شرح الرسالة

القاضي عبد الوهاب

باب صلاة العيدين

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آلة وسلم. باب صلاة العيدين قال القاضي الجليل أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله-: الأصل في صلاة العيدين قوله تبارك وتعالى: {فصل لربك وانحر}؛ قاله سعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وغيرهم. واختلف في تأويل قوله عز وجل: {وانحر}؛ فروي عن علي وابن عباس أن المراد بذلك وضع اليد في الصلاة، وروى أيضا عن الشعبي وأبي الجوزاء. قال أكثر التابعين: إن المراد به نحر البدن وغيرها يوم النحر.

وقوله تعالى: {قد أفلح من تزكى* وذكر اسم ربه فصلى}. قيل: معناه: أخرج زكاة الفطر، ثم غدا إلى المصلى لصلاة العيد. وروى حماد عن حميد عن أنس بن مالك قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "ما هذان اليومان؟ ". قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أبدلكم الله بهما خيرا منهما؛ يوم الأضحى، ويوم الفطر". ومعنى العيد في اللغة: هو الوقت الذي يعود فيه الفرح والسرور والحزن. قال الشاعر: عاد قلبي من المليحة عيد ... واعتراني من حبها تسهيد

أي: عاد بشوقي [مرة أخرى]. مسألة قال رحمه الله: وصلاة العيد سنة واجبة. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي-رحمه الله-: يريد أنها من مؤكدات السنن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاها، ودعا الناس، وجمع لها، وخطب لها؛ فوجب بذلك كونها سنة مؤكدة. وحكى عن بعض [أصحاب] الشافعي أنها فرض على الكفاية واستدلاله أن قال: لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة؛ فوجب أن تكون فرضا على الكفاية كالجهاد. ولأنها صلاة تجتمع على تكبيرات متواليات في القيام؛ فكذلك فرضا على الكفاية؛ اعتبار بصلاة الجنازة. وهذا غير صحيح. والذي يدل على ما قلناه أنها صلاة تشتمل على ركوع وسجود، وليس من سنتها الأذان بوجه؛ فوجب أن تكون نافلة غير فرض الكفاية، ولا على الأعيان. أصله: سائر النوافل. وإنما قيدناها بذكر الركوع والسجود؛ احترازا من صلاة الجنازة، ومن الطواف. وإنما قلنا: ليس من سنتها لأذان؛ احترازا من صلاة الفائتة.

ولأنها صلاة ذات ركوع وسجود ليست بفرض على الأعيان؛ فوجب ألا تكون واجبة على الكفاية كسائر النوافل. وإذا ثبت هذا فقياسهم الأول ينتقض بصلاة الكسوف والاستسقاء؛ لأنها من شعائر الإسلام الظاهرة. وقولهم أنها ذات تكبيرات في القيام غير مسلم في الأصل الذي هو صلاة الجنازة؛ لأنها تحتاج إلى الدعاء بين كل تكبيرتين، وليس كذلك التكبير في صلاة العيد؛ لأنه ليس بين التكبيرتين قول من دعاء ولا غيره، لا واجب ولا مسنون، والله أعلم. مسألة قال: ويهرج لها الإمام والناس ضحوة قدر ما إذا وصل حانت الصلاة. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله-: هذا لأن وقتها إذا برزت الشمس وأشرقت؛ لأن ذلك هو الوقت الذي كان يصليها فيه النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده رضي الله عنهم. قال مالك" بلغني أن سعيد بن المسيب يغدو إلى المصلى بعد أن يصلي الصبح. وهذا يترتب على حسب المسافة وبعدها من الموضع الذي يمضي منه إلى المصلى فعمل في البكور والإصباح على حسب ذلك.

مسألة قال رحمه الله: وليست فيها أذان، ولا إقامة. قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: وهذا لا خلاف فيه بين فقهاء الأمصار، ولا في الصدر الأول. وحكى عن أبي قلابة أن أول من أبدع الأذان في العيدين عبد الله بن الزبير. وعن سعيد بن المسيب أن أول من فعل ذلك معاوية. والذي يبين ما قلناه ما رواه ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن طاووس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيدين بلا أذان ولا إقامة. وروى الأحوص عن [سماك] بن حرب عن جابر بن سمرة قال/ صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين العيد بغير أذان ولا إقامة. وروى سالم بن عبد الله عن أبيه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم [عيد فبدأ] فصلى بغير أذان ولا إقامة، ثم خطب.

قال مالك: سمعت غير واحد من علمائنا يقول: لم يكن في الفطر والأضحى نداء ولا إقامة منذ زمان النبي صلى الله عليه وسلم. قال مالك: وتلك السنة التي لا [خلاف] فيها عندنا ولأنها صلاة نفل فأشبهت سائر النوافل. مسألة قال رحمه الله: فيصلى ركعتين؛ يقرأ فيهما جهرا {سبح اسم ربك الأعلى}، {والشمس وضحاها} ونحوهما. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله-: أما قوله: إن صلاة العيد ركعتان؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها ركعتين، ولا خلاف في ذلك. وأما اختياره أن يقرأ فيها {سبح اسم ربك الأعلى} ونحوها؛ فلما نقل عن [ق/أ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ فيها بذلك. وروى جرير بن عبد الحميد عن إبراهيم بن محمد بن المنتشر عن أبيه عن حبيب بن سالم عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في

العيدين [وفي الجمعة]، ب {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية}. وروى سفيان الثوري عن معبد بن خالد عن زيد بن عقبة عن سمرة ابن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في العيدين ب {سبح اسم ربك الأعلى}، و {هل أتاك حديث الغاشية}، وروى مالك وسفيان بن عيينة عن ضمرة ابن سعيد المازني عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عمر ابن الخطاب- رضوان الله عليه- سأل أبا واقد الليثي بأي شيء قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد؟ فقال: ب {ق والقرآن المجيد}، {واقتربت الساعة}. قال القاضي أبو محمد بن نصر: الاختيار عنده العمل على الحديثين

الأولين. وقوله: إن القراءة فيها جهرا؛ فأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر فيها؛ على ما رويناه؛ ولا خلاف في ذلك، وأيضا فلأنها صلاة من سنتها الخطبة كانت القراءة فيها جهرا كالجمعة والاستسقاء، ولا تلزم عليها صلاة الكسوف ولأنها لا خطبة لها. مسألة قال رحمه الله: ويكبر في الأولى سبعا قبل القراءة يعد فيها تكبيرة الإحرام. وفي الثانية خمس تكبيرات يع دفيها تكبيرة القيام. وفي كل ركعة. سجدتين. ثم يتشهد ويسلم. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي رحمه الله: اعلم أن صلاة ركعتي العيدين كسائر الصلوات إلا زوائد التكبير في العيد قد اختلف الناس فيه. فقال أصحابنا: إن التكبير في الأولى سبع تكبيرات الإحرام، وفي الثانية خمس سوى تكبيرة القيام؛ فجعلوا الزوائد ستا في الأولى وخمسا في الثانية. وخالفنا الشافعي في تكبير الأولى فجعل الزوائد سبعا سوى تكبيرة

الإحرام، ووافقنا فيما عدا ذلك. والذي قلناه قول المشيخة السبع وكافة أصحابنا، وروى عن بن عمر وأبي هريرة. قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يكبر بعدها ثلاثا، فإذا قام للثانية كبر تكبيرة القيام ثم كبر بعدها ثلاثا، إلا أنه يقرأ عقيب تكبيرة القيام، فإذا فرغ من القراءة أتى بالتكبيرات الزوائد ووصلها بتكبيرة الركوع. هكذا حكاه الطحاوي؛ فجعل الزوائد في كل ركعة ثلاثا. هذا هو المحفوظ من قول الفقهاء السبعة فأما ما روى عن الصحابة رضي الله عنهم ما يخالف هذه الأقاويل فروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي رضوان الله عليه أنه كان يكبر يوم العيد إحدى عشرة تكبيرة؛ يفتتح بتكبيرة واحدة، ثم يقرأ، ثم يكبر خمسا يركع بإحداهن، ثم يقوم فيقرأ، ثم يكبر خمسا يركع بإحداهن. وكان يكبر في الأضحى خمس تكبيرات: ثلاثا في الأولى، وثنتين في الثانية؛ يبدأ بالقراءة فيهما، ويعتد بتكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع من تكبيرات العيد. وإذا اعتبرنا هذه الرواية وجدناها تدل على أن الزوائد أربع في كل ركعة، وفي الأضحى تكبيرة واحدة في الأولى ولا زائدة في الثانية. وقد روى عن ابن عباس ما يخالف هذا؛ فروى قتادة عن عكرمة من

ابن عباس رضي الله عنه (من شاء كبر سبعا، ومن شاء كبر تسعا، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة). فأما أهل العراق فاحتجوا بما رواه زيد بن الحباب عن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه عن مكحول قال: أخبرني أبو عائشة- جليس لأبي هريرة- أن سعيد بن العاص سأل [أبا] موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الفطر والأضحى؟ فقال أبو موسى: (كان يكبر أربعا؛ تكبيره على الجنائز)، فقال حذيفة: صدق. قال أبو موسى: وكذلك كنت أكبر بالبصرة حيث كنت عليهم. قال أبو عائشة: وأنا حاضر سعيد بن العاص. قالوا: وروى الطحاوي عن علي بن عبد الرحمن ويحيى بن عثمان قد حدثانا عن [عبد الله] بن يوسف عن يحيى بن حمزة عن ابن عطاء أن القاسم أبا عبد الرحمن أخبره قال: حدثنا بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عيد فكبر أربعا، ثم أقبل علينا بوجهه حين انصرف فقال: "لا [تسهوا] كتكبير الجنائز"، وأشار بأصابعه،

وقبض إبهامه). قالوا: ولأنها تكبيرات متواليات في حال القيام؛ فوجب أن تكون أربعا كتكبيرات الجنائز قالوا: ولأنه ثناء دون عدو في ركن مخصوص؛ فوجب جواز الاقتصار منه على ثلاثة؛ دليله تسبيحات الركوع والسجود. والدلالة على صحة قولنا ما رواه أشهب عن عروة عن عائشة رضى الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى؛ في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات). وروى أبو [الأسود] عن عروة عن عائشة رضي الله عنها وأبي واقد الليثي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بالناس يوم الفطر والأضحى [ق/3 أ] وكبر في الأولى سبعا، وكبر في الآخرة خمسا). وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يكبر في العيدين في الركعة الأولى سبع تكبيرات وفي الركعة الثانية خمس تكبيرات قبل القراءات).

وروى عبد الله بن عامر الأسلمي عن نافع عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه كان يكبر في العيدين في الركعة الأولى سبع تكبيرات قبل القراءة، وفي الآخرة خمس تكبيرات قبل القراءات). وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التكبير في الفطر سبع في الأولى، وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما كلتيهما". وروى القاض أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا أبو ثابت محمد بن عبد الله قال: حدثنا عبد الرحمن بن سعيد المؤذن عن عبد الله ابن محمد بن عمار وعفان بن حفص المؤذنين عن آبائهم عن أجدادهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الأولى سبعا، وفي الآخرة خمسا.

وإذا ثبت هذا، فأخبارنا أولى من أخبارهم بضروب من الترجيح: أحدها: أن رواة أخبارنا أكثر عددا؛ لأنا رويناها من طريق عائشة رضي الله عنها، وابن عمر، وعبد الله بن عمر، وأبي واقد الليثي، وعمرو بن عوف وغيرهم من نقل أهل المدينة. خلفا عن سلف وأخبارهم مروية عن أبي موسى، وقيل: ابن مسعود. والثاني: أن ما ذكرناه من نقل أهل المدنية خلفا عن سلف على ما حكيناه. وهذا القدر لو انفرد لكان حجة، وقد عضده ما قدمناه. والثالث: أن أخبارنا أزيد وخبرهم أنقص، والزائد من الخبرين أولى من الناقص. فإن قالوا: أخبارنا أولى؛ لأنها حكاية قول، وأخباركم حكاية فعل. قلنا: ليس في أخباركم إلا الفعل دون القول. فإن ذكروا قوله: "لا تسهوا كتكبير الجنائز" فهذه الإشارة راجعة إلى الفعل المتقدم، وليست بفعل مبتدأ.

على أنا قد روينا أيضا نصا في موضع الخلاف؛ فقد ساويناكم في القول، وما رويناه أولى؛ لأنه ابتداء حكم وتعليم شرع. واعتبارهم بصلاة الجنازة غير صحيح؛ لأن التكبير فيها أقيم مقام الركوع، وليس كذلك تكبير العيد. واعتبارهم بالتسبيح في الركوع والسجود باطل أيضا؛ لأنه ليس بمقدر بثلاث ولا غيرها، ولأنه لما جاز الاقتصار على أقل من ثلاث والزيادة عليها جاز الاقتصاد عليها، وليس كذلك ها هنا، والله أعلم. فصل فأما الكلام على الشافعي فهو أنه لما روى أنه صلى الله عليه وسلم كبر سبعا في الأولى، وخمسا في الآخرة وجب أن يكون ذلك بتكبيرة الإحرام؛ لأنه لو كان هذا سوى تكبيرة الإحرام لكان قد كبر ثمانيا، وهذا خلاف الخبر. وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "التكبير في الفطر سبع في الأولى"، وأشار إلى كل التكبير المفعول في الأولى، فلم يبق تكبير سواه. فإن قيل: لا يخلو هذا من أن يكون إشارة إلى التكبيرات الزوائد أو إلى جميع التكبير في الركعة الأولى، فلما بطل أن يكون إشارة إلى جميع التكبيرة في الركعة الأولى لأنها تشتمل على أكثر من هذا؛ لأن فيها تكبيرة للركوع وأخرى للسجود وغير ذلك ثبت أنه إشارة إلى الزوائد. فالجواب: أنه قد خلى إلى أقسام أخر زيادة على ما ذكروه؛ وهو أنه إشارة إلى التكبيرة حال القيام، أو إشارة إلى التكبير الذي يؤتى بعده

بالقراءة، وعلى أن في الخبر ما يدل على أن الإشارة راجعة إلى هذا؛ وهو قوله: "والقراءة بعدهما كلتيهما"؛ فنبه بذلك على أنه إشارة إلى التكبير الذي بمقدم القراءة، لا إلى الزائد، والله أعلم. فصل فأما تكبيرة الإحرام فإنها الأولى من التكبيرات، وذلك لأنها لو لم تكن الأولى لكان ما وقع من التكبير قبلها واقعا في غير صلاة؛ لأنه لا يكون داخلا في الصلاة إلا بالإحرام؛ فما قبل ذلك من الأفعال فهو واقع قبل الصلاة، وهذا باطل؛ فوجب أن تكون تكبيرة الإحرام هي الأولى. فصل قال الشافعي- رحمه الله: إذا كبر تكبيرة الإحرام فإنه يقول: {وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض ..} الآية. ووافقنا على أن القراءة بعد انقضاء التكبير. قال: وإنما قلت: إنه يستفتح بالتوجيه عقيب الإحرام؛ لأنه استفتاح في الصلاة؛ فوجب أن يكو تعقيب الإحرام؛ أصله سائر الصلوات.

وهذا ليس بصحيح، وذلك لأن الأصل عندنا أن تكبيرة الإحرام لا يستحب أن يليها غير القراءة في كل الصلوات فلم يسلم لهم هذا الأصل على أن المعنى في توجيه سائر الصلوات أنه توجيه يليه القراءة، وليس كذلك هاهنا. فصل ووافقنا أبو حنيفة وأصحابه في أن القراءة في الركعة الأولى بعد التكبير كله، وخالفونا في الركعة الثانية؛ فقالوا: يقرأ قبل التكبيرات الزوائد، فإذا فرغ من القراءة أتى بالتكبيرات ووصلها بتكبيرة الركوع، واستدلوا بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى بين القراءتين، والموالاة بينهما لا تقع إلا على ما يقول إنه يؤخر [ق/4 أ] القراءة في الأولى عن التكبير، ويقدمها في الثانية. قالوا: ولأنه ذكر في الركعة الثانية؛ فوجب أن يكون محله بعد القراءة. أصله القنوت، ويعنون بالذكر: التكبيرات الزوائد. قالوا: ولأن كل صلاة يؤتى في الركعة الأولى منها بالتكبير قبل القراءة

وبالثانية يبدأ بالقراءة؛ فكذلك صلاة العيد. والدلالة على صحة قولنا ما رواه يزيد بن أبي حبيب ويونس بن زيد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر يوم الفطر والأضحى في الأولى سبعا، وفي الثانية خمسا قبل القراءة. وقد روينا من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الثانية، والقراءة بعدهما" وهذا نص في موضع الخلاف. وروى من طريق آخر رواه سليمان بن حبان عن أبي يعلي الطائفي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر في الأولى سبعا، ثم يقرأ، ثم يقوم فيكبر، ثم يقرأ، ثم يركع. وفي حديث عمرو بن عوف أنه صلى الله عليه وسلم كبر في الثانية خمس تكبيرات قبل القراءة. وفي حديث عبد الله بن عمر: أن التكبيرات معا قبل القراءة.

ولأنها تكبيرات زوائد في صلاة عيد فوجب أن تكون قبل القراءة؛ اعتبارا بتكبيرة الأولى، ولأنها ركعة لا قنوت فيها؛ فوجب أن لا يلي القراءة فيها إلا تكبيرة الركوع؛ اعتبارا بسائر الصلوات، ولأن كل ذكر تكرر في الركعات [كان] [] الثاني محل الأول؛ اعتبارا بالسورة الزائدة، وقد ثبت أن محل القراءة في الركعة الأولى بعد التكبير؛ فوجب أن يكون كذلك في الركعة الثانية. وإذا ثبت هذا فما رووه أنه صلى الله عليه وسلم والى بين القراءتين لا يصح لهم التعلق به؛ لأن الموالاة بين الشيئين هي المتابعة بينهما من غير فصل، وهذا غير موجود في مسألتنا؛ لأن بين القراءتين أفعال كثيرة وأذكار أو تكبيرات. فإن قالوا: فلا فائدة في نقله إذا لم يصح ما نقوله. قلنا: يجوز أن يكون أراد به [أنه] أتى بالقراءة بعد التكبير في الركعتين معا، على أن الذي رويناه أولى؛ لأنه نص لا يحتمل، وخبرهم محتمل، وعلى أنا روينا قولا وفعلا، وهم رووا الفعل دون القول؛ فكان ما رويناه أرجح من هذه الوجوه، وما ذكروه من الأقيسة مدفوع بالنص الذي هو قوله صلى الله عليه وسلم: "والقراءة بعد التكبير في كلتيهما"، وغير ذلك مما رويناه على أن المعنى في القنوت أ، هـ جنس لا يتقدم على القراءة- وهو الدعاء-؛ لأن موضع الدعاء بعد القراءة في الصلاة كلها؛ وليس كذلك

التكبير في القيام؛ لأن موضعه قبل القراءة؛ اعتبارا بالركعة الأولى، وقياسهم الآخر غير صحيح؛ لأنه يؤتى بالتكبير في الثانية قبل القراءة، وهو التكبيرة التي يرفع بها من السجود؛ لأنها واقعة في الركعة الثانية، والله أعلم. مسألة قال القاضي عبد الوهاب: ويرفع يديه في تكبيرة الإحرام دون غيرها. قال مالك- رحمه الله-: وليس فيما بعدها سنة لازمة من شاء رفع. ومن شاء لم يرفع. وقال أبو حنيفة والشافعي: يرفعهما في الإحرام وفي التكبيرات الزوائد، واختلفا في تكبيرة الركوع؛ فقال أبو حنيفة: لا يرفعهما في تكبيرة الركوع. وقال الشافعي: يرفعهما فيها. قالوا: لأن ذلك مروي عن عمر بن الخطاب- رضوان الله عليه، ولا مخالف له.

وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترفع اليد إلا في سبعة مواطن"؛ فذكر العيدين، ولأنه تكبير حال القيام فأشبه تكبيرة الإحرام. وهذا ليس بصحيح؛ لأنا لم نمنع من فعل ذلك لأن الخلاف بيننا في أنه سنة كتكبيرة الإحرام، وليس في حديث عمر- رضوان الله عليه ما يدل عليه، وما ذكروه من رواية ابن عباس غير معروف، ولو صح لم تكن فيه دلالة؛ لأنه استثناء من حصر؛ فأكثر ما يفيد أنه غير محظور، وخلافنا في وصف زائد على إباحته، والمعنى في تكبيرة الإحرام، هـ تستفتح بها الصلاة، وليس كذلك ما بعدها، والله أعلم. فصل قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله-: قال مالك- رحمه الله: وليس بين التكبير صمت إلا قد رما يكبر الناس. وقال في موضع آخر: وليس بين التكبير موضع لدعاء ولا غيره من الأذكار. وقال الشافعي- رحمه الله-: يقف بين كل تكبيرتين مقدار آية لا طويلة ولا قصيرة، ويحمد الله عز وجل فيها ويكبره ويهلله؛ لما روي عن

ابن مسعود أنه كان يحمد الله- تعالى- ويثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم بين كل تكبيرتين. ولا مخالف له. ولأنها تكبيرات زوائد حال القيام؛ فوجب أن تتضمن بين كل تكبيرتين ذكرا أصله تكبيرات الجنازة. ولأن كل تكبيرتين يجوز أن يكون ما بينهما ذكرا كتكبيرة السجود والرفع من السجود. ولأنه ليس في الصلاة موضع للسكت. والأصل في هذا أنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم [ق/5 أ] توقيف في ذلك؛ فوجب ألا يثبت كونه مسنونا ولا غيره إلا بدليل، ولأن تقدير ذلك بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة تقدير له بما لا دليل له ولا توقيف فيه؛ فلا فصل بينه وبين ما سواه من المقادير، وما رووه عن ابن مسعود فليس فيه أكثر من أنه كان يفعل ذلك، وهذا القدر لا يثبت كونه مسنونا، ولأنه ليس في الخبر أنه كان يقف الوقوف الذي قدروه أيضا. واعتبارهم بتكبيرات الجنازة باطل؛ لأنه لا معنى لقولهم زائد لأنها موضوعة على هذا الترتيب ابتداء، وليس كذلك صلاة العيد؛ لأنها على بنية سائر الصلوات إلا أنها مخالفة لها في هذا المقدار فقط؛ فصح أن يقال: إن التكبيرات فيها زوائد. وقولهم: في حال القيام. لا تأثير له في الأصل أيضا؛ لأنه لا حال للصلاة على الجنازة إلا حال

القيام، وأيضا فإن المعنى في ذلك أن صلاة الجنازة تتضمن الذكر والدعاء، فلو لم يجعل ذلك في حال القيام لأدى ذلك إلى بطلانه؛ لأنه ليس فيها موضع سوى القيام، وهو ما بين التكبيرات، والمعنى في التكبيرات الركوع والسجود أنه خارج من ركن إلى ركن يخالفه. وقولهم: ليس في الصلاة موضع للسكت. فلسنا نقول: إن السكوت سنة وأصل، وإنما يفعله انتظارا لفراغ من خلفه إن كان إماما، أو لا إمام إن كان مأموما، والله أعلم. فرع قال القاضي عبد الوهاب- رحمه الله-: قال مالك رحمه الله: إذا سها الإمام فقرأ قبل التكبير أتى بالتكبير، ثم أعاد القراءة، وسجد بعد السلام. وهذا ما لم يركع. وقال الشافعي رحمه الله: في القديم، يعود إلى التكبير ويركع. قال أصحابه: لأن التكبيرات هيئات في الصلاة، وترك الهيئات لا يوجب العود إليها إذا جاوز محلها؛ أصله إذا ترك السورة مع الحمد حتى ركع، ومحل التكبيرات قبل القراءة كما أن محل القراءة قبل الركوع. وهذا الذي قالوه ليس بصحيح؛ وذلك لأن محل القراءة في صلاة العيد بعد التكبير، فإذا أتى بها قبله ولم يفت محل التكبير- الذي هو القيام- وجب أن يأتي به، ألا ترى أن محل السورة هو بعد قراءة الحمد فإذا أتى بها قبلها أتى بالحمد؛ فكذلك هاهنا، ولا معنى لتفريقهم بين الموضعين بأن قراءة الحمد من شرط صحة الصلاة وليس كذلك التكبير؛

لأن ذلك لا يخرجه عما قلناه من وقوع كل واحد منهما في غير محله. وقولهم: إن ترك الهيئات لا يرجع إليها إذا جاز محلها. فكذلك نقول، ولكن ما لم يركع فمحل التكبير باق، وليس يخرجه عن بقاء محله تقديم القراءة في غير موضعها. فرع قال القاضي أبو محمد بعد الوهاب- رحمه الله: إذا أتى بالتكبير أعاد القراءة، ولم يعتد بالقراءة الأولى، وفيه خلاف على مذهب الشافعي، وإنما قلنا ذلك؛ لأن محل القراءة باق عندنا ما لم يركع؛ فيجب أن يأتي بها لبقاء محلها. وأما سجود السهو فلأنه تارك لمسنون- وهو التكبير- فيلزمه السهو. وإنما قلنا: إنه بعد السلام؛ لأنه سهو زيادة، ألا ترى أن القراءة الأولى غير معتد بها وإنما الاعتداد بالقراءة الثانية. فإن لم يذكر حتى ركع مضى وسجد قبل السلام لتركه التكبير. فرع قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله- قال عبد الملك بن عبد العزيز: إذا جاء المأموم وقد كبر الإمام بعض التكبير كبر بتكبيره، ولم يقض ما فاته من التكبير، وإن كان بين تكبيرات الإمام من الفرج ما يمكنه أن يقضي الفائت فيه فليس ذلك عليه، فإن فاته التكبير كله كبر للإحرام فقط.

قال: لأن التكبير الذي فاته بعد الافتتاح بمنزلة القراءة، فلما كان لا يقضي ما فاته من القراءة فكذلك التكبير. فرع قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: إذا أدرك مع الإمام ركعة فإنه يكبر فيها للإحرام، ثم يكبر بتكبير الإمام. وكيف يقضي التي فاتته؟ هل يقضيها بتكبير أم لا؟ اختلف أصحابنا في ذلك، فذكر القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق أنه قد روى عن مالك أنه يقضي بتكبير. وقال عبد الملك: يقضى بالقراءة بغير تكبير. قال عبد الملك: وقد قال بعض أصحابنا: يقوم فيكبر ستا، ثم يقرأ بأم القرآن وسورة جهرا. قال عبد الملك: ولست أقول به. قيل له: أفيكبر سبعا؟ قال: لا، هذا لم يقله أحد؛ لأنه إذا فعل ذلك صار مفتتحا للصلاة مرتين، وافتتاحه مع الإمام لا يقضى، ألا ترى لمن فاته شيء من سائر

الصلوات فإنما هذا إذا قضى حين يقوم بالقراءة ولا بعد الافتتاح. ثم عدنا إلى الكتاب. مسألة قال رحمه الله: ثم يرقى المنبر، ويخطب، ويجلس في أول خطبته ووسطها، ثم ينصرف. قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: قوله: إن الخطبة بعد الصلاة في العيدين معا؛ فذلك لما رواه ابن جريج عن عطاء عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يوم الفطر فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم خطب الناس [ق/6 أ] صلى الله عليه وسلم. وروى شعبة عن أيوب عن عطاء قال: أشهد على ابن عباس، وشهد ابن عباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج يوم فطر فصلى، ثم خطب وروى ابن جريج عن الحسن بن مسلم عن طاووس عن ابن عباس قال: شهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومع أبي بكر، ومع عمر رضي الله عنهما فبدؤوا بالصلاة قبل الخطبة. وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر

وعمر رضوان الله عليهما كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة. ورواه البراء بن عازب، وجندب بن عبد الله من الصحابة رضي الله عنهم. وروى سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي عبيد مولى بن أزهر قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم شهدت العيد مع عثمان بن عفان رضي الله عنه، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة، ثم شهدت العيد مع علي بن أبي طالب- رضي الله عنه، فبدأ بالصلاة قبل الخطبة. قال: وأول من أحدث تقديم الخطبة على الصلاة بنو أمية ثم رجع الأمر في ولاية بين العباس إلى ما كان عليه. وروى عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري أنه أقبل هو ومروان ابن الحكم يوم العيد إلى المصلى، فذهب مروان يريد المنبر قبل أن يصلي، فجذبه أبو سعيد، فقال له: الصلاة، فقال مروان: ترك ما تعلم يا أبا سعيد، فقال أبو سعيد: [كلا] والله لا تأتون بخير [مما] أعلم؛ فبدأ مروان بالخطبة.

فصل وقوله: (إذا صعد المنبر جلس، ثم قام فخطب) فهو إحدى الروايتين عن مالك، وعنه رواية أخرى:: أنه إذا صعد المنبر خطب ولم يجلس، بخلاف الجمعة رواه عبد الملك عنه. فوجه هذه الرواية هو أن الجلوس في الجمعة إنما يكون لأجل الأذان، وهذا المعنى معدوم في العيد؛ فلم يكن للجلوس معنى. ووجه الرواية الأولى هو أن الجلوس هاهنا لمعنيين: أحدهما: الاستراحة من تعب الصعود. والآخر: وهو أحسن من هذا- ليأخذ الناس مجالسهم؛ لأن العبادة جارة بأن الناس يزدحمون ويكثر اجتماعهم إلى جهة المنبر؛ لاستماع الخطبة، فلو خطب وقت صعوده لفاتهم سماع بعض الخطبة، وهو القدر الذي يأتي به قبل أخذهم مواضعهم، فإذا جلس حتى يأخذوا أمكنتهم وتستوي لهم مواضعهم سمعوا جميع الخطبة، ولم يفتهم شيء منها. وهذه الرواية أولى من الأولى. والجواب عن ما ذكرناه. هو أنه لا فائدة للجلوس إلا انتظار الأذان؛ لأن له فوائد سواه، وهو ما ذكرناه. وعلى أنا لم نعتبر قياسا على الجمعة حتى إذا افترق المعنى في الموضعين بطل الاعتبار، وإنما اعتبرنا ذلك بالمعنى الذي بيناه، والله أعلم.

فصل وقوله: (يجلس بين الخطبتين) فكذلك روى في صفة خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى أنه كان يخطب قائما، ثم يجلس، ثم يقوم صلى الله عليه وسلم فيخطب. رواه ابن عباس، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم. ولم يفضلوا بين العيدين والجمعة والاستسقاء؛ فوجب حمله على الأمرين. ولأن الخطب واحدة في الأعياد والجمع والاستسقاء. مسألة قال رحمه الله: ويستح أن يرجع في ريق غير الطريق التي أتى منها. والناس كذلك. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لأن

رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل؛ فاستحب الاقتداء به؛ فروى عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد من طريق ويرجع من آخر. وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم العيد في طريق ويرجع في غيره. قال مالك- رحمه الله: وأدركنا الأئمة رضي الله عنهم يفعلون ذلك. وقد ذكر الناس في فوائد هذا الفعل [أشياء] بعضها يقرب من الإمكان، ويحتمل أن يقال: وكثير منها دعاوى فارغة واختراعات غثة، ونحن نذكر بعض ما قيل في ذلك؛ فأقوى ما ذكر فيه أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ليعم الله بركته صلى الله عليه وسلم من كل جهة، ويراه في الطريق الذي رجع فيه من لم يره صلى الله عليه وسلم في الطريق الذي غدا منه. وقيل أيضا: مراده بذلك أن يتسع الطريق على الناس، وتقل الزحمة، ويخف الجمع؛ فلا تتأذى الناس بكثرة الزحام. وقيل أيضا: إن مراده صلى الله عليه وسلم بذلك أن يعم الناس بالصدقة؛ لأنه قد يكون في الطريق الذي رجع فيه من الفقراء من لا يمكنه الحركة، فإذا رجع من ذلك تصدق عليهم، وإذا رجع من الطريق الذي أتى منها لم تلحقهم صدقته صلى الله عليه وسلم. وقيل: إنه كان يفعل ذلك لأنه كان يسأل صلى الله عليه وسلم عن أشياء من أحكام

الشريعة، فكان يرجع في غير الطريق التي خرج منها، ليسأله من لم يكن سأله. وهذا والذي قبله سواء [ق/7 أ]. وقال بعضهم: فائدة ذلك أن يساوي بين الطرق؛ لأن الطريق الذي يمشي فيه له مزية وفضيلة على غيره، فأراد أن يرجع في غيره للتسوية بين الطريقين. وهذا ليس بشيء. وقال هذا القائل: يحتمل أن يكون فعل ذلك لجواز أن يكون اليهود كمنت له كمينا. وهذا أيضا لا معنى هل؛ لأن الأخبار واردة بتكرر هذا الفعل منه. واحتمال ما ذكروه بعيد أن يتفق أبدا. ولأن هذا الاحتمال ليس له أماره تقتضي تخصيصه بالعيد دون غيره من أوقات مشيه وجموعه؛ فيبطل التعلق به. وكان أقوى ما يذكر في ذلك ما قدمناه. مسألة قال رحمه الله: وإن كان في الأضحى خرج بأضحيته إلى أن يأتي المصلى فيذبحها، أو ينحر ما ينحر؛ ليعلم ذلك الناس فيذبحون بعده. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: وهذا لأنه لا يجوز لأحد عندنا أن يذبح قبل أن يذبح الإمام؛ فيجب أن يخرج بأضحيته إلى المصلى ليقف الناس على ذبحه، فإذا علموا ذلك ذبحوا بعده.

مسألة قال رحمه الله: وليذكر الله تعالى في خروجه من بيته في الفطر والأضحى جهرا حتى يأتي المصلى؛ يفعله الإمام والناس وكذلك، فإذا دخل الإمام للصلاة إلى المصلى قطعوا ذلك. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رضي الله عنه: اعلم أن الذي قاله هو قولنا، وقول الشافعي- رحمه الله: وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه: لا يكبر يوم الفطر في الممشى، ولا في الجلوس؛ لما روي أن ابن عباس سئل عن رجل كبر في يوم الفطر فقال: كبر الإمام؟ قيل: لا. قال: ذلك رجل أحمق. والأصل في هذا قوله تعالى ... {ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم}. قال ابن عباس: حق على المسلمين إذا رأوا هلال شوال أن يكبروا الله- عز وجل- حتى يفرغوا من عيدهم؛ لأن الله- تعالى- يقول: {ولتكبروا الله على ما هداكم}. وروى [يزيد] بن هارون عن ابن أبي ذئب عن الزهري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر فيكبر حين يرخج من بيته حتى يأتي

المصلى، فإذا قضى الصلاة قطع التكبير. رواه بعض من وافقنا مسندا عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى صلاة فطر والأضحى رافعا صوته بالتكبير. ورواه عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غدا إلى المصلى أمرنا أن نلبس أجود ما نقدر عليه من الثياب، وأن نخرج وعلينا السكينة والوقار، وأن نجهر بالتكبير. وروى أن سحن بن علي- رضي الله عنه- خرج يوم العيد على بعله فكبر حتى أتى المصلى. وروى يحيى بن سعيد بن القطان عن ابن عجلان عن نافع أن ابن عمر [كان يغدو] إلى العيدين فيكبر حتى يأتي المصلى.

وروى ابن وهب عن عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد الليثي عن نافع عن انب عمر كان يجهر بالتكبير يوم الفطر إذا غدا إلى المصلى حتى يخرج الإمام فيكبر بتكبيره. وروى الأعمش عن تميم بن سلمة قال: خرج ابن الزبير يوم النحر فلم يرهم يكبرون، فقال: ما لهم لا يكبرون، أما والله لئن فعلوا ذلك لقد رأيتني في العسكر ما يرى طرفاه فيكبر الرجل الذي ليله حتى يرتج العسكر، وإن بينكم وبينهم كما بني الأرض السفلى إلى السماء العليا. وأيضا فلأنه يوم عيد لا يتكرر في السنة؛ فأشبه يوم الأضحى. وما رووه عن ابن عباس فيحتمل أن يكون أنكر تكبيرهم والإمام على المنبر؛ لأن الواجب ألا يكبروا في تلك الحال إلا بتكبير الإمام، بل نقل ذلك؛ فروى معن بن عيسى عن ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس قال: كنت مع ابن عباس في المصلى فسمع الناس يكبرون والإمام يخطب فقال ابن عباس: ما للناس كبروا؟ أكبر الإمام؟ قلت: لا. قال: مجانين الناس. فبان بذلك ما قلناه. مسألة قال رحمه الله: ويكبرون بتكبير الإمام في خطبته، وينصتون فيما

سوى ذلك. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: أما وجوب الإنصات له في الخطبة فلأن عليهم استماعها؛ لقوله تعالى ذكره: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا}. قيل: نزلت في القراءة في الصلاة، وفي الخطبة، واعتبارا بالخطبة في الجمعة. فأما التكبير فيها؛ فلما رواه مالك عن سليمان بن يسار وعطاء بن يسار أنهما قالا: إذا صعد الإمام على المنبر بين العمودين فليكبر. قال أبو سهيل: وذلك الذي أدركت عليه الناس. وروى معن بن عيسى عن بلال بن أبي مسلم قال: سمعت عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه بدأ بالتكبير حين صعد المنبر يوم العيد. فلهذا قال مالك: إنه يكبر في الخطبة. قال مالك: وليس في التكبير عدد معلوم؛ وذلك لأن الروايتين عن التابعين مختلفة في عدده، ولم يرد فيه نص ولا حكاية فعل عن النبي صلى الله عليه وسلم فمهما فعل من ذلك جاز؛ فروى سفيان الثوري عن محمد بن عبد الرحمن القارئ عن عبد الله بن بعد الله بنعتبة قال: من السنة أن يكبر

الإمام على المنبر في العيدين [تسعا] [ق/8 أ] قبل الخطبة وسبعا بعدها يكبر في الخطبة الثانية. وروى حماد بن زيد عن الحسن بن أبي الحسناء [عن الحسن] البصري قال: يكبر يوم العيد على المنبر أربع عشرة تكبيرة. وروى عن الشعبي- رحمه الله قال: التكبير على المنبر يوم العيد سبع وعشرين تكبيرة. فأما تكبير الناس بتكبير الإمام على المنبر فقد اختلف مالك والمغيرة فيه؛ فقال مالك رحمه الله: يكبر الناس بتكبير الإمام وينصتون له إذا انقطع التكبير. وقال المغيرة: ينصتون له في حال التكبير، ولا يكبرون بتكبيره. وحكاه عنه عبد الملك. قال: وكان يرى أن التكبير من الإمام في الخطبة خطبة يجب أن ينصت لها. فوجه قول مالك ما رواه معن بن عيسى عن أبي ذب عن شعبة مولى ابن عباس أنه سمع الناس يكبرون والإمام يخطب فقال لي ابن عباس: ما للناس كبروا؟ أكبر الإمام؟ فقتل: لا. فقال: مجانين الناس. فدل هذا على أن لهم أن يكبروا إذا كبر.

وقد روى ابن وهب قال: حدثنا عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد الليثي عن نافع أن ابن عمر كان يكبر يوم الفطر إذا غدا إلى المصلى حتى يخرج الإمام فيكبر بتكبيره. ولأن التكبير بتكبير الإمام كأنه بأمر الإمام؛ لأن التكبير في هذا اليوم مشروع للناس كلهم، فكأن الإمام إذا كبر فقد استدعى ذلك من الناس. واحتج المغيرة بأن قال: لأن شروع الإمام في الخطبة يقطع الكلام جملة. أصله في غير التكبير، وقول مالك أولى؛ لما ذكرناه، والله أعلم. مسألة. قال رحمه الله: فإن كانت أيام النحر فليكبر الناس دبر الصلوات من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الصبح في اليوم الرابع منه، وهو آخر أيام منى؛ يكبر إذا صلى الصبح، ثم يقطع. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: اختلف الناس في وقت التكبير خلف الصلوات وانقطاعه؛ فمذهب أصحابنا ما وصفه في الكتاب من التكبيرات، وهو قول ابن عمر. وقال أبو حنيفة: أول التكبير صلاة الفجر من يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر.

وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: من وقت صلاة فجر من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. وللشافعي ثلاثة أقوال: أحدها: مثل قولنا. والثاني: يبتدئ ليلة النحر بعد المغرب، ووافقنا في آخره. والثالث: مثل قول أبي يوسف. والدلالة على ما قلناه أن الله تعالى ذكره خاطب بالتكبير أهل منى؛ فكان الناس تبعا لهم؛ فقال عز وجل: {واذكروا اسم الله}، وقال الله سبحانه: {واذكروا الله في أيام معدودات}. وقد ثبت أن أول التكبير هو عيد النحر بعد رمي جمرة العقبة، فأول صلاة تلي ذلك هي الظهر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق. وروى ما قلناه عن ابن عمر وغير من الصحابة رضي الله عنهم. مسألة قال رحمه الله: والتكبير دبر الصلوات: الله أكبر، الله أكبر. فغن جمع مع التكبير تهليلا وتحميدا فحسن، يقول إن شاء ذلك: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.

وقد روى عن مالك هذا، والأول، [وكل [واسع. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: هذا لأن كل ذلك قد روى عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين والسلف، فأي ذلك فعل كان واسعا؛ فالأول هو نفس التكبير مجردا وله أصل في الشريعة؛ وهو التكبير في الصلوات، والثاني أحسن؛ لأنه يجمع تجميدا وتهليلا وهو كالتكبير في الخطبة؛ فلذلك كان الجميع واسعا. وروى الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي رضي الله عنه أنه كان يكبر في أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. وروى نحوه عن أبي سعيد. وروى حميد عن الحسن البصري: كان يكبر: الله أكبر الله أكبر الله أكبر؛ ثلاث مرات. وقد روى فيه لفظ آخر ذكره عبد الملك؛ فرواه يزيد بن زريع عن النهاش بن قهم عن عطاء أنه كان يكبر أيام التشريق: الله أكبر كبيرا، الله أكبر كبيرا، والله أمبر على ما هدانا. مسألة قال رحمه الله: والأيام المعلومات: أيام النحر الثلاثة، والأيام

المعدودات: أيام منى؛ وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: تحصيل هذا أن من هذه الأيام ما هو معلوم غير معدود، ومنها ما هو معدود غير معلوم، ومنها ما يجتمع فيه الأمران؛ فأما المعلوم الذي ليس بمعدود يوم النحر، والمعدود الذي ليس بمعلوم رابع النحر، والمعدود المعلوم ما بينهما. وهذا الذي كرنا هو مذهب ابن عمر. وقال الشافعي: الأيام المعلومات أيام العشر كلها. والدليل على أن يوم النحر معلوم أن النحر يقع فيه، والنحر لا يقع إلا في يوم معلوم. والدليل على أنه ليس بمعدود أن النفر لا يجوز في غده، ولو كان معدودا لجاز النفر في غده؛ لأن النفر لا يجوز في الثاني من المعدودات. وهذه المسألة ترد مستفاضة في كتاب الضحايا إن شاء الله [ق/9 أ]. مسألة قال رحمه الله: والغسل للعيدين حسن، وليس بلازم. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لما رواه شعبة عن عرو بن مرة عن زاذان أن [رجلا سأل] [على] بن أبي

طالب رضي الله عنه عن الغسل فقال: اغتسل كل يوم إن شئت. فقال: لا؛ بل الغسل الذي هو الغسل؟ فقال: يوم الجمعة، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، ويوم عرفة. وروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان يغتسل يوم الفطر قبل أن يغدو. وفي رواية عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يغتسل للعيدين ولأنه يوم عيد؛ فوجب أن يستحب فيه الغسل كالجمعة. وهذا التعليل قد ورد به الخبر؛ فروى مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن [السباق] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع: "يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عز وجل عيدا للمسلمين؛ فاغتسلوا فيه". وعلى أن الغسل له لكونه عيدا؛ فكان كل عيد مثله؛ ولأن ما له استحببنا ذلك في الجمعة موجود في العيدين؛ وهو التنظف وإزالة الأوساخ والروائح كما روى في الحديث أن الناس كانوا عمال أنفسهم، وكانوا

يأتون الجمعة بهيئة عملهم، فقيل: لو اغتسلتم؟. قال القاضي أبو حمد عبد الوهاب: وقوله: (ليس بلازم) فلأنه غسل مقصود به النظافة والزينة، ولأن غسل الجمعة آكد منه بتأكيد الجمعة على العيدين، وقد ثبت أنه غير واجب؛ فغسل العيدين بذلك أولى. مسألة قال رحمه الله: ويستحب فيها الطيب والحسن من الثياب. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رضي الله عنه: وهذا لما رواه مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن [السباق] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جمعة من الجمع: "يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله جل وعز عيدا للمسلمين؛ فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه، وعليكم بالسواك". فلما ندب إلى التطيب والزينة في الجمعة؛ لكونها عيدا كان كذلك كل عيد. وروى عبادة بن نسى عن عبد الرحمن بن [غنم] عن معاذ بن جبل قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غدا إلى المصلى أمرنا أن نلبس أجود ما نقدر

باب في صلاة الخسوف

عليه من الثياب. ولأن العيدين يشاركان الجمعة في المعنى الذي استحب التطيب فيهما؛ وهو إزالة الروائح التي كانوا عليها في العمل والمهن. وروى هشيم عن الحجاج بن أرطاة عن محمد بن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلبس برده الأحمر، ويعتم للعيدين والجمعة. قال مالك: وسمعت أهل العلم يستحبون الطيب في كل عيد، وإنهم أدركوا من كان قبلهم على ذلك. قال مالك: وكنت أرى محمد بن المنكدر يضمخ رأسه ولحيته بالغالية حتى يسود. باب في صلاة الخسوف قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رضي الله عنه: قال قوم من أهل اللغة: كسفت الشمس، وخسف القمر. وقال آخرون: كسف وخسف بمعنى واحد، ومعناه: ذهب ضياؤهما. وهو في الأصل مأخوذ من التغطية. والأصل في صلاة الكسوف ما روى أن الشمس كسفت يوم مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم فقال الناس: إن ذلك لموته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن

الشمس والقمر آيتان من آيات الله عز وجل لا ينكسفان لموت أحد من الناس، فإذا رأيتم ذلك فأفزعوا إلى الصلاة". مسألة قال رحمه الله: وصلاة الخسوف سنة واجبة فإذا خسفت الشمس خرج الإمام إلى المسجد، وافتتح الصلاة بغير أذان ولا إقامة، فقرأ قراءة طويلة سرا بنحو سورة البقرة، ثم يركع ركوعا طويلا نحو ذلك، ثم يرفع رأسه يقول سمع الله لمن حمده، ثم يقرأ دون قراءته أولا، ثم يركع نحو قراءته الثانية، ثم يرفع رأسه يقول سمع الله لمن حمده، ثم يسجد سجدتين تامتين، ثم يقوم فيقرأ دون قراءته التي تلي ذلك، ثم يركع نحو قراءته، ثم يرفع كما ذكرنا ويقرأ دون قراءته هذه، ثم يركع نحو ذلك، ثم يرفع كما ذكرنا، ثم يسجد كما ذكرنا، ثم يتشهد ويسلم. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: قوله: إنها سنة واجبة؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها، ودعا الناس إليها، وجمع فيها، وحث عليها؛ فقال: "إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة"، وأمر من ينادي: الصلاة جامعة. وقوله: إنها بغير أذان ولا إقامة. فلأنها صلاة غير مرفوضة، ولا أذان لها ولا إقامة؛ اعتبارا بسائر النوافل، ولأنه لم يرو أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بأذان ولا إقامة.

وأما وصف صلاة الكسوف فهو على ما ذكره في الكتاب، وهو قولنا وقول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يصلى ركعتين كسائر الصلوات والذي يدل على ما قلناه: ما رواه مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: خسفت الشمس فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقام قياما طويلا نحو من سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع وقام قياما طويلا؛ وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا؛ وهو دون الركوع الأول، ثم سجد وانصرف صلى الله عليه وسلم وقد تجلت الشمس. وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الناس فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فسجد، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك. وروى مالك أيضا عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها (أن الشمس خسفت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ..)؛ فذكر مثل

الحديث الأول. وهذه أخبار ثابتة صحيحة، وهي نص قولنا. واحتج من خالفنا بما روى أنه صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف الشمس ركعتين كهيئة صلاتنا. وروى قبيصة بن يحيى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إنما هذه الآيات يخوف الله- عز وجل بها؛ فإذا رأيتموها فصلوا [كأحداث] صلاة صليتموها من المكتوبة"؛ وهذا يقتضي ألا يركع في كل ركعة إلا ركوع واحد. وقال صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة" المعهودة في الشرع، ولأنها صلاة شرعية؛ فوجب أن تختص كل ركعة منها بركوع واحد كسائر الصلوات، ولأنها لا تخلو أن تكون واجبة أو نفلا، وأي ذلك كانت فيجب أن لا يكون فيها إلا ركوع واحد؛ اعتبارا بسائر الواجبات والنوافل؛ ولأن اختلاف الصلوات في أعداد الركعات، فأما في أعداد الأركان فلا اعتبار بصلاة المسافر والحاصر. فأما أخبارهم فالكلام عليها من وجهين: أحدهما: الاستعمال. والآخر: الترجيح.

فأما الاستعمال فنقول: إنه يحتمل أن يكون أراد كهيئة صلاتنا في عدد السجدات، وصفة القيام والقعود دون عدد الركوع في الركعات بدلالة ما ذكرناه. فإن قالوا: وأخبارنا أيضا [يحتمل] أن يكون سجد بين الركوعين فلم يروه الراوي، ونقله فعل الركوعين. قلنا: إن هذا الاحتمال تدفعه العادات؛ فلا يلزم قبوله؛ وذلك أن خبرنا مشتمل على فعلين رواهما جماعة كثيرة من الصحابة رضي الله عنهم. وليس يجوز في مستقر العادة أن يتفق من عائشة وابن عباس وجابر وغيرهم من رواة هذه الأخبار في وقت واحد السهو عن سجوده دفعتين في الركعة الأولى وفي الآخرة وحفظ ما عدا ذلك. ويتحمل الخبر ما تدفعه العادة لا يصح على أنه قد روى ما يسقط هذا؛ فروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها وصف صلاة الكسوف على الصفة التي ذكرناها، وقالت في آخر الحديث: (فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات). وهذا يسقط ما قالوه. وأما الترجيح فمن وجوه: أحدها: إن رواة أخبارنا أكثر عددا، وطرقها أصح سندا. ولأن أخبارنا ناقلة ومجددة شرعا، وأخبارهم مبقية على الأصل. ولأن في أخبارنا زيادة ليست في أخبارهم.

ولأن أخبارنا حكاية مشاهدة وحضور للفعل من أوله إلى آخره، ومفسره لهيئته وصفته، وأخبارهم مجملة على ما رووه. فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم ذلك؛ فافزعوا إلى الصلاة"، فلو [تركناه] وظاهره لاقتضى ذلك أن يصلى لها كسائر صلوات النفل، ولكن قام الدليل- وهو ما ذكرناه من الأخبار- على أن لنا من التعلق بهذا الخبر مثل ما لهم بل نحن أولى به، وذلك أنه قد روى في أخبارنا أنه قال هذا القول بعد فراغه من الصلاة التي وصفناها؛ فعلم أنه أشار بذلك إليها؛ لأنه أقرب معهود فكان حرف اللفظ إليها أولى. وإذا صح هذا بطل ما قالوه. وقياسهم على سائر الصلوات باطل؛ لأنه يدفع السنة، ولأن الصلاة مختلفة في الهيئة والأفعال بزيادة ونقصان، ألا ترى أن صلاة العيدين تخالف سائر الصلوات بزيادة التكبير، وصلاة الكسوف أيضا تخالف بنية سائر الصلوات، سيما على أهلهم في المشي فيها؛ فلم يمتنع أن تخالف صلاة الكسوف أيضا سائر الصلوات فتختص بهذا المعنى. ولا معنى لتقسيمهم كونها نافلة أو واجبة؛ لأن كونها نافلة لا يؤثر في مخالفة هيئتها لهيئة سائر الصلوات كصلاة العيدين، وكونها واجبة لا يمنع أيضا من ذلك كصلاة الخوف. وقوله: إن الاختلاف إنما هو في عدد الركعات دون عدد الأركان غير صحيح؛ لأن الاختلاف في الأعداد هو اختلاف في الأركان لا محالة؛ بدلالة أنها تزيد بزيادة الأعداد وتنقص بنقصانها، والله أعلم.

فصل وقوله: إنها تصلى في المسجد؛ فكذلك روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في المسجد. رواه ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب [ق/11 أ] عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقام فخطب الناس. ورواه، وذكر الحديث. فصل وأما اختياره تطويل القراءة؛ فلما رويناه من حديث عائشة رضي الله عنها وابن عباس وأنه حزر قراءته صلى الله عليه وسلم فكان في الركعة الأولى كنحو من سورة البقرة، وفي الثانية نحو من سورة آل عمران. وتطويل الركوع دون تطويل القراءة؛ على ما روى نصا في الحديث. فأما السجود فإنه لا يطول كتطويلهما، بل يؤتى به على حسب ما يؤتى في سائر الصلوات. ومن أصحابنا من يقول أيضا: إن السجود يطول فيه. وقول مالك أصح؛ لأنه لم يذكر في الحديث تطويل السجود. فرع رفع رأسه من الركوع الأول من الركعة الأولى، وأراد القراءة فهل يقرأ

"الحمد" أم لا؟ قال مالك: يقرأ "الحمد"، وسورة طويلة. قاله جميع أصحابنا خلا محمد بن مسلمة؛ فإنه قال: يقرأ سورة غير "الحمد" ولا يقرأ "الحمد". والدليل على صحة قول مالك- رحمه الله- هو أنها قراءة مستأنفة من أصل بنية الصلاة؛ فوجب أن تتقدمها قراءة أم الكتاب؛ اعتبارا بالركوع الأول. وإنما قلنا: (مستأنفة)؛ احترازا من المتمادي في القراءة فإنها لا تحتاج إلى استئناف "الحمد"؛ لأنها قراءة مستدامة غير مستأنفة. وإنما قلنا: (من أصل بنية الصلاة)؛ احترازا من قراءة سجود؛ لأنها لعارض وليس من أصل بنية الصلاة؛ فلم تحتج إلى قراءة "الحمد" لها. وإنما قلنا: فوجب أن تتقدم "الحمد" لها؛ لئلا يقولوا نحن نقول بموجبها؛ لأنه إذا قرأ "الحمد" في الركوع الأول فقد قدمها لهذه القراءة. واحتج محمد بن مسلمة بأن قال: لأن "الحمد" لا تقرأ في ركعة واحدة وإن كان فيها ركوعان فلم تتكرر "الحمد" فيها. فيقال له: ولم إذا كانت ركعة واحدة لم تتكرر فيها قراءة "الحمد"؟.

فإن قال: اعتبارا بسائر الصلوات. قيل له: المعنى فيها أن الركوع لا يتكرر في الركعة الواحدة فيها، وليس كذلك صلاة الكسوف، والله أعلم. فصل ويسر القراءة في صلاة الكسوف، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: يجهر فيها بالقراءة؛ لما رواه الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بالعنكبوت والروم. ولأنها نافلة يسن لها الجماعة؛ فوجب أن يكون من سنتها الجهر؛ اعتبارا بصلاة العيدين والاستسقاء. والذي يدل على ما قلناه ما رواه مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف فقام قياما طويلا نحو من سورة البقرة. وهذا يدل على أنه أسر القراءة؛ لأنه لو كان جهر بالقراءة لذكر ما قرأ به ولم يحتج إلى تقديره وحزره. ومن طريق آخر عن ابن عباس أنه قال: (وكنت وراءه فلم أسمع منه حرفا).

وفي حديث سمرة بن جندب (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم فقام بنا كأطول ما قام بنا في صلاة قط لا يسمع له صوت ..) إلى آخر الحديث. وفي كل ذلك يقول: لا أسمع له صوتا. فأما ما رووه عن عائشة رضي الله عنها فقد اختلف عليها فيه؛ فروى سليمان بن يسار عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قال: (كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس فقام فحزرت قراءته، وأرى أنه قرأ سورة البقرة). وذكرت إلى أن قالت في الركعة الثانية:

(وحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة آل عمران). وهذا يفيد الإسرار بالقراءة، فتعارضت الروايتان فسقطتا، ورجعنا إلى ما لا معارض له. وما رووه من أنه قرأ بالعنكبوت فليس في الخبر أنه سمع منه في الصلاة، ويحتمل أن يكون أخبر بذلك وقال: إني قرأت بالعنكبوت يحتمل أن يكون جهر قدر ما يسمع نفسه ومن يقرب منه، وهذا في حكم الإسرار، ألا ترى أن مثله يجوز في الظهر والعصر، والمعنى في صلاة العيدين والاستسقاء أنها نافلة يسن لها الخطبة وليست كذلك صلاة الخسوف عندنا على ما سنذكره. فصل وعن مالك رحمه الله، في وقت صلاة الكسوف ثلاث روايات: إحداهن: أنها تصلى في كل الأوقات. والثانية: أنها تصلى في الأوقات التي تجوز فيها الصلاة دون غيرها من الأوقات التي تكره فيها صلاةالنفل. والثالثة: أنها تصلى ما لم تزل الشمس.

فوجه الرواية الأولى عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة"، ولم يعلق ذلك بوقت دون وقت، ولأنها آكد من سائر النوافل أيضا وهي مخالفة لها في البنية؛ فجاز أن تخالفها في الوقت. ووجه الرواية الثانية: ما روى عن نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس؛ فعم ولم يخص. ولأنها صلاة نفل فأشبهت سائر النوافل. ووجه الرواية الثالثة: أنها صلاة نفل يعقبها ذكر وعظة؛ فوجب أن يكون وقتها قبل الزوال؛ [ق/12 أ] اعتبارا بالعيدين والاستسقاء. ثم عدنا إلى الكتاب. مسألة ولمن شاء أن يصلي في بيته مثل ذلك أن يفعل. قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: وهذا لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة". وهذا عام في الجماعة والانفراد. ولأنها صلاة نفل فجاز أن يصليها المنفرد كسائر النوافل. مسألة قال رحمه الله: وليس في صلاة خسوف القمر جماعة، وليصل

الناس عند ذلك [أفذاذا والقراءة فيها جهرا] كسائر ركوع النوافل. قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: اعلم أن هذا قولنا وقول أهل العراق، وقال الشافعي: من سنة صلاة خسوف القمر الاجتماع لها؛ واستدل عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة"؛ ففيه دليلان: أحدهما: أنه قرنه بالشمس، فلما كان من سنة صلاة كسوف الشمس الاجتماع؛ فكذلك القمر. والآخر: أنه أمر بالصلاة أمرا عاما، ولم يفرق بين الاجتماع والانفراد. وروى أن ابن عباس صلى في خسوف القمر، ثم خطب ثم قال: (أيها الناس إني لم أبتدع هذه الصلاة بدعة، وإنما فعلت كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل). أصله كسوف الشمس، والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "خير صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة"، وهذا يفيد سقوط الاجتماع لها ولغيرها من النوافل إلا ما قام عليه الدليل.

ويدل على ذلك أيضا أن القمر قد انكسف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفعات كثيرة ولم ينقل أنه صلى له في جماعة، ولا أنه دعا إلى ذلك، وحديث ابن عباس يحتمل أن يكون إشارة جنس الكسوف أنه يصلى له، وليس في خطبته دلالة على أنه صلاها في جماعة؛ لأنه لما خطب فيها وليس من سنتها الخطبة عند مخالفينا؛ فجاز أن يكون صلاها منفردا ثم خطب. وأيضا فلأنها صلاة نفل في الليل ليست لسنتها وقت مخصوص، أو نقول يجوز أن تفعل قبل المكتوبة فلم يكن من سنتها الاجتماع كالركوع بعد المغرب. فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فافزعوا إلى الصلاة" فإنه دليلنا؛ لأنه أمر بها مطلقا، ولم يقل مجتمعين ولا مفترقين؛ فوجب أن يستوي في ذلك الأمران. وأما الاقتران في اللفظ فلا يوجب عندنا الاقتران في الحكم إلا بدليل. واعتبارهم بصلاة كسوف الشمس غير صحيح لأنه يقع نهارا، فلا تلحق فيه مشقة. وليست كذلك خسوف القمر؛ لأنه يقع ليلا؛ فيلحق في الاجتماع فيه مشقة شديدة. وليس له أيضا وقت محصور؛ لأنه قد يتقدم في أول الليل وقد يتأخر

إلى آخره، وفي الاجتماع له كلفة شديدة. مسألة قال رحمه الله: وليس في إثر صلاة خسوف الشمس خطبة مرتبة، ولا بأس أن يعظ الناس ويذكرهم. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: خالفنا أهل العراق والشافعي، وقالوا: إنه يخطب بعدها، واستدلوا بما رواه مالك عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف ثم انصرف فخطب الناس فحمد الله عز وجل وأثنى عليه. ولأنها صلاة نافلة تسن لها الجماعة تنفرد بوقت؛ فوجب أن يكون من سنتها الخطبة كالعيدين والاستسقاء، ولا تدخل عليه الوتر والتراويح؛ لأنها لا تنفرد بوقت بل تقع في وقت غيرها. والذي يدل على ما قلناه ما رواه مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الكسوف، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله عز وجل". وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن [عمرة] عن عائشة رضي الله

عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انصرف من صلاة الخسوف قال: ما شاء الله أن يقول، ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر، ولم يذكر في شيء من هذه الأخبار أنه خطب. وقد روى صلاة الكسوف جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: علي ابن أبي طالب، والنعمان بن بشير، وجابر وأبو هريرة، وغيرهم، وليس فيهم من نقل أنه خطب. ولأنها صلاة نفل لا يجهر فيها بالقراءة؛ فلا خطبة فيها اعتبارا بسائر النوافل. عكسه العيدان والاستسقاء. فأما الخبر الذي رووه فمعناه أنه أتى بكلام منظوم فيه حمد لله عز وجل وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وموعظة على سبيل ما يؤتى به في الخطب؛ فلذلك سمتها خطبة؛ وعلى أنا قد روينا عنها من غير هذه الطريق وعن العدد الذي ذكرناه من الصحابة صفة صلاة الكسوف، وليس في ذلك ذكر للخطبة، وليس يجوز أن تكون خطبة وأغفلتها ولا كلهم ذلك مع نقل كل ما تعلق بتلك الحال؛ فوجب حمل تسميتها ذلك بأنه خطبة على الوجه الذي ذكرناه. وفائدة الخلاف في ذلك [ق/13 أ] هو أنه من سنة الخطبة في الشريعة أن تكون على منبر، وأن تكون خطبتين يجلس في أولها ووسطها، أو في وسطها دون أولها في غير الجمعة. وهذا غير مراعى عندنا في صلاة الكسوف. والمعنى في صلاة العيدين والاستسقاء أنهما يجهر فيهما بالقراءة، وليس كذلك صلاة الكسوف.

باب: صلاة الاستسقاء

باب: صلاة الاستسقاء مسألة قال رحمه الله: وصلاة الاستسقاء سنة تقام، يخرج لها الإمام كما يخرج للعيدين ضحوة، فيصلى بالناس ركعتين يجهر فيهما بالقراءة؛ يقرأ {سبح اسم ربك الأعلى} {والشمس وضحاها} وفي كل ركعة سجدتين وركعة واحدة، ويتشهد ويسلم، ثم يستقبل الناس بوجهه فيجلس جلسة، فإذا اطمأن الناس قام متوكئا على قوس أو عصا فخطب، ثم جلس، ثم قام فخطب، فإذا فرغ استقبل القبلة فحول رداءه [يجعل] ما على منكبه الأيمن على الأيسر وما على الأيسر على الأيمن، ولا يقلب ذلك. وليفعل الناس مثله، وهو قائم وهم قعود، ثم يدعو كذلك، ثم ينصرف وينصرفون، ولا [يكبر] فيها ولا في الخسوف غير [تكبيرة الإحرام و] والخفض والرفع، ولا أذان فيها ولا إقامة. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي رحمه الله: اعلم أن قولنا

وقول الشافعي أن صلاة الاستسقاء سنة، وقال أبو حنيفة: لا يصلي في الاستسقاء. وقال أبو بكر الرازي: ليس في كراهية الصلاة فيها رواية. ويشبه أن يكون مراده أنه ليس فيها صلاة مسنونة كالعيد، وأن الإمام مخير إن شاء فعلها وإن شاء تركها. والذي يدل على ما قلناه ما رواه معمر عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج بالناس ليستسقي فصلى بهم ركعتين، جهر بالقراءة فيهما، فحول رداءه فدعا واستسقى، واستقبل القبلة صلى الله عليه وسلم. وروى ابن عباس وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثم خطب. وروى أنس بن عياض عن حمزة عن عبد الواحد عن داود بن بكر بن أبي الفرات عن جابر بن عبد الله، أو عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى فصلى وكبر واحدة افتتح بها الصلاة. وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في الاستسقاء متواضعا متخشعا متضرعا متوسلا فصلى ركعتين كما يصلي في العيد. ولأن الخطبة في الأصول في العبادات لا تكون إلا مقارنة لصلاة كخطبة العيدين والجمعة. واحتج من خالفنا بما رواه أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم

الجمعة فجاءه رجل فقال: يا رسول الله: هلكت المواشي والزروع، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه ودعا فجاء المطر. فدل هذا على أنه ليس من سنة الاستسقاء أن يصلى، ولأنه لو فعل ذلك لم يخف على الصحابة رضي الله عنهم. وقد روى أن عمر رضوان الله عليه خرج فاستسقى، وخرج معه العباس رضي الله عنه ولم يصل. فقيل له: ما زدت على الاستغفار. ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك. ولأنها حادثة يخاف منها الضرر فوجب أن لا يصلى لها كالصواعق والزلازل، ولا يلزم عليه الكسوف؛ لأنه لا يخاف منه ضرر، وإنما هو عجوبه. والجواب عن ذلك أن يقال: أما ما رووه من حديث أنس فعنه جوابات: أحدها: أن دعاءه صادف حالا مشغولا بها عن التأهب لصلاة الاستسقاء، ونحن إنما نقول: من سنة الاستسقاء الصلاة والخطبة إذا تأهب الإمام والناس لذلك. فأما إذا دعوا دعاء الاستسقاء في عوض غيره من الكلام من غير قصد لإفراده بذلك فليس الصلاة من سنته. والجواب أنه قد روى من غير هذا الطريق أنه صلى، والزائد من

الأخبار أولى. وكذلك ما رووه من أن عمر رضي الله عنه استسقى ولم يصل فقد روينا أنه قد صلى، والأخذ بالزائد من الأخبار أولى. وقياسهم ينقض بالكسوف. فإن قالوا: قد احترزنا منه بأن قلنا: نخاف منه الضرر، والكسوف لا يخاف منه ضرر بدلالة ما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الشمس والقمر: "إنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما [لهما] آيتان من آيات الله عز وجل يخوف بهما عباده، فإذا كسفا فافزعوا إلى الصلاة. وروى أن الشمس كسفت فخرج صلى الله عليه وسلم لابسا درعه، وترك دواءه فزعا حتى أدرك به. ولي من حيث عرفنا وجه الضرر بتأخر المطر، ولم يفرق بالكسوف يجب أن يحكم بأنه لا ضرر علينا فيه؛ لأنه ليس من شرط ما يخاف الضرر أن يعرف وجه ضرره. فصل فصلاة الاستسقاء ركعتان كسائر النوافل، وقال الشافعي رحمه الله: يكبر فيهما كما يكبر في العيد؛ لما رواه ابن عباس أن رسول الله صلى فيها

ركعتين كصلاة العيد. والذي يدل [ق/14 أ] على ما قلناه ما رويناه أنه صلى الله عليه وسلم استسقى فصلى وكبر واحدة. وهذا نص في موضع الخلاف. ولأنها صلاة في غير عيد فأشبهت سائر النوافل. وما رووه يحتمل أن يكون أراد به صلى ركعتين فقط، ويحتمل أن يكون أراد به قدم الصلاة على الخطبة، وهذا معنى يختص بالعيد. وخبرنا نص في موضع الخلاف. فصل فأما تقديم الصلاة على الخطبة فلا خلاف فيه إلا ما حكى عن عبد الله ابن الزبير أنه قدم الخطبة على الصلاة. والدلالة على ما قلناه أنها صلاة نافلة وسنتها الخطبة؛ فوجب أن يؤتى بها بعد الصلاة؛ اعتبارا بالعيدين. فصل وقوله: لا أذان لها ولا إقامة فيها. فلأنها صلاة نفل فوجب أن لا يكون فيها أذان ولا إقامة اعتبارا بالنوافل كلها. ولأنه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أذن له فيها ولا أقيم.

فصل فأما تحويل الإمام رداءه ما على يمينه على شماله وما على شماله على يمينه فإنه سنة الاستسقاء عندنا، وعند الشافعي. فأما عند أبي حنيفة فإن ذلك ليس من سنتها. والدليل على ما قلناه ما رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد ابن عمر بن حزم أنه سمع عباد بن تميم يقول: سمعت عبد الله بن زيد المازني يقول: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فاستسقى وحول رداءه إلى القبلة. وروى ابن وهب قال: أخبرني رجال من أهل العلم عن أنس بن مالك وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ومحمد بن علي، وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما استسقى نظر إلى السماء، ورفع يديه حذو وجهه، وحول ردائه يمينه على شماله وشماله على يمينه. فصل وليس تنكيس الرداء من السنة عندنا. قال الشافعي: تنكيسه سنة. والأصل في هذا أن كون هذا الفعل سنة لا يثبت إلا بالشرع، ولا شرع في ذلك. فإن قيل: فقد روى عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى وعليه

خميصة سوداء، فأراد أن يجعل أعلاها أسفلها فثقلت عليه فحولها. فوجه التعلق من هذا هو أنه أراد تنكيسه، ولكن تركه لعذر صلى الله عليه وسلم فعلم أنه مسنون. فالجواب: أنه ليس في هذا نص عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعل، وإنما هو ظن من الراوي أنه أراد ذلك، ومثل هذا لا تثبت به سنة. فإن قيل: لما كانت السنة سنة جدب استحب أن ينكس رداءه تفاؤلا عن تحويل الجدب إلى الخصب كما استحب تحويله تفاؤلا بذلك. فالجواب: أن التحويل لم يثبت من حيث صح التفاؤل، وإنما أثبتناه لورود الخبر فيه، ولو كان الاعتبار بالتفاؤل في ذلك لوجب أن يستحب كل ما صح فيه؛ فكان يجب تحويل الخاتم من يد إلى يد، وقلب غير الرداء أيضا، وتحويل العمامة. كل هذا غير مسنون ولا مستحب وإن صح التفاؤل به. فصل اختلف أصحابنا متى يحول وجهه إلى القبلة ويدعو؛ فقال مالك: إذا فرغ من خطبتيه جميعا جول وجهه إلى القبلة. قال أصبغ: إذا أشرف على الفراغ من خطبته الثانية حول وجهه إلى القبلة للدعاء، فإذا فرغ أقبل على الناس بوجهه فأتم الخطبة ثم نزل. فوجه قول مالك هو أن في ذلك قطعا للخطبة، وتشاغلا بغيرها قبل إتمامها، وذلك مكروه؛ لأنه ليس من الخطبة ما يقطع لتحليله فعل غيره، ولأنها خطبة مسنونة في الاستسقاء فوجب ألا تقطع للدعاء وأصلها الأولى.

باب: ما فعل بالمحتضر، وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه

ووجه قول أصبغ هو أن المسنون في الاستسقاء خطبتان لا زيادة عليهما، فإذا أتى بالدعاء في خلالهما لم يكن في ذلك زيادة، ولا يعود إلى إتمامهما، وإذا أتى به بعد الفراغ منها كان زيادة مستأنفة؛ فكان الأولى أن يؤتى بها في تضاعيفها، والله أعلم. فصل وأما قوله: يجهر فيها بالقراءة. فلأنها صلاة نفل لها خطبة، وكل صلاة يخطب لها فالقراءة فيها جهرا. وقوله: يقرأ فيها بسبح، ونحوها. فلأنها صلاة يخطب لها بعد الصلاة؛ فوجب أن يكون هذا قدر ما يقرأ فيها اعتبارا بالعيدين. وقوله: إنه يخطب ثم يجلس ثم يقوم ثم يخطب. فكذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، فوجب ابتاع فعل في ذلك، والله أعلم. باب: ما فعل بالمحتضر، وفي غسل الميت وكفنه وتحنيطه وحمله ودفنه مسألة قال رحمه الله: ويستحب استقبال القبلة بالمحتضر وإغماضه إذا قضى،

ويلقن لا إله إلا الله عند الموت، [فإن] قدر على أن يكون طاهرا وما عليه طاهر فهو أحسن، ويستحب أن لا يقربه حائض ولا جنب. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي رحمه الله: أما استحبابه استقبال القبلة إذا احتضر حتى يموت كذلك؛ لأن استقبال القبلة أشرف المجالس وأفضلها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أشرف المجالس ما استقبل القبلة". وهي من أدب الشرع أيضا في غير [ق/15 أ] موضع؛ من ذلك الصلاة، ومنه الذبح، ومنه دفن الميت، وغير ذلك؛ فاستحب توجيهه إلى القبلة في هذه الحال لقربها من الموت؛ ليكون له أشرف وأفضل أن يكون مستقبل القبلة. وقد وردت الرواية بذلك عن الصحابة والتابعين، وروى أن عمر رضوان الله عليه قال لابنه: إذا حضرتني الوفاة فاحرفني إلى القبلة. وقال الحسن- يعني البصري: كان يستحب أن يستقبل بالميت القبلة إذا كان في الموت.

وقال عطاء: يستحب أن يوجه الميت عند نزوعه إلى القبلة. وروى أيضا عن جماعة من التابعين رضي الله عنهم منهم: إبراهيم النخعي، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وجماعة. قال مالك رحمه الله: فإن لم يقدر على ذلك جعلت رجلاه في القبلة واستقبلها بوجهه؛ لأن هذا حكم من استحب له استقبال القبلة إذا لم يقدر على ذلك؛ اعتبارا بحال دفنه، وبالمريض الذي لا يقدر على توجيهه على جنبه للصلاة. وقد قال ابن المواز في المريض: إذا لم يقدر على توجيهه على جنبه الأيمن فعلى الأيسر، فإن لم يتمكن من ذلك فعلى ظهره. ويجب على هذا أن يكون كذلك حكم المحتضر. وقول مالك بخلافه على ما بيناه. فصل فأما إغماضه إذا قضى؛ فلورود السنة به، فروى أبو إسحاق الفزارى عن خالد [الحذاء] عن أبي قلابة عن قبيصة بن ذؤيب عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه.

وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حضرتم موتاكم فغمضوا أبصارهم؛ فإن البصر يتبع الروح". ولأن في ذلك صيانة للميت، ونفيا للتشويه عنه. وذلك واجب علينا فعله للميت بعد موته كوجوبه حال الحياة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "حرمة المؤمن الميت كحرمته [وهو] حي". فصل فأما تلقينه لا إله إلا الله وحده لا شريك له- عند الموت-؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله عند الموت". رواه عمارة بن مخرمة عن يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لقنوا موتاكم لا إله إلا الله؛ فغنها تهدم ما قبلها وما بعدها". قالوا: فكيف هي يا رسول الله للأحياء؟ قال: "هي للأحياء أهدم". وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من

كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". ولأن في ذلك تجديد اعتقادها إن كان قد ذهل عنه، وقد يموت عقيب ذلك، ويستحب أن يكون آخر عمله. فصل فأما استحبابه أن يكون طاهرا هو وما عليه؛ فلأنها حال تقتضى تشريفه، وكذلك أيضا يستحب أن يكون طاهرا هو وما عليه. وروى أبو سلمة عن أبي سعيد الخدري أنه لما حضره الموت دعا بثياب خضر فلبسها، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "وإن [الميت] يبعث في ثيابه التي يموت فيها". فصل فأما كراهة قربان الجنب والحائض له؛ فلأنه لما استحب أن يكون هو طاهر فكذلك من يتولى أمره. وقد قال مالك- رحمه الله: إنه لا بأس أن يغمضه الحائض والجنب. والفرق- على هذا القول- بين إغماضه وغسله هو أن الغسل يحتمل

التأخير عن وقت موته، وليس كذلك إغماضه؛ لأنه لا يحتمل التأخير، وإنما يفعله لبقاء لين أعضائه وإمكان ذلك فيهما. مسألة قال- رحمه الله: وأرخص بعض العلماء في القراءة عند رأسه بسورة يس، ولم يكن ذلك عند مالك [أمرا] معمول به. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: وجه الإرخاص في ذلك ما رواه معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا يس على موتاكم"، وإنما لم يره مالك؛ لأنه لم يجده معمولا به، ولم يدرك أحدا من السلف عليه. مسألة قال- رحمه الله: ولا بأس بالبكاء بلا دموع حينئذ، وحسن التعزي والتصبر أجمل لمن استطاع. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لما رواه شعبة عن عاصم الأحول قال: سمعت أبا عثمان عن أسامة بن زيد أن بنتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه وأنا ومعاذ وسعد وأحسب أن ابني أو ابنتي قد

حضر فاشهدنا، فأرسل يعزيها وقال: "لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده إلى أجل"، فأرسلت تقسم عليه فأتاها فوضع الصبي في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونفسه تقعقع ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له سعد: ما هذا؟ فقال: "إنها رحمة يضعها [ق/16 أ] الله عز وجل في قلب من يشاء، إنما يرحم الله من عباده الرحماء". وروى ثابت عن أنس قال: رأيت إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبد بنفسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الله، وأنا بك يا إبراهيم لمحزون". فدل هذان الحديثان على إباحة ذلك. وروى مالك عن عبيد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك عن عتيك بن الحارث بن عتيك؛ وهو عبد الله بن عبد الله أبو أمامة أنه أخبره أن جابر ابن عتيك أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب فصاح به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه؛ فاسترجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "غلبنا عليك يا أبا الربيع"؛ فصاح النسوة وبكين؛ فجعل ابن عتيك يسكتهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهن، فإذا وجبت فلا تبكين باكية". قالوا: وما الوجوب يا رسول الله؟ قال: "الموت".

وإنما كان التعزي والاسترجاع أحسن لمستطيعه؛ لقوله تعالى ذكره: {الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون}؛ فندب الله- جل ذكره- إلى هذا القول عند المصيبة، ومدح قائله. وروت أم سلمة- رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أصابت أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم عندك أحتسب مصيبتي فأجرني فيها وأبدلني خيرا منها". وروى مالك عن ربيعة عن أبي سلمة أنه قال لأم سلمة: يا أم سلمة: لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاما لهو أحب إلى مما طلعت عليه الشمس، فقال: وما هو؟ قال أبو سلمة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أصيب بمصيبة فليقل كما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واعقبني خيرا منها فعل الله تعالى ذلك به". قالت أم سلمة: فلما توفى أبو سلمة قلت ذلك، ثم قلت: ومن خير من أبي سلمة؟ فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى شعبة عن ثابت عن أنس قال: أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم على امرأة تبكي على صبي لها فقال لها: "اتق الله واصبري"، فقالت: [وما تبالي]

أنت مصيبتي، فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأتته فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله لم أعرفك. فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى"،أو عند أول الصدمة. وروى ذلك عن أفاضيل السلف رضي الله عنهم. مسألة قال رحمه الله: وينهى عن الصراخ والنياحة. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: روى ذلك أيوب عن حفصة عن أم عطية قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النياحة. وروى أبو سعيد الخدري قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة والمستمعة. وروى أبو موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من

حلق ومن سلق ومن خرق". وروى أبو زيد عن أبي أسيد عن امرأة من المبايعات قالت: فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعروف الذي أخذه علينا ألا نعصيه فيه إلا نخمش وجها، ولا ندعو ويلا، ولا نشق جيبا، ولا ننشر شعرا. مسألة قال- رحمه الله: وليس في غسل الميت حد، ولكن ينقى، ويغسل وترا بماء وسدر، ويجعل في [الآخرة] كافورا، [ويستر] عورته، ولا [يقلم] أظافره، ولا يحلق له شعر، ويعصر بطنه عصرا [رفيقا]، وإن وضئ وضوء الصلاة فحسن وليس بواجب، ويقلب لجنبه في الغسل أحسن [وليس بواجب] وإن جلس فذلك واسع.

قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: قوله: (وليس في غسل الميت حد) يعني: عددا معلوما يكون عنده الإنقاء، لكن القدر الذي يكون عنده طهوره. ويستحب له أن يكون وترا من العدد؛ لما رواه مالك عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية الأنصارية قالت: دخل علينا سول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته فقال: "اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك، بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني بها". قالت: فلما فرغنا آذناه فأعطانا حقوة فقال: "أشعرنها إياه"- يعني إزاره. ورواه أبو داود قال: حدثنا محمد ابن عبيد قال: حدثنا حماد عن أيوب عن محمد عن أم عطية بمعنى حديث مالك. وزاد في حديث حفصة عن أم عطية نحو هذا، وزادت فيه: "أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيته". وقوله: (بماء وسدر وفي الآخرة كافورا)؛ فلما رويناه في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اغسلنها بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا أو شيء من الكافور". وقوله: (ويستر عورته) [ق/17 أ] فلأنه لما وجب سترته وهو حي كذلك بعد موته؛ لأن حرمة الميت كحرمة الحي.

وروي عن محمد بن سيرين أنه غسل أنس بن مالك فلما بلغ إلى عورته قال لأهله: أنتم أحق. دونكم فاغسلوها، فجعل الذي غسلها على يديه خرقة، وجعل على عورته ثوبا، ثم غسل عورته من وراء الثوب. ومنعه أن يقلم ظفره أو يحلق شعره. خلافا للشافعي حيث استحب ذلك، ولأحمد بن حنبل حيث استحب أخذ العانة والأظفار؛ فلأن الأصل ألا يفعل في الميت إلا بشرع، ولم يرد شرع بأخذ أظفاره وقص عانته. ولأن الختان آكد من تقليم الأظفار وحلق العانة؛ لأن من الناس من يوجبه، وليس فيه من يوجب ما تنازعناه- أعني بذلك عن الحي دون الميت، وإذا صح هذا فلم يجب إذا مات وهو أغلف، أن يختتن كان بأن لا يفعل به ما ذكرناه أولى، ونحرر منه قياسا فنقول: لأنه إزالة شيء متصل بالبدن فأشبه بالختان. ويفارق الدرن والوسخ وما يخرج من بطنه وفيه، لأن ذلك كله منفصل غير متصل. واحتج مخالفنا بالحديث الذي رووه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "افعلوا بموتاكم ما تفعلوه بعروسكم" وهذا غير محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما

هو معروف عن آل ربيعة بن الحارث، ولو ثبت لكان معناه من الغسل دون غيره. قالوا: ولقوله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة" فذكر حلق العانة، ونتف الإبط، ولم يخص حي من ميت. فالجواب: أنه مصور على الأحياء جون الأموات؛ بدلالة أنه ذكر الختان، وليست ذلك في الموتى اتفاقا. قالوا: ولأن ذلك من النظافة، والنظافة مندوب إليها في الأموات. فالجواب: أنا مندوبون من ذلك إلى نظافة مخصوصة دون كل ما كان في بابها؛ فيسقط ما قالوه. فصل قوله: (ويعصر بطنه). فلأنه لا يؤمن أن يخرج منه شيء فيلطخ كفنه، وقد روى ذلك من السلف- رضي الله عنهم. ولأن ذلك أبلغ في النظافة. فصل قوله: (يقلبه لجنبه) أي: على جنبه؛ فليتمكن من غسل كل بدنه.

وإن جلس كان واسعا؛ لأنه أكثر في التمكن. قال عبد الملك بن الماجشون: ينبغي أن يبدأ فيغسل فرج الميت. قال: لأن الميت إذا مات أضيعت محارزه؛ فقل ميت إلا ويخرج منه شيء. وعند أبي حنيفة والشافعي يوضأ أولا ثم يعصر بطنه عند آخر غسلة. والأحوط ما قلناه؛ لما قاله عبد الملك. وليس الوضوء بلازم في السنة عند أصحابنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به في حديثه حيث أمر بغسل بنته. مسألة قال- رحمه الله: ولا بأس [أن يغسل] أحد الزوجين صاحبه من غير ضرورة. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: لا خلاف أن المرأة تغسل زوجها، وقد روى ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. وروى ابن أبي ليلى عن عبد الله بن شداد أن أبا بكر رضي الله عنه وصى أن تغسله أسماء بنت عميس.

وروى إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي أن أبا موسى غسلته امرأته. وقالت عائشة رضي الله عنها: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أزواجه). ولم ينكر أحد عليها ذلك. ولأن الغسل لما كان فيه اطلاع على [الميت] وعلى مواضع من مغابنه لم يكن بذلك أحد أولى من الزوجة. إنما الخلاف في الزوج هل له أن يغسل امرأته إذا ماتت؟ فعندنا وعند الشافعي: له ذلك. وروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وقاله الحسن. أبو سلمة بن عبد الرحمن. وقال أبو حنيفة: ليس للزوج أن يغسل امرأته. والدلالة على ما قلناه: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة رضي الله عنها وهي تقول: وا رأساه فيقول: "لا عليك، لو من لغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك" فأخبر أنه صلى الله عليه وسلم لو ماتت قبله لغسلها؛ فدل ذلك على أن للزوج أن يغسل امرأته.

وروي أن عليا عليه السلام غسل فاطمة عليها السلام ولم ينكر عليه أحد. ولأنها زوجية زالت بالموت؛ فوجب ألا يمنع النظر. أصله: إذا مات الزوج. أو نقول: حصول الموت بين الزوجين لا يمنع غسل أحدهما الآخر. أصله: إذا مات الزوج. أو نقول: لأنها فرقة يثبت بها التوارث؛ فوجب ألا يتعلق بها تحريم النظر. أصله: إذا مات الزوج. ولأن كل معنى لم يحرم نظر الزوجة إلى الزوج لم يحرم نظره إليها، اعتبارا بالأصول كلها كالمريض وغيره. عكسه الطلاق. واحتج مخالفنا بقوله تعالى: {وأن تجمعوا بين الأختين} ووجه الاستدلال هو أنه إذا كانت تحته امرأة وماتت حل له العقد على أختها، فلو جوزنا له الغسل لكنا قد أبحنا له النظر إلى فرجها وفرج أختها، والآية تمنع الجمع بين الأختين في النكاح أو في شيء من أحكامه من نظر أو مس أو غير ذلك. فالجواب: أنه لا دلالة لهم في هذه الآية، لأن التحريم إنما تعلق بالاستمتاع وما في معناه، ولم يرد به تحريم [ق/18 أ] الجمع فيما عداه. ولأن هذا اللفظ محمول على عادة أهل اللغة في الاستعمال، وعادتهم فيه ما ذكرناه. ألا ترى أنه لا يعقل منه تحريم الجمع بينهما في عقد الشراء.

أو البيع والاستخدام وغير ذل. وإذا صح هذا لم يكن في إباحة غسلها والنظر إليها جمع بينها وبين أختها؛ لأن إباحة النظر إلى أختها هو من طريق الاستمتاع والالتذاذ وليس كذلك النظر إليها في الغسل. واستدلوا على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من نظر إلى فرج امرأة وابنتها". والجواب: أن معنى هذا على وجه الاستمتاع بدلالة ما ذكرناه. قالوا: ولأن كل من جاز له العقد على أخت زوجته لم يجز له النظر إليها. أصله: إذا طلقها قبل الدخول. فالجواب أن ما لم يجز له النظر إليها لأنه لا يجوز لها النظر إليه، وليس كذلك في الموت؛ لأن نظرها إليه حائز؛ فكذلك نظره إليها. قالوا: ولأن المعنى الذل له جاز أن ينظر إليها هو النكاح، وقد ارتفع بالموت فوجب ارتفاع ما ثبت به، والدلالة على ارتفاعه جواز العقد على أختها، ولو كان حكم النكاح باقيا لم يجز ذلك له، ألا ترى أنه لو طلقها طلاقا رجعيا لم يجز له أن يتزوج؛ لبقاء حكم النكاح. فجواب: ذلك أنه ينتقض بموت الزوج.

فإن قيل: إذا مات الزوج حكم النكاح باق في حقها وهي العدة. قيل له: ينتقض بالمطلقة ثلاثا؛ لأنه ليس لها أن تغسل مطلقها، وأن حكم النكاح باقيا في حقها وهو العدة، وأيضا فإن النكاح باق في حق الزوج وهو الموارثة. فإن قالوا: إن الموارثة إنما تستحق عقيب الموت والنكاح يزول بنفس الموت. قلنا: وكذلك العدة تجب عقيب الموت فلا فصل. قالوا: ولأنها فرقة يتعلق بها جواز العقد على الأخت وجب أن تمنع المس والنظر. أصله: انقضاء العدة بالطلاق. فالجواب: أن المعنى في ذلك أنها فرقة يحرم بها على الزوجة النظر إلى زوجها، وليس كذلك الموت. وبالله التوفيق. مسألة قال-رحمه الله: والمرأة تموت في السفر لا نساء معها ولا [ذو] محرم من الرجال فلييمم رجل وجهها وكفيها. ولو كان الميت رجلا يمم النساء وجهه ويديه إلى المرفقين، إن يكن معهن رجل يغسله، ولا امرأة من محارمه، فإن كان امرأة من محارمه غسلته وسترت عورته. وإن كان مع الميتة ذو محرم [منها] غسلها من فوق ثوب يستر جميع

جسدها. قال القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر- رحمه الله: والأصل في هذا أنه لا يجوز لأجنبية أن تمس بدن أجنبي، وكذلك الرجل لا يجوز له أن يمس بدن امرأة أجنبية منه. وإذا كان كذلك وجب إذا مات من ليست معه إلا امرأة أجنبية أو ليس معها إلا أجنبي أن يقتصر من غسلها على التيمم. وإنما جاز ذلك لأن النظر إلى الوجه والكفين مباح وما سوى هذا من المرأة عورة لا يجوز للأجنبي أن ينظر إليه ولا أن يلمسه. والمرأة تيمم الأجنبي إلى المرفقين؛ لأن هذا الموضع ليس بعورة منه. وإنما وجب أن يعدل إلى التيمم؛ لأن كل غسل وجب في حرمة عبادة متى عدم فيه عين الماء أو وجده لكن لا طاقة له على استعماله فإنه يعدل منه إلى التيمم. فأما إذا كان مع أحد من هؤلاء ذو محرم فإن له أن يغسله؛ لأنه لا يجوز له النظر إلى بدنه من غير أن يطلع على عورته. مسألة قال- رحمه الله: [ويستحب] أن يكفن الميت في وتر: ثلاثة أثواب أو خمسة أو سبعة، وما جعل له من أزرة وقيص وعمامة فذلك محسوب في عدد الأثواب الوتر. وقد كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية، أدرج فيها إدراجا

صلى الله عليه وسلم. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أما استحبابه أن يكفن في وتر؛ فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن في وتر؛ فروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة. وروى مالك عن يحيى بن سعيد أنه قال: بلغني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لعائشة رضوان الله عليها وهو مريض: في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية. قال أبو بكر رضي الله عنه: خذوا هذا الثوب- لثوب قد أصابه مش أو زعفران- فاغسلوه، ثم كفنوني فيه مع ثوبين آخرين. وروى من غير هذا الطريق أنه كفن في ثوبين. وروى هشام بن عروة عن أبيه أن حمزة- عليه السلام- كفن في ثوب واحد. قال هشام: كفن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- في ثوب واحد. وقوله: يستحب المئزر والقميص في العدد.

فلأن المستحب أن يكون عدد أثواب الكفن وترا، وكل ثوب حكمه حكم نفسه؛ لا يضاف إلى غيره مسألة قال- رحمه الله: ولا بأس أن يقمص الميت ويعمم. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: وروى مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن في قميصه الذي مات [ق/19] فيه. وروى مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: الميت يقمص، ويؤزر، ويلف بالثوب الثالث. فإنه لم يكن إلا ثوب واحد كفن فيه. مسألة قال- رحمه الله: وينبغي أن يحنط، ويجعل الحنوط بين أكفانه وفي جسده ومواضع السجود منه. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لأن

رسول الله صلى الله عليه وسلم حنط، وكذلك فعل بالصحابة رضي الله عنهم؛ فروى أن عليا رضي الله عنه أوحى أن يجعل في حنوطه مسك، وقال: هو فضل حنوط النبي صلى الله عليه وسلم. وروى أن سعيد بن زيد حنط بمسك. وروى حميد عن أنس أنه جعل في حنوطه صرة من مسك فيه شعر من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويستحب أن يجعل الحنوط في مغابن جسده وفي موضع السجود منه؛ لأن ذلك أشرف موضع في الجسد؛ قال الله تعالى ذكره: {سيماهم في وجوههم من أثر السجود}، وقال عز وجل: {وعنت الوجوه للحي القيوم}. مسألة قال رحمه الله: ولا يغسل الشهيد في المعترك، ولا يصلى عليه، ويدفن في ثيابه. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله: هذا قولنا وقول الشافعي. ووافقنا أبو حنيفة في أنه لا يغسل وخالفنا في الصلاة؛ فقال: يصلى

عليه. وحكي عن سعيد بن المسيب والحسن أنه يغسل ويصلى عليه. والذي يدل على ما قلناه ما رواه الليث بن سعد عن ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن [جابرا] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ويسأل أيهما أكثر أخذا بالقرآن فيقدمه في اللحد. وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، فأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم ولم يغسلهم. وروى ابن وهب عن أسامة بن زيد عن ابن شهاب عن أنس أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم، ولم يصل عليهم. وروى عثمان بن عمر عن أسامة عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- مر بحمزة- عليه السلام- وقد مثل به- يعني: فصلى عليه ولم يصل على أحد من الشهداء غيره. وأيضا فإن الغسل متعلق بالصلاة؛ يجب بوجوبها ويسقط بسقوطها؛ اعتبارا بالأصول كلها كالمسلم والكافر والطفل المستهل والجنين الذي لم يستهل، وليس في الأصول غسل ميت بغير صلاة ولا صلاة بغير غسل.

وإذا ثبت ذلك وكان الشهيد لا يغسل ثبت أنه لا يصلى عليه. واحتج المخالف بما رواه يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- كان يوضع بين يديه يوم أحد [أحد عشر- رجلا فيصلي عليهم وعلى حمزة]، ثم ترفع العشرة ويبقى حمزة، ثم يوضع العشرة فيصلى عليهم وعلى حمزة. وروى عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين من مقتلهم صلاته على الميت. ولأن وجوب الصلاة على الميت متعلقة بالموالاة؛ بدلالة أن انقطاعها متعلق بالبراءة وقطع الموالاة اعتبارا بسائر الأصول. ولأنه ميت من أهل الإسلام والطاعة فأشبه غير الشهيد. ولأنه ليس قتله في المعترك أكثر من كونه شهيدا، والشهادة لا تمنع الصلاة عليه كسائر الشهداء. فأما الحديث الأول فالجواب عنه أنه ضعيف السند؛ لأن يزيد بن أبي زياد مطعون عليه عند أهل النقل. ومقسم فقد تكلم فيه أيضا. وحكى عن أبي داود الطيالسي أنه قال: قال لي شعبة: ألا ترى إلى هذا المجنون جرير بن حازم يسألني ألا أتكلم في الحسن بن عمارة، كيف لا أتكلم فيه وهو يروي عن الحكام بن عينية عن مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد. وهذا حماد بن أبي سليمان حدثنا عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على قتلى أحد.

وأيضا فإن أصحاب أبي حنيفة لا يمكنهم الاحتجاج بهذا الخبر؛ لأن من أصلهم أن ما تعم البلوى به لا يقبل فيه خبر الواحد، وصلاته على الشهداء مما تعم البلوى به؛ فيجب ألا يثبت بهذا الخبر. وأيضا فإنا قد روينا أنه لم يصل عليهم ولم يغسلهم، والخبران إذا تعارضا وأحدهما قد أجمع على استعمال شيء منه فإنه يسقط ما لم يجمع على استعمال شيء منه، وقد أجمع في خبرنا على استعمال ترك الغسل؛ فسقط به خبرهم. وأيضا فإنا نستعمل خبرهم على أحد أمرين: إما على الصلاة التي هي الدعاء، أو على الصلاة المعروفة في غير المقتول في المعترك؛ بدليل خبرنا. فإن قيل: يستعمل أيضا خبركم فنقول: إن ما روى أنه لم يصل على قتلى أحد معناه: لم يتول ذلك بنفسه. قيل له: هذا لا يصح؛ لأنه لم يكن يتولى الصلاة على الجنائز في وقته صلى الله عليه وسلم أحد غيره؛ ألا ترى في قصة المسكينة أخبروني لأصلي عليها [ق/20]. فإن قيل: خبركم ناف وخبرنا مثبت؛ فالمثبت أولى من النافي. قلنا: إن النفي إذا ضامه إثبات كان كالإثبات المجرد الذي لا نفي معه. وأيضا فإن الترجيح معنا من وجهين. أحدهما: أن خبرنا ناقل، وذلك أن الأصل في الموتى أنه يصلى

عليهم، فإذا ورد خبر أنه لا يصلى عليهم فذلك ناقل، والناقل أولى من النافل. والوجه الآخر: أن راوينا شاهد الحال، وراويهم نعلم أنه لم يشاهد الحال؛ لأن إثبات الصلاة على الشهيد لم يروه إلا ابن عباس، وكان له يوم أحد سنتان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات وله تسع سنين، وكانت أحد قبل موته صلى الله عليه وسلم بسبع سنين؛ فعلم أنه لم يشهد الحال. فأما حديث عقبة بن عامر فالمراد به الدعاء؛ لأن الصلاة على الموتى بعد ثمان سنين لا تجوز، ولأن ذلك قد فسر في حديث آخر رواه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى قتلى أحد بعد ثمان سنين فسلم عليهم. وقولهم يتعلق بالموالاة ينتقض بالغسل؛ لأنه أيضا يتعلق بالموالاة، ومع ذلك فلا يفعل بالشهداء. فإن قالوا: الغسل لا يتعلق بالموالاة؛ لأن المسلم يغسل أباه الكافر. قيل له: لا يغسله عندنا؛ فسقط هذا. واعتبارهم بغير الشهيد باطل؛ لأنه ميت يلزم غسله وليس كذلك الشهيد. وقوله: ليس في قتله في المعترك أكثر من كونه شهيدا أو الشهادة. لا تمنع الصلاة. لا معنى له؛ لأنا لم نقل أنه لا يصلى عليه لمجرد كونه شهيدا فقط، لكن لكونه مقتولا في المعترك على نصرة أعلى الأمور منزلة وأعظمها قدر وخطرا- وهو التوحيد، لا لكونه شهيدا على الإطلاق؛

فسقط ما قالوه، وبالله التوفيق. فصل فأما إذا حمل فعاش بعد ذلك ثم مات فإنه يغسل ويصلى عليه؛ لأنه بمنزلة سائر الشهداء الذين عدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المبطون وصاحب الهدم وغيرهما. وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على عبيدة بن الحارث وكانت قطعت ساقه فبرئ منها فمات. فأما المطعون وسائر الشهداء فإنهم يغسلون ويصلى عليهم، وليسوا كالمقتول بين الصفين؛ لأن ذلك حرمة منهم لما بيناه. وقد قيل: أكثر الصحابة رضي الله عنهم شهداء فغسلوا وكفنوا وصلى عليهم؛ منهم عمر وعثمان وعلي رضوان الله عليهم. مسألة قال رحمه الله: ويصلى على قاتل نفسه، ويصلى على من قتله الإمام في حد أو قود، ولا يصلى [عليهم] الإمام. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لما رواه

ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله"؛ فعم ولم يخص. ولأن هذه الأفعال لا تخرجه عن أحكام المسلمين، ألا ترى أنهم يورثون ويدفنون في مقابر المسلمين فكذلك حكمهم في الصلاة عليهم. وإنما لم يصل الإمام على المقتول في حد أو قود؛ ليرتدع غيرهم عن مثل أفعالهم؛ إذ رأى الأئمة وأهل الفضل قد امتنعوا من الصلاة على من فعل فعله. ولأن الإمام كأنه خصم له؛ فوجب أن يصلى عليه غيره. وقد روى أبو [برزة] الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على ماعز ابن مالك، ولم ينه عن الصلاة عليه. وروى سماك [عن] جابر [بن] سمرة أ، رجلا مرض فصيح عليه. وفي الحديث: أن جارا له رآه قد نحر نفسه بمشقص معه، فانطلق

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إذا لا أصلي عليه". فأما إذا جلد الإمام رجلا في زنا أو شرب فمات من ذلك فإنه يصلى عليه؛ لأن الإمام لم يقتله، وإنما مات من مرض وهم ألم السياط. وغنما يمتنع الإمام من الصلاة على من قتله دون من فعل به، وربما أدى إلى القتل وربما لم يؤد إليه. مسألة قال- رحمه الله: ولا يتبع الميت بمجمرة. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتبعالميت بصوت ولا نار"؛ فكره التجمير عنده من أجل النار. مسألة قال- رحمه الله: والمشي أمام الجنازة أفضل. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: هذا قولنا وقول الشافعي- رحمه الله- وقال أبو حنيفة- رحمه الله: المشي خلف الجنازة

أفضل. والذي يدل على ما قلناه ما رواه سفيان بن عيينة عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر- رضوان الله عليهما- يمشون أمام الجنازة. ورواه مالك عن ابن شهاب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي أمام الجنازة، وأبو بكر، وعمر، وعبد الله بن عمر، والخلفاء إلى هلم جرا، رضوان الله عليهم. ولفظة (كان) تفيد المداومة والتكرار، ومعلوم أنهم لا يداومون إلا على أفضل الأعمال. فإن قيل: لا دلالة له فيما ذكرتم لأنه ليس فيه بيان موضع [ق/21] الفضيلة، ونحن لا ننكر إباحة المشي أمامها وإ، قلنا: إن المشي خلفها أفضل. قلنا: لا معنى لهذا الاعتراض، لأنا لم نستدل بمجرد فعله وإنما استدللنا بمداومته عليه، وقلنا: إنه لا يداوم على أفضل الأعمال؛ لأن ما يفعله ليدل به على الإباحة والتعليم إنا يفعله مرة في العمر. وأيضا فإنا قد علمنا من قصد الراوي أنه أراد أن يخبر عن عادتهم في المشي وما كانوا يداموا عليه.

فإن قيل: هذا [معارض] بما روى يونس عن الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمشي أما الجنائز وخلفها. قلنا: هذا لا يعارض خبرنا؛ لأن خبرنا يفيد فضيلة المشي أمامها لمداومته عليه، وخبركم ليس يفيد أن المشي خلفها أفضل وإنما يفيد تساويهما، وهذا المعنى ساقط بالاتفاق؛ لأن أحدا لا يساوي بينهما وإذا كان ما يقتضيه الخبر متروكا لم تقع به معارضة. فإن قيل: لفظة (كان) إنما تفيد الماضي دون المداومة والتكرار. قلنا: في مثل هذا الموضع تفيد التكرار والمداومة بالعرف؛ لأن القائل إذا قال: كان فلان يتصدق ويصوم ويقرى الضيف. لم يفهم منه أنه فعل ذلك مرة في عمره، بل فهم منه أنه يداوم على هذه الأفعال إلى أن مات، وإنما انقطع بموته. ويدل على ما قلناه أيضا ما رواه محمد بن المنكدر عن ربيعة بن عبد الله بن الهدير أنه أخبره أنه رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقدم الناس أما زينب بنت جحش رضوان الله عليها. فأما من جهة العبرة فقد ذكر فيه أشياء. أحدها: أن حامل الجنازة لما كان أفضل من الماشي معها بدلالة أن لحاملها أجرين وللماشي أجر واحد، ثم كان الحامل لها من قدام أفضل من

المؤخر؛ كان كذلك الماشي. وقيل أيضا: إن في مشي الناس أمامها إذنا بها؛ ليتأهب للصلاة عليها، وهذا معدوم في المشي خلفها؛ لأن الناس لا يعلمون ذلك إلا بعد جوازها فربما فتتهم أو ضاق عليهم التأهب للصلاة عليها. وقيل أيضا: إن الناس إذا تقدموا الجنازة سارت على حسب سيرهم؛ فلم يلحقهم تفاوت في المشي، وإذا ساروا خلفها ساروا بسيرها؛ فربما أبطأ الثقيل المشي عن اللحوق بها. وقيل أيضا: عن في تقدمهم ضربا من التسلية لأهل المصيبة؛ لأنهم لا يشاهدون الجنازة وحمل ميتهم، وفي كونهم خلفها تجديد المصيبة عليهم ولزومها لهم [كلما] شاهدوها ورأوها. واحتج من خالفنا بما رواه عبد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال أبو سعيد الخدري لعلى بن أبي طالب- عليه السلام: يا أبا الحسن أخبرني عن المشي مع الجنازة أي ذلك أفضل أمامها أم خلفها، فقال علي- عليه السلام: إن فضل المشي خلفها على المشي أمامها كفضل صلاة المكتوبة على التطوع. قال: يا أبا الحسن أبرأيك تقول أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجنازة متبوعة وليست بتابعة". قالوا: والمتبع للشيء هو التأخر عنه لا المتقدم أمامه. وروى عن علي رضي الله عنه أنه كان يمشي خلفها. وكان أبو بكر وعمر رضوان الله عليهما يمشيان قدامها. فقيل له في ذلك فقال: إنهما ليعلمان أن المشي خلفها أفضل، ولكنهما سهلان يسهلان على الناس. ولأن الجنازة إنما تتبع تعظيما للميت، والمشي خلفها أبلغ في التعظيم؛ فيجب أن يكون أولى وأفضل. ولأن المشي معها للصلاة عليها فإذا كان الوقوف للصلاة عليها خلفها كان كذلك المشي معها. ولأن المشي خلفها أبلغ في الموعظة ولتتذكر من المشي أمامها؛ لأنه يراها فيتجدد له برؤيتها الخشوع والاتعاظ فكان أفضل. فالجواب: أن ما رووه من حديث أبي سعيد قد قيل: لا أصل له، ومن أقرب ما يدل على ذلك أن الصحابة والأئمة رضي الله عنهم لو عملت صحته لم تكن لتخالفه وتعدل عنه، على أن خبرنا أولى؛ لأنه خبر عن مداومة فعله صلى الله عليه وسلم. وقوله: الجنازة [متبوعة] وليست بتابعة. لا دلالة فيه؛ لأنه ليس معنى اتباعه لها أن يكون خلفها؛ لأن المتبع قد يكون أما المتبع وخلفه على حسب العادة في ذلك.

وما رووه عن علي في [باب] أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فالأقرب أنه يكون باطلا؛ لأنه يوجب أنهما تركا الأفضل لا لمعنى يقتضي تركه؛ لأنه ليس في المشي خلفها تثقيل على الناس ولا مشقة [ق/22] حتى يدعاه إلى ما هو أقل ثوابا منه، وعلى أن قد روينا عن عمر رضوان الله عليه خلاف ذلك، وأنه كان يحث الناس على المشي أمام الجنازة فلا ينتقل عن هذا الظاهر بظن عليهم أن مذهبهم خلافه. وقولهم- المشي خلفها أبلغ في التعظيم- دعوى لا حجة معها؛ لأن المشي أمام الشيء المتبرع قد يكون أبلغ في تعظيمه وذلك على حسب ما جربت به عادة الناس في وجوه ما يتعاطونه من التعظيم، وما مضى عليه من وهم، وليس المرجع في هذا إلى المذاهب واعتبارهم المشي بالوقوف للصلاة باطل؛ لأن ذلك من شروط الصحة، وما تنازعناه فطريقه الفضيلة. وقولهم: إن المشي خلفها عظة وتذكار. فبإزائه أن في المشي أمامها تسلية وتخفيفا عن أهل الميت، والموعظة مع ذلك لازمة غير مزايلين لها، والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: ويجعل الميت في قبره على شقه الأيمن، وينصب عليه اللبن. قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لما

رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أشرف المجالس ما استقبل به القبلة". وقد روينا عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم والتابعين أنهم أوصوا أن يفعل ذلك بهم حال النزع وحال الدفن. فإن لم يتمكن من ذلك فعلى ظهره مستقبل القبلة بوجهه. فإن لم يمكن فعلى حسب الإمكان. وقوله: ينصب عليه اللبن؛ فلأن ذلك هو بعد استقرار دفنه، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحد لابنه إبراهيم، ونصب اللبن على لحده. مسألة قال رحمه الله: ويقول حينئذ: اللهم إن صاحبنا نزل بك، وخلف الدنيا وراء ظهره، وافتقر إلى ما عندك؛ اللهم ثبت عند المسألة منطقه، ولا [تبتليه] في قبره بما لا طاقة له به، [محمد صلى الله عليه وسلم] وألحقه بنبيه. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لأن ذلك الوقت أحوج ما يكون إلى [الدعاء] ليصحبه عند نزوله إلى قبره؛ فلذلك استحب. ومهما قاله من الدعاء جاز، ويستحب ما ذكره؛ لأنه أشبه، وروى عن السلف رضي الله عنهم مثله وما في معناه.

مسألة قال رحمه الله: ويكره البناء على القبور وتجصيصها. قل القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: هذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تجصيص لقبور. وروى ذلك أيوب عن أبي الزبير عن جابر- رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر، وأن يجصص، وأن يبنى عليه. وروى أن ابنا لزيد بن أرقم مات فجاء غلامه بجص وآجر لتجصيص قبره ويبنيه. فقال زيد: لا يقربه شيئا مسته النار. مسألة قال رحمه الله: ولا يغسل المسلم أباه الكافر، ولا يدخله قبره إلا أن يخاف أن يضيع فليواره. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لأن الغسل تابع للصلاة فلما لم يصل عليه لقطع الولاية بينهما فيجب لذلك ألا يغسله، ولأن الغسل إنما جعل للمسلم طهارة له، والكافر ليس من أهل الطهارة فلم يغسل. وروى أن عليا- عليه السلام- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أن أباه أمت فقال: "اذهب فواره"، ولم يأمره بغسله.

وقد روى بعضهم أنه أمره بغسله. وليس له أصل. فأما إذا خاف أن يضيع فإنه يواريه؛ لأنه إنما يتركه إذا ناب عنه غيره فيه، فإذا لم يكن له من يكفيه ذلك تعين عليه القيام بأمر مواراته. مسألة قال رحمه الله: واللحد أحب إلى أهل العلم من الشق؛ وهو أن يحفر للميت تحت الجرف حائط قبله القبر، وذلك إن كانت تربة صلبة لا تتهيل وتنقطع، وكذلك فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللحد لنا، والشق لغيرنا". وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحد لابنه إبراهيم عليه السلام، ونصب اللبن على لحده. وهذا إذا كانت أرضا تحتمل ذلك، فأما إذا كانت رخوة يخاف أن تتهيل وتنقطع جاز الاقتصار على الشوق للعذر، والله أعلم.

باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت

باب في الصلاة على الجنائز والدعاء للميت مسألة قال رحمه الله: والتكبير على الجنازة أربع تكبيرات. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا قولنا وقول كافة فقهاء الأمصار. وروى عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وابن مسعود وأنس وابن عمر وابن عباس، وابن أبي أوى، وأبي هريرة، وعمير بن سعيد، وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وحكى عن [عبد الرحمن] بن أبي ليلى أن التكبير [ق/23] على الميت خمس، وإليه ذهب الشيعة. وعن بعض المتقدمين أنه ثلاث، وعن آخرين أن أقله ثلاث وأكثره سبع. والدليل على ما قلناه السنة والإجماع. فأما السنة: فروى مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى

المصلى فصفهم، وكبر عليه [أربع] تكبيرات. وروى مالك عن أبي أمامة بن سهل، ووصله غير مالك عن أبيه سهل ابن حنيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على مسكينة، فكبر أربعا. وروى أحمد بن حنبل عن هشيم عن عثمان بن حكيم الأنصاري عن خارجة بن زيد بن ثابت [عن يزيد بن ثابت] قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما أوردنا البقيع فصفنا خلفه فكبر أربعا. وروى سعيد بن عبد الرحمن بن أبزي عن أمه قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة فكبر عليها أربعا. ورواه ابن عباس وجابر وغيرهم. وروى ابن وهب وابن عبد الحكم جميعا عن ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: صلوا على الميت أربع تكبيرات في الليل والنهار سواء. وروى بعض من وافقنا عن ابن عباس وابن أبي أوفى أنهما قالا: آخر

ما كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجنازة أربعا. وهذا ينسخ كل ما تقدمه مما يخالفه. هذا من السنة. وأما الإجماع: فما روى عامر بن شقيق عن أي وائل قال: جمع عمر رضي الله عنه، الناس فاستشارهم في التكبير على الجنازة؛ فقال بعضهم. كبر النبي صلى الله عليه وسلم سبعا، وقال بعضهم: خمسا، وقال بعضهم: أربعا. فحملهم عمر- رضوان الله عليهم- على أربع كأطول الصلاة. وفي حديث آخر أنه قال: [انظروا] أمرا نجتمع عليه، فاجتمعوا على هذا. وروى الأعمش عن إبراهيم قال: سئل عبد الله عن ذلك فقال: كل ذلك قد صنع، ورأيت الناس قد اجتمعوا على أربع. وفي هذا أشياء: أحدها: أنه توقيف على الإجماع وأخبار ثبوته. والثاني: أن ما روي مما يخالف هذا إنما كان قبل الإجماع. وأما الاعتبار: فقال أصحابنا: لأن التكبير على الجنازة جعل بإزاء عدد ركعات الصلاة، فلما كان أكثر ذلك أربعا كان التكبير على الجنازة مثلها. وهذا متى سئلنا عن دلالته لم يكن لنا طريق إليه إلا ما رويناه عن عمر

-رضوان الله عليه- أنه جعله أربعا كأطول الصلاة، وذلك بمحضر الصحابة رضي الله عنهم فلم ينكر أحد عليه؛ فيعود الأمر إلى الإجماع الذي قلناه. واستدل من خالفنا بما رواه شعبة عن [عمرو] بن مرة عن ابن أبي ليلى قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا، وغنه كبر على جنازة خمسا، فسألته فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها. وروى عن علي- رضوان الله عليه- أنه كبر على سهل بن حنيف خمسا. ولأن حكم جملة الصلاة على الجناة حكم الركعة الواحدة؛ فوجب أن يكون فيها من عدد التكبير مثل ما في الركعة. ولأن الأخبار لما اختلفت وجب الأخذ بأزيدها. فالجواب أن ما رووه عن زيد بن أرقم لا تعلق فيه من وجهين: أحدهما: أنا قد روينا أن آخر فعله صلى الله عليه وسلم كان الاقتصار على أربع، وهذا ينسخ المتقدم. والآخر: هو أنه إذا روى أمران وتقرر الإجماع على أحدهما كان ما استقر الإجماع عليه مسقطا لما عداه. وقد بينا الإجماع على ما قلناه. وما رووه عن علي- رضوان الله عليه- فقد روينا عنه خلافه، وأنه صلى على يزيد بن المكفف فكبر عليه أربعا؛ فتعارضت الروايتان؛

فسقطتا. وعلى أن ما رووه مقدم، وما رويناه هو المتأخر؛ لما روي عن عبد خير أنه قال: (قبض علي- رضوان الله عليه- وهو يكبر أربعا) فكان هذا ناسخا لما قبله. وعلى أنه لو لم يثبت عنه رجوعه لكان غيره من الصحابة بإزائه في الخلاف؛ فيجب النظر. وقولهم: إن حكم حمله الصلاة على الجنازة حكم الركعة الواحدة باطل؛ لأنه دعوى لا دليل عليها بل حكمها حكم عدد ركعات أطول الصلوات، وهذا الاعتبار أولى؛ لأنه اعتبار الصحابة رضي الله عنهم على ما بيناه. وقولهم: إن الأخذ بأزيد الأخبار أولى. فهذا إذا لم يكن منسوخا، ولا في مقابلته إجماع، والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: يرفع يديه في أولهن، وإن رفع في كل تكبير فلا بأس. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: قد اختلف قول مالك في ذلك؛ فروى ابن عبد الحكم عنه أنه استحسن أن ترفع الأيدي في الصلاة على الجنائز. قال ابن القاسم: وصليت معه على جنازة فلم أره رفع يديه لا في تكبيرة الإحرام، ولا في ما عداها.

وروي عنه أن اليدين ترفع في تكبيرة الإحرام دون ما سواها. فوجه قوله: "أنها ترفع في كل التكبيرات". ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ق/24] كان يرفع يديه في كل تكبيرة، ولأنها تكبيرة في القيام؛ فأشبهت تكبيرة الإحرام، ولأنها تكبيرة متوالية؛ فأشبهت تكبيرات العيد. ووجه قوله: "أنه لا يرفع يديه أصلا". قوله صلى الله عليه وسلم: "كفوا أيديكم في الصلاة"، وقوله في حديث ابن عباس: "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن"، ولم يذكر تكبيرات الجنازة. ولأنها تكبيرات في صلاة لا ركوع فيها؛ فأشبهت التكبير في سجود التلاوة. ووجه قوله: "أنه يرفعهما في تكبيرة الإحرام دون ما سواها". هو أنها صلاة شرعية تشتمل على تكبيرة الإحرام وغيرها من التكبيرات؛ فكان المستحب رفع اليد مع تكبيرة الإحرام، وترك ذلك فيما بعدها، واعتبارا بسائر الصلوات. مسألة قال رحمه الله: وغن شاء دعا بعد الأربع ثم [يسلم] وإن شاء

سلم بعد الرابعة مكانه. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لأن القيام كله موضع للدعاء في صلاة الجنازة، فإن شاء دعا بعد الرابعة، وإن شاء سلم ولم يدع؛ لأنه قد دعا [فيما] تقدم. مسألة قال رحمه الله: ويقف الإمام في الرجل عند وسطه، وفي المرأة عند منكبيها. [وهذا على جهة الاستحباب، فلو عكس صحت الصلاة]. قال القاضي أبو محمد- رحمه الله: وهذا لأن ذلك مروي عن جماعة من الصحابة والسلف رضي الله عنهم؛ فاستحب الاقتداء بهم فيه. وقد رويت فيه أخبار مرفوعة مختلفة بهذا وغيره، إلا أن المستحب ما ذكرناه. مسألة قال رحمه الله: والسلام من الصلاة على الجنائز تسليمة واحدة خفيفة للإمام والمأموم. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: قوله: "إنها واحدة" فلأنها تحليل من الصلاة؛ فأشبهت سائر الصلوات. وأما استحباب إخفائها فكذلك روى عن الصحابة رضي الله عنهم،

وروي أن عليا- رضي الله عنه- صلى على يزيد بن المكفف بتسليمة خفيفة، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وابن أبي أوفى، وخلق كثير من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين. مسألة قال رحمه الله: وفي صلاة على الميت قيراط من الأجر، وقيراط في حضور دفنه، وذلك في التمثيل مثل جبل أحد ثوابا. قال القاضي أبو محمد بعد الوهاب- رحمه الله: روى ذلك أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اتبع جنازة فصلى عليها فله قيراط، ومن تبعها حتى يفرغ منها فله قيراطان؛ أصغرهما مثل أحد، أو أحدهما مثل أحد". ولا خلاف أن وقت استحقاق القيراط الأول هو الفراغ من الصلاة. وأما وقت استحقاق القيراط الثاني فيجب أن يكون بالفراغ من الدفن وما يتبعه من صب الماء وغير ذلك. ولأصحاب الشافعي في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يستحق بوضع الميت في اللحد. والثاني: أنه يستحق بدفنه، وضم التراب عليه. والثالث: أنه يستحق بالفراغ [الكلي] منه ومن أموره. والدلالة على ما قلناه قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن تبعها حتى تدفن فله

قيراطان"، وظاهر هذا يقتضي الفراغ من الدفن وتوابعه، والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: ويقال في الدعاء على الميت [محدود] غير شيء وذلك كله واسع، ومن مستحسن ما قيل في ذلك أن يكبر ثم يقول: الحمد لله الذي أمات وأحيا، والحمد لله الذي يحيى الموتى، له العظمة والكبرياء والملك والقدرة والثناء، وهو على كل شيء قدير. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كلما صليت ورحمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم إنه عبدك وابن عبدك وابن أمتك أنت خلقته ورزقته وأنت أمته وأنت تحييه، وأنت أعلم بسره وعلانيته، [جئنا] شفعاء له فشفعنا فيه. اللهم إنا نستجير بحبل جوارك له؛ إنك ذو وفاء وذمة. اللهم قه [من]، فتنة القبر ومن عذاب جهنم. اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله وزوجا خيرا من زوجه. اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز [عن سيئاته]. اللهم إنه قد نزل بك وأنت خير منزول به فقير إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه. اللهم ثبت عند المسألة منطقه، ولا [تبتليه] في قبره بما

لا طاقة له به. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. نقول هذا بإثر كل تكبيرة، [ونقول] بعد الرابعة: اللهم اغفر لحينا، وميتنا [وحاضرنا]، وغائبنا، وصغيرنا، وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا إنك تعلم متقلبنا ومثوانا، ولوالدينا، ولمن سبقنا بالإيمان، وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات. اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، وأسعدنا بلقائك، وطيبنا للموت واجعل فيه راحتنا [ومسرتنا]. ثم يسلم. وإن كانت امرأة قلت: اللهم إنها أمتك ... ثم [يتمادى] بذكرها على التأنيث، غير إنك لا [تقل]: وأبدلها زوجا خيرا من زوجها؛ لأنها قد تكون زوجة [في الجنة] لزوجها في الدنيا، ونساء الجنة مقصورات على أزواجهن لا يبقين بهم بدلا. والرجل يكون له زوجات كثيرة [ق/25] في الجنة، ولا يكون للمرأة أزواج. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أما سقوط التوقيف في الدعاء فلأن الأدعية المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله

عنهم في ذلك مختلفة، ولم يرد توقيف على شيء منها معين، بل ورد الأمر بالدعاء والإخلاص فيه مطلقا؛ قروى أبو سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء"، وإذا كان الأمر كذلك وجب أ، يكون أي ذلك فعل حسنا. والأدعية المروية في هذا هي التي ذكرها صاحب الكتاب ونحوها. ونحن نذكر جملة منها إن شاء الله، فروى الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال: "اللهم أغفر لحينا وميتنا وصغيرنا وكبيرنا وكذلك وأنثانا وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإيمان، ومن توفيته منا فتوفه على الإسلام، اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده". وروى علي بن شماخ قال: شهدت مروان سأل أبا هريرة كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على الجنازة؟ فقال أبو هريرة: اللهم أنت ربها، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بشرها وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر لها. وروى حبيب بن عبيد عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك قال:

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، صلى على ميت فقال: "اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله وزوجا خير من زوجه، وأدخله الجنة، ونجه من النار، وقه عذاب القبر". وروى هشام بن عروة عن أبية عن عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الصلاة على الميت: "اللهم اغفر له، وصلى الله وبارك له، وأورده حوض نبيك". وروى الوليد بن مسلم عن مروان بن جناح قال: سمعت يونس بن مسيرة قال: سمعت واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في صلاته على رجل: "اللهم إن فلانا في ذمتك وحبل جوارك فقه من فتنة القبر وعذاب النار؛ إنك أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه إنك أنت الغفور الرحيم". هذا بعض ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأما ما روي عن الصحابة رضي الله عنهم: فروى أن أبا بكر الصديق- رضوان الله عليه- كان إذا صلى على جنازة قال: (اللهم عبدك أسلمه الأهل والمال والعشيرة، والذنب عظيمي [وأنت] غفور رحيم).

وروى سعيد بن المسيب قال: كان عمر- رضوان الله عليه- يقول في الصلاة عليه إن كان مساء: أمسى عبدك، وإن كان صالحا: أصبح عبدك قد تخلى من الدنيا وتركها لأهلها، واستغنيت عنه وافتقر إليك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك صلى الله عليه وسلم فاغفر له ذنبه. وروى أبو الأحوص عن منصور عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى قال: كان علي- رضوان الله عليه- يقول في الصلاة على الميت: اللهم اغفر لأحيائنا وأمواتنا، وألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيتنا، واجعل قلوبنا على قلب خيارنا، اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، اللهم ارجعه إلى خير ما كان عليه. وروى عن مالك عن سعيد المقبري أنه سأل أبا هريرة كيف يصلي على الجنازة؟ فقال: أنا- لعمر الله- أخبرك؛ أتبعها من أهلها، فإذا وضعت كبرت، وحمدت الله جل وعز، وصليت على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم أقول: اللهم عبدك وابن عبدك وابن أمتك، كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه. اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده. وروي ذلك عن عبد الله لن أبي أوفى وغيره، والألفاظ تتقارب. وإنما لم نقل في المرأة: وأبدلها زوجا خير امن زوجها؛ لما ذكر من أن نساء الجنة مقصورات على أزواجهن، والرجل تكون له زوجات كثيرة، وقوله: إنه يسوق لفظ الدعاء لها على التأنيث؛ فلأن الخبر بذلك ورد،

وقد ذكرناه، ولأنه لما كانت الإشارة بالدعاء إليها وجب أن يكون بكنايتها كما كان الدعاء للرجل بكنايته. وبالله التوفيق. مسألة وقد ذكرناه، ولأنه لما كانت الإشارة بالدعاء إليها وجب أن يكون بكنايتها كما كان الدعاء للرجل بكنايته. وبالله التوفيق. مسألة قال رحمه الله: ولا بأس أن [يجمع] بين الجنائز في صلاة واحدة، ويلي الإمام الرجال إن كان فيهم نساء، وإن كانوا رجالا جعل أفضلهم مما يلي الإمام، وجعل من دونه أو الصبيان والنساء من وراء ذلك [إلى القبلة] ولا بأس أن يجعلوا صفا واحدا ويقرب الإمام أفضلهم. قال القاضي- رحمه الله: أما جواز الجمع بين الجنائز في صلاة واحدة فلأنه لا فضل بين ذلك وبين أفراد كل واحدة بالصلاة؛ لأن سائر الشروط التي تفعل في الإنفراد في الصلاة تفعل في حال الاجتماع؛ وقد روي عن [ق/26] جماعة من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين أنهم جمعوا بين جماعة جنائز في صلاة واحدة. فأما استحبابه أن يلي الإمام الرجال ثم الصبيان ثم النساء إلى القبلة، فهذا قولنا وقول كافة الفقهاء. وحكى عن الحسن البصري أن الرجل يجعل مما يلي القبلة والمرأة مما يلي الإمام. قال: لأن من سنة الرجال أن يقرب من القبلة؛ ألا ترى أن الرجال والنساء إذا اجتمعوا خلف الإمام جعل الرجال مما يلي الإمام لقربهم من

القبلة، والنساء أبعد؟ والدلالة على ما قلناه الإجماع والنظر. فأما الإجماع: فما روي عن عثمان- رضي الله عنه- وعمار أنهما كانا يجعلان الرجل مما يلي الإمام. وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي- رضوان الله عليه- وابن عمر وأبي هريرة أنهم كانوا يجعلون الرجل مما يلي الإمام. وروى سفيان الثوري عن عثمان بن وهب قال: شهدت ابن عمر وأبا هريرة صليا في جنازة رجل وامرأة، فجعل الرجل مما يلي الإمام. وروى ابن وهب عن أسامة بن زيد عن نافع مولى ابن عمر قال: وضعت جنازة أم كلثوم وابنها زيد والإمام سعيد بن العاص- فوضع الغلام مما يلي الإمام، وفي الناس ابن عباش وأبو هريرة وأبو سعيد وأبو قتادة؛ فقالوا: هي السنة وروى إسماعيل بن عياس عن عمر بن مهاجر قال: صليت مع واثلة بن الأسقع على ستين جنازة من الطاعون فجعل صف الرجال مما يلي الإمام. هذا ما روي عن الصحابة رضي الله عنهم، ولا مخالف لهم. وروى أبو الزناد عن المشيخة السبعة وغيرهم من نظرائهم أنهم كانوا يقولون: يقدم النساء إلى القبلة، ويجعل الرجال مما يلي الإمام.

وروى ابن وهب عن القاسم وسالم وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم مثله. وأما من وجهة النظر: فلأن كون النساء أبعد من الرجال أستر لهن، وهذا أمر معتبر في النساء؛ فوجب أن يكون ذلك هو السنة فيهن. ولأنه لا خلاف أن الحال التي تلي الإمام أشرف وأفضل؛ فيجب أن يكون الرجال أولى بها من النساء؛ لفضيلتهم عليهن. ولأن الرجال والنساء إذا اجتمعوا في الصلاة خلف الإمام كان الرجال أولى مما يلي الإمام؛ كذلك إذا اجتمعوا للصلاة عليهم. وبهذا ينتظم الجواب عما قالوه، والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: وأما [في] دفن الجماعة في قبر واحد فيجعل أفضلهم مما يلي القبلة. قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لما روي جابر- رحمه الله- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ويسأل أيهما كان أكثر أخذا للقرآن فيقدمه في اللحد. ولأنه لما كان القرب من القبلة أشرف وجب أن يكون من هو أفضل أولى به كما أنه كان في الصلاة القرب من الإمام أشرف كان أفضلهم أقرب إليه.

مسألة قال رحمه الله: ومن دفن [و] ووري ولم يصل عليه فإنه يصلى على قبره. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: هذا لأنه لا يجوز أن يدفن بغير صلاة، ولا يجوز نبشه بعد دفنه، فإذا فاتت الصلاة عليه بدفنه صلى على قبره؛ لأن هذا حكم من لم يسقط الفرض بالصلاة عليه حتى يدفن. والأصل في ذلك ما روي في حديث المسكينة التي ماتت، وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعلامه بها، فخرجوا بها ليلا وكرهوا أن يوقظوه، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم صف بالناس على قبرها، وكبر أربع تكبيرات. أرسل هذا الحديث مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل. ووصله غيره عن أبيه سعل بن حنيف. وقد ذكرناه. فيما تقدم.

مسألة قال رحمه الله: ولا يصلى على من قد صلي عليه. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: هذا قولنا وقول أهل العراق. وقال الشافعي: تعاد الصلاة على الميت قبل الدفن وبعده. والدلالة على ما قلناه: أن الصلاة على الميت من فروض الكفايات؛ فإذا قام بها البعض سقط عن الباقين، وإذا ثبت ذلك سقط الفرض بهذه الصلاة؛ فكان ما بعدها نفلا، والنفل غير جائز على الميت. وأيضا: فإن الميت إذا غسل غسلا واحدا لم يغسل ثانية؛ فكذلك الصلاة؛ لأن كل واحد منهما حكم وجب فيه بالموت، ولا يلزم عليه التكفين إذا كفن في ثوب أنه يكفن في ثان؛ لأن ذلك كله كفت واحد. ونفرض الكلام في أنه لا يصلى على القبر، والدلالة على ذلك أنه لو جاز ذلك لكان أولى من فعل به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن في الصلاة عليه من الفضل والبركة ما ليس في الصلاة على غيره، وفي ترك المسلمين الصلاة على قبره دلالة على منع ذلك. وأيضا فلو لم يكن دفن الميت مانعا من الصلاة عليه لم يكن لذلك غاية ينقطع إليها؛ لأنه ليس بعض الأوقات في ذلك بأولى من بعض.

واحتج من خالفنا بأن الناس صلوا على رسول [ق/ 27] الله صلى الله عليه وسلم أفواجا؛ فدل ذلك على جواز إعادة الصلاة على الميت. وما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على قبر امرأة مسكينة. ولأنه قول عمر وعلي رضوان الله عليهما، وأبي موسى وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، ولا مخالف لهم. ولكن من جاز أن يصلى على الميت قبل دفنه، فإذا لم يصل جاز أن يصلى عليه بعد الدفن. أصله إذا صلى عليه غير الولي. فالجواب: أن ما ذكروه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لا حجة لهم فيه؛ لأن كل واحد كان مسقطا للفرض عن نفسه؛ لأن الصلاة عليه كانت واجبة على كافتهم. ولأن خلافنا في الموضع الذي يتعلق به حكم الولاية، وهذا غير موجود في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن في الصلاة عليه ولاية. وما رووه من صلاته صلى الله عليه وسلم على القبر لا دلالة فيه؛ لأنه مخصوص بذلك لعلة لا توجد في غيره؛ وهو قوله: "إن هذه القبور مملوءة ظلما حتى أصلي عليها"، وهذا معلوم في غيره صلى الله عليه وسلم. وأيضا: فإنه ما دام موجودا متمكنا من الصلاة فالفرض لا يسقط بصلاة غيره.

وما رووه عن الصحابة رضي الله عنهم فينظر فيه ولا يسلم ما قالوه من أنه لا مخالف فيه. فأما إذا صلى عليه غير الولي، فإن قلنا: إن الصلاة لا تعاد فسقط السؤال. وإن قلنا: إنها تعاد؛ فلأن الغرض لا يسقط إلا بقيام من له الحق، وهذا الموضع الحق فيه للأولياء؛ فلا يسقط بقيام غيرهم. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: ويصلى على أكثر الجسد، واختلف في الصلاة على مثل اليد والرجل. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: لا خلاف في أنه يصلى على أكثر الجسد؛ لأن حكم الأكثر حكم الجميع، وإنما الخلاف في العضو الواحد كالأصبع واليد والرجل. فعندنا وعند أبي حنيفة لا يصلى عليه. وعند الشافعي أنه يصلى عليه. قال عبد العزيز بن أبي سلمة: يصلى على ما وجد منه، وينوى بذلك الميت قليلا كان الموجود أو كثيرا. واستدل من نصر ذلك بأنه قال: إجماع الصحابة رضي الله عنهم لما روى أن طائرا ألقى يدا في وقعة الجمل فعرفت بالخاتم فصلى الناس عليه- قيل: كان أصبع طلحة- رضوان الله عليه، وقيل: عتاب بن أسيد رضي الله عنه، وذلك بمحضر الصحابة رضي الله عنهم والمهاجرين فلم ينكر أحد منهم ذلك. وروى أن أبا عبيدة بن الجراح- رضوان الله عليه- صلى على رؤوس

بالشام، وعمر- رضوان الله عليه- صلى على عظام بالشام. قالوا: ولأنه بعض من خلقة الأصل من جملة يصلي عليها؛ فوجب أن يصلي عليه اعتبارا بأكثر البدن. قالوا: ولأن حرمة الجزء القليل كحرمة الجزء الكثير؛ ألا ترى أنه ممنوع من إتلاف القليل كما هو ممنوع من إتلاف الكثير. والدلالة على ما قلناه: أن هذه المسألة مبنية على أن الصلاة على الميت لا تعاد، وإذا صح هذا كنا لو قلنا إن اليد والرجل يصلى عليها قائلين بما منعنا منه لا به إذا وجد باقي أعيدت الصلاة. وأيضا: فلأنه جزء من البدن يسير؛ فوجب ألا يصلى عليه بانفراده. أصله: السن والظفر والشعر. فإن قيل: يصلى على هذا عندنا. قيل له: لا يحفظ هذا عن أحد؛ فهو خرق الإجماع. فإن قيل: المعني في الأصل أنه ليس بخلقة الأصل، وليس كذلك هذا؛ لأنه من خلقة الأصل. قيل له: هذا لا يؤثر في منع الصلاة عليه؛ ألا ترى أنه يصلى عليه إذا كان مع أكثر البدن وإن لم يكن خلقة الأصل؟ فأما دعواهم الإجماع فباطل؛ لأنه قد روي عن ابن عباس أنه قال:

(لا يصلى على عضو من الميت)؛ فسقط ما قالوه، على أنه لم يذكر أن الذين صلوا على اليد التي ألقاها الطائر من الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن المدينة إذ ذاك خالية من الصحابة رضي الله عنهم بتفرقهم مع علي ومعاوية، والأقرب أن يكون الذين صلوا عليه من غير الصحابة؛ فلا يكون فعلهم حجة. فأما أذا وجد أكثر البدن، فإنه إذا صلى عليه لم يؤد ذلك إلى الصلاة على الميت مرتين، وليس كذلك في الجزء اليسير. وأيضا: فلأن اعتبار الأكثر بالأقل لا يصح؛ لأن حكم الأكثر حكم الجملة في غالب الأصول، وقياسهم على ذلك ينتقض بالسن والظفر. والله أعلم.

باب في الدعاء للطفل [وغسله] والصلاة عليه

باب في الدعاء للطفل [وغسله] والصلاة عليه مسألة قال رحمه الله: تثني على الله تبارك وتعالى، وتصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم تقول ... إلى آخر الفصل. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: قد ذكرنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم في الدعاء في الصلاة على الجنازة في الجملة، وقد دخل هذا في جملة ما رويناه عنهم، وذلك مغن عن إعادته. فأما ذكره الاستعاذة من فتنة القبر فكذلك روي عن الصحابة رضي الله عنهم. وروى مالك بن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: صليت [ق/28] وراء أبي هريرة على صبي لم يعمل خطيئة قط. قال: سمعته يقول: اللهم وأعذه من عذاب القبر. مسألة قال رحمه الله: ولا يصلى على من لم يستهل صارخا، ولا يرث، ولا يورث.

قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا يخالفنا فيه أبو حنيفة والشافعي؛ لأن من مذهبهما أنه إذا تحرك ثم مات صلى عليه، وعندنا أنه لا يصلى عليه إذا لم يكن غير الحركة. والأصل في هذا أنه إنما يصلى على من كان حيا ثم مات؛ بدلالة أنها لو وضعته ميتا لم يصل عليه، وإذا صح هذا فدلالة حياته الصراخ أو ما يقوم مقامه؛ لأن الذي لا روح فيه لا يصيح ولا يستهل، وإذا فقدت دلالة الحياة لم تجز الصلاة عليه، والحركة لا تدل على حياته؛ لأنها قد كانت موجودة فيه حال كونه في بطن أمه، ولا اعتبار بها. وأيضا ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان؛ فيستهل صارخا من نخسه إلا ابن مريم وأمه صلى الله عليهما". وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل إنسان تلده أمه بلكزه الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها صلى الله عليهما". ألا ترى أن الصبي إذا سقط من أمه كيف يصيح فذلك حين يلكزه الشيطان. وروى سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد عن جابر بن عبد الله- رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث الصبي حتى يستهل".

والاستهلال الصياح والبكاء. وروى عقيل عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استهل المولود صارخا صلى عليه، ووجب ميراثه، ووجبت ديته". وروى حماد بن سلمة عن أيوب عن نافع أن ابن عمر قال: (إذا تم خلق الصبي وصاح صلى عليه، وورث). مسألة قال رحمه الله: ويكره أن يدفن السقط في الدور. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لأنه من جملة موتى المسلمين؛ فوجب أن يدفن في مقابر المسلمين. ولأن حرمته ثابتة- وإن ولد ميتا- فكان كسائر الأموات. مسألة قال رحمه الله: ولا بأس أن يغسل النساء الصبي الصغير ابن ست سنين [و] سبع. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: لأنه يجوز لهن أن ينظرن إلى بدنه؛ لقوله تعالى: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء}؛ فلذلك جاز له غسله. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: ولا يغسل [الرجل] الصبية. واختلف [فيها] إن كانت [ممن] لم تبلغ أن تشتهي. والأول أحب إلينا. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: أما إن كانت ممن تشتهى فلا يجوز للرجال أن يغسلوها؛ لأنهم ممنوعون من لمسها والنظر إليها للذة؛ فكان حكمها حكم النساء البوالغ. وإذا كانت ممن لا يشتهى مثلها- مثل ابنة ثلاث سنين وما قارب ذلك- فالأولى أن يجوز لهم غسلها كما جاز غسل ابن ثلاث سنين وأربع. والله أعلم.

كتاب الصيام

كتاب الصيام قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: الأصل في الصيام الكتاب والسنة وإجماع الأمة؛ أما الكتاب: فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم}؛ يعني: فرض واجب عليكم كما وجب على من كان قبلكم، فهذه الآية تدل على وجوب الصيام في الجملة من غير تعيين. ثم فسر الصيام الواجب في الآية الأخرى بقوله تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ...} إلى قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ...} فأمر بصيام شهر رمضان، وألزم من كان حاضرا صومه، ورخص للمسافر أن يفطره ويقضيه. وقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} إلى قوله: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} وهذا أمر؛ فهو على وجوبه. هذا من الكتاب. وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت،

وصيام شهر رمضان". وفي حديث الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، وأنه صلى الله عليه وسلم قال له: "وصيام شهر رمضان". قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع". وأما الإجماع: فمعلوم ضرورة من دين الأمة وجوب الصيام كما أنه معلوم ضرورة من دينها وجوب الصلاة. فصل فأم المعنى في اللغة فهو: الإمساك عن الطعام والشراب. ويقال لمن أمسك عن الكلام هو صائم، ومنه قوله تعالى: {إني نذرت للرحمن صوما}؛ أي: صمتا. ويقال: صام النهار، إذا وقفت فيه الشمس، وصامت الخيل، إذا وقفت عن السير والحركة، ومنه قول الشاعر: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما قال القاضي رحمه الله: وذكر أهل اللغة أن الصائم يسمى سائحا؛ لتركه الطعام والشراب. قالوا وهو تأويل قوله تعالى: {السائحون الراكعون

الساجدون} يريد بقوله [ق/ 29] (السائحون) أي: الصائمون. وقوله: {عابدات سائحات} يريد: صائمات. وقال أبو طالب: وبالسائحين لا يذوقون نظرة لربهم ... والراتكات العوامل يريد الصائمين. قالوا: وأصل السائح هو الذاهب في الأرض، الممتنع من الشهوات؛ فشبه الصائم به لامتناعه عن المطعم والمشرب. فإذا تقرر هذا الصوم في عرف [الشرع] هو: الإمساك عن الطعام والشراب والجماع بنية في زمن مخصوص فإن لم تقارنه نية فليس بصوم في الشرع. وهذه جملة كافية في هذا الفصل. مسألة قال رحمه الله: وصوم شهر رمضان فريضة؛ يصام لرؤية الهلال، ويفطر لرؤيته- كان ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما- فإن غم الهلال فيعد ثلاثين يوما من غرة الذي قبله ثم يصام، وكذلك الفطر. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أما قوله: "أن صيام شهر رمضان فريضة". فلذلك لما ذكرناه من أدلة الكتاب والسنة وإجماع الأمة على وجوبه؛

فأغنى عن رده. وقوله: "يصام لرؤية الهلال، وتكمل العدة إن غم الهلال". فلقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج}. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين". ولا خلاف في وجوب الصوم بهذين الأمرين- أعني: الرؤية وإكمال العدة- لا يجب الصوم بغيرهما عندنا وعند من يعتمد عليه من أهل العلم. وحكي عن بعضهم أنه أوجب الصوم بقول أهل الحساب وعلم النجوم إذا قالوا إن غدا من الشهر وإن لم تتقدم رؤيا ولم تكمل عدة. وادعوا أن ذلك معني يجب به الصوم كالرؤية. وقد ذكرت لهم شبه ذلك فمنها أنهم تعلقوا بقوله تعالى: {وبالنجم هم يهتدون}؛ فأخبر أن الهداية تحصل لنا بالنجوم، ولم يخص شيئا دون شيء؛ فكان ذلك عاما في كل شيء إلا ما قام عليه الدليل. قالوا: بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن غم عليكم فاقدروا له"؛ وذلك هو الاطلاع عليه في الحساب. والدلالة على ما قلناه ما رواه أبو داود قال: حدثنا محمد بن الصباح

قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن [حراش] عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا الشهر حيى تروا الهلال، [أو] تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة"؛ فنص على اعتبار الرؤية والعدد؛ فلم يجز اعتبار ما عداهما. وروى مالك عن ثور بن زيد الديلي عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين"؛ فأمر بالصوم للرؤية، ومع عدمها بإكمال العدة، فسقط اعتبار ما عدا ذلك. وروى [زائدة] بن [حوالة] عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين إلا أن يكون شيء يصومه أحدكم، لا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمام فأكملوا العدة ثلاثين ثم أفطروا".

فأما الآية فمعناها أن النجوم يستدل بها على جهات الطرق والقبلة، فأما الصوم ومعرفة أوقاته فلا مدخل لذلك فيه، ويقوي هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "من صدق كاهنا أو عرافا أو منجما فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" وهذا ينفي الرجوع إليهم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا له" فمعناه: إكمال العدد؛ لأنه قد فسر في الخبر الآخر، وإذا كان كذلك بطل ما قالوه، والله أعلم. فصل فأما قوله: كان ثلاثين يوما أو تسعة وعشرين يوما؛ فلأن الشهر يختلف عدده بالزيادة والنقصان؛ فيكون تارة ثلاثين وتارة تسعة وعشرين، وقد وردت الرواية بذلك؛ فروى شعبة عن الأسود بن قيس عن سعيد بن عمرو عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنا أنة أمية لا نكتب ولا نحسب؛ الشهر هكذا وهكذا" وهكذا. وهكذا تعني تسعا وعشرين يوما وثلاثين، وحبس الراوي أصبعه في الثالثة. وروى مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر وأيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهر تسع وعشرون". وروى عمرو بن الحارث بن أبي ضرار عن ابن مسعود قال: لما صمنا

مع النبي صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا معه ثلاثين. فصل وقوله: "إن غم الهلال عدوا ثلاثين يوما من غرة الذي قبله، ثم يصام"؛ فلما رواه عبد الله بن أبي قيس قال: سمعت عائشة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان ما لم يتحفظ من غيره، ثم يصوم لرؤيته رمضان، فإن غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام. وروى سماك عن عكرمة عن ابن [ق/ 30] عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا حتى تروه، فإن حال دونه غمامة فأتموا العدة ثلاثين، قم أفطروا". وروى مالك عن ثور بن زيد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر رمضان فقال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه،

فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". مسألة قال رحمه الله: ويبيت الصيام في أوله، وليس عليه [التبييت] في بقيته". قال القاضي أبو محمد عبد المهاب بن علي- رحمه الله: اعلم أن هذه المسألة فرع على وجوب النية في شهر رمضان؛ فيجب تقديم الكلام في الأصل؛ لأنه إذا لم يثبت وجوب النية فالقول في وقت وجوبها وتقديمها وتأخيرها أبعد عن الثبوت. وإذا صح هذا فالنية عندنا واجبة في صوم شهر رمضان، وعند كافة الفقهاء إلا زفر بن الهذيل فإنه كان يزعم أن النية غير واجبة فيه، وأرى أن عبد الملك بن الماجشون وصاحبه أحمد بن المعدل يذهبان إلى شبه بهذا؛ لأنهما قالا فيمن أصبح في أول يوم من رمضان وعنده أنه من شعبان، ولم ينو الصوم ثم لم يأكل حتى بلغه الخبر أن يومه من رمضان إنه يمضي ويجزئه عن صومه. وهذا يدل من قولهما على ما ذكرناه. وفرقا بين ذاك بين أن ينوي صيام التطوع ثم يعلم بالشهر بعد أن يصبح فقالا: عليه قضاء ذلك اليوم إذا أصبح نوى به التطوع.

ويجوز أن يكون مرادهما أن نية الإسلام كافية من التجديد ما لم ينقل، فإذا نوى التطوع فقد نقلها؛ فلذلك لزمه القضاء. وهذا أشبه بأن يكون هو المراد من قولهما لولا أنهما فرقا بين أن يعلم الرؤية بالاستفاضة وما دونها. فالذي يدل على ما قلناه قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وهذا أملا بالصيام الشرعي؛ فهو يتضمن وجوب النية؛ لأن مجرد الإمساك لا يكون صوما شرعيا إلا بالنية. وأيضا فإن الأمر بالفعل يقتضي الامتثال، والفعل لا يكون امتثالا إلا بالقصد؛ بدلالة أنه قد يشركه في صورته ما ليس بامتثال، وإنه لا يكون امتثالا إذا وقع ممن لا قصد له كالصبي والمجنون وغيرهما. وإذا صح هذا فقد تضمنت الآية وجوب النية. وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل، ولا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل"، ولم يخص شهر رمضان من غيره. ولأنه صوم شرعي؛ فأشبه ما عدا رمضان. ولأنها عبادة تجب النية في نقلها؛ فكذلك في فرضها وجميع جنسها؛ اعتبارا بالصلاة والحج. ولأنه لما لم يجز قضاء رمضان بغير نية مع كونه فرعا له وانخفاض رتبته

عن رتبة أصله كان رمضان بأن لا يجزئ إلا بنية أولى. واستدل عن زفر بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، والصوم والإمساك، فإذا أتى به فقد امتثل ما أمر به. ولأنه مستحق العين للصيام فلا تكون النية فيه كالوديعة لما كانت مستحقة العين للرد لم يحتج إلى نية. ولأن النية إنما يحتاج إليها للتمييز بين ما يؤتى به فرضا ونفلا، وغير رمضان لا يصح إيقال النفل فيها؛ لأنها لا تقع إلا فرضا؛ فلا معنى للنية. فالجواب: أن الظاهر لا تعلق فيه؛ لأنه دليلنا على ما بيناه. ورد الوديعة ليس من شرطها أن تقع قربة؛ لأنها من حقوق الآدميين، وحقوق الآدميين لا يحتاج فيها إلى النية؛ بدلالة وقوعها على الوجه الذي كانت عليه قبل الشرع، وإن يصح وقوعها ممن لا تصح منه النية. واعتباره في ذلك التمييز بين الفرض والنفل باطل؛ لأنه يوجبها مع السفر والمرض مع وجود المعنى المسقط لوجوبها على التمييز الذي ذكره أحد ما تجر له النية. وليست لا تلزم إلا لهذا الوجه؛ لأنها تجب لكون الفعل قربة وطاعة. والله أعلم. فصل ولا يجزئ صيام نفل ولا فرض إلا بنية قبل الفجر ابتداء كان أو قضاء، أداء أو نذرا. وهو قول أهل الظاهر. وقال أبو حنيفة: كل صوم تعلق بالذمة ولم يتعلق وقت معين فلا

يجزئ إلا بنية قبل الفجر؛ كالقضاء والنذر والكفارة، وكل صوم غير متعلق بالذمة وإنما يتعلق بوقت معين أو كان نفلا فإنه يجزئ بنية بعد الفجر؛ وذلك كصوم رمضان والنذر المعين وصوم النفل. وقال الشافعي: كل صوم واجب فلا يجزئ إلا بنية قبل الفجر من غير تفصيل، والنفل من الصوم يجزئ بنية بعد الفجر. واستدل أصحاب أبي حنيفة بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}. ومن صامه بنية بعد الفجر سمي صائما للشهر. وروي من حديث ابن عمر أنه رأى هلال رمضان؛ فشهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فصام، وأمر الناس بالصيام. ولو كان التبييت شرطا لأمرهم به. وروي في خبر العوالي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج فرأى قوما فسأل عنهم فقالوا: هم صيام ليوم كان يصومه موسى. فقال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بصيامه .. " وأمر الناس بالصيام فقال: "من أكل فليمسك، [ق/ 31 أ] ومن لم يأكل فليتم بقية صومه"؛ فأمر من لم يأكل بالصوم؛ فدل هذا على أن التبييت ليس بشرط في كل صوم مستحق العين. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لامرئ ما نوى"، ومن نوى بعد طلوع الفجر فقد نوى صوم هذا اليوم؛ فوجب أن يكون له. ولأنه ناو لصيامه فأشبه إذا نوى قبل الفجر.

ولأنه صوم لم يتعلق بالذمة؛ فأشبه التطوع. ولأن النية قد حصلت أكثر نهاره؛ فأشبه من نوى من الليل. والذي يدل على ما قلناه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل، ومن لم يجمع الصيام قبل الفجر لا صيام له"؛ فعم ولم يخص فرضا من نفل. وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات"؛ فيجب ألا يجزئ من العمل إلا ما قارنته النية، وبعض هذا اليوم قد مضى عريا من النية؛ فوجب ألا يجزئ. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لامرئ ما نوى"، والإمساك الذي مضى لم ينوه؛ فوجب أن لا يكون له. وأيضا فلأنها نية ابتدأت بعد مضي جزء من النهار؛ فلم تجز؛ اعتبارا بالنية بعد الزوال. ولأنه صوم شرعي؛ فوجب ألا يجزئ إلا بنية من الليل. دليله النذر والقضاء. ولأن النية شرط في الصوم الشرعي؛ فوجب ألا يجزئ الصوم متى مضى بعض اليوم عريا منها. أصله: الإمساك.

ولأنها عبادة من شرط صحتها النية؛ فوجب أن تتقدمها النية؛ اعتبارا بالصلاة والحج. ولأنها عبادة تؤدى وتقضى؛ فوجب أن يستوي وقت النية في الأداء والقضاء؛ اعتبارا بالصلاة. وأما الظاهر فلا تعلق فيه؛ لأنا لا نسلم أن من أمسك في نهار رمضان بنية بعد الفجر فإنه صائم للشهر. فإن بينوا ذلك وإلا فوقف الاحتجاج. وما رووه من حديث ابن عمر لا حجة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصيام الشرعي، وذلك يتضمن عندنا وجوب النية من الليل. وحديث عاشوراء لا تعلق فيه؛ لأنه إنما أمرهم بالإمساك فيحصل لهم ثواب الكف عن الأكل؛ لأنهم يكونون بإتمام إمساكهم صائمين؛ ألا ترى أنه قد أمر من أكل أيضا بأن يمسك، ولم يدل ذلك على أنه يصير بإمساكه صائما. وعلى أنه قد روي: "ومن أكل فليصم" فلم يدل ذلك على أنه أراد الصيام الشرعي؛ لتقدم الإخلاص بأحد شرطي الصوم؛ فكذلك هاهنا. وأيضا فلو سلم لهم هذا في صيام هذا اليوم أنه صوم شرعي بعد دخول اليوم فاستحال أن تثبت له النية قبل العلم بشروعه؛ فصار محل المأمورين به محل أهل قباء حين أخبرهم المخبر بتحويل القبلة عن الشام إلى الكعبة وهم في الصلاة فاستداروا إلى الكعبة، ولم يوجب ذلك أن القصد

بها عند الدخول فيها لا يلزم كذلك ها هنا. وأيضاً فإن صوم عاشوراء لما نسخ لم يجز القياس عليه؛ لأن رمضان وغيره يكون حينئذ فرعاً له ومعتبراً به؛ فلا يجوز أن يبطل حكم الأصل ويثبت حكم الفرع. وتعلقهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنما لامريء ما نوى» لا يصح؛ لأن النية إنما تكون في مستقبل الأفعال دون ماضيها؛ لأن الفعل إذا انقضى لم يصح أن ينوى من بعد. واعتبارهم بالنية قبل الفجر بعلة أنه ناو لصيامه غير صحيح؛ لأنه إذا نوى في بعض اليوم فهذه النية لا تتناول ما مضى؛ فلم يكن ناوياً لصيامه، وينتقض بالنذر والقضاء وبالنية في أمس اليوم وعلى أن المعنى في الأصل تقدم النية على الفعل (المنوي). واعتبارهم بالتطوع غير مسلم؛ لأن الباب عندنا واحد في الموضعين. وقولهم: لأن النية حصلت أكثر نهاره كما لو قدمها من الليل غير صحيح؛ لأنه إذا قدمها من الليل لم نقل إنها حصلت أكثر نهاره؛ لأنها قد استوعبت النهار كله، وإنما تغير هذه العبارة ما لم تستوعب، على أن المعنى في ذلك ما ذكرناه من تقدم النية على العمل المنوي، والله أعلم. فصل واستدل أصحاب الشافعي على جواز ذلك في التطوع بقوله تعالى: {فمن تطوع خيراً فهو خير له}، والنافلة فعل خير.

وما روى طلحة بن يحيى عن عمته عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل علي َّ قال: «هل عندكم من طعام؟» فإذا قلنا: لا قال: «إني صائم». وروي: «إني إذاً صائم». وإذا للاستقبال. وروي: «إني إذاً لصوم». وروي: «إني ابتديء فأصوم». وهذه كلها نصوص في موضع الخلاف. وروى عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح ولم يجمع على الصوم، ثم يبدو له فيصوم. ولأنها نية لصيام تطوع قبل الزوال؛ فأشبهت النية قبل الفجر. ولأن [النفل] قد سومح فيه ما لم يسامح في الفرض؛ بدليل سقوط الكفارة عن الفطر عامداً في صيام التطوع ووجوبها في الفرض، وجواز صلاة النفل على الراحلة ومنع ذلك في الفرض. ولأنها عبادة يجمع جنسها فرضاً ونفلاً يصح الخروج منها بالفساد؛ فوجب أن يفرق بين فرضها ونفلها بشيء من الشرائط والأفعال كالصلاة؛ وذلك أن الصلاة فرق بين فرضها ونفلها في استقبال القبلة والصلاة في الجلوس.

ولا فرق بين تنفل الصوم وفرضه إلا ما ذكرناه في النية. والأصل في هذا ما قدمناه [ق/ 32 أ] من الظواهر والأقية في صوم الفرض. وأيضا لأنه صوم شرعي؛ فوجب ألا يجزئ إلا بنية من الليل. أصله: الفرض. ولأنها عبادة من شرط صحتها النية؛ فوجب أن يستوي حكم نفلها وفرضها من وقت النية. أصله: الصلاة والحج. ولأنها عبادة يفسد أولها بفساد آخرها؛ فوجب ألا تتأخر النية عن بعض فعلها اعتبارا بالصلاة. فإن قيل: المعنى في الصلاة أنه يجوز التراخي في تقديم النية على فعلها فلم يجز أن تتأخر عنها. وليس كذلك الصوم. لأنه يجوز أن يتراخى بين النية وبين وقت فعله فجاز أن تتأخر عن ابتدائه. قيل له: إن هذا إنما جاز في الصوم من أجل المشقة في مراعاة الفجر، والرخص التي تثبت للمشقة لا يجوز أن يعتبر بها في أحكام تخالف الأصول. ولأنها نية بعد الفجر فأشبهت النية بعد الزوال. ولأن النهار لو كان زمانا تصح فيه نية صيام النفل لصحت فيه نية الفرض اعتبارا بالليل لما صح أن ينوي فيه صوم النفل صح أن ينوي فيه

صوم الفرض، فلما لم يصح ذلك في النهار علم أنه ليس بوقت لنية الصيام. ولأن النهار لو كان وقت لنية الصيام لاستوى جميعه في جواز ذلك فيه كالليل، ولما لم يجز أن ينوى في النهار بعد الزوال على أنه ليس بوقت للنية، ولأن الإمساك لما اختص بأحد جنسي الزمان وهو النهار وجب أن تختص النية بصحة وقوعها بجنس منه بعلة أنهما شرطان في الصوم الشرعي. فأما قوله تعالى: {فمن تطوع خيرا فهو خيرا له} فلا دلالة فيه؛ لأن الخير إما أن يكون عبارة عما في فعله ثواب وهو قربة فهذا غير موجود في مسألتنا؛ لأنه مكروه ولا ثواب فيه. وعلى أنه لم كان فيه ثواب لم يجب أن يكون صياما. أو يكون اسم الخير مجملا؛ فيجب أن يقف على البيان. وأما حديث طلحة بن يحيى فإنه منكر عند أصحاب الحديث، على أنه غير ممتنع أن يكون صلى الله عليه وسلم كان قد نوى من الليل ثم سأل عن الطعام، فلما لم يجد آثر استدامة ما كان عليه من الصيام؛ فقال: إني إذا صائم إني مستديم لما كنت عليه من الصيام. فإن قيل: فهناك لفظ يمنع من هذا؛ وهو قوله: "إني إذا صائم"، فإذا للاستقبال. قيل له: إن إذا وإن كانت للاستقبال إذا وردت في المواضع التي ذكرها

أهل العرب فإنها في هذا الموضع يراد بها الاستدامة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان قد نوى الصيام من الليل، ثم فكر في الإفطار إن وجد طعاما، فلما لم يجده قال: فإني إذا صائم؛ يعني: مستديم لما كنت عليه. وهذا مثل من يريد سفرا وهو مقيم ببلده، فسأل عن الطريق فخبر بفسادها وأن السفر شاق فيه؛ فيقول جوابا عن ذلك: فأنا إذا مقيم. وقد علمنا أن هذا قول صحيح ليس بلغو، وليس يقصد به استئناف إقامة؛ فإنما يريد استصحاب الإقامة واستدامتها، وإبطال ما كان عزم عليه أو حدث نفسه من قطعها؛ فكذلك سبيل قوله: "إني إذا صائم". فإن قيل: قول هذا القائل: (إني إذا مقيم) معناه: إني مستأنف إقامة غير الأولى. قلنا: وهذه الإقامة التي يستأنفها هي انتقال إلى شيء غير ما كان عليه فلابد من لا لأنه مقيم في الأول والثاني. وإذا كان كذلك فهذا معنى الاستدامة التي عنيناها: لأنا لم نرد بقولنا إنها للاستدامة أنه يفعل نفس ما كان يفعله، وإنما أردنا أنه على ما كان عليه غير ناقض له ولا منتقل إلى غيره، وعلى أنهم إن رضوا بذلك فنحن نقول: إنه مستأنف صوما؛ لأن الإمساك الذي يفعله من بعد هو غير الأول. فإن قيل: لا يصح هذا؛ لأنه أخبر له مستأنف صوما وأنتم لا تقولون الإمساك من وقت قوله؛ فإني إذا صائم يسمى صوما. قيل له: ليس الأمر على ما قلته؛ لأن هذا الإمساك الذي يستأنفه يسمى صوما إذا اقترن بما قدمه، ولم يقل إني إذا صائم صوما منفردا لا ينضم إليه غيره.

وجواب آخر:؛ وهو أن متساوون في استعمال الخبر؛ وذلك أنا إذا راعينا الاحتمال جوزنا أن يكون صلى الله عليه وسلم نوى من الليل، وجوزنا أن يكون للاستدامة نوى من النهار، وجوزنا أن تكون (إذا) داخلة للاستقبال والاستئناف، وجوزنا أن تكون للاستدامة. وقد علمنا أن الصيام بنية من الليل أفضل منه بنية من النهار، بل هو إذا نوى له في النهار مكروه. وإذا كان كذلك فهم منعوا أن يكون نوى من الليل؛ ليسلم لهم أن (إذا) داخلة للاستئناف. ونحن نقول: إنه نوى من الليل، ونمنع أن يكون نوى من النهار؛ ليسلم فعله من الوجه المكروه، ويحمل على الوجه الأفضل؛ فيجب تساوينا في الخبر؛ بل يكون ما صرنا إليه أولى؛ لأن حراسة فعله من أن يحمل على الوجه المكروه أو على وجه ناقص الفضيلة أولى من حراسة نقل اللفظ من حقيقته إلى مجازه. فإن قيل: فقد ورد لفظ آخر؛ وهو قوله: "إني إذا أبتدئ فأصوم". قيل له: هذا لم يسمع إلى هذا الوقت، فإن ثبت [ق/ 33 أ] نظر فيه على أنه لا يمنع أن يكون أراد به الاستدامة أيضا كما يقول المقيم الذي يريد السير ثم يبدو له بما يخبر عنه من فساد الطريق فأنا إذا أبتدئ فأقيم، معناه: أعزم العزم الصحيح على استدامة الإقامة من غير تروية بين قطعها والثبوت عليها؛ فكذلك سبيل قوله: (إني إذا أبتدئ فأصوم)، على أن حقيقة هذا تقتضي أن يكون مستأنفا للصيام من ذلك الوقت، ويكون ما مضى ليس بصيام.

وهذا ليس بصحيح عندنا؛ لأن الإنسان لا يكون صائما في بعض اليوم وغير صائم في بعضه. فإن قيل: فإن كل هذا الاستعمال غير سائغ على قولكم؛ لأنكم لا تجوزون للمتطوع بالصيام أن يقطع صومه عذر. قيل له: وليس في الخبر ذكر العذر ولا عدمه، وغير ممتنع أن يكون وجد عذرا جاز له معه قطع الصوم من شدة جوع أو مرض يبيح الفطر، فلما لم يجد الطعام آثر الحمل على نفسه وإتمام الصيام. وما رووه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح ولم يجمع على الصوم، ثم يبدو له فيصوم فيه لفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون ابن عباس قال ذلك لمذهب له في النية كما حكي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج من ميمونة وهو محرم؛ لأنه كان يرى أن الإنسان يكون محرما بتقليد الهدى؛ فحكاه على مذهبه؛ فلا يترك بهذا ظواهر النصوص والأخبار وصحيح المقاييس والاعتبار. ويحتمل أن يكون أراد أنه لم يكن يجمع على الصيام حتى يقارب الإصباح؛ فعبر به عن مقاربته؛ كما قال: {إني أراني أعصر خمرا}؛ فعبر باسم الخمر عما يؤل إليها. وكما قال تعالى: {فإذا بلغن أجلهن}، وقال: (فإذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك)؛ معناه قاربت الإتمام.

وتكون فائدة ذلك أنه ليس عليه أن ينوي من أول الليل، وأنه يجوز أن ينوي مع طلوع الفجر. وقولهم: لأنها نية لصيام تطوع قبل الزوال فأشبهت النية قبل الفجر لا يصح؛ لأن هذه العبارة لا تستعمل في الأصل؛ وذلك أن الفعل الواقع قبل دخول أصل الوقت لا يقال فيه إنه واقع قبل وسطه وآخره. وإنما يصلح هذا في أبعاض الوقت الواحد. ألا ترى أن الإنسان لو تنفل قبل الفجر أو قرأ شيئا لم يجز أن يعبر عنه لمن سألته متى فعلت ذلك؟ بأن يقول: إني فعلته قبل الزوال أو قبل العصر أو قبل أن يضحى النهار؛ لأن كل هذه العبارات تفيد أنه فعله بعد الفجر. وأيضا فإن هذا الوصف لا يؤثر في الأصل؛ لأن النية إذا وقعت قبل الفجر صحت في الفرض والنفل؛ فلا معنى لتقيد صحتها بكونها واقعة لصيام نفل. وأيضا فإنه ينتقض به إذا نوى لصيام تطوع من أمسه؛ لأنها نية قبل الزوال على ما قالوه. وأيضا فالمعنى في الأصل أنه وقت لنية صوم الفرض؛ فكان وقتا لنية صوم النفل، وليس كذلك النهار. أو نقول: لأنها نية تقدمت على إمساك جميع اليوم، وليس كذلك إذا وقعت في بعض النهار. وقولهم: إن النفل قد سومح فيه ما لم يسامح في الفرض كلام مجمل غير مقرر ولا محصل، ولا يجوز إذا وقعت المسامحة في شيء أن تقع في غيره إلا بدليل، وعلى أن شروط الصحة ثابتة في الموضعين.

وإنما تقع المسامحة في أحكام تجري مجرى الفروع مثل سقوط القضاء والكفارة، واختلاف حال الأداء في الصلاة، وما أشبه ذلك؛ ألا ترى أن هذا الذي قالوه لا يجوز سقوط أصل النية في التطوع ولا يوجب؟ ألا يفسده الوطء والأكل على وجه العمد، وغير ذلك من شروطه؟ فبان بهذا سقوط ما قالوه. وقياسهم على الصلاة بعلة أنها عبادة يجمع جنسها فرضا ونفلا، يصح الخروج منها بالفساد؛ فوجب أن يفرق بين فرضها ونفلها بشيء من الشرائط والأفعال كالصلاة. فالجواب عنه: أنه تعليل بحكم مجمل غير محصور ولا محصل؛ فلا يلزم الكلام عليه إلا بعد بيانه وتفسيره. وعلى أن الصلاة الفرض ليس بينها وبين صلاة النفل فرق في الشرائط، وإنما تفترقان في الأداء وصفته، وهذا المعنى لا يمكن في الصوم؛ لأنه فعل واحد- وهو الإمساك- فلا يمكن أن يخالف بين أدائه. والصلاة أفعال مختلفة يمكن الخلاف بين أدائها. وأيضا فإنا نقول بموجب ذلك؛ وهو أن تعيين النية واجب في صوم الفرض، وإطلاقها يلغى في النفل؛ على ما قاله بعض أصحابنا. وأيضا فإنه ينتقض بالاعتكاف؛ لأن أوصاف العلة موجودة فيه. ثم لا فرق بين فرضه ونفله في شيء مما ذكروه، وفرضه هو النذر. وأيضا فإنا نعكس هذه العلة ببعض أوصافها فنقول: لأنها عبادة يجمع جنسها فرضا ونفلا؛ فوجب أن يكون وقت النية في فرضها هو وقت النية

في نفلها. أصله: الصلاة. وهذا أولى عما قالوه، والله أعلم. فصل فإذا ثبت ما ذكرناه عدنا إلى مسألة الكتاب فنقول: إنه إذا بيت من أول الشهر بجميعه أجزأه على شرائط قد ذكرها أصحابنا. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجزئه إلا أن يجدد النية في كل ليلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم [ق/ 34 أ]: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل"، والمراد بذلك: الليل الذي يعقبه الصيام؛ فكأنه قال: لا صيام لمن لم يبيته من ليلته. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له". والألف واللام ها هنا للتعريف والعهد؛ فكأنه قال: قبل فجره. ولأنه صوم يوم واجب فوجب أن ينوي له من ليلته. أصله: اليوم الأول. ولأن الليلة الثانية والثالثة ليلة من رمضان؛ فوجب أن ينوي فيها

لغدها؛ اعتبارا بالليلة الأولى. ولأن الصوم عبادة تؤدى وتقضى؛ فوجب أن يكون عدد النية في الأداء كالعدد في القضاء. أصله: الصلاة. ولأنه صيام أيام؛ فوجب أن ينوي لكل يوم منه من ليلته. أصله: ما عدا رمضان. ولأن صوم كل يوم من رمضان عبادة بانفرادها؛ بدلالة أن فساده لا يتعلق بفساد غيره، وأن الصبي إذا بلغ في خلال اليوم لم يلزمه قضاء ما فاته من الشهر. فإذا كان كذلك وجب أن يفتقر إلى نية مجددة، ولا يجوز أن يجعل الشهر كله عبادة واحدة؛ لما ذكرناه ولأنه كان يجب ألا يجوز تفريق النية على أبعاضه كما لم يجز ذلك في الصلاة الواحدة. وإذا صح أنه عبادات افتقر إلى نيات بعدده كالصلوات ولأنه لما لم يجز أن يمسك بجميع الشهر الأول كذلك لم يجز تقديم النية له بعلة أنهما شرطان في الصوم الشرعي. والذي يدل على ما قلناه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" وهذا يفيد ثبوت حكمها. والاعتداء بها متى قارنتها النية.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما لامرئ ما نوى". وهذا نوى صوم جميع الشهر؛ فيجب أن يكون له ذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل"، وهذا قد يبيته من الليل، ولم يفرق بين صيام دون صيام. وظاهر الخبر يفيد أن كل صيام بيت له من الليل فإنه يجزئ. فإذا ردوا استدلالهم بالخبر وقالوا: معنى ذلك الصيام الذي يتعقبه الليل؛ لأن الألف واللام للعهد. قيل لهم: أن قوله: (لا صيام) نفي مطلق، وقوله (من الليل) عام في جنس الليل، وليس بمقصور على ليل دون غيره؛ فالعموم معني في ذلك وما ذكروه في ذلك مدعى لا دلالة فيه، وعلى أن الليلة الأولى معهودة بجميع الشهر أيضا فيدل على ما قلناه أن أيام رمضان لما كانت واجبة مستحقة العين ابتداء ولم يكن بينها زمان يصلح للصيام جاز أن تتقدم النية لجميعها من أول الشهر، وجرت مجرى اليوم الأول في أن النية الواحدة كافية لجميعه إذا تقدمت أوله؛ لما ذكرناه من كونه واجبا مستحق العين ابتداء لا يتخلل أجزاءه وقت آخر يصلح لصيام. وتحرير هذه النكتة أن يقال: لأنها نية لصوم قدمت عليه بأوقات لا يصلح للعمل غيره من جنسه، أو لا يصلح لصوم غيره؛ فجاز تقديمها عليه في هذه الأوقات.

أصله: أداء اليوم الأول من أول ليلة. وأيضا فإن صوم كل شهر عبادة واحدة عندنا؛ بدلالة أنه لا يتخلله عمل من جنسه غيره؛ فجرى مجرى الصلاة الواحدة. وإذا ثبت هذا فالأخبار قد أجبنا عنها. واعتبارهم باليوم الأول باطل؛ لأنه إنما وجب أن ينوي له من ليلته؛ لأنه لو نوى له في ليلة غير ليلته لكان قد تخلل النية والعمل المنوي زمان يصلح لغيره، وليست كذلك حكم أيام رمضان. واعتبارهم بالليلة الأولى يجاب بهذا أيضا، ولأن الليلة التي قبلها ليست من رمضان؛ فلا يجوز أن ينوي الشهر قبل دخوله. وقولهم: يجب أن يكون عدد النية في الأداء كعددها في القضاء غير صحيح؛ لأن اعتبار الأداء بالقضاء لا يصح؛ لما ذكرناه من أن الأداء يقع في زمان لا يتخلله عمل سواه من جنسه، ولا يصلح الزمان لغيره، والقضاء يقع في زمان يصلح لغيره من جنسه، وقد يجوز أن يتخلله ما ليس من جنسه أيضا- وهو الفطر- لأن قضاء رمضان ليس بواجب متابعته. وأيضا فإن هذه النية عندنا في حكم النيات المجردة على معنى أنها نية لأيام كثيرة. وقياسهم على ما عدا رمضان باطل بهذه النكتة أيضا؛ وهو أنه وقت يصلح غير المقصود، وليس بمستحق العين ابتداء. واستدلالهم على بطلان كون رمضان عبادة واجدة بأن فساد بعض الأيام

لا يؤدي إلى فساد غيره غير صحيح؛ لأنا لم نقل أنه عبادة واحدة على هذا التأويل، وإنما أردنا أنه عبادة واحدة في الوجه الذي ذكرنا كالصلاة الواحدة. ويبطل ما قالوه بالوضوء؛ لأنه عبادة واحدة، وإذا فسدت طهارة الرجلين لخلع الخف لم تبطل طهارة سائر الأعضاء. وقولهم: كان يجب ألا يجوز تفريق النيات على أبعاضه باطل بالوضوء [ق/ 35 أ] أيضا. وقولهم: لما لم يجز أن يمسك لجميع الشهر في اليوم الأول لم يجز أن ينوي لهم من أوله كلام محال؛ لأن ما لا يصح وقوعه من المكلف لا يجوز أن يقال له فيه أنه يجوز له فعله أو لا يجوز. وقد علمنا أن إمساك جزء اليوم لا يصح مع عدم اليوم فلم يصح أن يقال: لا يجوز تقديم الإمساك، وليس كذلك تقديم النية؛ لأنه لا يحتاج إلى مصادفة الزمان ووجوده؛ ألا ترى أنها تجب قبل دخول الوقت المنوي؟ فبطل بذلك ما قالوه. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: ويتم الصيام إلى الليل. وهذا كما قال: الصيام الشرعي: هو إمساك النهار كله، وعليه أن يمسك إلى دخول الليل.

والأصل في ذلك قوله تعالى: {وكلوا واشربوا} الآية. إلى قوله: {ثم أتموا الصيام}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ها هنا أفطر [الصائم] ". ولا خلاف في ذلك. مسألة قال رحمه الله: "ومن السنة تعجيل الفطر، وتأخير السحور". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: وذلك لما رواه مالك عن أبي حازم بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر". وروى مالك عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ولم يؤخروه تأخير أهل المشرق". وروى محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه

قال: "لا يزال الدين ظاهرا ما [عجل] الناس الفطر؛ لأن النصارى واليهود يؤخرون". وروى الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي عطية قال: دخلت على عائشة- رضي الله عنها- أنا ومسروق فقلنا: يا أم المؤمنين رجلان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحدهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة، والأخر يؤخر الإفطار ويؤخر الصلاة؟ فقالت: أيهما يعجل الإفطار ويعجل الصلاة قلنا: عبد الله بن مسعود. قالت: كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى شعبة عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت تسحرا، فلما فرغا من سحورهما قام النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلاة الغداة. قلنا لأنس: كم كان بين فراغه من سحوره ودخوله في الصلاة؟ قال: ما يقرأ رجل خمسين آية. قال مالك: سمعت عبد الكريم بن المخارق يقول: من عمل النبوة تعجيل الإفطار، والاستيناد بالسحور. والمعنى في ذلك أن في تأخير السحور قوة على الصوم، وكذلك في

تعجيل الفطر قوة على الصلاة؛ فكان أولى به. مسألة قال رحمه الله: "وإن شك في الفجر فلا يأكل". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله-:وهذا لأن إباحة الأكل متعلقة بيقين بقاء الليل، فإذا شك في الفجر لم يجز له الأكل؛ لأنه لا يأمن أن يكون قد أكل في الفجر؛ فيكون قد غرر بصيامه. فإن أكل ولم يتبين له أنه أكل قبل الفجر أو بعده قال ابن القاسم: عليه القضاء؛ وذلك لما قلناه من أنه ليس على ثقة في إمساك جميع اليوم؛ لجواز أن يكون أكل بعد الفجر. وخالفنا أهل العراق والشافعي فقالوا: إذا أكل وهو شاك في طلوع الفجر فلا قضاء عليه، وإذا أكل وهو شاك في غروب الشمس فعليه القضاء. قالوا: لأنه إذا شك في طلوع الفجر فالأصل هو الليل فبنينا الأمر على اليقين، وإذا شك في غروب الشمس فالأصل بقاء النهار؛ فوجب اعتبار الأصل. قالوا: ولقوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}، فأباح الأكل إلى أن يتبين الفجر، وهذا أكل ولم

يتبينه؛ فوجب أن يكون فعل ما له أن يفعل. قالوا: ولأن اليقين لا يسقط بالشك، وإذا صح ذلك وكان الليل ثابتا بيقين لم يجز أن يوجب عليه القضاء بشك، ولا أن يكون شكه في طلوع الفجر يسقط اليقين الذي هو بقاء الليل. والذي يدل على ما قلناه أنا قد اتفقنا على أنه إذا أكل وهو يشك أن الشمس قد غربت أن عليه القضاء؛ فكذلك إذا أكل وهو يشك في طلوع الفجر. والمعنى في ذلك أنه أكل في وقت يجوز أن يكون من النهار. فإن قيل: إذا لزمه القضاء في الأصل؛ لأنه شك طرأ على يقين فاعتبرنا حكم اليقين؛ فيجب أن يكون كذلك في هذا الموضع. قيل له: إن الأصول مختلفة في اعتبار حكم اليقين؛ فمنها ما يعتبر فيه حكم اليقين ولا يزال بالشك؛ وذلك مثل أن يتيقن الزوجية ويشك في الطلاق، ومثل أن يشك هل صلى ثلاثا أم أربعا. فهذا كله يبنى فيه على اليقين. ومنها ما يخالف هذا؛ وهو أن يشك في الحدث بعد اليقين بالطهارة على ما بيناه؛ فإن هذا يلزمه الطهارة عندنا إذا لم يكن في الصلاة. وكذلك إذا شك هل طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا؛ فإنها تكون ثلاث عندنا، ولا يعتبر اليقين. وإذا [ق/ 36] كانت الأصول مختلفة لم يجز رد هذا الفرع إلى بعضها إلا بدليل، وعلى أن اعتبار اليقين معنا من الوجه الذي نذكره؛ وذلك أنه إذا كان الأصل أنه لم يصم هذا اليوم، ثم اختلفنا إذا أكل وهو يشك في

طلوع الفجر فقلنا: إنه لا يحكم له بأنه قد صام اليوم، وقالوا: يحكم بأنه صام. وإذا اعتبرنا حكم اليقين في هذا الموضع كان القول ما قلناه من أنه لم يصم. فإن قيل: فإذا اختلفنا في هذا الأكل هل هو بعد الفجر أو قبله، وكان الأصل هو الليل وجب ألا يلتفت إلى هذا الشك. قيل له: وإذا اختلفنا في هذا الإمساك هل هو صيام أم لا، وكان الأصل أنه ليس بصيام وجب أن يرجع في هذا إلى الأصل. طريقة أخرى: يقال لهم: أتسلمون أنه يحرم عليه الأكل بشكه بطلوع الفجر؟ فإن قالوا: نعم صح ما قلناه؛ لأنه إذا لم يجب البناء على اليقين الذي هو جواز الأكل في الليل هاهنا وجب إذا أكل فيه أن يلزمه القضاء. وإن قالوا: لا نسلم ذلك قيل لهم: الذي يدل على ما قلناه أن إباحة الأكل متعلقة بالعلم ببقاء الليل أو غلبة الظن القائم مقام العلم يدل على ذلك أن الإباحة لو لم تكن مشروطة بهذا المعنى لم يلزم الإنسان أن يتوقف لينظر هل طلع الفجر أم لا. وإذا صح ما قلناه ثبت أنه ممنوع من الأكل؛ ويبين ذلك أنا قد اتفقنا على أن عليه أن يمسك جميع أجزاء اليوم. وإذا صح ذلك وجب ألا يجوز له الأكل مع الشك في الفجر؛ لئلا يكون قد أكل في وقت أخذ عليه الإمساك فيه؛ فصح بذلك ما قلناه. فأما اعتبارهم بالأصل فقد أجبنا عنه، وأما الظاهر فإنه دليلنا؛ لأنه قال: يتبين لكم وهذا يفيد أن إباحة الأكل متعلقة بالعلم بحصول الليل؛

لأنه شرط معه بأن يتبين الفجر منه، وهذا المعنى لا يصح إلا مع العلم به، فأما مع الشك فلا؛ لأنه لا يتبين معه زوال الليل وطلوع الفجر. وإذا صح هذا ثبت أن إباحة الأكل مرتفعة مع الشك. وقولهم إن الشك لا يسقط اليقين يلزمهم عليه ما قلناه في الحكم لهذا الإمساك بأنه صوم. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "ولا يصام يوم الشك ليحتاط به من رمضان، ومن صامه لذلك لم يجزءه وإن وافقه رمضان، ولمن شاء أن يصومه تطوعا أن يفعل". قال القاضي أبو محمد بن عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: في هذه المسألة أربعة فصول: أحدها: أن الصيام يوم الشك يصح على بعض الوجوه، خلافا لأصحاب داود حيث قالوا: لا يصح صومه أصلا. والثاني: المنع من صومه على أنه من رمضان. والثالث: أنه لا يجزئه إن صامه على ذلك، ثم ثبت أنه من رمضان. والرابع: أن صومه متطوعا ابتداء لا على نية استقبال رمضان جائز. فأما الكلام في الفصل فهو أن يقول: لأنه يوم من شعبان فصح

صومه. أصله: ما قبل ذلك من الشهر. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يصوم شهرا قط تاما إلا شعبان، فإنه كان يصومه ويصله برمضان. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يتقدمن أحدكم صوم شهر رمضان بيوم ولا يومين، إلا أن يكون صوم رجل فليصم ذلك اليوم". فبطل بهذا كله قولهم أنه لا يصح صومه أصلا. فصل وأما المنع من صومه على أنه من رمضان، والمنع من إجزائه إن ثبت ذلك، فالخلاف فيه مع أبي حنيفة؛ لأنه يجوزه، ويبنيه على أصله في أن نية رمضان يجوز أن يؤتى بها بعد الفجر، وأن تعيين النية لا يلزم في الصوم. والدلالة على صحة قومنا ما رواه سماك عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصوموا حتى تروه، ثم صوموا حين ترونه، فإن حال دونه غمام فأتموا العدة ثلاثين". وروى جرير عن منصور عن ربعي بن خراش عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، وتكملوا العدة".

ووجه الاستدلال من هذين الخبرين أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن صومه إلا بأحد هذين الشرطين فمتى ما لم يوجدا أو أحدهما فيجب ألا يجزئه؛ لأنه أوقعه على خلاف الوجه المأمور به. وأيضا فإنه لو شك في طلوع الفجر فصلى ركعتين ينوي بهما صلاة الفجر إن كان الفجر قد طلع أو التطوع إن لم يكن قد طلع، ثم بان له أن الفجر كان قد طلع لم يجزئه؛ فكذلك إذا صام يوم الشك على أنه إن كان من رمضان فقد أدى فرضه وإن لم يكن من رمضان فهو تطوع يجب ألا يجزئه في الصلاة. وما ذكروه من سقوط تعيين النية وتراخيها عن الفجر لا يصح على أصلنا. فصل وأما الكلام على أن صومه على وجه التطوع جائز، خلافا لمحمد بن مسلمة والشافعي حيث قالا: يكره صومه إلا أن يوافق صوما كان يصومه، ونكرهه [ق/ 37 أ] ابتداء. فالدلالة على ما قلناه أنه يوم محكوم له بأنه من شعبان؛ فصح أن يصام تطوعا على كل وجه سواء الاستقبال. أصله: ما قبل ذلك الشهر. أو نقول: كل يوم صح أن يتطوع به على وجه صح أن يتطوع به على كل وجه. أصله: ما ذكرناه.

ولأنه يوم يصح أن يصام عن قضاء رمضان؛ فصح أن يصام نفلا كسائر الأيام، ولأن الفرض آكد من النفل فإذا جاز أن يصام فيه الفرض كان النفل بالجواز أولى. ولا تعلق لهم بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم الشك؛ لأن معناه أن يصومه على وجه الشك، فأما إذا صامه لا على هذا الوجه بل على وجه التطوع فإن ذلك جائز؛ بدلالة جواز صومه إذا وافق صوما كان يصومه. ولا يصح احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقدموا الشهر بيوم ولا يومين"؛ لأن هذا لا يتناول موضع الخلاف؛ لأنا نمنع أن نصومه بنية تقديم الشهر واستقباله على وجه التعظيم، وإنما خلافنا إذا صامه تطوعا ابتداء، لا على هذا الوجه. ولا معنى لقولهم إذا صام رمضان فرض، وصم يوم شعبان نفل، وإنه يجب أن يحافظ على الفرض بأن يترك صوم هذا اليوم ليقوى على أداء الفرض؛ لأن هذا يسقط به إذا وافق صوما كان يصومه، ولأن في صومه معنى آخر؛ وهو أن يخف عليه صوم الفرض ويسهل عليه ويعتاده؛ فلم يكن منعه بما قالوه بأولى من جوازه بما قلناه. ولا يصح تعلقهم بما روي أن عمارا أتى بشاة مصلية فقال: كلوا فامتنع القوم، فقال عمار: (من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم)؛

لأن ذلك ليس بأكثر من صريح نهيه صلى الله عليه وسلم عن صومه، وقد بينا أن معناه أن يصام على وجه الشك، ولأن هذا يلزم في الموضع الذي يجيزه مخالفنا؛ وهو إذا وافق صوما كان يصومه. ولأن أكثر ما في هذا أن يكون عمار اعتقد أن صومه على كل وجه لا يجوز فأضاف ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم لاعتقاده. وفي المسألة خلاف وبإزاد عمار غيره من الصحابة وإذا صح هذا سقط ما تعلقوا به. مسألة قال رحمه الله: "ومن أصبح [ولم] يأكل ولم يشرب، ثم تبين له أن ذلك اليوم من رمضان لم [يجزئه]، وليمسك عن الأكل في بقيته، [ويقضه]. قال القاضي أبو محمد بن عبد الوهاب- رحمه الله-: إنما لم يجزه؛ لأنه أصبح مفطرا بترك النية وإن لم يكن أكل؛ لأنه يفطر بترك النية كما يفطر بترك الإمساك، والنية عندنا لا تصح بعد طلوع الفجر؛ فلذلك لم يجزئه. وإذا لم يجزئه وجب أن يقضيه كما لو أكل لكان عليه أن يقضيه؛ لأنه

مفطر في الموضعين. وإنما أمرناه بالكف في بقية اليوم سواء أكل أو لم يأكل؛ لأنه إذا ثبت أن اليوم من رمضان ولم تكن هناك رخصة في إفطار اليوم مع العلم بكونه أنه من رمضان كان ذلك يقتضي الكف في بقية اليوم؛ يبين ذلك أنه لو علم قبل الفجر بأن اليوم من رمضان لم يكن لهم أن يفطروه مع العلم فإن أكل هذا الذي أمرناه بكف بقية اليوم على وجه التأويل فلا كفارة عليه. وأما إن أكل على وجه العمد والهتك لحرمة الشهر والعلم بما على الأكل في نهار رمضان من غير عذر فإن ابن القاسم قال: عليه الكفارة، ورواه عن مالك. وهذا يجب أن يكون استحسانا، وليس بقياس. وأما القياس: فإنه لا كفارة عليه؛ لأن الكفارة تتعلق بالأكل الذي به يفسد الصوم، لا بالأكل الذي يقصد به الهتك مطلقا؛ يبين ذلك أنه لو أفسد صومه بالأكل من غير عذر لوجبت عليه الكفارة. فلو أكل ثانية على الوجه الذي أكل عليه أولا من قصد هتك حرمة الشهر لم تلزمه كفارة أخرى؛ لهذا المعنى الذي ذكرناه؛ وهو أن هذا الأكل لم يتعلق به إفساده الصوم فلم تجب به كفارة. فبان بذلك أن الأمر على ما ذكرناه. وإنما قلنا: إن عليه أن يقضيه سواء كان نوى التطوع من الليل أو لم ينو أصلا؛ لأنه إن كان لم ينو فقد أصبح مفطرا بترك النية، وإن كان قد نوى تطوعا لم تنبت له عن نية الفرض؛ لأن تعيين النية واجب عندنا.

وفرق عبد الملك بن الماجشون وصاحبه أحمد بن المعدل بين أن يصبح وقد نوى التطوع وبين أن يصبح ولم ينو شيئا فقالا: إن أصبح ولم ينو صوما أتم بقية اليوم وأجزأه، وإن كان قد نوى تطوعا لم يجزئه وعليه القضاء. وهذا ليس بصحيح- على قول مالك- لوجوب النية في الأصل، ووجوب تعينها على ما ذكرناه. فصل وتعيين النية في صيام رمضان واجب عندنا، وعند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجب ذلك، ولو نوى التطوع أو أطلق لأجزأه عن رمضان، سواء كان حاضرا أو مسافرا. وإن نوى النذر أو الكفارة أجزأه عن رمضان إن كان حاضرا، وعن نذر إن كان مسافرا. والذي يدل على ما قلناه قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا أمر يقتضي الامتثال، وقد بينا أن الفعل لا يكون امتثالا إلا بالقصد إلى ذلك. وإذا صح هذا وجب إلا أطلق [ق/ 38] النية ولم يعين أو نوى التطوع ألا يكون ممتثلا؛ لأنه لم يقصد الوجه الذي أمر به؛ لأن الأمر إذا كان بأن يصومه على الوجوب فوجب أن يقصد بالفعل إيقاعه على الوجه

الذي أمر أن يصومه عليه. فإن قيل: هذا وليلنا لأنه يوجب أن يصام صوما شرعيا، والصوم الشرعي يقع تارة مع تعيين النية وتارة بغير تعيين؛ فيجب أن يجزئه على أي وجه أوقعه على وجه يجوز في الشرع. قيل له: ليس الأمر على ذلك؛ لأنه لم يؤمر أن يصومه على وجه يجوز في الشرع أن يصام عليه، وإنما أمر أن يصومه على الوجه الذي أمر به على ما بيناه. فإن قيل: إن الأمر هو بفعل الصوم دون الوقت؛ لأن الوقت لا يتعلق به التكليف؛ فإذا قال: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} فكأنه قال: فليفعل الصوم، فيه، وهذا لا يفيد نية الوقت كما لو قال: (صم يوم السبت) لم يتضمن ذلك إيجاب نية يوم السبت في الصوم. قيل له: إذا أوجب علينا أن نصوم شهر رمضان، واحتجنا إلى الامتثال لزمنا أن نقصد بالفعل الوجه الذي أمرنا أن نصومه عليه. وهذا ظاهر. فأما قولهم: إن الوقت لا يتعلق به التكليف فليس هذا مما نحن فيه، وإنما وجه تعلقنا أن يكون قصد الامتثال مطابقا للوجه الذي يتناوله الأمر، ومعلوم أنه إذا أمر بصومه على وجه الفرض فصامه يعتقد التطوع فإنه لم يأت به على الوجه المأمور به. ويدل على ما قلناه قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنما لامرئ ما نوى"،

وهذه الإضافة تدخل لأمرين: أحدهما: اتحاد الفعل وإيقاعه. والآخر: الاحتساب والاعتداد به. وقد علمنا أن المراد به في هذا الوضع أن الاعتداد بالفعل يقع بالنية. وإذا صح هذا وجب متى لم ينو لصوم رمضان أنه على الواجب عليه وأنه تطوع ألا ينوب له عن فرضه؛ لأنه لم ينوه به. فإن قيل: إن هذا دليلنا؛ لأنه يوجب أن يكون له ما نواه، وهذا قد نوى الصوم؛ فيجب أن يعتد به. قيل له: هذا لا يصح من جهة النطق، ولا من جهة الدليل؛ وذلك أن من نوى بصوم رمضان التطوع فعندهم أنه يكون له عن رمضان ولا يكون تطوعا؛ فقد بطل أن يكون له ما نواه بنص الخبر، ودليله يوجب أنه إذا لم يصمه بنية الفرض أن لا يكون له عن الفرض؛ لأنه لم ينوه. ويدل على ما قلناه أن صوم رمضان عبادة يلزم تعيين النية في قضائها؛ فوجب أن يلزم في أدائها؛ اعتبارا بالصلاة. وأيضا فلأنه صوم واجب؛ فوجب أن يفتقر إلى تعيين النية، أو فوجب ألا يجزئ بنية النفل. أصله: النذر والقضاء. واحتج من خالفنا بقوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، ولم يفرق بين صيامه بنية النفل أو الفرض.

فالجواب أنا نقول بموجب هذا الخبر، ولكنا نمنع أن يكون من أمسك رمضان بنية التطوع صائما لرمضان؛ فبطل الاحتجاج، ولأن في ضمن هذا القول أن يصومه على الوجه الذي أمر به فيجب أن يثبتوه في مسألتنا. واستدلوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل العوالي يأمرهم بصيام عاشوراء ولم يأمرهم بتعيين النية. فالجواب أنه لا دلالة في هذا على سقوط تعيين النية من حيث لم تكن فيه دلالة على سقوط النية على أن أمره لهم إنما كان بالصوم الشرعي، وذلك يتضمن عندنا تعيين النية. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لا يبيت الصيام من الليل"، وهذا يبيت الصيام. فالجواب أن هذا دليل لنا؛ لأنه لا يخلو أن يكون أراد أنه لا صيام لمن يبيت الصيام على الوجه المأمور به، فإن أراد على الوجه المأمور به وجب بذلك أن من بيت التطوع لصيام رمضان ألا صوم له وهذا ما نقوله، وإن كان أراد لا صيام لمن لم يبيته على خلاف الوجه المأمور به وجب ألا يجزئ من بيت صيامه على الوجه المأمور به وهذا خلاف قول الأمة. فإن قيل: بين هذين منزلة؛ وهي أن يبيته مطلقا. قيل له: هذا أيضا يوجب أن من بيته معينا لم يكن له صوم، وهذا باطل عند كل أحد. واعتلوا بأنه مستحق العين فأشبه رد الوديعة. وهذا باطل؛ لأن الوديعة لا تحتاج إلى نية أصلا فضلا من تعينها

فكيف يعلل لسقوط تعين النية ما لا تحتاج إلى أصل النية؟ قالوا: ولأن النية إنما يحتاج إليها لتمييز إمساك العبادة من إمساك العادة، فإذا ميزت بالنية لم يحتج إلى تعين. وهذا ينتقض بالمسافر وبالنذر والقضاء. وعلى أنه إذا احتيج إلى النية لتمييز إمساك العبادة من إمساك العادة احتيج أيضا إلى تعينها لتمييز كل إمساك عبادة من إمساك غيرها. قالوا: ولأن تعيين الله تعالى آكد من تعيين المكلف؛ لأن ما عينه الله لا يمكن تغييره، وهذا يؤدي إلى سقوط أصل النية بهذا الاعتبار، فإذا كان ما ذكروه لا يؤثر في ذلك فكذلك في التعيين [ق/ 139]. مسألة قال رحمه الله: "وإذا قدم المسافر مفطرا أو طهرت الحائض نهارا فلهم الأكل في بقية يومهما". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا قولنا، وقول الشافعي. وقال أبو حنيفة: عليهما أن يمسكا بقية اليوم؛ قالوا: لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء يأمر من لم يكن أكل أن يصوم، ومن أكل أن يتم بقية يومه؛ فأوجب عليهم إمساك بقية يومهم.

قالوا: ولأن كل معنى إذا صادف أول الصوم لزم معه صوم اليوم، فإذا وجد في تضاعيف اليوم لزم به إمساك ما بقى منه. أصل ذلك: إذا أصبح وعنده أن اليوم من شعبان ثم تبين أنه من رمضان. وبيان هذا أن الإقامة والصحة لو صادفا اليوم لزم معهما الصوم؛ كما أن العلم بكون اليوم من رمضان لو صادف أول اليوم لزم معه الصوم، فإذا وجد ذلك في بعض اليوم لزم معه الإمساك كما يلزم في الموضع الآخر. قالوا: ولأنه صحيح مقيم في نهار رمضان؛ فوجب عليه الإمساك. أصله: إذا دخل من الليل، أو نسى النية. قالوا: ولأن كل معنى أوجب الصوم في المستقبل أوجب إمساك بقية اليوم؛ اعتبارا ببلوغ الصبي أو إسلام الكافر. والدلالة على ما قلناه أن كل من له أن يفطر أول اليوم في الظاهر والباطن فله أن يأكل بقية نهاره، ولا يلزمه الإمساك ما بقي من يومه. أصله: إذا أصبح مسافرا أو استدام سفره إلى الليل، وكذلك المريض. عكسه: إذا أصبح وعنده أن اليوم من شعبان، ثم ثبت أنه من رمضان فإنه يمسك بقية يومه؛ لأنه وإن كان له في الظاهر أن يأكل في أول النهار فليس له ذلك في الباطن. فإن قيل: ينتقض بالصبي إذا بلغ في بعض اليوم؛ لأنه ممكن كان له أن يفطر في أول اليوم ثم مع ذلك يلزمه الكف. قيل له: لا يلزم ذلك؛ لأنا نقول: إنه يجب عليه الكف بل يستحب

له، وعلى أنا قلنا أفطر وله أن يفطر، وهذا يفيد أن الإفطار مباح له. والصبي لا يدخل في هذا؛ لأنه من لا يلزمه حكم العبادات، ولا يقال له إنه أبيح له أو حظر عليه. فأما حديث عاشوراء فلا حجة فيه؛ لأن الأمر بالإمساك عندنا فيه كان على الندب دون الوجوب. وقياسهم على من أكل وعنده أن اليوم من شعبان ثم تبين أنه رمضان باطل؛ لأنه أفطر، وفي الباطن الفطر غير مباح له؛ فلذلك الإمساك وليس كذلك في مسألتنا. وكذلك اعتبارهم بمن نسي النية، واعتبارهم ببلوغ الصبي لا نسلمه على ما بيناه. مسألة قال رحمه الله: "ومن أفطر في تطوعه عامدا، أو سافر فيه فأفطر [في سفره] فعليه القضاء. وإن أفطر ساهيا فلا قضاء عليه، بخلاف الفريضة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أعلم أن هذا الفصل يشتمل على عدة مسائل: أولها: من دخل في صوم التطوع فليس له الخروج منه من غير عذر. والثانية: أنه أفطر من غير عذر لزمه القضاء.

والثالثة: أنه إن أفطر لعذر فلا قضاء عليه. والرابعة: بيان الأعذار التي تبيح الخروج منه. ونحن نبين ذلك، ونستوفي الكلام عليه إن شاء الله. فصل فأما وجوب إتمام الصوم المتطوع به على الداخل فيه، وإيجاب القضاء على من أفطره بغير عذر فهو قولنا وقول أبو حنيفة، إلا أن أبا حنيفة يزيد علينا فيقول: إن عليه القضاء إذا أفطر بعذر وغير عذر، ونحن نسقط القضاء مع العذر، على اختلاف بين أصحابنا في صفة العذر سنذكره. وذهب الشافعي إلى أن الصائم المتطوع بالخيار بين إتمامه وبين قطعه، ولا قضاء عليه، سواء أفطر لعذر أو لغير عذر. فنبدأ بالكلام على الشافعي؛ لأن أصل الكلام معه، والكلام في الفصلين يتقارب. والذي يدل على أن على الداخل في صيام التطوع إتمامه وإنه ليس له الخروج منه من غير عذر قوله تعالى: {أوفوا بالعقود}؛ فأمر كل عاقد على نفسه عقدا أن يفي به، والأمر على الوجوب. ويدل عليه قوله تعالى: {ولا تبطلوا أعمالكم}؛ فنهى عن إبطال العمل، وفي تركه إتمام الصيام إبطال له؛ فوجب أن يكون ممنوعا منه.

فإن قيل: ليس في إفطاره إبطال لم مضى من الإمساك؛ لأن ثوابه قد حصل له. قيل له: ليس الأمر كذلك؛ لأنه إذا اختار قطعه سقط ثوابه عليه، وصار كأنه لم يفعل شيئا، وإنما حصول الثواب له مشروطا بتمام العمل. ويدل على ما قلناه أيضا قوله تعالى: {ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها}؛ فذم من ألزم نفسه طاعة الله عز وجل ابتداء ثم تركها ولم يرعها، وألحق الوعيد به؛ فكان في ذلك أقوى التنبيه على وجوبه. ويدل على ذلك قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}؛ فالتعلق في عموم هذا الظاهر في كل صيام وكل صوم في [ق/ 40 أ] وجوب إتمام إلى الليل فرضا كان أو نفلا. ويدل على ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي حيث سأله عن الإسلام فذكر له الصلاة والصيام. فقال: هل علي غيرهن؟ قالا: "لا إلا أن تطوع"، وهذا يدل على أن من تطوع به فقد صار عليه، وإذا صار عليه لزمه إتمامه، ولم يجز له تركه إلا بدليل. فإن قيل: إن هذا دليلنا؛ لأن الأعرابي لما سأل عما فرض الله عليه لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم في جواب ذلك: وصيام التطوع إذا دخلت فيه. فالجواب أن هذا لا يلزم من وجهين:

أحدهما: أن الأعرابي إنما سأل عما أوجبه الله عليه ابتداء بأصل الشرع لا عن غيره، ولم يسأل عما يصير واجبا بغير ذلك؛ ألا ترى أنه قال: (والله لا زدت عليهن ولا نقصت منهن)؛ فلذلك اقتصر به على القدر الذي ذكره. ويبين ذلك أنه لا خلاف في لزوم النذر وإن لم يذكره في الواجبات؛ للمعنى الذي قلناه من أنه اقتصر به على ما أوجبه الله تعالى ابتداء. والوجه الآخر: هو أنه قد ذكر ذلك في سياق الخبر، فكان بمنزلة قوله: وما دخلت فيه من التطوع. فإن قيل: فقد قال الأعرابي: (والله لا زدت عليهن ولا نقصت منهن) فقد أفلح إن صدق؛ وهذا ينفي وجوب ما عدا ذلك. قيل له: هذا لا تعلق فيه؛ لأنه إنما ينفي وجوب ابتداء ما عدا الصلوات الخمس وابتداء ما سوى صوم رمضان. فأما إتمام ما دخل فيه من التطوع فواجب بقوله: "إلا أن تطوع"؛ ويدل على ذلك ما رواه شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تصم المرأة يوما من غير شهر رمضان وزوجها شاهد إلا بإذنه". ورواه عبد الرازق عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تصومن المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه غير رمضان، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه".

والمعنى في ذلك أنها تمنع زوجها من وطئها؛ وهذا يدل على أن عليها إتمام التطوع إذا دخلت فيه؛ لأنه لو لم يكن ذلك عليها لكان للزوج أن يفرطها للحق الذي له في وطئها؛ ولما كان يضره أن تصوم من غير إذنه لأنه لا حرج عليه في قطع ذلك عليها. وقد روي هذا الذي قلناه في بعض طرق الحديث؛ فروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس. قال: وصفوان عنده؛ فسأله عما قالت: فقال: يا رسول الله أما قولها (يضربني إذا صليت) فإنها تقرأ سورتين وقد نهيتها فقال صلى الله عليه وسلم: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس". قال: وأما قولها: (يفطرني إذا صمت) فإنها تطلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لا تصومن امرأة إلا بإذن زوجها"، وذكر ما في الحديث. فإن قيل: ليس في هذا دلالة على وجوب إتمام ما دخلت فيه عليها؛ لأنه يحتمل أن يكون نهيه عن ذلك لأن زوجها يكره أن يقدم على قطعها عن إتمام الصوم وإن كان محتاجا إليها. قيل له: قد أجبنا عن هذا في نفس الاستدلال حيث قلنا: إنه لو كان له أن يفطرها ولو كان لها الإفطار وترك الإتمام لم يكن لإيقاف الصوم على

إذنه معنى؛ لأنه كان يصلي إلى حاجته، ولم يكن دخولها في الصوم مانعا لها من ذلك، وليس يجوز أن يكون الأمر واجبا من أجل ما ليس بواجب. وإذا صح هذا بطل ما قالوه. ويدل على ذلك ما رواه ابن وهب عن الحارث بن نبهان عن عبد [الواحد] بن زيد عن عبادة بن نسي قال: دخلت على شداد وهو يبكي قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيت في وجهه شيئا؛ فقلت يا رسول الله: ما هذا الذي أرى في وجهك؟ فقال: "أمران أتخوفهما على أمتي من بعدي: الشرك، والشهوة الخفية؛ أما إنهم لا يعبدوه شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا، ولكنهم يراءون بأعمالهم". قلت: يا رسول الله، أشرك هذا؟ قال: نعم. قلت: وما الشهوة الخفية؟ قال: "يصبح أحدهما صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيواقعها ويدع صومه". ووجه الاستدلال من هذا الخبر هو أنه حذر من ترك الصوم اختيارا، وأخبر عن شدة خوفه عنه على من يفعله. وهذا أقوى دليل في المنع منه؛ لأنه لو كان مخيرا بين إتمامه وقطعه لم يكن يحذر منه كما لا يحذر من ترك سائر المباحات أو المندوبات، وإنما يشتد الخوف بترك الواجبات.

وإذا صح هذا ثبت ما قلناه. ومن جهة القياس؛ لأنها عبادة مقصودة لنفسها فوجب إذا دخل في فعلها أن يلزمه إتمامها؛ اعتبارا بالحج والعمرة. فإن قيل: المعنى في ذلك أن نفعله كفرضه في تعلق الكفارة به؛ فلذلك ساواه في لزومه بالدخول فيه. وليس كذلك الصوم؛ لأن نفله ليس كفرضه في تعلق الكفارة به فلم يلزمه إتمام نفله. فعن هذا أجوبة: أحدها: أن وجوب الكفارة بإفساد العبادة لا يؤثر في لزوم إتمامها كما لا يؤثر في ابتداء إيجابها؛ ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال: إن الحجة الثانية لما ساوت الأولى في وجوب الكفارة بإفسادهما وجب لذلك أن تكون واجبة ابتداء؛ فكذلك لا يجب إذا ساوتها في ذلك أن [ق/ 41 أ] يكون إتمامها واجبا. والثاني: هو أن الحج إنما استوى نفله وفرضه في تعلق الكفارة به لمعنى يرجع إلى تأخير، وليس كذلك الصوم؛ لأن الكفارة تجب فيه لمعنى يرجع إلى عين زمان له حرمة، لا إلى حال الصوم من وجوب أو غيره. وعلى أن هذه العلة موجودة في القضاء لأن قضاء الحج مساو لأصله في ذلك. ولا يجب بهذا ألا يكون قضاء الصوم واجبا؛ فكذلك وجوب إتمامه. واستدل أصحاب الشافعي- رحمه الله- بما رواه طلحة بن يحيى عن عمته عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات

يوم فقربت إليه قعبا فيه حيس خبأناه له، فأكل وقال لها: "أما إني كنت صائما" وروي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على نسائه فيقول: "هل عندكم من طعام؟ " فإذا قلنا: لا قال: "إني صائم". والظاهر في حال من يطلب الطعام أنه إنما يطلبه للأكل، ويؤكد ذلك قوله أنه إنما أخبر بأنه ليس عندهم طعام "إني صائم"؛ فمفهوم هذا أنه لو وجد لأكل. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصائم المتطوع أمير نفسه؛ إن شاء صام وإن شاء أفطر"، وهذا نص في موضع النزاع. وروى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصائم بالخيار فيما بينه وبين نصف النهار". وروى أبو الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى الطعام وهو صائم فليجب؛ فإن شاء طعم وإن شاء ترك"، وهذا ينفي وجوب الإتمام، ولأنها عبادة يخرج بالفساد منها؛ فوجب ألا يلزم بالدخول فيها.

أصله: إذا اعتقد أن عليه صلاة وصوما فدخل فيه، ثم بان أنه ليس عليه. فالجواب عن ذلك أن حديث طلحة بن يحيى غير صحيح عند أهل النقل؛ قال موسى بن هارون: هذا حديث منكر، وطلحة بن يحيى هذا يروي أحاديث منكرة؛ فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى جنازة طفل من الأنصار، قالت عائشة: فقلت: عصفور من عصافير الجنة. فقال: "وما علمك؟ إن الله خلق للجنة أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا وهم في أصلاب آبائهم"، فأدخل الشك في أطفال المسلمين هل هم في الجنة أم في النار. لا خلاف بين المسلمين في أن أطفالهم في الجنة. مع أن النص ورد بذلك في قوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم}. وإنما اختلف في أطفال المشركين، فأما أطفال المسلمين فلا خوف أنهم في الجنة؛ فكانت روايته لهذا الحديث من أقوى ما ضعف به عند أهل النقل. وعلى أنا لو سلمنا صحته لم يكن فيه دلالة على موضع الخلاف؛ لأنه

يجوز أن يكون تعذر إباحة الإفطار، أو أفطر ناسيا، أو ظن أن عليه صوما ولم يكن عليه. وحمل الخبر على هذا أيضا أولى؛ لأنه يزول معه حمل فعله على الوجه المكروه؛ لأنه لا خلاف أن قطع الصوم اختيارا مع القدرة على إتمامه مكروه، وأن إتمامه إما واجب- على ما نقوله- أو مندوب- على ما يقوله من خالفنا. فأما أن يكون فعله كتركه فليس بقول لأحد. وما رووه من أنه صلى الله عليه وسلم كان يدخل على نسائه فيطلب الطعام، فإذا قيل له: لا فقال: "إني صائم" فلا حجة فيها؛ لأن طلب الطعام ينقسم إلى وجوه: منها الأكل، ومنها طلب العلم بحصوله أو عدمه لتسكن نفسه إلى ذلك. فليس لهم حمله على أحد الأمرين إلا ولنا حمله على الآخر. فإن قالوا: الظاهر من أمر من يطلب الطعام أنه إنما يطلبه للأكل. قلنا: ليس هذا ظاهر الطلب؛ لأن ما ذكرناه أيضا في الاحتمال والإمكان مثله من غير ترجيح، ولا مزية لأحدهما على الآخر. على أنا لو سلمنا هذا لكان في الحديث ما يمنع حمله عليه؛ وهو قوله لما أخبر بأن ليس طعام: "إني صائم" أو "إني كنت صائما" على أنه لم يطلبه للأكل؛ لأن الصائم إنما يطلب الطعام لغرض غير الأكل. وهذا أولى مما ذكروه. وما رووه من قوله صلى الله عليه وسلم: "الصائم المتطوع أمير نفسه؛ إن شاء صام وإن شاء أفطر" فاستذلالهم به لا يتم إلا بحمله على ضرب من المجاز. فنحن أيضا نقابلهم بمثله؛ وذلك أن حقيقة اسم الصائم لمن هو في الحال صائم. وحقيقة قوله (إن شاء صام) لمن هو في الحال مفطر أنه لا يقال لمن هو

صائم: إن شئت تصوم صمت كما لا يقال للقائم: إن شئت أن تقوم قمت؛ لأن هذا يفيد أمرا مستقبلا. وإذا صح هذا فمخالفنا يحمل قوله "الصائم المتطوع" على حقيقته؛ وهو الداخل في الصوم، ويحمل قوله: "إن شاء صام" على المجاز؛ بمعنى: إن شاء تمم صومه. ونحن نحمل قوله: "الصائم" على العازم على الصوم والناوي له ولم يدخل فيه، ونحمل قوله: "إن شاء صام" على الحقيقة؛ فقد تساوينا في الخبر. فإن قيل: نحن إذا حملنا الخبر على ما قلناه فقد حملناه على مجاز واحد، وأنتم تحملونه على مجازين: أحدهما: أنكم تحملون قوله: "الصائم" على العازم على الصيام، وهذا مجاز. وتحملون قوله: "إن شاء أفطر" على المجاز أيضا بالطريقة التي أريتمونا أنا حملنا قوله: "إن شاء صام" على المجاز؛ وهو أنه أمر له بأن يفعل ما هو في الحال فاعل له. فالجواب: أن هذا غير صحيح؛ لأن قوله: "وإن شاء أفطر" معناه: في المستقبل؛ وهو الزمان الذي إن شاء أن يصومه صامه، وليس بتخيير له أن يفطر في حال هو فيها مفطر، ولا يضر أن [ق/ 42] يكون في الحال على أحد الحالين؛ لأن الخطاب غير متوجه إلى هذه الحال؛ ألا ترى أنه يقبح أن يقول للقائم: إن شئت في هذه الحال أن تقوم إلا مجازا، ويحسن أن تقول: إن شئت من غد إن تقوم وإن شئت تقعد، ويكون حقيقة؛ لأن مستقبل. وإذا صح هذا سقط ما قالوه.

وما رووه من قوله: "الصائم المتطوع بالخيار ما بينه وبين نصف النهار" فالخبر أيضا متردد بيننا وبينهم؛ لأنه قد خيره في بعضه ومنعه التخيير في باقيه؛ فلم يكن لهم التعلق بالتخيير، ألا ولنا التعلق يضره وما رووه من قوله: "إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليجب؛ فإن شاء طعم وإن شاء ترك" عنه جوابان: أحدهما: إنه ليس فيه أن الصائم مخير بين إتمام الصوم وقطعه، وإنما فيه أن له أن يفطر إذا دعي. ولو صار صائر إلى أن هذه الحال عذر يبيحه الفطر وأنها كالسفر لم يبق لهم من الخبر شيء. والجواب الآخر: إنه معارض بما رواه جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليقل: إني صائم"؛ فقصره على هذا القول، وهذا ينفي التخيير بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب؛ فإن كان مفطرا فليأكل، وإن كان صائما فليصل"؛ ففرق بين حكم المفطر والصائم؛ فبطل بذلك ما قالوه. وقولهم: (يخرج بالفساد منها) غير صحيح؛ لأن الصوم يمضي في فاسده عندنا، وأما إذا دخل في الصوم على أنه عليه ثم بان له أن ليس عليه فالمعنى فيه أنه لم يلزم نفسه شيئا؛ لأنه إنما دخل بشرط أن عليه شيئا، فلما بان له أنه لا شيء عليه كان على الأصل. والله أعلم.

فصل وأما الدلالة على وجوب القضاء إذا أفطر عامدا من غير عذر في صيام التطوع فما رواه ابن وهب قال: حدثني جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عمرة بني عبد الرحمن عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين، وأهديت لنا هدية فأكلنا، فدخل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت حفصة ذلك له فقال: "صوموا يوما مكانه". ورواه عبد الله بن عمر عن الزهري عن عروة عن عائشة وحفصة أنها قالت: أصبحنا صائمتين، وأهدي إلينا طعام فأكلنا فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "اقضيا يوما مكانه". ورواه مالك في "الموطأ" عن ابن شهاب أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين متطوعتين ... مرسلا، وذكر الحديث. ورواه عبد الله بن عبد الحكم قال: حدثنا عاطف بن خالد عن زيد بن أسلم عن عائشة وحفصة أنهما أصبحتا صائمتين متطوعتين ... وذكر الحديث بعينه، وقال فيه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اقضيا يوما مكانه، ولا تعودا". وهذا يؤكد الأمر بوجوب القضاء، وفيه دلالة على سقوط التخيير

ووجوب الإتمام؛ لأنه نهاهما عن العود لمثل ما فعلاه. فإن قيل: فقد روي في هذا الحديث زيادة؛ وهو قوله: "إن شئتما"؛ وهذا يفيد تخييرهما في القضاء. قيل له: هذه الزيادة لا تعرف في حديث صحيح. على أنها معارضة بقوله: "ولا تعودا"، وهذا ينفي التخيير. وإذا تعارضا سقطا، ورجعنا إلى مجرد الأمر. على أنه قد روي: (فأمرهما أن يقضيا يوما مكانه). ولأنهما عبادة في نفسها؛ فجاز أن يجب القضاء على مفسد نفلها؛ اعتبارا بالحج والعمرة. واستدل من خالفنا بما رواه جرير بن عبد الحميد عن يزيد بن أبي زيادة عن عبد الله بن الحارث عن أم هانئ قالت: لما كان يوم الفتح- فتح مكة- جاءت فاطمة فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأم هانئ عن يمينه. قال: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب فناولته فشرب منه ثم ناوله أم هانئ فشربت منه. فقالت: يا رسول الله لقد أفطرت وكنت صائمة. فقال لها: "أكنت تقضين شيئا؟ " قال: لا. قال: "فلا يضرك إن كان تطوعا". ولأنها عبادة يخرج بالفساد منها؛ فلم يلزم قضاء تطوعها؛ اعتبارا

بالوضوء والاعتكاف. ولأنه مفطر في صيام تطوع فأشبه الناس. والجواب: إن حديث أم هانئ لا دلالة فيه من وجهين: أحدهما: إنه ليس في الخبر أنها أفطرت ذاكرة الصوم، إنما فيه أنها شربت ثم قالت: لقد كنت صائمة، ويحتمل أن تكون أفطرت ناسية، بل هذا هو الظاهر، ونحن لا نوجب القضاء على المفطر ناسيا في التطوع. والجواب الآخر: إنه يحتمل أن تكون أفطرت وهي ذاكرة غير مختارة لإفساد الصوم، ولكن اعتقدت أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب وأن رده وإيثار الشرب على شرب ما قد أمرها بشربه ودفعه إليها معصية. وهذا عذر يجوز أن يذهب إليه. وإنما خلافنا فيمن آثر قطع الصوم لغير عذر؛ فسقط التعلق بالخبر. والمعنى في الوضوء أنه غير مقصود لنفسه، وليس كذلك الصوم. وأما الاعتكاف فيلزم القضاء فيه عندنا. واعتبارهم بالناس باطل؛ لأنه مفطر بعذر، وليس كذلك العامد. والله أعلم. فصل وأما الدلالة على أنه إذا أفطر بعذر فلا قضاء عليه فما رويناه من قوله صلى الله عليه وسلم: إن كان تطوعا فلا قضاء عليك.

وقد اتفقنا على أن هذا لا يجوز أن يكون مع عدم العذر؛ فثبت أن المراد [ق/43] به مع العذر ولأنه لابد أن يكون للفرض مزية على النفل في الإيجاب، ولو قلنا: إن المتطوع يلزمه القضاء بنفس الإفطار من عذر وغير عذر لألحقنا بالواجب، ولم يكن بينهما فرق. فصل فأما العذر الذي يسقط معه القضاء فهو النسيان والمرض وشدة الحر والجوع والعطش الذي يخاف من مثله المرض أو التلف. وأما السفر: ففيه روايتان: إحداهما: إنه عذر يسقط مع القضاء. وهي رواية ابن عبد الحكم. والأخرى: إنه ليس بعذر يبيح الفطر، وإنه متى أفطر فيه لزمه القضاء. وهي رواية ابن القاسم. وكذلك إن أنشأ صوم التطوع في السفر ثم أفطر فيه من غير عذر ففيه روايتان؛ على ما ذكرناه. فإذا قلنا: أنه عذر يسقط معه القضاء فوجهه أن نقول: لأن كل معنى جاز فيه الإفطار في رمضان سقط به القضاء في التطوع. أصله المرض. أو نقول: لأنه معنى تسقط به الكفارة الكبرى عن القاصد للأكل فيه

في رمضان؛ فوجب أن يسقط به القضاء عن المتطوع. أصله النسيان. وأيضا فلأن للفرض مزية على التطوع؛ فكل موضع وجبت الكفارة فيه بالفرض سقطت في التطوع ووجب القضاء فقط؛ فيجب أن يكون الموضع الذي يوجب القضاء في الفرض ويسقط الكفارة مسقط للقضاء في التطوع. وإذا قلنا: إنه ليس بعذر يسقط القضاء قلنا: لأنه أفطر مختارا مع إمكان إتمام الصيام؛ فأشبه الحاضر. والقول الأول أولى. فصل قال رحمه الله: "ولا بأس للسواك للصائم في جميع نهاره". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله- لا خلاف في إباحة ذلك في أول النهار، وإنما الخلاف في آخره؛ فعندنا وعند أبي حنيفة أنه مباح في أول النهار وآخره، وعند الشافعي أنه مكروه في آخر النهار. والدلالة على صحة قولنا: ما رواه الشعبي عن مسروق عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير خصال الصائم السواك".

وهذا يفيد أنه مندوب إليه ما كان صائما. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة". ولم يخص صائما من مفطر. وروى نافع عن ابن عمر أنه كان يستاك لكل صلاة وهو صائم. ولأن كل معنى لم يكره أول النهار لم يكره آخره. أصله: المضمضة. ولأن أوقات الصوم متساوية فيما هو من شرط الصحة؛ فوجب أن يتساويا في شرط الندب. واستدل من خالفنا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" والسواك يذهب بالخلوف؛ فوجب أن يكره. ولأنها رائحة مكتسبة عن عبادة فالاختيار أن لا تزال؛ كالشعث للحاج حال حجه. فالجواب عن الخبر أن الخلوف ليس يذهبه السواك؛ لأنه حادث عن الجوع؛ قيل: إنه بخار يصعد من المعدة. والسواك ليس له عمل إلا في تنقية الفم فقط؛ فلم يكن في الخبر دلالة على موضع الخلاف، وعلى أن معنى الخبر حصول الثواب عليه، والسواك لا يسقط ذلك. والمعنى فيما ذكروه كراهيته في أول الحج، وليس كذلك السواك في

الصوم؛ لأنه غير مكروه في أول النهار؛ فكذلك في آخره. والله أعلم. فصل فأما الرطب من المساويك فإنه يكره استعماله، لا لمعنى يرجع إلى السواك لكن لأنه قد يتطعمه فيؤدي ذلك إلى إفطاره؛ فكره ذلك لما ذكرناه. فإن سلم فلا شيء عليه.

مسألة قال رحمه الله: "ولا تكره له الحجامة إلا خيفة التغرير". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن هلي رحمه الله: هذا قول جميع أصحابنا، وهو مروى عن المشيخة السبعة، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وسائر الفقهاء. وقال أحمد بن حنبل: الحجامة تفطر الصائم، وعليه إعادة يوم مكانه، ولا كفارة عليه. وحكي عن عطاء أنه كان يقول: عليه الكفارة. والدلالة على صحة قولنا: ما رواه أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم. وروى شعبة بن يزيد بن أبي زياد عن مقسم عن ابن عباس أنه احتجم وهو صائم محرما. وروى حميد عن أبي المتوكل عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص

في الحجامة والقبلة للصائم. وروى زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاثة لا يفطرن الصائم: الحجامة، والقيء، والاحتلام".

وروى أبو داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا سفيان عن زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يفطر من قاء، ولا من احتلم، ولا من احتجم". ولأن الحجامة في معنى الجراح، فإذا كانت الجراحة لا تفطر؛ كذلك الحجامة. واحتج من خالفنا بما رواه أبو أسماء الرحبي عن ثوبان أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول "أفطر الحاجم والمحجوم". وروى أبو قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى رجلا بالبقيع وهو يحتجم، وهو آخذ بيدي لثمان عشرة ختلن من رمضان فقال: [ق/ 44] أفطر الحاجم والمحجوم". ولأنه دم يخرج من البدن معتادا؛ فجاز أن يفطر. أصله: الحيض.

ولأن الفطر يقع بالخارج من البدن كما يقع بالداخل فيه أصله ما ذكرناه. والجواب: عن الخبر من وجهين: أحدهما: أنه مجاز، وعلى تأويل أن أمرهما يؤول إلى الفطر؛ فسماهما بما يؤول إليه أمرهما. وهذا وجه من المجاز، وقد ورد به الاستعمال؛ قال الله تعالى: {إني أراني أعصر خمرا} أي: ما سيصير خمرا. وقد أجاب بعض أصحابنا عنه بأن قال: إنه قد ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بهما وهما يغتابان رجلا فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم"، وهذا لا معنى له؛ لأن هذا نقل حال،؛ كما روي أنه مر بهما في اليوم الثامن عشر من رمضان أن هذا نقل حال، لا أن لهذا اليوم اختصاصا بذلك. والجواب الآخر: إنه منسوخ بما ذكرناه، وما سنذكر؛ فروى عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا خالد بن مخلد عن عبد الله بن المثنى عن ثابت عن أنس قال: أول ما كرهت الحجامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يحتجم بالبقيع لثمان عشرة خلت من رمضان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفطر هذان"، ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الحجامة للصائم

وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم في رمضان بعد ما قال: "أفطر الحاجم والمحجوم". واعتبارهم بدم الحيض ينقض بالفساد والرعاف، ثم المعنى في دم الحيض أنه دم يوجب الغسل؛ فلذلك جاز أن يفطر، وليس كذلك الحجامة؛ لأن خروج الدم فيها لا يوجب الغسل؛ فلم يقع به الفطر. وقولهم إن الفطر قد يقع بالخارج من البدن فنحن لم ننكر هذا، ولكن ليس كل خارج من البدن يفطر. فصل فأما وجه كراهيتها؛ فلما ذكر من التغرير بالصيام وذلك أن الغالب من حال من يحتجم أنه يلحقه ضعف يمنعه الصوم إلا على شدة؛ فكرهت لذلك. وقد روي هذا المعنى عن الصحابة؛ فروى سعيد بن المسيب عن علي رضي الله عنه أنه قال: إنما كرهت الحجامة للصائم مخافة الضعف. وروي مثله عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري وأنس بن مالك. وروى عبد الرحمن بن عياش عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم إبقاء على أصحابه. وقد روي أيضا عن جماعة من التابعين.

مسألة: قال رحمه الله: "ومن ذرعه القيء في رمضان فلا قضاء عليه، وإن استقاء فعليه القضاء". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا لما رواه ابن وهب عن الحارث بن شهاب، وعن عطاء بن عجلان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري جميعا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذ ذرع الرجل القيء وهو صائم فليتم صومه، ولا قضاء عليه، وإن استقاء فإنه يعيد صيامه". وروى عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه القضاء، ومن استقاء فعليه القضاء". ولا خلاف أن من ذرعه القيء فلا قضاء عليه، وإنما الخلاف في المستقيء عامدا بين أصحابنا؛ منهم من يقول: إن القضاء واجب، ومنهم من يقول استحباب. وكان ابن بكير يذهب إلى أنه استحباب. وأبو يعقوب الرازي وأبو بكر بن الجهم يذهبان إلى أنه واجب. فأما وجوب الكفارة بالاستقاء فمبني على حصول الفطر به؛ فإن قلنا:

إنه يفطر به. قلنا: إن الكفارة واجبة في عمده. وإن قلنا: إنه لا يفطر لم توجب الكفارة. وذكر أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله في كتابه الكبير عن أشهب أنه إذا استقاء في تطوع أفطر إن شاء وقضاه، وإن تمادى فيه فعليه القضاء أيضا. وهذا يدل على أنه يفطر عنده. وهذا يؤيد قول من ذهب إلى أن القضاء استحباب. فوجه القول بموجب ذلك: ما رويناه من قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن استقاء فعليه القضاء". وروى أبو بكر بن عياش عن عبد الله بن سعيد عن جده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استقاء الصائم أعاد". ولأنه إذا استقاء جاز أن يرجع إلى حلقه شيء مما خرج منه باستدعائه؛ فكان كالمعتمد لإيصال شيء إلى حلقه؛ فلزمه القضاء بذلك. ووجه قوله إن ذلك غير واجب: فلأن مدخل الطعام والشراب إنما يجب الفطر بما دخل منهما، لا بما خرج عنهما؛ اعتبارا بالجشاء. ولأن القيء لا يفطر. أصله: إذا ذرع صاحبه. ولأنه خارج من البدن لا غسل فيه؛ فلم يتعلق به حكم الإفطار.

أصله: الدموع، والفصاد، وغير ذلك. فأما الخبر: فمحمول على الندب. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "وإذا خافت الحامل على ما في بطنها أفطرت، ولم تطعم. وقد قيل: تطعم. وللمرضع وإن خافت على ولدها، ولم تجد من تستأجر له، [و] يقبل غيرها فلها أن تفطر وتطعم. و [يستحب] للشيخ الكبير إذا أفطر أن يطعم. والإطعام في هذا كله مد عن كل يوم يقتضيه. وكذلك يطعم من فرط في قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان آخر". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أما الحامل: فلها الإفطار، ولا خلاف في ذلك [ق/45] والأصل فيه أنها مريضة، فجاز لها الإفطار؛ لقوله تعالى: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}. معناه: فأفطر فعدة؛ كما قال: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه

ففدية}؛ معناه: فخلف ففدية. فالضمير في هذين الموضعين مشترط. فالإجماع إلا على ما ذهب إليه بعض من لا يعتد بقوله، ولا يلتفت إلى قوله أنه إذا كان مريضا لا يصح صومه. فصل وأما سقوط الإطعام عنها، سواء أفطرت من أجل الخوف على نفسها أو على حملها. فهذا قولنا وقول أهل العراق وغيرهم. وقال عبد الملك بن الماجشون، والشافعي: إن أفطرت خوفا على نفسها فلا كفارة عليها، وإن أفطرت خوفا على ولدها فعليها الإطعام. وللشافعي قولا آخر مثل قولنا. والدلالة على صحة قولنا: ما رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا وهيب بن خالد قال: حدثنا عبد الله ابن سوادة القشيري عن أنس بن مالك عن رجل منهم أنه أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتغد فقال: "هلم إلى الغداء" فقال: يا نبي الله إني صائم. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن المريض، والحبلى، والمرضع". ورواه القاضي إسماعيل حدثنا سليمان بن حرب حدثنا أبو هلال حدثنا

عبد الله بن سوادة عن أنس بن مالك عن رجل من بني عبد الله بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله. ووجه الاستدلال من هذا هو أنه أخبر بأن الصوم موضوع عن الحامل؛ فاقتضى ذلك سقوطه مع جميع توابعه، والأحكام الواجبة لأجله. فإن قيل: المراد بذلك وضع الانحتام لا إسقاط أصل العادة، ورفع الانحتام لا يوجب سقوط الفدية؛ ألا ترى أن الصوم في صدر الإسلام لما لم يتحتم وكانت الفدية مع ذلك واجبة؟ وقيل له: ظاهر سقوط الانحتام يقتضي سقوط جميع توابعه وما يتعلق به، إلا أن يقوم دليل، وما ذكروه فبدليل قام عليه. ويدل على ذلك أيضا أنها مفطرة بعذر؛ فلم يلزمها الإطعام اعتبارا بالمريض والمسافر. ولا يلزم على هذا الموضع؛ لأنا على هذه العلة لا نوجب عليها شيئا سوى القضاء. ولا معنى لتعليلهم الأصل بأن المريض والمسافر أفطرا من أجل نفسهما وليس كذلك الحامل؛ لأنها أفطرت من أجل غيرها؛ لأن هذا فرق بين الموضعين مع وجود العلة؛ وهي حصول الإفطار مع العذر؛ فلا اعتبار به. وعلى أن ذلك الغير الذي من أجله أفطرت متصل بها وهو الحمل فما يلحقه من الضرر بصومها يتعدى إليها لا محالة ما دام متصلا بها؛ فعاد الأمر إلى أنها تفطر من أجل نفسها. ويدل على ما قلناه أيضا أن إيجاب الكفارة بالفطر يتعلق بهتك حرمة

الصوم؛ اعتبارا بالمجامع والمريض طردا وعكسا؛ ألا ترى أن المجامع عمدا تجب عليه الكفارة لهتكه حرمة الصوم بالفطر، وأن المريض والمسافر بإفطارهما؟ وإذا صح هذا وكانت الحامل غير هاتكة لحرمة الصوم بالإفطار لم تلزمها كفارة. سؤالهم وجوابه: استدلوا بقوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين}. قالوا: وتقديره: على الذين يطيقون الصوم فأفطروا فدية؛ فأوجب الفدية على من أفطر وهو مطيق الصوم، والحامل والمرضع داخلان في هذا العموم؛ لأنهما أفطرتا وهما مطيقتان للصوم. فالجواب: إن أقل ما في هذا أنه لا يتناول موضع الخلاف؛ لأن جمع المذكر لا يدخل فيه المؤنث إلا بدليل، وقوله: {وعلى الذين يطيقونه} جمع المذكر لا محالة. فإن قالوا: أليس إذا اجتمع التأني والتذكير غلب التذكير؟ قلنا: بلى: ولكن هذا إذا غلمنا اجتماعهما في الخطاب. والجواب الآخر: هو أن الصحابة ذكرت أن هذه الآية منسوخة؛ لأنها وردت في صدر الإسلام بالتخيير بين أن يصوم الإنسان أو يفطر ويفدى، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} ويؤكد هذا

قوله في آخر الآية: {وأن تصوموا خير لكم} وهذا عائد إلى تارك الصوم مختارا. سؤال آخر وجوابه: قالوا: عن ابن عمر وابن عباس أنهما قالا: للحامل والمرضع إذا أفطرتا فعليهما الفدية عن كل يوم مد، ولا مخالف لهما. فالجواب: أن المحفوظ عنهما وجوب الإطعام وسقوط القضاء. وهم لا يقولون ذلك. وإلى أن يثبت أنه لا مخالف لهما فقد روى ما قلناه عن الحسن إبراهيم النخعي وعطاء والضحاك. وقد ذكر أن التابعي إذا عاصر الصحابة كان له الاجتهاد معهم. وروى أيضا عن الزهوي وربيعة. ذكر ذلك ابن المنذر في كتاب "الخلاف". وإذا كان كذلك بطل ما ادعوه من الإجماع. سؤال الآخر وجوابه: قالوا: لأنها مقيمة صحيحة أفطرت لعذر معتاد؛ فوجب أن يكون عليها الفدية. أصله: الشيخ والعجوز المقيمان. فالجواب: أن هذا غير مسلم؛ لأنه لا إطعام عندنا على ما ذكروه واجبا، وإنما يستحب لهما ذلك من غير إيجاب.

وليس على أصولنا معذور بالفطر يلزمه [ق/46 أ] إطعام إلا إحدى الروايتين في المرضع، والقياس عليها. وجواب آخر: وهو أن هذا الاعتلال ينتقض بالحائض؛ لأنه لا إطعام عليها مع وجود جميع هذه الأوصاف فيها. فإن قيل: إن الحائض دخل عليها ما حصلت معه مفطرة؛ فلا يقال: إنها أفطرت، وإنما عللنا لمن أفطر بفعله لا بأمر دخل عليه. قلنا: حقيقة الفطر هو من حصل معه الإفطار، سواء كان ذلك بفعله أو بأمر داخل عليه؛ ألا ترى أن النبيى صلى الله عليه وسلم سمى الصائم إذا دخل عليه الليل مفطرا، وأخبر بأنه قد أفطر وإن كان لم يفعل شيئا كان به مفطرا؛ فبان بهذا بطلان ما قالوه. وليس كل ما كان بلفظ فعل كان حقيقته حصول فعل من جهة من أضيف إليه؛ لأن هذا اللفظ مشترك يحتمل هذا وغيره؛ ألا ترى أن نقول: إن المرأة حاضت، وإن لم تكن فعلت ذلك، وكذلك نقول: إن فلانا مات وإن لم يكن ذلك فعله. سؤال وجواب: قالوا: ولأنها عبادة يجب في إفسادها القضاء والكفارة العظمى؛ فجاز أن يجب فيها القضاء والكفارة الصغرى. أصله: الحج. وهذا لا نسلمه في الحج أعنى أنه يتعلق بإفساده كفارتان؛ على أن طريق الحج مخالف للصوم؛ لأن الكفارة تتعلق بإفساده مع العذر وغيره،

وليس كذلك الصوم. وأيضا فإنا نقول بموجب هذه العلة على أحد وجهى أصحابنا في المرضع. فصل فأما المرضع: فإن كان ولدها يقبل من غيرها، وأمكن استئجار من ترضعه فلا يجوز لها الإفطار؛ لأنه لا عذر لها في ذلك. وإن كان لا يقبل من غيرها، أو كان يقبل ولم تتمكن من استئجار من ترضعه فلها أن تفطر إذا خافت عليه إن صامت. ولا خلاف. ثم هل عليها الإطعام أم لا؟ فيه روايتان: إحداهما: وجوب الإطعام: والثانية: سقوطه. فوجه وجوبه- وهو قول الشافعي ما ذكرناه في الحامل. وأيضا فلأنها مفطرة من أجل غيرها منفصلا عنها؛ فكان عذرها أضعف من عذر من ذكرنا من المريض والمسافر. وإذا قلنا: لا إطعام عليها فوجهه أنها مفطرة بعذر؛ فأشبهت المريض والمسافر. وهذا القول أقيس. وكون ما تفطر من أجله منفصلا عنها أو متصلا بها لا يؤثر في موضع الخلاف؛ ألا ترى أنه لا يخرجها عن كونها معذورة؟

وإذا صح هذا فالإطعام هو مد عن كل يوم، وإنما قلنا ذلك لما روى عن ابن عباس وغيره. ولأنها لما لم تلزمها الكفارة العليا لزمتها الكفارة الأدنى، ولا كفارة إلا ما ذكرناه. فصل فأما الشيخ الهرم الذي لا يستطيع الصوم فإنه لا يجب عليه الصوم، لا خلاف في ذلك. وأما الإطعام: فهو مستحب عندنا له غير واجب عليه. وقال الشافعي: يجب عليه الإطعام. والدلالة على صحة قولنا: أنه ممن له يتوجه عليه فرض؛ فلم يلزمه إطعام. دليله: الصبي. ولأنه أفطر بعذر؛ فوجب ألا يلزمه إطعام. أصله: المريض. وعلى هذا الاعتلال نسوى بينه وبين المرضع. وإن فرقنا بينهما على الرواية الأخرى قلنا: لأنه مفطر بعذر موجود به؛ فأشبه المريض والمسافر، ولا يلزم عليه المرضع؛ لأن إفطارها من أجل غيرها وهو الولد، ولأنه مفطر لا يلزمه القضاء فلم تلزمه الكفارة. أصله: الطفل.

واستدل من خالفنا بقوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية}. قال: قرأ ابن عباس "يطوقونه" وقال: معناه: يكلفون الصيام فلا يقدرون، وهو الشيخ الهرم. والقراءة إذا انفرد بها الواحد كانت كالخبر الواحد في. أنها حجة؛ لأنها لا تخلو أن تكون توفيقا أو []: إن هذه القراءة غير ثابتة في المصحف المجمع عليه؛ فلا نقبلها. وما قالوه من أنها بمنزلة خبر الواحد غلط؛ لأن إثبات حكم القراءة على وجه يخالف ما في المصحف المجتمع عليه لا يقبل فيه خبر واحد. على أن هذا التأويل غير صحيح؛ لقوله في آخر الآية {وأن تصوموا خير لكم}؛ فعلم أنه خاطب بذلك من يطيق الصوم، وتركه اختيارا على ما ذكر من أنه كان في أول الإسلام من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يفطر ويطعم فعل. وأيضا فلا يخلو أن يكون معنى له: {يطيقونه} أي: يكلفونه؛ فهذا يوجب أن الشيخ مكلف الصيام وهذا خرق الإجماع، أو أنه في حكم المطيق في لزوم الإطعام فهذا لا يوصف أنه مطوق للصوم؛ فبطل التعلق بهذا.

سؤال: قالوا: ولأنه إجماع الصحابة؛ لأنه روى عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس رضى الله عنهم أنهم كانوا يقولون: الشيخ الهرم إذا أفطر عليه القضاء والإطعام، ولا مخالف له. فالجواب: إنه إن ثبت هذا عنهم حملناه على الاستحباب بالدلائل التي ذكرناه، وما ذكرناه قول مكحول وربيعة وغيرهما. سؤال: قالوا: لأنه صوم واجب فجاز أن يسقط إلى بدل هو إطعام. أصله: الصوم في كفارة الجماع. فيقال لهم: ما الذي عنيتم بقولكم أنه صوم واجب؟ أعنيتم ما تنازعناه، أو أعنيتم غيره؟ فإن قالوا: ما تنازعناه وهو الشيخ الهرم أحالوا وخرقوا الإجماع، وإن قالوا غيره خرج الاستدلال من أيديهم؛ لأن الواجب على غيره لا يسقط عن ذلك الغير ببدل على هذا. وأيضا فإن الصوم في الكفارة مخاطب به من خوطب ببدله، وليس كذلك مسألتنا. والله أعلم. فصل فأما من فرط في قضاء رمضان حتى دخل عليه رمضان فإنه يصوم، ويطعم عن كل [ق/47] يوم؛ فشرط فيه مسكينا مدا مدا من طعام. هذا قولنا، وقول الشافعي. وذكره ابن المنذر عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء، والقاسم بن محمد، والزهري، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق رضي الله

عنهم أجمعين. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا كفارة عليه. والدلالة على ما قلناه: ما رواه مالك عن يحيى بن سعيد بن أبي سلمة عن عائشة قالت: إن كان ليكون على صيام من رمضان فما أستطيع أن أقضيه حتى يأتي شعبان. فأبانت بذلك أن وقت القضاء ما بين الرمضانين. وإذا صح هذا كان إذا أخره عن هذا الوقت مفرطا؛ فقد أخره عن وقته المجعول له؛ فأشبه من أخر الصوم عن رمضان نفسه، فلزمته الكفارة. ولا يلزم على هذا أن يستويا في تقدير الكفارة من حيث استويا في أصل الوجوب؛ لاختلاف حرمة الوقتين، وكون زمان رمضان مستحق العين، متأكد الحرقه، بخلاف سائر السنة. واعترض عليه بأن قيل: إن هذا من قول عائشة، وليس بمروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقولها على انفرادها لا يحتج به. فالجواب: أن الموضع الذي يروى عنها لا يختلف فيه، وهو انحتام القضاء في طول السنة، والمنع من تأخيره إلى ما بعد من رمضان الثاني. هذا اتفاق وإن اختلفنا في هل يجب عليه بهذا التأخير شيء أم لا. وإذا صح هذا بطل ما قالوه. وقد استدل جماعة ممن وافقنا بقوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية}

معناه: إذا أفطر. قالوا: فألزمهم الفدية بتأخيره، وعموم هذا يوجب أن تكون عليهم الفدية سواء قضوه أو لم يقضوه، فقامت الدلالة على أنه لا فدية عليهم إذا قضوه، وبقى ما عداه على عمومه. قالوا: وروى الحكم عن مجاهد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أفطر رمضان من مرض فصح ولم يصمه حتى أدركه رمضان آخر فليصم ما أدركه ثم ليقض الذي فاته، وليطعم على كل يوم مسكينا " وهذا نص في موضع الخلاف. قالوا: وروى شريك عن ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن مات وعليه رمضان لم يقضه: "أطعم عنه في كل يوم نصف صاع من بر". وهذان الخبران رأيتهما بهذا الإسناد في كتب جماعة من موافقينا، ولم أرهما في شيء من كتب أهل الحديث. ومن جهة القياس: لأنها عبادة على البدن تفعل مرة في السنة؛ فوجب إذا أخر قضاءها مفرطا حتى عاد وقتها أن يلزمه مع القضاء الكفارة. أصله: الحج إذا فاته. واحتج مخالفنا: بقوله تعالى: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}؛ فأوجب بتأخيره القضاء، فلو قلنا: إن عليه الإطعام مع القضاء

فكان ذلك زيادة في النص، والزيادة على النص نسخ عند قوم. فالجواب: أن هذا لا دلالة فيه على موضع الخلاف؛ وذلك أنه ليس فيه أكثر من أن الفطر يوجب القضاء فقط، ونحن كذلك نقول: إنه لا يجب بالفطر إلا القضاء. فأما الإطعام فليس يجب بالفطر، وإنما يجب بالتأخير. فإذا كان الأمر على ما وصفنا فلم يزد في حكم النص. قالوا: وأيضا فقد روى في حديث أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "إن كان من رمضان فاقضه، وإن كان من تطوع فإن شئت فاقضه وإن شئت فلا". ووجه الاستدلال بهذا أنه أمرها بالقضاء ولم يأمرها بالإطعام مع القضاء. فالجواب أن يقال: إن هذا أيضا لا تعلق فيه؛ لأنه إشارة إلى ذلك اليوم الذي أفطرت فيه، وليس في الخبر أنه كان آخر يوم من شعبان. فإذا كان كذلك سقط ما قالوه. وأيضا فإن أم هانئ رضي الله عنها أفطرت بعذر؛ وهو كراهتها أن ترد أمره صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نوجب الكفارة على معذور بالفطر، وإنما نوجبها على مؤخر القضاء إذا كان مفرطا لا عذر له. قالوا: وأيضا فلأنه صوم واجب؛ فوجب ألا يجب بتأخيره عن وقته كفارة. أصله: إذا نذر أن يصوم يوما ثم أخره عن وقته. فالجواب: أن هذا لا يصح على أصلهم؛ وذلك أن وقت القضاء ليس

بمحدود عندهم؛ فلا معنى لقولهم إذا أخره عن وقته على أن المعنى في ذلك الأصل وهو النذر وهو أنه لا يجب بإفساده الكفارة؛ فجاز أن يجب بتأخير القضاء عنه الكفارة. قالوا: وأيضا ولأن أصل القضاء الذي هو صوم رمضان نفسه آكد حكما هو الفرع الذي هو القضاء، وقد ثبت أنه لو أخر الصوم نفسه عن وقته لم يلزمه بتأخيره كفارة؛ فكان إذا أخر فرعه الذي هو قضاؤه الذي أضعف حكما منه عن وقته بأن لا يلزمه أولى. فالجواب: أن صوم رمضان إنما لم يجب فيه ما قالوه؛ لأنه يجب بتأخيره القضاء، فلذلك لم تجب به الكفارة، وليس كذلك الحكم في مسألتنا وهو قضاء رمضان؛ لأنه لا يلزمه بتأخيره قضاء؛ فجاز أن تلزمه كفارة بتأخيره. وإذا كان كذلك ثبت الفرق بين الموضعين؛ فصح ما قلناه. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "ولا صيام على الصبيان حتى يحتلم الغلام، وتحيض الجارية. وبالبلوغ لزمتهم أعمال الأبدان فريضة؛ قال الله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا} قال القاضي أبو [ق/48] محمد عبد الوهاب بن علي رحمه الله: هذا

لأن عبادة الأبدان لا تلزم إلا الرجال والنساء، دون الأطفال، لأن البلوغ شرط في صحة التكليف. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رفع القلم عن ثلاث" فذكر الصبي حتى يحتلم. ولأنها عبادة على البدن؛ فلم تلزم الصبي كالصلاة، ولا تلزم عليه العدة؛ لأنها ليست على البدن، وإنما تجب بمرور الزمان. فصل حد البلوغ: عند مالك رحمه الله في الذكور الاحتلام أو الإنبات وإن بلغ من السن ما يعلم أن مثله قد بلغ في العادة. وليس في ذلك حد مقدر، غير أن أصحابنا قالوا: سبع عشرة أو ثمان عشرة سنة. وهذه الأوصاف هي علاماته في النساء، ويزدن على الذكور بالحيض والحمل. ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة والشافعي في شيء من هذه العلامات إلا في موضعين: أحدهما: الإنبات. والآخر: حد السن. فأما الإنبات: فعند أبي حنيفة لا معتبر به في البلوغ، ولا يكون دلالة عليه. وقال الشافعي: يحكم به في المشركين. وهل يكون بلوغا فيهما أو دلالة على البلوغ له؟

فيه قولان؛ قال أصحابه: فإذا قلنا إنه بلوغ فيهم فهو بلوغ في المسلمين. وإذا قلنا: هو دلالة على البلوغ فهل يكون دلالة على البلوغ في المسلمين أم لا؟ فيه قولان. وأما السن: فاعتبر أبو حنيفة في الذكور تسع عشرة، وفي الإناث سبع عشرة. واعتبر الشافعي خمس عشرة في الذكور والإناث، وذكره بعض متأخري أصحابنا عن ابن وهب. فأما الكلام في الإنبات فاستدل من لم يعتبره بقوله تعالى: {ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم}، وقال تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم}؛ فعلق أحكام البلوغ بالاحتلام؛ فدل تعلقه به دون غيره. وقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث"؛ فذكر الصبي حتى يحتلم؛ فجعل علة خروجه عن الصبي الاحتلام؛ فانتفى بذلك ما سواه. قالوا: ولأن نبات الشعر على العانة مختلف بحسب اختلاف أحوال الصبيان وطباعهم؛ فلم تكف فيه دلالة على البلوغ؛ لأنه قد يسرع ويبطئ كغلظ الصوت ودقتة. قالوا: ولأن شعر الوجه أدل على البلوغ من شعر العانة؛ فإذا لم يكن

دليلا على البلوغ لاختلاف أحوال الصبيان فلما سواه أولى بذلك. وقالوا: ولأن الشعر نما من البدن على أصل الخلقة؛ فلم يكن دليلا على البلوغ كالسمن وكثرة الشحم. ودليلنا: ما روى عطية العوضي "عن سعد قال: حكمني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة. فكنا نكشف عن مؤتزرهم؛ فمن أنبت منهم قتلناه، ومن لم ينبت جعلناه في الذراري. فقال صلى الله عليه وسلم: "ما فعلت؟ " فأخبرته فقال: "حكمت بحكم الله". وهذا نص؛ لأن القتل من أحكام البلوغ. فإن قيل: متن الحديث مختلف. قيل: في بعض طرفة: "من أنبت"، وفي بعضها: "ومن اخضر ميزره"، وفي بعضها: "من جرت عليه المواسي". قيل له: كل ذلك لا يضرنا؛ لأن اخضرار الميزر وجريان المواسي عبارة عن الإنبات؛ فالمعنى واحد وإن اختلف الألفاظ. فإن قيل: جريان المواسي يقتضى تكرارها. قيل له: من أين وجب ذلك؟ وقد تقول: جرى الماء في النهر، وجرى الفرس في الميدان؛ فلا يقتضى ذلك التكرار. فإن قيل: إن اخضرار الميزر وجرى المواسي بعده لا يكون إلا بعد البلوغ، لأن الميزر بين السرة إلى الركبة، ومتى حصل الشعر نابتا فلابد من

تقدم البلوغ. قيل له: هذا سؤال تدفعه العادات؛ لأن الغالب من أمور الناس نبات الشعر على العانة، وهذا الموضع المعهود له، ولا يراعي النادر؛ وهو الأزب من الرجال الذي يشبح بدنه شعرا. وعلى أن المخالف لا يعتبر الإنبات ولو كان في جميع البدن؛ فلا معنى فيه لهذا التأويل. وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجزية على من جرت عليه المواسي" وقد ثبت أنها من أحكام البلوغ؛ فدل على اعتبار الإنبات. وكذلك كتب عمر رضي الله عنه في أخذ الجزية. ومثله ما روى عن عثمان رضوان الله عليه في الغلام الذي سرق: (إن كان اخضر ميزره فاقطعوه). ولأن الأصول تشهد لما نقوله؛ وذلك أنا لو قصرنا البلوغ على السن حتى لا تكون لنا دلالة ظاهرة عليه سواها لكان فيه ذريعة إلى إسقاط الحدود؛ لأن من شأن من يصيب حدا أول بلوغه أن يكتم بلوه ليسقط الحد عنه؛ فكأن يدعى من له خمسة عشر سنة أنه ابن أربع عشرة، وكذلك من له ثمان عشرة يدعى أنه ابن دونها؛ فلا نصل إلى إقامة حد عليه، ولا إلى أمر يدلنا على بلوغه؛ فوجب اعتبار أمر زائد على ذلك ليتوصل به إلى العلم ببلوغه؛ فتوجه الأحكام إليه.

فأما الظاهر فالمراد به: إذا بلغ الأطفال الذي يحتملون عند بلوغهما، ولم يرد وقوع الاحتلام لا محالة؛ وذلك مثل قوله؛ {حتى إذا بلغوا النكاح} لم يرد إذا أنكحوا، وإنما أراد بلوغ الحال الذي يعاين منهم ذلك. وكذلك نقول: إن الإنبات إذا حصل وعم الموضع إذا انتشر فيه فإن تلك حال الاحتلام والنكاح. وعلى أن ليس إذا ذكرا علما من أعلام البلوغ دل أنه لا علم عليه غيره؛ ألا ترى أنه لم يذكر في هذه الآية النكاح ولا السن. وما رووه من قوله: "حتى [ق/459] يحتلم" فالمراد به: حتى يخرج عن الصبي؛ فعبر عن البلوغ بنوع مما يقع به أو يدل عليه؛ بدليل أنه لم يذكر السن. ويبين هذا أن الاختلاف ليس بأمر لازم؛ لأنه قد يوجد في الناس من لم يحتلم قط، وقد تختلف أحوال البالغين فيه؛ فيسرع في بعضهم ويبطئ عن بعضهم. وقولهم: الإنبات يختلف فيسرع تارة ويبطئ فالعبرة في العادة في ذلك؛ ألا ترى أن الاختلاف موجود في الاحتلام ثم لا يمنع اعتباره؟ ولا يصح اعتبارهم بشعر الوجه وسائر البدن؛ لأن ذلك لا دلالة فيها على البلوغ؛ ألا ترى أن العادة جارية بنبات الشعر على العانة للبالغ، وأنه لا يكون إلا وقت البلوغ، ولا عادة في غيره من البدن على أن هذا العضو

أعني الذكر والفرج مما قد يجعل خروج الخارج منه بلوغا؛ فلا يمتنع أن يكون بنات الشعر عليه أو على ما يقاربه بلوغا أو دلالة على البلوغ، وليس كذلك الوجه ولا غيره من الأعضاء. وقولهم: إن خروجه على الوجه أدل على البلوغ من خروجه على العانة، غلط ودعوى محضة، بل لا دلالة فيه أصلا فضلا عن أن يكون أدل. وعلى أن هذا رد لاعتبار صاحب الشريعة فوجب سقوطه. ووصفهم شعر العانة بأنه يخرج بمعالجة غلط على العادات؛ لأن العادة خروجه من غير علاج إلا النادر الذي لا حكم له، ولأن التعالج يكون لاحتسابه لا لإسراعه، فإن ثبت أنه يخرج في اليسير من الناس بعلاج فإن الاعتبار بمن نبت له من غير علاج؛ لأن الأحكام تتعلق بالغالب من العادات لا بنادرها. وقولهم: إن الشعر نمى على أصل الخلقة كالسمن، والمعنى في السمن أنه لا يخص وقت البلوغ من غيره؛ ألا ترى أنه يوجد في الطفل؛ وكذلك الشعر في غير العانة لا وقت له يختص به، وليس كذلك في مسألتنا. والله الموفق. فصل فأما أصحاب الشافعي فاستدلوا للفرق بين المسلمين والمشركين في ذلك بأن قالوا: لأن الكفار لا يتهمون بأن يكونوا عالجوا أنفسهم لإخراج شعر

العانة؛ لأن ذلك يلحقهم بالمقابلة وأخذ الجزية، وليس شيء لأجله يتهمون بذلك، وهم لا يتهمون على أنهم فعلوه لتتوجه عليهم المطالبة بالجزية. وليس كذلك المسلمون؛ لأنه لا يتعلق ببلوغهم من الأحكام ما يتهمون على أن يكون علاجهم بحصول ما يوجبها من قبول الشهادة، وكمال الحرمة، وفك الحجر، وغير ذلك. فإذا وجدنا الإنبات سبقت التهمة أن يكون عن علاج ليستفيدوا به هذه الأحكام. قالوا: ولأن طريق معرفة بلوغ الكافر بالسن متعذرة؛ لأن ذلك لا يعلم إلا من جهة الأب، وأقوال المشركين لا معتبر بها بما يتعلق بالأحكام؛ لأن شهادتهم غير مقبولة؛ فدعت الضرورة إلى اعتبار الإنبات؛ لأنه لا يبقى لنا طريق سواه. وليس كذلك في المسلمين؛ لأن شهادة المسلمين مقبولة في البلوغ وغيره، فلم تدعنا ضرورة إلى اعتباره. والذي يدل على وجوب اعتبار جميع ما قدمناه على أصحاب أبي حنيفة؛ فلأن كل ما جاز أن يكون دالا على البلوغ أو بلوغا في الكافر جاز مثله في المسلم. أصله: السن والاحتلام. ولأن دلالته على ذلك ليس لمعنى يرجع إلى الدين، وإنما هو لمعنى يتعلق بالعادات، وهذا يستوي فيه المسلم والكافر. ولأن كل شخص ثبت بلوغه بالاحتلام جاز أن يثبت بالإنبات. أصله: الكافر.

ولأن قبول الشهادة وغير ذلك من حقوق البلوغ وأحكامه فجاز أن تثبت بالإنبات. أصله: أخذ الجزية من الكافر. وأما فرقهم الأول فموجود في المسلم من الطريقين معا أعني وجود التهمة وعدمها. وأما وجود التهمة: فلأن أكثر ما يتهم المسلم به يوجد في الكافر من فك الحجر عنه، والتمكين من ماله، والتصرف فيه، واستفادة ما يستفيده البالغ منهم. ولا اعتبار بأداء الجزية، لأن ما يستفيده من غيرها يوفى على الضرر الداخل عليه بأدائها؛ فلا تزول عنه التهمة في ذلك؛ لزوالها في أخذ الجزية كما لا تزول عن المسلم بزوالها في أنه يقصد بذلك إقامة الحدود ووجوب القصاص عليه. وأما انتفاء التهمة: فلا اعتبار به إذا كان مما تجلبه أكثر مما تنفيه كما ذكرناه في المسلم من إقامه الحدود بالزنا وشرب الخمر والسرقة؛ فبان بذلك ألا فرق بينهما. هذا إن ثبت أنهم يتعالجون بذلك، وإلا فإن رجعنا إلى العادة لم يكن به من التسوية بينهم وبين المسلمين إما في منع العلاج غالبا أو في حصوله مع اتفاق الأسباب الداعية إليه. وأما الفرق الثاني فليس بصحيح أيضا؛ لأنا نصل إلى معرفة سنه ممن

يعرفه من المسلمين، وممن كان من قرابته كافرا ثم أسلم؛ فبطل ما ادعوه. وبالله التوفيق. فصل فإما الكلام في السن فاستدل أصحاب الشافعي على اعتبار خمسة عشر سنة بما روى عبد الله بن وهب عن نافع عن ابن عمر أنه قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ولى أربع عشرة سنة فلم يجزني فردني ولم يرني بلغت، وعرضت عليه عام الخندق ولى خمسة عشرة سنة فأجازني. وروى: فأجازني في المقاتلة. ففي هذا الحديث أدلة: أحدها: [ق/5] أنه علق الإجازة ببلوغ خمس عشرة سنة؛ فدل على تعلق الإجازة بها؛ لأن الحكم إذا قرن بسبب تعلق به؛ كما روى أنه سهى فسجد، وأن ماعزا زنا فرجم. والثاني: إن الرد تعلق في الأربع عشرة بعدم البلوغ؛ فدل على أن الإجازة في الخمسة عشر؛ لوجود البلوغ. والثالث: إنه قال: أجازني في المقاتلة، وذلك يفيد أنه حكم ببلوغه؛ لأن المقاتلة من أحكام البلوغ. قالوا: وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه، وأخذت

منه الحدود". وهذا نص. قالوا: ولأنه معنى يتعلق به البلوغ فيشرك فيه الرجال والنساء؛ فوجب أن يستويا فيه. أصله: الاحتلام. قالوا: ولأن من استكمل خمس عشرة سنة يصح إسلامه؛ فوجب أن يكون بالغا. أصله: من استكمل ثماني عشرة سنة. قالوا: ولأن كل حكم يتعلق بعدد يزيد على العقد الأول ولا يبلغ العقد الثاني وجب أن ينتصف قياسا على أقل الطهر. والذي يدل على ما قلناه: قوله تعالى: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم} وقوله: {والذين لم يبلغوا الحلم}، وقوله: {حتى إذا بلغوا النكاح}؛ فذكر البلوغ والأدلة عليه، ولم يذكر السن ولا خمس عشرة سنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وعن الصبي حتى يحتلم"، ولم يقل: حتى يبلغ

خمس عشرة سنة. ولأن جعل الخمس عشرة حد البلوغ لا يخلو أن يكون تعلقا بأكثر ما في العادة أو بأدناه. وكلا الأمرين باطل؛ لأنا نجد في العادة من سبق لوغه الخمس عشرة ومن يتأخر عنها على صفة واحدة في الوجود غير متفاوته؛ فيجب ألا يكون دلالة على أحد الأمرين دون الآخر. ولأنا وجدنا الأحكام المتعلقة بالخارج من الفرج إذا لم يكن تعليق الحكم عليها بتوقيف ولا بمقدار لا يختلف أنه يرجع فيها إلى النهاية وإقصاء العادة؛ ولذلك قلنا جميعا: إن الحيض المعتاد إذا أشكل أمره والتبس بالاستحاضة فإنه يحكم له بالبلوغ إلى أقصى مدته وآخر نهايته وهو خمسة عشر يوما، ولا يقتصر على أقله ولا على العادة منه. وكذلك يجب في الحمل إذا أشكل أمره أن ينتظر به أقصاه؛ وهو أربع سنين أو خمس على حسب اختلاف أصحابنا في ذلك، وأنه لا يقتصر على المعتاد منه وهو تسعة أشهر، ولا على الأقل وهو ستة أشهر. فكذلك يجب في مسألتنا ألا يتعلق الحكم على أقل ما يمكن من السن وأن ينتهي إلى أقصى ما في ذلك وهو ما يعلم أنه لابد أن يكون من انتهى إليه فقد بلغ إذا لم يجد أمارة دالة على البلوغ سواه. أما حديث ابن عمر فقد اختلف فيه؛ فروى أنه قال: عرضت عليه عام أحد ولى ثلاث عشرة سنة فردني، وعرضت عليه عام الخندق ولى أربع عشرة سنة فأجازني. وهذا يعارض ما رووه.

وأيضاً فإن الحكم تعلق بالبلوغ عند مصادفة هذه السن إلا أنها هي السبب والمعنى المؤثر في البلوغ، ونحن لا نمنع أن يكون ابن خمس عشرة سنة قد بلغ؛ ويبين ذلك أن ابن عمر ذكر أن رده إنما كان في الأربع عشرة؛ لأنه لم يره قد بلغ؛ فوجب أن يكون هذا المعنى مضمرا في الخمس عشرة سنة؛ فكأنه قال: وعرضت عليه في العام المقبل فرآني قد بلغت فأجازني، ولو لم يكن كذلك لم يكن لقوله: (ولم يرني قد بلغت) فائدة. وذكر السن على وجه التأريخ لا على أن الحكم متعلق بها، ويوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأله عن سنه، وإنما ذكره ابن عمر من عند نفسه على وجه التأريخ وبيان سنه في الوقت كما يقول: درست الكتاب الفلاني وأنا ابن عشرين سنة. وأيضا فإن أكثر ما في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أجازه في القتال، والإجازة في القتال لا تقف عندنا على البلوغ المعتبر في وجوب العبادات؛ لأن للإمام عندنا أن يجيز فيه من الصبيان من يرى فيه القوة والبأس والجرأة على القتال وقد يوجد في المراهقين من يكون ذلك فيه أكثر من البالغين؛ فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم رأى ابن عمر أول سنة غير قوي على القتال، ورآه في العام الثاني قويا على ذلك. ويشهد لهذا التأويل شيئان: أحدهما: أنه ذكر في الحديث القتال، وذكر عقيبه الرد ومنع الإجازة لعدم البلوغ؛ فدل على أن المراد به البلوغ للقتال؛ لا البلوغ المطلق؛ لأن الكلام إذا تقدمه سبب يقتضي تقيده قيد به؛ ألا ترى أنه لو قال لزوجته: اعتدى ابتداء لكان كناية عن الطلاق؟ ولو قال لها عقيب مناولته إياها

دراهم لا تصرف إلى العدد دون الطلاق؟ والوجه الآخر: ما روى عن أبا رافع وسمرة عرضا على النبي صلى الله عليه وسلم فأجاز أبا رافع، ولو صارعه لصرعه؛ فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم أن يصطرعا فصرعه. فقد دل هذا على ما ذكرناه من أن الإجازة في الحرب لا تتعلق بالبلوغ وحده، إنما تتعلق بالقوة والجرأة على القتال. فأما الحديث الآخر فلم يسمع من الثقات، ولا يجوز الكلام [ق/51 أ] عليه إلا بعد العلم بصحته، والأقرب بطلانه؛ لأنه لو كان صحيحا لم يخف على أهل الأعصار إلى هذا الوقت. فأما القياس على الاحتلام فإنه يصلح أن يكون على أهل العراق دوننا؛ لأنهم يفرقون بين الغلام والجارية في حد السن المعتبر في البلوغ على ما حكيناه عنهم. وهذا القياس هو للتسوية بينهما، ونحن نقول بموجبه؛ لأن السن التي إذا انتهى إليها الإنسان حكم ببلوغه، لا فرق عندنا فيها بين الصبي والجارية. وقولهم: إن من بلغ خمس عشرة سنة يصح إسلامه. قلنا: في إسلام المراهق مذهبان:

أحدهما: أنه يصح؛ فلا نفرق بين ثلاث عشرة وخمس عشرة. والآخر: لا نحكم به؛ فلا نفرق أيضا. وأما القياس الآخر: فمن المتكلف العب والعقد الذي أرادوه وهو العشرة؛ كأنهم قالوا: حكم تعلق بزيادة على العشرة وأقل من العشرين؛ فيجب أن يكون على النصف من العشرة؛ فيكون خمسة عشر. وهذا مدخول من وجوه: أحدها: أن أقل الطهر لا يسلم أنه خمسة عشر على أكثر وجوه أصحابنا. ثم هذا إنما يعتبر فيما كان العدد مقصودا فيه لنفسه. فأما فيما يراد به الدلالة على غيرة فلا يلزم، ويبطل بالدية؛ لأنها اثنى عشر ألفا فقد زادت على العقد الذي هو عشرة، وقصرت عن العشرين، ولم يعتبر فيها النصف. فإن قالوا: أردنا عشرة مطلقة، وهذا مقيده. قلنا: موجب كلامكم يقتضى نوعا من العشرات دون نوع، فالنقص داخل عليه. وعلى أنا نصير إلى ما يقولونه وينقصه بمقدار السفر الذي تقصر فيه الصلاة؛ لأنه ستة عشر فرسخا، فإذا اعتبرنا الفراسخ لم نقف على النصف. وكذلك ركعات الصلوات الخمس زيادة على العشرة وأقل من العشرين، وهو زائد على الخمس عشرة. وبالله التوفيق.

مسألة: قال رحمه الله: "ومن أصبح جنبا ولم يتطهر، أو امرأة حائض طهرت قلب قبل الفجر فلم [تغتسل] إلا بعد الفجر أجزأهما صوم ذلك اليوم. قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: فأما من يصبح جنبا فإنه يصح منه صوم ذلك اليوم عندنا وعند كافة فقهاء الأمصار، وسواء كانت جنابته من جماع أو احتلام. وحكى عن أبي هريرة والحسن أنهما قالا: لا يصح منه صيام ذلك اليوم. وحكى عن إبراهيم النخعي والحسن البصري أنهما قالا: يجزئه في التطوع، ويقضى في الفرض. وحكى عن طاوس أنه قال: يتم ذلك اليوم ويقض مكانه إن كان استيقظ فأخر الغسل حتى أصبح، وإن لم يستيقظ فأخر الغسل حتى أصبح، وإن لم يستيقظ حتى أصبح فليس عليه قضاء. فمن قال: إنه لا يصح منه صيام ذلك اليوم استدل بما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح جنبا في رمضان فقد أفطر". وقال أبو هريرة: ما قلته أنا؛ قاله محمد ورب البيت. ولأنه جنب في هذه الحال؛ فأشبه إذا طلع الفجر عليه وهو مولج.

والدلالة على ما قلناه: ما استدل به ربيعة؛ وهو قوله تعالى: {فالآن باشروهن} إلى قوله: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}. فأباح سبحانه الجماع إلى أن يتبين الفجر، ومعلوم أنه إذا كان يجامع فنزعه، ثم طلع الفجر عقيب ذلك فإنه لا يمكنه أن يغتسل إلا بعد طلوعه؛ فدل ذلك أنه يصح منه صوم ذلك اليوم، وأن عليه إتمامه إلى الليل كما قال الله تعالى. ويدل على ذلك ما رواه مالك عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الأنصاري عن أبي يونس مولى عائشة عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الباب: يا رسول الله إني أصبح جنبا وأنا أريد الصيام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا أصبح جنبا وأنا أريد الصيام فأغتسل وأصوم". فقال الرجل: يا رسول الله إنك لست مثلنا؛ قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما اتقى}؛ فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم له أن ذلك لا يمنع من الصوم، وأنه يصيبه ذلك فلا يمتنع لأجله من الصوم. وروى مالك عن عبد ربه بن سعيد بن قيس، ويسمى مولى أبي بكر جميعا عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم

سلمة زوجتي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما قالتا: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم. ولأن حدثه إذا انقطع فلم يبق عليه أكثر من وجوب الطهارة، وذلك لا يمنع الصيام كالمحدث. فأما ما رووه عن أبي هريرة فإنه قد ثبت رجوعه عن هذا القول، وظهر منه ما دل على ضعف الحديث؛ فروى يزيد بن هارون قال: حدثنا ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رجع عن فتياه: من أصبح جنبا فلا صوم له. وروى مالك عن سمى مولى أبي بكر أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن يقول: [ق/25] كنت وأبي عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة، فذكروا أنا أبا هريرة يقول: من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم فقال مروان: أقسمت عليك يا أبا عبد الرحمن لتذهبن إلى أمي المؤمنين عائشة وأم سلمة فتسألهما عن ذلك. قال: فذهب عبد الرحمن وذهبت معه حتى دخلنا على عائشة، فسلم عليها ثم قال: يا أم المؤمنين إنا كنا عند مروان بن الحكم فذكر أن أبا هريرة يقول: من أصبح جنبا أفطر ذلك اليوم. فقالت عائشة: ليس كما قال أبو هريرة يا أبا عبد الرحمن أترغب عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع؟ قال: لا والله. قالت: فأشهد على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان ليصبح جنبا من جماع من غير احتلام ثم يصوم ذلك اليوم. قال: فخرجنا حتى

دخلنا على أم سلمة فسألها عن ذلك: فقالت كما قالت عائشة، فخرجنا حتى جئنا مروان بن الحاكم فذكر له عبد الرحمن ما قالتا. فقال مروان: أقسمت عليك يا أبا محمد لتركبن دابتي فإنها بالباب فلتذهبن إلى أبي هريرة فإنه بأرض العقيق فلتخبرنه ذلك. قال: فركب عبد الرحمن وركبت معه حتى جئنا أبا هريرة فتحدث معه- عبد الرحمن ساعة، ثم ذكر ذلك له. فقال أبو هريرة: لا علم لي؛ إنما أخبرنيه مخبر. على أنا نتأول هذه الرواية فنقول: معناها أن من أصبح في حال المجامعة فيكون سبب الجنابة عبارة عن الجنابة، ويكون قد أنزل ولم يتمم إنزاله حتى طلع الفجر وهو ينزل؛ فهذا مجنب في الحقيقة. فأما قول من يقول: إنه يجزئه في التطوع ولا يجزئه في الفريضة فإنه غير صحيح؛ لأن ما يمنع من انعقاد الصوم لا فرق بين وقوعه لأوجه التفريط أو الغلبة كما ذكرناه فيمن أصبح مولجا. والله أعلم. فصل فأما الحائض إذا طهرت قبل الفجر ولم تغتسل حتى طلع الفجر فإن

حكمها عند مالك حكم الجنب؛ يصح صوم ذلك اليوم منها، وتغتسل بعد الفجر. هذا قول مالك وأهل العراق والشافعي. وخالف مالكا من أصحابه عبد الملك، ومحمد بن مسلمة؛ فقال عبد الملك فيمن طهرت قبل الفجر فاشتغلت بالغسل من غير تفريط وطلع الفجر ولم يتم غسلها: إنها بمنزلة الحائض لا صلاة عليها ولا صوم ما لم يتم طهرها بالاغتسال، إلا أن يأتي منها تفريط في الغسل. وهذا الاستثناء منه يعد أن حكمها إذا فرطت بخلاف حكمها إذا لم تفرط، إلا أنه لم يبين ما الحكم في ذلك. ويحتمل أن يكون أراد ما يذهب إليه محمد بن مسلمة فإن محمد بن مسلمة قال: إذا فرطت في الغسل حتى طلع الفجر ولم تغتسل صامت ذلك اليوم. قال: لأنه لا يخرجها من الصيام تفريطها، وتقضيه؛ لأنه لم يتم طهرها بالاغتسال قبل الفجر، فدخلت في النهار وهي في حكم الحيض. قالوا: ولأنه لما لم يجز لزوجها وطئها في هذا الحال لا لمعنى سوى ثبوت حكم الحيض علم بذلك أن حالها حال الحائض التي لم ينقطع دمها. والدلالة على ما قلناه: أنها محدثة زال حدثها قبل الفجر، ولم يبق لها سوى فعل التطهير؛ فوجب أن يصح صومها اعتبارا بالجنب والبائل؛ فلم نرد بقولنا: (زال حدثها) أن حكم الحدث زال؛ لأن هذا موضع الخلاف، وإنما أردنا بذلك انقطاع الدم.

وقال عبد الملك: المعنى في الجنابة أنها معنى لو طرأ في أثناء النهار على بعض الوجوه لم يفسد الصوم، ولم يمنع صحته؛ كالاحتلام؛ فلذلك لم يمنع وجوب الغسل منه صوم ذلك اليوم. وليس كذلك الحائض؛ لأنه إذا طرأ في النهار على أي وجه كان أفسد الصوم. فالجواب: أن افتراقهما في هذا لا يخرجهما عما قلناه؛ ألا ترى أن الذي قاله لا يمنعه من إيجاب قضاء الصلاة عليها إذا تركت الغسل حتى خرج الوقت؟ وأيضا فإن وجوب الغسل إنما ينافي صحة الصلاة، ولا ينافي في صحة الصوم؛ كالجنب والمحدث. ولا معنى لتفريقهم بين المفرطة وغير المفرطة في أن غير المفرطة لا تصوم ولا تقضي وأن المفرطة تصوم وتقضى؛ لأن الكلام في حكم الشيء نفسه، وقد ثبت أن منعه من صحة الصوم أو عدم منعه لا يقف على تفريطها الاغتسال. فأما قياسهم على من لم ينقطع دمها فالعلة فيها بقاء الحدث الذي يمنع صحة الصوم، وليس كذلك إذا انقطع دمها؛ لأن الحدث قد زال عنها. وقولهم: أن زوجها ممنوع من وطئها لأجل حكم الحيض غير صحيح؛ لأنه ممنوع على وجه التنظف وإن ذلك لواجب أن يكون حكمها في منع الصوم حكم الحائد لوجب أن لا يجب عليها قضاء الصلاة، وهذا فاسد. والله أعلم.

مسألة قال: "ولا يجوز صيام يوم الفطر، ولا يوم النحر". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله: هذا لما رواه سفيان عن الزهري عن أبي عبيد قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبدأ بالصلاة قبل الخطبة وقال: إن رسول صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين: يوم الفطر، ويوم النحر. وروى [ق/53] سعيد بن جليد عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عثمان وعلي رضي الله عنهما فكانا يصليان، ثم يذكران الناس فسمعتهما يقولان: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الأضحى ويوم الفطر. وروى مالك عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يومين: يوم الأضحى ويوم الفطر.

ورواه ابن عمر، وعائشة، وأبو سعيد الخدري، وغيرهم. ولا خلاف في ذلك. مسألة قال رحمه الله: "ولا يصوم اليومين اللذين بعد يوم النحر إلا المتمتع الذي لا يجد هديا. واليوم الرابع لا يصومه متطوع، ويصومه من نذره أو من كان في صيام متتابع قبل ذلك" قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: أما المنع من التطوع بصيام أيام التشريق فلما رواه ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى ألا تصوموا هذه الأيام؛ فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى. ورواه مالك عن ابن شهاب مرسلا. وروى عمرو بن الحارث عن بكير بن [] عن سليمان بن يسار حدثه أن المسعود بن الحكم حدثه عن أمه قالت: مر بنا راكب ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ينادي في الناس: لا يصومن أحد هذه الأيام؛ فإنها أيام أكل

وشرب. فقال أخي: هذا علي بن أبي طالب رضوان الله عليه. وروى مالك عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام أيام منى. ولا خلاف في منع صومها للمتطوع. فصل فأما المتمتع إذا لم يجد الهدي، وقد فاته صيام ما قبلها فله أن يصومها عندنا. وقال أبو حنيفة: لا يصومها متطوع ولا غيره. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا: أنه يجوز للمتمتع أن يصومها.

والثاني: أنه لا يصح صومها عن متعة ولا غيرها، وهي كيومي الفطر والنحر. واستدل من نصر هذا القول بما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام أيام التشريق، ولم يخص صومها عن تمتع ولا غيره. قالوا: ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها أيام أكل وشرب وبعال"، وهذا ينفى أن تكون أيام صيام. قالوا: ولأن كل زمان لم يصح صومه متطوعا لم يصح تمتعا. أصله الفطر والنحر. عكسه: سائر الأيام. قالوا: ولأنها أيام يصح فيها الرمي؛ فأشبهت يوم النحر. قالوا: ولأنه لما لم يجز صوم يوم النحر في التمتع وهو أقرب إلى أيام الحج كان بأن لا يجوز صوم ما يليه أولى. والدلالة أحب إلينا. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: اعلم أن الكلام في هذه المسألة من وجوه:

أحدها: أن المسافر محيز بين الصوم والفطر، على أن عليه القضاء إذا أفطر. والثاني: أنه إذا صام صح صومه، لم يلزمه قضاؤه. والثالث: أن الصوم له أفضل من الفطر. والرابع: أن هذا التخيير معلق ببعض الأسفار دون بعض؛ وهو ما يستباح فيه القصر؛ وهو أربعة برد فما زاد. فأما الكلام في أنه مخير بين الإفطار والصيام فالدلالة على ذلك قوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}؛ معنى ذلك فأفطر؛ كقوله: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} معناه: فضرب فانفلق، وكقوله: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}؛ معناه: مخلف ففدية. فألزم جميع من شهد الشهر أن يصومه، وجعل للمسافر أن يفطره ويقضيه. وروى مالك عن حميد الويل عن نس بن مالك قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم. وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة بن عمرو

الأسلمي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن شئت فصم وإن شئت فأفطر". ولأن الفطر في السفر رخصة؛ فالمترخص بالخيار إن شاء ترخص، وإن شاء رجع إلى الأصل. فصل فأما وجوب القضاء عليه إذا أفطر؛ فلقوله تعالى: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}. ولأنه أكل في صوم واجب عليه فألزمه القضاء. أصله: العامد ولا مفطر بعذر مع توجه الخطاب إليه بالنصوص بالصوم؛ فأشبه المريض. فصل فأما الكلام في أنه يصح صومه فهو قولنا وقول الفقهاء كافة. وذهب بعضهم إلى أنه لا يصح صومه، أنه لا فرق بين أن يمسك أو يأكل في أن عليه القضاء في الموضعين. والدلالة على ما قلناه: قوله عز وجل: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} وهذا شاهد له فلزمه صومه. فإن قيل: فقد عقب ذلك بقوله: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر}.

قيل له: عندنا جوابان: أحدهما: أنه ليس في ذلك منع من الصيام، وإنما فيه إيجاب صيام آخر، وذلك غير مناف للأول. والثاني: أن فيه ضميرا معناه: فأفطر فعدة من أيام أخر. ويبين ذلك أن هذا الضمير مشترط في ذكر المريض أيضا؛ لأن المريض لو حمل على نفسه فصام لم يلزمه القضاء، وصح [ق/4 هـ] صومه. فإن قيل: كذلك نقول في المريض أنه لا يصح صومه في المرض أعني صوم رمضان. قيل له: إذا قلتم ذلك خرقتم الإجماع، ولم يلتفت إلى قولكم. ويدل على ذلك ما رواه مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى مكة عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر فأفطر الناس معه، وكانوا يأخذون بالأحدث فالأحدث من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: فهذه القرينة في الحديث تدل على أنه متروك. قيل له: قد اتفق المسلمون على أنه ينسخ ذلك، وإنما الفائدة أن المسلمين كانوا يقتدون به صلى الله عليه وسلم في أفعاله المباح منها والمندوب، ويتأسون به. ويدل على ذلك أيضا: ما رواه مالك عن سمى مولى أبي بكر بن

عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس في سفره عام الفتح بالفطر، وقال: "وتقووا لعدوكم"، وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقيل لرسول الله: إن طائفة من الناس قد صاموا حين صمت يا رسول الله، فلما كان بالكديد دعا بقدح فشرب فأفطر وأفطر الناس. ففي هذا الحديث دليلان: أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم صام رمضان في السفر. الآخر: أنه أمرهم بالفطر، وعلل ذلك بأن فيه تقوية لهم على العدو. ومخالفنا يزعم أن العلة في ذلك أن صومهم لا يصح. وهذا خلاف تعليل النبي صلى الله عليه وسلم ويدل على ذلك ما رواه مالك عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا من صام ومنا من أفطر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. وروى مالك عن هشام بن عروة عن عائشة أن حمزة بن عمرة الأسلمي قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أصوم في السفر وكان كثير الصيام فقال: "إن شئت صم، وإن شئت فأفطر". وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: حججت مع

رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فقال لي: "ماذا صنعت في سفرك؟ " قلت أتممت فأقصرت، وصمت فأفطرت، فقال: "أحسنت". ولقد اعترضوا على هذه الأخبار بشيئين: أحدهما أن قالوا: إن الخلاف بيننا في المسافر إذا صام هل يجزئه أم لا؟ وهل عليه القضاء أم لا؟. وليس في هذه الأخبار إلى مجرد الفعل، وذلك لا يتضمن الإجزاء ولا سقوط القضاء. فالجواب عن هذا أن إخبارهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم قد صاموا، ورؤيته إياهم صائمين وتركه الإنكار، وإقرارهم على ذلك دلالة على صحة صومهم. وفي ذلك سقوط القضاء؛ لإجماع الكل على أنه لا يجب عليهم الجمع بين صوم الأصل وبين القضاء.

والاعتراض الآخر أن قالوا: ليس في هذه الأخبار أنهم صاموا على أنه رمضان، ويجوز أن يكونوا نووا بصيامهم نذرا أو قضاء أو تطوعا أو غير ذلك. ونحن لا نمنع من أن نصوم رمضان على هذه الوجوه، وإنما نمنعه أن نصومه على أنه من رمضان. وهذا الذي قالوه باطل من وجوه: أحدهما: أنه لا يجوز صوم رمضان عندنا عن غيره على وجه؛ لأن رمضان مستحق العين للصيام؛ فلا يصح صومه عن غيره، وليس لهم أن يحملوا الخبر على أصولهم التي تخالف أصولنا. والوجه الآخر: أن في ذلك تركا للظاهر؛ لأن القائل إذا قال: صمت في رمضان فظاهر هذا وإطلاقه يفيد أنه صامه عن رمضان، ولا يحمل على ما عدا ذلك إلا بدليل؛ لأنه حمل له على خلاف الظاهر. هذا لو ثبت أن صومه على أنه قضاء أو نذر أو تطوع أو غير ذلك لم يصح. والجواب الآخر: هو أن الفطر في رمضان رخصه، والرخصة تنافي الفروض وتمنع من ألا يجزئ أصلها؛ ألا ترى أنه لو كان ترك صوم رمضان عن رمضان فرضا لخرج عن أن يكون رخصة. والوجه الآخر: هو أنه إذا صح أنه لا يجوز له صومه على الوجه المأمور به كان بأن لا يصومه عن غيره أولى؛ لأن إيقاع النذر والقضاء والتطوع في رمضان ليس بأوكد من صومه على الوجه المفترض.

وإذا كان لا يصح صومه على وجه ما افترض عليه ووضع الزمان له كان بأن لا يصح صومه على خلافه أولى. فيبطل ما قالوه من هذه الوجوه. ومن جهة الاعتبار: لأنها حال يضح فيها صوم غير رمضان؛ فيصح فيها رمضان نفسه أعني السفر؛ فأشبه ذلك الحضر. ولأن الفطر رخصة بدليل أنه لا يكون إلا لعذر من مرض أو سفر. وما كان طريقه طريق الرخصة فإن الإنسان مخير فيه أن يفعله أو يتركه؛ كالصلاة قاعدا مع القدرة على القيام أعني في النفل أو في الفرض هل هذه العلامة مكانها هنا؟ مع عذر المرض، إلا أنه لو حمل على نفسه وصلى قائما لأجزأه وأن لحقه في ذلك مشقة؛ فكذلك الصيام في السفر. واستدل المخالف بقوله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} قالوا: ففي هذا دليلان: أحدهما: أن هذا الظاهر يفيد وجوب العدة، سواء صامه أو لم يصمه. وإذا ثبت أن عليه القضاء على كل وجه ثبت أن صومه لا يصح. والآخر: أنه جعل فرض شاهد الشهر ممن ليس بمريض ولا مسافر أن يصوم عينه، وجعل فرض المريض والمسافر عدة من أيام أخر؛ فإذا صام عين الشهر فقد صام غير فرضه يجزءه. [ق/55] فالجواب أن يقال: أما الفصل الأول فإن إيجاب العدة لا ينفي

دخول المسافر في عموم قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} لأنه لا يمتنع أن يكون هذا الأمر شاملا للحاضر والمسافر ويكون الخطاب الذي بعده بقوله: {ومن كان مريضا أو على سفر} مفردا لها بهذا الحكم من جملة من شملة الخطاب الأول. وإذا صح ذلك لم يكن لهم أن يستدلوا على منع صومه بإيجاب القضاء عليه عموما إلا ولنا أن نستدل بأن الأمر بالصوم يدل على سقوط القضاء. فإن قيل: قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} معناه: إلا أن يكون مريضا أو على سفر؛ بدلالة ما بعده. قيل له: أما المريض: فسبيله ألا يدخل في هذا؛ لأنه لا خلاف أنه يصح صومه إن تكلف. وغير هذا القول خروج عن الإجماع؛ فلا يرتفع به. وأما المسافر: فما الفصل قال فيه إن قوله: {فعدة من أيام أخر} فيه ضمير معناه: فأفطر، ويكون هذا أولى الأمور. أحدهما: أن مثل هذا اللفظ قد أضمر هذا الإضمار؛ فعلم أنه من مفهومه؛ كقوله: {فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية} معناه: فحلق ففدية. وكقوله: {أن اضرب بعصاك البحر فانفلق} معناه: فضرب

فانفلق. فكذلك في هذا الوضع لا بالقياس لكن بمفهوم اللفظ. والأمر الآخر: أن مثل هذا الاستعمال قد ثبت في قوله: {ومن كان مريضا}. واللفظ متساو في المريض والمسافر، بل هو لفظ واحد فكان ما قلناه أشبه بأن يكون هو المراد. وأما الفصل الثاني فلا تعلق فيه؛ لأن قوله: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة} لا ينفي دخولهما تحت عموم قوله: فمن شهد منكم الشهر فليصمه}، وإنما كان ينفيه لو قال: "ومن كان مريضا أو على سفر فلا يصمه". فأما إذا ورد بحكم غير ما تقدم فلا ينفيه، وقد بينا ما في ذلك. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر الصيام في السفر". فالجواب: أن لفظ البر مجمل يحتمل أن يريد به الفضيلة، ويحتمل أن يريد به ما هو شرط في إجراء الفعل؛ فيجب الوقوف إلى أن يتبين المراد به. وعلى أنه خارج على سبب وهو أنه صلى الله عليه وسلم مر برجل قد أجهده الصوم وبلغ منه وهو في السفر، فلما رآه على تلك الحال قال: "ليس من البر

الصيام في السفر؛ إن الله يحب أن يؤخذ برخصه". وهذا نقول به؛ وهو أن من كان في مثل حال هذا الإنسان فالفطر أولى. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر". وهذا أشد ما يوردونه. والجواب عنه: أنه ضعيف عند أهل النقل، وقد قالوا: إنه موقوف على أبي هريرة. على أن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم شبهه به في حكم لم يذكره، ولا يجوز إدعاء العموم فيه. على أنه معارض بقوله لحمزة بن عمرو الأسلمي: "إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر"، محمول على أن من صام في السفر معتقدا أن الرخصة فيه فيكون كالمفطر في الحضر. والله أعلم. فصل فأما الفصل الثالث: وهو الصوم أفضل من الفطر لمن قرى عليه. وذهب آخرون إلى أن الفطر أفضل. والذي قلناه هو قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما. والدلالة على ذلك قوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم}، وذلك يفيد المبادرة إلى فعل ما يوجب المغفرة من الفروض، وفي الفطر تأخير له إلى وقت القضاء.

ولأنه إذا أفطر فقد أخر الفرض عن وقته، والإتيان بالفروض في أوقاتها أفضل؛ ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل الأعمال قال: "الصلاة في وقتها"؛ فنبه بذلك على فضيلة المبادرة والسبق إلى أداء الفروض. هذا بتساوي وقت المبادرة والتأخير فيه في كون الفعل في جميع ذلك أداء فبأن تثبت الفضيلة في ذلك بين وقت الأداء ووقت القضاء أولى. ولأنه إذا صام فقد أمن من الفوات، وسقط الفرض عنه، وحصل الثواب عليه. وإذا أخره لم يأمن زمن اعتراض ما يمنعه من جميع ذلك أو من بعضه؛ فكان التقديم أولى. وما يقوله من أنه لا يأمن أن يضعف لا معنى له؛ لأن المقيم أيضا لا يأمن أن يضعف ويمرض. ولأنه إذا كان سفره يحتاج معه إلى القوة وكثرة الأكل، وتلحقه فيه المشقة بالصوم كان الإفطار أفضل له. وهذا غير موضوع خلافنا؛ لأنا لا نمنع من أن يكون الفطر أولى من الصوم على بعض الوجوه، وإنما يمنع ذلك مع تساوي الأمرين. والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره في رمضان: "أفطروا تقووا على عدوكم"، فأخبر بأن ما احتيج به من الأسفار إلى القوة وتوفيرها فإن الصوم غير مستحب فيه، بل الفطر أولى؛ فصار ذلك أصلا في أمثال هذه المواضع.

واعتبارهم بالفطر لا معنى له؛ لأنه يكون به مؤديا لفرضه في وقته، وإنما أسقط عنه الفرض. وليس كذلك الفطر؛ لأنه لم يزل به فرض الصوم عن الذمة، وإنما أرخص له في تأخيرهن والله أعلم. ويدل على ما قلنا أيضا: ما رواه أبو داود حدثنا مؤمل بن الفضل حدثنا الوليد حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: حدثنا إسماعيل بن عبيد الله قال: حدثتنا أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: خرجنا مع رسول [ق/56] الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته في حر شديد حتى إن أحدنا ليضع يده على رأسه أو كفه على رأسه من شدة الحر، ما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة. فهذا يدل على فضيلة الصوم على الفطر؛ لأنه لولا ذلك لم يتكلف هذه المشقة العظيمة في شيء غيره مما هو أيسر منه وأخف وأقرب وأفضل منه وأكثر ثوابا؛ فبان بذلك فضل الصوم على الفطر في السفر. ويدل على ذلك أيضا: ما رواه أبو داود عن عقبة بن مكرم الغمي عن أبي قتيبة عن عبد الصمد بن حبيب بن عبد الله الأزدي عن حبيب بن عبد الله قال: سمعت سنان بن سلمة بن المحبق الهذلي يحدث عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له حمولة تأوى إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه".

فأما اعتبار ذلك ثمانية وأربعون ميلا فقياسا على الفطر؛ لأن كل واحد منهما سفرا اعتبر في فرض عبادة، ولأن ذلك هو قدر سير اليوم التام على المألوف من السير؛ فوجب ألا يتغير الفرض إلا به. وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصلاة. مسألة قال رحمه الله: "ومن سافر أقل من أربعة برد وعليه القضاء". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أما وجوب القضاء: فلحصوله مفطرا في صوم واجب عليه، ولا خلاف في ذلك. وأما سقوط الكفارة عنه فلأنه ليس بهاتك؛ وإنما أفطر بتأويل غير صحيح، والكفارة تتعلق بالهتك دون التأويل في الصوم؛ على ما سنبينه إن شاء الله. مسألة قال رحمه الله: "وكل من أفطر متأوله فلا كفارة عليه". قال القاضي: رحمه الله: وهذا لما ذكرناه من أن الكفارة تتعلق بالهتك دون التأويل؛ لأن المتأول ليس بهاتك، اللهم إلا أن يكون سبب التأويل لم يحصل بعد؛ فذلك لا يسقط الكفارة؛ مثل من يفطر لإرادته السفر ثم يسافر، أو تفطر من النساء متأوله أنها تحيض في ذلك اليوم ثم تحيض، أو من ينتظر على عادته مرضا في يومه فيفطر ثم يمرض. فكل هؤلاء عليهم الكفارة من غير أن يسقطها تأويلهم.

وعبد الملك يرى أن من أراد سفرا فأكل ثم خرج إلى سفره فلا كفارة عليه وإن هو نزع عن سفره وكسل عنه فعليه الكفارة. وقول مالك أصح وأوضح. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "وإنما الكفارة على من أفطر بأكل أو شرب أو جماع، مع القضاء". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أما وجوب الكفارة بالجماع وغيره فإنها متعلقة بالإفطار دون غيره من الصيام في سائر الزمان؛ فلا كفارة في إفساد صيام نذر أو نفل أو قضاء أو غير ذلك. هذا قولنا وقول كافة الفقهاء. وحكي عن قتادة أنه كان يوجب الكفارة في قضاء أو غير ذلك. هذا قولنا وقول كافة الفقهاء. وحكي عن قتادة أنه كان يوجب الكفارة في قضاء رمضان قال: لأن كل صوم أفسد بمعصية تعلقت به الكفارة؛ اعتبارا برمضان. قال: ولأن كل معنى استحق بصفة الإفطار فإنه يستوي فيه رمضان وقضاؤه؛ اعتبارا بالقضاء. قال: ولأنه لو قتل صيدا في إحرامه ألزمه الجزاء في حجة النفل والفرض؛ كذلك الكفارة تجب في صوم الفرض وغيره.

والدلالة على ما قلنا: أن الكفارة إنما وجبت في رمضان لهتك حرمة زمانه، وليس لما عداه من الزمان حرمة كحرمته؛ فلذلك لم يلزم بإفساد الصوم فيه كفارة. ولأن المحفوظ عن قتادة في قضاء رمضان وحده دون غيره من أنواع الصيام. فإذا كان كذلك قسنا قضاءه على صوم النفل فنقول: لأن صيام غير رمضان لا تتعلق به الكفارة. وأما القياس الأول فإنه ينتقض بالنفل والنذر. واعتبارهم بالقضاء باطل؛ لأن القضاء يراد لإسقاط الفرض، والفرض يستوي فيه رمضان وغيره. وليس كذلك الكفارة؛ لأنها تتعلق بالهتك، وذلك يختص بحرمة الزمان دون إسقاط الفرض. واعتبارهم بقتل الصيد ساذج بغير علة على أن طريق ذلك معتبر بالإتلاف لا لحرمة مجرد الإحرام. وليس كذلك الكفارة؛ لأن اعتبارهم يرجع إلى حرمة الزمان. والله أعلم. وأما إيجاب الكفارة بالجماع في الفروج على وجه العمد فهو قولنا وقول كافة الفقهاء. وحكي عن الشعبي والنخعي أنه لا كفارة في ذلك ولا في غيره، وأن الخبر الوارد بوجوب الكفارة مخصوص بمن ورد فيه. والدلال على ما قلنا: ما رواه الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم ينتف لحيته ويلطم وجهه فقال: هلكت

قال: "مالك؟ " قال: وقعت على أهلي وأنا صائم في رمضان. فقال صلى الله عليه وسلم: "أتجد رقبة؟ " قال: لا قال: "أتستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ " قال: لا. قال: "أتستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ " قال: لا. فبينما هو كذلك إذ أوتي النبي صلى الله عليه وسلم بعزق من تمر قال: "خذ هذا فتصدق به" فقال: على أفقر من أهلي؟ والله ما بين لأبيتها أحوج من أهلي؛ فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، وقال: "أطعمه أهلك ويحك". وروى يحيي بن سعيد بن محمد بن جعفر عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم [ق/57] فقال: احترقت. وقال: "وما ذلك؟ " قال: وقعت على المرأة في رمضان. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل فيه طعام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أين المحترق؟ " فجاء فقال: "خذ هذا فتصدق به". وروى مالك عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب أنه قال: جاء أعرابي إلى رسول صلى الله عليه وسلم يضرب نحره وينتف شعره ويقول: هلك الأبعد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تستطيع أن تعتق رقبة؟ " قال: لا. قال: "فاجلس". قال: فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق تمر فقال: "خذ هذا فتصدق". فقال: ما أجد أحوج مني. فقال. "كله، وصم

يوما مكان ما أصبت". ووجه الاستدلال من هذه الأخبار فهو أمره له بالكفارة، والأمر على الوجوب. فإن قالوا: ليس في هذا اللفظ عموم. قيل له: فيه جوابان: أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: حكمي على الواحد حكمي على الجماعة. وهذا يفيد أن الكفارة تجب على كل من كان مثل الأعرابي. والوجه الآخر: أن تعلق الحكم بسبب يقتضي أن يكون متعلقا به حيث كان. والله أعلم. وأما إيجاب القضاء عليه ولع من شركه في الإفطار، ووجوب الكفارة فهو أيضا قولنا، وقول فقهاء الأمصار. وحكي عن الأوزاعي أن عليه الكفارة دون القضاء. والذي يدل على ما قلناه: ما رواه ابن أبي أويس حدثنا أبي أخبرنا ابن مسلم عن حميد عن أبي هريرة أنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أفطر في رمضان أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينا. فقال: يا رسول الله ما أجد أحوج مني إليها؛

فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: "كله، وصم يوما". وروي عبد الجبار بن عمر عن ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة، وعبد الجبار عن يحيي بن سعيد وعطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للواطئ في رمضان: "اقض يوما مكانه". ورواه مالك عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وفي الخبر: "فصم يوما مكان ما أصبت". ولأن القضاء أكد من الكفارة؛ بدلالة أنه يجب على المعذور، والكفارة لا تجب على المعذور؛ فكان بأن يجب في الموضع الذي تجب فيه الكفارة أولى. والله أعلم. فصل وأما ما تجب به الكفارة في أصله هو الاعتماد للفطر في رمضان من غير اعتبار بما به يقع الفطر ولا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة في أن الكفارة تجب بالأكل والشرب والجماع في الفرج، إلا أنه قال: إن كان الجماع دون الفرج فلا كفارة فيه، وإن كان الأكل والشرب مما لا يقع الاغتذاء به فلا

كفارة فيه. وقال الشافعي: إنما تجب الكفارة بجماع في فرج. فحصل الخلاف بيننا وبينه في الأكل والشرب والجماع فيما دون الفرج وسائر ما يقع به الإفطار عدا الجماع في الفرج. واستدل أصحابه بأن قالوا: لأنه أفكر بسبب لا يحد به الحد بحال؛ فوجب ألا تجب عليه الكفارة. أصله: إذا قاء عامدا. قالوا: ولأنه أفطر بمعنى ينفرد به الشخص الواحد؛ فوجب ألا تلزمه الكفارة. أصله: القئ، أو الأكل في السبب المباح كالسفر. قالوا: ولأنه مفطر بغير جماع؛ فلم تلزمه الكفارة. أصله: إذا بلغ لؤلؤة، أو حصاة. قالوا: ولأن الأصل في الكفارة هو الخبر؛ وإنما ورد بجماع تام في صوم تام. وقد اتفقنا على أنه إذا كان جماع تام في صوم غير تام وهو النذر والكفارة فإنها لا تتعلق به كفارة؛ فكذلك يجب إذا كان جماع غير تام في صوم تام فيجب ألا تجب به كفارة. قالوا: ولأنه مفطر بأكل في صوم؛ لأنهم لا يسمون الأكل ناسيا مفطرا. قالوا: ولأنه صوم شرعي فوجب ألا تجب بالأكل فيه كفارة.

أصله: صوم النذر والتطوع. قالوا: ولأن كل موضع حرم فيه الوطء وغيره كان للواطئ مزية على غيره؛ ألا ترى أن الأجنبية يحرم على الرجل وطئها وقبلتها وغير ذلك، ثم إذا وطئها حد، وإذا قبلها أو لمسها فلا حد عليه؟ وكذلك الحج إذا أفسده بالوطء فعليه الكفارة، وإذا فعل غيره من القبلة والملامسة لم يفسده؟ فكذلك في مسألتنا يجب أن يكون للوطء مزية على غيره. وليس ذلك اختصاصه بالكفارة؛ لأن سائر ما يجب به من إفساد الصوم وإيجاب القضاء وغير ذلك فالوطئ فيه مساو لغيره فيه. والأصل في هذا ما استدل به أصحابنا؛ وهو ما روى مالك عن ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا. ووجه الاستدلال من هذا هو أن الراوي نقل الحكم وسببه؛ فوجب تعليقه به. فإن قيل: إذا كان السبب من عند الراوي، ولم يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السائل ما يدل على تعلق الجواب به لم يكن به اعتبار، [ق/58] ويحتمل أن يكون هذا المفطر أفطر بجماع أو بأكل، وليس يجوز أن يكن له حمله على الأكل إلا ولنا حمله على الوطء، وليس في الخبر لفظ عموم يتعلق به.

قيل له: هذا غير صحيح؛ لأن السبب إذا نقل مع الحكم وجب تعليقه به، سواء كان من عند الراوي أو من عند صاحب السبب؛ ألا ترى أنه تعلق حكمه بصيام اليومين من رمضان بقول الراوي: جاء الأعرابي فذكر انه رأى الهلال فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يصوموا من الغد؟ وكذلك يقولون في أن محرما وقصته ناقته إن هذا نقل الحكم بسببه. وكذلك روى أن ماعزا زنا؛ فرجم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سهى فسجد. إن كل ذلك تعليق الحكم بسببه مع احتمال ما قلتموه؛ فكذلك سبيلنا في الاحتجاج بما ذكرناه. وأوضح من ذلك مما لا يتوجه هذا السؤال عليه ما رواه زيد بن الحباب عن عمر بن عثمان بن المخزومي عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أفطر في يوم رمضان. فقال صلى الله عليه وسلم: "اعتق رقبة، أو صم شهرين، أو أطعم ستين مسكينا". ووجه الاستدلال من هذا هو أن السبب ذكر مطلقا، وورد الجواب مطلقا من غير استفصال؛ فصار كأنه قال: من أفطر يوما من رمضان فليعق رقبة. وهذا أحد أقسام العموم. ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من أفطر في رمضان عامدًا

فعليه ما على المظاهر". فإن قيل: الكفارة إنما تجب على العائد، وإطلاق اسم المظاهر لا يتناول العائد. قيل له: المظاهر على ضربين: عائد، وغير عائد. والخبر يوجب الكفارة على المفطر عامدا كما هي على المظاهر؛ فأي شيء وجب على المظاهر فهو واجب على المفطر إلا ما قام عليه الدليل. وأيضا فلأن الأكل قاصدا الإفطار في نهار رمضان على وجه الهتك وعدم العذر؛ فوجب أن تلزمه الكفارة. أصله: المجامع عامدا. فإن قالوا: ينتفض بالمستقئ عامدا. قيل لهم: من قال من أصحابنا أنه يفطر بالاستقاء ويكون القضاء واجبا قال: إن عليه الكفارة. ومن قال: إن القضاء استحباب فليس بمفطر عنده؛ فالواصف غير موجود على أصله. فإن قيل: ينتقض بمن بلع حصاة عامدا. قيل له: الذي ذكره مالك رحمه الله في "المختصر" أن عليه القضاء، ولم يحد صاحب المختصر شيئا في الكفارة. وكان شيخنا أبو بكر الأبهري رحمه الله يقول: القياس على مذهبه أن تلزمه الكفارة.

وهذا هو الصحيح على ما قلناه. قوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج}. وظاهر هذا يقتضي جواز صيام أيام منى للمتمتع. وروى الزهري عن سالم عن أبيه قال: رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدى ولم يصم أيام العشر أن يصوم أيام التشريق. وهذا نص. ولأن كل يوم لا تصلى فيه صلاة العيد فإنه يصح صومه مع سلامة الصائم. أصله: سائر الأيام. فأما نهيه صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق فمخصوص في غير المتمتع. وقوله: "إنها أيام أكل وشرب وبعال" لا ينفي أن يصومها المتمتع بدليل. والمعنى في يوم الفطر والنحر أنه يوم تصلى فيه صلاة العيد، وليس كذلك أيام التشريق. وقولهم لما لم يجز صوم يوم النحر وهو إلى الحج أقرب كانت أيام

التشريق بأن لا تصام أولى غير صحيح؛ لأن يوم النحر إنما لم يجز صومه لمعنى يختص به؛ وهو أنه تصلى فيه صلاة العيد، وأيام التشريق ليس فيها هذا المعنى. والله أعلم. وعلى أنه لا يجوز أن يعبر جواز صوم الواجب في الزمان بصيام التطوع؛ لأن الأصول قد فرقت بين الواجب والتطوع فيما يرجع المنع فيه إلى الزمان؛ ألا ترى أن التطوع ممنوع بعد العصر وبعد الصبح ولو ذكر فرضا عليه القضاء في هذه الأوقات؟. فكذلك يجوز له أن يصوم عن تمتعه أيام منى وإن لم يجز له أن يبتدئ التطوع فيها. والله أعلم. فصل فأما اليوم الرابع من النحر فإنه أخف حكما مما قبله؛ لأن اليومين قبله أحكام النحر قائمة فيهما من جواز النحر والتكبير في الصلوات، وليس كذلك في اليوم الرابع؛ لأنه ينقطع فيه هذا أجمع؛ لأنه لا تجوز فيه الأضحية، وينقطع فيه التكبير عقيب كل صلاة من صلاة الفجر؛ فجاز أن يصوم الناذر وصاحب التتابع، ولم يجز للمتطوع؛ لما بيناه من أن الوجوب أكد حالا من التطوع؛ فجاز في الواجب ما لم يجز في التطوع. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "ومن أفطر في نهار رمضان ناسيا فعليه القضاء فقط". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: وهذا كما قال مذهبنا أنه إذا أفطر في نهار رمضان ناسيا فقد بطل صومه، ولزمه القضاء، سواء كان إفطاره بأكل أو شرب أو جماع. وقال أبو حنيفة: القياس أنه يجب عليه القضاء، والاستحسان أن لا قضاء عليه. وقال الشافعي: إذا أكل أو جامع ناسيا فصومه صحيح لم يفسد، وليس بمفطر، ولا قضاء عليه. واستدل أصحابه بما رواه محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأكل في رمضان [ق/59] ناسيا: لا قضاء عليه ولا كفارة. وهذا نص. قالوا: ولقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان". والمراد بذلك الحكم، لا الفعل نفسه لا يرفع.

قالوا: وروى أبو هريرة أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أكلت وشربت ناسيا وأنا صائم. فقال: "الله أطعمك وسقاك". ففيه دليلان: أحدهما: أنه نفى عنه الفعل، وأضافه إلى الله تعالى؛ فعلم أنه لا يتعلق عليه حكم. والثاني: أنه موضع البيان؛ فلو كان قد أفطر وعليه القضاء لبينه له. قالوا: وروى ابن وهب عن جرير بن حازم عن أيوب السختيان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نسى وهو صائم فأكل وشرب فليتم صومه؛ فإنما الله أطعمه وسقاه". فلما سماه صائما وأمره بإتمام الصوم علم أنه لم يفطر. قالوا: وروى الحسن البصري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من نسى الصوم فأكل وشرب فلا يفطرن؛ فإن الله أطعمه وسقاه". قالوا: ولأن كل عبادة يفسدها الأكل عمدا لم تفسد بوقوعه فيها سهوا. أصله: الصلاة.

قالوا: ولأنه معنى يقع في أثناء الصوم يختص عمده بإفساده الصوم؛ فوجب أن لا يفسده خطؤه وسهوه. أصله: القئ. قالوا: ولأن وقوع الأكل والشرب والجماع في الصوم على وجه السهو مما لا يمكن الاحتراز منه وما هذه سبيله فهو معفو عنه؛ ألا ترى أن الكلام سهوا لا يفسد الصلاة؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه. والدلالة على صحة قولنا أنه قد ثبت من أصلنا أن الأكل ناسيا مفطرا كله، فإن سلموا هذا فقد صحت المسألة؛ لأن أحدا لا يوجب الفطر ويمنع من وجوب القضاء؛ لأن علة وجوب القضاء هو الإفطار. وإن لم يسلم دللنا عليه بأن نقول: لأنه أكل في نهار صوم؛ فوجب أن يكون مفطرا بأكله، أو يجامع في صوم فكان مفطرا بجماعه. أصله: إذا فعل ذلك عامدا. فإن قيل: المعنى في العمد أنه يمكن الاحتراز منه، وليس كذلك النسيان؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه. فالجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن ما تفسد به العبادات لا يقف على ما يمكن الاحتراز منه دون ما لا يمكن ذلك فيه؛ ألا ترى أن غلبة الحدث مفسدة للوضوء والصلاة إذا وقع في خلالها وإن كان ذلك مما لا يمكن الاحتراز منه. وكذلك لو وطأ ناسيا في الحج لأفسده وإن كان ذلك مما لا يمكنه الاحتراز منه.

والثاني: أنه يمكنه الاحتراز من وقوع الأكل على وجه السهو بأن يتحفظ ويستديم الاهتمام له والتذكر له؛ لأن النسيان ليس يكاد يلحق في الغالب إلا بضرب من التفريط، وترك التوقي والتحفظ. والثالث: أنه لو كان الأمر على ما ذكروه لوجب ألا يفسد الصوم من الحيض؛ لأنها لا تتمكن من الاحتراز منه، ومع ذلك فإن العبادة تفسد به. وتنتقض أيضا بمن لحقه العطش؛ فإن له إذا خاف على نفسه التلف أن يشرب الماء ويفسد صومه مع ذلك وإن كان ما لحقه مما لا يمكن الاحتراز منه. وعلى أن عدم تمكن الاحتراز منه إن كان لأجل النسيان استوى في ذلك الأكل والنية، وقد ثبت أنه لو نسى النية لبطل صومه وإن كان لا يمكنه على ما زعموا الاحتراز منه. فبطل ما قالوه. ويدل على ذلك أيضا أن كل عبادة لم تصح مع جنس فعل من الأفعال إذا وقع فيها عمدا على كل وجه؛ فلذلك أفسدها سهوه. أصله: الحدث في الطهارة والصلاة؛ لأن الطهارة والصلاة لا يصحان مع عمد الحدث على كل وجه؛ فلذلك أفسدهما سهوه. كذلك الصوم لما لم يصح مع عدم الأكل على وجه لم يصح مع سهوه. ولا يلزمه عليه الكلام سهوا في الصلاة؛ لأن الصلاة تصح مع جنس

الكلام في العمد على وجه. ويدل على ذلك أنه ليس بين أن يكون الإنسان صائما أو مفطرا منزلة ثالثة. وإذا ثبت [] الصائم ثبت ما قلناه، والذي يبين ذلك قوله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل}. والصيام ها هنا هو الإمساك عن الأكل والشرب بطلوع الفجر؛ فوجب إذا أكل في تضاعيف اليوم ألا يكون صائما؛ لأن إتمام الصوم لم يحصل منه؛ لأن الأكل ينافي الإمساك؛ فلم يحصل منه إتمام الصوم. فإن قيل: إن هذا الأكل لم يكن يقصد منه. قيل له: إلا أنه قد منع حصول إتمام الصيام. وهذا هو الذي أردناه. ولأنه أكل في صوم مفترض لا يسقط بالمرض؛ فوجب أن يلزمه القضاء. أصله: العامد. ولأن الصائم لا يكون صائما في الشريعة إلا بالإمساك كما لا يكون صائما إلا بالنية، ثم قد ثبت أنه لو نسى النية لم يجزئه؛ كذلك إذا نسى الإمساك. ولأن كل معنى على وجه السهو؛ كترك النية.

وإذا ثبت هذا فالجواب عن الخبر الأول أنه يحتمل أن يكون نفى الواجب على الفور أو اجتماع القضاء والكفارة؛ بدلالة ما ذكرناه. ويحتمل أن يكون الراوي نقله على معنى قوله: "الله أطعمك وسقاك" معتقدا أنه يقتضي سقوط القضاء. وقوله: "رفع عن أمتي الخطأ [ق/60] والنسيان" مفهومه: رفع المأثم والحرج دون غيره. هذا إن سلمنا أن له عادة في الاستعمال، ولم نقل إنه مجمل لا يعقل المراد به. واعتبارهم العموم في جميع ذلك باطل؛ لأن الحكم ليس بمذكور في اللفظ، والعموم لا يدعي في المضمرات. وقوله لمن سأله: "الله أطعمك وسقاك" لا حجة فيه؛ لأن ظاهره في الفعل، والفعل واقع منه؛ فلم يكن حمله على سقوط القضاء إلا من حيث أمكن فعله على سقوط المأثم، ولا يجوز حمله على العموم؛ لما ذكرناه، ولا على مفهوم عادة في استعماله، لاتفاقنا على أنه لو خاطب كل معذور بذلك لساغ؛ ألا ترى أنه لو قال له رجل: إني مرضت فأكلت، أو لحقني العطش أو الجوع فأكلت؛ فقال: (الله أطعمك وسقاك) لساع ذلك ولم يستحل؛ فبان بذلك ما قلناه.

وقولهم: إن ذلك موضع البيان؛ فلو كان القضاء واجبا لذكره. فالجواب عنه أنه ليس في الخبر ذكر للحكم الذي سأل عنه، ويحتمل أن يكون سأل عن حكم مخصوص فأجابه بجواب مخصوص؛ فسقط ما قالوه. وتعلقهم بقوله: "فليتم صومه" معناه: إمساكه؛ بدلالة ما ذكرناه. وقوله: "لا يفطرن" لا يستديم الفطر. واعتبارهم بالصلاة في أن الأكل سهوا لا يفسدها لا نسلمه على الإطلاق؛ لأنه إن كثر فيها أفسدها. وقولهم في الأكل: إن عمده يختص بإفساد الصوم باطل؛ لأن سهوه يفسده عندنا؛ فالعمد غير مختص؛ لأن الخطأ والسهو مشارك له أيضا. ولأن عمد القيء مختلف بين أصحابنا في فساد الصوم به. وينتقض بالردة إذا فعلها في أثناء الصوم ناسيا لصومه. فإن قالوا: المنع من الردة لا يختص بالصوم؛ لأنه ممنوع منها في الصوم كما هو ممنوع منها في الفطر. قلنا: وكذلك عمد الأكل لا يختص بالصوم؛ لأنه يمنع منه في الصلاة. فأما سقوط الكفارة عنه؛ فلأن الكفارة تجب في اعتماد الهتك لحرمة الصوم وعدم العذر، والناسي معذور وليس بهاتك؛ فلم تجب عليه الكفارة.

مسألة قال رحمه الله: "و [كذلك] ومن أفطر [فيه] لضرورة من مرض فعليه القضاء، ولا كفارة عليه". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي رحمه الله: أما وجوب القضاء فلا خلاف فيه أعلمه، والأصل في ذلك قوله تعالى: {ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} معناه: فأفطر فعدة؛ فأوجب القضاء على المريض إذا أفطر. ولأنه حصل أكلا في صوم واجب فأشبه العامد، والعذر لا يسقط القضاء. وأما سقوط الكفارة عنه فلأنه ليس بهاتك؛ والعذر يسقط الكفارة عن المفطر. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "ومن سافر سفرا تقصر فيه الصلاة فله أن يفطر وإن لم تنله ضرورة، وعليه القضاء والصوم [أحب إلينا] ". ومن متأخري أصحابنا من قال: إن بلغ الحصاة لا يفطر؛ لأنها لا تغذي ولا؛ فهذا القاتل لا يلزمه النقض؛ لأن الكفارة لا تكون إلا على

مفطر، والإفطار غير موجود هاهنا. فإن قيل: ينتقض بالمرتد. قيل له: لا يلزم ذلك من وجهين: أحدهما: أنا قلنا قاصدا للهتك بالإفطار، والمرتد لم يقصد بارتداده إفساد الصوم خاصة، وإنما قصد هتك حرمة الإسلام، وجر ذلك إلى إفساد صوم رمضان. فأما القصد والغرض فليس هو رمضان. والثاني: إن قلنا بالإفطار في رمضان، ووصف العلة لا يلزم عليه إلا ما تناوله إطلاق الاسم، والردة ليست بإفطار، وإنما هو شيء يفسد الصوم بوقوعها فيه. وليس كل ما أفسد الصوم كان إفطارا كما أنه ليس كل ما أفسد الصلاة كان حدثا فبطل ما قالوه. فإن قيل: المعنى في الجماع أنه يفتقر إلى شخصين، وليس كذلك الأكل. قيل له: هذا ليس بشيء؛ لأن وجوب الكفارات في الأصول لا يعتبر فيه كون ما يتعلق به مما يفتقر إلى شخصين أو شخص واحد؛ ألا ترى أن الحنث في كفارة اليمين تتعلق به الكفارة، سواء كان الفعل المحلوف عليه يحتاج إلى شخصين أو مما لا يحتاج إلى ذلك؛ فكذلك في هذا الموضع. وأيضا فيجب أن يفرق بين الموضعين بما له تأثير في الحكم، وعلما أن كون الفعل مما يحتاج إلى شخصين أو إلى شخص واحد لا يؤثر في وجوب

الكفارة ولا في سقوطها. وأيضا فإن هذا ينتقض بالوطئ دون الفرج؛ لأنه لا يكون إلا بين شخصين، ولا تجب به كفارة عندهم. فإن قالوا: الوطء لا يحصل إلا من الوطئ فقط. قيل له: إلا أن الفعل نفسه لا يقع إلا من شخصين كان الفعل منهما أو من أحدهما؛ لأن الذي يفهم من قول القائل: إن الفعل يفتقر إلى شخصين أنه لا يقع من الواحد، وهذا موجود في الوطء دون الفرج. وعلى أن الوطء في الفرج بهذه المنزلة؛ لأن الفعل إنما من الوطء، والمرأة لا يحصل منها إلا التمكن فقط؛ فالأمر واحد في الموضعين. ويبين ما قلناه أيضا أن وجوب الكفارة لا يخلو أن يكون معتبرا بحال المفكر من كونه هاتكا وقاصدا لإفساد الصوم من غير عذر، أو بحال ما يفطر به من كونه أكلا وجماعا وغير ذلك، أو بهما جميعا. فإن كان المعتبر هو بحال المفطر وجب ألا يعتبر بما به الصفة المطلوبة في الإفطار أن تتعلق عليه الكفارة. وإن كان المعتبر بما به يقع الفطر بانفراده فذلك باطل من قول الجميع. وإن [ق/61] كان المعتبر بالأمرين جميعا فذلك خلاف الأصول؛ لأنا قد وجدنا حكم الكفارة متعلقا بحال المفطر؛ فأنها تجب بمعنى؛ إذا سقط ذلك المعنى سقط وجوبها. وقد علمنا أن المراعي في إسقاط الكفارة هو بحال المفطر لا بما به وقع

الفطر؛ ألا ترى أن الجماع الذي يتفق على أنه يؤثر في الكفارة إذا وجدناه غير موجب لها لم يكن ذلك إلا لأمرين يرجع إلى المفطر من كونه غير هاتك ومعذورا، وما أشبه ذلك؛ فبان بما قلناه أن الاعتبار في وجوب الكفارة وسقوطها بحال المفطر لا بما به يقع الفطر. وهذا يصلح أن يجعل دليلا مبتدءا وجوابا عن سؤالهم. وكذلك حال الكفارات في غير الصوم أيضا. ويوضع ذلك أيضا أن الكفارة في هذا الموضع طريقها التغليظ والعقوبة، ووقوع الفطر على وجه ممنوع بأمر ممنوع محظور أولى بأن يتعلق به وجوب الكفارة من وقوعه بأمر مباح لو لم يكن على هذا الوجه. وقد ثبت أن الإفطار بجماع الزوجة والأمة الذي هو مباح في غير الصوم أخف حكما من الإفطار بشرب الخمر، فإذا كانت الكفارة واجبة به كانت بأن تجب بشرب الخمر أولى. فأما وقوع الفعل من شخصين فلا مدخل له في تغليظ ولا تخفيف؛ فسقط اعتباره. وأيضا فلما أوجب مخالفنا الإطعام على الحامل والمرضع وإن كانتا معذرتين بالإفطار لكونهما مفطرتين من أجل غيرهما لا من أجل نفسيهما، وكان هذا عنده أمرا مؤثرا في وجوب الإطعام مع كونه عذرا يبيح الإفطار كان الأكل عامدا قاصدا للهتك أولى بذلك؛ لأنه ابعد عن العذر ممن ذكرناه. فأما قولهم: إنه أفطر بسبب لا يجب عليه الحد بحال والمستقئ عامدا فلا يؤثر على قولهم؛ لأن شرب الخمر وغيره من المسكر يوجب الحد عندنا وعندهم، ولا كفارة عليه عندهم.

ولفظ العلة ينتقض بوطء الزوجة والأمة، إلا أن يريدوا أن الحد لا يجب بشيء من جنس ذلك الفعل. ولأن الاستقاء مختلف في وجوب الفطر به بين أصحابنا، ووجوب الكفارة هو فرع لذلك، ومن قال منهم بأنه يفطر أوجب فيه الكفارة. وقولهم: أفطر بمعنى ينفرد به الشخص الواحد؛ فأشبه إذا استقاء أو إذا أكل في السفر قد أجبنا عنه وبينا أن اعتبار الفطر بوقوع الفعل من شخص واحد أو من شخصين لا تعلق له بالكفارة، وأن المستقئ عامدا إذا كان مفطرا فعليه الكفارة. وعلى أن اعتبار إسقاط الكفارة في السفر بالأكل لكونه إفطارا إنما ينفرد به الشخص الواحد لا تأثير له؛ لأن الاعتبار بكون الحال عذرا يبيح الفطر بدلالة أنه لو أفكر بما يشترك فيه الشخصان لم تلزمه كفارة، وأن سقوط الكفارة بالإفطار في السبب المباح بما يقع مع الشخصين على حد سقوطها بما يقع من الشخص الواحد؛ لاشتمال حال العذر على الموضعين. وقولهم لأنه مفطر بغير جماع؛ فأشبه إذا بلع حصاة أو لؤلؤة فالجواب عنه أن بالع الحصاة إذا كان مفطرا عامدا فعليه الكفارة على ما ذكرناه عن أصحابنا، وإنما منع من ذلك من يقول: إنه لا يفطر. وليس لهم أصل يقيسون عليه؛ لأن الإفطار حيث حصل في رمضان مع عدم العذر فالكفارة متعلقة به عندنا. وقولهم: إن الخبر ورد بجماع تام، فلما كان الجماع التام إذا ورد في صوم غير تام لا تجب به كفارة؛ كذلك الجماع غير التام إذا كان في صوم

تام فلا كفارة فيه. فالجواب عنه أن يقال: ما الذي أردتم بقولكم: في صوت تام؟ فإن قالوا: أردنا في صوم رمضان فقط قلنا: وما الذي يفيده وصفكم لصوم رمضان بأنه وصف تام.؟ فإن قالوا: إنه واجب فقط لزم ذلك في النذر والقضاء. وهم لا يقولون بذلك، ولا نحن أيضا. وإن قالوا: إنه أعلى الصيام منزلة ورتبة؛ لأنه وجب ابتداء من قبل الله تعالى. قيل لهم: ما طريقة الفضيلة والحرمة وهو مساو لغيره في صفة الأداء، وشروطه لا تقتضي كون غيره ناقصا عنه. وإنما جاز أن يعبر عن الوطء فيما دون الفرج بأنه غير تام؛ لأنه ليس بوطء من وجه آخر، وهو كونه وطئا في الفرج، فنفس الفعل مختلف في الأداء، وليس كذلك الصوم؛ لأن شرط الأداء في جميعه واحد؛ لأن أداء صوم رمضان والنذر والقضاء والنفل على حد واحد غير مختلف؛ فيبطل ما قالوه. فيقال لهم: إذا كنا نحن وأنتم نقول بالقياس فما الذي يمنع من قياس الجماع الذي هو غير تام على الجماع التام بعلة تقتضي الجمع بينهما كما فعلنا جميعا ذلك في تحريم التفاضل في التمر والبر وغيرهما واحد من القياسين لا يعترض على قائس في إلحاق غير المنصوص عليه به مع العلة؛ لأنه يكون معترضا على نفسه.

فأما الجماع التام إذا وجد في الصوم غير التام فإنا لم نوجب فيه كفارة؛ لعدم الدليل على إلحاقه بالمنصوص، وهذا ظاهر في بطلان ما قالوه. واعتبارهم بالأكل ناسيا باطل؛ لأنه معذور بإفطاره عندنا، وإنما الكفارة على من ليس بمعذور؛ هذا على أصلنا. فأما على أصلهم فالأكل ناسيا غير مقطر؛ فالكفارة لا تجب إلى على مفطر؛ فشرط [ق/62] وجوبها لم يحصل. وقولهم: إنه صوم شرعي؛ فلم تجب بالأكل فيه كفارة كالنذر باطل، لأن النذر والنفل لا تجب فيه كفارة لا بالأكل ولا بغيره؛ فتقيد سقوط الكفارة فيه الأكل لا معنى له. ويجوز أن يعلل بأنه صوم لا تجب الكفارة بالجماع فيه؛ فلذلك لم تجب بالأكل. وأيضا فإن الكفارة متعلقة بحرمة الزمان الذي وقع فيه الفطر، وليس لغير رمضان حرمة رمضان؛ فلذلك لم يساوه في تعلق الكفارة به. وقولهم إن الوطئ إذا اجتمع مع غيره كان للوطء مزية عليه باطل غير صحيح عندنا، ولعل على أصلهم وسائر ما ذكروه من الأحكام التي تختص بالوطء فليس ذلك لمزية الوطء؛ بدلالة أنا لو فرضنا تحريم الوطء خاصة وتحليل سائر ما حرم معه لكان ذلك الحكم ثابتا للوطء وإن لم يكن هناك ما يقتضي مزية عليه؛ فبان أن ذلك إنما وجب لقيام دليل عليه. وبالله التوفيق.

مسألة قال رحمه الله: "والكفارة في ذلك إطعام ستين مسكينا؛ لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم فذلك أحب إلينا. وله أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: لا خلاف أن الكفارة في الصيام هي الإطعام، والعتق، والصيام. والأصل فيه ما رويناه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن ذكر له أنه أفطر في رمضان بأن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكينا. إنما الخلاف في أنها مرتبة أو مخير فيها؛ فعندنا أنها على التخيير دون الترتيب. وعند أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما أنها على الترتيب؛ فإن كان يقدر على رقبة الإعتاق فلم يجز له التكفير بالصيام ولا بالإطعام. فأن لم يقدر على رقبة لزمه الصيام. فإن لم يقدر فالإطعام. واستدلوا بما رواه سفيان بن عيينة عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: أتي رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هلكت. قال: "ما شأنك؟ " قال: وقعت على امرأتي في رمضان. قال: "فهل تجد ما تعتق رقبة؟ " قال: لا. قال: "فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ " قال: لا. قال: "اجلس ... " الخبر. وروى الأوزاعي عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال

للذي أفطر: "اعتق رقبة" قال: لا أقدر. قال: "فصم شهرين". قال: لا استطيع. قال: "أطعم ستين مسكينا". قالوا: ففي هذا دليلان: أحدهما: إنه قال له: اعتق رقبة؛ وذلك يفيد وجوبها وانحتامها. والثاني: إنه قال: لا أجد؛ فقال له: صم شهرين؛ تقديره: إذا لم تجد رقبة فصم شهرين؛ فدل على أن الكفارة مرتبة. قالوا: وروى مجاهد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الذي أفطر في رمضان بكفارة المظاهر. قالوا: ولأنها كفارة فيها صوم وبدل؛ فوجب أن تكون مرتبة اعتبارا بكفارة الظهار. ويريدون بقولهم: صوم بدل أن الإطعام بدل عن الصيام ينوب منابه. قالوا: ولأنها كفارة لا تجب إلا على مأثم؛ فوجب أن تكون مترتبة كالظهار. قالوا: ولأنه صوم تبع العتق شرعا؛ فوجب أن يكون مرتبا عليه. أصل ذلك الصوم في كفارة القتل. قالوا: قولنا: تبع العتق شرعا أن الأخبار وردت بأنه صلى الله عليه وسلم أمر الذي أفطر في رمضان بالصوم بعد أن أمره بالعتق. قالوا: ولأن الكفارة إذا كانت على الترتيب بدئ فيها بالأغلظ، وإذا كانت على التخيير بدئ فيها بالأخف، ووجدنا كفارة الصيام بدئ فيها بالأغلظ وهو العتق؛ فعلم بذلك أنها على الترتيب ككفارة الظهار.

ألا ترى أن كفارة اليمين لما كانت على التخيير بدئ فيها بالأخف؛ وهو الإطعام؟ والدلالة على صحة قولنا: ما رواه مالك عن ابن شهاب عن حميد ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان؛ فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينا. ولفظ (أو) يقتضي التخيير؛ فوجب أن تكون الكفارة على التخيير. فإن قالوا: خبرنا أولى؛ لأن من روى الترتيب أكثر ممن روى التخيير؛ لأن الذي روى التخيير عن الزهري: مالك وابن جريج، والذين رووا الترتيب: سفيان بن عيينة ومعمر والأوزاعي، والخبر يترجح بكثرة الرواة؛ لأن ذلك أبعد من الغلط، وأقرب إلى التواتر. قلنا: الأمر على ما قلتم في أن كثرة رواة الخبر مما يرجح به على ما هو أقل رواة منه، لكن هذا قد أخطأتم في قولكم إن رواة التخيير عن الزهري: مالك وابن جريج فقط؛ لأن رواة التخيير عنه أكثر من رواة الترتيب؛ وذلك أن التخيير رواه عنه: مالك، وابن جريج، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبو أويس، وعمر بن عثمان المخزومي. فأما حديث مالك، وابن جريج فقد تقدم ذكرهما. وأما حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي أويس: فروى أبو بكر ابن الجهم قال: حدثنا أبو إسماعيل الترمذي قال: حدثنا أيوب بن سليمان

ابن بلال قال: حدثنا عبد المجيد بن أبي أويس قال: حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرنا ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أفطر أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين، أو إطعام ستين مسكينا. قال أبو بكر: وحدثنا العباس بن الفضل قال: حدثنا أبي أويس قال: حدثنا أبي أن ابن شهاب أخبره [ق/63] عن حميد أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أفطر في رمضان بمثل حديث يحيى بن سعيد تاما. وأما حديث مليح: فرواه أبو بكر عن محمد بن سعد الصيرفي عن أبيه عن مليح عن الزهري عن حميد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يكفر بعتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا؛ وذلك لأنه وقع على امرأته. وأما حديث المخزومي: فرواه أبو بكر أيضا قال: حدثنا إبراهيم الحرمي عن عبد الله بن عمر بن أبان عن زيد بن الحباب قال: حدثنا عمر ابن عثمان المخزومي قال: حدثنا الزهري عن حميد عن أبي هريرة أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أفطر في يوم من رمضان؛ فقال: "اعتق رقبة، أو صم شهرين أو أطعم ستين مسكينا". فثبت بما ذكرناه أن رواة التخيير أكثر من رواة الترتيب؛ فوجب بذلك

ترجيح أخبارنا على أخبارهم. فإن قالوا: من روى الترتيب فقد ذكر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، ومن روى التخيير فإنما نقل فعله، ورواية من روى القول أولى. قلنا: إذا كنا نتفق أن قول الصحابي: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، ونهى عن كذا) في لزوم الحجة به بمنزلة أن ينقل اللفظ الذي به أمر سقط ما قلتم. على أن من رواة التخيير من ذكر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو ما ذكرناه من حديث عمر بن عثمان المخزومي. هذا مع تسليم أن أخبارهم مرتبة، وإلا فالوجه منع ذلك؛ لأن للترتيب حروفا تختص به: كالفاء، وثم، وغير ذلك. وليس عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، وإنما قال الأعرابي: لا أجد؛ فقال: فافعل كذا، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: إن لم تجد كذا فكذا. فإن قيل: تقديره كأنه قال: إن لم تجد العتق فصم شهرين. قيل له: لم وجب أن يكون هذا تقديره وهذه دعوى لا دليل عليها؟ فإن قيل: يحتمل خبركم أن يكون صلى الله عليه وسلم علم ما آل أمره إليه؛ وهو أنه لا يقدر على العتق ولا الصوم فأمره بالإطعام؛ بدلالة خبرنا. قيل له: هذا باطل؛ لأنه خيره بين الجمع على حد واحد، ومن ليس بقادر على العتق لا يقال له: إن شئت فأعتق. فإن قيل: من ليس هو من أهل العتق إذا تطوع بالعتق أجزأه.

قيل له: إن كان قادرا عليه وجب عليه عندكم، وإن كان غير قادر عليه لم يصلح أن يقال: إن شاء تطوع؛ لأنه لا يتطوع بما لا يقدر عليه. ومما يدل على ما قلناه: ما رواه ابن وهب قال: أخبرنا عمر بن الحارث أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه أن محمد بن جعفر حدثه أن عباد ابن عباد بن عبد الله حدثه أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول: أتى رجلا النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أهلي. فقال: "تصدق" قال: والله ما لنا شيء، وما أقدر. قال" "اجلس" فجلس .... ووجه الاستدلال منه: أنه أمره بالتصدق، ولم يأمره بالإعتاق؛ فبطل بذلك الترتيب. ومن جهة القياس: أنها كفارة وجبت عن غير عود ولا إيلاف؛ فكانت على التخيير؛ اعتبارا بكفارة اليمين. فأما الأخبار فقد أجبنا عنها، وأما ما رووه بأن عليه ما على المظاهر فمصروف إلى الأصناف التي تجب على المظاهر. وأما قياسهم على كفارة الظهار بأن فيها صوما هذا بدل ففيه خلافنا؛ لأن وجوب الإطعام كوجوب الصيام عندنا، وترتيبه كترتيبه؛ فليس ببدل له. على أن كفارة الظهار لا تجب بنفس الظهار، بل بأمر آخر وهو العود، وليس كذلك مسألتنا؛ لأن الكفارة هاهنا تجب بنفس الفطر. وقولهم: لأنه صوم تبع العتق شرعا لا نسلمه.

وقولهم: أردنا به ورود الأخبار بالصوم بعد العتق باطل من وجهين: أحدهما: إن هذا لا يوجب أن يكون الصوم تبعا للعتق. فإن قالوا: هذا الذي أردناه. وقيل لهم: لا ننكر أن تكونوا أردتم شيئا وعبرتم عنه بغير عبارته وبما يفيد غير معناه؛ فلا يلزمنا قبوله. والوجه الآخر: إن الأخبار قد وردت أيضا بالتساوي بين الصوم والعتق؛ فلم يكونوا بأن يقولوا: إن الصوم تبع العتق في الشرع لأجل أخبارهم بأولى منا أن نقول: لأنه ليس بتبع له؛ لأخبارنا. وقولهم: إن الكفارة إذا بدئ فيها بالأغلظ كانت على الترتيب؛ فالبداية إذا لم تكن بحرف الترتيب لم توجب الترتيب. ويبطل بكفارة الصيد؛ لأنه بدئ فيها بالهدى، وهو أغلظ من الصيام والإطعام، وهو مع ذلك على التخيير. والله أعلم. فصل فأما اختيار الإطعام: فلأنه أعم منفعة؛ لأن العتق يخص المعتق فقط، والصيام لا منفعة فيه غير الصائم، والإطعام يسقط الفرض وتعم منفعته جماعة المساكين؛ فلذلك استحبه. وقد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للذي سأله: "تصدق"؛ فأمره بالإطعام.

مسألة قال رحمه الله: "وليس على من أفطر في قضاء رمضان متعمدا كفارة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: وهذا لأن الكفارة إنما تجب لانتهاك حرمة الشهر. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وأشبعنا القول فيه. مسألة قال رحمه الله: "ومن أغمي عليه ليلا، فأفاق بعد طلوع الفجر فعليه قضاء الصوم". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله: وهذا لأن عليه أن يدخل في الصوم من حيث يعلمه، ويشعر به، فإذا منعه عن [ق/64] ذلك مانع غير معتاد، ولا مشقة تلحق فيه كالنوم وجب أن لا يصح دخوله فيه؛ لأن النوم معتاد لا يزيل حكم التكليف على الإطلاق، وتلحق المشقة في صرفه، وانتظار طلوع الفجر. وليس كذلك الإغماء. ويبين ذلك أن الإغماء لا يلزم معه قضاء الصلوات الفوائت. وليس كذلك النوم؛ فثبت أنه أخف حكما من الإغماء. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "ولا يقضي من الصلوات إلا ما أفاق في وقته". قال القاضي- رحمه الله: قد ذكرنا هذا في كتاب الصلاة، وبيناه بما يغني عن إعادته. مسألة قال رحمه الله: "وينبغي للصائم أن يحفظ لسانه وجوارحه، ويعظم من شهر رمضان ما عظم الله سبحانه". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله: وذلك لما رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام جنة؛ فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث، ولا يجهل. فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم". وروى المقبري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله فيه حاجة أن يدع طعامه وشرابه". وروى عمرة بن أبي عمرة عن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش،

ورب قائم حظه من قيامه السهر". فثبت بهذه الأخبار أن الإنسان مأمور بحفظ لسانه من الكذب، والغيبة، والنميمة، والزور، وقول الهجر، وغير ذلك مما في معناه. فإن فعل شيئا من ذلك فقد أساء، وصومه ماض، وهو قول كافة الفقهاء، إلا ما حكي عن الأوزاعي إن صح عنه أنه قال: إن فعل ذلك فقد أفطر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس يفطرن الصائم"؛ فذكر فيهن الغيبة والنميمة والكذب. وهذا عندنا على وجه التغليظ والمجاز. ومعناه، سقوط الثواب بذلك عليه إن كان جنس لا يفطر المباح منه لم يفطر محظوره؛ كالقبلة، واللمس باليد، وكذلك الضرب باليد، وما أشبهه. ويشهد لذلك من العكس أن كل ما أفطر مباحه فطر محظوره كالزنا ووطء الزوجة. وقد ثبت أن مباح الكلام لا يفطر؛ فكذلك محظوره. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "ولا يقرب الصائم النساء بوطء ولا بمباشرة ولا قبلة للذة في نهار رمضان، ولا يحرم ذلك في ليله". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: أما الوطء: فلا يجوز للصائم بوجه كما لا يجوز له الأكل والشرب؛ لأن ذلك لو جاز لجاز له الفطر. فأما ما دون الوطئ من المباشرة للذة بالتقبيل وغير ذلك فإنه يكره له أيضا؛ لأنه من دواعي الوطئ؛ فلا يؤمن أن يؤديه إلى إفساد الصوم فإن فعل ذلك وسلم فلا شيء عليه وغن كان قد غرر؛ لأن ما يخاف منه إفساد الصوم فقد سلم منه. وقد روى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: كان رسول الله يقبل بعض أزواجه وهو صائم، ويباشر وهو صائم، وتضحك. وروى الأغمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم، ولكنه كان أملك لإربه. وكان مالك يقول: بلغني أن عائشة كانت تقول إذا ذكر لها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم: وأيكم أملك لإربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد روي كراهة ذلك عن قوم من الصحابة والتابعين. وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس سئل عن القبلة للصائم فرخص فيها للشيخ، وكرهها للشاب. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان ينهي عن القبلة والمباشرة للصائم. وذكر مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: لم أر القبلة تدعو إلى خير. فأما قوله: ولا يحرم ذلك عليه في ليله: فلأنه ليس بمعتكف ولا محرم، وإنما يستوي منع ذلك في الليل والنهار للمعتكف والمحرم، إلا أن المحرم لا يبطل إحرامه بالقبلة والمباشرة للذة إذا سلم، والمعتكف يبطل اعتكافه بذلك؛ وبين ذلك قوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} إلى قوله {فالآن باشروهن} فقال أهل التفسير: إنه كان في أول الإسلام إذا صليت العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء إلى الليلة الأخرى. وقالوا: إن رجلا وطئ امرأته وكان قد أعفى، وفيه نزلت هذه الآية

مسألة قال رحمه الله: "ولا بأس أن يصبح جنبا من الوطء". قال القاضي رحمه الله: قد ذكرنا هذا فيما تقدم، وأشبعنا القول فيه. مسألة قال رحمه الله: "ومن التذ في نهار رمضان أو قبلة فأمذى لذلك فعليه القضاء". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: أصحابنا يقولون: إن هذا استحباب، وليس بإيجاب. ووجهه هو جواز أن تكون القبلة حركت المني عن موضعه. فأما إن سلم من ذلك فلا شيء عليه؛ لما ذكرنا، ولأن ما يوجب الوجوء لا يقع به الإفطار كاللمس للذة والبول. مسألة قال رحمه الله: "وإن تعمد ذلك [ق/65] حتى أمنى فعليه الكفارة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: وهذا لأنه قاصدا للإفطار في رمضان من غير عذر فكان كالواطئ. وقد ذكرنا هذا؛ فلا معنى لإعادته. مسألة قال رحمه الله: "ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه".

وإن قمت فيه بما تيسر فذلك مرجو فضله، وتكفير الذنوب به. والقيام فيه في مساجد الجماعات بإمام، ومن قام في بيته [وهو] أحسن لمن قويت نيته وحده. وكان السلف يقومون فيه في المساجد بعشرين ركعة، ثم يوترون بثلاث، ويفصلون بين الشفع والوتر بسلام. ثم صلوا بعد ذلك ستا وثلاثين ركعة غير الشفع والوتر. وكل ذلك واسع. ويسلم من كل ركعتين. وقالت عائشة رضي الله عنها: ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على اثنتي عشرة ركعة بعدها الوتر". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي رحمه الله: أما الفصل الأول: فإنه لفظ النبي صلى الله عليه وسلم رواه مالك وغيره عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم بعزيمة، ثم يقول: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه"، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وصدر من خلافة عمر رضي الله عنه.

وروى سفيان عن أبي سلمة عن الزهري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من صلى رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". وقوله: إن قام بما تيسر فذلك مرجو فضله، وتكفير الذنوب به، فلأن الصلاة قربة وفعل خير، ومن أفضل الأعمال، وأفعال القرب والطاعات يرجى بها التكفير والعفو. والأصل في قيام رمضان ما رواه مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد، فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي صنعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا إني خشيت أن تفرض عليكم"، وذلك في رمضان. وروى داود بن أبي هند عن الوليد بن عبد الرحمن عن جبير بن نفير عن أبي ذر قال: صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني: رمضان فلم يقم بنا شيئا من الشهر حتى بقي سبع، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، فلما كانت الليلة السادسة لم يقم بنا، فلما كانت الخامسة قام بنا حتى ذهب شطر الليل. قال: "إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة" فلما كانت الرابعة لم يقم بنا. فلما كانت الثالثة جمع أهله ونساءه والناس فقام بنا حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح. قال: قلت: وما

الفلاح؟ قال: السحور. ثم لم يقم بنا بقية الشهر. وروى أبو الضحى عن مسروق عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل العشر أحيا ليلة وشد المئزر، وأيقظ أهله. وروى ابن وهب قال: أخبرني مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا ناس يصلون في ناحية المسجد فقيل: من هؤلاء؟ قيل: هؤلاء ناس ليس معهم قرآن، وأبي بن كعب يصلي بهم، وهم يصلون بصلاته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصابوا، ونعم ما صنعوا". وقوله: إن كانوا في المسجد قياما؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى التراويح بأصحابه في المسجد جماعة وكان هو إمامهم. وكذلك روى من حديث أبي بن كعب. وكذلك جمع عمر رضي الله عنه بالناس، وكافة السلف. وقوله: إن من قوى أن يصليها في بيته فذلك حسن؛ فلما رواه إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثنا ابن أبي أويس عن سالم عن أبي النضر عن بشر بن سعيد عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة المرء في

بيته أفضل من صلاته في جماعة إلا المكتوبة". وقد نبه الله تعالى على ذلك في آية الصدقة حيث قال: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم}. فكان ذلك أصلا في انتفاء كل ما يفعله الإنسان من التطوع مما ينفرد به دون الناس. قال أصحابنا: ولأن في ذلك سلامة من الرياء والسمعة؛ فهو أفضل. وقد روى ما ذكرناه عن جماعة من السلف. وقال مالك: وليس كل الناس يقوى على ذلك؛ قد كان ابن هرمز ينصرف يقوم بأهله، وكان ربيعة وعدد واحد ينصرف ولا يقوم مع الناس. فأما المختار من القيام عندنا فهو ستة وثلاثون ركعة سوى الوتر. قال مالك: بعث إلى في أن ينقص من ذلك فنهيت عن ذلك، ومنعت منه. وقد كان الناس يقومون بعشرين ركعة، والذي ذكرناه هو فعل أهل المدينة، وذلك أقوى عندنا من غيره، وسيما إذا لم يكن شيئا باجتهادهم. وروى ابن وهب عن عبد الله بن عمر عن نافع قال: لم أر الناس إلا وهم يقومون تسعا وثلاثين ركعة، ويوترون منها بثلاث. فأما تطوع النبي صلى الله عليه وسلم وما ذكر عن عائشة رضوان الله عليها فقد ذكرناه فيما سلف بما يغنى عن إعادته. وبالله التوفيق.

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف [ق/66] مسألة قال رحمه الله: "والاعتكاف من نوافل الخير، والعكوف: الملازمة" قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي رحمه الله: وهذا لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعله. وروى الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عاما، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين ليلة. وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد}. وقوله: {طهرا بيتي للطائفين والعاكفين}. فأما معنى الاعتكاف: فهو الملازمة واللبث. والعكوف: اللزوم. ومنه قوله تعالى: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} أي: ملازمون

وقوله: يعكفون على أصنام لهم. أي: يلازمون. وقولهم: (قد عكف فلان على عمله) معناه: قد أقبل عليه ولازمه. وهو أشهر في اللغة من أن يذكر فيه أكثر من هذا. مسألة قال رحمه الله: "ولا اعتكاف إلا بصيام". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي رحمه الله: هذا قول أصحابنا جميعا، وهو قول القاسم بن محمد وناف، وقال أبو حنيفة وغيره من أهل العراق رضي الله عنهم أجمعين. وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتكاف ليس من شرطه الصيام. والدلالة على ما قلناه: قوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}. ووجه الاستدلال من هذا هو أن هذا خطاب للصائمين؛ لأن أول الآية استفتح بها الخطاب للصائمين؛ وما بعد ذلك من الخطاب عطف عليه؛ وذلك أنه تعالى قال: {أجل لكم الصيام الرفث} إلى قوله: {فالآن

باشروهن} إلى قوله: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}. وكان في صدر الإسلام إذا نام الإنسان منع من الأكل والشرب والجماع، فلحق الناس في ذلك مشقة؛ فأصاب بعض الصحابة ذلك والقصة معروفة؛ فنسخ الله تعالى ذلك بقوله سبحانه: {فالآن باشروهن}، ثم عطف عليه قوله: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}؛ فبين أن تلك الإباحة هي لمن كان صائما غير معتكف؛ فلو كان الاعتكاف يصح بغير صوم لم يكن لقصر الخطاب بالمنع من ذلك على الصائمين معنى؛ لأن من يخالفنا لا يفرق في ذلك بين أن يكون المعتكف صائما أو غير صائم؛ فثبت بما قلناه أن الصوم شرط في الاعتكاف. ويدل على ذلك أيض ما رواه سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا اعتكاف إلا بصيام". وهذا نص. فإن قيل: لا دلالة في هذا الظاهر؛ لأن النفي تعلق بوجود؛ وذلك أن الاعتكاف يوجد وإن لم يقارنه صوم؛ فإذا المراد نفى حكم من أحكام الاعتكاف، وذلك الحكم غير مذكور يحتمل أن حمله الإجزاء، ويحتمل أن يكون الكمال فليس لكم حمله على أحدهما إلا ولنا حمله على غيره.

فالجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: إن النفي تعلق بنفس الاعتكاف لا بحكم من أحكامه؛ لأن قوله: (لا اعتكاف) نفى الاعتكاف الشرعي. ونحن نقول: إن اللبث في المسجد وإن كان بنية الاعتكاف إذا لم يقارنه صوم فليس باعتكاف شرعي؛ فبطل هذا السؤال. والجواب الآخر: هو أن المقصود بهذا اللفظ كون الشيء شرطا فيما علق به وإن كان لفظه النفي فليس المقصد النفي؛ إذا الشرع ليس هو للنفي وإنما هو الثبات إلا أن يراد بلفظ النفي الإثبات على ما بيناه. وإنما يعبر عنه بلفظ النفي لكونه آكد في الكشف عن الغرض المقصود؛ فكأنه صلى الله عليه وسلم قال: الصوم شرط في الاعتكاف. وإذا صح بطل ما قالوه. ويدل على ذلك أيضا ما رواه عبد الله بن بديل بن ورقاء الليثي عن عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنه جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اعتكف وصم". هذا أمر فهو على وجوبه. ويدل عليه ما قاله أصحابنا إن الاعتكاف لبث في مكان مخصوص؛ فوجب أن لا يكون قربة بمجرده دون أن ينضم إليه معنى آخر قربة في

نفسه. دليلة: الوقوف بعرفة. فقال المخالفون: نحن نقول بموجب هذه العلة؛ وهو أنه لا يكون قربة بمجرده إلا بالنية. فأجاب أصحابنا بأن النية على انفرادها ليست قربة؛ لأنها من شرط كل قربة لبثا كان أو غيره. فإن قيل: فكذلك الإحرام الذي ضم إلى الوقوف بعرفة ليس بقربة في نفسه. قيل له: بل هو قربة؛ بدلالة أنه قد تعلق به أحكام الشيء الذي أحرم به. وقد اعترضوا فقالوا بعكسه فتقول فوجب ألا يكون من شرط صحته الصوم. أصله: الوقوف. والجواب: أن الوصف لا يؤثر في هذا الحكم؛ لأن اللبث ليس من شرط الصوم سواء كان في موضع مخصوص عندهم أو غير مخصص. ويدل على ذلك أيضا أنا قد اتفقنا على أن لزوم الاعتكاف بالنذر وكل عبادة لزمت بالنذر فلا بد أن يكون من جنسها واجب بأصل الشرع؛ كالصلاة والصيام، وكل ما لا يلزم بالنذر لم يلزم هذا فيه؛ كالمشي في الأسواق وغيره. وإنما صح لزوم الاعتكاف بالنذر ولم يكن من جنسه ما هو واجب

بأصل الشرع علم أنه إنما وجب بالنذر لا من شرط صحته ما هو واجب بالشرع؛ وهو صوم. فإن قيل: ينتقض بالعمرة تلزم بالنذر، وليس من جنسها ما هو واجب بأصل الشرع. قيل له: من جنسها الحج، وهو واجب بأصل الشرع [ق/67] فإن قيل: الوقوف بعرفة من جنس الاعتكاف، وهو واجب بأصل الشرع. قيل له: الوقوف ليس باعتكاف، ولا له أحكام الاعتكاف. واستدل من خالفنا بقوله تعالى: {ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد}. وهذا منتظم لكل معتكف. فالجواب: أنا لا نسلم أن غير الصائم معتكف اعتكافا شرعيا. فإن قيل: حقيقة الاعتكاف هو اللبث واللزوم. قيل له: قد انتقلنا عن حقيقة في اللغة إلى أحكام تثبت له في الشريعة فمنها: لزوم جنس مخصوص، وتحريم أشياء تنضم إلى اللبث، ولبث في مكان مخصوص، وغير ذلك؛ فلا يجوز التعلق بالاسم في اللغة. قالوا: وروى طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صوم إلا أن يجعله على نفسه". فالجواب أن ظاهر هذا أنه ليس عليه صوم لأجل الاعتكاف، ونحن

كذلك نقول؛ لأن من شرط الاعتكاف، ونحن كلك نقول؛ لأن من شرط الاعتكاف أن يكون في صوم، سواء كان لنفسه أو لغيره، وليس يلزم مريد الاعتكاف أن يفرده بصوم له. فإن قيل: ألستم توجبون عليه إذا نذر اعتكاف شهر أن يصوم ذلك الشهر؟ قيل له: بلى. فإن قال: فقد جعلتم عليه أن يصوم للاعتكاف. قيل له: هذا خطأ؛ لأنه لو أراد أن يصوم ذلك الشهر قضاء أو تطوعا أو عن نذر لجاز له هذا على قولنا. فأما على قول عبد الملك فلا يجزئه إلا أن يصومه للاعتكاف. قالوا: وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن أبيه قال: يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوف بنذرك". فوجه الدلالة منه أن الاعتكاف يصح بالليل؛ ذا يقتضي أن الصوم ليس من شرطه. فالجواب أنه يحتمل أن يكون نذر اعتكاف ليلة بيومها؛ لأن العرب تعبر عن الأيام بالليالي؛ ويبين ذلك قوله تعالى: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة}؛ يريد بأيامها.

على أن ذلك قد روى من طريق آخر أيضا. وأيضا فإنا قد روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أوف بنذرك وصم". واعتكاف الليل يصح عندنا مع النهار على وجه التبع. وقالوا: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من شوال؛ وهذا يقتضي أن يكون اعتكف يوم الفطر، وصم يوم الفطر غير جائز، ولا يصح اعتكافه عندكم. فالجواب أن اللفظ إذا أطلق وجب حمله على عادة الاستعمال وعلى ما ينفيه دليل العرف، وقد علمنا أنه صلى الله عليه وسلم لا يترك أن يصلي العيد مع أصحابهن ويتشاغل بالاعتكاف وغير ذلك مما يتعلق بأحكام العيد؛ فعلم أن قصد الراوي بتركه الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان أن الاعتكاف في العشر الأوائل من شوال دون بيان أول وقت الاعتكاف من العشر. وأيضا فقد دل الدليل بما ذكرناه أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم؛ فحملنا قوله: اعتكف العشر الأول من شوال على ما عدا يوم العيد، أو أنه دخل معتكفه قبل غروب الشمس من يوم الفطر بما قدمناه. قالوا: ولأن الليل زمان يصح الاعتكاف فيه؛ فجاز أفراده بالاعتكاف فيه. أصله: من النهار. فالجواب: أنا لا نسلم هذا الإطلاق؛ لأن الليل إنما يصح الاعتكاف فيه

على طريق التبع للنهار؛ فحاله مع النهار كحال الخروج من المسجد لحاجة الإنسان مع حال اللبث في المسجد في أنه يكون معتكفا في ذلك الحال على وجع اتبع، واستصحاب حكم الاعتكاف. وقولنا إنه زمان يصح فيه الاعتكاف يفيد أنه يصح اعتكافه بنفسه لا على اتبع لغيره؛ ويبين ذلك أن جوابنا لمن قاس الكون في غير المسجد على الكون في المسجد بهذه العلة فقال: لأنها حال يصح فيها الاعتكاف فكانت كحال اللبث في المسجد كجوابنا في مثل مسألتنا. قالوا: ولأن كل عبادة صح استفتاحها بغير صوم صح استدامتها بغير صوم كالصلاة. فالجواب أن الاستفتاح الذي يعنونه إنما يصح عندنا على طريق اتبع كحال الخروج من المسجد مع حال الكون فيه؛ فلا يصح أن يعتبر حكم المتبوع الحقيقة بحال ما هو تبع له، ومشبه به على غيره تحقيق. قالوا: ولأنها عبادة من شرطها المسجد؛ فوجب ألا يكون من شرطها الصوم. أصله: الطواف. وهذا غير صحيح؛ لأن قولهم: من شرطها المسجد يفيد أن المكلف أن يوقعه في المسجد، وأنه إن أوقعه في غير المسجد فقد أتى به خلاف شرطه، والطواف بالنية لا يكون إلا في المسجد؛ فليس سبيل ذلك سبيل الاعتكاف في الصوم؛ لأنه لا يتصور إيقاعه في غير المسجد؛ فلا يصح أن يوصف ذلك بوجوبه على المكلف أو انتفاء وجوبه.

على أن المعنى في الطواف جواز وقوفه في أقل من يوم، وليس كذلك الاعتكاف. قالوا: ولأنه لو كان الصوم شرطا في الاعتكاف لم يصح الاعتكاف في رمضان؛ لأن صومه واجب بأصل الشرع. وهذا لا معنى له؛ لأنا لم ينقل إن الاعتكاف لا يصح إلا في صوم يقصد به، وإنما قلنا: إن من شرطه ألا يكون إلا في صوم؛ أي صوم كان. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "ولا يكون إلا متابعا". قال القاضي [ق/68] رحمه الله: يعني إذا كان الاعتكاف أياما فإن أوجب ذلك على نفسه متتابعا وجب التتابع لا كلام، وإن أطلق فإن الإطلاق يفيد التتابع أيضا؛ ألا ترى أنه لو قال: والله لا كلمت زيدا شهرا أو عشرة أيام لكان إطلاق ذلك يفيد التتابع، إلا أ، ينوي التفرقة فيكون ذلك معنى زائدا على الإطلاق. مسألة قال رحمه الله: "ولا يكون إلا في المسجد كما قال الله سبحانه". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله:

وهذا لقوله: {وأنتم عاكفون في المساجد}. ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في المسجد، ولم ينقل عنه أنه اعتكف في غيره، ولا خلاف في ذلك. غير أن أبا حنيفة جوز للمرأة أن تعتكف في بيتها. قال: لأنها عورة، وكونها في بيتها أستر لها، ولها في خروجها بذلة؛ فكانت معذورة في تركه كما عذرت في ترك صلاة الجماعة. والدلالة على ما قلناه قوله عز وجل: {وأنتم عاكفون في المساجد}؛ فوصف الاعتكاف بكونه في المسجد. ولأنه اعتكاف شرعي؛ فكان من شرطه المسجد كاعتكاف الرجل. ولأن شخص معتكف؛ فأشبه الرجل. ولأن ما هو شرط في صحة العبادة لا يختلف حكم الرجل والمرأة فيه. أصله: الصوم في الاعتكاف، والطهارة للصلاة. وما قالوه من أن العذر فإنما يؤثر في ترك الفضيلة. لا فيما كان شرطا في العبادات. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "وإن كان في بلد فيه الجمعة فلا يكون إلا في الجامع، إلا أن ينذر أياما لا تأخذه فيها الجمعة".

قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله: هذا إذا كانت أيام اعتكافه لا يتهللها يوم الجمعة جاز الاعتكاف في أي مسجد شاء؛ لأن من شرطه ألا يكون إلا في المسجد، وليس في شرطه أن يكون في مسجد مخصوص؛ كما أن من شرطه أن يكون في صوم، وليس من شرطه أن يكون في صوم مخصوص. ويدل على ذلك ما احتج به مالك رحمه الله من قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد}. قال: فعم المساجد كلها، ولم يص منها شيئا، ولا خلاف أعلمه في ذلك. فأما إذا كانت أياما تلزمه فيها الجمعة، وكان ممن تجب عليه الجمعة، أو في بلد يلزمه فيه الجمعة فلا يجوز له الاعتكاف إلا في الجامع، لا من أجل أن الاعتكاف لا يجوز في غيره من المساجد، لكن لأنه متى لم يعتكف فيه أدى إلى أحد أمرين ممنوعين: إلا أن يخرج إلى الجمعة؛ فينتقض بذلك اعتكافه؛ لأنه لا يجوز له الخروج إلا لحاجة الإنسان أو لما لعله أن تدعوه الضرورة إليه من شراء طعام وغيره، أو أن يتم على اعتكافه فيترك الجمعة، ووجوبها آكد من الاعتكاف. فكان الوجه في ذلك ما قلناه من أن يبتدئ الاعتكاف في المسجد. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "وأقل ما هو أحب إلينا من الاعتكاف عشرة أيام". قال القاضي رحمه الله: إنما قال هذا؛ لأنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف أقل من عشرة أيام؛ فلذلك كره الاقتصار عنها. فأما الواجب فهو يوم كامل؛ لأنته أقل زمان يصح فيه الصوم على ما بيناه. مسألة قال رحمه الله: "ومن نذر اعتكاف يوم فأكثر لزمه". قال القاضي رحمه الله: هذا لأنه زمان يصح فيه الصوم؛ فلزم الاعتكاف فيه بالنذر؛ لقوله تعالى: {أوفوا العقود}. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر وسأله عن نذره الاعتكاف: "في بنذرك وصم". مسألة قال رحمه الله: "وإن نذر اعتكاف ليلة لزمه يوم وليلة". قال القاضي رحمه الله: من أصحابنا من قال: لا يلزمه شيء، ومنهم من قال: يلزمه يوم وليلة. فإذا قلنا: لا يلزمه شيء؛ فلأنه بمنزلة من نذر صوم الليل؛ فلا يلزمه.

وإذا قلنا يلزمه؛ فلأن الليلة قد يعبر بها عن يومها. يبين ذلك قوله تعالى: {فتم ميقات ربه أربعين ليلة}. وأقل الأمور أن يكون محتملا فيحمل على الوجه الذي تقتضيه الشريعة. مسألة قال رحمه الله: "ومن أفطر فيه معتمدا فليبتدئ اعتكافه، وكذلك [إذا] جامع فيه ليلا ونهارا، ناسيا أو معتمدا". قال القاضي- رحمه الله: أما إذا أفطر عامدا فإنه يستأنف؛ لأنه قد اختار قطع التتابع، ومن شرطه أن يكون متتابعا؛ على ما بيناه. وإذا أفطر ناسيا مضى وبني على اعتكافه؛ لأنه لم يختر قطع التتابع، وإنما أفطر لعذر؛ فهو يستأنف، بالمرض والحيض. وإذا كان ذلك بنى ولم يستأنف؛ ألا ترى أن هذه الأعذار إذا طرأت في صيام شهري التتابع يجاز معها البناء، ولم يلزم الاستئناف؟ فأما في فساد الصوم فيستوي حكم المفطر المتعمد وغيره مع العذر وعدمه؛ على ما بيناه في كتاب الصوم، وإنما يختلف الحكم في البناء والاستئناف. وكذلك الاعتكاف يفسد بالأكل أو الجماع بالسهو والعمد، إلا أن في

السهو يبقى في المسجد على حكم المعتكف كما يمسك الآكل ناسيا في الصوم بقية النهار وإن كان صومه قد فسد بالأكل. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "فإن مرض خرج إلى بيته، فإذا صح بني على ما تقدم. وكذلك إن حاضت المعتكفة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: وهذا لأن المرض عذر يجوز معه [ق/69] الإفطار والخروج من المسجد، وكذلك الحيض. ولا معنى لكونه في المسجد؛ لأنه عذر يجوز له الفطر في الظاهر والباطن. وليس كالنسيان؛ لأن المفطر ناسيا يبقى في المسجد؛ لأنه معذور في الظاهر، وليس عذره كعذر المريض، ولأن إقامته في المسجد تضر به، لأنه يحتاج إلى علاج ومراعاة وغير ذلك مما لا يجوز أن يفعل في المسجد. وكذلك الحائض لا يجوز لها دخول المسجد لو لم تكن معتكفة؛ لان الحيض يمنع من ذلك؛ فكذلك إذا كانت معتكفة. فإذا زال عذرهما بزوال المرض وانقطاع الحيض بنيا على ما تقدم؛ لأن

العذر لا يمنع البناء؛ على ما بيناه. فإن أخرا ذلك استأنفا؛ لاختيارهما قطع التتابع. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "وحرمة الاعتكاف عليهما في المرض، وعلى الحائض في الحيض". قال القاضي رحمه الله: يعني أنه لا يجوز أن يفعلا ما كانا ممنوعين منه في الاعتكاف مما لا يقتضيه عذرهما الذي هو المرض والحيض، فمتى فعلا ذلك لم يجز لهما البناء واستأنفا؛ كالآكل لماسيا في اعتكافه فإنه يقضي وبيني، فمتى قبل أو باشر بطل اعتكافه واستأنف؛ فكذلك المريض والحائض. مسألة قال رحمه الله: "فإذا طهرت الحائض، أو أفاق المريض من مرضه في ليل أو نهار رجعا ساعتئذ إلى المسجد". قال القاضي رحمه الله: وهذا لأن عذره الذي جاز له معه الخروج من المسجد قد زال، فوجب عليه الرجوع إلى المسجد. فإن أخر ذلك استأنف على ما بيناه. مسألة قال رحمه الله: "ولا يخرج المعتكف من معتكفه إلا

لحاجة الإنسان". قال القاضي- رحمه الله: هذا لأن من شرط الاعتكاف الكون في المسجد؛ فلا يجوز للمعتكف الخروج منه. فأما إذا أراد الحاجة فإنه يجوز له الخروج للضرورة التي لا يمكن دفعها ولا الاحتراز منها. والأصل في ذلك ما رواه مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إنسان. مسألة قال رحمه الله: "وليدخل معتكفه قبل غروب الشمس من الليلة التي يرد أن يبتدئ فيها اعتكافه". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: وهذا ليستوفي الليلة بيومها في الاعتكاف؛ لأن أقل الاعتكاف المستحب هو اليوم والليلة. فأما الواجب فهو أن يدخل قبل طلوع الفجر في وقت يمكنه أن ينوي الصوم فيه؛ لأن الاعتكاف لا يصح إلا بصيام؛ على ما بيناه. مسألة قال رحمه الله: "ولا يعود مريضا، ولا يصلي على جنازة،

ولا يخرج لتجارة". قال القاضي أبو محمد عبد لوهاب بن علي رحمه الله: وهذا لأن من شرط الاعتكاف المسجد؛ فلا يجوز الخروج إلا لضرورة حاجة الإنسان، أو للطعام والشراب إذا لم يجد من ينوبه عنه فيه. والأصل في ذلك ما رويناه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا اعتكف كان لا يخرج إلا لحاجة الإنسان. مسألة قال رحمه القاضي رحمه الله: "ولا شرط في الاعتكاف". قال القاضي رحمه الله: وهذا كما قال: لا يجوز للمعتكف أن يشترط خروجه من اعتكافه لعارض أو غيره. وقال الشافعي: يجوز ذلك. والدلالة على ما قلناه: قوله صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل". ولأنها عبادة اشتراط فيها خلاف موجب عقدها المطلق ونقيضه فوجب ألا يصح؛ اعتبارا بالصلاة والصيام.

مسألة قال رحمه الله: ولا بأس أن يكون [في] إمام المسجد". قال القاضي رحمه الله: هذا لأن ذلك لا ينافي الاعتكاف ولا يخالف موجبه؛ فجاز فعله. وكذلك كل فعل لا ينافي الاعتكاف ولا يقطعه عن موجبه فجاز فعله. ولأن الصلاة من فعل الاعتكاف ومن موجبه ومن صفة المعتكف. وليس في كون المعتكف إماما ما يمنع ذلك؛ فجاز فعله. مسألة قال رحمه الله: "وله أن يتزوج، ويعقد نكاح غيره". قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب بن علي رحمه الله: هذا لأن العبادات كلها سوى الإحرام والعدة لا تمنع عقد النكاح ولا الولاية فيه؛ كالصيام والوضوء وعبادات الكفاية وغير ذلك؛ فكذلك الاعتكاف. والفرق بين الاعتكاف والإحرام أن الإحرام يمنع التطيب؛ فمنع عقد النكاح كالعدة. وليس كذلك الاعتكاف؛ لأنه لا يمنع التطيب فلم يمنع عقد النكاح كسائر العبادات. فأما الظواهر فإنها مطلقة في إباحة عقد النكاح في الأحوال كلها إلا ما

خصه الدليل كقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم}، ولم يخص حال الإحرام والاعتكاف؛ فقامت الدلالة في الإحرام، ولم تقم في الاعتكاف. مسألة قال رحمه الله: "ومن اعتكف أول الشهر أو وسطه خرج من اعتكافه بعد غروب الشمس من آخره". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: وهذا لأنه لا يجوز له الخروج إلا بمقتضى مدة الاعتكاف. وانقضاؤها هو بخروج آخر النهار؛ لأن بغروب الشمس يخرج وقت الصوم، ومن شرط الاعتكاف الصوم، فما دام [ق/70] وقت الصوم باقيا فهو معتكف، ولا يجوز له الخروج منه. مسألة قال رحمه الله: "وإن اعتكف بما يتصل فيه اعتكافه بيوم الفطر فليبت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى". قال القاضي رحمه الله: هذا على طريق الاستحباب دون الوجوب ليتصل العملان والفراغ منهما، وكذلك روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يفعل. ولأنه إذا رجع إلى أهله لم يترفه بالقدر الذي يحصل عنهم إلى وقت

خروجه لصلاة العيد. والمبيت في المسجد قربة وفعل خير وذكرا لله تعالى؛ فاستحب أن يصله بالاعتكاف. فإن لم يفعل ذلك جاز إذا انصرف بعد غروب الشمس، لزوال مدة اعتكافه. والله أعلم.

كتاب: الزكاة

كتاب: الزكاة باب: في زكاة العين، والحرف، والماشية، وما يخرج من المعدن، وما يؤخذ من تجارة أهل الذمة والحربيين. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أعلم أن معنى الزكاة في اللغة: النماء والزيادة. يقال: زكى المال يزكو إذا نما وزاد، وزكى الحرث إذا حسن وزاد وكثر ريعه، وفلان زكى أي: كثر الخير. والأصل في وجوب الزكاة: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. وقد سميت في الشرع بغير اسم؛ فمن أسمائها: الزكاة، والحق، والنفقة، والصدقة، والعفو، وغير ذلك. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}؛ ففي هذا دليلان: أحدهما: أنه أمر بإتيانها، والأمر على الوجوب. والآخر: أنه قرنها بالصلاة وهي من أركان الشرع؛ فكان ظاهر ذلك يقتضي تساويهما. وبهذه الطريقة احتج أبو بكر الصديق رضي الله عنه على من ناظره في قتال العرب حين منعت الزكاة فقال: (لا أفرق بين ما جمع الله)؛

يريد أن القتال على الزكاة كالقتال على ترك الصلاة. وقوله تعالى: {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة}. وهذا من آكد ما يدل على وجوب الشيء إذا قرن بالتهديد والوعيد. وقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم}. فشرط في المنع من قتلهم مع التوبة إقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ وهذا يدل على أن بعض هذه الأمور إذا انخم فالأمر بقتلهم باق. وذلك دال على وجوب جميعها. وقال عز وجل: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين}. فشرط في كونهم من أهل الدين أداء الزكاة؛ فدل ذلك على وجوبها. وقوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده}. يعني: الزكاة الواجبة فيه؛ فتسمى الزكاة حقا. وهذا مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين. وقيل: بل هو حق كان في المال غير الزكاة فنسخته الزكاة. وقوله تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة} فأخبر أنه أمرهم بالزكاة كما أمرهم بالصلاة.

وقوله عز وجل: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى}. قيل في تأويله: أدى زكاة الفطر، ثم خرج إلى المصلى لصلاة العيد. وممن روى عنه ذلك أبو العالية، وعكرمة، وعمر بن عبد العزيز. وقوله عز وجل: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}. يعني: الزكاة. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد بها صدقة التطوع. والصحيح هو الأول؛ ويدل على قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها على فقرائكم". وإنما عني به قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "خذ الصدقة من أغنيائهم وردها على فقرائهم". ويبين ذلك ما روى في الحديث أن العرب لما منعت الزكاة قالوا لأبي بكر رضوان الله عليه: إنا لا نؤدي الزكاة إليك؛ لأن الله يقول: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} قالوا: وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن أبي بكر إنكار عليهم لتأويلهم هذه الآية في الزكاة، ولا أنه قال

لهم: ليس الأمر على ما قلتم لأن الصدقة التي أمر بأخذها بقوله: {خذ من أموالهم صدقة}. هي التطوع أو صدقة غير الزكاة، بل أقرهم على هذا التأويل، واستعمل معهم مناظرة. وقوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} الآية وقوله: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمي عليها} إلى قوله: {ما كنتم تكنزون}. فروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا أتى به وبماله فأحمى عليه في نار جهنم فتكوى بها جنباه وظهره حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار. ولا عبد لا يؤدي صدقة إبله إلا أتى به وبإبله على أوفار ما كانت يعني يوم القيامة فيبطح لها بقاع قرقر فتسير عليها أولها، كلما مضى آخرها كر عليه أولها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيلة إما إلى الجنة وأما إلى النار. ولا عبد لا يؤدي صدقة غنمه إلا أتى به وبغنمه على أوفر ما كانت فيبطح لها بقاع قرقر فتسير عليها أولها، كلما مضى آخرها رد عليه أولها

وتطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولاجلحاء حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" وروى أبو الزبير عن جابر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "أيما مال أدى [ق/71] زكاته فليس بكنز. وروى عن عجلان عن سعيد المقبري قال: باع رجل أرضا له. فقال له عمر: احرز مالك؛ احفر له تحت فراش امرأتك. فقال يا أمير المؤمنين: أليس كنزا؟ قال: ليس كنزا ما أدى زكاته. وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر في المال: إذا أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت الأرض السابعة السفلى، وإن لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان على ظهر الأرض. وروى مالك عن عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن عمر يسأل عن الكنز ما هو. قال: المال الذي لا تؤدى منه الزكاة.

ويدل عليه قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض}. وقوله: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله}. فروى أبو وائل عن عبد الله بن مسعود قال: من حبس زكاة ماله جعل له يوم القيامة شجاعا أقرع يطوقه في عنقه، ثم قرأ علينا رسول الله مصداقه في كتاب الله عز وجل: {ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة}. وقوله تعالى: {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} وقيل في التفسير: المراد به الزكاة. وروى عن جماعة سمن التابعين. فهذا من الكتاب. وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: بني الإسلام على خمس ... " فذكر إيتاء الزكاة. وقوله لمعاذ حين بعثه إلى اليمين: "خذ الصدقة من أغنيائهم فردها في فقرائهم".

وفيه أخبار كثيرة ترد في مسائل الكتاب. وأما الإجماع: فالخبر المشهور فيما مضى لأبي بكر الصديق رضي الله عنه مع أهل الردة؛ وذلك أن العرب منعت الزكاة فعزم أبو بكر على قتالهم؛ فقال له عمر: أتقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا من دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ " فقال له أبو بكر: فالزكاة من حقها يا عمر. والله لو منعوني عقالا- وروى عناقا- مما كانوا يدفعونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لجاهدته عليه. فاستقر الإجماع على ذلك. وفي هذه الجملة كفاية فيما ذكرناه. مسألة قال أبو محمد بن أبي زيد رحمه الله: "وزكاة العين والحرث والماشية فريضة. فأما زكاة الحرث فيوم حصاده، والعين والماشية ففي كل حول مرة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: قد بينا وجوب الزكاة في هذه الثلاثة الأجناس في الجملة، وسنبين ذلك في التفصيل عند البلوغ إلى مواضعها من الكتاب. فأما اعتبار الحول في العين والماشية: فلما رواه ثابت عن أنس قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس من مال زكاة حتى يحول عليه الحول". وروى مالك عن محمد بن عقبة عن القاسم بن محمد قال: كان أبو بكر رضي الله عنه لا يأخذ عن مال زكاة حتى يحول عليه الحول. وروى مثله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وروى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: لا تجب في مال زكاة حتى يحول عليه الحول. ولا خلاف في ذلك إلا ما حكى عن ابن عباس وابن مسعود فيمن ورث مالا أن عليه الزكاة حال ما ورثه من غير اعتبار بحلول الحول عليه. واستدل لهذا القول بأنه مال مستفاد من غير عوض؛ فلم يعتبر فيه حلول الحول. دليله: المعدن والثمار والزروع. والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول". وروى: من استفاد مالا فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول". ولأنه مال مستفاد من مالك متعين تتكرر في عينه الزكاة؛ فأشبه ما يملك بعوض. فأما المعدن: فإنه مشبه بالزرع.

والمعنى في الزرع والحب أن نماءه يحصل في وقت واحد، وليس كذلك العين والله أعلم. مسألة قال ابن أبي زيد رحمه الله: "ولا زكاة [في] الحب والثمر في أقل من خمسة أوسق؛ وذلك ستة أقفزة وربع قفيز. والوسق: ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم وهو أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أعلم أن زكاة الحب والثمار يعتبر فيها نصاب معلوم كما يعتبر ذلك في زكاة العين والماشية؛ وذلك النصاب خمسة أوسق، لا زكاة فيما دون ذلك. هذا قول أصحابنا. وروى عن جابر بن عبد الله، وأبي قلابة، وسعيد بن المسيب، وعطاء ابن أبي رباح، والحسن، نوهو قول المشيخة السبعة. وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد بن الحسن وعند أبي حنيفة أنه ليس هناك نصاب معتبر، وأن العشر أو نصف العشر يجب في القليل والكثير. واستدل أصحابه بقوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض}. وهذا عام في القليل والكثير.

وبقوله: {خذ من أموالهم صدقة}، وقوله {وآتوا حقه يوم حصاده}؛ فأصاب الحق إلى جميعه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر". فعم، ولم يخص مقدارا من مقدار. وروى أبان بن أبي عياش عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء العشر". وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "خذ الحب من الحب" فم ولم يخص. ولأن النصاب أحد شرطي وجوب الزكاة؛ فوجب [ق/72] سقوط اعتباره في الزرع والثمار؛ اعتبارا بالحول. ولأنه حق يجب في مال لا يعتبر فيه الحول؛ فوجب ألا يعتبر فيه النصاب. أصله: خمس الغنيمة.

ولأن النصاب وضع للتوقية كالحول، فلما لم يعتبر في الزرع حول فكذلك النصاب. ولأن النصاب إنما يعتبر في الأموال التي يتكرر الوجوب فيها، والزروع لا يتكرر فيها ذلك؛ فلم يعتبر فيها نصاب. ولأن كل مال اعتبر النصاب في تعلق الحق به فلا بد من حصول عفو فيه في ثاني؛ اعتبارا بالمواشي، فلما لم يكن في الثمار والحبوب عفو بعد الوجوب علم أنه لا نصاب فيها. ولأنه لو اعتبر في الخارج من الأرض نصاب لوجب أن يختلف النصاب باختلاف أجناس الأموال؛ ألا ترى أنه لما اعتبر النصاب في زكاة العين والماشية كان نصاب المال غير نصاب الماشية، فلما قلتم: إن النصاب خمسية أوسق في الأجناس كلها غير مختلف دل ذلك على أن النصاب غير معتبر فيه. ولأن العشر يسقط بعدم الانتفاع بالأرض كالخراج، فلما لم يعتبر في وجوب أخذ الخراج نصاب من الزرع؛ فكذلك العشر. والدلالة على صحة قولنا: ما روى مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه قال: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس ذو صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". وروى عمرو بن مرة الجملي عن أبي البختري الطائي عن أبي سعيد

الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة". وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". وروى ابن أبي أنيسة عن أبي الزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في شيء من الحرث حتى يبلغ خمسة أوثق، فإذا بلغ خمسة أوسق ففيها الزكاة". وهذه الأخبار نصوصا في موضع الخلاف. فإن قيل: إنه لا دلالة في هذه الأخبار على موضع الخلاف؛ لأنه ليس فيها إلا نفي الزكاة والصدقة عن ما دون الخمسة الأوسق، ونحن كذلك نقول: إنه لا زكاة فيه أو صدقة، ولكن فيه العشر أو نصفه، وذلك ليس زكاة عندنا ولا صدقة. فالجواب عن هذا من وجوه: أحدها: إن العشر زكاة وصدقة، ونحن ندل على ذلك فإذا ثبت كونه زكاة وصدقة صح الاستدلال بالخبر والذي يدل على ذلك أشياء: أحدها: إن الذي نفاه عما دون الخمسة الأوسق هو الذي أثبته فيها، فلما كان المثبت فيها هو العشر وجب أن يكون ذلك هو المنفي عما دونها.

والثاني: اتفاقنا على أنه يصرف مصرف الزكوات، ومصرف ربع العشر المأخوذ من الذهب والورق، فدل ذلك على أنه لا زكاة؛ ألا ترى أن الغئ والجزية وعشورة أهل الذمة لما لم يصرف شيء منهم مصرف الزكوات لم تكن زكاة ولا صدقة؟. والثالث: ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرص العنب كما يخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا. فسمى المأخوذ من النخل والتمر زكاة وصدقة. والرابع: إن هذا العشر محرم على النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الصدقة؛ فصح بذلك كونه صدقة. يبين هذا أن الجزية وعشور أهل الذمة ليست محرمة عليه تحريم الصدقة، وإذا صح أن العشر صدقة وزكاة، وقد ورد الخبر بنفيها عما دون خمسة أوسق بطل ما قالوه. ويدل أيضا على ما قلناه ابتداء وجوابا عن سؤالهم ما رواه الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمين: "وما كتب الله على المؤمنين من العشر ما سقت السماء، أو كان سحاء أوكان بعلاء ففيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق، وما

يسقى بالغرب والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق". وروى ابن وهب عن أبيه عن ابن لهيعة عن عمارة بن عبد الله بن أبي بكر أخبره أن هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن حزم في النخل والزرع قمحه وسلته وشعيره؛ فما يسقى من ذلك له نصف العشر، وما يسقى بالعين أو كان عثريا تسقيه السماء أو كان بعلا لا يسقى العشر، وليس في تمر النخل صدقة حتى يبلغها خرصها خمسة أوسق، فإذا بلغت خمسة أوسق ففيها الصدقة كلها. فشرط في أخذ العشر أو نصفه بلوغ المأخوذ منه خمسة أوسق. وروى محمد بن مسلم بن عمرو بن دينار عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس في شيء من الكرم والنخل والزرع شيء حتى يكون خمسة أوسق، ولا في الدراهم حتى تكون مائتي درهم". ومن جهة الاعتبار: لأنه مال تجب فيه الزكاة في عينه؛ فوجب أن يكون في أوله عفوا حتى يبلغ نصابا واحدا؛ اعتبارا بالماشية والعين. فإن قيل: لما اعتبر في ذلك الحول اعتبر فيه النصاب، وها هنا فالحول غير معتبر؛ فلم يعتبر النصاب. قيل له: هذا ينتقض على أصلنا بزكاة المعدن؛ لأن النصاب معتبر فيها، والحول غير معتبر. قياس آخر: لأنه حق يجب في المال يصرف مصرف الزكوات؛ فانقضى

[ق/73] وجوبه نصابا في الابتداء؛ بزكاة الذهب والورق. وإذا لبث هذا فظواهرهم عامة، وأخبارنا خاصة؛ فوجب القضاء بها عليها. فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" فعنه جوابان. أحدهما: أنه قد نقلنا فيه زيادة؛ وهي قوله: "إذا بلغ خمسة أوسق" والزيادة مقبوله إذا أتى بها الثقة. والثاني: أنه مخصوص ما ذكرناه. قالوا: على هذا الجواب إذا ورد خبران: أحدهما: متفق على استعمال بعضه، والآخر: مختلف في استعمالها كان ما اتفق على استعمال بعضه أولى. قالوا: وقد اتفقنا على أن خبرنا مستعمل في الخمسة أوسق فما فوقها، وخبركم مختلف في أصله؛ فكان خبرنا أولى. فالجواب أنا لا نعتبر ما ذكروه، بل يقضى بالخاص على العام؛ على أن خبرنا أيضا متفق على استعمال بعضه؛ وهو ما رويناه عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا زكاة في شيء من الحرث حتى يبلغ خمسة أوسق، فإذا بلغ خمسة أوسق ففيه الزكاة". وما رويناه عن محمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وجواب آخر: وهو أن المقصود بقوله: "فيما سقت السماء العشر".

بيان القدر المأخوذ، ولم يبين له تحديد المأخوذ منه، ولا بيان أجناسه. ومن يقول من أصحابنا أن وقف العموم على المقصود واجب؛ فالسؤال ساقط على أصله، ومن لا يقول بذلك يرى هذا الطريق ترجيحا لأحد الخبرين على الآخرين؛ فيحكم به. وأيضا فإن الترجيح معنا؛ لأنه قد اتفقنا على هذا الاستعمال في نظير مثل أخبارنا؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الرقة ربع العشر". وكان ظاهر ذلك يقتضي عموم الرقة. ثم قال: "ليس فيما خمس أواق صدقة"؛ فحكمنا بخصوص ذلك العموم بهذا الخبر؛ فكذلك يجب أن يكون حكم قوله: "قيما صقت السماء العشر" مع قوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". فإن قيل: إن قوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" لا يجوز أن يكون بيانا لقوله: "فيما سقت السماء العشر"؛ لأنه قوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" لا ينتظم إلا الموسق دون غيره، وقوله: "فيما دون خمسة أوسق صدقة" لاينتظم إلا الموسق دون غيره، وقوله: "فيما سقت السماء العشر" نظم الموسق وما ليس بموصق. ومن حق البيان أن يككون طبق المبين ووفقه، لا زائد عليه ولا نقصا عنه، ومتى جعلنا قوله "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" بيانا لقوله: "فيما سقت السماء العشر" كان ذل عائدا إلى بعض ما شمله العموم، وهو ما يصح أن يكون موسقا دون ما ليس بموسق، وهذا يخرجه عن أن يكون بيانا. قيل له: لا معنى له؛ لأنه ليس يمتنع أن يكون بيانا لوجوب الزكاة في

الموسق أنه إذا بلغ هذا الحد فالزكاة فيه، وإن أسقطت الزكاة عما عدا الموسق فبديل آخر، فسقط اعتراضهم. فإن قيل: يحتمل أن يكون المنفى بقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" هو ما كان واجبا في المال قبل الزكاة من صدقة يأخذها العمال أو غير ذلك مما نسخ بالزكاة. قيل له: فهذا الضرب من الاحتمال لا ينتقل عن ظواهر الأخبار موجباتها، على أنا روينا نصا: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق"؛ فسقط ما قالوه. وأما ما رووه عن انس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء العشر في قليله وكثيره". فغير معروف ولا محفوظ، وعلى أن طريقه عن رجل مجهول، وليس هو عن انس، ورواه أبو مطيع البلخي وهو مجهول عند أهل النقل عن أبي حنيفة عن أبان بن أبي عياش وأبان ضعيف عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا ما لا خفاء به. على أنا لو سلمناه لكان الجواب عنه على ما قلناه؛ وهو أن معناه: إذا بلغ خمسة أوسق؛ بدلالة خبرنا. فإن قيل: فما الفائدة في هذا التأكيد الذي هو قوله: "في قليلة وكثيره"؟ قلنا: فائدته أنه إذا بلغ هذا الحد وجبت الزكاة فيه، وفيما زاد عليه من

عفو بعد النصاب والوجوب فرقا بينه وبين المواشي التي فيها نصابا وأوقاصا. فأما قوله صلى الله عليه سلم لمعاذ: "خذ الحب من الحب". فالمقصود به أن ما يؤخذ من الشيء من جنسه دون بيان تحديد المأخوذ منه على أنه مخصوص، ولو ثبت عمومه بما ذكرناه. وقولهم: إن النصاب أحد شرطي وجوب الزكاة فأشبه الحول ينتقض بالإسلام والجزية؛ لأنهما أحد شرطي وجوب الزكاة ومع ذلك معتبرة في الزرع والثمار. وينتقض على أصلهم بزكاة الفطر؛ لأنه لا تجب عندهم إلا على من يملك نصابا، والحول غير معتبر فيها. وينتقض على أصلنا بزكاة المعدن؛ لأن النصاب معتبر فيها. وعلى أن اعتبار النصاب بالحول لا يصح؛ لاختلاف موضوعهما؛ وذلك أن الحول إنما اعتبر ليتكامل نماء المال فيه. وهذا المعنى يحتاج إليه في العين والماشية؛ ليتكامل نماؤها بالتصرف في المال والولادة وزيادة السن في الماشية. وليس كذلك الزرع؛ لأن نماءه يتكامل باستحصاده وبلوغه؛ فلذلك لم يعتبر فيه حول؛ لأن المعنى الذي له نصب الحول معدوم فيه. وأما النصاب إنما وضع ترفيها لرب المال، وليبلغ المال حدا يحتمل الصدقة [ق/74] ويتسع للمواساة، وهذا ممكن فيما دون الخمسة الأوسق؛ فصح أن يعتبر النصاب في الزرع وإن لم يعتبر الحول. واعتبارهم بخمس الغنيمة بعلة أنا حق يجب في مال لا يعتبر فيه

الحول؛ فوجب ألا يعتبر فيه النصاب ينتقض بالمعنى على أصلنا وزكاة الفطر على أصلهم على الخمس لا يصرف مصرف الزكاة، وليس كذلك العشر. وقولهم: إن النصاب وضع للترفيه كالحول؛ فإذا سقط أحدهما وجب أن يسقط الآخر: فقد بينا أن الترفيه الذي وضع له النصاب غير الترفيه الذي وضع له الحول بأن قلنا: إن الحول إنما وضع ليتكامل نماء المال، والنصاب إنما وضع ليبلغ حدا يحتمل المواساة؛ فما له أريد الحول لا يحتاج إليه الزرع؛ لأن نماءه يتكامل بلوغه؛ فسقط اعتبار الحول فيه، وبقي الترفيه الذي أريد بالنصاب؛ فلذلك وجب اعتبارهم. وقولهم: إن النصاب يعتبر في الأموال التي يتكرر الوجوب فيها، والزرع لا يتكرر الوجوب فيه فهو قياس عكس غير مردود إلى أصل، على أن المعنى مختلف في الأصلين؛ وذلك أن تكرر الوجوب إنما هو لتكرر النماء واتصاله؛ فلذل تكرر الوجوب. وليس كذلك الزرع والثمار؛ لأن النماء فيها لا يتكرر؛ فلم يتكرر الوجوب. وقد علمنا أن تكرر النماء واتصاله لا يؤثر في النصاب؛ فكذلك عدمه. وقولهم: كل ما اعتبر فيه النصاب فلا بد من عفو بعده قياس عكس

أيضا غير مردود إلى أصل في الطرد، وهو منتقض على أصلنا بزكاة العين؛ لأنه لا عفو فيها بعد النصاب. على أن ذلك إنما وجب في الماشية؛ لأن المأخوذ منه مختلف غير مقدر، وليس كذلك في الذهب والورق؛ لأنه مقدر بربع العشر. وكذلك في الحبوب والثمار؛ لأنه مقد بالعشر أو نصفه. وقولهم: كان يجب أن تختلف النصب باختلاف أجناس الأموال الخارجة من الأرض باطل من وجهين: أحدهما: أن اختلاف النصب ليس معتبر باختلاف الأجناس؛ لأن نصب الجنس الواحد من المواشي مختلفة مع الاتفاق في الجنس. والوجه الآخر: أن النصب إنما اختلف لاختلاف القدر المأخوذ من المال. وليس كذلك في الزرع والثمار؛ لأن القدر فيها معروف غير مختلف؛ وهو العشر أو نصفه. وقولهم: إن العشر يسقط لعدم الانتفاع بالأرض كالخراج إن أرادوا تلف الأرض فالعلة غير صحيحة؛ لأنه إنما يجب عشر زرع قد حصل، فإذا تلف قبل حصوله فلم يجب؛ فلا معنى لأن يقال: سقط وجوبه. وإن أرادوا بعدم الانتفاع بالأرض كثرة المؤنة ولزوم نفقة على الزرع أضعاف ما يساوى فإن هذا لا يسقط الزكاة عندنا. على أن طريق الخراج طريق الأجرة، وطريق الزكاة المواساة؛ فموضوع الأمرين مختلف. وبالله التوفيق.

فصل فأما قوله: يالوسق: ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم. فلا خلاف في ذل أعلمه، وقد وردت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة رضوان الله عليهم بذلك. وروى عمرو بن مرة عن بي البحتري عن أبي سعيد الخدري، والزهري، وعطاء، والشعبي، وابن سيرين، وإبراهيم، وشريك بن عبد الله القاضي، والحسن بن صالح، وغيرهم. فصل "وصاع النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أمداد بمده صلى الله عليه وسلم". ومده رطل وثلث بالبغدادي، هذا قول أصحابنا كافة، والشافعي، وإليه ذهب أبو يوسف لما ناظره مالك رحمه الله بحضرة هارون الرشيد. وعند أبي حنيفة أن صاع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أرطال بالبغدادي. والذي يدل على ما قلناه: أنه قال أهل المدينة قرنا بعد قرن، وعصرا بعد عصر، وخلفا بعد سلف أن صاع النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ذكرناه. ومثل هذا النقل لا يجوز عليه الخطأ والغلط، ولا اعتماد الكذب؛ لأن ذلك لا يجوز على بعض عددهم، ولأنه لو حاز ذلك عليهم مع اجتماعهم على نقله لجاز عليهم في تقل القبر والمنبر وما أشبه ذلك حتى كنا نجوز أن يكون قبر النبي صلى الله عليه وسلم هو غير هذا الذي نشير إليه اليوم،

وكذلك منبره. فلما كان هذا غير جائز عليهم، وكان الذي أمننا من ذلك اجتماعهم على نقله مع امتناع التساعف والتواطؤ واعتماد الكذب على مثل عددهم، فكذلك سبيل نقلهم الصاع والمد. فإن قيل: لو كان سبيل نقلهم الصاع والمد سبيل نقلهم للقبر والمنبر لم يقع فيه خلاف، ولم يجز أن يختلف النقل؛ فيروي أهل المدينة شيئا ويروى غيرهم خلافه؛ كما لم يجز مثل ذلك في نقل القبر والمنبر. فلما وجدنا الخلاف واقعا في ذلك علمنا أنه ليس بنقل منهم خلفا عن سلف، وإنما هو تقليد لبعض أسلافهم، أو غير ذلك. فالجواب: إن هذا غير صحيح؛ وذلك أن وقوع الخلاف في الشيء لا يسقط قيام الحجة به؛ ألا ترى أن قائلا لو قال: إن النقل المتواتر لا يوجب العلم الضروري لأنه لو وجب ذلك لم يقع عليه خلاف في المشاهدات والمحسوسات وغير ذلك من الضرورات. لقلنا له: إن هذا لا يقدح في موضع الحجة؛ لأن دفع الدافع للأمر الذي قد علمت صحته [ق/75] وقامت الحجة به ترك قبول لا يخرجه عن موجبه؛ فكذلك سبيل نقل أهل المدينة إذا كان نقلا متواترا يحتج بمثله؛ فلم يسقط بورود خلاف فيه لا يجري مجراه. ومثل هذا نقل المصحف المجتمع عليه، وما ورد من القراءات الشواذ التي تخالفه في أنه لا يعتد بها ولا تؤثر في صحة نقل المصحف؛ فبان

بهذا أن وقوع الخلاف في الشيء لا يؤثر في قيام الحجة له. فإن قيل: فقد نقل أهل الكوفة وغيهم أن صاع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أرطال، فإن اختلفت الروايات لم يكن أحدا أولى من الآخر إلا بضرب من الترجيح. وقد علمنا أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم صيعان مختلفة؛ فقال ابن عمر: كنا تخرج صدقة الفطر بالصاع الأول. وقال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاغ. والمد: رطلان. وقال مجاهد: أخرجت إلينا عائشة عسا فقالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل بمثل هذا. فالعس ثمانية أرطال أو تسعة أرطال أو عشرة أرطال. وإذا صح هذا. ثم روى عن عمر رضي الله عنه أنه قدر الصاع لإخراج الكفارات ثمانية أرطال بمحضر من الصحابة من غير أن ينكر أحد منهم عليه. صح أن هذا تقدير صاع النبي صلى الله عليه وسلم. فالجواب أن هذه الروايات التي ذكروها لا يجوز أن يعارض بها نقل أهل

المدينة؛ لأن أهل المدينة لذلك نقل تواتر متصل منذ كون النبي صلى الله عليه وسلم وإلى زمان مالك رحمه الله، يتداولونه خلفا عن سلف مع شدة حاجتهم إليه في بياعاتهم وأشريتهم ومعاملاتهم وتصرفهم، ولم يكن مما انقطع في وقت من الأوقات، ولا مما ينذر وقوعه فيختلف الحال في نقله. ونقل الأخبار التي ذكروها نقل آحاد منقطع غير متصل؛ فلم يجز أن يعارض بنقل أهل المدينة الذي وصفه ما ذكرناه. وهذا مثل ما ذكرناه في أمر المصحف سواء؛ وذلك أن نقل هذا المصحف متواتر مجتمع عليه، وقد علمنا أنه تروى أحاديث بقراءات تخالفه؛ فلا يعترض بها عليه؛ لأن نقله نقل استيفاض وتواتر لا يعترض عليه بأخبار آحاد يجوز في نقلها السهو والغلط واعتماد الكذب. فأما خبر مجاهد فلا يسوغ التعلق به؛ لأنه لو ورد صريحا أن صاع النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية أرطال لم يقبل إذا كان في مقابلته نقل أهل المدينة؛ فكيف ومجاهد لم يقف على مقداره وإنما حرزه متفاوتا. وخبر عمر يجوز أن يكون وضعه للتعامل به، لا لوجوب الرجوع إليه في تقدير الشريعة. ومثل هذا غير ممتنع. فإن قيل: فقد نقل عن أهل المدينة أن هذا الصاع بقدر صاع النبي صلى الله عليه وسلم وروى يزيد بن أبي زياد عن ابن أبي ليلى أنه قال: عيرنا صاع أهل المدينة فوجدناه يزيد على الحجاجي مكيالا. وذكر عبد الله بن داود أنه سأل مالكا عن صاعهم الذي في أيديهم ما

أوله فقال: هو تحري عبد الملك بن مروان. قيل له: أما نقلهم أن هذا قدر صاعه فليس فيه ما يوجب الخلاف؛ لأنه لا فضل بين أن يقولوا: هذا صاعه وهذا قدر صاعه إذا كان ذلك نقلا متواترا متصلا. وما رووه عن ابن أبي ليلى فطريقه ضعيف. على أنه روى خلافه عن إبراهيم، وإنه قال: القفيز الحجاجي هو الصاع. وروى عن موسى بن طلحة قال: الحجاجي هو صاع عمرن وما زكروه عن مالك لا أصل له. لا يحتج بنقل أهل المدينة خلفا عن سلف عن عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقته أن هذا هو الصاع؛ فكيف يقول من بعد أن هذا تحري عبد الملك ابن مروان؟ وقال لما كلمه أبو يوسف بحضرة الرشيد: هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقله الخلف عن السلف، ثم استدعى أهل الأسواق فكلهم يقولون: حدثنا أبي عن جدي أن هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذكر إسحاق بن سليمان الرازي فقال: قلت لمالك: يا أبا عبد الله خالفت شيخ القوم. قال: من قلت: أبو حنيفة يقول: ثمانية آصع. فقال مالك: ما يحفظون في هذه؟ فقال أحدهم: حدثني أبي عن أبيه أنه كان يؤدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الصاع. وقال الآخر: حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال مالك ما معناه: أبلغه أن الأمر بخلاف ما قال. فبان بهذه الجملة بطلان ما حكوه عن مالك في هذا. والله أعلم. فصل فأما قوله: "إنه ستة أفقزه وربع قفيز". يعني: كيل الخمسة الأوسق، فلا أعرف بأي مكيلة أراد؛ لأن هذه المكيلة غير معروفة عندنا، ولا بالعراق أصلا. ويجوز أن يكون أراد بقفيز المغرب والأندلس، بل هذا مراده لا محالة؛ لأني رأيت ابن حبيب ذكر أن الخمسة الأوسق ثلاثون قفيزا بالقفيز القرطبي. والجملة لا خلاف في مقدارها. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "ويجمع القمح والشعير والسلق في الزكاة، فإذا اجتمع من جميعهم خمسة أوسق فليزك ذلك. وكذل تجمع [أصناف] القطنية، وكذلك تجمع أصناف التمر،

وكذلك أصناف الزبيب والأرز. والدخن والذرة كل واحد صنف لا [ينضم] إلى الآخر في الزكاة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أما الجمع بين القمح والشعير والسلت في الزكاةفهو قول كافة أصحابنا، وروي ذلك عن الحسن وعكرمة وطاوس والزهري. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يجمع شيء من ذلك إلى غيره. والكلام في هذه المسألة في موضعين: أحدهما: أن ندل على منع التفاضل بين القمح والشعير، وإذا ثبت ذلك فلا قول إلا قولنا. والآخر: أن ندل على وجوب ضم أحدهما إلى الآخر. والدلالة على جوب الضم في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} وقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر". وقوله لمعاذ: "خذ الحب من الحب". وكل هذا عموم في قليل هذا وكثيره. فإن قيل: هذا كله عموم يخصه قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة

أوسق صدقة". قيل له: أيضا هذا دليلنا؛ لأن يوجب الصدقة في الخمسة الأوسق من أي جنس كانت؛ لأن مفهوم في مقابلة النطق عاما؛ كذلك دليله ومفهومه. فإن قيل: فقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصدقة من أربعة: القمح، والشعير، والزبيب، التمر، ولا زكاة في كل جنس منها حتى يبلغ خمسة أوسق". ذكر هذا الحديث أبو الحسن الطبري في مسائله، وقال: أو كلمة كان معناها. وذكر أن بعض شيوخه ذكر هذا الحديث. وهذا غير محفوظ ولا معروف في شيء من كتب الحديث. على أنه منقول على المعنى دون اللفظ. وإذا قلنا: إن الحنطة والشعير كالجنس الواحد قلنا بموجب الخبر. ولا يبقى لهم إلا أن يقولوا: لما أفرد كل واحد منهما باسم وجب بذلك كونهما أجناسا. وليس الأمر كذلك عندنا لما سنذكره. ويحتمل أن يكون معناه: إذا انفرد عما ينضم إليه. ويدل على ما قلناه أيضا: أن هذه المسألة مبينة على معنى التفاضل بين الحنطة والشعير، فإن سلم ذلك صح ما قلناه، وإن لم يسلم دللنا عليه بما

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطعام بالطعام ربا، إلا يدا بيد مثلا بمثل". فعم، ولم يخص. فإن قيل: المراد بها البر؛ لأنه قد فسر في حديث آخر؛ فقال: "البر بالبر مثلا بمثل". قيل له: هذا ذلك بعض ما شمله عموم خبرنا؛ فلا يعترض عليه به، ولا له دليل خطاب فيخصه. فإن قيل: إن الشعير لا يتناوله اسم طعام على الإطلاق؛ لأن ذلك مختص بالحنطة. قيل له: هذا غير صحيح؛ لأن الطعام اسم عام يدخل تحته جميع أنواعه، وإن اختص كل واحد منها باسم؛ مثل: الحنطة، والشعير، وما أشبه ذلك. ويبين ذلك أن قائلا لو قال: والله لا أكلت طعاما فأكل شعيرا لحنث. وكذلك لو قال: ما أكلت طعاما وكان قد أكل شعيرا لكان كاذبا. ولو قال: والله ما أكلت حنطة وكان قد أكل شعيرا لكان كاذبا. ولو قال: والله ما أكلت حنطة وكا قد أكل شعيرا لم يكن كاذبا. فبان بذلك بطلان ما ذكروه. ويوضح ما قلناه ما روى أن معمر بن عبد الله منع غلامه أن يأخذ من

السلت أكثر من الحنطة، وقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الطعام بالطعام مثلا بمثل"، وكان طعامنا يومئذ الشعير. واحتج الصحابي بمنع التفاضل بين الحنطة والشعير بهذا الخبر، وعقل من قوله صلى الله عليه وسلم: "الطعام بالطعام" وأنه يتناول الشعير كي يبين ذلك بقوله: وكان طعامنا يومئذ الشعير. وهذا بين فيما قلناه. وأيضا فقد ذكر أصحابنا أن هذا إجماع الصحابة؛ لأنه مروى عن عمر ابن الخطاب، وسعد بن أبي وقاص، ومعمر بن عبد الله، وعبد الرحمن ابن عبد يغوث، ومعيقب الدوسي، ولا مخالف لهم نعرفه. وأيضا فإن منافعهما متقاربة، وأغراض الناس فيها غير متفاوتة، وهما مجتمعان في المنبت والمحصر؛ فوجب أن يكون حكمهما واحد في الضم ومنع التفاضل؛ كالعلس مع الحنطة، والسلت مع الشعير. فإن قيل: إن العلس هو حنطة، والسلت هو شعير فالاسم جار عليهما والحنطة لا تسمى شعيرا. فإن قيل: هذا غلط؛ لأن العلس مخالفا للحنطة في الخلقة والصورة والطعم، وكذلك السلت مخالفا للشعير؛ فبطل بهذا أن يكون العلس حنطة، وثبت بهذا أن حكمه حكمها؛ لكونه غير منفكة منه. واحتج من قال بأن قال: لأنهما جنسان؛ بدلالة تباين منافعهما وأسمائهما؛ فلم يجب ضم أحدهما إلى الآخر كالتمر والأرز، والحنطة والزبيب.

والجواب: إن افتراقهما في الأسماء لا يمنع من وجوب الضم؛ فلا يوجب كونهما جنسين كالضأن والمعز، والشعير والسلت؛ فبطل ما اعتبروه. وما ادعوه من تباين المنافع فيهما متقاربة، وهذا موضع، وإنما الذي تتباين منافعه: التمر والأرز، والحمص والزبيب. هذا هو الذي تختلف منافعه وتتباين تباينا شديدا. فأما الحنطة والشعير فمنافعهما متقاربة غير متباينة. قالوا: ولأنه قوت منفرد باسمه لا يرجع إلى الآخر بحكم النوع؛ فأشب البر والأرز، وهذا يبطل بالعلس والحنطة. ولو ادعوا رجوعه إليه بحم النوع لم نسلمه إلا على الوجه الذي يقتضي رجوع الشعير إلى البر بهذا المعنى. قالوا: ويروى أن النبي [ق/77] صلى الله عليه وسلم قال: "الحنطة بالحنطة مثلا بمثل، والشعير بالشعير مثلا بمثل، والتمر بالتمر مثلا بمثل". فأفرد كل واحد من هذه الأجناس باسمه، فدل ذلك على أن لكل واحد منهما حكم نفسه، ولو كان الشعير والبر جنسا واحدا لكان يكفي في ذلك أن ينص على أحدهما. فالجواب: أنه لو ذكر الحنطة باسمها الأعم لكان يلزم ما ذكروه، فأما إذا ذكروه باسمها الأخص فلا يعقل من ذلك الشعير؛ لأنه لا يطلق عليه اسم حنطة؛ كما إذا ذكر الضأن باسمها الأخص لم يتناول المعز. والله أعلم.

فصل وأما القطنية فإما وجب ضم بعضها إلى بعض لهذا المعنى أيضا؛ وهو تقارب منافعها وأغراض الناس فيها. وليس كذلك سائر الحبوب؛ لأن منفعة الدخن غير منفعة الأرز، وأغراض الناس فيها متفاوتة؛ فلم يكن كالقطاني. مسألة قال رحمه الله: "وإذا كان في الحائط أصناف من التمر أدى الزكاة عن الجميع من وسطة". [ق/76] قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: هذا لأنه نظر لأرباب المال والفقراء؛ لأنا إن ألزمنا أن يؤدي الزكاة من أعلاه أضررنا به، وإن أمرنا يخرجنا من أدناه أضررنا بالفقراء، فكان العدول والنظر أن يخرج من الوسط. ومن أصحابنا من قال: يخرج من كل واحد بقدره. قال: لأن الوجوب لما كان جاريا على الجميع وجب أن يؤخذ من كل صنف بقدر ما يخصه، وأحسب أنه رواه أشهب عن مالك رحمه الله، وهو قول محتمل، والأول أظهر. مسألة قال رحمه الله: "ويزكى الزيتون إذا بلغ حبه خمسة أوسق أخرج من زيته. ويخرج من [الجلجلان] وحب الفجل من زيته.

فإن باع ذلك أجزأه أن يخرج من ثمنه إن شاء الله". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله: أما وجوب الزكاة في الزيتون فهو قولنا، وقول أبي حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: إن فيه الزكاة. والآخر: إن لا زكاة فيه. واستدل أصحابه على خلافنا بقول صلى الله عليه وسلم: "ليس في الخضروات صدقة"؛ فعم ولم يخص. وقوله لمعاذ: لا تأخذه الصدقة إلا من الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب. ولأنه لا يقتان؛ فأشبه التين. والدلالة على صحة قولنا: قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}؛ فعم. وقوله: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} ولم يخص. والحق: هو زكاته. وقوله النبي صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" فعم. وقوله: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة". ورواه أصحابنا عن عمر، وابن عباس. ولأنه حب يقتات زيته غالبا؛ فوجب أن تجب فيه الزكاة. أصله: السمسم. ولأن الزكاة لما وجبت في الحمص واللوبيا، وكان الزيتون أعم منفعة

في باب الأقوات كان بأن تجب فيه الزكاة أولى. فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس في الخضروات صدقة"، فلا يتناول الزيتون من حيث لم يتناوله الرطب وغيره، لأن اسم الخضروات يتناول البقول والبصل، فأما لثمار فله اسم أخص بها. وما رووه من حديث معاذ غير محفوظ على الوجه الذي ذكروه، على أنه مرتب على ما قلناه. واعتبارهم بالتين عنه أجوبة: أحدهما: أنا لا نسلمه؛ لأنه من قول جماعة من أصحابنا فيه الزكاة؛ منهم: عبد الملك بن حبيب وغيره. وأظنه قد روى عن مالك. والثاني: أنا لا نسلم وصف العلة؛ لأن الزيتون يقتات زيته في الغالب؛ فسقط ما قالوه. فصل فأما قوله: يخرج من زيته. وكذلك السمسم، وحب الفجل؛ فلأن الزكاة إنما تؤخذ منه إذا تناهى وصار إلى حد يقتان. ونهايته هو أن يصير زيتا لأن اقتياته هو في هذه الحال؛ كما أن زكاة الرطب إذا صار تمرا، والعنب إذا صار زبيبا؛ لأن اقتياتهما هو في هذه الحال. فما بيع من ذلك جاز أن يخرج من ثمنه، على اختلاف في ذلك؛ أن ابن القاسم قال: لا يجوز أن يخرج من ثمنه. وهو أقيس على الأصول؛ اعتبارا بالزكاة كلها.

مسألة قال رحمه الله: "ولا زكاة في الفواكه والخضر". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: هذا قول أصحابنا كافة، وروى عن عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم، ومن التابعين عن المشيخة السبعة، وعطاء، ومجاهد، والشعبي، والحسن، ومكحول، وربيعة رضي الله عنهم. ومن الفقهاء: الشافعي، والأوزاعي رحمهما الله. وقال أبو حنيفة- رحمه الله: تجب الزكاة في جميع ذلك بقوله تعالى: {ومما أخرجنا لكم من الأرض} فعم. ولقوله: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده}. ولا حق فيه سوى الزكاة. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر". ولأنه زرع يطلق بزراعته نماء الأرض في العادة؛ فأشبه الزرع المقتات. ولأنه تجب في جنس المال لا تتكرر؛ فوجب ألا يختص به الجنس؛ اعتبارا لخمس الغنيمة. والدلالة على صحة قولنا: ما روى علي وطلحة ومعاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في الخضروات صدقة". وروى محمد بن عبد الله بن جحش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث [ق/78] معاذا إلى اليمين قال له: "ليس في الخضروات صدقة". وروى سفيان الثوري عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى

ومعاذ بن جبل حين بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم ألا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير والحنطة والزبيب والتمر. وقال معاذ: فأما البطيخ والقثاء والخضروات معفو عفا الله عنه. قالت عائشة رضي الله عنها: جرت السنة ألا زكاة في الخضروات. وأيضا فقد كانت هذه الخضروات موجودة في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه فلم يأخذ منها شيئا، ولا أحد من الخلفاء بعده. فإن قيل: يجب أن ينقلوا أنه لم يأخذ، ولم يكتفوا بأنه لم ينقل أنه أخذ؛ لأنه قد يفعل أشياء لا تنقل قيل له: القدر الذي ذكرناه كاف؛ لأن الزكاة أصل من أصول الدين، وركن من أركان الإسلام، والعادة قد جرت بنقل ما يأخذه عليه السلام من الزكوات وما يظهر من قول أو فعل في ذلك. ألا ترى أنهم قد نقلوا أخذ الزكاة من الذهب والحنطة والتمر وغير ذلك، فلما لم يره نقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الخلفاء بعده أنه أخذ من الخضروات شيئا؛ علمنا بذلك أنه لم يأخذ منها شيئا. ولأنه نبت لا يقتات؛ فأشبه الحشيش والقصب والحطب. ولأنه جنس من المال لا يعتبر النصاب في ابتدائه؛ فلم يجب فيه عشر. أصله: الحطب. وتفرض المسألة في العدد اليسير من التفاح والقثاء؛ كالثلاثة والأربعة؛ فتقول: لأنه أضعف عن احتمال المواساة. فأما قوله تعالى: {وآتوا حقه يوم حصاده} فعام يخصه ما ذكرناه. وقوله: {وآتوا حقه يوم حصاده} لا دلالة فيه؛ لأنه لا يتناول ما

تنازعناه؛ لأنه قال: "يوم حصاده"، وذلك منصرف إلى ما يحصد غالبا، فأما الفواكه والخضروات والبقول فلا يقال فيها حصدت. على أنه مخصوص بما ذكرناه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" عنه جوابان. أحدهما: أنا قد روينا فيه زيادة؛ وهي قوله: "إذا بلغ خمسة أوسق"؛ فعلم أنه أراد به ما يكال أو يوصف، وذلك معدوم في البقول والخضر. والآخر: أنه مخصوص بقوله: "ليس في الخضروات صدقة"، وما ذكرناه من تركه أخذ الصدقة منها. فإن قالوا: خبرنا متفق على استعمال بعضه؛ وهو الزرع والنخل والكرم. قلنا: وخبرنا أيضا متفق على استعمال بعضه؛ وهو الحشيش والقصب. واعتبارهم بالزروع المقتاتة ينتقض بالحطب. والخلاف على أن المعنى في ذلك أنه يقتان مع الاختيار، وليس كذلك الخضروات. وقياسهم عىل الخمس باطل؛ لأنه لا تسلم له عبارة عن الحكم؛ لأنهم إن قالوا: فوجب ألا يختص ببعض الجنس لم يصح؛ لأن الحشيش والقصب والرطبة لا عشر فيها، وهي من الحشيش. على أن المعنى في الخمس أنه لا يختص ببعض الماشية؛ ففارق الزكاة. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "ولا زكاة من الذهب في أقل من عشرين دينارا، فإذا بلغت عشرين دينارا ففيها نصف دينار [وهو] ربع العشر، فما زاد فبحساب ذلك وإن قل. ولا زكاة من الفضة في أقل من مائتي درهم؛ وذلك خمس أواق، والأوقية: أربعون درهما من وزن سبعة- أعنى أن [كل سبعة] دنانير وزنا عشرة دراهم- فإذا بلغت من هذه الدراهم مائتي درهم ففيها [ربع] عشرها خمسة دراهم، فلما زاد فبحساب ذلك". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله-: أما إيجاب الزكاة في الفضة والذهب فقد ذكرناه فيما أوردنا من الآية والأخبار، وما نقلناه من إجماع الأمة، وذلك مغن عن إعادته ها هنا. وأما قوله: ولا زكاة فيما دون عشرين دينارا من الذهب، وأن فيا نصف دينار، وأن لا زكاة في أقل من مائتي درهم من الفضة، وأن فيها خمسة دراهم: فلا خلاف في هذه الجملة مع تواتر الأخبار على هذا الشرح. وروى مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبي عن أبي سعيد الخدري

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أواق صدقة". وروى مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة". وروى أبو إسحاق عن عاصم، والحارث عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس عليك شيء حتى يكون لك عشرين دينارا، فأما إذا كانت عشرين وقد حال عليها الحول ففيها نصف دينار". وروى القاضي إسماعيل بن إسحاق حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن أبي إسحاق عن عاصم عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في تسعين ومائة درهم شيء، فإذا بلغت مائتي درهم ففيها خمسة دراهم". وروى ابن وهب عن جرير بن حازم، والحارث بن نبهان عن الحسن بن عمارة عن إسحاق عن عاصم، والحارث عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهما درهم، وليس عليك شيء حتى تكون مائتي درهم؛ ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون دينار؛ ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك".

وروى الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في كل خمسة أواق من الورق خمسة دراهم، وفي كل أربعين دينارا دينار. وقال صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر". واختلف الناس في اسم الرقة هل هو الذهب والفضة، أم يخص الفضة دون الذب. فأي ذلك كان ففيه دلالة على مسألتنا. وهذه [ق/79] جملة كافية في هذا الفصل. وحكى عن الحسن البصري أنه لا زكاة في الذهب حتى يكون أربعين دينارا فيكون فيها دينار. وهذا فاسد بما قدمناه من نصه صلى الله عليه وسلم في العشرين دينارا نصف الدينار. وبالله التوفيق. فصل وما زاد على العشرين أو المائتي درهم فبحساب ذلك- قل أم كثر- فهو قول أصحابنا كافة، وروى عن علي بن أبي طالب ويحيى بن سعيد وعمر ابن عبد العزيز، وقال المشيخة السبعة. وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه-: لا شيء في الزائد حتى يكون

أربعين درهما؛ فيكون فيها درهم، ولا فيما زاد على العشرين حتى يكون أربعين دنانير. واستدل عنه بما رواه يونس بن بكير عن أبي إسحاق عن المنهال بن الجراح عن حبيب بن يحيى، وعبادة بن نسى عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر حين وجهه إلى اليمين ألا يأخذ من الكسور شيئا؛ إذا بلغ الورق مائتي درهم أخذ منا خمسة دراهم، ولا يأخذ مما زاد حتى يبلغ أربعين درهما. وروى أبو إدريس عن عبد الله ومحمد ابني أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيهما عن جدهما أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: "فإذا بلغ مائتي درهم ففيها خمسة دراهم؛ في كل أربعين درهما درهم، وليس فيما دون أربعين صدقة". وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هاتوا ربع العشر من كل أربعين درهما درهم، وليس فيما زاد على المائتين شيء". ولأن كل مال له نصاب في الابتداء وجب إثبات عفو فيه بعد النصاب. أصله: المواشي.

والدلالة على ما قلناه: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر". وقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة". مفهومه: إيجاب الصدقة فيها، وفيما زاد عليها. وروى ابن وهب قال: أخبرني جرير بن حازم، والحارث بن نبهان عن الحسن بن عمارة عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة، والحارث بن عبد الله الأعور عن علي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هاتوا ربع العشور؛ في كل أربعين درهما درهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك مائتي درهم؛ ففيها خمسة دراهم، وليس عليك شيء حتى يكون لك عشرون دينارا؛ ففيها نصف دينار، فما زاد فبحساب ذلك". وهذا نص في موضع الخلاف. ولأنها زيادة على نصاب في ذهب أو ورق يمكن إخراج ربع عشرها من غير مشقة. دليله: الأربعون درهما، والأربعة دنانير. ولأنه جنس تحب الزكاة في عينه وعلى متلفه مثله؛ فلم يكن فيه عفو بعد الإيجاب الأول. أصله: الحبوب والثمار. وإنما قيدناها احتزازا من المواشي.

أو لأنه مال يحتمل التجزئة والتبعيض؛ فأشبه الحبوب والثمار. فأما حديث معاذ: فقد تكلم الناس في روايته وقالوا: إنه من رواية المنهال بن الجرح؛ وهو متروك الحديث، وأن عبادة لم يسمع من معاذ. على أن الخبر لا دلالة فيه على ألا شيء فيما دون الأربعين الزائدة، وإنما يدل على أن معاذا لم يأمر بأخذه. وذلك يحتمل أن يكون لكونه عفوا، ويحتمل أن يكون لأن معاذا لم يولي ذلك، لا لأنه لا زكاة فيها. وأيضا فإنا نحمله على أنه أراد ألا يأخذ منه درهما حتى يكون أربعين، بدلالة ما ذكرناه. وما رواه من حديث عمرو بن حزم: "ليس فيما دون أربعين صدقة". فليس بثابت عن أصحاب الحديث. على أنه لو صح لكان معناه: صدقة هي أربعة دنانير. وما رووه من حديث علي- رضوان الله عليه فقد ذكرناه فيه زيادة؛ وهي قوله: "فما زاد فبحساب ذلك"، ويؤيده أن هذا مذهب علي- رضوان الله عليه- وهو راوي الحديث. وقياسهم ينتقض- على أصلنا- بزكاة الحبوب والثمار؛ لأن لها نصابا في الابتداء، ولا عفو فيها بعد ذلك. وأيضا فإن المواشي تفارق الذهب والفضة؛ لأن في إيجاب ذلك في الوقص ما أوجبنا في النصاب إجحاف برب المال، وفي إيجاب الجزء إضرار [] (1) ----------------- (1) كلمة لم أتبينها بالأصل وتشبه [النسو].

المشاركة. وهذا المعنى معدوم في الذهب والفضة؛ لاحتماله التجزئة والقسمة؛ فلم بمثابته. والله أعلم * * * فصل فأما قوله: "والأوقية: أربعون درهما". فهذا مما لا خلاف فيه؛ لأن الأوقية التي عناها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة". أنها أربعون درهما، وأن الخمس الأواقي مائتي درهم. وكذلك فرق بين المثقال درهم وثلاثة أسباع الدرهم، ول سبعة مثاقيل عشرة دراهم وهذا ما لا خلاف فيه. * * * مسألة قال رحمه الله: "ويجمع الذهب والفضة في الزكاة؛ فمن له مائة درهم وعشرة دنانير فليخرج من كل مال ربعٌ عشره". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أعلم أن الجمع بين الفضة والذهب في الجملة هو قولنا، وقول أبي حنيفة.

وقال الشافعي: لا يجمع بينهما. واستدل عنه بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة". وقوله: ليس فيما دون مائتي درهم شيء. وقوله: لا شيء في الذهب حتى يبلغ عشرين مثقالا. فنص على سقوط الزكاة فيها إذا نقصوا عن قدر النصاب، ولم يفرق بين أن يكونا منفردين أو مجتمعين. ولأنهما جنسان مختلفا النصب يجوز التفاضل في بيعها؛ فلم يضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة؛ كالإبل والبقر، [ق/80] والزبيب والتمر. ولأنه من الورق لما قصر عن النصاب؛ فلا زكاة عليه في عينه. أصله: إذا انفرد به. ولأن كل نوع من المال تجب عليه الزكاة في عينه؛ فلم يجز أن يضم إلى نوع آخر. أصله: البقر والغنم. والدلالة على ما قلناه: قوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}. والمراد بالإنفاق هاهنا: الزكاة، فتوعد من اجتمعا عنده ولم يخرج

زكاتهما، ولم يخص. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الرقة ربع العشر". والرقة: إما أن تكون اسما للذهب والفضة أو لأحدهما. وأي ذلك كان فعموم الخبر يتناوله. ولأنهما متفقان في المعنى المقصود بها، ولك واحد منهما يسد مسد الآخر وينوب منابه من كونهما ثمنا للأشياء وقيما للم. وإذا كان كذلك وجب ضمها في الزكاة؛ اعتبارا بأنواع الذهب وأنواع الفضة، ويتبرها ومضروبها. فإن قيل: إنما وجب ذلك؛ لأنها جنس واحد. قيل له: وهما جنس واحد في أنها رقة؛ فالرقة اسم للذهب والفضة، وعلى ما يحكيه أصحابنا عن أهل اللغة. فإن قيل: إنما وجب ضمهما؛ لاتفاقهما في النصاب. قيل له: فيجب أن نضم الحنطة إلى الشعير وإلى الذرة والدخن؛ لاتفاقهما في النصاب. فإن قيل: لما اختلف أسماؤها الأعمة دل ذلك على اختلاف أجناسها. ولا يلزم- على هذا- ضم الضأن إلى المعز، والبخت إلى العراب؛ لأن الاسم الأعم يجمعهما؛ وهو اسم الإبل والغنم. قيل: ينتقض بالزبيب والقشمش، والجواميس والبقر؛ لأنهما غير مجتمعين في اسم أعم يجمعهما جنسيه.

ومع ذلك فإنهما مجتمعان في الزكاة؛ فعلم أن المعنى في ذلك ما قلناه من اتفاق المنافع وتقاربها دون اتفاق الأسماء واختلافها وأيض فقد اتفقنا على أنه إذا كان مائة درهم وعرض يساوي مائة درهم ضمه إلى المائة وزكى الجميع إذا كان مدبرا كان أدنى أحوال الذهب أن يكون كالعرض؛ فيقومه ويضمه إلى ما معه من الورق. والمعنى في ذلك قيام الذهب مقام قيمة العرض. فأما الظواهر التي ذكروها فمخصوصة بما ذكرناه. وقياسهم على البقر لا معنى له؛ لأن إيجاب الضم يتعلق باتفاق المنافع أو تفاوتها كالجواميس والبقر، والزبيب والقشمش. وهذه حال الذهب والفضة؛ لأن أغراض الناس فيها متساوية، وكل واحد منها ينوب مناب صاحبه فيما يراد له؛ لأنها يرادان للتعامل في الإثمان والقيم؛ فليس كذلك حال الإبل، ولا حال التمر والزبيب؛ فافترقا لهذا المعنى. وعلى أن اختلاف النصب لا يؤثر في سقوط الضم؛ ألا ترى أن الحبوب والثمار متفقة في النصب، ولا يجوز ضم صنف منها إلى غير صنفه. واعتبارهم بالمنفرد باطل إذا كان معه عرض يساوي تمام النصاب. ثم

المعنى فيه أنه ليس معه ما يتم به النصاب مما يجري مجراه. وبالله التوفيق. والقياس الآخر قد أجبنا عنه. * * * فصل قال القاضي رحمه الله: ووجه الجمع بينهما أن يعدل المثقال بعشرة دراهم؛ فإذا كانت مائة درهم وعشرة دنانير ضمهما، وإن كانت معه مائة درهم وتسعة دنانير تساوي مائة لم يضمهما. هذا قول أصحابنا. وقال أبو حنيفة: يجمع بينهما بالقيمة؛ فمن له مائة درهم وخمسة دنانير تساوي مائة درهم لزمته الزكاة. قالوا: لأنه لما ضمت عروض التجارة بالقيمة؛ فكذلك ضم الذهب إلى الفضة. والأصل في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام المائتي درهم بإزاء عشرين دينارا. فإذا صح ذلك كان ملك المائة بإزاء ملك العشرة، وليس في هذا إلا تعديل المثقال بإزاء العشرة دراهم؛ فلذلك وجب اعتباره به. فأما عروض التجارة فإنما ضمت بالقيمة؛ لأنه ليس في أعيانها زكاة، وإنما الزكاة في أثمانها وقيمتها. وليس كذلك الذهب والفضة. * * *

فصل فأما قوله: أن يخرج من كل واحد ربع عشره؛ فلأن الزكاة إنما وجبت في المائتين؛ فوجب إخراجها منهما. فأما إخراج الفضة عن الذهب والذهب عن الفضة بالقيمة فإنه جائز عندنا. وكيف وجه إخراجها: مختلفون فيه على وجهين. وليس منم من يقول: إنه يخرج أحدهما عن الآخر بدون القيمة على حساب الدينار بعشرة دراهم بل كلهم قال: يخرجها بالقيمة. فإن قيل: هلا قلتم: إنه يخرجها بالأجزاء دون القيمة؛ لأجل أن إخراج أحدهما عن الآخر معنى يقوم فيه مقام في الشرع؛ فوجب أن يعتبر فيه الدينار بعشرة دراهم؟ أصله: التعديل في وجوب الضم. قيل لهم: التعديل في الجمع أصل مقرر من تقييد صاحب الشرع، ليس طريقه طريق المعاوضة؛ فلذلك لم تعتبر فيه سواء قيمه الشرع، وفي مسألتنا فإنما قلنا: إنه يخرجه بالقيمة؛ لأنه معاوضة؛ لأنه بيع أحدهما بالآخر؛ فوجب أن تراعى فيه القيمة؛ لأنه يبيعها للمساكين. ثم هل يعتبر فيه حد ما، أو بالقيمة بالغة ما بلغت؟ اختلف أصحابنا؛ فقال ابن المواز: بالقيمة زادت أو نقصت. وقال عبد الملك [ق/81] بن حبيب: يخرجها بالقيمة ما لم تنقص

عن قيمة المثقال بعشرة دراهم، فإن نقصت تم النقصان. فإن زادت فبالقيمة بالغة ما بلغت الزيادة. فوجه قول ابن المواز هو أنه بيع ذهب بفضة لا يراعى حد في زيادته؛ فكذلك لا يراعى في نقصانه. دليله: في غير الزكاة. ووجه قول ابن حبيب هو أن الأصل أن يخرج من كل واحد من المالين بالقسط، وإنما أخرجنا من أحدهما عن الآخر إذا كان فيه نظر المساكين واحتياط لهم. فإذا زاد خرجت الزيادة؛ لأن في ذلك حظا لهم، وإذا نقص عن قدر الآخر لم ينتقصوا. والله أعلم. * * * مسألة قال رحمه الله: "ولا زكاة في العروض حتى تكون للتجارة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله-: إنما قال ذلك؛ لأن الأجناس التي تجب في أعيانها الزكاة هي العين والحرث والماشية، دون غيرها من الأشياء. والدلالة على ذلك: ما رواه مالك عن عبد الله بن دينار عن سليمان

ابن يسار عن عراك بن مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلم في عبده، ولا فرسه صدقه". وروى مكحول عن عراك بن مالك عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الخيل والرقيق زكاة، إلا أن زكاة الفطر في الرقيق". وروى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد عفوت عن الخيل والرقيق فهاتوا صدقة الرقة". ولا خلاف في أنه لا زكاة فيها إذا لم يرد بها التجارة. * * * فصل فأما إذا أريد بها التجارة ففيها الزكاة عندنا، وعند أبي حنيفة والشافعي وذهب إلى أنه لا زكاة فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "عفوت عنكم عن صدقة الخيل والرقيق". فعم، ولم يخص. وقوله: "ليس على المسلم في عبده، ولا فرسه صدقة". وقوله: "ليس في الخيل والرقيق زكاة، إلا أن زكاة الفطر في الرقيق". فاستثنى الزكاة الواجبة في الرقيق- وهي الفطر؛ لأن التصرف في

العروض قد كان ظاهرا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنه أخذ منها زكاة. ولأنه أمر بذلك في جملة ما أمر بأخذ الزكاة منه. ولأنه عرض لا تجب الزكاة في عينه؛ فلم تجب في قيمته. أصله: إذا لم يكن للتجارة. ولأن الزكاة تجب في الأعيان لا في القيم؛ اعتبارا بالأصول كلها من المواشي النواض. والأصل فيما قلناه: قوله عز وجل: {خذ من أموالهم صدقة}؛ فعم، ولم يخص. وروى سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعده للبيع. وروى أصحابنا عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "أد زكاة البر". ولأنه مال مرصد للنماء والزيادة؛ فأشبه الذهب والفضة. ولأن الزكاة إنما وجبت في الدراهم والدنانير؛ لأنها مرصدة للنماء، ولا يجوز أن يكون التصرف فيها بما ينميها هو السبب في إسقاط الزكاة عنها. وإذا بثت هذا فقوله صلى الله عليه وسلم: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق"

معناه زكاة العين دون القيمة؛ بدلالة ما ذكرناه. وقوله: "ليس على الملم في عبده ولا فرسه صدقة" مفهومة العبد المحترم، والفرس المعد للروب. ومثل هذا لا صدقة فيه. وقوله: "ليس في الخيل والرقيق زكاة" معناه إذا لم يرد بها التجارة، أو ليس في أعيانها زكاة. وقولهم لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم أخذ منها زكاة ولا أمر بذل باطل بما رويناه من أمره صلى الله عليه وسلم سمرة بن جندب وأبي ذر وغيرهما. واعتبارهم بما ليس للتجارة باطل؛ لأن المعنى في ذلك أنه غير مرصد للنماء. وقولهم: إن الزكاة تجب في العين لا في القيمة دعوى، وهل الخلاف ألا في هذا؛ لأنا نقول: إن الزكاة تجب في العين مرة، وفي القيمة مرة أخرى. والله أعلم. * * * مسألة قال رحمه الله: "فإذا بعتها بعد حول [فأكثر] من يوم أخذت ثمنها أو [زكيت] ففي ثمنها الزكاة لحول واحد أقامت قبل البيع حولا أو أكثر، إلا أن تكون مديرا لا تستقر بيدك عين ولا عرض؛ فإنك تقوم

عروضك كل عام، وتزكى ذلك مع ما بيد من العين". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: إذا كان للرجل عروض التجارة، ولم يكن مديرا تمكث عنده حولا أو أحوالا، فإنه إذا باعها زكى أثمانها لسنة واحدة. وقال محمد بن الحسن عن أبي حنيفة- رحمهما الله- عليه أن يزكي أثمانها لما مضى من السنين، فإذا نقصت أثمانها مما تجب فيه الزكاة لم يكن عليه زكاة. وقال أبو حنيفة والشافعي: إذا لم يبعها وبقيت عنده أحوالا قومها في كل سنة، وأدى زكاتها واستدلوا بما رواه محمد بن سعيد عن أبي عمر بن حماس عن أبيه يبيع الجلود والقرون، فإذا فرغ من بيعها اشترى مثلها؛ فلا يجتمع عنده أبدا ما تجب فيه الزكاة. فمر به عمر بن الخطاب- رضوان الله عليه- وعليه جلود يحملها للبيع فقال: زك مالك يا حماس. فقال: ما عندي شيء تجب فيه الزكاة. قال: تقوم. فقوم ما عنده، ثم أدى زكاته. ولقول عثمان- رضي الله عنه- في ملأ من الصحابة: اجعلوا لزكاتكم شهرا تزكونها فيه. ولم [ق/82] يخص مديرا من غيره. وروى أنه صلى الله عليه وسلم أنفذ عمر مصدقا فعاد يشكو ثلاثة: منهم خالد. فقال صلى الله عليه وسلم: "إنكم تظلمون خالدا؛ فإنه حبس وأعبده في سبيل الله".

فلولا أن عمر طالبه بصدقة ذلك لم يكن ليعتذر له بأنه قد حبسها. ولأنه لو باع العروض لوجبت الزكاة في أثمانها للحول الماضي. وكل عين تعلق حكم الزكاة بها متى نقلت إلى عين غيرها واحتسب بما مضى من الحول فإنه يخرج من عينها الزكاة؛ كالذهب والورق. ولأنه مال للتجارة؛ فوجب تقويمه في كل سنة. دليله: إذا كانت مدارة. ولأنه مال مرصد للنماء؛ فوجب تكرار الزكاة فيه بتكرار الأحوال عليه. أصله: الذهب والفضة. وقال محمد بن الحسن: ما في الأرض حيلة في ترك الزكاة مثل هذه إن كان كما قال أهل المدينة يكون للرجل المال الكثير فيشتري به التجارة من العروض الذي إذا تربص بها الرجل ازداد في ثمنها؛ فهي تزيد سنة في سنة في يده؛ لتربصه بها، وليس عليها فيها زكاة. والذي يدل على ما قلناه: قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". وقوله: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق". وقوله: "ليس في الخيل، ولا في الرقيق صدقة". وهذا عام في سقوط الزكاة فيها، إلا في موضع قام عليه الدليل. ولأنه عرض مملوك غير مدار فلم يلزم تقويمه في كل سنة.

أصله: العروض المقتناة. ولأن كل مال لا تجب الزكاة في عينه فلا يلزم يلزم إخراجها من غير قيمته كغير المدير. أصله: عرض القنية. واستدل القاضي رحمه الله في رده على محمد بن الحسن بأن قال: إن أعيان العروض لا صدقة فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة". فإذا اشترى العبد أو الفرس بذهب أو ورق يريد به التجارة فالمشتري قد صرف ما تجب في عينه الزكاة إلى شيء لا تجب في عينه الزكاة؛ ينوي أن يرده إلى ما تجب في عينه الزكاة. فما دام عرضا فلا شيء فيه؛ لأن النية وحدها لا يجب بها شيء؛ لأنه لو وجب بالنية فقط قبل البيع لوجب على من كان عنده عرض للقنية ثم نوى به التجارة، ولوجب على من ورث عرضا فنوى به التجارة أن يزكيه إذا حال عليه الحال وإن لم يبعه. فإذا لم يكن على هؤلاء زكاة بالنية دون أن يكون أوله عينا؛ فكذلك لا تجب حتى يصير آخره عينا، ويرجع الفرع إلى ما كان عليه من الأصل، وإلا فلا معنى فرق بينهما. هذا معنى ما له على اختصار. فإذا ثبت هذا؛ فحديث حماس يدل على أنه كان مديرا، ونحن نقول: إن المدير يقوم في كلل سنة. وكذلك عثمان. وحديث خالد: فإنما طلب منه غير صدقة التطوع فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم بأن

حاله لا يحتمل أن يعاون بشيء؛ لأن عمدة ماله قد حبسه. وعلى أنه يحتمل أن يكون كان مدير. وأما الذهب والفضة: ففي أعيانها الزكاة، فإذا نقلها إلى جنسها وما يتساوى الفرض فيه كان في طرق الحول على وجه واحد. وليس كذلك نقله إلى العروض. فاعتبارهم بالعروض المدارة غير صحيح؛ لأن الزكاة إنما تجب فيها عندنا إذا نضى شيء من أثمانها. فأما إذا كان بيع عروض بعروض ولا يكون في يذلك عين فلا زكاة فيها مدير كان أو غير مدير. وعلى أن المعنى في ذلك أنه إذا كان مدير أو لم يقوم وانتظر بيع جميعها لأدى ذلك [ق/86] إلى إسقاط الزكاة جملة؛ لأنه لا ينضبط له ثمن كل سلعة يبيعها، وسيما إذا كان ممن يبيع بالقليل والكثير. وليس كذل غير المدير. وقياسهم على الذهب والفضة باطل؛ لأن الزكاة إنما تكررت فيها؛ لأن في أعيانها الزكاة؛ فجاز تكرار الزكاة فيها. وليس كذلك العروض. وقاسهم على الذهب والفضة باطل؛ لأن الزكاة إنما تكررت فيها؛ لأن في أعيانهم الزكاة؛ فجاز تكرار الزكاة فيها. وليس كذلك العروض. وقول محمد بن الحسن: ما في الأرض حيلة لإسقاط الزكاة مثل هذا. فجوابه أن يقال له: إن كان كل تصرف سقطت معه الزكاة يسمى حيلة لإسقاطها فيجب أن يكون من ملك ألف دينار فإذا كان قبل الحول بيوم ابتاع

بها ثياباً؛ فإن عليه الزكاة؛ لأن هذه حيلة في سقوط الزكاة. وكذلك إذا كان معه مائتين فأبحناه أن يشتري قبل حلول الحول بيوم أو يومين بدرهم أو نصف درهم فقد أبحناه حيلة سقط معها الزكاة. فإن سمى هذا حيلة مع إباحته، وأوجب الزكاة معه، وهذا خرق بالإجماع. وإن أبا أن يسميه حيلة لأمر ما فذلك الذي يصير إليه هو فصلنا في ما سماه حيلة في هذه المسألة. وبالله التوفيق. فصل فأما إيجاب الزكاة فيها إذا باعتها بعد حول أو أحوال لسنة واحدة؛ فلأن العروض لا يتكرر حكم الزكاة فيها، إلا إذا كان أصلها عين؛ مثل أن يشتري بذهب أو فضة عرض ينوي به تجارة فيبقى عنده حول أو أكثر ثم يبيعه. ولو ورث عرض أو وهب له أو اشتراه بعرض، ثم نوى به التجارة فحال عليه عنده أحوال لم تكن عليه فيه زكاة؛ لأن أصله ليس بعين. وإذا كان الأمر على ما وصفنا كان أصل العين عرض ثم اشترى به عرض نوى به التجارة، ثم باعه بعد حول فقد تقرر حكم الزكاة فيه؛ لكونه عين في طرفي الحول. ولا اعتبار بكونه عرض في وسط الحول؛ ألا ترى أنه لو ضاع منه في وسط الحول وهو عين أو عرض ثم وجده آخر

الحول لوجب عليه فيه الزكاة. وإذا تقرر هذا، ثم ورد عليه حول ثان وهو عرض وخرج عنه وهو عرض لم يكن لهذا [ق/83] الحول حكم؛ لأنه لم يكن في أوله عين كما كان في أول الحول الأول. وإذا كان كذلك وجب لهذه العلة أن تزكيه زكاة واحدة. * * * فصل فأما إذا كان مدير يبيع بالعين والدين، ولا يحصى ما يبيعه ولا يضبطه فإنه يجعل لنفسه شهر من السنة يقوم فيه ما عنده من العروض التي يديرها وما له من الدين الذي يرجوه، ويضم إليه ما عنده من العين، ثم يزكى ذلك كله، وإنما وجب ذلك لأن أمره لا يخلو من ثلاثة أحوال: أما أن يؤخذ بحفظ كل ما يبيعه. فهذا يؤدي إلى تكليفه ما لا يضبطه ولا يطيقه. أو أن يجعل لنفسه وقت من السنة بعينه يجعله حول له كل سنة. فهذا ما نقوله. أو أن تسقط الزكاة عنه. وهذا ما لا سبيل إليه. وقد رويناه عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أنه أمر حماس أن يقوم ماله ويزكيه، وكان يريد التجارة؛ على ما بيناه. وروى عن جابر بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجعلوا شهر تؤدون فيه زكاة أموالكم فما حدث من مال بعد فلا زكاة فيه حتى لحي رأس السنة".

مسألة قال رحمه الله: "وحول ربح المال حول أصله، وكذلك حول نسل الأنعام حول الأمهات". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: وهذا كما قال ربح المال مردود إلى أصله، وبناء على حوله. وسواء كان الأصل نصاب أو دونه فمن ملك عشرة دنانير فتجر فيها فصارت عشرين، فإذا حال الحول زكى العشرين وكانت كأنها معها من أول الحول. وكذلك لو حال الحول على العشرة، ثم تجر فيها فصارت عشرين فإنه يزكيها حين تكمل العشرين. وقال أبو حنيفة- رضي الله عنه: يستأنف بها الحول من يوم كملت نصاب. وقال محمد بن الحسن: كيف قال أهل المدينة هذا وهم لا يخالفون في أن من أفاد مالا كثير فلا زكاة عليه إلا أن يحول الحول عليه من يوم أفاده؟ فإن قالوا: لأن هذا كان عنده أصل مال. قيل لهم: إن أصل المال الذي كان عنده لم يكن مما تجب فيه الزكاة، وإنما تضم الفائدة إلى الأصل إذا كان الأصل نصاب. قال: وقد وافقنا أهل المدينة فيمن أفاد ماشية دون النصاب أنه لا زكاة

فيها حتى يحول الحول من يوم أفادها، إلا أن يكون عنده قبلها ماشية نصاب نم صنفها؛ فإن ما أفاد من ذلك يضم إلى الأول وإن لم يحل على الفائدة الحول. فإن كان الأول لا زكاة فيه فلا زكاة في الفائدة حتى يحول الحول عليها. هذا معنى ما قال. والدلالة على صحة قولنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر"؛ فعم. وقوله: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" فمفهومه أن الصدقة تجب فيها وفيما زاد عليها. وأيض اتفاقنا على أن الأصل إذا كان نصاب فإن الربح يزكى بحول أصله؛ فكان كذلك إذا كان الأصل دون النصاب؛ بعلة أنه نماء حادث عن مال تجب في عينه الزكاة؛ فكان حكمه حكم أصله. وأيض فإن هذه المسألة مرتبة لنا على الأصل؛ وهو أن حم سخال الماشية حكم أمهاتها- كانت الأمهات نصاب أو دونه، وسترد في موضعها إن شاء الله. فأما ما قاله محمد بن الحسن من اعتبار هذا بفائدة فالفصل بين الموضعين هو أن النماء الحادث عن المال بالتصرف فرع له ومتولد عنه؛ فكان كأنه عين المال؛ فلذل كان حكمه حكمه.

يدل ذلك إجماعهم على ما قلناه في النصاب، وما فوقه. والفائدة بخلاف هذا؛ لأنها أجنبية من المال، وليست بفرع له. فإن اعترضوا بالماشية فإنما أتبعناها النصاب لمعنى آخر يذكر في موضعه. ومحمد ظن أنا نضم فائدة الذهب إلى الأصل؛ فحكى عن الاعتلال على حسب ذلك. وما ذكروه من فائدة الماشية صحيح. ونحن لم نحكم بما قلناه في الربح على حسب ما يقوله أبو حنيفة في ضم فائدة الذهب إلى الأصل. وبالله التوفيق. * * * فصل فأما نسل الأمهات فحوله عندنا حول الأمهات، سواء كانت الأمهات نصاب أو دونه؛ فلو كان لرجل ثلاثون من الغنم فتوالدت قبل مجيء الساعي بيوم حتى كملت أربعين لوجبت فيها الزكاة مع الأمهات. وقال أبو حنيفة والشافعي- رضي الله عنهما: يستأنف الحول للجميع من يوم كمال النصاب، وإنما يكون حول السخال حول الأمهات نصاب واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال يحول عليه الحول". وهذا السخال لم يحل عليها الحول. ولأنها زيادة كمل بها النصاب في نوع من الحيوان؛ فوجب أن يكون

حولها من يوم كمل النصاب. أصله: إذا كمل النصاب بشراء أو هبة أو ميراث. وقولنا في نوع من الحيوان احتراز من الركاز وغيره. ولأن السخال من الأموال التي لا تجب فيها الزكاة إلا بالحل. وحولها تارة يعتبر بنفسها، وتارة يعتبر بغيرها. ولا يجوز أن تبيع غيرها في الحول ولا حول لذلك الغير. ولأن الأولاد إنما تتبع الأمهات في حكم إذا كان ذلك الحكم ثابت للأم حين الولادة. فأما إذا لم يكن ثابت لها حين الولادة فلا يتبعها فيه؛ ألا ترى أن ولد المكاتبة إنما يتبعها إذا كانت مكاتبة حين الولادة، وكذلك ولد أم الولد. وإذا ولدت قبل ثبوت الحكم لها لم تتبعها؛ ألا ترى أنها لو ولدت [ق/84] من زوج أو زنا، ثم كوتبت أو دبرت لم يتبعها ولدها؟ فكذلك السخال لما لم يكن للأمهات حول الزكاة حين الأمهات لم تتبعها. ولأن الأموال التي لا تجب الزكاة فيها إلا بالحول لا بد في وجوب الزكاة فيها من اعتبار أمرين: أحدهما: كون المال مما يتسع للمواساة. وأن تمضي عليه مدة يتكامل في مثلها النماء. فإذا كان دون النصاب فلا زكاة فيه؛ لأنه لا يحتمل المواساة. وإذا صار نصاب بالسخال فقد بلغ حد يحتمل المواساة واحتيج إلى اعتبار مدة يتكامل بها النماء.

والدلالة على صحة قولنا قوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين من الغنم شاة". وهذه يقع عليها اسم غنم. وروى مالك- رحمه الله- عن ثوربن زيد عن ابن لعبد الله بن سفيان الثقفي عن جده سفيان بن عبد الله أن عمر بن لاخطاب بعثه مصدق فكان يعد على الناس بالسخل. فقالوا: تعد علينا بالسخل ولا تأخذه منا؟ فلما قدم على عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- ذكر ذلك له فقال له: نعم تعد عليهم بالسخلة يحملها الراعي، ولا تاخذها. ولم يفرق بين أن تكون متولدة عن نصاب، أوت دونه. وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ رواه علي بن حجر قال: حدثنا أيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة شيء، ولا تؤخذ هرمته ويعد ضميرها وكبيرها". فعم ولم يخص. ولأنها نتاج حادث عن حيوان تجب في عينه الزكاة؛ فوجب أن يكون معتبر به في حول الزكاة، أو نقول: فوجب أن يكون حكمه حكم ما لم يزل موجود مع أمهاته. أصله: إذا كانت الأمهات نصاب. فإذا قيل: المعنى في الأصل أن الأمهات حكم الحول؛ فجاز أن تتبعها في حولها. وليس كذلك إذا كانت الأمهات دون النصاب؛ لأنه لا حول

لها؛ فلم يجز أن تتبعها في شيء لم يثبت لها. قيل له: نحن لم نرد بقولنا أنه يجب أن يكون حول السخال حول الأمهات موضع الخلاف، وإنما أردنا أنه يجب أن يكون حكمها كأنها لم تزل وجودة مع أمهاتها. وهذا المعنى لا يمكنهم دفعه. على أن ما ذكروه فاسد على أصلهم؛ وذلك أن من مذهبهم أن الخليطين إذا كان لهما أربعون شاة ففيها الزكاة. فقد جعلوا للعشرين حول معتبر لنا بنفسها أو بالعشرين الأخرى. وهذا ما منعونا فيه. وأيض فإن الحول معتبر في زكاة العين. ولو كانت معه مائة درهم فأقامت معه حول إلا يوم فأخذ من معدن مائة درهم أخرى يضمها إلى الأولى وزكاها عندهم؛ فبطل بذلك ما قالوه. وقياس آخر وهو أنه قد اتفقنا على أنه لو ابتاع سلعة بمائة درهم تساوي حال ابتياعها مائتين، ثم باعها بعد الحول بمائتين فإن الزكاة واجبة في ثمنها. والعلة في ذلك أنه نماء حادث عن مال تجب في جنسه الزكاة؛ فكان حكمه حكمه. فأما الخبر: قلنا فيه من التعلق مثل ما لهم؛ وذلك أن مفهومه وجوب الزكاة في الأمهات إذا حال عليها الحول.

فإن قيل: لا حول للأمهات أصل إذا كانت دون النصاب. قيل له: هذا غير صحيح؛ لأن الخبر أطلق ذلك ولم يقيده؛ على أنه مخصوص بما ذكرناه. وقولهم: لأنها زيادة كمل بها النصاب كالشراء والميراث لا تأثير له على أصل أصحاب الشافعي؛ لأن الزيادة لا تضم إلى الأصل، سواء كان الأصل نصاب أو دونه؛ فتقيدها بهذا الوصف لا معنى له. على أن المعنى في الأصل كمال النصاب بغير تمامه. وليست كذلك مسألتنا؛ لأن كمال النصاب مما حادث عنه. وما ذكروه من انه لا يجوز أن تتبع غيرها في الحول ولا حول لذلك الغير قد أجبنا عنه، وقلنا: إن الحول يعتبر في الأصل وإن لم يكن نصاب كما قالوا ذلك في الخليطين بينهما أربعون شاة، وكما قالوا فيمن كان معه مائة درهم فبقيت معه بعض الحول ثم أفاد من ركاز تمام النصاب فإنه يضمها إلى المائة التي كانت معه. وما ذكروه من أن ما يعتبر فيه الحول لا بد فيه من أمرين: أحدهما: أنه يكون قدر يحتمل المواساة. والآخر: أن يرد عليه من المدة ما يكمل به النماء والمنفعة. ينتقض به إذا كان الأصل نصاب؛ وذلك أنه إذا كان معه ثمانون شاة أقامت أحد عشر شهر، وتوالدت قبل حلول الحول بشهر فإنها لم تبق مدة يكمل بها النماء، ومع ذلك فهي تابعة لها في الحول؛ فانتقض الاعتلال. ولا معنى لقولهم إن هذا الزمان قد أتى على الأمهات؛ لأنهم لم

يشترطوا في الاعتلال كمال النماء والمنفعة في بعض المال دون بعض. فإن قنعوا بهذا فقد أتى أيض على الأمهات التي دون النصاب في مسألتنا زمان كمال النماء والمنفعة. وقولهم: لأنه نتاج لم يتولد عن نصاب فلم تجب فيه الزكاة. أصله: إذا لم يتم الأصل بنتاجه نصاب. فالجواب أن المعنى فيه قصور الأصل عن نصاب، والنصاب معنى معتبر في الحيوان في الزكاة. والله أعلم. * * * فصل ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن السخال تتبع الأمهات إذا كانت الأمهات نصاب. وقال داود: لا تضم السخال إلى الأمهات أصل، سواء كانت الأمهات نصاب أو دونه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول [ق/85] عليه الحول". وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "فما حدث من بال بعد فلا زكاة فيه حتى يجئ الحول". قالوا: وقد اتفقنا على أنه لو استفاد في الحول جنس من المال مخالف لجنس ما معه لم يضمه إليه، لعله أنه مال مستفاد يعتبر الحول في جنسه؛ فكذلك السخال.

والدلالة على ما قلناه: قوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين من الغنم شاة"؛ فعم ولم يخص. وما رواه على بن حجر حدثنا أيوب بن جابر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس من الإبل شيء، ولا تؤخذ هرمة، ويعد صغيرها وكبيرها". وهذا نص. وأيض فإن هذا إجماع الصحابة؛ لأنه مروي عن عمر، وعلي، ولا مخالف لهما. وقد ادعوا أن ما قالوه مذهب أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، وليس ذلك بصحيح. وأيض فلأن الزكاة تجب في المال لأجل النماء؛ بدلالة أن ما لا نماء له لا زكاة فيه؛ كالعقارات وغيرها. وكذلك ما ترك التصرف فيه بالتسمية كالحلي الملبوس وغيره لا زكاة فيه. وإذا كان كذلك فيستحيل أن تجب الزكاة في الأصل من أجل النماء ولا تجب في المنمى نفسه. ويبين هذا ما نقلوه في التجارة أن الزكاة تجب في الأصل لأجل الربح ومحال ألا تجب في الربح. فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" فمعناه: في الأصل دون النتاج؛ بدلالة ما ذكرناه.

وقوله: "فما حدث من مال بعد فلا زكاة فيه حتى يجئ رأس الحول" فكلام لا يستقل بنفسه؛ لأنه معطوف على شيء لم يذكر. وعلى أن معناه في غير السخال بدلالة ما ذكرناه. وقياسهم ينتقض- على أصلنا- بنماء الدراهم والدنانير. على أن العلة في الأصل أن الفائدة من غير جنس ما معه. والله أعلم. * * * مسألة قال رحمه الله: "ومن له مال [تجب] فيه الزكاة، وعليه دين مثله أو ينقصه عن مقدار مال الزكاة فلا زكاة عليه، إلا أن يكون عنده مما لا يزكى من عروض مقتناه أو رقيق أو حيوان مقتناة، أو عقار أو ريع ما فيه وفاء لدينه فليزك ما بيده من [عروض] ن فإن لم تفي عروضه بدينه حسب بقية دينه فيما بيده، فإن بقي بعد ذلك ما فيه الزكاة زكاه، ولا يسقط الدين زكاة حب ولا تمر ولا ماشية. قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أعلم أن هذا الفصل يشتمل على عدة مسائل، ونحن نبينها ونوضح القول فيها. أما قوله: إن من له نصاب من الذهب أو الورق، وعليه دين مثله أو

ينقصه عن ما تجب في الزكاة، ولا عرض له سوى ذلك فإنه لا زكاة عليه. فإن هذا قول أصحابنا وأهل العراق. وللشافعي قولان: أحدهما: أن عليه الزكاة. والآخر: أنه لا زكاة عليه. واستدلوا على خلافنا بقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر". وما أشبه هذه الظواهر. ولأنه نوع من المال تجب في عينه الزكاة؛ فوجب ألا تسقط الدين زكاته اعتبار بالماشية. ولأنه مسلم تام الملك فأشبه من لا دين عليه. ولأنها زكاة فوجب ألا يسقط الدين؛ اعتبار بالعشر وزكاة الفطر. والدلالة على ما قلناه: رواية عمير بن عمران عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان للرجل ألف درهم، وعليه ألف درهم فليس عليه زكاة، وليس على مال زكاة حتى يحول عليه الحول". وهذا نص في موضع الخلاف. وأيضا ما ذكره أصحابنا أن أداء الدين أولى من الزكاة؛ لأن الدين قد أخذ عوضه، والزكاة هي مواساة لم يؤخذ عوضها؛ فكان أداء ما قد أخذ عوضه أولى. ولهذا المعنى شاهد من الأصول؛ وهو الاتفاق على أن الدين مقدم على

الميراث وإن كان الميراث واجب للورثة. وليس في ذلك إلا أن الدين قد أخذ عوضه، وأن الميراث لم يأخذ منه عوض؛ فلذلك كان أولى منه. قالوا: وأيض فلأن الزكاة إنما تجب في الأموال النامية؛ ألا ترى أنها لا تجب في العقار وغيره من العروض التي لا تنمى؟ وإذا ثبت ذلك، وكان رب الدين قادر على الحجر على من عليه الدين ومنعه من تنمية المال الذي في يده خرج المال عن أن يكون نامي؛ فوجب سقوط الزكاة عنه لكونه على غير ثقة لحصول ما يمنع نماء المال. وبهذا المعنى انفصل العين عن الماشية والحب؛ لأن النماء موجود فيها، ولا مجال للحجر في قطعه عنهما. وقد ذكر أصحابنا في هذه الأشياء مدخولة بزكاة الحرث والماشية، والأقرب فيها ما قدمناه. فأما الظواهر فمخصوصة. واعتبارهم بمن لا دين عليه باطل؛ لأن من لا دين عليه متمكن من تنمية ما في يده؛ لأن لا طريق لأحد عليه، ولأنه بإزاء الزكاة من هو أولى بها. وقياسهم على الماشية والزرع فقد فصل أصحابنا عنها بشيئين: أحدهما: أن قالوا: إن النماء موجود والماشية غير موقوف على من يتصرف فيهما؛ لأنهما نميان بأنفسهما. وليس كذلك العين؛ لأنها لا تنمى إلا بتصرف من يتصرف فيها، ولصحاب الدين أن يقطع ذلك بحجره عن من هو في يده؛ فينقطع النماء

فيه. والوجه الآخر: أن زكاة الماشية والحرث إلى الأمام، فلو قبل أرباب الأموال فيما يدعونه من الديون عليه لأدى ذل إلى إسقاط الزكاة جملة؛ فحسم الباب بترك قبول ذلك منهم. وليس كذلك زكاة العين؛ لأنها موكولة إلى أرباب الأموال. هذا قدر ما فصل فيه أصحابنا بين الموضعين. * * * فصل فإن كان عنده من العروضما يفي بدينه جعل الدين في العروض، وأدى الزكاة عما في يده من العين إن كان نصاب. وإن كان ما عنده من العروض دون ما عليه من الدين ترك مما في يديه من العين ما إذا ضمه إلى قيمة العروض قام بإزاء الدين، ثم زكى ما بقى معه من العين إن بقى ما تجب فيه الزكاة. والعروض التي يجعل فيها دينه هو كل ما يبيعه الحاكم عليه في دينه دون ما لا يبيعه عليه. وعند أهل العراق إنه كمن لا عروض له؛ فيجعل الدين في العين، ويسقط الزكاة عنه. قالوا: لأن ما في يده من العين لا يفصل عما عليه من الدين؛ فلم يتمكن يتكن عليه فيه زكاة. أصله: إذا لم يكن له عروض.

والدلالة على ما قلنا عموم الظواهر؛ مثل قوله: "في مائتين خمسة دراهم"، وفي الرقة ربع العشر، وما أشبه ذلك. ولأنه حر مسلم مالك لنصاب قد حال عليه الحول أخذ الصدقة منه لا يبخس حق غيره؛ فوجب أخذ الزكاة منه. أصله: من لا دين له، أو من عليه دين وفي يده من العين ضعف ما عليه من الدين. ولأنه قادر على الجمع بين أداء الدين والزكاة فوجب ألا يسقط أحدهما الآخر. أصله: إذا كان معه من العين ما يقوم بإزاء الدين، ويفضل معه نصاب. ولأن العروض نوع من المال مأمون؛ فجاز أن يجعل في الدين. أصله: العين. فأما إذا لم يكن له عروض فالمعنى فيه أنه ليس هناك مال مأمون يقوم بإزاء الدين فيدافع الدين الزكاة، وإذا تدافعا كان اليوم أولى؛ على ما بيناه. وليس كذلك في هذا الموضع؛ لأن العروض إذا أقيمت بإزاء الدين سقط التدافع بين الدين والزكاة. والله أعلم. * * *

فصل فأما قوله: إذا كان عليه دين وله ماشية أو زرع فإن عليه الزكاة: فقد ذكرنا فيما تقدم الفصل بين الذهب والفضة، وبين الماشية والزرع؛ فإن النماء يمكن قطعه عن الذهب والفضة بالحجر على من هي في يدهن ولا يمكن ذلك في الماشية والزرع. وبأن أمر الماشية والزرع إلى الأمام، وأمر الذهب والفضة موكول إلى أمانة أربابها. وبيناه بما يغني عن أعادته. * * * مسألة قال رحمه الله: "ولا زكاة عليه في دين حتى يقبضه، وإن أقام أعوام فإنما يزكيه لعام واحد بعد قبضه. وكذلك العرض حتى يبيعه". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أعلم أن حكم الدين والعروض واحد عندنا في أنه لا زكاة في الدين حتى يقبض، وفي العروض حتى يباع. فإذا قبض الدين وبيع العروض زكيا لسنة واحدة وإن بقيا أحوال كثيرة إن كان أصلها عين معه. فإن لم يكن أصلها عنده عين فلا زكاة عليه في الدين إذا قبضه، ولا في ثمن العرض إذا باعه. ويستقبل بذلك حول من يوم حصل في يده.

فالأول مثل أن يكون معه مال فيسلفه رجل أو يشتري به سلعة ثم يبيعها من رجل بدين في ذمته: فإن هذا لا زكاة عليه في هذا الدين حتى يقبضه وإن أقام عند من هو عليه أعوام. فإذا قبضه زكاه لسنة واحدة. وإنما زكاه إذا قبضه؛ لحصوله طرفي الحول في يده عين. واقتصر على سنة واحدة؛ لأن ما بين ذلك لم يكن فيه عين؛ فلم يجر فيه حكم الزكاة. وكذلك إذا كان معه عين فاشترى بها عرض فأقام عنده أحوال ثم باعه فإنه يزكى الثمن لسنة واحدة. والعلة فيه ما ذكرناه في الدين. فأما الفصل الثاني: فمثل أن يرث دين أو يوهب له فيمكث على من هو عليه سنين ثم يقبضه فهذا يستقبل به حول من يوم قبضه؛ لأن أصله لم يكن غني؛ فلم يجر فيه حكم الزكاة. وكذلك العرض إذا ورثه أو وهب له فأقام سنين ثم باعه فإنه يستأنف به الحول؛ لما ذكرناه. * * * مسألة قال رحمه الله: "وإن كان الدين أو العروض من ميراث فليستقبل بما يقبض منه".

قال القاضي رحمه الله: هذا لما ذكرناه من أن المراعى في وجوب الزكاة في الدين والعرض طرفي الحول في يده، فإذا عدم ذلك في الطرفين أو أحدهما لم تكن فيه زكاة. فالدين إذا كان من ميراث فإنما نفى في يده ساعة قبضه، وهو أحد طرفي الحول؛ فلذلك لم تجب الزكاة فيه. * * * مسألة قال رحمه الله: "وعلى الأصاغر الزكاة في أموالهم في الحرث والماشية والعين وزكاة الفطر". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: هذا قولنا، وقول الشافعي- رحمه الله. وروى عن خلف من الصحابة منهم: عمر ابن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن عمر، وعائشة رضوان الله عليهم أجمعين. وذهب أهل العراق إلى سقوط الزكاة عن اليتيم في ذهبه وفضته وماشيته ووجوبها عليه في حرثه وفي الفطرة.

وزعموا أنه مروي عن ابن مسعود وعن ابن عباس. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن الصبي حتى يحتلم". ورفع القلم عبارة عن سقوط العبادات عنه، وإيجاب الزكاة عليه ينافي ذلك. ولقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ [ق/87] بن جبل: "فإن أجابوك فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم". فأوجب الصدقة على من يدعي إلى الإيمان، والطفل لا يصح إعلامه ولا دعاؤه. قالوا: ولقول أبي بكر- رضي الله عنه- بمحضر من الصحابة من غير نكير من أحد منهم عليه: لا أفرق بين ما جمع الله- يعني بين الصلاة والزكاة- ولأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة. وفي إيجابها على الصغير مع العلم بأن الصلاة لا تجب عليه تفريق بينهما. قالوا: ولأنها عبادة محضة لا تلزم أحد عن أحد؛ فوجب ألا يلزم الصغير؛ اعتبار بالصلاة والصوم.

وقولهم: لا تلزم أحد عن أحدن احتزاز من زكاة الفطر، لأنها تلزم الرجل عن أهله. قالوا: ولأن الصبي ممن لا يصح منه في هذه الحال اعتقاد الإيمان، فأشبه الكافر. قالوا: ولأنه ممن لا يتصرف في ماله بالفرض والهبة ونحوها، فأشبه المكاتب. والدلالة على صحة قلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر". وقوله: "في أربعين شاة شاة"، فعم ولم يخص. وقوله: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" وهذا نفي عام عن كل مالك. فدليله أن الصدقة في خمس أواق فما فوقها في كل مالك، لأن حكم الإثبات في العموم هاهنا حكم النفي. وقد استدل أصحابنا بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم} ولم يخص الصغار من الكبار. واعترضوا على هذا بأن قالوا: إن هذه الكناية عائدة على البالغين، لأنه نسق على قوله: {وآخرون اعترفوا بذنوبهم} الآية فلا تتناول الصغار، وهذا لا معنى له، لأن الظاهر أنها كناية عن الأمة، وليس هاهنا ضرورة

توجب حملها على من ذكره، لأنه ليس هاهنا حرف عطف، ولا كلام الأول مفتقر إلى أن يتم بهذه الآيةن فكان الظاهر أنها كناية عن الأمة. فإن قيل: أقل الأحوال أن يكون محتمل. قيل له: ليس الأمر كذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خوطب بأمر أو نهب أو عبادات يلزمها غيره بلفظ كناية، فالظاهر عود تلك الكناية على الأمة، إلا ما يكون هناك ما يضطر إلى حمله على غير ذلك. ويدل ما قلناه: ما رواه الأعمش عن أبي وائل عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيع أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنة. وعموم هذا يشمل الصغير والكبير. ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم". فهذه الكناية عائدة على أمته، فعم ولم يخص صغير من غنى كبير. ويدل على ذلك ما رواه القاضي إسماعيل بن إسحق قال: حدثنا الحماني قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ولى يتيم فكان له مال فليتجر فيه لا تأكله الزكاة".

فهذا صريح أن الصدقة في مال اليتيم. قال الراوي: قد قيل: إن أصل الحديث إنما رواه عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن عمر، وغلط فيه من رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيقال له: هذا إن كان قد قيل فليس كل شيء قيل يجب أن يسمع ويعمل عليه إلا أن يبين قائله دلالة أو يأتي بحجة ولا يلزم تقليده وقبول قوله من غير دلالة على صدقه. ولأن كل زكاة لزمت الكبير في لازمة للصغير، اعتبار بزكاة الحرث والفطر. ولأنه ممن تلزمه زكاة الفطر في ماله، فوجب أن تلزمه زكاة عينه وماشيته. أصله: الكبير، ن أو نقول: لأنه مسلم حر تام الملك، فأشبه الكبير. وإذا ثبت فاستدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث" وذكر الصبي في ذلك غير صحيح، لأن رفع القلم عنه لا ينافي الحقوق التي تثبت في ماله، ألا ترى أنها لا ينافي أخذ إخراج العشر من زرعه، وإخراج صدقة الفطر، وغير ذلك مما يلزمه في ماله. فبان بهذا سقوط تعلقهم بالخبر. ويؤيد ما قلناه تسويته صلى الله عليه وسلم وبين النائم في رفع القلم، وذلك يفيد تساويهما في كل ما يوجبه، فإذا كان وصف النائم بذلك فيه سبب مما قالوه فكذلك وصف الصبي بذلكن وإنما فائدة رفع القلم سقوط خطابه بالتكليف، وإيجاب عبادات الأبدان التي يحتاج فيها إلى القصود. فأما

حقوق الأموال فلا تدخل في هذا. وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "إن أجابوك فأعلمهم أن عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم" حجة لنا، لأنه عم الأغنياء بأخذ الصدقة منهم، ولم يخص الكبار من الصغار. فإن قيل: فقوله: من أغنيائهم يعود على المخاطبين، فكأنه قال: تؤخذ من الأغنياء ممن يجيبك. قيل: هذا غير صحيح، وذلك أن الدعوة إذا توجهت إليهم وحصلت منهم الإجابة لزمت الإحكام بجميعهم، ألا ترى أن بإجابتهم يثبت لصبيانهم حكم الإسلام [ق/88]، فبان أن قوله: "من أغنيائهم" عائد على جميعهم لا يخص صغير منهم دون كبير. وقول أبي بكر رضي الله عنه: لا أفرق بين ما جمع الله: يريد أن الله أمر بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، فلا أدعهم وما راموه من أنهم يقيمون الصلاة ولا يؤتون الزكاة. ولم يعن به: أي: لا أوجب الزكاة إلا على من وجبت عليه الصلاة، فلا معنى للتعلق بذلك. ويقال لهم: إن كان في إيجاب الزكاة إلا على من وجبت عليه الصلاة تفرق بينهما فيجب أن يكون في إيجاب الصلاة على من لا زكاة عليه تفريق بينما. ويورد عليهم ما ألزمهم أصحابنا من إسقاط الزكاة عن الحائض،

لسقوط الصلاة عنها، وإسقاط الصلاة عن الفقير، لسقوط الزكاة عنه. وهذا لا فصل فيه. ويقال لهم: إذا أوجبتم الزكاة في حرثه، وألزمتم وليه إخراج صدقة الفطر من ماله فقد فرقتم بين الصلاة والزكاة، لأن أبا بكر رضي الله عنه لما قال: لا أفرق بين الصلاة والزكاة لم يكن مراده زكاة دون زكاة. فإذا كان هذا ليس تفريق فكذلك زكاة ماله وماشيته. وقولهم: لأنها عبادة محضة لا تلزم أحد عن غيره فأشبهت الصلاة: ينتقض بزكاة الحرث. على أن المعنى في الأصل أنه من عبادات الأبدان المفترقة إلى المقصود. وليس كذلك الزكاة، لأنها عبادة في المال دون البدن. واعتبارهم بالكافر باطل، لأن الكافر لا تلزمه فروع الشريعة مع إقامته على كفره، فلا يصح اعتبار المسلم به في إسقاط العبادات عنه. على أن الكافر لا تلزمه زكاة حرثه وفطره، فلذلك لم تلزمه فروع الشريعة مع إقامته على كفره، فلا يصح اعتبار المسلم به في إسقاط العبادات عنه. على أن الكافر لا تلزمه زكاة حرثه وفطره، فلذلك لم تلزمه زكاة ماله. وليس كذلك الصبي، لأنه ممن تلزمه صدقة الحرث والفطر في ماله، فكان بالبالغ أشبه. والمعنى في المكاتب أنه ليس بتام الملك، لأنه على الرق الجزية أحد شروط وجوب الزكاة. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: ولا زكاة على عبد، ولا على من فيه بقية رق في ذلك كله. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله: وهذا لأن الحرية من شروط الزكاة كالإسلام، بدلالة أن البد غير مستقر الملك، لأن لسيده أن ينتزع ماله إذا شاء ذلك، على ما سنذكره في مسألة ملك العبد. وإذا كان كذلك لم تجب الزكاة عليه، لأن الزكاة لا تجب إلا على تام لملكن لا على من ملكه مراعي غير مستقر. فأما من فيه بقية رق فحكمه حكم العبد، فلذلك لم تجب عليه الزكاة. وكذلك المكاتب لا زكاة عليه، خلافا لأبي ثور حيث قال: إن حكمه حكم الحر، لأنه كالعبد في الملك، بدلالة أنه لا تجوز له الهبة ولا التصرف فيه إلا بإذن سيده. وقد روى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في مال المكاتب زكاة حتى يعتق". ويشبه أن يكون صحيحا موقوفا. وروى القاضي إسماعيل بن إسحاق: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا

محمد بن بكر حدثنا ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: ليس في مال المكاتب زكاة، ولا العبد حتى يعتق. وروى مالك عن نافع أن ابن عمر قال: ليس على المكاتب، ولا على العبد زكاة في ماله. وروى القاضي إسماعيل حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن الحكم عن عبد الله بن نافع عن أبيه أنه سأل عمر رضي الله عنه فقال: أزكى وأنا مملوك؟ قال: لا. مسألة قال رحمه الله: "فإذا أعتق فليأتنف حولا من يومئذ بما يملك من ماله". قال القاضي: وهذا لأنه من ذلك الوقت تكاملت شروط وجوب الزكاة فيه، فوجب أن يستأنف الحول من ذلك الوقت. مسألة قال رحمه الله: "ولا زكاة على أحد في عبده، وخادمه، وفرسه، وداره، ولا ما يتخذ للقنية من الرباع والعروض".

قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله: وهذا ما لا خلاف فيه أعلمه أن العروض إذا لم يرد بها التجارة فلا زكاة فيها. والأصل في ذلك أن الزكاة إنما تجب في الأموال النامية، وهي العين والحرث والماشية. وهذه الأشياء قد سقط النماء فيها، وليس في أعيانها الزكاة، فلا زكاة فيها. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده، ولا فرسه صدقة". وقال: "ليس في الخيل والرقيق صدقة". مسألة قال رحمه الله: "ولا فيما يتخذ للباس من الحلي". قال القاضي رحمه الله: هذا قول أصحابنا كافة، وقول الشافعي وروى عن مر وعائشة وجابر رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة: فيه الزكاة. ورووه عن ابن مسعود وغيره. واستدلوا بقوله تعالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر". وقوله: في مائتي درهم خمسة دراهم. وكل هذه الظواهر تعم الحلي وغيره. وروى عطاء عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت يا رسول الله: أكنز هو؟ فقال: "ما بلغ أن تؤدي زكاته فزكى ليس بكنز". فأخبر أن ما لم تؤد زكاته [ق/89] فهو كنز. وروى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها، وفي يدي ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب. فقال لها: "أتعطين زكاة هذا؟ " قالت: لا. قال: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيمة بسوار من نار". وهذا نص فيما قلناه. وروى حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله أن زينب الثقفية امرأة عبد الله سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن لي طوقا فيه عشرون مثقالا

أفأؤدي زكاته؟ قال: "نعم، نصف مثقال" قالت: فإن حجري بني أخ لي يتامى أفأجعله فيهم؟ قال: "نعم". وروى محمد بن عمرو بن عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن عائشة قالت: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق. فقال: "ما هذا يا عائشة؟ " فقلت: صنعتهن أتزين لك يا رسول الله. قال: "أتؤين زكاتهن" قلت: لا. قال: "هو حسبك من النار". ولأنه نصاب من ذهب أو ورق، فأشبه الدراهم والدنانير. ولأنه مصوغ من ذهب. دليله: إذا كان للتجارة. والدلالة على صحة قولنا: أنه مال مقصود للاقتناء وترك التمني على وجه مباح، فوجب ألا تجب فيه الزكاة. أصله: عروض القنية. وأيضا فإن المعتبر في وجوب الزكاة هو النماء دون غيره، لأن الزكاة تجب بوجوده وتسقط بعدمه. ويبين ذلك أن الأموال على ضربين: منه ما تجب في عينه الزكاة كالذهب والفضة، وضرب آخر لا تجب في عينه الزكاة كالعروض. ثم اتفقنا على أن ما لا تجب في عينه الزكاة إذا قصد به التمني وطلب

الفضل وجبت الزكاة لطلب النماء به، فوجب أن يكون ما يجب في عينه الزكاة إذا عدل به عن طلب النماء على وجه مباح أن تسقط الزكاة فيه. ورأيت في بض كتب أصحابنا حديثا عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الحلي زكاة" ولم أره في شيء من كتب الحديث، والله أعلم. فإذا ثبت ما ذكرناه فالظواهر التي تلوها مخصوصة بما ذكرناه. وحديث أم سلمة يحتمل أن تكون لبسته لا للتجمل لكن للقنية والدخر. وكذلك حديث عائشة. ويحتمل أن يكون ذلك وقت كان النساء منهيات عن لبس الذهب. ويحتمل أن تكون اعتقدته كالعقدة، وتزينت له بها في بعض الأوقات. وكل هذه الأخبار قضايا في أعيان لا تحمل إلا وجها واحدا. وما رووه من حديث المرأة التي كانت في يد ابنتها مسكتان غليظتان من ذهب ففيه ما يدل على أن الحلي لم يكن للبس، وذلك أنه قيل فيه أنهما غليظتان، فكأنهما خرجتا عن حد ما يتخذ من الحلي إلى حد ما يتخذ من الأواني، لأن الغرض لم يكن للسرف والتزين به، لأنه لو كان هذا غرضا لاتخذته على نحو ما يتخذه الناس، فدل هذا أيضا على ما قلناه. وحديث زينب الثقفية فلم يذكر أكثر من أن لها طوقا فيه عشرون مثقالا، ولم يقل أنه للبس، ويحتمل أن تكون اتخذته للبس.

فإن قيل: فقد أطلق، ولم تستفصل. قيل له: يحتمل على الوجه الذي قلناه بالدليل. واعتبارهم بالدراهم والدنانير باطل، لأنها لم تنقل عن طلب النماء إلى التجمل والتزين. وليس كذلك حال اللبس، لأنه معدول به عن طلب التمني. وكذلك الجواب عن قياسهم على حلي التجارة. والله أعلم. فصل فأما حلي التجارة ففيه الزكاة سواء كان مدارا أو غير مدار، ولا أعلم خلافا في ذلك بين أحد من أهل العلم. فأما حلي الكراء: ففيه روايتان. إحداهما: أنه لا زكاة فيه. وهي رواية القاسم، وابن عبد الحكم. والأخرى: إن فيه الزكاة. ذكرها ابن الجلاب. والذي أعرفه أنه قول محمد بن مسلمة فوجه سقوط الزكاة فيه حبس عينه عن طلب النماء والزيادة، فأشبه حلي اللبس والنماء الحاصل عن إجارته لا اعتبار به إذا حبست عينه كالعبيد. وإذا كانوا للقنية ولهم علة فلا زكاة في أثمانهم. ووجه إيجاب الزكاة فيه وجوب النماء فيه، فأشبه حلي التجارة.

مسألة قال رحمه الله: "ومن ورث غرضا أو وهب له أو رفع من أرضه زرعا فزكاة فلا زكاة عليه في شيء من ذلك حتى يباع فيستقبل به حولا من يوم قبض ثمنه". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أما إذا ورث عرض أو وهب له فلا زكاة عليه إذا باعه، لأنه لم يحصل علينا في طرفي الحول، وقد قلنا فيما سلف أن الزكاة إنما تجب في أثمان العروض إذا كان أصلها عينا. وأما الزرع إذا زكاه فلا زكاة عليه إذا باعه حتى يستقبل بثمنه حولا، لأنه العروض الذي لم ينض طرفي الحول. ولأنه لما زكاه لم يزكه ثانية، لأنه يصير ثمنه فائدة. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "وفيما يخرج من المعدن من ذهب أو فضة الزكاة إذا بلغ وزنه عشرين دينارا أو خمس أواق فضة ففي ذلك ربع العشر يوم خروجه". وكذلك ما يخرج بعد ذلك متصلا به وإن قل فإن انقطع نيله بيده وابتدأ غيره لم يخرج شيئا حتى يبلغ ما فيه الزكاة.

وفي الركاز وهو دفن الجاهلية الخمس على من أصابه". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أعلم أن المعدن عندنا غير الركاز، لأن الركاز هو دفن الجاهلية، [ق/90] والمعدن هو الموضع الذي نبت فيه الذهب والفضة. والواجب في الركاز الخمس في قليله وكثيره. والواجب في المعدن الزكاة يعتبر فيه النصاب في ذهبه وفضته، وكذلك إذا أصيب بتكلف وعمل يلزمه فيه مؤنة وكلفة. أما ما أصيب بغير مؤنة ولا تكلف عمل ففيه الخمس. وفي الموضعين فلا اعتبار فيه بحول وإنما يخرج ذلك في وقته. وعند أبي حنيفة أن المعدن ركاز، وفيه الخمس. وسواء أخذ بتعب ومؤنة أو بغير ذلك. وحكمه وحكم دفن الجاهلية واحد، يصرفان مصرفا واحد. وللشافعي ثلاثة أقوال: المشهور منها أن الواجب في المعدن ربع العشر سواء أخذ بتعب ومؤنة أو بغير تعب ولا مؤنة. وهذا قول أحمد وإسحاق. والثاني: مثل قول أبي حنيفة. والثالث: مثل قولنا. فالكلام في هذه المسألة من وجوه:

أحدهما: أن المعدن ركاز أم لا؟ والموضع الآخر: هل فيه الخمس أم الزكاة؟ والموضع الآخر: الفرق بين ما يخرج بمؤنة وكلفة، وما يخرج بغير ذلك. والذي يدل على أنه ليس بركاز: ما رواه مالك عن الزهري عن سعيد، وأبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس". ففرق بين اسميهما، فدل ذل على بطلان قول من جعلهما واحد، لأن معناهما لو كان واحدا لم يفرق بينهما، ولكن يقول: وفيه الخمس. وأيضا فلأن الركاز مأخوذ من أركز الشيء إذا دفنه. والمعدن عروق أنبتها في الأرض، وليست بوضع آدمي، فوجب ألا تكون ركاز. والذي يدل على أنه فيه الزكاة دون الخمس قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرقة ربع العشر" فعم ولم يخص معدنا من غيره. وروى مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المعادن القبلية التي في ناحية الفرع، فتلك المعادن لا تؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم.

ورواه الدارقطني عن ربيعة عن الحارث بن بلال عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ من معادن القبلية الصدقة. ولأنه مستفاد من الأرض بكلف ومؤنة لم يملكه غيره، فوجب أن يكون الواجب فيه الزكاة، لا الخمس، كالزرع. وإنما قلنا: لم يملكه غيره، احترازا من الزكاة. ولأن الخمس إنما يجب فيما أخذ من أموال الكفار بالسيف على وجه الغنيمة، أو وجده فيئا، أو يوج بغير تعب ولا مشقة ولا تكلف مؤنة، فيجري مجرى ذلك. فأما المعدن فليس من هذا في شيء إلا أن يكون بدرة وما جرى مجراها. ولأنه خارج من المعدن بمؤنة وكلفة فوجب ألا خمس فيه كالزئبق وما أشبه. واستدلال لأبي حنيفة بما رواه عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن جده عن أبي هريرةقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الركاز الخمس". قالوا: يا رسول الله وما الركاز؟ قال: "الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت". وبما رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عما يؤخذ في الخرب العادي فقال صلى الله عليه وسلم: "وفي الركاز الخمس".

قالوا: ولأن العرب تقول: ركز المعدن إذا كثر ما فيه من الذهب والفضة. ودل ذلك على أن أصل الركاز هو المعدن. قالوا: ولأن الركاز اسم لما غيب في الأرض وأخفى فيها، ومنه قولهم: ركز رمحه في الأرض، ومنه قوله تعالى: {أو تسمع لهم ركزا} يعني: صوتا خفيا. فلما كان ذهب المعدن خفيا مغيبا في الأرض كان ركازا كما كان المدفون ركازا. واستدلوا بوجوب الخمس فيه بقول صلى الله عليه وسلم: "المعدن جبار، وفيه وفي الركاز الخمس". قالوا: ولأنه حق متعلق بالمال مقارن لاستفادته، فوجب أن يكون خمسا. أصله: خمس الفيء والغنيمة. قالوا: ولأنه ذهب خارج من المعدن، فوجب أن يخمس. فالجواب: أن الزيادة التي رووها في حديث عبد الله بن سعيد غير محفوظة من طريق يوثق به، وإنما المحفوظ: "وفي الركاز الخمس" فقط. على أنه لو صح لكان الجواب عنه أن يقال: إن السؤال إنما صدر عن معرفة حكم الركاز الذي يؤخذ منه الخمس فأجابهم بأنه الذهب والفضة

المخلوقات. ولم يكن السؤال عن ما الركاز، لأنهم كانوا يعرفونه. وعلى أنه مخصوص بما ذكرناه. وحديث عمرو بن شعيب المراد به أن فيما وجد في الخرب من دفن الجاهلية، وما وجد في العمران أيضا الخمس، وإن كان الكل ركاز. وما قالوه من أنه يقال: أركز المعدن إذا كثر ما فيه من الذهب والفضة فذلك مجاز واتساع وتشبيه بالركاز، لكثرة منفعته وما يؤخذ منه. يبين ذلك أنهم يقولون في التجارة [ق/91] قد أركزت إذا كثرت منفعتها وفائدتها. وقولهم: إن الركاز اسم لما خفي في الأرض وغيب فيها: فهو على ما قالوه في بعض ذلك دون بعض، وليس باسم لكل ما أخفى على الإطلاق. وأما استدلالهم على وجوب الخمس بقوله صلى الله عليه وسلم: وفيه "وفي الركاز الخمس" فمحمول على الندرة، لأن فيها الخمس عندنا. واعتبارهم بالفيء والغنيمة والركاز باطل، لأنه لم يملك على مشرك، فلم يجب أن يخمس. أو نقول: إن المعنى في الركاز قلة المؤنة فيه، وليس كذلك المعدن، لأن المؤنة التعب تلحق فيه ما لا يلحق في الركاز، وذلك مؤثر في تخفيف المأخوذ من المال كالعشر ونصف العشر. وكذلك الجواب عن قياسهم على الندرة. والله أعلم.

فصل فأما قوله: "إنه تجب الزكاة فيه إذا بلغ النصاب"، فلأن كل مال وجبت فيه الزكاة فلا بد من اعتبار النصاب فيه. أصله: سائر أصول الزكاة. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون مائتي درهم شيء". وسائر ما ذكرناه ما الظواهر. فصل فأما قوله: "إن الزكاة تجب يوم إخراجه من غير اعتبار بحول" فهو قولنا، وأحد قولي الشافعي. وله قول آخر أنه يعتبر فيه الحول، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة فيمال حتى يحول عليه الحول". ولأنها فائدة فوجب أن تزكى لحولها كسائر الفوائد. فالأصل في هذا أنه لما يعتبر الحول في الزرع فكذلك في زكاة المعدن. والمعنى في ذلك انه مال مستفاد من الأرض تجب فيه الزكاة، وهذا القياس يخص الظاهر الذي أوروده.

واعتبارهم بالفوائد ينتقض على أصلنا- بفائدة الماشية إذا كان عنده نصاب منها، وأفاد إليها دون النصاب فإنها لا تزكي لحولها، بل لحول الأولى. فإن قالوا: فوجب فيها حول كسائر الفوائد: ينتقض بالزرع. والله أعلم. فصل فأما قول: "إذا انقطع نيل معدنه، ثم حدث نيل آخر لم يبن الثاني على الأول في النصاب، بل يستأنف له حكم آخر". فلأن بناء أحدهما على الآخر مشروط باتصال خروجهما والعمل فيهما، فإذا انقطع أحدهما عن الآخر كان لكل واحد منهما حكم نفسه. ولا خلاف أن المدة إذا تطاولت بينما فلكل واحد منهما حكم نفسه، فكذلك إذا علم انقطاع اتصالهما. والله أعلم.

باب الجزية

باب الجزية قال رحمه الله: "وتؤخذ الجزية من رجال أهل الذمة الأحرار البالغين، ولا تؤخذ من نسائهم وصبيانهم وعبيدهم وتؤخذ من المجوس، ومن نصارى العرب". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: والأصل في الجزية قوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}. وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الجزية، وأصحابه بعده، ولا خلاف في ذلك. فأما قوله: "إنها تؤخذ من أحرارهم البالغين الرجال"، فلقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله} إلى قوله: {صاغرون}. فأوجب أخذ الجزية ممن يقاتل، وذلك في الرجال الأحرار، لأن النساء لا يقاتلون. وكذلك الصبيان والعبيد، ولأنهم مال فهم تبع لمالكهم- أعني: العبيد- وكذلك الصبيان لآبائهم ولا تؤخذ منهم جزية. وروى أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا

تجري الجزية إلا على من جرت عليه المواسي". وقال ابن عباس: ليس على النساء جزية وروى عبيد الله عن نافع عن أسلم قال: كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الجزية: لا تضعوا الجزية إلا على من جرت عليه الماسي، ولا تضعوا على النساء والصبيان. فصل فأما أخذ الجزية من المجوس فلما رواه مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عمر- رضوان الله عليه- ذكر المجوس فقال: لا أدري كيف أصنع في أمرهم. فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وروى سفيان عن عمر بن دينار عن بجالة قال: أتانا كتاب عمر قبل موته بسنة أن فرقوا بين كل رحم محرم من المجوس، ولم يكن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر. وروى هشيم عن داود بن أبي هند عن بشير بن عمرو عن بجالة بن عبده عن ابن عباس قال: جاء رجل من الأسبذيين من أهل البحرين- وهم

مجوس أهل هجر- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكث عنده، ثم خرج فسأله ما قضاء الله ورسوله فيكم؟ قال: شر. فقلت: مه. قال: الإسلام أو القتل. قال: وقال عبد الرحمن بن عوف: قبل الجزية منهم. قال ابن عباس: فأخذ الناس بقول عبد الرحمن، وتركوا ما سمعت أنا من الأسبذي. وروى عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري عن سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وأن عمر أخذها [ق/92] من مجوس السواد، وأن عثمان أخذها من البربر. وروى عن حذيفة أنه قال: لولا أني رأيت أصحابي أخذوا الجزية من المجوس ما أخذتها منهم. ولا خلاف في ذلك. فصل وإنما الخلاف في أنهم أهل كتاب أم لا، فعندنا إنهم ليسوا بأهل كتاب، ولا كانوا أهل كتاب. وللشافعي قولان:

أحدهما: أنهم أهل كتاب، ولكن رفع كتابهم. والآخر: أنهم ليسوا أهل كتاب. واستدل أصحابه على أنهم أهل كتاب بقول عمر بن الخطاب: ما أدري ما أصنع في أمر المجوس. فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". فلولا أنهم أهل كتاب، وإلا لم يقل: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". وروى عن علي رضوان الله عليه أنه قال: أنا أعرف الناس بأمر المجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، ثم إن ملكهم وقع على أخته أو ابنته فرآه بعض أهله. فلما أضحى اجتمع أهله ليقيموا الحد عليه فامتنع، وقال: لا أعرف دين خير من دين آدم، إنه زوج بناته من بنيه وأنا لا أرغب بكم عن دينه. ثم أمر أهله فقاتلوا القوم، فأسرى بكتابهم، ورفع من بين أظهرهم، ومحى العلم من صدورهم. ولأنها طائفة تقر على دينها بأخذ الجزية، فوجب أن تكون من أهل الكتاب، اعتبار باليهود والنصارى أو نقول: فوجب أن تحل مناكحم وذبائحهم كاليهود. والدلالة على ما قلناه قوله تعالى: {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا}.

والطائفتان هم اليهود النصارى. ولو كان المجوس أهل كتاب لكانوا ثلاث طوائف. وقوله صلى الله عليه وسلم: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فدل ذلك على أنه لا كتاب لهم. فإن قيل: لولا أنهم أهل كتاب لم يقل: سنوا بهم سنة أهل الكتاب. قيل له: هذا بالعكس من الواجب لولا أنهم ليسوا بأهل كتاب لم يقل: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، لأن هذه العبارة تفيد أنهم من أجروا مجراه. فإن قيل: فائدة ذلك أن بلدانهم كانت بائنة عن بلدان العرب، ولم تكن العرب تعرف أن لهم كتاب، فلذلك قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" أي: الذي تعلمون أن لهم كتاب. قيل له: العبارة عن هذا المعنى أن يقول: سنوا بهم سنة غيرهم من أهل الكتاب، أو أمثالهم. وجملة الأمر أن هذا خلاف الظاهر، فلا سبيل إلى حمل اللفظ عليه إلا بدليل. وقد استدل في ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كتاب إلى ملوك الكفر، فكتب إلى ملوك قيصر: بسم الله الرحمن الرحيم {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} الآية. ولم يكتب بذلك إلى كسرى، فدل على أن المجوس لا كتاب لهم.

وأيضاً ما روي أن أبا بكر والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفرحون لغلبة الروم لفارس، والمشركون يغتمون لذلك، ويحبون أن تغلب فارس الروم. ولم يكن ذلك إلا لأن الروم أهل كتاب وأن المجوس لا كتاب لهم. وروى عن حذيفة أنه قال: لولا أن أصحابي أخذوا الجزية من المجوس لم آخذها منهم، لأنهم ليسوا من أهل الكتاب، وإنما أمر الله أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} الآية. وإن احتجاجهم بالخبر فقد أجبنا عنه. وما رووه عن علي فطريقه ضعيف، على أ، بإزائه غيره من الصحابة. على أن حكم كتابهم قد بطل برفعه، فخرجوا على أن يكونوا أهل كتاب. وقياسهم ينتقض- على أصلنا- بعبدة الأوثان. ولو سلم لكان المعنى في الأصل بقاء الكتاب، وليس كذلك المجوس، لأن كتابهم رفع عند من يزعم أنم من أهل الكتاب. والله أعلم.

فصل وقوله: تؤخذ الجزية من نصارى العرب، فلعموم الآية. ولأنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من نصارى نجران، ولأنهم لا فرق بينهم وبين نصارى الروم، لاجتماعهم في التدين بالنصرانية من غير تحرم بالإسلام. فصل ويجوز عندنا أخذ الجزية من كل مشرك غير مرتد، ولا من هو في حكم المرتد من اهل الكتاب وعبدة الأوثان وغيرهم. وقال الشافعي- رحمه الله- لا يجوز أخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو من له شبهة، لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين}، فعم. ولأنه قياس على مشركي قريش. ولقوله تعالى: {من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية}، فدل على أن ما عدا أهل الكتاب بخلافهم. ودليلنا أن نقول: لأنه كافر غير مرتد، فأشبه الكتابي. ولقوله صلى الله عليه وسلم في المجوس: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب"، فنبه بذلك أن أخذ الجزية غير مقصور على أهل الكتاب. فأما الظواهر فمخصوصة، ولا يسلم لهم بالأصل الذي قاسوا عليه. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "والجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، وأربعون درهما على أهل الورق. ويخفف عن الفقير". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: وهذا لأن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فرضها هذا المقدار على أهل الذمة بمحضر من الصحابة، ولم يحتفظ نكير عليه من أحد [ق/93] منهم، فلذلك قدره بهذا القدر. فإن كان فيهم من يضعف عنه خفف عنهم منه، لأنه على الاجتهاد. وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر معاذ أن يأخذ من كل حالم دينارا فيحتمل أن يكون من كان هناك لا يتمكن إلا من ذلك فقط. مسألة قال رحمه الله: "وتؤخذ ممن تجر منم من أفق إلى أفق عشر ثمن ما يبيعونه، وإن اختلفوا في السنة مرارا". قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: أما إيجابه أخذ العشر منهم فلما رواه عطاء بن السائب عن جرير عن عبد الله عن جده أبي أمه عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما العشر على اليهود

والنصارى، وليس على المسلمين عشور". وروى مالك عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد قال: كنت عاملا مع عبد الله بن عتبة بن مسعود على سوق المدينة في زمان عمر بن الخطاب، وكنا نأخذ من النبط العشر. قال مالك: سألت ابن شهاب على أي وجه أخذ عمر بن الخطاب من النبط العشر؟ فقال: كان ذلك يؤخذ منهم فني الجاهلية، فألزمهم ذلك عمر بن الخطاب. وقوله: إنه يؤخذ منهم وإن اختلفوا مرارا في السنة: فالمخالف فيه أهل العراق والشافعي، لأنهم يقولون: إنه لا يؤخذ منهم إلا مرة واحدة في السنة، اعتبارا بالجزية، وهذا خطأ، لأن المعنى في أخذ العشر لو لبسطهم في بلاد الإسلام، وانتفاعهم بالتجارات، وحفظ الطرق لهم، فوجب أن يكون على حسب اختلافه في السنة. ويفارق الجزية، لأنها مقدرة بحقن دمه، لأن ما من أجله أخذت مقدر معروف، فلذلك يقدر وقت أخذها. وقد روى عن عمر- رضوان الله عليه- ما ظاهره يدل أنه يؤخذ مرة

واحدة. وفي الحديث ما ينبئ عن غيره، وهو أنه كان يؤخذ منهم العشر عند إقبالهم، ويثنى عليهم عند رجوعهم فمنعهم عمر- رضوان الله عليه- من ذلك فهذا وجهه. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "وإن حملوا الطعام خاصة إلى مكة والمدينة خاصة أخذ منهم نصف العشر من ثمنه". قال القاضي رحمه الله: هذا لما رواه مالك عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه أن عمر- رضي الله عنه- كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة، ويأخذ من القطنية العشر. وقد بين في الحديث المعنى في ذلك، وهو إرادة كثرة الحمل عليهم، لضيق شيء عنهم. والله أعلم.

قال رحمه الله: "ويؤخذ من تجار الحربين العشر، إلا أن ينزلوا على أكثر من ذلك". قال القاضي رحمه الله: هذا لأن المعنى الذي له أخذت من أهل الذمة موجود في تجار أهل الحرب، بل هم أولى به، وعموم الخبر ينتظمهم، فلذلك أخذ منهم. فإن بدلوا أكثر منه جاز أخذه. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "وفي الركاز- هو دفن الجاهلية- الخمس على من أصابه". قال القاضي رحمه الله: وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: "المعدن جبار، في الركاز الخمس". فأوجب أن يؤخذ منه الخمس، وأخبر أنه غير المعدن، لأنه لو كان هو المعدن لكان مكررا للكلام من غير فائدة. وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم، فأغنى عن إعادته. وبالله التوفيق.

باب في زكاة الماشية

باب في زكاة الماشية مسألة قال القاضي أبو محمد- رحمه الله: قد دللنا على وجوب الزكاة في الجملة بظواهر من الكتاب والسنة وما ذكرناه من إجماع الأمة، والكلام على تفصيل ذلك يأتي في أعيان المسائل، ووجوب الزكاة في الماشية داخل فيما قدمناه. ومن الدليل على ذلك أيضا: ما رواه ابن جريح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كانت له إبل أو بقر أو غنم لم يؤد زكاتها بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها على ما نفذت أخراها عادت عليه أولادها". قال أبو عبيد: قال الأصمعي: القاع: المكان المستوي ليس فيه ارتفاع، ولا انخفاض. قال أبو عبيدة: وهو القيمة أيضا، قال الله عز وجل: {كسراب بقيعة}، القيعة جمع قاع، القرقر: المستوى. أيضا قال عبيد بن الأبرص يصف الإبل:

هذلا مشافرها بما حناجرها ... تزجي مرابعها في قرقر ضاحي فالقرقر: المكان المستوي. والضاحي: الظاهر البارز للشمس. وقد روى في بعض الحديث: "بقاع قرقر" وهو مثل القرقر في المعنى. مسألة قال رحمه الله: "ولا زكاة في الإبل في أقل من خمس ذود، وهي خمس من الإبل: ففيها جذعة أو ثنية من جل غنم أهل ذلك البلد من ضأن أو معز إلى تسعة. ثم في العشرة: شاتان إلى أربعة عشر. ثم في خمس عشرة: ثلاث شياه إلى تسع عشرة. فإذا كانت عشرين: فأربع شياه إلى أربع وعشرين. ثم في خمس وعشرين بنت مخاص- وهي بنت سنتين، فإن لم تكن فيها فابن لبون ذكر- إلى خمس وثلاثين. ثم في ستة وثلاثين بنت لبون- وهي بنت ثلاثين سنين- إلى خمس وأربعين. ثم في ست وأربعين حقة- وهي [ق/94] التي يصلح على ظهره الحمل، ويطرقها الفحل، وهي بنت أربع سنين- إلى ستين. ثم في إحدى وستين جذعة- وهي بنت خمس سنين- إلى خمس

وسبعين. ثم في ست وسبعين ابنتا لبون، إلى تسعين. ثم في إحدى وتسعين حقتان، إلى عشرين ومائة. فما زاد على ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون". فقال القاضي أبو محمد بن علي- رحمه الله: أما نفيه الصدقة عما دون الخمس من الإبل فلما رواه مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة". وروى مالك عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة المازني عن أبي سعيد الخدري أن رسولا لله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة، وليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة". ولا خلاف في ذلك. وأما إيجاب الصدقة فيها على الترتيب الذي ذكره، فلتواتر الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فروى يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن، فذكر إلى أن قال:

"وفي كل خمس من الإبل سائمة شاة إلى أن تبلغ أربعا وعشرين، فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيها بنت مخاض، فإن لم توجد بنت مخاض فابن لبون ذكر، إلى أن تبلغ خمسا وثلاثون، فإذا زادت على خمس وثلاثين واحدة ففيها بنت لبون، إلى أن تبلغ خمسا وأربعين، فإذا زادت على خمس وأربعين واحدة ففيها حقة طروقة الفحل، إلى أن تبلغ ستين، فإذا زادت على الستين واحدة ففيها جذعة، إلى أن تبلغ خمسا وسبعين، فإذا زادت خمس وسبعين واحدة ففيها بنتا لبون، إلى أن تبلغ تسعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقتان طروقتا الفحل، إلى أن تبلغ مائة وعشرين، فما زاد ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة طروقة الفحل". ورواه ابن وهب عن أبي لهيعة عن عمارة بن عونة عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم أن هذا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر نحوا من لفظ الحديث الأول. وروى حماد بن سلمة قال: أخذت من ثمامة بن عبد الله بن أنس كتابا زعم أن أبا بكر كتبه لأنس، وعليه خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه مصدقا، وكتبه له فإذا فيه: "هذه فريضة الصدقة". وقد روى مسندا متصل السند من غير طريق حماد: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى المالكي قال: حدثنا القاضي أبو عبد الله الحسين ابن إسماعيل الباهلي قال: حدثنا يوسف بن موسى قال: حدثنا محمد بن

عبد الله بن المثنى الأنصاري قال: حدثنا أبي عبد الله بن المثنى قال: حدثنا ثمامة أن أنسا حدثه أن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرض الله على المسلمين التي أمر الله عز وجل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل فوقها فلا يعطها: في أربعة وعشرين من الإبل فما دونها الغنم، في كل خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم تكن فيها بنت مخاض أنثى فابن لبون وليس معه شيء. فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون. فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة طروقة الفحل. فإذا بلغت واحدا وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة. فإذا بلغت ستة وسعين إلى تسعين ففيها بنتا لبون. فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الفحل. فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة ... " وذكر باقي الحديث. وروى الزهري عن سالم عن أبيه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض فقرنه بسيفه فعمل به أبو بكر- رضي الله عنه- حتى قبض، ثم عمل به عمر- رضي الله عنه- حتى قبض، وكان فيه: من خمس من الإبل شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها بنت لبون إلى

خمس وأربعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقة إلى ستين، فإذا زادت واحدة ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا زادت واحدة ففيها ابنتا لبون إلى تسعين، فإذا زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإن كان الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون. وقد رويت على هذا الترتيب أخبار كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية. ولا خلاف أنه لا شء فيما دون الخمس من الإبل وإن كان في الخمس شاة وفي العشر شاتين، وفي الخمس عشرة ثلاث شياه، وفي العشرين أربع شياه. والدلالة [ق/95] عليه ما قدمناه من الأخبار. فصل وفي خمس وعشرين بنت مخاض، وهو قول الفقهاء كافة، وحكى عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- أنه كان يقول: في خمس وعشرين خمس شياه. وذكر أهل الخلاف أنه قول الشعبي وشريك، فروى أبو بكر بن الجهم قال: حدثنا بشير بن موسى قال: حدثنا أبو نعيم عن سفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال: في كل خمس وعشري خمس شياه.

قال: وحدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا أبي قال أبو نعيم بهذا الحديث، ثم قال فيه قال سفيان: كان علي أفقه من أن يقول هذا. قال لي موسى: أتراه اتهم أبا أسحاق؟ ما وقعت التهمة إلا على عاصم. واستدل لهذا القول بحديث روى بهذا الإسناد عن علي عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال: "خمس وعشرين من الإبل خمس شياه". ولأن الخمس التي فوق العشرين نصاب وقصه أربع، فوجب أن يكون فرضه شاة. أصله: الخمسات التي قبل العشرين، وإن شئت قلت: كل فرض يتغير بخمس من الإبل، فالواجب فيها شاة اعتبار بما دون العشرين. ودليلنا: ما رويناه من حديث عمرو بن حزم، وابن عمر، وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيها: في خمس وعشرين بنت مخاض. فدل ذل على ضعف ما رووه. على أنه مقابل بالأخبار التي رويناها، ونرجحها بأنه لم يختلف على رواتهان وبعلم الأئمة والخلفاء وكافة أهل العلم، وبشهادة الأصول أيضا لها، وذلك أنهم ليس في أصول صدقة الماشية اتصال فرضين من غير

وقص يتخللهما، فإيجاب هذا خلاف الأصول. وإذا جعلنا في خمس وعشرين خمس شياه، وفي ستة وعشرين بنت مخاض فقد أوجبنا خلاف الأصول. فاما قياسهم على الخمس قبل العشرين فالمعنى فيه أنه يليه نصاب هو خمس، فلذلك كان فيه شاة، وليس كذلك الخمس الزائدة على العشرين. والله أعلم. فأما قوله: إن الشاة التي تؤخذ في الإبل من غالب أغنام أهل ذلك البلد، فلأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أطلق ولم يعين فقال: "في خمس من الإبل شاة" لم تكن الشاة مأخوذة من مال له موجود وجبت فيه معتبر به وجب أن يرجع فيها إلى غالب أغنام أهل ذلك البلد، لأنه ليس إلا هذا. وتكليفه الأعلى فيكون في ذلك إضرار به، فكان العدل ما قلناه. إذا ثبت أن في خمس وعشرين بنت مخاض فإن وجدها الساعي في إبله أخذها، فإن لم توجد في إبله فابن لبون ذكر. وإنما قلنا ذلك لما رويناه في حديث عمرو بن حزم، وأنس وابن عمر أن في خمس وعشرين بنت مخاض، فإن لم توجد فابن لبون ذكر. فأما وجه قيام ابن لبون مقام بنت مخاض من وجهة المعنى فقد قيل فيه: إن ابن لبون فيه شرف من وجه ونقص من وجه، كما أن في بنت مخاض شرفا من وج ونقصا من وجه، فشرفها الأنوثية، ونقصها قصورها أن ترعى من الإبل أو ترد الماء لصغرها. وأما فضيلة ابن لبون فتكمنه من ورود الماء مع الإبل، لأنه أكبر سناً من

بنت مخاض، ونقصه كونه ذكرا. فكان في النظر والعدل جعله بدلا منها. فصل إذا وجد في مال رب المال بنت مخاض لم يكن للساعي أخذ ابن لبون ولا غيرهن وبه قال الشافعي. وقال ابن حنيفة: يجزئه إخراج ابن لبون مع وجود بنت مخاض إذا تساوت قيمتها. وبناه على أصله في جواز اخذ ابن لبون موقوفا على عدم بنت مخاض لوجب اعتبار عدمها من ملكه وعدم ما يشتريها به، واعتبارا بسائر الأبدال لما اعتبر في جوازها عدم الأصل اعتبر أيضا عدم القدرة على شرائه، ألا ترى أن القادر على شراء رقبة في الكفارة كالمالك لها، وكذلك القادر على ابتياع ماء في الطهارة كالمالك له. وفي اتفاقنا على جواز أخذ ابن لبون مع القدرة على شراء بنت مخاض دلالة على أن جواز أخذه غير موقوف على عدمها. قالوا: ولأن ابن لبون لما كان فرضا ينوب مناب فرض مقدر في الصدقات لم يقف جواز أحدهما على عدم الآخر. دليله: المائتان من الإبل إذا اجتمع فيه الفرضان. قالوا: ولانه لما تعتبر القدرة على بنت مخاض لم يعتبر وجودها في ملكه، اعتبارا بسائر أنواع الحيوان.

والدلالة على ما قلنا ما رويناه من حديث عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن. وفي الحديث: "فإذا زادت واحدة على أربع وعشرين ففيها بنت مخاض، فإذا لم توجد بنت مخاض فابن لبون ذكر". وفي حديث أبي بكر الذي كتبه لأنس: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكر إلى أن [ق/96] قال: فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر. وكذلك في حديث ابن شهاب في الكتاب الذي استنسخه عمر بن عبد العزيز. والاستدلال بهذه الأخبار من وجهين: أحدهما: أنه أوجب في خمس وعشرين بنت مخاض، فهي واجبة سواء أخرج ابن لبون أم لا. وإذا صح أن وجوبها باق ثبت أن ابن لبون لا يجزئ إخراجه مع وجودها. والوجه الآخر: أنه شرط في إخراج ابن لبون عدم بنت مخاض في المال، فقال: "فإن لم توجد فابن لبون"، وهذا لفظ الشرط بلا خلاف. وإذا ثبت ذلك وجب إذا أخرجه مع جودها ألا يجزئه، لعدم الشرط الذي جوز إخراجه معه. وأيضا فلأن كل حق تعلق بمال ونقل منه إلى غيره بشرط عدم المنقول عنه فلا يجوز الانتقال إليه مع وجود أصله، اعتباراً بالكفارات.

فأما قولهم: لو كان عدمها شرطا لكان عدم ثمنها شرطا: فدعوى عارية عن حجة، على أن يبطل على أصلهم بالقادر على أن يتزوج حرة، لأن له عندهم أن يتزوج أمه وإن كان قادرا على الحرة، وليس له ذلك إذا كانت الحرة تحته. فقد فرقوا بين وجود العين وبين القدرة عليها. على أن الفرق بين الزكاة والكفارة تتعلق بالذمم دون الأعيان، والزكاة تتعلق بعين المال دون الذمة، فاعتبر وجود المبدل في المال دون غيره. وأيضا فإن عدم القدرة إنما يشترط في موضع تمكن، فأما إذا لم يمكن فلا يصح. ومن معه خمس وعشرون من الإبل فمعلوم أنه قادر على شراء بنت مخاض، فلا يجوز أن يقال: إنه لو كان عدمها شرطا لكان عدم القدرة عليها شرطا، لأن عدم القدرة هاهنا لا يصح، ويبين ذلك أنه لو صرح فقال: من كان عنده خمس وعشرين، وليس معه بنت مخاض، ولا يمكنه شراؤها فليخرج ابن لبون لكان ذلك مناقضة، فبان بذلك أن ما اعتبروه لا يصح في هذا الموضع. فأما بناؤهم ذلك على جواز أخذ القيم في الزكاة فإنا نخالفهم فيه، ونحن نتكلم عليه في موضعه إن شاء الله. فأما اعتبارهم بالمائتين إذا اجتمع فيها الفرضان: فباطل، لأن الواجب فيها أخذ السنين على التخيير، فليس كذلك في مسألتنا، لأن الواجب فيها على طريق للبدل والترتيب دون التخيير. واعتبارهم بسائر الحيوان باطل، لأنه لا مدخل له في ذكل، لا بوجوب ولا بغيره. والله أعلم

فصل فأما قوله: "في ست وثلاثين بنت لبون إلى خمس وأربعين، فإذا كانت ستا وأربعين ففيها حقة إلى ستين، فإذا كانت إحدى وستين ففيها جذعة إلى خمس وسبعين، فإذا كانت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى تسعين، فإذا كانت إحدى وتسعين ففيهما حقتان إلى عشرين ومائة". فلا خلاف فيه بين أهل العلم أنه على هذا الترتيب. ويدل عليه أيضا الأخبار التي رويناها، وهي واردة على هذا السياق والنظام. فصل وقوله: "وما زاد على ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون". فالخلاف فيه من وجوه: فأما أبو حنيفة فإنه يقول: يستأنف الفريضة على ما كانت عليه في الابتداء، فيكون في مائة وعشرين حقتان، وفي ثلاثين ومائة حقتان وشاتان، وفي خمس وثلاثين ومائة حقتان وثلاث شياه، وفي أربعين ومائة حقتان وأربع شياه، وفي خمس وأربعين ومائة حقتان وبنت مخاض، وفي خمسين ومائة ثلاث حقاق، وفي خمس وخمسين ومائة ثلاث حقاق وشاة على هذا الترتيب، وليس في ذلك بنت لبون إلا ما يجئ في الفريضة على حسب الابتداء.

وعلى مذهب مخالفنا لا تتكرر بنت لبون قبل المائة وخمسين وتتكرر بعد ذلك. وحكى عن حماد بن سليمان، والحكم بن عتبة أن في مائة وخمس وعشرين حقتين وبنت مخاض. وذهب ابن جرير إلى أن الساعي بالخيار إن شاء أخذ حقتين، وإن شاء أخذ حقتين وشاة. وعندنا وعندن الشافعي وأهل الظاهر أنه يؤخذ منها على حساب كل خمسين حقة، وكل أربعين بنت لبون على اختلاف بيننا في كمية الزيادة على المائة والعشرين سنذكره فيما بعد. واستدل أهل العراق بما رواه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن جده عن عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في كتاب الصدقات: فإذا كانت الإبل مائة وعشرين ففيها حقتان، فإذا كان أكثر من ذلك فاعدد في كل خمسين حقة. وما كان أقل من خمس وعشرين ففي كل خمس شاة. فلا يخلو أن يكون أراد أن ذلك حكم الابتداء أو حكم الزيادة على مائة وعشرين، ولا يجو أن يكون أراد به الابتداء؛ فإنه تقدم ذكره مفسرا حمل ما بعد ذلك عليه يسقط فائدته. ولأن من حق الكلام أن يرجع إلى ما يليه، ولا يحمل على ما تقدمه إلا بدليل. وإذا بطل هذا صح أنه أراد به ما زاد على المائة والعشرين [ق/97]

قالوا: وروى الحصيب بن ناصح عن حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن أبي بكر بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب لجده عمرو بن حزم ذكر فرائض الإبل، وفيه: فإذا كانت الإبل أكثر من عشرين ومائة ففي كل خمسين حقة فما فضل فإنه يعاد إلى أول فريضة الإبل، فما كان أقل من خمس وعشرين ففيه الغنم؛ في كل خمس ذود شاة. قالوا: وروى زهير وشريك عن أبي إسحاق عن عاصم بن حمزة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا زادت الإبل على عشرين ومائة استؤنفت الفريضة". قالوا: ولأنه سن يتكرر قبل المائة؛ فوجب أن يتكرر بعد المائة. أصله: الحقاق، وبنات اللبون. قالوا: ولأنكم إذا قلتم أن في المائة وأحد وعشرين حقتين وثلاث بنات لبون فلستم تنفكون من مخالفة الخبر الذي رويتموه ومن مخالفة الزكاة؛ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في كل أربعين بنت لبون. وعلى قولكم في كل أربعين ثلاث، وهذا خلاف الخبر. وإن أوجبتم بنات اللبون في المائة والعشرين دون الواحدة الزائدة خالفتم أصول الزكاة؛ لأن أصول الزكاة مبينة على أن كل ما تغير به الفرض فإنه الفرض متعلق به ومأخوذ منه؛ يدل على ذلك الخامسة والعشرون، والسادسة والثلاثون وغير ذلك. قالوا: وروى ما قلناه عن عمر، وعلين وابن مسعود ولا مخالف لهم.

والدلالة على صحة قولنا: ما رواه الزهري عن أبي بكر عن عبد الله بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض، فذكر إلى أن قال: "فإذا زادت واحدة- يعني: على تسعين- ففيها حقتان طروقتا الفحل إلى أن تبلغ عشرين ومائة، فما زاد ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة طروقه الفحل". وما رويناه من حديث أنس بن مالك أن أبا بكر كتب له حين بعثه مصدقا بكتاب فيه: هذا فريضة الصدقة التي فرضها الله على عباده، وفيه: فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. وما رواه الزهري عن سالم عن أبيه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة، فذكر إلى أن قال: "فإذا زادت واحدة ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، وإن كان الإبل أكثر من ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون". ووجه الاستدلال من هذه الأخبار هو أنه لا يخلو أن يكون أراد في كل أربعين وكل خمسين تزيد على المائة والعشرين دون المائة دون المائة والعشرين فهذا يوجب أن يكون في مائة وستين حقتان وبنت لبون، وفي مائة وسبعين ثلاث حقاق. وهذا فرق الإجماع. أو أن يكون أراد في الجميع في الزيادة والمزيد على معنى بحساب أن في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. فهذا نص قولنا، وخلاف قول أبي حنيفة، لأن أبا حنيفة يقول: في

مائة وثلاثين حقتان وشاتان، والأخبار التي رويناها توجب أن فيها حقة وابنتا لبون، فما قالوا خلاف الخبر. ويدل على ما قلناه ما رواه أبو داود قال: حدثنا محمد بن العلاء أخبرنا ابن المبارك عن يونس عن يزيد عن ابن شهاب قال: هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتبه في الصدقة وهي عند آل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه. قال ابن شهاب: أقرأنيها سالم بن عبد الله فوعيتها على وجهها، وهي التي انتسخ عمر بن عبد العزيز عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وسالم بن عبد الله بن عمر. فذكر الحديث وقال: فإذا كانت أحد وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون حتى تبلغ تسعا وعشرين ومائة، فإذا كانت أربعين ومائة ففيها حقتان وبنت لبون حتى تبلغ تسعا وأربعين ومائة، فإذا كانت خمسين ومائة ففيها ثلاث حقاق إلى ستين ومائة ففيها أربع بنات لبون، فإذا كانت سبعين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون وحقة حتى تبلغ تسعا وسبعين ومائة، فإذا كانت ثمانين ومائة ففيها حقتان وبنتا لبون حتى تبلغ تسعا وثمانين ومائة، فإذا كانت تسعين ومائة ففيها ثلاث حقاق وبنت لبون حتى تبلغ تسعا وتسعين ومائة، فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون. أي السنين وجدت أخذت. وأيضا ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام حدثنا يزيد بن هارون أخبرنا حبيب بن أبي حبيب حدثنا عمرو بن حرام قال: حدثنا محمد بن عبد

الرحمن الأنصاري قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز أرسل إلى المدينة يلتمس كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات، وكتاب عمر بن الخطاب، فوجد عند آل عمرو بن حزم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد عند آل عمر بن الخطاب كتاب عمر مثل كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات فنسخا له. قال محمد بن عمرو بن هريم أنه طلب آل محمد بن بد الرحمن أن ينسخه ما في ذانيك الكتابين [ق/98] نسخ له ما في هذا الكتاب من صدقة الإبل والبقر والغنم والذهب والورق والتمر أو الثمر والحب والزبيب: إن الإبل ليس فيها شيء حتى تبلغ خمسا، فإذا بلغت خمسا ففيها شاة حتى تبلغ تسعا، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى أن تبلغ أربع عشرة، فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى أن تبلغ تسع عشرة فإذا زادت واحدة ففيها أربع إلى أن تبلغ أربع وعشرين ... فذكر إلى أن قال: فإذا بلغت الإبل عشرين ومائة فليس فيما زاد فيها دون العشرة شيء، فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقه ... وذكر الحديث. وهذان الخبران نصان في موضع الخلاف من عدة وجوه. على أنه لو اقتصر في الاستدلال على موضع الخلاف كفى. وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين وجهه إلى اليمن: "خذ الإبل من الإبل، والبقر من البقر، والشاة من الغنم". وهذا يدل على أنه لا يؤخذ من الإبل إلا منها، إلا أن يقوم دليل. وأما من جهة الاعتبار فهم أنا وجدنا ما قبل المائة والعشرين من النصب أقرب إلى النصب التي تجب فيها الغنم مما دون المائة والعشرين، فلما لم تعد الشاة فيما قبل المائة مع كونها أقرب كانت بأن لا تعود فيما يعدها أولى.

وأيضاً فإن أصول الزكاة مبنية على أن المأخوذ من الشيء من جنسه لا من غير جنسه، ألا ترى أن الواجب في الغنم والبقر والذهب والورق من جنسها لا من غيرها. وإذا صح ذلك ثم وجدنا الإبل تؤخذ في أوائلها من غير جنسها- وهو الغنم- اعتبرنا المعنى في ذلك فإذا أنه من أجل الضرورة، وهو أن الخمس من الإبل مال قليل لا يحتمل المواساة منه، وكذلك العشرة والعشرون لا يحتمل أنه يؤخذ منها الخمس أو العشر. ثم إذا كثرت الإبل واحتملت أن يؤخذ منها أخذ منها، وزال هذا المعنى. وإذا ثبت ما قلناه، وكان ما زاد عن المائة والعشرين من الكثرة حيث يحتمل المواساة منه، وأن يخرج من جنسه، وجب أن يؤخذ منه ولا يعود إليه شيء من غير جنسه، لزوال المعنى الموجب لذلك. وأيضا فإن المأخوذ من جنس الشيء آكد حكما من المأخوذ من غير جنسه، لأن الأخذ من الجنس هو الأصل، والأخذ من غيره إنما يكون لمعنى بعرض من ضرورة أو غيرها. وإذا ثبت ذلك ثم وجدنا الجذعة لا تعود بعد المائة والعشرين وهي من جنس الإبل كانت الغنم التي ليست من الجنس بأن لا تعود أولى. وأيضا فإنا نعلل على رواية ابن القاسم، وابن عبد الحكم وهو أن الفرض يتغير بزيادة الواحدة على المائة والعشرين فنقول: لأن ما زاد على أحد وتسعين إلى مائة وعشرين وقص حد في الشرع بحد في جنس يتغير الفرض فيه بزيادة السن والعدد، فوجب أن يتغير الفرض في بزيادة الواحد عليه، اعتبارا بسائر الأوقاص، ألا ترى أن الوقص الزائد على العشرين أربع لم يتغير الفرض بزيادة الخامسة فتكون فيها بنت مخاض إلى خمس

وثلاثين، ثم يتغير الفرض بزيادة واحدة إلى بنت لبون، وكذلك سائر الأوقاص بعده. فإن قيل: لسنا نسلم أن وقص الحقتين محدود في الشرع. قيل له: الذي يدل على أنه محدود قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كانت أحد وتسعين ففيها حقتان إلى عشرين ومائة" فجعل المائة والعشرين حدا له، فبطل ما قالوه. فأن قيل: ينتقض بأوقاص الغنم، لأن في المائتين شاة ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، ثم لا يتغير الفرض إلا بزيادة مائة أخرى. قيل له: لا يلزم هذا على ما قلناه، لأنا قد احترزنا منه بأن قلنا: في جنس يتغير الفرض فيه إلى زيادة السن تارة والعدد أخرى، وهذا في الإبل دون الغنم، ألا ترى أن في الخمس وعشرين بنت مخاض، ثم يتغير الفرض إلى زيادة السن، وهو بنت لبون وحقة وجذعة، ثم يتغير بعد إلى زيادة عدد، وليس كذلك الغنم، لأن الفرض لا يتغير فيها إلى زيادة سن، وإنما يتغير إلى زيادة العدد فقط. وأيضا فإنا نقيس بنت مخاض على الجذعة فنقول: لأنها سن لا تتكرر قبل المائة فوجب ألا تتكرر بعدها، اعتبارا بالجذعة. فإن قيل: لا تأثير لهذا، لأن ما يتكرر قبل المائة أيضا لا يتكرر عندكم، وهي الغنم. قيل له: قد وجدنا التأثير في بنات اللبون والحقاق، فكفى في ذلك، ولو قلنا: سن من الإبل لزال هذا الاعتراض.

وأيضا فلأنها عدد من الإبل بل قد أخذ منها من جنسها فوجب ألا يؤخذ منه من غير جنسها، اعتبارا بالمائة والعشرين. وإذا ثبت هذا فالكلام على أخبارهم من طريقين: أحدهما: الترجيح. والآخر: الاستعمال. فأما الترجيح: فهو أن أخبارنا أصح سندا، وأثبت نقلا، وما رووه مختلف في وفي عدالة ناقليه. أما ما رووه عن عمرو بن حزم فقد عارضه من طريقه ما رويناه. وحديث قيس بن سعد فيه من الضعف ما تغني شهرته عن ذكره. وحديث عاصم عن علي قد ضعف راويه، وقيل: إنه أخطأ فيه. واختلف أيضا فيه هل هو من قول النبي صلى الله عليه وسلم- أو من قول علي- رضوان الله عليه. وفيه أيضا حكم [ق/99] قد اتفقنا على خلافه، وهو قوله: "في خمس وعشرين خمس شياه". وليس في أحاديثنا ما ضعف نقلته واختلف في سنده أو اختلف على راويه. وأيضا فلأن الأئمة عملت بأخبارنا، روي ذلك عن أبي بكر وعمر- على ما ذكرناه- وروي عن علي- رضوان الله عليه- عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما قلناه. وأيضا فإن خبرنا متفق على استعمال بعضه- وهو ما دون المائة

والعشرين- ومختلف في بعضه. وخبرهم متفق على ترك بعضه- وهو إيجاب الشاة في خمس وعشرين- ومختلف في البعض- وهو موضع الخلاف. وأما الاستعمال فهو أن نقول: أما الحديث الذي رويتموه أولا عن عمرو بن حزم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "وما كان أقل من خمس وعشرين ففي كل خمس شاة" قيل فيه مثل ما لكم، وهو قوله: "فما زاد على المائة والعشرين فاعدد في كل خمسين حقة"، وقد ثبت أنه لم يرد بذلك الزيادة وحدها، وإنما أراد الزيادة والمزيد عليه، فحملنا قوله: "وما كان أقل من خمس وعشرين" على الابتداء. فإن قالوا: لا يصح هذا، لأنه قد ورد في الابتداء مفسرا، فلا يجوز أن يقال بلفظ مجمل. قلنا: ولا يجوز أن نزيل قوله: "في كل خمسين حقة" عن ظاهره. وإذا لم يمكنهم استعمال هذا اللفظ على العموم حملوه على ما زاد على الخمس والعشرين، لأجل قوله: "وما كان أقل من خمس وعشرين ففي كل خمس شياه" جاز لنا نحمل هذا على الابتداء ليسلم عموم اللفظ الآخر. فإن قالوا: ليس في استعمالنا إسقاط لفائدة أحد اللفظين، وفي استعمالكم إسقاط لفائدة لفظنا حمله على التكرار. قلنا: إذا كان في حمله على الابتداء سلامة لعموم اللفظ في كل زيادة ساغ ذلك كما ساغ لكم تخصيص لفظنا ليسلم لكم حمل لفظكم على الاستئناف. على أن في حمله على الابتداء فائدة، وهي التأكيد وإيراده

فلفظ مجموع وليس ذلك في أول الخبر. فأما قوله: فما زاد استؤنفت الفريضة: فمعناه: استؤنفت الفريضة بترتيب آخر، وفرض مستأنف، وهو في كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون. فإن قالوا: نحن أيضا نستعمل فنقول: قوله: "في كل أربعين بنت لبون" على سبيل القيمة. قلنا: هذا باطل من وجوه: أحدها: أن إخراج القيمة في الزكاة غير جائز. والثاني: أن القيمة تنوب عن المنصوص، ولابد أن يبين المنصوص حتى تخرج القيمة عنه، والمنصوص هو ابن لبون وحقة، فلم يجز أن يكون هو القيمة. والثالث: أن هذا المقدار من العدد لا يختص بالقيمة، فلا معنى لحمله عليه، ولا لبنات لبون أيضا اختصاص بالقيمة حتى لا يجزئ إخراج غيرها. فبطل ما قالوه. ومن الترجيح أيضا إسناد أخبارنا إلى عموم قوله: "خذ الإبل من الإبل"، وما ذكرناه من شهادة الأصول، لكون المأخوذ من الجنس هو الأصل، وأنه آكد حكما من غيره. وأما قولهم: إنه سن يتكرر قبل المائة فوجب أن يتكرر بعدها اعتبارا بالحقاق وبنات اللبون فغير صحيح، لأنا قد بينا أن ما كان من جنس الشيء فهو آكد حكما من الذي ليس من جنسه، لأن الآخذ من الجنس هو

الأصل، والآخذ من غيره ليس بأصل، وإنما يكون لعلة أو سبب مراعي، فلم يمتنع تكرار ما هو آكد حكما، ولا يجب لذلك أن يكون الأضعف مثله. وأما قولهم: إنكم لا تنفكون من مخالفة الخبر أو الأصول، لأنكم إن أوجبتم في كل أربعين وثلاث بنت لبون خالفتم الخبر، وإن أوجبتم في الأربعين وحدها وجعلتم الواحدة وقصا خالفتم الأصول فعنه جوابان: أحدهما: أنا نقول: إن فرض الحقتين باق إلى أن تكون ثلاثين ومائة على رواية عبد الملك وأشهب عن مالك، وهي القياس عند أصحابنا، فالسؤال غير لازم على هذه الرواية. والجواب الآخر: هو أنا إن قلنا: إن الفرض يتغير بزيادة الواحدة لم يلزم أيضا ما قالوه، لأنه ليس في ذلك مخالفة الخبر كما نقول: إن في أحد وتسعين حقتين، ولا نقول: إن في كل خمس وأربعين ونصف حقة، بل نوجب ذلك جملة لا تفصيلا. وليس في ذلك مخالفة الأصول، لأنه قد وجد ما يعتبر به الفرض، ولا مدخل له فيه، وهو الأخوان مع الأبوان يحجبان الأم عن الثلث إلى السدس، ولا يرثان شيئا. فإذا ثبت ذلك بطل ما قالوه. وبالله التوفيق.

فصل فأما الزيادة التي يتغير فيها فرض الحقتين فقد اختلف أصحاب مالك فيها، واختلف أيضا عن مالك، فروى ابن القاسم، وابن عبد الحكم أن الفرض يتغير بزيادة واحدة، فيكون الساعي مخيرا إن شاء أخذ حقتين، وإن شاء أخذ ثلاث بنات لبون. وقاله من أصحابنا عبد العزيز بن أبي حازم، وابن دينار، ومطرف، وأصبغ. وهو قول عبد الملك بن حبيب، وروي عنه أن الفرض لا يتغير إلا بزيادة عشرة، فإذا مكث ثلاثين ومائة ففيها حقة وبنتا لبون. وهي رواية أشهب وعبد اللملك بن الماجشون، وإلى ذلك ذهب المغيرة وعبد الملك. فوجه رواية ابن القاسم: ما روى في حديث عمرو بن حزم وأنسب أن في أحد وتسعين حقتين إلى [ق/ 100] عشرين ومائة، فما زاد على ذلك ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون، فأطلق الزيادة ولم يقيدها، فوجب أن يتعلق الحكم بأي زيادة كانت. وفي حديث يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة، وهي عند آل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه أقرأنيها سالم بن عبد الله ... فذكر إلى أن قال: فإذا كانت أحد وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون. ولأنه وقص حد في الشرع بحد في جنس يتغير الفرض فيه بالزيادة في

السن والعدد، فوجب أن يتغير فرضه بزيادة الواحدة. أصله: سائر الأوقاص. ولأن الوقص لا يلي وقصا، فلو اعتبرنا المائة والعشرين عشرا أخر كنا قد اعتبرنا وقصا بعد وقص، وهذا خلاف ما بنيت عليه أوقاص الإبل وفرائضها. ووجه رواية عبد الملك وأشهب وهو ما رويناه من حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة. فذكر الحديث إلى قوله: "ففيها حقتان إلى عشرين ومائة، فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون" فاعتبر في تغيير الفرض على المائة والعشرين أن تكثر الإبل عنها، وزيادة الواحدة لا تكثر بها المائة والعشرون. وأيضا ما رواه محمد بن عبد الرحمن الأنصاري أن عمر بن عبد العزيز لما استخلف أرسل إلى المدينة يلتمس كتاب النبي- صلى الله عليه وسلم وكتاب عمر في الصدقات، فنسخا له. فذكر الحديث إلى قوله: "فإذا بلغت الإبل عشرين ومائة، وليس فيما زاد فيما دون العشرة شيء، فإذا بلغت ثلاثين ومائة ففيها بنتا لبون وحقة" وهذا نص. ولأن أصول الزكاة موضوعة على أن كل زيادة غيرت فرضا كانت داخلة فيه، فلو قلنا: إن الفرض يتغير بالواحدة والاثنين لكان في ذلك مخالفة الخبر، وإيجاب لبنت لبون في كل أربعين وثلاث وذلك خلاف الخبر. وإن قلنا: إن الفرض يتغير بها ولا تدخل فيه كان في ذلك خلاف

الأصول. فإن قيل: نقول في هذا كما نقول في أحد وتسعين أن فيها حقتين في الجملة ولا نفصل. قيل له: لا يصح ذلك، لأن في أحد وتسعين تعلق الفرض بالجملة، فلم يحتج إلى التفصيل، وفي أحد وعشرين ومائة تعلق الفرض بالتفصيل، لأنا نأخذه منها على حسب كل أربعين. وإذا كان كذلك بان سقوط ما ذكروه. فأما قوله: (فما زاد على ذلك)، وتعلقهم بأن إطلاق الزيادة تتضمن الواحدة والعشرة: فإنه دليلنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر الحساب بهذين العددين، فوجب أن يشترط في ذلك عددا يصح فيه، وليس ذلك إلا في ثلاثين ومائة دون ما دونها. فإن قيل: ولم قلتم ذلك وما أنكرتم من حمل قوله: (وإن زادت) على العموم في القليل والكثير؟ قلنا: من قبل إنه صلى الله عليه وسلم لما قال: ففي كل خمسين حقة، وفي كل أربعين بنت لبون نبه بذلك على عدد يكون أربعينات وخمسينيات. فإن قيل: إنما أراد بحساب كل خمسين وكل أربعين بنت لبون. قلنا: يجوز أن يكون أراد الحساب مفردا من غير اعتبار عدد المال، ولكن الظاهر أنه أراده في مال لم يكن ذلك فيه، ويبين ذلك أنه لم يذكر حكم الوقص الباقي عنها بشيء كما بين حكمه فيما قبل المائة، فدل ذلك على أن العدد الذي اعتبره لا وقص فيه.

وأما ما رووه من قوله: (فإذا زادت واحدة): فليس بمحفوظ من طريق صحيح. ولو صح لكان معارضا بما ذكرناه، ومرجحا عليه بأن خبرنا وارد بلفظين: صريح، وكناية وهو قوله: (فإذا كثرت الإبل) والمعنى في سائر الأوقاص دخولها في الفرض، فلذلك غيرته وليس كذلك الواحدة الزائدة على المائة والعشرين. وقوله: (الوقص لا يلي وقصا): ينتقص بزكاة الغنم، لأن في المائتي شاة وشاة ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فما زاد على ذلك ففي كل مائة شاة شاة، ثم لا شيء في الزيادة حتى تكمل مائة. ويمكن أن يقال: لأنه وقص محدود يعتبر الفرض بعده بحساب عدد علق عليه، فوجب ألا يعتبر الفرض فيه إلا بحصول عدد لا وقص فيه، اعتبارا بالغنم، لأن الوقص بعد المائتين والشاة هو إلى الثلاثمائة ثم ما زاد على ذلك وقص إلى المائة، كذلك ما بعد الأحد والتسعين إلى المائة والعشرين، وما زاد على ذلك إلى المائة والثلاثين. وبالله التوفيق.

فصل إذا أجبنا برواية ابن القاسم أن الفرض يتغير بزيادة الواحدة فإنه يتغير إلى تغيير الساعي بين حقتين والثلاث بنات لبون. وذهب ابن القاسم والشافعي إلى أن فيها ثلاث بنات لبون من غير تخيير، وهو قول الزهري. واستدلوا بحديث ابن شهاب أنه قال: هذه نسخة كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقة أقرأنيها سالم بن عبد الله ... وقد ذكرناه فيما تقدم: "وإن كانت أحد وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون" وهذا نص [ق/ 101]. فالدلالة على ما قلناه قوله صلى الله عليه وسلم في سائر الأخبار: فما زاد على ذلك ففي كل خمسين حقة وفي كل أربعين بنت لبون. فإذا اعتبرنا تغيير الحكم بزيادة الواحدة ورجعنا إلى الحساب كان فيه إما ثلاث بنات لبون لثلاث أربعينيات، أو حقتان لخمسينيتين، فلذلك كان الساعي مخيرا. وإذا جمعنا بين خبرهم وخبرنا لم يتنافيا فنقول: ثلاث بنات لبون بخبرهم، والتخيير بخبرنا. والله أعلم.

فصل إذا زاد على المائة والعشرين بعض بعير لم يتغير الفرض، وبه قال أصحاب الشافعي، وحكي عن بعضهم أنه يتغير الفرض بزيادة الجزء وكما يتغير بالبعير الكامل. قال: لقوله صلى الله عليه وسلم: "فما زاد على ذلك ففي كل خمسين حقة" فعم. واعتبارا بزيادة التغير الكامل. والدلالة على ما قلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كثرت الإبل ففي كل خمسين حقة" والكثرة لا تكون بزيادة بعض بعير. وما رويناه من حديث ابن شهاب أنه قال: أقرأني سالم بن عبد الله كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدقات، وفيه: "إذا كانت أحد وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون"، فلم يحكم بتغير الفرض إلا بزيادة واحدة. ولأنها زيادة كسر في ماشية فوجب ألا يتغير بها فرض، اعتبارا بالبقر والغنم. ولأنه وقص حد في الشرع بحد فوجب ألا يتغير الفرض فيه بزيادة دون الواحد، اعتبارا بسائر الأوقاص. فأما قوله: (فما زاد) فمحمول على البعير الكامل، بدلالة ما قلناه. واعتبارهم بالبعير الكامل باطل بما ذكرناه. والله أعلم.

فصل فأما صفة الأسنان المأخوذة في صدقة الإبل فقد ذكره أصحابنا منهم: الفضل بن المعدل، وعبد الملك بن حبيب، وغيرهم. ونحن نذكر جملة مما ذكروه ومما قال أهل العربية فيه: قالوا: إذا استكمل الفصيل الحول، ودخل قي الثاني فهو ابن مخاض، والأنثى بنت مخاض، وإنما سمي بذلك، لأنه لما فصل عن أمه لحقت أمه بالمخاض- وهو الحمل- وسواء حملت أو لم تحمل فلا يزال موصوفا بابن مخاض حتى يستكمل السنة الثانية. فإذا دخل في الثالثة فهو ابن لبون، والأنثى بنت لبون. وإنما سمي بذلك، لأن أمه أرضعته في السنة الأولى ثم حملت في السنة الثانية ثم وضعت، فصارت لبونا في السنة الثالثة، فلا يزال كذلك حتى يستكملها. فإذا دخل في الرابعة فالذكر حق، والأنثى حقة وإنما سمي بذلك لاستحقاقه أن يحمل [] ويركب، فلا يزال كذلك حتى يدخل الخامسة فيصير جذع والأنثى جذعة. وليس في الصدقة ما يزيد على ذلك من السن، فلذلك اقتصرنا عليه.

مسألة قال رحمه الله: "ولا زكة في البقر في أقل من ثلاثين، فإذا بلغتها ففيها تبيع: عجل جذع قد أوفى سنتين ثم كذلك حتى تبلغ أربعين ففيها مسنة، ولا تؤخذ إلا أنثى وهي بنت أربع سنين، وهي ثنية. فما زاد ففي كل أربعين مسنة، وفي كل ثلاثين تبيع". قال القاضي رحمه الله: أعلم أن هذه الجملة لا خلاف فيها بين فقهاء الأمصار والمعتمد عليهم من أهل العلم. وقد وردت روايات متضادة أكثرها من طرق ضعيفة، ولا يثبت بمثلها حكم بأحكام مختلفة، ففي بعضها أن حكم البقر حكم الإبل في خمس شاة، وفي بعضها في كل عشرة شاة، وفي بعضها في كل خمس وعشرين بقرة تبيع. ونحن نذكرها لتعرف. فمن ذلك ما روي عن عكرمة بن خالد أنه قال: استعملت على صدقات عك فلقيت أشياخا من صدق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختلفوا علي، فمنهم من قال: اجعلها مثل صدقة الإبل، ومنهم من قال: في كل ثلاثين تبيع، ومنهم من قال: "في كل أربعين مسنة". وروي عن عكرمة بن خالد أيضا [عن رجل] حدثه عن مصدق أبي

بكر- رضي الله عنه- أنه أخذ من كل عشر بقرات بقرة. وروى عبد الرازق عن معمر قال: أعطاني سماك بن الفضل كتابا من النبي صلى الله عليه وسلم إلى مالك بن كفلان فيه: والبقر مثل الإبل. وروى حماد عن قتادة عن أبي قلابة، والزهري أنهما قالا: في خمس بقرات شاة. وروى همام عن قتادة عن سعيد بن المسيب، وأبي قلابة: في صدقة البقر في كل خمس شاة، وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياة، وفي عشرين أربع، وفي خمس وعشرين بقرة إلى خمس وسبعين، فإذا جاوزت فبقرتان إلى عشرين ومائة، فإذا جاوزت ففي كل أربعين مسنة. وروي عن خالد بن أبي عمر أنه قال: سألت القاسم، وسالما، وسليمان بن يسار عن صدقة البقر فقالوا: كان يقال: في خمس وعشرين تبيع، وفي أربعين مسنة. وروى ابن إدريس عن ليث عن شهر بن حوشب قال: في عشر من البقر شاة، وفي عشرين شاتان. وكل هذا شاذ لا يلتفت إليه، وإنما ذكرناه لئلا يظن أن هناك خلافا ما عرفناه. والأصل في هذا الباب الذي يجب أن يصار إليه، ويعول عليه ما رواه

ابن وهب عن سليمان بن بلال عن شريك بن عبد الله بن أبي بكر عن عطاء ابن يسار عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل، والبقرة [ق/102] من البقرة". وروى الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، وأمره أن يأخذ من كل ثلاثين بقرة تبيعا، ومن كل أربعين مسنة، فأتى بما دون ذلك فلم يأخذ منه شيئا، وقال: لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا، حتى ألقاه فأسأله. فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ. وروى يزيد بن أبي حبيب عن سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم عن معاذ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا على اليمن، وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا- والتبيع: جذع أو جذعة- ومن أربعين مسنة. وفي حديث سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن، وفيه: وفي كل ثلاثين باقورة تبيع أو تبيعة، جذع أو جذعة. وفي كل أربعين باقورة بقرة. وروى خصيف عن أبي عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة، وفي كل أربعين مسنة. وقد روى ذلك عن جماعة من الصحابة والتابعين بأسانيد صحاح لولا

كراهية التطويل لذكرتها وقد تكلف الناس إيراد سمعته لبعض ما قدمناه من الأقاويل المختلفة؛ فقالوا: يمكن أن تحتج لذلك بما روى في حديث عمرو ابن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر صدقة الإبل، ثم عطف عليه وقال: وكذلك البقر. وهذا الذي قالوه غير محفوظ في نقل صحيح. وقد روينا صدقة البقر مفسرة من طريق عمرو بن حزم وغيره. ويحتمل ذلك- إن صح- يكون عطفا على وجوب الزكاة دون صفتها. قالوا: ولما كانت البقر كالإبل في أن الواحد منها يجزئ في الأضحية عن سبعة كانت مثلها في صفة نصب الزكاة. وهذا غير صحيح عندنا؛ لأن الاشتراك في الأضحية لا يجوز على أصلنا. فبطل ما قالوه، والله أعلم. فصل وفي أربعين من البقر مسنة، ثم لا شيء في زيادتها إلى الستين فيكون فيها تبيعان. وبه قال الشافعي، وأبو يوسف، ومحمد. وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: مثل قولنا. والأخرى: أن ما زاد على الأربعين فبحساب ذلك؛ فيكون على هذه

الرواية في إحدى وأربعين مسنة وربع عشر مسنة. هذه رواية أبي سيف. ذكر هذه الجملة الطحاوي. قال الرازي: وعنه رواية أخرى؛ وهي أنه ليس في الزيادة على الأربعين شيء حتى تبلغ خمسين فيكون فيها مسنة وربع مسنة. واستدلوا عليه بأن قالوا: لأن زكاة البقر تزيد بزيادة السن مرة، وبتكرار العدد أخرى؛ فوجب أن يكون بين ابتدائه وتكراره فرضان. أصله: زكاة الإبل. وذلك أن بين بنت لبون في الابتداء وبين تكررها فرضان وهما: الحقة، والجذعة. كذلك يجب أن يكون بين التبيع والتبيعين فرضان: المسنة، وجزء المسنة. قالوا: العشر الزائد على الأربعين عشر زائد كامل على عدد نصاب في البقر؛ فوجب أن يتغير به حكم الفرض. أصله: العشر الزائد على الثلاثين. قالوا: ولأن الؤقاص في صدقة البقر بعد تقرر الفرض تسعة تسعة؛ اعتبارا بالأوقاص بعد الثلاثين وبعد الستين والسبعين، فلو قلنا: لا شيء في الخمسين لكان الوقص تسعة عشر، وهذا خلاف الأصول. وهذا الذي ذكروه غير صحيح. والدلالة على صحة قولنا ما رواه أبو بكر بن الجهم حدثنا جعفر بن محمد الفريابي حدثنا عمرو بن عثمان حدثنا بقية قال: حدثنا المسعودي عن الحكم عن طاوس عن ابن عباس قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى

اليمن سأله عن الأوقاص قال: ليس فيها شيء. وروى أبو بكر حدثنا أبو بكر بن شاذان أخبرنا المعلي أخبرنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم عن معاذ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا على اليمن، وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا- والتبيع: جذع أو جذعة-، ومن أربعين مسنة، ومن الستين تبيعين، ومن السبعين مسنة وتبيعا، ومن الثمانين مسنتين، ومن التسعين ثلاثة أتابيع، ومن المائة مسنة وتبيعين، ومن العشرين ومائة ثلاثة مسنات وأربع أتابيع، وأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا آخذ فيما بين ذلك شيء من سائر الأوقاص حتى تبلغ مسنا أو جذعة. وأيضا فلأن في إيجاب جزوء من مسنة مخالفة لأصول زكاة المواشي؛ لأنه ليس في شيء منها كسور، وكذلك زكاة البقر. وتحريره أن يقال: لأنها زيادة على نصاب في ماشية تجب في عينها الزكاة؛ فوجب ألا يتغير الفرض بها إلى كسر؛ اعتبارا بالغنم والإبل. ولأن ذلك يؤدي إلى أحد أمرين ممنوعين: إما أن يشتري الساعي بقية تلك البهيمة؛ فيؤدي ذلك إلى إخراج القيمة في الزكاة، وذلك غير جائز. أو أن يشتري الرجل؛ فيؤدي إلى شراء الصدقة، وهذا أيضا ممنوع. ولأن في إيجاب الكسور ضررا على أرباب المال وعلى المساكين؛ أما

أرباب المال: فيصير له شريكا في الملك؛ وذلك إضرار به. وأما المساكين: فإنهم لا يمكنهم استيفاء حقوقهم- وهو الجزوء- من الحيوان؛ وذلك ضرر. قال أصحابنا: ولأن أبا حنيفة أولى [ق/103] بالامتناع من إيجاب الكسور لا يمتنع من ذلك فيما لا ضرر فيه؛ وهو ما زاد على المائتي درهم والعشرين دينارا، ففي الموضع الذي يدخل فيه الضرر على الفريقين أولى؛ فوجب ألا ينتقل منه إلى كسر. أصله: العشرة الزائدة على الثلاثين. ولا يصح عكسه بأن يقال: لأنها زيادة على نصاب في صدقة البقر؛ فوجب أن يتغير به الفرض. أصله: العشرة الزائدة على الثلاثين. لأنه بطل بزيادة الجزوء، وبزيادة الواحدة على الثلاثين. ولأن أصول الزكاة مبنية على أنه يؤخذ من كل شيء من جنسه، وقد ثبت أن النبي صلي الله عليه وسلم جعل في خمس من الإبل شيئا من غير جنسها؛ لأنها لا تحتمل أن يؤخذ منها؛ فلو كان للأجزاء والكسور مدخلا في زكاة الماشية لأوجبه ولم يعدل إلى إيجاب شيء من غير الجنس. فدل ذلك على ما قلناه. وأما قولهم: إن السن إذا وجبت لم تتكرر إلا بعد فرضين بين ابتدائها وتكررها: فإنه ينتقض بالشاة في أول فرض الإبل؛ لأنها تتكرر في غير تخلل فرض آخر، وبابنتي لبون في ست وسبعين؛ لأنها تتكرر بعد المائة

والعشرين بعد تخلل فرض واحد؛ وهو الحقاق فقط. فلأن ذلك إنما وجب في الإبل لإمكان أخذ فرضين كاملين الابتداء والإعادة. وليس كذلك في صفة البقر؛ لأنه لا يمكن أخذ سنينين كاملين فافتقر على واحد. وقياسهم على العشرة الزائدة على ثلاثين قد أجبنا عنه. ولأنه إنما تغير الفرض به؛ لأنه يخرج منه إلى سن كامل، وليس كذلك مسألتنا. وقولهم: لو لم يوجب في العشر الزائد على الأربعين شيئا لأدى ذلك إلى أن يكون الوقص أكثر من تسعة، وذلك مخالف لأصول الزكاة: فعنه جوابان. أحدهما: أنه باطل بالتسعة والعشرين الأولى. والثاني أن الأوقاص لا يقاس بعضها على بعض؛ لأنها قد تختلف الجنس الواحد؛ ألا ترى أن أوقاص الإبل منها أربعة ومنها عشرة، وغير ذلك؟ فلم يجب ما قالوه؟ والله أعلم. فصل وأما وصف التبيع فهو العجل الذي قد دخل في السنة الثانية وفطم عن أمه؛ فهو تبيع أمه، ويقوي على ذلك. وذكر بعض أهل العلم أنه الذي استوى قرنا وأذناه، وروي هذا عن الشعبي وغيره.

وروي عن علي بن أبي طالب- رضوان الله عليه- أنه قال: هو الحولي- يعني الذي أتى عليه الحول-. وقالوا: المسنة: التي قد دخلت في السنة الثالثة، وأتت عليها سنون فلم تلد سميت مسنة. وقال بعض أصحابنا: هي التي دخلت في السنة الرابعة. وإنما سميت ثنية؛ لأنها تلقي ثنيتها في السنة الثالثة. وأما قوله: إن التبيع يؤخذ جذعا أو جذعة: فذلك لما رواه الحاكم عن موسى حدثنا يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر ابن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن، وفيه: وفي كل ثلاثين باقورة تبيع جذع أو جذعة، وفي كل أربعين باقورة بقرة. وروى يزيد بن أبي حبيب عن سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم عن معاذ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا على اليمن، وأمرني أن آخذ من البقر كل ثلاثين تبيعا- والتبيع: جذع أو جذعة، ومن أربعين مسنة. وروى الأعمش عن سفيان عن مسروق [عن معاذ بن جبل] قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، وأمرني أن آخذ من كل ثلاثين تبيعة أو تبيع، ومن كل أربعين بقرة بقرة. فأما المسنة فلا تؤخذ إلا أنثى، ووافقنا على ذلك الشافعي إذا كانت

البقر إناثا كلها. وإذا كانت ذكورا فلأصحابه في جواز أخذ المسنة ذكرا أم لا وجهان: أحدهما أنه يجزئ. والآخر أنه لا يجزئ. والدليل على ما قلنا: الأخبار التي رويناها، وفيها دليلان. أحدهما: إنه نص على وجوب المسنة، ولم يفرق. والثاني أنه بين في البيع أنه يجوز أن يؤخذ ذكرا أو أنثى، ولم يذكر في المسنة إلا أنها أنثى فقط؛ فدل ذلك على أنها مقصودة في نفسها. ولأن المأخوذ في فرائض الماشية الإناث إلا من ضرورة؛ اعتبارا بالإبل والغنم. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "ولا زكاة في الغنم حتى تبلغ أربعين شاة، فإذا بلغتها ففيها جذعة أو ثنية إلى عشرين ومائة، فإذا بلغت إحدى وعشرين ومائة ففيها شاتان إلى مائتي شاة، فإذا ذادت واحدة ففيها ثلاث شياة إلى ثلاثمائة، فما زاد ففي كل مائة شاة شاة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله-: وهذا لتواتر الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.

وروى القاضي إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن المثني عن عبد الله بن أنس قال: حدثني أبي. قال حدثني عمي تمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس أن أبا بكر الصديق- رضوان الله عليه- لما استخلف وجه أنسا إلى البحرين كتب إليه هذا الكتاب: هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، التي أمر الله بها ورسوله: صدقة الغنم في سائمة إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة ففيها شاة، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى أن تبلغ مائتين ففيها شاتان، فإذا زادت على مائتين إلى أن تبلغ ثلاثمائة ففيها ثلاث شياة، فإذا زادت على ذلك ففي كل مائة شاة. فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين [ق/ 104] شاة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها. وروى الزهري عن أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن، وبعث به مع عمرو بن حزم، وهذه نسخته: في كل أربعين سائمة شاة إلى أن تبلغ عشرين ومائة ... وذكر مثل ما تقدم. وفي حديث الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة ولم يخرجه إلى عماله فذكر في كل أربعين شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت شاة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت ففيها ثلاث إلى ثلاثمائة، فإذا زادت بعد فليس فيها شيء حتى تبلغ أربعمائة، فإذا كثر الغنم ففي كل مائة شاة شاة. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس

في أقل من أربعين شاة شيء". فلا خلاف بين فقهاء الأمصار في هذه الجملة التي ذكرناها. وحكى أهل الخلاف عن الشعبي والنخعي أنهما قالا: إذا زادت الغنم على ثلاثمائة واحدة ففيها أربع شياة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة"؛ وذلك يقتضي أقل زيادة. ولأنه وقص حد في الشرع بحد فوجب ألا يتعقبه وقص؛ اعتبارا بأوقاص الإبل. وهذا الذي قالوه غير صحيح؛ لما رويناه من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا زادت على ذلك ففي كل مائة شاة، وليس في ذلك شيء حتى تبلغ مائة" وهذا نص. وفائدة تحديد ثلاثمائة؛ لبيان النصاب الذي بعده؛ لأن النصب التي قبله مختلفة. واستدلالهم بالخبر باطل؛ لأن زيادة واحدة على ثلاثمائة لا يمكن أخذ أربع شياة. والعلة في أوقاص الإبل تغير الفرض فيها بالسن تارة وبالعدد أخرى. وليس كذلك الغنم؛ لأن الفرض لا يتغير فيها إلا بزيادة. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "ولا زكاة في الأوقاص؛ وهو ما بين الفريصتين من كل الأنعام". قال القاضي أبو محمد بن عبد الوهاب بن علي- رحمه الله-: وهذا كما قال لا شيء في الأوقاص كلها من الإبل والبقر والغنم؛ فإذا كان معه تسع من الإبل فالشاة مأخوذة عن الخمس والأربع عفو، وكذلك الثمانون من الغنم والشاة المأخوذة منها عن الأربعين والباقي عفو. وهذا قولنا، وقول أبي حنيفة إلا ما ذكرناه عنه فى الزيادة على الأربعين في البقر. ولأصحاب الشافعي وجهان. قال الرازي: ويمكن أن يقال: فيه قولان: أحدهما: أن الشاة المأخوذة عن التسع من الإبل إنما تؤخذ عن الخمس، والأربع عفو. والقول الثاني: أنها مأخوذة عن التسع. وفائدة هذا الخلاف في الخليطين بينهما تسع من الإبل لأحدهما خمس، وللآخر أربع، فإذا أخذ المصدق شاة فعندنا أنها على الخمس ولا شيء على صاحب الأربع، وعند الشافعي أنها بينهما على تسعة أجزاء في هذه المسألة وما أشبهها. والدلالة على صحة قولنا: ما رواه المسعودي عن الحكم عن طاوس عن

ابن عباس قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن عن الأوقاص قال: "ليس فيها شيء". وروى ابن أبي ليلى عن الحكم عمن حدثه عن معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الأوقاص زكاة". وهذان الحديثان نصان في موضع الخلاف. وروى يزيد بن أبي حبيب سلمة بن أسامة عن يحيى بن الحكم عن معاذ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا على اليمن، وأمرني أن آخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا، ومن كل أربعين مسنة، ومن الستين تبيعان، ومن السبعين مسنة وتبيع، وأمرني ألا آخذ فيما بين ذلك شيئا من الأوقاص، وزعم أن الأوقاص لا فريضة فيها. فإن قيل: فقد روي عن معاذ أنه عرضت عليه الأوقاص فامتنع أن يأخذ منها شيئا فقال: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بشيء. وهذا يضاد ما رويتموه. قلنا: يحتمل أن يكون أراد: لم يأمرني أن آخذ ما بذلتموه لي؛ بدلالة ما ذكرناه. وقد روى أصحابنا ومن وافقنا من أهل العراق أحاديث في هذا منها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "في خمس من الإبل شاة، ولا شيء في زيادتها حتى تبلغ عشرا".

وروي أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا بلغت الإبل خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ ستا وثلاثين، وفي ست وثلاثين بنت لبون، ثم لا شيء في الزيادة حتى تبلغ ستة وأربعين. وهذا يفيد أنه لا شيء في الوقص لا مبتدءا ولا تابعا. ثم الذي لا يدل على ذلك حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتاب الصدقة وفيه: وفي الغنم في كل أربعين شاة شاة إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا زادت على المائتين ففيها ثلاث شياة إلى ثلاثمائة، فإن كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة شاة ليس فيها شيء حتى تبلغ المائة. ولأنه وقص قصر مقداره عن النصاب؛ فوجب ألا يتعلق به وجوب. أصله: الأربعين من الإبل. ولأن الاعتبار بالنصاب؛ بدليل أنه إذا قصر منه لم يجب فيه شيء، وإذا زاد عليه زيادة لا تبلغ النصاب لم يتغير الفرض؛ فعلم بذلك أن هذه الزيادة غير مؤثرة. ولأن الواجب لو كان متعلقا بالنصاب والوقص لأدى ذلك إلى أن في النصاب أقل من المقدار المنصوص عليه؛ ألا ترى أنه إذا أوجبنا على من معه ثمانون [ق/ 105] من الغنم شاة، وقلنا: إن هذه الشاة مأخوذة عن الجميع حصل أن في أربعين نصف شاة. وهذا خلاف قوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة شاة، وفي خمس ذود شاة". ولأن في ذلك إيجاب الشاة في البعير الواحد؛ لأن الشاة إذا كانت

مأخوذة عن تسع من الإبل ثم تمت عشرة فأوجبنا فيها شاتين صارت الشاة الثانية مأخوذة عن البعير العاشر. ولا معنى لقولهم إن الإيجاب قبل كمال النصاب تعلق بها على وجه التبع، وإذا تمت نصابا صار لها حكم نفسها؛ لأن الوجوب إذا تعلق بها فقد ساوت الخمس، وليس في حصول البعير العاشر أكثر من كمال كون الواجب شاة فقط. واستدل من خالفنا بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}. قالوا: ففي هذا دليلان. أحدهما: أنه عم الأموال بأخذ الصدقة منها. والثاني: أنه قال: {تطهرهم وتزكيهم بها} وليس بعض المال بأن يطهر به رب المال أولى من بعض. فالجواب عن الفصل الأول: أن قوله: {خذ من أموالهم صدقة} مجمل قد بينه ما رويناه من قوله: "ولي فيما دون المائة شيء" وغير ذلك مما ذكرناه. وعن الفصل الثاني: أن التطهير إنما يحصل لهم بأخذ الزكاة من أموالهم، فإذا دل الدليل على وجوب الزكاة في بعض المال أو في جميعه كان ما يؤخذ منه طهرة لهم. فسقط ما قالوه.

واستدلوا بما روي في حديث أنس من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا بلغت خمسا وعشرين ففيها بنت مخاض إلى أن تبلغ خمسا وثلاثين"؛ فأوجب فيها وفيما زاد عليها إلى خمس وثلاثين بنت مخاض. وقوله: "في أربع وعشرين فدونها الغنم"؛ فذكر النصاب والوقص. فالجواب أن قوله: "في خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين" معناه: أن الفرض لا يتغير إلى خمس وثلاثين. وقوله: "في أربع وعشرين فما دونها الغنم" دلالة عليهم؛ لأنه فسر ذلك بقوله: "في كل خمس شاة"، ولو كانت الشاة تتعلق بالنصاب وما زاد عليه من الوقص لكان في كل خمس أقل من شاة، وهذا خلاف الخبر. وكذلك أيضا لو أراد بقوله: "في خمس وعشرين بنت مخاض إلى خمس وثلاثين" أنها واجبة فيها وفيما زاد عليها لكان في لخمس والعشرين أقل من بنت مخاض. قالوا: ولأن كل جملة لا تجب فيها أكثر من فريضة فإذا تعلق جواز الأخذ بها وجب أن يتعلق الوجوب بها. أصله: الأربعون من الغنم. وهذا قياس ما زاد على الأربعين. ويريدون بقوله: لا يجب فيه أكثر من فريضة الاحتراز عن النصابين؛ لأنه إذا كان معه مائة وخمسون من الإبل ففيها ثلاث حقاق، وله أن يأخذ كل واحد من الثلاث عن المائة والخمسين. وليس ذلك الواحد واجبا في المائة والخمسين، لأن الجملة وجب فيها أكثر

من فريضة. ويريدون بقولهم: فإذا تعلق جواز الأخذ بكل الجملة الاحتراز منه إذا كان معه ثمانون شاة أربعون منها معلوفة وأربعون سائمة، وأربعون ماعزا وأربعون ضائنة؛ فهذه جملة لا يجب فيها أكثر من فريضة، ولا يتعلق الوجوب بكل الجملة. هذه جملة ما فسروا به كلامهم، وهو على إبهامه؛ لأن الوجوب لم يتعلق عندنا إلا بالبعض دون الجملة، وجواز الأخذ لا تعلق له بالوجوب؛ لأن له أن يخرج من العاملة إلى السائمة، ومع ذلك فالجواب لا يتناولها عندهم. قالوا: ولأن الوجوب قد يتعلق بمقدار معلوم، فإذا زال ذلك المقدار تعلق به وبالزيادة عليه؛ كالمحرم إذا حلق ثلاث شعرات فعليه دم، ولو حلق جميع رأسه لكان ذلك الدم، وإذا سرق السارق ربع دينار قطع وكذلك إذا سرق دينار قطع ذلك ولو أوضحه كان عليه خمس من الإبل، ولو عمت الموضحة رأسه كان عليه خمسا أيضا؛ فكذلك لا يمتنع أن تكون الشاة مأخوذة عن الخمس فإذا زاد على الخمس كانت واجبة فيها وفيما زاد عليها. ونكتة هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على الخمسة؛ لأنها أقل نصاب يتعلق به الفرض، لا أن الزكاة تؤخذ منها دون ما زاد عليه. فالجواب: أن ما قالوه غير لازم؛ لأن الحكم في هذه المواضع تعلق بحصول الاسم من غير اعتبار بما زاد عليه في تغيير الحكم؛ فبين ذلك أن المحرم يجب عليه الدم بحصول الحلق؛ فلا فرق بين القليل والكثير،

وسارق ربع دينار قد سرق الحد الذي يجب فيه القطع، فإذا سرق أكثر منه فالنص قد تناوله بوجوب القطع فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "القطع في ربع دينار فصاعدا"؛ فالذي يجب بحصول الإيضاح فلا فرق بين قليلة وكثيرة؛ لوقوع الاسم عليه. وليس كذلك في الزكاة؛ لأن إيجاب الصدقة تعلق فيها على ترتيب معلوم بتغير الفرض بتغييره؛ فلذلك وجب أن يتعلق الوجوب بالنصاب دون ما زاد عليه. على أن قولهم: لا يمتنع ولا ينكر: لا معنى له؛ لأن الوجوب ثابت عندهم في تسع من الإبل، وهذه ألفاظ تجويز وشك فبإزائها أنه قد يمتنع وينكر؛ لأن في الشريعة أحكاما تتعلق بمقادير لا يجوز الزيادة عليها. قالوا: ولأن الأربع الزائدة على الخمس زيادة من جنس مال جرى عليه حكم الزكاة فوجب أن يتعلق [ق/ 106] وجوب الأخذ بها؛ قياسا عليه إذا كانت له أربع من الإبل فزادت واحدة. فالجواب: أن الوصف غير موجود في الأصل؛ لأن الأربع من الإبل لم يجر عليها حكم الزكاة. على أن المعنى في الأصل أنها زيادة كمل بها نصاب، وليس كذلك زيادة الأربع على الخمس. قالوا: ولأن الأربع التي دون الخمس لو انفردت لم يجب فيها شيء، فإذا تمت نصابا وجبت فيها شاة، وكانت مأخوذة عن الجميع؛ كذلك

الوقص الزائد على النصاب إذا انفرد لا شيء فيه، فإذا كان معه نصاب كانت الزكاة فيها في جميعه. فالجواب أن الأربع التي دون الخمس إذا تمت نصابا وجبت الزكاة فيها؛ لكونها نصابا والأربع الزائدة على الخمس ليست بنصاب، ولا معتبر بانضمام النصاب معها؛ لأن ذلك النصاب له الحكم نفسه. قالوا: ولأن النصاب إنما وجبت فيه الزكاة لكثرته، والكثرة موجودة فيه مع الزيادة عليه؛ فكانت الزكاة مأخوذة عن جميعه. فالجواب: أن الوجوب تعلق بالكثرة على ما رتبته الشريعة؛ لأن الكثرة علة في وجوب كل ما يجب فيها. فبطل ما قالوه، والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "وتجمع الضأن والمعز في الزكاة، والجواميس والبقر، والبخت والعراب". قال القاضي رحمه الله: وهذا لأن الجنس والاسم بجميع ذلك كله؛ ألا ترى أن الضأن والمعز يقع على واحد منهما اسم غنم وشاة؟؛ فقد دخل تحت قوله: "في أربعين من الغنم صدقة"، وكذلك قوله: "في كل خمس من الإبل شاة" يشمل البخت والعراب؛ لكون جميعها إبلا. والجواميس حكمها حكم البقر؛ لتقارب منافعها، وأن بعضها يسد مسد بعض؛ فهي جنس منها. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "وكل خليطين فإنهما يترادان بينهما بالسوية، ولا زكاة على من لم تبلغ حصته عدد الزكاة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب- رحمه الله-: أعلم أن للخلطة تأثير في الزكاة إذا كان لكل واحد من الخليطين نصاب كامل فما زاد، ولا تأثير لها إذا كان لأحدهما دون النصاب، سواء كان جميع المال نصابا أو دونه؛ فإن الاعتبار بحصول النصاب في ملك كل واحد منهما. وهذا التأثير أنهما يزكيان زكاة المالك الواحد، ويكون حكم مالهما حكم المالك الواحد؛ فمرة يعود ذلك بتخفيف، ومرة يعود بتثقيل؛ مثل أن يكون للخليطين ثمانون شاة لكل واحد منهما أربعون فتزكي ماشيتهما زكاة المالك الواحد؛ فتؤخذ منها شاة واحدة يكون على كل واحد نصفها؛ فهذا من تخفيفها. ومثل أن يكون لأحدهما مائة شاة وللآخر مائة شاة وشاة؛ فيكون عليهما ثلاثة شياه؛ فهذا من تثقيلها. ووافقنا الشافعي- رحمه الله- في هذه الجملة، وزاد علينا فجعل تأثير الخلطة في النصاب وما دونه إذا كان جميع المال نصابا. وقال أبو حنيف- رضي الله عته-: لا تأثير للخلطة في الزكاة، وينظر إلى ملك كل واحد منهما فيزكى كما كان يزكي في الانفراد. فالخلاف بيننا وبين أبي حنيفة في جملة المسألة وبيننا وبين الشافعي في

جهة منها؛ وهي ما دون النصاب. فالدليل بدءا على فساد قول أهل العراق ما رواه يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: لا تؤخذ في الصدقة هرمة، ولا عجفاء ولا ذات عوار، ولا تيس الغنم، ولا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خيفة الصدقة، وما أخذ من الخليطين فإنهما يتراجعان بالسوية. وروى محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثنا عمي ثمانة بن عبد الله ابن أنس أن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- لما استخلف وجه أنسا إلى البحرين، وكتب له: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها: لا يجمع بين مفترق ولا يقرق بين مجتمع خشية الصدقة. وهذا نهي لأرباب الماشية الذين يخشون الصدقة فيفرقون بين المجتمع ويجمعون بين المفترق، ليخف عنهم، ويقل ما يؤخذ منهم، فثبت بذلك أن الجمع والتفريق إذا لم يقصد به الفرار من الصدقة تأثيرا فيها، ولولا ذلك لم يكن للنهي عنه معنى إذا خيف من الصدقة، لأن الحكم لا يتغير به. فإن قيل: ولم زعمتم أن النهي يتوجه إلى أرباب الأموال؟ قلنا من قبل: إنه لا يخلو إما أن يكون متوجها إليهم أو إلى السعادة، فلما قرنه بخيفة الصدقة علمنا أنه أراد أرباب الأموال، لأن خيفة الصدقة لا تكون إلا منهم فيعملون تخفيفا عنهم بهذا الضرب من الفعل فنهوا عن ذلك. والعمال لا صدقة عليهم يخافونها، فلم يكن لتوجيه النهي إليهم معنى.

فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون مقصود به العمال دون أرباب الأموال من قبل أنه لا يخلو قوله: لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق أن يكون أراد في الملك أو في المكان، وقد بطل أن يكون أراد به في المكان، لأن من له أربعون شاة في مكانين أو أكثر فإن عليه الصدقة، فثبت أن المراد بنهيه عن الجمع والتفرقة في الملك، مثل أن يكون لرجل مائة وعشرون شاة في [ق/ 107] ثلاثة أماكن فيكون عليه فيها شاة، وليس للمصدق أن يفرقها في الملك فيأخذ منها ثلاث شياه كما لو كانت لثلاثة نفر لأجل افتراقها في المكان، مثل أن يكون للرجلين ثمانون شاة لكل واحد أربعون، فيكون عليهما شاتان فليس للمصدق أن يجمعهما ليكون عليهما شاة. فالواجب: أن هذا باطل من وجوه: أحدها: أن النهي توجه عن جمع وتفريق يفعلان خوفا من الصدقة، وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أرباب الأموال دون الساعي، لأن خشية الصدقة هي الخوف من لزومها ووجوبها، والساعي إذا فعل ما قالوه فإنما يفعله رجاء لوجوبها، وقصدا لكثرتها، لا خوفا منها وخشية منها، فبطل حمل الخبر عليه. فإن قيل: معنى قوله: خشية الصدقة: خشية قلة الصدقات. قلنا: لا معنى لذلك، لأن هذه الخشية لا محصول لها، لأن الذي عليه أن يأخذ من أرباب الأموال فأوجب عليهم كثر ذلك أو قل، ولو لم يجب على أحد منهم شيء لم يلزمه شيء، فلا معنى لخشيته. وإنما الذي يخشى أرباب الماشية، لكثرة ما يؤخذ منهم. وهذا ظاهر. والوجه الآخر: هو أن حمله على التفريق بين المجتمع في الملك الواحد

لا معنى له لأنه حمل له على أمر لا يؤثر في إسقاط الصدقة، فعلم أن المراد بذلك في المالكين لا في الملك الواحد. والوجه الآخر: أنا نحمله على الساعي في الوجه الذي ذكروه، وعلى أرباب الأموال في الوجه الذي ذكرناه، ولا تنافي بين الأمرين. وأيضا فإن التفرقة في الملك على ما قالوه لا تكون إلا مجازا أو اتساعا. وعلى ما قلناه حقيقة، فحمله عليه أولى. والدلالة الثانية من الخبر قوله صلى الله عليه وسلم: "وما كان من خليطين فإنهما يترادان بالسوية"، والخليطان ها هنا هما المذكوران في حديث سعد، وقد ورد ذلك في الحديث أيضا فروى يحيى بن سعيد عن السائب بن يزيد قال: صحبت سعد بن أبي وقاص، فذكر إلى أن قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق. الخليطان ما اجتمعا في الحوض والراعي والفحل". وقال: وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية. فأثبت للخلطة حكما وميزها بوصف تبين به من الشركة، وجعل حكمها أن يترادا الخليطان بالتساوي فيما أخذ منهما، وذلك لا يكون إلا على ما قلناه، وهو أن يأخذ الساعي من ثمانين شاة من رجلين نصفين قد اختلطا شاة تكون بينهما نصفين. هذا يقتفي التساوي بينهما في التراجع، ولا يجوز حمله على الشركة، لأن الشركة لا تميز مال أحدهما من الآخر. ويختلف الحكم في جميعها على راع واحد وفحل أولى.

فإن قيل: فذكر الخليطين بعد قوله: لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق يفيد أن اللفظ الأول لم يرد به الخلطة، لأنه لو كان قد أريد به ذلك لم يكن لإعادته معنى. قيل له: ليس الأمر على ما قلته، لأنه ليس في اللفظ الأول أكثر من المنع، وباللفظ الثاني استفدنا وجوب التراجع وصفته، فله فائدة صحيحة لا تعلق من اللفظ الأول. وأيضا فلأن غلظ المؤنة يؤثر في تخفيف الزكاة، وكذلك خفتها تؤثر في الزكاة. وقد ثبت أن الخلطة تغير، فوجب أن يكون ذلك مؤثرا في حكم الزكاة، كاختلاف الحكم في السقي بالسيح والنضح. قال أصحابنا: ولأن حكم الاجتماع قد يخالف حكم الانفراد، كالمصلي منفردا إذا أراد الصلاة في جماعة تغير حكم الانفراد في صلاته ولزمه إتباع إمامه حتى أنه يسجد معه في سهوه وإن لم يكن منه سهو، ويسقط عنه سجود السهو لسهوه وإن كان يلزمه لو كان منفردا، فبان أن للاجتماع تأثير في ذلك، فلا ننكر مثله في الزكاة. والمعتمد ما قدمناه من الأخبار. واحتج أصحاب أبي حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم: "في أربعين شاة شاة" وظاهره أنه يوجب أن كل أربعين فيها شاة، وأنتم تزعمون أن صاحبها إذا كان مخالطا بها أربعين ففيها نصف شاة. فالجواب: أنه قال عقيب ذلك: "فإذا زادت على مائة وعشرين ففيها

شاتان" فعم ولم يخص أن تكون لمالك واحد أو تكون لمالكين فقد تقابل الظاهران. فإن حملوا هذا على المالك الواحد حملنا قوله: "في أربعين من الغنم شاة" على المالك الواحد المنفرد. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا خلاط ولا وراط" فنفاه اسما وحكما. فالجواب: أن معنى ذلك فيما دون النصاب، بدلالة ما قدمناه. قالوا: ولأن الخلطة لا تغير حكم الزكاة. دليله: إذا خالط بها ذميا أو مكاتبا. فالجواب: أنا لسنا نقول أن حكم الزكاة يتغير لوجود خلطة فقط، لكن لخلطة مخصوصة على صفة مخصوصة، فأما فمجرد الخلطة فلا. فإن قالوا: لأنها خلطة فوجب ألا يتغير حكم الزكاة، كخلطة الذمي أو العبد أو من ليس من أهل الزكاة. قلنا: إن أردتم أنه لا يتغير بها حكم الزكاة فيها لم يصح، لأنه لم يثبت في الأصل للزكاة حكم فتغيره الخلطة. وإن أردتم لا يتغير حكم الزكاة في أحد الماشيتين دون الأخرى لم يؤثر

ذلك عندكم، لأن الاعتلال موضوع لسقوط التأثير في كل موضع بأصل الخلطة. وإن أبوا إلا الإجمال أخذناهم بالتفسير. على أن المعنى في الأصل أنها خلطة لمن لا زكاة عليه، وليس [ق/ 108] كذلك هاهنا، أنها خلطة لمن عليه زكاة. قالوا: ولأن الحج لما لم يجب بالخلطة لم تجب الزكاة، لأنهما مضمنان جميعا بالمال. فالجواب أن لا نوجب بالخلطة الزكاة ابتداء وإنما نقول: إنها تؤثر فتخفف تارة وتثقل، على ما بيناه. قالوا: ولأن الخلطة لما لم توجب الزكاة ابتداء لم يسقط ما كان واجبا قبل حصولها. فالجواب أن هذه دعوى أنا قد بينا أن حظ الخلطة وهو التأثير في التخفيف والتثقيل فكما تؤثر تارة في الإسقاط فقد تؤثر أخرى في الإيجاب. ولا يجوز اعتبار التثقيل والتخفيف بأصل الإيجاب، لأنهما تابعان له إذا كانا لا يحصلان إلا بعد تقرره، ألا ترى أن المؤنة في السقي تارة تثقل وتارة تخفف، ولا يجوز أن يقال: لما لم يكن لها تأثير في ابتداء الإيجاب لم يكن لها تأثير في التثقيل والتخفيف؟ كذلك هاهنا. قالوا: ولأن الخلطة لما لم تؤثر في الدنانير والدراهم في الزكاة لم تؤثر في الماشية. فالجواب: أن هذا موضع فاسد، لأن صفة الخلطة المؤثرة لا توجد إلا في الماشية، فلا يجوز أن يقال: إنه يجب أن تؤثر في غيرها وهي لا توجد

في ذلك الغير. وعلى أن زكاة الماشية تختص بمعنى لا يوجد في غيرها، وهو أن أمرها موكل إلى الإمام، وإنما يجيء الساعي مرة في كل سنة، فيشق عليه تمييز الغنم، فجعل تزكيتها على ما يجدها، فيعود ذلك مرة تثقيل ومرة تخفيف. فإن قيل: هلا أجزتم ذلك في النصاب وما دونه لهذا المعنى؟ قلنا: لا يلزم ذلك، لأن حظها التأثير- على ما بيناه- دون استئناف إيجاب. والله أعلم. فصل قد ذكرنا أن تأثير الخلطة هو في النصاب فما فوقه، وأن الشافعي يعتبر في النصاب ودونه إذا كان جميع الماشية نصابا. واستدل أصحابه بقوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}. وقوله صلى الله عليه وسلم: "خذ الإبل من الإبل" وقوله: "في أربعين من الغنم شاة". فعم ولم يخص المالك من المالكين. وقوله: "لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين مفترق" فعم ولم يخص كون ملك كل واحد نصابا أو مع اتفاقنا على أن ذلك وارد في الخليطين. وقوله: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعا بالسوية" ولم يفرق بين

أن يختلطا بنصاب واحد أو لكل واحد منهما نصاب. قالوا: ولأن النصاب ملك مالكين لو انفرد أحدهما به لوجبت عليه الزكاة، فجاز أن تجب عليه الزكاة حال الاشتراك. أصله: الثمانون من الغنم تكون بين اثنين. قالوا: ولأن قلة المؤنة تكثر معها الزكاة، كوجوب العشر فيما سقي بالسيح، ونصف العشر مع سقي النضح، ووجدنا للمؤنة ثقل بالخلطة، فوجب أن تكثر معها الزكاة لأنهما ترفهان بأجرة الراعي والفحل، وغير ذلك مما لو انفرد كل واحد منهما به لزمه من المؤنة أكثر مما يلزمه مع الاختلاط. قالوا: ولأن الزكاة تجب بوجود الملاك والأشياء المملوكة، وقد ثبت أنه إذا افترق الملك فلا يؤثر ذلك في سقوط الوجوب. وكذلك إذا افترق الملاك، ألا ترى أنه لو كان له أربعون شاة في أربعين بلد لوجب فيها الزكاة؟ فكذلك كانت أربعون لأربعين رجلا. قالوا: ولأنه نصاب بين شخصين لو انفرد كل واحد منهما بملكه كان عليه زكاته، فكذلك إذا كانت بينهما. أصله: النخيل الموقوفة عليهما إذا أخرجت خمسة أوسق. قالوا: ولأن الوقصين بعد كمال النصاب في صدقة الغنم لا زكاة فيهما عند الانفراد، وتجب فيهما عند الاجتماع فكذلك المالان الناقصان عن النصابين. بيانه: إذا كانت لأحدهما مائة شاة، وللآخر مائة شاة، وكانا مفترقين

فعليهما شاتان، فإذا اختلطا كان عليهما ثلاث شياه. قالوا: ولأن الخلطة موضوعة على العدل بين الفقراء وأرباب الأموال، وقد وجدنا العشرين ومائة شاة بين ثلاثة يكون عليهم شاة واحدة فيها، فكان هذا نظرا لأرباب الأموال، فيجب بإزائه أن ينظر للفقراء أيضا، فيكون على الرجلين لهما أربعون شاة شاة. فيكون ذلك عدلا بين الفريقين. قالوا: وأصولكم أولى بهذا الحكم، لأنكم تقولون: إن الرجلين إذا سرقا ربع دينار قطعا، ولو كانا منفردين لم يقطعا، فكذلك أيضا لا يمتنع أن يجب على الرجلين لهما أربعون شاة الزكاة، وإن كانا لو انفردوا لم يزلمهما شيء. والدلالة على صحة قولنا: ما رويناه في حديث أنس أن أبا بكر- رضوان الله عليه- كتب له فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: "فإن لم تبلغ سائمة الرجل أربعين فليس فيها شيء". وقبله في هذا الحديث في ذكر صدقة الإبل: "ومن لم يكن عنده إلا أربع فليس فيها شيء". وهذا يفيد عموم الأحوال من الانفراد والاختلاط. ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" وهذا نفي يتناول كل ملك وكل ملك في نفسه. فإن قيل: فمفهومه أنها إذا كانت خمس ذود ففيها الصدقة. قيل له: إذا كان صريحه مقدرا بما ذكرناه لم يصح ما قلتموه، لأنه إذا

كانت خمس ذود بين اثنين فالنص بتناوله أنها أقل من خمس في الملك. فإن قيل: لم قال: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة" فنفي نفيا مطلقا كان مفهومه من الإثبات مطلقا أيضا، لأن نفي الصدقة عما دون الخمس يعم، لكونها لواحد أو اثنين فكذلك إثباتها في الخمس. قيل له: هذا ليس بصحيح لأن النفي مقدر [ق/ 109] بالمالك، لأنه إنما قصد بيان حكم كل مالك في نفس. فإذا كان النفي على هذا الوجه فكأنه قال: ليس فيما دون خمس ذود لمالك صدقة؛ فمفهومه مرتب على هذا الوجه، وهو أنه إذا كان للمالك فحسب خمس من الإبل ففيها الصدقة، ويبين ذلك أن نظير هذا اللفظ قد تلقته الأمة على الوجه الذي قلناه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أواق من الورق صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"، فإذا كان النفي في ذلك متوجها إلى المالك فكذلك في هذا الموضع. ومن أصحابنا من أجاب عن ذلك بأن قال: دليل هذا الخطاب أو مفهومه لا يجري مجرى نطقه، لأن نطقه نفي في نكرة فهو عام. ودليله: إثبات في نكرة، فلا يكون عاما. ويدل على ذلك أيضا ما رواه ابن عباس لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: أعلمهم أولا أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم. وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها على فقرائكم".

وقد بين أن الغني هو المالك للنصاب، فعلم بذلك أن مالك دونه ليس بغني تؤخذ منه الصدقة. ولم يفرق في ذلك بين المنفرد والمخالط أيضا، فإن من يملك بعيرا واحدا أو شاة واحدة أو بعض بعير فقير ليس بغني، فلم تجب عليه زكاة. وأيضا فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها على فقرائكم" وصف من تؤخذ منه ومن ترد فيه، فوجب بذلك أن يكون المأخوذ منه غير المردود فيه. وما قالوه يؤدي إلى خلط أحد الأمرين بالآخر، وهذا خلاف الخبر. فإن قيل: هذا عائد عليك لأنك تأخذ الصدقة ممن له نصاب وتعلمه صدقة. أيضا إذا لم تكن غنيا بنصابه فقد أخذت الصدقة ممن يجب أن تعطيه، وهذا دخول فيما أنكرته. قيل: ليس الأمر على ما ظننته، لأن الغنا في الأصل على ضربين: غنيا بالكفاية، وغنيا بالنصاب. فالغني المعتبر في وجوب الزكاة هو الغني بالنصاب، فبطل ما قالوه من جهة الاعتبار أن قصور الملك عن نصاب مسقط للزكاة، اعتبارا بالمنفرد. ولأن كل من لو انفرد لم يكن من أهل الزكاة، فإذا خالط غيره كان حكمه كحكمه منفردا. أصله: إذا كان معه عشرين من الغنم خالطا بها عبدا أو ذميا. ولأن الزكاة لما كانت موضوعة على المواساة، ولذلك وضع لها نصاب

ليكون المال محتملا للمواساة، وكان من يملك دونه لا يأخذ منه شيء، استوى في ذلك حكم الانفراد والاجتماع، وكان من يملك جزءا من شاة أولى بأن لا يؤخذ منه شيء، لكون حاله أقل احتمالا للمواساة. فأما قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة}، وقوله صلى الله عليه وسلم: "خذ الإبل من الإبل" فعام يخص بعض ما ذكرناه. وقوله: في أربعين من الغنم شاة، وفي كل خمس من الإبل شاة: معناه: إذا كانت لمالك واحد، بدلالة ما ذكرناه. وقوله: "لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق" عام في النصاب وما دونه، فخصصناه ببعض ما قدمناه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية"، فلا دلالة فيه، لأنا نقول: أيهما أخذ منهما تراجعا، لكون ذلك مختلفا فيه بين أهل العلم، وخلافنا في أصل الوجوب فليس في الخبر أنه يجب عليهما إذا لم يكن في ملك كل واحد منهما نصاب، وإنما فيه أن الأخذ متى حصل وجب التراجع فيه. وهذا القدر نقول به، وإن لم نحكم بوجوبه قبل الأخذ. وإذا كان الأمر على ما وصفنا بان أنه لا دليل لهم في الخبر. فأما قياسهم على الثمانين من الغنم، لأن المعنى فيه أنه لو انفرد كل واحد منهما بحصته منها للزمته الزكاة. وليس كذلك الأربعون بين الاثنين، لأن كل واحد منهما لو انفرد بحصته منها لم تلزمه الزكاة. وقولهم: إن قلة المؤنة تكثر معها الزكاة: لا ننكره إذا كانت قد وجبت

أن تكون المؤنة قد أثرت في تكثيرها، وإنما ننكر أن يبتدئ بها وجوب لم يكن من قبل. وما ذكروه من وجوب العشر أو نصفه شاهد لنا على ما قلناه. وقولهم: لما لم يؤثر تفرق الأملاك في الزكاة، فكذلك تفرق الملاك: عبارة ليست بصحيحة، لأن من معه أربعون شاة في عدة مواضع لا يقال: إن الملك فيها مفترق بافتراق أماكنها. على أن المملوك إذا افترق وهو دون نصاب فلا زكاة فيه، كذلك الملاك إذا اجتمعوا ولكل واحد منهم دون النصاب فلا زكاة عليهم. وقولهم: إنه نصاب من شخصين لو انفرد كل واحد منهما بملكه لوجبت عليه زكاته، فكذلك إذا كانت بينهما. أصله: إذا خرج لهما بخمسة أوسق من أرض وقف عليهما. فالجواب عنه: أنا لا نسلمه، لأنهما إن كان حبسا غير محرم فهي على ملك واقفها فالزكاة عليه دون من حبست عليه، وإن كان الحبس محرما على الفقراء فإنما يستحقونه بالجذاذ بعد تفرق حكم الزكاة فيه، فبطل ما قالوه. وقولهم: لما كان الوقصان الزائدان على النصاب في زكاة الغنم لا زكاة فيهما في الانفراد لم تجب الزكاة [ق/ 110] في الاجتماع كذلك ما قصر عن النصاب: لا معنى له، لأن ذلك إنما وجب لتقرر حكم الزكاة في الأصل حال الانفراد. وليس كذلك في مسألتنا، ألا ترى أن ذلك يفترق في خلط المسلم والذمي، والحر والعبد؟

وقولهم: إن الخلطة موضوعة على العدل بين الفقراء وأرباب الأموال ... إلى آخر ما قالوه. فجوابه: أن يقال: إن أرباب الأموال كما احتملوا التخفيف بسقوط ثلثي شاة عن كل واحد منهم في المائة والعشرين فقد تحملوا بإزائه التثقيل من جهة أخرى، وهي إذا كانت لهم مائتا شاة وشاة بين رجلين فعليهما ثلاث شياه، ولو انفردوا بهذا لكان على كل واحد شاة. فهذا وجه التثقيل والتخفيف. فأما إيجاب زكاة ما ابتداء بالخلطة فيما لا تجب فيه حال الانفراد فليس من العدل، وإنما كان يستمر ذلك لو كانت الخلطة تسقط زكاة كانت تجب فكان بإزائها أن توجب زكاة لم تكن وجبت واعتبارهم باجتماع الرجلين في سرقة ربع دينار لا يلزم، لأن كل واحد منهما تناوله اسم سارق الربع، فكانا كالشريكين في القتل. وليس كذلك الخليطان، لأن كل واحد منهما ليس بمالك لنصاب، بل مالك لبعضه وإن كان ملكه غير متميز. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "ولا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين مفترق خشية الصدقة، وذلك إذا قرب الحول، فإذا كان ينقص أداؤهما باقترافها أو باجتماعها أخذا بما كان عليه قبل ذلك". قال القاضي رحمه الله: وهذا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين المفترق، والتفرقة بين المجتمع خشية الصدقة. وإنما يكون ذلك إذا قرب الحول، لأن ذلك هو وقت الصدقة فيخاف أن يدركهم المصدق على ما هم عليه فيكثر الأخذ منهم. فأما إذا عدلوا على تغيير ما هم عليه بما هو أقل للأخذ لم ينفعهم، وأخذوا بما كانوا عليه من قبل، لأن النهي يقتضي فساد المنهي عنه، وفساده ينفي حكمه ويصيره كأنه لم يكن أصلا. وإذا كان كذلك كان هذا التفريق أو الجمع كأنه لم يقع، فلذلك أخذا بما كان عليه من قبل. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "ولا تؤخذ في الصدقة السخلة، وتُعد على رب الغنم. ولا تؤخذ العجاجيل في البقر، ولا الفضلان من الإبل، وتعد عليهم. ولا يؤخذ تيس، ولا هرمة، ولا الماخض، ولا فحل الغنم. ولا شاة العلف، ولا التي تربي أولادهما، ولا خيار أموال الناس". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله: اعلم أنه لا يجوز أن تؤخذ في الصدقة صغيرة لا ذات عور أو عيب وسواء كان المال كله معيبًا أو سليمًا، فمن كان غنمه سخالاً كلها، أو كانت بقرة عجاجيل كلها، أو إبله فصلات كلها لم يجز للمصدق أخذ شيء منها، وكلف ربها أن يأتي بالسند الجائز في الصدقة. وكذلك إذا كانت كلها مراضي أو ذات عور وعيب لم يجز أخذ شيء منها، وكلف شراء السن الجائز أخذه في الزكاة. وقال أبو حنيفة، والشافعي- رحمهما الله: إذا كانت كلها صغارًا أخذ منها ولم يكلف شراء كبيرة، وكذلك إن كانت مراضي أو معيبة أخذ منها ولم يكلف شراء صحيحة. واستدل عنهما بقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "إياك وكرائم أموالهم" فنهاه عن أخذ الكريمة إذا كان في المال جيد وردئ، فنبه بذلك عن أنه إذا كان المال كله معيبًا كان أولى المنع من أخذ الكريمة.

وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "خذ الإبل من الإبل، والشاة من الغنم" فعم ولم يخص. وبقوله تعالى:} خذ من أموالهم صدقةً {فعم الأموال. وروى عن أبي بكر الصديق -رضوان الله عليه- أنه قال في حديث أهل الردة: "والله لو منعوني عناقًا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه" فدل ذلك على أن العناق يؤخذ في الزكاة. قالوا: ولأن الزكاة موضوعة على العدل بين الفقراء وأرباب الأموال فكما لو كانت إبله صحاحًا كلها لم نأخذ منه مريضة، لأن ذلك ضرر على الساعي، وكذلك إذا كانت مراض كلها لم نأخذ منه صحيحة لأن في ذلك إضرارًا به. قالوا: ولأن الزكاة موضوعة على التخفيف وعلى أخذ القليل من الكثير، فلو أوجبنا في أربعين سخلة، وفي خمس من الإبل مراض كلها شاة لاستغرقت المال أو كثرة، وفي ذلك أكبر التغليظ والإجحاف. قالوا: ولأن الزكاة تجب من جنس المال، بدلالة أن في التمر والزبيب وسائر الحبوب تؤخذ إن كان جيدًا أو رديئًا، ولا يكلف غيره. قالوا: ونعلل لجواز أخذ البعير من الخمس فنقول: لأن كل جملة جاز أن يؤخذ منها شيء جاز أن يؤخذ ذلك الشيء في أبعاض تلك الجملة. أصله: إذا أخذ مكان بنت مخاض بنت لبون أن ذلك يجزئه. قالوا: ولأن السخال حيوان تجب الزكاة فيه، ويعد مع جنسه، ويضم

إليه، ويثبت فرض الزكاة فيه إذا انفرد، فوجب أن يجزئ فيه فرضه إذا انفرد. دليله: الكبار. والدلالة على ما قلنا: ما روى إسماعيل بن إسحاق حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس قال: حدثنا أبى قال: حدثنا عمي ثمامة بن عبد الله بن أنس [ق/ 111] أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه لما استخلف وجه أنسًا إلى البحرين، وكتب له هذا الكتاب: (هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، التي أمر الله ورسوله: صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى العشرين ومائة ففيها شاة)، فعم ولم يخص كونها صغارًا أو كبارًا. وقال صلى الله عليه وسلم في البقر: "في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة"، وهذا على ظاهره ووجوبه ويدل على معنى آخر المريضة والمعيبة ما روى إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن عبد الله، ومحمد ابني أبي بكر بن عمرو بن حزم عن أبيهما أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عمرو ابن حزم حين بعثه إلى اليمن: "ولا تخرج في الصدقة تيس ولا هرمة ولا ذات عوار إلا أن يشاء المصدق". وفي حديث سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض فقرنه بسيفه فكان فيه: "ولا تؤخذ في الصدقة هرمة ولا ذات عيب" وروى رافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليست للمصدق هرمة، ولا تيس، ولا ذات عوار، إلا أن يشاء المصدق".

وروى مالك -رضي الله عنه- عن ثور بن يزيد الديلي عن ابن لعبد الله ابن سفيان الثقفي عن جده سفيان أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعثه مصدقًا فكان يعد على الناس بالسخال. فقالوا: تعد علينا بالسخال ولا تأخذ منه شيئًا؟ فلما قدم على ذكر ذلك له فقال عمر: تعد عليهم السخلة يحملها الراعي ولا تأخذها، ولا تأخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية، وذلك عدل بين عر المال وخياره. وروى يحيي بن جابر عن جبير بن نفير عن عبد الله بن معاوية الغافري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا الله وأنه أعطى زكاة ماله طيب بها نفسه ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره". وأيضًا فلأن الزكاة موضوعة على العدل بين الفقراء وأرباب الأموال، فلما كنا لا نأخذ من إبله إذا كانت كلها حوامل أو لوابن، بل نكلفه السن الوسط، فكذلك إذا كانت صغارًا أو معيبة، لأن في أخذها كذلك إضراراً بالفقراء كما أن في الأخذ منها إن كانت كرائم ضرر بأرباب المال. فأما قولهم: إنه لما نهى عن أخذ الكريمة إذا كان في المال الجيد والردئ دل ذلك على أن منع أخذها إذا كان كل المال رديئًَا أولى: فليس بصحيح،

لأن الكرائم الممنوع من أخذها هو ما لا يؤخذ في الصدقة بوجه إلا أن يتطوع بذلك أربابها، كالحوامل واللبون، وهي التي منع أخذها إذا كان في المال جيد وردئ. ونحن نقول: إن أخذها ممنوع أيضًا إلا أن يشاء ربها، وإنما نكلفه السن الوسط. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "خذ الإبل من الإبل" فقد قال عقيبه: "والشاة من الغنم"، وهذا يوجب أن تؤخذ من أربعين سخلة شاة. وأما قول أبي بكر -رضوان الله عليه-: "والله لو منعوني عناقًا" فالمراد به: جذعة، بدلالة ما روى في بعض الحديث أن مصدقًا للنبي صلى الله عليه وسلم امتنع من أخذ الصغيرة، وقال: "لا آخذ إلا عناقًا جذعة" وذكره أبو داود وغيره. وقولهم: إن ذلك يؤدي إلى استغراق المال أو أكثره، فإن ذلك خلاف أصول الزكاة. فالجواب عنه: أن الزكاة تارة تثقل وتارة تخف، فهي وإن ثقلت في هذا الموضع فإنها تخفف في موضع آخر، وهو أن تكون الإبل حوامل أو لوابن فلا يؤخذ منها غير السن الوسط. وقوله: لما لم يكلف من الصحاح مريضة، لأن في ذلك إضرار بالمساكين، كذلك لا يكلف من المراض صحيحة: باطل، إنما لم يكلف

من الصحاح مريضة لأن هناك وسطًا هي عدل بين أرباب الأموال وبين الفقراء، فيجب ألا تختلف باختلاف أسنان المال. ووزان ما قالوه أن تكون إبله كلها مراض فلا نكلفه السن الأعلى، لأن في ذلك إضرارًا به. وقولهم: إن الاعتبار من الجنس كالتمر والزبيب: باطل من وجهين: أحدهما: أنا جميعًا قد فرقنا في ذلك بين الماشية وبين الثمار فقلنا: إذا كان الإبل حوامل لم نأخذ منها وإن كان يأخذ من خير التمر عندهم. والثاني: أن الماشية لا تحتاج إلى حمل. وليس كذلك التمر والزبيب، لأنه لابد فيه من حمل في الجيد والردئ منه بمثابة واحدة، وإذا أخذ السخلة والمريضة احتاج لها إلى تكلف حمل والتزام مؤنة، وفي ذلك إضرار بالمساكين. فأما إذا أخذ مكان بنت مخاض بنت لبون فإنه يجزئه، لأنه تطوع من جنس ما عليه بأعلى منه، وليس كذلك إذا أعطى بعيرًا من خمسة مراض، لأن الذي عليه فيها شاة فلم يعطه من جنس ما عليه. واعتبارهم [ق/ 112] بالكبار باطل من وجهين: أحدهما: أن أخذها جائز على كل وجه، وليس كذلك الصغار عند مخالفنا. والآخر: أن في أخذ الصغار ضرر بالفقراء من الوجه الذي ذكرنا، وهو التزام المؤنة بحملها. والله أعلم.

فصل وأما قوله: إن السخال تعد على أربابها وإن لم تؤخذ منها، فلما رويناه عن عمر أنه قال: تعد عليهم بالسخلة وإن جاء بها الراعي على كتفه، ولا تأخذها. وروى عاصم بن ضمرة عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تأخذ الكريمة ولا اللئيمة، وعد عليهم الصغيرة والكبيرة". ولأنه نماء حادث عن مال تجب من جنسه الزكاة، فأشبه ربح المال. فإن قيل: فقد روى الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صدقة في السخال". قيل له: ليس هو ثابت عند أهل النقل هذا الحديث، لو صح لحملناه على غير النتاج، بما ذكرناه. فإن قيل: لأنها فائدة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة في الفائدة" فعم. قيل له: إذا قلنا: إن حكم هذا النتاج حكم أمه لم نقل: إنه فائدة، لأن ذلك عبارة عما لم يتقدم عليه ملك ولا أصل ملك. فإن قيل: إنها ماشية لم يحل عليها الحول فأشبهت السخال المشتراة. قيل له: هذا لا معنى له، لأن النتاج فرع عن أصل هو تابع له، فحكمه حكم أصله. وليس كذلك المستفاد أو غيره، لأنه أصل في نفسه فاعتبر به حكم نفسه. وقد تكلمنا في هذه المسألة قبل هذا الموضع. فأما قوله: لا تؤخذ شاة

العلف، ولا فحل الغنم، ولا التي تربي ولدها، ولا خيار أموال الناس، فلما رويناه من قوله صلى الله عليه وسلم: "إياك وكرائم أموالهم" فعم. وقوله: "ولكن من وسط أموالكم، إن الله لم يسألكم خيره، ولم يكلفكم شره". وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن أخذ الشافع -وهي الحامل. وفي حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال لمصدقه: لا تأخذ الأكولة، ولا الربى، ولا الماخض، ولا فحل الغنم. وروى عن يحيي بن سعيد عن القاسم عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: مر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - بغنم من المصدقة فرأى فيها شاة خافلا ذات ضرع عظيم. فقال عمر: ما أعطى هذه الشاة. أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، ولا تأخذوا حزرات المسلمين نكبوا عن الطعام. فلهذا قال مالك: إنه لا يأخذ شيئًا مما ذكروه. إلا أن ما لا يؤخذ في الصدقة على ضربين: منه ما لا يؤخذ لدنائته ونقصه كالهرمة والتيس وذات العوار. فهذا لا يجوز أخذه إلا أن يرى المصدق في ذلك نظرًا للمساكين. ومنه ما لا يأخذه لنفاسته وقدره وكونه مجحفًا بأرباب الأموال كفحل الغنم المعد لضرابها، والماخض - وهي الحامل - وشاة اللحم - وهي المعلوفة - والربى - وهي التي تربى ولدها - إلا أن يتطوع بذلك رب الماشية فيجوز،

لأن المنع من تلك ليس بضرر يعود على المساكين لكن من أجل حق ربها، فإذا طاع به جاز. وقد روى أبي بن كعب قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مصدقًا فأتيت إلى رجل عليه بنت مخاض فقلت له: أدها. فقال: ذلك ما لا لبن فيه ولا ظهر، ولكن هذه ناقة فتية سمينة فخذها. فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقص عليه: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك الذي عليك، فإن تطوعت بخير آجرك الله فيه، وقبلناه منك" قال: هي هذه قد جئتك بها فخذها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبضها، ودعا له في ماله بالبركة. مسألة قال رحمه الله: "ولا يؤخذ في ذلك عرض، ولا ثمن". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب - رحمه الله: والأصل في ذلك أنه لا يجوز إخراج القيم في الزكاة. هذا قولنا، وقول الشافعي - رحمه الله. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك. والدلالة على صحة قولنا: ما رواه ابن وهب عن سليمان بن بلال عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر عن عطاء عن معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه

إلى اليمن قال له: "خذ الحب من الحب، والغنم من الغنم، والبقر من البقر، والإبل من الإبل". ففي هذا دليلان: أحدهما: تعيينه ما يؤخذ من كل جنس يفيد إيجاب ذلك، وأنه متى أخرج غيره لم يجزئه. والثاني: أنه لما ساق الجميع على أخذ الجنس من الجنس نبه بذلك على كون المنصوص عليه مستحقًا للأخذ، لكونه من الجنس، وذلك مانع من أخذ القيمة. ويدل عليه أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "في خمس وعشرين بنت مخاض، فإن لم توجد فابن لبون ذكر"، ففي هذا الخبر أدلة: أحدها: أنه عين بنت مخاض، فوجب بذلك انحتامها، وأن لا يجزئ غيرها. والثاني: أنه شرط في جواز إخراج ابن لبون عدمها. ومخالفنا يجوز ذلك مع وجودها. وفي ذلك إسقاط الخبر. والثالث: أنه عين ما يخرج عند عدمها، ولو كان إخراج القيمة جائزًا لكان لا معنى للتعيين. والرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الجواز على إخراج ما يسمى ابن لبون، فاقتفى ذلك تعلق الإجزاء بإخراج ما تناوله الاسم. ومخالفنا يراعى في ذلك أن تكون قيمته مثل قيمة بنت مخاض من غير اعتبار بالاسم [ق / 113] وهذا خلاف ما راعاه النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: لو كان جواز إخراج ابن ليون مشروطًا بعدم بنت مخاض لوجب أ، يكون مشروطًا بثمنها وقيمتها، ألا ترى أن الرقبة في الكفارة لما كان عدمها شرطًا في جواز الصوم كان عدم ثمنها شرطًا فيه؟ قلنا: ليس هذا السؤال بمعترض على الخبر، وإنما هو معترض على معنى الشرط. ومع ذلك ليس بصحيح، لأنه لو كان مالكًا للرقبة ولكن يحتاج إليها للخدمة لم يجز له الصوم. ولو كان مالكًا لقيمتها إلا أنه محتاج إليه يجحف به ابتياع رقبة به لجاز الصوم. وكذلك إن كانت له دار يسكنها جاز له الصوم مع وجود ثمن رقبة وإن لم يجز له مع وجود عينها. على أن في الكفارة اعتبر في المنع من الصوم وجود الرقبة، والواجد لثمنها القادر على شرائها كالواجد لعينها وليس كذلك في الزكاة، لأن المعتبر فيها عدم الملك لعين بنت مخاض. فإذا كان مالكًا لقيمتها أو ثمنها فهو غير مالك لها. وقد تكلمنا على هذه المسألة قبل هذا الموضع. ويدل على ما قلناه أيضًا ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فرض في صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من قمح أو صاعًا من شعير. ففي هذا دليلان: أحدهما: أنه يفيد انحتام ما نص عليه. والثاني: أنه نص على أشياء مختلفة، وأقوات متباينة، فلو كان الاعتبار

بغير المنصوص بل بقيمته لم يكن للنص على أشياء مختلفة معنى، ولكن يكفي في ذلك النص على واحد دون غيره، فعلم بذلك أن أعيانها مقصودة. ويدل عليه أيضًا من جهة الاعتبار أن إخراج القيمة يؤدي إلى سقوط المنصوص، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن في خمس من الإبل شاة، وقد تؤدي القيمة إلى نصف شاة، وذلك خلاف المنصوص فيجب منعه، ألا ترى أنه لو جاز إخراج القيمة جاز أن يخرج نصف شاة قيمته عشرة دراهم عن شاة قيمتها عشرة دراهم، ولجاز أن يخرج نصف صاع برني، وفي منع ذلك بطلان اعتبار القيمة. ولأنه عوض عن الواجب المنصوص في الزكاة على وجه القيمة فوجب ألا يجزئ. أصله: إذا أخرج سكنى دار لا خلاف بيننا أنه لا يجزئ. فإن قيل: إنما لم يجز ذلك، لأن السكنى ليست بمال. قلنا: هي في معنى المال، بدلالة أنه يجب في مقابلتها المال، على أن الاعتبار عندهم بالمعنى صلى الله عليه وسلم لأن قيمة الشاة والبقرة ليست بعين الشاة. فإن قيل: إن السكنى منفعة مؤجلة متأخرة، فلذلك لم يجز. قلنا: تأخر المنفعة لا يمنع الجواز إذا كان المخرج مما يجوز إخراجه، بدلالة أنه لو وجبت عليه عن مائتين درهم خمسة دراهم فأجرجها في عشرين يومًا أو في شهر كل يوم شيئًا يسيرًا لجاز وإن تأخرت المنفعة به. ولأن الزكاة حق يخرج على وجه الطهرة فوجب ألا تجزئ فيه القيمة.

أصله: الرقبة في الكفارة، لأنه لو تصدق بقيمة العين لم يجزئه بالاتفاق. وأيضًا فلأنه حق وجب في مال مسلم لا يسقط العفو والإبراء، فلم يجز إخراج القيمة فيه اعتبارًا بالهدايا. ولأنه لو أخرج في زكاة الفطر نصف صاع من غير قوت بلده قيمته صاع من قوت بلده لم يجزئه، لأنه إخراج زكاة بقيمة، كذلك في مسألتنا فإن قيل: إنما منعن هذا للربا، لأنه كأنه أبدل صاعًا بنصف صاع. قلنا: لا مدخل للربا في هذا، بدلالة أنه لو أخرج صاعين بقيمة الصاع من قوت بلده لأجزأه وإن كان حكم الربا في الزيادة والنقصان واحدة. ولأنه لو كان المنع لأجل الربا - على ما قالوه - لوجب إذا لزمه في إحدى وتسعين حقتان أن يجزئه إخراج ما خص قيمتها، لأنه لا ربا في الحيوان. فلما لم يجز ذلك بطل ما قالوه. ويدل على ما قلناه أيضا أن إخراج القيمة عما وجب في المال من الزكاة كأنه شراء الصدقة بالقيمة، وذلك لا يجوز، لأن الصدقة وجبت للمساكين، وهذا المخرج ليس بقيم لهم ولا ولى عليهم، فلا يجوز له أن يتصرف فيما وجب عليه لهم بنقله إلى غير جنسه. ولا يدخل على شيء مما استدللنا به ما نقلوه من جواز إخراج الذهب عن الفضة والفضة عن الذهب، لأن ذلك ليس على طريق القيمة عندنا، وإنما هو بدل، لأن أحد الشيئين ينوب مناب الآخر ويسد مسده في اتفاق الغرض فيه، واستواء المنافع، وما له يراد كل واحد منهما، فإذا أخرج أحدهما كان كإخراج الآخر، ولم يكن كالقيمة.

واستدل من خالفنا بقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ لما بعثه إلى اليمن: "خذ عدله من المعارفري"، ويقول معاذ: (ائتموني بخميص أو لبيس آخذه منكم مكان الصدقة؛ فإنه أنفع للمهاجرين والأنصار، وأهون عليكم). وقد علم أن الزكاة لا تجب في الثياب، وثبت زنه آخذها على وجه القيمة. وبقوله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر: "اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"؛ فدل ذلك على أن الغرض ما يحصل به الغني عن الطلب والمسألة. وبقوله صلى الله عليه وسلم: "من بلغت صدقته جذعة وليست عنده جذعة وعنده حقة أخذت، وما استيسر من شاتين أو عشرين درهمًا"، وهذا هو إخراج القيمة في الزكاة. ويقول أبو بكر - رضي الله عنه - في أهل الردة: والله لو منعوني عقالاً مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه. فالعقال لا يؤدي إلا على وجه القيمة، وهذا إنما كان في الزكاة. قالوا: ولأنه إيصال منفعة عاجلة غير مترقبة إلى المساكين من غير با؛ فأشبه ما نص عليه. قالوا: ولأن الواجب في الزكاة لو تعين في الجنس لتعين في العين، فلما جاوز العدول عن التعيين إلى [ق/ 114] الجنس جاز عن الجنس إلى غير الجنس؛ ألا ترى أنه لما لم يجز في حقوق الآدميين العدول عن الجنس

إلى غير الجنس لم يجز العدول عن العين إلى الجنس وهو في الشركة؛ لأنه لا يجوز أن يعطيه من غير ذلك المال. قالوا: ولأنه لما جاز أنه يخرج القيمة في زكاة التجارة؛ كذلك في زكاة المواشي وغيرها. قالوا: ولأن المبتغى في الزكاة هو المساواة ودفع الخلة، وذلك لا يتعلق بجنس ولا بعين. قالوا: ويدل على جواز إخراج غير المنصوص فنقول: لأنه نوع مال فجاز أن يجزئ إخراجه في الصدقة اعتبارًا بالمنصوص. فالجواب عن ذلك أن يقال: أما أحاديث معاذ فإنه وارد في الجزية، وكلامنا في الزكاة. وكذلك قوله: ائتوني بخميس ولبيس. ويبين ذلك أنه نقلها من اليمن إلى المدينة، وعندهم أن الزكاة تعرف إلى الفقراء في الموضع الذي وجبت فيه. وأيضًا فإن الجزية قد كانت تؤخذ من قوم من العرب باسم الصدقة؛ فيجوز أن يكون معاذ أراد هذا ك بدلالة قول النبي صلى الله عليه وسلم له: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل". وعلى أن أكثر ما في هذا أن معاذًا اعتقد جواز ذلك، واعتقاده ليس بحجة، وليس المسلم إجماعًا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" فإنه مجمل فيما يقع الغني به.

وقد بين في حديث آخر وهو قوله: "أدوا صاعًا من قمح أو صاعًا من شعير"؛ فوجب الرجوع فيما به يقع الغنى إلى ذلك. وأما قوله: يأخذ منه شاتين أو عشرين درهمًا: فهذا الخبر لم يثبت عند أصحابنا، ولم يجوزوا الجبران في الزكاة، ومن يجوز ذلك فإنما يجوزه بدلاً لا قيمة؛ لأنه منصوص عليه. وأما قول أبي بكر - رضي الله عنه -: "والله لو منعوني عقالاً مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه" فلا دلالة لهم فيه؛ لأن العقال صدقة عام، وليس المراد به مما يخرج بالقيمة؛ يبين ذلك قول الشاعر يذم مصدقًا كان عليهم: سعى عقالاً فلم يترك له سبدا ... فكيف لو قد سعى عمرو عقالين يريد أنه ولى علينا صدقة عام فأساء في المعاملة فكيف لو ولي صدقة عامين. وقد قيل: إن أبا بكر أراد أخذ الناقة بعقالها. وأيضًا فإن أبا بكر - رضي الله عنه - أخرج هذا القول مخرج التعظيم للقصة والتكثير على من منعه حربهم، وهو عليه التسامح بترك الأداء للزكاة، وأراد أن يبين أنه يستجيز حربهم على منع القليل والكثير مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فضرب المثل في التقليل بذلك. ومثل هذا

يعلم أنه لم يقصد به عين المذكور فقط. وأيضًا فليس في الخبر أنهم لو منعوني عقالاً مما كانوا يؤدونه في الزكاة؛ فلا يمتنع أن يكون أراد في الزكاة وغيرها وإن كان السبب الخارج هذا الكلام هو الزكاة؛ فعلم أنه لا تعلق لهم في ذلك. فأما قياسهم على المنصوص عليه فباطل؛ لأن تجويز القيمة يؤدي إلى رفع المنصوص على ما بيناه من أنه يقتضي جواز إخراج نصف صاع عن صاع إذا كان بقيمته، ونصف شاة عن شاة. ولا يجوز أن يستنبط من النص معنى يسقط النص الذي استنبط فيه. وأيضًا ينتقض بسكنى الدار وخدمة العبد. فإن قالوا: قد احترزنا عن ذلك بأن قلنا عاجلة غير مترقبة. قلنا: إذا وجبت عليه صدقة مائتي درهم خمسة دراهم فخرج أربعة دراهم، وأسكن الفقراء داره يومًا، وسكناها ذلك اليوم يسوي درهمًا فأكثر؛ فالمنفعة متعجلة غير مترقبة فوجب انتقاض ما قالوه. وقولهم: لو تعينت الصدقة في الجنس لتعينت في العين دعوى، وتقلب عليهم. فيقال: لو لم يتعين في الجنس لجاز العدول إلى كل جنس كالسكنى والإخدام على أن التعلق في الجنس لا يوجب التعيين في المعنى؛ ألا ترى أن الرقاب في الكفارات تتعلق بالجنس ولا تتعلق بالعين؟. وأما زكاة التجارة فإنها للضرورة؛ لأن الزكاة تجب في القيمة لا في العين.

وقولهم: إن الفرض في الزكاة المواساة: فليس على الإطلاق، ولكن على وجه مخصوص؛ ألا ترى أنه لو دفع نصف شاة عن شاة ونصف صاع عن صاع وسكنى دار أو إخدام عبد لم يجز وإن كانت مواساة. وقياسهم على المنصوص قد بيناه. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: فإن أجبره المصدق على أخذ الثمن في الأنعام وغيره أجزأه". قال القاضي رحمه الله: وهذا لأن ذلك مذهب قوم من أهل العلم والحكم إذا وقع بما فيه خلاف مضاد لم يرد؛ فكأن ذلك بمنزلة حكم الحاكم بما فيه خلاف أنه يمضى ولا ينقض. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "ولا يسقط الدين زكاة حب ولا ماشية". قال القاضي رحمه الله: قد ذكرنا فيما تقدم في باب زكاة الدين، وبينا الفرق بين ذلك وبين زكاة الغنم بما يغنى عن إعادته هاهنا.

باب زكاة الفطر

باب زكاة الفطر مسألة قال رحمه الله: "وزكاة الفطر سنة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل صغير أو كبير ذكرًا أو أنثى، حر أو عبد من المسلمين، صاعًا عن كل نفس بصاع النبي صلى الله عليه وسلم". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب رحمه الله: قوله: إنها سنة فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظاهره الجمع بين كونها مسنونة، وذلك متناقض؛ لأن بقوله: "إنها سنة" قد أثبتها سنة بدئًا؛ لأن معنى [ق/ 115] السنة في عرف الفقهاء خلاف الفريضة. وبقوله: فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثبتها واجبة؛ لأن المفروض والواجب واللازم بمعنى واحد. والجمع بني الأمرين لا يصح؛ فلابد من تأويل أحد اللفظين. ويجوز أن يكون أراد أن وجوبها معلوم من السنة، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ فرضها. ولكن لا فرق عندنا بين ذلك وبين سائر الزكوات في الوجوب، وهذا هو قولنا وقول الشافعي. وعند أبي حنيفة أنها سنة مؤكدة، وليست بواجبة، وربما قال أصحابنا: أنها واجبة وليست بفريضة؛ لأنهم يفرقون بين الواجب والفرض على ما حكيناه عنهم في الوتر.

والخلاف في الموضعين واحد؛ لأنه إذا أعطى لفظ الوجوب ومنع معناه؛ فالخلاف معه ثابت. واستدل أصحابه بما روى عن قيس بن سعد أنه قال: أمرنا بصيام عاشوراء، فلما فرض رمضان لم نؤمر به ولم ننه عنه، ونحن نفعله. وأمرنا بصدقة الفطر، فلما فرضت الزكاة لم نؤمر بها ولم ننه عنها، ونحن نفعلها. والدلالة على ما قلنا: ما رورى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل حر أو عبد، ذكر أو أنثى من المسلمين". ففي هذا دليلان: أحدهما: إخباره بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضها، وأبو حنيفة يقول: ليست بفريضة. والآخر: أنه سماها زكاة، وعند أبي حنيفة ليست بزكاة. وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض صدقة رمضان. وروى حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن الزهري عن ابن ثعلبة بن صغير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر أدوا صاعًا من قمح أو تمر عن كل ذكر أو أنثى أو صغير أو كبير أو غنى أو فقير أو حر أو

مملوك". ولأنها زكاة في المال؛ فأشبهت سائر الزكوات. فإن منعوا أن تسمى زكاة دللنا عليه بما روى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر. ولأنه حق يتعلق بمال اليتيم كتعلقه بمال البالغ؛ فكان سائر الحقوق اللازمة. فأما ما رواه عن قيس بن سعد فإنه دليلنا؛ لأن الشيء إذا ثبت وجوبه لم يسقط إلا بالنسخ. وقوله إنا لم نؤمر بها: معناه أنه لم يجدد لنا أمر بها، وليس في ذلك دلالة على أنها غير واجبة؛ لأن الأمر الأول كاف في الوجوب ما لم ينسخ، وتكرار الأمر بالشيء ليس بشرط في استقرار وجوبه. وإذا كان الأمر على ما وصفنا سقط ما تعلقوا به من ذلك. والله أعلم. فصل فأما قوله: إنها على كل حر وعبد، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير من المسلمين؛ فلورود الخبر بذلك فيما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين.

وفي حديث [عبد الله بن] ثعلبة بن صغير عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في صدقة الفطر: "أدوا صاعًا من قمح أو تمر عن كل ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، غني أو فقير، حر أو مملوك". فأما قوله: إنها تؤدي صاعًا عن كل إنسان: فلا خلاف في ذلك فيما عدا البر، وإنما الخلاف في البر؛ فعندنا وعند الشافعي أنه لا يجزئ أقل من صاع من أي شيء أخرجه، وعند أبي حنيفة أنه يجزئ نصف صاع من بر دون غيره إلا الزبيب فعنه فيه روايتان. واستدل أصحابه بما رواه ثعلبة بن صغير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعًا من بر عن كل اثنين. وروى داود بن الزبرقان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صدقة الفطر صاع من تمر أو صاع من شعير أو مدان من حنطة". وروى الحسن عن ابن عباس قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة على كل حر أو عبد، صغير أو كبير، ذكر أو أنثى صاعًا من تمر أو شعير أو نصف صاع من بر". وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديه

ينادي: ألا إن صدقة الفطر مدان من القمح". وذكروا أنه قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عباس وجابر وعائشة ومعاوية وابن الزبير وأبي هريرة وقيس بن سعد، ولا مخالف لهم. ولأن الزكاة إذا تعلقت بالأجناس اختلف مقدارها؛ اعتبارًا بزكاة الأموال. والدلالة على ما قلنا: ما رواه المبارك بن فضالة عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من بر على كل حر وعبد، ذكر أو أنثى من المسلمين. وروى سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر صاعًا من قمح. وروى حماد بن زيد عن النعمان بن راشد عن الزهري عن [عبد الله بن] ثعلبة بن أبي صغير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر أدوا صاعًا من قمح أو تمر عن كل ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، غني أو فقير، حر أو مملوك. وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: كنا نخرج زكاة الفطر

صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير أو صاعًا من إقط أو صاعًا من زبيب. قال مالك رحمه الله: وذلك بصاع النبي صلى الله عليه وسلم ورواه أحمد بن [ق/ 116] حنبل حدثنا وكيع عن داود بن قيس الفراء عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد قال: كنا نخرج الفطر إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من شعير أو صاعًا من إقط. فلم نزل كذلك حتى قدم علينا معاوية المدينة قدمة فكان فيما كلم به الناس أن قال: ما أرى مدين من سمراء الشام إلا تعدل صاعًا من هذه؛ فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه محمد بن إسحاق قال: حدثنا محمد بن عثمان بن حكيم بن حزام عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد قال: لا أخرج إلا ما كانت أخرج في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير. فقيل له: أو مدين من قمح. قال: لا تلك قيمة معاوية لا أقبلها ولا أعمل بها. ووجه الاحتجاج به هو أبا سعيد أخرج ذلك فخرج الاحتجاج؛ فأخبر أن إخراجها كان من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا كاملاً إلى عهد معاوية. فإن قيل: يجوز أن يكون ذلك بغير علم النبي صلى الله عليه وسلم فلا يكون فيه

حجة. قلنا: هذا باطل من وجوه: أحدهما: أن المقادير لا تؤخذ إلا توقيفًا، وليس في هذا قياس، سيما في عصر النبي صلى الله عليه وسلم. والثاني: أن ظاهر قول الصحابي: كنا نفعل كذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفيد أنه مع علمه إلا أن يقيده بأنه كان لا يعلم. والثالث: أنه أخرج ذلك مخرج الاحتجاج، وقد علم أن مجرد فعله لا حجة فيه؛ فقد تضمن ذلك أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم. والرابع: أنه يبين العلة التي لم يعدل لأجلها إلى نصف صاع؛ فقال: "تلك قيمة معاوية"؛ فدل ذلك على أن ما كان يفعله على أمر النبي صلى الله عليه وسلم. والخامس: أن الزكاة كانت تحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ فبطل أن يكون لا يعلم بها. وأيضًا فلأنه قوت يخرج في صدقة الفطر؛ فوجب أن يقدر بصاع؛ اعتبارًا بالشعير والتمر. وأيضًا فلأن القيمة لا اعتبارًا بها في صدقة الفطر؛ بدلالة زيادة قيمة التمر على الشعير، والزبيب على التمر، وهي مع ذلك متفقة في المقدار المعتبر فيها. فأما حديث ثعلبة فمختلف فيه عنه فروى ما قالوه وروى ما قلناه؛ فكان الأخذ بما ذكرناه أولى؛ لأنه أزيد.

وحديث ابن عمر قد روى من طريقه ما يقابله؛ فروى سليمان بن حرب عن حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة رمضان صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير فعدل الناس به نصفه برا" فهذا يدل على أن تقدير البر بنصف صاع حادث بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث ابن عباس مرسل؛ لأن الحسن لم يسمع من ابن عباس شيئًا. ويبين ضعف الحديث أن ابن عباس - هو راويه - يخالفه؛ فروى القاضي إسماعيل بن إسحاق حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد عن أيوب قال: سمعت أبا رجاء يقول: سمعت ابن عباس يخطب على المنبر يقول: صدقة الفطر صاع من طعام. وروى شهاب عن محمد بن سيرين قال: قال ابن عباس في صدقة الفطر صاع عن الصغير والكبير والحر والعبد والذكر والأنثى، من جاء ببر قبل منه، ومن جاء بزبيب قبل منه. وكذلك روى إسماعيل القاضي عن مسلم بن عرفطة قال: سمعت الحسن يقول في زكاة الفطر: صاع بر أو صاع تمر. على أن أكثر ما في الأخبار أن تتقارب فيكون الزائد أولى. وادعاؤهم الإجماع باطل؛ لأن ما قلناه مروي عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري وابن الزبير وغيرهم؛ فأما ابن عباس فقد روينا عنه في ذلك، وأما أبو سعيد فهو المعتمد في الاستدلال، وما روى من إنكاره على معاوية.

وأما ابن الزبير: فروى شعبة عن أبي إسحاق قال: كتب إلينا ابن الزبير: "بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان"؛ صدق الفطر صاعًا صاعًا. واعتبارهم باطل بالشعير والتمر؛ لأنها جنسان، وقدر الزكاة فيها مختلف. فبطل ما قالوه. وبالله التوفيق. فصل لا خلاف أن صاع النبي صلى الله عليه وسلم أربعة أمداد، وإنما الخلاف في قدر المد؛ فعندنا وعند الشافعي أن المد رطل وثلث بالبغدادي؛ فيكون قدر الصاع خمسة أرطال وثلث، وإلى هذا رجع أبو سيف. وعند أبي حنيفة أن المد رطلان بالبغدادي؛ فلذلك قال: إن الصاع ثمانية أرطال بالبغدادي. والذي يدل على ما قلناه نقل أهل المدينة خلفًا عن خلف وآخر عن أول أن صاع النبي صلى الله عليه وسلم مقداره ما ذكرنا. وهذا الضرب من إجماعهم حجة على كل أهل الأمصار؛ لأنه نقل متواتر. وعلى نحو ذلك روى أن مالكًا - رضي الله عنه - لما جمع الرشيد بينه وبين يعقوب، وسألهما عن صاع النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه مالك ما ذكرنا، وقال يعقوب: إنه ثمانية أرطال، جمع مالك النس بالمدينة وسألهم عن صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلهم يقول: حدثنا أبى عن جدي، وأمي عن جدتي، وأخبرني سلفي وكل من أدركت من أهلي أن هذا هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم؛

فرجع يعقوب عن قول أبي حنيفة إلى قول مالك - رحمه الله. وقال الواقدي: طفت بصاع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مالك، وأبي الزناد، وابن أبي ذئب، وابن أبي شبرمة فوجدت عياره خمسة أرطال وثلث. وحكى عن أحمد بن حنبل - رحمه الله - أنه عيره فوجده مثل ذلك. فوجب [ق/ 117] بما ذكرناه من النقل المتواتر في ذلك من أهل المدينة - على ما وصفناه - أن يكون صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم هو هذا المقدار؛ كما وجب ذلك في نقلهم غزواته وموضع قبره ومنبره. فأما قول الكرخي - فيما حكى عنه - أن أبا يوسف لم يكن من سبيله أن يرجع؛ لأن أهل المدينة لم يقولوا إنه خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، وإنما أرادوا برطل أهل المدينة: فإته باطل؛ لأن مالكًا - رحمه الله - ويعقوب ومن حضر معهما من فقهاء المدينة وغيرهم لم يخف عليهم قصد أهل المدينة في ذلك مع كثرة أهل البحث وطول الفحص وشدة اهتمام الرشيد بهذا الأمر؛ فبطل ما قالوه. ولأن رطل أهل المدينة مائتا درهم؛ فلا يحصل منه واحد من المذهبين. وهذا الدليل هو عمدة المسألة. ويدل عليه أيضًا قوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: "أتؤذيك هوام رأسك؟ " قال: نعم. قال: "احلق رأسك وانسك بشاة، أو صم ثلاثة أيام وتصدق بثلاثة أصوع على ستة مساكين". وروى أنه قال: "تصدق بفرق".

ولا خلاف أن الفرق ستة عشر رطلاً؛ فدل ذلك على أن الثلاثة الأصوع مقدارها مقدار الفرق. فحصل من ذلك ما قلناه. فأما الأخبار التي ينعلقون بها فضعيفة مطعون على ناقلها. ولو سلمت من تضعيف رواتها لم تثبت في مقابلة المتواتر؛ لأنها أخبار آحاد، وقد بينا وجه الجواب عنها فيما سلف بما فيه كفاية عن الإعادة. فصل ومدار الكلام في هذا الباب على إجماع أهل المدينة، ووجوب إتباعه، وهل هو حجة أم لا. فإذا بينا ذلك بأن وجه الاستدلال به على فروعه، وما بني عليه. ونحن نذكر منه جملة مختصرة توضح من صحة ما نذهب إليه من ذلك، والله الموفق. اعلم أن إجماع أهل المدينة حجة عند مالك وأصحابه رحمة الله عليه وعليهم، وعليه بنوا الكلام في كثير من مسائلهم؛ مثل الأذان، والإقامة، وتقديم الأذان لصلاة الفجر قبل طلوع الفجر، ومقدار الصاع والمد، وإسقاط الزكاة في الحضر، ومعاقلة المرأة الرجل إلى ثلث الدية، وبغير ذلك. والكلام في هذا الباب في أربعة فصول: أحدها: في بيان الإجماع الذي نذهب إلى أنه حجة. والثاني: في الدلالة على ما نذهب إليه من ذلك، والكلام على أسئلة

المخالفين فيه. والثالث: الترجيح بما ليس بحجة منه، واختلاف أصحابنا فيه. والرابع: في حكم أخبار الآحاد إذا وردت في مقابلة هذا الإجماع الذي نقول إنه حجة. وقد أكثر الناس الكلام على أصحابنا في هذا الباب، وشنعوا عليهم فيه، وصنفوا عليهم فيه الكتب من غير علم بحقيقة مذاهبهم فيه، فإذا تأمل المصنف كلامهم وجدهم قد وضعوا مذاهب وتكلموا على فسادها. وليس هذا من الإنصاف، ولا مما يرضاه أهل الدين والتحصيل. والله المستعان. واعلم أن إجماع أهل المدينة في الأصل ضربين: أحدهما: نقل، وما في معنى النقل. والآخر: عن اجتهاد واستنباط. فأما النقل: فإنه على ضروب: منه نقل قول، ومنه نقل فعل، ومنه نقل قرار، ومنه نقل ترك. وأما الاجتهاد فيما لم يكن عندهم فيه نقل فاجتهدوا فيه؛ فأداهم اجتهادهم إلى بعض الأقاويل فصاروا إليه. وهذا يرد الكلام عليه فيما بعد. والكلام في هذا الموضع هو في القسم الأول، وهو الذي فيه الخلاف؛ فنقول وبالله التوفيق: إن الذي يخالفنا في هذا إما أن تكون مخالفته في كون النقل الذي هذه صفته حجة، أو في أن ما يدعى وجوده من ذلك غير

ثابت وأنه إن ثبت لم يخالفه. فإن كانت مخالفته في قيام الحجة به فذلك مخالفة لإجماع جميع أهل العلم من وجوب الرجوع إلى مخبر الخبر المتواتر إذا نقله ممن تقوم الحجة بنقله وإن لم يكونوا جميع الأمة؛ لأن شرط التواتر إذا حصل في النقل لزم العمل به، وليس من شرطه ألا يبقى أحد إلا وينقله، ولا يخالف في هذا محصل، وإن كان يخالف في أن هذا موجود في مسألتنا فنحن نبين ذلك. وقد اختلف أجوبتهم عند هذا التقرير بعد أن حكوا مذهبنا على غير وجهه، وأضافوا إلينا ما لا نقوله نحن ولا غيرنا؛ فمن ذلك حكاية جمهورهم عن مالك - رحمه الله - أنه قال: الإجماع الذي تحرم مخالفته هو إجماع أهل المدينة، وأنه لا معتبر بمن خالفهم. وهذا ليس بقول مالك، ولا لأحد من أصحابه، ولا أعلمه قولاً لمسلم أيضًا؛ لأن الناس في الإجماع على أضرب: منهم من لا يقول به أصلاً، ومنهم من يقول بإجماع الصحابة فقط دون بعدهم وهذه طريقة أهل الظاهر، ومنهم من يقول بإجماع أهل الأعصار وهذا مذهب مالك - رحمه الله - وكافة أهل العلم وفقهاء الأمصار، ويزيد مالك وأصحابه عليهم بقسم آخر وهو إجماع أهل المدينة. فأما أن يقول: لا إجماع إلا إجماع أهل المدينة، ولا معتبر بغيرهم: فغلظ عليه، وأضافه للمحال إليه. وحكى أبو بكر الصيرفي الشافعي - من أصحابنا - في مثل هذا المسألة التي عملها في إجماع أهل المدينة فقال ما حكيته. وقال فريق: الإجماع إجماع أهل المدينة، والخلف تبع لهم - يريد:

مالكاً وأصحابه-، وقد بينا أن هذا ليس بقولنا. ثم قال: يقال لمن قال ذلك: ما [ق/118] تعني بقولك: الإجماع إجماع أهل المدينة؟ أتعني إجماع الصحابة الذين كانوا بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن هو منزله، وممن هاجر إليها فنزل بها، وممن قد تفقه فيها، ومن خرج عنها ممن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمصار، ومن عماله في البلدان؟. فإن قال: هذا أعني. قيل له: فما يخالف في هذا الإجماع عالم ولا فقيه؛ لأنه إجماع الكافة حيث كانوا. وإن قيل: ليس هذا أعني، ولكن إجماع البعض. قيل له: كيف يكون بعضهم حجة على بعض دون أن يكون ذلك البعض حجة على من سميت؟ ثم بني كلامه وحجاجه على هذا التقسيم. وكل ذلك ليس بقول لنا، وقولنا خارج عن قسمته. وجوابنا عما أوردوه أن نقول: إن مرادنا بما نذكره من إجماع المدينة؛ وهو أنا وجدناهم ينقلون حكماً من الأحكام نقلاً متواتراً يخبر به خلفهم عن سلفهم قرنًا بعد قرن إلى أن يتصل ذلك بعصر الرسول صلى الله عليه وسلم إما قولاً كالأدان، أو عملاً؛ كنقلهم أن أذان الصبح لم يزل يقدم على وقتها، أو بإقرار، أو ترك؛ كنقلهم ترك أخذ النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة من الخضر والبقول. وهذا النقل الذي نذكر متصور معقول، لا نطالب فيه بكل الصحابة أو ببعضهم ولا بأعيانهم وأسمائهم؛ وكذلك كما ينقل أهل بلد من البلاد عن

أسلافهم قضية منتشرة بينهم يتوارثون نقلها خلفًا عن سلف وقرنًا بعد قرن، ولا يطالبون بتسمية من نقلوا عنه. وهذا المخالف بني تقسيمة على أن إجماعهم إجماع اعتقاد متجرد عن نقل؛ فلذلك قال: إن كان إجماعًا من البعض فالبعض لا يكون حجة. فإن قيل: فمحصول هذا يرجع على أن الاحتجاج بنقلهم الذي صفته ما ذكرتموه. قيل له: ذلك هو. فإن قيل: فهذا حالة للمسألة؛ لأن الكلام هو في إجماعهم، لا في نقلهم. قيل له: من هاهنا خبطت وخلطت؛ لأنك ظننت أن مرادنا بقولنا: إجماع أهل المدينة اعتقادهم للشيء رؤية واجتهادًا، وهذا لم نرده، وله باب آخر، وهو من أدنى ما ذكرناه. وقال آخرون: هذا جحد منكم لمذاهبكم؛ لأنكم عند التقرير عدلتم عن الإجماع إلى النقل، وكيف يسمى النقل إجماعًا؟ فعلم أن مذهبكم هو أن أهل لمدينة إذا أجمعوا على شيء كان لإجماعهم تأثير في الحكم؛ وعلى هذا تكلمنا. فالجواب: أن هذا تقويل لنا ما ليس بقول لنا، زعموا أنه يلزمنا الاعتراف به لئلا يثبت غلطهم علينا في الحكاية عنا، وأتى شيء يلزمنا إذا عبرنا عن الفعل المجمع عليه بأنه إجماع؟ وهل هو آكد من تسمية إجماعهم على الشيء اجتهادًا بأنه إجماع لأن هذا إجماع على الحكم فقط، وفي

مسألتنا إجماع على الحكم وعلى النقل. إلا أن موضع الاحتجاج هو بإجماعهم على النقل الذي لا يختلفون فيه، وهو كنقلهم المتواتر أن هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنبره وصاعه ومده، ولم ينقل فريق منهم هذا وفريق آخر غيره؛ فيقع اختلاف في النقل بالنقل جميعهم على حد واحد وصفة واحدة. وقد حكى شيخنا أبو بكر الأبهري - رحمه الله - أنه لما وافق الصيرفي على هذا اعتراف له به، وقال له: إن الإجماع من طريق النقل لا نخالفكم فيه؛ لأن قول مالك والشافعي فيه واحد؛ فما معنى احتجاج مالك علينا فيه؟ قال: فقلت له: إن مالكًا إنما احتج به على فقهاء العراق وغيرهم الذين يخالفونه فيه. وقال بعض من تكلم في هذه المسألة: ليس يخلو ما أجمع عليه أهل المدينة مما خالفوا فيه من أن يكون إجاعهم عن رواية اتصلت بهم لا مخالف لها فالحجة أداء الخبر دون القول والعمل. فيقال له: لسنا نقول بهذا، ولكن نقول: إن إجماعهم هو نقلهم الذي لا مخالف عليه منهم النقل الذي وصفناه، ولا نقول: اتصل بهم، ولا نحتج، باعتقادهم لموجب النقل منفردًا عن النقل. فأما قوله: الحجة إذا اتصل دون القول والعمل: فجوابه أنا كذل؛ نقول، ولسنا نحتج بمصيرهم إلى النقل واعتقادهم إياه، ولكن بنقلهم التواتر على أقسامه الذي قدمنا شرحها. فإن قال: فنحن لا نمنع أن يكون الخبر حجة، وإنما ننكر أن يكون إجماعهم عليه وعملهم به حجة، فإذا سلمتم أن العمل ليس بحجة في

النقل فقد سلمتم المسألة. قيل له: ليس الأمر على ما ظننته؛ لأن المسألة هي في نقلهم الذي وصفناه إذا نقلوه مجمعين عليه فعبرنا عن صفة هذا النقل بأنه إجماعهم، وكيف يكون قائلاً به وأنت مخالف له لقولك في الصاع والمد أنه غير الذي نقلوه، وكذلك في الأذان وزكاة الخضر وغير ذلك مما أجمعوا على نقله؟. فإن قال: إنما قلت: إنكم قد سلمتم المسألة؛ لأن النقل إنما يحتج به بنفسه دون الإجماع عليه ولا يوصف بأنه إجماع ناقليه. قيل له: من أين وجب هذا؟ أو لسنا نعلم ضرورة من دون الأمة أن صلاة الظهر أربع ركعات، وأنه لا يجهر في جميعها، وأن ذلك إجماع منها، وأنه مأخوذ من غير طريق الاجتهاد والقياس، بل بالنقل المتواتر المتصل؟ أفيمنعهم نقلهم له أن يسمي إجماعًا من ناقليه عليه؟ فكذلك سبيل نقل أهل المدينة. فإن قال: فما الفائدة في [ق/ 119] إجماعهم على النقل، وما الحاجة إلى ذلك في قيام الحجة بنقلهم وهو عندكم على ما وصفتموه من التواتر؟. قيل له: أترى أنهم لم يختلفوا فينقل بعضهم ذلك وبعضهم خلافه؟. وهذا نزاع في عبارة لا طائل فيها، ثم عندنا إلى بقية كلامه قال: أم يكون إجماعهم عن رواية قد خولفوا بمثلها كما تختلف الروايات، فإن كان كذلك فالواجب الرجوع إلى النظر بين الخبرين، وتأمل الروايتين دون تقليد أحد الفريقين. فيقال له: ما زدت في هذا الفصل على السجع دون ذكر ما تحتاج إليه،

أو لسنا قد بينا أم الذي تريده هو نفس نقلهم دون اعتقادهم له وإجماعهم على القول به؟ فأي معنى لقولك: أو يكون اجتماعهم عن رواية قد خولفوا فيها، والحجة هي نفس الرواية. فأما إن خولفوا فيما نقلوه فإن ينظر فإن خولفوا فيه إلى تواتر فلا حجة في أحد النقلين وإن خولفوا فيه إلى نقل آحاد كان نقلهم هو الحجة ولم يلتفت إلى النقل المخالف لنقلهم؛ لأنه آحاد في مقابلة تواتر. والمسألة مبنية على هذا القسم. ثم قال: أو يكون إجماعهم على استنباط؛ فبإزائهم استنباط المخالفين لهم، والحق إنما يعرف بالدليل. يقال له: أيضًا هذا تقسيم من لا يعرف قول مخالفيه، وقد بيناه؛ فلا فائدة في تكراره. فأما إجماعهم من طريق الاستنباط فليس هو مرادنا في هذا الموضع، ونحن نذكره فيما بعد إن شاء الله. فصل فإذا تقرر من مذهبنا ما ذكرناه فالذي يدل على أنه حجة أتصال نقله على الشرط المعتبر في التواتر من تساوي أطرافه، وكون ناقليه من الكثرة بحيث لا يصح عليهم التشاغر والتواصل والاجتماع على الكذب، ولا خلاف في قيام الحجة فيما هذا وصفه من النقل. فإن قالوا: هذه دعوى؛ لأنا لو سلمنا أن نقلهم لما نقلوه في هذه المسألة على هذه الصفة لم نخالفوه فبينوا ذلك.

قلنا: هذه مطالبة بوجود نقلهم الذي وصفناه، وذلك أمر مستفيض منتشر؛ لأن الذين نقلوا صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده هم الذين نقلوا قبره ومنبره؛ لأن ذلك نقل جميعهم خلفًا عن سلف وقرنًا بعد قرن، وكذلك إنهم لم يطالبوا بزكاة الخضر فنقلوا القول كما نقلوا الفعل، وأن الأذان كان على الصفة التي يؤذنون بها من الترجيح والتثنية دون الإفراد الذي يدعيه أهل العراق؛ وبذلك احتج مالك - رحمه الله - على أبي يوسف لما تكلما في الصاع والمد بحضرة الرشيد فقال مالك - رحمه الله -: هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقله الخلف عن السلف، وبعث إلى أهل الأسواق فكانوا يأتون أقوامًا يخبرون بأن هذا صاع النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانوا يؤدون إليه الزكاة به يخبرهم بذلك سلفهم عن سلفه إلى أن يتصل ذلك بعصره صلى الله عليه وسلم. وكان أبو يوسف يتعلق برواية يرويها عن مجاهد أو غيره، فلما رأى من ذلك ما لا يمكن دفعه ترك مذهب أبي حنيفة واعترف بصحة ما يذهب إليه أهل المدينة. وكذلك لما تكلم في الحبس والوقف، واحتج مالك بنقل أهل المدينة قرنًا بعد قرن أحباس رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقاته ووقوف أصحابه؛ فرجع أيضًا أبو يوسف إلى قولهم فيه. فإن قالوا: لو كان نقلهم ذلك متواتر - على ما وصفتم - لوجب أن نعلمه ضرورة، ولم يحسن الخلاف فيهن وكان يجب أن يكون ناقلوه أيضًا يعلمونه ضرورة، ولو كان كذلك كان مالفه جاحدًا للضرورة، وإن صرتم إلى هذا لزمكم أن تقولوا: إن أبا حنيفة وأصحابه وكافة فقهاء العراق، والشافعي وأصحابة جاحدون للضرورة، وفي هذا ما لا خفاء فيه.

قالوا: ويوضح هذا أن مدعيًا لو ادعى أن هاهنا خبر واحد لم يسمع هؤلاء الذين ذكرناهم به على مر الأعصار إلى هذا الوقت، ولا أحد منهم، ولا من أصحابهم لقدحت دعواهم مع كونه نقله أخفى وأقل ظهورًا وانتشارًا؛ فادعاؤه ذلك في النقل المتواتر أبعد. قلنا: أما قولكم أن ذلك لو كان على ما زعمناه لوجب أن يعلموه على حد ما علمناه، ولكن خفي عليكم؛ لقلة العناية به؛ لأن العلم لمخبر الخبر المتواتر يحتاج إلى مخالطة أهل الأخبار والناقلين لها ومكاثرتهم العلم به ابتداء من أول وهلة؛ ألا ترى أن كثير نقل الدين قد خفي على من لم يدخل فيه وعلى عوام الناس لقلة مخالطتهم. فإن قالوا: فهب هذا على العامة ومن لا يخالط أهل العلم فكيف يحسن ادعاء ذهابنا عنه مع حصرنا على العلم وعنايتنا به وأنا من ذلك بحيث يعلمون. قلنا: ليس هذا بمنكر ولا عجيب، وقد يحرص الإنسان على شيء ويقل حرصه وعنايته بطلب نظيره وما يشاركه في بابه وحكمه؛ ألسنا نحن وأنتم مع حرصنا على العلم وشد عنايتنا له ولزومنا له ومواضبتنا عليه وتوفر دواعينا على معرفة مذاهب المخالفين به ومناظرة بعضنا لبعض في المجالس وتصنيفنا الكتب فيه لشذ على بعضنا العلم بمذهب غيره في المسائل الظاهرة المنصوصة حتى يحكمها عنه بخلاف قوله ثم يسأله عنها يرجع عما حكاه إذا أخبرنا بخلافه. وأبين من هذا أنا نسمي لكم مخلفًا [ق/ 120] في مسألة من المسائل من فتنكرون أن تكونوا سمعتم بذكره وأن تكونوا علمتم وجوده في العالم فضلاً عن خلافه، ولا أحصى من كلمته من

المخالفين فذكر له خلاف ابن المواز وابن حبيب مع موضعها من العلم وتصنيفهما فيه الكتب التي ما سبقا إلى مثلها فقالوا: ما سمعنا بها ولا القوم ولا عرفنا في الفقهاء من يسمي بهذا الاسم أفترى أن هؤلاء القوم لا نعلم أنهم كانوا موجودين علمًا ضروريًا لا يخالفنا فيه شك ولا ريب على حد ما نعلم وجود مالك وأبي حنيفة والشافعي، ولكن قلة المخالطة والنظر في كتب المخالفين وسماع الأخبار بجلب هذا، ولسنا نخصكم بذلك، بل علينا مثله فيما نقل فيه مخالطتنا وسماع أخبار الناقلين له، فحصل من هذه الجملة أنه ليس كل ما علمه بعض الناس متواتر الأخبار مما يحتاج إلى حرف من العناية والبحث، ومطالعة الأخبار، ومخالطة الناقلين؛ فيجب أن يعلمه من لم يشاركه في ذلك. ويقال لأصحاب الشافعي خاصة: ألستم تحتجون على أبي حنيفة بالنقل المتواتر في الصاع والمد؟ أيمكنكم إذا جاء بكم أصحابه بمثل ما اعترضوا علينا به من أن ذلك لو كان متواترًا لعلموه كما علمتموه أن تجيبونهم إلا بمثل ما أجبناكم به؟؛ فاعلموا أنكم إذا اعترضتم بمثله علينا فإن اعتراضكم عائد عليكم؛ فجوابه يسقط عنا. وأما قولهم لو كان ذلك معلومًا ضرورة لم يحسن الخلاف فيه: فدعوى؛ لأن ذلك غير ممتنع فيما يحتاج إلى مخالطة وبحث؛ على ما ذكرناه في كثير من الأخبار. ولأن كثير من أهل الأصول يتقول وقوع العلم الضروري بمخبر خبر المتواتر ويحسن مناظرته عليه؛ ويبين ذلك أنه قد لا يحسن الخلاف في جملة خبر مقبول ويحسن الخلاف في تفصيله؛ ألا ترى أن "الموطأ" لمالك "والكتاب" لسيبويه معلوم في الجملة لا يحسن الخلاف

فيه ويحسن في تفصيله ومسائله؛ إذ قد يعلم الجملة من لا يعلم التفصيل؛ ولذلك حسن تجاحد أشياء معلومة هي معلومة بالتواتر أو بالآحاد، وهل هي معلومة ضرورة أو استدلالاً لما كان الحال فيها ما وصفناه!. فأما قولهم على هذا أنه يوجب أن يكون من خالف جاحدين للضرورة: فجوابه أنا لا ندعي عليهم ذلك مع علمهم به، ولكن كما يدعون علينا مثله في بسم الله الرحمن الرحيم وغيرها، فأما أصحاب الشافعي فيلزمهم الاحتجاج على أهل العراق بنقل الصاع والمد مثل ما ألزمونا، ويقال لهم في جوابه هذا لو لم يكن ذلك معلومًا ضرورة، لكن مالك بن أنس وأصحابه وغيرهم من فقهاء المدينة رضي الله عنهم يدعون الضرورة فيما هم غير منظرين إليه ولا عالمين به؛ فما يستحسنون من الجواب في هذا فيجب أن يرضوا بمثله، وما ذكروه من خبر الواحد، وأنه لا يجوز أن يخفي على مسلم إلا أن يبين كذب مدعيه أو أن يرد على وجه مخالف العادة في الأخبار. فإن قالوا: فقد ثبت في الجملة أن كل خبر متواتر فإنه حجة يلزم المصير إليه فما فائدة تخصيص أهل المدينة ومثله لازم في نقل كل أهل بلد؟ قيل لهم: لسنا نزعم أن الخصة تخص نقل أهل المدينة فقط دون غيرهم من أهل البلاد، ولكن لم يتفق لغيرهم من ذلك ما اتفق لهم، ولو اتفق لغيرهم مثل نقلهم لكان حجة، وليس ذلك لمعنى يرجع إلى البلاد ولا إلى من ولد فيه وأقام فيه، ولكن لأمور اتفقت لهم عدمت فيمن سواهم من مصاحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكونه بينهم، ومشاهدتهم لما يقوله ويفعله ويقر عليه أو يتركه إلى أن مات؛ فتوارثوه بينهم نقلاً كما توارثت أهل كل بلد

نقل سيرة سلطانهم وما كان تعاملهم به واستفاض بينهم معرفة غيرهم منهم؛ فكذلك سبيل غير اهل المدينة مع نقل أهل المدينة أنهم يعرفون ما عرفه أهل المدينة من قبل نقلهم إليهم؛ فكان أصل التواتر بها. فهذا وجه اختصاصهم بثبوت الحجة بنقلهم. هذا عمد ما يورده المخالفون، وما نجده من كلامهم سواه فإنما هو على ظنهم أنا نقوله؛ فمن ذلك إفسادهم الاحتجاج لإجماع أهل المدينة للأخبار المورثة في فضلها، وهذا لا يتعلق به نحن ولا غيرنا. ومن ذلك قولهم أن أهل المدينة بعض الأمة، والخطأ جائز عليهم، وأن الدليل إنما قام على عصمة جميع الأمة دون بعضها. وهذا أيضًا لا تعلق فيه؛ لأنه كلام على من يزعم أن إجماعهم من طريق الاجتهاد حجة، وليس هذا مسألتنا. ومنه أيضًا قولهم: إنه قد ذهب عليهم ما استعملوه من غيرهم ولهذا لا تمنع الحجة بمتواتر نقلهم كما لم يمنع ذلك في نقل الأمة. ونحن نعقب هذا بالكلام من إجماعهم من طريق الاجتهاد إن شاء الله. فصل قد بينا أن الإجماع من طريق النقل حجة، وأما إجماع أهل المدينة من طريق الاجتهاد فاختلف أصحابنا فيه على مذهبين: أحدهما: أنه حجة يلزم المصير إليه. والآخر: أنه ليس بحجة على انفراده، ولكن يرجح به اجتهاد غيرهم من أهل العلم كما يرجح سائر المذاهب المقتضية للترجيح. وهذا مذهب

أصحابنا البغداديين، وهو الذي كان ينصره شيخنا أبو بكر الأبهري، ويحكيه عن ابن [ق/ 121] بكير، وابن متاب، وأبي الفرج، وأبي يعقوب. والأول قول قوم من متقدمي أصحابنا، وهو الذي يدل عليه قول ابن مصعب الزهري وأحمد بن المعدل وغيرهما، وإليه أشار أبو محمد بن أبي زيد في مقدمة كتاب الكبير، وقد نصره قاضي القضاة أبي الحسن بن أبي عمرو في مسألته في إجماع أهل المدينة التي عملها نقضًا على أبي بكر الصيرفي الشافعي، واحتج من نصر هذا بأن قال: لأن المدينة لما كانت عرصة النبوة، ودار الوحين وأهلها قد شاهدوا التنزيل، وسمعوا ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا أعرف بطرق الأدلة وأبصر من غيرهم ممن ثبت له هذه المزية بوجوه الاجتهاد وطرق الاستخراج والاستنباط. قالوا: ولأن السنن والأحكام منها ابتدئت، وعنها انتشرت إلى أهل الآفاق، وقد كان الحكم مستفيضًا بها، ثم لا يعلم بغيرها إلا بعد مدة من نقل من ينقله إليهم، فإذا وجدناهم مجمعين وترك غيره من الأقيسة؛ لأن ذلك محمول على أنه عن توقيف علموه أنه نسخ لذلك الخبر فاستغنوا عن إيراده اكتفاء بإجماعهم على خلافه كما تستغني الأمة عن نقل ما عنه اجتمعت على الحكم؛ لأنه ليس إلا ذلك. أو القول بأنهم تركوا التوفيق عنادًا إلى قول ابتدعوا، وذلك باطل. واحتجت الفرقة الأخرى من أصحابنا بأن قالوا: إنهم بعض الأمة، والعصمة إنما تثبت لجميعها، فلا يؤمن من وقوع الخطأ منهم فيما اجتهدوا

فيه، وبذلك فارق النقل. قالوا: وقد قال الله تعالى:} فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول {وقال:} ويتبع غير سبيل المؤمنين {، وهذه سبل لبعض المؤمنين. وقال شيخنا أبو بكر: وعلى هذا معنى السلف الصالح من أمة نبينا صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم إلى هذا العصر، ولم يحك عن أحد فيما طريقه الاجتهاد أنه قال لمن خالفه: اتبعني في الاجتهاد ودع اجتهادك من غير حجة يقيمها له أو برهان يبرهنه. قال: ولأن طريق الاستدلال مبذول مفتوح لأهل العلم لجعلهم الله فيه شرعًا واحدًا، وإن كان قد فضل بعضهم على بعض في الفهم فلا يجب أن يكون حجة عليه. قالوا: فأما ما تعلقوا به من معرفتهم بأسباب التأويل وطرق الدلالة: فالأمر فيه على ما قالوه، ولكنه يصلح أن يرجح به اجتهادهم. وقولهم: إن ذلك محمول على أنه توفيق من علمهم بنسخ أو تخصيص: فبإزائه أن يقال ذلك في اجتهاد غيرهم. فإن قالوا: فهذا ينقض ما عليه كافة فقهاء أصحابنا من ثبوت المزية لهم على غيرهم، وفضيلتهم بالمشاهدة، واختصاصهم بالقرب والمعاينة على من نأى ولم يشاهد واعتمد على خبر ينقل إليه دون المعاينة. قلنا: ليس الأمر كذلك؛ بل كل هذه المزية ثابتة في الترجيح

باجتهادهم؛ على ما ستذكره. وأما في تحريم غيره وترك سائر الأدلة له فلا. وكذلك فقد أثبتنا في إجماعهم من طريق النقل وهو الذي يعتمد في كثير من المسائل. وأما تقسيمهم أن ذلك لا يخلو أن يكون عن سنة عملوها أو بدعة أحدثوها فقد أخلو فيه بقسم آخر؛ وهو أن يكون عن اجتهاد واعتقاد كون الأمر على ما صاروا إليه، وليس في هذا أنهم أحدثوا شرعًا ابتدعوه، ولا أنه لابد أن يكون الأمر على ما ادعوه. والله أعلم. فصل فإذا ثبت هذا فمتى نزلت حادثة لا نص فيها فقال أهل المدينة فيها قولاً من طريق الاجتهاد، وأدى غيرهم من أهل الأمصار اجتهادهم إلى قول يخالفه؛ فرجح القولان؛ فإن اجتهاد أهل المدينة أولى من اجتهاد غيرهم. وقال أبو حنيفة وأصحابه الشافعي: إن اجتهادهم واجتهاد غيرهم سواء. ورأيت بعض من صنف الأصول من أصحاب الشافعي يذكر أن الخبرين إذا تعارضا وقد عمل بأحدهما أهل المدينة فإنه يرجح على الخبر الآخر؛ ويحتج في ذلك بما نحتج في هذه المسألة. والذي يدل على ما قلناه: أن الترجيح إنما يثمر قوة الظن فيكون القول الذي يقاربه أقرب إلى الحق، وأولى إلى الصواب، ووجدنا العلماء قد

سلكوا فيما هذه سبيله طرقًا فمنها: كثرة عدد رواة الخبر، ومنها كون رواته أبصر بالحكم وأعرف وأخبر بالقصة التي ينقلها؛ كنقل أبي رافع تزويج النبي صلى الله عليه وسلم بميمونة حال إحلاله، ونقل ابن عباس لذلك أنه كان حال إحرامه، وإن أبا رافع كان السفير بينهما؛ فالظاهر أن السفير يخبر عن أمر القصة ما لا يخبره غيره. ومثل كون الراوي أقدم صحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأكثر اجتماعًا به منه؛ كما قال الشافعي في رواية أسامة: "إنما الربا في النسيئة": إن عمر وعبادة والمشيخة أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم من أسامة. وكذلك في تفسير الراوي لأحد محتملي الخبر أو عمله به أو تعليله قولاً لصحابي، والآخر عريًا من ذلك، وأن أحد المذهبين يعضده قول صحابي والآخر قول تابعي، وما جرى مجرى ذلك. وإذا ثبت هذه الجملة وجدنا الترجيح لاجتهاد أهل المدينة ثابتًا من عدة وجوه: منها ما ذكره أصحابنا في الفصل الذي قبل هذا؛ وهو أن لهم من حرمة القرب والمشاهدة والمعرفة بمخارج الكلام وأسباب الأحكام ما ليس لغيرهم ممن يرجع إلى أمر ينقل له وخبر يروى له؛ فكان اجتهادهم أولى؛ لأن سببه الذي بني عليه أقوى كما حكينا في وجوه ترجيحات الأخبار؛ ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز [ق/ 122] الحية إلى جحرها"؛ وهذا يدلك على أن ما يصيرون إليه أقرب إلى الحق والصواب من قول غيرهم كما رجح بعض من يخالفنا اجتهاد عمر - رضي الله عنه - على اجتهاد غيره بقوله صلى الله عليه وسلم: "الحق ينطق

على لسان عمر وقلبه"؛ ويدل عليه أن الصحابة كانوا يتوقفون على الفتيا في الحادثة إذا نزلت وهم غائبون عنها، ويؤخرون ذلك إلى وقت عودهم إليها، وروى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر، وأشار عبد الرحمن به على عمر فقال: أمهل يا أمير المؤمنين لتقدم دار الهجرة وبها الصحابة. وقد علمنا أن ذلك لاعتقادهم أن النفوس تكون بها أشرح والاجتهاد فيها أقوى والتبين لأسبابه أمكن. وهذه طرق واضحة في وجوب ترجيح اجتهادهم على اجتهاد غيرهم. وبالله التوفيق. وبمثل ذلك قال الشافعي للربيع: يا بني إني والله لك ناصح إذا جاءك الأصل من أصل أهل المدينة فاشدد يديك به. وقال: ما في الأرض كتاب بعد كتاب الله أكثر صوابًا من كتاب مالك - رحمه الله-. فصل أما الكلام في عملهم المتصل إذا عارضه خبر واحد، وأن المصير إلى عملهم هو الواجب وترك الخبر الواحد له: فالذي يدل عليه أنه إذا ثبت أن هذا العمل طريقه طريق النقل لا الاجتهاد دخل فيما دللنا عليه من أ، هـ نقل تواتر، فإذا ورد في مقابلته آحاد وجب تركها له عما يجب ذلك في تركها للقول؛ لأن الحجة في النقل المتصل عملاً كان أو قولاً.

وقد أكثر المخالفون التشنيع على أصحابنا في ذلك بتقويلهم ما لا يقولون من أنه لا يقبل الخبر إلا إذا صحبه على أهل المدينة، ورووا أخبارًا لم يصحبها عمل أهل المدينة، ولا كان عندهم علم بأحكامهم حتى رجعوا إليها من رجوع عمر في الجزية إلى خبر عبد الرحمن بن عوف، وفي توريث المرأة من دية زوجها إلى حديث الضحاك بن سفيان وغيره. وكل هذا تقويل لنا غير قولنا، وإنما مذهبنا أن الخبر إذا روى لم يخل حاله من عمل أهل المدينة من أحد ثلاثة أمور: إما أن يكون عملهم مطابقًا له؛ فهذا يؤكد العمل به والأخذ بموجبه. أو أن يكون عملهم بخلافه؛ فهو الذي يقول: إن عملهم أولى منه، وأن الخبر يجب أن يترك له؛ ويريد بذلك العمل المنقول. أو أن لا يكون عندهم عمل به ولا يخالفه في المسألة لا يتصور إلا على هذا الوجه. فأما أن نقول: لا يقبل الخبر حتى يصحبه العمل فمعاذ الله، وليس إذا قلنا أن العمل أولى منه متى كان بخلافه فوجب أن نكون قد قلنا: إنه لا يقبل حتى يصحبه العمل؛ فبان بذلك غلطهم علينا فيما يضيفونه إلينا. وهذا الذي يذهب إليه مالك وأصحابه من ترك الخبر للعمل المنقول ليس بمذهب انفردوا به؛ بل هو مذهب أكابر التابعين؛ قال أبو الزناد في خبر وجد العمل بخلافه ألف عن ألف أحب إلي من واحد عن واحد. وقال غيره: لو رأيتهم يتوضئون إلى الكوعين وأنا أقرأ إلى المرفقين لتوضأت إلى الكوعين.

وذكر عن جماعة من التابعين أنهم يتركون أحاديث إذا سئلوا عنها قالوا: ما نجهل هذا، ولكن وجدنا العمل على غيره. وروى أن أبا بكر بن محمد بن حزم، وكان إذا قيل له: لم لم تقض بحديث كذا؟ يقول: لم أجد العمل عليه. والكلام في فصول هذه المسألة طويل، وقد ذكرنا ما فيه إن شاء الله مقنع وبلاغ، وأشبعنا ذلك في مقدمات كتاب "الفروق"، وتكلمنا فيه كلامًا شافيًا، والله ولي التوفيق، ثم عدنا إلى الكتاب. مسألة قال رحمه الله: "وتؤدى من جل عيش أهل ذلك البلد من بر أو شعير أو سلت أو تمر أو إقط أو زبيب أو دخن أو ذرة أو أرز. وقيل: إن كان العلس قوت قوم أخرجت منه. وهو حب صغير يقرب من خلقة البر". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي - رحمه الله - أعلم أن أول ما في هذا أن زكاة الفطر متعلقة بالأقوات فلا يجزئ أن يخرج فيها ما ليس بقوت. هذا قولنا، وقول الشافعي. وحكى عن أبي حنيفة جواز إخراج كل مأكول في زكاة الفطر حتى ذكر عن يونس بن بكير أنه حكى عنه أنه قال: إن أخرج صاعًا من الهليج أجزأ عنه. وهذا يدل على أنه لا يعتبر بالقوت، ولا يجوز أن يحمل ذلك على

أنه قال على أصله في القيمة؛ لأنه اعتبر الصاع. والدلالة على ما قلنا: قول ابن عمر: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير الخبز"؛ فوجب بذلك حصرها على قدر ما ذكر فيها إلا أن تقدم دليل. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" وقد علم أن غناءهم إنما هو بتحصيل أقواتهم؛ لأنهم لا يستغنون بالهليج، ولأنه ليس بقوت؛ فأشبه غير المأكول. فصل ولا خلاف في جواز إخراج البر في زكاة الفطر، وذهب بعض من لا يعتد بخلافه إلى منعه قال: لأنه روى عن ابن عمر أنه كان لا يخرج إلا الشعير، فقيل له: قد وسع الله الخير والبر. فقال: إن أصحابي يسلكوا سبيلاً أريد أن أسلكه. وعندنا أن هذا القول خرقًا للإجماع؛ فلا يعتبر به، ليس في هذه الحكاية عن ابن عمر أنه كان لا يجوز إخراج البر، ولا أصحابه كانوا لا يجوزون ذلك؛ فلا تعلق فيها. ثم الذي يؤكد ما قلناه: ما رواه الزهري عن ثعلبة بن أبي صغير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر أدوا صاعًا من قمح أو شعير. وروى وكيع عن داود بن قيس الفراء عن عياض بن عبد الله عن أبي

سعيد قال: "كنا نخرج صدقة الفطر إذ كان فينا رسول [ق/ 123] الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من أقط". ولأنه قوت؛ فجاز إخراجه في صدقة الفطر؛ اعتبارًا بالتمر. فصل وأما الأقط فإن إخراجه جائز لأهل البادية. وللشافعي قولان: أحدهما: أنه يجوز إخراجه. والآخر: أنه لا يجوز. ومن أصحابه من قال: أنه علق القول فيه. ونكتتهم في منع إخراجه أنه قوت لا تجب في عينه الزكاة؛ فلم يجز إخراجه في زكاة الفطر؛ اعتباره اللحم و []. والدلالة على ما قلنا: ما روى مالك عن زيد بن أسلم عن عياض بن عبد الله بن سعد أنه سمع أبا سعيد يقول: "كنا نخرج زكاة الفطر صاعًا من طعام، أو صاعًا من تمر، أو صاعًا من شعير، أو صاعًا من أقط، أو صاعًا من زبيب". ورواه داود بن قيس عن عياض عن أبي سعيد فزاده فيه: "إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولا يجوز أن يحمل ذلك على عدم إذنه؛ لأن أبا سعيد أخرج ذلك مخرج الاحتجاج وفعله بغير إذن صاحب الشريعة لا حجة فيه.

وروى كثير بن عبد الله بن عمر، والمزني عن ربيح بن عبد الرحمن عن أبي سعيد أن رجالاً من أهل البادية قالوا: يا رسول الله إنا أولوا أموال فهل تجوز عنا من زكاة الفطر؟ قال: لا؛ فأخروجها عن الصغير والكبير والذكر والأنثى والعبد والحر، صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من شعير". وقال أصحابنا: ولأنه مقتات مدخر مستفاد من أصل تجب الزكاة في عينه يجزء منه الصاع؛ فأشبه الحبوب. وما ذكروه ليس بقوت عام، والسنة أولى منه. وأما جواز إخراج الزبيب فلا خلاف فيه بين فقهاء والأمصار، وحكى عن بعض المتأخرين منعه. والدلالة على جوازه ما روى الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صغير عن أبيه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر صاعًا من تمر، أو صاعًا من زبيب، أو صاعًا من بر". وهذا نص. وفي حديث أبي سعيد: "كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صاعًا من تمر أو شعير أو زبيب". ورواه ابن عباس أيضًا. ولأنه قوت مدخر؛ فأشبه التمر. فصل فأما التمر والشعير: فلا خلاف في جواز إخراجهما؛ ويؤكد ذلك ما رويناه من الأخبار فيه. فأما ما عدا ذلك مما ذكرناه فإنها أقوات عامة؛ فإذا كانت عيش قوم جاز إخراجها في الزكاة؛ اعتبارًا بالمنصوص فيما يخرجه بعيش أهل البلد غالبًا.

فإن كان ممن يخص نفسه بقوت أعلى منه استحب له أن يخرج الزكاة مما يقتاته، فإن أخرج قوت أهل البلد أجزأه. وإن كان يقتات دون قوت أهل البلد، وهو قادر على قوت أهل البلد لزمه إخراج ما يقتاته غالب الناس، ولم يجزئه إخراج ما يأكله هو. وزعم عبد الملك بن حبيب أن هذا في غير التمر والحنطة والشعير، فأما في هذه الثلاثة الأشياء فإنه مخير يخرج. فحصل من هذا أنه إذا كان غالب قوت أهل البلد الحنطة فأخرج هو شعير أنه لا يجزئه. وللشافعي قولان: أحدهما مثل قولنا. والآخر مثل قول ابن حبيب. والدلالة على ما قلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم". والطلب إنما هو للقوت، فإذا أعطاهم الشعير وقوتهم الحنطة فلم يغنهم عن الطلب. ولأنه لما كان عليه إذا كان يقتات أعلى من قوتهم أن يخرج من قوتهم الغالب، ولا يلزمه أن يخرج مما يقتاته؛ كذلك إذا كان يقتات دونه فالواجب أن يخرج من غالب أقواتهم. ووجه قول ابن حبيب قوله صلى الله عليه وسلم: "صاعًا من تمر أو شعير"، وذلك يفيد التخيير بين هذه الأشياء؛ فمن أيها أخرج أجزأه. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "ويخرج السيد عن عبده، والصغير الذي لا مال له يخرج عنه والده، ويخرج الرجل زكاة الفطر عن كل من تلزمه نفقته، وعن مكاتبه وإن كان لا ينفق عليه، لأنه عبد له بعد". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي - رحمه الله: اعلم أن قولنا وقول فقهاء الأمصار أن على الإنسان إخراج صدقة الفطر عن من تلزمه نفقته في الجملة وإن اختلفنا في تفصيل ذلك على ما سنذكره. وعند داود: أنه لا يلزم الإنسان زكاة الفطر عن أحد غيره، لا عن ولده ولا عن عبده. والدلالة على بطلان قوله ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أدوا زكاة الفطر عن من تمونون". وروى الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد ممن تمونون". وروى ابن وهب قال: كتب إلى كثير بن عبد الله عن ربيح بن عبد الرحمن عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقوم من أهل البادية في زكاة

الفطر: "أخرجوها عن الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والعبد والحر صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب. ولأنها طهرة تحري مجرى المؤنة، فأشهبت النفقات. فصل فأما ولده الصغير إذا لم يكن له مال فيلزمه عندنا وعند أبي حنيفة والشافعي إخراج زكاة الفطر عنه فأما الكبير الزمن إذا لم يكن له مال، وقد لزمته نفقته فيجب أن تلزمه زكاة الفطر عنه، وهو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه ذلك. ودليلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: "عمن تمونون" ولأنه ممن تلزمه مؤنته مع كونه من أهل الطهرة، فأشبه الصغير. ولأن البلوغ لا يمنع من وجوب فطرته على غيره إذا كانت مؤنته لازمة لغيره، وكان من أهل الطهرة في نفسه، اعتبارًا بالعبد. وإن قاسوه على الحر البالغ الموسر قلنا: المعنى فيه أنه [ق/ 124] لا تلزمه نفقته. فصل ويلزمه عندنا أن يؤدي زكاة الفطر عن زوجته المسلمة وإن كانت موسرة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه ذلك، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض صدقة الفطر عن كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين، وظاهر هذا العموم

يقتضي أن تكون فرضًا عليها عن نفسها. ولأن كل من خوطب بإخراج زكاة الفطر عن رقبته وجب أن يكون مخاطبًا بذلك عن نفسه. دليله: الرجل. ولأن الزوج لما لم يلزمه أداء زكاة الفطر عن رقيقها لم يلزمه أداؤها عنها، اعتبارًا بالأجنبية ولأن منافعها مستحقة بعوض فلم يلزم مستحقها أداء الفطر عنها. دليله: الأجير. ولأنها زكاة فلم يتحملها عنها الزوج، اعتبارًا بزكاة المال، ولأنها عبادة متعلقة بالمال، فأشبهت الكفارات. والدلالة على صحة قولنا: ما روى الضحاك بن عثمان عن نافع عن ابن عمر قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الصغير والكبير، والحر والعبد ممن تمونون. والزوجة ممن يمونها الإنسان، فلزمه أداء زكاة فطرتها عنها بهذا الظاهر. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أدوا زكاة عمن تمونون". ولأنها من أهل الطهرة، فوجب أن يلزم فطرتها من تلزمه مؤنتها إذا كان قادرًا على ذلك. أصله: الولد الصغير. ولأنه التزم نفقتها بسبب يوجب التوارث من الطرفين، فوجب أن تكون فطرتها على من تلزمه النفقة الراتبة إذا كان من أهل الطهرة.

أصله: الأبوان، والولد الصغير. ولأنها مستباحة البضع بالعقد فأشبهت الأمة. ولأن الفطرة تابعة للمؤنة فيمن هو أهلاً للطهرة، بدلالة أن العبيد لما لزمت ساداتهم مؤنتهم لزمتهم فطرتهم. فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "على ذكر وأنثى" فمعناه: من يمون نفسه دون من تلزم غيره مؤنته، بدليل خبرنا. ولا يصح قياس الزوجة على الزوج، لأن مؤنته على نفسه، والفطرة تابعة للمؤنة، وليس كذلك الزوجة. على أن إخراجها زكاة الفطر عن رقيقها دليلنا، لأنه إنما لزمه ذلك لا لتزامها مؤنتهم، فلما كان الزوج ملتزمًا لمؤنتها لزمه أداء فطرتها كما لزمها هي في رقيقها. ولا يصح اعتبارها بالأجنبية، لأنه لا يلزمه مؤنتها، ولا بالأجير أيضًا، لأن مؤنتها يقصد بها الوصلة لا المعاوضة المحضة، ففارقت الأجير. ولا يصح اعتبارها بزكاة المال، لأن موضوعها يختلف، وذلك أن زكاة المال طريقها طريق العبادات، فالإنسان يختص به في نفسه من غير أن يخاطب غيره به عنه، وما طريقه المؤن فهو تابع للنفقة، ألا ترى أن مخالفنا قد فرق بينهما في اليتيم فأوجب في ماله زكاة الفطر دون زكاة المال، وتفارق الكفارات، لأنها لا تصح النيابة فيها على وجه. وليس كذلك الفطرة، لأن التحمل يصح فيها، بدلالة أن على الرجل أن يخرجها عن أصاغر ولده وعن عبيده، والله أعلم. فأما عبده المكاتب فعنه في إلزامه إخراج فطرته روايتان:

أحداهما: أن ذلك يلزمه. والأخرى: أنه لا يلزمه. فوجه قوله إنه يلزمه، اعتبارًا بالعبد والأمة وأم الولد والمدبر، بعلة وجود الرق مع كونهما من أهل الطهرة. ووجه قوله إنه لا يلزم أن زكاة الفطر تابعة للنفقة، فلما لم يلزم السيد النفقة على مكاتبه لم يلزمه إخراج فطرته. فصل فأما اشتراطه أن يكون المخرج عنه مسلمًا فهو قولنا، وقول الشافعي. وقال أبو حنيفة: يلزمه أن يخرج عن عبيده الكفار زكاة الفطر، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر". ولقوله: "ممن تمونون" فعم. وفي الأخبار على كل حر وعبد مسل أو نصراني. ولأن المؤدي من أهل الطهرة فوجب أن تلزمه نفقة رقيقه. أصله: إذا كان العبد مسلمًا لمسلم. ولأن كون العبد كافرًا لما لم يمنع وجوب الزكاة فيه للتجارة لم يضع وجوب الفطرة عنه إذ الاعتبار بالسيد المزكي عنه، لا بالعبد. والدلالة على ما قلنا: ما روى عكرمة عن ابن عباس قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم - زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعماً للمساكين.

وفي حديث آخر: زكاة الفطر بلى ذكر فرض. فأخبر عن صفة الزكاة، وعن علة فرضها، وهي كونها طهرة للصائم، فنفى بذلك وجوبها عن الكافر، ولأنه ليس بصائم، فلا تكون طهرة له. فإن قيل: فليس في الخبر ذكر لصائم دون صائم، فيقول: إنها طهرة للسيد. قلنا: هذا فاسد من وجهين: أحدهما: إن الظاهر أن المراعي في الطهرة للصائم والمخرج عنه، لا المخرج، لأن ما طريقه التكفير من اللغو والرفث لا يحصل بالأداء عن الغير. والوجه الآخر: إن الإجماع حاصل على أن طهرة الشخص الواحد صاع واحد، وأنتم توجبون عليه صاعين: أحدهما عنه، والآخر عن غيره، فيصير الصاع الآخر طهرة عن ليس بصائم. وأيضًا قوله صلى الله عليه وسلم: "على كل حر وعبد ذكر وأنثى من المسلمين" فدل ذلك على أن الكفارة بخلافهم، وأنه ليس من أهل الطهرة، فلم يلزم أن تخرج عنه الفطرة. دليله: العبد الكافر إذا كان لكافر، والأبوان الكافران. ولأن حال السيد آكد من حال عبده، وقد ثبت أن السيد لو كان كافرًا لم تلزمه فطرة نفسه، فبأن لا تلزمه عن غيره أولى. ولأن الاعتبار بالمؤدي عنه لا بالمؤدي، يدلك عليه أن المسلم يلزمه أداء

الفطرة عن أبيه المسلم، والكافر لا يلزمه أداء الفطرة عن أبيه الكافر، لأن المؤدي عنه ليس من أهل الطهرة. ولو ارتد ابن المسلم لسقط عن أبيه أداء الفطرة، لأن الذي يؤدي عنه صار من غير أهل الطهرة [ق/ 125]، ويبين هذا عندنا في الابن إذا بلغ زمنًا فقيرًا، أو ارتد أن فطرته تسقط عن الأب. وعلى مذهب أبي حنيفة في الصغير إذا ارتد، لأن ردته صحيحة عندهم. فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر" فمفهومه أن عليه أن يؤدي عنه الفطرة في الجملة، وأن الفطرة ليست كزكاة الرقاب. فأما شروطها والأحوال التي إذا كان العبد عليها أديت عنه ينبئ الخبر عنه. وقوله: "ممن تمونون" مقيد بقوله: "من المسلمين" وقوله: "مسلم أو نصراني" غير معروف ولا ثابت، فلا يلزمنا الجواب عنه. وقولهم: إن المؤدي من أهل الطهرة فأشبه إذا كان العبد والسيد مسلمين: لا معنى له، لأن الاعتبار المودي عنه على ما ذكرناه على أن المعنى في الأصل كون المؤدي عنه من أهل الطهرة، وليس كذلك في الفرع. واعتبارهم بزكاة التجارة باطل، لأنها تكون طهرة للسيد، وزكاة الفطر طهرة للمخرج عنه، فإذا لم يكن من أهل الطهرة لم تلزم عنه، على أنه باطل بما ذكرناه من ارتداد الابن. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: ويستحب إخراجها إذا طلع الفجر من يوم الفطر". قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب بن علي - رحمه الله: والأصل في ذلك قوله تعالى:} قد أفلح من تزكى * وذكر اسم رب فصلى {. قيل في تأويله: أدى زكاة الفطر، ثم خرج لصلاة العيد، فروى إسماعيل بن إسحاق حدثنا أبو ثابت حدثنا عبد الله ابن نافع المدني عن كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن قوله تعالى:} قد أفلح من تزكى {قال: "زكاة الفطر". وروى عبيد الله عن نافع قال: كان ابن عمر إذا صلى الغداة قال: يا نافع أخرج الصدقة، فإنما أنزلت في هذا:} قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى {. وروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز وأبي العالية. هذا من الظاهر. فأما من الأثر: فما رواه موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بزكاة الفطر أن تؤدي قبل خروج الناس إلى الصلاة. وروى حكيم بن حزام عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول: "قربوا قبل خروجكم زكاة الفطر". والمعنى في ذلك هو أن يستغني بها الفقير في ذلك اليوم عن الطلب. واستحب قبل الصلاة، ليشتغل الفقراء بالصلاة عن الطلب في ذلك الوقت، وفي جملة اليوم، وقد وردت السنة بهذا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم". فصل فأما وقت وجوبها فتخرج فيه روايتان: إحداهما: أنها تجب بغروب الشمس من آخر يوم من رمضان. والأخرى: أنها تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر. وللشافعي - رضي الله عنه - قولان: وعند أبي حنيفة - رحمه الله - أنها تجب بطلوع الفجر. وكان أبو بكر بن الجهم يقول: الصحيح من قول مالك أنها تجب بطلوع الشمس يوم الفطر وهذا ليس بشيد مما سنذكره. فوجه قوله إنها تجب بغروب الشمس ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان. فأضافها إلى الفطر من رمضان، وحقيقة ذلك لا تكون إلا بغروب الشمس، لأن ذلك أول فطر يتعقب خروج رمضان.

وسألوا عن هذا فقالوا: إطلاق اسم الفطر لا يتناول إلا زمانًا يصح في مثله الصوم، وزمان الليل لا يصح فيه الصوم، فلم ينتظمه الخبر. الجواب: إن هذا باطل، لأنه لو لم يتناول الليل لما قالوه لوجب ألا يتناول يوم الفطر به أيضًا، لأن صومه لا يصح في الشرع، ولكان لا يجب أن يسمى يوم الفطر كما لا يسمى بذلك، لأن حكم يوم الفطر في أنه لا يصح الصوم فيه كحكم أجزاء الليل، فعلم بذلك بطلان ما قالوه. على أن اسم الفطر متعلق على زمان الليل باللغة والشرع، فأما الشرع: فقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم"، فسمى زمان الليل زمان فطر. وقوله صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه". فأما اللغة: فإن الفطر ضد الإمساك الذي هو الصيام، لأن الإنسان لا يخلو من هذين الحالين، وهما يتعاقبان عليه الصوم والفطر، فإذا انتفى عنه الوصف لأحدهما ثبت له الوصف الآخر. وسألوا فقالوا: لو تناوله الخبر ليلة الفطر لتناول سائر ليالي رمضان، فعلم بذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يرد الليل، لأنه وقت الفطر في تضاعيف رمضان أيضًا. فالجواب: أن هذا لا يعترض على الخبر، لأن لوجوب علق بالفطر في

رمضان، وهذا يقتضي أن يكون فطرًا عن جميع رمضان لا عن بعضه، فبطل ما قالوه. وسألوا أيضًا فقالوا: روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فطركم يوم تفطرون" فأضافه إلى اليوم دون الليلة. فالجواب عن هذا أنه خص اليوم بذلك لمعنى، وهو أنه أول فطر من رمضان نهارًا، فأما ليلة شوال فإنه أول فطر يتعلق رمضان ليلاً بالخبر الذي رويناه، فثبت أن اسم الفطر من رمضان يتعلق على الموضعين. فإن قالوا: فلم صرتم بأن تعلقوا حكم الوجوب بالليل بأولى منا أن نعلقه بالنهار؟ قلنا: لأنه أول ما يسبق إلى تناول الاسم كما فعلنا ذلك في الأب وفي التفرق بالقول، وكما فعلناه نحن في الشقيقين، وغير ذلك. وسألوا أيضًا فقالوا: لو كانت ليلة شوال فطرًا من رمضان لم يسم الزمان الذي بعدها فطرًا، ألا ترى أن يوم الفطر لما سمى بذلك لم يسم ما بعده باسم الفطر؟ فالجواب أن هذا حجة حجة لنا، لأن اسم الفطر لا يتناول يوم الفطر إلا بتقييد الزمان، لأنه يقال: [ق/ 126] يوم الفطر، وهذا يوم الفطر، وقد وجدنا هذا يستعمل في الليلة أيضًا فيقال: ليلة الفطر كما يقال: يوم الفطر. فإن قيل: معنى ذلك الإضافة إلى اليوم الذي يقع فيه الفطر. قيل له: هو للأمرين معًا.

وجواب آخر: وهو أنه إنما يسمى ذلك، لأنه أول فطر من جنس زمان صوم رمضان، فلم يقع الاسم على ما قبله من جنسه. هذه جملة الأسئلة على الخبر. ومن الدلالة على ما قلنا: ما رواه ابن عباس قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر طهارة للصيام من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين. فأخبر عن المعنى الذي من أجله فرضت، وهو أن تكون طهرة للصائم أو من هو في حكم الصائم، وذلك يفيد أن من صام رمضان ثم مات قبل طلوع الفجر فقد وجبت عليه الزكاة. فأما من ولد بعد غروب الشمس فلم يدرك الصوم ولم يحصل له تحرم بإدراكه فلم يتعلق به حكم الوجوب، ولأنه لم يدرك شيئًا من رمضان فلم يلزم إخراج الفطرة عنه. أصله: إذا ولد بعد طلوع الفجر يوم الفطر. ولأن كل ليلة فحكمها حكم اليوم الذي بعدها إلا ليلة عرفة، يبين ذلك أن ليلة شوال من شوال، وكذلك ليلة رمضان، وكذلك إذا أراد الاعتكاف دخل قبل غروب الشمس إلى معتكفه ليستوفي اليوم بليلته. وإذا ثبت ذلك ثم اتفقنا على أن من ولد يوم الفطر لا يحرم إخراج الفطرة عنه، كذلك من ولد ليلة الفطر. فهذا وجه هذا القول. ووجه القول أنها تجب بطلوع الفجر ما روى أنه صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر

من رمضان. وإطلاق الفطر من رمضان لا يفهم منه إلا يوم الفطر. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"، فنبه بذلك على ما تعلق الوجوب باليوم. ولأنه حق في مال يخرج يوم عيد على طريقة المواسة، فوجب أن يتعلق بطلوع الفجر. أصله: الأضحية. ولأنه فطر في ليل، فأشبه تضاعيف الشهر. ولأنه أدرك طلوع الفجر يوم الفطر وهو في ماله، فأشبه إذا أدرك الطرفين. فهذا وجه هذا القول. والأول أنظر وأقيس، وقد مضى في أدلته ما هو جواب عن هذا. وبالله التوفيق.

مسألة قال رحمه الله: "ويستحب الفطر فيه قبل الغدو إلى المصلى، وليس ذلك في الأضحى، ويستحب في العيدين أن يمضى في طريق ويرجع في أخرى". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي - رحمه الله: قد بينا ذلك في باب صلاة العيدين بما يغني عن إعادته، فلذلك لم نعده هاهنا. كمل آخر كتاب الزكاة.

باب في الحج والعمرة

بسم الله الرحمن الرحيم باب في الحج والعمرة مسألة قال الشيخ: أبو محمد عبد الله بن أبي زيد رضي الله عنه وحج بيت الله الحرام الذي بمكة فريضة على كل من استطاع إلى ذلك سبيلاً من المسلمين الأحرام استطاع إلى ذلك سبيلاً من المسلمين الأحرام البالغين مرة في عمره. والسبيل: الطريق السابلة، والزاد المبلغ إلى مكة، والقوة على الوصول إلى مكة إما [راجلاً أو راكبًا]، مع صحة البدن". قال القاض ألو محمد عبد الوهاب بن على - رحمه الله -: علم بدئًا قبل الكلام على ما ذكره أن الحج ف اللغة: القصد؛ تقول العرب: حجنا البيت نجحه أي: قصدناه قال الشاعر: أما والذي حج المصلون بيته ... مشاة وركبانًا محرمة البزل أراد: قصد المصلون بيته. وقال: يحجن باليقظ حفاف الروح ... حج النصارى العيد وم الفصح أراد: يقصدون.

ويقال: الحج، والحج: بفتح الحاء وكسرها؛ فإذا كسرت فهو الاسم، وإذا فتحت كان مصدرًا؛ حججت أحج، حجًا. وقوله تعالى:} ولله على الناس حج البيت {قد قرئ بالوجهين جميعًا. وحكى عن الخليل أنه قال: الحج: هو كثرة القصد إلى من تعظم. قال الشاعر: وأشهد من عوف حلولاً كثيرة ... يحجون سب الزبرقان الزعفرا قال السب: العمامة. وكان الزبرقان يصبغ عمامته فكانوا يقصدون صبغ عمائمهم بمثل صبغه. والنسك في اللغة: العبادة؛ يقال: رجل ناسك أي متعبد، ومنه قوله تعالى:} فإذا قضيتم مناسككم {أي: متعبداتكم. وقيل: إن أصل النسك في اللغة: الغسل، وقولهم: نسك ثوبه معناه: غسله. ومنه قول الشاعر: ولا ينبت المرعى سباخ عراير ... ولو نسكت بالماشية أشهر

فهذا معناه في اللغة، إلا أنه في استعمال الشرع: العبادة؛ على ما بيناه من قولهم: فلان ناسك ومتنسك أي: متعبد. وفي حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوم الأضحى فقال: "إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة، ثم الذبح"؛ فسمى الصلاة نسكًا، فأما تسمية الذبح نسكًا فمن هذا المعنى إذا كان على وجه القربة ومنه قوله تعالى:} ففدية من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ {، وقوله:} وأرنا مناسكنا {معناه: أفعال حجنا. وقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عنى مناسككم". معناه: أفعال حجكم فهذا معنى النسك فأما العمرة فقد اختلف في معناه؛ فقال قوم من أهل اللغة: معناه القصد بمعنى الحج، واستدلوا بقول الشاعر: لقد سمى ابن معمر حين اعتمر ... مغزى بعيدًا من بعيد وضبر يريد: حين قصد ما فعله وطلبه. وقال آخرون: معنى الاعتمار: الزيادة؛ يقال: اعتمر فلان إذا زار.

وأنشدوا: يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر يريد: الزائر. فأما معناها [ق/ 127] في الشرع: فهو قصد البيت على وجه مخصوص. فأما تسمية البيت بأنه عتيق في تأويل قوله تعالى:} وليطوفوا بالبيت العتيق {ففيه عن أهل اللغة ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه سمى بذلك؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة. هذا يروى عن مجاهد. والثاني: أن الله تعالى أعتقه من الغرف في زمان طوفان نوح - عليه السلام. والثالث: أنه سمى بذلك لكرمه، والعتيق عند العرب: الكريم، يقال: حسب عتيق، وفرس عتيق. وأنشد الفراء: أما والله لو كنت حرًا ... وما بالحر أنت ولا العتيق أي: ولا الكريم.

وهذه جملة كافية في معنى هذه الفصول. فأما الدلالة على وجوب الحج: فمن الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. فأما الكتاب: فتقول عز وجل:} ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر الله غني عن العالمين {. ففي هذه الآية دليلان: أحدهما: إخباره بأنه عليهم، وذلك من ألفاظ الوجوب. والآخر: قوله تعالى:} ومن كفر فإن الله غني عن العالمين {. قال الحسن وغيره: "ومن كفر" معناه: من لم ير الحج واجبًا. وقال مجاهد: "من كفر" من إذا حج لم ير أنه فعل برًا، وإن ترك لم ير أنه فعل مانعًا. وأيضًا قوله تعالى:} وأتموا الحج والعمرة لله {. فإن قلنا: إن إتمام الشيء يعبر عنه عن الابتداء فقد استقدنا بالظاهر الوجوب. وإن قلنا: إن الإتمام إنما هو لما قد دخل فيه استفدنا بذلك وجوب إتمامه على الداخل فيه بالظاهر، واستعذنا وجوب الابتداء بمفهوم اللفظ؛ وذلك أن الأمر المطلق أمر بها لا يتم الشيء إلا به، فلما أوجب علينا إتمام الحج

ولم يكن لنا سبيل إلى إتمامه إلا بالدخول فيه وجب لذلك ابتداءه. وأيضًا قوله تعالى:} ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه {؛ فروى أن اليهود لما سمعت ذلك قالوا: نحن مسلمون فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم حجهم. فقال: إن الله فرض عليكم الحج. فقالوا: ليست هو علينا فأنزل الله عز وجل:} ومن كفر فإن الله غني عن العالمين {. وأيضًا قوله تعالى:} وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً {معناه: مرهم به أو أعلمهم بوجوبه فهذا من الكتاب. وأما السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بنى الإسلام على خمسة ... " فذكر فيهن الحج. وقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأله عن الإسلام: "وحج البيت". وقوله صلى الله عليه وسلم: "حجوا قبل أن لا تحجوا".

وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفي الله فرض عليكم الحج" فقام رجل فقال: أف كل عام يا رسول الله؟ فقال: "حج حجة الإسلام التي عليك". وقوله صلى الله عليه وسلم: "من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائز فليمت إن شاء يهوديًا أو إن شاء نصرانيًا". فدلت هذه الأخبار كلها عن فرض الحج ولزومه. وأما الإجماع: فمعلوم ضرورة من دين الأمة وجوب الحج في الجملة وإن اختلفوا في شروط وجوبه على ما سنذكره مفصلاً في بابه إن شاء الله. فإن قال معنت لأبى محمد - رحمه الله - ما معنى هذا التقييد وفائدة هذا الإحتراز الشديد بقولك: وحج بيت الله الحرام الذي بمكة؟ قيل له: لأن المساجد يطلق عليها أنها بيوت الله تعالى، وليس حجها واجبًا. فإن قال بإطلاق قولنا بيت الله الحرام يكفى ما ذكره فما الفائدة في قوله الذي بمكة؟. قيل له: الفائدة فيه التأكيد وزيادة البان، وذلك غير ممتنع ولا مستهجن، وقد قال الله تعالى:} ولكن تعمى القلوب التي في الصدور}،

وقال سبحانه:} فسجد الملائكة كلهم أجمعون {فإن كانت القلوب لا تتوهم في غير الصدور وكان دخول الألف واللام في التبين للجنس يفيد العموم عند مثبتيه، وكذلك لفظ كل وجميع؛ فبطل هذا الاعتراض والإعنات.

فصل فأما قوله: إن الحج يجيب مرة في العمر؛ فلقوله تعالى:} ولله على الناس حج البيت من استطاع {، وذلك يفيد أول ما يقع عليه الاسم؛ فروى أبو الأحوص عن على - رضوان الله عليه - قال: لما نزلت} ولله على الناس حج البيت {قالوا: يا رسول الله الحج كل عام؟ فسكت؛ فنزلت} لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم {. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "ولو قلت نعم لوجبت". ورمى شريك عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت} ولله على الناس حج البيت {قال رجل: يا رسول الله أفى كل عام؟ قال: "حج حجة الإسلام التي عليك، ولو قلت نعم لوجبت عليكم". وروى محمد بن زياد عن أبى هريرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله عز وجل فرض عليكم الحج". فقام رجل: يا رسول الله أفى كل عام؟ فسكت، ثم أعاد فسكت، فأعاد الثالثة: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قلت نعم وجبت عليكم، ولو وجبت ما قلتم بها".

وروى: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيها الناس كتب عليكم الحج". فقيل يا رسول الله أفى كل عام؟ قال: "لا، ولو قلتها لوجبت. الحج مرة فمن زاد فقد تطوع". وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أتكفى حجة واحدة؟ قال: "نعم، فإن زدت فهو خير لك". ولا خلاف في أن الحج لا يتكرر وجوبه. وقد يفرق بينه وبين سائر العبادات من الصلاة والصيام بأن الحج يتعلق بأمور يلحق فيها التكلف والمشاق فمنها: الإحرام المانع من كثير من الملاذ، وما يلحق فيه من العنت والتعب. ومنها: قطع المسافة البعيدة التي تلحق فيها المشقة الشديدة والمخاطرة العظيمة كما قال تعالى:} وتحمل أثقالكم [ق/ 128] إلى بلدٍ لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس {. فإن كل هذا يلحق في فعله مرة واحدة في العمر فما قولك فيه لو تكرر وجوبه في كل عام. وكل هذا معدوم في الصلاة والصيام وسائر العبادات؛ فجاز أن تتكرر.

فصل فأما اشتراطه الاستطاعة في الوجوب؛ فلتعليق الله تعالى ذكره إيجاب الحج بها بقوله:} ولله على الناس حج البيت من استطاع {إلى حج البيت من الناس سبيلاً أن يحج البيت. وهذا هو بدل الشيء من بعضه؛ لأن المستطعين بعض الناس؛ كما تقول: ضربت زيدًا رأسه؛ فجعل رأسه بدلاً من زيد، وهو بعضه. ولا خلاف في أن الاستطاعة شرط في وجوب الحج، وإنما الخلاف في تعيينها على ما سنذكره إن شاء الله.

فصل فأما اشتراطه الإسلام: فلأن الكافر لا يصح منه التقرب بالعبادات مع الإقامة على كفره. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما أعرابي حج قبل أن يهاجر فعله حجة فعلهي حجة الإسلام إذا هاجر". معناه: قبل أن يسلم. فصل فأما اشتراطه البلوغ في وجوب الحج: فلأن عبادات الأبدان المتقرب بها لا تلزم من لم يبلغ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث ... " فذكر الصبي حتى يبلغ. ورفع القلم عنه هو إسقاط التكليف عنه. وروي يزيد بن ربيع حدثنا شعبة عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيما صبي حج ثم أدرك الحلم فعليه أن

يحج حجة أخرى". وروى ابن عبد الحكم أخذنا ابن لهيعة عن معذ بن محمد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولو حج الصغير عشر حجج كانت عليه حجة بعد أن يكبر". فصل فأما اشتراطه الحزية: فلأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيما رواه ابن عباس عنه بالإسناد الأول "أيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى". وروى ابن عبد الحكم عن ابن لهعية عن معاذ بن محمد عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولو حج العبد عشر حجج كانت عليه حجة بعد أن يعتق". ولأن العبد يملك سيده منافعه فليس له إبطالها عليه بخروجه إلى الحج والجمعة والجهاد إلا حيث يدل عليه الدليل. وقد دخل في ذلك اشتراط العقل وإن لم يعرج به؛ وذلك لأن غير العاقل لا يصح تكليفه؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة ... " فذكر المجنون حتى يفيق. ولأن الحاج يحتاج إلى نية، ولا يصح ذلك من غير العاقل، ولا خلاف في ذلك.

فصل قال: وإمكان المسير من شروط وجوب الحج، وذلك يختلف باختلاف الأوقات والعادات؛ فإذا أمكنه الوصول إلى البيت على ما جرت به عادة الناس لزمه ذلك. فإن كان في طريقه عدو وقد تحقق أمره، وعلم أنه لا طاقة له به بطلب النفوس والأموال والغارة وما أشبه ذلك فلا يلزم الحج؛ لقوله تعالى:} ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة {، ولقوله:} ولا تقتلوا أنفسكم {. ولأنه لما كان إن أحصر بعدو بعد أن أحرم بالحج يُحل منه، ولا يلزمه بعد التلبس به القضاء فيها ولا قضاؤه؛ فكذلك قبل الدخول فيه؛ بل هو أولى. فأما إن علم من حال هذا العدو أنه إنما يطلب شيئًا من المال ويمكن الناس من الخروج ويسلمون منه مع بذل ما يطلبه فذلك على وجهين: إن كل الذي يطلب أمرًا يخرج عن العادة في العظم والكثرة وقدر الجحف ويؤثر فذلك مسقط لتطيق الوجوب ما دام هذا العدو قائمًا ولا طريق إلى الحج إلا عليه. وإن كان الذي يطلبه قدرًا لا يؤثر فيها لكونه يسيرًا لم يسقط بذلك فرض الحج. وكان القاض أبو عبد الله البصري المالكي المعروف بفلفل يقول: إذا لم

يوصل إلى الحج إلا ببذل شيء من المال لم يلزمه الحج، سواء كان الذي يطلبه قليلاً أو كثيرًا. حكى هذا عنه أبو جعفر الأجهرى. ويعتد في ذلك بأن هذا جور ممن يفعله؛ فلا يؤمن أن يخضر الأمانة وينكث؛ فيحصل الإنسان مغررًا بنفسه وبماله معه، وهذا ممنوع. قال: ولقوله عز وجل:} ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل {، وهذا من قبيله؛ لأن بذل هذا المال لا يتيقن معه الوصول إلى البيت لا محالة، وبلوغ الغرض في بذله، ولا يؤمن من نكث العدو وجوره وغدره؛ فيذهب المال باطلاً، ويحصل التغرير به في النفس، ولا شيء يمنع من أن يكون هذا العدو الجائر يأخذ المال ويبذل الأمان حتى إذا صار الناس بحيث لا طاقة لهم به غدرهم وطالبهم بكل ما معهم واحتال في قتلهم؛ فحصل تغريرًا من هذا الوجه. وإذا بلغ جوره إلى أن يبذل الطريق الذي لا ملك له عليه إلا بسخت يأخذه جاز أن يبلغ جوره إلى أن يخضر الأمانة. وإذا صح هذا سقط فرض الحج ما دام هذا العدو قائمًا،. وصار في منزله من قيل له: إن في هذا الطريق سبعًا ولصًا لا يكاد يسلم منه أحد. وهذا الذي قاله ليست بصحيح؛ أما قوله: إن مثل هذا لا يؤمن أن خفر الأمانة فليس على ما قال؛ لأن العادة إذا كانت قد جرت معه بأن يمكن الناس من حجهم ولا يعارضهم إذا أدوا إليه ما صالحوهم عليه حصلت الثقة بذلك من جهة العادة وغلبهم الظن، اللهم إلا أن يكون النكث معلومًا

من حاله، والغدر متكررًا منه. فأما ما لم يحصل ذلك منه فتجويره لا يستطيع الحج إن كان بإزائه ما ذكرناه من الثقة بالعادة. وليست ذلك بأكثر من الكفار الذين أمر الله تعالى أن تبذل لهم الأموال ليستعين بهم المسلمون مع العلم أن ذلك لا يؤمن منهم. وأما قوله: إذا استجاز إباحة ما لا يستحقه على سبيل الجور جاز أن يغدر بهم وبخفر الأمانة: فليس بصحيح أيضًا؛ لأن العادة تؤثر في هذا الباب تأثيرًا يقع العالم بحاله معه أو غلبة الظن القائمة مقام العلم، فقد يكون ممن له غرض [ق/ 129] في هذا المقدار فقط، وذلك نعلمه بتكرر الخروج معه ومر الأوقات؛ فيسقط ما قالوه. وأيضًا ما ذكره يبطل ما اتفقت عله من جواز استنجاز الإنسان من يخفره من الأعراب واللصوص، فإن كان جائزًا أن يخفر الأمانة ويسلمه إلى عدوه، فلو أثر ما قاله في سقوط الوجوب لأثر في جواز الفعل. ولا نعلم ذلك، قولاً واحدًا. فأما تعلقه بقوله تعالى:} ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل {فغير صحيح؛ لأن هذا له مذموم؛ وهو النهي عن القمار والغرر وما أشبه ذلك، وما تنازعناه فليس من هذا في شيء؛ لأنا قد بينا أن العادة إذا جرت بالوفاء مع القدر الذي يطلبه حصلت الثقة بذلك. والله أعلم.

فصل فأما الاستطاعة المعتبرة في وجوب الحج فقد اختلف الناس فيها؛ فعندنا أن الاعتبار فيها بحال المستطيع؛ فإن كان ممن يمكنه الوصول إلى البيت ببدنه مع عدم الراحلة لزم ذلك، وإن كان ممن لا يمكنه إلا براحلة وإن كان يقوى على المشي ولا مال له وليس من عادته المسألة لم يلزمه. وإن كانت المسألة عادته لزمه الحج. وجملته أن الاستطاعة: القوة والصحة والتمكن. ورويت هذه الجملة عن عبد الله بن الزبير وأبى جعفر والضحال وعكرمة. وليس يحفظ عنهم التفصيل الذي ذكرناه. وقال أهل العراق والشافعي: الاستطاعة: الزاد والراحلة، فمن عدمها أو أحدهما لم يلزمه فرض الحج. والدلالة على صحة قولنا: قوله تعالى:} ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً {. فأوجب الحج على من حصل مستطيعًا له. والاستطاعة: صفة المستطيع بها يكون مستطيعًا؛ وذلك يقتضى أن يكون معنى قائمًا به، وليست ذلك إلا ما قلناه. وأيضًا فإنه ألزم مستطيع الحج أن يحج، ولم يفرق بين أن يكون

مستطيعًا ببدنه وبماله؛ فبأي شيء استطاع لزمه. وهذا إذا سلمنا أن الاستطاعة بالمال استطاعة حقيقية. فإن قيل: إن في حمل الظاهر على قدرة البدن إسقاطًا لفائدته؛ وذلك أن الله تعالى علق وجوب الحج بشرط الاستطاعة؛ فعلم أنه أراد معني زائدًا على قدرة البدن؛ لأنه لو أراد ذلك لا كتفى بقوله سبحانه:} ولله على الناس حج البيت {. إذا كانت أدلة العقول قد شرطت حصول القدرة والإمكان مع التكليف فصار مجرد قوله:} ولله على الناس حج البيت {متضمنًا لهذا المقدار، فلما لم يكتف به حتى قال تعالى:} من استطاع إليه سبيلاً {أفاد أمرًا زائدًا عل ذلك. وليس إلا ما قلنا. فالجواب أن أكثر ما يلزم هذا السؤال أن قوله جل اسمه:} من استطاع إليه سبيلاً {قد أفاد معنى زائدًا على قدرة البدن لو تركبا ومجرد قوله عز وجل:} ولله على الناس حج البيت {لم يعلقه منه، ونحن نقول بذلك، ولكن لا نحصل منه اشتراط الراحلة؛ لأن سؤالهم يتضمن أنا متي أثبتنا معنى لا يفيد مجرد التكليف فقد وفينا الاستدلال حقه. فإن قيل: وما ذلك المعنى؟.

قلنا: سقوط تكلف المشاقة الشديدة والمخاطرة العظيمة والخروج عن العادة من عدم الزاد، وتكلف السؤال لمن لم تجر بذلك لعادة، ومع خطر الطرق ومنع العدو، وغير ذلك مما لا يحيل جواز التكليف معه ولا تمتنع صحة التعبد في تحشيه. وإذا صح ذلك بطل سؤالهم. وجواب آخر؛ وهو أن إحالة العقول للتكليف مع عدم القدرة يوجب أن يكون الظاهر إذا حمل على قدرة البدن فقد أسقطت فائدته؛ لأنه قد يكون ذكر الاستطاعة فيه تأكيدا لما قد ثبت بالعقول كقوله تعالى:} إنما الله إله واحد {و} إنما أنا بشر مثلكم {وغير ذلك. ودليل آخر: وهو قوله تعالى:} وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامرٍ {وهذا لفظه لفظ الخبر، والمراد به الأمر؛ فقد دل الظاهر على وجوب الحج على الراجل والراكب. ودليل آخر وهو ما روى أبو أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة، أو مرض حابس، أو سلطان جائز فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيًا ... ". فأخبر هن الأعذار التي يسقط معها الوعيد على ترك الحج، ولم يجعل عدم الراحلة منها. وروى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:

"الاستطاعة الزاد". قياس معتمد. ولأنه قادر على الحج من غير خروج عن عادة ولابد؛ فأشبه أن يجد الراحلة. وقولنا: من غير خروج إلى بدله: احترازًا منه إذا قدر أن يسأل الناس وليست من عادته. وقولنا: عن عادة: احترازًا من تكلف شدة الطريق في كل وقت. فإن قالوا: المعنى في واجد الراحلة أن المشقة تسقط عنه بوجوبها، وليس كذلك إذا لم تكن له راحلة؛ لأن المشقة تلحقه. فالجواب: أن هذه المشقة لا تخلو أن تكون مؤثرة في القدرة على الحج في العادة، وقد علمنا بطلان ذلك، لأن من عادة قطع المسافة البعيدة والمداومة على الأسفار الشاقة مشيًا وهو يتمكن من ذلك في الحج فليس تلحقه في هذا السفر إلا كما تلحق الراكب من التعب، ولو كانت هذه المشقة مؤثرة في القدرة لم يجب الحج معها، أو أن تكون تلحق فيما يجرى مجرى الرفاهة والراحة فهذا لا اعتبار به. فإن أبو إلا الإجمال نقضاه، فمن شق عليه الخروج من أجل مفارقة وطنه والاستيحاش بالسفر وقلة الحركة والتصرف، فإذا كان ذلك لا معتبر به فكذلك ما ذكروه. أيضًا فلأنه قادر على الوصول إلى البيت من غير خروج عن عادته؛

فأشبه أهل الحرم. واستدل من خالفنا بقوله تعالى:} ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً {. قالوا: ففي هذه الآية [ق/ 130] دليلان: أحدهما: من حيث المعقول. والآخر: من حيث البيان. فأما المعقول فهو أن الأمر إذا ورد مطلقًا بالوجوب تضمن القدرة حتى يكون كالمنطوق به. وإذا ثبت ذلك كان قوله تعالى:} ولله على الناس حج البيت {مجرده كافيًا فيما قلناه. فلما قال عز وجل:} من استطاع إليه سبيلاً {أفاد أمرًا زائدًا على قدرة البدن؛ فصح ما قلناه. وأما البيان فهو أن الله تعالى شرط الاستطاعة في وجوب الحج ولم يبينها ولا ذكر جنسها فوردت السنة بتفسيرها. وروى إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر قال: لما نزل قوله تعالى:} من استطاع إليه سبيلاً}.

قام رجل فقال: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "زاد وراحلة". وروى أبو إسحاق عن الحارث بن على عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت الله فلم يحج فلا عليه إن شاء أن يموت وهو يهوديا أو نصرانيا"؛ وذلك لأن الله تعالى يقول:} ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً {. فالجواب: أن تعلقهم بمفعول اظاهر ليس بصحيح بما بيناه من أنا نقول بموجبه، ولا يحصل منه سقوط الحج مع عدم الراحلة. وأما الأخبار التي رووها فإنها ضعفية؛ لأن إبراهيم بن يزيد الحوزي ضعفه أهل النقل؛ ضعفه يحيي بن معين وغيره. على أن الجواب عليه من وجهين: أحدهما: أنه لا يجوز أن يكون بيانًا؛ لأن من حق البيان أن يكون طبق المبين منتظمًا له، وألا يخصص ببعضه دون بعض، ومتى لم يكن به ذلك لم يكن بيانًا. وإذا صح هذا، وكانت الآية عامة في كل من يلزمه الحج سواء كان ممن

الراحلة من شرط استطاعته أو لا لم يجز أن يكون قوله: السبيل: الزاد والراحلة بيانًا لآية؛ لأن السبيل المذكور فيها سبيل كل من اشتملت عليه وفيهم من ليست الراحلة من اسطاعته، وصار الخبر متوجهًا على بعضه، ومنهم من يحتاج إلى الراحلة؛ فخرج لذلك أن يكون بيانًا. وقد اعترضوا على هذا الجواب بشيئين: أحدهما: أن قالوا: إنما كان يلزم ما قلتموه لو كان قوله:} ولله على الناس حج البيت {يتناول أهل مكة وغيرهم، وليس الأمر كذلك عندنا؛ فإن الظاهر يتناول إلا من عدا أهل مكة؛ بدلالة قوله عز وجل:} ولله على الناس حج البيت {، والمراد بالبيت الحرام، ومن هو في الحرم لا يقال له: اقصد الحرم، وإنما يقال ذلك لمن نأى عنه. وهذا الاعتراض باطل من قبل أن الظاهر من الآية العموم والاستغراق، ولا يلزم قولهم أنها خاصة، وإن تخرج عن ظاهرها؛ ليصح كون الخبر بيانًا لها. واستدلالهم على ذلك بأن من في الحرم لا يقال له: اقصده: باطل من وجهين: أحدهما: أن المراد بقوله عز وجل: "البيت": البيت نفسه دون الحرم ودون مكة، وإن كان قصده مضمنًا بقصدها. ويصح أن يقال لمن هو في الحرم: اقصد مكة، ولأهل مكة: اقصدوا البيت، ولمن هو بباب

المسجد: اقصد البيت، كما يصح أن يقال لمن هو في ناحية من نواحى مكة: اقصد موضع كذا لناحية أخرى منها. وإذا كان كذلك بطل ما قالواه. والوجه الآخر: أنا لو سلمنا هذا لم يضر؛ وذلك أنه إنما كان يمتنع ما قالوه لو كان قوله تعالى:} ولله على الناس حج البيت {يوجب قصد اللغوي حتى يقال: إنه لا يصح أن يقال لفاعل الشيء في حال فعله: افعله، كما لا يقال للقائم: قم، وللقاعد: اقعد؛ فالمراد به غير ما وضع له في الغة؛ وهي أفعال مخصوصة تشتمل على الطواف والسعي والوقوف وغير ذلك؛ فلا يكون الخطاب الموضوع في اللغة؛ يبين ذلك أن مجرد اقصد إلى البيت في اللغة لا يلزم به طوافه ولا السعي ولا الوقوف بعرفة. وقد اتفقنا على أن قوله: ولله على الناس حج البيت يتضمن هذا أجمع؛ فثبت أن المراد به غير ما وضع له الاسم في اللغة. وإذا صح هذا بطل ما قالوه. والاعتبار الآخر أن قالوا: نحن نسلم أن الآية عامة في أهل مكة وغيرهم، وكذلك يجب أن يكون البيان، إلا أن الدلالة منعت من حمل البيان على عمومه؛ فصار كالعموم الذي ظاهره الاستغراق؛ فينتقل عنه بالدليل. فيقال لهم: أولى في هذا بطلان قولكم أن السائل سأل عن السبيل المذكور في الآية؛ على أن البيان إذا تخصص خرج عن أن يكون بيانًا،

واحتاج إلى بيان، وكأن قصته في ذلك قصة ما هو بيان له؛ وذلك يؤدي إلى أن لا يوثق بيان أصلا، أو إلى أن يكون البيان هو الثاني دون الأول؛ وذلك أيضًا مخرج اللفظ عن أن يكون بيانًا. على أنهم إذا صاروا إلى هذا جاز لنا أن نقول: إن هذا بيانًا لمن الراحلة من شرط استطاعته، وليس بيانًا لمن بقدر على المشي ببدنه كما قالوا: إنه ليس ببيان لأهل الحرم. والجواب الثاني من أصل الخبر: هو أنه يجوز أن يكون السائل يسأل عن استطاعه نفسه، وكان ممن لا يستطيع الحج إلا براحلة؛ فقال: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة". وهذا غير ممتنع. فإن قالوا: إن القائل قال: ما السبيل؟؛ فأدخل الألف واللام، وليس يخلو دخولها أن يكون للجنس، أو للمعهود؛ فإن كان للجنس فذلك ما قلناه، وإن كان للمعهود فلا معهود إلا السبيل المذكور في القرآن. قلنا: كيف يمكنكم أن تقولوا: إن كان دخولها للجنس فهو [ق/ 131] قولنا ومن قولكم أن أهل الحرم ليس من شرط استطاعتهم الراحلة. والواجب أن يكون دخولهما للمعهود، ولكن قلتم: إنه لا معهود إلا ما ذكر في القرآن هذا نفس الدعوى. فإن قالوا: لأن هذا لا يمكن ذكر معهود سواه. قيل لهم: هذه الدعوة الأولى بعينها، فلم قلتم ذلك؟ ثم يقال لهم: ما أنكرتم إنما سأل عن سبيل نفسه، وذلك سبيل معروف معهود. فإن قالوا: لا يصح حمله على هذا من قبيل أن قول الراوي لما نزل

قوله عز وجل: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً {قام رجل فقال: ما السبيل؟ فدل على أنه سأل عن السبيل الذي ورد به القرآن. قلنا: إنه ليست يكفى في الدلالة على أن السؤال عن الشيء [] أن السؤال عقيب تزوله؛ لأن سؤال السائل عقيب نزول الآية يحتمل أن يكون سؤالاً عنها، ويحتمل أن يكون سؤالاً عن حال تكليفه والأمر الذي يتعلق به منها، فكون السؤال متعقبًا للآية لا ينبئ عن وجه وقوعه. على أنه لو قيل: حمل السؤال على هذا أولى لم يكن بعيدًا؛ وذلك أن الظاهر من سؤال السائلين للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم يسألونه عن أمر أنفسهم؛ وعلى ذلك يجرى أمر الوفود وغيرهم. فإن تجاوز أحدهم ذلك لم يكن بد من أن يبين ف لفظه، أو يكون السائل من أهل العلم من الصحابة فمن قد عرف بذلك. فأما الخبر الأخير الذي رووه فإنه ضعيف أيضًا؛ لأنه رواه هلال بن بعد الله مولى ربيعة، وهو ضعيف؛ ذكر أبو بكر بن الجهم أنه سأل إبراهيم الحربي عنه فضعفه جدًا. على أنه لو صح لم تكن فيه دلالة من قبيل أنه لا يدل على أكثر من أن تكون الراحلة استطاعة تلحق الوعيد بترك الحج معها. وليس في ذلك نفى لكون غيرها استطاعة كما لم ينف ذلك عن أهل الحرم.

وإذا كان كذلك سقط التعلق به. واعتلوا فقالوا: لأنها عبادة يتعلق أداؤها بقطع مسافة شاقة؛ فوجب أن تكون الراحلة مسافة شاقة؛ فوجب أن تكون الراحلة شرطًا في وجوبها كالجهاد. فالجواب: أن هذا الوصف لا يجوز أن يطلق في الحج؛ لأنه يوجد في بعض من يلزمه دون بعض. على أن من قدر أن يجاهد ببدنه من غير راحلة تبلغه وتعين عليه لو وجد راحلة وكان من عادته المشي فإنه يلزمه. فسقط ما قالوه. واعتلوا أيضًا بأن قالوا: لأنه عاجز عما تقطع به المسافة الشاقة غالبًا؛ فلم يلزمه فرض الحج كالعاجز عن المشي والعادم للزاد وليس من عادته السؤال. وهذا لا نسلمه؛ لأنه غير عاجز عندنا عما يقطع به المسافة إذا كان قادرًا على المشي. ونعكسه فنقول: لأنه قادر على قطع المسافة الشاقة فجاز أن يلزمه فرض الحج كالواجد للراحلة. واستدلوا بأنه لما يلزمه أن يكرى نفسه ليتوصل إلى الحج للمشقة التي تلحقه؛ كذلك في المشي. فالجواب أنا قد بينا أن القادر على المشي لا تلحقه مشقة إلا كمثل التي تلحق من لم تجر عادته بالركوب في النضابة له وتكلفه إياه. على أنه إذ كانت عادته المسألة أو الخدمة لزمه الحج مع هذه الأمور. وبالله التوفيق.

مسألة قال رحمه الله: "وإنما يؤمر أن يحرم من الميقات". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي - رحمه الله -: والأصل في ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقت ليحرم الناس منها؛ فلم يكن لهم أن يحرموا قبلها، ولم يجز لهم تأخير الإحرام عنها. ولا خلاف نعلمه في أن من أراد الإحرام وبلغ الميقات فليس له تأخير الإحرام عنه، والمعنى في ذلك الترفيه والرخصة؛ لأن الإحرام يمنع من كثير من الملاذ والتمتع من الطيب والنكاح والجماع ولباس المخيط وغير ذلك، فلو لزم الناس الإحرام من بيوتهم لشق عليهم؛ لطول المدة في ذلك؛ فجعل لهم مواقيت يحرمون منها؛ فمن أحرم من منزله جاز ذلك؛ لما بيناه من أن تأخير الإحرام إلى الميقات رخصه كالفطر في السفر، فإذا اختار تركها فذلك له؛ كما إذا اختار الصوم في السفر كان ذلك له. فأما الاختيار عندنا فالإحرام من الميقات، وللشافعي - رحمه الله - قولان: أحدهما: مثل قولنا. والآخر: أن المستحب أن يحرم من منزله. والدلالة على ما قلنا أن المراقيت رخصة، وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه

قال: "إن الله يحب أن تقبل رخصه كما يحب أن تقبل عزائمه" وأيضًا فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت المواقيت لأهل الآفات؛ فثبت أن ذلك هو الأصل في المواقيت؛ فوجب أن يكون الإحرام منها على كل وجه إلا ما قام عليه الدليل. وأيضًا فإنه صلى الله عليه وسلم قد حج واعتمر عمرًا، ولم ينقل أنه أحرم إلا من الميقات؛ فوجب أن يكون ذلك هو الأفضل. وأيضًا فإن حالة الإحرام حالة تشق وتصعب؛ لما ذكرناه من أنه تمنع الطيب والوطء واللباس وغير ذلك، فإذا أحرم من منزله وقد يكون بعيدًا من الميقات لم يؤمن منه أن يتخطى إلى بعض ما هو ممنوع منه في الإحرام؛ فاستحب له ترك ذلك إلى الميقات؛ ليسلم من التغرير فيه. وأيضًا فإن الإحرام له ميقاتان: أحدهما: الزمان، والآخر: المكان. فلما كره له التقدم على الزمان؛ فكذلك التقدم على المكان. فإن قيل: فقد قال الله تعالى:} وأتموا الحج والعمرة لله {، فقال عمر بن الخطاب [ق/ 132]،وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما -: إتمامها أن تحرم من دويرة أهلك.

قلنا: يجوز أن يكون قالا ذلك لمن هو من أهل الحرم على أن هذا يوجب أن هذا يوجب أن يكون من أحرم من الميقات ومنزله أبعد منه فلم يتم حجه. وليس بقول لأحد. فإن قيل: إذا أحرم من دويرة أهله فقد زاد في النسك؛ فكان أفضل. قلنا: ينتقض بالإحرام قبل الشهور التي للحج. على أن المعنى الذي راعيناه أولى؛ وهو أنه لا يأمن أن يؤديه طول المدة إلى أن يقدم إلى فعل ما هو ممنوع منه في الإحرام؛ فيكون في ذلك تغريرة. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: "وميقات أهل الشام ومصر وأهل المغرب الجحفة. فإن مروا بالمدينة فالأفضل لهم أن حرموا من ميقات أهلها من ذي الحليفة". قال القاضي أبو محمد علي علي - رحمه الله -: والأصل في ذلك ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يهل أهل المدينة من ذى الحليفة وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن". قال عبد الله: وبلغنى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يهل أهل اليمن من يلملم". وروى مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر قال: أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل المدينة أن يهلوا من ذى الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن. قال عبد الله بن عمر: أما هؤلاء الثلاثة فسمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "وأما أهل اليمن فيهلون من يلملم". وروى ابن وهب عن أبى لهيعة عن أبى الزبير عن جابر بن عبد الله

قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويهل أهل العراق من ذات عرق". وروى وهيب بن الورد عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المدينة ذا الخليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن، ولأهل اليمن يلملم، وقال: "هن لهم ولكل آت أتى عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة". وروى ابن نمير من حجاج عن عطاء عن جابر قال: وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر مثله إلي أن قال: ولأهل نجد قرن، ولأهل العراق ذات عرق. وروي عبد الوارث عن عبيد بن عبد الملك عن زرارة بن كريم عن الحرث بن عمرو السهمى حدثه أنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمنى أو بعرفات وقد أطاف به الناس فتجئ الأعراب، فإذا رأوا وجهه صلى الله عليه وسلم قالوا: هذا وجه مبارك. قال: "ووقت لأهل العراق ذات عرق". ومن الناس من ذهب إلى أن توقيب ذات عرق لأهل العراق اجتهاد وليس بنص. ويحتمل أن يكون ذلك؛ لأن الحديث لم يبلغهم، وقد ورد

بعض طرق هذا الحديث من رواية مالك حدثناه أبو حفص عمر بن أحمد ابن عثمان المعروف بابن شاهين قال: حدثنا علي بن محمد المصري قال: حدثنا يحيي بن عثمان بن صالح قال: حدثنا ابن أبي السرى قال؛: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المشرق ذات عرق. قال ابن أبي السرى: رجع عنه مالك. قال: وهو من حديثه القديم فيما قاله عبد الرزاق. قال ابن أبي السرى: وإنما الحديث لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من كلامه. وقوله: إن الأفضل لمن مر من أهل المغرب بالمدينة أن يحرم من ذي الحليفة: فلأنها ميقات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلذلك استحبه. فإن لم يفعلوا فلا شيء عليهم. * * * مسألة قال رحمه الله: "ومن مر من هؤلاء بالمدينة فواجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة؛ إذا لا يتعداه إلي ميقات له". قال القاضي رضي الله عنه: والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رويناه: "هن لهن ولكل آت عليهن من غيرهم ممن أراد الحج أو العمرة،

ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة". ويفارق من ذكرنا من أهل الشام ومصر والمغرب؛ لأن الجحفة ميقاتهم وليست بميقات لأهل العراق. * * * مسألة قال رحمه الله: "ويحرم الحاج والمعتمر بإثر صلاة فريضة أو نافلة". قال القاضي رضي الله عنه: والأصل في ذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم عقيب صلاة؛ قيل نافلة، وقيل مكتوبة؛ فلذلك استحبه. فروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلى في مسجد ذي الحليفة، ثم يخرج فيركب، فإذا استوت به راحلته أهل". وروى حصيف عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه خرج حاجًا فلما صلى في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أهل بالحج حين فرغ من ركعتيه. وروى ابن جريج عن محمد بن المنكدر عن أنس أنه قال: صلى رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعًا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين، ثم بات - يعني بها - فلما ركب راحلته واستوت به أهل. وروى أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - حدثنا روح حدثنا أشعث عن الحسن عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر، ثم ركب راحلته، فلما علا على جبل البيداء أهل. فلهذه الروايات استحببنا أن يحرم عقيب صلاة، فإن لم يفعل فلا شيء عليه، وقد ترك الاختيار. مسألة قال رحمه الله: "ويقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك" [ق/ 133]. قال القاضي رضي الله عنه: والأصل في ذلك ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. وكان ابن عمر يزيد فيها: لبيك لبيك لبيك وسعديك، والخير بيديك لبيك، والرغباء إليك والعمل.

وروى جعفر بن محمد أبه عن جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله. وروى الشرقي بن القطامي عن أبي طلق العائذي عن شراحيل بن القعقاع قال: قال عمرو بن معدى كرب: الحمد لله قد رأيتنا ونحن من قريب إذا حججنا قلنا: لبيك اللهم لبيك تعظيمًا إليك عذرًا هذى زبيد قد أتتك قسرا، تغدو بها مغمرات شزرا، تقطعن خبتًا وجبالاً وعرا، يقطعن من بين غضى وسفرا، وقد تركوا الأنداد خلو صفرا. ونحن اليوم نقول كما علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم -. قلنا: وكيف علمكم؟ قال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. فأما معنى التلبية: فقد اختلف فيها على أقاويل: فقال بعضهم: معناها: الإقامة على الطاعة، والإجابة إليها. يقول القائل: لبيك: معناه: إني مقيم على طاعتك وإجابتك. يقال: لبى في المكان، وألب: إذا أقام فيه. قال الشاعر: محل الهجر أنت به مقيم ... ملب ما تزول ولا تريم وقال آخر:

لب بأرض ما تخاطها الغنم أي: أقام. وهذا قول الخليل بن أحمد، وأبي العباس ثعلب، وخلف الأحمر، وغيرهم. والقول الآخر: إن معنى لبيك: إجابة لك يا رب. هذا قول الغراء. قال: ونصب (لبيك) على المصدر، وثنى؛ لأنه أراد إجابة بعد إجابة. والقول الثالث: أن معنى لبيك أي: اتجاهي إليك. وهو مأخوذ من قولهم: داري تلب دارك: أي: تواجهها. والقول الرابع: أن معنى التلبية: المحبة؛ فقولهم: لبيك: معناه: محبتي إليك. وأصل ذلك قولهم: امرأة لبة: إذا أحبت ولدها، وأشتد عطفها عليه. ومنه قول الشاعر: وكنتم كأم لبة طعن ابنها ... فما درت إليه بساعدي. فأما معنى ما في الخبر: لبيك إن الحمد والنعمة لك: فإنه يقال بكسر إن وفتحها؛ فمن كسر أراد الابتداء، ومن فتح أراد معنى التعليل؛ كأنه قال: لبيك وسعديك. فقد اختلف في معنى "سعديك" على وجهين:

أحدهما: أنه مأخوذ من المساعدة؛ فيقرب من معنى (لبيك) أي: أنا مقيم على طاعتك على ما تحبه وتريده منى. والآخر: أن معناها: أسعدك الله إسعادًا بعد إسعاد. والمعنيات متقاربان. * * * مسألة قال رحمه الله: "وينوي ما أراد من حج أو عمرة". قال القاضي رحمه الله: والأصل في ذلك أن النية شرط في صحة الإحرام وسائر العبادات المتقرب بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى"، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه". ولا خلاف في ذلك. * * * مسألة قال رحمه الله: "ويؤمر أن يغتسل عند الإحرام قبل أن يحرم".

قال القاضي رضي الله عنه: والأصل في ذلك ما رواه عبد الله ابن عبد الحكم قال: حدثنا عبد الله بن يعقوب المدني عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة [بن] زيد بن ثابت عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجرد لإحرامه واغتسل. وروى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء. فذكر ذلك أبو بكر - رضي الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مرها فلتغتسل ثم تهل". وروى عن ابن عمر أنه قال: من السنة أن يغتسل الرجل إذا أراد أن يحرم. فإذا أطلق الصحابي السنة فالظاهر أنه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى مالك عن نافع أن ابن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخول مكة، ولوقوفه عشية عرفة. وعن أبى [نصر] عن علي - رضي الله عنه - قال: تصب عليك إداوة من

ماء، ثم تحرم. وأيضًا فإن الإحرام قربة وفعل خير، ومن أفضل العبادات، غير متكرر ولا شاق؛ فاستحب الغسل عند فعله؛ ليأتي به على أكمل أحواله. والله أعلم. * * * مسألة قال رحمه الله: "ويتجرد من مخيط الثياب". قال القاضي رضي الله عنه: وذلك لأن المحرم ممنوع من لبس المخيط من الثياب؛ فلذلك وجب إذا أراد الإحرام أن يتجرد منه. والأصل في ذلك ما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يلبس المحرم القمص، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا البرانس، ولا الخفاف، إلا أن لا يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعها أسفل من الكعبين". وروى الزهري عن سالم عن أبيه قال: سأل رجل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ... فذكر مثله.

مسألة قال رحمه الله: "ويستحب له أن يغتسل لدخول مكة". قال القاضي رحمه الله: والأصل في ذلك ما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه أنهم كانوا يفعلون ذلك؛ فروى حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن ابن عمر كان إذا قدم مكة بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكة نهارًا، ويذكر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعله. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يدخل مكة حاجًا ولا معتمرًا حتى يغتسل قبل أن يدخلها. وروى ذلك عن علقمة، والأسود، وعروة بن الزبير، وابن أبي ليلى، وجماعة من التابعين رضي الله عنهم. [ق/ 134] * * * مسألة قال رحمه الله: "ولا يزال يلبى بدر الصلوات، وعند كل شرف، وعند ملاقاة الرفاق. وليس عليه كثرة الإلحاح بذلك. فإذا دخل مكة أمسك عن التلبية حتى يطرف ويسعي، ثم يعاودها حتى

تزول الشمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاها". قال القاضي: أبو محمد عبد الوهاب بن علي - رحمه الله -: وهذا لأن التلبية قربة وفعل خير فيستحب الإكثار منها ما لم يخرج فيه عن الحد والعادة. وإنما استجبنا ذلك عند إدبار الصلوات؛ لأنها أوقات يستحب الذكر فيها، ولأنه ذكر من شعار الحاج فكان كالتكبير في أيام التشريق. وروى ابن وهب عن عبيد الله بن عمر عم نافع أن عبد الله بن عمر كان يلبي نازلاً، وراكبًا، وقاعدًا، وقائمًا، ودبر كل صلاة. وروى ابن وهب عن أفلح بن حميد قال: كان القاسم بن محمد يلبى دبر كل صلاة. وروى ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: ارفع صوتك بالإهلال، وأكثر من التلبية ما استطعت كلما أشرفت، وفي دبر كل صلاة؛ فإن تلك السنة. فأما استحبابه الكف عن التلبية في الطواف والسعي: فإن ذلك حال يستحب فيها الدعاء؛ فيكره الاشتغال بغيره. ولأن الطواف أيضًا مشبه بالصلة. وقد روى عن ابن عمر أنه كان لا يلبى في طواف. وقال سفيان: ما علمت أن أحدًا لبى في طواف إلا عطاء بن السائب.

فأما قوله: أنه يقطع التلبية إذا راح إلى الموقف. وزالت الشمس فالخلاف فيه مع أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما؛ لأنهما يقولان: إنها لا تقطع حتى يرمى أول حصاة من جمرة العقبة يوم النحر. واستدل عنها بما روى الفضل بن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى الجمرة. وما روى عن عمر - رضي الله عنه - أنه لبى وهو عند الجمرة. فقال له ابن عباس: فيم الإهلال يا أمير المؤمنين؟ فقال: وهل قضينا نسكًا بعد. وروى عن علي - رضي الله عنه - أنه كان إذا رمى الجمرة قطع التلبية. ولأن التلبية لأجل الإحرام، فلما كان ابتداؤها حين الابتداء به وجب أن يكون قطعها إذا ابتدأ بالخروج منها. والأصل فيما قلناه إجماع السلف عليه؛ فروى الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقطع التلبية إذا زالت الشمس يوم عرفة. وروى ابن وهب عن عبد الله بن عمر عن نافع أن عثمان - رضي الله عنه - كان يقطع التلبية إذا راح إلى الموقف عشية عرفة. وروى الوليد بن مسلم عن ابن أبي ذئب عن ابن شهاب قال: كانت

الأئمة يقطعون التلبية إذا زالت الشمس يوم عرفة. وسمى ابن شهاب الزهري أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعائشة وسعيد ابن المسيب رضي الله عنهما. وروى مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يلبى في الحج حتى إذا زالت الشمس من يوم عرفة قطع التلبية. وروى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تدع التلبية إذا راحت إلي الموقف. قال مالك: وذلك الذي لم يزل عليه أهل العلم. وروى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يدع التلبية في الحج إذا انتهى إلى الحرم حتى يطوف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ثم يلبي حتى يعود إلى عرفة، فإذا عاد ترك التلبية. وروى ابن وهب عن يونس عن ربيعة أنه قال: الأئمة والجماعة كانوا لا يقطعون التلبية ولا يمسكون عنها حتى يروحون إلى الموقف من عرفة، فإذا راحوا إلى الموقف أمسكوا عن التلبية وأظهروا التكبير حتى يحلوا. وروى مثله عن سعد، وجابر، وابن الزبير، وأم سلمة رضي الله عنهما. ومن جهة المعنى: أن التلبية إجابة للنداء بالحج الذي دعى إليه، فإذا انتهى إلى الموضع الذي دعا إليه فقد فعل ما وجب عليه، وانتهى إلى غاية

ما أمر به؛ فوجب أن يقطع التلبية؛ لأنه لا معنى لاستدامتها فيما زاد على ذلك. فأما الحديث الذي رووه محمول على الجواز، وما ذكرنا فهو المستحب؛ لأن الاستحباب لو كان ما ذكروه لم تكن الأئمة لتعدل عنه وتجمع على خلافه فيذهب عليها فعله صلى الله عليه وسلم في ذلك. والعمل المتصل عندنا يترك له الخبر. وما رووه عن عمر وعلي - رضوان الله عليهما - غير محفوظ، بل المشهور عنها ما رويناه عنها وعن جماعة الأئمة والسلف. وقولهم أن التلبية لأجل الإحرام فيجب أن يخرج عنها بالخروج منه: باطل من وجهين: أحدهما: أنها ليست لأجل الإحرام، ولكن من شروطها أن يبتدئ بها مع الإحرام، وليس كلما ابتدئ مع الإحرام كان لأجله. والآخر: أن هذا يوجب أن لا تقطع ما بقى من الإحرام شيء. وهذا باطل. والله أعلم.

مسألة قال رحمه الله: ويستحب أن يدخل مكة من كداء الثنية التي بأعلى مكة، وإذا خرج خرج من كداء. وإن لم يفعل في الوجهين فلا حرج. قال القاضي رضي الله عنه: وهذا لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك في دخوله وخروجه؛ فروى سفيان بن عيينة [ق/ 135] عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا دخل مكة دخل من أعلاها وخرج من أسفلها. وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدخل مكة من الثنية العليا. وفي حديث آخر: من كداء من ثنية البطحاء، ويخرج من [الثنية] السفلى. فلذلك استحببناه له. فإن لم يفعل فلا حرج؛ لأنه لم ترك واجبا ولا مسنونًا. * * *

مسألة قال رحمه الله: "فإذا دخل مكة فليدخل المسجد، ومستحسن أن يدخل من باب بني شيبة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي - رحمه الله -: وذلك لأن المستحب له المبادرة إلى البيت للطواف به، والركوع عنده، وحيازة الثواب بذلك. وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا دخل مكة لم يلود ولم يعوج - يعني: دون المسجد -. وروى الليث عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا دخل مكة لم ينخ ناقته إلا عند باب المسجد. وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يدخل المسجد الحرام إذا قدم من باب بني شيبة. * * *

مسألة قال رحمه الله: " [ويستلم] الحجر الأسود بفيه إن قدر، وإلا وضع يده عليه ثم يضعها على فيه من غير تقبيل، ثم يطوف والبيت على يساره سبعة أشواط: ثلاثة خببًا ثم أربعة مشيًا، فيستلم الركن كلما مر به كما ذكرنا. ولا يستسلم اليماني بفيه ولكن بيده، ثم يضعها على فيه. فإذا تم طوافه ركع عند المقام ركعتين، ثم استلم الحجر إن قدر، ثم [يخرج] إلى الصفا فيقف عليه للدعاء، ثم يسعى إلى المروة، ويخب في بطن المسيل، فإذا أتى المروة وقف عليها للدعاء، ثم يسعي إلى الصفا؛ يفعل ذلك سبع مرات؛ فيقف [بذلك] أربع وقفات على الصفا أربعًا على المروة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي - رحمه الله -: أما استحباب البداية بالطواف على كل شيء لمن دخل المسجد؛ فلان الطواف تحية للبيت كما أن الركعتين قبل الجلوس في سائر المساجد تحية للمسجد، فإذا كان المستحب لمن دخل بعض المساجد أن يبدأ بالركعتين تحية للمسجد؛

فكذلك يستحب لمن دخل المسجد الحرام أن يبدأ بتحة البيت وهي الطواف. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كذلك كان يفعل؛ فيجب الاقتداء به؛ فروى ابن وهب عن يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يقوم مكة يستلم الحجر الأسود أولاً، ثم يطوف. وروى وهيب حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: قدمنا مكة فبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستلم الركن فسعى ثلاثًا ومشى أربعًا. فأما قوله: يبدأ فيستلم الحجر بفيه إن قدر؛ فلما رويناه من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك؛ فروى ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن سالم عن أبيه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قدم مكة يستلم الحجر الأسود أولا ثم يطوف. وروى عبد الله بن رباح عن أبي هريرة قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل مكة فأقبل إلى الحجر فاستلمه. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: قدمنا ومكة فبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستلم الركن.

وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال وهو يطوف بالبيت للركن الأسود: إنما أنت حجر، ولولا أني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك لم أقبلك، ثم قبله. ورواه ابن وهب عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر ابن الخطاب - رضي الله عنه - كان يقبل الحجر، ويقول: والله إني لأقبلك وإني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولكني رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبلك. وروى شريك عن ليث عن مجاهد قال: لكل شيء شعار، وشعار الطواف استلام الحجر. قال: وإنما أراد عمر - رضي الله عنه - أني أقبلك وأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع؛ ليرى أن تقبيله على طريق التعبد وإتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأنه بخلاف تقبيل المشركين للأصنام واعتقادهم أنها تنفع وتضر فثبت بما ذكرناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضي الله عنه استحباب استلام الحجر الأسود إذا قدر الإنسان عليه. فإن لم يقدر وضع يده على الحجر ثم وضعها على فيه؛ ليكون عوضًا من التقبيل؛ لأنه لما لم يقدر على التقبيل اعتاض منه بوضع اليد. ووضعها على الفم؛ ليمس فمه ما مس الحجر من أعضائه. وقد روى هذا عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يفعلونه؛ روى عن ابن عباس، وابن عمر وجابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري،

وأبي هريرة، وغيرهم، رضي الله عنهم أجمعين. فأما قوله: أنه يطوف والبيت على يساره. فلا خلاف أن ذلك صفة الطواف. فإن نكسه لم يجزئه، ولكن يكن ذلك طوافًا شرعيًا عندنا، وعند الشافعي. وقال أبو حنيفة: يكره له ذلك، ويجزئه أن يفعل، وعليه الدم. واستدل عنه بقوله تعالى:} وليطوفوا بالبيت العتيق {والاسم يتناول الطواف على أي وجه وقع من ترتيب أو تنكيس. ولأنه حصل طائفًا بالبيت في وقت وجوبه على طهارة؛ فأشبه إذا طاف والبيت على يساره. ولأنها عبادة ليس من شروطها الموالاة؛ فلم يكن من شرطها الترتيب. أصله: الزكاة. عكسه: الصلاة. ولأنه ترك صفة للطواف؛ فأشبه إذا ترك الرمل. والأصل فيما قلنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف والبيت على يساره غير منكوس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"؛ ففي هذا أدلة: أحدهما: بيان لما أجمل بقوله عز وجل:} وليطوفوا [ق/ 136] بالبيت العتيق {؛ فبين أنه على الصفة التي فعلنا.

والثاني: أن فعله على الوجوب. وأيضًا فلأنها عبادة تتعلق بالبيت أو تفتقر إلى البيت؛ فوجب ألا يجزئ إيقاعها منكسة؛ اعتبارًا بالصلاة. واستدل بعض أصحابنا بأن قال: لأنه نسك مبنى على الحركة والتكرار فلا يجوز منكوسًا؛ السعي إذا بدأ بالمروة قبل الصفا. فأما الآية فلا تعلق فيها؛ لأن قوله عز وجل:} وليطوفوا بالبيت العتيق {أمر، والأمر لا يتناول الفعل إلا على وجه الوجوب أو الندب، وقد ثبت أن التنكيس غير واجب ولا مندوب؛ فلم يتناول الأمر. على أن البيان من جهة السنة بفعله صلى الله عليه وسلم؛ فقفي عليه. والقياس الذي ذكروه ساقط مع الخبر الذي رويناه. ثم إن الكلام في أن هذا الطواف يجزئ أو لا يجزئ فرع؛ لكون الترتيب شرطًا فيه؛ فإنما أجزأ الطائف على الترتيب لأدائه إياه على شرطه. واعتبارهم بالزكاة غير مسلم الوصف؛ لأن الموالاة من شرط الطواف عندنا. وينتقض بالحج؛ لأنه ليس من شروطه الموالاة، ومن شرطه الترتيب والمعنى في الزكاة أنه لا تفتقر إلى البيت، والمعنى في الرمل أنه يسقط لا إلى دم ولا إلى غيره، وليس كذلك الترتيب. والله أعلم.

فصل فأما قوله: يطوف سبعة أشواط. فلأن ذلك عدد الطواف في الشرع، ومتى ترك شيئًا منه لم يجزئه، ولم ينب عنه الدم، ولم يكن طوافًا شرعيًا، إلا أن يأتي به كامل الأشواط. هذا قولنا، وقول الشافعي. وعند أبي حنيفة إن أتى بأربعة أشواط حتى رجع إلى أهله أجزأه وجبره بالدم، وإن ترك الأكثر فلا يجزئه. واستدل أصحابه بقوله تعالى:} وليطوفوا بالبيت العتيق {، والاسم يتناول الطائف شوطًا واحدًا. ولأن الأربعة معظم السبعة، ومن أتى بمعظم الشيء حل محل من أتى بجمعيه؛ اعتبارًا بمن أدرك الإمام في ركوعه أنه يعتد بالركعة؛ لإتيانه بمعظمها، ويكون كمدرك جميعها. ولأنه أتى بزيارة على الأشواط الثلاثة، فأشبه إذا أتى بالسبعة. ولأنه ركن من أركان الحج؛ فجاز أن ينوب الدم عن بعض أجزائه؛ كالوقوف. والذي يدل على ما قلناه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف بالبيت سبعة أشواط. رواه جماعة من الصحابة. وروى حاتم بن إسماعيل وغيره عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر

أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلم الركن فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا. وروى ابن وهب عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا كان بالبيت الطواف الأول يخب ثلاثة أطواف، ويمشي أربعًا. ولم يرو عنه أنه نقص من ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"؛ فوجب الاقتداء بفعله، وأن يؤتي بالعدد الذي أتى به. وأيضًا فلأنه نقص عن الأشواط السبعة في طوافه؛ فأشبه أن يقتصر على الثلاثة. وأيضًا فلأنه لو كان بمكة لم يجبر ما ترك من طوافه بالدم، ولزم استئنافه والإتيان ببقتيه؛ فكذلك بغيرها. أصله: إذا ترك أربعة أشواط. أو نقول: لأنه ترك من طوافه ما لو كان بمكة لم يجبره بالدم؛ فكذلك لا يجزئه وإن خرج من مكة. أصله ما ذكرناه. ولأنه فرض وعدد محصور فإتيانه بمعظمه لا يسقط ما بقى، ولا يجبره دم ولا غيره؛ اعتبارًا بسائر الفرائض. ولأنه فرض يتعلق بالبيت دون عدد؛ فوجب أن يكون الإتيان بجميعه شرطًا في صحته. أصله: الصلاة.

أو لأن ما افتقر إلى البيت لم ينب الدم عن شيء من عدده كالصلاة. فأما الظاهر فالسنة تقضى عليه. واستدلالهم بأن من أتى بمعظم الشيء كان كمن أتى بجميعه بالأصول كلها كالطهارة والصيام وغير ذلك من العبادات. فأما المدرك للركوع فلم يكن عليه القيام فرضًا إلا إتباعًا للإمام؛ لأنه ليس على المأموم قراءة، فإذا فرغ الإمام من القراءة ركع؛ فلم يبق شيء يتبعه المأموم فيه. وقياسهم عليه إذا أتى بالسبعة؛ بعلة أنه أتى بزيارة على الثلاثة: باطل؛ لأن العلة فيه أتى بجميع أشواط الطواف. وليس كذلك إذا أتى بالأربعة؛ لأنه أتى ببعض الأشواط؛ فأشبه إذا افتقر على شوطين. وهذه الأحكام إنما هي للطواف الفرض، ولكن وصف الطواف لا يختلف فيه فرض. واعتبارهم بالوقوف لا يصح؛ لأن الفرض منه أقل ما يقع عليه الاسم، وماذا زاد عليه الاسم، وماذا عليه مسنون وليس بفرض. والفرض لا ينوب عنه الدم. وبالله التوفيق. * * *

فصل فأما قوله: إن الثلاثة الأشواط الأول خيب، والباقي مشى. فلأن ذلك مروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماعة أصحابه؛ فيجب الأقتداء بهم؛ فروى مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمل الثلاثة الأطواف من الحجر إلى الحجر. وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول يسعى ثلاثة أطواف، ويمشى أربعًا. وقد رورى ذلك عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وابن عمرن وابن مسعود، وأبو سعيد الخدري، وابن الزبير، وجماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. والسبب في ذلك ما ذكره ابن عباس، ورواه حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة وقد وهنتهم حمى يثرب. فقال المشركين: إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب ولقوا منه شرا فأطلع الله عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما قالوا؛ فأمرهم أن يرملوا الأشواط الثلاثة، وأن يمشوا بين الركنين. فلما رأوهم رملوا قالوا: هؤلاء الذين ذكرتم أن الحمى قد [ق/ 137] وهنتهم، هؤلاء أجلد منا.

قال ابن عباس - رحمه الله -: ولم يأمرهم أن يرملوا الأشواط لكها إلا للإبقاء عليهم. * * * فصل فأما قوله: إنه يستلم الركن كلما مر به، ويكبر؛ فكذلك روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يفعل في طوافه كلما مر على الركن، وقد تكرر من رواية ذلك ما أغنى عن إعادته. * * * فصل فأما قوله: أنه إذا تم طوافه ركع عند المقام ركعتين؛ فلأن عنده أن من سنة كل طواف أن يركع عقيبه ركعتين سنة مؤكدة لا تترك. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قولنا. والآخر: أنهما مستحبتان، وليستا بواجبتين ولا مسنونتين. والذي يدل على ما قلناه قوله تعالى:} واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى {. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استلم

الركن فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم - عليه السلام - فقرأ:} واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى {فجعل المقام بينه وبين البيت. ففي هذا دليلان: أحدهما: أنه بيان للآية. والآخر: أنه بيان للمناسك بقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم". وروى أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدع في كل طواف أن يركع عليه ركعتين. وروى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف راكبًا، فلما فرغ نزل فصلى خلف المقام. وهذا يدل على استنانها وتأكيد أمرهما؛ لأنهما لو كانا نفلاً غير مسنون لكان يصليها على الراحلة، فلما لم يفعل ذلك بل نزل عن راحلته وصلاها عند المقام. دل ذلك على تأكيد أمرهما. ولأن الطواف من أركان الحج؛ فوجب أن يكون من توابعه ما هو واجب وجوب سنة؛ كالوقوف بعرفة؛ لأن من توابعه المبيت بالمزدلفة، وغير ذلك. فإن قيل: فقد روى من حديث الأعرابي الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن

الصلوات أنه قال: هل على غيرهن؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قلنا: إنما سأله عن الفرض اللازم ابتداء بالشرع الذي يتكرر فعله؛ ألا ترى أنه لم يذكر له النذر ولا الوتر ولا العيدين؟. فإن قيل: كل صلاة: لم تكن سنة للكافة لم تكن سنة لبعض دون بعض؛ كسائر النوافل؛ مثل الركعتين بعد الظهر وبعد المغرب. عكسه: كسائر الصلوات المسنونات. قلنا: يبطل بصلاة الاستسقاء؛ لأنها مسنونة لمن احتاج إلى الاستسقاء دون الكافة؛ فكذلك سبيل ركعتي الطواف أنهما سنتان لمن طاف دون غيره. وأيضًا فإن هذه سنة لكافة الذين يوجد فيهم شرطها؛ لأن من شرطها تقدم الطواف فكانت كصلاة الكسوف التي هي سنة للكافة إذا وجد شرطها. وليست يخرجها عن كونها سنة للكافة أن يوجد الشرطان في بعضهم؛ لأنها إنما تكون سنة بحيث يوجد شرطها، فإذا وجد فهي سنة لكافة من وجد منه. والله أعلم. * * *

فصل فأما قوله: إنه يستلم الحجر بعد الركوع إن قدره؛ فلأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل، وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فركع، ثم رجع إلى البيت فاستلم الركن، ثم خرج من الباب إلى الصفا فلما دنا إلى الصفا قرأ:} إن الصفا والمروة من شعائر الله {. وقد روى من غير هذا الطريق أيضًا؛ فلذلك استحببناه. * * * فصل فأما قوله أنه يخرج بعد ذلك إلى الصفا فيقف عليه بالدعاء؛ فلأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذلك فعل؛ فروى ابن وهب وحاتم بن إسماعيل وغيرهما عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف في حجته، ثم رجع فاستلم الركن، ثم خرج من الباب إلى الصفا، فلما دنا من الصفا قال:} إن الصفا والمروة من شعائر الله {؛ نبدأ بما بدأ الله به؛ فبدأ بالصفا فرقي عليه حتى رأى البيت فكبر الله تعالى وحده، وقال: "إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم دعا صلى الله عليه وسلم بين ذلك وقال مثل ذلك ثلاث مرات، ثم نزل إلى المروة حتى إذا

أنصت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعد مشى حتى أتى المروة فصنع على المروة مثل ما صنع على الصفا حتى كان آخر طوافه على المروة. وروى مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج من المسجد وهو يريد الصفا وهو يقول: "نبدأ بما بدأ الله عز وجل به" فبدأ بالصفا. وأنه صلى الله عليه وسلم حين هبط من الصفا مشى حتى إذا أنصبت قدماه في بطن المسيل سعى حتى ظهر منه. قال: وكان يكبر على الصفا والمروة ثلاثًا ويهلل واحدة. بن رباح عن أبي هريرة قال: أقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل مكة فاستلم الحجر ثم طاف بالبيت ثم أتى الصفا فعلاه حيث ينظر إلى البيت، ورفع يديه فجعل يذكر الله تعالى ما شاء أن يذكره ويدعوه. فلهذا قال بعد الطواف والركوع والاستلام يخرج إلى الصفا للسعي بينه وبين المروة، وأنه يبدأ بالصفا منه إلى المروة، ويحتسب بذلك شوطًا، ثم يرجع من المروة إلى الصفا فيحتسب بذلك شوطًا إلى أن يفرغ من السعي بالشوط السابع وخاتمه المروة؛ فيكون ذلك سبعة أشواط وثماني وقفات؛ أربعًا على الصفا، وأربعًا على المروة.

ولا خلاف في هذا الجملة إلا شيء يحكى عن جرير لا يعتد به لو صح عنه. * * * فصل والسعي ركن من أركان الحج، وفرض من فروضه، [ق/ 138] لا ينوب الدم عنه، وبه قال الشافعي - رضي الله عنه -. وقال أبو حنيفة: هو واجب وليس بركن، وينوب عنه الدم. واستدل أصحابه بقوله تعالى:} فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما {. قالوا: ففي هذا الظاهر دليلان: أحدهما: أن قوله سبحانه: فلا جناح" من ألفاظ الإباحة دون الوجوب؛ كقوله عز وجل:} فلا جناح عليكم فيما فعلن {؛ كذا وقوله عز وجل:} فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة {، وما أشبه ذلك. وإذا صح هذا ثبت أنه مباح غير واجب. والوجه الآخر أنه قد قرأ:} فلا جناح عليه أن يطوف بهما}.

وروى ذلك عن ابن مسعود، وأبي، وابن عباس، وأنس. وأقل ما في هذا أن يكون كخبر واحد. وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجة". وظاهر ذلك نفي بقى ركن عليه، إلا أن تقوم دلالة. قالوا: ولأن السعي لا يثبت له حكم إلا على وجه التبع للطواف؛ بدلالة أنه لا يفعل منفردًا بنفسه، ولا يؤتى إلا عقيب طواف، وأنه ليس له وقت يخصه، وإنما يقف فعله على الفراغ من الطواف؛ يبين ذلك أنه إذا فرغ من طوافه جاز له أن يسعى عقبيه في وقت لو أراد ابتداء الطواف فيه لم يكن له ذلك؛ فبان بما وصفنا أنه تابع للطواف، وما كان من توابع غيره لم يكن ركنًا؛ كالمبيت بالمزدلفة؛ ألا ترى أن الإحرام والوقوف لما كانا ركنين كان لهما حكم أنفسهما، ولم يفعلان تبعًا لغيرهما. قالوا: ولأن السعي لو كان ركنًا لكان من جنسه ما ينتفل به وليس بركن؛ ألا ترى أن الوقوف بعرفة لما كان ركنًا كان من جنسه ما ليس بركن ويتنفل به وهو الوقوف بالمزدلفة، وكذلك الطواف لما كان ركنًا كان من جنسه ما ليس بركن ويتنفل به؛ وهو طواف الورود والوداع، وفي علمنا

أن السعي لا يتكرر في الحج دلالة على أنه ليس بركن. قالوا: ولأنه مفعول بعد الإحرام لا يفعل من جنسه غيره فلم يكن ركنًا؛ كالحلق والذبح. قالوا: ولأنه نسك ذو عدد غير متعلق بالبيت فأشبه رمى الجمار. ولأنه نسك يفعل في حال الإحرام لا على وجه اللبث؛ فأشبه رمى الجمار. قالوا: ولأن السعي إنما فعل لإظهار القوة والجلد، ونفى الضعف وما كانت العرب تضيفه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من أن حمى يثرب نهكتهم ووهنتهم - على ما روى في حديث ابن عباس -، وما هذه سبيله فليس بركن. والدلالة على صحة قولنا: ما رويناه من حديث جابر وأبي هريرة وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طاف وسعى بين الصفا والمروة، وأفعاله على الوجوب، وسيما إذا كانت بيانًا، وهذا موضع البيان بقوله: "خذوا عني مناسككم". ويدل عليه أيضًا ما رواه عطاء عن صفية بنت شيبة عن حبية بنت أبي تجزئه قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الصفا والمروة، ويقول: "اسعوا؛ فإن الله كتب عليكم السعي"، وأرني موضع إزاره، وإنه ليدور على ساقه من شدة السعي حتى أقول: إني أرى ركبتيه.

ففي هذا الخبر أدلة: أحدهما: فعله صلى الله عليه وسلم. والثاني: مورد البيان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم". والثالث: قوله: "اسعوا" فهذا أمر، وهو على وجوبه. والرابع: إخباره بإيجاب الله تعالى ذلك علينا بآكد ألفاظ الوجوب وأبلغها؛ وهو المكتوب. فإن قيل: ليست في الخبر أكثر من أنه واجب، ونحن نقول بذلك. ولأن خلافنا في أن الدم ينوب عنه إذا تركه أو لا، وليس في الخبر ما ينفى ذلك. فالجواب عن هذا جوابان: أحدهما: أن الخبر يفيد وجوب السعي فرضًا مكتوبًا حتمًا، وهم لا يقولون بذلك. وإذا ثبت كونه فرضًا مكتوبًا اقتطع بذلك ألا يسقط عنه إلا بفعله له، وعندهم أنه يسقط بالدم، وهذا يخرجه عن كونه فرضًا. والثاني: أنه لو سلمنا أنه يفيد الوجوب فقط لكان إيجابه يقتضي إيجاده، وأن لا يقوم غيره مقامه إلا بدليل. فإن قيل: إن الخبر يوجب السعي؛ وهو مشى على صفة، وقد اتفقنا على أن المشي على تلك الصفة ليس بركن، وهو الذي ورد به الخبر؛ فسقط التعلق به. فالجواب: أن السعي المراد بالخبر هو المشي بين الصفا والمروة على صفة

(الهرولة) في بعضه، وإنما سمى الجميع سعيًا باسم بعضه، فإذا سقطت الهرولة لم يسقط؛ لأن اللفظ يتناولها؛ فسقوط الصفة لا يوجد سقوط الموصوف؛ كما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله عز وجل يأمركم أن ترفعوا أصواتكم بالتلبية"؛ فتضمن هذا وجوب التلبية ورفع الصوت بها، فإذا سقط رفع الصوت لم يسقط أصل التلبية. ويدل على ما قلناه أيضًا ما رويناه للقاضي إسماعيل بن إسحاق قال: حدثنا على بن المديني قالك حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن عطاء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة - رضي الله عنها -: "طوافك بالبيت، وسعيك بين الصفا والمروة يجزئك بحجك وعمرتك". فلما علق به حكم الإجزاء دل ذلك على وجوبه؛ لأن غير الفرض لا يتعلق به الإجزاء. وأيضًا فلأنه مشى ذو عدد سبع؛ فوجب أن يكون ركنًا في الحج كالطواف. أو نقول: لأنه مشى يتكرر في مكان واحد كالطواف. أو نقول: لأنه نسك يتنوع نوعين؛ فوجب أن يكون منه ما هو ركن؛ اعتبارًا بالطواف؛ وذلك أنه يرمل فيه الثلاثة الأشواط الأول، ويمشى الآخرة كما يفعل في الطواف. أو نقول: لأنه نسك في العمرة ركن؛ فكان ركنًا في [ق/ 139]

الحج؛ اعتبارًا بالطواف. أو نقول: لأنه معنى يسن فيه الرمل؛ فوجب أن يكون منه ما هو ركن في الحج؛ اعتبارًا بالطواف ولأن كل نسك يؤتي به في الحج والعمرة على هيئة واحدة كان الدم لا ينوب منابه كالإحرام. ولا يدخل عليه الخلاف؛ لأنه يؤتي به بعد الفراغ. فأما تعلقهم بقوله تعالى:} فلا جناح عليه أن يطوف بهما {، وأنه ينبئ على كونه مباحًا: فإنه باطل من وجوه: أحدهما: أن السعي إما أن يكون ركنًا - على ما نقوله -، أو واجبًا - على ما يقولونه -، أو مسنونًا - على ما يقوله بعضهم -، وليس في الأمة من يقول: إنه مباح مخير فيه يستوي فعله وتركه؛ فحمل الآية على هذا لا يصح؛ لإجماع الأمة على خلافه. والوجه الآخر: أن هذه الآية نزلت على سبب؛ وهو ما روى عروة أن عائشة - رضي الله عنها - قلت لها: أرأيت قول الله عز وجل:} إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما {ما على أحد جناح ألا يطوف بهما؟ قال: فقالت: بئس ما قلت يا بن أخي؛ إنها لو كانت على ما أولتها كانت لا جناح عليه أن لا يطف بهما؛ إنما كان هذا الحي من الأنصار قبل أن يسلموا صلوا لمناة الطاغية، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا، فلما أسلموا سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

فقالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة؛ فأنزل الله عز وجل:} إن الصفا والمروة من شعائر الله {. وروى الشعبي قال: كان على الصفا وثن يقال له: إساف، وعلى المروة وثن يقال له: نائلة. فكان المشركون يطوفون بينهما، فملا كان الإسلام قال ناس لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أهل الجاهلين كانوا يطوفون بين الصفا والمروة للوثنين؛ فنزلت هذه الآية. وهذا ليس هو السعي الذي نوجبه نحن، بل هو ما كان المشركون يتعاطونه. وبما يجاب به عن هذا ما روى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في السعي: نبدأ بما بدأ الله عز وجل به، وابدؤوا بما بدأ الله به، وإنه بدأ بالصفا. وهذا يدل على أن الأمر بالآية يقتضي الأمر بالسعي؛ لأنه أخبر أن ما يفعله إتباعًا للظاهر وامتثالاً له. ولا يجوز لمن يقول: فعل يفعله نبدأ بما بدأ الله عز وجل به في ظاهر لا يقتضيه ولا يفيده. وإذا كان كذلك ثبت ما قلنا. وأجاب بعض من وافقنا عنه بأنه قال قوله عز وجل:} فلا جناح {كلام مستقل بنفسه عائد إلى الحج والعمرة كأنه قال سبحانه:} فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح {ثم استأنف فقال:} عليه أن يطوف بهما {؛ ليفيد وجوب السعي. وهذا ليس بصحيح؛ لأن الكلام مرتبط بعضه ببعض؛ فلا يجوز تبعضه، ولأنا أنكرنا عليهم كون السعي مباحًا.

وهذا الجواب يقتضي إباحة الحج والعمرة، وذلك أدخل في الفساد مما قالوه؛ فيجب بطلانه. فأما تعلقهم بما رواه من قراءة أبي، وابن مسعود وغيرهما فباطل أيضًا؛ لأنها مخالفة للمصحف المجتمع عليه؛ فلا يلتفت إليه. وقولهم أقل ما فيه أن يكون خبر واحد غير صحيح؛ لأن أخبار الآحاد لا يثبت بها نقل القرآن؛ ويبين ذلك أن عائشة - رضي الله عنها - أنكرت على عروة ما يفضي إلى هذه القراءة فقالت: لو كان ذلك على ما قلت لكانت فلا جناح عليه ألا يطوف بهما؛ فدل هذا أيضًا على أن هذه القراءة لا أصل لها. فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة فمن وقف بعرفة فقد تم حجة" فمعناه أن المقصود الذي يفوت الحج بفواته هو عرفة، وليس المراد به حقيقة اللفظ؛ لأنه لو وقف بعرفة من غيرهم إحرام لم يكن حاجًا، وكذلك لو لم يطف في الإحرام لم يكن حجه تاما؛ فثبت أن معناه ما قلناه. فأما قولهم أن السعي تابع للطواف، وما كان تابعًا لغيره لم يكن ركنًا: فليس بصحيح؛ لأنه ليس بتابع بل هو ركن بنفسه. فأما استشهارهم على ذلك بأنه لا يفعل منفردًا بنفسه ولا يؤتي به إلا عقيب طواف: فإنه باطل؛ لأن هذا لا يوجب أن يكون تبعًا للطواف؛ لأن الشيء قد يكون له حكم نفسه، ولا يكون تبعًا لغيره وإن كان من شرطه أن يتقدمه غيره؛ يبين ذلك أن الوقوف بعرفة لا يصح لا بعد تقدم

الإحرام، ولم يوجب ذلك كونه من توابعه؛ وكذلك السجود لا يفعل إلا بعد ركوع أو جلوس - أعنى السجود الذي هو مر بنية الصلاة - ثم لم يوجب ذلك أن يكون من توابعه؛ فثبت بذلك أن هذا إنما وجب؛ لأنها أفعال ترتيب في الابتداء على هذا الوجه؛ لأن أحدهما تابع للآخر؛ وكذلك طواف الإفاضة لا يكون إلا بعد الوقوف، وليس هو تابع له؛ بل هو ركن بنفسه. وقولهم: أن فعله معلق على الفراغ من الطواف فكان من توابعه: باطل؛ لأن الطواف في العمرة علق على الفراغ من الإحرام وليس من توابعه. ثم المعنى فيما قاسوا عليه من المبيت بالمزدلقة والرمي أنها من توابع الوقوف؛ فلذلك لم يكن ركنًا؛ بدليل أنه نسقط بسقوط الوقوف. وليس كذلك السعي؛ لأنه منفرد بنفسه ليس بتابع في الوجوب لغيره؛ بدليل ما ذكرناه أنه يؤتى به عقيب طواف القدوم وليس بركن. وأما قولهم أن السعي لو كان ركنًا لكان من جنسه ما ليس بركن كالوقوف بعرفة: فعنه جوابان: أحدهما: يبتقض بالإحرام؛ لأنه ركن وليس في الحج من جنسه ما لبس بركن. والآخر: أن من جنس المعنى ما لبس بركن - وهو السعي في بطن محصر بمزدلفة - فقد قلنا بموجب العلة. فإن قيل: ليس السعي في بطن محصر من جنس السعي بين الصفا [ق/

140] والمروة؛ لأنه ليس فيه أشواط، ولا يفعل على وجه القربة لفضيلة الموضع. قيل له: هذه الشروط لا يقتضيها تعلييكم؛ لأن قولكم (من جنسه) يقتضي أن يكون مثله في وصفه الأعم. على أن المييت بالمزدلفة ليس من جنس الوقوف بعرفة؛ لأن اللبث بعرفة ليس من شرطه أن يكون مبيتًا. والمبيت بالمزدلفة يجري مجرى المبيت بمنى لـ منى. على أن الطواف من جنس السعي، وهو ركن مثله. فإن قيل: ليس في الحج ركن يتكرر من جنسه ركن آخر فلم يكن الطواف من جسن السعي. قيل له: هذا كلام في هل الطواف من جنس السعي فلا يلزمنا؛ لأنا قد بينا كونه كذلك. فأما قولهم أن الطواف لما كان ركنًا كان من جنسه ما لبس بركن - وهو طواف الوداع -: فليس بصحيح؛ لأن هذا مثله ومن اسمه، وإنما يقال: من جنسه إذا أخذ شبها من وصفه العام. فأما إذا كان مثله في جميع الجهات فكأنهم قالوا: يجب أن يتكرر على وجه لا يكون ركنًا. وهذا باطل بالوقوف بعرفة؛ على ما بيناه. وقولهم أنه مفعول بعد الإحرام من جنسه غيره كالحلق والذبح: ينتقض بالوقوف بعرفة. فإن قالوا: من جنسه المبيت بالمزدلفة. قلنا: ومن جنس السعي

الطواف؛ على ما بيناه. فأما رمي الجمار فإنه تاعب للوقوف؛ بدلالة أن من سقط عنه الوقوف بالفوات سقط عنه الرمي. واعتلالهم ينتقض بعرفة، ولا يحزرهم منه قولهم: (لا على وجه اللبث)؛ لأن الوقوف ليس من شرطه اللبث؛ يدلك عليه أنه لو اجتاز بعرفة لأجزأه وإن لم يقف بها ما يسمي لبثًا. وقولهم أن سبب السعي إظهار القوة وإبطال ما ظنه المشركين من عدمها فلذلك لم يكن واجبًا: باطل من وجهين: أحدهما: أن السعي ليس هذا سببه، وإنما هذا سبب الهرولة والرمل، فأما أصل المشي فليس يتعلق هذا به؛ فأكثر ما في الباب ألا تجب الهرولة، فأما ألا يجب أصل الطواف فلا. والجواب الآخر: هو أنه لو كان هذا سببه لم يخرجه عن كونه واجبًا، ولا يستحيل أن يكون هذا سبب إيجابه، ونحن لم نرعم أنه كان واجبًا لأجل سببه حتى يقال: إن هذا السبب لا يقتضي وجوبه. وإذا ثبت ذلك سقط ما ذكره. وبالله التوفيق. فصل وأفعال الحج كلها تجرى بغير طهارة إلا الطواف؛ فإن من شرطه الطهارة؛ فلا يصح من محدث أو جنب أو حائض. هذا قولنا، وقول

الشافعي. وقال أبو حنيفة: الطهارة واجبة للطواف، وليست شرطًا فيه. ومن [أصحابه] من يقول: ليست بواجبه فيه أصلاً، إلا أنهم متفقون على أنها ليست بشرط فيه وأنه إن طاف على غير طهارة أجزأه. واستدلوا بقوله تعالى ذكره:} وليطوفوا بالبيت العتيق {فأطلق ولم يقيد، والاسم يتناول من فعله محدًا وطاهرًا. قالوا: ولأنه ركن في الحج لا يتم إلا به؛ فلم يكن من شرطه الطهارة. أصله: الوقوف. أو نقول: لأنه غير مشروط فيه ترك الكلام؛ فأشبه الوقوف والصوم. قالوا: ولأنه الإحرام يوجب هذه الأفعال - وهو بعضها - فإذا لم تكن الطهارة شرطًا فيه كانت بأن لا تكون مشرطًا فيما هو من موجباته أولى. قالوا: ولأن الطهارة لو كانت شرطًا في ركن من أركان هذه العبادة لكانت شرطًا في جميع أركانها. طردة الصلاة. لما كانت الطهارة شرطًا في بعض أركانها كانت شراطًا في جميعها. عكسه سائر العبادات. قالوا: ولأنها عبادة ليس من شرطها استقبال القبلة فلم يكن من شرطها

الطهارة. أصله: الصوم. عكسه الصلاة. قالوا: ولأنه مبني على التكرار في الحج فأشبه السعي والرمي. قالوا: ولأن مفروضات الحج ومسنوناته لا تفتقر إلى طهارة؛ فكذلك الطواف. والدلالة على صحة قولنا ما روى فضيل بن عياض عن عطاء بن السائب عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله أباح فيه النطق، فمن نطق فلا ينطق إلا بخير". ووجه الاستدلال من هذا هو أنه صلى الله عليه وسلم سماه صلاة؛ فلم يخل من أن يكون سماه بذلك لغة أو شرعًا؛ فلا معنى لحمله على أنه سماه بذلك في اللغة؛ لأنه لم يبعث صلى الله عليه وسلم ليعلمهم اللغة؛ لأن اللغة طبعهم ولسانهم؛ فلا يحتاجون إلى تعليمها؛ فثبت أنه سماه بذلك في الشرع. وإذا كان كذلك وثبت أنه صلاة في الشرع وجب أن تثبت لها أحكام الصلاة في كل شيء إلا ما قام عليه الدليل.

ومن هذه الأحكام ثبوت الطهارة؛ لأن الصلاة الشرعية لا تصح إلا بطهور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بطهور". ويبين ما قلناه من أن تسميه الطواف بأنه صلاة قد شمل سائر أحكام الصلاة أنه استثنى إباحة المنطق فيه؛ فأما فأفاد بذلك أن حكمه حكم الصلاة فيما عدا هذا، وأنه لا يفترق في شرائطها إلا في هذا المقدار فقط. فإن قيل: صحيح هذا الحديث موقوف وليس بمرفوع، وروى وهب عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس قال: "الطواف بالبيت صلاة" الحديث. قلنا: هذا لا تعلق فيه؛ لأنا قد ذكرنا إسناد الخبر المرفوع ورواته كلهم ثقات، وقد يسند الصحابي الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تارة، ثم يفضي بلفظة أخرى؛ فلا يمتنع ذلك. وإذا صح هذا لم يكن ذكروه قدحًا في رفعه. فإن قيل: تسميه الطواف بأنه صلاة مجاز واتساع؛ لأن له اسمًا يختص به وهو الطواف، والشرائط التي تختص بها ليست بموجودة في الطواف؛ من إيقاع تحريم [ق/ 141] له، وتحليل منه، وركوع وسجود، وغير هذا. وإذا كان كذلك علم أنه سماه صلاة لأجل الدعاء الذي يكون فيه. قلنا: ظاهر التسمية يفيد الحقيقة فلا يصير إلى المجاز إلا بدليل.

فأما استدلالهم على ذلك بأن له اسمًا يختص فإنه باطل؛ لأن اختصاص نوع من الجنس باسم غير الجنس لا يخرجه عن أن يكون منه؛ ألا ترى أن السلم والعرف نوعان من البيوع، وهما بيع على الحقيقة وإن اختصا بأسماء منفردة؛ فكذلك سبيل الطواف. فأما قولهم أن للصلاة شرائط ليست موجودة في الطواف فليس بصحيح؛ لأن هذه الشرائط في بعض الصلاة دون بعض؛ ألا ترى أن سجود التلاوة والسهو الذي يكون خارج الصلاة صلاة على الحقيقة وليس فيه ركوع. وكذلك صلاة الجنازة صلاة على الحقيقة وليس فيها ركوع ولا سجود؛ فبان بهذا أن اختلاف صفات الصلاة لا يخرجها عن أن تكون صلاة شرعية. فأما قولهم: إن المراد به الدعاء: فباطل من وجهين: أحدهما: أن هذا معلوم من اللغة؛ فلا فائدة في حمل الخبر عليه. والثاني: أنه استثنى منه إباحة المنطق، فلو كان المراد به الدعاء لم يكن لهذا الاستثناء معنى. فإن قيل: لو كان الطواف صلاة على الحقيقة لخرج بفعلها عن النذر. قلنا: هذا لا يلزم؛ لأن النذر إذا أطلق توجه إلى الصلاة المعهودة؛ ألا ترى أن سجود التلاوة وصلاة الجنازة صلاة على الحقيقة، ولا يخرج بفعله عن النذر. دليل آخر في أصل المسألة؛ وهو ما روى عن عائشة - رضي الله عنهم - (أن

الوجوب، وسيما إذا كانت بيانًا، وهذا موضع البيان؛ لأنه قال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم"؛ فدل ذلك على أن الطهارة شرط في الطواف. ويدل على ذلك أيضًا ما رواه مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قدمت مكة وأنا حائض فشكوت ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهرين". ووجه الاستدلال من هذا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منعها من الطواف لعلة الحيض؛ بدلالة أنه أباحها بإياه عند ارتفاعه. وعلى نحو ذلك ما روى عن صفية في هذا الحديث أنها حاضت فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أحابستنا هي؟ " فقالوا: إنها أفاضت. قال: "فلا إذا". فاعتقد صلى الله عليه وسلم أن الحيض هو المانع للطواف؛ فدل ذلك على ما قلناه. فإن قيل: لا دلالة لكم في هذا؛ لأن الحائض لا يجوز لها دخول المسجد؛ فلم يجز لها أن تطوف لهذا المعنى، لا لأن الطواف لا يصح منها وهي حائض. قلنا: هذا خلاف الخبر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل المنع من ذلك بالحيض؛ بدليل أنه علل إباحته بارتفاعه. وعلى قولهم أن علة المنع امتناعها من دخول المسجد، وهذا خلاف الخبر، ومن سلم منهم أن الطهارة

واجبة للطواف. قلنا: لأنها عبادة تجب لها الطهارة؛ فوجب أن تكون من شرطها كالصلاة. وعلى قول من لا يسلمه نقول: لأنها عبادة لها تعلق بالبيت تختص به؛ فكانت الطهارة من شرطها؛ اعتبارًا بالصلاة. فأما تعلقهم بقوله تعالى:} وليطوفوا {ففيه جوابان: أحدهما: أن الطهارة واجبة عندهم أو مسنونة؛ فإيقاع الطواف بغير طهارة مكروه من قول الجميع، والأمر لا يتناول الفعل على وجه مكروه. والثاني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بين ذلك بقوله: "خذوا عني مناسككم"، وتوضأ وطاف واعتبارهم بالوقوف بعلة أنه ركن: غير صحيح؛ لأن الوقوف لا تجب له الطهارة بالاتفاق؛ فلم يكن من شرط صحته. وليست كذلك الطواف. واعتبارهم بالصوم بعلة أنه لم يشترط فيه منع الكلام: باطل أيضًا بما قلناه؛ لأن الطهارة غير واجبة فيه، أو لأنه لا يفعل متوجهًا به للبيت. وقولهم أن هذه الأفعال من موجبات الإحرام فإذا لم تجب الطهارة للأصل كانت بأن لا تجب لأفعاله أولى محض الدعوى؛ لأنه لا يمتنع أن يكون فعل هذه الأشياء لا يصح إلا بعد تقدم الإحرام، وأن الإحرام نفسه يجزئ بغير طهر وما بعده لا يجزئ إلا بطهر لمعنى يختصه؛ فبطل ما ذكروه وقولهم: لو كانت الطهارة شرطًا في ركن من هذه الأركان لكانت شرطًا في الجميع ينقلب عليهم في الوجوب؛ لأن الطهارة لو كانت واجبة في الجميع.

على أن الصلاة جملتها تتعلق بالبيت؛ فلذلك كانت الطهارة من شروطها. وليس كل أركان الحج متعلقًا بالبيت؛ فلم تكن الطهارة شرطًا فيما وجد هذا المعنى فيه. وقولهم: لما لم يكن من شرطها استقبال القبلة كذلك الطهارة: لا نسلمه؛ لأنه لابد أن تكون بجهة من جهاتها. والعلة في الصوم أنه ليس له تعلق بالبيت، ولأنه يتقلب عليهم في الوجوب. وكذلك الجواب عن قياسهم على السعي وسائر مفروضات الحج ومسنوناته. والله أعلم. * * * مسألة قال رحمه الله: "ثم يخرج يوم التروية إلى منى [فيصلى] بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم يمضي إلى عرفات، ولا يدع التلبية في هذا كله حتى تزول الشمس [من] يوم عرفة، [ويخرج] إلى مصلاه، وليتطهر قبل رواحه فيجمع بين الظهر والعصر مع الإمام، ثم يروح معه إلى موقف عرفة فيقف معه إلى غروب الشمس".

قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي رحمه الله-: قوله: يخرج يوم التروية إلى منى ليصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح ثم يمضي إلى عرفة؛ فلما روى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه فعل ذلك. وروى الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم-[ق/142] الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة. وروى عبد العزيز بن رفيع قال: سألت أنس بن مالك أين صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الظهر يوم التروية؟ قال: بمنى. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركب يوم التروية فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه كان يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح بمنى، ثم يغدو إذا طلعت الشمس إلى يوم عرفة. وقوله: أنه لا يدع التلبية في ذلك كله حتى تزول الشمس يوم عرفة: فقد ذكرناها فيما تقدم، وبينا وجهه بما يغني عن إعادته. فأما تسميته بأنه يوم التروية بهذا الاسم فقيل فيه: إنه من الري من الماء

كان معدومًا بعرفة وجمع فكانوا يحملون معهم الماء الكثير فيروي به من حضر من الحاج ومن أهل الموضعين. وروى هذا عن محمد بن الحنفية. وقوله: إنه يتطهر- يعني: للوقوف بعرفة- فليأتي بالوقوف على أكمل أحواله؛ لأنه أعظم شعائر الحج، وقد ثبت بما قدمناه استحباب الغسل للإحرام؛ فكذلك الوقوف. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر كان يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم، ولدخوله مكة، ولوقوفه عشية بعرفة. وقوله: إنه يجمع بين الظهر والعصر مع الإمام ثم يروح معه إلى موقف عرفة؛ فلما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نزل بعرفة حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم أذن بلال ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئًا، ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف. وروى ابن وهب عن موسى بن زيد عن ابن شهاب عن سالم قال: إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة يوم عرفة. فقلت لسالم بن عبد الله: أفعل ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟ - فقال: نعم؛ إنما يتبعون سنته.

وقوله: إنه يقف حتى تغرب الشمس فلأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كذلك فعل على ما سنذكره. ولا خلاف أن هذا هو الأولى والأفضل، وإنما الخلاف في أن ذلك يلزم أو يستحب؛ فعندنا أنه يلزم، وأن الاعتماد في الوقوف بعرفة على الليل من ليلة النحر والنهار من يوم عرفة تبع، والأحسن أن يجمع بين النهار والليل بالوقوف، وإن أفرد الليل بالوقوف أجزأه أي وقت منه وقف أوله أو وسطه أو آخره وإن كان جزءًا يسيرًا، وإن أفرد النهار بالوقوف لم يحزءه حتى يصله بجزء من الليل. فإن وقف نهارًا، أو دفع قبل الغروب ولم يرجع إلى عرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فأته الحج عندنا، وإن رجع فوقف بها قبل طلوع الفجر أجزأه. وعند أبي حنيفة والشافعي أن الاعتماد على النهار من يوم عرفة بعد الزوال وأن الليل كله تبع، فإذا وقف جزءًا من نهار يوم عرفة بعد الزوال أجزأه، وكذلك إن وقف جزءا من الليل ليلة النحر ولم يقف شيئا من نهار يوم عرفة أجزأه. إلا أنهم يقولون: إن أفرد الوقوف بالنهار دون الليل أجزأه وعليه دم لترك الوقوف ليلًا. واختلف أصحاب الشافعي في تأويل قوله: (إن عليه دم) فمنهم من حمله على ظاهره- وهو الإيجاب-، ومنهم من قال: المراد به الاستحباب لئلا يلزمهم عليه ما يذكره أصحابنا؛ وذلك أن أحد ما يستدل به إذا دفع قبل الغروب ولم يرجع حتى طلع الفجر فإن الحج قد فاته هو أن يقول: إن

وقت الوقوف هو الليل والنهار إنما دخل على وجه التبع؛ بدلالة أن من ذهب إلى جواز الاقتصار على النهار يقول: إن عليه دم لترك الليل. ولو أفرد الليل بالوقوف لم يكن عليه دم لترك النهار فدل ذلك على أن الدم إنما وجب لترك الوقوف في آكد الزمانين وأولاهما للوقوف، ولا يجوز أن يكون الليل تبعًا والنهار هو المقصود وتأكيد أمره عليه. وإذا ثبت ذلك صح ما قلناه. فذكر أصحاب الشافعي أن الدم غير واجب عليه، ولكنه مستحب، والسؤال لازم في الاستحباب أيضًا؛ لأنه لا وجه إلا ما ذكرناه. فإن قيل: لو كان المقصود بالوقوف هو الليل، والنهار على سبيل التبع لم يكن أكثر الوقوف بالنهار، وأقله الذي منه ينصرف عن الموقف هو الليل؛ لأن ذلك يوجب كون التبع أخص بالحكم من المقصود. فلما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يقف نهارًا ويدفع عند غروب الشمس علمنا أن النهار هو المقصود بالوقوف. قلنا: هذا ليس بصحيح؛ وذلك أن المقصود وإن كان هو الليل فإن الأفضل الجمع بينه وبين النهار وإطالة الوقوف وكثرة الدعاء. وهناك سنة أخرى لا يمكن تركها؛ وهي الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة، فلو لم يكثر الوقوف بالنهار لبطل ما يقصده الإنسان بالوقوف من الدعاء والتفرغ إلى الله عز وجل؛ لأن ذلك يحتاج مهلة من الزمان، وليس ذلك يمكن في الليل؛ لما ذكرناه من أنه يبطل معه سنة مؤكدة لازمة؛ وهي الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة، وإذا ثبت ذلك بطل إلزامهم.

ومما يدل على ما قلناه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دفع بعد المغرب، وقد قصد بفعله بيان المناسك؛ روى ذلك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم؛ فروى أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: حدثنا سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن عياش بن الحارث عن يزيد بن علي عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي- رضي الله عنه- قال: أردف- يعني: النبي- صلى الله عليه وسلم- أسامة فجعل صلى الله عليه وسلم يسير على ناقته، والناس يضربون الإبل يمينًا وشمالًا لا يلتفت إليهم، ويقول: "السكينة أيها [ق/143] الناس"، فدفع حين غابت الشمس. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أتى الموقف فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلًا حتى غاب القرص فذهب فأردف أسامة خلفه. وروى أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا يعقوب قال: حدثنا أبي عن ابن عباس قال: حدثنا إبراهيم بن عقبة عن كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال: كنت رديف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما وقعت الشمس دفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. والاستدلال بهذه الأخبار من وجهين: أحدهما: أن فعله على الوجوب. والآخر: قصد به بيان المناسك بقوله: "خذوا عني مناسككم".

فدل ذلك على أن من دفع قبل الغروب يجزئه؛ لخلافه فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. فإن قيل: إنما دفع بعد الغروب ليستوفى أجزاء النهار، لا انتظار الليل. قيل له: هذا ليس بصحيح من قبيل أنه لا خلاف أن الأفضل الجمع بين الليل والنهار. وحمل الخبر على ما قالوا يوجب أن يكون قصد معنى غير الأفضل وترك الأفضل؛ لأنه إذا كان الأفضل هو الجمع بينهما اقتضى ذلك أن يكونا جميعًا مقصودين بالوقوف؛ ولأن أجزاء النهار غير مستغرقة للوقوف؛ فلا معنى لما قالوه. ويدل على ذلك أيضًا ما رواه ابن وهب عن ابن جريج عمن حدثه من محمد بن قيس عن المسور بن مخرمة قال: خطب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عشية عرفة، ثم قال: "أما بعد فإن هذا [يوم] الحج الأكبر، وإن أهل الشرك والأوثان كانوا يدفعون في هذا اليوم قبل غروب الشمس حين تعتم بها رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم، وإنا ندفع بعد غروبها؛ فلا تعجلوا بنا". ورواه سلمة بن هرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة، فإذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كأنها العمائم على رؤوس الرجال يدفعون، فأخر رسول الله- صلى الله عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى

تغرب الشمس. وروى أصحابنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "خالفوا المشركين". قال: لا تدفعوا من عرفة حتى تغرب الشمس". والاستدلال بهذه الأخبار من وجوه: أحدهما: إخباره صلى الله عليه وسلم بفعله الذي قصد به بيان المناسك؛ وهو أنه يدفع بعد مغيب الشمس. والآخر: إخباره بأنه يقصد به خلاف المشركين. فدل ذلك على أن الوقوف جزء من الليل مقصود؛ لأن المشركين كانوا يدفعون قبل الغروب، ولا يرون الوقوف بالليل؛ فخلافهم إنما يكون بأنه يقف بالليل. والثالث: تجريد نهيه عن الدفع قبل الغروب، والنهي عن الخطر والمنع. ويدل على ذلك أيضًا ما أخبرنا به الشيخ أبو بكر الأبهري إجازة عن أبي بكر بن الجهم حدثنا بشر بن موسى حدثنا عفان حدثنا شعبة قال: أخبرني بكير بن عطاء قال: سمعت عبد الرحمن بن يعمر يقول: سئل النبي- صلى الله عليه وسلم- عن الحج فقال: "الحج عرفة؛ من أدرك ليلة جمع قبل صلاة الصبح فقد أدرك الحج". وأخبرنا أبو بكر عن ابن الجهم قال: حدثنا إبراهيم الحربي قال: حدثنا

أبو الربيع حدثنا عبد الرزاق حدثنا الثوري عن بكير بن عطاء عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال: أتيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعرفة، فجاءه نفر من نجد، فأمروا رجلًا فنادى: كيف الحج يا رسول الله؟ فقال: "الحج يوم عرفة؛ من جاء ليلة جمع قبل الصبح فقد تم حجه". فأردف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رجلًا خلفه فنادى بمثل هذا". وأخبرنا الشيخ أبو بكر عن ابن الجهم حدثنا أحمد بن الهشيم حدثنا القعنبي حدثناه عمرو بن قيس المكي عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج". وأخبرنا الشيخ عن ابن الجهم حدثنا أحمد بن أبي عمران حدثنا [سورة] بن الحكم حدثنا عبد الله بن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عباس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من أفاض من عرفات قبل الصبح فقد تم حجه، ومن فاته فقد فاته الحج". وأخبرنا الشيخ أبو بكر أيضًا عن الجهم حدثنا إبراهيم بن حماد حدثنا أبو عون عمرو بن عون حدثنا داود بن جبير حدثنا رحمة بن مصعب أبو هاشم الفراء عن ابن أبي ليلى عن عطاء، وعن نافع عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من وقف بعرفات بليل فقد أدرك الحج، ومن فاته

عرفات بليل فقد فاته الحج، فليهل بعمرة، وعليه حج قابل". كل هذه الأخبار عن الشيخ أبي بكر، فما فاتني سماعه فهي لي إجازة منه. والتعلق من هذه الأخبار بصريحها، ومن الأول بدليل الخطاب؛ وهو أنه صلى الله عليه وسلم يعلق فوات الحج بفوات الوقوف ليلًا؛ فدل على ما قلناه. ويدل على ما قلناه أيضًا من جهة الاعتبار أن نقول: لأنه لم يقف بعرفة جزءًا من ليلة النحر فلم يجزئه؛ اعتبارًا بوقوفه قبل الزوال. وأيضًا فلأن أول النهار لما لم يكن وقتًا يجرئ فيه الوقوف؛ كذلك آخره؛ ألا ترى أن الليل لما كان وقتًا يجرئ فيه الوقوف استوى أوله وآخره. وتحريره أن يقال: لأنه أحد نوعي الزمان؛ فوجب أن يستوي أوله وآخره في حكم الوقوف. أصله: الليل. أو نقول: إن أول لا يجزئ فيه الوقوف؛ فكذلك أخره؛ اعتبارًا بسائر الأيام. واستدل من خالفنا بما رواه عروة بن مضرس أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من صلى معناه الغداة بجمع، وقد أفاض قبل ذلك من عرفات ليلًا أو نهارًا فقد تم حجه، وقضى تفثه".

فالجواب أن معنى هذا: من وقف بعرفة ليلًا أو نهارًا، ودفع بعد الغروب فقد قضى حجه؛ بدلالة ما ذكرناه. قالوا: وروي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "عرفة يوم يعرفون"؛ فعلق حكم التعريف بالنهار دون الليل. فالجواب: أن معنى هذا: وقت تعرفون؛ لأن الليل كله وقت للوقوف عندنا، وعند [ق/144] مخالفنا، وليس اليوم كله وقتًا للوقوف عند مخالفنا، وإنما عبد عن ذلك باليوم؛ لأن ابتداء الاجتماع يكون في آخره. قالوا: ولأن الوقوف بعد الزوال إلى وقت الغروب قد نقل من جهة الاستفاضة والانتشار؛ فلم يجر أن يجعل ذلك تبعًا لوقوف لم يقع بعد، وإنما يقع بعده. فالجواب: أن الوقوف بعد الغروب قد نقل أيضًا عن جهة الاستفاضة والانتشار؛ لأنه لم يرو أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دفع إلا بعد الغروب، وليس يمتنع أن يكون الوقوف بالنهار تبعًا لوقوف يقع بعد- وهو الوقوف بالليل- إذا قام الدليل. وعلى أن الوقوف بالليل هو المقصود، وأن يكون التابع أسبق من المتبوع وأطول مانًا منه هذا ما لا شيء منع منه. قالوا: ولأن النبي- صلى الله عليه وسلم- لما أراد الوقوف قصد الموقف نهارًا، ولما أقبل الليل- انصرف من الوقوف؛ فجعل الليل وقتًا للانصراف وترك الوقوف، والنهار وقتًا للوقوف. وأنتم تجعلون الليل هو المقصود للوقوف. فالجواب: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قصد الأفضل بجمعه بين الليل والنهار في

الوقوف، وإنما انصرف بعد أن حصل واقفًا جزءًا من الليل؛ لئلا تفوته سنة من شعائر الحج. ولم يجعل الليل وقتًا للانصراف؛ لأنه لو كان كذلك لم يجز الوقوف فيه، ولكن ما زاد على زمان الوقوف الذي يحتاج إليه وقصده الوقوف بالنهار لا يوجب أن يكون ذلك هو وقت الوقوف؛ كما أن قصده لصلاة الجمعة قبل الزوال لا يوجب أن يكون هو وقت الصلاة بل لأمور تتقدمها؛ كذلك سبيل قصده الوقوف نهارًا. قالوا: ولأن الليل وقت لنسك آخر؛ وهو المبيت بالمزدلفة؛ لأن بدخول الليل يدفع من عرفة إلى المزدلفة، وما بعد الزوال من يوم عرفة ليس بوقت لشيء من النسك غير الوقوف؛ فوجب أن يكون هذا الوقت أخص بالوقوف من الليل؛ لأنه فارغ والليل مشتغل فيه بنسك آخر. فالجواب: أن قولهم أن ما بعد الزوال ليس بوقت لشيء من النسك غير الوقوف: إن عنوا به الوقوف الذي هو المقصود الذي يفوت الحج بفواته: فهذا موضع الخلاف، وإن أرادوا أنه وقت لفضيلة الوقوف: فالفضيلة لا توجب أن يتعلق الإجزاء بوقتها. وعلى أنا لا نمنع أن يكون الليل مشتعلًا بنسكين يختص بها جميعًا. واختصاص الليل بالوقوف آكد عندنا من اختصاصه بالمبيت؛ لأن الحج يفوت بفوات الوقوف، ولا يفوت بترك المبيت. قالوا: ولأنه لبث في مكان مخصوص فجاز أن يفعل نهارًا، وليلة الوقوف بمزدلفة.

قلنا: ما وضع سنته في وقت مخصوص لا يقال فيه: فجائر أن يفعل في ذلك الوقت، ووقت المبيت بالمزدلفة الليل عندنا، فإذا فات في الليل فات الوقت جملة. وبالله التوفيق وحكي عن أحمد بن حنبل وغيره أنه جوز الوقوف بعرفة قبل الزوال من يوم عرفة. وما ذكرناه دلالة على فساد قوله. وبالله التوفيق * * * فصل ويستحب للواقف بعرفة أن يقف راكبًا، وإن وقف راجلًا فلا بأس. وإنما قلنا ذلك؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم- فعل كذلك؛ فروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نزل بعرفة حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فركب حتى أتى بطن الوادي فخطب الناس، ثم صلى الظهر والعصر ثم ركب القصواء حتى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وجعل جبل المشاة بين يديه، فاستقبل القبلة، فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس. وروى مالك عن أبي النضر عن عمير مولى ابن عباس عن أم الفضل بنت الحارث أن ناسًا تماروا عندها يوم عرفة في رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؛ فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليست بصائم؛ فأرسلت إليه أم

الفضل بقدح فيه لبن- وهو واقف على بعيره- فشرب منه بعرفة. ولأن الركوب أعون له على الوقوف، وأمكن له في الدعاء، وأروح له من التعب فإن وقف راجلًا فلا بأس. * * * مسألة قال رحمه الله: "ثم يدفع بدفعه إلى المزدلفة فيصلي معه بالمزدلفة المغرب والعشاء والصبح، ثم يقف معه بالمشعر يومئذ بها، ثم يدفع بقرب طلوع الشمس إلى منى، ويحرك دابته ببطن محسر". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي رحمه الله-: وإنما قال ذلك لما روى من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دفع من عرفة بعد غروب الشمس حتى إذا أتى المزدلفة فجمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، ثم اضطجع حتى طلع الفجر، ثم صلى الصبح، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام واستقبل القبلة فحمد الله وكبره وهلله ولم يزل واقفًا حتى أسفر جدا، ثم دفع قبل أن تطلع الشمس. وروى مالك عن موسى بن عقبة بن كريب مولى ابن عباس عن أسامة ابن زيد قال: دفع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من عرفة حتى إذا كان بالشعب فنزل فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء. فقلت له: الصلاة. فقال: "الصلاة

أمامك"، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت العشاء فصلاها، ولم يصل بينهما شيئًا. وروى مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى المغرب والعشاء بالمزدلفة. وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن عدي بن ثابت عن عبد الله بن عبد الله بن زيد الأنصاري عن أبي أيوب الأنصاري أنه صلى مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع المغرب والعشاء بالمزدلفة جميعًا. فلهذا قال: إنه يدفع من عرفة إلى المزدلفة ويجمع [ق/145] بها بين صلاتي المغرب والعشاء. وقد اختلف قوله: هل- يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين أو بأذانين وإقامتين، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصلاة. * * * وهذا الجمع عندنا مسنون، فإن صلى المغرب في وقتها في عرفات والعشاء في وقتها أجزأه إلا أنه ترك السنة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يجزئه إلا أن يجمع بينهما بالمزدلفة.

ودليلنا أنهما صلاتان يسن الجمع بينهما في وقت إحداهما فلم يمنع ترك الجمع بينهما جوازهما. أصله: الظهر والعصر بعرفة، لا خلاف أن الجمع بينهما مسنون لا يمنع تركه الجواز؛ كذلك هنا فإن قالوا: فقد قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "خذوا عني منساككم"، ورأينا جمع بينهما. قلنا: عنه جوابان: أحدهما: أن المناسك منها السنة والفريضة. والآخر: أن الجمع من أحكام الصلاة ليست من المناسك؛ لأنه يجوز عندنا للعذر في سفر الحج وغيره فإن قيل: فمن منزلة بمزدلفة يجمع وليس بمسافر. قلنا: يفعل ذلك تبعًا؛ كما أن من ليس بمعتكف إذ جمع في المسجد معه المعتكفون تبعًا. ثم لا يمتنع أن يكون الشيء مقصودًا لغيره ويكون واجبًا، أو يجب بترك الدم. والفرق بين المبيتين أن ليلة عرفة ليس في صدر نهار غيرها نسك؛ لأن وقت الوقوف بعد الزوال، وليلة المزدلفة في صدر نهار غدها نسك؛ فصار المبيت بقرب ما يليه من المناسك منسكًا. فأما ما روى من خبر العباس أنه رخص له لأجل السقاية فإن ذلك عذر، وكذلك رعاة الإبل وقال أصحابنا: يحتمل أن يكون الإرخاص بشرط الدم.

فصل والمبيت بالمزدلفة ليلة النحر مسنون، وليس بركن وبه قال كافة الفقهاء. وحكى عن بعض التابعين أنه فرض وركن من أركان الحج. والأصل في استحبابه ما رويناه من فعل النبي- صلى الله عليه وسلم-. وأما سقوط فرضه فلعدم دليل يدل على ذلك، ولكن ما جاز تركه لعذر لم يكن ركنًا؛ اعتبارًا بطواف القدوم والوداع. ولا نعرف لمن ذهب إلى خلاف هذا شبهة يتعلق بها إلا حديثًا ذكره بعضهم في كتابه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من لم يبت بمزدلفة فلا حج له"، وهذا حديث باطل، لا شبهة فيه، ولا يجوز تسليمه ولا الكلام عليه. * * * فصل فإن لم يبت بها من غير عذر فعليه دم؛ لتركه شيئًا من نسكه وشعيرة من شعائر الحج المسنونة. وعند أبي حنيفة أنه لا شيء عليه. قالوا: ولأنه ليس بنسك مقصود فلم يجب لتركه دم. أصله: ترك الرمل. قالوا: ولأنه موضع سن فيه المبيت فوجب ألا دم عليه تركه. أصله: إذا بات بغير منى ليلة عرفة.

والأصل فيما ذكرناه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بات بالمزدلفة ولم يرخص في ترك ذلك إلا للضعفاء ورعاة الإبل؛ فوجب كونه مسنونًا. وإذا صح ذلك تعلق بتركه وجوب الدم. ولا نسلم قولهم أنه ليس بنسك مقصود، بل هو مقصود عندنا متأكدًا على غيره. والمبيت بمنى ليلة عرفة مستحب وليس بمسنون؛ فلم يكن حكمه حكم المبيت بالمزدلفة. ثم لا يمتنع أن يكون الشيء مقصودًا لغيره ويكون واجبًا وجب بتركه الدم. والفرق بين المبيتين أن ليلة عرفة ليس في صدر نهار عدها نسك؛ لأن وقت الوقوف بعد الزوال، وليلة المزدلفة في صدر نهار غندها نسك؛ فصار المبيت بقرب ما يليه من المناسك منسكًا. فأما ما روى من خبر العباس أنه صلى الله عليه وسلم رخص له لأجل السقاية؛ فإن ذلك عذر؛ وكذلك رعاة الإبل. وقال أصحابنا: يحتمل أن يكون الإرخاص بشرط الدم. والله أعلم. فصل فأما الوقوف بالمشعر الحرام فالأصل فيه قوله تعالى: {فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم}، وفي حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى الصبح، ثم ركب حتى أتى المشعر الحرام فرقى فاستقبل القبلة، فحمد الله وكبره وهلله، ولم يزل واقفًا

حتى أسفر جدا، ثم دفع قبل طلوع الشمس. فأما وقت الدفع من مزدلفة فالإسفار الذي يقرب به طلوع الشمس. والأصل فيه ما روي في هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يزل واقفًا حتى أسفر الصبح جدا، ثم دفع قبل طلوع الشمس. وروي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: وكان أهل الشرك يدفعون غداة جمع بعد طلوعها حتى تعتم بها رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم وإنما ندفع قبل طلوعها؛ هدينا مخالف لهدى الشرك والأوثان. وروي عن عمر- رضي الله عنه- أنه قال: كانت الجاهلية لا تدفع من جمع حتى تطلع الشمس علي، وكانوا يقولون: أشرق ومخالفهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فدفع قبل طلوع الشمس. فأما قوله: يحرك دابته ببطن محسر؛ فلقوله صلى الله عليه وسلم: "كل مزدلفة موقف، وارتفعوا عن بطن محسر". وروى سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أوضع في وادي محسر. وروى ابن وهب عن- يحيى بن عبد الله عن سالم عن عبد الرحمن

ابن الحارث عن زيد بن علي بن حسين عن أبيه عن علي بن أبي طالب- رضوان الله عليه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دفع من مزدلفة- فجعل يسير العنق والناس يضربون، وهو يلتفت يمينا وشمالًا ويقول: "السكينة أيها الناس" حتى وقف على وادي محسر فقرع راحلته فخبت به حتى خرج عنه، ثم سار بسيره [ق/146] الأول. * * * مسألة قال رحمه الله: "فإذا وصل إلى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات مثل حصى الخذف، [ثم] يكبر مع كل حصاة، ثم ينحر إن كان معه هدى، ثم يحلف، ثم يأتي البيت فيفيض فيطوف سبعًا، ويركع ثم يقيم بمنى [ثلاث ليال]. فإذا زالت الشمس من كل يوم منها رمى الجمرة التي منى بسبع حصيات؛ يكبر مع كل حصاة، ثم الجمرتين كل جمرة بمثل ذلك، وكبر مع كل عصاة، ثم يرمي الجمرة العقبة من أسفلها، والجمرتين من زعلاهما، ويقف للدعاء بإثر الرمي في الجمرة الأولى والثانية ولا يقف عند جمرة لعقبة ولينصرف، فإذا في اليوم الثالث- وهو رابع النحر- انصرف إلى مكة وقد تم حجه، وإن شاء تعجل في يومين من أيام منى فرمى وانصرف، فإذا خرج من مكة طاف للوداع وركع وانصرف". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله:

اعلم أن جملة ما يرميه الحاج من حصى الجمار في يوم النحر وأيام منى سبعون حصاة منها جمرة العقبة يوم النحر بسبع حصيات، وفي أيام منى يرمي كل يوم الثلاث جمار بأحدي وعشرين حصاة؛ لكل جمرة سبع، وهذا إن لم يتعجل. فإذا تعجل رمى تسعًا وأربعين، وينتقصي رمي اليوم الآخر، وهو إحدى وعشرين حصاة. وهذا الفصل مشتمل على عدة مسائل، ونحن نبينه أو نوضح القول فيها إن شاء الله. * * * فصل فأما دفع الحاج من مزدلفة يوم النحر فأول ما يبدأ به إذا وصل إلى منى أن يرمي جمرة العقبة ويكبر مع كل حصاة منها؛ وذلك لما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دفع من مزدلفة ... فذكر إلى أن قال: حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات؛ يكبر مع كل حصاة منها كحصى الخذف. والمستحب عندنا أن يرميها من بطن الوادي، ولا يرميها من فوقها. فإن رماها من فوقها كرهنا له ذلك وأجزناه. والأصل فيما ذكرناه فعل الصحابة رضي الله عنهم، ونقلهم إياه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فروى أبو بكر بن عياش عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: حججت مع عمر- رضوان الله عليه- سنتين: أحدهما السنة التي أصيب فيها، كل ذلك يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي.

وروى خديج بن معاوية عن أبي إسحاق بن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر بن الخطاب- رضوان الله عليه- يرمي الجمرة من بطن الوادي، ثم قال: والذي [لا إله غيره مقام الذي] أنزلت عليه سورة البقرة لقد رأته يرمي ببطن الوادي صلى الله عليه وسلم. وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد قال: رمى عبد الله جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات، وكان يكبر مع كل حصاة. فقيل له: إن ناسًا يرمونها من فوقها. فقال عبد الله: هذا والله الذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صلوات الله عليه. فإن قيل: فقد روى عن عمر- رضي الله عنه- أنه رماها من فوقها. قيل له: إنما فعل ذلك لعذر؛ وهو شدة الزحام؛ روى ذلك ابن وهب عن الثوري عن حجاج بن أرطاة عن وبرة عن الأسود بن يزيد أن عمر- رضي الله عنه- جاء فوجد الزحام عند جمرة العقبة؛ فرماها من فوقها. وقد روى من حديث عاصم بن سليمان عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرمي جمرة العقبة وظهره مما يلي الكعبة. وعلى هذه الصفة إذا حصل مستدبرًا للكعبة كان رميه من بطن الوادي هذا بخلاف فعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه رضي الله عنهم. وقوله أن يكبر مع كل حصاة يرميها فلأن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك.

وقد رويناه من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رماها بسبع حصيات، وكان يكبر مع كل حصاة. وكذلك روى من حديث ابن مسعود أيضً. وقوله أنه يرمي بمثل حصى الخذف: فكذلك روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رماها بمثل حصى الخدف. وروى داود بن عمرو حدثنا خالد بن عبد الله عن حميد الأعرج عن محمد بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن معاذ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يأمر الناس بالمناسك فقال: "ارموا الجمار بمثل حصى الخذف". وروى سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال: أفاض رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعليه السكينة، وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف. * * * فصل ولا يجوز عندنا أن ترمى جمرة العقبة قبل طلوع الفجر من يوم النحر، وهذا قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق، وحكى عن النخعي والثوري أنه لا يجوز أن يرمي إلا بعد طلوع الشمس.

وقال الشافعي: وقت رمي جمرة العقبة من بعد نصف الليل من ليلة النحر، واستحب أن يرمي بعد طلوع الشمس. واستدل أصحابه بما رواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت. وروى ابن جريج عن عطاء قال: أخبرني مخبر عن أم أسماء أنها رمت الجمرة. قلنا: إنا رمينا الجمرة بليل. قالت: إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وروى عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة (أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمرها أن تعجل الإفاضة فتوافي الصبح بمكة). وهذا يوجب أن تكون قد رمت بليل لا محالة؛ لبعد ما بينها وبين مكة. وروى ابن جريج عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر- صلى الله عليه وسلم- قال: دخلنا مع أسماء من جمع لما غاب القمر وأتينا منى ورمينا الجمرة الصبح فقلت: اهنياه رمينا [ق/147] قبل الفجر فقالت: هكذا كنا نفعل مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ولأنه رمى نصف الليل وقبل خروج وقت الرمي؛ فأشبه من رمى بعد الفجر.

ولأنه وقت الإفاضة على وجه فأشبه بعد الفجر وذلك أنه وقت لأهل الأعذار على ما ورد به الخبر. والدليل على ما قلناه: ما حدثنا عبد الوهاب بن محمد بن الحسين حدثنا محمد بن بكر التمار حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن الحسن العربي عن ابن عباس قال: قدمنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أي بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس. وحدثنا عبد الوهاب بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا الوليد بن عقبة حدثنا حمزة الزيات عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن ابن عباس قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قدم ضعفة أهله بغلس، ويأمرهم ألا يرموا الجمرة حتى تطلع الشمس. فإن قيل فأنتم تجيزون رميها قبل طلوع الشمس؛ فقد خالفتم الخبر. قيل له: الخبر يتضمن أمرين: أحدهما: المنع من الرمي قبل طلوع الفجر. والآخر: المنع منه بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس.

فلما قام الدليل على جواز ذلك قبل طلوع الشمس سلمناه الدليل، وبقى ما عداه على موجب النهي. ويدل عليه أيضًا ما حدثنا عبد الوهاب بن محمد حدثنا محمد بن بكر حدثنا أبو داود حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: "رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرمي يوم النحر ضحى. فأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس". وهذا بيان لوقت الرمي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم". وأيضًا فلأنه حصل راميًا لها بليل فلم يجزئه ذلك؛ اعتبارًا برميها قبل النصف. فإن قيل: المعنى في النصف الأول أنه تبع لليوم الماضي، والنصف الثاني تبع لليوم الثاني، بدلالة أن النصف الأول وقت يسن فيه التأذين للعشاء، ولم يسن ذلك بعد النصف الثاني، بل يسن فيه الأذان للفجر. قيل له: هذا يبطل من وجوه: أحدهما: أن الأذان المسنون هو إلى آخر الثلث؛ لأنه آخر وقت العشاء

عندنا. والثاني: أن الأصول مختلفة؛ ففي بعضها النصف الثاني تبع للغد، وفي بعضها أن الليلة كلها تبع لليوم الأول؛ ألا ترى أن حكم الوقوف بعرفة مبني على هذا. والثالث: أن الليل كله وقت للمغرب والعشاء في الضرورة عندنا على الحقيقة والأداء لا على وجه القضاء. فبطل ما قالوه. ويمكن أن نقول: لأنه رمى جمرة العقبة قبل دخول يوم النحر؛ فأشبه إذا رماها يوم عرفة نهارًا. أو نقول: لأن ما قبل الفجر وقت الوقوف بعرفة؛ فأشبه أول الليل على أصل الجميع، وما بعد الزوال من يوم عرفة على أصلهم في الإجزاء وعلى أصلنا في الفضيلة. ولأن كل حكم مؤقت قائم بنفسه أو متعلقة بعبادة لا تتوقف في بعض الوم؛ فإن أوقات الليل متساوية فيه، فإن جاز في بعضه جاز في سائره، وإن امتنع في البعض امتنع في الباقي؛ اعتبارًا بالوقوف بعرفة وبنية الصوم وبالحلق والنحر؛ ألا ترى أن للوقوف حكم منفرد ليس يشترط في غيره وفعل جائز في كل أوقات الليل، والنية جائزة في كل أوقات الليل أيضًا وإن كانت متعلقة بغيرها لكون ذلك الغير مستغرقًا لليوم لا يتوقف في بعضه- وهو الصوم- فلا يشبه الأذان للفجر ولا العشاء الآخرة؛ لأن ذلك متوقف في بعض اليوم أو الليلة، ولا يلزم عليه لوضوء من حيث عدم التأثير أنه يجوز في كل الليل، فإن كان متعلقًا بما يتوقف في البعض لأن الوضوء ليس له وقت يوقع فيه فوت بفواته، وكلامنا فيما يتوقف.

وكذلك النحر لما لم يجز في بعض الليل لم يجز في جميعه. وإذا ثبتت هذه الجملة لم يخل الرمي أن يكون حكمًا قائمًا بنفسه؛ فكل وقت قائم بنفسه لم يجز فعله في بعض الليلة لم يجز في جميعه. أصله: النحر، أو يكون متعلقًا بغيره. فإذا لم يكن ذلك الغير متبعضًا فحكمه حكم المنفرد بنفسه، فإذا لم يجز في أول الليل لم يجز في آخره. وأيضًا فلأنه وقت لا تجوز فيه الأضحية؛ فأشبه أول الليل. ولأنه وقت للوقوف؛ فأشبه الليل. فأما ما رووه عن أم سلمة أنها رمت قبل الفجر: فيجوز أن تكون فعلت ذلك والنبي- صلى الله عليه وسلم- لا يعلم؛ فلا يدل ذلك على جوازه ويحتمل أن تكون فعلت ذلك لعذر ثم أعادته. فإذا احتمل ذلك لم يترك به ظاهر النهي وفعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي قصد به بيان المناسك. وقول أسماء: كذلك كنا نفعل على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم تذكر فيه أنه كان يعلم به فلا ينكره، ومثل ذلك يجوز أن يقع عن غير علمه كما قال أبيّ لعمر- رضي الله عنه- كنا نفعل ذلك على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-؛ فلا تغتسل- يعني: في التقاء الختانين- فقال عمر- رضي الله عنه-: أفأخبرتموه بذلك فرضيه؟ فسكت أبيّ؛ فعلم بهذا أنهم قد كانوا يفعلون على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم أشياء من غير علمه يعتقدون أنه لا ينكرها إذا علم لها، فربما اتفق ذلك وربما لم يتفق. فأما ما رووه من أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أمر أم سلمة أن تعجل الإفاضة فتصلي الصبح بمكة، وهذا يمنع أن

يكون لم يعلم بالرمي: فقد أجاب بعض أصحابنا عنه بأنه لا يمتنع أن يكون أمرها بالتعجيل لتقدم الطواف والسعي على الرمي فتكون قد حلت. فإن قيل: إن رميها بغلس أولى؛ لأنه أستر لها، وأقل تعبًا. قلنا: إنما يراعى ذلك فيما [ق/148] تستوي أوقاته. فأما إذا كان كونه أستر لها يقتضي تقديم الشيء على وقته فلا معتبر به. وأما قياسهم على الرمي بعد الفجر فالمعنى فيه أنه وقت يجوز النحر في جنسه، وليس كذلك الليل. وقولهم أنه وقت الإضافة على وجه ينتقض بنصف الليل الأول. وبالله التوفيق * * * فصل فأما من ذهب إلى أنه لا يجوز رميها قبل طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس فحجته ما روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم- نهى عن رمي الجمرة حتى تطلع الشمس. وما روه جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يرمي يوم النحر ضحى فخذا موضع البات؛ لأنه قال: "خذوا عني مناسككم". ولأنه رمى قبل طلوع الشمس؛ فأشبه الرمي قبل الفجر. والدلالة على ما قلنا: أنه حصل راميًا لها بعد طلوع الفجر من يوم

النحر؛ فأشبه إذا رماها بعد طلوع؛ فأشبه طواف الإفاضة. فأما النهي فمحمول على الندب، وما رووه من فعله صلى الله عليه وسلم محمول على الأفضل. والأولى لما ذكرناه. وقياسهم على الرمي قبل الفجر فالمعنى في الأصل أنه وقت للوقوف بعرفة، وليس كذلك بعد الفجر. وبالله التوفيق * * * فصل فأما قوله: أنه إذا رمى جمرة العقبة نحر إن كان معه هدى ثم حلق؛ فلما روى من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- رمى من بطن الوادي، ثم انصرف إلى المنحر فنحر بيده ثلاثًا وستين، وأمر عليًا- رضي الله عليه- بنحر الباقي. وروى سفيان عن هشام عن ابن سيرين عن ابن عباس قال: لما رمى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أتى نسكه فنحره ثم دعا الحلاق فقال له: "ابدأ بالشق الأيمن". فلهذا استحببنا له تقديم الذبح على الحلق، وتقديم الرمي على الذبح. فإن قدم الذبح على الرمي أو الحلق على الذبح أجزأه، ولا شيء عليه. هذا قولنا، وقول الشافعي.

وروي عن الحسن البصري مثل ذلك. وقال أبو حنيفة: إذا قدم الحلق على الذبح فعليه الدم. واستدل عنه بقوله تعالى ذكره: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله}؛ فمنع من الحلق قبل الذبح. وإذا ثبت تحريمه عليه كان عليه الدم بالاتفاق. قالوا: ولما روى أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذبح ثم خلق، وقال: "خذوا عني مناسككم". والدلالة على ما قلنا: ما روى مالك عن ابن شهاب عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: وقف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بمنى للناس فجاؤوا يسألونه فجاءوا رجل فقال: يا رسول الله لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح. فقال: "أذبح ولا حرج". فجاء رجل آخر فقال: يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. فقال: "ارم ولا حرج" قال: فما سئل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج. وروى أبو داود حدثنا نصر بن علي حدثنا يزيد بن زريع حدثنا خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان إذا سئل يوم منى فيقول: لا

حرج. فسأله رجل فقال: إني حلقت قبل أن أذبح فقال: "اذبح ولا حرج"، وقال آخر: نسكت ولم أرم قال: "ارم ولا حرج". فأما قوله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله} فلا حجة لهم فيه؛ لأن محله هو بلوغه المكان الذي يقع النحر فيه لا ذبحه؛ بدلالة قوله عز وجل: {ثم محلها إلى البيت العتيق}. وما رووه من تقديمه صلى الله عليه وسلم النحر على الحلق فهو المختار والمستحب، إلا أنا قد روينا نصًا في أنه لا حرج في تقديمه عليه. فإن قيل: ليس في الحديث ما يسقط الدم، وغنما فيه نفي الحرج؛ وهو الضيق. قلنا: قوله: "لا حرج" يفيد: أنه لا ضيق عليك في هذا الفعل بوجه. وفي إيجابنا الدم عليه ضيق عليه. حالة تقديم الحلق على الذبح. والخبر ينفي الضيق عنه عمومًا، والله أعلم. هذا الكلام في تقديم الحلق على الذبح. فأما إن قدم الحلق على الرمي فعليه الدم عندنا: وعند أبي حنيفة والشافعي في ذلك قولان: أحدهما: أنه يجوز تقديم الحلاق على الرمي. والآخر: أنه لا يجوز ذلك، وعليه دم؛ بناء على اختلاف قوله في الحلاق هل هو نسك أو إباحة محظور؛ فإذا قال: إنه نسك جوز تقديمه

على الرمي، وإذا قال: إنه إباحة محظور لم يجر تقديمه على الرمي؛ لأنه يستبيح قبل التحلل. والدلالة على ما قلنا: قوله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله}. وما روي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رمى ثم نحر ثم حلق وقصد به بيان المناسك، ولأنه محرم قبل الرمي مع بقاء الوقت فلزمه الفدية. دليله: إذا حلق ليلة النحر. ولأنه حلاق صادف إحرامًا منعقدًا. أصله ما ذكرناه. ولأن كل وقت لو وطأ فيه لأفسد حجه، فإذا حلق فيه لزمته الفدية. أصله: قبل الوقوف. فإن قيل: فقد روي من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن من حلق قبل أن يرمي فقال: ارم ولا حرج. قيل له: ليس هذا في حديث الحفاظ والثقة، بل المحفوظ ما ذكرناه من تقديم الحلق على الذبح، والذبح على الرمي فقط. ثم لو ثبت لحملناه على أنه لا يتعلق بإفساد. فأما الدم فإنه واجب بما ذكرناه. فإن قيل: ترك الترتيب فيما به يقع التحلل من العبادة ذات التحريم والتحليل لا يوجب جبرانًا.

أصله: التحلل من الصلاة بالتسليم؛ لأنه لو ترك البداية بالتسليم على اليمين ثم سلم على اليسار لم يجب [ق/149] في ذلك جبران. قيل له: التحليل عندنا يقع بالتسليمة الأولى فقط؛ بدلالة أنه لو أحدث بعدها لم تفسد الصلاة؛ فلم يلزم ما قالوه. والله أعلم. * * * فصل عندنا أن الحلق نسك ثياب فعله، وبه قال أبو حنيفة. وقال أصحاب الشافعي: له قولان: أحدهما: أنه نسك. والآخر: أنه إباحة محظور، وليس بنسك. والذي يدل على ما قلناه قوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين} فخص دخولهم على هذه الصفة بالذكر ممتنًا عليهم بها وواعدًا لهم بحصولها؛ فدل ذلك على أنها فضيلة وأنها ليست مباحة فقط: لأن ذلك يوجب كونها وكون غيرها من المباحات سواء؛ لأنه لم يقل: لابسين ولا متطيبين. ويدل على قوله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله المحلقين" ثلاثًا. قيل: والمقصرين يا رسول الله؟ فقال في الرابعة: "والمقصرين".

ففي هذا دليلان: أحدهما: أنه دعاء لهم، وبالغ في ذلك بالتكرار؛ فدل على أن الصفة التي علق الدعاء بها نسك يثاب عليه، وأنها ليست بمباحة؛ ألا ترى أنه لا يحسن أن يقال: رحم الله اللابسين والمتطيبين والمجامعين والمقلمين أظافرهم وكل شيء تعلق بمجرد الإباحة؛ لأنه ليس في ذلك معنى يقتضي الدعاء ولا الفضل مما تعلق به ثواب. والوجه الآخر: أنه نبع بتكرار الدعاء للمحلقين وترتيبه على المقصرين على فضيلة الحلق على التقصير وتأكيده على التقصير. وليس يقع التفصيل بين فعلين إلا والثواب يتعلق بهما؛ فما كان أكثر ثوابًا كان أفضل؛ ألا ترى أنه لا فضيلة للباس على الوطء ولا للوطء على الطيب، ولا يتعلق بشيء من ذلك ثواب؟. ويدل على ذلك ما رواه ابن جريج عن عبد الحميد بن جبير عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني أم عثمان بنت أبي سفيان أن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "ليس على النساء حلق؛ إنما على النساء التقصير". ووجه الدليل أنه أخبر بأن التقصير عليهن؛ فصح بذلك أنه نسك وليس بمباح؛ لأنه وصفه بأنه مباح ينفي أن يكون عليهن.

ويدل عليه أيضًا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حلق رأسه في حجة الوداع. رواه موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عنه صلى الله عليه وسلم. وقد قال: "خذوا عني مناسككم"، وكل شيء فعله قبل الفراغ من الحج فهو من النسك إلا ما قام عليه الدليل. ويدل عليه أيضًا ما رواه أصحابنا أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء"؛ فعلق صلى الله عليه وسلم إباحة الأشياء الممنوعة بالإحرام على فعل الحلق كما علقه بالرمي؛ فدل ذلك على أنه نسك. وأيضًا فإنه قول عمر، وابن عمر- رضي الله عنهما- ولا مخالف لهما؛ فروى مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: من ظفر فليحلق، ولا تشبهوا بتلبيد اليهود. وروى مالك- رضي الله عنه- عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: من عقص أو لبد فقد وجب عليه الحلاق. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أنه لقى رجلًا من أهله قد أفاض ولم يحلق ولم يقصر، جهل ذلك فأمره عبد الله بن عمر أن يرجع فيحلق أو يقصر، ثم يرجع إلى البيت فيفيض.

واستدل أصحاب الشافعي بأن الأمر بالحلاق ورد عقيب حظر؛ فاقتضى كونه مباحًا. قالوا: ولأن النسك إذا وقع قبل وقته لم يعتد به، ولم يلزم فيه فدية [] الرمي وغيره. وليس كذلك الحلق؛ لأنه لو وقع قبل وقته لتعلقت الفدية به؛ فدل ذلك على أنه ليس بنسك كاللباس والطيب. فالجواب: أن صيغة الأمر إذا وردت بعد الحظر كانت محمولة على أصلها الذي هو الوجوب. وعلى أن ورودها بعد الحظر إن كانت علة في كونها على الإباحة فذلك باطل من قبل أنا قد رأينا ما قد أمر به بعد حظر وفيه صفة زائدة على الإباحة؛ ألا ترى أنه ممنوع من أن يفعل في الصلاة سلام التحليل قبل وقته، ومع ذلك فهو شرط. وكذلك الصائم يثاب على إفطاره وإن كان بعد خطر. على أنه لا يمتنع أن يكون واردًا بعد حظر، فيدل الدليل على كونه واجبًا أو تدبًا. واعتلالهم ساقط بما رويناه من الأخبار. وبالله التوفيق. * * * فصل وقوله: أنه "إذا رمى الجمرة ونحر وحلق أتى البيت فأفاض"؛ فلقوله

عز وجل: {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس}. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نحر ثم ركب فأفاض إلى البيت وصلى بمكة الظهر. وقوله: (يركع)؛ فلأن من سنة كل طواف أن يركع عقيبه. وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. * * * فصل قد ذكرنا ذلك أنه يرمي يوم النحر جمرة العقبة وحدها، ثم يأتي البيت فيفيض. فإذا ثبت ذلك فإنه يرجع إلى متى ليبيت بها ثلاث ليال؛ يرمي في كل يوم أحد وعشرين حصاة ثلاث جمرات؛ كل جمرة بسبع حصيات، والجملة ثلاث وستون حصاة. هذا لمن لم يتعجل. وصفة التعجيل نذكرها فيما بعد إن شاء الله. والأصل في ذلك ما رواه عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: أفاض رسول الله- من آخر يومه حين صلى الظهر، ثم رجع إلى منى فمكث بها ليالي أيام التشريق؛ يرمي الجمرة إذا زالت

الشمس، كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع ويرمي الثالثة ولا يقف عندها. ولا يجوز عندا أن يرمي الجمار في أيام منى إلا بعد الزوال. ولا يجوز قبل الزوال إلا يوم النحر خاصة. هذا قولنا وقول الشافعي، وروي عن [ق/150] عمر- رضي الله عنه-، وابن عمر، وابن عباس، وخلق كثير من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة: القياس لا يجزئ بحال بعد الزوال، ولكنا استحببنا أن يكون في اليوم الثالث قبل الزوال. وقال عطاء: إن جهل فرد قبل الزوال أجزأه؛ هكذا روى عنه مطلق من غير تفصيل. والذي يدل على ما قلناه ما رواه يحيى بن سعيد عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابر عن عبد الله يقول: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي ويوم النحر ضحى. فأما بعد ذلك فبعد زوال الشمس"، وهذا صدر منه صلى الله عليه وسلم على وجه البيان؛ فيجب امتثاله لقوله: "خذوا عني مناسككم". وروي من حديث عائشة- رضي الله عنها- الذي ذكرناه أنه صلى الله عليه وسلم مكث يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع حصيات.

وروى حجاج عن مقسم عن ابن عباس قال: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يرمي الجمار إذا زالت الشمس. وروى ابن وهب عن ابن أبي ذئب عمن أخبره عن سالم بن عبد الله أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: لا ترموا الجمار حتى تزول الشمس إلا يوم النحر. وروى مالك عن نافع أن ابن عمر كان يقول: لا ترموا الجمار في الأيام الثلاث حتى تزول الشمس. وروى ابن وهب عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر كان يقول: لا ترموا الجمار فمن رمى الجمار قبل أن تزول الشمس فليعد فليرم. ولأنه رمى في أيام التشريق فلم يجز قبل الزوال؛ اعتبارًا مع أبي حنيفة باليوم الأول. والذي من قول عطاء أنه إذا فعل ذلك مع العلم فإنه لا يجزئه، وقيس عليه من فعله جاهلًا بعلة تقدم الرمي على الزوال. فإن قال أصحاب أبي حنيفة: لأنه رمى في أحد طرفي الأيام فأشبه الرمي يوم النحر. قلنا: هذا القياس سقط معه ما ذكرناه من فعل النبي- صلى الله عليه وسلم- والصحابة رضي الله عنهم. على أن يوم النحر مما انفرد برمي بعض الجمار، وخالف باقي الأيام في ذلك جاز إن خالفها. وأيضًا فإن يوم النحر يحتاج إلى أشياء لا يحتاج إلى مثلها في أيام منى من الحلق والذبح والعود إلى مكة أجمع لطواف الإفاضة ثم الرجوع إلى

منى للمبيت بها، فلو منعنا الرمي إلا بعد الزوال لشق عليه ذلك وأدى إلى خوف الفوات لضيق الوقت وإلى بعض الأمور المفسر به. والله أعلم. والمستحب عندنا أن يرمي يوم النحر راكبًا، وأن يرمي أيام منى ماشيًا؛ لأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كذلك كان يفعل؛ فروى يحيى بن سعيد عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر أنه سمعه يقول: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرمي على راحلته يوم النحر، ويقول: "خذوا عني مناسككم؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه". وروى عثمان بن عمر حدثنا ابن جريج عن عطاء عن جابر أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يرمي الجمار ماشيًا مقبلًا ومدبرًا معناه من بعد يوم النحر. وروى أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله بن عمار الكلابي قال: رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء لا زجر ولا طرد ولا إليك إليك. وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه كان يرمي الجمار في الأيام الثلاث بعد النحر ماشيًا ذاهبًا وراجعًا. ويخبر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك. وروى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن الناس كانوا يرمون الجمار ذاهبين وراجعين، وأول من ركب معاوية.

فأما قوله: أنه "يقف عند الأولى والثانية للدعاء، ولا يقف عند جمرة العقبة ولينصرف" فالأصل فيها ما روي من حديث عائشة- رضي الله عنها- الذي ذكرناه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يرمي كل جمرة بسبع حصيات، ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة ولا يقف عندها. وروى حجاج بن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أتى جمرة العقبة فرماها ولم يقف عندها. وذكر مالك- رضي الله عنه- أنه بلغه أن عمر بن الخطاب- رضوان الله عليه- كان يقف عند الجمرتين وقوفًا طويلًا حتى يمل القيام من طول قيامه. وروى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقف على الجمرتين الأولتين وقوفًا طويلًا يكبر الله ويسبحه ويحمده ويدعوه، ولا يقف عند جمرة العقبة. * * *

فصل ولا يجوز أن يجمع بين السبع حصيات في رمية واحدة، فإن فعل كانت كواحدة، ورمى بعدها ستًا. وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: تجزئه عن السبع. والدليل على ما قلناه: ما روت عائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يرمي كل جمرة بسبع حصيات؛ يكبر مع كل حصاة. وهذا يدل على أنه أفرد كل حصاة بالرمي، ولم يجمعهن. وعلى نحو ذلك روى سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أمه أنها قالت: رأت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب يكبر مع كل حصاة. وقد وافقنا أبو حنيفة على أنه إذا طرحها من يده طرحًا أنه لا يجزئه فقاربه أصحابنا على ذلك بعلة أنه فارق حصاة دفعة واحدة. وهذا ليس بصحيح عندي؛ لأنه منع ذلك إنما هو لمعنى يرجع إلى صفة المقارنة؛ لأن الجمع والتفرقة يدلك عليه أنه لو أفرد كل واحدة من الحصى بالرمي على هذه السبيل لم يجزئه؛ لأن ذلك ليس برمي؛ فسبيل الجمع والتفريق واحدة في ذلك والمعتبر على الخبر. فإن قيل: منزلة ذلك الحد إذا وجب على إنسان فضرب ضربة واحدة بثمانين سوطًا أو بمائة على حسب الحد وعدد أسواطه إن ذلك ينوب عن

إفراد كل سوط بالغرب؛ فكذلك في هذا الموضع. قيل له: هذا لا يلزمنا نحن [ق/151]؛ لأنا لا نجوز ذلك إنما نلزم أصحاب الشافعي، وقد انفصلوا عنه بأن قالوا: الغرض من الحد إدخال الألم بذلك القدر من العدد، وهذا يمكن في الجمع والتفرقة. وفي هذا نظر، وقولنا ما قدمناه. فصل قوله: إذا رمى في اليوم الثالث وهو رابع يوم النحر انصرف إلى مكة، وقد تم حجة. فلأنه لم يبق عليه شيء من أحكام الحج لا من فروضه ولا من سننه؛ لأنه قد أتى بجميع ما عليه. وقوله: إن شاء تعجل في يومين من أيام منى فرمى وانصرف. فصفة التعجيل أن ينفر ثالث النحر بعد رميه ما لم تغب الشمس فيسقط عنه إذا فعل ذلك الرمي من الغد. ولا أعلم خلافًا في جواز التعجيل، والأصل في ذلك قوله تعالى ذكره: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى}. وروى مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن عزم عن أبيه عن أبي البداح بن عاصم بن علي عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- رخص لرعاة الإبل في البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون الغد ليومين ثم يرمون

يوم النفر. فإن قيل: إذا كان التعجيل مباحًا جائزًا فما معنى قوله عز وجل: "فلا إثم عليه"؟ قيل له: معناه ما ورد به التفسير أنه غفر له، وقيل: لا إثم عليه في ترك الأخذ بحقه. فإن غابت الشمس وهو بمنى أو بمكة لزمه المبيت، ولم يكن له أن ينفر؛ لأنه قد لزمه المبيت بغروب الشمس وعدم النفر، وإنما يكون له ذلك ما لم يدخل الوقت الذي ينفر عنه. وقد ذكر فيه خلاف عن بعض من تقدم أظنه أبان بن عثمان- رضي الله عنه-. * * * فصل وقوله: إذا أراد أن يخرج من مكة طاف للوداع. فجملة القول فيه أنه مستحب، وليس بواجب ولا مسنون. وعند أبي حنيفة أنه واجب، وليس بركن. وعند الشافعي أنه مسنون، وله قولان في وجوب الدم بتركه. ولا خلاف في أنه ليس بركن.

والأصل في استحبابه ما رواه طاوس عن ابن عباس قال: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت". وروى حجاج بن أرطاة عن عبد الله بن المغير الطائفي عن عبد الرحمن ابن البيلماني عن عمرو بن أوس عن الحارث بن أوس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "من حج أو اعتمر فليكن آخر عهده الطواف بالبيت". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يكون آخر نسكه الطواف بالبيت". ولأنه لما استحب الطواف بالبيت في ابتداء الورود؛ فكذلك عند الخروج. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب- رضوان الله عليه- قال: لا يصدرن أحدكم من الحاج حتى يطوف بالبيت. وروى مالك عن يحيى بن سعيد أن عمر بن الخطاب- رضوان الله عليه- رد رجلًا من مر الظهران لم يكن ودع البيت. والدليل على أنه ليس بواجب ولا مسنون ما روي أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال في صفية لما قيل له: إنها قد حاضت: "أحابستنا هي؟ " قيل له: إنها قد أفاضت. قال: "فلا إذًا" ونفر بها؛ فلو كان واجبًا لوجب

أن يحبسها عليه؛ ألا ترى أنه قال: "أحابستنا هي" حين ظن أنها لم تطف الإفاضة. وأيضًا فلأنه طواف يفعل خارج الإحرام فوجب أن يكون نسكًا ولا واجبًا؛ اعتبارًا بطواف النفل. فإن قيل: فقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: "من حج فليكن آخر عهده بالبيت". قيل له: هذا محمول على الاستحباب؛ بما ذكرناه. فإن قيل: فقد روي عن عمر بن الخطاب- رضوان الله عليه- أنه قال: (فليكن آخر عهده بالبيت؛ فإن آخر النسك الطواف بالبيت)؛ فجعله من النسك. قيل له: لم يجعله من النسك، وإنما أراد أنه آخر أفعال الحج التي هي المناسك. وقد يعبر بذكر آخر الشيء عما يتصل به وإن لم يكن منه إن كان من الجملة. فإن قيل: لأنه معنى يؤتى به بعد كمال التحلل؛ فوجب أن يكون نسكًا؛ كالجمار في أيام منى. قيل: رمي الجمار يجوز تقدمها على ركن من أركان الحج- وهو طوف الإفاضة-؛ فعلم بذلك اختصاصها بالحج ودخولها في جملة المناسك. على أن كون الشيء مفعولًا بعد كمال التحلل إنما يدل على كونه غير نسك؛ فهو بأن لا يدل على وجوب كونه نسكًا أولى؛ لأن أفعال المناسك موضعها بعد التحلل؛ فليس ترى منسكا مبتدءا بعد التحلل إلا فيما تقدم بعضه وبقي تمامه، وطواف الوداع مبتدأ بعد كمال التحلل؛ فلم يكن

منسكًا. والدليل على أنه لا دم في تركه: أن الحائض تتركه ولا دم عليها؛ فلو كان من النسك لكان عليها الدم ولكان لا فرق بينها وبين غيرها في ذلك. ولأنه إذا ثبت أنه ليس بنسك بما قدمناه ثبت أنه لا دم فيه. فإن قيل: لأنه معنى يؤتى به بعد كمال التحلل فجاز ثبوت الدم؛ كالرمي في أيام منى. قلنا: ثبوت الدم في ترك الشيء يدل على تأكيده وفوته، الإتيان به بعد كمال التحلل يدل على ضعف الشيء علما على ثبوت الحكم الدال على قوته وتأكيده. والمعنى في الرمي أنه نسك؛ فلذلك وجب الدم في تركه؛ ألا ترى أنه يجوز تقديمه على ركن من أركان الحج؟. * * * فصل فأما الحاج المكي فلا وداع عليه؛ لأن الوداع إنما خوطب به من يريد الخروج، والمكي مقيم؛ فلا معنى لتوديعه مع إقامته. وقوله: يركع وينصرف: فلأن من سنة كل طواف أن يتعقبه الركوع- على ما بيناه من قبل- فالوداع وغيره سواء في ذلك. فإذا ركع انصرف؛ لأنه لم يبق عليه شيء يقف لأجله. وبالله التوفيق.

مسألة قال رحمه الله: "والعمرة يفعل فيها كما ذكرنا أولًا إلى تمام السعي بين الصفا والمروة، ثم يحلق رأسه، وقد [ق/152] تمت عمرته". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله-: لا خلاف أن من شرط العمرة الإحرام، ثم الطواف والسعي، فإذا أتى بذلك تحلل بالحلاق. والأصل فيه أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أحرك بالعمرة، وكذلك الصحابة رضي الله عنه. ولأنها نسك يجب فيه طواف وسعي فكان من شرطه الإحرام كالحج. وعلى نحو ذلك كانت صفة عمرة النبي- صلى الله عليه وسلم-. وروى شريط عن إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: اعتمرنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فطاف بالبيت سبعًا، وصلى ركعتين عند المقام، ثم أتى الصفا والمروة فسعى بينهما سبعًا، ثم حلق رأسه. وروى أبو داود حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثني سعيد بن مزاحم بن أبي مزاحم قال: حدثنا [أبي] مزاحم عن عبد العزيز عن عبد الله بن أسيد عن محرش بن كعب قال: دخل النبي- صلى الله عليه وسلم- الجعرانة فجاء

إلى (المسجد) فركع ما شاء الله، ثم أحرم، ثم استوى على راحلته فاستقبل بطن سرف حتى أتى طريق المدينة فأصبح بمكة كبائت. والقول في صفة الإحرام بالعمرة والطواف وأحكام ذلك كله كالقول في الحج، وشروطها واحدة، وقد بيناه في الحج، وسنين ما بقي في موضعه إن شاء الله. مسألة قال رحمه الله: "والحلاق أفضل في الحج والعمرة، والتقصير يجزئ". قال القاضي رضي الله عنه: وقد للنا فيما سلف على أن الحلق والتقصير سنة ونسك من مناسك الحج. والذي يدل على أنه أفضل قوله تعالى ذكره: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين}؛ فبدأ بالحلاق. وروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم أرحم المحلقين". قالوا: والمقصرين؟ قال: "والمقصرين"؛ فثبت بذلك أن الحلاق أفضل.

(وروي) من حديث ابن سيرين [عن أنس] أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما رمى جمرة أتى نسكه فنحره، ثم دعا الحلاق وقال: "ابدأ فيه بالشق الأيمن" فبدأ به فحلقه، ثم الشق الأيسر فحلقه، وناوله أبا طلحة. فدل ذلك على ما قلناه. * * * مسألة قال رحمه الله: "وليقصر من جميع شعره". قال القاضي رضي الله عنه: وهذا لأنه حكم يتعلق بالرأس في الشرع على وجه العبادة؛ فوجب أن يعم به الرأس؛ اعتبارًا بالمسح. وقد روى فليح بن سليمان عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "من عقص أو لبد فعليه الحلاق". والمعنى في ذلك ما قلناه من أن عليه أن يقصر من جميع شعر رأسه، ولا يمكنه ذلك من العقص والتلبيد؛ فلذلك أمره بالحلاق لعيدل إلى ما يعم به الرأس. والله أعلم. * * *

مسألة قال رحمه الله: "وسنة المرأة التقصير". قال القاضي أبو محمد- رضي الله عنه-: وذلك لأن الحلاق من سنة الرجال دون النساء لأنه في النساء شهرة فلا يجوز لهن فعله. وقد روى ابن عباس- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "ليس على النساء حلق، وإنما على النساء التقصير". ولا خلاف في ذلك أعلمه. * * * مسألة قال رحمه الله: "ولا بأس أن يقتل المحرم الفأرة، والحية، والعقرب وشبهها، والكلب العقور، وما يعدو من الذئاب والسباع ونحوها، ويقتل من الطير ما يتقى أذاه من الغربان والأخدية فقط". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله-: أعلم أنه لا خلاف في أن للمحرم قتل الحية، والعقرب، والزنبور، والفأرة وما أشبه ذلك، والذئب، والكلب العقور.

والأصل في ذلك ما رواه مال عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح: الغراب، والحدأة، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور". وروى مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس من الدواب من قتلهن وهو محرم فلا جناح عليه: العقرب والفأرة والكلب العقور والغراب والحدأة". وروى مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "خمس فواسق يقتلن في الحرم: الفأرة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور". وقد وصله غير مالك فقال: عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأما الحية: فقد ورد الخبر أيضاً بقتلها؛ فروى شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسبب عن عائشة عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ليقتل المحرم الفأرة، والغراب، والحدأة، والعقرب والكلب العقور، ويقتل الحية". وروى محمد بن عجلان عن القعقاع بن حكم عن أبي صالح عن أبي

هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "خمس قتلهن حلال في الحرم: الحية، والعقرب، والحدأة، والفأرة، والكلب العقور". وقد روى هذا الحديث من طرق كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية. وروى الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عبد الله قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى ليلة عرفة فخرجت حية فقال: "اقتلوا اقتلوا" فسيقتنا". * * * فصل قال القاضي: وله عندنا قتل السباع العادية المبتدئة بالضرر من الوحش والطير؛ مثل الأسد والذئب والنمر والفهد والكلب العقور، وما أشبه ذلك. ولا جزاء عليه فيه. ومن الطير: الغراب والحدأة فقط. ووافقنا أبو حنيفة في الذئب والكلب العقور والحدأة والغراب؛ فقال: للمحرم قتل جميع ذلك، ولا جزاء عليه فيه سواء ابتدأ بالضرر أم لا. وقال في السبع والفهد والنمر وغيرها من السباع أنه لا يقتله، فإن قتله فداه. وقال الشافعي: كل ما يؤكل من الصيد فلا فدية فيه إلا في السبع وهو

المتولد بين الذئب والضبع. وحكى [ق/153] عنه في الحمار المتولد بين الأهلي والوحشي أنه لا يؤكل، وفي قتله جزاء. والخلاف مع أبي حنيفة في السبع والفهد والنمر وغيرها؛ فعندنا أن له أن يقتلها ولا جزاء عليه في ذلك، وعنده أنه ليس له قتلها وأن عليه الجزاء في قتلها. فالدلالة على صحة قولنا: ما رواه أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا هشيم قال: حدثنا يزيد بن أبي زياد حدثنا عبد الرحمن ابن أبي نعيم البجلي عن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل ما يقتل المحرم؟ قال له:" الحية، والعقرب، والفويسقة، ويرمى الغراب ولا يقتله، والكلب العقور، والحدأة والسبع العادي". وهذا نص في قتل كل سبع. فإن قيل: ليس في هذا دلالة على موضع الخلاف؛ لأن الذي فيه إباحة قتل السبع العادي؛ وهو الذي يريد الإنسان ويعدو عليه، وهذا لا يختلف في إباحة قتله وسقوط الجزاء فيه، إنما الخلاف فيما لم يعدو ولم يرد الإنسان هل يجوز ابتداء قتله أم لا؛ فالخبر غير منتظم له؛ لأنه ليس بعاد.

قلنا: هذا الاعتراض ليس بصحيح من قبيل أن العادي وصف لطبعه وما جبل عليه، سواء وقع منه في تلك الحال أم لا؛ كما وصف السيف بأنه قاطع، والخبر بأنه شائع، والماء بأنه مروٍ، وما أشبه ذلك؛ فكذلك السبع من طبعه أن يكون عاديًا، ولم رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن العدو علة إباحة قتله؛ لأنه لو أراد ذلك لم يكن لتخصيص السبع معنى؛ لأن كل ما عدا على الإنسان فله دفعه عنه وإن أدى إلى قتله - سبعًا كان أو غيره. ويدل على ما قلناه: ما رويناه من حديث ابن عمر وأبي سعيد وعائشة- رضي الله عنها- أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: "خمس ليس على المحرم في قتلهن جناح .... " فذكر الكلب العقور. واسم الكلب ينطلق على الأسد شرعًا، ولغة. أما اللغة: فاسم الكلب مأخوذ من التكلب، ومنه قوله تعالى ذكره: {وما علمتم من الجوارح مكلبين} أي: مضربين ومحرضين. والعقور من العقر. ولمخ يخص أهل اللغة بهذه التسمية في عين دون عين. وهذه المعاني في السبع أوجد منها في الكلب؛ فكان بأن يسمى بها أولى. وأما الشرع: فما روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ سورة النجم فقال عتبة بن أبي لهب: كفرت برب النجم. فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم-: "أما

تخاف أن يسلط الله عز وجل عليك كلبه؟ " فخرج مع ناس في سفره فأخذه الأسد. وروى زيد بن أسلم عن عبد ربه عن أبي هريرة قال: الكلب العقور الأسد. ولا يخلو أن يكون ذلك لغة أو شرعًا، وأيهما كان فهو حجة. ويدل على ما قلناه أيضًا: أن الكلب العقور لما أبيح قتله، وكذلك الذئب للضرر الذي يلحق من جهته بعدوه وافتراسه الذي يحصل منه ابتداءًا، وكان السبع أدخل في هذه المعاني، وكانت فيه أوجده مضرة أشد وجب أن يكون بالقتل أولى. ولأن إباحة قتل وسقوط الجزاء لا يخلو أن يكون للعدو الذي فيه [] ولوجودها حال القتل، أو لكونه مما لا يؤكل لحمه فإن كان لأنه مما لا يؤكل لحمه فذلك باطل بالضبع؛ لأنها غير مأكولة، وليس له قتلها، وفيها الجزاء متى قتلها. وإذا بطلت هذه الوجوه الم يبق إلا ما قلناه. فإن قيل: ما أنكرتم من معنى آخر؛ وهو أن البلوى به عامة. قد قيل له: ليست البلوى به بأعم من البلوى بالأسود والضباع، ولا المراعي أيضًا كثرتها في بعض الطرق؛ لأن السباع أيضًا كثيرة في طرق أخر، وإنما المراعي ما قلناه من الابتداء بالضرر.

ويدل أيضًا على سقوط الجزاء بقتل السبع أنه لا يضمن بمثله في الخلقة ولا بكمال جملة قيمته عند المخالف؛ فلم يكن مضمونًا أصلًا؛ لأن المضمون من الصيد لا يخرج من هذين القسمين. وأبو حنيفة يقول: إن قيمته إذا زادت على قدر شاة لم يجب عليه كما لها. وليس له مثل من النعم فيكون مضمونًا به. فلما خرج عن أقسام ما يضمن سقط أن يكون مضمونًا. واستدل المخالف بقوله تعالى: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}. والصيد: اسم لجنس الممتنع من وحش البر، وهذا يتناول السبع وغيره؛ ويبين ذلك أن أحدًا لا يمتنع من إطلاق اسم الاصطياد عليه؛ لأنه يقال: اصطاد فلان سبعًا؛ كما يقال: اصطاد ظبيًا. وإذا صح ذلك ثبت تناول الظاهر به. وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس يقتلن في الحل والحرم" فذكر الفأرة والحية والكلب العقور والغراب والحدأة؛ فخص إباحة القتل بعدد محصور، فلو ألحقنا غيره لأبطلنا فائدة الحصر وزدنا في الخبر بقياس، وهذا ما لا سبيل إليه. قالوا: ولأنه سبع متوحش لا يعم الأذى به؛ فأشبه الضبع. قالوا: ولأنه صيد يحل قتله في الإحلال؛ فجاز تحريم قتله في

الإحرام بوجه كسائر الصيد. وأعلم أنه ليس في جميع ما ذكروه دلالة على ما ذهبوا إليه. أما الظاهر: فلا حجة فيه من قبيل أنه لم يرد إلا بتحريم قتل الصيد المضمون بمثله من النعم. وهذه الأشياء لا مثل لها. هذا أحد أجوبة أصحابنا. ولو سَلَّمنا أن الظاهر متناول ما يضمن بمثله من طريق الخلقة ولا يضمن بكمال قيمته؛ لأنهم يقولون: إن زادت قيمته على قدر شاة لم يكن عليه إلا شاة. على أنا لو سَلَّمنا بتناول الظاهر له لخصصناه بما رويناه. وأما قولهم أنا لو أبحنا قتل غير ما ورد به الخبر لأبطلنا فائدة الحصر: فإنه باطل؛ لأن القائسين معولهم على معاني النصوص، لا على الأسماء. فإذا عقلنا معنى ما ورد به النص - وقد تعبدنا بالقياس؛ فعديناه إلى ما سكت عنه-؛ فلا يكون في ذلك إبطال لفائدة الحصر؛ لأن فائدة التنبيه به على ما سكت عنه. وهذه من شبه مبطلي القياس. ويقال لهم: وأنتم أيضًا إذا أبحتم قتل الذي وليس في الخبر فقد أبطلتم فائدة الحصر، والسؤال عائد عليكم. ويقال [ق/ 154] لهم: إنما لم يبطل فإنما [] لأنا لم نزد عليه وذلك أنا قد بينا تناول الظاهر للسبع بالنص في قوله: "والسبع العادي"،

وبقوله: "عليه السلام: والكلب العقور"، وأوضحناه بما يغني عن إعادته. وأما اعتلالهم بأنه سبع متوحش لا يعم الأذى به كالضبع: فباطل من قبلي أن الأذى يعم بالسبع أشد من كل شيء. وليس الاعتبار بقلة وجوده وكثرته؛ لأن ذلك يقف على المواضع المسلوكة؛ ألا ترى أن الذئاب قد تعم البلوى بها وتقل على حسب المواضع التي تكثر بها وتقل في بعضها؟. وبالله التوفيق * * * فصل فأما الشافعي فالخلاف معه في الصقر والبازى والثعلب، وكل متوحش لا يؤكل لحمه مما لا ضرر فيه أو لا يبتدئ بالضرر؛ فعنده أن لا يضمن، وعندنا أنه مضمون ممنوع من قتله. والدلالة على صحة قولنا قوله تعالى: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا}، وقوله عز وجل: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}؛ فعم ولم يخص ما يؤكل لحمه مما لا يؤكل. ولأنا حملنا صيد البر على حقيقته في الاصطياد الذي هو الفعل جائز؛

فكأنه قال عز وجل: وحرم عليكم أن تصيدوا في البر ما دمتم حرمًا. وهذا على عمومه. فإن قيل: هذه الظواهر لا تتناول موضع الخلاف من قبيل أن الصيد اسم موضع لما يؤكل، فإذا استعمل فيما لا يؤكل فبقرينة؛ يبين ذلك قوله سبحانه: {لا تقتلوا الصيد} حصر لما كان حلالًا أكله قبل الإحرام. فأما من كان أصله محرمًا فهو على الأصل. فعلم بذلك أن اسم الصيد لا يتناول السباع والخنازير والطير التي لا تؤكل. قلنا: إن الصيد اسم للمتمتع المتوحش في البر، واسم الاصطياد نطق على ذلك كله. وأهل اللغة لا يفرقون في ذلك بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل؛ ألا ترى أنهم يقولون: اصطاد فلان سبعًا وذئبًا وفهدًا وظبيًا وغزالًا، ولا يقولون: صاد جملًا وشاة؟ وإنما افترق الحكم في ذلك؛ لوجود الامتناع والتوحش في إحدى الجنسين وعدمه في الآخر. فإن قيل: إنما يقولون ذلك بقرينة؛ لأنهم لا يقولون: صاد سبعًا فقتله، ويقولون: صاد ظبيًا فأكله؛ فعلم أن قولهم صاد سبعًا معناه: قتل سبعًا. قلنا: هذا باطل من وجوه. أحدهما: أنهم يقولون: صاد سبعًا ويسكتون على هذا من غير أن

يقرنوا إليه ذكر القتل. والثاني: أن الأسد وغيره قد يصاد ويستبقى كما تفعل الملوك في اقتناء السباع والفيلة. فبطل بهذا قولهم أن صيده عبارة عن قتله. إنما يقرنون القتل بذكر السبع؛ لشدة امتناعه وأنه لا يتمكن منه إلا بالقتل؛ لأنه لا يقال فيه أنه صيد. فإن قيل: إن قوله عز وجل: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} لم ينتظم إلا ماله مثل النعم، والأسد وغيره مما لا مثل له من النعم. قيل له: هذا تسليم لوقوع اسم الصيد عليه، وانحطاط من تلك [] ونقل الكلام إلى أن الآية قد تتناوله أم لا. ولأصحابنا في ذلك وجهان. أحدهما: أن الظاهر متناول له؛ لأن قوله سبحانه: {لا تقتلوا الصيد} عام، وقوله عز وجل؛: {فجزاء مثل ما قتل} خاص بماله مثل. والآخر أنه لا يتناول إلا ماله مثل من النعم. والصقر والبازي والثعلب وما أشبه ذلك مما له مثل من النعم. فإن قيل: لما قال تعالى: {أحل لكم صيد البحر وطعامه}، ثم عقبه فقال عز وجل: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا} دل

بافتتاح الآية على أن التحريم إنما يتناول ما يؤكل لحمه دون ما لا يؤكل. وكذلك قوله عز وجل: {وإذا حللتم فاصطادوا}. قيل له: ليس بممتنع أن يكون قوله سبحانه: {وحرم عليكم صيد البر} عامًا فيما يؤكل وفيما لا يؤكل، وإن كان مقابلة لفظ خاص؛ ويبين ذلك أن المحرم على المحرم هو الاصطياد، والاصطياد نفسه هو الإتلاف لا الأكل؛ ألا ترى أن له أن يأكل لحم الصيد إذا صاده الحلال من نفسه؟ فبان ذلك أن التحريم تناول الإتلاف في جنس الصيد فقط.

ويدل على ما قلناه أيضًا أنا قد اتفقنا على أن الضبع لا تقتل وأنها مضمونة بالجزاء متى قتلت؛ والعلة في ذلك أنها حيوان ممتنع برى لا يبتدئ بالضرر في الغالب؛ فكذلك الثعلب وما أشبهه. فإن قيل: العلة في ذلك أنه مما يؤكل لحمه؛ فلهذا كان عليه الجزاء. وليس كذلك في مسألتنا؛ لأنه لا يؤكل لحمه؛ فلم يكن فيه جزاء. قلنا: ينتقض هذا على أصلكم بالحمار المتولد بين الأهلي والوحشي، وأن الشافعي نص على منع أكله، وفيه الجزاء متى قتله. وكذلك المتولد بين الذئب والضبع - وهو السبع - لا يؤكل عندك وفيه الجزاء. فإن قيل: لأنه متولد مما لا يؤكل لحم شيء من جنسه؛ فلم يجب الجزاء في قتله. أصله: الذئب. واحترزوا بهذا من المتولد بين الحمار الأهلي والوحشي؛ لأنه متولد عما يؤكل لحم شيء من جنسه، ومن المتولد بين الذئب والضبع؛ لأن الضبع تؤكل عندهم. والجواب: أن الضبع لا تؤكل عندنا، ومجراها مجرى سائر السباع. ولأن إباحة الأكل وتحريمه إذا لم تؤثر في الصيد المقتول نفسه فهو بأن لا تؤثر إذا وجد في أصله أولى. وعلى أن المعنى في الذئب ابتداؤه بالضرر في الغالب. وبالله التوفيق.

مسألة قال رحمه الله: "ويجتنب في حجه وعمرته النساء، والطيب، ومخيط الثياب، والصيد، وقتل الدواب، وإلقاء التفث". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي - رحمه الله -: وأما اجتناب النساء في الإحرام فلا خلاف في وجوبه، وأنه إذا وقع الجماع فيه أفسده. لا فرق في ذلك بين الحج والعمرة. والأصل فيه قوله تعالى: [ق/ 155] {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}. والرفث ها هنا: الجماع؛ بدلالة قوله تعالى ذكره: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} يعني: الجماع. وروى عن ابن عمر وابن عباس وغيرهما في قوله عز وجل: {فلا رفث} أن المراد به الجماع. ولا خلاف في منع ذلك في الإحرام، وانه إذا وقع فيه أفسده في الجملة. ولم يذكر صاحب الكتاب تفصيل مسائل هذا الباب؛ لأنه قصد

الاختصار والتقريب، ونحن نذكر ما يمكن أن يذكر ها هنا منها ونبين القول فيها إن شاء الله. وليس لأحد أن ينسبنا إلى قلة علم بالتصنيف ونقصان خبرة بالتأليف لزيادتنا في الكتاب ما ليس منه مع نسبتنا إياه إلى أنه شرح، فليعلم أنا على حجة فيما أثبتناه مع كون الباب مما يوجب ذلك ويقتضيه؛ لأنه من فروعه ومسائله، وإن عادة حذاق المصنفين من الفقهاء والمتكلمين قد جرت بالتسامح في ذلك، وإن الزيادة أولى من النقصان ما لم تطل فتخرج عن حكم الكتاب، والله المستعان. وأول ذلك أن المحرم عندنا ممنوع من عقد النكاح لنفسه أو لغيره ما دام محرمًا. وهو قول الشافعي. وعند أبي حنيفة أنه ذلك جائز، وأن الإحرام لا يمنع. وهذه المسألة موضعها كتاب النكاح؛ لأن أبا محمد بن أبي زيد ذكرها هناك، ولكنا نذكرها ها هنا جملًا من الكلام فيها؛ لتعلق الباب بها. والذي يدل على ما قلناه: ما رواه مالك عن نافع عن نبيه بن وهب أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر بنت شيبة بن جبير فأرسل إلى أبان عثمان - رضي الله عنه - ليحضر ذلك - وأبان أمير الحاج - فأنكر ذلك، وقال: سمعت عثمان بن عفان - رضوان الله عليه - يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا ينكح المحرم، ولا ينكح، ولا يخطب". ولأنه معنى يثبت به حكم الفراش؛ فأشبه وطء الأمة. ولأنه عبادة منع فيها الوطء والطيب؛ فوجب أن يمنع عقد النكاح.

أصله: العدة. فإن قيل: فقد روى ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوج ميمونة وهو محرم. قلنا عنه أجوبة: أحدها: أنه قد اختلف عن ابن عباس في ذلك؛ فروى عنه أنه قال: تزوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ميمونة وهو حلال. وروى عن ميمونة نفسها أنها قالت: تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان. وروى مثل عن أبي رافع، وقال: وكنت السفير بينهما. فإما أن يتعارضا ويسقطا ويرجع إلى النهي، أو يرجح ما ذكرناه بأن المرأة أعلم بحالها، وبأن الرسول والسفير أعلم بالقصة التي سفر فيها من غيره. وبأن رواة خبرنا لم يختلف عليهم ورواة خبرهم مختلف عليهم فيه. ونستعمل فنقول: إنه قد علم من مذهب ابن عباس أن الإنسان يكون محرماً لتقليد الهدى وإشعاره؛ فيجوز أن يكون رأي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلد هدية وقت تزويج ميمونة صغيراً بأنه كان محرماً على اعتقاده أن من فعل ذلك كان محرماً. فإن قيل: إنه عقد يتوصل إلى استباحة البضع؛ فأشبه شراء الأمة. قلنا: شرى الأمة ليس بموصل إلى إباحة البضع لا محالة؛ لأنه قد يشتري من لا يجوز له وطئها. على أن المقصود من شراء الأمة ليس هو؛

لما ذكرنا، وإنما المقصود منه التملك والتجارة والخدمة، وهذه المعاني لا يمنع الإحرام منها؛ فذلك لم يمنع من الشراء الموصل إليها. وليس كذلك النكاح؛ لأن المقصود منه الوطء، والإحرام يمنع منه؛ فجاز أن يمنع من العقد المؤدي إليه. والله أعلم. * * * فصل وإذا وطء ناسيًا فسد حجه، وبه قال أبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: أن حجه يفسد. والآخر: أنه لا يفسد، وهو الأظهر عند أصحابه. قالوا: لما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وهذا ينفي فساد الحج وغيره. ولأنه استمتاع على وجه النسيان؛ فلم يبطل الحج به؛ اعتبارًا بالتطيب. ولأنه وطء لا يوجب في الأجانب حدًا؛ فأشبه الوطء دون الفرج. والدلالة على ما قلنا قوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}. فوصف سبحانه الحج بأنه لا رفث فيه؛ فاقتضى ذلك ألا يكون حجًا

شرعيًا إلا على هذه الصفة، ووقوع الرفث فيه يخرجه عن الوصف الذي وصف. ولأنه محرم لم ينحل من حرمة إحرامه شيء حصل واطئ في الفرج؛ فوجب أن يبطل حجه. أصله: المتعمد. فأما الخبر: فمفهومه رفع المأثم والعقاب، فأما غير ذلك من الأحكام فليس في الخبر ما ينفيه. وقياسهم على المتطيب باطل؛ لأن جنس الاستمتاع بالطيب لا يبطل الحج؛ فلا معنى لتقييد العلة بالنسيان. على أن الاستمتاع بالطيب عمدًا لا يبطل الحج؛ فكذلك السهو منه. وليس كذلك الوطء؛ لأنه استمتاع يبطل الحج عمده؛ فكذلك سهوه. وأيضاً فإن الطيب شاهد لنا على أصلنا؛ لأنه لما كان استمتاعًا محرمًا في الحج استوي عمده وسهوه فيما يجب به، فيجب أن يكون كذلك الوطء، وقد ثبت أن عمده يفسد الحج؛ فكذلك سهوه. واعتبارهم بالوطء فيما دون الفرج باطل من وجوه: أحدها: أنه يفسد الحج عندنا، وإن لم يكن معه إنزال لم يسم وطئًا. والثاني: أنهم إن أشاروا بقولهم: لا يوجب حد في الأجانب إلا في نفس الوطء في الفرج: فذلك غلط بالاتفاق، وإن أشاروا بذلك إلى وقوعه على وجه السهو: لم يؤثر في الأصل؛ لأنه لا يختلف حكمه في أن لا حد فيه بين أن يقع على وجه السهو والعمد. والله أعلم.

فصل فإذا وطئ دون الفرج فأنزل، أو قبل فأنزل، أو باشر فأنزل: فسد حجه. وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يفسد حجه؛ لأن الوطء في الفرج إذا خرج مع غيره كان له مزية على [ق/156] ما حرم معه فلولا أن الحج يفسد بالإنزال عن القبلة والمباشرة فيما دون الفرج لأدى ذلك إلى سقوط مزيته. ولأنه إنزال بما لا يوجب جنسه الحد. دليله: إذا هزته الدابة، أو نظر فأنزل. ودليلنا: قوله تعالى: {فلا رفث}، وهذا من الرفث. ولأن الإنزال هو المقصود من الجماع، وهو أبلغ من الإيلاج فجاز أن يفسد الحج به إذا انفرد كالإيلاج إذا انفرد. ولأنها عبادة يفسدها الوطء في الفرج فالإنزال مع المباشرة تفسدها، اعتبارًا بالصوم. ولأنه إنزال حصل عن نوع من الاستمتاع والملامسة فأشبه الإنزال في الفرج. فأما المزية التي ذكروها فغير مسلمة لهم، لأنه لو ثبتت في بعض المواضع لم نسلمها في هذا الموضع.

وأما من هزته الدابة، أو نظر: فقد نص مالك- رحمه الله- على أنه إذا استدام ذلك حتى أنزل فسد حجه. فبطل ما قالوه. على أن فساد العبادة بالجماع لا على ما يوجب منه الحد أو لا يوجبه كالصيام والاعتكاف. ويبطل أيضًا بوطء البهيمة في الفرج؛ لأن الشافعي يوافقنا على فساد الحج به وإن لم يوجب حدًا. والله أعلم. * * * فصل إذا وطئ بعد الوقوف بعرفة وقبل رمي جمرة العقبة يوم النحر فسد حجه، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يبطل حجه. وقيل: إن عن مالك رواية مثل قول أبي حنيفة، واستدل من ذهب إلى ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى معنا صلاتنا، ووقف موقفنا بالأمس من ليل أو نهار فقد أتم حجه، وقضى تفثه". ولفظة التمام ترد في أمرين: أحدهما: الفراغ من العبادة. والآخر: لقطع تطرق الفساد عليها.

وقد ثبت أنها ليست في هذا الموضع للفراغ من الفعل؛ فثبت أنها لنفي الفساد. ولأنه رفث قد أمن فيه الفوات فالوطء فيه لا يفسد الحج. أصله: إذا جامع بعد الرمي. ولأن الفساد معنى يوجب القضاء؛ فوجب ألا يلحق بعد الوقوف. أصله: الفوات. ولأن بقاء طواف الإفاضة لا يوجب فساد الحج بالجماع؛ فكذلك بقاء الرمي؛ بعلة أن كل واحد منهما لا يوجب الفوات. ولأن منع الوطء بعد الوقوف لأجل الطواف لا للرمي؛ بدلالة أنه يمنع أيضًا منه بعد الرمي ما لم يطف، وأن بقاء الرمي بعد الطواف والحلاق لا يمنع، فإذا كان بقاء الطواف لا يوجب فساد الحج بالجماع فبقاء الرمي أولى بأن لا يوجب ذلك. ولأن ترك الرمي لا يوجب فساد الحج فالجماع الذي هو ممنوع لأجله أولى أن لا يفسده. والدلالة على صحة قولنا: قوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}. وهذا صيغته صيغة الخبر، والمراد به النهي؛ فتقديره: لا ترفثوا في الحج. وإذا ثبت ذلك فالنهي يقتضي فساد المنهي عنه.

وإن حملناه على ظاهره- وهو الخبر- صح التعلق به أيضًا؛ لأنه تعالى ذكره جعل من وصف الحج لا رفث فيه؛ فوجب أن يكون ما وقع فيه الرفث فليس بحج شرعي. ولأنه وطء صادف إحرامًا منعقدًا لم يقع منه تحلل؛ فأشبه الوطء قبل الوقوف بعرفة. فأما الخبر: فلا تعلق فيه؛ لأن حقيقة اسم التمام للفراغ من العبادة وأنه لم يبق منها شيء. فإن استعمل في غيره فمجاز. وقد يستعمل مجاز في عدة مواضع منها: القرب من الفراغ، والإتيان بكثير الفعل ومعظمه؛ فيعبر عما قارب الفراغ من العبادة بأنه قد أتمها كما قال تعالى ذكره: {فإذا بلغنا أجلهن فأمسكوهن بمعروف}. أراد: إذا قاربن انقضاء عدتهن دون حقيقة البلوغ؛ لأن الريبة لا تكون مع انقضاء العدة. وكذلك ما روي: "إذا فعلت هذا- يعني: التشهد- فقد تمت صلاتك" معناه: قاربت الإتمام. ومنها الإتيان بالفرد المقصود الذي هو عظم العبادة والمقصود منها فيقال فيه: إذا أتى به قد أتمها. معناه: قد أتى بالمقصود منها وما يؤمن معها فواتها؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها". معناه: قد أمن أن تفوته، لا أنه قد أمن من طروء الفساد

عليها. وإذا كانت الحقيقة في استعمال هذه اللفظة ما ذكرناه، ولم تكن هي المراد في هذا الموضع لم يكن لهم حمله على بعض ما يصلح أن يتحرز به فيه إلا ولنا حمله على غيره؛ لأن كل ذلك مجاز واتساع، مع أن ما نذكره هو الأسبق إلى فهم السامع؛ وهو أنا قد أتى بالمقصود الذي تفوت العبادة بفواته وإن لم يمنع ذلك من طروء الفساد كما ذكرناه في إدراك الصلاة مع الإمام. ولأن الأمن من طروء الفساد لا يحصل عندنا إلا مع الفراغ من العبادة فالأمر يعود إلى ما ذكرناه من أن الحقيقة من الإتمام الاستيفاء والفراغ. فأما قولهم: لأنه وقت قد أمن فيه من الفوات فلم يلحقه الفساد بالوطء كما لو وطأ بعد الرمي: فليس بصحيح؛ لأن الأمن من فوات الشيء لا يمنع طروء الفساد عليه؛ اعتباراً بالأصول كلها؛ ألا ترى أن العمرة وصوم الكفارة مأمون الفوات وغير مأمون الفساد؟ وكذلك إذا أدرك الصلاة مع الإمام فقد أمن فواتها معها، ومع ذلك يلحقها الفساد. فإن قيل: هذا لا يلزم على ما قلنا؛ لأن العمرة لا تطرق للفوات عليها؛ فلم يمتنع أن يلحقها الفساد، وليس كذلك الحج؛ لأن الفوات يلحق فيه؛ فكان الأمن أمناً من الفساد. قيل له: هذا باطل بالعمرة المنذورة في وقت معين؛ لأن الفوات يلحق فيها ثم لو أحرم آخر الشهر الذي قدرها فيها لكان قد أمن الفوات، ولم يأمن الفساد.

ويبطل أيضًا بما ذكرنا من إدراك الصلاة مع الإمام، وبالجمعة؛ لأنها يخشى فواتها والظهر ولا يخشى فواتها، والفساد غير مأمون فيها. وجواب آخر عن أصل القياس؛ وهو أن المعنى في الأصل أنه وطء صادف إحرامًا قد تحلل منه بعض التحلل؛ ألا ترى أن بعد الرمي قد أبيح له لبس [ق/ 157] الثياب؛ وقتل القمل وغير ذلك ما لم يكن مباحًا له فقد انحل من حرمة إحرامه؛ فلذلك لم يفسد [...] حجه وليس كذلك قبل الرمي؛ لأن حرمة الإحرام مبقاة على حالها فكان بمنزلة الوقوف. فأما اعتبارهم الإفساد بالفوات فإنه باطل؛ لأنه لا يجوز أن يعلق امتناع أحدهما بامتناع الآخر، وإمكانه بإمكانه؛ لأن معنى الفوات يقضي الوقت الذي تعلق الفعل به ولم يؤت به فيه؛ فلا يجوز أن يقابل عليه الفساد في أنه إذا أمن أحدهما أمن الآخر؛ لأن بعد الوقوف قد تقضي زمن الفعل الذي كان متعلقًا به فلحق الفوات إن لم يؤت به فيه، والفساد ليس بمتعلق بوقت من أوقات العبادة يأمن منه إذا انقضى ذلك الوقت؛ لأنه ما دام فيها فوروده جائز؛ فعلم بهذا أن الفوات أمن بعد الوقت لا لأنه يوجب القضاء لكن ليقضي الوقت الذي علق به. وليس كذلك الفساد على ما بيناه. فأما قولهم: إن بقاء طواف الإفاضة لا يوجب إفساد الحج فكذلك بقاء الرمي: فلا معنى له؛ لأنا لم نعلل الفساد ببقاء الرمي، وإنما عللناه ببقاء حرمة الإحرام وأنه ما لم يرم في وقت الرمي فلم يتحلل، وبالرمي يتحلل بعض التحلل ويكمل بالطواف، وقد يتحلل بالرمي في وقته تارة وينقضي وقت الرمي وإن لم يرم فيه أخرى؛ فليس المؤثر بقاء الرمي، وإنما المؤثر

عدم التحلل من الإحرام؛ فبطل ما قالوه. وأما قولهم أن بقاء طواف الإفاضة لأجله منع من الوطء بعد الوقوف لا لأجل الرمي: فإنه باطل؛ لأن المنع إنما هو لعدم كمال التحلل الذي لا يكون إلا بالطواف. فأما إذا أفاض قبل الرمي فقد مالك- رحمه الله: يعيد الإفاضة. واختلف أيضًا أصحابه إذا قدم الطواف على الرمي ثم وطئ قبل الرمي؛ فقال ابن كنانة وابن القاسم: لا يبطل حجه. وقال ابن وهب وأشهب: إذا أفاض ثم وطئ يوم النحر قبل الرمي بطل الحج. ثم يقال لهم: فاعلموه على أنا سلمنا لكم أن منع الوطء بعد الوقوف لأجل الطواف ما الذي يوجب ذلك. فإن قالوا: إذا كان بقاء الطواف الذي لأجله منع الوطء لا يوجب الفساد فبقاء الرمي أولى. قلنا: قد بينا أن أصحابنا مختلفون في فساد الحج بالوطء بعد الرمي وقبل الطواف؛ فبطل سؤالهم من هذا الوجه. ثم لو لم نقل بذلك لم يلزم ما قالوا؛ لأن بقاء الطواف الذي لأجله منع من الوطء إنما لم نوجب الفساد؛ لأنه قد تقدمه بعض التحلل، وأن حرمة الإحرام ليست بمبقاة. وقولهم فبقاء الرومي أولى أن لا يفسده: باطل أيضًا؛ لأنا قد ذكرنا القول بأن الفساد ليس من أجل بقاء الرمي، لكن لعدم التحلل على ما بيناه. فأما قولهم أن ترك الرمي لما لم يوجب فساد الحج فالوطء الذي منع لأجله أولى: فغير مسلم؛ لأن الوطء لم يمنع لأجل الرمي لكن لعدم

التحلل، والتحلل يقع بالرمي والطواف؛ يدلك عليه أنه لو تقضى وقت الرمي لجاز له الوطء إذا طاف؛ لأنه قد تحلل بتقضي الوقت فهو كالمنع من الكلام بعد فراغه من التشهد في الصلاة حتى يسلم لا لأجل السلام، لكن لبقاء كونه في الصلاة، ولكن بالسلام يقع التحلل. وبالله التوفيق * * * فصل فإذا وطئ بعد الرمي وقبل الطواف لم يفسد حجه وبه قال الشافعي- رحمه الله. هذا هو المعتمد من قول أصحابنا. وذكر ابن الجهم أن رواية وقعت إليه عن أبي مصعب عن مالك أن حجه يفسد متى وطئ قبل أن يطوف طواف الإفاضة. قال ابن الجهم: وهو أقيس عندي، ووجهها قوله تعالى: {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}، وما لم يحصل كمال تحلله فقد أوقع الرفث في الحج؛ فيجب فساده. ولأنه حال هو ممنوع فيها من الوطء لبقاء الإحرام؛ فوجب أن يفسد الحج بوقوعه فيها؛ اعتبارًا بوقوعه قبل الرمي. ولأنها حال لو قتل فيها الصيد لزمه الجزاء؛ فوجب إذا وطئ فيها أن يفسد حجه.

أصله: قبل الرمي والوقوف. ولأنها عبادة من شرطها الطواف المشروط يفسدها. أصله: العمرة. ولأن الوطء مع بقاء نسك من مناسك الحج ركن يوجب فساد. أصله: إذا وطء قبل الوقوف. قال ابن الجهنمي: ولأن أول الإحرام مرتبط بآخره فلما كان الوطء محرمًا عليه في آخره كما هو محرم عليه في أوله فسد أوله بآخره؛ كالصلاة والصيام. وروى ذلك عن ابن عمر من طرق، وادعى أنه إجماع؛ لأنه لا مخالف له. والدلالة على الرواية المشهورة. ولأنه لا يوجب ذلك فساد الحج هو أنه وطء صادف إحرامًا قد انحل شيء من حرمته فلم يفسد الحج. أصله: إذا وطئ بعد الطواف. فإن قيل: إذا طاف طواف الإفاضة فقد كمل تحلله فلا يقال: انحل شيء من حرمته؛ لأن هذا يفيد أنه قد بقى شيء من التحلل. قيل له: هذا منع عبادة لا طائل في منعها؛ لأن مرادنا من ذلك أن الوطء لم يصادف إحرامًا منعقدًا، وهذا معنى معقول موجود في مسألتنا. وأيضًا فلأنها حال أبيح له فيها اللباس من غير فدية، أو لأنه لو تطيب

فيها لم تلزمه فدية؛ فأشبه ما بعد الطواف. فأما الظاهر: فإنه مخصوص في الوطء الذي يكون في إحرام منعقد لم ينحل شيء منه؛ بدلالة ما ذكرناه. وقولهم أنها حال منع من الوطء فيها لبقاء الإحرام مثل قبل الرمي: غير صحيح؛ لأنه لا يمنع من الوطء لبقاء الإحرام نفسه، وإنما منع لعدم كمال التحلل؛ فالوصف غير موجود في الفرع، والمعنى في الأصل لبقاء حرمة الإحرام التي لم يحصل منها تحلل أصلاً. على أن علة الفساد غير علة المنع؛ لأن علة المنع بقاء شيء من حرمة الإحرام، وعلة الفساد عدم التحلل على وجه؛ فلا يجب إذا امتنع الوطء أن يفسد الحج. فإن قيل: ما أنكرتم [ق/158] أن تكون العلة في الأمرين عدم كمال التحلل. قلنا: لا يجوز ذلك؛ لأن الفساد إنما يتوجه إلى إحرام منعقد، وحصول شيء من التحلل يمنع الفساد؛ لأن الفساد لا يكون مع الخروج عن العبادة بالتحلل أو يبعضه والمنع فقد يكون في إحرام منعقد وغير منعقد؛ لأن التحلل منه ما لم يكمل لا ينافي استصحاب المنع؛ فبان بذلك الفرق بين الموضعين. وقولهم: لأنها حال لو قتل فيها الصيد للزمه الجزاء؛ فوجب أن يفسد الحج الوطء فيها غير صحيح. إنما تجب الفدية بفعل يخالف موضوعه ما يجب الفساد به؛ لأن الفساد يتعلق بإحرام منعقد، والجزاء والفدية تتعلق بكمال التحلل؛ لأنه منع من

ذلك ما (بقي) من حرمة الإحرام شيء؛ فطريقتهما مختلف. وقياسهم على العمرة باطل؛ لأن التحلل منها قبل الطواف لا يصح. فإذا وطئ قبل أن يطوف فالوطء صادف إحرام منعقد؛ فنظيره في مسألتنا أن يطأ قبل الوقوف أو بعده وقبل الرمي. فأما في مسألتنا فيخالف ذلك. وهذا أيضًا هو الجواب عن قولهم أن الوطء مع بقاء ركن من أركان الحج يفسده؛ لأن الاعتبار ببقاء حرمة الإحرام لا ببقاء شيء من الأركان، وها هنا قد أنحل من حرمة الإحرام شيء. قال ابن الجهنمي: التحلل بلبس الثياب وإلقاء النفث لا يدفع عنه فساد الحج؛ لأن هذه الأمور وإن كانت ممنوعة في الإحرام فإن وقوعها لا يفسد الحج؛ ألا ترى أنها إذا حصلت قبل الوقوف لم تبطل الحج ولو وطئ في تلك الحال؟ فلم يكن تحليل ما لا يفسد الحج بوقوعه مؤثرًا في دفع الفساد بما يفسد الحج بوقوعه. قلنا: نحن لم نقل أن إباحة اللبس وإلقاء النفث هو الذي منع الفساد بالوطء، وإنما قلنا: بالرمي قد انحل بعض حرمة الإحرام وانحلال بعض الحرمة مانع من الفساد؛ لأنه يرفع الانعقاد فسواء انحل إلى ما كان يفسد الحج بوقوعه أو يوجب فدية من غير إفساد في أنه لا اعتبار بموجب التحلل. فإذا كان كذلك بطل ما قالوه. وأما قوله أن أول الإحرام مرتبط بآخره: فإن أراد مع انعقاده فصحيح، وإن أراد مع التحلل من بعض حرمته فلا نسلمه في باب الفساد؛ لأن ذلك

متعلق بانعقاد حرمة الإحرام وعدم التحلل من شيء منها. والله أعلم. وعلى هذه النكتة مدار الكلام في هذه المسلة التي قبلها، وما رواه عن ابن عمر فقد روى عن ابن عباس خلافه، وعن غيره أيضاً. والله أعلم. * * * فصل إذا أجبنا بالرواية المشهورة؛ وهي أن حجة لا يفسد بالوطء بعد الرمي وقبل الطواف فعليه عندنا العمرة والهدى بعد أن يطوف. وقال أبو حنيفة والشافعي: عليه الهدى، ولا عمرة عليه. والدليل على ما قلناه من وجوب العمرة: أنه لما وطئ قبل كمال التحلل إذا كان كمال التحلل لا يحصل إلا بأن يطوف طواف الإفاضة كان قد أتى بركن من أركان الحج وهو الطواف في إحرام قد أفسد بقيته؛ لأنه وطئ قبل كمال التحلل منه وعليه أن يأتي به في إحرام صحيح الجملة غير ناقص؛ فوجب أن يمضي فيه كما يمضي في الإحرام الفاسد ويوقع الطواف في إحرام مستأنف لم بتداخله شيء من الفساد؛ فلذلك أمرنا بالعمرة؛ لأن الطواف في إحرام لا يكون إلا في حج أو عمرة. وقد روى مالك عن ثور بن زيد الديلي عن عكرمة لا أظنه إلا عن ابن عباس في الذي يصيب أهله قبل أن يفيض قال: يعتمر ويهدى. فإن قيل: كل وطء لم يفسد ماضي الحج لم يفسد بقيته.

أصله: وطئه بعد الطواف. قيل له: إذا وطئ بعد الطواف فقد وطئ خارجًا عن الإحرام جملة؛ فلم يتعلق به فساد. وليس كذلك الوطء قبل الإفاضة. فإن قيل: فكذلك إذا وطئ بعد الجمرة وقبل الطواف فإنما وطئ بعد الخروج من الإحرام. قيل له: ليس هذا بصحيح عندنا؛ لأن ما بقى عليه شيء من فرائض الحج فالإحرام باق عندنا. فإن قيل: كل عبادة لا تبعض فلا تبعض إفسادها كالصلاة والصيام. وقد ثبت أن ما مضى من الحج لا يفسد؛ فكذلك ما بقى. قيل له: قد تبعض الإفساد فيما لا تبعض. أصله: الوضوء؛ ألا ترى أنه إذا مسح على خفية ثم خلعه فقد بطلت طهارة رجليه ولم يبطل ما مضى من طهارة باقي الأعضاء؟؛ فأنتفض ما ذكروه. على أن الإحرام يمضي في فاسدة وتتعلق به من الأحكام ما تتعلق بالصحيح، وليس كذلك سائر العبادات. ولسنا نعني بقولنا أنه فسد ما نعنيه بالفساد قبل التحلل، ولعمري إن الفساد قبل التحلل لا تبعض، وإنما نريد أنه يأتي بهذا الركن في إحرام قد حصل فيها فساد بعد التحلل وقبل كماله؛ فلم يبلغ به أن يكون كوروده على كمال حرمته وانعقادها قبل التحلل. والله أعلم. فأما وجوب الهدى: فما رواه مالك عن أبي الزبير المكي عن عطاء بن أبي رياح عن ابن عباس أنه سئل عن رجل وقع على أهله وهو بمبنى قبل أن

يفيض فأمره أن ينحر بدنه. ولأنه أوقع نقصُا في حجة بإتيانه بالطواف في إحرام قد أفسد بقيته؛ فوجب أن يجبره بالهدى. والله أعلم. * * * فصل إذا أفسد حجه عليه القضاء والهدى، ولا خلاف بين المسلمين في وجوب القضاء إذا كان الحج فرضًا أو نذرًا؛ لأن الفرض باق في الذمة على ما كان عليه؛ لأنه كان يلزمه أداء حجة صحيحة، والفاسد لا يبرئ من الصحيح. وإن كان الحج تطوعًا فالقضاء واجب أيضًا؛ لأن التطوع يلزم بالدخول [ق/159] فيه، فإذا أفسده وجب قضاؤه، بناء على العبادات كلها؛ لأن كل عبادة لزمت بالدخول فيها لزم قضاؤها. وأما الهدى فلأنه لما كان يجب بالنقص الذي يوقعه من ترك شعيرة من شعائره كان النقص بالفساد أولى بأن يجب به. ولأن تأخر الحج عن وقته بالفوات يوجب الهدى؛ فكذلك بالفساد. وقد روى ذلك عن عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة (رضي الله عنه) أنهم سئلوا عمن أصاب أهله وهو محرم فقالوا: عليهما حج قابل، والهدى.

وروى ابن عبد الحكم عن ابن لهيعة عن يزيد عن أبي حبيب عن حرملة عن سعيد بن المسيب أن رجلًا من جذام جامع امرأته وهما محرمان فسأل الرجل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"أتما حجكما وأرجعا، وعليكما حجة أخرى وهديان". * * * فصل والهدى الذي يجب بفساد الحج بدنه. فإن أخرج شاة مع القدرة على البدنة فقال مالك: يجزئه على تكره منه. وقال أبو حنيفة فيما حكاه والكرخي: عليه شاة، والبقرة والجذور أفضل. وعند الشافعي أن الواجب بدنه لا يجوز غيرها. والذي يدل على وجوب بدنه أنه مذهب الصحابة رضي الله عنهم. وروى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص عن أشعت عن الحكم عن علي- رضي الله عنه- قال: على كل واحد منهما بدنه. وروى شريح بن النعمان عن عبد الله بن المؤمل عن ابن أبي مليكه قال: سأل رجل ابن عباس فقال: إني أصبت أهلي بعد رمى الجمرة. فقال: أمعك راحلة؟ قال: نعم. قال: أنحرها. وذكر أصحابنا عن عمر، وابن عمر. ولا مخالف لهما نعلمه.

ولأنه وطء صادف إحرامًا منعقدَا لم يتحلل منه شيء؛ فوجب أن يلزمه بدنه إذا كان قادرًا عليها. دليله: إذا وطئ بعد الوقوف وقبل الرمي؛ لأن أبا حنيفة يقول: إذا وطئ قبل الوقوف أفسد حجه، وعليه بدنه. ولأن الوطء قبل الوقوف أكد حكمًا وأغلظ أمرًا من الوطء بعد الوقوف؛ لأن الوطئ قبل الوقوف متفق على فساد الحج به، وهو بعد الوقوف مختلف فيه، فإذا لزمنه البدنة في الحال الأخف كانت في الحال الأثقل أولى. ولآن البدنة لما وجبت على القرآن للنص الذي أوقعه بجمعه بين الحج والعمرة في إحرام واحد مع صحة حجة كانت بأن تجب مع النقض بالفساد أولى. فإن قيل: لما كان الفساد معنى يجب به قضاء الحج والقضاء في الأصول قائم مقام المقضي وجب إذا أتى بالقضاء على الوجه الذي كان أتى بالمقضي أن لا يلزمه حق آخر. وهذا هو مقتضى القياس؛ كمن نذر شهراً معيناً فأفطره لا يلزمه أكثر من القضاء. فإذا ثبت ذلك كنا لو تركنا القياس لا يوجب عليه سوى القضاء. فلما قامت دلالة لي وجوب الشاة لم يجب ما زاد عليها إلا بدلالة. قيل له: قد تعلق في الأصول بالقضاء الكفارة فلا يسلم قولهم أن القياس يقتضي ألا شيء عليه؛ لكون القضاء قائمًا مقام المقضي؛ لأن القضاء قد يكون ناقصًا عن المقتضي أيضًا؛ لأن القضاء قد يكون ناقصًا عن المقتضي أيضًا كمن أخر

قضاء رمضان عن وقته. على أنهم اتفقوا على وجوب دم عليه فسقط تعلقهم بالأصل. فإن قيل: إن قضاء رمضان لا يمكن أن يؤتي به على الوجه الذي كان يأتي بالمقضي؛ لأنه لا تحصل له حرمة الوقت. قلنا وكذلك الحج إذا أحرم به في سنة فقد لزمه إتمامه، ويثبت الموقوف حرمة الإحرام فليس يقدر أن يأتي بالقضاء في ذلك الوقت. على أن القضاء لو كان يقوم مقام المقضي لسقطت الكفارة على ما قلناه. فإن قيل: لو أوجبنا البدنة لكنا قد غلطنا عليه من وجهين: بإيجاب القضاء، وإيجاب البدنة؛ لأن القضاء إيجابه تغليظ، والبدنة تستحق على وجه التغليظ، والجمع بينهما في كفارة الحج خلاف الأًول. قيل له: هذا لا معنى له؛ لأن إيجاب الكفارة نفسها تغليظ، وكذلك إيجاب شاة تغليظ أيضاً يجب على قولهم ألا تجمع عليه. وعلى أنهم يقولون: إذا كرر الوطء في مجلس واحد لزمته بدنه. وعلى أن الأصول لا تنفى التغليظ بوجهين وأكثر؛ كالوطء في شهر رمضان عليه القضاء والكفارة، وكالقاتل خطأ عليه الدية والكفارة. فبطل ما قالوه. فإن قيل: إذا لم يتعلق بالفوات بدنه؛ فكذلك الإفساد؛ لأن كل واحد منهما يوجب القضاء.

قيل له: يلزم عندنا بالفوات بدنه؛ فسقط السؤال، لو لم نقل ذلك لجاز أن يفرق بينهما؛ لأن الفوات أخف حالاً من الإفساد؛ لأنه يمكن أن يقيم فيه على إحرامه ليحج الله في العام المقبل، ولا يمكن مثل ذلك في الإفساد؛ لأنه لا يقام على إحرام فاسد، ولأن الفوات في الغالب يقع غالبًا لا عن قصد؛ لأنه إما أن يكون لصد عدو أو مرض أو مانع أو خطأ وقت، والوطء الذي يتعلق به الإفساد لا يكون في الغالب إلا عن قصد؛ فجاز أن يغلظ فيه ما لا يغلظ في الفوات. فإن قيل: لما لم تجب في اللبس والطيب بدنه لم تجب في الوطء. والمعنى في الجميع أنه فعل محظور في حال الإحرام لأجل الإحرام. قيل له: ينتقض على أصولكم بالوطء بعد الوقوف؛ لأن فيه بدنه عندهم مع وجود العلة. ولأن المعنى في الأصل أنه لا يوجب فساداً فلم يغلظ فيه بالكفارة، وليس كذلك الوطء؛ لأن الفساد يتعلق [ق/160] به، على أن هذا يلزم على أصلهم من قبيل أن جنس اللباس والطيب لما كان لا يفسد الحج لم يختلف الحكم فيه قبل الوقوف وبعده في أن ما يجب به على حد واحد في الموضعين فيجب أن الوطء الذي يتعلق به فساد الحج حكمه فيما يجب به قبل الوقوف وبعده. وقد بينا أن من قولهم أن من وطئ بعد الوقوف فعليه بدنه؛ فيجب أن يكون كذلك الوطء الذي يجب به الإفساد. والله أعلم.

فصل إذا أفسد حجه أو عمرته مضى فيها ولم يخر بالفساد من إحرامه وهو على ما كان عليه فيأتي ببقية أفعال الحج والعمرة. وحكي عن عطاء أنه إذا وطئ قبل عرفة رفضه، وابتدأ إحرامًا جديدًا، ولم يلزمه أن يأتي ببقية أفعاله. وتعلق من ذهب إل ذلك بقوله (صلى الله عليه وسلم): "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو باطل". وروى: "فهو رد". وإذا ثبت بطلان هذا الإحرام بالوطء فيه لزم الخروج منه وترك المضي فيه. ولأن الحكم بفساد العبادة يمنع المضي في بقيتها؛ اعتبارًا بسائر العبادات. والدليل على صحة قولنا: إجماع الصحابة (رضي الله عنهم)؛ لأنه روى عن عمر، وعلى رضوان الله عليهما، وابن عباس وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وأبي هريرة. ولا مخالف لهم. وروى عن يزيد [بن] جابر قال: سألت مجاهد عن المحرم بواقع امرأته فقال: كان ذلك على عهد عمر- رضوان الله عليه- فقال: يقضيان حجهما، والله أعلم بحجهما، ثم يرجعان حلالًا، فإذا

كان من قابل حجا وأهديا. وقال مالك: بلغني أن عمر وعليًا وأبا هريرة رضي الله عنهم سئلوا عن ذلك فقالوا: ينفذان لوجههما حتى يقضيا حجمها، ثم عليهما حج قابل الهدي. وروى عن عبد الله بن عمرو بن شعيب عن أبيه قال: أتى رجل عبد الله بن عمرو فسأله عن محرم وقع بامرأته فأشار إلى عبد الله بن عمر فلم يعرفه الرجل. فقال شعيب: فذهبت معه فسأله فقال: بطل حجه. قال: فيقعد؟ قال: لا بل خرج مع الناس فيصنع ما يصنعون، فإذا أدركه قابل حج وأهدى. فرجعنا إلى عبد الله بن عمرو فأخبرناه فأرسلنا إلى ابن عباس. قال شعيب: فذهبت معه فقال مثل ما قال ابن عمر. فرجع إليه فأخبره فقال الرجل: ما تقول أنت؟ قال: مثل ما قالا. فحصل من الخبر قول ثلاثة من الصحابة: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو. وروى حماد بن سلمة عن حميد عن أبي الطفيل أن رجلًا قال لجبير بن مطعم أنه وقع على أهله وهو محرم فغلظ عليه وشدد، فلما مضى دعاه ابن عباس فقال: إن هذا قد شدد عليك وغلظ أتفعل ما أمرك به؟ فقال:

لو أمرت بنار فأججت ثم أمرتني أن أقتحمها لفعلت. فقال: الأمر أيسر من ذلك؛ اقضيا حجكما هذا، وحجا من قابل، واهديا هديين. ومن طريق آخر: اقتضيا ما بقى عليكما من نسككما، وعليكما الحج من قابل. ويدل على ما قلنا أيضًا: أن الفساد سبب يجب معه قضاء الحج؛ فوجب ألا يخرج به من الإحرام. أصله: الفوات؛ وذلك أن الحج إذا فاته لم يخرج من الإحرام به، بل يكون مخيرًا بين أن يتحلل بعمل العمرة أو يبقى إحرامه إلى قابل. فإن قيل: ألستم تقولون في الفوات أنه لا يمضي في بقية الحج، ولا يلزمه المبيت بمنى ولا رمى الجمار ولا غير ذلك من توابع الوقوف؟ أو ليس هذا خروجًا من الحج بالفوات. فإن قيل: ألستم تقولون في الفوات أنه لا يمضي في بقية الحج، ولا يلزمه المبيت بمنى ولا رمى الجمار ولا غير ذلك من توابع الوقوف؟ أو ليس هذا خروجًا من الحج الفوات؟ قلنا: ليس الأمر كذلك من قبيل أن الفوات لا يخرج به من الإحرام؛ بدلالة ما ذكرناه أنه لو أقام على إحرامه إلى قابل لكلن له ذلك، ولكن جعل له أن يتحلل بالطواف والسعي. فأما سقوط الرمي عنه والمبيت فلسقوط الوقوف الذي هذه توابعه، وليس ذلك بخروج من الإحرام، والحج الفاسد بخلاف ذلك؛ لأنه يأتي فيه بالوقوف وإن كان لا يجزئه؛ فلذلك يأتي بتوابعه. فأما الخبر فلا تعلق فيه؛ لأنه يوجب أن يكون المردود هو المنهي عنه الذي ليس عليه أمره- وهو الوطء- وهذا لا يوجب الخروج من العبادة.

فإن قالوا: إذا ثبت أنه منهي عنه ثبت فساد العبادة فيه، والفساد لا يمضي فيه. قلنا: هذا بعينه موضع الخلاف فكيف يجوز أن يحتج به فيه؟ فأما الصوم فإنه يمضي في فساده عندنا، وأما الصلاة وغيرها فإنه يخرج منها بالقول، واعتقاد القطع؛ فصح أن يخرج منها بالفساد، وليس كذلك الحج؛ لأنه لا يخرج منه بالقول، ولا بنية القطع فلم يخرج منه بالفساد، والله أعلم. [] فسد حجة بالوطء وجب عليه الهدى، إن وطئ بعد ذلك فلا كفارة عليه [] المجلس أو بعده كان قد كفر عن الأولى أم لا. وقال أبو حنيفة [] ومرة بعد مرة في مجلس واحد فعليه لكل مرة دم- وهو شاة-، إلا أن [] الجماع الثاني على وجه الرفض للحج والقطع له والإحلال فإنه لا يلزمه إلا دم واحد. وقال الشافعي: إن كان قد كفر عن الأول فعليه للوطئ الثاني كفارة، وإن كان لم يكفر عن الأول حتى وطئ ثانيًا فله قولان: أحدهما: لا كفارة. والآخر أن عليه الكفارة.

وعندنا أن الهدى يجب بالوطء الذي به يقع الفساد دون ما بعده. واستدل من خالفنا بأن قال: إن فساد الحج لا يمنع بقاء حظر الوطء، وإذا ثبت حظر الوطء لحرمة الإحرام كان بمنزلة الوطء الأول في وجوب الكفارة به. ولأنه لما وجبت [ق/ 161] الفدية باللبس والطيب وإن كان الحج فاسدا [] الإحرام كذلك تجب الكفارة في تكرار الوطء؛ لأنه ممنوع بعد الفساد للإحرام. ولأن الوطء الثاني يتعلق به جميع أحكام الوطء لإفساد الإحرام، ووجوب الكفارة غير موقوف على حكم الفساد. دليله:" اللبس والطيب. ولأن وطئ الثاني وطئ عمد صادف إحرامًا لم ينحل منه شيء؛ فوجب أن تتعلق به الفدية كالوطء الأول. ولأن الوطء إتلاف فجاز أن يتكرر الهدى بتكرره كقتل الصيد. والدليل على ما قلناه: أن الكفارة تجب بالوطء في الحج لأحد أمرين: إما للفساد، وإما للتأخير. وكل ذلك مستقر بالوطء الأول، لاحظ للثاني فيه؛ فلم تتعلق به الكفارة؛ لأن الفساد لا يتكرر، وكذلك التأخير. أصله: إذا وطئ بعد التكفير عن الأول.

وعلى وجه الرفض للحج مع أبي حنيفة. ولأنها عبادة يفسدها فوجب إن أوقع الفساد به وتعلقت الكفارة بوقوعه ألا تلزم كفارة بتكراره. أصله: الصوم. فإن قيل: إنما وجب ذلك في الصوم؛ لأنه لا يمضي في فساده فالوطء لا يصادف عبادة، وليس كذلك الحج؛ لأنه يمضي في فساده، فالوطء فيه قد صادف عبادة. قيل له: الصوم يمضى في فساده عندنا. فأما قولهم أن الوطء الثاني محظور لحرمة الإحرام فهو كالوطء الأول: فالجواب عنه أن مجرد حظر الوطء ليس هو الموجب للكفارة، وإنما الموجب للكفارة حصول الفاسد به، وذلك معنى يختص بالوطء الأول لا يتكرر. واعتبارهم باللباس والطيب باطل من قبيل أن المعنى الموجب له يتكرر بتكرره؛ وهو حصوله في إحرام صحيح أو فاسد، وهذا المعنى يتكرر فتعلقت الكفارة به وليس كذلك الوطء. لأن المعنى الذي أوجبت الكفارة فيه هو فساد الحج به وذلك لا يتكرر في الحج كتكرر معنى []. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المعنى في الوطء هو المعنى في اللبس والطيب واستحالة وقوعه في إحرام فاسد أو صحيح. قيل له: أنكرنا ذلك؛ لأنه تعليل فاسد؛ لأن الكفارة الواجبة بالوطء

في العبادات متعلقة بإفساد العبادة؛ اعتبارًا بالصوم وغيره؛ ألا ترى أنه إذا وطئ فيه وتعلقت به الكفارة ثم وطئ ناسيًا لم يفسد؛ لأن المعنى الموجب للكفارة تعلق الإفساد بالوطء. فأما قولهم: إن وجوب الكفارة غير موقوف على حكم الفساد؛ اعتبارًا باللبس والتطيب: فغير صحيح؛ لأن اللبس والتطيب لا يتعلق بهما إفساد أصلًا، وليس كذلك الوطء؛ لأنه يتعلق به الإفساد؛ فجاز أن تكون الكفارة موقوفة عليه. واعتبارهم بالوطء الأول ينتفض به إذا كان كفر من الأول. ولا تأثير لقولهم وطئ عمد؛ لأن الوطء على شبهة النسيان يفسد الحج كالعمد. والمعنى في الأصل أنه يحصل به الفساد، وليس كذلك الثاني وقولهم إن الوطء إتلاف كالصيد: لا معنى له؛ لأن المعنى الموجب للكفارة بإتلاف الصيد يتكرر، وليس هو الفساد الذي لا يتكرر، والوطء الذي لا يوجب الفساد ليس فيه المعنى المقتضي لوجوب الكفارة؛ فلم تجب به. والله أعلم. قال القاضي: قد ذكرنا جملًا من مسائل الوطء وإفساد الحج وما يتعلق به من الأحكام، ورأينا الاقتصار على قدر ما ذكرناه دون استيفاء جميع ما في الباب؛ إيثارًا للاختصار، وتفريقًا بين هذا الكتاب وبين الكتب الكبار؛ لأن مصنفه قصد به التقريب على المتعلمين والتخفيف على المبتدئين؛ فيجب أن يكون الكلام عليه على هذا الوجه أيضًا. وبالله التوفيق.

ثم عدنا إلى مسائل الكتاب قلنا: وأما الطيب فلا خلاف أيضًا في منعه للمحرم، وتعلق الفدية به إذا فعله في الجملة؛ ويدل عليه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الإحرام في ثوب قد مسه زعفران أو ورس. ولأن الطيب من دواعي الجماع، ومن منع الجماع لحرمة عبادة ومنع من سببه الذي هو النكاح منع من دواعية كالمعتدة. وأما لبس المخيط فإن المحرم ممنوع أيضًا من قليله وكثيره إذا لبسه على هيئته. والدليل على ذلك: ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلًا سأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لا يلبس القميص، ولا العمائم، ولا السروايلات". ولا خلاف في منع ذلك للرجال دون النساء. * * * فصل وأما قتل الصيد فلا خلاف أيضًا في منع المحرم منه، والأصل فيه قوله تعالى: {يا أيها الذين أمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم}. وهذا نهى. وقوله سبحانه عقيبه: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من

النعم} إلى قوله: {ليذوق وبال أمره}. وقوله عز وجل: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا}. وقوله عز وجل: {غير محلي الصيد وأنتم حرم}. وروى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أهدى إليه لحم صيد فرده، وقال: "أنا محرم". وكذلك قتل الدواب، وإلقاء التفث هو ممنوع منه أيضًا حتى يحل. ولهذه الجملة تفصيل يرد فيما بعد إن شاء الله. * * * مسألة قال رحمه الله: "ولا يغطى رأسه في الإحرام ولا يحلقه إلا من ضرورة". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي- رحمه الله-: أما منع تغطية الرأس للمحرم فلا خلاف فيه أعلمه [ق/162] للرجال دون النساء.

والأصل في ذلك نهى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عن لبس العمائم والبرانس، ثم اتصال العمل بذلك من غير خلاف [] وبقى مدة ينتفع [] بتغطيته فيها فإنه يفتدى. وأما منعه من حلق رأسه إلا من ضرورة فلا خلاف فيه أيضًا. والأصل فه قوله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله}، وقوله عز وجل: {ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم} يعني: بعد نحر الهدايا يوم النحر. فإن كانت به ضرورة جاز ذلك؛ لقوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} فمعناه: مخلق فأباح ذلك مع الضرورة. وروى أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أباح لكعب بن عجزة عندما رأى به من الأذى أن يحلق رأسه، وأمره بالفدية. وسنذكر ذلك فيما إن شاء الله * * *

مسألة قال رحمه الله: "ثم يفتدى بصيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين؛ مدين لكل مسكين، أو ينسك بشاة يذبحها حيث شاء من البلاد". قال القاضي رضي الله عنه: والأصل في ذلك قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسكٍ} معناه: فحلق فأوجب الله تعالى الفدية في ذلك بالأصناف التي ذكرها، وخير المكلف فيها باللفظ الموضوع للتخيير- وهو حرف أو- فوجب كونه مخيرًا فيه. ثم بين النبي- صلى الله عليه وسلم- مقدار الفدية وصفتها وما أجمل في الظاهر من أحكامها؛ فروى مالك عن عبد الكريم بن مالك عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أنه كان مع النبي- صلى الله عليه وسلم- فأذاه القمل في رأيه فأمره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أن يحلق رأسه، وقال: "صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين لكل إنسان، أو انسك بشاة أي ذلك فعلت أجزأ عنك". وروى حماد بن زيد عن أيوب عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب قال: أتى على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- زمن الحديبية وأنا أوقد تحت برمة لي،

والقمل يتناشر على وجهي. فقال: "أتؤذيك هوام رأسك؟ " فقلت: نعم. فقال: "احلق وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك بنسيكة" لا أدري بأيها بدأ. وروى مالك عن حميد بن قيس عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: "لعلك أذاك هوام رأسك؟ " فقلت نعم فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة". وروى داود بن أبي هند عن الشعبي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قال: "إن شئت فانسك بنسيكة، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، وإن شئت فأطعم ثلاثة آصع من تمر لستة مساكين". فلهذا قال: إن الفدية واجبة، وإنها تكون إطعامًا أو صيامًا أو نسكًا، وإن للصائم ثلاثة أيام، وإن الإطعام مدان لكل مسكين لستة مساكين، وإنه مخير في ذلك غير مستحق عليه ترتيب فيه. * * * فصل ولا خلاف بينا وبين أي حنيفة والشافعي في أن الصيام في ذلك جائز في كل موضع، وإنما الخلاف في الإطعام والذبح؛ فعندما أنهما بمثابة

الصيام له أن يفعلها حيث أحب. وعند أبي حنيفة أن الإطعام يكون حيث أحب، وأن النسك لا يكون إلا بمكة. وعند الشافعي إن النسك والإطعام لا يجزآن إلا بمكة. والذي يدل على ما قلناه: قوله تعالى: {ففديه من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ}؛ فأطلق ولم يقيد؛ فوجب أن يكون كل ليه أتى به فإنه يجزئ عنه، سواء كان في الحرم أو غيره. ويدل على ذلك ما روى مالك عن يحيى بن سعيد عن يعقوب بن خالد المخزومي عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر أنه كان مع عبد الله بن جعفر معه من المدينة فمروا على حسين بن علي- رضي الله عنهما- وهو مريض بالسقيا فأقام عليه عبد الله بن جعفر حتى إذا خاف الفوات خرج وبعث إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه- وأسماء بنت عميس وهما بالمدينة فقدما عيه ثم إن حسينًا أشار إلى رأسه فأمر علي بن أبي طالب- رضوان الله عليه- برأسه فحلق بالسقيا ونسك عنه فنحر بعيرًا. وهذا فعل صحابي إمام لا مخالف له.

ويدل عليه أنه نوع من كفارة الأذى؛ فجاز الإتيان به بمكة وغيرها. أصله الصيام. * * * مسألة قال محمد بن الحسن محتجًا لأبي حنيفة: كيف يكون النسك بغير [] إنما النسك من الحج؛ ألا ترى أنه يقال: مناسك الحج ونسك الحج إنما هذا [] من نسك الحج؛ فلا يجزئ أن يذبح ذلك [] حيث يذبح الهدى. فالجواب عن هذا ما أجاب به القاضي إسماعيل [] من أن النسيكة هي الذبيحة كانت هديًا أو غير هدى. وليس كل نسيكة [] والعقائق نسك، وليست بهدايا، وفعلها جائز في كل مكان، ولو []. فإن قيل: فإن هذه النسك هدى؛ فيجب ألا يكون بمكة [ق/

163]، والدليل على أنه هدى قوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: "أمعك هدى؟ " قال: لا. قال: "فصم ثلاثة أيام". قال كعب: وفي نزلت: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه}، ولو كان معي درهما لو جهدت بهما هديًا. قيل له: ليس في سؤاله عن ذلك ما يقتضي أنه واجب عليه هناك؛ لأنه قد يسأله عن الاستحباب كما يسأله عن الإيجاب؛ ألا ترى أنه نفله إلى الإطعام والصيام عند عدمه. وقد اتفقنا على أنه مخير مع وجود النسك بينه وبين الإطعام والصيام. فإن قيل: لأنه دم وجب لحرمة الإحرام فأشبه جزاء الصيد. قيل له: المعنى في ذلك كونه هديًا؛ فلذلك وجب فعله بمكة دون غيرها. على أن اعتبار الكفارة بجنسها أولى من اعتبارها بغيرها. والله أعلم. * * *

فصل فأما قوله إن النسك شاة؛ فلأن الله تعالى ذكره قال: {أو نسك} فأطلق. وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال لكعب بن عجرة: "انسك بشاة". وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: أمعك هدى؟ قال: لا. قال: "انسك ما استيسر لك فدل ذلك على أنه غير مقدر، وأنه على حسب الميسور. والله أعلم * * * مسألة قال رحمه الله: "وتلبس المرأة الخفين والثياب في إحرامها؟ " قال القاضي رضي الله عنه: وهذا لما رواه ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس، وقال: "لتلبس بعد ذلك ما أحبت من الثياب من قميص أو سراويل أو خفين". وروى عن عائشة -رضي الله عنها -أن امرأة سألتها: ما تلبس المحرمة من الثياب؟ فقالت: لك الخفان والسراويل، ونهيت عن الكحل والنقاب.

وتفارق الرجل؛ لأن بدنها عورة فالغالب أنه لا يستر إلا بالمخيط؛ فجاز لها لبسه، ولا أعلم خلافًا في ذلك. * * * مسألة قال رحمه الله: "وتجتنب ما سوى ذلك مما يجتنب الرجل". قال القاضي رضي الله عنه: يعني من الطيب، وقتل الصيد، وإلقاء التفث، وغير ذلك؛ للاتفاق على تساويهما في هذه الأحكام. مسألة قال رحمه الله: "وإحرام المرأة في وجهها، وإحرام الرجل في وجهه ورأسه". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب -رحمه الله -: لا خلاف في منع المحرمة من تغطية وجهها؛ ويدل عليه نهيه صلى الله عليه وسلم النساء عن القفازين والنقاب. وروى أنه -صلى الله عليه وسلم قال: "إحرام المرأة في وجهها".

ولا خلاف أيضًا في منع المحرم الرجل من تغطية رأسه، وقد بينا ذلك فيما سلف. فأما تغطية الرجل وجهه في الإحرام فإنه ممنوع منه ندبًا، إلا أنه إن غطاه فقد أساء، ولا كفارة عليه واجبة وذلك ما فوق الذقن. وعن أبى حنيفة أنه واجب عليه كشف وجهه كوجوب كشف رأسه. وعند الشافعي أنه ليس عليه كشف وجهه في الإحرام. وإنما قلنا: إن عليه كشف وجهه من طريق السنة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "المحرم أشعث أغبر" فجعل من وصفه أن يكون كذلك؛ فيقضي نفي كل ما نفى عنه هذا المعنى. والوجه اختص بهذا المعنى من غيره من الأعضاء. وروى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان يقول: ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم. ولأنه محرم؛ فأشبه المرأة. فإن قيل: إن ابن عمر إنما ذهب إلى ذلك؛ لاعتقاده أنه من الرأس لا لأن الوجه يجب تغطيته. قلنا: لا نظن بابن عمر أن الوجه يسمى رأسًا. على أن الفرض تغطية ما فوق الذقن دون تسمية، وأنتم تقولون: لا يغطى على كل الوجه. فإن قيل: فقد روى مالك عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد

عن الفرافصة بن عمير الحنفي أنه رأي عثمان -رضوان الله عليه -بالعرج يغطى وجهه وهو محرم. قيل له: قد يفعل الصحابي ما الأولى غيره لضرب من العذر؛ فلا تعلق في هذا. فإن قيل: لأنه شخص تعلق به حكم الإحرام؛ فوجب ألا يلزم كشف عضوين؛ اعتبارًا بالمرأة. قيل له: المرأة يلزمها كشف عضوين عندنا وهما: الوجه والكفان؛ حتى إن لبست القفازين لزمتها الفدية. فأما تعلق الفدية بتغطية الوجه: فالذي نص عليه مالك أن إحرام الرجل في وجهه ورأسه، وأنه لا يغطى رأسه ولا وجهه، وأنه إن غطى رأسه فكأنه من حر أو برد افتدى. وقال ابن المقسم: لم أسمع منه في الفدية إذا غطى وجهه شيئًا، وأنا أرى ألا فدية عليه؛ لما جاء عن عثمان -رضوان الله عليه -أنه كان يغطي وجهه وهو محرم. وفيه نظر. * * * مسألة قال رحمه الله: "ولا يلبس الرجل الخفين، إلا أن لا يجد نعلين

فليقطعهما أسفل من الكعبين". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب -رحمه الله: وذلك لما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً سأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا يلبس المحرم القمص ولا السراويلات ولا الخفاف، إلا أن لا يجد نعلين فيلبس خفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين". ولا خلاف في منع ذلك مع وجود النعلين، وأن الفدية تتعلق به. فأما إذا عدم النعلين لبس الخفن، وقطعهما أسفل من الكعبين؛ لما رويناه في الحديث. ولا خلاف أيضًا في جواز ذلك وأنه لا فدية فيه. فأما إذا لبسهما مع عدم النعلين من غير قطع وجب عليه الفدية كما لو لبسهما مع وجود النعلين هذا قولنا، وقول أبى حنيفة والشافعي [ق/ 164]، وكافة الفقهاء. وحكى عن قوم من أصحاب الحديث أنه إذا لم يجد النعلين لبس الخفين التامين ولم يقطعهما؛ لما رواه أبو الزبير عن جابر، وجابر بن زيد عن ابن عباس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "إذا لم يجد النعلين فليلبس الخفين"؛ فأطلق ولم يأمر بالقطع.

قالوا: ولأن في ذلك إضاعة المال وإتلافه -أعنى: قطعه أسفل من الكعبين؛ فوجب ألا يلزمه. قالوا: ولأنه لما جاز له عند عدم الإزار أن يلبس السراويل على جهته من غير أن يفتقه، ثم جاز له عند عدم النعلين أن يلبس الخفين وجب جواز لبسه لهما على جهتهما من غير أن يقطعهما. والدلالة على ما قلنا: ما رويناه من حديث ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "إلا أن لا يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما أسفل من الكعبين"؛ ففي هذا دليلان: أحدهما: أنه أمر بالقطع، وذلك على الوجوب. والآخر: أنه استثناء من حظر على صفة -وهي القطع -فدل ذلك على أن ما خالفه على أصله الذي هو المنع. ولأنها حال إحرام من رجل؛ فوجب ألا يجوز فيها لبس الخف التام مع القدرة على قطعه؛ اعتبارًا بحال وجود النعلين. فأما خبرهم فإنه مجمل، وخبرنا مفسر. فأما قولهم أن ذلك إضاعة المال: فغلط؛ لأن أوامر الشرع إذا تعلقت بإتلاف لم يكن امتثالها إضاعة. واعتبارهم بالسراويل باطل؛ لأن الغرض منه ستر العورة، وإذا فتق لم يوجد منه هذا المعنى. على أن السروال إذا لبس على جهته ففيه الفدية عندنا؛ لأنه ليس ما ينوب عنها، وقطع الخفين حال العذر بانت الفدية. وبالله التوفيق.

مسألة قال رحمه الله: "والإفراد بالحج أفضل عندنا من التمتع ومن القران، فمن قرن أو تمتع من غير [أهل] مكة فعليه هدى يذبحه أو ينحره بمنى أن [أوقفه] بعرفة. وإن لم [يوقفه] بعرفة فلينحره بمكة بالمروة بعد أن يدخل به من الحل. فإن لم يجد هديًا [فصيام] ثلاثة أيام في الحج [يعني] من وقت يحرم إلى يوم عرفة. فإن فاته ذلك صام أيام منى وسبعة إذا رجع. وصفة التمتع أن يحرم [بعمرة]، ثم يحل منه في أشهر الحج، ثم يحج من عامه قبل الرجوع إلى أفقه أو إلى مثل أفقه في البعد. ولهذا أن يحرم من مكة إن كان بها، ولا يحرم منها من أراد أن يعتمر متى يخرج إلى الحل. وصفة القران أن يحرم بحجة وعمرة معًا، [ويبتدئ] بالعمرة في

نيته. [فإن] أردف الحج على العمرة قبل أن يطوف ويركع فهو قارن. وليس على أهل مكة هدى في تمتع [أو] قران. ومن حل من عمرته قبل أشهر الحج ثم حج من عامه فليس بمتمتع". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي -رضي الله عنه -: اعلم أن إذا أجملنا مسائل الباب لتعلق الكلام على بعضها بالكلام على بعض، وللحاجة إلى تقديم بعض ما أخره صاحب الكتاب وتأخر بعض ما قدمه على ما رأيناه من حق الترتيب، ونحن نستوفى الكلام على جميعها، والله الموفق للصواب. اعلم أن الإفراد عندنا أفضل من التمتع والقران. هذا قول جميع أصحابنا، وروى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، والسلف رضي الله عنهم. وقال الثوري، وأبو حنيفة وأصحابه: إن القران أفضل من الإفراد والتمتع. ووافقنا الشافعي في أن الإفراد أفضل من القران، وله في الإفراد والتمتع قولان: أحدهما: أن الإفراد أفضل مثل قولنا.

والآخر: أن التمتع أفضل. وحكى التنوخى عن إسحاق بن راهويه أنه إن ساق في قرانه هديا كان القران أفضل، وإن لم يسق هدياً كان الإفراد أفضل. والاحتجاج لهذه المسألة يقع من طرق ثلاث: أحدها: في صفة حج النبي -صلى الله عليه وسلم -؛ فمن ثبت له ما يدعيه فيه ثبت ما ذهب إليه من الأفضل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد وجوب الحج عليه إلا مرة. والطريق الثاني: في صفة القران والتمتع هل هو دم نسك أو جبران للنقص؟ والثالث: الاستدلال على عين المسألة؛ وهي أن الإفراد أفضل. فأما الاستدلال بصفة فعله، وأنه صلى الله عليه وسلم أفرد الحج: فقد روى عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهما؛ منهم ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وعائشة. وروى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أفرد الحج. ورواه مالك عن أبى الأسود عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها -أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أفرد الحج. وروى الدراوردى عن هشام بن عروة عن عائشة -رضي الله عنها -أنه ذكر لها

أن أنسًا يقول: قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان أنس صغير. أفرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج. ولم يعتمر. فأما حديث ابن عمر: فروى أبو بكر بن خزيمة حدثنا جعفر بن محمد الثعلبي حدثنا عبد الله بن نافع الصائغ عن ابن حفص -وهو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب -رضوان الله عليه -عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وأبا بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضوان الله عليهم جردوا الحج ولم يتمتعوا ولم يقرنوا. وروى [عبيد] الله عن نافع عن ابن عمر قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج مفردًا. وأما حديث جابر: فرواه عبد العزيز بن أبى حازم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم -أفرد الحج. وروى ابن جريح عن عطاء عن جابر قال: أهللنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بالحج خالصًا. وروى الليث بن سعد [ق/ 165] عن أبى الزبير عن جابر قال: أقبلنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -مهلين بالحج مفردًا.

وأما حديث ابن عباس: فروى شعبة عن قتادة عن أبى حسان الأعرج عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم -صلى الظهر بذي الحليفة، وقلد بدنة، ثم أوتى براحلته فلما استوت به بالبيداء أهل بالحج. وفي بعض طرق حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى ولجعلتها عمرة"؛ فدل ذلك على أنه محرم بحج مفرد. فإن قيل: معناه: لجعلتها عمرة مفردة. قيل له: يحصل من هذا فضيلة التمتع على القران والإفراد؛ فهو عائد عليك. وإذا ثبت بما ذكرناه من الروايات المستفيضة في صفة فعله صلى الله عليه وسلم للحج أنه كان مفردًا علم أن ذلك هو الأفضل؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الفرض إلا حجة واحدة، وما لم يفعله إلا مرة في العمر فإنه لا يأتي به إلا على أفضل صفاته وأكمل وجهته؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لترك الأفضل أصلاً، وهذا غير جائز وإنما يفعل ذلك في المواضع التي تتكرر منه؛ فيختلف فعله فيها؛ فمرة على الكمال ومرة على الجواز. وقد اعترضوا على هذه الروايات بما روى في مقابلتها بما ينفيها؛ قالوا: والروايات الظاهرات أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -كان قارنًا؛ فروى أبو داود حدثنا يحيى بن معين حدثنا حجاج حدثنا يونس عن أبى إسحاق عن البراء بن عازب قال: كنت مع علي -رضوان الله عليه -حين أمره رسول الله -صلى الله عليه وسلم

-على اليمن، فلما قدم علي قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال لي: "كيف صنعت؟ " قلت: أهللت بإهلال النبي -صلى الله عليه وسلم -ثم قال: "فإني قد سقت الهدى وقرنت". وهذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأنه كان قارنًا. وروى علي بن الحسين عن مروان بن الحكم عن علي بن أبي طالب -رضوان الله عليه -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قرن بين الحج والعمرة. وروى يحيى بن أبى إسحاق عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أهل بحجة وعمرة. وفي حديث آخر أنه قال: سمعته يقول: لبيك بحجة وعمرة معًا. وروى يونس بن عبيد عن بكر بن عبد الله المزني قال: سألت أنسًا هل كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أهل بالحجج والعمرة؟ قال: نعم أهل بهما جميعًا، وكان يقول: "لبيك بحجة وعمرة". وروى شعبة عن حميد بن هلال عن مطرف قال: قال لي عمران بن حصين: جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بين الحج والعمرة. وروى مروان بن معاوية عن إسماعيل عن عبد الله بن أبى أوفى قال: إنما جمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بين الحج والعمرة؛ لأنه علم أنه ليس بحاج بعد ذلك. وروى الحجاج بن أرطاة عن الحسين بن سعد قال: حدثني ابن عباس

قال: حدثنا أبو طلحة قال: قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قارنًا بالحج والعمرة. وروى أبو بكر بن خزيمة قال: حدثنا العباس بن أبي طالب قال: حدثنا عبد الله بن عمران الأصبهاني حدثنا عكرمة بن عمار عن الهرماس بن زياد قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يقول: "لبيك بعمرة وحجة معًا". فهذه رواية جماعة من الصحابة رضي الله عنهما: علي، وابن عباس، وأبو طلحة، وأنس، وعمران بن حصين، والهرماس، وابن أبى أوفى. قالوا: وأما حديث جابر، وابن عمر: فقد اختلف عليهما فيه؛ فروى أبو الزبير عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قرن بين الحج والعمرة، وطاف لهما طوافًا واحدًا. وروى سلميان التيمى عن عطاء ونافع عن ابن عمر وجابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم إنما طاف بحجة وعمرة طوافًا واحدًا وسعى سعيًا واحدًا، ثم لما قدم مكة لم يسمع للصدر. وقد روى عن ابن عباس مثل هذا أيضًا رواه ابن خزيمة قال: حدثنا يوسف بن موسى حدثنا عبد الله بن الجهم الرازي حدثنا عمرو بن أبى قيس عن الحجاج عن عطاء عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم -طاف طوافًا واحدًا بحج وعمرة. فالجواب: عن هذه الأخبار من وجهين:

أحدهما: الترجيح. والآخر: الاستعمال. فإما الترجيح: فمن وجوه: أحدها: أن أخبارهم قد تكلم فيها؛ فأما حديث علي -رضوان الله عليه -: فقيل: قد روى: "أما أنا فإني قد سقت الهدى وأفردت"، وهو رووه: "وأقرنت". وأما حديث أنس: فقد أنكرت عليه عائشة، وابن عمر ذلك. وقالا: إنه كان صبيًا لم يضبط ما ينقله؛ لصغره. وحديث ابن عباس: رواه الحسن بن سعد، وهو غير معروف. وقد روينا عنه من طريق صحيح. أنه أفرد الحج صلى الله عليه وسلم. على أنها لو تساوت في صحة السند وكثرة العدد لكانت أخبارنا أولى؛ لأن عائشة -رضي الله عنها -نقلت أن النبي -صلى الله عليه وسلم -أفرد الحج، وأنكرت علي من قال إنه قرن، وادعت أنه لم يضبط ما قاله، ولها من الاختصا بالنبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة خلواته، والوقوف على الظاهر والباطن من أموره ما يعلم معه أنه لا يكاد يخفى عليها حال إحرامه؛ فكان نقلها أولى من نقل غيرها. وحديث جابر نقل القصة من أولها إلى آخرها؛ فكان أقرب إلى الضبط. ولأن في أخبارنا قولاً وفعلاً؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إني مفرد بالحج". وقوله صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى

وجعلتها [ق/ 166] عمرة". فأما الاستعمال: فيجوز أن يكون من روى أنه صلى الله عليه وسلم قرن أراد أنه أتى بالعمرة بعد الفراغ من الحج، وأنه أتى بذلك في سفر واحد؛ كما روى أنه صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين. ويجوز أن يكون الراوي سمعه يأمر بالقران، وأضاف ذلك إليه؛ كما رآه أمر برجم ماعز فأضاف ذلك إليه. وكذلك ما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لبيك بعمرة وحجة" يحتمل أن يكون الراوي سمعه في وقتين. وقوله: معا من عند الراوي؛ كما روى أنه نهى عن استقبال القبلتين؛ فالجمع بينهما في اللفظ من عند الراوي. ومثل ذلك قوله تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} لم يرد أن إيمانه مع إيمانهم في وقت واحد. وما روى أنه صلى الله عليه وسلم طاف بحجة وبعمرة طوافًا واحدًا يحتمل أن يكون أراد لكل واحد منهما. وفي هذا نظر، والترجيح أولى. فإن قيل: نحن نستعمل ما روى أنه أفرد الحج؛ فنقول: أفرد الإحرام. قيل له: الإحرام عند أبى حنيفة ليس من الحج، وفي الخبر أنه أفرد الحج.

على أن ابن عمر روى أنه لم يقرن، ولم يجمع. وهذا يسقط استعمالهم. فإن قالوا: إذا تعارض النافي والمثبت فالمثبت أولى. قلنا: كلانا مثبت وناف؛ لأن رواة أخبارهم أثبتوا القران ونفوا الإفراد، ورواة أخبارنا أثبتوا الإفراد ونفوا القران؛ لا مزية لأحدهما على الآخر في نفي ولا إثبات. هذا الكلام في أحد الطرق؛ وهو صفة إحرامه صلى الله عليه وسلم. فأما الطريقة الأخرى: فهي أن ندل على أن الإفراد أفضل. والذي يدل على ذلك ما رواه أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن قتادة عن أبى شيخ الهنائي أن معاوية بن أبى سفيان -رحمه الله -قال لأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم -: هل تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -نهى عن ركوب جلود النمور؟ قالوا: نعم. قال: أتعلمون أنه نهى عن أن يقرن بين الحج والعمرة؟ قالوا: أما هذه فلا. قال: إنها معهن، ولكن نسيتم. فإن قيل: أبو شيخ عن معاوية مرسل؛ بدلالة ما روى يحيى بن أبى كثير قال: حدثنا أبو شيخ النهائي عن أبى جمان أن معاوية قال: ... وذكر الحديث. قلنا: عنه جوابان: أحدهما: على هذه الصفة قد اتصل، فيجب قبوله. والآخر: إنه قد روى في الحديث ما يمنع ما قالوه؛ فروى ابن خزيمة

عن (أبي) موسى محمد بن المثنى حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا بهس عن أبى شيخ قال: كنت عند معاوية وعنده ناس من المهاجرين ... الحديث. ويدل على ذلك أيضًا أن الإفراد هو الأصل، والجمع رخصة وتخفيف؛ لأن الأصل إفراد كل عبارة على وجهها من غير خلطها غيرها. والإتيان بالعزيمة أولى من الرخصة. ويبين ذلك أيضًا أن القارن والمتمتع يأتيان بالعمرة في أشهر الحج، وذلك رخصة وتخفيف؛ لأن العرب كانت تمنع من ذلك وتعتقده فجورا حتى أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم بفسخ الحج ونقلهم إلى العمرة. وإذا صح أنه رخصة كان الأصل أفضل منها. والذي يدل على ذلك أيضًا أن المفرد يأتي بأفعال النسكين على كما لهما وتمامهما، وليس كذلك القارن والمتمتع؛ لأنه يقتصر على فعل أحدهما في الجميع عندنا وفي البعض عند مخالفنا؛ لأن عندنا أنه يجتزئ لهما بإحرام واحد وطواف واحد وسعى واحد وحلاق واحد. وعند أبى حنيفة في الحلاق والإحرام قضاء. وإذا صح ذلك وجب أن يكون الإتيان بهما على الوجه الذي يقتضى كمالهما وتمامهما من غير تداخل أولى من أن يؤتى بهما على وجه التبعيض؛ لأن كثرة الثواب بكثرة الأفعال. ويدل على ذلك أيضًا اتفاقنا على وجوب الدم في القران والتمتع وسقوطه في الإفراد، وذلك الدم إنما وجب جبرانًا للنقص الواقع في الحج؛ فوجب أن يكون الإتيان بالحج على وجه لا نقص فيه لا يحتاج إلى جبران

أفضل وأولى. والذي يدل على أن الدم الواجب في ذلك للنقص والجبران أنه دم تعلق بالإحرام أو يختص وجوبه بالإحرام؛ فوجب أن يكون لنقص وجبران؛ اعتبارًا بدم الجزاء أو نسك الأذى. ويدل عليه أيضًا أنه دم يجب بترك الميقات؛ فوجب أن يكون لنقص؛ اعتبارًا بالدم على من جاوز الميقات فأحرم؛ وذلك أن المتمتع إنما سمى بذلك لتمتعه بإسقاط أحد السفرين مع تقديم العمرة على الحج في شهوره؛ لأنه كان عليه في الأصل أن يسافر سفرًا للعمرة وسفرًا للحج، ولما جمعهما في سفر واحد كان ذلك نقصًا؛ بدلالة أنه لو عاد إلى بلده لسقط عنه الدم، وكذلك لو عاد إلى مثله في البعد. فإن قيل: إن فضيلة العمل كثرة ثوابه، وقد تقرر أن البدر والمسارعة أكثر ثوابًا من التأخر عنها والإبطاء عن فعلها، ومعلوم أن المفرد يأتي بأحد النسكين بعد الآخر والقارن يأتي بهما جميعًا؛ فوجب بذلك أن يكون القران أفضل. فالجواب: أن البدار الذي يكثر معه الثواب هو الذي تكثر معه الأعمال لا الذي يسقط الأعمال، وقد علمنا أنه إذا أتى بالنسكين على انفرادها فقد أتى بالعمل بكماله، وإذا أتى بهما مفترقين فقد أسقط أكثر العمل؛ فعاد ذلك بالعكس من الصواب [ق/ 167]، وصح أن الإتيان بأحدهما بعد الآخر يقتضي كثرة العمل الذي هو العلم على كثرة الثواب. فإن قيل: لما كانت أشهر الحج أفضل من غيرها وأشرف، وكان الإتيان

بالعمرة فيها أفضل من الإتيان بها في غيرها، ووجدنا القارن يأتي بالعمرة في أشهر الحج؛ وجب أن يكون فعله أفضل من الإفراد. فالجواب: أن الإتيان بالعمرة في أشهر الحج إنما هو رخصة وفي الحج عزيمة، وفعلها في غير أشهر الحج عزيمة، والأخذ بالعزيمة أولى. وعلى أن شرف الوقت لا يقوم بإزاء سقوط أكثر العمل فكان الإتيان بها على وجه لا يسقط عملها أولى. فإن قيل: إن القارن يفعل النسكين والمنفرد يأتي بأحدهما؛ فكان فاعل الأمرين أفضل. قلنا: إن أردتم أنه يفعل النسكين بالنية فصحيح، ولكنه يؤدى إلى نقصان الأفعال؛ على ما ذكرناه، وقد بينا أن الإتيان بالعبادة على وجه يستوفى به عملها أفضل. فإن قيل: إن الدم الواجب في القران دم نسك، وليست من أجل نقص ولا جبران؛ بدلالة أن أكله جائز؛ لقوله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا}، وما أبيح أكله لم يكن جبرانًا؛ لأن الجبران لا يجوز أكله كفدية الأذى وجزاء الصيد. فالجواب: أنا قد دللنا على كونه نقصًا وجبرانًا فيما سلف بما يغنى عن إعادته، وليس في جواز أكله ما ينفي كونه خسرانًا؛ كالدم الواجب على من أحرم به بعد تجاوز الميقات هو جبران ويجوز الأكل منه. فأما ما نذر للمساكين فإنما لم يجز الأكل منه؛ لأنه مسمى للمساكين

مخصوص لهم. وكذلك جزاء الصيد ونسك الأذى هو مجعول للمساكين؛ بدلالة الإطعام للمساكين. والهدى في مسألتنا بدله الإطعام. وإذا ثبت ذلك بطل أن يكون في جواز الأكل ما يمنع من كونه جبرانًا. فإن قيل: إن كل دم كان نقصانًا وجبرانًا لم يجز فعل سببه إلا مع وجود عذر؛ كدم الحلاق واللباس، فلما جاز فعل التمتع والقران من غير عذر علم أن الدم الواجب فيهما ليس بدم جبران ولا وجب عن نقصان. قيل له: ليس بممتنع أن يكون الأفضل للمتمتع إذا أراد الإحرام من مكة أن يحرم من الميقات وإن كان إحرامه من مكة جائزًا له. وإذا كان كذلك لم يلزم ما قالوه. فإن قيل: لو سلمنا كونه جبرانًا لم يدل ذلك على نقص القران؛ لأن بالدم ينجبر؛ فيصير كاملاً غير ناقص؛ لأن النقصان قد أنجبر بالدم، وصار الإحرام جامعًا للنسكين معًا. قيل له: هذا غلط؛ لأن دم الجبران لا يجعل الشيء كالذي لم يفعل فيه ذلك النقص؛ ألا ترى أن الحج الذي لم يتطيب فيه ولا لبس فيه ولا اضطر فيه إلى فعل أمر ممنوع مع عدم العذر أفضل من الذي وقعت فيه هذه الأمور وافتدى لها؟ وكذلك الصلاة السليمة أفضل من التي وقع فيها سهو وجبرت بالسجود؛ فكذلك سبيل مسألتنا. على أن موجب هذا السؤال تساوى الإفراد والقران في الفضيلة. وهذا

فاسد بالاتفاق. وبالله التوفيق. * * * فصل فأما من ذهب إلى أن التمتع أفضل فاحتج بما رواه علي، وسعد، وابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم -تمتع بالحج. وما رواه جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى، ولجعلتها عمرة". ووجه الاستدلال منه أنه تأسف على ترك العمرة؛ فعلم أن التمتع أفضل. ولأن المتمتع يأتي بالنسكين في أشهر الحج، والمفرد يأتي بأحدهما في أشهر الحج والآخر في غير أشهره؛ فكان بذلك التمتع أفضل. فالجواب: أن الأخبار الأولى مجملة، وقد أجيب عنها بأن قيل: إن حقيقة التمتع هو التنعيم والترفه من الحلق واللباس والتحلل؛ فمخالفنا يقول: إنه اعتمر ثم تحلل ثم حج، ونحن نقول: إنه حج ثم تمتع ثم اعتمر [] من صاحبه. على أنا قد دللنا أن حج النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردًا.

فأما حديث جابر -رحمه الله -فظاهره متروك؛ لأنه يوجب أنه تأسف على ترك العمرة؛ وذلك يقتضى أنه لم يكن عالمًا وقت أحرم أي النسكين أفضل حتى تأسف بعد ذلك لما انكشف له في ثاني. وهذا لا يجوز أن يقال. فإن قيل: فما فائدة هذا القول؟ قلنا: فائدته تطيب نفوس أصحابه؛ لأنهم تحللوا وبقى هو على إحرامه؛ فشق عليهم أن يكونوا في نسك والنبي -صلى الله عليه وسلم -في غيره. ولم يقل ذلك على وجه التأسف؛ على ما بيناه. وقولهم: إنه يأتي بالنسكين في وقت شريف: فالجواب عنه أن فعل العمرة في هذا الوقت رخصة -على ما بيناه -فهو شريف للحج، رخصة للعمرة. ولأن دم الحيوان واجب فيه؛ فعلم أنه لضرب من النقص. والله أعلم. * * * فصل إذا ثبت ما قدمناه من فضيلة الإفراد على التمتع والقران فلا خلاف بين فقهاء الأمصار في جواز التمتع في الحج، وهو مرو عن جماعة من جلة من الصحابة مثل علي، وسعد، وابن عباس، وابن عمر. وقد روى عن عمر، وعثمان، وابن الزبير، ومعاوية منع ذلك؛ فأما

عمر: فروى عنه أنه قال: متعتان [ق/ 168] كانتا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء، ومتعة الحج. وروى حماد بن سلمة عن علي بن يزيد، وعاصم الأحول عن أبى نضرة عن جابر قال: تمتعنا متعتين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -فلما كان عمر فنهانا فانتهينا. وأما عثمان: فروى إبراهيم التيمى عن أبيه عنه أنه سئل عن المتعة في الحج فقال: كانت لنا، وليست لكم. وأما معاوية: فإنه كان ينهى عن المتعة فقال: انظروا فإن وجدتموها في كتاب الله عز وجل، وذكر الحديث. وهذه الأخبار لها تأويلات يمكن أن تكون هي المرادة بها دون تحريم المتعة، ونحن نذكرها بعد أن ندل على جواز المتعة وأنها غير ممنوعة. والذي يدل على ذلك ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من شاء أن يهل بالحج فليفعل، ومن شاء أن يهل بالعمرة فليفعل". وأيضًا فإن الصحابة رضي الله عنهم قد تمتعوا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ومعه في حجه فلم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذلك ولا منع منه، بل

نقل إباحته إياه وإطلاقه له وتصويب الكل في ذلك. وقد استدل أصحابنا بقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} فأوجب الدم ولم ينه عنها. وما قدمنا أولى بأن يعتمد لأنه ليس في هذه الآية أكثر من وجوب الدم على المتمتع، والإخبار عن وجوب الدم بفعل من الأفعال فلا يدل على إباحته ولا حظره. وأما ما روى عن عمر -رضوان الله عليه -من منع ذلك فإنه على الاحتياط والاستحباب؛ لأنه كان يذهب إلى أن الإفراد أفضل، وإلى أن سبيل الحاج أن يكون أشعت أغبر كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: "الحاج أشعث أغبر" يريد أن ذلك أفضل أحواله، وإذا تحلل من العمرة ثم أحرم بالحج زال الشعث عنه؛ لأنه يحرم بالحج وقد ترفه بالإحلال. وقد روي هذا المعنى سعيد بن المسيب عن عمر -رضي الله عنه. وروى عنه أيضًا أن ذلك لأن إيقاع العمرة في غير أشهر الحج هو الأتم؛ فروى مالك عن نافع عن ابن عمر أن عمر -رضي الله عنه -قال: افصلوا ابن حجكم وعمرتكم؛ فإنه أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم قال: سئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها. فقيل له: فإنك تخالف أباك. قال: إن عمر لم

يقل الذي تقول، إنما قال عمر: (أفردوا الحج عن العمرة؛ فإنه أتم للعمرة)؛ أي: إن العمرة لا تتم في شهور الحج إلا أن يهدى وأراد أن يزار البيت في غير شهور الحجج، فجعلتموها أنتم حرامًا وعاقبتم الناس عليها، فقد أحلها الله عز وجل، وعمل بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -، فإذا أكثروا قال: أفكتاب الله أحق أن تتبعوا أم عمر؟. وروى الحارث بن أبى أسامة حدثنا روح حدثنا شعبة عن الحكم عمارة ابن عمير عن إبراهيم بن أبى موسى عن أبى موسى أنه كان يفتى بالمتعة -يعني في الحج -فقال له رجل: يا عبد الله بن قيس رويدك بغض فتياك فإنك لا تدرى ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك. قال: فجعل كأنه ينهى عنه حتى لقيه فسأله. فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -: قد علمت أن النبي -صلى الله عليه وسلم -فعله وأصحابه، ولكنى كرهت أن تظلوا في الأراك معرسين، ثم يروحوا بالحج تقطر رؤوسهم. وقد تأول بعض الناس منع عمر -رضي الله عنه -من ذلك على المنع من مثل المتعة التي فعلها الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم فسخوا الحج ثم اعتمروا وتمتعوا، وهذا بأن يجعل تأويلاً لخبر عثمان -رضي الله عنه -أولى؛ لأن عمر قد صرح بالمعنى الذي له منع من ذلك؛ فلا معنى لحمله على غيره. ولأن عثمان -رضي الله عنه -أخبر بأن ذلك الفعل كان للصحابة الذين فعلوه خاصة، وهذه إشارة إلى ما قلناه دون غيره.

وقد روى مالك عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث ابن نوفل بن عبد المطلب أنه حدثه أنه سمع سعد بن أبى وقاص، والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبى سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج؛ فقال الضحاك: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله. فقال سعد: بئس ما قلت يا بن أخي. قال الضحاك: إن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وصنعناها معه -يعني بقوله: صنعها أي: جوزها، وأذن فيها -. وروى الحارث بن أبى أسامة حدثنا روح حدثنا شعبة عن مسلم القرى قال: سألت ابن عباس عن متعة الحج فرخص فيها. فكان ابن الزبير ينهى عنها. فقال: هذه أم [ابن] الزبير تحدث أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -رخص فيها، فادخلوا عليها فسلوها. قال: فدخلنا عليها فإذا امرأة ضخمة عمياء قالت: قد رخص رسول الله -صلى الله عليه وسلم فيها. أخبرناه الثقة عن أحمد بن يوسف بن خلاد عن الحارث. وإذا ثبت هذا صح ما قلناه. والله أعلم. * * *

فصل فأما صفة التمتع الذي يجب به الدم فقد ذكره صاحب الكتاب، وجملته: أن يحرم بعمرة، ثم يحل منها في أشهر الحج، ثم يحج من عامه قبل أن يرجع إلى أفقه أو إلى مثل أفقه في البعد؛ فيجب عليه [ق/ 169] الدم للمتعة. فمتى انخرم بعض هذه الأوصاف بشيء لم يكن متمتعًا تمتعًا يلزم به الدم. وفي هذه الأوصاف ما يتفق على اعتباره وفيها ما يختلف فيه، ونحن نبين ذلك. فمما لا يختلف فيه أن تقدم العمرة على الحج في شهور الحج؛ لأنه إن حج ثم اعتمر في تلك السفر عقيب فراغه من الحج فليس بمتمتع. والأصل في ذلك قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى}. والمتمتع هاهنا هو المترفه بإسقاط أحد السفرين؛ لأنه كان عليه في الأصل أن ينشئ سفرًا من دويرة أهله للعمرة، وسفرًا للحج، فإذا جمعهما في سفر واحد فقد تمتع بإسقاط أحد السفرين. وإذا ثبت ذلك، وكأن الله تعالى إنما علق وجوب الدم بأن يتمتع بالعمرة إلى الحج؛ اقتضى ذلك أن يكون مقدمًا للعمرة على الحج في أشهره التي هي أخص به، فمن قدمه عليها لم يكن متمتعًا. ولأن الإحرام بالعمرة لمن قد حج لا يكون بعد الفراغ من عمل الحج،

وذلك إنما يكون بتقض أشهره عند من يراها شوال وذا القعدة وعشرًا من ذي الحجة. فأما اشتراطنا أن توقع العمرة في أشهر الحج فهذا مما لا اختلاف فيه. والأصل في ذلك أن الرخصة إنما وردت بإيقاع العمرة في أشهر الحج التي الحج أولى بها؛ لأن العرب كانت تمتنع من فعل العمرة في أشهر الحج، وترى ذلك من أعظم الفجور؛ ولذلك روجع النبي -صلى الله عليه وسلم -لما أمرهم أن يحلوا بعمرة؛ فروى وهيب عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض، ويجعلون المحرم صفرًا، ويقولون: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر. فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم -صبح رابعة مهلين بالحج أمرهم أن يحلوا فتعاظم ذلك عندهم؛ فقالوا: يا رسول الله أي الحل؟ قال: "الحل كله". وإذا صح ذلك -وكانت رخصة المتعة متعلقة بارتفاع العمرة في أشهر الحج التي الحج أولى بها -وجب سقوط الدم مع عدمها؛ لأنه لم تحصل المتعة لإيقاعها في وقت ليس للحج فيه مدخل؛ فلم يترك التشاغل بالحج لأجلها. وذلك مروى عن جماعة من السلف من الصحابة والتابعين لا خلاف بينهم فيه -أعنى: اعتبار وقوع العمرة في أشهر الحج. وليس من شرطه عندنا أن يبتدئ الإحرام بالعمرة في أشهر الحج؛ لأنه

لو أحرم بها من شعبان أو رمضان ثم استصحبها واستدامها حتى حل منها في أشهر الحج فهو متمتع إذا حج على الصفة المشترطة. وإنما المعتبر أن يفعلها أو يجعل محرمًا بها في أشهر الحج، سواء كان بإحرام مستأنف أو مستدام. هذا قول أصحابنا، وأهل العراق، وروى عن جماعة من التابعين منهم: النخعى، وعطاء، والحسن. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل هذا. والآخر: أنه لا يكون متمتعًا إلا بأن يبتدئ للإحرام بالعمرة في أشهر الحج. والدليل على ما قلناه: أن الدم إنما يجب لجمعه بين الحج والعمرة في سفر واحد في شهور الحج، ولا فصل بين أن يفعل ذلك بإحرام مستأنف أو مستصحب؛ لأنه في الحالين موقع للعمرة في أشهر الحج على الصفة التي ذكرناها. فإن قالوا: لأنه إحرام بعمرة في رمضان لا يصح فيه التمتع؛ فأشبه من فرغ من العمرة قبل أشهر الحج. وعكسه إذا أحرم بها في أشهر الحج؛ لأنه أحرم بها في زمان يصح فيه التمتع. قلنا: إذا فرغ منها قبل أشهر الحج فلا يأت بها في أشهر الحج فلم يحصل منه التمتع؛ لأنا متفقون على اعتبار التشاغل بها في شهور الحج التي هي بالحج أولى منها بالعمرة.

فإن قالوا: المعنى في الأصل أنه أحرم بالعمرة في زمان يصح فيه التمتع، وليس كذلك في مسألتنا. قلنا: علتنا تنتظم الأصل، وهذا الإعلال أيضًا؛ لأن من أحرم في زمان يصح فيه التمتع إنما كان متمتعًا لتشاغله بالعمرة في أشهر الحج. والله أعلم. * * * فصل فأما اشتراطنا أن يحج من عامه ذلك؛ فليحصل متمتعًا بجمعه بين الحج والعمرة في سفر واحد، فإذا لم يحج فلم يحصل منه هذا المعنى. ويبين ذلك قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}. فدل ذلك على أنه يجب أن يكون جامعًا بينهما في سفر واحد. وقد روى هشام عن قتادة عن سعيدة بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم - إذا أهلوا بالعمرة في شهور الحج ثم لم يحجوا من عامهم ذلك لم يهدوا. * * *

فصل وأما اشتراطنا أن لا يرجع إلى بلده أو إلى مثل بلده في البعد فإن الشافعي يخالفنا في ذلك فيقول: إن رجع إلى الميقات فأحرم منه بالحج لم يكن متمتعًا. وعندنا أن التمتع لا يسقط عنه إلا أن يرجع إلى أفقه أو إلى مثل أفقه. وإن سافر من مكة دون ذلك فهو متمتع؛ مثل البغدادي إذا خرج من مكة إلى المدينة أو إلى الطائف أو ما أشبه ذلك، فإن خرج إلى مثل مصر أو الشام ثم حج من عامه فليس بمتمتع. وحكي عن الحسن البصري أنه يكون متمتعًا رجع أو لم يرجع. فالذي يدل على بطلان هذا أولا أن معنى التمتع هو الترفه بإسقاط أحد السفرين في الجمع بين الحج والعمرة؛ لأنه كان عليه في الأصل أن ينشئ لكل واحد [ق/ 170] منهما سفرًا من دويرة أهله، فإذا عاد إلى أهله ثم سافر إلى الحج فلم يحصل منه تمتع. ولعل من حجته أن الاعتبار بالإتيان بالعمرة في أشهر الحج سواء رجع أو لم يرجع. فالجواب: أنا لا نسلم هذا؛ لأن مجرد فعل العمرة في شهور الحج ليس بمتمتع إلا أن يحصل هناك ترفه في السفر. وعلى ما قلناه روى نافع عن ابن عمر -رضوان الله عليه -قال

[من]: أهل بالعمرة في أشهر الحج، ثم أقام حتى الحج فهو متمتع، وإن رجع إلى أهله من عامه ثم رجع فليس بمتمتع. فأما ما يدل على أن الرجوع المسقط للدم هو الرجوع إلى أفقه أو مثله في البعد؛ فلأن معنى المتعة لما كان الترفه بإسقاط أحد السفرين وجب أن يعتبر بموضع السفر، فإن وجد مترفهًا فيه بإسقاط أحدهما فقد وجد فيه معنى التمتع، والبغدادي إذا أحرم بالعمرة ثم خرج إلى المدينة أو الطائف ثم أحرم بالحج أو أحرم به من الميقات فلم ينشئ سفرًا من بلده أو ما يوازي مسافة بلده؛ فقد حصل متمتعًا لا محالة بإسقاط أحد السفرين جامعًا بين الحج والعمرة في سفر واحد، وإذا كان كذلك وجب عليه الدم. وقد روى وكيع عن سفيان المكي عن عبد الكريم عن يزيد الفقير قال: عرجنا مهلين بالعمرة في أشهر الحج من البصرة، فلما قضينا عمرتنا أتينا المدينة بدا لنا فحجبنا من عامنا قبل أن نأتي البصرة، فسألنا ابن عباس فقال: أنتم متمتعون. وروى هشام عن قتادة عن ابن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -إذا أهلوا بالعمرة في أشهر الحج ثم لم يحجوا من عامهم لم يهدوا. وروى عمر -رضوان الله عليه -قال: إذا أهل بالعمرة في أشهر الحج ثم أقام حتى حج فهو متمتع، وإن رجع إلى أهله من عامه ثم حج فليس بمتمتع.

فصل فأما صفة القران فهو الجمع بين الحج والعمرة في إحرام واحد، وذلك على وجهين: أحدهما: أن يبتدئ الإحرام لها بنية القران؛ فيكون قارنًا. والآخر: أن يبتدئ الإحرام باعمرة، ثم يضيف إليها الحج قبل أن يطوف ويركع، أو قبل أن يطوف ويركع، أو قبل أن يتلبس بشيء من الطواف -على حسب اختلاف أصحابنا في ذلك -؛ فهذا يصير قارنًا لجمعه بين الحج والعمرة بإحرام واحد. فأما إيجاب الدم على القارن والمتمتع فالأصل فيه قوله تعالى ذكره: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}. وروى عن عائشة -رضي الله عنها -أنها قالت: أهدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عن أزواجه البقر، وكن متمتعات. ولأنه أدخل على حجه نقصًا بمتعته بإسقاط أحد السفرين؛ لأنه كان يجب عليه في الأصل أن ينشئ من بلده سفرًا للحج وسفرًا للعمرة. ولأن أشهر الحج بالحج أولى منها بالعمرة، فإذا وضع العمرة في أشهر الحج فقد ارتخص بوضعها في موضع غيرها فلزمه الدم لذلك. ولا خلاف

في ذلك. فأما القارن فعليه الدم أيضًا، ولا خلاف في ذلك بين من يعتمد عليه. وقد روى وجوب الدم بالقران عن عمر، وعلي، وابن عباس، وجابر والشعبي، والنخعي، والأسود، وسعد بن جبير، وعطاء، ومجاهد. ولأنه اقتصر على إحرام واحد، وميقات واحد، وطواف واحد، وسعى واحد؛ فوجب عليه الدم لذلك. ولأنه لما وجب الدم على التمتع لإسقاط أحد السفرين كان القارن أولى بوجوب الدم لإسقاطه كل عمل العمرة. وفي حديث عائشة -رضي الله عنها -أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أهدى عنها بقرة لما أدخلت الحج على العمرة. فصل قال: ولأهل مكة أن يتمتعوا، ولا دم عليهم؛ وذلك بأن يعتمروا من الحل. فإذا فرغوا من العمرة أحرموا من منازلهم بالحج. وبه قال الشافعي. وعند أبى حنيفة أنه ليس للمكي أن يتمتع ولا يقرن، فإن فعل فعليه الدم. فالكلام معه في موضعين: أحدهما: هل له أن يتمتع أم لا؟.

والآخر: هل عليه الدم أم لا. وعند عبد الملك وابن الماجشون أن القارن من أهل مكة عليه الدم، ولا دم على المتمتع؛ ففصل بين التمتع والقران. والدليل على جواز تمتع أهل مكة قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}. وهذا خبر عن التمتع يقتضى إباحته على العموم. ثم استثنى أهل مكة من جملة من أوجب عليه الهدى؛ فوجب بذلك جواز التمتع لهم، وسقوط الدم عنهم. فإن قيل: هذا دليلنا؛ لأن قوله عز وجل: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} استثناء؛ فهو عائد على الفعل المباح الذي هو التمتع. قيل له: لا يصح ذلك؛ لأن الأول بمنزلة اسم مبتدأ لا يفيد بنفسه؛ لا يمكن الاستثناء منه، وإنما يتعلق بما تعلق به من الأحكام؛ ألا ترى أنه لو قال: (من تاب قبلت توبته إلا فلانًا) لم يتناول الاستثناء إلا قبول التوبة دون وقوعها؟ وكذلك قوله: (من دخل دار أبى سفيان فهو آمن) لو وصله باستثناء فقال: (إلا فلانًا) لعاد على الأمن دون الدخول؛ فكذلك في مسألتنا. ويدل على ما قلناه أيضًا: أن كل من جاز له الإفراد جاز له التمتع؛

اعتبارًا بغير المكي فمر [ق/ 171] الدليل على أنه لا دم عليه قوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}. فاستثناه من جملة من ألزمه الدم. ولأنه لم يتمتع بإسقاط أحد السفرين كما تمتع بذلك غير المكي؛ فلا معنى لوجوب الدم. فأما عبد الملك: فإنه اعتل للفصل بين التمتع والقران بأنه جعل العملين واحدًا -أعنى القران -فلزمه الدم، ولم يلزمه في التمتع؛ لأنه لا يتمتع بإسقاط أحد السفرين. والصحيح ما قاله مالك؛ لأنه لا فرق بين القران والتمتع، وقد ثبت بما قدمناه أن للمكي أن يتمتع ولا دم عليه؛ فكذلك في القران. والله أعلم. فصل قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب -رحمه الله -: اختلف الناس في المراد بقوله تعالى: {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}. فقال أصحابنا: حاضروا المسجد الحرام: أهل مكة خاصة أهل الوادي طوي وما أشبههم دون أهل الحرم وغيرهم.

وروي نحوه على الحسن، وطاوس، ونافع، وعبد الرحمن الأعرج. فأما أهل منى وعرفات وما قرب ذلك من المناهل مثل قديد وعسفان ومر الظهران فليسوا من حاضري المسجد الحرام، وعليهما الدم عندنا في التمتع والقران. وروى عن ابن عباس، ومجاهد أنهم أهل الحرم. وقال عطاء، ومكحول: هم من دون المواقيت إلى مكة. وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، إلا أنهم قالوا: أهل المواقيت بمنزلة من بعدهم. وقال الشافعي: هم من كان من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة؛ فكل من كان بين منزله وبين طرفا من أطراف الحرم من المسافة أقل من حد ما تقصر فيه الصلاة -فهو ستة عشر فرسخًا -فإنه متى تمتع أو قرن فلا دم عليه. والذي اعتبرناه متفق عليه؛ فلسنا نحتاج إلى دلالة تتناوله، وإنما الخلاف فيما زاد عليه. والذي يدل على أن من عدا أهل مكة فليس بمراد بالآية أن الله تعالى ذكره علق وجوب الدم بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام. والحاضر للشيء هو المجاور له والقريب من موضعه؛ ولك يفيد أن من لم يكن من أهل مكة فليس بحاضر المسجد لأنه غاب عنه. فإن قيل: إن حاضر الشيء هو الذي يجاوره، لا الذي يحل فيه؛ لأن القائل إذا قال: حضرت زيدًا فمراده: إني جاورته وقريب منه، لا أنى حللت مكانه.

قيل: فأي منفعة لك في هذا، بل هو إلى ما تقوله أقرب؛ لأن أهل مكة هم المجاورن للمسجد المقاربون له، وليسوا حلولاً فيه؛ فهو على نحو ما قلته من قولهم: حضرت زيدًا معناه: جاورته. فإن قيل: إن ذكر المسجد الحرام في الآية عبارة عن الحرم، لا عن المسجد. قيل له: هذا غير الظاهر؛ لا يجب المصير إليه إلا بحجة، والحقيقة هي المسجد نفسه. فإن قالوا: يدل على ذلك قوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا}، وإنما أسرى به من بيت خديجة -عليها السلام -وقوله عز وجل: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا}، وإنما أراد الحرم؛ فكذلك في هذا الموضع. قلنا: إنما حملت هذه الآيات على غير المسجد؛ بدلالة دلت على ذلك، ولولا تلك الدلالة لحملناها على الحقيقة، وليس يجب ترك ظاهر بعض الألفاظ في موضع لتركه في غيره بغير دليل. على أن الإسراء به صلى الله عليه وسلم كان من بيت خديجة -رضي الله عنها -وذلك بحضرة المسجد وبقربه. فإن قيل: كل من كان من البيت على مسافة لا تقصر الصلاة في مثلها

فلا يمتنع عليه؛ اعتبارًا بمساكن مكة [] فوجب أن يكونوا من حاضري المسجد الحرام اعتبارًا بأهل مكة. قلنا: إن عللتم بسقوط دم التمتع عنهم فعلتنا في الأصل كون أهل مكة حاضري المسجد الحرام، وليس كذلك غيرهم. وإن عللتم بكونهم حاضري المسجد الحرام فذلك باطل؛ لأن الحاضر ليس هو الحاصل معه المشاهد له، فأما الغائب عنه فليس بحاضر له، ولا فرق بينه وبين من كان على مسافة تقصر الصلاة فيها فإنه في حكم المقيم في الحرم؛ ألا ترى أنه إذا قطع تلك المسافة لم تكن له الترخص بشيء من رخص المسافرين، بل هو في حكم السائر في الحرم؟، وليس كذلك حكم من كان بينه وبين الحرم من المسافة ما تقصر في مثله الصلاة؛ لأنه في حكم المسافر خارج عن حكم المقيم؛ بدلالة جواز السفر له والفطر. قلنا: إنما وجب ذلك؛ لأن الرخص التي ذكروها من القصر والفطر إنما تعلقت بكون الإنسان مسافرًا، ودلت الدلالة على أن المراد حد من السفر مخصوص، وليس كذلك في المتعة؛ لأن الذي تعلق فيها بأن لا يكون الإنسان حاضر المسجد مطلقًا من غير تحديد. فبطل بذلك ما ادعوه، والله أعلم. فأما أصحاب أبى حنيفة فاحتج لهم الرازي بأن قال: أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة لهم أن يدخلوها بغرر إحرام وجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة؛ ألا ترى أن من خرج من مكة فلم يجاوز الميقات فلهم الرجوع

ودخولها بغير إحرام، وكان تعرفهم في الميقات وما دونه كتعرفهم في مكة؛ فوجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة في حكم المتعة. وهذا ليس بصحيح عندنا؛ لأنه لا يجوز لأحد دخول مكة بغير إحرام إلا من كثر منه الدخول والخروج والتردد [ق/ 172]، كالحطابين وأصحاب الفاكهة، ومن يدخل في اليوم مرارًا من غير أن يفرق بين المواقيت ومن قرب منهم أو بعد. فبطل ما قاله. فإن قيل: إن موضع الميقات وهو موضع النسك فوجب أن يكون أهله حاضري المسجد الحرام؛ اعتبارًا بأهل منى وعرفات: فهذا أيضًا غير مسلم لهم، وإن قاسوه على أهل مكة فقد مضى الجواب عنه. وبالله التوفيق. فصل وإذا ساق القارن أو المتمتع الهدى فإنما يسوقانه من الحل إلى الحرم، فإن اشترياه من الحرم أخرجاه إلى الحل ثم عادا به فنحراه. فإن لم يشتره من الحل أو لم يخرجه إن اشتراه من الحرم إلى الحل فلا يجزئه. وعند الشافعي أنه إن اشتراه من الحرم ونحره أجزأه. والدليل على ما قلناه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -ساق هديه من الحل إلى

الحرم، ووقف به بعرفة، ثم أدخله الحرم ونحره؛ فوجب بذلك ما قلناه؛ لأن أفعاله على الوجوب. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عنى مناسككم". وروى عن ابن عمر قال: الهدى ما قلد، وأشعر، ووقف به بعرفة. ولأنه لم يهده من الحل إلى الحرم؛ فوجب ألا يجزئه. أصله: إذا اشتراه في الحل ونحره فيه من غير أن يسوقه إلى الحرم. ولأن اسم الهدى مأخوذ من الهدية والإهداء؛ فيجب أن يهديه من غير الحرم إلى الحرم. ولأنه لما كان المحرم -يجمع في إحرامه بن الحل بن الحل والحرم؛ فكذلك في هدية؛ لأن الهدى له محل كما أن الإحرام له محل. واحتج من خالفونا بقوله تعالى: {فما استيسر من الهدي}. والهدى اسم لما يهدى؛ لأنه مشتق من الهدية، فإذا أهداه من ملكه إلى منحره فقد أتى بما عليه الاسم؛ فوجب أن يجزئه. ولأن نحره في الإحرام بسبب الإحرام؛ فوجب أن يجزئه، وأن يكون هديًا؛ اعتبارًا بما أهدى من الحل إلى الحرم. فالجواب: أن الظاهر يقول بموجبه، ولكن ليس هذا هديًا؛ فوجب أن يثبتوا الاسم. فأما قولهم أن الهدى اسم لما يهدى: فليس كذلك على التجريد، بل

على وجه مخصوص؛ وهو ما أهدى إلى الحل من الحرم، وليس كل شيء أهو كان هديًا وإن جرى الاسم عليه في اللغة ووجد فيه معنى الاشتقاق الذي هو الفدية؛ لأنه قد تقرر له عرف في الشرع زائد على مجرد الاشتقاق، والمعنى فيه إذا أهداه من الحل أنه مجموع فيه بين الحل والحرم، وليس كذلك إذا اشتراه في الحرم ولم يخرجه إلى الحل. والله أعلم. فإن وقفه بعرفة نحره بمنى، وإن لم يقفه بعرفة نحره بمكة؛ لأنه لا ينحر بمنى إلا ما وقف به بعرفة. وروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "منى كلها منحر فحجاج مكة منحر". فصل ولا يجوز نحر هدى التمتع والقران قبل يوم النحر، وهو قول أبى حنيفة. وقال الشافعي: يجوز نحره عقيب الإحرام بالحج. واستدل أصحابه بقوله تعالى ذكره: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي}. فأخبر بوجوب الهدى عليه إذا حصل متمتعًا، ولم يفرق بين جواز نحره عقيب الإحرام وما بعده. ولأنه قال عز وجل: {فمن لم يجد فصيام

ثلاثة أيامٍ في الحج} فجعل سبحانه الصوم في الحج بدلا من الهدى إذا لم يوجد؛ فعلم بذلك أن نحر الهدى في الحج أجوز. ولأنه جبران للمتعة فجاز فعله قبل يوم النحر. أصله: الصوم. ولأن كل فعل له بدل فإنه يجوز أن يكون وقت فعل البدل وقتًا للفعل المبدل، أو يجب أن يفعل المبدل في الوقت الذي يفعل فيه البدل؛ اعتبارًا بالكفارات؛ ألا ترى أن العتق في الكفارة لما كان بدله الصوم كان وقت الصوم يجوز أن يفعل فيه العتق. وقد ثبت أن الصوم جائز قبل يوم النحر؛ فكذلك يجب أن يكون الهدى. ولأنه حيوان له بدل -هو صوم -فوجب جواز إخراجه في الوقت الذي يجوز فيه فعل الصوم؛ كالعتق في الكفارة. والدلالة على ما قلنا: قوله تعالى: {ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله}. وقد ثبت أن الحلاق لا يجوز قبل يوم النحر؛ فدل ذلك على أن الهدي لا يبلغ محله إلا يوم النحر، والألف واللام في هذا الموضع للجنس. وروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما

سقت (الهدي)، ولجعلتها عمرة"، ولو كان النحر جائزًا قبل يوم النحر لم يتأسف على ذلك. ولأنه وقت لا ينحل فيها فأشبه ما قبل الإحرام. فأما الظاهر: فلا تعلق عليه؛ لأنه لا يدل على أكثر من الوجوب، وخلافنا في الأداء. وليس بمتمتع أن يثبت الوجوب في وقت يتأخر عنه الأداء. ووقته أن يبلغ محله على ما بيناه. فأما قولهم أن الله تعالى جعل الصوم بدلاً من الهدى إذا عدم، فلما جاز الصوم في الحج كان الهدى أجوز: فلا معنى له؛ لأن الهدى له محل لا يجوز نحره قبل بلوغه، والصوم -الذي هو بدله -ليس له محل ينتظر به وإن كان بدله. وغير ممتنع أن يقول: قد أوجبت عليكم الهدي إذا وجدتموه ولا تنحروه حتى يبلغ محله، فإن لم تجدوه فصوموا بدلاً عنه من وقتكم؛ فيتقدم أداء البدل على أداء المبدل لو كان موجودًا. ومثال ذلك الوضوء والتيمم؛ لأنه قد أخذ علينا بعد دخول أن نتوضأ بالماء، فإن لم نجده تيممنا بالصعيد [ق/ 173] والتيمم شرط الوضوء فهو يؤدى في أأقصر من مدة أداء الوضوء لو وجد الماء وإن كان بدلا منه. وقولهم أنه حيوان للمتعة فأشبه الصوم: غير صحيح؛ لأنه لا يجب اعتبار الصوم بالهدى؛ لأن للهدى محلاً يجب بلوغه إليه. وليس كذلك الصوم؛ لأن السبب الموجب لصوم الثلاثة الأيام والسبعة سبب واحد، وقد

جاز فعل أحدهما في غير وقت الهدى؛ فلم يمتنع مثله في الآخر. وقولهم: كل فعل له بدل فإنه يجوز فعل المبدل في الوقت الذي يجوز فيه فعل البدل كالكفارات: باطل؛ لأن هذا غير موجود في الكفارات؛ لأن الإطعام في كفارة الظهار بدل عن الصوم، وهو يجوز بالليل وإن لم يجر مبدله -الذي هو الصوم -بالليل. وكذلك العتق يجوز بالليل، ولا يجوز بدله -الذي هو الصوم -بالليل. وكذلك يجوز العتق في شهر رمضان، ولا يجوز بدله -الذي هو الصوم -فيه. وهذا أيضًا جواب عن قياسهم الآخر. وبالله التوفيق. فصل فأما قوله: "أنه إذا لم يجد الهدى فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع"؛ فلو رود النص بذلك؛ وهو قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج وسبعة إذا رجعتم}. فأوجب الله تعالى على من حصل متمتعًا أن يهدى إذا وجد، فإن لم يجد صام. ولا خلاف في ذلك.

فصل فأما قوله أنه: "من وقت يحرم إلى يوم عرفة" فإنه مروى عن جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، وجملته أن المتمتع إذا عدم الهدى فله أن يصوم الثلاثة الأيام من حين يحرم بالحج إلى يوم عرفة، فإن فاته ذلك صام أيام منى؛ على ما سنبينه إن شاء الله. ولا يجوز له أن يصوم قبل أن يحل من العمرة ولا بعد الإحلال بها وقبل الإحرام بالحج. وهذه الجملة قولنا، وقول لشافعي إلا في صيام أيام منى فله قولان. وعند أبى حنيفة أن الصيام جائز للمتمتع إذا أحرم بالعمرة قبل فراغه منها وبعد فراغه أيضًا، وقبل إحرامه بالحج، ولا يجوز ذلك قبل إحرامه بالعمرة. فالخلاف معه في جواز الصوم قبل الإحرام بالحج. والذي يدل على صحته ما قلناه: قوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج}. ووجه الاستدلال منه أنه تعالى أوجب الهدى على من حصل متمتعًا إن وجده، فإن لم يجده فالصيام، وما لم يحرم بالحج فليس بممتنع بعد؛ فلا يلزمه الهدى؛ فأحرى أن لا يجوز له الصوم الذي هو بدل عنه؛ لأن الصوم مشروط بعدم الهدى في الحال الذي خوطب بوجوبه فيها.

ولأن قوله عز وجل: {فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج} يقتضى أن يكون في التلبس بالحج، وما لم يحرم به فليس في حج، وإنما هو في عمرة. فإن قيل: قوله تعالى ذكره: {في الحج} إنما المراد به في وقت الحج لا في أفعال الحج، وذلك أنه لا يخلو أن يكون قوله: {في الحج} يراد به في الفعل الذي هو عدمه للحج الذي يفوت الحج بفواته؛ وهو الوقوف بعرفة الذي سماه النبي -صلى الله عليه وسلم -حجًا؛ فقال: {الحج عرفة} فهذا غير صحيح من قبيل أن هذا الفعل إنما يكون بعد الزوال من يوم عرفة، ومحال صوم الثلاثة الأيام في ذلك الوقت، ولا خلاف في جوازها قبله. أو أن يكون المراد به في الإحرام بالحج أو في أشهر الحج؛ لأن ذلك ينطق عليه اسم الحج؛ لقوله عز وجل: {الحج أشهر معلومات}، وأي ذلك كان فهو جائز؛ لأنه إيقاع للصوم في الحج. فعن هذا جوبان: أحدهما: أن قوله تعالى: {في الحج} حقيقته بعد التلبس بالحج، والإنسان لا يكون حقيقة في الحج إلا بعد أن يحرم به، وإذا حصل في وقت الحج ولم يحرم فإنما يقال: إنه في الحج مجازًا أو اتساعًا. والظاهر والحقيقة ما ذكرناه. والجواب الآخر: أن الصوم في الحج مشروط بعدم هدى كان واجبًا

على من حصل متمتعًا، وذلك أجمع لا يوجد إلا بعد الإحرام بالحج؛ فكذلك بدله. ويدل على ما قلناه: أنه صوم علق وجوبه بشرط؛ لم يجز تقديمه قبل وجود شرطه؛ اعتبارًا بالكفارة. ولأنه صوم عن المتعة حصل قبل التلبس بالحج؛ فأشبه صيام السبعة الأيام. ولأنه صوم جعل بدلاً عن إخراج حيوان؛ فأشبه الصوم في كفارة الظهار. واحتج من خالفنا: بأن قال: إن العمرة سبب في وجوب الصوم بدليل أن وجوب الصوم متعلق بحصول التمتع، والتمتع هو الجمع بن الإحرامين على صفة؛ لأنه لو أفرد أحدهما عن الآخر لم يتعلق به الوجوب؛ فصح بذلك أن العمرة سبب في الوجوب. وإذا ثبت ذلك كان تأثير أحدهما كالآخر. وأيضًا فإن الوجوب إذا تعلق بشيئين يجوز اجتماعهما فالمقدم منهما سبب؛ كالنصاب والحول. فالجواب: أن العمرة ليست بسبب في وجوب الصوم، وإنما هي سبب في وجوب المتعة، والمتعة سبب في وجوب الهدى، والتمتع لا يكون إلا بالإحرام بالحج. على أن العمرة إن كانت سببًا في وجوب الصوم مع كونه مشروطًا بعدم الهدى فهي بأن تكون سببًا في وجوب الهدى أولى.

ثم قد اتفقنا على أن الهدى لا يجوز تقديمه قبل الإحرام بالحج؛ فكذلك الصوم. ويبطل أيضًا بكفارة اليمين؛ لأنه لا يجوز تقديمها على سببها الذي هو اليمين. قالوا: ولأنه صيام بعد الإحرام باعمرة؛ فأشبه إذا صام بعد التلبس بالحج. فالجواب: أن المعنى في ذلك أنه صيام [ق/ 174] حصل بعد التمتع أو بعد وجوب شرطه الذي هو عدم الهدى الواجب، وليس كذلك في هذا الموضع. وبالله التوفيق. فصل فإذا ثبت ما ذكرناه فإن فاته الصيام إلى يوم عرفة صام أيام منى. وهو أحد قولي الشافعي، وروى عن علي، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم. وعن ابن عباس روايتان. وقال أبو حنيفة: لا يصومها، ويستقر الهدى في ذمته. وهو القول الآخر للشافعي. وهذه المسألة قد مضت في كتاب الصيام، إلا أنا نذكر ها هنا بعض ما

يمكن أن يذكر فيها. والكلام فيها من طرفين: أحدهما: أن ندل على جواز صوم أيام التشريق. والآخر: أن ندل على جواز الصوم بعدها، وأن الهدي لا يستقر في الذمة. فالدليل على أن له أن يصوم أيام التشريق: قوله تعالى: {فصيام ثلاثة أيامٍ}؛ أطلق، وهذه ثلاثة أيام في الحج فجاز صومها. قال الرازي محتجًا لأبي حنيفة: هذا لا يجب من وجوه: أحدهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم -نهى عن صيام هذه الأيام؛ فكان النهى قاضيًا على العموم مخصصًا له؛ كما كان قاضيًا على قوله عز وجل: {فعدة من أيامٍ أخر}. والثاني: أنه لو كان جائزًا لأنه من أيام الحج لوجب أن يكون صوم يوم النحر أجوز؛ لأنه أخص بأفعال الحج من هذه الأيام. والثالث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم -خص يوم عرفة بالحج بقوله: "الحج عرفة"، وقوله تعالى: {في الحج} يقتضى أن يكون آخرها يوم عرفة. والرابع: أنه روى أن يوم الحج الأكبر يوم عرفة، وروى أنه يوم النحر،

وقد اتفقوا على أنه لا يصوم يوم النحر مع أنه يوم الحج الأكبر؛ فما لم يسم يوم الحج من الأيام المنهي عن صومها أحرى ألا يصوم فيها. قال: وأيضًا فإن الذي يبقى يوم النحر إنما هو من توابع الحج -وهو رمى الجمار -فلا اعتبار به في ذلك؛ فليس هو إذًا من أيام الحج، ولا يكون صومها صومًا في الحج. فيقال له: أما قولك أن نهى النبي -صلى الله عليه وسلم -عن صيام هذه الأيام يقضى على العموم: فإنه منوال من قد سلم الاحتجاج بالظاهر وتناوله لمسألة الخلاف إلا أن ينظر في النهى الذي أوردته، وسنتكلم عليه فيما بعد إن شاء الله. وأما قولك أنه لو جاز صومها لكونها من أيام الحج لكان يوم النحر أجوز لكونه أخص بأفعال الحج: فغير صحيح؛ لأنا لسنا نقول: إنه كونه من أيام الحج علة في جواز صومه فليزمنا أن يكون ما كان داخل في العلة أولى بالحكم، والعموم يقتضي ذلك لولا الإجماع. وأما قولك أن النبي -صلى الله عليه وسلم -خص عرفة بالحج فقال: {الحج عرفة}: فالمراد بذلك معظم الحج المقصود الذي يفوت بفواته هو الوقوف بعرفة، وليس في ذلك نفى لكون غيره من أيام الحج. فأما قولك: إن ذلك يقتضى أن تكون ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة: فدعوى عارية عن حجة، أكثر ما فيه أن تكون ثلاثة أيام منها يوم عرفة. فأما آخرها يوم عرفة فبأي وجه وجب ذلك؟

فأما قولك: إنه قد روى: الحج الأكبر يوم عرفة، وروى: يوم النحر، وأنه إذا لم يجز صومه مع تسميته بأنه يوم الحج كان ما لم يسم أولى بذلك للنهى عن صومه: فإنه غلط؛ لأن الظاهر اقتضى أن يصام في الحج، ولم يفصل بين أن يصام ما لم يسم يوم الحج وبين ما لا يسمى بذلك بعد أن يكون في الحج. وقد اتفقنا على جواز صوم يوم التروية ومن أول شهور الحج وإن لم تسم بأنها يوم حج؛ فكذلك أيام منى. فأما قوله أن أيام منى أولى ألا تجوز للنهى عن صيامها: فالنهى إذًا هو المعتبر لا نفى كونه يوم حج؛ لم يحصل من هذه الجملة إلا على محض التحكم. فأما قوله أن الذي يبقى بعد يوم النحر وذلك من توابع الحج فلا اعتبار به: فإنه باطل؛ لأن الظاهر أوجب أن يوقع الصيام في الحج، ولم يوجب أن يقع في فعل هو المقصود منه؛ ألا ترى أنه يجوز أن يصوم في أيام لا يفعل فيها شيئًا من الحج أصلاً؟ وقد ثبت أنه متلبس في هذه الأيام بأفعال الحج، وأنه ليس له أن يحرم بعمرة إلا بعد تقضيها. وإذا كان كذلك بطل ما قالوه. وقد ذكر أصحابنا أن هذه الآية التي هي قوله عز وجل: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج} نزلت يوم التروية والناس بمنى، وقد علم أنه لا يمكنهم أن يصوموا في الحج إلا يوم عرفة وبعد يوم النحر؛ فكان ذلك

كالنص في جواز صومها. فقال المخالفون: إن هذا وارد في بيان وقت الصوم من السنة القابلة، ولم يرد بها بيان الصوم في سنتهم تلك؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكن فرضهم إذ ذاك الصوم؛ لأنهم كانوا على ضربين: من معه هدى، ومن لا هدى معه؛ فمن معه هدي نحره ولم يجزئه الصوم، ومن لا هدى معه نحر النبي -صلى الله عليه وسلم -عنه؛ فعلى كل وجه لم يكن الصوم من فرضهم. والجواب عن ذلك: أنه دعوى؛ لأن الظاهر عام في تلك السنة وما بعدها، وليس كل الصحابة كان يجد الهدى، ولا عن جميع المتمتعين نحر النبي -صلى الله عليه وسلم -؛ فلم يلزم ما قالوه. ومن الدليل على ما قلنا: ما [ق/ 175] رواه يحيى بن سلام أن شعبة حدثه عن ابن أبى ليلى عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: رخص النبي -صلى الله عليه وسلم -للمتمتع إذا لم يجد الهدى، ولم يصم حتى فاتته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق. أخبرنا الشيخ أبو بكر الأبهرى حدثنا محمد ابن الحسن القزوينى حدثنا محمد بن عبد الله بن الحكم حدثنا يحيى ابن سلام. وأخبرنا الشيخ أبو بكر أيضًا عن ابن الجهم عن موسى بن إسحاق الأنصاري عن عبد الله بن أبى شيبة حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت عبد الله بن عيسى يحدث عن الزهري عن عروة عن عائشة -

رضي الله عنها -وعن سالم عن ابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى. فإن قيل: فقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام أيام التشريف. وروى ابن شهاب عن سعيد بن المسبب عن أبى هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -بعث عبد الله بن حذافة يطوف ألا تصوموا هذه الأيام، وإنها أيام أكل وشرب وذكر. وروى إسماعيل بن محمد [بن] سعد بن أبى وقاص عن أبيه عن جده قال: أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم -أن أنادى أيام منى: إنها أيام أكل وشرب فلا تصموا. وهذا نهى عام. والآخر: وصفه إياها بأنها أكل وشرب، وهذا ينفى كونها أيام صيام. فالجواب أن يقال: أما النهى فإنه في غير المتمتع؛ بدلالة ما رويناه من ترخيصه صلى الله عليه وسلم للمتمتع في صومها.

وأما وصفه إياها بأنها أكل وشرب فلا ينفى جواز صومها على وجه، وإنما ذلك وصف لها بالمقصود منها والغالب؛ لأن صومها هو النادر؛ ألا ترى أنه قد وصف يوم عرفة بذلك وصومه جائز باتفاقنا؛ فروى موسى بن علي بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "إن يوم عرفة ويوم النحر، وأيام التشريق عندنا وعند أهل الإسلام أيام أكل وشرب". فإن قيل: كل يوم لا يصح صومه تطوعًا لم يجز صومه في التمتع؛ اعتبارًا بيوم النحر. فالجواب: أن اعتبار الفرض بالنفل في هذا ليس بصحيح من قبيل أن الفرض لتأكده يجوز فعله في وقت لا يجوز فعل النفل؛ ألا ترى أن صلاة التطوع منه عنها بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الفجر حتى تطلع لم يجوز أن يصلى في هذه الأوقات فرضًا يذكر؟. والذي يدل على جواز الصوم بعد أيام التشريق، وأن الهدى لا يستقر في ذمته بمضيها أنه صوم واجب؛ فوجب جواز أن يفعل قضاء وأداء، أو نقول: فوجب ألا يسقط بفوات وقته، أو نقول: فوجب أن يفعل بعد ذهاب وقته؛ اعتبارًا بصيام رمضان وبالصوم في كفارة الظهار. ويبين ذلك أيضًا ما قاله أصحابنا أن الصوم في الأصول على ثلاثة أضرب: منه ما يتعلق بوقت مخصوص به متعين فيه؛ وهو صوم رمضان والنذر المعين. ومنه ما يتعلق فعله بشرط من غير أن يختص (بزمان) معين إلا

أن ذلك الشرط يجرى مجرى التعيين فيما قبله، وكذلك كصوم كفارة القتل والظهار. وإذا ثبت ذلك لم يخل الصوم في التمتع أن يكون كأحدها، وكلها يجوز في وقته، وقضاؤه بعد فوات وقته. ويوضح ذلك أيضًا أن وقت البدل أوسع في الأصول من وقت المبدل؛ اعتبارًا بقضاء الصلوات والصيام. وأيضًا فلأنه عادم للهدى فجاز له الصوم، ولم يستقر الهدى في ذمته. أصله: إذا كان في الحج. فإن قيل: فقد قال الله تعالى ذكره: {فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج} فوقته بالحج، وكل فرض موقت فإنه يسقط بفوات وقته وزوال الشرط الذي علق به، ويحتاج في إثبات مثله إلى دلالة مستأنفة. فالجواب: أن هذا يبطل بما قدمناه من صيام رمضان وكفارة الظهار. وأيضًا فإن الشرط الذي علق به -وهو عدم الهدى -لم يزل، وإنما زال الوقت الذي علق الوجوب به، وذلك لا يمنع من قضائه بعد فواته على ما بيناه. فإن قيل: لأنه بدل من أصل فإذا فات وقت البدل رجع إلى حكم الأصل؛ كالجمعة هي بدل من الظهر، فإذا فات وقت الجمعة رجع إلى الظهر.

قيل له: ينتقض بالصوم في كفارة الظهار؛ لأنه بدل عن العتق، وهو مشرط بأن لا يقع المسيس، ثم لو وقع المسيس لجاز فعله بعده. وأيضًا فإن الجمعة قد أكد حتى سقطت عن المسبوق بها مع بقاء الوقت، وليس كذلك حكم الصيام. على أن القياس يبطل بقضاء سائر الصلوات. فإن قيل: إن الصيام جوز له بشرط أن يكون في الحج كما جوز له بعدم الهدى، فإذا زال الشرط الذي هو كونه في الحج رجع إلى أصله؛ كما لو لم يصم حتى وجد الهدى لرجع إلى الهدى. قيل له: إنما وجب ذلك في الهدى؛ لأن الصوم بدل عنه، فإذا وجد المبدل سقط حكم البدل، وليس كذلك زوال أفعال الحج؛ لأنها شرط في فعل البدل، ولا يمتنع فعله مع فواته؛ كما بيناه من اشتراط عدم المسيس في كفارة الظهار؛ ألا ترى أن الصوم مشروط بأن يفعل قبل المسيس، ثم لو وقع [ق/ 176] يمنع فعله؟ فكذلك حكم مسألتنا. ويدل على ما قلناه أيضًا: أن هذا الصوم معنى يسقط به ما وجب عليه من أجل تمتعه فلم يمنع من فعله بعد خروج وقته؛ اعتبارًا بالهدى؛ لأنه لو أخره عن وقته لوجب عليه نحره بعده. والله أعلم

فصل وإذا دخل في الصوم بعد عدم الهدى، فلما صام يومًا أو يومين وجد هديًا: فإنما يستحب له أن يهدى، فإن مضى على صومه أجزأه. هذا قولنا، وقول الشافعي -رحمه الله -. وقال أبو حنيفة -رضي الله عنه -: إن وجد الهدى قبل فراغه من صيام الثلاثة الأيام فإنه يهدى، وإن فرغ منها ثم وجده قبل صيام السبعة أو بعد الشروع فهيا فإنه يمضى ولا يلزمه البدل. قالوا: ولأن الصيام بدل عن الهدى، والقدرة على الأصل تمنع تمام البدل؛ اعتبارًا بالمتيم إذا رأى الماء في الصلاة أو قبل الدخول فيها. ولأن ابتداء الصيام لا يجوز مع وجود الهدى، وكل معنى ينافى الدخول في الصيام لأجل المتعة فإنه ينفى البقاء عليه؛ اعتبارًا بالجماع. ولأنه قادر على الهدى قبل وقوع التحلل بالصوم؛ فأشبه إذا وجده قلب الشروع فيه. والدلالة على ما قلنا: أنه بدل تلبس به عند عدم البدل مقصود في نفسه؛ فلم يلزمه الخروج منه بوجود المبدل؛ اعتبارًا به إذا وجده بعد الدخول في صيام السبعة، وإنما قيدناها احترازًا من المتيمم إذا وجد الماء قبل الدخول في الصلاة. ولأنه تلبس بصوم المتعة بعد عدم أصله فلم يلزمه الرجوع إلى الأصل

عند وجوده. أصله: إذا وجده الثلاثة والتحلل. فإنه قيل: إن صوم السبعة ليس ببدل عن الهدي، وإنما البدل هو صوم الثلاثة التي شرطت بأن تكون في الحج. قيل له: لسنا نريد بقولنا أنها بدل أكثر من أنها تجب بعدم الهدى، ويسقط بوجوده، وهذا موجود في الثلاثة والسبعة. على أن ما قالوه فاسد؛ لأنه لو كان الهدى في مقابلة الثلاثة لما احتاج إلى صيام السبعة، ولما سقطت بالهدى. فأما قياسهم فمنتقض به إذا وجد الهدى في السبعة الأيام، ووزان وجود الماء قبل الدخول في الصلاة أن يجد قبل الشروع في الصوم فيلزمه أن هدى. واعتبارهم بالجماع باطل؛ لأن بطلان الصوم به لا ماضي جنسه، وليس كذلك وجود الهدى؛ ألا ترى أنه لو وجد في السبعة لم يبطله. واعتبارهم بما إذا وجده قبل الشروع في الصوم غير صحيح أيضًا؛ لأنه لم يتلبس ببدل يتعلق به حكمه. والله أعلم. فصل فأما قوله أنه: "يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله"؛ فلأن الله تعالى

قال: {وسبعةٍ إذا رجعتم} فجعلها بعد الرجوع، وذلك يفيد رخصة عندنا. فإن صامها في الطريق أجزأه، وهو قول أبى حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وله قول آخر أنه لا يصومها حتى يرجع إلى أهله. واستدل أصحابه لهذا القول بأن قالوا: لما قال الله تعالى: {وسبعةٍ إذا رجعتم} لم يخل أن يكون أراد رجوعًا عن السفر وعودًا إلى الوطن، أو رجوعًا عن الحج، وهو الذي تقدم ذكره بقوله عز وجل: {فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج}، ولا يجوز أن يكون أراد الرجوع عن الحج؛ لأن قوله سبحانه: {فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج} معناه: في الوقت الحج فالوقت لا يصح الرجوع عنه، وإذا لم يصح ذلك علم أنه أراد الرجوع إلى الأهل والوطن. قالوا: ولأنه صامها قبل الرجوع إلى الأهل؛ فأشبه إذا صامها في الحج. والدلالة على ما قلنا: قوله تعالى: {وسبعةٍ إذا رجعتم}؛ فعلقه بالرجوع؛ فوجب أن يتعلق بأول الرجوعين كما فعلنا ذلك في الشفقين والأبوين والغريقين وغير ذلك.

ولأنه إذا لم يكن بد من إضمار في الظاهر كان إضمار الحج أولى؛ لأنه لم [] الضمير إليه إلا الحج؛ لأنه تعالى قال عز من قائل: {فصيام ثلاثة أيامٍ في الحج وسبعةٍ إذا رجعتم} فكان الظاهر أراد إذا رجعتم منه، وذلك الفراغ منه. فأما اعتراضهم بأن قوله: "في الحج" معناه: في وقت الحج، وأن الوقت لا يصح الرجوع منه: فإنه غير صحيح؛ لأنه لا يمتنع أن يعبر عن الفراغ من الشيء والانصراف عنه بالرجوع؛ كما يقال: رجع الناس من الصلاة معناه: أنهم فرغوا وانصرفوا وإن لم يبلغوا منازلهم. ولأنه إذا انصرف إلى أهله فليس براجع أيضًا عن الوقت على ما قالوه؛ فالسؤال عائد عليهم. ويدل على ما قلناه أيضًا أنه قد فرغ من أفعال الحج؛ فجاز له الصوم؛ اعتبارًا به إذا رجع إليه. ولأنه لو كان رجوعه إلى أهله ووطنه شرطًا في جواز هذا الصوم لوجب ألا يجزئه فعله إذا قام بمكة؛ لأن شرط الجواز لم يحصل مع قدرته عليه وتمكنه منه، فلما جاز ذلك له باتفاق دل على بطلان ما قالوه. وقياسهم غير صحيح؛ لأنه ما دام في الحج فليس براجع؛ فلم يوجد الشرط. والله أعلم.

فصل فأما قوله أن: "من أراد الإحرام بالعمرة فليس له أن يحرم بها من الحرم حتى يخرج [ق/ 177] إلى الحل" فإنه قول كافة أهل العلم. والأصل فيه أن الإحرام من حقه أن يجمع فيه بين الحل والحرم؛ لأن الله تعالى قال: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس} يعنى: إنه يتكرر مجيئهم إليه. ويفارق العمرة؛ لأن الحج لابد أن يأتي به في الحل؛ لأن فيه الوقوف بعرفة -وهي حل -وليس كذلك العمرة؛ لن أفعالها كلها في الحرم. وكذلك روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه اعتمر وأعمر عائشة -رضي الله عنها -فاعتمر من الجعرانة، وأعمر عائشة من التنعيم. وروي عن عطاء عن ابن عباس أنه قال: يا أهل مكة إنما عمرتكم الطواف بالبيت؛ فاجعلوا بينكم وبين مكة بطن وادٍ. أحرموا بالعمرة من الحل. فإن أحرم بالعمرة من مكة خرج إلى الحل، ثم طاف وسعى، وأجزأه. فيكون قد جمع في إحرامه بين الحل والحرام. وبالله التوفيق.

مسألة قال رحمه الله: "ومن أصاب صيدًا فعليه جزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من فقهاء المسلمين. ومحله منى إن وقف به بعرفة، وإلا [فمكة ويدخل به] من الحل. وله أن يختار ذلك أو كفارة طعام مساكين [أن ينظر إلى قيمة الصيد طعامًا فيتصدق به] أو عدل ذلك صيامًا؛ أن يصوم عن كل مد يومًا، ولكسر المد يومًا كاملاً [والعمرة سنة مؤكدة مرة في العمر]. قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن علي -رحمه الله -: جملة القول في ذلك أن الصيد المقتول لا يخلو [] مما له مثل من النعم، أو مما لا مثل له. فإن كان له مثل وشبه من النعم فجزاؤه []؛ وذلك كالنعامة التي تشابه البدنة، وحمار الوحش الذي يشبه البقرة.

فإذا [] ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة؛ لأنها أقرب الأشياء شبهًا بها. فهذا [] فيه مثله. فأما ما لا مثل كاليربوع والأرنب وغير ذلك فقد [] الواجب هو المثل، فإن وجوبه ليس بمتحتم بل إن شاء. المثل أخرجه، وإن شاء أن يخرج بقيمته طعامًا فعل، وإن شاء أن يعدل إلى الصيام فيصوم مكان كل مد يومًا بالغًا ما بلغ فعل. وسنبين هذه الفصول فيما بعد إن شاء الله. ووافقنا الشافعي في ذلك كله إلا في التقويم بالطعام فإنه قال: يقوم المثل بالدراهم، ثم تقوم الدراهم بالطعام. والاختيار عندنا أن يقوم الصيد نفسه، لا المثل. فالكلام في ذلك يأتي فيما بعد إن شاء الله. وقال أبو حنيفة: جميع الصيد الذي له مثل والذي لا مثل له مضمون بقيمته لا بمثله، فإذا قتل المحرم صيدًا وله مثل ضممنه بقيمته، ثم إن شاء اشترى بتلك القيمة هديًا أو طعامًا، أو صام بدل كل صاع يومين. فالخلاف معه في الصيد الذي له مثل من النعم؛ فعندنا إنه مضمون بمثله سواء كان ذلك المثل بقيمته أو بأكثر أو بأقل، لا اعتبار بالقيمة أصلاً.

وعنده إنه مضمون بقيمته لا بمثله. فالدلالة على صحة قولنا: قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم}. والاستدلال بهذا الظاهر من وجوه: أحدها: أنه لو [] إطلاق قوله عز وجل: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} لأوجبنا في الظبي طبيًا مثله؛ فكذلك في بقرة الوحش وسائر الصيد؛ لأن إطلاق المماثلة يقتضى الاتفاق في الصورة والجنس، فلما قيده بأن يكون من النعم -وهي الإبل والبقر والغنم -علمنا أنه لم يرد الجنس، وإنما أراد الخلقة والصورة فقط. وعند مخالفنا إنه لا اعتبار بالمثل من النعم، وإنما الاعتبار في ذلك بالقيمة. والوجه الآخر: قوله عز وجل عقيب قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم}. وهذا الهاء كناية ترجع إلى ما تقدم -وهو الجزاء -فلا تخلو أن تكون عائدة إلى جميع المذكور أو إلى أقربه، فإن كانت عائدة إلى جميعه فقد

عادت إلى (مثلي) المقتول من النعم، وإن كانت عائدة إلى أقرب مذكور فأقرب المذكور هو النعم؛ فيجب أن يكون هو المحكوم به. ولا يجوز أن يرجع إلى القيمة؛ لأنه لم يجز لها ذكر في الآية فتعود الكناية إليها. والوجه الآخر: قوله عز وجل: {هديًا بالغ الكعبة}؛ فأوجب أن يكون نفس الشيء المحكوم به هديًا بالغ الكعبة، وهذا لا يمكن في القيمة؛ لأنها لا يمكن أن يبلغ بها الكعبة على صفتها دون أن تبدل، وإنما يصح ذلك في المثل الذي يعتبره؛ فصح بذلك ما قلناه. فإن قيل: ما أنكرتم من أنه لا دلالة لكم في الظاهر من قبيل أنه من ليس فيه أنه مضمون بمثله من النعم، وإنما فيه فجزاء مثل ما قتل من النعم، وهذا لابد فيه من إضمار، وذلك الإضمار هو أن يشترى بالقيمة من النعم أو يعرفه إليها. قلنا: هذا لا يصح من وجهين: أحدهما: أن الظاهر مستقل بنفسه غير مفتقر إلى إضمار؛ لأنه تعالى أخبر بأن الواجب بقتل الصيد الجزاء بمثله من النعم. وهذا كان فيما قلناه. والوجه الآخر: هو أن الإضمار الذي ذكروه يسقط الظاهر ولا يصح؛ لأنهم إذا جعلوا معناه أن يشترى به مثله من النعم أسقطوا اعتبار المثل في الجزاء، وهو الذي ورد به الظاهر؛ فبطل ما قالوه.

فإن قيل: قد ثبت أنه لم يرد بالمثل المماثلة في الجنس علم أن المراد به القيمة [ق/ 178] وأن تلك القيمة تصرف في النعم. قلنا: هذا يبطل من غير وجه؛ وذلك أنه محتاج إلى ترك الظاهر وإضمار فيه؛ فيكون تقديره: فجزاء مثل ما قتل قيمة تصرف في النعم. وهذا ما لا سبيل إليه، مع إمكان إجرائه على ظاهره؛ وهو أن يكون الجزاء مثل النعم مماثلا للمقتول في الخلقة والصورة؛ فيستغنى بذلك عن الإضمار. والوجه الآخر: أن الإضمار إنما يسوغ ما لم يكن مسقطًا لصريح الظاهر. فأما إذا عاد بإسقاط بعضه فلا يصح ذلك؛ مثل قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفرٍ فعدة} إذا أضمرنا فيه (فأفطروا). وقوله عز وجل: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذًى من رأسه ففدية} إذا أضمرنا فيه (فخلق). فإن هذه إضمارات سائغة؛ لأنها لا تعود بإسقاط شيء من الصريح. فإذا أضمر في اللفظ القيمة -على ما قالوه -سقط بعضه؛ وهو قوله عز وجل: "من النعم"؛ لأن صرف القيمة إلى النعم ليس بشرط في الجزاء عند المخالف، وإنما يفعله المكلف إن اختار. وأيضًا فإنه تعالى قال: {يحكم به ذوا عدلٍ منكم}، ولابد أن

يكون أراد الجميع أو أقرب مذكور، وكيف كان الأمر فيجب أن تكون النعم محكوم بها. وعند المخالف إنه لا يحكم بها؛ فبان بذلك سقوط اعتراضهم. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون المراد بالمثل المذكور في الآية القيمة؛ بدلالة قوله عز وجل: {لا تقتلوا الصيد}، وهذا عموم في جنس الصيد -ما لم مثل من النعم وما لا مثل له -وقد ثبت أن ما لا مثل له مضمون بالقيمة؛ فيجب أن يكون ما له مثل مضمونًا أيضًا بالقيمة؛ لأمرين: أحدهما: أنه إذا ثبت ذلك فيما ذكرنا ثبت في النوع الآخر؛ لامتناع أن يعبر باللفظ الواحد عن معينين مختلفين. والوجه الآخر: أن القيمة إذا اعتبرت في بعض الصيد صارت كالمنطوق به؛ فانتفى حمل الآية على معنى سواها. فالجواب عن هذا من وجوه: أحدهما: إنا لا نسلم قوله عز وجل: {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} عموم في جنس الصيد؛ لأنه قد عقبه بما يدل أن المراد به ما له مثل من النعم؛ فقلنا: إن التحريم إنما يتناول هذا النوع، فأما ما عداه فمعلوم تحرمه من قوله عز وجل: {وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرمًا}، وقوله

تعالى ذكره: {غير محلي الصيد} ومن سنن الرسول -صلى الله عليه وسلم -، والإجماع، وغير هذا الظاهر من أدلة الشرع؛ فبطل استدلالهم على هذه الطريق. هذا جواب أكثر شيوخنا المتقدمين؛ مثل القاضي إسماعيل بن إسحاق، والقاضي أبى بكر بن بكير. والوجه الآخر: وهو أولى من هذا -أنا لا نسلم لهم أن الظاهر عام في جميع الصيد، ولكن بيان الخبر أخص في نوع منه -وهو ما له مثل من النعم -، وهذا غير ممتنع أن يكون أول اللفظ عامًا وآخره خاصًا. وإيجاب الجزاء فيما لا مثل له معقول بغير ذلك من الأدلة. فأما قولهم أنه إذا ثبت كون ما لا مثل له مضمونًا بالقيمة ثبت مثله فيما له مثل؛ لأن اللفظ الواحد لا يعبر به عن معنيين مختلفين: فعنه جوابان: أحدهما: أنه لا يسلم أن ذلك مستفاد من الظاهر. والآخر: أنه لو ثبت لم يمتنع حمل اللفظ على المعنيين المختلفين إذا كانا في حالين، وإنما يمتنع ذلك في حال واحدة. وفي مسألتنا يحمل على حالين وحكمين؛ فلم يمتنع. فإن قيل: إن إطلاق المثل في الشريعة صار عبارة عن القيمة؛ بدلالة قوله تعالى: {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم}، وإذا ثبت ذلك فالاسم إذا تقرر به عرف في الشرع وجب حمله عليه أبدا بما

لم يمنع من ذلك دليل. قلنا: لم يعقل من صريح هذا الظاهر بالقيمة، ولا يعقل منه إلا مثل الفعل ومن جنسه؛ يبين ذلك أن من جرح رجلاً جراحة يمكن القصاص منها فعلنا به مثل فعله بهذا الظاهر، وكذلك لو أتلف عليه شيئًا من المكيل والموزون أغرمناه مثله من جنسه. فإن تعلق شيء من ذلك بالقيمة فبدليل صرنا إليه غير الظاهر. فإن قيل: إن المثل يعبر به عن أمرين: أحدهما: من طريق اللغة. والآخر: من طريق الشرع. فأما من طريق الغة فهو المثل في الجنس. وأما من طريق الشرع فهو القيمة. فإذا بطل أن يكون المراد ها هنا المثل من طريق الجنس ثبت أن المراد في القيمة. فالجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن هاهنا مثلاً زائدًا على ما ذكروه؛ وهو الدية في الحر في قتله وجراحه؛ لأن الدية في الشريعة قد جعلت كالمثل للحر؛ لأنها بدل من القتل، وليست من طريق الجنس ولا القيمة. والوجه الآخر: أن ما ذكروه لو صح لكان إنما يثبت في المثل المطلق لا في المثل المقيد، ومسألتنا في مثل مقيد؛ لأنه تعالى قال: {مثل ما قتل من

النعم}. وإذا ثبت هذا بطل اعتباره بالمثل المطلق، ووجب تعليقه بما قيد به. والوجه الآخر: أن القيمة ليست بمثل، وإنما أقيمت مقام المثل عند تعذره في المواضع التي دلت الدلالة عليها؛ ولذلك تختلف فتقدر تارة ويجتهد فيها أخرى. وإذا كان هذا حكمها لم يعقل من إطلاق المثلية. فإن قيل: لما قال تعالى: {يحكم به ذوا عدلٍ منكم} فأوجب [ق/ 179] أن يحكم بالمثل شاهدان عدلان ثبت أن المراد به القيمة لا الخلقة والصورة؛ لأن ذلك يوصل إليه بغير حكم؛ إذ كل أحد يعرفه، وإنما يحتاج إلى الشاهد في حصر القيمة وضبطها. فالجواب: أن الأمر بخلاف ما يظنوه؛ لأن القيمة مما لا تكاد تخفى على أحد، وإنما المماثلة من أي صفة تكون ومن أي شيء تلتمس يحتاج فيها إلى الشهود ولإمكان حصول الشبهة في حيوان دون حيوان؛ فبطل ما قالوه. على أن الحكم يحتاج إليه في التخيير بين المثل والتقويم على ما سنبينه؛ فلا يلزم هذا السؤال. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون هذا الظاهر دالاً على ما نقوله من قبيل أن الله تعالى قال: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل} فأوجب فيه الجزاء بالمثل، وهذا كلام مستقل بنفسه. ثم ابتدأ فقال عز وجل: {من

النعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم}. فالجواب: أن هذا غلط ظاهر؛ لأن قوله عز وجل: {من النعم} من تمام الكلام الأول؛ لأنه لا يجوز أن يبتدئ به ويصلح أن يكون صلة لما تقدم؛ لأنه بيان للجنس الذي منه تلتمس المماثلة؛ فسقط ما قالوه. فإن قيل: إن جمل الآية على القيمة يسلم معه عموم اللفظ الذي هو قوله عز وجل: {لا تقتلوا الصيد}، وحملها على المثل من طريق الخلقة والصورة يؤدى إلى نخصيصها في بعض الصيد -وهو ما له مثل من النعم؛ فكان ما قلناه أولى. قيل له: إذا حملنا الآية على الصيد الذي له مثل من النعم فقد حملناها على عموم ما وردت فيه، وحملنا قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} على ظاهره الذي هو بيان له، ووجوب اعتبارهم النعم من غير حاجة إلى إضمار. وإذا حمل على ما قالوه احتجنا معه إلى إضمار القيمة في اللفظ، وإلى إسقاط اعتبار النعم؛ فكان ما قلناه أولى. هذه جملة الكلام في الآية والأسئلة عليها. ثم عدنا إلى الاستدلال على أصل المسألة فقلنا: ومما يدل على ذلك أيضًا ما روى عطاء عن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "الضبع صيد، وفيها جزاء كبش مسن إذا أصابه المحرم".

ورواه أبو بكر بن الجهم حدثنا أحمد بن الهيثم حدثنا سليمان بن حرب حدثنا جرير بن حازم عن عبد الله ببن عبيد عن عبد الرحمن بن أبى عمار عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم -سئل عن الضبع فقال: "هي صيد، وجعل فيها كبشًا". ففي هذا الخبر أدلة: أحدهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم -أوجب فيها كبشًا، ومخالفنا يقول: الواجب فيها القيمة لا الكبش. وهذا خلاف للخبر من وجهين: أحدهما: أنه إيجاب لما لم يوجبه. والآخر: إسقاط ما أوجبه. والثاني: أنه جعل الواجب فيها كبشًا، سواء كان بقدر قيمتها أو أقل أو أكثر. ومخالفنا يقول: تجب تارة كبشًا وتارة جملاً وتارة كبشان؛ على حسب اختلاف القيمة. والثالث: أنه أوجب فيها جزاء مقدرا؛ فدل ذلك على سقوط التقويم؛ لأن ما يدخله التقويم لا يجوز أن يجعل المبدل منه أصلاً في الشرع؛ لأن القيمة تختلف باختلاف البلدان والأوقات؛ كقيم المتلفات وأرش الجنايات. فلما قدر الموجب بأنه كبش علم بذلك سقوط اعتبار التقويم. والرابع: أنه لما خص الكبش بكونه جزاء للضبع من شائر الحيوان وغيره.

دل ذلك على أن هو المقصود، ولا اعتبار بالقيمة؛ لأنه لو كان التقويم هو المعتبر لم يفرق الحكم بين الكبش وغيره من الحيوانات المتملك من جنسه وغير جنسه. ويدل أيضًا على ما قلناه إجماع الصحابة رضي الله عنهم؛ لأنه مروى عن عمر، عثمان، وعلى -رضي الله عنهما -، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وابن مسعود، ومعاوية، وعائشة -رضي الله عنهم -، ولا مخالف لهم نعرفه؛ فروى ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس أن عمر قضى، وعثمان، وعليا، وزيدا، وابن عباس، ومعاوية في النعامة ببدنة من الإبل. وروى سماك عن عكرمة أن عليا -رضوان الله عليه -حكم في الضبع كبشًا. وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال: في الضبع كبش. وروى حماد بن سلمة عن عمار بن أبى عمار عن رباح مولى عبد الله ابن الزبير أنهم أصابوا ضباعًا وهم محرمون فسألوا ابن عمر فقال: اذبحوا كبشًا. وروى مغيرة عن إبراهيم أن عمر، وعبد الله -رضي الله عنهما -حكما في الظبي بشاة. وروى مجاهد أن ابن مسعود حكم في اليرببوع جفر أو جفرة.

[والجفر: الذي يشتد ويأكل من صغار كل شيء]. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في النعامة بدنة، وفي البقرة بقرة، وفي الوعل بقرة، وفي البغل والأروى والآيل: كبش كبش. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكونوا حكموا بذلك على طريق القيمة. قيل له: لا يجوز ذلك لأمور. أحدهما: أن النقل ورد عنهم بإيجاب هذه الأشياء، ولم يرد بإيجاب القيمة. والثاني: أن القيمة في غالب الحال تختلف باختلاف البلدان والأوقات. والحكم ورد بذلك في أوقات مختلفة ومواضع متفرقة يبعد أن تتفق القيمة في جميعها في العادة والغالب. وإذا صح ذلك ثبت أنهم حكموا ببدل مقدر، لا على وجه القيمة فإن قيل: لما لم يجد بين الضبع والكبش شبهًا علمنا أن ذلك كان على طريق القيمة. قيل له: ليس المراعى الشبه في كل شيء، وإنما المراعى شبه في الخلق، ولولا أن الأمر على ذلك لم يتكلف إيصاله إلى الكعبة هديًا، وفي إيجابهم لذلك دلالة في فساد ما قالوه. ومن جهة الاعتبار أن الصيد مما يضمن بالإتلاف، ووجدنا الأصول [ق/ 180] مبينة على أن ما يضمن

بالإتلاف على ضربين: منه ضمان الأموال والعبيد وما جرى مجرى ذلك، وإتلاف أبدان. ثم وجدنا كل واحد من هذين تارة يضمن بالمثل وتارة بالقيمة؛ ألا ترى أن من أتلف على رجل حنطة أو عسلاً أو ما أشبه ذلك ضمنه بمثله، وكذلك العبد إذا قتل عبدًا قتل، وقد تجب فيه القيمة إذا اختار السيد. وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون كذلك ضمان الصيد. ويدل عليه أيضًا: أنه حيوان يخرج في كفارة؛ فوجب ألا يكون إخراجه على القيمة. أصله: عتق الرقبة. وكذلك لا خلاف بيننا وبين أبى حنيفة أن إخراج الكبش وغيره من حائر في قتل الصيد، وإنما الاختلاف في أنه يخرج على وجه القيمة أو على وجه البدل والمثل. واستدل أصحاب أبى حنيفة بقوله تعالى ذكره: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم}. قالوا: والمثل على ضربين: من طريق الجنس، ومن طريقة القيمة. وقد اتفقنا على أنه لا يجب بقتل الصيد مثله من جنسه؛ فثبت أن الواجب مثله من قيمته. وهذا فاسد أجبنا عليه فيما سلف بما يغنى عن رده.

وقد تعلقوا بغير هذا أيضًا، وقد تقصيناه عند استدلالنا بالظاهر؛ فلا معنى لإعادته. واعتلوا بأنه حيوان مضمون لحرمة الإحرام؛ فوجب أن يكون مضمونًا بالقيمة. أصله: ما لا مثل له في الصورة وهذا الوصف لا يؤثر في الأصل؛ لأن ما لا مثل له مضمون بالقيمة، سواء ضمن لحرمة الإحرام الإحرام أو لغيره. وإن تركوا تقييده انتقض بالآدمي؛ لأنه مضمون لغير حرمة الإحرام لا بالقيمة بل بالدية، والدية ليست [] عند بعض أصحابنا. عل أن المعنى في الأصل أنه لا مثل له في الخلقة، وليس كذلك في الفرع. قالوا أيضًا: ولأن كل عين لم تضمن بمثلها بجنسها وجب أن تضمن بقيمتها؛ اعتبارًا بالأموال. وهذا أيضًا ينتقض بقتل الآدمي خطأ؛ لأنه لا يضمن بقيمته مع العلة التي ذكروها -على ما حكيناه عن بعض أصحابنا. فإن زادوا في التعليل ذكر المال لم نسلمه في الصيد؛ لأنه ليس بمال. على أن ضمان الأموال دليلنا من الوجه الذي ذكرناه. قالوا: وأيضًا فيما قالوه بخلاف الأصول؛ لأنه يؤدى إلى أن يجب بإتلاف العين الواحدة بدلان مختلفان؛ وذلك أن المحرم إذا قتل صيدًا مملوكًا لزمته قيمته لمالكه،

ومثله من النعم لحق الله عز وجل، وهذا خلاف الأصول؛ إتلاف عين يجب به بدلان مختلفان. وهذا السؤال غير لازم؛ لأنه يعود على مورده؛ لأنه من قول أبي حنيفة أنه يضمن ببدلين متفقين -وهو القيمة. وهذا أيضًا خلاف الأصول؛ لأنه ليس في الأصول عين واحدة يجب بإتلافها بدلان متفقان؛ فسقط هذا الإلزام. وجواب آخر: وهو أن ما قالوه إنما يمتنع إذا كان وجه الضمان واحدًا، فإذا كان من وجهين مختلفين فلا يمتنع؛ كالآدمي هو ممنوع من قتله لحرمته ولحق الله عز وجل. ثم لو قتل المسلم خطأء لوجب على قاتله إذا كان مسلمًا الدية والكفارة؛ فقد ضمن ببدلين مختلفين؛ لأن جهة الضمان مختلفة؛ فكذلك في هذا الموضع. قالوا: وقد خالفتم الأصول من وجه آخر؛ وهو أنكم تقولون: إنه يضمن بمثله من غير جنسه، والأصول موضوعة على أن الضمان إما أن يكون بالقيمة أو بمثل من الجنس، فأما بمثل من غير الجنس فليس في الأصول. وهذا عندنا أصل بنفسه؛ لورود النص على ما بيناه. والذي قالوه ينكسر بقتل الآدمي؛ لأنه تجب به الدية، وهو مثل من غير الجنس. والله أعلم.

فصل فأما الدلالة على وجوب التحكيم فقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدلٍ منكم}، ولا خلاف في ذلك. ووجب أن يعلما أن الواجب عليه بقتل الصيد إن كان مما له مثل من النعم ثلاثة أشياء: إما مثله من النعم، وهو جزاء. أو إطعام: وهو قيمة الصيد المتلف طعام. أو الصيام بدل كل مد يومًا. وإنه خير في ذلك. ثم ينظر فما اختار أن يحكما به عليه حكما بذلك الذي يختاره. وإن كان مما لا مثل له حكما عليه بقيمته. ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن كفارة الصيد على التخيير دون الترتيب. وحكي بعض أهل الخلاف عن ابن عباس، وابن سيرين أنها على الترتيب دون التخيير، وأن من قدر على المثل لم يجز له العدول إلى الإطعام أو الصيام. وحكي أبو ثور أن هذا مذهب الشافعي في القديم، وأصحابه ينكرونه. والدليل على أنها على التخيير دون الترتيب قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم هديًا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو

عدل ذلك صيامًا}، و (أو) موضوعة للتخيير إذا وردت في أمر أو إباحة في جنس؛ كقولك: جالس الحسن أو ابن سيرين. وقوله تعالى ذكره في النهي: {ولا تطع منهم آثمًا أو كفورًا} أي: لا تطع هذا الضرب. وإذا صح ذلك ثبت أنها في هذا الموضع للتخيير؛ كقول القائل: أعط زيدًا ثوبا أو درهمًا أو عبدًا. فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون قوله عز وجل: {أو كفورًا} عائدًا على الصيد الذي لا مثل له، أو يكون قوله تعالى ذكره: {فجزاء مثل ما قتل} من الصيد الذي له مثل. قيل له: أنكرنا ذلك؛ لأنه خلاف الظاهر فلا نصير إليه إلا بدليل. وأيضًا فإن الصيغة في هذا الموضع كهى في قوله عز وجل في فدية الأذى {ففدية من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ}، فلما كانت هنالك للتخيير كذلك هاهنا. [ق/ 181] أو يجمع بينهما من جهة المعنى فنقول: لأنه حق وجب بإتلاف كان ممنوعًا منه لحرمة الإحرام؛ فوجب أن يكون على التخيير. أصله: كفارة الأذى. واستدل لمن ذهب إلى أنها على الترتيب بأن يقال: لأنها كفارة لنقص

تعلق بالإحرام؛ فأشبهت كفارة التمتع والقران. ولأنه تكفير وتعلق بإتلاف نفس؛ فأشبهت كفارة قتل الآدمى. فالجواب: أن القياس الأول يبطل بفدية الأذى، والثاني يدفع النص على أن اللفظ ورد به مرتبًا؛ فوجب ترتيبه على أنها مغلظة، وليس كذلك جزاء الصيد. والله أعلم. فصل ويلزم التحكيم في كل قتل، وفيما حكمت فيه الصحابة، وما لم تحكم. وهو قول أبى حنيفة. وقال الشافعي: يكتفي في ذلك إلى ما حكمت به الصحابة، ولا يحتاج إلى التحكم. واستدل عنه بقوله تعالى: {يحكم به ذوا عدلٍ منكم}، وعدالة الصحابة متحققة، وعدالة غيرهم مشكوك فيها؛ فكان الرجوع إلى من تحققت عدالته أولى. ودليلنا قوله تعالى: {ومن قتله منكم متعمدًا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدلٍ منكم}؛ فشرط حكم العدلين على كل قاتل لصيد. ولأن كل صيد لزم بقتله الجزاء فلابد من التحكيم فيه. أصله: ما لم

يضمن فيه حكومة. فأما قولهم أن عدالة الصحابة رضي الله عنهم متحققة، وعدالة غيرهم مشكوك فيها: فلا معنى له؛ لأنا لسنا نقول: إنه يحكم عليه لجواز أن يحكم عليه في النعامة بغير البدنة، وإنما ذلك عبادة عندنا. والله أعلم. فصل فأما قوله: إن محله منى إن وقف به بعرفة، وإلا فبمكة؛ فلما قدمناه أن المنحر في الحج منى وفي العمرة مكة. والأصل أن ذلك يكون بمكة، إلا إنها نزهت عن ذلك في أيام الحج؛ لكثرة الدماء فيها؛ فجعل الذبح بمنى. وقوله: إن وقف به بعرفة؛ فلما ذكرناه من قبل أنه لا ينحر بمنى إلا ما وقف به بعرفة، فإن لم يقف به بعرفة نحر بمكة؛ لأن النحر لا يكون في الحج والعمرة إلا بمنى أو بمكة. فإذا لم يوجد فيه شرط الذبح بمنى كان بمكة. وقوله: يدخل به من الحل؛ لأنه هدى، وقد بينا أن الهدى لا يجوز إلا أن يجمع فيه بين الحل والحرم. فصل فإما قوله أنه إن اختار التكفير بالإطعام قوم الصيد بالطعام لا المثل؛

فلأنه الله تعالى قال: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} إلى قوله سبحانه: {أو كفارة طعام مساكين}، وظاهر ذلك يقتضى أن يكون الإطعام جزاء عن المقتول معتبرًا به دون المثل، ولا الصيد هو المتلف دون المثل؛ فوجب أن يكون هو المقدم؛ اعتبارًا بسائر المتلفات. ولأن الإطعام بدل عن نفس المتلف؛ فوجب أن يكون معتبرًا به لا بغيره. أصله: المثل من النعم. ولأنه طعام أخرج في جزاء الصيد؛ فوجب أن يكون معتبرًا بقيمة الصيد. دليله: كفارة ما لا مثل له من النعم. ومخالفنا في هذه المسألة الشافعي، لأنه يقول: يقوم المثل لا الصيد. وقد استدل عنه بقوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} على القراءة بالخفض؛ وذلك يفيد أن الكفارة بالإطعام جزاء لمثل الصيد المتلف. وإذا ثبت ذلك صح أن المعتبر بقيمة المثل لا بقيمة الصيد نفسه. والجواب: أنه لا دلالة في هذا؛ لأنه فسر الجزاء بأنه هدى يبلغ به

الكعبة، ثم قال عز وجل مستأنفًا: {أو كفارة طعام مساكين}؛ فسقط ما قالوه. قالوا: ولأنه لما وجب اعتبار الصيام بالإطعام الذي هو بدل؛ كذلك يجب اعتبار الطعام بالمثل. فالجواب: أنه إنما اعتبرنا الصيام بالإطعام؛ لأنا أقمنا مقام كل مد يومًا، فدعت الضرورة إلى أن نعتبر بما يقدر بالأمداد، والصيد لا يمكن أن يقدر أمداد، ولا أن يجزأ الصوم على عدد أجزائه، ولم تدعنا ضرورة مثل هذه في الإطعام؛ فلم يجب أن يكون كالصيام. فصل وإذا ثبت أنه يقوم الصيد لا المثل؛ فالمختار أن يقوم الصيد نفسه بالطعام، وإن تقوم بالدراهم ثم قوم بالطعام جاز. والاختيار الأول، وإنما قلنا ذلك لما بيناه أن الإطعام بدل عن الصيد؛ فوجب أن يقع التقويم به، وإنما يقوم بالدراهم إذا كانت هي المأخوذة في القمة. هذا هو المختار، فإن لم يفعل ذلك جاز على ما بيناه. فصل وإذا اختار الصيام صام عن كل مد يومًا، وبه قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة: يصوم بدل كل مدين يومًا. وإنما قلنا ذلك؛ لأن الصوم المبدل عن الإطعام في العبادات فد أقيم في الشرع عن كل مد يومًا؛ بدلالة أن النبي -صلى الله عليه وسلم -جعل في كفارة الفطر في رمضان إطعام ستين مسكينًا أو صيام شهرين متتابعين. وفدية الأذى مخصوصة بأن جعل فيها مكان كل أربعة أمداد يومًا. وهذا غير معتبر في هذا الموضع باتفاقنا. فلم يبق إلا ما قلناه. فإن قيل: ففي كفارة الظهار قد جعل بدل كل مدين يومًا فهلا اعتبرتموه بالظهار؟. قيل له: اعتباره بما قلنا أولى؛ لأنه صيام وجب لحرمة عبادة، وليس كذلك كفارة الظهار. على أن كفارة الظهار مغلظة؛ بدلالة أنه اعتبر فيها الترتيب، وليس كذلك كفارة الصيد؛ لأنها مخففة؛ بدلالة سقوط الترتيب فيها؛ فكانت بكفارة الصيام أشبه. والله أعلم. فصل فأما قوله: أن يصوم لكسر مد يومًا كاملاً؛ فلأنه لا يخلو من ثلاثة أمور:

إما أن يصوم يومًا كاملاً: فهو ما قلناه. أو أن يصوم بحسابه من اليوم: فذلك باطل؛ لأن الصوم لا يتبعض في اليوم. أو أن لا يصوم أصلاً: وذلك غير جائر؛ لأن عليه أن يصوم بدلاً عن جملة [ق/ 182] الإطعام. والله أعلم. مسألة قال رحمه الله: "والعمرة سنة مؤكدة؛ مرة في العمر". قال القاضي رضي الله عنه: هذا قولنا وقول أبى حنيفة، وقال الشافعي: هي فرض كالحج، وإليه ذهب أبو بكر بن الجهم. والدلالة على صحة قولنا ما رواه محمد بن المنكدر عن جابر قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -عن الحج أفريضة هو؟ قال: "نعم". قيل: والعمرة؟ قال: "لا، وأن تعتمر خير لك". فنص على كون العمرة غير فريضة، وفرق بينهما وبين الحج، ونفى

وجوبها نفيًا مطلقًا؛ فدل ذلك على ما قلناه. فإن قيل: رواى هذا الحديث الحجاج بن أرطاة، وهو ضعيف. قيل له: لم نقل فيه أكثر من أنه مدلس، وهذا لا يسقط حديثه؛ لأن الأعمش وغيره من كبار أصحاب الحديث يدلسون ومع ذلك فلا يترك حديثهم. فإن قيل: يحتمل أن يكون نفى وجوب العمرة. قيل له: إن السؤال صدر عن العمرة على حد ما صدر عن الحج، فلما بطل أن يحمل السؤال على ذلك؛ فكذلك في العمرة. على أن هذا ترك للظاهر؛ فلا يصادر إليه إلا بدليل. فإن قيل: يحتمل أن يكون السائل سأل عن حال نفسه، وكان قد اعتمر. قيل له: الظاهر غير هذا؛ لأن السؤال صدر مطلقًا، وكذلك الجواب؛ فلا يجب تقييدهما والاقتصار بهما على صفة دون صفة إلا بدليل. فإن قيل: يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "ولأن تعتمر خير لك"، فلو كان السؤال عنه وعن غيره لكان يقول: ولأن تعتمروا خير لكم. قيل له: التعلق بهذا ضرب من الانقطاع والعجز؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم -وفي الجواب حقه، وإنما قصد بهذا القول الإبانة عن فضيلة النافلة أنها وإن لم تكن فرضًا حتمًا ففعلها خير من تركها.

ولا فرق بين أن يخاطب بذلك من سأله مفردًا وبين أن -يجمعه وغيره في الخطاب. فما في هذا مما يدل على أنه علم من حاله أنه كان قد اعتمر لولا النحر. ودليل آخر: وهو ما روى يحيى بن أيوب عن عبيد الله بن عمر عن أبى الزبير عن جابر قال: قلت: يا رسول الله العمرة كفريضة الحج؟ قال: "لا، ولكن تعتمر خير لك". اعترض أبو بكر بن الجهم عن هذا الحديث بثلاثة أشياء: أحددهما: أن قال: أما يحيى بن أيوب فغيره أثبت منه، وعبيد الله بن عمر فليس محله محل أخيه. وهذا الجنس من اعتراضات أصحاب الحديث، وأما الفقهاء فلا يرتفعون به. وإن جاز أن يقع الترجيح به في بعض المواضع فيقال: ليست من شرط قبول نقل الراوي أن يكون أحفظ أهل عصره وأثبتهم، ولا يجوز سقوط عدالته ورد حديثه لكون غيره أضبط منه وأثبت؛ فبطل ما ظننته معترضًا على الخبر. ثم قال: قد روينا عن جابر نحوه من الضعيف، وروى عن إبراهيم بن حماد عن الفضل بن العباس الرازي عن قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة عن جابر -رحمه الله -أن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "الحج والعمرة فريضتان

واجبتان". واعلم أنه ليس في طريق هذا الحديث ضعف على طريقة الفقهاء؛ لأن عطاء عن جابر لا ارتياب به، وابن لهيعة رجل مشهور بالنقل وقد نقل عنه الثقات والأثبات، وإن غمز عليه بعضهم فلا يلتفت إلى مجرد غمزه، ولم يصح ما حكى أنه اضطرب حفظه آخر عمره. ومن بعده إلى أبى بكر بن الجهم ثقات. ولكنه سلك في تضعيفه النحو الذي بيناه. ونحن نحمله على أنهما واجبان على الداخل فيهما؛ بدلالة خبرنا. ثم قال: الإسناد الصحيح عن جاب حدثناه أبو قلابة حدثنا الأنصاري ... إلى أن ذكر عن ابن الزبير عن جابر قال: ليس من مسلم إلا وعليه حجة وعمرة من استطاع إليه سبيلا. فكيف يزعم أن العمرة واجبة ويدع ما رواه عن النبي -صلى الله عليه وسلم -؟ هذا بعيد. فيقال له: ليس من شرط صحة الحديث أن يصير الراوي إلى موجبه؛ أنه قد يتركه؛ لأنه لا دليل عنده فيه، ولأن غيره عارضه أو نسخه، أو لغير ذلك.

على أن جابر لم يبين هل هي على كل مسلم من طريق السنة أو الحتم، وإن كان وجوبها عن طريق الفرض أظهر فتحتمل السنة أيضًا. ودليل آخر: وهو ما روى سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "الحج جهاد، والعمرة تطوع". رواه طلحة بن موسى عن عمه إسحاق بن طلحة عن طلحة بن عبيد الله أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم -يقول: "الحج جهاد، والعمرة تطوع". فنص على أنها تطوع؛ فانتفى وجوبها. ودليل آخر: وهو ما روى مكحول عن أبى أمامة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: "من مشى إلى مكتوبة فهي كحجة، ومن مشى إلى صلاة تطوع فهي كعمرة تامة". وروى القاسم عن أبى أمامة عن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: "من مشى إلى مكتوبة متطهرًا فأجره أجر الحاج، ومن مشى إلى تسبيح الضح فأجره كأجر المعتمر".

فنبه على أن العمرة نفل حيث شبهها بالنفل، وشبه الحجج لما كان فرضًا بصلاة الفرض. ومن طريق الاعتبار: لأنه نسك ليس له وقت معين؛ فوجب ألا يكون فرضًا. أصله: طواف القدوم. فإن قيل: قولنا: نسلك عبارة عن جملة أفعال الحج. والطواف. فلا يقال: إنه نسك. قيل له: قد ينطلق اسم النسك على جملة الحج وعلى أبعاضه؛ بدلالة قوله تعالى: {فإذا قضيتم مناسككم} يريد: متعبداتكم وأفعال حجكم؛ فسماه مناسك؛ فثبت أن كل فعل منه منسك. واستدلال أصحابنا بأن قالوا: إنا وجدنا عبادات الأبدان التي هي فرائض على الأعيان تتعلق بأوقات معلومة لاسيما ما تعلق منها بمكان. وذلك كالصلاة [ق/ 183] والصيام والحج، فلو كانت العمرة من قبيلها لتعلقت بوقت معلوم، فلما لم تتعلق بذلك بل كانت جائزة في كل الأوقات لحقت بالنفل الذي لا يتعلق بوقت معلوم وإنما هو على حسب ما يختار المتنفل أن يوقعه في أي وقت شاء. ولا يلزم عليه الإيمان؛ لأن وقت وجوبه معلوم وهو البلوغ. ولأنه لا يتعلق بمكان مخصوص، وإنما ذكرنا ما يتعلق بمكان. واستدلوا أيضًا أن اسم الحج يقع عليها؛ لأنه سميت في الشرع الحجة الصغرى.

وإذا صح ذلك فالذي يدل على سقوط وجوبها ما روى أن الأقرع بن حابس قال للنبي -صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله الحج في كل سنة أو مرة واحدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "بل مرة واحدة، فمن زاد فهو تطوع"؛ فأخبر أنه مرة واحدة؛ فانتفى بذلك ما زاد عليه العمرة وغيرها؛ لأنه نفى بذلك وجوب ما زاد على الحجة الواحدة، والسؤال صدر عن جنس الحج؛ فثبت بذلك ما قلناه. واستدل من خالفنا بأشياء منها: قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله}. قالوا: إن التعلق من هذه الآية من وجوه أحدهما: أنه روى أن عبد الله بن مسعود كان يقرؤها: "وأقيموا الحج والعمرة لله"، وهذه القراءة وإن كانت شاذة فإنها تجرى مجرى خبر الواحد؛ فأقل ما يجب أن تكون بمنزلة أن يروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "وأقيموا الحج والعمرة لله". وقوله: (أقيموا): أمر؛ فهو على الوجوب. فالجواب: أن هذا ليس بصحيح؛ لأن كل قراءة تخالف المصحف المجمع عليه وما أشهر عن الأئمة فلا يعتد لها، ولا يلتفت إليها، ولا يثبت حكم بها، سيما وما روى عن ابن مسعود وأبى مما يخالف المصحف مما لا يعتد به جميعًا.

وإذا كان الأمر على هذا وجب إطراحها جملة، وألا تنزل منزلة الخبر الواحد ولا غيره. وإنما يعتد بخبر الواحد إذا ورد مفردًا لا في حكم يقابله إجماع، أو بغير قراءة ثابتة في المصحف المجمع عليه؛ فسقط ما قالوه. قالوا: والوجه الآخر أنه تعالى قال: {وأتموا الحج والعمرة لله}، واسم الإتمام ينطلق على الابتداء بالشيء وعلى إتمام ما دخل فيه. فأما دخوله للبناء على ما دخل فيه فإنه بين مستغن عن إقامة دليل عليه. وأما ما وردوه في الابتداء فبدلالة قوله عز وجل: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} قيل: فأتى بهن. وقول على بن أبى طالب -رضي الله عنه -: إتمامهما: أن تحرم من دويرة أهلك. وإذا كان كذلك كان الأمر عامًا في الابتداء والبناء. قالوا: على أنه لو ثبت أن الحقيقة في الإتمام البناء لم يمتنع أن يراد بهذه الدلالة الابتداء؛ بدليل وهو ما روى عن عمر وعلى -رضي الله عنهما -أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم من دويرة أهلك. والصحابي إذا فسر شيئًا من القرآن لم يخل أن يكون فسره من طريق اللغة أو التوقف، فإن كان من حيث اللغة فقد ثبت ما قلناه. وإن لم يكن من اللغة كان من التوفيق فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم -قال: ابتدؤوا

الحج والعمرة؛ وذلك يقتضى وجوبهما. فالجواب أن حقيقة الإتمام في اللغة هو البناء على ما فعل بعضه. فإذا استعمل بمعنى الابتداء كان ذلك مجازًا واتساعًا، والمجاز يحتاج إلى دليل، وما أوردوه من قول الصحابة رضي الله عنهم لا يوجب كونه حقيقة فيه، لأنه إذا ثبت كونه حقيقة فيما ذكرناه امتنع كونه حقيقة فيما ذكروه. على أنا لو سلمنا أنه حقيقة لكان الظاهر هو البناء. فأما الابتداء فلا يعقل من ظاهره، وقد صاروا إلى أنه معقول بالدليل، وهو ما روى عن الصحابة رضي الله عنهم. وليس ذلك بدليل؛ لأنه ليس كلامًا يقوله الصحابي في تفسير القرآن لا يكون إلا لغة وتوفيقًا، بل يقوله لأنه يرى الحكم بالقراءتين، والدليل على غير ذلك. وقد روى عن بعضهم أن ذلك في البناء دون الابتداء، وقاله مجاهد وغيره. والوجه الآخر: أنا لو سلمنا أن الإتمام هو الإتمام هو البناء لو يمنع ما قلناه؛ لأن ذلك لا يوصل إليه إلا بالابتداء؛ فوجب أن يكون الابتداء واجبًا؛ لأنه مما لا يتم الأمر إلا به، وبذلك احتج ابن عباس في وجوب العمرة. والجواب: أن موجب هذا الاستدلال يقتضى أن الابتداء غير مقصود با وجوب، وأنه إنما يراد لغيره لا لنفسه. وهو الإتمام؛ لأن هذا سبيل كل ما ورد من هذا الباب إذا لم ينص عن النبي بل فهم الأمر به من الأمر بغيره؛

كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} أن ذلك يوجب طلب ما يتخطى إلي أخذ الماء، وليس هذا سبيل الابتداء بالعمرة. على أنا نحمله على الندب بما ذكرناه. واستدلوا بما روى عن عطاء عن جابر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: "الحج والعمرة فريضتان واجبتان". وروى عن عائشة -رضي الله عنه -أنها قالت: أعلى النساء جهاد يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "نعم الحج والعمرة". وهذا مستند لما رويناه من الأخبار في سقط وجوبها. أن نحمله على الداخل فيها، والخبر الآخر على الندب؛ لأن الندب المتأكد قد يوصف بأنه على الإنسان كما يوصف الفرض بذلك، ولكن بدليل غير الظاهر. واستدلوا بما روى أبو رزين أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم -فقال: إن أبى لا يستطيع الحج والعمرة. فقال: "حج عن أبيك واعتمر" وهذا السؤال لا يصح على أصلنا؛ لأن حج الإنسان عن الإنسان غير واجب ولا ثابت، وإنما هو {ق/ 184] تطوع، ولا يسقط به فرض. واستدلوا بما روى أن سراقة أو الأقرع قال للنبي صلى الله عليه وسلم -: أعمرتنا هذه لعامنا أو للأبد؟.

فلو لم تكن واجبة لم يسأل عن تكرر وجوبها؛ لأن تكرر الوجوب فرع للوجوب. وهذا غلط من المستدل؛ لأنه ليس في الخبر أن السائل سأل عن تكرر الوجوب، وإنما سأل عن تكرر الفعل، وقد يتكرر المسنون كما يتكرر المفروض؛ فلا طائل لهم في ذلك. واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تحج وتعتمر". فالجواب: أن الإسلام يشتمل على المفروض والمسنون، وقد روى: "الإيمان بضع وسبعون خصلة: أعلاها الشهادة، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق". قالوا: ولأنها نوه عبادة من شرطها الطواف؛ فوجب أن يكون من جنسها واجب بأصل الشرع كالحج. ولأنه أحد نسكى القران؛ فأشبه الحج. ولأن العمرة كالحج في كثر الأحكام من وجوب الإحرام، والطواف، والسعي، ومنع الصيد والطيب واللباس وغير ذلك؛ فكذلك في الوجوب. فالجواب: أن المعنى في الحج تعلقه بوقت مخصوص، وليس كذلك العمرة.

فإن قيل: هذا لا ينفى الوجوب؛ لأن الطواف والإحرام واجبان، وليس لهما وقت مخصوص، وكذلك الكفارت. قلنا: أما الطواف فله وقت معلوم، وهو يوم النحر؛ لأنه لو أتى به قبله لكان قد أتى به في غير وقته، وإنما جوز له تأخيره توسعة. والإحرام أيضا وقته معلوم، وهو أن يكون بعد الزوال من يوم عرفة أو قبل طلوع الفجر من ليلة النحر. هذا وقت تضييق وجوبه. فأما الكفارات فإنها من حقوق الأموال فليست مما نحن فيه. قالوا: ولأنها عبادة تجب في إفسادها الكفارة؛ فوجب أن [] فيها نفلاً وفرضًا كالصوم. فالجواب: أن وجوب الكفارة بالإفساد لا يدل على الوجوب بدلالة العمرة الثانية، والحجة الثانية، وإنما يدل على تأكد العبادة. على أن المعنى في الأصل ما قلناه من تعلقه بوقت مخصوص. والله أعلم. فأما قوله: إنها تكفى في العمر؛ فلما رويناه من سؤال السائل النبي -صلى الله عليه وسلم -أعمرتنا [] أم للأبد؟ فقال: "بل للأبد". ولأن المشقة فيها كما في الحج؛ فكانت مثله [] تكررها.

مسألة قال رحمه الله: "ويستحب لمن انصرف من مكة من حج أو عمرة أن يقول: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن على -رحمه الله: هذا لما روى عن النبي -صلى الله عليه وسلم -أنه كان يقوله؛ فلذلك استحببناه. * * *

§1/1