان قدر الحق ومن جنسه، لأنه قد يكون للإنسان غرض في عين من أعيان ماله، فلا يجوز

تملكها عليه بغير رضاه إلا لضرورة، وإن تلف ذلك صار دينا في ذمته، فإن كان الثابت في ذمته من جنس حقه تقاصا، وكذلك لو لم يمنعه وقدر على الأخذ بالحاكم، فإنه لا يجوز له الأخذ، ولا بد أن يلحظ أن المنع ممنوع، إذ لو كان مباحا كما لو كان الدين مؤجلا، أو المدين معسرا فإنه لا يجوز الأخذ أيضا بلا خلاف، فإن أخذ رده مع البقاء، وعوضه مع التلف، ولا تقاصص هنا، لأن الدين لم يستحق أخذه في الحال، بخلاف التي قبلها، والله أعلم.

كتاب العتق

[كتاب العتق] ش: العتق الحرية، قال أهل اللغة: يقال منه عتق يعتق عتقا وعتقا. بفتح العين وكسرها، فهو عتيق وعاتق، قال الأزهري: هو مشتق من قولهم: عتق الفرس. إذا سبق ونجا، وعتق الفرخ إذا طار واستقل، لأن العبد يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء؛ قال: وإنما قيل لمن أعتق نسمة: أعتق رقبة - فخصت الرقبة بالعتق وإن تناول العتق الجميع - لأن ملك السيد عليه كحبل في رقبته، فإذا أعتق فكأن رقبته أطلقت من ذلك. والأصل في مشروعيته قوله سبحانه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 13] . 3883 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق رقبة مسلمة - وفي رواية، مؤمنة - أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار، حتى فرجه بفرجه» متفق عليه وأجمع المسلمون على مشروعية ذلك، وأنه قربة في الجملة، والله أعلم.

أحكام متفرقة في العتق

[أحكام متفرقة في العتق] [الحكم لو كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه] قال: وإذا كان العبد بين ثلاثة فأعتقوه معا، أو وكل نفسان للثالث أن يعتق حقوقهما مع حقه ففعل، أو أعتق كل واحد منهم حقه وكان معسرا، فقد صار العبد كله حرا، وولاؤه بينهم أثلاثا. ش: إذا كان العبد بين ثلاثة أو أكثر فأعتقوه معا، إما بأن حصل تلفظهم بعتقه في آن واحد، أو وكلوا غيرهم أو أحدهم في عتقه، أو علقوا عتقه على صفة فوجدت، فإنه يصير حرا، لأنه عتق من مالك. 3884 - فدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا عتق فيما لا يملك ابن آدم» الحديث، مفهومه نفوذ العتق فيما يملكه، وهذا - والله أعلم - اتفاق في الجملة، وإذا كان حرا كان الولاء بينهم أثلاثا، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الولاء لمن أعتق» وفي رواية: «إنما الولاء لمن أعتق»

متفق عليه وكل منهم أعتق جزءا فثبت له عليه الولاء، وكذلك إذا أعتق الشركاء حقوقهم واحدا بعد واحد وهم معسرون، فإنه يعتق على كل واحد منهم حقه على المذهب، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويكون له ولاء ما عتق عليه، إذ الولاء تابع للعتق كما تقدم. واعلم أن من شرط صحة عتق المالك أن يكون مختارا، فلا يصح عتق المكره، كما لا يصح طلاقه. [نعم إن أكره بحق - كما إذا وجب عليه ذلك بشرط في بيع، أو كفارة ونحو ذلك، فأجبره الحاكم عليه صح من جائز التبرع، فلا يصح من مجنون ولا طفل بلا ريب] ، ولا مميز على إحدى الروايتين، والرواية الثانية يصح، كما يصح طلاقه ووصيته على المذهب فيهما، وهو المجزوم به عند أبي محمد، ولا من محجور عليه لسفه أو فلس على أصح الروايتين، والله أعلم. قال: ولو أعتقه أحدهم وهو موسر عتق كله عليه.

ش: أما عتق نصيبه فلما تقدم. 3885 - وأما عتق نصيب شريكه فلما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال «من أعتق شركا له في عبد، وكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد عليه قيمة عدل وأعطى شركاءه، حصصهم، وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق» رواه الجماعة، وفي رواية «من أعتق شركا له في عبد عتق ما بقي في ماله، إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد» رواه مسلم وغيره وهذا كالنص. 3886 - «وعن أبي المليح عن أبيه، أن رجلا من قومنا أعتق شقصا له من مملوك، فرفع ذلك إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعل خلاصه عليه في ماله، وقال: «ليس لله شريك» » رواه أحمد، وفي لفظ «هو حر كله، ليس لله شريك» رواه أحمد ولأبي داود معناه، وكلام

الخرقي يشمل الشريك المسلم والكافر وهو اختيار أبي محمد، وذكره القاضي، لعموم من أعتق شركا له في عبد ولما علل به في حديث أبي المليح. 3887 - وقد روى النسائي من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «من أعتق عبدا وله فيه شركاء وله وفاء، فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمته، كما أساء من مشاركتهم، وليس على العبد شيء» فعلل بسوء المشاركة، وهذا موجود في الشريك الكافر، وفيه وجه آخر أنه لا يسري على الكافر، إذا أعتق نصيبه من مسلم، حذارا من أن يملك كافر مسلما، ورد بأن هذا ليس بضمان تمليك، وإنما هو ضمان إتلاف، وليس بجيد، إذ لو صح لم يكن له الولاء، والفرض أن له الولاء على ما عتق عليه، فدل على أنه يدخل في ملكه، ثم يعتق، لكن المحذور في ملك الكافر للمسلم غير وجود هنا، ولو قدر وجود محذور ما فهو مغمور بما حصل من مصلحة العتق.

(تنبيه) حد اليسار أن يكون حين الإعتاق واجدا لقيمة الشقص فقط، على ظاهر كلام أبي بكر في التنبيه وكلام غيره، قال: إذا كان يملك مبلغ ثمن حصة شريكه، وأورده ابن حمدان مذهبا، وحكى قولا آخر أن يكون ذلك فاضلا عن قوت يومه وليلته، ويحكى هذا عن القاضي في المجرد، وابن عقيل في الفصول، وهو الذي جزم به في المغني، إلا أنه اعتبر مع ذلك ما يحتاج إليه من حوائجه الأصلية، من الكسوة والمسكن، وسائر ما لا بد له منه، وقال: ذكره أبو بكر في التنبيه، ولم أر ذلك فيه، بل لفظه ما تقدم، ونظير ذلك صدقة الفطر، فإن أبا محمد في المغني اعتبر لوجوبها ذلك، ولم يعتبر القاضي وكثير من أصحابه وأبو البركات، وأبو محمد في كتابيه إلا قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته، وهو الذي أورده ابن حمدان في رعايتيه مذهبا، ثم ذكر ما في المغني انتهى، فإن أيسر ببعض القيمة عتق عليه بقدر ذلك، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، وقيل: لا. قال: وصار لصاحبيه عليه قيمة ثلثيه. ش: هذا فرع على أن العتق يسري عليه، وإذا يصير لصاحبيه عليه قيمة ثلثيه، لحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -

وأعطي شركاؤه حصصهم أي قيمة حصصهم، ولأنه إما إتلاف معنوي فهو بمنزلة الحي، وإما تمليك بالقيمة، وإنما كان تجب القيمة وتعتبر القيمة حين العتق، لأنه وقت انتقال الملك، أو وقت الإتلاف على المعروف المشهور، المجزوم به لأبي محمد وغيره، وحكى الشيرازي قولا أنه وقت التقويم، وهو قياس القول الذي لنا في الغصب بأن الاعتبار بيوم المحاكمة، فإن اختلفا في القيمة رجع إلى قول أهل الخبرة، فإن تعذر بموت العبد أو غيبته ونحو ذلك فالقول قول المعتق، لأنه المنكر للزيادة، والأصل براءته منها، وكذلك القول قوله إن اختلفا في صناعة فيه، نعم إن كان العبد يحسنها في الحال، ولم يمض زمن يمكن تعلمها فيه، فالقول قول الشريك، لعلمنا بصدقه، وإن مضى زمن يمكن حدوثها فيه، فهل القول قول المعتق، لأن الأصل براءة ذمته من الزيادة، أو قول الشريك، لأن الأصل بقاء ما كان؟ على وجهين، وإن اختلفا في عيب كالسرقة والإباق، فالقول قول الشريك، إذ الأصل السلامة، فإن كان العيب موجودا واختلفا في حدوثه فهل القول قول الشريك أيضا، لأن الأصل البراءة منه حين العتق، أو قول المعتق، لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهو الذي أورده في المغني مذهبا؟ فيه قولان.

(تنبيه) هل يقوم كاملا لا عتق فيه، أو وقد عتق بعضه؟ فيه قولان للعلماء، أصحهما الأول، وهو الذي قاله أبو العباس فيما أظن، لظاهر الحديث، ولأن حق الشريك إنما هو في نصف القيمة، لا قيمة النصف، بدليل ما لو أراد البيع، فإن الشريك يجبر على البيع معه، والله أعلم. قال: فإن أعتقا بعد عتق الأول له، وقبل أخذ القيمة، لم يثبت لهما فيه عتق، لأنه قد صار حرا بعتق الأول. ش: يعني أن العتق مع اليسار يسري بمجرد اللفظ، ولا يفتقر إلى أداء القيمة، وهذا هو المشهور من المذهب، لما تقدم من حديث ابن عمر وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، الذي رواه النسائي، ولرواية مسلم المتقدمة في حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وللبخاري في رواية فيه «من أعتق نصيبا له في مملوك، أو شركا له في عبد، وكان له من المال ما يبلغ قيمته بقيمة العدل فهو عتيق» . 3888 - وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شقصا من مملوك فعليه خلاصه من ماله»

(وفي المذهب وجه آخر) قواه أبو العباس أنه لا يعتق إلا بعد أداء القيمة، لظاهر رواية ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - المتفق عليها، فإنه قال فيها «فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد» وفي رواية متفق عليها أيضا «من أعتق عبدا بينه وبين آخر، قوم عليه في ماله قيمة عدل، ولا وكس ولا شطط، ثم عتق عليه في ماله إن كان موسرا» وهذا أصح من رواية النسائي وغيره، وأصرح من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، مع أن قوله: «فهو حر؛ أو فهو عتيق» يحمل على ما بعد القيمة، جمعا بين الأحاديث، إذ المقصود من جميعها واحد، وحمل مطلق ذلك على مقيده معتبر بلا ريب. فعلى المذهب إذا أعتق الشريك بعد عتق الأول لم ينفذ عتقه، لأن عتق المعتق محال (وعلى الثاني) قال ابن حمدان: يحتمل وجهين، وظاهر هذا أنه لا يصح التصرف فيه بغير العتق.

قال: وإذا أعتقه الأول وهو معسر، وأعتقه الثاني وهو موسر عتق عليه نصيبه، ونصيب شريكه، وكان له عليه ثلث قيمته، وكان ثلث ولائه للمعتق الأول، وثلثاه للمعتق الثاني. ش: قد تضمن كلام الخرقي أن عتق المعسر لا يسري لا عليه ولا على غيره، وإنما يعتق ما أعتقه فقط، وهذا هو المشهور من الروايتين، والمجزوم به عند أكثر الأصحاب، لما تقدم من حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهو أصح وأشهر من غيره. 3889 - وقد روى الدارقطني فيه ورق ما بقي وهذا نص إن ثبت. 3890 - «وعن إسماعيل بن أمية، عن أبيه عن جده، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: كان لهم غلام يقال له طهمان أو ذكوان، فأعتق جده

نصفه، فجاء العبد إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعتق في عتقك، وترق في رقك» قال: فكان يخدم سيده حتى مات» . رواه أحمد. (وعن أحمد رواية أخرى) اختارها أبو الخطاب في الانتصار أن العبد يعتق كله، ويستسعى في قيمة باقية غير مشقوق عليه. 3891 - – لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أعتق شقصا من مملوك فعليه خلاصه في ماله، فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل، ثم يستسعى في نصيب الذي لم يعتق، غير مشقوق عليه» رواه الجماعة إلا النسائي، وحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - رواه أيوب فقال فيه مرة: قال نافع: وإلا فقد عتق منه ما عتق، ومرة قال: فلا أدري أشيء قاله نافع أم هو من الحديث، وإذا لم يثبت أنه من لفظ الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فلا حجة

فيه، وقد أجيب عن هذا بأن مالكا جزم به كما تقدم، وقد تابعه على ذلك جماعة من الحفاظ، كجرير بن حازم، وعبيد الله وغيرهما، والجازم مع زيادة علم، فيقدم على الشاك، وأما حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فقد طعن فيه الحفاظ، قال الأثرم: ذكره سليمان بن حرب فطعن فيه وضعفه، وقال ابن المنذر: لا يصح. وقال أبو عبد الله: ليس في الاستسعاء شيء يثبت عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حديث أبي هريرة يرويه ابن أبي عروبة، وأما همام وشعبة وهشام الدستوائي - فلم يذكروه، وحدث به معمر فلم يذكر فيه السعاية، قال أبو داود:

وهمام أيضا لا يقوله. قلت: وهذا يدل على أن لفظ الاستسعاء شاذ، لمخالفته الجمهور، وقد ذكر همام أنه من قول قتادة وفتياه، ثم على تقدير صحته فالأول يترجح بعمل أهل المدينة، والجمهور عليه، وبأنه مخالف للظواهر والأصول، لإفضائه إلى منع المالك من التصرف في ملكه، وإحالته على سعاية قد لا يحصل منها شيء، وإدخال العبد في شيء قد لا يريده، وفي ذلك ضرر، ومعاوضة بغير رضا، وإنه منفي شرعا، ثم ذلك حصل بسبب جناية غيرهما، ومن الأنسب الأحرى أن {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .

إذا تقرر هذا فعلى المذهب إذا أعتق المعسر استقر العتق في نصيبه، ثم إذا أعتقه الثاني وهو موسر عتق نصيبه، وسرى إلى نصيب شريكه الثالث كما تقدم، وكان ثلث الولاء للمعتق الأول، لأن الذي أعتقه هو الثلث، وثلثاه للمعتق الثاني، لأن الذي حصل له بالعتق مباشرة وسراية الثلثان. وعلى القول بالسعاية هل يعتق في الحال، وهو ظاهر كلام الأكثرين، وأورده ابن حمدان مذهبا، أو لا يعتق حتى يؤدي السعاية، وهو اختيار أبي الخطاب في الانتصار؟ فيه وجهان، (فعلى الأول) يصير حكمه حكم الأحرار، وتبقى قيمته في ذمته، يستسعى فيها قدر طاقته، ولا يرجع على أحد، ولا يصح العتق فيه بعد، فإن مات مات حرا، فإن كان في يده مال كان لسيده بقية السعاية، وما بقي لورثته، (وعلى الثاني) حكمه حكم المكاتب، يملك اكتسابه ومنافعه، ويصح للشريك عتقه، وإن مات فللشريك الذي لم يعتق من ماله مثل الذي له، لكن تكون كتابته لازمة، والله أعلم. قال: ولو كان المعتق الثاني معسرا عتق نصيبه منه، وكان ثلثه رقيقا لمن لم يعتق، فإن مات وفي يده مال كان ثلثه لمن لم يعتق، وثلثاه للمعتق الأول، والمعتق الثاني بالولاء، إذا لم يكن له وارث أحق منهما.

الحكم لو كان العبد بين اثنين فادعى كلاهما العتق

ش: هذا أيضا فرع على المذهب المتقدم، فإن المعتق الثاني إذا كان أيضا معسرا عتق نصيبه فقط، وبقي ثلثه رقيقا لمن لم يعتق، فإذا مات العبد وترك مالا كان ثلثه للذي لم يعتق بملكه لثلثه، وثلثاه ميراث - لأنه ملكهما بجزئيه الحرين - للمعتقين بالولاء، إن لم يكن له وارث بفرض أو تعصيب يقدم عليهما، فإن كان له وارث يرث البعض - كأم مثلا أو زوجة - فإنها تأخذ فرضها، والباقي بين المعتقين إن لم يكن عصبة مناسب، وهذا كله إن لم يكن مالك ثلثه قاسم العبد في حياته أو هايأه فإذا لا حق له في تركته، لأنها حصلت بجزئه الحر. [الحكم لو كان العبد بين اثنين فادعى كلاهما العتق] قال: وإذا كان العبد بين نفسين، فادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه، فإن كانا معسرين لم يقبل قول كل واحد منهما على شريكه. ش: لأنها دعوى مجردة، لا تتضمن حقا، لما تقدم من أن عتق المعسر لا يسري، وهذا بخلاف ما لو كانا موسرين، فإن دعوى كل واحد مهما تضمنت أنه يستحق على شريكه نصف القيمة، وإذا لم يقبل قول كل واحد منهما على الآخر، لم يعتق من العبد شيء، والله أعلم. قال: فإن كانا عدلين كان للعبد أن يحلف مع كل واحد منهما ويصير حرا، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا. ش: إذا كان الشريكان عدلين، فللعبد أن يحلف مع كل

واحد منهما إن ادعى ذلك، ويصير كله حرا، لأن كل واحد منهما يشهد بعتق نصفه، أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا لذلك أيضا، وهذا من الخرقي بناء على أن العتق يقبل فيه شاهد ويمين المدعي، وقد تقدم ذلك، وإن لم يكونا عدلين فله أن يحلف كل واحد منهما أنه ما أعتق نصفه، والله أعلم. قال: وإن كان الشريكان موسرين فقد صار العبد حرا باعتراف كل واحد منهما بحريته، وصار مدعيا على شريكه نصف قيمته، فإن لم تكن له بينة فيمين كل واحد منهما لشريكه. ش: إذا كان الشريكان موسرين وادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه، فقد صار العبد حرا، لتضمن دعواهما ذلك، إذ عتق الموسر يسري، فكل منهما حقيقة دعواه حرية العبد، وأنه يستحق على شريكه نصف قيمته، لأنه يدعي أن شريكه أعتق نصيبه، فسرى إلى حقه، فيؤاخذ كل منهما بإقراره، ويحكم بحرية العبد، ويصير كل منهما مدعيا على شريكه نصف قيمته، فإن كان ثم بينة عمل بها بلا ريب، وإن لم يكن فيمين كل واحد منهما مستحقة لشريكه، عليه أن يحلف له، لأنه منكر لما ادعى عليه، واليمين على المنكر لما تقدم. ولم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لحكم الولاء في هاتين الصورتين،

وهما ما إذا كانا موسرين أو معسرين عدلين، فحلف العبد معهما أو مع أحدهما، والحكم أنه لا ولاء عليه، لأن أحدا لا يدعيه، بل دعوى كل واحد منهما تضمنت إنكاره، ولا يثبت لأحد حق ينكره، وكذلك إذا ادعى العبد العتق، وأنكره السيد، وقامت عليه البينة، فإن عاد من نسبت إليه عتاقته فاعترف بذلك ثبت له الولاء، لأنه لا مستحق له سواه قاله أبو محمد. وقد بقي من تقسيم دعوى الشريكين إذا كان أحدهما موسرا والآخر معسرا، والحكم أن نصيب المعسر يعتق وحده مجانا، لتضمن دعواه أن نصيبه عتق بإعتاق شريكه الموسر، ولا يعتق نصيب الموسر، لأن دعواه أن المعسر أعتق، والحكم أن عتقه لا يسري على ما تقرر، ولا تقبل شهادة المعسر عليه، لأنه يجر بها نفعا، لكونها توجب عليه نصف القيمة، نعم له عليه اليمين لضمان السراية، فإن نكل قضي عليه، وإن رد اليمين وقلنا بذلك فحلف المعسر أخذ قيمة حقه، ولم يعتق حق الموسر باليمين المردودة، لأنه لم يوجد منه إقرار ولا ما يقوم مقامه وهو النكول، ولا ولاء للمعسر في نصيبه، لأنه لا يدعيه، فإن عاد المعسر فأعتق نصيبه وادعاه ثبت له، قاله أبو محمد، وفيه

شيء، لأن دعواه أولا تبطل دعواه ثانيا، وكذلك إن عاد الموسر فأقر بإعتاق نصيبه ثبت له الولاء، وغرم نصيب المعسر، والله أعلم. قال: وإذا مات رجل وخلف ابنين وعبدين لا يملك غيرهما، وهما متساويان في القيمة، فقال أحد الابنين: أبي أعتق هذا. وقال الآخر: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما. أقرع بينهما، فإن وقعت القرعة على الذي اعترف الابن بعتقه عتق منه ثلثاه، إن لم يجز الابنان عتقه كاملا، وكان الآخر عبدا، وإن وقعت القرعة على الآخر عتق منه ثلثه، وكان لمن أقرعنا بقوله فيه سدسه ونصف العبد الآخر، ولأخيه نصفه وسدس العبد الذي اعترف أن أباه أعتقه، فصار ثلث كل واحد من العبدين حرا. ش: هذه المسألة محمولة على حالة يكون التبرع فيها من الثلث، كالعتق في مرض الموت ونحو ذلك، إذ لو لم يكن كذلك لنفذ العتق في الكل، ولم يقف على إجازة الورثة، وقرينة هذا ذكر الإجازة في الورثة. إذا تقرر أن ذلك في حالة العتق فيها من الثلث فلا يخلو ذلك من أربعة أحوال (أحدها) أن يعينا العتق في أحدهما،

فيعتق منه ثلثاه، إن لم يجيزا عتقه كاملا، لأن ذلك ثلث جميع ماله، وهذا واضح (الثاني) عين كل واحد منهما العتق في غير الذي عينه أخوه، فيعتق من كل واحد ثلثه، لأن مجرد قول الشخص إنما يقبل في حق نفسه دون حق غيره، وحق كل واحد منهما نصف العبدين، فيقبل قوله في حقه من الذي عينه وهو ثلثاه، وذلك هو الثلث، ويبقى له نصف ثلثه وهو السدس، ونصف العبد الآخر (الثالث) قال أحدهما: أبي أعتق هذا. وقال الآخر: أبي أعتق أحدهما لا أدري من منهما. وهي صورة الكتاب، فإنه يقرع بينهما لتبيين ما حصل فيه الإبهام، فإن وقعت على الذي اعترف الابن بعتقه عتق منه ثلثاه، لأن بخروج القرعة عليه كأنه قد حصل اتفاق الابنين على عتقه، وإذا يعتق ثلثاه، إلا أن يجيزا عتقه كاملا فيعتق جميعه، لأن ذلك محض حقهما، ويبقى العبد الآخر على الرق، لأنه قد تبين أنه لم يقع في عتق، وإن وقعت على الآخر كان كما لو عين كل منهما عبدا كما تقدم، يعتق من الذي خرجت عليه القرعة ثلثه، لأنه حق الذي قال: لا أدري. وله - وهو الذي أقرعنا بسبب قوله - سدسه، ونصف العبد الآخر، ولأخيه نصف الذي خرجت عليه القرعة، لأنه ينكر العتق فيه رأسا وسدس العبد الذي اعترف أن أباه أعتقه، لأن ثلثه عتق بإقراره كما تقدم، وإذا آل

الأمر إلى أن صار ثلث كل واحد منهما حرا (الحال الرابع) أن يقولا: أعتق أحدهما ولا ندري من منهما. فإنه يقرع بين العبدين، فمن وقعت عليه القرعة عتق منه ثلثاه، إن لم يجيزا عتقه كله، وبقي الآخر على الرق، والفطن لا يخفى عليه جميع الأحوال من مسألة الكتاب، والله أعلم. قال: وإذا كان لرجل نصف عبد، ولآخر ثلثه، ولآخر سدسه، فأعتقه صاحب النصف وصاحب السدس معا، وكانا موسرين، عتق عليهما، وضمنا حق شريكهما فيه نصفين، وكان ولاؤه بينهما أثلاثا، لصاحب النصف ثلثاه، ولصاحب السدس ثلثه. ش: ملخصه أن العتق إذا سرى على اثنين من الشركاء فأكثر بعتقهما معا هل يكون على عدد رؤوسهم - وهو المذهب المجزوم به بلا ريب - لأن العتق بمنزلة الإتلاف، وقد وجد منهما فيتساويان في ضمانه، كما لو جرحه أحدهما جرحا، والآخر أكثر منه، أو على قدر الملكين - وهو احتمال لأبي الخطاب - لأن ذلك حصل بسبب الملك، فقدر بقدره كالنفقة؟ على قولين، (فعلى المذهب) إذا أعتق صاحب النصف وصاحب السدس والحال ما تقدم، عتق عليهما نصيب

صاحب الثلث نصفين، فيحصل لصاحب النصف الثلثان، النصف بالمباشرة، والسدس بالسراية، ولصاحب السدس الثلث، نصفه مباشرة، ونصفه سراية، (وعلى الاحتمال) الآخر يكون الثلث بينهما أرباعا، لصاحب النصف نصفه، ونصف نصفه، وذلك سدس ونصف سدس، وذلك ربع، فيستقر عليه عتق ثلاثة أرباع العبد، ولصاحب السدس ربع الثلث، وهو نصف السدس، فيستقر عليه عتق ربعه، ولو كان المعتق صاحب النصف وصاحب الثلث، لكان (على المذهب) المعتق الربع، لصاحب النصف الثلث والربع، ولصاحب الثلث الربع والسدس، (وعلى الاحتمال) السدس بينهما أخماسا، لصاحب النصف ثلاثة أخماسه، ولصاحب الثلث خمساه، فالعبد على ثلاثين سهما، لصاحب النصف ثمانية عشر، وذلك نصفه ونصف خمسه، ولصاحب الثلث اثنا عشر، وذلك خمساه، ولو كان المعتق صاحب السدس والثلث لكان (على المذهب) لصاحب السدس ربع وسدس، ولصاحب الثلث ثلث وربع، (وعلى الاحتمال) النصف مقسوم بينهما على ثلاثة، فيستقر لصاحب السدس الثلث ولصاحب الثلث الثلثان والضمان والولاء تابعان للسراية. وقول الخرقي: معا. قد تقدم ثم تصوير ذلك بأن يتفق تلفظهما بالعتق في آن واحد، أو يعلقاه على صفة واحدة، أو يوكلا شخصا يعتق عنهما، فلو سبق أحدهما بالعتق لعتق

وطء الجارية المشتركة

عليه كله بشرطه كما تقدم، وقوله: وهما موسران، لأنهما لو كانا معسرين لم يسر كما تقدم، وإن كان أحدهما موسرا فقط اختص بالسراية. [وطء الجارية المشتركة] قال: وإذا كانت الأمة نفسين فأصابها أحدهما وأحبلها أدب ولم يبلغ به الحد. ش: قد تضمن هذا الكلام تحريم وطء الجارية المشتركة وهذا والله أعلم اتفاق، وقد دل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] إلى {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] والوطء والحال هذه قد صادف ملك الغير بلا نكاح، فإذا وطئ الشريك أثم بلا ريب، (ولا حد عليه) كما تضمنه أيضا كلام الخرقي، وهو قول العامة، لأنه وطء صادف ملكا له، أشبه ما لو وطئ زوجته الحائض، وكما لو سرق عينا له بعضها، ويعزر اتفاقا، لإتيانه، المعصية، ولا يبلغ به الحد، لأنه لو بلغ به الحد لصار حدا. وظاهر كلام الخرقي أنه يجوز أن يزاد على عشر جلدات وقد تقدم ذلك مستوفى في التعزيرات على ما يسره الله سبحانه، فلينظر ثم، ولا فرق في هذا كله بين أن يحبلها أو لا يحبلها، وإنما ذكر الإحبال قيدا فيما يأتي بعده والله أعلم. قال: وضمن نصف قيمته لشريكه، وصارت أم ولد له.

ش: يعني الشريك المحبل تصير الأمة المشتركة أم ولد له، لأنه وطء صادف ملكا له، فأشبه ما لو كانت خالصة له، ولأن العتق يسري إلى ملك الغير، فلأن يسري الاستيلاد أولى لقوته، بدليل صحته من المجنون، ونفوذه في مرض الموت، بخلاف العتق، فإنه إنما ينفذ في المرض من الثلث، ولا يصح من مجنون، وإذا صارت أم ولد له ضمن نصف قيمتها لشريكه، لأنه أتلف ذلك عليه معنى، أشبه ما لو أتلفه عليه حسا. وظاهر كلام الخرقي أنه لا يلزمه والحال هذه شيء من المهر، ولا من قيمة الولد، وهذا إحدى الروايات، وظاهر كلام أبي الخطاب، وأبي محمد في المقنع، وعلله القاضي في تعليقه في كتاب الغصب بأن زوال ملك الشريك حصل بفعل الله، وهو انعقاد الولد، وهذا يقتضي أن لا يجب نصف قيمة الأمة، وليس بشيء، وقد يعلل بأن المهر إنما يستقر بالنزع، وعند النزع كانت مملوكة، لأنها انتقلت إليه بالعلوق، والولد لا قيمة له إذا (والرواية الثانية) لا يلزمه للولد شيء لما تقدم، ويلزمه نصف مهرها، لمصادفة الوطء لملك الغير، والانتقال حصل بعد ذلك، وقد يؤخذ من هاتين خلاف المهر هل (يستقر) بالإيلاج أو (لا يستقر) إلا بالنزع (والرواية

الثالثة) يلزمه نصف مهرها لما تقدم، ونصف قيمة الولد، لأنه بفعله منع انخلاقه على ملك الشريك، أشبه ولد المغرور، وقال القاضي إن وضعته بعد التقويم فلا شيء فيه، لأنها وضعته في ملكه، وإن وضعته قبل ذلك فالروايتان، واختار اللزوم، واعلم أن الإحبال ليس بكاف في ما تقدم، بل لا بد من وضع ما تصير به أم ولد كما سيأتي، وقد أشعر بذلك قوله صارت أم ولد له وولده حر، والله أعلم. قال: وولده حر. ش: لأنه وطء في محل له فيه ملك، أشبه ما لو وطئ زوجته في الحيض، أو في الإحرام ونحو ذلك، والله أعلم. قال: فإن كان معسرا كان في ذمته نصف قيمتها. ش: لا فرق في سراية الاستيلاد بين الموسر والمعسر على منصوص أحمد، واختيار الخرقي والشيخين وغيرهما، لما تقدم قبل، وعلى هذا يبقى في ذمته نصف قيمة الجارية، لأن الله سبحانه أوجب إنظار المعسر بقوله سبحانه: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وقال القاضي في الجامع الصغير، وأبو الخطاب في الهداية: لا يسري الاستيلاد مع الإعسار كالمباشرة،

حكم ملك من يعتق عليه

وحذارا من إضرار الشريك بتأخير حقه، وعلى هذا هل يكون الولد كله حرا، تغليبا للحرية - وهو ظاهر كلام الأكثرين - أو نصفه حرا ونصفه رقيقا كأمه؟ فيه احتمالان، ذكرهما في المغني. قال: وإن لم تحبل منه فعليه نصف مهر مثلها، وهي على ملكهما. ش: أما وجوب نصف مهر المثل والحال هذه فلأن منفعة البضع مشتركة بينه وبين شريكه، وقد استوفاها، فوجب عليه ما يقابل نصيب شريكه، كما لو فعل ذلك أجنبي، وأما كونها والحال هذه على ملكهما لأن المقتضي والحال هذه لتزلزل ملكهما الاستيلاد، ولم يوجد، والله أعلم. [حكم ملك من يعتق عليه] قال: وإذا ملك سهما من بعض من يعتق عليه بغير الميراث وهو موسر عتق عليه كله، وكان لشريكه عليه قيمة حقه منه، وإن كان معسرا لم يعتق عليه منه إلا مقدار ما ملك، وإذا ملك بعضه بالميراث لم يعتق عليه إلا مقدار ما ملك منه، موسرا كان أو معسرا.

ش: إذا ملك سهما ممن يعتق عليه - وهو ذو الرحم المحرم - فلا يخلو إما أن يكون بغير اختياره كالميراث، أو باختياره كالبيع والهبة والاغتنام ونحو ذلك، وفي كليهما يعتق السهم الذي ملكه، لأن كل سبب إذا وجد في الكل عتق به، إذا وجد في البعض عتق به، كالإعتاق بالقول، ثم ينظر فإن كان معسرا استقر العتق في ذلك السهم، ولم يسر على المذهب، كما تقدم في المباشرة، وإن كان موسرا والتملك باختياره سرى عليه في نصيب شريكه، لأنه تسبب في العتق اختيارا منه، فسرى عليه كما لو وكل في عتق بعض عبد يملكه، وإن كان التملك بغير اختياره لم يسر عليه، على المشهور عند الأصحاب، والمجزوم به للقاضي في الجامع، وأبي محمد في الكافي وغيرهما، لأنه لم يتسبب في الإعتاق، إنما حصل بغير اختياره، ومنصوص أحمد في رواية المروذي أنه يسري عليه والحال هذه، لأنه عبد عتق عليه بعضه وهو موسر، فسرى إلى باقيه، كما لو أوصي له به فقبله، ولم يذكر القاضي في الروايتين بالأول نصا، وحيث سرى ضمن لشريكه قيمة حقه منه، لإتلاف ذلك عليه. وقول الخرقي: من بعض. إشعار لكون السهم قليلا، ونبه بذلك على الكثير، وهو كذلك. (تنبيه) : حكم إرث الصبي والمجنون حكم إرث غيرهما أما لو وهب لهما أو وصى لهما بسهم ممن يعتق عليهما، فهل يسري

الإعتاق في مرض الموت

عليهما مع يسارهما إن قبله الولي، لكونه قائما مقامهما، أو لا يسري لدخوله في ملكهما بغير اختيارهما؟ فيه وجهان، وعليهما يتفرع جواز قبول الولي وعدمه، وحيث جاز له القبول فشرطه أن يكونا ممن لا تلزمه النفقة، وحيث منع من القبول فقبل فهل يصح ويلزمه الغرامة، أو لا يصح رأسا؟ فيه احتمالان. [الإعتاق في مرض الموت] قال: وإذا كان له ثلاثة أعبد فأعتقهم في مرض موته، أو دبرهم، أو دبر أحدهم. وأوصى بعتق الآخرين، ولم يخرج من ثلثه إلا واحد منهم، لتساوي قيمتهم، أقرع بينهم بسهم حرية، وسهمي رق، فمن وقع له سهم حرية عتق دون صاحبيه. ش: أما كونه يقرع بينهم والحال هذه: 3892 - فلما «روى عمران بن حصين أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال له قولا شديدا» ، رواه الجماعة إلا البخاري.

3893 - «وعن أبي زيد الأنصاري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته، ليس له مال غيرهم، فأقرع بينهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأعتق اثنين وأرق أربعة» ، رواه أحمد وأبو داود بمعناه، وقال فيه: «لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين» ولأنه حق في تفريقه ضرر، فوجب جمعه بالقرعة كقسمة الإجبار مع الطلب إجماعا، وبذلك يبطل قول الخصم: إنه مخالف للقياس، ثم لو سلم ذلك فالحجة في قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

مطلقا، ويدل على دخول القرعة في المشتبهات في الجملة قوله سبحانه: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] وقوله سبحانه: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] ولا يعترض على هذا بأنه منسوخ، لعدم جوازه في شريعتنا، لأنا نقول: دل ذلك على شيئين، مشروعية القرعة مطلقا في الكفالة، وإلقاء واحد من الجماعة في اليم، وامتناع القرعة في دين لا يدل على عدم مشروعية القرعة مطلقا، كيف وقد حصل تواتر معنوي على مشروعيتها، قال أحمد: في القرعة خمس سنن: 3894 - «أقرع بين نسائه، وأقرع بين ستة مملوكين» . 3895 - وقال لرجلين: «استهما. 3896 - وقال: «مثل القائم بحدود الله والمداهن فيها كمثل قوم استهموا على سفينة» . 3897 - وقال: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا

عليه» . انتهى. 3898 - ولما تشاح الناس في الأذان يوم القادسية أقرع بينهم سعد، وهذا إجماع من الصحابة على مشروعية القرعة، وصفة القرعة أن يقرع بينهم بسهم حرية وسهمي رق، فمن خرج له سهم الحرية عتق دون الآخرين، فيكتب ثلاث رقاع، في واحدة حرية، وفي اثنتين رق، وتترك في ثلاث بنادق شمع أو طين، وتغطى بثوب، ويقال لمن لم يحضر: أخرج بندقة لهذا، فإن خرج له رقعة حرية عتق، ورق الآخران، وإن خرجت رقعة رق رق، وأخرجت أخرى على آخر، فإن خرجت رقعة الحرية عتق ورق الثالث، وإن خرجت رقعة رق رق، وتعين عتق الثالث، لانحصار العتق في الثلاثة، ولا تتعين هذه الصفة، بل كيف ما أقرع جاز، وهذا في الصورة التي ذكرها الخرقي، وهي إذا استوت قيمتهم، أما إن اختلفت فلذلك صور ليس هذا موضع

بيانها. واعلم أنه يستفاد من كلام الخرقي مسائل غير ما استفيد منه بالنص وهو ما تقدم (إحداها) أن قوله: إذا كان له ثلاثة أعبد فأعتقهم في مرض موته. يشمل ما إذا أعتقهم دفعة واحدة أو دفعات، بل لو حمل على أن مراده أعتقهم في دفعات لكان أولى، لأنه قال بعد: ولو قال لهم في مرض موته: أحدكم حر، أو كلكم حر. ومات فكذلك؛ فصرح بما إذا أعتقهم، فلو لم يحمل هذا على أنه أعتقهم في دفعات أو على العموم لكان تكرارا وهو خلاف الظاهر، لا سيما في هذا المحل، فإنه يبعد جدا، لعدم الفصل بين المسألتين، ويعلم من هذا أن مذهب الخرقي أنه يسوي في العطايا بين متقدمها ومتأخرها، وهذا إحدى الروايات، لما تقدم من حديثي جابر وأبي زيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل هل أعتقهم بكلمة أو بكلمات (والرواية الثانية) أن يقدم الأول فالأول، إلى أن يستوفي الثلث، وهي المذهب عند الأصحاب، حتى إن أبا محمد جزم بها، وحمل كلام الخرقي على العتق دفعة واحدة، ويلزم منه المحذور السابق (والرواية الثالثة) إن كان فيها عتق قدم، وإلا سوي بين متقدمها ومتأخرها. انتهى. (الثانية) أن قوله: في مرض

موته. يخرج ما إذا أعتقهم في صحته، فإن عتقهم ينفذ وإن كان عليه دين يستغرق قيمتهم، على المذهب المعروف، ما لم يكن محجورا عليه بفلس أو سفه، فإن في نفوذ عتقه خلافا مشهورا (الثالثة) دل كلامه على أن العتق في مرض الموت من الثلث، ولا خلاف في ذلك فيما نعلمه، وقد شهد له حديث جابر وأبي زيد، وأن الوصية أيضا بالعتق من الثلث، وهذا واضح أيضا، لما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم» الحديث. وكذلك التدبير أيضا، وهو المذهب بلا ريب، لأن التدبير عتق معلق بالموت فهو كالوصية، (وعن أحمد) رواية أخرى أن التدبير في الصحة معتبر من رأس المال، نظرا لحالته الراهنة. (الرابعة) إطلاقه هنا يقتضي أن الوصايا إذا وقعت دفعات سوي بين متقدمها ومتأخرها، وهذا هو المذهب هنا بلا ريب، عكس المذهب في العطايا، وفيه رواية أخرى إن كان فيها عتق قدم، وإلا سوي كرواية ثم، ولا نعلم هنا رواية بتقديم الأسبق فالأسبق.

(الخامسة) صريح كلامه التسوية بين التدبير والوصية بالعتق، وذلك لأنهما اجتمعا في كونهما عتقا بعد الموت، ولأبي محمد احتمال بتقديم التدبير، لأن الحرية تقع فيه بالموت، والوصية تقف فيه على الإعتاق بعده. انتهى. ويقوى هذا الاحتمال أو يتعين إن قيل: إن كان التدبير في الصحة وقلنا: إنه من رأس المال. (السادسة) قوله: ولم يخرج من الثلث إلا أحدهم لتساوي قيمتهم. يخرج به ما إذا خرج الجميع من الثلث فإنا نعتقهم، ولو لم يخرج منهم شيء لدين على الميت ونحو ذلك فإنا لا نعتق منهم شيئا. قال: ولو قال لهم في مرض موته: أحدكم حر. أو كلكم حر. ومات فكذلك. ش: يعني حكم ذلك حكم ما تقدم، وقد تقدم التنبيه على صورة: كلكم حر. أما أحدكم حر إذا لم ينو معينا فإنه يقرع بينهم، إذ لم يكن عليه دين يستغرقهم، فمن خرجت عليه القرعة عتق إن خرج من الثلث، وإلا عتق منه قدر الثلث، وإن نوى معينا تعين العتق فيه، وليس للمعتق التعيين إذا لم ينوه على المذهب، والله أعلم.

قال: وإذا ملك نصف عبد فدبره، أو أعتقه في مرض موته، فعتق بموته، وكان ثلث ماله يفي بقيمة النصف الذي لشريكه أعطي وكان كله حرا في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والرواية الأخرى لا يعتق إلا حصته وإن حمل ثلث ماله حصة شريكه. ش: الرواية الأولى اختيار أبي الخطاب في خلافه، إلا أنه إنما صرح بذلك في العتق، وذلك لأن تصرف المريض في ثلث ماله كتصرف الصحيح في الجميع، ولو أعتق الصحيح الموسر سرى في كل ماله، فكذلك يسري في ثلثه (والثانية) اختيار الشيرازي، والشريف، وحكاه عن شيخه، لأن حق الورثة تعلق بماله إلا ما استثنيناه من الثلث بتصرفه فيه، وفي المذهب (رواية ثالثة) يسري في العتق لما تقدم، إذ العتق يقع في حال الحياة، ولا يسري في التدبير، لأن ملكه يزول بموته، فلم يبق له شيء يوفي منه، وهذه اختيار القاضي في الروايتين، إلا أنه لم يصرح برواية إنما قال: يجب أن يكون الصحيح من الروايتين أنه إذا أعتق في مرضه قوم، وإذا أوصى لم يقوم، واعلم أن حكم الوصية يعتق بذلك حكم تدبيره، صرح به القاضي في روايتيه، وأبو الخطاب وغيرهما. وقول الخرقي: فعتق بموته. أي بسبب موته، إشعار منه بأن العتق في المرض والتدبير والوصية جميع ذلك معتبر بالموت، إن

كان له مال يخرج له من ثلثه نفذ، وإلا نفذ منه قدر الثلث، وإن لم يكن له مال، أو كان له لكن عليه دين يستغرقه، لم ينفذ منه شيء، وقوله: وكان ثلث ماله يفي بقيمة نصف الشريك، يحترز عما إذا لم يف بقيمة نصيب الشريك، وتحته صورتان (إحداهما) لا يفي بشيء منه، فهذا لا يعتق إلا نصيبه، قال أبو محمد: بلا خلاف نعلمه، إلا قول من يقول بالسعاية (الثانية) وفى ببعضه، فينبغي أن يتخرج على العتق والحال هذه في حال الصحة، إن قلنا: يسري في ذلك القدر على المنصوص. خرج هنا الخلاف السابق، وإن قلنا: لا يسري ثم فهاهنا أولى. ومقتضى كلام الخرقي أنه بمجرد التدبير لا يسري عليه، وهذا هو المذهب المشهور المجزوم به للقاضي وغيره، إذ التدبير إما تعليق للعتق بصفة أو وصية، وكلاهما لا يسري، وحكى أبو الخطاب والشيخان وجها، وابن حمدان في رعايتيه رواية بالسراية، فيصير كله مدبرا، ويغرم لشريكه قيمة حقه منه، لأنه سبب يوجب العتق بالموت، فسرى كالاستيلاد، وهذا التعليل يوجب السراية ولو مع الإعسار، كالاستيلاد على

المنصوص، وهو مقتضى إطلاق أبي الخطاب وأبي محمد في المقنع، وابن حمدان، وهو مشكل على أبي الخطاب، لأن الأصل عنده إنما يسري مع اليسار، فكذلك الفرع، وقيد ذلك أبو محمد في المغني وأبو البركات باليسار، والله أعلم. قال: وكذلك إذا دبر بعضه وهو مالك لكله. ش: يعني فيه الروايتان، هل يسري في بقيته إن وفى ثلثه به، لما تقدم من أنه غير محجور عليه في الثلث، أو لا يسري، لما تقدم من أن ملكه يزول بالموت؟ ولم يتعرض الخرقي لما إذا أعتق بعضه في مرض موته وهو مالك لكله، وفيه أيضا الخلاف السابق. قال: ولو أعتقهم وثلثه يحتملهم فأعتقناهم، ثم ظهر عليه دين يستغرقهم بعناهم في دينه. ش: وهذا راجع لما تقدم من قوله: وإذا كان له ثلاثة أعبد، فأعتقهم في مرض موته. وهذا الذي قاله الخرقي هو المذهب بلا ريب، قطع به غير واحد من الأصحاب، لأنه تبرع في المرض بما يعتبر من الثلث، فقدم الدين عليه كالهبة، ولأن العتق والحال هذه بمنزلة الوصية، والدين مقدم على الوصية. 3899 - «وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الدين قبل الوصية» . ذكره البخاري تعليقا، وهو بعض حديث رواه أحمد

والترمذي وابن ماجه وحكى أبو الخطاب في كتابيه رواية يعتق ثلثهم والحال هذه، فعلى الأولى إن اختار الورثة إمضاء العتق وقضاء الدين فهل لهم ذلك؟ فيه وجهان في المغني، واحتمالان في الكافي. وقيل: مبناهما إذا تصرف الورثة في التركة، وعلى الميت دين، وقضي الدين هل ينفذ؟ فيه وجهان، والخرقي صور المسألة فيما إذا ظهر عليه دين، فلو كان الدين ظاهرا فكلام أبي الخطاب يقتضي جريان الخلاف فيه أيضا. قال: ولو أعتقهم وهم ثلاثة فأعتقنا منهم واحدا لعجز ثلثه عن أكثر منه، ثم ظهر له مال يخرجون من ثلثه عتق من أرق منهم. ش: يعني أن الاعتبار بما في نفس الأمر، لا بما يظهر لنا، كما في المسألة التي قبلها، إذ خفاء صحة التصرف علينا لا يمنع صحته إذا وجد شرطه، وقد وجد، إذ الإنسان له أن

حكم إضافة العتق لوقت

يتصرف في ثلث ماله عند موته بما شاء، وقوله: عتق من أرق منهم، أي تبينا عتقه حين خروجه من الثلث، وحكم التدبير والوصية كذلك. [حكم إضافة العتق لوقت] قال: ومن قال لعبده: أنت حر في وقت سماه، لم يعتق حتى يأتي ذلك الوقت. ش: يصح تعليق العتق على شرط، كقدوم زيد، وأول رجب، ونحو ذلك. 3900 - لأنه يروى عن أبي ذر أنه قال لعبده: أنت عتيق إلى رأس الحول. ولا يعرف له مخالف، ولأنه عتق بصفة فصح كالتدبير، أو إزالة فصح على ذلك كالطلاق، إذا تقرر هذا فلا يعتق حتى يجيء الشرط، لأن المعلق على شرط عدم عند عدمه، ويعتق عند وجوده، لوجود السبب، مع انتفاء المانع، نعم شرط عتقه أن يوجد الشرط وهو في ملكه، فلو كان قد خرج من ملكه لم يعتق، إذ «لا عتق لابن آدم فيما لا يملك» كما شهد به النص. قال: وإذا أسلمت أم ولد النصراني منع من غشيانها والتلذذ

بها، وكان نفقتها عليه، فإذا مات عتقت. ش: هذه المسألة قد ذكرها هنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - وذكرها أيضا في أحكام أمهات الأولاد، فلنؤخر ذكرها إلى ثم، فإنه أليق بها، والله أعلم. قال: وإذا قال لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر. فولدت اثنين أقرع بينهما، فمن أصابته القرعة عتق إذا أشكل أولهما خروجا. ش: وذلك لأن أحدهما استحق العتق في نفس الأمر، ولم يعلم عينه، فوجب إخراجه بالقرعة، كما لو قال لعبديه: أحدكما حر. ولو علم أولهما خروجا حكم بعتقه وحده من غير قرعة، لوجود الشرط، إذ هو أول ولد ولدته، وهذا بشرط أن تلدهما حيين، أما إن ولدت الأول ميتا، والثاني حيا ففيه روايتان (إحداهما) - وهي اختيار أبي محمد، قطع به في المقنع، وصححه في المغني مع أنه لم يذكر ذلك رواية، إنما ذكره عن الشافعي وغيره - لا يعتق منهما شيء، إذ شرط العتق وجد في الميت، إذ هو أول ولد ولدته، وليس بمحل للعتق، فانحلت اليمين به (والرواية الثانية) - وبها جزم القاضي في الجامع

الصغير، وكثير من أصحابه، الشريف، وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن عقيل في التذكرة - يعتق الحي منهما لأن القصد من اليمين التعليق على ولد يصح العتق فيه، وذلك بأن يكون حيا، فالحياة مشروطة فيه، فكأنه قال أول ولد تلدينه حيا فهو حر. والله أعلم. قال: وإذا قال العبد لرجل: اشترني من سيدي بهذا المال، وأعتقني. ففعل فقد صار العبد حرا، وعلى المشتري أن يؤدي إلى البائع مثل الذي اشتراه به، وولاؤه للذي اشتراه، إلا أن يكون قال له. بعني بهذا المال، فيكون الشراء والعتق باطلا، ويكون السيد قد أخذ ماله أخذه. ش: ملخصه أن شراء الأجنبي للعبد والحال هذه لا يخلو إما أن يكون في الذمة أو بعين المال الذي دفعه له العبد، فإن كان في الذمة فالشراء صحيح، لأن تصرف وجد من أهله في محله، من غير مانع، فصح كما لو اشترى غيره، فإذا أعتقه إذا نفذ عتقه، لأن عتق من مالك، ثم على المشتري أن يؤدي إلى البائع ما اشتراه به، للزوم ذلك له بالبيع، فإن كان قد نقد له المال الذي دفعه العبد وجب رده، لأنه ملك لسيده، والولاء للمشتري، لأنه المعتق، وإن كان الشراء قد وقع بعين المال

الذي دفعه العبد فالشراء باطل على المذهب، بناء على أن العقد والحال هذه لا يقف على الإجازة، وأن النقود تتعين بالتعيين، ولبيان هذين الأصلين موضع آخر، أما إن قيل يوقف نحو هذا على الإجازة، فقد يقال: إن إجازة السيد إذا تضمنت تمليك العبد هذا المال وإذنه في شراء نفسه منه به، وفي صحة هذا شيء، فإن قيل بصحته فالولاء للسيد لأنه المعتق، ولو قيل إن النقود لا تتعين بالتعيين فهو كما لو اشترى في ذمته على ما تقدم، وهذا البناء الثاني [بناه أبو محمد وابن حمدان، ولم يتعرض للأول، والله سبحانه أعلم] .

حكم التدبير

كتاب التدبير ش: التدبير مصدر دبر تدبيرا إذا علق العتق بالموت، سمي بذلك لأنه يعتق بعدما يدبر سيده، والممات دبر الحياة، قال ابن عقيل: هو مشتق من إدباره من الدنيا، انتهى. وهو لفظ خص به العتق، فلا يستعمل في كل شيء بعد الموت من وصية ونحوها. 3901 - والأصل في جوازه ما «روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا أعتق غلاما له من دبر، فاحتاج، فأخذه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «من يشتريه مني؟» ، فاشتراه نعيم بن عبد الله بكذا وكذا، فدفعه إليه» ، متفق عليه مع أن ذلك والحمد لله إجماع في الجملة حكاه ابن المنذر، والله أعلم. [حكم التدبير] قال: وإذا قال السيد لعبده أو لأمته: أنت مدبر، أو قد

دبرتك، أو أنت حر بعد موتي. فقد صار مدبرا. ش: أما صيرورته مدبرا بلفظ التدبير نحو: أنت مدبر أو دبرتك، فلأنه أتى بلفظه الموضوع له فصح به، كلفظ العتق فيه، وأما صيرورته مدبرا إذا أتى بصريح العتق معلقا له بالموت - نحو أنت حر أو محرر، أو حررتك بعد موتي، أو معتق أو عتيق بعد موتي - فلأنه أتى بحقيقة التدبير، إذ حقيقته تعليق العتق بالموت، وإذا أتي بحقيقة الشيء حصل ذلك الشيء. ومقتضى كلام الخرقي أنه لا يفتقر في ذلك إلى نية، وهو كذلك، والخرقي لم يتعرض إلا للتدبير المطلق، ويصح أيضا مؤقتا نحو: أنت مدبر اليوم. نص عليه أحمد، ومعلقا على شرط نحو إذا قدم زيد. أو إذا جاء رأس الشهر فأنت مدبر. ونحو ذلك. والله أعلم. وقال وله بيعه في الدين. ش: أي العبد المدبر، بدليل ما يأتي بعد، وهذا هو المعروف في المذهب، حتى إن عامة الأصحاب لا يحكون فيه خلافا، لما تقدم من حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وأطلق أحمد المنع في رواية حرب، وسأله في رجل دبر عبده ثم كاتبه يجوز، لأنه يملكه بعد، وأما بيعه من غيره [فلم يجوزه، وفرق بين بيعه من غيره وكتابته، لأنه إذا كاتبه فهو بعد في ملكه، وإذا باعه

من غيره] فقد خرج عن ملكه، قلت: ولو كاتب عبده ثم دبره؟ قال: هو جائز. 3902 - وروى أحمد عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه كره بيعه، وهذا الأثر - والله أعلم - مستند أحمد في المنع، (ومفهوم كلام الخرقي) أنه لا يجوز بيعه في غير الدين، وهو إحدى الروايتين. 3903 - لأن في لفظ في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رواه النسائي قال: «أعتق رجل من الأنصار غلاما له عن دبر، وكان محتاجا، وكان عليه دين، فباعه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بثمانمائة درهم فأعطاه، فقال: «اقض دينك، وأنفق على عيالك» » فالنص ورد في ذلك،

والأصل عدم غيره، قياسا على أم الولد، بجامع أن كلا منهما عتقه معلق بالموت. (والرواية الثانية) يجوز بيعه مطلقا، وهي المذهب عند الأصحاب، اختارها القاضي، والشريف وأبو الخطاب، والشيرازي وأبو محمد وغيرهم، لأن التدبير إما وصية أو تعليق للعتق على صفة، وأيما كان لا يمنع البيع، وقد أشار إلى هذا التعليل وبيع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للمدبر في صورة الحاجة لا يمنع من بيعه مطلقا، لا سيما من قاعدتنا أن الأصل في العقود والشروط الصحة، ما لم يدل دليل على المنع، كما هو مقرر في موضعه. (تنبيه) ظاهر كلام الخرقي اختصاص الجواز بالدين فقط، وعدم ما سواه، وهو ظاهر كلام أبي محمد في المقنع، وأبي البركات على هذه الرواية وهو ظاهر كلام أحمد، قال في رواية حنبل وعبد الله: أرى بيع المدبر في الدين إذا كان فقيرا لا يملك شيئا غيره، وظاهر كلام القاضي في جامعه وروايتيه وأبي محمد في الكافي إناطة ذلك على هذا القول بالحاجة، ولا يخفى أنه أعم من الأول، والله أعلم.

قال: ولا تباع المدبرة في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -، والرواية الأخرى الأمة كالعبد. ش: توجيه الفرق بين المدبرة والمدبر على الأولى أن في جواز بيعها إباحة لفرجها، وهو مختلف فيه، والفروج يحتاط لها، وقد أشار أحمد إلى هذا فقال: لا أجترئ على بيع المدبرة، لأنه فرج يوطأ. (وتوجيه التسوية) وأن حكم الأمة حكم العبد، تباع في الدين على رأيه ومطلقا على رأي غيره. 3904 - أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - باعت مدبرة لها سحرتها، وما

تقدم لا يصلح دليلا للمنع، نعم يصلح دليلا للكراهة، ولهذا حمل أبو محمد الرواية الأولى على الورع، انتهى، وحكم نقل الملك فيها بهبة أو وقف حكم بيعها، والله أعلم. قال: فإن اشتراه بعد ذلك رجع في التدبير. ش: إذا اشترى السيد عبده المدبر بعد أن باعه رجع العبد في التدبير، لأن عتقه معلق بصفة، فإذا خرج عن ملكه ثم عاد إليه عادت الصفة، كما لو قال: أنت حر إن دخلت الدار. ثم باعه ثم اشتراه كذا بناه القاضي، قال فإن قلنا: إن التدبير وصية بطل بالبيع، ولم يعد بالشراء، كما إذا أوصى بشيء ثم باعه، والصحيح عند أبي محمد رجوعه في التدبير مطلقا، جعل التدبير راجعا للمعنيين، التعليق بصفة والوصية، فيثبت حكمهما فيه، وإذا إذا كانت الوصية تقتضي عدم العود فالتعليق يقتضي العود، فيعمل بمقتضاه إذا وجد، والله أعلم. قال: ولو دبره وقال: قد رجعت في تدبيري. أو قال: قد أبطلته لم يبطل. لأنه علق العتق بصفة في إحدى الروايتين،

والرواية الأخرى: يبطل التدبير. ش: الرواية الأولى هي المذهب عند الأصحاب، اختارها القاضي قال في روايتيه: إنها أجودهما، وصححها ابن عقيل في التذكرة، وأبو محمد وغيرهما لما علل به الخرقي، من أن التدبير عتق معلق بصفة وهو الموت، فلم يبطل بالرجوع فيه، كما لو كان معلقا على صفة في الحياة (والثانية) أومأ إليها أحمد في رواية ابن منصور، لأن نفوذه يعتبر من الثلث، ويتوقف على الموت، فأشبه الوصية، وأبو محمد يقول: لا يمتنع اجتماع الأمرين فيه كما تقدم، فيثبت حكم التعليق، ويحصل عتقه بالموت بالشيئين، وقد توقف أحمد في رواية حرب. (تنبيه) على الرواية الثانية إذا رجع وهي حامل هل يكون رجوعا في حملها؟ فيه وجهان، والله أعلم. قال: وما ولدت المدبرة بعد تدبيرها فولدها بمنزلتها. 3905 - ش: لأنه يروى عن عمر وابنه وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أنهم قالوا: ولدها بمنزلتها. ولم يعرف لهم مخالف من

الصحابة، فكان ذلك حجة أو إجماعا، ولأن الأم تعتق بموت سيدها، فتبعها ولدها كأم الولد، ونقل حنبل عن أحمد فيما نقله القاضي في روايتيه، أنه قال: ولد المدبرة إذا لم يشترط يكون للمولى عبدا، وظاهر هذا أنه لا يصير مدبرا معها، وهذا قد يخرج على أن التدبير وصية، ولا شك أن ولد الموصى بها لا يتبعها، ولم يعرج أبو البركات إلى هذه الرواية، وإنما ذكر تخريجا تبعا لأبي الخطاب بعدم التبعية من المعلق عتقها بصفة، فإن تبعية ولدها الحادث بعد الوصية والتدبير لها على قولين. وقول الخرقي: بعد تدبيرها. يخرج ما ولدته قبل ذلك فإنه لا يكون مدبرا بكونه مدبرا معها، وكأنه أخذها وهذا المذهب بلا ريب، لأنه لا يتبع في العتق المنجز، ولا في الاستيلاد،

ففي التدبير أولى، وحكى أبو الخطاب رواية من رواية حنبل قال: سمعت عمي يقول في الرجل يدبر الجارية ولها ولد قال: ولدها يكون مدبرا معها. وأبو محمد حمل هذا على الولد بعد التدبير، توفيقا بين جميع كلامه، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما حكم على ولد المدبرة، أما ولد المدبر فلا يتبع أباه مطلقا على المذهب، لأن الولد إنما يتبع أمه في الحرية والرق لا أباه، (وعن أحمد رواية أخرى) وظاهر كلامه في المغني الجزم بها في ولده من أمته المأذون له في التسري بها يكون مدبرا، لأنه ولده من أمته، فتبعه كالحر، وحيث قيل: إن الولد بمنزلة والده فإنه يصير مدبرا، حكمه حكم ما لو دبر عبدا آخر، بحيث لو لم يخرج من الثلث إلا أحدهما أقرع بينهما، والله أعلم. قال: وله إصابة مدبرته. ش: لأنها مملوكته، فتدخل في عموم قوله سبحانه: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] . 3906 - وقد قال الإمام أحمد: لا أعلم أحدا كره ذلك غير الزهري، والله أعلم.

قال: ومن أنكر التدبير لم يحكم عليه به إلا بشاهدين عدلين، أو شاهد ويمين العبد. ش: أما كون السيد إذا أنكر التدبير لا يحكم عليه إلا بشاهدين فيهما شروط الشهادة فلعموم {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وأما كونه يحكم عليه بشاهد ويمين فلما تقدم للخرقي من أن العتق فيه ذلك، وقد تقدمت المسألة فلا حاجة إلى إعادتها، وقد تضمن كلام الخرقي والأصحاب صحة دعوى العبد التدبير، ولأبي محمد احتمال بعدم صحة دعوى ذلك، بناء على أن التدبير وصية، وأن إنكار الوصية رجوع عنها في وجه، وأن الرجوع في التدبير يبطله، والصحيح عنده صحة الدعوى وفاقا للجماعة، وهو الصواب، لأنه بعد تسليم أن الرجوع في التدبير يبطله، وأن الإنكار رجوع، قد يجيب بالإقرار، فلم يتعين الإنكار جوابا، وهذا كله إذا كانت الدعوى بين السيد والعبد، أما بينه وبين ورثته فالدعوى صحيحة بلا نزاع لعدم ملكهم الرجوع، والله أعلم.

قال: وإذا دبر عبده ومات وله مال غائب، أو دين في ذمة موسر أو معسر، عتق من المدبر ثلثه، وكلما اقتضي من دينه شيء، أو حضر من ماله الغائب شيء، عتق من العبد بقدر ثلث ذلك، حتى يعتق كله من الثلث. ش: إذا دبر عبده ومات ولا مال له سواه عتق ثلثه فقط كما تقدم وإن كان له مال حاصل بحيث يتمكن الورثة منه عتق جميعه إن خرج من الثلث، وإلا عتق منه بقدر الثلث، وإن كان له مال لكن الورثة غير متمكنين منه لكونه غائبا أو دينا، لم يعتق جميعه في الحال، لجواز أن لا يحصل للورثة من المال شيء، فيكون العبد كل التركة، وإذا كان هو كل التركة لم يجز أن يحصل على جميعها، ولكنه يتنجز عتق ثلثه، إذ أسوأ الأحوال أن لا يحصل من المال شيء، فيكون له ثلث التركة، وللورثة ثلثاها، ثم كلما اقتضي من الدين شيء، أو حضر من المال الغائب شيء، عتق منه بقدر ثلثه، فإذا كانت قيمته مائة، وحصل من المال مائة، عتق ثلثه الثاني، ثم إذا حصلت مائة أخرى عتق باقيه، لوجود المقتضي للعتق، وانتفاء المانع، ولا يضر ما بقي بعد ذلك من المال، لخروج المدبر من ثلث الموجود، وإذا عتق تبينا أنه كان حرا حين الموت، فيكون كسبه له، لأن عتقه بالموت، وإنما أوقفناه للشك في خروجه من الثلث، وقد زال

الشك، ومن ثم لو لم يحصل شيء من المال تبينا رق ثلثيه، وإن كان الحاصل لا يخرج المدبر من ثلثه عتق منه بقدر ثلثه، والله أعلم. قال: وإذا دبر قبل البلوغ كان تدبيره جائزا إذا كان له عشر سنين فصاعدا، وكان يعرف التدبير. ش: التدبير بالنسبة إلى التصرف في المال وصية بلا إشكال، فيعطى حكمها، فيصح ممن تصح منه، ويبطل ممن تبطل في حقه، وقد تقدم ذلك فلا حاجة إلى إعادته. قال: وما قلته في الرجل فالمرأة مثله، إذا صار لها تسع سنين فصاعدا. ش: هذا منصوص أحمد، وهو بناء على صحة وصية من لم يبلغ، وعلى تقييد ذلك بسن، وإنما جعل السن تسعا لأنه الذي يتعلق به كثير من أحكامها، كحيضها وصحة إذنها على المذهب وغير ذلك، فكذلك في وصيتها. (تنبيه) حيث صحت وصية من لم يبلغ صح رجوعه كالبالغ، والله أعلم. قال: وإذا قتل المدبر سيده بطل تدبيره. ش: لأنه استعجل ما أجل له، فعوقب بنقيض قصده، كقاتل مورثه، ولأن التدبير وصية، فبطل بالقتل كالوصية

بالمال، ولأن ذلك قد يتخذ وسيلة إلى القتل المحرم لأجل العتق، فمنع العتق سدا للذريعة ولا ترد أم الولد، لأن إبطال الاستيلاد فيها يفضي إلى جواز نقل الملك فيها، وإنه متعذر، بخلاف المدبر، ولأن سبب حرية أم الولد الفعل، والبعضية التي حصلت بينها وبين سيدها بواسطة ولدها، وهذا آكد من القول، ولهذا نفذ إيلاد المجنون، دون إعتاقه وتدبيره، ونفذ إيلاد المعسر وكان من رأس المال، والعتق بخلاف ذلك، واعلم أن البطلان هنا مفرع على المذهب. في أن الوصية تبطل بالقتل نظرا للعتق، أما إن قلنا لا تبطل بالقتل فالتدبير أولى، نظرا للعتق، والله أعلم.

أحكام المكاتب

كتاب المكاتب ش: المكاتب مأخوذ من المكاتبة، والمكاتبة في الاصطلاح عتق على مال منجم نجمين فصاعدا، إلى أوقات معلومة، وأصلها من الكتب وهو الجمع، لأنها تجمع نجوما، ومنه سمي الخراز كاتبا، لأنه يضم أحد الطرفين إلى الآخر بخرزه، والرمل المجتمع كتيبة، لانضمام بعضه إلى بعض، وقيل لأن السيد يكتب بينه وبينه كتابا. وهي مشروعة بالإجماع، وقد شهد لذلك قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] الآية وقصة بريرة، وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» وغير ذلك من الأحاديث، والله أعلم. [أحكام المكاتب] قال: وإذا كاتب عبده أو أمته على أنجم فأديت الكتابة فقد صار حرا. ش: عملا بمقتضى [موضوع] الكتابة، إذ مقتضاها وموضوعها الحرية عند تمام العقد، فعمل على ذلك، كسائر مقتضيات العقود، ولأن رقبته بالأداء تمحضت له، فوجب أن

يعتق، لاستحالة أن يملك الإنسان نفسه (ومقتضى: كلام الخرقي أنه لا يشترط مع ذلك أن يقول: فإذا أديت إلي فأنت حر. ولا نيته، وهو المذهب المجزوم به لعامة الأصحاب، لأنه أتى بصريح لفظ العقد، أشبه ما إذا قال: دبرتك، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال أنه يشترط قول ذلك أو نيته، لأن لفظ الكتابة يحتمل المخارجة، فاحتاج إلى مميز ككنايات الوقف ونحو ذلك، (ومقتضى) كلامه أيضا أن من شرط صحة الكتابة التأجيل، لقوله: على أنجم، فلا تصح الكتابة الحالة، وهذا هو المذهب أيضا بلا ريب، لأنه عقد معاوضة يلحقه الفسخ، من شرطه ذكر العوض، فإذا وقع على صفة يتحقق فيها العجز عن العوض غالبا ما يصح، كما لو أسلم في شيء لا يوجد في المحل إلا نادرا، ويؤيد ذلك أن جماعة من الصحابة عقدوا الكتابة ولم ينقل عنهم أنهم

عقدوها حالة، وقيل: يصح أن تكون حالة كالقول في السلم، والبابان باب واحد، ومن ثم اشترطنا في الأجل أن يكون له وقع في الثمن، حذارا من أن يتخذ ذكره حيلة، والعلم به كما تقدم، وكأن الأقيس عند أبي محمد واختيار ابن أبي موسى أنها تصح على نجم واحد كالسلم، والمذهب عند القاضي وأصحابه والأكثرين أنه لا بد من نجمين فصاعدا، محافظة على معناها، إذ قد تقدم أنها مشتقة من الضم، ولا يحصل الضم إلا بنجمين فصاعدا، ونظرا للأثر. 3907 - فعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: الكتابة على نجمين، والإيتاء من الثاني، (وكلام الخرقي) ربما أوهم اشتراط ثلاثة أنجم فصاعدا، ولا أعرف ذك قولا في المذهب، (ومقتضى كلامه) أيضا أنه لا يعتق إلا بأداء جميع مال الكتابة، لا أنه يعتق منه بقدر ما أدى، ولا بأداء بعض مال الكتابة، ولا بملك الوفاء، (أما الحكم الأول) وهو أنه لا يعتق منه بقدر ما أدى فلا أعلم فيه في المذهب خلافا. 3908 - لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من الكتابة درهم» رواه أبو

داود وعنه أيضا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أيما عبد كاتب على مائة أوقية، فأداها إلا عشر أواق فهو عبد، وأيما عبد كاتب على مائة دينار، فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد» رواه الخمسة وصححه الحاكم (وأما الحكم الثاني) وهو أنه لا يعتق بأداء بعض مال الكتابة فهو المذهب المنصوص لما تقدم، وذكر الدرهم والعشرة على سبيل التقليل، لا على سبيل التحقيق، وقيل: إذا أدى ثلاثة أرباع المال فأزيد، وعجز عن الباقي عتق، لأنه عجز عن حق له فلم تتوقف حريته على أدائه، كأرش جناية سيده عليه، وهذا القول حكاه أبو محمد في الكافي عن الأصحاب، وفي المقنع عن القاضي وأصحابه، وفي المغني عن أبي بكر والقاضي وأبي الخطاب، وفي هذه الحكاية نظر، فإن لفظ الهداية: لم يجز للسيد الفسخ، ذكره أبو بكر، ولا يلزم من امتناع الفسخ حصول العتق، بل ظاهر هذا أنه لا يعتق،

ولهذا لم يحك أبو البركات هذا القول عن أحد من هؤلاء، وحكى قول أبي الخطاب على ظاهره فقال: وظاهر كلام أبي الخطاب عدم العتق، ومنع السيد من الفسخ، وهذا ظاهر كلام ابن البنا أيضا، وحكى ابن أبي موسى رواية بما يقرب من هذا، وهو أنه إذا أدى أكثر مال الكتابة لم يرد إلى الرق، واتبع بما بقي (وأما الحكم الثالث) وهو أنه لا يعتق بملك الوفاء فهو المشهور من الروايتين، والمختار للقاضي وأبي محمد وغيرهما، لما تقدم من حديثي عمرو بن شعيب (والرواية الثانية) أنه يعتق بملك الوفاء. 3909 - لما روت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا كان لإحداكن مكاتب فكان عنده ما يؤدي فلتحتجب منه» » رواه الخمسة، وصححه الترمذي إلا أن بعض الحفاظ قال: إنه قد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. وعلى تقدير صحته فيحمل الأمر بالاحتجاب على الندبية، توفيقا بين الأحاديث، والله أعلم.

قال: وولاؤه لمكاتبه. ش: قد تقدمت هذه المسألة في الولاء، وإنما ذكرها هنا على سبيل التكميل لحكم المسألة استطرادا، والله أعلم. قال: ويعطى مما كوتب عليه الربع، لقول الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] . ش: قد ذكر الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم ودليله، وهو الأمر، وظاهر الوجوب. 3910 - وقد روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال في تفسير الآية الكريمة:

تعجيل نجوم الكتابة

ضعوا عنه الربع. وروي ذلك عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكلام الشيخ يشمل وإن كان العبد المكاتب ذميا، وهو كذلك، صرح به القاضي، ووقت وجوب الدفع إذا أدى، ويجوز من أول الكتابة، بأن يضع عنه بقدر ذلك، لأنه السبب، وقد شهد لذلك ما تقدم عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولأن الغرض التخفيف عنه وهو حاصل، والله أعلم. [تعجيل نجوم الكتابة] قال: وإن عجلت الكتابة قبل محلها لزم السيد الأخذ، وعتق من وقته في إحدى الروايتين عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ -. ش: إذا عجل المكاتب مال الكتابة قبل وقت الحلول، لزم السيد الأخذ وعتق العبد إذا. 3911 - لما روي عن أبي سعيد المقبري قال: اشترتني امرأة من بني ليث، بسوق ذي المجاز بسبعمائة درهم، ثم قدمت فكاتبتني على أربعين ألف درهم، فأديت إليها عامة المال، ثم حملت ما

بقي إليها فقلت: هذا مالك فاقبضيه، قالت: لا والله حتى آخده منك شهرا بشهر، وسنة بسنة. فخرجت به إلى عمر بن الخطاب، فذكرت ذلك له فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: ارفعه إلى بيت المال، ثم بعث إليها فقال: هذا مالك في بيت المال، وقد عتق أبو سعيد، فإن شئت فخذي شهرا بشهر، وسنة بسنة. قال: فأرسلت فأخذته، رواه الدارقطني. 3912 - وروى سعيد في سننه عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نحو ذلك،

وقد احتج به أحمد، وقد أطلق الخرقي ذلك تبعا للإمام، وتبعهما أبو الخطاب في الهداية على ذلك، والشيرازي، وأبو محمد في المقنع، وحكى أبو بكر عن أحمد (رواية أخرى) مطلقة أيضا أنه لا يلزمه القبول إلا حين الحلول، لأن بقاء المكاتب في هذه المدة حق له، ولم يرض بزواله فلم يزل، كما لو علق عتقه بمضي المدة، وحمل القاضي - على ما حكى عنه أبو محمد - الروايتين على اختلاف حالين (فالموضع) الذي يلزمه القبول إذا لم يكن في القبض ضرر، لتمحض المصلحة إذا فهو كما لو دفع إليه في السلم أجود من الجنس، (والموضع) الذي لا يلزمه القبول إذا كان في القبض ضرر، مثل أن يكون مال الكتابة مما يفسد، كالعنب والبطيخ، أو يخاف تلفه كالحيوان، أو حديثه خيرا من قديمه، أو يحتاج إلى خزن كالقطن، أو سلمه في بلد مخوف، أو طريق مخوف ونحو ذلك، لأن فيه التزام ضرر لم يقتضه العقد، وإنه منفي شرعا، بدليل قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لا ضرر ولا

ضرار» وبذلك قطع أبو البركات، واختاره أبو محمد في المغني، وابن حمدان، واختار القاضي في روايتيه طريقة ثالثة: إن كان في القبض ضرر وإلا فروايتان، وتبعه على ذلك أبو محمد في الكافي، وحيث قيل: يلزمه القبول فامتنع جعله الإمام في بيت المال، وحكم بعتق العبد كما نقل عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - والله أعلم. قال: والرواية الأخرى إذا ملك ما يؤدي فقد صار حرا. ش: هذه الرواية لا ترجع إلى ما سبق الكلام له، وهو لزوم قبض ما عجل، وإنما ترجع إلى ما تضمنه اللفظ، وفهم من سياقه، وهو أنه إذا أدى عتق، ومقتضاه أنه لا يعتق قبل ذلك، فحكى رواية أخرى أنه يعتق بمجرد ملك الوفاء، وقد تقدم ذلك والإشارة إلى دليله، فلا حاجة إلى إعادته، والله أعلم. قال: وإذا أدى بعض كتابته، ومات وفي يده وفاء وفضل، فهو لسيده في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى لسيده بقية كتابته، والباقي لورثته. ش: (قد تضمنت الرواية الأولى) أن الكتابة تنفسخ بموت العبد، سواء خلف وفاء أم لا، وهذا هو المشهور من الروايتين،

والمختار للقاضي وعامة أصحابه، وأبي محمد، لما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المكاتب عبد ما بقي عليه درهم» والأصل بقاء ذلك بعد الموت، ولأنه عتق معلق بشرط مطلق، فانقطع بالموت، كما لو قال: إذا أديت إلي ألفا فأنت حر. وعلى هذا ما في يده لسيده، (وتضمنت الثانية) أن الكتابة لا تنفسخ إذا خلف وفاء، وهي اختيار أبي بكر، لأنه عقد معاوضة، لا ينفسخ بموت أحد المتعاقدين وهو السيد، فلا ينفسخ بموت الآخر كالبيع، وفرق بأن كل واحد من المتبايعين غير معقود عليه، والمكاتب معقود عليه، فهو كتلف المبيع قبل قبضه، فعلى هذا يؤدي عنه بعد وفاته، وما فضل فلوارثه المناسب، وإن لم يكن فلسيده بالولاء، قال القاضي: ويعتق في آخر جزء من حياته، وهذا ظاهر الرواية، فالمسألة غير مبنية على التي قبلها، وقال أبو محمد: يحتمل أن تبنى على التي قبلها، فإن قيل ثم إنه لا يعتق بملك ما يؤدي فقد مات رقيقا، فانفسخت

ولاء المكاتب

الكتابة بموته، وما في يده لسيده، وإن قيل ثم: إنه يعتق بملك ما يؤدي فقد مات حرا، فلسيده بقية كتابته، لأنه دين له عليه، وما بقي فلوارثه انتهى. ولا تختلف الرواية أنه إذا لم يخلف وفاء أن الكتابة تبطل بموته، قال أبو محمد: إلا أن يموت بعد أداء ثلاثة أرباع الكتابة، فإن مقتضى قول القاضي وأبي بكر ومن وافقهما أنه يموت حرا، انتهى. وقد تقدم الطعن في هذا النقل، ثم إن هذه المسألة غير تلك كما تقدم، والله أعلم. قال: وإذا مات السيد كان العبد على كتابته، وما أدى فبين ورثة سيده مقسوما كالميراث. ش: ملخص هذا أن الكتابة لا تنفسخ بموت السيد، وهذا والله أعلم اتفاق، وقد قال أبو محمد: لا نعلم فيه خلافا. وذلك لأنه عقد لازم من جهته، فلم ينفسخ بموته كالبيع والإجارة، فعلى هذا الكتابة باقية فيؤدي الذي عليه لورثة السيد، فيقتسمونه على حسب إرثهم كما يقتسمون ديونه والله أعلم. [ولاء المكاتب] قال: وولاؤه لسيده. ش: يعني أنه إذا أدى ما عليه للورثة وعتق، فإن ولاءه لسيده، لأنه المنعم عليه بالعتق، لتسببه فيه، فأشبه ما لو

أدى إليه، وهذا هو المذهب المشهور (وعن أحمد رواية أخرى) إن أدى جميع ما كوتب عليه للورثة فولاؤه لهم، وإن أدى إليهم وإلى السيد فالولاء بينهما، لأنه انتقل إلى الورثة بالموت، فأشبه انتقاله إليهم بالشراء، وفرق بأن السيد في الشراء رضي بنقل حقه، وهنا الوارث يخلف الموروث، ولا ينتقل إليه شيء أمكن بقاؤه لمورثه، والولاء يمكن بقاؤه لمورثه، فلم ينتقل إليه، انتهى. وحكم براءة الذمة له مما عليه حكم قبضه على ما تقدم، ولأبي محمد احتمال أنهم والحال هذه يختصون بالولاء، لإنعامهم عليه بما عتق به أشبه ما لو باشروا عتقه، ولو باشروا كلهم عتقه كان الولاء لهم، لأن المباشرة أقوى من التسبب، وقال القاضي: يكون الولاء أيضا للسيد إن كان عتقهم له قبل عجزه، (فعلى قوله) إن أعتق بعضهم لم يسر عتقهم، ثم إن أدى إلى الباقين عتق كله والولاء للسيد، وإن عجز فرد إلى الرق فولاء نصيب المعتق له، (وعلى الذي قبله) - وهو الذي أورده أبو محمد مذهبا - إن أعتق بعضهم فسرى إلى نصيب شركائه كان ولاؤه له، وإن لم يسر لإعساره أو غير ذلك فله ولاء ما أعتق. قال: فإن عجز فهو عبد لسائر الورثة.

ش: كما لو عجز في يد السيد، واستعمل (سائر) بمعنى الجميع، كما هو الغالب عليه في استعماله. قال: ولا يمنع المكاتب من السفر. ش: إذ السفر من أسباب الكسب، وإنه يملكه بمقتضى عقد الكتابة، وعموم كلام الخرقي يشمل السفر الطويل والقصير وهو كذلك، كالحر المدين، وكذلك قال أبو محمد: لم يفرق أصحابنا بين السفر الطويل وغيره، قال: ولكن المذهب أن له منعه من سفر تحل نجوم كتابته قبله. قلت: وهذا مراد الأصحاب من الإطلاق بلا ريب، والله أعلم، وإنما لم يقيدوا ذلك اكتفاء بما تقدم لهم في المدين بطريق الأولى، ومن ثم يخرج لنا (قول آخر) أنه له منعه مطلقا، كما يمنع الحر المدين على رواية، وإن لم يحل الدين إلا بعد قدومه، وترك الأصحاب ذلك تفريعا على المذهب، وقد نص أحمد في رواية المروذي على أن له أن يحج ما لم يحل عليه نجم في غيبته، لكن يرد على هذا الإطلاق سفر الجهاد، فإنه ينبغي أن يمنع منه مطلقا كالحر المدين، وقوله: ولا يمنع المكاتب من السفر، قد يقال: ظاهر إطلاقه: وإن شرط عليه تركه. وهو قول القاضي فيما حكاه عنه أبو محمد، بناء على عدم صحة الشرط، لأنه ينافي مقتضى العقد لما تقدم من أنه من أسباب الكسب، فلم

يصح اشتراط تركه، كما لو شرط عليه أن لا يبيع ولا يشتري، والذي قطع به القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي واختاره أبو محمد، وابن حمدان - أنه يمنع والحال هذه، بناء على صحة الشرط، لأن للسيد فيه فائدة، وهي الأمن من إباقه، ولدخوله تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم» الحديث. (تنبيه) هذا الخلاف روايتان، وفاقا لأبي الخطاب والشيرازي، وأبي محمد في الكافي، وأبي البركات، وحكاه في المغني والمقنع وجهين، والله أعلم. قال: وليس له أن يتزوج إلا بإذن سيده. ش: لأنه عبد، بدليل ما تقدم. 3913 - فيدخل في عموم «أيما عبد نكح بغير إذن مواليه فهو عاهر» ولأن في ذلك ضررا لاحتياجه إلى أداء النفقة والمهر من كسبه، ولربما عجز فيرق، ويرجع ناقص القيمة، وفي ذلك ضرر على

السيد، والضرر منفي شرعا، وهذا هو المذهب عند الأصحاب، وقد قطع به عامتهم (وعن أحمد رواية أخرى) للمكاتب التزويج بخلاف المكاتبة، قال في رواية إبراهيم الحربي: لا بأس أن يتزوج، قد اشترى نفسه بل المكاتبة لا تتزوج، لا يؤمن أن ترجع إلى الرق وهي مشغولة الفرج، انتهى. ومفهوم كلام الخرقي أن له ذلك بإذن السيد، وهو واضح، إذ المنع لحق السيد وقد زال، ويؤيد ذلك مفهوم الحديث، وحكم التسري حكم التزويج، إن أذن له السيد جاز، وإن لم يأذن لم يجز، والله أعلم. قال: ولا يبيعه سيده درهما بدرهمين. ش: ملخصه أن الربا يجري بين المكاتب وسيده، لأن

المكاتب صار بما التزمه من العوض بمنزلة الأجنبي بدليل أن لكل منهما الشفعة على صاحبه، ولا يملك واحد منهما التصرف فيما بيد صاحبه، وهذا هو المذهب عند الشيخين وغيرهما، وقال أبو بكر وابن أبي موسى: لا ربا بينهما. قال أبو بكر: قد أخبر أحمد عن نفسه أنه ليس بين المكاتب وسيده ربا، لأنه عبد ما بقي عليه درهم. انتهى. ويستثنى من ذلك إذا عجل له ليضع عنه بعض كتابته، فإنه يجوز كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم. قال: وليس للرجل أن يطأ مكاتبته إلا أن يشترط. ش: أما منع وطئها بدون الشرط فهو المذهب المصرح به، لأن الكتابة أزالت ملك استخدامها، وملك عوض بضعها، إذا وطئت بشبهة، فتزيل حل وطئها كالبيع، قال في المغني: وقيل: له وطؤها في الوقت الذي لا يشغلها الوطء عما هي فيه، وهذا القول يحتمل أنه في المذهب، ويحتمل أنه لبعض

العلماء، وأما جوازه مع الشرط فهو المذهب المجزوم به عند عامة الأصحاب، لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم» ولأنه استثنى بعض ما كان له، فصح كاستثناء الخدمة، يحققه أن ملكه باق عليها، وإنما منع منه لحقها، ومع الشرط الحق عليها، وظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب أنه يمنع من ذلك مطلقا، قال: لا يطأ مكاتبته، لأنه لا يقدر أن يبيعها ولا يهبها، وهذا اختيار ابن عقيل، لأن الملك والحال هذه غير تام، أشبه الواطئ في مدة الخيار. قال: فإن وطئ ولم يشترط أدب. ش: لفعله المحرم، فيؤدب زجرا له عما ارتكبه، وفي بعض نسخه: ولم يبلغ به حد الزاني. وقد تقدم ذلك في التعزيرات وافيا، فلا حاجة إلى إعادته، وقد علم من كلام الخرقي أنه لا حد عليه، وهو كذلك، لوجود الملك، وعموم كلام الخرقي

يشمل العالم بالتحريم والجاهل به، وقيد أبو محمد ذلك بالعالم، وهو حسن، والله أعلم. قال: وكان لها عليه. مهر مثلها. ش: لأن ذلك عوض منفعتها، فكان لها كبقية منافعها، وكلام الخرقي يشمل وإن كانت مطاوعة، وهو أحد الوجهين، وبه قطع أبو محمد، بناء على أن للسيد في ذلك حقا فلا يسقط برضاها، كالأمة القن (الوجه الثاني) لا شيء لها إذا، وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، لأن المغلب في ذلك حقها، فسقط بمطاوعتها كالحرة. (تنبيه) الواجب مهر واحد، وإن وطئ مرارا كوطء الشبهة، نعم إن أدى مهر وطء، ثم وطئ ثانيا وجب مهر ثان، لأن الأداء قطع حكم الوطء الأول، وقوله: فإن وطئ ولم يشترط أدب، وكان لها عليه مهر مثلها، مقتضاه أنه مع الشرط لا أدب ولا مهر عليه، وهو كذلك، لجواز ذلك على رواية والله أعلم. قال: فإن علقت منه فهي مخيرة بين العجز وأن تكون له أم

ولد، وبين المضي على الكتابة، فإن أدت الكتابة عتقت، وإن عجزت عتقت بموته، وإن مات قبل عجزها انعتقت، لأنها صارت من أمهات الأولاد، وسقط عنها ما بقي من كتابتها، وما في يدها لورثة سيدها. ش: إذا علقت منه مكاتبته - سواء شرط وطأها أو لم يشترط - ووضعت ما تصير به الأمة أم ولد كما سيأتي إن شاء الله تعالى، فقد اجتمع فيها سببان، الكتابة وصيرورتها أم ولد، فيعمل على ذلك، إذ لا منافاة بينهما، فعلى هذا إن أدت عتقت بحكم الكتابة، وما في يدها لها بلا ريب، لأن ما في يد المكاتب بعد أدائه له، وإن عجزت وعادت قنا بطل حكم الكتابة، وعتقت بموته، وما في يدها لورثة سيدها، عملا بحكم الإيلاد، وإن مات سيدها قبل عجزها عتقت بموته، عملا بحكم الإيلاد أيضا، وسقط عنها ما بقي من كتابتها، لحصول الحرية التي بذل العوض في تحصيلها، واختلف فيما في يدها هل يكون لها، وهو اختيار القاضي في المجرد، وفي الظهار من التعليق، وابن عقيل وأبي محمد، إذ العتق إذا وقع في

الكتابة لم يبطل حكمها، كالإبراء من نجوم الكتابة، ولأن ملكها كان ثابتا، والأصل بقاء ما كان على ما كان عليه، أو لورثة سيدها وهو الذي قاله الخرقي، وأبو الخطاب في الهداية، وأورده ابن حمدان مذهبا، لأنها عتقت بحكم الإيلاد، فأشبه ما لو لم تكن مكاتبة؟ على قولين، هذا شرح المسألة في الجملة، وفاقا للشيخين وغيرهما، وقد يقال: إن في كلام الخرقي ما يخالف ذلك، أو يزيد عليه من جهة قوله: إنها مخيرة بين العجز وكونها له أم ولد، وبين المضي على الكتابة. ومقتضى هذا أن لها أن تختار العجز وإبطال حكم الكتابة، فتصير أم ولد فقط، وأن تمضي على الكتابة فيجتمع فيها سببان كما تقدم، ولذلك حكى ذلك الشيرازي رواية، وحكى رواية أخرى أنه إذا مات سيدها يلزمها أداء بقية مال الكتابة إلى الورثة. (تنبيه) الخرقي ذكر حكم الإيلاد إذا طرأ على الكتابة، ولو طرأت الكتابة على التدبير فالحكم كذلك، والله أعلم. قال: وإذا كاتب نصف عبد فأدى ما كوتب عليه ومثله لسيده، صار نصفه حرا بالكتابة، إن كان الذي كاتبه معسرا،

وإن كان موسرا عتق كله، وكان نصف قيمته على الذي كاتبه لشريكه. ش: للإنسان أن يكاتب شقصا له من عبد، وإن لم يأذن شريكه، في ذلك، كما هو ظاهر إطلاق الخرقي، إذ الكتابة عقد معاوضة، فجازت بغير إذن الشريك كالبيع، واختار ابن حمدان اشتراط إذنه إن كان معسرا، انتهى، وإذا كاتبه لم يسر إلى نصيب شريكه كما تضمنه كلام الخرقي أيضا، لم تقدم من أنها عقد معاوضة فهي كالبيع، وإذا لم تسر الكتابة كان كسبه والحال هذه مشتركا بينه وبين سيده، كما قبل الكتابة، فإذا أدى ما كوتب عليه، ومثله لسيده الآخر، عتق نصفه بالكتابة، لوجود الشرط وهو أداء ما كوتب عليه، وانتفاء المانع، وهو دفع ما يستحقه الغير، لو لم يؤد ما كوتب عليه لم يعتق، وهو واضح، ولو أداه من جميع كسبه، ولم يؤد لسيده الآخر شيئا لم يعتق، لأن الكتابة الصحيحة إنما يعتق فيها بالبراءة من العوض، ولا يحصل ذلك بدفع ما ليس له، هذا إذا كان الأداء من جميع كسبه، أما إن هايأه سيده فكسب شيئا في يومه، أو

أعطي صدقة فلا حق لسيده فيه، لأنه تمحض استحقاقه له بما فيه الكتابة، لا بمجموعه، وحكى ابن حمدان رواية أخرى أنهما يتهايآن في كسبه، فيكون له يوما ولسيده يوما، وقد نص على ذلك أحمد في رواية حرب، وحيث عتق النصف المكاتب فإنه ينظر في الذي كاتبه، فإن كان موسرا سرى إلى باقيه، وغرم قيمة حصة شريكه، لأنه تسبب في إعتاقه، أشبه ما لو باشره في العتق، وإن كان معسرا لم يسر كما لو واجهه بالعتق، نعم إن قيل بالاستسعاء استسعي العبد كما تقدم، والله أعلم. قال: وإذا عتق المكاتب استقبل بما في يده من المال حولا، وزكاه إن كان منصبا. ش: قد تقدمت هذه المسألة للخرقي في الزكاة، فلا حاجة إلى إعادتها، والله أعلم. قال: وإذا لم يؤد نجما حتى حل الآخر عجزه السيد إن أحب، وعاد عبدا غير مكاتب. ش: منطوق كلام الخرقي أن للسيد أن يعجزه، بمعنى أن يفسخ الكتابة، ويرد المكاتب في الرق إذا حل عليه نجمان ولم يؤدهما، وله الصبر عليه، ومفهومه أنه ليس له تعجيزه إذا

حل عليه نجم واحد، وهذا إحدى الروايات، واختيار أبي بكر، ونصبه في المغني للخلاف، وقال القاضي: إنه ظاهر كلام الأصحاب. 3914 - لأنه يروى عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: لا يرد العبد في الرق حتى يتوالى عليه نجمان، (والرواية الثانية) أن له تعجيزه إذا حل عليه نجم واحد، لأن ذلك حق له، فكان له الفسخ بالعجز عنه، كما لو أعسر المشتري ببعض ثمن المبيع قبل قبضه (والرواية الثالثة) لا يعجز حتى يقول: قد عجزت؛ حكاها ابن أبي موسى وغيره، لأن فوات العوض لا يتحقق إلا بذلك (والرواية الرابعة) وقد تقدمت إن أدى أكثر مال الكتابة لم يرد إلى الرق، ويتبع بما بقي، وظاهرها وإن حل عليه نجوم، (وقد تضمن) كلام الخرقي أن الكتابة عقد لازم، وهو كذلك،

لأنها بيع، والبيع من العقود اللازمة، وإذا لا يملك السيد فسخها بغير ما تقدم، ولا العبد مطلقا، صرح بذلك غير واحد من الأصحاب، حتى قال في المغني: بغير خلاف نعلمه، وحكى ابن المنذر ما يقتضي الإجماع، ووقع في المقنع والكافي حكاية رواية بأن للعبد فسخها، وعلل ذلك ابن المنجا بأن معظم المقصود له، فإذا رضي بإسقاط حقه سقط، والظاهر أن هذا وهم، بدليل ما تقدم، والذي ينبغي حمل ذلك على أن له الفسخ، أي التسبب فيه، بمعنى أنه يمتنع من الأداء، فيملك السيد الفسخ، وهذا كما أن ابن عقيل والشيرازي وابن البنا قالوا: إنها لازمة من جهة السيد، جائزة من جهة العبد، وفسروا ذلك بأن له الامتناع من الأداء فيملك السيد الفسخ، انتهى. وظاهر كلام الخرقي أن الفسخ من السيد - والحال ما تقدم - لا يفتقر إلى حاكم، وهو كذلك. (تنبيه) لو اتفق السيد والعبد على الفسخ جاز، قاله في الكافي كالبيع، والله أعلم. قال: وما قبض من نجوم كتابة استقبل بزكاته حولا.

جناية المكاتب

ش: ما قبض السيد من نجوم الكتابة فإنه يستقبل به حولا ويزكيه لأنه كمال استفاده بإرث أو غيره، ومقتضى هذا أن الحول لا ينعقد على دين الكتابة، وهو كذلك لعدم استقرار الملك فيه، والله أعلم. [جناية المكاتب] قال: وإذا جنى المكاتب بدئ بجنايته قبل كتابته. ش: إذا جنى المكاتب جناية ووجب المال بها، بدئ بجنايته قبل كتابته فقدمت على المذهب المشهور المنصوص، حتى إن أبا محمد في المغني قال: اتفق أصحابنا على ذلك، إذ أرش الجناية مستقر، ومال الكتابة غير مستقر، [ولا إشكال أن المستقر يقدم على غير المستقر] ، ولأن أرش الجناية مقدم على ملك السيد في عبده، فكذلك على عوضه بطريق الأولى، (وفي المذهب قويل آخر) أنهما يتحاصان، حكاه أبو بكر لأنهما دينان فتحاصا كبقية الديون، وعلى هذا يقسم الحاكم المال بينهما على قدر حقيهما. أما على الأول فإن بدأ المكاتب بأرش الجناية فأداه قبل أداء مال الكتابة فلا كلام، وإن أدى مال الكتابة قبل أداء الأرش

حكم عجز المكاتب

ولما يحجر عليه صح الأداء وعتق، واستقر الأرش عليه، وإن كان ذلك بعد أن حجر الحاكم عليه بأن سأله ولي الجناية ذلك لم يصح أداؤه، ووجب أن يرتجعه الحاكم فيدفعه إلي ولي الجناية، وللمسألة تفاريع أخر ليس هذا موضعها، وعموم كلام الخرقي يشمل جنايته على سيده وهو كذلك، ومقتضى كلامه أن الأرش لازم للمكاتب، وهو كذلك. 3915 - لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يجني جان إلا على نفسه» والذي يلزم على المذهب أن يفدي نفسه بأقل الأمرين من قيمته أو أرش جنايته، وقيل وحكي رواية: أنه بالأرش كله كالحر. (تنبيه) قال أبو محمد: إن جناية المكاتب تتعلق برقبته، وتؤدى من المال الذي في يده، وقد قال هو وغيره: إنه إذا بادر فأدى الكتابة أنه يعتق ويستقر الفداء عليه، ومقتضى هذا تعلق جنايته برقبته وبذمته، وقال الشيرازي: جناية المكاتب مقدمة على كتابته، وروي عن أحمد أنها في رقبته، وظاهر هذا أنها تتعلق ابتداء بالمال الذي في يده والله أعلم. [حكم عجز المكاتب] قال: فإن عجز كان السيد مخيرا بين أن يفديه بقيمته إن كانت أقل من جنايته أو يسلمه.

ش: إذا عجز المكاتب ورد في الرق فإن سيده مخير بين فدائه بقيمته إن كنت أقل من جنايته، لانحصار الحق إذًا في الرقبة، فلا يجب على السيد أكثر من بدلها، وإن كانت جنايته أقل من ذلك لم يجب عليه أكثر منها، إذ المجني عليه لا يستحق أكثر من أرش جنايته، وبين أن يسلمه لأنه إذا سلمه فقد سلم المحل الذي تعلق به الحق، فخرج عن العهدة (وفي المذهب قول آخر) أو رواية أنه إذا فداه فداه بالأرش كله، وقول الخرقي: أو يسلمه. ظاهره ليباع، وإذًا فلم يخير البائع إلا بين شيئين فقط، الفداء أو التسليم للبيع، وهو إحدى الروايات (والرواية الثانية) يخير بين الفداء أو دفعه بالجناية (والرواية الثالثة) يخير بين الثلاثة، وإذا أراد تسليمه للبيع فهل يكتفي بمجرد ذلك، فيبيعه الحاكم، وهذا ظاهر كلام الخرقي، أو يلزمه أن يتولى ذلك إن طلبه ولي الجناية؟ على روايتين، والله أعلم. قال: وإذا كاتبه ثم دبره فإن أدى صار حرا، وإن مات السيد قبل الأداء عتق بالتدبير إن حمل الثلث ما بقي عليه من

كتابته، وإلا عتق منه بمقدار الثلث، وسقط من الكتابة بمقدار ما عتق، وكان على الكتابة فيما بقي. ش: إذا كاتب عبده ثم دبره جاز، كما تضمنه كلام الخرقي، إذ لا منافاة بينهما، ولأن التدبير إما وصية بالإعتاق أو تعليق للعتق على صفة، وكلاهما جائز في المكاتب، مع أن أبا محمد قد قال: لا نعلم في ذلك خلافا. ولو عكس فدبره أولا ثم كاتبه جاز على المذهب المنصوص أيضا، لما تقدم أولا. 3916 - وقد روى ذلك البخاري في تأريخه عن ابن مسعود، ورواه الأثرم عنه وعن أبي هريرة أيضا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، ولأبي محمد في الكافي احتمال بأن كتابة المدبر رجوع في تدبيره إن قيل بصحة الرجوع فيه، إذا ثبت هذا فإذا اجتمعت الكتابة والتدبير فقد

اجتمع سببان للعتق، فيعمل بمقتضاهما، فعلى هذا إن أدى عتق بالكتابة، لوجود شرطها وهو الأداء، وبطل التدبير للغنى عنه، وما في يده له، وإن عجز ورق صار مدبرا فقط، لبطلان الكتابة، فيعتق بموت السيد بشرطه، وإن مات السيد قبل العجز وأداء جميع الكتابة عتق بالتدبير، لوجود سببه وهو الموت، وهل ما في يده له إبقاء لما كان على ما كان عليه، وكما لو أبرئ من مال الكتابة، وهو اختيار أبي محمد وابن حمدان، أو لورثة سيده، حكاه أبو محمد عن الأصحاب، بناء على أن الكتابة تبطل إذا ويبقى الحكم للتدبير؟ على قولين. وحيث عتق بالتدبير فشرطه أن يخرج من الثلث، لما تقدم من أن التدبير معتبر من الثلث على المذهب، وإن لم يخرج من الثلث عتق منه بقدر الثلث، وسقط من عوض الكتابة بقدر ما عتق منه، لأن مال الكتابة عوض عن جميعه، فإذا عتق نصفه مثلا بالتدبير سقط ما قابل ذلك، وهو نصف العوض، وهل ما قابل ذلك من الكسب له أو لورثة السيد؟ على القولين السابقين، ويبقى باقيه مكاتبا بقسطه، ومقتضى كلام الخرقي أن المعتبر في خروجه من الثلث ما بقي عليه من الكتابة، وتبعه على ذلك أبو محمد في الكافي والمقنع، ومقتضى كلامه في

الحكم لو ادعى المكاتب وفاء كتابته

المغني وكلام أبي البركات اعتبار قيمته مكاتبا، وهو الذي أورده ابن حمدان في رعايتيه مذهبا، والله أعلم. [الحكم لو ادعى المكاتب وفاء كتابته] قال: وإذا ادعى المكاتب وفاء كتابته، وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حرا. ش: هذا بناء على ما تقدم من أن المال أو ما يقصد به المال يقبل فيه شاهد ويمين الطالب، وهذا من ذلك، لأن النزاع والحال هذه وقع في أداء المال، والعتق يثبت تبعا لثبوت الأداء، وليس هو المتنازع فيه، ولا المشهود به، على أن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقبل الشاهد واليمين في العتق أيضا (وفي المذهب قويل آخر) أنه لا يقبل في النجم الأخير إلا رجلان، لترتب العتق على شهادتهما إذا، وبناء على أن العتق لا يقبل فيه إلا ذلك، والله أعلم. قال: ولا يكفر المكاتب بغير الصوم. ش: وقد تضمن قول الخرقي أن كفارة المكاتب الصوم، وهو كذلك، لأنه في حكم المعسر، وكفارة المعسر ذلك، ودليل الوصف أنه لا يلزمه زكاة، ولا نفقة قريبه، ويأخذ الزكاة لحاجته، وتضمن كلامه أنه لا يكفر بغير ذلك، وظاهره وإن أذن له السيد، وكأنه بنى ذلك على مذهبه، من أن العبد لا يملك بالتمليك، وهذه طريقة القاضي، فإنه بناه على الروايتين

حكم ولد المكاتبة

في ملك العبد بالتمليك، فإن قيل لا يملك لم يصح تكفيره بغير الصوم، وإن أذن له السيد، وإن قيل يملك صح بإذن السيد، لأن الحق له وقد أذن فيه، وتبعه على ذلك أبو الخطاب في الهداية، وأبو محمد في المقنع، وابن حمدان، وامتنع أبو محمد في الكافي والمغني من البناء، وجوز له التكفير بإذن السيد بلا خلاف، وتبعه على ذلك أبو البركات، بناء على أنه يملك المال هنا بلا خلاف. بخلاف العبد، نعم هو يملك ملكا ناقصا، لتعلق حق السيد به، فلذلك اعتبر إذنه، وقد يبنى كلام الخرقي على أنه يمنع من التبرع، ولو أذن فيه السيد، والتكفير بالمال بمنزلة التبرع، لعدم الحاجة إليه، لكن هذا قويل ضعيف والمذهب خلافه، وهذه المسألة لها التفات إلى تكفير العبد بالمال وقد تقدم ذلك، وحيث جوز له التكفير بالمال فإنه لا يلزمه ذلك، حذارا مما يلحقه من الضرر، وهو احتمال تفويت حريته، والله أعلم. [حكم ولد المكاتبة] قال: وولد المكاتبة الذين ولدتهم في الكتابة يعتقون بعتقها. ش: قد تضمن كلام الخرقي صحة مكاتبة الأمة، كما تصح

مكاتبة العبد، وهو اتفاق ولله الحمد، وقد شهد له حديث بريرة وغيره، وإذا صحت مكاتبتها فأتت بولد من نكاح أو غيره بعد كتابتها فإنه يتبعها يعتق بأدائها أو إبرائها، ويرق بعجزها وبموتها قبل الأداء على المذهب، إذ الكتابة سبب لازم للعتق، لا يجوز إبطاله، فسرى إلى الولد كالاستيلاد، ولا يرد التعليق بالصفة، لجواز إبطاله بالبيع ونحوه. وقوله: الذين ولدتهم في الكتابة، يشمل ما كان حملا حال الكتابة، وما علقت به بعدها، ويخرج منه ما ولدته قبل الكتابة، وقد تتخرج التبعية فيه، لرواية ضعيفة في ولد المدبرة، (وقوله) : يعتقون بعتقها، أي بسبب عتقها، بما ثبت لها، وهو العتق بأداء مال الكتابة أو الإبراء منه، وهذا معنى قول الأصحاب: يتبعها ولدها. وهذا بخلاف أم الولد والمدبرة، فإن ولدها يصير بمنزلتها. (تنبيه) فلو أعتق المكاتبة سيدها، أو عتقت باستيلاد أو تدبير فإنه يبنى على أن كتابتها هل تبطل أم لا؟ فمن قال ببطلانها قال يتبين رق ولدها، ومن قال لا تبطل كتابتها قال يعتق بعتقها، كما لو أبرئت من كتابتها، ولأبي محمد احتمال بعتقه على الأول أيضا انتهى، وحكم ولد ابنتها التي تتبعها

بيع المكاتب

حكم ابنتها، أما ولد ابنها فحكمه حكم أمه، واعلم أن كلام الخرقي في ولد المكاتبة من غير سيدها، أما من سيدها فقد تقدم له حكمه، فلهذا لم يحترز عنه. (تنبيه) لم يتعرض الخرقي لولد المكاتب، والحكم أنه لا يخلو إما أن يكون من أمة أو حرة، (فإن كان) من حرة فهو حر كأمه (وإن كان) من أمة فلا تخلو الأمة إما أن تكون له أو لغيره (فإن كانت) له تبعه الولد، وهل تتبعه الأمة في صيرورتها أم ولد، فيتحقق الاستيلاد فيها بعتقه، أو يتحقق رقها برقه وهو المذهب، أو لا تتبع أصلا فله بيعها مطلقا؟ على وجهين، (وإن كانت) الأمة لغيره فلا يخلو إما أن يكون السيد أو غيره، فغيره الولد رقيق كأمه، والسيد كذلك إلا أن يشترط المكاتب تبعية ولده له، فإنه يتبعه عملا بالشرط، والله أعلم. [بيع المكاتب] قال: ويجوز بيع المكاتب. ش: هذا هو المذهب المشهور المنصوص، نقله الجماعة عن أحمد، واختاره الأصحاب. 3917 - لما «روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: جاءتني بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني، فقلت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم، ويكون ولاؤك لي فعلت. فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جالس فقالت: إني قد

عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرت عائشة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق» ففعلت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، ثم قام رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق» » متفق عليه واللفظ للبخاري. وهذا ظاهر في أنها بيعت في كتابتها قبل أن تعجز وترق بعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بل وأمره لقولها: فأعينيني، وإخبار عائشة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لها: «خذيها» وعند مسلم: «اشتريها» وفي لفظ: «ابتاعي» ولهذا قال ابن المنذر: بيعت بريرة بعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهي مكاتبة، فلم ينكر ذلك، ولا أعلم خبرا يعارض ذلك، ولا دليلا من خبر على عجزها. (وعن أحمد) رواية أخرى: لا يجوز بيع المكاتب، أومأ إليها في رواية أبي طالب، وسأله: هل يطأ مكاتبته؟ قال: لا

يطؤها، لأنه لا يقدر أن يبيعها ولا يهبها، وذلك لأن سبب العتق قد ثبت له على وجه لا يستقل السيد برفعه، فمنع البيع كالاستيلاد، وأجيب بمنع القياس مع النص، ثم إن لنا في أم الولد منعا على رواية، وعلى المذهب الفرق أن سبب حريتها مستقر، لا سبيل إلى فسخه بحال، والمكاتب ليس كذلك، لجواز عوده رقيقا، (وعن أحمد) رواية ثالثة حكاها ابن أبي موسى: يجوز بيع المكاتب بقدر مال الكتابة، لصورة النص، ولا يجوز بأكثر منها اعتمادا على القياس السابق. (تنبيه) الحكم في هبته والوصية به كالحكم في بيعه (وعنه) أنه منع من الهبة، قصرا على المورد أيضا كما تقدم، أما وقفه فلا يجوز، لانتفاء شرطه وهو الاستقرار، والله أعلم. قال: ومشتريه يقوم فيه مقام المكاتب. ش: مشتري المكاتب يقوم في أمره مقام المكاتب، لأنه بدل عنه، فأعطي حكمه، فعلى هذا إن أدى إليه عتق، وإن عجز أو اختار تعجيزه رد في الرق، ومقتضى كلام الشيخ أن الكتابة لا تنفسخ بالبيع وهو كذلك، إذ الكتابة عقد لازم، فلم تنفسخ بذلك كالإجارة، مع أن ابن المنذر قد حكى ذلك إجماعا عن كل من يحفظ عنه من أهل العلم، ولا يرد عليه

مخالفة ابن حزم، لأنه ليس هو من حفظ عنه العلم، والله أعلم. قال: فإذا أدى صار حرا وولاؤه لمشتريه. ش: قد تقدم أن مشتريه يقوم مقام البائع، فإذا أدى إليه صار حرا وعتق، وكان ولاؤه له، وقد شهد لذلك قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «ابتاعي وأعتقي، فإنما الولاء لمن أعتق» وإنكار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على أهلها لما اشترطوا ولاءها، والله أعلم. قال: فإن لم يبين البائع للمشتري أنه مكاتب كان مخيرا بين أن يرجع بالثمن أو يأخذ ما بينه سليما ومكاتبا. ش: الكتابة عيب، لمنع المشتري من التصرف في العبد، وانتفاء اكتسابه ومنافعه، فعلى هذا إن بين البائع للمشتري فلا كلام، لأنه دخل على بصيرة، وإن لم يبين له ذلك كان مخيرا بين فسخ البيع والرجوع بالثمن، وبين الإمضاء وأخذ الأرش، وهو قسط ما بين قيمته سليما ومكاتبا، منسوبا إلى الثمن، فإذا قيل إن قيمته مكاتبا أربعون، وغير مكاتب ستون، والثمن تسعون، فقد نقصته الكتابة ثلث قيمته، فيرجع بثلث ثمنه، والله أعلم.

الحكم لو ملك المكاتب أباه أو ذا رحم

[الحكم لو ملك المكاتب أباه أو ذا رحم] قال: وإذا ملك المكاتب أباه أو ذا رحم من المحرم عليه نكاحه، لم يعتقوا عليه حتى يؤدي وهم في ملكه، فإن عجز فهم عبيد للسيد. ش: إذا ملك المكاتب من يعتق عليه ولو ملكه وهو حر لم يعتق بمجرد ذلك، لأنه لا يملك العتق بالقول، فبالملك القائم مقامه أولى، لكنه يمتنع عليه بيعه، لأنه بمنزلة جزئه، ثم إن أدى أو أبرئ من مال الكتابة وهو في ملكه لم يفت عتق لتمام ملكه إذا بزوال حق السيد، فيعمل المقتضى. 3918 - وهو قوله: - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» عمله، وإن عجز ورد في الرق تحقق رقهم للسيد، كعبيده الأجانب. وكلام الخرقي يشمل الملك بالبيع الهبة والوصية وغير ذلك، ثم إنه لم يشترط لذلك شرطا، فيدخل في كلامه الشراء بدون إذن السيد، وهو قول القاضي، وبه قطع الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل وأبو محمد في المغني، وصححه ابن حمدان في رعايتيه، نظرا إلى أنه يصح أن يشتريه غيره، فصح شراؤه له كالأجنبي، وأورد أبو محمد في المقنع المذهب تبعا لأبي الخطاب في الهداية أنه لا يجوز بدون إذن السيد، حذارا من أن يخرج من ماله ما يمتنع عليه التصرف فيه، والأول أشهر، وقد ذكر القاضي أنه نص أحمد والخرقي، واعترضه أبو الخطاب

بأن كلامهما من ملك ذا رحم محرم، ويجوز حصول الملك بغير الشراء، أو بالشراء بإذن. قلت: وقد اختلفت نسخ الخرقي، ففي بعضها: وإذا اشترى. وعليها شرح أبو محمد، والظاهر والقاضي، وهذا وإن لم يكن نصا فقريب منه، وفي بعضها: وإذا ملك. وهي التي اعتمدها أبو الخطاب في الاعتراض، وهو لفظي، إذ يكفي الظهور في التمسك، وهذا هو الجواب عن كلام أحمد، إن لم يكن عنه نص بذلك. انتهى. ويدخل في كلامه على النسخة المشروحة الهبة والوصية، وإن أضر ذلك بماله، كما إذا لم يكن لذي الرحم المحرم كسب فيلزمه نفقته، وكذلك أطلق أبو الخطاب وأبو البركات، وأبو محمد في الكافي والمغني، وقيد ذلك في المقنع بما إذا لم يضر ذلك بماله، وتبعه على ذلك ابن حمدان، والله أعلم. قال: وإذا كان العبد لثلاثة فجاءهم بثلاثمائة درهم فقال: بيعوني نفسي بها، فأجابوه، فلما عاد إليهم ليكتبوا له كتابا أنكر أحدهم أن يكون أخذ شيئا، وشهد الرجلان إذا كانا عدلين، ويشاركهما فيما أخذا من المال، وليس على العبد شيء. ش: ملخص هذا أن الشريكين اللذين فيهما شروط

الشهادة إذا شهدا على شريكهما الثالث بأخذ ما يستحقه والحال ما تقدم، فقد صار العبد حرا، لأن بشهادتهما كمل أداؤه لجميع ما اشترى به نفسه من مالكيه، وإذا يعتق لوجود الشرط وهو الأداء، ولا شيء عليه لذلك، ويشاركهما المشهود عليه فيما أخذا من المال، لاعترافهما بأخذه من ثمن العبد المشترك بينهم، ولأن ما في يد العبد كان لهم، وما أخذاه كان في يده، ولا تقبل شهادتهما المتقدمة في أنه لا يستحق عليهما ذلك، لأنهما يدفعان بها ضررا عن أنفسهما وهو المشاركة، وإنه غير مقبول، وإنما قبلت شهادتهما للعبد لأنها شهادة للغير وصار هذا بمنزلة الإقرار بشيء له وشيء عليه، يقبل في الذي عليه دون الذي له، هذا منصوص أحمد، وقال الشيخان: قياس المذهب رد شهادتهما، نظرا إلى أن الشهادة إذا بطل بعضها بطلت كلها، ويفارق الإقرار من حيث إن الشهادة والحال هذه فيها تهمة، والتهمة مانعة للشهادة، بخلاف الإقرار فإن التهمة لا تمنعه. وقول الخرقي: إذا كان العبد لثلاثة فجاءهم بثلاثمائة درهم، فقال: بيعوني نفسي بها فأجابوه، وقد استشكل عليه من حيث إن ظاهره إجازة شراء نفسه بعين ما في يده، وقد تقدم له في العتق أن العبد إذا قال لرجل: اشترني بهذا المال وأعتقني.

فاشتراه بعين المال أن البيع والعتق باطلان، وقد أجاب القاضي عن ذلك بوجوه (أحدها) أن هذا مكاتب عجل لهم الثلاثمائة ليضعوا عنه شيئا، وقرينة هذا ذكره في الكتابة، ويحتمل هذا كلام أبي البركات، لأنه ذكر المسألة فيما إذا كاتب ثلاثة عبدا، فادعى الأداء إليهم، وحكى المنصوص في ذلك (الوجه الثاني) أن يكون المال في يد العبد الأجنبي، أذن له أن يشتري نفسه به ولم يملكه له، قلت: وهذا جيد أيضا (الثالث) أن يكون عتقا بصفة، تقديره: إذا قبضنا منك هذه الدراهم فأنت حر. قلت: وفيه بعد (الرابع) أن رضى سادته ببيعه نفسه بما في يده، وفعلهم ذلك معه إعتاق منهم، مشروط بتأدية ذلك إليهم، وصورته صورة البيع، ومعناه العتق بشرط الأداء، ويصير هذا كما لو قال: بعتك نفسك بخدمتي سنة. فإن منافعه مملوكة للسيد ويصح ذلك، وهذا أظهر الوجوه عند أبي محمد، لعدم احتياجه إلى تأويل، بخلاف غيره، قلت: ولا يخفى ما فيه من التكلف، والصورة المشبهة بها لا تشبه ذلك، لأن السيد لا يملك المنافع المستقبلة، وإنما تحدث والحال هذه على ملك العبد، وغايته أن السيد في هذه الصورة

رضي بإعتاقه بشيء يثبت له في ذمته، انتهى. وقوله: ليكتبوا له كتابا، فيه دليل على مشروعية كتابة الوثائق خوف التجاحد، وهو كذلك، والله أعلم. قال: وإذا قال السيد: كاتبتك على ألفين، وقال العبد: على ألف. فالقول قول السيد مع يمينه. ش: إذا اختلف السيد ومكاتبه في قدر مال الكتابة، فقال السيد مثلا، كاتبتك على ألفين، وقال المكاتب: بل على ألف. فالقول قول السيد مع يمينه، في إحدى الروايات، اختارها أبو محمد، في المغني، وقال القاضي: إنها المذهب. لأنه اختلاف في الكتابة، فكان القول قول السيد، كما لو اختلفا في أصلها (والرواية الثانية) القول قول المكاتب، نصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والشيرازي، وصححها ابن عقيل في التذكرة، لأنه منكر، والقول قول المنكر، ومدعى عليه، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «ولكن اليمين على المدعى عليه» وأجاب أبو محمد بأن المنكر إنما قدم قوله لأن الأصل معه، والأصل هنا مع السيد، إذ الأصل في المكاتب وكسبه أنه لسيده، وفيه نظر، إذ الاختلاف لم يقع في المكاتب ولا في كسبه، إنما وقع فيما حصل العقد عليه (والرواية الثالثة) يتحالفان ويتفاسخان الكتابة، اختارها أبو بكر، لأنهما اختلفا في عوض العقد القائم بينهما، فوجب التحالف إذا لم تكن بينة

كالمتبايعين، وفرق أبو محمد بأن الأصل في البيع عدم ملك كل واحد منهما لما صار إليه، والأصل في المكاتب وكسبه أنه لسيده، فلذلك قبل قوله فيه، وقد تقدم الاعتراض على ذلك، قال: ولأن التحالف في البيع مقيد، بخلاف الكتابة، إذ الحاصل بالتحالف فسخ الكتابة، ورد العبد إلى الرق، وهذا يحصل من جعل القول قول [السيد مع يمينه، قلت: وهذا بعينه في البيع لو جعل القول قول] البائع، وعلى هذه الرواية إن تحالفا قبل العتق فسخ العقد، إلا أن يرضى أحدهما بما قال صاحبه، وإن تحالفا بعد العتق رجع السيد بقيمته، ورجع العبد بما أداه، والله أعلم. قال: وإذا أعتق الأمة أو كاتبها وشرط ما في بطنها له دونها، أو أعتق ما في بطنها دونها فله شرطه. ش: إذا أعتق أمته أو كاتبها، وشرط ما في بطنها له دونها، فإنه يصح شرطه، ولا يعتق الحمل، ولا يتبع أمه في الكتابة، لعموم قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «المسلمون على شروطهم» . 3919 - وروى الأثرم بسنده عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه أعتق أمة

واستثنى ما في بطنها. وقد احتج به أحمد فقال: أذهب إلى حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في العتق، ولا أذهب إليه في البيع. 3920 - ويروى ذلك أيضا عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، ولا يعرف لهما مخالف، ويفارق البيع، إذ البيع عقد معاوضة، فاعتبر فيه صفات المعوض، ليعلم هل هو قائم مقام العوض أم لا، والعتق تبرع، لا تتوقف صحته على معرفة صفات المعتق ولهذا لم تنافه الجهالة، وقد حكى أبو محمد عن القاضي أنه خرج صحة استثناء ذلك في العتق، على الروايتين في صحة الاستثناء

في البيع، والمشهور المنصوص - وهي طريقة القاضي في الجامع والروايتين وجماعة - عدم التخريج، والقطع بالصحة هنا، وأما إذا أعتق ما في بطنها دونها فيعتق، لأنه أعتق نسمة، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: من أعتق نسمة ولا تعتق الأم، لأنها ليست تابعة له، فلم تعتق بعتقه، كما بعد الولادة، وهذا هو المذهب (وعن أحمد رواية أخرى) لا يعتق حتى يولد في ملكه حيا، ولعل مدركها أن الحمل لا حكم له، والأول أن الحمل له حكم، فعلى هذه الرواية يكون كمن علق عتقه بشرط، فيجوز بيعه قبل وضعه تبعا لأمه، والله أعلم. قال: ولا بأس أن يعجل المكاتب لسيده، ويضع عنه بعض كتابته. ش: وذلك كأن يصالحه على مائة مؤجلة بخمسين حالة، ونحو ذلك، لأن دين الكتابة غير مستقر، ولذلك لا يصح ضمانه، وليس بدين في الحقيقة، فكأن السيد أخذ بعضا وأسقط بعضا، وعكس هذا صورة لو اتفقا على الزيادة في الدين ليزيده في الأجل، كأن يحل عليه نجم، فيقول: أخرني به إلى كذا وأزيدك، فهل يصح ذلك؟ فيه احتمالان، ذكرهما في

المغني، فالصحة لما تقدم، وعدمها لشبهه بربا الجاهلية المحرم، وهو الزيادة في الدين للزيادة في الأجل. وقول الخرقي: ولا بأس. يشعر بأن الأولى ترك ذلك، وقد سئل أحمد عن ذلك في رواية حرب فقال: فيه خلاف، وأرجو. وقد ذكر أبو البركات في باب حكم الدين أن في جواز بيع دين الكتابة من الغريم وجهين، ثم جزم هنا في الصلح بالصحة، وذكر ذلك بلفظ المصالحة، فيحتمل أن يقال: لما كان بلفظ المصالحة كان بمعنى الإبراء من البعض، وسومح في ذلك للمكاتب، لتشوف الشارع إلى العتق. قال: وإذا كان العبد بين اثنين، فكاتب أحدهما فلم يؤد كل كتابته حتى أعتق الآخر نصيبه وهو موسر، فقد صار العبد كله حرا، ويرجع الشريك على المعتق بنصف قيمته. ش: قد تقدم أن للشريك مكاتبة حصته من العبد المشترك بدون إذن شريكه، فإذا فعل فأعتق الذي لم يكاتبه حصته قبل أن يؤدي كتابته وهو موسر، فهل يسري إلى نصيب شريكه المكاتب فيصير حرا؟ على وجهين (أحدهما) - وهو الذي قاله الخرقي، ونص عليه أحمد في رواية بكر بن محمد، وحكاه

القاضي في روايتيه عن أبي بكر، وأورده الشيخان وابن حمدان مذهبا - يسري والحال ما تقدم، لأن المكاتب عبد كما تقدم، فيدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «من أعتق شركا له في عبد» الحديث (والثاني) - وهو قول القاضي، وحكاه أبو محمد عن أبي بكر - لا يسري، حذارا من إضرار الشريك بإبطال سبيل الولاء المنعقد له بالكتابة، والضرر منفي شرعا، نعم، إن عجز المكاتب ورد في الرق سرى إذا، لانتفاء المانع وأجيب عن هذا بأن العتق إذا أثر في الملك الثابت الذي الولاء من بعض آثاره، ففي الولاء أولى. انتهى. (فعلى الأول) يرجع الشريك على المعتق بنصف قيمة المكاتب، لإتلافه له بالعتق. وظاهر كلام الخرقي أنه يرجع بنصف قيمته مكاتبا، وهو إحدى الروايتين، وبه قطع أبو محمد، لأن الذي أتلفه هو مكاتب (والرواية الثانية) يضمنه بما بقي عليه، لأنه لم يفوت على السيد أكثر من ذلك، وعلى هذه قال السامري يكون الولاء بينهما، لكل واحد منهما بقدر ما عتق منه، قال ابن أبي موسى. انتهى. وقال أحمد في رواية بكر بن محمد - في عبد بين شريكين، كاتباه على ألف درهم، فأدى إليهما تسعمائة درهم،

لهذا أربعمائة وخمسين، ولهذا أربعمائة وخمسين، ثم إن أحدهما أعتق نصيبه، قال - إن كان للمعتق مال أدى إلى شريكه نصف قيمة العبد، لا يحاسبه بما أخذ، لأنه عبد ما بقي عليه درهم. وهذا يحتمل - أو هو الظاهر منه - أنه يضمنه بقيمته عبدا، ويجري هذا على ما تقدم من أن العتق إذا وقع في الكتابة أبطلها، لكن ثم العتق من المكاتب، وهنا من غيره والله أعلم. قال: وإذا عجز المكاتب ورد في الرق وقد كان تصدق عليه بشيء فهو لسيده. ش: كلام الخرقي يشمل جميع الصدقات، وهو كذلك في صدقة التطوع والوصية ككسبه، أما الزكاة ففيها روايات (إحداها) - وهي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد - الحكم كذلك، لأنه يأخذ لحاجته، فأشبه الفقير والمسكين (والرواية الثانية) - وهي اختيار أبي بكر والقاضي - يرد إلى أربابه، لأنه أخذه ليصرفه في العتق، فإذا لم يصرف فيه رد، كالغازي إذا لم يغز (والرواية الثالثة) يؤخذ ما في يده فيجعل

في المكاتبين، نقلها حنبل، لأنه جعل ذلك لله، فلا يرجع له، بل يجعل في تلك الجهة، والحكم في موت المكاتب وعتقه كالحكم في عجزه، أما ما أداه إلى السيد قبل العجز فلا يرجع بحال، لصرفه للجهة التي أخذه لها، ولا فرق فيما تقدم بين أن يكون عين ما تصدق عليه به باقيا، أو قد اشترى به عوضا ثم عجز وهو في يده، لأنه بدله، فأعطي حكمه، وأما غير الزكاة من الصدقات المفروضات، فكلام أبي محمد في المغني يقتضي جريان الخلاف فيها، وأبو البركات خص الخلاف في الزكاة، والله أعلم. قال: وإذا اشترى المكاتبان كل واحد منهما الآخر صح شراء الأول، وبطل شراء الثاني. ش: أما صحة شراء الأول فلأن تصرفه صحيح، وبيع السيد مكاتبه جائز، فالمقتضي موجود، والمانع منتف، وأما بطلان شراء الثاني فلقيام المانع، وهو أنه قد صار عبدا للذي اشتراه أولا، فلو صححنا شراءه لكان سيدا له، فيكون مملوكا سيدا وإنه ممنوع، حذارا من تناقض الأحكام، ولو لم يعلم الأول منهما فقال أبو بكر وأبو الخطاب وأبو محمد وغيرهم: يبطل البيعان، إذ كل منهما مشكوك في صحته، فرجع إلى الأصل فيهما، وأجراه القاضي مجرى الوليين، فعلى هذا يفسخ الحاكم

البيعين في رواية، وفي أخرى يقرع بينهما، وعلى الأول لا فسخ ولا قرعة، والله أعلم. قال: وإن شرط في كتابته أن يوالي من شاء فالولاء لمن أعتق، والشرط باطل. ش: أما كون الولاء لمن أعتق والحال هذه فلحديث بريرة المتقدم «الولاء لمن أعتق» «إنما الولاء لمن أعتق» وأما بطلان الشرط فلحديث بريرة أيضا «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» ولأن ذلك نقل للولاء عن محله، وقد ورد النهي عن نقل الولاء. 3921 - فصح «أنه - عَلَيْهِ السَّلَامُ - نهى عن بيع الولاء وهبته» ، ومقتضى كلام الخرقي أن العقد لا يبطل بذلك، وأن البطلان يختص بالشرط، وهو منصوص أحمد، لحديث بريرة، فإن أهلها اشترطوا لهم الولاء، مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد صحح البيع، وخرج الفساد من الشرط الفاسد في البيع، والله أعلم. قال: وإذا أسر العدو المكاتب فاشتراه رجل، فأخرجه إلى سيده، وأحب أخذه أخذه بما اشتري به وهو على كتابته، وإن لم يحب أخذه فهو على ملك مشتريه، مبقى على ما بقي من

كتابته، ويعتق بالأداء، وولاؤه لمن يؤدي إليه. ش: هذا مبني على قواعد ثلاث (إحداها) أن الكفار يملكون أموال المسلمين بالقهر، وهو المذهب (الثانية) أن المكاتب يصح نقل الملك فيه، وهو المذهب أيضا (الثالثة) أن من وجد ماله من مسلم أو معاهد بيد من اشتراه منهم فهو أحق بثمنه، وهو المشهور. إذا عرف هذا فإذا أسر الكفار المكاتب، فاشتراه رجل فوجده سيده، فهو مخير إن شاء أخذه بما اشتري به، وإن شاء تركه، لما تقدم في الجهاد، فإن أخذه فهو على كتابته، إذ الكتابة عقد لازم، لا تبطل بالبيع فبالأسر أولى، وإن لم يأخذه فقد استقر الملك فيه لمشتريه، فيكون مبقى على ما بقي من كتابته، لما تقدم من بقاء الكتابة مع ذلك، وإذا يعتق بالأداء كغيره من المكاتبين، وولاؤه لمن أدى إليه، من مكاتبه الأول أو مشتريه، لأنه المعتق له، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «الولاء لمن أعتق» . (تنبيه) قد تقدم أن الكتابة لا تبطل بالأسر، لكن هل يحتسب عليه بالمدة التي كان فيها مع الكفار؟ على وجهين، فإن قيل لا يحتسب لغت مدة الأسر، وبنى على ما مضى، وإن قيل بالاحتساب فحل عليه ما يجوز تعجيزه بترك أدائه فلسيده

تعجيزه، وهل له ذلك بنفسه أو بحكم الحاكم؟ فيه وجهان، وعلى كليهما متى خلص فأقام بينة بوجود مال له وقت الفسخ يفي بما عليه، فهل يبطل الفسخ أو لا بد مع ذلك من ثبوت أنه كان يمكنه أداؤه؟ فيه قولان، والله أعلم.

كتاب عتق أمهات الأولاد

[كتاب عتق أمهات الأولاد] ش: (أمهات) واحدتها، أم، وأصلها أمهة، فلذلك جمعت على أمهات باعتبار الأصل، وأمات باعتبار الواحدة، وقيل: الأمهات: للناس، والأمات للبهائم، وقد أشعر كلام المصنف في الباب بجواز التسري ووطء الإماء، وهو إجماع لا ريب فيه، وقد شهد له قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ - إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] واستفاض أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استولد مارية القبطية أم إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وعملت الصحابة على ذلك، فاتخذ عمر وعلي وكثير من الصحابة - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أمهات الأولاد والله أعلم. [أحكام أمهات الأولاد] قال: وأحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء في جميع أمورهن، إلا أنهن لا يبعن.

ش: أما كون أحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء في جميع أمورهن، عدا ما استثناه فلأنها مملوكة، فأشبهت القن. 3922 - ودليل الوصف ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه، أو قال من بعده» . رواه أحمد وابن ماجه، وفي لفظ: «أيما امرأة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه، أو قال: من بعده» رواه أحمد فدل على أنها قبل ذلك باقية على الرق، فعلى هذا لسيدها كسبها وإجارتها، وتزويجها وعتقها، ووطؤها ونحو ذلك من أحكام الإماء، ولا يرد عليه كونها لا تورث، بل تعتق بموت سيدها، ويحد قاذفها، وتستتر سترة الحرة على رواية فيهما، لذكر المصنف عقب هذا، نعم يرد عليه تدبيرها فإنه لا يصح، لانتفاء فائدته، ولهذا لو طرأ الاستيلاد على التدبير أبطله، قاله ابن حمدان.

قلت: يصح إن جاز بيعها، وقلنا: التدبير عتق بصفة، وقد يرد عليه ما أشعر به كلام أحمد في رواية أبي طالب، وسأله: هل يطأ مكاتبته قال: لا يطؤها لأنه لا يقدر أن يبيعها ولا يهبها، فجعل العلة في امتناع الوطء منع [البيع، والبيع هنا ممنوع كما سيأتي، لكن المعروف في المذهب خلاف هذا، وأنه يجوز الوطء، وقد يرد عليه أيضا ما ينقل الملك غير] البيع كالهبة ونحوها، أو يراد للنقل كالرهن، فإنه لا يجوز، مع أنه لم يستثن إلا البيع، وقد يقال: إنه استثنى البيع وهذه في معناه. 3923 - وأما كون أمهات الأولاد لا يبعن فلما روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، وقال: «لا يبعن ولا يوهبن، ولا يورثن، يستمتع منها السيد ما دام حيا، فإذا مات فهي حرة» رواه الدارقطني وهو نص، ورواه مالك في الموطأ، والدارقطني من طريق آخر عن ابن عمر عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من قوله، قال أبو البركات: وهو أصح.

3924 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «ذكرت أم إبراهيم عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «أعتقها ولدها» رواه ابن ماجه والدارقطني.

3925 - ويؤيد هذا ما روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال «جاء رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إنا نصيب سبيا فنحب الأثمان، فكيف ترى في العزل؟ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنكم لتفعلون ذلك؟ لا عليكم أن لا تفعلوا ذلك، فإنها ليست نسمة كتب الله عز وجل أن تخرج إلا وهي خارجة» رواه أحمد والبخاري. 3926 - وروى البخاري عن عمرو بن الحارث، أخي جويرية بنت الحارث قال: «ما ترك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عند موته درهما ولا دينارا، ولا عبدا ولا أمة ولا شيئا، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه، وأرضا جعلها صدقة» .

3927 - وروى سعيد في سننه: حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة عن الشعبي، عن عبيدة قال: خطب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الناس فقال: شاورني عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في أمهات الأولاد، فرأيت أنا وعمر أن أعتقهن، فقضى به عمر حياته، وعثمان حياته، فلما وليت رأيت أن أرقهن. قال عبيدة: فرأي علي وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في الجماعة، أحب إلينا من رأي علي وحده. وهذا دليل الإجماع. وحكى جماعة عن أحمد رواية أخرى: يجوز بيعهن مع الكراهة، أخذا من قول أحمد في رواية ابنه صالح وسأله: إلى أي شيء تذهب في بيع أمهات الأولاد؟ قال: أكرهه، وقد باع علي بن أبي طالب. وفي رواية ابن منصور وقال: لا يعجبني

بيعهن. 3928 - لما «روى أبو الزبير عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه سمعه يقول: كنا نبيع سرارينا أمهات أولادنا والنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فينا حي، لا يرى بذلك بأسا» . رواه أحمد وابن ماجه. 3929 - وعن عطاء عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» - وأبي بكر، فلما كان عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -

نهانا فانتهينا، رواه أبو داود، وإنما كره ذلك أحمد للاختلاف فيه، كما أشعر به كلامه، ولا ريب أن المذهب هو الأول، وقد امتنع أبو محمد من حكاية ما تقدم رواية، وقال: إن السلف يطلقون الكراهة على التحريم. وقال: إن قول جابر ليس بصريح في أن ذلك كان بعلم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولا بعلم أبي بكر، بل وقع ذلك من فعلهم على انفرادهم، توفيقا بين الأدلة، وإذا لا حجة فيه، وأجاب غيره بأنه كان مباحا ثم نهي عنه، ولم يظهر النهي لمن باعها، ولا علم أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بمن باع لقصر مدته، واشتغاله بأهم أمور الدين، ثم ظهر ذلك زمن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فأظهر النهي والمنع اعتمادا على النهي، لامتناع النسخ بعد وفاة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. انتهى. وتقدم الإشعار بأن حكم الهبة والرهن ونحو ذلك حكم البيع، والله أعلم. قال: وإذا أصاب الأمة وهي في ملك غيره بنكاح فحملت منه ثم ملكها حاملا عتق الجنين، وكان له أن يبيعها.

ش: (أما عتق الجنين) فلأنه من ذي رحمه المحرم، فيدخل في قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من ملك ذا رحم محرم فهو حر» الحديث، والخرقي صور المسألة في النكاح، وكذلك حكم وطء الشبهة، نظرا للحوق النسب، بخلاف الزنا فإن النسب لا يلحق به، فلا يعتق الولد على المذهب المنصوص، (وأما كون له بيعها) فمبني على أن من شروط صيرورة الأمة أم ولد أن تحمل في ملكه، وهذا إحدى الروايات، نص عليه أحمد في رواية ابن منصور، وبه قطع القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وغيرهم، واختاره أبو محمد، لما تقدم من حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: من وطئ أمته فولدت له وهذا لم يطأ أمته، فلم يدخل في الحديث، ولأن الأصل الرق، خولف فيما إذا حملت منه في ملكه، فيبقى فيما عداه على الأصل (والرواية الثانية) لا يشترط ذلك، بل متى وطئها ثم ملكها ولو بعد وضعها صارت أم ولد حكاها ابن أبي موسى، لأنه يصدق عليها إذا أنها أم ولد له، وهو مالك لها، فأشبهت التي حملت في ملكه، قال أبو محمد: ولم أجد ذلك عن أحمد فيما إذا ملكها بعد ولادتها، إنما نقل عنه مهنا التوقف، فقال: لا أقول فيها شيئا (والرواية

الثالثة) إن ملكها حاملا [صارت أم ولد، وإلا فلا، اعتبارا بأن الإيلاد في الملك (والرواية الرابعة) إن ملكها حاملا ووطئها، وكان الوطء يزيد في الولد] صارت أم ولد، وإلا فلا، نقلها صالح. 3930 - لأنه مروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: أبعد ما اختلطت دماؤكم ودماؤهن، ولحومكم ولحومهن بعتموهن. فعلل بالمخالطة، والمخالطة هنا حاصلة، إذ الماء يزيد في الولد، وهذه اختيار القاضي على ما حكاه عنه أبو محمد، وابن حامد، إلا أن ابن حامد جعل الزيادة بأن يطأها في ابتداء الحمل أو توسطه، والقاضي قيد ذلك بأن يطأها قبل تمام خمسة أشهر. (تنبيه) قد تقدم أنه هل من شرط صيرورة الأمة أم ولد أن تحمل في ملكه أم لا؟ وهذا يدخل فيه ولو وطئها بزنا، وصرح به أبو الخطاب في الهداية، وابن حمدان، وأبو محمد في الكافي،

وكلامه في المغني يقتضي نفي الخلاف من هذه الصورة، لأنه جعل ذلك أصلا، وقاس عليه المنع، وكذلك قاس عليه الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، والله أعلم. قال: وإذا علقت منه في ملكه، ثم وضعت منه ما يتبين فيه بعض خلق الإنسان كانت له بذلك أم ولد. ش: أي وإذا علقت الأمة منه، وهذا يعطي أنه يشترط في صيرورة الأمة أم ولد شروط ثلاثة أحدها أن تعلق بحر، لأنه الذي حكم له النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحريتها به، «وقال في أم إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أعتقها ولدها» ونحو ذلك، ويخرج من ذلك ما إذا علقت أمته بمملوك [وذلك في موضعين (أحدهما) العبد إذا ملكه السيد أمة، وقلنا يملك، فإن ولده مملوك] ولا يثبت لأمه حكم المستولدات (الثاني) المكاتب إذا استولد أمته فإن الولد يتبعه، فيصير حكمه حكمه كما تقدم، وهل تتبعه الأمة، فتصير أم ولد إن أدى أم لا؟ فيه وجهان تقدما. (الشرط الثاني) أن يكون العلوق وهي في ملكه، فيخرج منه ما إذا علقت منه وليست في ملكه، وقد تقدم هذا الشرط قبل، فلا حاجة إلى إعادته، وقد يورد عليه الأمة المشتركة إذا أولدها الشريك، إذ

مقتضى كلامه هنا كون جميعها في ملكه، لكن قد تقدم هذا له فلا يرد عليه، وقد يورد عليه أيضا الوالد إذا وطئ أمة ولده فحملت منه، فإن الملك ينتقل له إذا وتصير أم ولد، فحال العلوق لم تكن مملوكة له، وقد يقال: إن بالعلوق تبينا الملك سابقا قبله، ويدخل في عموم كلام الشيخ كل مملوكة له، وإن حرم وطؤها، كالمكاتبة غير المشترط وطؤها، وقد تقدم له ذلك، وكالمجوسية والوثنية، والمحرمة لرضاع، أو حيض، أو ظهار، ونحو ذلك، وكالمزوجة، صرح بذلك أبو محمد هنا، لكن اختلف كلامه في أنه هل يلحقه نسب الولد؟ فقطع في النكاح بعدم لحوق النسب له، وهو منصوص أحمد في رواية حرب ومحمد بن حرب، ومقتضى كلام أبي محمد هنا لحوق النسب له، لأنه حكم بحرية الولد، وهو الذي قاله القاضي في المجرد، معتمدا على ما إذا وطئ أحد الشريكين الجارية المشتركة، وإذا يمنع صيرورتها أم ولد، لانتفاء لحوق النسب، كما تقدم في المزني بها إذا ملكها بعد. (الشرط الثالث) أن تضع ما يبين فيه بعض خلق الإنسان، كأن تضع رأسا أو رجلا أو أصبعا أو تخطيطا له، أو بطريق الأولى إذا وضعت إنسانا، لأن بذلك يعلم أنه ولد، فيتحقق صيرورتها أم ولد. 3931 - وقد روى أبو القاسم البغوي عن علي بن الجعد، عن سفيان،

عن أبيه عن عكرمة، عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال: أم الولد أعتقها ولدها، وإن كان سقطا، فيه إرسال، وروي عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وروي عن ابن عباس مرفوعا. 3932 - وكذلك روى الأثرم عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أعتقها ولدها وإن كان سقطا. وكلام الخرقي يشمل وإن كان ميتا، وهو كذلك لما تقدم، ويشمل ما إذا وضعت جسما لا تخطيط فيه، فشهدت القوابل أن فيه صورة حقيقة، وهو كذلك، لأنه قد تبين فيه خلق الإنسان بشهادتهن، ويخرج منه ما إذا

وضعت مضغة لا تخطيط فيها لا ظاهرا ولا بالبينة، وله حالتان (إحداهما) لم يعلم كونه مبتدأ خلق آدمي، فلا تصير به أم ولد، اعتمادا على الأصل (الثانية) علم أنه مبتدأ خلق آدمي، بشهادة القوابل أو غير ذلك، ففيه روايتان (إحداهما) وهي ظاهر كلام الخرقي وجماعة لا تصير بذلك أم ولد؛ قال في رواية جماعة: تعتق الأمة إذا تبين وجهه أو يده، أو شيء من خلق الإنسان، لأن ذلك يسمى ولدا، وعتقها مشروط بصيرورتها أم ولد (والثانية) تصير بذلك أم ولد، لأنه مبدأ خلق آدمي، أشبه ما لو تبين، ونقل حنبل عن أحمد: إذا أسقطت أم الولد فإن كان خلقه بائنا عتقت، وانقضت به العدة، إذا دخل في الخلق الرابع، بنفخ الروح، فظاهر هذا أنه يشترط مع التبيين تمام أربعة أشهر، ولا نزاع أنها إذا ألقت نطفة لا تصير بها أم ولد، وكذلك عند جماعة إذا ألقت علقة؛ حتى إن أبا البركات وأبا محمد في الكافي قطعا بذلك، ونص أحمد في رواية مهنا، ويوسف بن موسى أنها تصير بها أم ولد، قال: إذا ألقت مضغة

أو علقة تعتق، وإن لم تتم أربعة أشهر، بعد أن يرى خلقه، ويعلم أنه ولد. (تنبيه) قول أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -، تعتق الأمة إذا تبين وجهه. مجاز باعتبار ما يئول إليه، وهو «كقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أم إبراهيم: «أعتقها ولدها» أي أنه كان السبب في عتقها، إذ لا نعلم أحدا قال يتنجز العتق فيها في الحمل، والله أعلم. قال: فإذا مات فقد صارت حرة وإن لم يملك غيرها. ش: أما صيرورتها حرة بموت سيدها فلما تقدم من قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من وطئ أمته فولدت له فهي معتقة عن دبر منه» «وقوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ - في أم إبراهيم: «أعتقها ولدها» ونحو ذلك، وأما عتقها من رأس المال فلظاهر ما تقدم، وهذا كله إن لم يجز بيعها على المذهب، أما إن جاز بيعها فقطع أبو محمد بأنها لا تعتق بموته، وظاهر إطلاق غيره يقتضي العتق، ولهذا قدمه ابن حمدان، قال: وقيل إن جاز له بيعها لم تعتق عليه بموته، وكلام الخرقي يشمل وإن كانت كافرة فاجرة، أو كان السيد كذلك، وهو كذلك، نظرا للعموم السابق، والله أعلم.

قال: وإذا صارت الأمة أم ولد بما ذكرنا، ثم ولدت من غيره، كان له حكمها في العتق بموت سيدها. ش: نص أحمد على ذلك، اقتداء بالصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. 3933 - فقال: قال ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وغيرهما: ولدها بمنزلتها. وكلام الخرقي يشمل وإن ماتت الأم، وهو كذلك، لأن سبب الحرية قد انعقد، وهو سبب بنفس العتق، فكما لا يرتفع العتق بعد وقوعه، كذلك سببه وأورد على هذا المكاتبة يتبعها ولدها في الكتابة، فإذا بطلت الكتابة في الأم بطلت في الولد، وأجيب بأن سبب العتق فيها إما الأداء في

العقد، أو وجود الصفة، وببطلان الكتابة يتعذر كل واحد منهما، والسبب في أم الولد موت سيدها، ولا يتعذر ذلك بموتها، ويورد على هذا الفرق المعلق عتقها بصفة، فإن موت الأم ونحوه لا يتعذر معه وجود الصفة، ومع هذا لا يعتق الولد. وقول الخرقي: ثم ولدت، يخرج منه ما ولدته قبل الاستيلاد، وهو كذلك، لأنه لا يتبع في العتق المنجز، ففيما هو سبب له أولى، ويتخرج رواية بالتبعية من الرواية الضعيفة في ولد المدبرة. قال: وإذا أسلمت أم ولد النصراني منع من وطئها والتلذذ بها. ش: حذارا من أن يطأ مشرك مسلمة، وإنه ممنوع بلا ريب، قال سبحانه: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] . ومقتضى كلام الخرقي أن ملكه يقر عليها والحال هذه، وهو المذهب المختار لأبي بكر، والقاضي، وأبي الخطاب والشريف، والشيرازي وأبي محمد وغيرهم، لأن عتقها مجانا فيه إضرار بالسيد، وبالسعاية فيه إضرار بها، لإلزامها الكسب بغير

رضاها، والضرر منفي شرعا، ونقل الملك فيها ممتنع لما تقدم (وعن أحمد) رواية أخرى - قال القاضي: نقلها مهنا - تستسعى في قيمتها ثم تعتق، لأن بيعها وعتقها مجانا منتفيان لما تقدم، وكذلك إقرار الملك عليها، لما فيه من إقرار ملك الكافر على المسلم، فسلك بها طريقة وسطى، وهي الاستسعاء، وحكى في الكافي (رواية ثالثة) أنها تعتق بإسلامها من غير استسعاء، وقال: نقلها مهنا. ولا أعلم له سلفا في ذلك، على أن أبا بكر لم يثبت الثانية، فقال: أظن أن أبا عبد الله أطلق ذلك لمهنا على سبيل المناظرة للوقت. ومقتضى كلامه أيضا أنه يصح إيلاد الذمي، وهو كذلك، بل والحربي، كما يصح عتقهم، ومن ثم قال المجد: إذا أسلمت أم ولد الكافر. (تنبيه) الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - منع من الوطء ونحوه، وظاهره أنه إن أمكن ذلك من غير إحالة بينهما لا يحال بينهما، وقال الشيخان وغيرهما: يحال بينه وبينها، والله أعلم.

قال: وأجبر على نفقتها. ش: لأنه مالك لها، ونفقة المملوك على سيده، وهذا هو المذهب المعروف، والمنصوص من الروايتين (والثانية) لا تجب عليه نفقتها، قال في رواية الميموني - وسئل: من أين تنفق؟ قال: من أين كانت تنفق لو مات عنها. وبنى أبو البركات هذه الرواية على القول بوجوب الاستسعاء وهو حسن، وتبعه على ذلك ابن حمدان، ثم إن القاضي جعل وجوب النفقة على السيد منوطا بما إذا لم يكن لها كسب، أما إن كان لها كسب فإن النفقة تجب فيه، حذارا من أن يبقى له عليها ولاية بأخذ كسبها، وتبعه على ذلك جماعة من الأصحاب، وعلى هذا إن فضل منه شيء فهو للسيد، واختار أبو محمد في مغنيه أن نفقتها على سيدها، وكسبها له، يصنع به ما شاء، وهو ظاهر كلام الخرقي، وكلام أحمد في رواية ابن منصور، قال: يمنع من غشيانها، ونفقتها عليه، والله أعلم. قال: فإن أسلم حلت له. ش: لزوال المانع من الحل وهو الكفر والله أعلم. قال: وإن مات قبل ذلك عتقت.

ش: إذا مات قبل الإسلام عتقت، لأنها أم ولد، وشأن أم الولد العتق بموت سيدها لما تقدم، والله أعلم. قال: وإذا عتقت أم الولد بموت سيدها فما كان في يدها من شيء فهو لورثة سيدها. ش: لأن أم الولد كما تقدم حكمها حكم الإماء، إلا ما استثني، فما في يدها من كسب أو غيره فهو لسيدها، فإذا مات وعتقت انتقل ما في يدها لورثة سيدها، كما في يد المدبرة، والله أعلم. قال: وإذا أوصى لها بما في يدها كان لها إذا احتمله الثلث. 3934 - ش: لما روى الإمام أحمد وسعيد، عن هشيم: حدثنا حميد، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أوصى لأمهات أولاده بأربعة ألاف درهم، ولأنها في حال نفوذ

جناية أم الولد

الوصية لها حرة، وهو المعتبر مع أن أبا محمد قال: لا نعلم فيه خلافا، وقوله: إذا احتمله الثلث، مبني على ما تقدم، من أن الوصايا كلها تعتبر من الثلث، فإن لم يحتمله وقف الزائد على إجازة الورثة كما تقدم. قال: وإذا مات عن أم ولده فعدتها حيضة. ش: قد تقدمت هذه المسألة في العدد، فلا حاجة إلى إعادتها، والخرقي سمى ذلك عدة، وغيره يقول استبراء، ولا نزاع في المعنى، إذ هما يشتركان في منع النكاح بدونهما، ومعرفة براءة الرحم بهما. [جناية أم الولد] قال: وإذا جنت أم الولد فداها سيدها بقيمتها أو بدونها. ش: إذا جنت أم الولد وجب على سيدها فداؤها، لأنها مملوكة له، يملك كسبها لم يسلمها، فلزمه أرش جنايتها كالقن، وفي ما يفديها به روايتان (إحداهما) وهي المذهب هو الأقل من قيمتها أو دونها، إن كان ذلك قدر أرش جنايتها، لأن الأقل إن كان القيمة فالمجني عليه لا يستحق أكثر منها، لأن حقه متعلق بالرقبة، والقيمة بدل عنها، وإن كان الأرش فهو لا يستحق أكثر منه، لأن الإنسان لا يستحق أكثر مما جني عليه (والثانية) يفديها بأرش الجناية بالغة ما بلغت، لمنعه من

تسليمها بسبب من جهته، وقول الخرقي: فداها. [فيه] إشعار بأن جنايتها تتعلق برقبتها، وهو كذلك، كالأمة القن، ومن ثم لو ماتت قبل فدائها سقط الفداء، لتلف متعلقه، واعتبرت قيمتها يوم الفداء، وتجب قيمتها معيبة بعيب الاستيلاد. قال: فإن عادت وجنت فداها وليها كما وصفت. ش: إذا عادت أم الولد فجنت لزم سيدها فداؤها أيضا، على المشهور من الروايتين، والمختار لعامة الأصحاب، القاضي وأصحابه، وأبي محمد وأبي بكر، حتى قال: ولو ألف مرة. وذلك لأنها أم ولد جانية، فلزمه فداؤها كالأول، وإذا يفديها كما فداها أولا، وهو الأقل من قيمتها أو دونها على المذهب، وعلى الرواية الضعيفة بالأرش كله (والرواية الثانية) لا يلزمه فداؤها بعد أن فداها أولا، ويتعلق ذلك بذمتها، تتبع به إذا عتقت، حذارا من إضرار السيد بتكرار الفداء عليه، مع منعه من بيعها، ولأنها جانية، فلم يلزم السيد أكثر من قيمتها كما لو لم يكن فداها، وعلى هذه قال ابن حمدان قلت: يرجع الثاني على الأول بما يخصه، مما أخذه، وهذا مذهب الشافعي ثم إن أبا

وصية الرجل لأم ولده

الخطاب في هدايته، وأبا محمد في مقنعه وكافيه، وأبا البركات أطلقوا هذه الرواية، وقيدها القاضي في روايتيه، وأبو محمد في مغنيه، حاكيا له عن أبي الخطاب، وابن حمدان في رعايتيه، بما إذا فداها أولا بقيمتها، ومقتضى هذا أنه لو فداها أولا بأقل من قيمتها، لزمه فداؤها بما بقي من القيمة بلا خلاف. (تنبيه) لو لم يفدها أولا حتى جنت ثانيا تعلق الجميع برقبتها، ولم يكن على السيد في الكل إلا الأقل من قيمتها أو أرشها، يشترك المجني عليهم فيه، والله أعلم. [وصية الرجل لأم ولده] قال: ووصية الرجل لأم ولده جائزة، وله تزويجها وإن كرهت. ش: هذا أفاد مسألتين (إحداهما) أن لسيد أم الولد تزويجها (والثانية) أن له إجبارها، وذلك لأنها أمة كما تقدم، يملك

قذف أم الولد

الاستمتاع بها واستخدامها، فملك ذلك، كالأمة القن. 3935 - مع أن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - نقل ذلك عن ابن عمر وابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة، وهذه المسألة داخلة في عموم قوله: أحكام أمهات الأولاد أحكام الإماء، وإنما نص على ذلك لخلاف العلماء في ذلك، إذ منهم من منع مطلقا، ومنهم من أجازه ومنع الإجبار، وكلا القولين للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -. والله أعلم. [قذف أم الولد] قال: ولا حد على من قذفها. 3936 - ش: هذا منصوص أحمد قال: ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يقول: عليه الحد، وأنا لا أجترئ على ذلك، إنما هي أمة،

أحكامه أحكام الإماء، وقد أشار أحمد في النص إلى التعليل، وهو أن حكمها حكم الإماء، فكذلك في القذف، بل أولى، لأن الحد يحتاط لإسقاطه، ويدرأ بالشبهة، وهذا هو المذهب عند الأصحاب (وعن أحمد) رواية أخرى: عليه الحد، نقلها أبو طالب، فقال: إذا كان لها ابن يحد، إنما أراد ابنها، واحتج بحديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وهذه الرواية أيضا معللة من أحمد، ثم إن كثيرا من الأصحاب يطلق هذه الرواية، وظاهرها أنها مقيدة بما إذا كان لها ولد، وهو ظاهر كلام القاضي في التعليق، قال بعد أن حكاها: فأوجب الحد لا لأجلها، لكن لأجل ما يقدح في نسب ولدها، وعلى هذا ينتفي الخلاف إذا لم يكن لها ولد، فيكون المذهب رواية واحدة أنه لا يحد قاذفها، ويكون محل الخلاف فيما إذا كان لها ابن حر، واشترط حرية الابن، وإن لم يكن في نص أحمد، لكنه معلوم قطعا، إذ صيرورتها أم ولد مشروط بذلك كما تقدم. وينبغي إجراء الروايتين فيما إذا كان لها زوج حر، وكذلك ينبغي إجراؤها

في الأمة القن، والحال ما تقدم، ونظير ذلك لو قذف أمة أو ذمية لها ابن أو زوج مسلمان، فهل يحد؟ على روايتين، ذكرهما أبو البركات، وغيره، وينبغي أن يقيد الابن والزوج بأن يكونا حرين والله أعلم. قال: وإن صلت أم الولد مكشوفة الرأس كره لها ذلك وأجزأها. ش: قد تقدم ذلك في الصلاة، فلا حاجة إلى إعادته، إلا أنه ثم قال: يستحب أن تغطي رأسها. ونص هنا على أن تركها المستحب يكون مكروها، فقد يؤخذ من كلامه أنه حيث نص على الاستحباب يكون تاركه فاعلا لمكروه، وإن لم يكن في كلامه ما يخالف ذلك، والله أعلم. قال: وإن قتلت أم الولد لسيدها فعليها قيمة نفسها والله أعلم. ش: لأن الجناية وجدت منها وهي مملوكة، وجناية المملوك لا يجب فيها أكثر من قيمته، ولم تستقر وهي حرة، وإنما وجد الاستقرار والحرية في حال واحدة، فلم يتقدم شرط وجوب دية حر وهو حريتها، وقد أطلق الخرقي والقاضي وجماعة من

أصحابه، وأبو محمد في كتبه، أن عليها قيمة نفسها، وقال أبو الخطاب في كتابيه، وأبو البركات، وابن حمدان: عليها الأقل من قيمتها أو أرش جنايتها، ولعل إطلاق الأولين محمول على الغالب، إذ الغالب أن قيمة الأمة لا تزيد على دية الحر، وقد حكى ابن المنجا عن أبي محمد في المغني أنه قال فيه: يجب أن يقال الواجب الأقل. ولم أر ذلك في المغني الذي بأيدينا، وهذا كله فيما إذا اختار الولي المال، أو كانت الجناية خطأ، أما إن كانت عمدا واختار الولي القصاص فله ذلك، لأن سيدها أكفى منها بلا ريب، نعم، يستثنى من ذلك ما إذا كان ولدها موجودا، فإنه إن كان الوارث وحده فلا قصاص، لانتفاء وجوب القصاص للابن على والده، وكذلك إن كان معه غيره، لأنه يرث بعض الدم، وإذا يسقط القصاص لعدم تبعيضه، هذا هو المذهب، وقد توقف أحمد عن هذه المسألة في رواية مهنا، ونقل عنه في موضع آخر أنه يقتلها أولاده من غيرها.

ومقتضى كلام الخرقي أنها تعتق والحال ما تقدم، وهو كذلك، لأن المقتضي لعتقها زوال ملك سيدها بالموت، وقد زال، فإن قيل: ينبغي أن لا تعتق، كما منع القاتل الميراث، لاستعجالها ما أجل لها؟ قيل: إذا لم تعتق يلزم نقل الملك فيها، وإنه ممتنع، وفيه نظر، لأن الاستيلاد كما هو سبب للعتق بعد الموت، كذلك النسب سبب للإرث، فكما جاز تخلف الإرث مع قيام السبب بالنص، فكذلك ينبغي أن يتخلف العتق مع قيام سببه، لأنه مثله، وقد قيل في وجه الفرق أن الحق وهو الحرية لغيرها، فلا تسقط بفعلها، بخلاف الإرث فإنه تمحض حقها، وأورد عليه المدبرة، يبطل تدبيرها إذا قتلت سيدها، وإن كان الحق لغيرها، وأجيب بضعف السبب في المدبرة، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور، وله الحمد والمنة على ما أنعم به من خزائن فضله التي لا نفاذ لها ولا يطلب لها أجور، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الخلق محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الذي شريعته باقية على مر الدهور، وعلى آله وصحابته نجوم الهدى ولهم النصيب الأعلى من الأجور، كلما ذكره الذاكرون، وسها عنه الغافلون ورضي الله عن كل الصحابة أجمعين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

§1/1