شرح الدعاء من الكتاب والسنة

ماهر بن عبد الحميد بن مقدم

مقدمة المصحح مؤلف الأصل

مقدمة المصحح مؤلف الأصل إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده اللَّه فلا مضلّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلّى اللَّه عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد. فقد شرح اللَّه صدر الأخ ماهر بن عبد الحميد بن مقدم أبي عبد الرحمن من الكويت لشرح كتابي: ((الدعاء من الكتاب والسنة))، فشرحه شرحاً مفيداً نافعاً، على منهج أهل السنة والجماعة، وقد طلب مني تصحيحه وتخريج أحاديثه، والتقديم له، فشرفني بذلك، فقرأت ما كتبه كله، وصحّحت ما يحتاج إلى تصحيح، سواء في اللغة، أو في الإملاء، على قدر ما يسّر اللَّه من ذلك، وخرّجنا أحاديثه، وآثاره، وعملنا له فهارس تفصيلية علمية، ثم قرأت الكتاب مرة أخرى بعد الصفّ، وراجعناه مرات عديدة، وقد ألفيت الشرح شرحاً جيّداً، رجع فيه شارحه إلى أصول شروح الأحاديث المعتمدة، وكتب أهل السنة النافعة، فجزاه اللَّه خيراً، وضاعف مثوبته، ونفعني وإياه بهذا الشرح في حياتنا، وبعد مماتنا، ونفع به من انتهى إليه، وصلى اللَّه وسلّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. كتبه سعيد بن علي بن وهف القحطاني حرر في ضحى يوم الجمعة 10/ 9/ 1431هـ.

{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1) اللَّهُ ... الأوَّلُ ... الآخِرُ ... الظَّاهِرُ ... الباطِنُ ... العليُّ ... الأعْلَى المُتعالِ ... العظيمُ ... المجيدُ ... الكبيرُ ... السميعُ ... البصيرُ ... العليمُ الخبيرُ ... الحميدُ ... العزيزُ ... القديرُ ... القادرُ ... المقتدرُ ... القويُّ المتينُ ... الغنيُّ ... الحكيمُ ... الحليمُ ... العفوُّ ... الغفورُ ... الغفَّارُ التَّوَّابُ ... الرَّقيبُ ... الشَّهيدُ ... الحفيظُ ... اللَّطيفُ ... القريبُ ... المُجيبُ الودودُ ... الشاكرُ ... الشكورُ ... السيِّدُ ... الصَّمدُ ... القاهِرُ ... القَهَّارُ الجَبَّارُ ... الحَسيبُ ... الهادي ... الحَكَمُ ... القُدُّوسُ ... السَّلامُ ... البَرُّ الوهَّابُ ... الرحمنُ ... الرحيمُ ... الكريمُ ... الأكرمُ ... الرءوفُ ... الفتَّاحُ الرَّازقُ ... الرَّزَّاقُ ... الحيُّ ... القَيُّومُ ... الربُّ ... الملكُ ... المليكُ الواحدُ ... الأحدُ ... المتكبِّرُ ... الخالقُ ... الخلاّقُ ... البارئُ ... المصوِّرُ المؤمنُ ... المهيمنُ ... المحيطُ ... المُقيتُ ... الوكيلُ ... الكافي ... الواسعُ الحقُّ ... الجميلُ ... الرفيقُ ... الحييُّ ... السِّتِّيرُ ... الإلهُ ... القابضُ الباسطُ ... المُعطي ... المُقدِّمُ ... المؤخِّر ... المبينُ ... المنَّانُ ... الوليُّ الموْلى ... النَّصيرُ ... الشَّافي ... مالكُ الملكِ جامعُ الناسِ ... نورُ السمواتِ والأرضِ ... ذو الجلالِ والإكرامِ بديعُ السمواتِ والأرضِ (¬2) ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 180. (¬2) انظر هذه الأسماء مع أدلتها من الكتاب والسنة في كتاب: (شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسنة) ... للمؤلف.

مقدمة الشارح

مقدمة الشارح إنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام اللَّه تعالى، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فمن أعظم نعم اللَّه جل وعلا على المسلم، أن شرّفه بهذا الدين القويم، المحروم منه أكثر العالمين، نعمة مخصصة منه جل وعلا. ومن عظيم نعمه جل وعلا على عباده التي لا تُحصى، أن أذن لهم بالدعاء، وأرشدهم إلى سبله، ووعدهم بالإجابة، والإثابة عليه منه تفضلاً، وتكرماً وإحساناً، وبيّن كتاب ربنا جلّ ثناؤه أهميته وعظم شأنه، فقد افتتح كتابه الحكيم به في أعظم سورة في القرآن: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ*صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬1)، واختتم عز شأنه كتابه بسورتين بأفضل ما يتعوذ بهما المتعوذون (المعوذتين)، فأول القرآن وآخره مشتملٌ على الدعاء ((وإذا تأمل العبد آيات التنزيل رأى فيه نحو ثلاثمائة آية في الدعاء وفيها من أسرار التنزيل عجباً)) (¬2). ¬

(¬1) سورة الفاتحة، الآيتان: 6 - 7. (¬2) تصحيح الدعاء، للعلامة بكر أبو زيد رحمه الله، ص 239.

وقد سمى اللَّه - عز وجل - الدعاء ديناً، فقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} (¬1)، وسماه عبادة، والتي من أجلها خلق الخلق: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬2). والسنة المطهرة عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حافلة بفضائله، منوهةٌ بعلو شأنه، ومكانته، ورفع منزلته، ولا يخفى في عناية الشارع الكريم بالدعاء، دلالة على أنه أعظم العبادات، وأجلّ الطاعات، وروح العبادات ولبّها، وأفضلها. فعن مطرف بن عبد اللَّه قال: ((تذكرت ما جماع الخير؟ فإذا الخير: كثير الصوم، والصلاة، وإذا هو في يد اللَّه - عز وجل -، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد اللَّه - عز وجل - إلا أن تسأله فيعطيك، فإذاً جماع الخير الدعاء)) (¬3). ولقد قيّض اللَّه تبارك وتعالى في كل زمن وحين، علماء يصونون هذا الدين العظيم من كلّ شائبة، في كل علمٍ من علومه، ولقد قيّض اللَّه جل وعلا من كتب في علمٍ من علومه الجليلة ((الدعاء)) هو الأخ الشيخ الدكتور الفاضل ((سعيد بن علي بن وهف القحطاني)) - حفظه اللَّه - عز وجل - وسدده - فقد جمع كتاباً شاملاً مانعاً من أصح ما كتب في هذا ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 65. (¬2) سورة غافر، الآية: 60. (¬3) الزهد للإمام أحمد، ص 241.

الباب، فقد جعل اللَّه تبارك وتعالى لهذا الكتاب القبول الواسع في أرجاء العالم الإسلامي، فلا تكاد ترى بيتاً إلا وفيه هذا الكتاب، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت بل في كل دار من دور البيت، وهذه بشرى نزفها إليه في هذه الدنيا، ونسأل اللَّه تبارك وتعالى أن يتم له البشرى الكاملة في الدار الآخرة في أعلى الفردوس، ونحن معه. ولما كان هذا الكتاب الجليل بهذا القبول والأهمية، أحببت أن أقوم بشرحه، وإن كنت لست أهلاً له، لكني آمل أن أكون من الذين قال فيهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)) (¬1)، فقمت مستعيناً باللَّه - عز وجل -، وهو خير المعين، لعلّي أقتطف من هذا المعين من الأجر والثواب العظيم، من رب كريم رحيم، ثم استعنت باللَّه - عز وجل - ثم باللآلئ المنثورة من أقوال أهل العلم في الكتب المبسوطة في هذا الفن، فسهَّل عليَّ هذا المسلك والطريق، فلله الحمد والمنة، كما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه. أما عملي في الكتاب: فقد قمت بشرح الأدعية التي في الكتاب شرحاً مبسطاً، مع ذكر بعض الفوائد في الآيات القرآنية والسنة النبوية، وقد أضفت بعض الأحاديث في الفضائل، وكذلك في السنن والآداب، وجعلت الرمز (*) حتى يتميز بين الأصل والشرح، واعلم يا عبد اللَّه أن هذا الموضوع العظيم الجليل القدر لا يعطَى حقه في هذا ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب علامة الحب في اللَّه - عز وجل -، برقم 6168، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، برقم 2640.

الجهد المتواضع، لكن العبد يتقرب إلى مولاه ما استطاع إليه سبيلاً، واعلم يا عبد اللَّه أن الإكثار من الدعاء، والتشبث به يدخل العبد في جنة معجلة قبل جنة الآخرة. وختاماً هذا جهد المقل، فإن كان خيراً فمن اللَّه - عز وجل -، وإن كان غير ذلك فمن نفسي، ومن الشيطان، وآمل من كل أخ كريم ألاّ يبخل عليَّ بالنصح والبيان في مواطن الزلل، وأسأل اللَّه جل وعلا أن يجعل هذا العمل المتواضع مباركاً نافعاً، وأن يرزق مؤلفه، وشارحه، وطابعه، وناشره، وقارئه، مرافقة سيّد الأوّلين والآخرين في الفردوس الأعلى ((اللَّهم آمين)). وآخر دعوانا أن الحمد للَّه رب العالمين. كتبه ماهر بن عبد الحميد بن مقدم غفر اللَّه له، ولوالديه، ولجميع المسلمين الأحد 28 محرم 1430هـ. الموافق25 يناير 2009م

مقدمة المؤلف

بسم اللَّه الرحمن الرحيم مُقَدِّمَةُ المؤلف إنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمَاً كَثِيرَاً. أمَّا بَعْدُ: فَهَذَا مُخْتَصَرٌ مِنْ كِتَابِي ((الذَّكْرُ وَالدُّعَاءُ وَالعِلاَجُ بِالرُّقَى مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ)) (¬1)، اخْتَصَرْتُ فِيهِ قِسْمَ الدُّعَاءِ؛ لِيَسْهُلَ الانْتِفَاعُ بِهِ، وَزِدْتُ عَلَيْهِ أَدْعِيَةً، وَفَوَائِدَ نَافِعَةً، إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَسْأَلُ اللَّهَ - عز وجل - بِأسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلاَ أَنْ يَجْعَلَهُ خَالِصَاً لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ. وَصَلَّى اللَّهُ، وَسَلَّمَ، وَبَارَكَ عَلَى نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ، وَأَصْحَابِهِ، وأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين. المؤلف حرر في شعبان 1408هـ ¬

(¬1) وقد طبع الأصل المذكور، ولله الحمد، مع تخريج أحاديثه تخريجاً موسَّعاً في أربعة مجلدات: الأذكار ((حصن المسلم)) في المجلد الأول والثاني، والدعاء في المجلد الثالث، والعلاج بالرقى في المجلد الرابع منها.

تعريف الدعاء

تعريف الدعاء الدعاء في اللغة: مأخوذ من مادة (دَعَو) التي تدلّ في الأصل على إمالة الشيء إليك بصوت وكلام يكون منك (¬1). ويأتي الدعاء باللغة بعدة معانٍ (¬2): 1 - الطلب والسؤال: وهو طلب الطالب للفعل من غيره، ومنه قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء} (¬3)، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬4). 2 - العبادة: كما في قوله تعالى: {فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} (¬5). 3 - الاستغاثة والاستعانة: ومنه قوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬6). ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة، لابن فارس، 2/ 279. (¬2) ما سيذكر من معانيه مأخوذة من الكتاب النفيس (الدعاء ومنزلته من العقيدة الإسلامية، 1/ 26 - 36 بتصرف يسير. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 38. (¬4) سورة البقرة، الآية: 186. (¬5) سورة الشعراء، الآية: 213. (¬6) سورة البقرة، الآية: 23.

4 - النداء والصياح:.

4 - النداء والصياح: ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} (¬1)، وقوله تعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} (¬2). 5 - القول: ومنه قوله تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} (¬3). 6 - التوحيد: كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ (¬4)}، يقول: ((لا إله إلا اللَّه ويدعوه)) (¬5). 7 - الثناء: ومنه قوله - عز وجل -: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} (¬6)، وغير ذلك. تعريف الدعاء في الشرع: قال الخطابي -رحمه اللَّه-: ((هو استدعاء العبد ربه - عز وجل - العناية، واستمداده إياه المعونة، وحقيقة إظهار الافتقار إليه، والتبرؤ من الحول والقوة)) (¬7). وقال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه اللَّه-: ((دعاء المسألة: هو ¬

(¬1) سورة القمر، الآية: 6. (¬2) سورة القمر، الآية:10. (¬3) سورة يونس، الآية:10. (¬4) سورة الجن، الآية: 19. (¬5) الدعاء المأثور، ص31. (¬6) سورة الإسراء، الآية 110. (¬7) شأن الدعاء، ص4.

أنواع الدعاء باعتباره ومعناه:

طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره ودفعه)) (¬1). وعُرِّف الدعاء كذلك بأنه: ((الرغبة إلى اللَّه - عز وجل -، أو إظهار غاية التذلل والافتقار إلى اللَّه، والاستكانة له)) (¬2)، وهناك تعريفات أخرى لا تخرج عن هذه المعاني، وكل ما ذكر يدخل في معنى الدعاء، الذي يدل: على معاني سمو في العبودية للَّه تعالى من التذلل والخضوع، والاستكانة والرغبة والرهبة، والتعلق في ظاهر العبد وباطنه بين يدي اللَّه تعالى، في مقام عظيم لا يعبر عنه إلا من لازمه، وذاق حلاوته. أنواع الدعاء باعتباره ومعناه: كل دعاء ورد في كتاب اللَّه تعالى، وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يتناول نوعين اثنين: دعاء العبادة، ودعاء المسألة (¬3)، فإن الدعاء في القرآن يُراد به هذا تارة، وهذا تارة، ويُراد به مجموعهما (¬4). قال العلامة ابن سعدي رحمه اللَّه: ((كل ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء والنهي عن دعاء غير اللَّه تعالى، والثناء على الداعين يتناول: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، وهذه قاعدة نافعة، فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة، دعاء المسألة فقط، ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، 15/ 10. (¬2) انظر: فتح الباري، 11/ 95، ونسبه للطيبي. (¬3) مجموع الفتاوى، 1/ 69، و2/ 456، وجلاء الأفهام، ص 18. (¬4) بدائع الفوائد، 3/ 2.

تلازم نوعي الدعاء:

ولا يظنون دخول جميع العبادات في الدعاء ... )) (¬1). تلازم نوعي الدعاء: من خلال ما مضى تبين لنا أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، وكلٌّ من نوعي الدعاء متلازمان، فإذا أريد به المسألة والطلب يدل على العبادة بطريق التضمن؛ لأن الداعي دعاء المسألة عابد للَّه تعالى بسؤاله، ورغبته، والتضرع إليه، والابتهال إليه، والانطراح بين يديه، وهو يرجو قبول دعوته، وقضاء حاجته، وهو مع ذلك خائف من طرده، وعدم قبول دعوته، فهذا هو لبُّ العبادة، ومخّها، وروحها، وحقيقتها، فالآيات التي ورد فيها الدعاء مراداً به دعاء المسألة، تدل هذه الآيات بطريق التضمن على دعاء العبادة، وأما إذا أريد بالدعاء دعاء العبادة، فإنه يدل على دعاء المسألة بطريق دلالة الالتزام، وذلك لأن العابد للَّه تعالى كالذي يذكر اللَّه تعالى مثلاً، فهو في الحقيقة سائل للَّه تعالى، يسأله الفوز بالجنة، والنجاة من النار، فإنه يعبد اللَّه تعالى خوفاً من عقابه، وطمعاً في رحمته، ولا يخلو العابد في قرارة نفسه من الخوف والرجاء؛ ولهذا فالعبادة تستلزم السؤال والطلب، فإذا أريد من الدعاء دعاء العبادة، فإنه يدل على دعاء المسألة استلزاماً (¬2). ¬

(¬1) القواعد الحسان لتفسير القرآن، ص 154. (¬2) مجموع الفتاوى، 15/ 11، وبدائع الفوائد، 3/ 3.

فضل الدعاء

فضل الدعاء ذكر المؤلف وفقه اللَّه فضل الدعاء من الكتاب والسنة على النحو الآتي: 1 - قال اللَّه تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} (¬1) هذا وعد من اللَّه محقق أن من دعاه، فإنه تعالى سيجيبه، ((فقد علّق في هذه الآية الإجابة بالدعاء تعليق المسبب بالسبب)) (¬2). ودلت الآية الكريمة على أن الدعاء عبادة عظيمة، ((وأن ترك دعاء الرب - سبحانه وتعالى - استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار، وكيف يستكبر العبد من دعاء من هو خالق له، ورازقه، وموجده من عدم، وخالق العالم كله ... فلا شك أن هذا طرف من الجنون، وشعبة من كفران النعم)) (¬3). وقد استدل بعض العلماء من قوله تعالى: {ادْعُونِي} ((أن الدعاء واجب، إذ لا صارف له عن الوجوب)) (¬4)؛ لأن الأصل في الأوامر ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 60. (¬2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، 8/ 139. (¬3) تحفة الذاكرين للشوكاني، ص 28. (¬4) تفسير القرطبي، 3/ 149، وتفسير الشوكاني، 1/ 460.

2 - قال تعالى: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب}.

الوجوب ما لم يأت دليل يصرفه عن الوجوب (¬1). 2 - قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬2). وهذا وعد أخر صريح من ربنا - جل جلاله - بإجابة الدعاء، واللَّه - سبحانه وتعالى - لا يخلف الميعاد، وقد علق هذا الوعد العظيم على الدعاء بـ ((إذا)) التي تدل على التحقيق، فدلت هذه الآية الكريمة على غاية الاستعطاف من اللَّه - عز وجل - لخلقه بدعائه والتقرب إليه، وذلك: أنه أضافهم إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، وأنه ـ رفع الواسطة بينه وبين داعيه، وذلك أن ((كل سؤال في القرآن يأتي التعقيب عليه بالجواب (قل)، أو (فقل)، كقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} (¬3)، وقال جل وعلا: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} (¬4)، وقال جل وعلا: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} (¬5)، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} (¬6)، أما ¬

(¬1) انظر: شرح الكوكب المنير، 3/ 39، وروضة الناظر، 2/ 70. (¬2) سورة البقرة، الآية: 186. (¬3) سورة البقرة، الآية: 219. (¬4) سورة البقرة، الآية: 220. (¬5) سورة البقرة، الآية: 215 (¬6) سورة طه، الآية: 105.

3 - وقال تعالى: {ادعوا ربكم تضرعا وخفية}.

في هذه الآية فلم يقل جلَّ شأنه قل، أو فقل، بل قال: {فَإِنِّي قَرِيْبٌ} (¬1). وهذا رد صريح على من جعل بينه وبين اللَّه تعالى من الوسطاء والأنداد من البشر وغيرهم في دعائه؛ فإنه محروم من هذه الوسيلة المباشرة العظيمة مع اللَّه تعالى، وقوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} يدل على قرب اللَّه تعالى من الداعي، قرباً خاصاً يدل على العناية التامة بالإجابة، والمعونة، والتوفيق، والسداد، ((ولهذا لم يرد القرب موصوفاً به اللَّه - عز وجل - إلا في حال الدعاء، وفي حال السجود كقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)) (¬2)) (¬3). 3 - * وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬4). أمر اللَّه تعالى عباده المؤمنين بدعائه الذي فيه صلاحهم في دنياهم وأخراهم في تذلل، واستكانة، وخشوع، وقوله: ((خفية)) أي أن يكون سراً في النفس؛ لأنه أدل على الإخلاص الذي فيه السلامة من الرياء والسمعة. ¬

(¬1) انظر: تفسير الرازي، 22/ 31. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم 482. (¬3) شرح عقيدة أهل السنة والجماعة للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، ص 187. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 55.

وهذا يدل على أهمية الدعاء، وعلو شأنه، وذلك ((لأن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه الحاجة إلى ذلك المطلوب، وأنه عاجز عن تحصيله، وعرف أن ربه تبارك وتعالى يسمع الدعاء، ويعلم الحاجة، وهو قادر على إيصالها إليه، ولاشك أن معرفة العبد نفسه بالعجز، والنقص، ومعرفة ربه بالقدرة، والكمال من أعظم العبادات)) (¬1). ثم قال تعالى: {إنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} يقصد تاركي الدعاء: وهذا نهاية في الكرم، وغاية في الإفضال، أنه جعل إمساكك عن دعائه ومسألته التي فها خلاصك، وصلاح دينك ودنياك، اعتداء منك)) (¬2). [قال الإمام ابن كثير: ((وقال ابن جُرَيْج: يكره رفع الصوت والنداء والصياحُ في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روي عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} في الدعاء ولا في غيره. وقال أبو مِجْلِز: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} لا يسأل منازل الأنبياء)) (¬3). وقال الشيخ السعدي رحمه اللَّه: (({إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي: ¬

(¬1) روح المعاني، 5/ 506. (¬2) الدعاء المأثور، ص 38. (¬3) تفسير ابن كثير، 3/ 428.

4 - {واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما}.

المتجاوزين للحد في كل الأمور، ومن الاعتداء كون العبد يسأل اللَّه مسائل لا تصلح له، أو يتنطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه)) (¬1)]. * وقال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} (¬2) ((أمر تعالى أن يكون الإنسان في حالة ترقب وتخوّف، وتأمّل للَّه - عز وجل - حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته، وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، فيدعو الإنسان خوفاً من عقابه، وطمعاً في ثوابه)) (¬3). وهذا يدلنا على فضل الدعاء، وأنه محبوب عند اللَّه تبارك وتعالى؛ لأنه روح العبادة، ولبُّها، وأفضلها؛ لما فيه من كمال التذلل للَّه تعالى من شدة الافتقار، وإظهار غاية العجز والحاجة إليه ـ. 4 - {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} (¬4). نهى اللَّه - سبحانه وتعالى - في هذه الآية الكريمة عن الحسد، وتمني زوال النعم مما في أيدي الغير، ثم بين السبب الأعظم الذي ينال به العبد ¬

(¬1) تفسير السعدي، 1/ 291. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 56. (¬3) تفسير القرطبي، 4/ 198. (¬4) سورة النساء، الآية: 32.

5 - وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الدعاء هو العبادة.

مما يتمناه عند غيره، هو الإلحاح على ربه في سؤاله من فضله وخيره، فقال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}، ففيه حث وترغيب على سؤال اللَّه من إحسانه الدائم، وإنعامه الذي لا ينفد، فإن خزائنه مملوءة لا تنفد، ولا تنقطع أبداً على طوال الزمان والمكان. وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأمر بسؤاله تعالى واجب (¬1). * وقال تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} (¬2). أخبر ـ أنه لا يبالي، ولا يعبأ، ولا يكترث بغير هؤلاء، وأنه لولا دعاؤكم إياه دعاء العبادة، ودعاء المسألة، ما عبأ ولا اعتنى بكم، فدل على أن الدعاء سبب لعناية اللَّه تعالى بعبده، وإصلاح شأنه وأموره (¬3). 5 - وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ))، وقرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ ¬

(¬1) القرطبي، 3/ 149، وتقدم. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 77. (¬3) فيض الرحمن تفسير جواهر القرآن، 2/ 313.

دَاخِرِينَ} (¬1). دل هذا الحديث على أن الدعاء هو أفضل العبادة: ((فهذه الصيغة المقتضية للحصر من جهة تعريف المسند إليه، ومن جهة تعريف المسند، ومن جهة ضمير الفصل تقتضي أن الدعاء هو أعلى أنواع العبادة، وأرفعها، وأشرفها)) (¬2). ((كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الحج عرفة)) (¬3) أي معظم الحج الوقوف بعرفة)) (¬4). ((ولم يرد هذا اللفظ في أي نوع من أنواع العبادة الأخرى)) (¬5). * وقد جاء كذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان أن الدعاء هو أفضل العبادة، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - رضي الله عنه - أنه قال: ((أفضل العبادة ¬

(¬1) أبو داود، 2/ 78، برقم 1481، والترمذي، 5/ 211، برقم 2959، وابن ماجه، 2/ 1258، برقم 3828، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 3/ 150، وصحيح ابن ماجه، 2/ 324. (¬2) تحفة الذاكرين، ص 33. (¬3) أخرجه أحمد، 31/ 64، برقم 18774، وأبو داود، كتاب المناسك، باب من لم يدرك عرفة، 2/ 141، برقم 1949 بلفظ: ((الْحَجُّ: الْحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ))، والترمذي، كتاب الحج، باب فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، برقم 889، 3/ 237، والنسائي، كتاب مناسك الحج، فرض الوقوف بعرفة، برقم 3016 (5/ 256، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب من أتى عرفة قبل الفجر، برقم 3015، 2/ 1003، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3172. (¬4) شأن الدعاء للخطابي، ص 5. (¬5) شرح الإحياء للزبيدي، 5/ 4.

6 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم.

الدعاء)) (¬1). 6 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا)) (¬2). * وجاء في لفظ آخر: ((صفراً خائبتين)) (¬3). * ومعنى ((صفراً)): أي فارغة. وفي لفظ: ((حتى يضع فيهما خيراً)) (¬4). فحياؤه صفة كمال تليق به، ليس كحياء المخلوقين الذي هو ¬

(¬1) أخرجه الحاكم، 1/ 491، وقال: ((صحيح الإسناد))، ووافقه الذهبي، والطبراني في الأوسط، برقم 9264، 9/ 107، وفى الصغير، برقم 1114، 2/ 251 وأخرجه ابن عدي، 5/ 88، في ترجمة رقم 1265، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم 1122، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة، رقم 1597. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، 2/ 78، برقم 1488 والترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا محمد بن بشار، 5/ 557، برقم 3556 وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء، 2/ 1271، برقم 3865، وقال ابن حجر: ((سنده جيد))، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 179، وفي غيره. (¬3) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا محمد بن بشار، 5/ 557، برقم 3556، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 3865، وفي صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 1635. (¬4) أخرجه الحاكم في المستدرك، 1/ 498، بلفظ: ((إن الله رحيمٌ، حييٌّ، كريم، يستحي من عبده أن يرفع إليه يديه ثم لا يضع فيهما خيراً))، وحسنه ابن حجر في الفتح، 11/ 121، وصحح الألباني لفظ الحاكم في صحيح الجامع، برقم 1768.

7 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم.

تغير وانكسار، فإن حياءه تعالى كرم، وبر، وجود، وجلال)) (¬1). فسعة كرمه، وجوده، وعظيم فضله وإحسانه تقتضي ألا يرد من دعاه وسأله. وهذا الحديث يدل على غاية الإكرام من اللَّه تعالى لعبده، وإغرائه في دعائه، وشد للهمم إليه. 7 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللَّه بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا))، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ؟، قَالَ: ((اللَّه أَكْثَرُ)) (¬2). هذا الحديث فيه دليل على أنه لابد من الإجابة على إحدى الأوجه الثلاثة، وأن الداعي لن يعدم من دعائه خيراً، فإما أن يُعطَى في العاجل، وإما أن تدخر دعوته لليوم الآخر، وإما أن يصرف اللَّه تعالى عنه من الشر والسوء، ما هو خير من سؤاله، وكل ذلك بمقتضى حكمته تعالى، وما يصلح للداعي. ¬

(¬1) مدارج السالكين، 2/ 272. (¬2) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب في انتظار الفرج وغير ذلك، 5/ 566، و5/ 462، برقم 3573، وأحمد، 3/ 18، برقم 11150، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، 5/ 116، وصحيح سنن الترمذي، 3/ 140.

9 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من لم يسأل الله يغضب عليه.

وقولهم: ((إذاً نكثر)): ((أي إذا كان الدعاء لا يُردّ منه شيء، ولا يخيب الداعي في شيء منه، نكثر الدعاء لعظيم فوائده)) (¬1). 8 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الدُّعَاءِ)) (¬2). والمراد بقوله: ((أكرم)): ((أي أسرع ميلاً، وأنفع تأثيراً، وأكثر فضلاً)) (¬3)؛ لما فيه من التذلل، والانكسار، والاعتراف بقوة اللَّه تعالى، وكمال قدرته، وغناه، ودلّ هذا الحديث أيضاً على فضل الدعاء، وعلو منزلته؛ لأنه يجتمع فيه من أنوع التعبد ما لا يجتمع في غيره، حيث لم توصف عبادة بهذا اللفظ سواه، فينبغي للعبد أن يلازمه، ويكثر منه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. وبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدعاء سبب للأمان من غضب اللَّه تعالى. 9 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ)) (¬4). ¬

(¬1) الفتوحات الربانية، 7/ 265. (¬2) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في الدعاء، 5/ 455، برقم 3370، وسنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، 2/ 1259، برقم 3829، ومسند الإمام أحمد، 14/ 360، برقم 8748، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 138. (¬3) شرح السندي على ابن ماجه، 4/ 262، ورش البرد شرح الأدب المفرد، ص 369. (¬4) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب منه، 5/ 553، 3373، والأدب المفرد للبخاري، ص 229، ومسند أبي يعلى، 12/ 10. وقال عنه الألباني في صحيح الترمذي: ((صحيح)).

10 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يغني حذر من قدر،.

وفي لفظ: * ((من لا يدعو اللَّه يغضب عليه)) (¬1)، ((في هذا دليل على أن الدعاء من العبد لربه من أهم الواجبات، وأعظم المفروضات؛ لأن تجنب ما يغضب اللَّه تعالى منه لا خلاف في وجوبه)) (¬2). قال ابن القيم: ((وهذا يدل على أن رضاه في مسألته وطاعته، وإذا رضي الرب تعالى، فكل خير في رضاه، كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه)) (¬3). قال سفيان الثوري رحمه اللَّه: ((يا من أحب عباده إليه من سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب)) (¬4). وبيّن - صلى الله عليه وسلم - أنّ الدعاء من أقوى الأسباب في رفع البلاء ودفعه وردّه: 10 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ ¬

(¬1) الحاكم في مستدركه، 1/ 668، برقم: 1807، ولفظ أحمد في المسند، 19/ 385، برقم: 9342، وابن ماجه في سننه، كتاب الدعاء، باب فضل الدعاء، 2/ 1258، برقم: 3817: من لم يدع الله سبحانه غضب عليه)). وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 3100، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 3654. (¬2) تحفة الذاكرين، ص 31. (¬3) انظر: الجواب الكافي لابن القيم، ص 9، والنص منقول عن فيض القدير، 2/ 12. (¬4) نوادر الأصول للحكيم الترمذي، 2/ 168، وانظر: تفسير ابن كثير، 4/ 85.

11 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يرد القضاء إلا الدعاء

مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإنَّ الْبَلاَءَ لَيَنْزِلُ فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ (¬1) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) (¬2). وهو يرد القضاء والقدر قبل نزوله أو بعد نزوله. 11 - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ)) (¬3). وفي لفظ: ((ادْعُوا فَإِنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ القَضَاءَ)) (¬4). 12 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ)) (¬5). فدلّت هذه الأحاديث على أنّ اللَّه جلَّ قدْره يدفع بالدعاء ما قد قضاه على العبد، فهو من قدر اللَّه تعالى أيضاً: ((فقد يقضي بشيء ¬

(¬1) يعتلجان: يتدافعان ويتصارعان. (¬2) مستدرك الحاكم، 1/ 669، بلفظه، وقال: ((صحيح الإسناد ولم يخرجاه))، والمعجم الأوسط للطبراني، 3/ 66، وبلفظ: ((لن ينفع حذر من قدر)) مسند الإمام أحمد، 45/ 26، برقم 22044، والمعجم الكبير للطبراني، 30/ 103، ومسند البزار، 2/ 413، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 7739. (¬3) سنن الترمذي، كتاب القدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء لا يرد القدر إلا الدعاء، 4/ 448، برقم 2139، والطبراني في الكبير، 6/ 251، برقم 6128، ومسند البزار، 6/ 502، برقم 2540. وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3548. (¬4) الدعاء للطبراني، 2/ 798، برقم 29، وحسّن إسناده محقق الكتاب. (¬5) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، 5/ 552، برقم 3548، مسند الإمام أحمد، 36/ 370، برقم 22044، والمعجم الكبير للطبراني، 20/ 103، برقم 201، ومستدرك الحاكم، 1/ 669، وقال: ((صحيح الإسناد ولم يخرجاه))، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3548.

1 - أن يكون الدعاء أقوى من البلاء،.

على عبد قضاء مقيداً بألا يدعوه، فإذا دعاه اندفع عنه)) (¬1). فينبغي للعبد أن يعلم أن للدعاء مع البلاء ثلاثة مقامات: 1 - أن يكون الدعاء أقوى من البلاء، فيدفعه لاستكماله شروط وواجبات الدعاء ومستحباته. 2 - أن يكون أضعف من البلاء، فيقوى عليه البلاء، فيصاب به العبد لنقص في الداعي: مثل قلة اليقين، أو الغفلة، وغير ذلك من التخلف في واجباته وشروطه، ولكن قد يخففه على قدر تحققه من أسباب الإجابة. 3 - أن يتقاوما، ويمنع كل منهما صاحبه (¬2). وبيّن عليه الصلاة والسلام أن ملازمة الدعاء يقي العبد (¬3) من الصفات المذمومة: كالعجز وغيره من صفات النقص. * قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ فِي الدُّعَاءِ، وَأَبْخَلُ النَّاسِ مَنْ بَخِلَ بِالسَّلَامِ)) (¬4). ¬

(¬1) تحفة الذاكرين، ص 36. (¬2) انظر: شروط الدعاء وموانع الإجابة للمؤلف سعيد بن علي بن وهف. (¬3) انظر: الجواب الكافي، ص 9 - 10. (¬4) الأدب المفرد للبخاري، ص 359، وصحيح ابن حبان، 10/ 350، برقم 4498، والطبراني في الأوسط، 5/ 371، برقم 5591، وقال: لا يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بهذا الإسناد. وأخرجه البيهقي في شعب الإيمان، 6/ 429، قال الهيثمي في مجمع الزوائد 8/ 31: ((رجاله رجال الصحيح غير مسروق بن المرزبان، وهو ثقة)). وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم 795، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 601.

آداب الدعاء وأسباب الإجابة:

آداب الدعاء وأسباب الإجابة (¬1): بعد أن ذكر المؤلف وفقه اللَّه تعالى فضل الدعاء من الكتاب والسنة، ذكر آداب الدعاء، وأسباب الإجابة باختصار على النحو الآتي: 1 - الإخلاص للَّه. وهذا هو أعظم شروط (¬2) قبول الدعاء وأهمها، وأوكدها، فالإخلاص في الدعاء للَّه تعالى هو الذي تدور عليه دوائر الإجابة، فهو روح العبادة، وهو أحد شرطي قبول العمل، وقد أمرنا - سبحانه وتعالى - أن ندعوه مخلصين له الدين، قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} (¬3). والإخلاص في الدعاء ((هو تصفية الدعاء، والعمل من كل ما يشوبه، وصرف ذلك كله للَّه تعالى وحده، لا شريك له، ولا رياء ولا سمعة ... )) (¬4). وجاءت السنة النبوية في تأكيد هذا المطلب العظيم، فعن عبد اللَّه بن عباس رَضْيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: ((كنت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يَا غُلامُ، إِنِّي ¬

(¬1) انظر هذه الآداب وأسباب الإجابة مع أدلتها في الأصل، 3/ 927 - 975. (¬2) الشيخ - حفظه الله - قد فصل في تبويب هذه الآداب، في كتابه النفيس: ((شروط الدعاء))، فارجع إليه، ص 24. (¬3) سورة غافر، الآية: 14. (¬4) شروط الدعاء للمؤلف، ص 24.

2 - أن يبدأ بحمد لله

مُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فاَسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ)) (¬1). ولأهمية الإخلاص في الدعاء للَّه رب العالمين: أنه - سبحانه وتعالى - يجيب الكافر إذا أخلص في توجهه للَّه - عز وجل - حال دعائه، قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (¬2). فالواجب على كل مسلم ومسلمة أن يدرك أهمية هذا الأمر الجليل، وأن يعلم أن الدعاء حق للَّه - عز وجل - خالص، لا يجوز أن يشرك معه غيره كائناً من كان، فقد أجمع أهل العلم قاطبة أن من صرف شيئاً من الدعاء لغير اللَّه، فقد وقع في الشرك الأكبر الذي لا يُغفر والعياذ باللَّه، فتبيّن من هذا أن الإخلاص للَّه تعالى، وصحة الاعتقاد، له أثره الخاص في استجابة الدعاء، قال شيخ الإسلام: إجابة الدعاء تكون عن صحة الاعتقاد، وعن كمال الطاعة؛ لأنه عقب آية الدعاء بقوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} (¬3). 2 - أن يبدأ بحمد للَّه، والثناء عليه، ثم بالصلاة على ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد، 4/ 410، برقم 2669، واللفظ له، والترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا أحمد بن محمد بن موسى، برقم 2516، ومستدرك الحاكم، 3/ 624. وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 309. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 65. (¬3) مجموع الفتاوى، 14/ 33.

النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويختم بذلك. فمن الأدب في خطاب العظماء أن يُقدّم لهم الثناء والمدائح قبل سؤالهم، وللَّه المثل الأعلى، فهو تعالى أولى بهذا المقصد، وقد جاء هذا الأدب في ثنايا كتاب اللَّه الحكيم، ظاهر في غاية الظهور والبيان في سورة الفاتحة، حيث افتتحها عز شأنه بالحمد والثناء عليه، إرشاداً وتعليماً لنا في تقديم الحمد والثناء عليه تعالى قبل دعائه. وجاء في السنة المطهرة ما يؤكد أهمية هذا الأمر كذلك، فقد سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته، فلم يُصلِّ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عَجَّلَ هَذَا))، ثم دعاهُ فَقَالَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ: ((إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحمِيدِ ربه وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ لِيَدْعُ بِمَا شَاءَ)) (¬1). فقوله: ((عجل هذا)): حيث قدم الوسيلة قبل الغاية، وهو الدعاء، وهذا من الاستعجال الذي لا يستحب في هذا المقام الكريم. لذا ينبغي للعبد أن يتخيَّر لدعائه والثناء على ربه - عز وجل - أحسن الألفاظ، وأنبلها، وأعظمها؛ لأنه يخاطب ملك الملوك ربّ ¬

(¬1) سنن أبي داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، 1/ 551، برقم 1483، وسنن الترمذي، كتاب اللباس، باب بأي رِجل يبدأ إذا انتعل، 4/ 244، برقم 1779، وسنن ابن ماجه، كتاب اللباس، باب لبس النعال وخلعها، 2/ 1195، برقم 3616، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3476.

والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الدعاء لها ثلاث مراتب:

العالمين. ودلَّت السنة كما تقدم على أهمية الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الدعاء؛ لأنها أقرب لحصول الإجابة، بل وأكدت على أنَّ تارك الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يحجب دعاؤه، ((كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1)، وهذا الأثر جاء عن علي - رضي الله عنه -، وهو في حكم المرفوع؛ لأن مثله لايقال من قبل الرأي؛ لأنه من أمور الغيب التي لا تدرك إلابد ليل شرعي. والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - حال الدعاء لها ثلاث مراتب: ((إحداها: أن يُصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الدعاء، وبعد حمد اللَّه تعالى. والثانية: أن يُصلي عليه أول الدعاء، وأوسطه، وآخره. والثالثة: أن يُصلِّي عليه في أوله، وآخره، ويجعل حاجته متوسطة بينهما)) (¬2). ولايخفى أن العبد ينال الجزاء الأوفى في الصلاة عليه دلّ على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ مِنْ أُمَّتِي صَلاةً مُخْلِصَاً مِنْ قَلْبِهِ؛ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَرَفَعَهُ بِهَا عَشْرَ دَرَجَاتٍ، وَكَتَبَ لَهُ ¬

(¬1) المعجم الأوسط للطبراني، 1/ 220، ومسند الفردوس، 1/ 321، وهو في شعب الإيمان 3/ 136 بلفظ: ((كُلُّ دُعَاءٍ مَحْجُوبٌ عَنِ السَّمَاءِ حَتَّى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَّدٍ)). وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 2035. (¬2) جلاء الأفهام لابن القيم، ص 375.

3 - الجزم في الدعاء واليقين بالإجابة

بِهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ)) (¬1)، والصلاة في اللغة: هي الدعاء (¬2)، فإذا تقدمت أمام الدعاء صارت كالمفتاح له، وكذلك حصول الإجابة للداعي؛ لأنه دعاء بالغيب مستجاب كما في الصحيح. 3 - الجزم في الدعاء واليقين بالإجابة: ((فمن أعظم الشروط لقبول الدعاء الثقة باللَّه تعالى، وأنه على كل شيء قدير، فاللَّه تعالى لكمال قدرته يقول للشيء كن فيكون، قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬3)، ومما يزيد ثقة المسلم بربه - عز وجل - أن يستيقن أن جميع خزائن الخيرات والبركات عند اللَّه تعالى، قال سبحانه: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (¬4) (¬5). وقد أمرنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن نعزم حال دعائنا فقال: ((إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ وَلَا يَقُلْ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ فَأَعْطِنِي فَإِنَّهُ لَا ¬

(¬1) عمل اليوم والليلة للنسائي، ص 166، وصححه الألباني في: صحيح النسائي، برقم 1297، وصحيح الترغيب والترهيب، برقم 1659. (¬2) الصحاح، ص 596. (¬3) سورة النحل، الآية 40. (¬4) سورة الحجر، الآية 21. (¬5) شروط الدعاء للمؤلف، ص 29.

مُسْتَكْرِهَ لَهُ)) (¬1). قوله: ((فليعزم)) أي يحسن الظن باللَّه في الإجابة؛ لأنه يدعو رباً كريماً جواداً قديراً، وإذا تأكد هذا الأمر في قلب العبد، فليدعُ مستيقناً بإجابة ربه تعالى له، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ)) (¬2). واللَّه تعالى يجيب دعاء عبده على قدر حسن ظنه به، قال تعالى في الحديث القدسي: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ))، وفي لفظ: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ)) (¬3)، ففيه ترغيب من اللَّه تعالى لعباده بتحسين ظنونهم، وأنه تعالى يعاملهم على حسبها، فمن ظنّ به خيراً أفاض عليه جزيل خيراته، وأسبل عليه جميل تفضلاته، ونثر عليه محاسن كراماته وعطائه، ومن لم يكن في ظنه هكذا، لم يكن اللَّه تعالى له هكذا، فعلى العبد أن يكون حسن الظن بربه في جميع حالاته، ويستعين ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب ليعزم المسألة فإنه لا مكره له، 8/ 74، برقم 6337، صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب العزم بالدعاء، ولا يقل: إن شئت، 4/ 2063، برقم 2678. (¬2) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا عبد الله بن معاوية، 5/ 517، برقم 3479، المستدرك، 1/ 670، وصححه الألباني في: صحيح الترمذي، برقم 3479، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 594. (¬3) أخرجه أحمد، 15/ 35، برقم 9076، والطبراني في المعجم الكبير 22/ 87، وصححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1663.

4 - الإلحاح في الدعاء وعدم الاستعجال.

على تحصيل ذلك باستحضاره ما ورد من الأدلة الدّالّة على سعة رحمة اللَّه ـ)) (¬1). 4 - الإلحاح في الدعاء وعدم الاستعجال. وهذا هو الأدب الجميل للمؤمن الصادق الراغب فيما عند اللَّه تعالى، ويدل على سمة من سمات العبودية الدّالّة على افتقار الداعي، وَذُلِّهِ إلى ربه العزيز الكريم، ففي الإلحاح يلج الداعي إلى باب الملك العظيم، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: ((من يكثر قرع باب الملك يوشك أن يستجاب له)) (¬2). والإلحاح في اللغة: الإقبال على الشيء، ولزومه، والمواظبة عليه، يقال: ألحَّ السحاب: دام مطره (¬3). والسنة في الإلحاح أن يلحَّ ثلاثاً، فعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً)) (¬4). وعنه أيضاً - رضي الله عنه - أنه قال: ((كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُعْجِبُهُ أَنْ يَدْعُوَ ثَلاَثًا وَيَسْتَغْفِرَ ثَلاَثًا)) (¬5). ¬

(¬1) تحفة الذاكرين، ص 12. (¬2) شرح السنة للبغوي، 5/ 191. (¬3) النهاية في غريب الحديث، 4/ 236. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين، 3/ 1418، برقم 1794. (¬5) سنن أبي داود، كتاب الوتر، باب في الاستغفار، 1/ 561، برقم 1526. مسند أحمد، 6/ 290، برقم 3744. وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود، برقم 269.

وفي حديث قصة سحره - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا ((فدعا، ثم دعا، ثم دعا)) (¬1). ولا يكره الزيادة على ثلاث لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دعا لجند أحمس ورجالها خمساً)) (¬2). ويكون الإلحاح في الدعاء بذكر ربوبيته - عز وجل -، فهو من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء، كما في غالب أدعية القرآن الكريم، وكذلك التوسل إليه بإلاهيته وأسمائه وصفاته، وأن ذلك من أعظم ما يطلب به إجابة الدعاء كما في الحديث الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب)) الحديث (¬3). وما جاء في الإلحاح بذكر أسمائه وصفاته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)) (¬4). ومعنى ألظوا: أي الزموا هذه الدعوات، وأكثروا منها. ومن الإلحاح في الدعاء تكرير الطلب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ ¬

(¬1) متفق عليه، صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب تكرير الدعاء، 8/ 83، برقم 6391، صحيح مسلم، كتاب السلام، باب السحر، 4/ 1720، برقم 2189، واللفظ له. (¬2) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة ذي الخلصة، برقم 4355، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، برقم 2476. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، 2/ 703، برقم 1015. (¬4) مسند أحمد، 29/ 138، برقم 17596، وسنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا محمد بن حاتم، 5/ 539، برقم 3524، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 172.

سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ، وَمَنِ اسْتَجَارَ مِنَ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنْ النَّارِ)) (¬1). وجاء في الحديث القدسي أن الإلحاح سبب في غفران الذنوب مهما عظمت وحصول المطالب، قال اللَّه في الحديث القدسي: ((يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلاَ أُبَالِي)) (¬2). وكان السلف يرون أن أفضل الدعاء الإلحاح على اللَّه تعالى، قال الأوزاعي رحمه اللَّه: ((كان يُقال: أفضل الدعاء الإلحاح على اللَّه، والتضرع)) (¬3). قال ابن القيم رحمه اللَّه: ((وأحب خلقه إليه أكثرهم وأفضلهم له سؤالاً، وهو يحب الملحِّين في الدعاء، وكلما ألحَّ العبد عليه في السؤال أحبَّه وأعطاه)) (¬4). وقول المؤلف - حفظه اللَّه -: ((وعدم الاستعجال)): يشير إلى ¬

(¬1) سنن الترمذي، كتاب صفة الجنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في صفة أنهار الجنة، 4/ 699، برقم 2572، سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب صفة الجنة، 2/ 1453، برقم 4340، سنن النسائي، كتاب الاستعاذة، الاستعاذة من النار، 8/ 279، برقم 5521، مسند أحمد،21/ 288، برقم 13755، وصححه العلامة الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 319. (¬2) رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب في فضل التوبة والاستغفار وما ذكر من رحمة الله لعباده، 5/ 548، برقم 3540، مسند أحمد، 35/ 375، برقم 21472، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 127. (¬3) شعب الإيمان، 2/ 38. (¬4) حادي الأرواح، 1/ 181.

قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: قَدْ دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي)) (¬1)، وفي لفظ لمسلم: ((لا يَزَالُ يُسْتَجابُ لِلْعَبْدِ مَا لَمْ يَدْعُ بإثم أو قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لم يستعجلْ)) قيل: يا رَسول اللَّه، ما الاستعجال؟ قال: ((يقول: قد دعوتُ، وقد دَعَوتُ، فلَمْ أرَ يَستجيبُ لي، فَيَسْتَحْسِرُ عند ذلك، ويَدَعُ الدعاءَ)) (¬2). وهذا يدل على أن من موانع الإجابة: الاستعجال في الدعاء. وقوله: ((قد دعوت، وقد دعوت)): أي مرة بعد مرة، يعني مرات كثيرة، استبطاءً للإجابة، ((وهذا بمنزلة من بذر بذراً أو غرس غرساً، فجعل يتعاهده ويسقيه، فلما استبطأ كماله وإدراكه تركه وأهمله)) (¬3)، وهذا يدل على جهل الداعي، وعدم معرفته وفهمه لمقاصد الشارع، فإن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يزال يستجاب))، يدلّ على تأكيد حصول الاستجابة وعظمها، هذا ما أفاده حرفا ((السين والتاء))، وكذلك يدلّ على استمرارية الإجابة كلما تكررت الدعوة، كما أفاد الفعل المضارع ((يستجاب))، فيحسن بالعبد الصالح ملازمة الطلب والسؤال، والإلحاح، وإن تأخرت الإجابة، قال بعض الصالحين: ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل، 8/ 74، برقم 6340، وصحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، 4/ 2059، برقم 2735. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب حمد الله تعالى بعد الأكل والشرب، برقم 2735. (¬3) الجواب الكافي، ص 10.

ولعل الحكمة في المنع من ذلك:

((لا يكنْ تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجباً ليأسك، فهو الذي ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد)) (¬1)؛ لأنه تعالى هو أحكم الحاكمين، وهو أرحم الراحمين، فهو أرحم بك من نفسك، فالعبد لا يعرف المصلحة: هل في حصول مطلوبه بالسرعة، أوفي تأخيره، أو دفع بلاء آخر لا يدريه، أو ادخار الأجر في اليوم الآخر، وليجعل أمام عينيه في حال دعائه وسؤاله ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيان سعة فضل اللَّه، وعظيم إحسانه وإنعامه، وخيره الذي لاينفد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يَدُ اللَّهِ مَلْأَى، لَا يَغِيضُهَا (¬2) نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ (¬3) اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَدِهِ ... )) (¬4). ولعلّ الحكمة في المنع من ذلك: 1 - أن هذا القول يدل على تضجر قائله وملله، وهذا يؤدي إلى انقطاعه عن الدعاء، وتركه لأهمّ العبادات وأجلّها. وقد أشير إلى هذا في الحديث بقوله: ((فيستحسرعند ذلك ويدع الدعاء)). ¬

(¬1) الدعاء ومنزلته من العقيدة، 1/ 185. (¬2) أي: لا ينقصها. (¬3) أي: دائمة الصب، تصب العطاء صباً، لا ينقصها العطاء الدائم. (¬4) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، 9/ 122، برقم 4684، وصحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، 2/ 69، برقم 993.

2 - وهذا القول فيه اتهام للرب تبارك وتعالى، وتبخيل.

2 - ((وهذا القول فيه اتهام للرب تبارك وتعالى، وتبخيل للكريم الجواد الذي لا تعجزه الإجابة، ولا ينقصه العطاء)) (¬1). وليس معنى الاستعجال: سؤال اللَّه تعالى أن يعجل الإجابة للداعي، فقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الاستسقاء ((عاجلاً غير آجل)) (¬2) أي آجل، فيشرع للعبد سؤال اللَّه تعالى في تعجيل الإجابة له. 5 - حُضور القلب في الدعاء. هذا الأدب العظيم الذي هو من أعظم شروط إجابة الدعاء، ينبغي للعبد الداعي أن يحرص عليه أشدّ الحرص، وعليه أن يستحضر أنه يدعو رب السموات والأرض، فلائق بعظمته تعالى أن يدعوه العبد، ويكون قلبه حاضراً، ومستيقظاً للَّه تعالى، قال النووي رحمه اللَّه: ((اعلم أن مقصود الدعاء هو حضور القلب، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر، والعلم به أوضح من أن يذكر)) (¬3). وقد بيّن الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - خطورة الغفلة، وعدم يقظة القلب حال الدعاء، وأنه من موانع الإجابة، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فَإِذَا سَأَلْتُمْ اللَّهَ ¬

(¬1) الدعاء ومنزلته من العقيدة، 1/ 185. (¬2) سنن أبي داود، كتاب صلاة الاستسقاء، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم 1169، مسند أحمد، 29/ 607، برقم 18066، وسنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الدعاء في الاستسقاء، برقم 1269، وصحيح ابن خزيمة، 2/ 335، برقم 1416، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 1048. (¬3) الأذكار، ص 341.

أَيُّهَا النَّاسُ، فَاسْأَلُوهُ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ)) (¬1). وفي لفظ: ((ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ)) (¬2). قوله: ((وأنتم موقنون بالإجابة)): أي والحال أنكم موقنون بها، أي: كونوا عند الدعاء على حالة تستحقون بها الإجابة، أو أراد: وأنتم معتقدون أن اللَّه تعالى لا يخيبكم لسعة كرمه، وكمال قدرته، وإحاطة علمه ... )) (¬3). قال عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: ((إن اللَّه لا يقبل من مسمِّعٍ، ولا مراء، ولا لاعب، إلا داعٍ دعا يثبت من قلبه)) (¬4). فغفلة القلب حال الدعاء تبطل قوته، وتضعف أثره، فيصبح بمنزلة القوس الرخو جداً، فإن السهم يخرج منه خروجاً ضعيفاً، ولا يبلغ الهدف المقصود، ((هذا إذا كان يمكن للداعي إحضار قلبه، فأما إذا كان لا يمكنه، وليس في وسعه إلا الدعاء، فالدعاء أفضل من تركه)) (¬5). ¬

(¬1) مسند أحمد، 11/ 235، برقم 6655، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 1652. (¬2) سنن الترمذي، برقم 3479، تقدم تخريجه. (¬3) تحفة الأحوذي، 9/ 316. (¬4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم 606، وشعب الإيمان، للبيهقي، 2/ 51، ومصنف بن أبي شيبة، برقم 29270، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم 606. (¬5) الفتاوى البزازية، 4/ 42 نقلاً عن الدعاء ومنزلته، 1/ 189.

6 - الدعاء في الرخاء والشدة.

6 - الدعاء في الرخاء والشدة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكَرْبِ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ)) (¬1). والعبد الصالح يعرف ربه تعالى في كل أحواله وأوقاته، فهو يدعو ربه - عز وجل - في سرائه وضرائه، وشدته ورخائه، وصحته وسقمه، في فقره وفي غناه وفي كل أحواله، فمن كان كذلك كان اللَّه تعالى له سميعاً، قريباً، مجيباً، ومؤيداً ونصيراً إذا ما وقع في شدة وبلاء؛ فإن الجزاء من جنس العمل، ولهذا نجّى اللَّه - عز وجل - يونس - عليه السلام - من بطن الحوت؛ لأنه كان من المسبحين في رخائه قال تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (¬2). قال الحسن البصري: ((ما كان له صلاة في بطن الحوت، ولكنه قدم عملاً صالحاً في حال الرخاء، فذكره اللَّه تعالى به في حال البلاء، وإن العمل الصالح يدفع عن صاحبه)) (¬3). واستجاب ربنا تعالى لزكريا لدعائه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي ¬

(¬1) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب أن دعوة المسلم مستجابة، 5/ 462، برقم 3382، مسند أبي يعلى، 11/ 283، برقم 6396، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3382، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 593. (¬2) سورة الصافات، الآيتان: 143 - 144. (¬3) تفسير القرطبي، 15/ 83.

الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬1). أي أنهم كانوا ملازمين العبادة والطاعة في كل أحوالهم، لا يشغلهم عن ذلك أمر، كما أفاد ذلك الفعل المضارع ((يسارعون))، ومن أدلة السنة ما حكى لنا سيد الأولين والآخرين في قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة، فنجاهم اللَّه تعالى (¬2)؛ لأنهم عرفوه - عز وجل - في حال رخائهم، فأنجاهم يوم شدتهم؛ لذا ينبغي للعبد أن يجتهد غاية الاجتهاد في التقرب إلى اللَّه تعالى، وطلب مرضاته، والإكثار من الأعمال الصالحة، ودعائه حال الرخاء، حتى ينال ما يرجوه، فقد كانت وصية النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عنْهُمَا: ((تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ)) (¬3). والمراد بالمعرفة المطلوبة من العبد في الحديث هي: ((المعرفة الخاصة التي تقتضي ميل القلب إلى اللَّه تعالى بالكلية، والانقطاع إليه، والإنس به، والطمأنينة بذكره، والحياء منه، والهيبة له)) (¬4). ونقل الصحابة هذه الوصية لغيرهم من التابعين، قال رجل لأبي الدرداء: ((أوصني، فقال: اذكر اللَّه في السراء، يذكرك اللَّه - عز وجل - في ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 90. (¬2) انظر: صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، برقم 3465، ومسلم، كتاب العلم، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، والتوسل بصالح الأعمال، برقم 2743. (¬3) مسند أحمد، 5/ 19، برقم 2803، المستدرك، 3/ 541، المعجم الكبير للطبراني، 11/ 123، برقم 11243، وصححه الألباني في صحيح الجامع 2961. (¬4) جامع العلوم والحكم، ص 187.

7 - لا يسأل إلا الله وحده.

الضراء)) (¬1). وعنه أيضاً - رضي الله عنه -: ((ادع اللَّه في يوم سرائك؛ لعله أن يستجيب لك في يوم ضرائك)) (¬2). 7 - لا يسأل إلا اللَّه وحده. لأنه هو تعالى المنفرد في الإجابة والعطاء، فلا يسأل غيره، ولا يشرك معه أحداً كائناً من كان، كما في حديث ابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عنْهُمَا: (( ... وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ)) (¬3). وفي أمره - صلى الله عليه وسلم - أن لا يسأل إلا اللَّه تبارك وتعالى؛ ((لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل، والمسكنة والحاجة والافتقار، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على دفع الضرر، ونيل المطلوب، وجلب المانع، ودرء المضار، ولا يصلح الذل والافتقار إلاللَّه تعالى وحده؛ لأنه حقيقة العبودية)) (¬4). ومما لا يخفى أن إفراد اللَّه جل وعلا في السؤال، وغيره من أمور العبادة: من أعظم أسباب الغنى باللَّه تعالى، والانقطاع عن ¬

(¬1) حلية الأولياء، 1/ 209. (¬2) المصنف لعبد الرزاق، 11/ 180، وشعب الإيمان للبيهقي، 2/ 52. (¬3) سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب حدثنا أحمد بن محمد، 4/ 667، برقم 2516، مسند أحمد 4/ 410، برقم 2669، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 309. (¬4) جامع العلوم والحكم، 1/ 481.

8 - عدم الدعاء على الأهل، والمال، والولد، والنفس.

غيره، وهذا من كمال العبودية للَّه ربِّ العالمين، فعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: ((أصابتني فاقة، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوجدته يخطب الناس، وهو يقول: ((أَيُّهَا النَّاسُ وَاَللَّه مَهْمَا يَكُنْ عِنْدَنَا مَنْ خَيْرٍ فَلَنْ نَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَإِنَّهُ مَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ)) (¬1). 8 - عدم الدعاء على الأهل، والمال، والولد، والنفس. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلاَ تَدْعُوا عَلَى أَوْلاَدِكُمْ، ولاَ تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لاَ تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةَ يُسْألُ فِيهَا عَطَاءً فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ)) (¬2). ((لأن مقصود الدعاء منه جلب النفع، ودفع الضر، فإن الدعاء على هؤلاء لا مصلحة وراءه، بل هو الضرر المحض على الداعي نفسه)) (¬3). بل أمرنا الشارع أن ندعو لأنفسنا ولأهلينا بالخير، دخل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة وقد شق بصره، ثم قال: ((إن الروح إذا قبض تبعه البصر))، فضج ناس من أهله، فقال: ((لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ ¬

(¬1) هو في صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب الاستعفاف عن المسألة، 2/ 122، برقم 1469، ومسلم، كتاب الزكاة، باب فضل التعفف والصبر، 2/ 729، برقم 1053 بلفظ: ((مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ)) دون ذكر لفاقة أبي سعيد - رضي الله عنه -. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر، 4/ 2304، برقم 3009. (¬3) الدعاء، محمد الحمد، ص 40.

9 - خفض الصوت بالدعاء بين المخافتة والجهر.

بِالخَيْرِ، فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ)) (¬1). 9 - خفض الصوت بالدعاء بين المخافتة والجهر. قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬2). وقال جل وعلا: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ} (¬3). ((دلّت هذه الآية الكريمة على أن الأمر في الدعاء الوسط، وهو بقدر ما يسمع الداعي نفسه، ولا يسمع غيره)) (¬4). وذكر ابن القيم رحمه اللَّه تعالى في فوائد خفض الصوت والإسرار بالدعاء فوائد عديدة، وأسراراً بديعة، منها: 1 - ((أنه أعظم إيماناً. 2 - أنه أعظم في الأدب والتعظيم. 3 - أنه أبلغ في التضرع والخشوع. 4 - أنه أبلغ في الإخلاص. ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له، إذا حضر، 2/ 634، برقم 920. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 55. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 205. (¬4) انظر: الدعاء وأحكامه الفقهية، 1/ 128.

5 - أنه أبلغ في حضور القلب على الله تعالى في الدعاء.

5 - أنه أبلغ في حضور القلب على اللَّه تعالى في الدعاء. 6 - أنه دال على قرب صاحبه من اللَّه - عز وجل -. 7 - أنه أدعى لدوام الطلب والسؤال ... )) (¬1). 10 - الاعتراف بالذنب والاستغفار منه، والاعتراف بالنعمة وشكر اللَّه عليها. ((وهذا الأدب من أهم الآداب العظيمة أن يقدم الداعي بين يدي دعائه التوبة إلى اللَّه - عز وجل - من الذنوب، فإن تراكم الذنوب واجتماعها قد يكون سبباً من أسباب عدم إجابة الدعاء، قال يحيى بن معاذ الرازي: ((لا تستبطئ الإجابة إذا دعوت، وقد سددت طرقها بالذنوب (¬2)) (¬3). كما أن التوبة والأوبة والتقوى من أهم الأسباب لقبول الدعاء، ورفعه إلى رب الأرض والسماء، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬4). وقد جمع هذه المطالب المهمة سيد الاستغفار: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ ¬

(¬1) انظر: بدائع الفوائد، 3/ 106، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية، 15/ 15. (¬2) رواه البيهقي في شعب الإيمان، 2/ 54. (¬3) فقه الأدعية والأذكار، عبد الرزاق البدر، 2/ 260. (¬4) سورة المائدة، الآية: 27.

11 - عدم تكلف السجع في الدعاء.

إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ))، قَالَ: ((وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)) (¬1). 11 - عدم تكلف السجع في الدعاء. ((السجع هو: موالاة الكلام على روي واحد، ومنه سجعت الحمامة إذا رددت صوتها، وقال الأزهري: هوالكلام المقفى من غير مراعاة وزن)) (¬2). والمنهي عنه من السجع هو التكلف فيه، وذلك أن حال الداعي حال ذلة وضراعة، فالتكلف لا يناسب هذه الصفة، فقد يذهب الخشوع والتذلل حال الدعاء. وأما إذا جاء السجع على اللسان دون تكلف وعلى سليقته، فلا بأس بذلك، فإن معظم الأدعية في الكتاب والسنة قد جاءت مسجوعة. وقد ذم السلف السجع في الكلام، فعن عائشة رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا أنها ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب أفضل الاستغفار، 8/ 67، برقم 6306. (¬2) انظر: فتح الباري، 11/ 143.

12 - التضرع والخشوع والرغبة والرهبة.

قالت لابن أبي السائب [من قُصَّاص التابعين]: ((اجتنب السجع من الدعاء، فإن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا لا يفعلون ذلك)) (¬1). وجاء في صحيح البخاري من نصيحة ابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عنْهُمَا لأحد أصحابه، ومما قال فيها: ((فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه، فإني عهدت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه لا يفعلون إلا ذلك، يعني لا يفعلون إلا الاجتناب)) (¬2). 12 - التَّضرع والخشوع والرغبة والرهبة. ((الضراعة: الذل والخضوع والابتهال، يقال: ضَرَع، يضرعُ ضراعةً: خَضع وذلَّ، واستكان وتضرع إلى اللَّه: ابتهل (¬3). وهذا الأدب في غاية الأهمية للداعي: أن يدعو في حال تضرع وخشوع وخضوع وذلّ، فإن ذلك ((هو روح الدعاء ولبُّه ومقصوده، فإن الخاشع الذليل إنما يسأل مسألة مسكين ذليل قد انكسر قلبه)) (¬4). واللَّه تعالى يحب من عبده أن يتضرَّع إليه، ويتملق له، وأن يديم قرع بابه، قال تعالى: {ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ¬

(¬1) مسند أحمد، 43/ 19، برقم 25820. (¬2) صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب ما يكره من السجع في الدعاء، 8/ 74، برقم 6337. (¬3) انظر: شروط الدعاء للمؤلف حفظه الله، ص 50. (¬4) مجموع الفتاوى، 15/ 16.

13 - رد المظالم مع التوبة.

الْمُعْتَدِينَ} (¬1). وبيَّن تعالى أن من حكم البلاء كالأمراض والخوف ونقص الأموال والأنفس من أجلِّ مقاصده حمل العباد على الدعاء، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} (¬2). وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (¬3). ومن حسن الدعاء الجمع فيه بين الرغبة والرهبة، فإنها من سنن الأنبياء قبلنا، قال تعالى عن زكريا: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬4). 13 - ردُّ المظالم مع التوبة. وهذا المطلب من أعظم المطالب والمقاصد للداعي، ذلك أن الذنوب وتراكمها من الأسباب الرئيسة المانعة من قبول الدعاء والتوبة، ومفهوم المخالفة أن الأوبة من المعاصي والآثام توجب قبول الدعاء، وخير مثال على ذلك دعاء يونس - عليه السلام -: {لَا إِلَهَ إِلَّا ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 55. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 94. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 42. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 90.

وذلك أن الظلم نوعان:

أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬1)، وجاء من السنة ما يدل على ذلك. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ - عز وجل - طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (¬2)، وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (¬3)، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)) (¬4). وهذا الحديث الجليل دلّ في منطوقه ومفهومه على خطورة الظلم، وذلك أن الظلم نوعان: 1 - ظلم العبد مع ربه - عز وجل -. 2 - وظلم العبد مع خلقه تعالى. ولا شك أن مأكل الحرام وملبسه ومشربه والتغذي به داخل في هذه المظالم بنوعيها، والعبد مأمور باجتنابهما في كل أحواله، ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 87. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 51. (¬3) سورة البقرة، الآية: 172. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، 2/ 703، برقم 1015.

14 - الدعاء ثلاثا.

حتى يكون دعاؤه مقبولاً عند ربه - عز وجل -. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فأنى يستجاب لذلك)): استفهام وقع على وجه التعجب والاستبعاد، وليس صريحاً في استحالة الاستجابة، ومنعها بالكلية، وفضل اللَّه واسع)) (¬1). قال بعض السلف: ((لا تستبطئ الإجابة وقد سدَدْتَ طرقها بالمعاصي)) (¬2). والمظالم توجب العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)) (¬3). والبغي: هو الظلم. ولاشك أن من أعظم العقوبات الدنيوية: ردّ الدعاء. 14 - الدّعاء ثلاثاً. وقد تقدّم عند شرح الإلحاح في الدعاء. ¬

(¬1) جامع العلوم والحكم، 1/ 206. (¬2) المرجع السابق، 1/ 108. (¬3) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في النهي عن البغي، 4/ 426، برقم 4904، سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والزهد، باب حدثنا علي بن حجر، 4/ 664، برقم 2511، سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب البغي، 2/ 1408، برقم 4211، المستدرك، 2/ 356، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2511، وصحيح الترغيب والترهيب، برقم 2537.

15 - استقبال القبلة.

15 - استقبال القبلة. ((إن من آداب الدعاء أن يستقبل الداعي القبلة وقت دعائه، ذلك أن القبلة هي الجهة الفاضلة التي أمر اللَّه المسلمين بالاتجاه إليها في عبادتهم، فكما أنها قبلة للمسلمين في الصلاة، فهي قبلة لهم في الدعاء)) (¬1). وكلما كانت الدعوة من الأهمية بمكان كبير تأكد هذا الاستحباب، وقد دلّ على ذلك فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقائع كثيرة: ففي يوم بدر حين نظر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - القبلة، ثم مدّ يديه فجعل يهتف بربه (¬2). وعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - عنه قال: ((استقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - الكعبة فد عا على نفر من قريش ... )) (¬3). وهذا الأدب في الدعاء حال استقبال القبلة هو الأكمل للداعي والأفضل، إلا أنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء غير مستقبل القبلة في عدة أحاديث. ¬

(¬1) فقه الأدعية والأذكار، عبد الرزاق البدر، 2/ 198. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم، 3/ 1483، برقم 1763. (¬3) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - على كفار قريش، 5/ 74، برقم 3960، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين والمنافقين، 3/ 1420، برقم 1794.

16 - رفع الأيدي في الدعاء.

ولهذا عقد البخاري رحمه اللَّه في صحيحه: باب الدعاء غير مستقبل القبلة. قال القرطبي: والدعاء حسن كيفما تيسر، وهو المطلوب من الإنسان؛ لإظهار وضع الفقر والحاجة إلى اللَّه - عز وجل -، والتذلل له والخضوع، فإن شاء استقبل القبلة ورفع يديه فحسن، وإن شاء فلا، فقد فعل ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - حسبما ورد في الأحاديث (¬1). 16 - رفع الأيدي في الدعاء. وهذا أدب عظيم يدلّ على ذُلِّ الداعي، واستكانته، وخضوعه بين يدي خالقه العظيم يمد يديه إليه راغباً راهباً، طامعاً بنزول بركاته، وخيراته، ونعمائه الجليلة، وكلما عظمت حاجة المخلوق، واشتدت رغبته، زاد في إلحاحه، وبالغ في رفع يديه متذللاً متوسلاً، وقد جاء رفع اليدين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة حتى عدها بعض أهل العلم في جملة ما تواتر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2). وقد تقدم في فضائل الدعاء ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا خَائِبَتَيْن)) (¬3). وفي رفع اليدين فوائد ومنافع كثيرة في العبودية للَّه تعالى: ¬

(¬1) تفسير القرطبي، 7/ 225. (¬2) ذكر السيوطي أنه ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - نحو مائة حديث في رفع يديه، في تدريب الراوي،2/ 180. (¬3) أخرجه الترمذي، برقم 3556، وتقدم تخريجه.

1 - في مد اليدين زيادة في التذلل والتمسكن.

1 - في مدّ اليدين زيادة في التذلّل والتّمسكن والافتقار للَّه رب العالمين حال الدعاء، وهذا هو روح العبادة. 2 - فيه إيقاظ القلب والفكر، وعدم الغفلة حال الدعاء. 3 - فيه وسيلة إلى خشوع القلب والجوارح، واستحضار ما يدعو به الداعي. 4 - فيه إقرار بقيومية اللَّه تعالى، وأنه قائم على كل شيء في تدبير كل الأمور، ومنها حال الداعي، فيستدعي ذلك كمال المراقبة للَّه تعالى. 5 - فيه إقرار لكرم اللَّه تعالى، وعظيم إحسانه، واستشعار جوده، وكرمه، كمثل الفقير يمدّ يديه إلى الغني، يأمل منه العطاء، والحالة هنا أجلّ، وأكبر؛ لأنّها كمال الفقر من العبد، وكمال العز والغنى للرب. 6 - فيه إقرار من العبد لعلو ربه تعالى فوق كل شيء، فله العلو المطلق من كل الوجوه: علوّ القدر، وعلوّ القهر، وعلوّ الذات، فيصير [اللَّه - عز وجل -] للقلب صمداً يتجه إليه تعالى في دعائه المطلق. 7 - فيه استشعار عظمة الخالق تعالى، وأنه فوق عرشه، فوق سبع سمواته، وهو يسمعه ويراه، ويعلم بحاله، ولا يخفى عليه شيء، فيثمر له الحب والتعظيم، وكمال التوحيد والعبودية.

* صفة رفع الأيدي حال الدعاء:

فدلّ هذا الأدب الجليل على استجماع مراتب العبودية للَّه تعالى الظاهرة والباطنة. * صفة رفع الأيدي حال الدعاء: عن عكرمة، عن ابن عباس رَضْيَ اللَّهُ عنْهُمَا مرفوعاً وموقوفاً: ((المسألة: أن ترفع يديك حذو منكبيك، أو نحوهما، والاستغفار: أن تشير بإصبع واحدة، والابتهال: أن تمدّ يديك جميعاً))، وفي رواية: ((والابتهال هكذا: ورفع يديه، وجعل ظهورهما مما يلي وجهه)) (¬1). وقال العلامة بكر أبو زيد رحمه اللَّه معلقاً على هذا الحديث: ((وقد جاءت الأحاديث من فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - مُبيِّنة مقام كل حالة من هذه الصفات الثلاث، لا أنها من اختلاف التنوع فلينتبه، وبيانها كالآتي: المقام الأول: مقام الدعاء العام، ويسمى المسألة، ويقال الدعاء: وهو رفع اليدين إلى المنكبين، ونحوهما: ضاماً لهما، باسطاً لبطنهما نحو السماء، وظهورهما إلى الأرض ... وهذه هي الصفة العامة لرفع اليدين حال الدعاء مطلقاً ... المقام الثاني: الاستغفار، ويقال للإخلاص: وهو رفع إصبع واحدة، وهي السبابة من اليد اليمنى، وهذه الصفة خاصة بمقام الذكر والدعاء حال الخطبة على المنبر، وحال التشهد في الصلاة، ¬

(¬1) سنن أبي داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، 1/ 553، برقم 1491، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 1489، و1490.

المقام الثالث: الابتهال:.

وحال الذكر والتمجيد والتهليل، خارج الصلاة. المقام الثالث: الابتهال: وهو التضرع والمبالغة في المسألة، ويسمى أيضاً: دعاء الرهب، وصفته: رفع اليدين مداً نحو السماء حتى تُرى عفرة إبطيه: أي بياضهما، وهذه الصفة أخصّ من الصفتين السابقتين في المقام الأول، والثاني، وهي خاصّة في حال الشدة والرهبة، كحال الجدب، والنازلة، بتسلط العدو، ونحو ذلك من مقامات الرهب)) (¬1). وقد صحّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يدلّ على جواز رفع السّبابة في الدعاء، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَدْعُو بِإِصْبَعَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((أَحِّدْ أَحِّدْ))، أي الذي تطلب منه واحداً هو اللَّه تعالى، قَالَ الترمذي: إِذَا أَشَارَ الرَّجُلُ بِإِصْبَعَيْهِ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ، لَا يُشِيرُ إِلَّا بِإِصْبَعٍ وَاحِدَةٍ)) (¬2). 17 - الوضوء قبل الدعاء إن تيسَّر. وهذا من كمال الأدب وحسنه أن يكون الداعي على أحسن الأحوال من الطهارة: الحسية، والمعنوية، للتهيؤ لدعاء اللَّه تعالى وسؤاله، كما دلّ على ذلك دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - حين فرغ من حنين ... ¬

(¬1) تصحيح الدعاء، ص 116. (¬2) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا محمد بن بشار، 5/ 557، برقم 3557، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3557.

18 - أن لا يعتدي في الدعاء

فدعا بماء فتوضأ ثم رفع يديه فقال: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ)) وَرَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ)) (¬1). وهذا الوضوء ليس بلازم، إذ المضطر قد لا يسعفه الوقت للاستعداد بالوضوء، فيتجه إلى اللَّه تعالى بالسرعة، فيجيبه اللَّه تعالى على حسب قوة إخلاصه ورجائه وتضرعه وخشوعه، ثم إنَّ الوضوء للدعاء ليس صفة دائمة في جميع دعوات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد نقلت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يذكر اللَّه في كل أحيانه (¬2)، ولايخفى أن الدعاء نوع من الذكر (¬3). 18 - أن لا يعتدي في الدعاء. نهى ربنا جل وعلا عن الاعتداء في الدعاء، فقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (¬4). وإن كان هذا النهي عن الاعتداء عموماً إلا أنّ فيه ما يدلّ على النهي عن الاعتداء في الدعاء من باب أولى؛ لأنه جاء النهي عقب الأمر بالدعاء، ((وتدلّ هذه المادة على التجاوز في الشيء، وتقدم ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة أوطاس، 5/ 155، برقم 4323، وصحيح مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين، رَضْيَ اللَّهُ عنْهمَا، 4/ 1934، برقم 2498. (¬2) انظر: صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب ذكر اللَّه تعالى في حال الجنابة وغيرها، برقم 373. (¬3) الدعاء ومنزلته في العقيدة، 1/ 207، 208. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 55.

ومن صور الاعتداء في الدعاء ما يأتي:

لما ينبغي أن يقتصر عليه، والتعدي: تجاوز ما ينبغي أن يقتصر عليه، والاعتداء مشتق من العدوان)) (¬1). وصور الاعتداء كثيرة لا تحصى في هذه الوريقات، فمنها ما قد يبلغ إلى حد الكفر والعياذ باللَّه كدعاء غير اللَّه تعالى، فإنه أعظم أنواع الاعتداء وأشده، ومنها دون ذلك ومن صور الاعتداء في الدعاء ما يأتي: 1 - سؤال ما لا يليق بالشخص كطلب منازل الأنبياء، فعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ أنَّه سَمِعَ ابْنَهُ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ أَيْ بُنَىيّ، سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَتَعَوَّذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((إِنَّهُ سَيَكُونُ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ فِي الطُّهُورِ وَالدُّعَاءِ)) (¬2). 2 - ومنها: سؤال اللَّه تعالى ما لا يجوز أن يسأله: كسؤاله المعونة على المحرمات، وارتكاب الذنوب. 3 - ومنها: أن يسأل اللَّه ما عُلم من حكمته سبحانه أنه لا يفعله كأن يسأل تخليده إلى يوم القيامة، أو أن يكون ملكاً. 4 - ومن العدوان أن يدعو اللَّه تعالى بغير تضرّع وخشوع، كالمستغني ¬

(¬1) معجم مقاييس اللغة، 4/ 349، الدعاء ومنزلته في العقيدة، 1/ 172. (¬2) سنن أبي داود، كتاب الوتر، باب في الدعاء، 1/ 551، برقم 1482، والمستدرك، 1/ 162، والسنن الكبرى للبيهقي، 1/ 196، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 78.

5 - أن يدعو على أهله وماله وولده.

عن ربه. 5 - أن يدعو على أهله وماله وولده. 6 - ويدخل كذلك الدعاء بتعجيل العقوبة في الدنيا. 7 - أو يدعو على نفسه بالموت دون سبب شرعي كالفتنة في الدين. 19 - أن يبدأ الداعي بنفسه إذا دعا لغيره (¬1). عن أُبيّ بن كعب - رضي الله عنه - أن رَسُولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((كانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَدًا، فَدَعَا لَهُ، بَدَأَ بِنَفْسِهِ)) (¬2)، ويستشهد لذلك بعموم: ((ابدأ بنفسك)) (¬3). وجاء مثله في القرآن الكريم من دعاء إبراهيم - عليه السلام -: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (¬4)، ومن دعوات ¬

(¬1) قال المؤلف وفقه الله: ((قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بدأ بنفسه بالدعاء، وثبت أيضاً أنه لم يبدأ بنفسه، كدعائه لأنس، وابن عباس، وأم إسماعيل، وغيرهم. وانظر التفصيل في هذه المسألة في: شرح النووي لصحيح مسلم، 15/ 144، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 9/ 328، وفتح الباري شرح صحيح البخاري، 1/ 281)). (¬2) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء أن الداعي يبدأ بنفسه، 5/ 463، برقم 3385، سنن النسائي الكبرى، 6/ 391، برقم 11248، مسند أحمد، 45/ 64، برقم 21126، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3385. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة، برقم 997. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 41.

20 - أن يتوسل إلى الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا.

المؤمنين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} (¬1)، وكقوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬2). قال الساعاتي رحمه اللَّه: ((يعني إذا دعا لأحد بخير بدأ بنفسه، ثم عمم، اقتداء بأبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}، فتتأكد المحافظة على ذلك، وعدم الغفلة عنه، وإذا كان لا أحد أعظم من الوالدين ولا أكبر حقاً على المؤمنين منهما، ومع ذلك قدم الدعاء لنفسه عليهما في القرآن الكريم في غير موضع، فيكون على غيرهما أولى)) (¬3). قال المؤلف حفظه اللَّه: ((وثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يبدأ بنفسه، كدعائه لأنس، وابن عباس، وأم إسماعيل - رضي الله عنهم -)) (¬4). 20 - أن يتوسَّلَ إلَى اللَّهِ بأسمائِهِ الحُسْنَى وصفاتِهِ العُلا، أو بِعَملٍ صالحٍ قامَ به الدَّاعي نفسُه، أو بِدِعاءِ رجلٍ صالحٍ حيٍّ حاضرٍ. ذكر المؤلف حفظه اللَّه أنواع التوسل المشروعة حال الدعاء، فإنها أرجى في قبول الدعاء واستجابته. ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية: 10. (¬2) سورة محمد، الآية: 19. (¬3) الفتح الرباني، 14/ 272. (¬4) انظر: شروط الدعاء، ص 67.

والتوسل من الوسيلة وهي: القربة والطاعة، وما يتوصّل به إلى الشيء، ويتقرب به إليه (¬1)، قال الراغب: ((الوسيلة: التوصل إلى الشيء برغبة، وهي أخص من الوصيلة لتضمنها لمعنى الرغبة)) (¬2). قا ل اللَّه تعا لى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} (¬3). ومعنى قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: ((أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه)) (¬4). وأول هذه الأنواع في التوسلات وأعظمها وأفضلها: التوسل إلى اللَّه تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬5). وهو أن يقدم الداعي اسماً من أسمائه الحسنى ما يناسب المطلوب: كأن يقول: يا رحمن ارحمني، يا غني اغنني، يا غفور اغفر لي، أو أن يتوسل بالأسماء الحسنى المضافة، كأن تقول: ارزقني يا خير الرازقين، ارحمني يا أرحم الراحمين، ومثل ذي الجلال والإكرام، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَلِظُّوا بِيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)) (¬6). ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث، ص 972. (¬2) مفردات ألفاظ القرآن، ص 871. (¬3) سورة المائدة، الآية: 35. (¬4) تفسير ابن كثير، 2/ 76. (¬5) سورة الأعراف، الآية: 180. (¬6) مسند أحمد، برقم 17596، وسنن الترمذي، برقم 3524، وتقدم تخريجه.

ومعنى ألظوا: الزموه، واثبتوا عليه، وأكثروا من قوله والتلفظ به في دعائكم (¬1). أو يتوسل باسم دالٍّ على معانٍ كثيرة: مثل: ((الرب)) كما في غالبية أدعية القرآن، وكذلك اسم ((الصمد))، و ((المجيد))، و ((العظيم))، وكذلك بالاسم الأعظم المتضمن لكل الأسماء الحسنى والصفات العلا، أو يتوسل بصفة من صفاته كقوله تعالى: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬2)، فقنا: من الوقاية وهي من الصفات الفعلية، وكالتوسل بصفة العلم والقدرة، كما في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ أَحْيِنِي)) (¬3). وكذلك يستعاذ بصفاته جل وعلا: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي)) (¬4). النوع الثاني: ((التوسل)): بعمل صالح قام به الداعي نفسه: ((كأن يقول الداعي: اللَّهم بإيماني بك، أو محبتي لك، أو باتباعي لرسولك أن تغفر لي)). ومن ذلك أن يذكر الداعي عملاً صالحاً ذا بال، فيه خوف من ¬

(¬1) النهاية في غريب الحديث، ص 836. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 191. (¬3) مسند الإمام أحمد، 30/ 265، برقم 18325، سنن النسائي، كتاب السهو، نوع آخر، 3/ 54، برقم 1305، مصنف ابن أبي شيبة، 10/ 264، المستدرك، 1/ 524، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1301. (¬4) صحيح مسلم، كتاب العلم، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، 4/ 2086، برقم 2717.

اللَّه سبحانه، وتقواه إياه، وإيثار رضاه على كل شيء، وطاعته له جل شأنه ... ثم يتوسل به إلى اللَّه تعالى في دعائه ليكون أرجى لقبوله وإجابته)) (¬1). والأدلة على ذلك كثيرة جداً، منها دعاء المؤمنين: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬2). وقصة أصحاب الغار، فقد كان كل واحد منهم يقول: ((فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا)) (¬3). النوع الثالث: أو بدعاء رجل صالح حي حاضر له: ((كأن يقع المسلم في ضيق شديد، أو تحل به مصيبة كبيرة، ويعلم في نفسه التفريط في جنب اللَّه تبارك وتعالى، فيحب أن يأخذ بسبب قوي إلى اللَّه تعالى، فيذهب إلى رجل يعتقد فيه الصلاح والتقوى، أو الفضل والعلم بالكتاب والسنة، فيطلب منه أن يدعو له ليُفْرَج عنه كربه، ويزول عنه همه)) (¬4). يدل على ذلك حديث أنس - رضي الله عنه - عندما جاء الأعرابي والنبي - صلى الله عليه وسلم - ¬

(¬1) شروط الدعاء للمؤلف، ص 56. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 16. (¬3) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، 4/ 173، برقم 3465، صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب قصة أصحاب الغار الثلاثة، والتوسل بصالح الأعمال، 4/ 2100، برقم1743. (¬4) شروط الدعاء للمؤلف، ص 57 - 58.

يخطب يوم الجمعة، فشكا له ما هم فيه من الشدة، فدعا له - صلى الله عليه وسلم - فلم ينزل من منبره حتى رأيت المطر، يتحادر من لحيته (¬1). ومن ذلك سؤال أبي هريرة - رضي الله عنه - للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو لأمه بالهداية إلى الإسلام، فدعا لها، فهداها اللَّه تعالى (¬2). وكذلك توسل الصحابة - رضي الله عنهم - بدعاء العباس، فقد ثبت ((أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا - صلى الله عليه وسلم - فَاسْقِنَا، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ)) (¬3). والمراد بقوله: ((إنا نتوسل إليك بعمّ نبينا)) أي: بدعائه، والمعنى إنا كنا نتوسل بنبينا - صلى الله عليه وسلم - بدعائه لك، والآن بعد موته نتوسل إليك بدعاء عمّه. * التوسل إلى الله - عز وجل - بذكر حال الداعي وعجزه وضعفه: ((فكما أن اللَّه تعالى يحب من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه وصفاته ونعمه العامة والخاصة، فإنه يحب منه أن يتوسل إليه بضعفه وعجزه وفقره، وعدم قدرته على تحصيل مصالحه، ودفع ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، 2/ 12، برقم 933، مسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، 2/ 615، برقم 897. (¬2) مسلم، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب من فضائل أبي هريرة الدوسي - رضي الله عنه -، 4/ 1938، برقم 2491. (¬3) البخاري، كتاب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، 2/ 27، برقم 1010.

الأضرار عن نفسه)) (¬1). كما كان، من دعاء موسى - عليه السلام -: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (¬2). وكما في دعاء زكريا - عليه السلام -: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (¬3)، ((فتوسل إلى اللَّه تعالى بضعفه وعجزه، وهذا من أحب الوسائل إلى اللَّه تعالى؛ لأنه يدل على التبري من الحول، والقوة، وتعلق القلب بحول اللَّه وقوته)) (¬4). * التوسل إلى الله - عز وجل - بسابق نعمه وآلائه: كما في دعاء زكريا - عليه السلام -، فكان في آخره: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (¬5). فتوسل إلى اللَّه تعالى بسابق إنعامه عليه، وإحسانه في إجابة دعائه، ولم يرُدّه خائباً. ودعاء يوسف - عليه السلام -: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا ¬

(¬1) تيسير اللطيف المنان، ص 132. (¬2) سورة القصص، الآية: 24. (¬3) سورة مريم، الآية: 4. (¬4) تفسير ابن سعدي، ص 569. (¬5) سورة مريم، الآية: 4.

21 - أن يكون المطعم والمشرب والملبس من حلال.

وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (¬1). وكما جاء من دعوات الراسخين في العلم: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (¬2). فتوسلوا إلى اللَّه تعالى بسابق نعمته عليهم من الهداية والصلاح. ودعاء الوتر يدل على هذا المقصد: ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ)) (¬3). ففيه توسل للَّه تعالى بإحسانه وإنعامه على من سبق عليهم بالهداية والعافية والولاية ... فدل على أهمية هذا التوسل في إعطاء ما يرجو العبد في دينه ودنياه. واللَّه ـ يحبّ من عبده أن يتوسل إليه بأنواع التوسلات له في دعائه؛ لما في ذلك من كمال العبودية، [والتَّذَلُّلِ] له تعالى في كل الأحوال. 21 - أن يكون المطعم والمشرب والملبس من حلال. فمن أراد أن يكون مجاب الدعوة، فليجتهد في أن يكون مأكله ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 101. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 8. (¬3) سنن أبي داود، كتاب الوتر، باب القنوت في الوتر، 1/ 536، برقم 1427، سنن النسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر، 3/ 248، برقم 1745، سنن ابن ماجه، كتب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في القنوت في الوتر، 1/ 372، برقم 1178، مسند الإمام أحمد، 3/ 245، برقم 1718، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 1179.

22 - لا يدعو بإثم أو قطيعة رحم.

ومشربه وملبسه من الحلال، فللحلال سر عجيب في قبول الأعمال عند اللَّه تعالى، ومن آكدها الدعاء، وقد تقدم آنفاً قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، ... ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، ثُمَّ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ)) (¬1). وفي الحديث إشارة إلى أنه ينبغي الاعتناء بالحلال لمن أراد الدعاء أكثر من غيره (¬2). ولما سُئل سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: ((ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا عالم من أين مجيئها، ومن أين خرجت)) (¬3). 22 - لا يدعو بإثم أو قطيعة رحم. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا عَلَى الأرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّه تَعَالَى بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ اللهُ إيَّاها، أَوْ صَرفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ))، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَومِ: إِذاً نُكْثِرُ، قَالَ: ((اللهُ أكْثَرُ)) (¬4)، ¬

(¬1) مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، 2/ 703، برقم 1015. (¬2) شرح النووي، 7/ 100. (¬3) جامع العلوم والحكم، 1/ 275، وهو أيضاً في السيرة الحلبية، 2/ 507. (¬4) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب في انتظار الفرج وغير ذلك، 5/ 566، برقم 3573، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3573.

23 - أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

فدلّ على أن الدعاء بالإثم بجميع أنواعه، وقطيعة الرحم مانع من موانع إجابة الدعاء، ((ويدخل في الإثم الدعاء على سبيل الاختبار، فليس للعبد أن يختبر الرب - عز وجل -، ويدخل في قطعة الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم)) (¬1)، فليحذر الداعي من ذلك، وفي الحديث بشارة عظيمة لكل مسلم بأن اللَّه تعالى يجيبه إذا دعاه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُ أَكْثَر)) يعني: اللَّه أكثر إجابة، ففي هذا الحديث حثٌّ على الإكثار من الدعاء قدر الإمكان، فإنّ دعاءه مجاب في الحال، أو في المآل، أو يصرف السوء والضر عنه بما هو خير له من السؤال. 23 - أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ، ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ)) (¬2). قال ابن علان رحمه اللَّه: ((والخطاب للأمة الموجودين حقيقة، ولمن سيأتي بطريق التبع، وقوله: (أو ليوشكن اللَّه): [أو: عاطفة]: أي: ليكونن أحد الأمرين: إما امتثال ما أُمرتم به، أو وقوع ما أُنذرتم به ¬

(¬1) انظر: جامع أحكام القرآن للقرطبي، 2/ 208، والمنهاج في شعب الإيمان، 1/ 529. (¬2) أخرجه أحمد 38/ 332، رقم 23301)، والترمذي، كتاب الفتن، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، 4/ 468، رقم 2169، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2169، وصحيح الجامع الصغير، برقم 6947.

24 - الابتعاد عن جميع المعاصي.

في قوله: (ليوشكن اللَّه أن يبعث عليكم عقاباً منه) بجور الولاة، أو تسليط العداة، أوغير ذلك من البلاء، (ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)؛ لكون الحكمة الإلهية جعلته جزاء لما فرطتم فيه من ترك، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر)) (¬1). 24 - الابتعاد عن جميع المعاصي. الابتعاد عن المعاصي والذنوب بجميع أنواعها من أهم الأسباب لقبول الأعمال، ومنها الدعاء، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬2). فقد كان الأنبياء والمرسلون يحثون أممهم على التوبة والاستغفار؛ لما في ذلك من عظيم الثمرات الدنيوية والأخروية، قال تعالى مُبيِّناً عن نوح - عليه السلام -: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} (¬3). ¬

(¬1) دليل الفالحين، 1/ 481. (¬2) سورة المائدة، الآية: 27. (¬3) سورة نوح، الآيات: 10 - 12.

أوقات وأحوال وأماكن يستجاب فيها الدعاء:

أوقات وأحوال وأماكن يستجاب فيها الدعاء (¬1): من واسع فضل اللَّه تبارك وتعالى؛ الذي لا يحد ولا يعد، أنه - تعالى- مجيب للدعاء دون قيد بوقت أوحال أو زمان أو مكان على الإطلاق، إلا أنه تعالى من كمال كرمه وفضله، كذلك جعل في بعض الأوقات والأحوال والأماكن مزيداً من العناية بالإجابة والقربة؛ حثاً منه تعالى إلى اقتناصها، وتشمير ساعد الجد إلى العناية بها، وقد ذكر المؤلف وفقه اللَّه بعض الأوقات والأحوال والأماكن التي يستجاب فيها الدعاء، وهي على النحو الآتي: 1 - ليلة القدر. قال اللَّه - عز وجل -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬2). فعن عائشة رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا قالت: ((قُلْتُ يَا رَسُول اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: ((قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)) (¬3). 2 - جوف الليل الآخر. ¬

(¬1) انظر هذه الأوقات والأحوال والأماكن مع أدلتها بالتفصيل في الأصل، 3/ 975 - 1117. (¬2) سورة القدر، الآيات: 1 - 5. (¬3) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا قتيبة، 5/ 534، برقم 3513، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2789.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنَ الْعَبْدِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الآخِرِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ فَكُنْ)) (¬1)، وهذا قربٌ خاص يقتضي الإجابة والإثابة والعناية. وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسولَ اللَّه، أيُّ الدُّعاءِ أسْمَعُ؟ قال: ((جَوفُ اللَّيلِ الآخِرُ، ودُبُرَ الصلواتِ المكتوباتِ)) (¬2). اعلم يا عبد اللَّه أن هذا الوقت هو أشرف الأوقات، حيث ينزل رب العالمين إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل [نزولاً يليق بجلاله؛ والنزول من صفاته الفعلية التي يفعلها إذا شاء]، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ)) (¬3). قال ابن بطال رحمه اللَّه: ((هو وقت شريف، خصّه اللَّه تعالى [بالنزول فيه إلى السماء الدنيا في الثلث الآخر من الليل]، فيتفضل - سبحانه وتعالى - على عباده لإجابة دعائهم، وإعطاء سؤالهم، وغفران ذنوبهم، ¬

(¬1) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا قتيبة، 5/ 569، برقم 3579، سنن النسائي، كتاب المواقيت، باب النهي عن الصلاة بعد العصر، 1/ 279، برقم 572، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 1158. (¬2) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا قتيبة، 5/ 526، برقم 3499، وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح، برقم 968. (¬3) البخاري، أبواب التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل، 2/ 53، برقم 1145، مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، 1/ 521، برقم 758.

3 - دبر الصلوات المكتوبات.

وهو وقت غفلة وخلوة، واستغراق في النوم، واستلذاذ له، ومفارقة اللذة والدعة، صعب، ولا سيما أهل الرفاهية، وفي زمن البرد، وكذا أهل التعب، ولاسيما في قصر الليل، فمن آثر القيام لمناجاة ربه تعالى، والتضرع إليه مع ذلك، دلّ على خلوص نيته، وصحّة رغبته فيما عند اللَّه جل وعلا؛ فلذلك نبّه اللَّه عباده إلى الدعاء في هذا الوقت الذي تخلو فيه النفس من خواطر الدنيا، وعلقها، ليستشعر العبد الجد والإخلاص لربه)) (¬1). وهذا الوقت الشريف يا عبد اللَّه قد أثنى ربك جل وعلا على المستغفرين به، قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْاسْحَارِ} (¬2)، قال القرطبي: ((خصَّ السحر بالذكر؛ ... لأنه مظنة القبول، وقت إجابة الدعاء، وهو وقت التجليات الإلهية، وتنزل الفيوضات الربانية)) (¬3). والاستغفار نوع من أنواع الدعاء؛ لأن الدعاء يعمُّ ما كان دفعاً للمضارِّ، أو جلباً للمسارِّ، وذلك: إمّا ديني، أو دنيوي، والاستغفار من النوع الأول، وهو طلب دفع السوء والشرّ (¬4). 3 - دُبُر الصلوات المكتوبات. كما في حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - حين سأل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ الدُّعَاءِ ¬

(¬1) فتح الباري، 11/ 133، وما بين المعقوفين من كلام المصحّح سعيد بن علي بن وهف. (¬2) سورة آل عمران، الآية 17. (¬3) تفسير القرطبي، 4/ 25. (¬4) انظر: فتح الباري، 3/ 31، ومجموع الفتاوى، 10/ 239.

أَسْمَعُ؟ قَالَ: ((جَوْفَ اللَّيْلِ الْآخِرِ، وَدُبُرَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ)) (¬1). اختلف أهل العلم في معنى ((دبر)): هل هو آخر جزء من الصلاة، أي قبل السلام؛ لأن دبر كل شيء مؤخره؟، أو المراد به بعد انقضاء الصلاة، أي بعد السلام، كما في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} (¬2). أو المراد مجموع الأمرين؟ ذهب شيخ الإسلام وابن القيم أنه آخر الصلاة بعد التشهد وقبل السلام، قال ابن القيم: ودبر الصلاة يحتمل قبل السلام وبعده، وكان شيخنا يرجح أن يكون قبل السلام، فراجعته فيه فقال: دبر كل شيء منه، كدبر الحيوان (¬3). وقال شيخ الإسلام - رحمه الله - عن حديث معاذ الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ: ((يَا مُعَاذُ إِنِّي لأُحِبُّكَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَأَنَا أُحِبُّكَ، قَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لاَ تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)) (¬4). ¬

(¬1) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا محمد بن يحيى، 5/ 526، برقم 3499، والنسائي في الكبرى، كتاب الأذان، ما يستحب من الدعاء دبر الصلوات المكتوبات، 6/ 32، برقم 9854، وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 167. (¬2) سورة ق، الآية: 40. (¬3) زاد المعاد، 1/ 78. (¬4) مسند أحمد، 36/ 429، برقم 22119، سنن أبي داود، كتاب الوتر، باب في الاستغفار، 1/ 561، برقم 1524، المستدرك، 1/ 273، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 1362.

يتناول ما قبل السلام، ويتناول ما بعده أيضاً (¬1). والذي يظهر أنه يُراد به مجموعهما، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو قبل السلام وبعد السلام، واليك الأدلة: 1 - رغب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالذكر دبر كل صلاة، فقال: ((مُعَقِّبَاتٌ لَا يَخِيبُ قَائِلُهُنَّ، أَوْ فَاعِلُهُنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً)) الحديث (¬2). والمراد بعد السلام إجماعاً، ... والذكر نوع من الدعاء. 2 - ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا بعد الصلاة من ذلك، ففي حديث علي في صفة صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا: ((اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ، وَمَا أَخَّرْتُ، ... )) (¬3)، فقد جاء أنه دعا قبل السلام، وثبت أنه دعا بعد التسليم، وفيه: ((فإذا سلم من الصلاة قال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللَّهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) (¬4). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، 22/ 500. (¬2) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته، 1/ 418، برقم 596. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، 1/ 535، برقم 771. (¬4) مسلم، كتاب المساجد ومواقع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم 593، ومسند أحمد، 2/ 133، برقم 729.

4 - بين الأذان والإقامة.

ولفظ رواية الترمذي: ((ويقول عند انصرافه من الصلاة)) (¬1). ولهذا قال ابن القيم: ((ولعله كان يقوله في الموضعين)) (¬2). ومن الأدعية عن أبي أيوب قال: ما صليت وراء نبيكم إلا سمعته حين ينصرف يقول: ((اللهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطَايَايَ، وَذُنُوبِي كُلَّهَا ... )) (¬3). ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - بعد الصلاة: أن كعباً - رضي الله عنه - ذكر أن صهيباً حدثه أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند انصرافه من الصلاة: ((اللَّهمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي جَعَلْتَهُ لِي عِصْمَةَ أَمْرِي ... )) (¬4). وغيره من الأدعية، فدل على أن للدعاء بعد السلام موطناً عظيماً من مواطن الإجابة، واللَّه - عز وجل - أعلم. 4 - بين الأذان والإقامة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ الدُّعَاءَ لَا يُرَدُّ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَادْعُوا)) (¬5). ¬

(¬1) سنن الترمذي/ 5/ 487، برقم 3423، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3423، وصحيح أبي داود، 729. (¬2) زاد المعاد، 1/ 76. (¬3) رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة: الكبير، 8/ 227، 4/ 363، الصغير، 1/ 365، وقال في مجمع الزوائد، 10/ 111: ((رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وإسناده جيد)). (¬4) سنن النسائي، كتاب صفة الصلاة، نوع آخر من الدعاء عند الانصراف من الصلاة، 3/ 73، برقم 1346، صحيح ابن حبان، 5/ 373، صحيح ابن خزيمة، 1/ 366، المعجم الأوسط للطبراني، 7/ 141، وضعفه الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 146، والألباني في ضعيف النسائي، برقم 1346. (¬5) مسند أحمد،20/ 41، برقم 12584، وهذا لفظه، وسنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب في العفو والعافية، 5/ 577، برقم 3595، دون لفظة: ((فادعوا))، وهي مذكورة في مسند أبي يعلى، 6/ 353، برقم 3679، وصحح الشيخ الألباني لفظ الترمذي، في صحيح الترمذي، برقم 212، وفي صحيح الجامع، برقم 3408، وصحح لفظ أبي يعلى محققه حسين أسد.

5 - ساعة من كل ليلة.

وهذا الوقت المبارك ينبغي أن يشغل بالدعاء عن غيره من العبادات، فـ ((كثير من الناس يهملون الدعاء بين الأذان والإقامة، ويشتغلون بتلاوة القرآن، لا شك أنه عمل جليل، ولكن تلاوة القرآن لها وقت آخر، فكونك تستغل هذا الوقت بالدعاء والذكر أفضل؛ لأن الدعاء المقيد في وقته أفضل من الدعاء المطلق)) (¬1)، [ويشرع له أيضاً أن يجمع بين ذلك كله فيدعو، ويقرأ، والحمد للَّه] (¬2). 5 - ساعة من كل ليلة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ فِي اللَّيْلِ لَسَاعَةً، لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، يَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِلَّا أعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ)) (¬3). فينبغي للعبد أن يعتني بهذه البشارة الكريمة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن العبد لا بد له من صحوة حال تقلبه بالليل، فليغتنم أن يدعو فيها. ¬

(¬1) تسهيل الإلمام بفقه الأحاديث من بلوغ المرام، للعلامة صالح الفوزان، 6/ 325. (¬2) المصحح: سعيد بن علي بن وهف. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، 1/ 521، برقم 757.

6 - عند النداء للصلوات المكتوبة.

6 - عند النداء للصلوات المكتوبة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثِنْتَانِ لاَ تُرَدَّانِ - أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ - الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَعِنْدَ الْبَأْسِ حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُ بَعْضًا)) (¬1). 7 - عند نزول الغيث. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اُطْلُبُوا إجَابَةَ الدُّعَاءِ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجُيُوشِ وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَنُزُولِ الْغَيْثِ)) (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثِنْتَانِ مَا تُرَدَّانِ: الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَتَحْتَ المَطَرِ)) (¬3). 8 - عند زحف الصفوف في سبيل اللَّه. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثِنْتَانِ لاَ تُرَدَّانِ - أَوْ قَلَّمَا تُرَدَّانِ - الدُّعَاءُ عِنْدَ النِّدَاءِ، وَعِنْدَ الْبَأْسِ حِينَ يُلْحِمُ بَعْضُهُ بَعْضًا)) (¬4). 9 - ساعة من يوم الجمعة. عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: ((فِيهِ ¬

(¬1) سنن أبي داود، كتاب الجهاد، باب الدعاء عند اللقاء، 2/ 326، برقم 2542، والمستدرك، 2/ 113، والسنن الكبرى للبيهقي، 1/ 410، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 2215. (¬2) الأم للشافعي، 1/ 253، وحسّنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1469. (¬3) المستدرك، 2/ 114، وصححه، ووافقه الذهبي، والطبراني في المعجم الكبير، 6/ 135، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم 3078. (¬4) سنن أبي داود، برقم 2542، وتقدم تخريجه قبل حديثين.

سَاعَةٌ لا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئاً، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ)). وأشار بِيَدِهِ يقللها (¬1). وعند مسلم: ((وهي ساعة خفيفة))، وقوله: ((وهي ساعة خفيفة))، وفي اللفظ الآخر: ((أشار بيده يقللها)) ترغيباً فيها، وحضاً عليها؛ ليسارة وقتها، وغزارة فضلها، فإذا لم يعلم العبد وقت هذه الساعة، وكذا وقت ليلة القدر بالتحديد _ بعثه ذلك على الإكثار من الصلاة والدعاء، ولو بيَّن لاتّكل الناس على ذلك، وتركوا ما عداها، فالعجب بعد ذلك ممن يجتهد في طلب تحديدها (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يَوْمُ الْجُمُعَةِ ثِنْتَا عَشْرَةَ». يُرِيدُ سَاعَةً «لاَ يُوجَدُ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ - عز وجل - شَيْئًا إِلاَّ آتَاهُ اللَّهُ - عز وجل -، فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ)) (¬3). وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ)) (¬4). ورجح ابن القيم رحمه اللَّه وغيره من أهل العلم: ((أنّ الساعة ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجمعة، باب الساعة التي في يوم الجمعة، 2/ 213، برقم 935، واللفظ له، ومسلم، كتاب الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، 2/ 584، برقم 852. (¬2) من كلام ابن المنير، نقلاً عن الفتح، 2/ 489. (¬3) سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الإجابة أية ساعة هي في يوم الجمعة، 1/ 405، برقم 1050، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 963. (¬4) مسلم، كتاب الجمعة، باب في الساعة التي في يوم الجمعة، 2/ 584، برقم 853.

10 - عند شرب ماء زمزم مع النية الصادقة.

في يوم الجمعة هي بعد العصر)) (¬1). وقال ابن القيم رحمه اللَّه: ((وعندي أن ساعة الصلاة ساعة ترجى فيها الإجابة أيضاً، فكلاهما ساعة إجابة، وان كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة العصر)) (¬2). والعبد يحرص على الدعاء في هذين الوقتين، وخاصة آخر العصر، واللَّه أعلم. وأرجح الأقوال فيها أنها آخر ساعة من ساعات العصر يوم الجمعة، وقد تكون ساعة الخطبة والصلاة. 10 - عند شرب ماء زمزم مع النية الصادقة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ)) (¬3). 11 - في السجود. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ)) (¬4). ¬

(¬1) زاد المعاد، 2/ 388 - 397. (¬2) المصدر السابق نفسه، 2/ 394. (¬3) مسند أحمد، 23/ 140، برقم 14849، والمستدرك، 1/ 473، والسنن الكبرى للبيهقي، 5/ 148، وقال عنه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، تحت الحديث رقم 883: ((إسناده جيد، رجاله كلهم ثقات)). (¬4) مسلم، برقم 482، وتقدم تخريجه.

12 - عند الاستيقاظ من النوم ليلا، والدعاء بالمأثور في ذلك.

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهَدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ)) (¬1). قوله: ((فقمن)): أي حقيق وجدير أن يستجاب لكم، قال النووي رحمه اللَّه: ((فيه الحث على الدعاء في السجود، فيستحب أن يجمع في سجوده بين الدعاء والتسبيح)) (¬2)؛ لأن العبد يكون في غاية الذل والخضوع للَّه تعالى، وهذا قربٌ خاصٌّ يقتضي الإجابة والمعونة والتسديد كما سبق بيانه، حيث يضع أعز الأعضاء في الأرض للَّه تعالى ساجداً خاشعاً، فهو موقف ذليل، بين يدي عزيز. 12 - عند الاستيقاظ من النوم ليلاً، والدعاء بالمأثور في ذلك. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ تَعَارَّ (¬3) مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا، اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ ¬

(¬1) مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، 1/ 348، برقم 479. (¬2) شرح صحيح مسلم، 4/ 423. (¬3) تعارّ: ((هَبَّ من نومه واستَيْقَظ))، النهاية في غريب الحديث والأثر 1/ 505، وقال في موضع آخر، 3/ 434: ((أي إذا اسْتَيْقَظ ولا يكونُ إلاَّ يَقَظةً مع كَلامٍ)).

13 - إذا نام على طهارة ثم استيقظ من الليل ودعا.

وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ)) (¬1). قال ابن بطال رحمه اللَّه: ((وعد اللَّه على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن من استيقظ من نومه لهجاً لسانه بتوحيد ربه، والإذعان له بالملك، والاعتراف بنعمه يحمده عليها، وينزهه عما لا يليق به، بتسبيحه والخضوع له بالتكبير والتسليم له بالعجز عن القدرة إلا بعونه، أنه إذا دعاه أجابه، وإذا صلّى قبلت صلاته، فينبغي لمن بلغه هذا الحديث أن يغتنم العمل به، ويخلص نيته لربه ـ)) (¬2). ولا يخفى عليك يا عبد للَّه أهمية التوحيد، فإنه من أعظم الأسباب على الإطلاق في إجابة الدعاء، وقبول الأعمال، والفوز برضى الرحمن، ودخول أعلى الجنان. 13 - إذا نام على طهارة ثم استيقظ من الليل ودعا. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَبِيتُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ طَاهِرًا، فَيَتَعَارَّ مِنْ اللَّيْلِ، فَيَسْأَلُ اللَّهَ خَيْراً مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ)) (¬3). 14 - عند الدعاء بـ ((لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ ¬

(¬1) صحيح البخاري، أبواب التهجد، باب فضل من تعارّ من الليل فصلى، 2/ 54، برقم 1154. (¬2) نقلاً عن فتح الباري، 3/ 50، طبعة الريان للتراث. (¬3) مسند أحمد، 36/ 373، برقم 22.48، سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في النوم على طهارة، 4/ 470، برقم 5044، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 3288.

15 - دعاء الناس عقب وفاة الميت.

مِنَ الظَّالِمِينَ)). قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعْوَةُ ذِي النُّونِ، إِذْ دَعَا وهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬1)، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلاَّ اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ)) (¬2). لأنها جمعت من كمال التوحيد: 1 - الإقرار بوحدانية اللَّه تبارك وتعالى. 2 - تنزيهه عن الظلم لكمال عدله وحكمته. 3 - الإقرار بالذنب. 4 _ كمال الأد ب في السؤال؛ حيث لم يطلب من اللَّه تعالى بصيغة الطلب الصريحة، وإنما بالتعريض بالحال (¬3). 15 - دعاء الناس عقب وفاة الميت. عن أم سلمة رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا قالت: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شُقَّ بَصَرُهُ، فَأَغْمَضَهُ ثُمَّ قَالَ: ((إِنَّ الرُّوحَ إِذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ))، فَضَجَّ نَاسٌ مِنْ أَهْلِهِ، فَقَالَ: ((لاَ تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ بِخَيْرٍ، فَإِنَّ ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 87. (¬2) مسند أحمد، 3/ 66، برقم 1462، سنن الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا محمد بن يحيى، 5/ 529، برقم 3505، المستدرك، 1/ 505، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 168. (¬3) انظر: الأدعية القرآنية، رقم 27.

16 - الدعاء بعد الثناء على الله والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير:

الْمَلاَئِكَةَ يُؤْمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ)). ثُمَّ قَالَ: ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ فِي الْمَهْدِيِينَ، وَاخْلُفْهُ فِي عَقِبِهِ فِي الْغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ افْسَحْ لَهُ فِي قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ لَهُ فِيهِ)) (¬1). 16 - الدعاء بعد الثناء على اللَّه والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهّد الأخير: وهو موطن عظيم من مواطن الإجابة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدعو ويستعيذ فيه في الأمور المهمة العظام، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((مَا صَلَّى نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أرْبَعَاً أوِ اثْنَتَيْنِ إلاَّ سَمِعْتُهُ يَدْعُو: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الصَّدْرِ، وَسُوءِ الْمَحْيَا وَالمَمَاتِ)) (¬2). وفي رواية: ((كَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ)) (¬3). والأحاديث في فعله - صلى الله عليه وسلم - وإقراره كثيرة، فمنها: عن عبد اللَّه بن مسعود - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كُنْتُ أُصَلِّي وَالنَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مَعَهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَدَأْتُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ، ثُمَّ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ دَعَوْتُ لِنَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ)) (¬4). ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر، 2/ 634، برقم 920. (¬2) صحيح ابن حبان، 3/ 283، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على الكتاب، وصححه الشيخ الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، على الحديث رقم 998. (¬3) مسلم، كتاب المساجد مواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، 1/ 413، برقم 590، موطأ مالك، 2/ 301. (¬4) سنن الترمذي، أبواب الدعاء، باب ما ذكر في الثناء على الله والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الدعاء، 2/ 488، برقم 593، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 593.

17 - عند دعاء الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب،

ورواية أبي يعلى: ((كنت في المسجد أُصلي، فدخل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ومعه أبو بكر وعمر، ... ثم دعوت لنفسي، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((سل تعط))، ثم قال: ((من أحب أن يقرأ القرآن غضاً فليقرأه كما يقرأ ابن أم عبد))، قال: فرجعت إلى منزلي، فأتاني أبو بكر فقال: هل تحفظ مما كنت تدعو شيئاً؟ قلت: نعم، اللَّهمَّ إني أسألك إيماناً لا يَرتدُّ، ونعيماً لا ينفد، ومرافقة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أعلى جنة الخلد، فأتى عمر عبد اللَّه ليبشره فوجد أبا بكر خارجاً قد سبقه، فقال: إن فعلت إنك لسبّاق بالخير)) (¬1). 17 - عند دعاء اللَّه باسمه العظيم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى (¬2). أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - أن للَّه تعالى الاسم الأعظم، من دعا به أجابه تعالى، وأعطاه منواله، وقد جاءت عدة أحاديث، منها: سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يقول: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ))، فَقَالَ: ((قَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ)) (¬3). ¬

(¬1) مسند أبي يعلى، 1/ 26، برقم 17، وقال عنه محققه حسين أسد: ((إسناده حسن))، وانظر شرحه في الحديث رقم 121. (¬2) انظر اسم الله الأعظم في حديث رقم 203، و104، و105 من هذا الكتاب. (¬3) مسند أحمد، 38/ 64، برقم 22965، واللفظ له، والترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب جامع الدعوات عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، 5/ 515، برقم 3475، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 163، برقم 2765.

18 - دعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب.

((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ، [يا] بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ)) (¬1). قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما سمع رجلاً يصلي ويدعو بهذا الدعاء: ((لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى)) (¬2). فاحرص عليهما في دعائك. 18 - دعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدعُو لأخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ إلاَّ قَالَ المَلَكُ: وَلَكَ بِمثْلٍ))، وفي لفظ: ((دَعوَةُ المَرءِ المُسْلِمِ لأخِيهِ بِظَهْرِ الغَيْبِ مُستَجَابَةٌ، عِندَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأخِيهِ بخيرٍ قال المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ: آمين، وَلَكَ بِمثْلِ)) (¬3). قال النووي رحمه اللَّه: ((بظهر الغيب)): أي في غيبته المدعو له وفي سره، لأنه أبلغ في الإخلاص، ولو دعا لجماعة من المسلمين ¬

(¬1) أبو داود في الوتر، باب الدعاء، 1/ 554، برقم 1497، والترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا محمد بن حاتم، 5/ 539، برقم 3524، والنسائي في صفة الصلاة، باب الدعاء بعد الذكر، 3/ 52، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 5/ 233. (¬2) أبو داود في الوتر، باب الدعاء، 1/ 554، برقم 1497. وانظر: تخريج الحديث السابق. (¬3) مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب، 4/ 2094، برقم 2733.

حصلت هذه الفضيلة ولو دعا لجملة المسلمين، فالظاهر حصولها أيضاً، وكان بعض السلف إذا أراد أن يدعو لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة، لأنها تُستجاب ويحصل له مثلها)) (¬1). قال العلامة ابن عثيمين رحمه اللَّه: (( ... فالملك يؤمّن على دعائك إذا دعوت لأخيك بظهر الغيب، ويقول: ((لك بمثله، وهذا يدل على فضيلة هذا، لكن هذا فيمن لم يطلب منك أن تدعو له، أما من طلب منك أن تدعو له فدعوت له، فهذا كأنك شاهد، لأنه يسمع كلامك؛ لأنه هو الذي طلب منك، لكن إذا دعوت له بظهر الغيب بدون أن يخبرك، ويطلب منك فهذا هو الذي فيه الأجر، وفيه الفضل واللَّه الموفق)) (¬2). وهذه البشارة الجليلة من النعم العظيمة للداعي والمدعو له، فإن الداعي ينال الإجابة المتحققة له، وللمدعو له، والأجر والثواب العظيم لاتّباعه أمر الشارع، فاحرص على الدعاء لإخوانك المسلمين كي تنال هذه الفضائل الزكية في الدنيا والآخرة، ولا تنسَ أن يكون لك نصيبٌ من الدعاء للمستضعفين من المؤمنين كما كان من دعاء المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)) (¬3). ¬

(¬1) شرح صحيح مسلم للنووي، 17/ 49. (¬2) شرح رياض الصالحين، 4/ 73. (¬3) متفق عليه: البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}، 6/ 48، برقم 4598، مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب القنوت في جميع الصلاة، إذا نزلت بالمسلمين نازلة، 1/ 476، برقم 675، وفي روايات في الصحيحين: (أنجِ) بالهمز.

19 - دعاء يوم عرفة في عرفة.

19 - دعاء يوم عرفة في عرفة. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) (¬1). 20 - الدعاء في شهر رمضان. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ وَسُلْسِلَتْ الشَّيَاطِينُ)) (¬2)، وفي لفظ لمسلم: ((إِذَا كَانَ رَمَضَانُ فُتِحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ)) (¬3). وفتح أبواب الجنة إيذان بقبول الدعاء والأعمال. 21 - عند اجتماع المسلمين في مجالس الذكر. كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: ((إِنَّ للَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ ... ))، وفي آخر الحديث يقول اللَّه - عز وجل -: ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب دعاء يوم عرفة، 5/ 572، برقم 3585، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 184، برقم 2837. (¬2) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده، 4/ 123، برقم، 3277. (¬3) مسلم، كتاب الصيام، باب فضل شهر رمضان، 2/ 758، برقم 1079.

22 - عند الدعاء في المصيبة.

((فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ)) (¬1). 22 - عند الدعاء في المصيبة بـ ((إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا)). عن أم سلمة رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا أنها قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: مَا أَمَرَه اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَاخْلُفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا، إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا)) (¬2). 23 - الدعاء حالة إقبال القلب على اللَّه، واشتداد الإخلاص. فهو السبب الأعظم والأهم لإجابة الدعاء، فكلما اشتد الإخلاص، وإقبال القلب على اللَّه جل وعلا وحده، كانت الإجابة أرجى وأقرب للإجابة والقبول: قال الشوكاني - رحمه الله -: ((أقول: هذا الأدب هو أعظم الآداب في إجابة الدعاء، لأن الإخلاص هو الذي تدور عليه دوائر الإجابة، وقد قال اللَّه تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله - عز وجل -، 8/ 86، برقم 6408،واللفظ له، ومسلم، كتاب العلم، باب فضل مجالس الذكر، 4/ 2069، برقم 2689. (¬2) مسلم، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند المصيبة، 2/ 631، برقم 918.

24 - دعاء المظلوم على من ظلمه.

الْكَافِرُونَ} (¬1)، فمن دعا ربه غير مخلص، فهو حقيق ألا يجاب إلا أن يتفضل اللَّه عليه، وهو ذو الفضل العظيم)) (¬2). فحيثما وجد الإخلاص كانت الإجابة معه؛ وللإخلاص عند اللَّه تعالى موقع وذمة: وجد من مؤمن أو كافر، طائع، أو فاجر (¬3). وهذا من كمال فضل اللَّه تعالى، وسعة عدله ورحمته حتى مع أشد أعدائه. وقد بيَّن اللَّه تعالى لنا في كتابه كيف أجاب دعاء الكافرين حال كربهم واضطرارهم، وذلك لشدة إخلاصهم وتعلق قلوبهم به، وإفراده بالدعاء والسؤال. قال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} (¬4)، فهو تعالى يعلم أنهم سيعودون إلى شركهم وكفرهم، فأجابهم لشدة ضرورتهم وإخلاصهم، فدلَّ على عظم هذا المطلب الجليل. وقد تقدَّم ما جاء في قصة أصحاب الغار. قال ابن عقيل - رحمه الله -: ((يقال: لا يُستجاب الدعاء بسرعة إلا لمخلص أو مظلوم)) (¬5). 24 - دعاء المظلوم على من ظلمه. ¬

(¬1) سورة غافر، الآية: 14. (¬2) تحفة الذاكرين، ص 56. (¬3) انظر: جامع أحكام القرآن، 13/ 223. (¬4) سورة العنكبوت، الآية: 65. (¬5) كتاب الفنون لابن عقيل، نقلاً من كتاب الدعاء، د. محمد الحمد، ص 85.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل - رضي الله عنه - عندما بعثه إلى اليمن: ((اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)) (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ)) (¬2)، وقال: ((اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ)) (¬3). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: ... وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ - عز وجل -: وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ)) (¬4). لأنه تبارك وتعالى من كمال عدله أنه حرَّم الظلم على نفسه، وحرمه على عباده، والظلم محرم حتى مع الكافر والفاجر، قال النووي رحمه اللَّه عن معنى: ((فإنه ليس بينها وبين اللَّه حجاب)): ((أي ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب المظالم، باب الاتقاء والحذر من دعوة المظلوم، 3/ 129، برقم 2448، مسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، 1/ 50، برقم 91. (¬2) مسند أحمد، 14/ 398، برقم 8795، وسند الطيالسي، برقم 2450، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 767. (¬3) مسند أحمد، 20/ 22، برقم 12549، والأحاديث المختارة للضياء محمد بن عبد الواحد بن أحمد الحنبلي المقدسي، 3/ 182، وحسنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 260. (¬4) مسند أحمد 13/ 410، برقم 8043، بلفظه، والترمذي، كتاب صفة الجنة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها، 4/ 673، برقم 2526، وابن ماجه، كتاب الصيام، باب في الصائم لا ترد دعوته، 1/ 557، برقم 1752، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 2/ 692 - 693.

25 - دعاء الوالد لولده، وعلى ولده.

أنها مسموعة لا ترد)) (¬1). وقال ابن حجر: ((أي ليس لها صارف يصرفها ... )) (¬2). 25 - دعاء الوالد لولده، وعلى ولده. فإن من عظم حق الوالد على ولده أنّ اللَّه تعالى بحكمته قد جعل دعاءه له مستجاباً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ لاَ تُرَدُّ دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ)) (¬3). وكذلك مستجابة إذا دعا عليه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ)) (¬4). فلخطورة هذا الأمر ينبغي للوالد أن يعوّد نفسه الدعاء لولده بالصلاح، والخير، والتوفيق، والسداد، وأن يكتم غيظه قدر ما أمكن، فإن في ساعة الغضب تخرج دعوات لا يُؤمن شرُّها. فليتأس بدعوات الأنبياء والصالحين لذرياتهم، فمن دعوات ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 1/ 197. (¬2) فتح الباري، 3/ 422. (¬3) السنن الكبرى للبيهقي، 3/ 345، والضياء في المختارة، 2/ 426، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1797. (¬4) مسند أحمد، 12/ 479، برقم 7510، الترمذي، كتاب البر والصلة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء في دعوة الوالدين، 4/ 314، برقم 1905، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب دعوة الوالد ودعوة المظلوم، 2/ 1270، برقم 3862، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2741، وصحيح ابن ماجه، برقم 3115.

26 - دعاء المسافر.

إبراهيم - عليه السلام -: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} (¬1)، {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} (¬2)، وعباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (¬3). 26 - دعاء المسافر. كما في الحديث السابق: ((ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ)) لما كان السفر قطعة من العذاب كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ)) (¬4). وانفراده عن الصديق والحميم والأهل فينشأ عن ذلك انكسار النفس الذي من أعظم أسباب إجابة الدعاء، وهو حقيقة العبودية والذل والافتقار إلى اللَّه تبارك وتعالى، ويخلص العبد في ذلك للَّه تعالى، واللَّه تعالى لسعة كرمه ورحمته بعباده، يجيب دعاءه لمن هذه حاله، ومتى طال السفر كان أقرب إلى الإجابة. ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 40. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 35. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 74. (¬4) صحيح البخاري، كتاب العمرة، باب السفر قطعة من العذاب، 3/ 8، برقم 1804، صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب السفر قطعة من العذاب واستحباب تعجيل المسافر إلى أهله، بعد قضاء شغله، 3/ 1526، برقم 1927.

27 - دعاء الصائم حتى يفطر.

27 - دعاء الصائم حتى يُفطر. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلاثَةٌ لا تُرَدُّ دَعْوَتُهم: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرُ، والإِمَامُ العادلُ، ودعوةُ المَظْلُومِ، يَرْفَعُها اللهُ فوقَ الغَمَامِ، ويَفْتَحُ لها أَبْوَابُ السماء، ويقول الرَّبُّ: وعِزَّتي لأنصُرَنَّكِ وَلَو بَعدَ حِينٍ)) (¬1). قال الحكيم الترمذي: (( ... فالصوم منع النفس عن الشهوات، وإذا ترك شهوته من أجله [اللَّه] صفا قلبه، وصارت دعوته بقلب فارغ، قد زايلته ظلمة الشهوات، وتولته الأنوار، فاستجيب له ... )) (¬2). 28 - دعاء الصائم عند فطره. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَة مَا تُرَدُّ)) (¬3). وهذه مزية ومنقبة عظيمة للصائم، فينبغي له أن يشغل حال صومه بالدعاء، قال النووي رحمه اللَّه: ((يُستحب للصائم أن يدعو في حال صومه بمهمات الآخرة والدنيا له وللمسلمين))، ثم (ذكر ¬

(¬1) سنن الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب في العفو والعافية، 5/ 578، برقم 3598، سنن ابن ماجه، كتاب الصيام، باب في الصائم لا ترد دعوته، 1/ 557، برقم 1752، صحيح ابن خزيمة، 3/ 199، برقم 1901، وقال الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 292: ((ضعيف ... وصح منه شطره الأول لكن بلفظ المسافر، وفي رواية الوالد مكان الإمام، سلسلة الأحاديث الصحيحة 596 - 797، التعليق على ابن خزيمة 1901. (¬2) نوادر الأصول، 1/ 451. (¬3) سنن ابن ماجه، كتاب الصيام، باب في الصائم دعوة لا ترد، 1/ 557، والمستدرك، 1/ 421، برقم 1753، شعب الإيمان للبيهقي، 3/ 407، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 480، وحسّنه الحافظ ابن حجر كما ذكر ذلك ابن علان صاحب الفتوحات الربانية، 4/ 342.

29 - عاء المضطر.

الحديث) ثم قال: فيقتضي باستحباب دعاء الصائم من أول اليوم إلى آخره؛ لأنه يسمى صائماً في ذلك)) (¬1). والصوم هنا يعم الفرض والنفل؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أطلق الصائم، ولم يقيده بوصف، والأصل بقاء الإطلاق على إطلاقه، وقد جعل اللَّه ـ آية الدعاء وسط آيات الصوم إرشاداً إلى الاجتهاد في الدعاء، والسبب أن الصوم من أخلص العبادات للَّه تعالى، وهو سر بين العبد وربه - عز وجل -، فكان جزاؤه الإجابة والقبول جزاء وفاقاً. 29 - دعاء المضطرّ. قال تعالى: {أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (¬2)، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أدْعُوكَ إِلَى اللهِ - عز وجل - وَحْدَهُ الَّذِي إِذَا مَسَّكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشَفَ عَنْكَ ... )) (¬3). والمضطر: ((المكروب المجهود)) (¬4)، وهو الذي انقطعت به السبل، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، فيلجأ إلى اللَّه تعالى باضطراره، واللَّه تبارك وتعالى يجيب المضطر إذا دعاه، ولو كان مشركاً لكمال عدله، وفضله، وسعة رحمته جل وعلا، فكيف ¬

(¬1) المجموع، 6/ 275. (¬2) سورة النمل، الآية: 62. (¬3) مسند أحمد، 34/ 239، برقم 20636، شعب الإيمان للبيهقي، 8/ 224، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 420. (¬4) تفسير البغوي، 6/ 17.

بالمؤمن الموحِّد للَّه تعالى؛ ولهذا ينبغي للمضطر ألا يذهل عن الدعاء في حال الاضطرار، فإنه مستجاب بالحال بوعد حق صادق من رب العالمين. جاء رجل إلى مالك بن دينار فقال له: إني أسألك باللَّه أن تدعو لي فأنا مضطر، فقال: إذاً فاسأله أنت، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه (¬1). قال القرطبي رحمه اللَّه: ((ضمن اللَّه تعالى إجابة المضطر إذا دعاه، وأخبر بذلك عن نفسه، والسبب في ذلك أن الضرورة إليه باللجأ ينشأ عن الإخلاص، وقطع القلب عما سواه، وللإخلاص عنده ـ موقع وذمة، وجد من مؤمن أو كافر، طائع أو فاجر)) (¬2). ومن أقوى الأدلة وأبينها في أنّ اللَّه تعالى يجيب دعاء المضطر في الحال: دعاء يونس - عليه السلام -، وأصحاب الصخرة الثلاثة في الغار. وذكر بعض أهل العلم صفة المضطر: كالغريق، أو المعطل في مفازة وقد أشرف على الهلاك، فكل من كان صاحبه مضطراً لا بد له أن يدعو لأجله (¬3). - دعاء الذاكر اللَّه كثيراً: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلَاثَةٌ لَا يُرَدُّ دُعَاؤُهُم: الذَّاكِرُون اللهَ كَثِيرًا، وَدَعْوَةُ ¬

(¬1) انظر: تفسير القرطبي، 13/ 223. (¬2) الجامع لأحكام القرآن، 13/ 223. (¬3) الدعاء المأثور، ص 71، والأزهية، ص 134.

30 - دعاء الإمام العادل.

الْمَظْلُومِ، وَالْإِمَامُ الْمُقْسِطُ)) (¬1)؛ لأنّ الذاكر معلق قلبه ولسانه في ذكر اللَّه تعالى، في ليله ونهاره، في سفره وحضره، فهو مع معية اللَّه تبارك وتعالى له حال ذكره، التي تقتضي الإجابة، والعناية والولاية، قال اللَّه - عز وجل - في الحديث القدسي: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي)) (¬2)، ومن كمال عدل اللَّه - عز وجل - وفضله أن جعل قاعدة عظيمة في الجزاء والبلاء في الدنيا والآخرة: ((الجزاء من جنس العمل))، فمن ذكر اللَّه تعالى في كل أحواله، جازاه اللَّه تعالى بالاستجابة حال دعائه، فإذا أردت أن تكون مجاب الدعوة، فالزم هذا المقام العظيم. 30 - دعاء الإمام العادل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ ... )) (¬3). 31 - دعاء الولد البار بوالديه. أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنّ من النعم على الوالدين أن يرزقا بولد صالح يكون سبباً للدعاء لهما بعد موتهما. قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقةٍ جَاريَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ ¬

(¬1) شعب الإيمان للبيهقي، 2/ 105، وحسنه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 211، برقم 1211. (¬2) مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى، 4/ 2067، برقم 2675. (¬3) سنن الترمذي، برقم 2526، مسند أحمد، 13/ 410، برقم 8043، وتقدم تخريجه.

32 - الدعاء عقب الوضوء إذا دعا بالمأثور في ذلك.

صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) (¬1). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((تُرْفَعُ لِلْمَيِتِ بَعْدَ مَوْتِهِ دَرَجَتُهُ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَيُّ شَيْءٍ هَذَهِ؟ فَيُقَالُ: وَلَدُكَ اسْتَغْفَرَ لَكَ)) (¬2). وفي هذا حث للوالدين على إصلاح ولدهما حال حياتهما، وتربيته على أحسن الأعمال، ووصيتهما له بالدعاء لهما بعد موتهما. 32 - الدعاء عقب الوضوء إذا دعا بالمأثور في ذلك. فقد جاء عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُبْلِغُ (أوْ فَيُسْبِغُ) الْوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، إِلَّا فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ)) (¬3). 33 - 34 - الدعاء بعد رمي الجمرة الصغرى. والوسطى: ((كَانَ [النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -] إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَمَامَهَا فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، وَكَانَ يُطِيلُ الْوُقُوفَ، ثُمَّ يَأْتِي ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، 3/ 1255، برقم 1631. (¬2) الأدب المفرد للبخاري، ص 28، برقم 36، وحسّن إسناده العلامة الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم 27. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الطهارة، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، 1/ 209، برقم 234.

35 - الدعاء داخل الكعبة، ومن صلى داخل الحجر فهو من البيت.

الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ، فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ يَنْحَدِرُ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ، فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا)) (¬1). - ولا شك أن الدعاء في مكة له ميزة؛ لحديث: عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: ((أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ (ثَلَاثَ مَرَّاتٍ) فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ)) (¬2). ففي الحديث تعظيم الدعاء بمكة عند الكفار، وما زادت عند المسلمين إلا تعظيماً (¬3). 35 - الدعاء داخل الكعبة، ومن صلى داخل الحِجْر فهو من البيت. عن أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضْيَ اللَّهُ عنْهُمَا: ((أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ, دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا)) (¬4). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الحج، بَاب رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ جَمْرَةِ الدُّنْيَا وَالْوُسْطَى، 2/ 178، برقم 1752. (¬2) البخاري، كتاب الوضوء، بَاب إِذَا أُلْقِيَ عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّي قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلَاتُهُ، 1/ 57، برقم 240. (¬3) فتح الباري، 1/ 419. (¬4) مسلم، كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة فيها والدعاء في نواحيها كلها، 2/ 968، برقم 1330.

36 - الدعاء على الصفا:

وعن عبد اللَّه بن عمر رَضْيَ اللَّهُ عنُْهمَا قال: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - الْبَيْتَ هوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلاَلٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِم، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ في أَوَّلِ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيتُ بِلاَلاً، فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ)) (¬1). وعَنْ عَائِشَةَ رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ الْجَدْرِ (¬2): أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: ((نَعَمْ))، قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: ((إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ)) (¬3)، ((ومن دعا داخل الحجر، فقد دعا داخل الكعبة لأن الحجر من البيت لما سبق من الأحاديث)) (¬4). 36 - الدعاء على الصفا: كما في حديث جابر - رضي الله عنه - في صفة حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفيه: ((فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ، فاستقبل القبلة، فوحَّدَ اللَّهَ وَكَبَّرهُ، وَقَالَ: ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ))، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ¬

(¬1) البخاري، كتاب الحج، بَابُ إِغْلَاقِ الْبَيْتِ وَيُصَلِّي فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ، 2/ 149، برقم 1598، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب دخول الكعبة للحاج وغيره والصلاة فيها والدعاء في نواحيها كلها، 2/ 967، برقم 1329. (¬2) الجدر: حجر الكعبة المعروف. (¬3) البخاري، كتاب الحج بَابُ فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا، 2/ 145، برقم 1584. (¬4) شروط الدعاء للمؤلف، ص 93.

37 - الدعاء على المروة.

ثَلاَثَ مَرَّاتٍ)) (¬1). 37 - الدعاء على المروة. ففعل النبي - صلى الله عليه وسلم - على المروة كما فعل على الصفا (¬2). 38 - الدعاء عند المشعر الحرام. قال جابر - رضي الله عنه - عن حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ، فَاسْتَقبلَ القِبْلَةً، فَدعَاهُ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ، ووَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، فدَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ)) (¬3). - وإذا كان الدعاء في المساجد، كان لذلك فضيلة على غيرها من البقاع؛ لأن المساجد أحبُّ البقاع إلى اللَّه تعالى. قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} (¬4). أمر اللَّه تبارك وتعالى نبيه والمؤمنين أن يخلصوا للَّه تعالى الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها (¬5). وتخصيص الدعاء بالمساجد يدل على أن الدعاء فيها أفضل وأجوب من الدعاء في غيرها، وكلما فضل المسجد كالمساجد ¬

(¬1) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، 2/ 888، برقم 1218. (¬2) المصدر السابق. (¬3) مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي - صلى الله عليه وسلم -، 2/ 891، برقم 1218. (¬4) سورة الجن، الآية: 18. (¬5) تفسير القرطبي، 19/ 16.

الثلاثة كانت الصلاة والدعاء فيه أفضل (¬1). ((والمؤمن يدعو ربه دائماً أينما كان: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (¬2)، ولكن هذه الأوقات، والأحوال، والأماكن تُخَصُّ بمزيد عناية)) (¬3). ¬

(¬1) مجموع الفتاوى، 27/ 130، وانظر: الدعاء وأحكامه الفقهية، 2/ 685. (¬2) سورة البقرة، الآية: 186. (¬3) كلام المؤلف حفظه الله تعالى، ووفقه لكل خير.

الدعاء من الكتاب والسنة

الدعاء من الكتاب والسنة الحمد للَّه وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. 1 - {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاط الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬1). بدأ المؤلف حفظه اللَّه تعالى بحمد اللَّه تعالى، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الدعاء من الكتاب؛ لأن هذا هو الأدب الجميل الذي ينبغي للداعي أن يبدأ به كما تقدم في آداب الدعاء التي ذكرها المؤلف (¬2). وأوّل هذه الأدعية الكريمة في كتاب ربنا - جل جلاله - في أعظم سورة من سور القرآن الكريم، وهي الفاتحة، التي سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - ((أم القرآن))؛ حيث قال: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ: أُمُّ الْقُرْآنِ، وَأُمُّ الْكِتَابِ، وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي)) (¬3)، وفي لفظ: ((أُمُّ الْقُرْآنِ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ ¬

(¬1) سورة الفاتحة، الآيات 1 - 7. (¬2) انظر هذه الآداب في الأصل رقم (2). (¬3) مسند أحمد، 15/ 491، برقم 9790، وسنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحجر، 5/ 297، برقم 3124، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 131.

هي أعظم سورة كما أخبر الصادق المصدوق

الْعَظِيمُ)) (¬1). وهي أعظم سورة كما أخبر الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - لأبي سعيد بن المعلى - رضي الله عنه -: ((لأُعَلِّمَنَّكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ ... {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ})) (¬2). وجاء في فضلها كذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ، وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلَ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَهِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَهِيَ مَقْسُومَةٌ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)) (¬3). وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هي آية من آياتها، حيث قال: ((إِذَا قَرَأْتُمُ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاقْرَءُوا (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إِنَّهَا أُمُّ الْقُرْآنِ، وَأُمُّ الْكِتَابِ، وَالسَّبْعُ الْمَثَانِي، وَ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إِحْدَاهَا)) (¬4). ¬

(¬1) البخاري، كتاب التفسير، بَاب قَوْلِهِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}، 6/ 81، برقم 4703. (¬2) البخاري، كتاب التفسير، بَاب مَا جَاءَ فِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، 6/ 17، برقم 4474. (¬3) مسند أحمد، 35/ 19، برقم 21094، سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ومن سورة الحجر، 5/ 297، برقم 3125، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3344. (¬4) أخرجه الدارقطني، برقم 118، السنن الكبرى للبيهقي، 2/ 45، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 3/ 179، برقم 1183.

الفائدة الأولى: التبرك بتقديم اسم الله - عز وجل -.

وسُمِّيت هذه السورة الجليلة بـ (أم القرآن)؛ لأنها شملت كل أنواع التوحيد الثلاثة: من ((معرفة الذات، والصفات، والأفعال، وإثبات الشرع، والقدر، والمعاد، وتجريد توحيد الربوبية والإلهية، والتوكل، والتفويض)) (¬1)، واشتملت كذلك على ((أنفع الدعاء، وأعظمه، وأحكمه)) (¬2)، وهو طلب الهداية التي هي أصل السعادة والفلاح في الدارين. قول تعالى: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}: ((الجار والمجرور متعلق بمحذوف؛ وهذا المحذوف يُقَدَّر فعلاً متأخِّراً مناسباً؛ فإذا قلت: ((باسم اللَّه))، وأنت تريد أن تأكل، تقدر الفعل: ((باسم اللَّه آكل)) قلنا: إنه يجب أن يكون متعلقاً بمحذوف؛ لأن الجار والمجرور معمولان؛ ولا بد لكل معمول من عامل. وقدرناه متأخراً لفائدتين: الفائدة الأولى: التبرُّك بتقديم اسم اللَّه - عز وجل -. والفائدة الثانية: الحصر؛ لأن تأخير العامل يفيد الحصر، كأنك تقول: لا آكل باسم أحد متبركاً به، ومستعيناً به، إلا باسم اللَّه - عز وجل - ... )) (¬3). ((أي: أبتدئ بكل اسم للَّه تعالى؛ لأنّ لفظ (اسم) مفرد ¬

(¬1) الضوء المنير على التفسير لابن القيم، 1/ 23. (¬2) مجموع الفتاوى، 14/ 320. (¬3) شرح سورة الفاتحة للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 1/ 4.

مضاف، فيعمّ جميع الأسماء الحسنى)) (¬1). (اللَّه): هذا الاسم الجليل هو أعظم الأسماء الحسنى، وأعلاها، تفرّد به تبارك وتعالى، وقد قبض اللَّه تعالى أفئدة الجاهلين، وألسنتهم على التسمّي به، من غير مانع، ولا وازع (¬2)، فلم يتجاسر أحد على التسمي به. ((فعلم أن اسمه (اللَّه) مستلزم لجميع معاني الأسماء الحسنى، دالٌّ عليها بالإجمال، والأسماء الحسنى تفصيل وتبيين لصفات الإلهية التي اشتق منها اسم اللَّه، واسم اللَّه دالٌّ على كونه مألوهاً معبوداً، تألهه الخلائق محبةً وتعظيماً وخضوعاً وفزعاً)) (¬3). وقد ذكر هذا الاسم في القرآن (2724) مرة (¬4). ولهذا عدّ جمعٌ من أهل العلم أنه اسم اللَّه الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى (¬5). وأصله: من (الإله): ((والإله في لغة العرب: أطلق لمعانٍ أربعة، وهي: المعبود، والملجأ، والمفزوع إليه، والمحبوب حباً عظيماً)) (¬6). ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، ص 27. (¬2) الأسنى للقرطبي، ص 348. (¬3) انظر: مدارج السالكين، 1/ 32. (¬4) أسماء اللَّه الحسنى، د. عمر الأشقر، ص 33. (¬5) انظر: اسم الله الأعظم، د. عبد الله الدميجي، ص 130. (¬6) منهج جديد لدراسة التوحيد، ص 15.

و {الرَّحْمَن، الرَّحِيم}: اسمان دالان على أنه تعالى ذو الرحمة الواسعة العظيمة، التي وسعت كل شيء، وعمَّت كل حيٍّ، و {الرَّحمن}: أشد مبالغة من {الرَّحيم}؛ لأن بناء فعلان أشد مبالغة من فعيل (¬1). ((وقوله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}: {الحمد} وصف المحمود بالكمال مع المحبة، والتعظيم: الكمال الذاتي، والوصفي، والفعلي؛ فهو كامل في ذاته، وصفاته، وأفعاله، ولا بدّ من قيد وهو ((المحبّة، والتعظيم))؛ قال أهل العلم: لأن مجرد وصفه بالكمال دون محبة، ولا تعظيم: لا يسمّى حمداً؛ وإنّما يُسمّى مدحاً؛ ... و (أل) في {الحمد} للاستغراق: أي استغراق جميع المحامد. وقوله تعالى: {للَّه}: اللام للاختصاص، والاستحقاق)) (¬2). وقوله تعالى: {ربِّ الْعَالَمِينَ}: الرب يطلق على: المالك، والسيد، والمدبر، والمربي، والقيّم، والمُنعم، ولا يُطلق غير مضاف إلاَّ على اللَّه تبارك وتعالى (¬3). و {العالمين}: ... هو كلّ ما سوى اللَّه تعالى، فهو من العالَم؛ ¬

(¬1) البدائع والفوائد، 1/ 24. (¬2) تفسير الفاتحة للعلامة ابن عثيمين، 1/ 9. (¬3) النهاية، 2/ 179، والمفردات، ص 184.

وُصفوا بذلك؛ لأنهم عَلَم على خالقهم ـ (¬1). والعوالم كثيرة: كعالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الملائكة، وعالم الطير، وعالم الدوّاب، وغيرها الكثير ما علمنا منها، وما لم نعلم، وقد ثبت في الحديث القدسي الجليل أن اللَّه تبارك وتعالى يقول: ((قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قاَلَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي ... )) (¬2). وقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}: الملك: احتواء الشيء والقدرة على الاستبدادية، النافذ الأمر في ملكه، المتصرف فيه كيف يشاء (¬3). و {الدين}: الجزاء والحساب. وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: جاء في الحديث القدسي السابق الذكر: ((فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)) (¬4). ¬

(¬1) تفسير الفاتحة لابن عثيمين، 1/ 10. (¬2) مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها 1/ 295، برقم 396. (¬3) لسان العرب، 6/ 4266، والنهاية، 4/ 352. (¬4) صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة وإنه إذا لم يحسن الفاتحة ولا أمكنه تعلمها قرأ ما تيسر له من غيرها، 1/ 296، برقم 395.

الهداية هي الدلالة

وقوله: {إياك}: ((مفعول به مقدَّم، وعامله: {نعبد}؛ وقُدِّم على عامله لإفادة الحصر؛ فمعناه: لا نعبد إلا إياك)) (¬1). والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه اللَّه تعالى ويرضاه من الأعمال، والأقوال الظاهرة، والباطنة، والاستعانة: طلب العون، وهي الاعتماد على اللَّه تعالى في جلب المنافع، ودفع المضار مع اليقين في تحصيل ذلك (¬2). فينبغي للعبد حينما يقرأ هذه الآية أن يستحضر أنه يخص ربَّه - عز وجل - بالعبادة والاستعانة في كل أموره وأحواله فلا غنى للعبد عن ربه تعالى طرفة عين. ثم شرع في سؤال أجلِّ المطالب، وأشرف المواهب، وهو سؤال اللَّه تعالى الهداية؛ فإن هذا الطلب أنفع الدعاء، وأعظمه، وأحكمه، وحاجة الناس إليه أعظم من حاجتهم إلى سائر الأدعية، ولهذا أُمر به كل مسلم أن يدعو به في كل ركعة من الصلاة، سبع عشرة مرة فرضاً، ولم يكن لأي دعاء آخر مثله. وقوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}: الهداية هي الدلالة ¬

(¬1) تفسير سورة الفاتحة لابن عثيمين، 1/ 13. (¬2) انظر: العبودية، ص 80، والقواعد الحسان، ص 155.

1 - هداية دلالة وإرشاد وعلم.

والإرشاد (¬1)، وهي نوعان: 1 - هداية دلالة وإرشاد وعلم، وهذه الدلالة التي يملكها الرسل، والعلماء والدعاة. 2 - هداية دلالة توفيق وعمل، التي لا يملكها إلا ربّ العزة والجلال، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (¬2) (¬3). فالعبد حينما يدعو بهذا الدعاء العظيم ينبغي له أن يستحضر هذا المطلب العظيم، وما دلّ عليه من معانٍ جليلة، فيقول: أي يا ربنا دلّنا وأرشدنا، ووفقنا إلى التمسك بصراطك المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، الموصل إلى دارك جنات النعيم، فإن من ثبت عليه في الدنيا، ثبت ((قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط)) (¬4). وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}: فيه توسل إلى اللَّه تعالى بنعمه، وإحسانه إلى من أنعم اللَّه عليه، وإحسانه إلى من أنعم عليه بالهداية، وهذا من التوسلات الجليلة (¬5)، التي يحسن بالداعي ¬

(¬1) المفردات للراغب، ص 536. (¬2) سورة القصص، الآية: 56. (¬3) بدائع الفوائد، ص 330 - 333. (¬4) انظر: مدارج السالكين، 1/ 52، وتفسير الفاتحة للعلامة ابن عثيمين، 1/ 16. (¬5) الضوء المنير على التفسير، 1/ 40.

الاعتناء بها حال دعائه، أي أن الداعي يقول: ((قد أنعمت بالهداية على من هديت، وكان ذلك نعمة منك، فاجعل لي نصيباً من هذه النعمة، واجعلني واحداً من هؤلاء المنعم عليهم، فهو توسّل إلى اللَّه بإحسانه ... ولما كان سؤال اللَّه الهداية إلى الصراط المستقيم، أجلّ المطالب، ونيله أشرف المواهب: علّم اللَّه عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده، والثناء عليه، وتمجيده، ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسل إليه بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يرد معهما الدعاء)) (¬1). وقوله: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} هم المذكورون في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬2). وقوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقد فسّر - صلى الله عليه وسلم - {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، قال: ((هم اليهود))، و {الضَّالِّينَ}، قال: ((النصارى))، ((فإن اليهود مغضوب عليهم وإن النصارى ضُلاَّل)) (¬3). ويدخل في المغضوب عليهم: ((كل من علم بالحق ولم يعمل ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن كثير، 1/ 130. (¬2) سورة النساء، الآية: 69. (¬3) الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة فاتحة الكتاب، برقم 2953، ورقم 2954، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 3263.

به)) (¬1). وكذلك يدخل في الضالين: ((كل من عمل بغير الحق جاهلاً به)) (¬2). فقد جاء في الحديث القدسي أن اللَّه تعالى يقول: (( ... فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} (¬3)،قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ)) (¬4). ((ويستحب كذلك [التأمين] لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حق المصلي، وسواء كان منفرداً أو إماماً أو مأموماً، وفي جميع الأحوال؛ لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذَا أمَّنَ الإمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (¬5)) (¬6). ومعنى ((آمين)): قال الجوهري: ((معنى آمين: كذلك فليكن، وقال الترمذي: معناه: لا تُخَيِّبْ رجَاءَنا. وقال الأكثرون: معناه: ¬

(¬1) تفسير سورة البقرة لابن عثيمين، 1/ 17. (¬2) المصدر السابق. (¬3) سورة الفاتحة، الآيتان: 6 - 7. (¬4) صحيح مسلم، برقم 395، وتقدم تخريجه. (¬5) البخاري، كتاب الأذان، باب جهر الإمام بالتأمين، 1/ 156، برقم 780. ومسلم، كتاب الصلاة، باب التسميع والتحميد والتأمين، 1/ 397، برقم 410. (¬6) تفسير ابن كثير، 1/ 64.

اللَّهُمَّ استَجِبْ لَنَا)) (¬1). فاحرص يا عبد اللَّه أن تؤمِّن في دعائك حينما تقرأ هذه السورة العظيمة؛ فإن ((التأمين طلب الإجابة من الرب سبحانه، واستنجازها فهو تأكيد لما تقدم من الدعاء وتكرير له)) (¬2). وأختم بكلام نفيس لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه اللَّه في أهمية تدبر وتأمل ما جاء في هذه السورة الجليلة ((فإذا تأمل العبد هذا، وعلم أنها نصفان: نصف للَّه تعالى، وهو أولها إلى قوله: {إيَّاكَ نَعْبُدُ}، ونصف للعبد دعاء يدعو به لنفسه، وتأمل أن الذي علّمه هذا هو اللَّه تعالى، وأمره أن يدعو به، ويكرره في كل ركعة، وأنه سبحانه من فضله وكرمه، ضمن إجابة هذا الدعاء إذا دعاه، وأخلص، وحضور قلب تبيّن له ما أضاع أكثر الناس)) (¬3). ويقول رحمه اللَّه فيما ينبغي للمعلم أن يعلمه: ((ومن أعظم ما تنبهه عليه: التضرع عند اللَّه، والنصيحة، وإحضار القلب في دعاء الفاتحة إذا صلَّى)) (¬4). وإذا أردت يا عبد اللَّه أن تقتطف من ثمار هذه السورة الكريمة، فاستحضر كل كلمة تقرؤها، وما دلّت عليه من معنى، وكذلك فاجعل الحديث القدسي السابق الذكر مرآة أمام ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) تحفة الذاكرين، ص 38. (¬3) الدرر السنية، 10/ 28. (¬4) المصدر السابق، 1/ 115.

تضمنت هذه الدعوات المباركات جملا عديدة من الفوائد، منها:

عينك، واستحضر كلام الرب - عز وجل - بكل يقين إذا ما قلت: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال لك الرّبُّ - عز وجل -: ((حمدني عبدي))، وهكذا، فإنه سوف يفتح عليك باباً عظيماً من لذة القلب، وبرد اليقين، وانشراح الصدر، والسكينة، والطمأنينة، والتوفيق إلى الإحسان، المؤذن للإجابة والقبول. تضمنت هذه الدعوات المباركات جملاً عديدة من الفوائد، منها: 1 - افتقار كل العباد إلى طلب الهداية من اللَّه - جل جلاله -، حتى الأنبياء والرسل. 2 - ((بلاغة القرآن))؛ حيث حذف حرف الجر من ((اهدنا))، والفائدة من ذلك: لأجل أن تتضمن طلب الهداية التي هي هداية العلم، وهداية التوفيق)) (¬1). 3 - ((إسناد النعمة إلى اللَّه تعالى وحده في هداية الذين أنعم اللَّه عليهم؛ لأنها فضل محض من اللَّه تبارك وتعالى)) (¬2). 4 - إن سؤال اللَّه تبارك وتعالى الهداية هو أجلّ المطالب، ونيله أشرف المواهب، الذي لم يُعطَ أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه. 5 - أنه كلما أكثر الداعي من أنواع التوسل إلى اللَّه تعالى كان أرجى له في قبول دعائه. ¬

(¬1) تفسير سورة الفاتحة للعلامة ابن عثيمين، 1/ 16. (¬2) المصدر السابق.

أ - توسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا.

6 - جمعت في هذه السورة العظيمة جملاً من أنواع التوسل: أ _ توسّلٌ إلى اللَّه تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا: (اللَّه، الرب، الرحمن، الرحيم، مالك يوم الدين والهداية إلى الصراط المستقيم). ب _ وتوسلٌ بالعمل الصالح: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. جـ- توسل إليه تعالى بنعمه وإحسانه: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ} وهذه الوسيلة الجليلة لا يكاد يرد معها الدعاء. 7 - عَلَّم اللَّه تعالى في هذه السورة الكريمة كيفية دعائه وذلك أن يقدم الداعي: أ-حمده. ب _ والثناء عليه وتمجيده. جـ- ذكر أسماء حسنى تناسب المطلوب. د- توحيده وإخلاص العبودية له. هـ- التأمين بعد الدعاء. فاجتمع جُلّ شروط الدعاء، وآدابه، ومستحباته بهذه السورة على إيجازها، فحق لها أن تُسمَّى ((أمَّ القرآن)). 8 - تضمنت هذه السورة الجليلة أنواعاً من أسماء اللَّه تعالى وصفاته: فمن الأسماء الحسنى: اسم الجلالة ((اللَّه))، و ((الرحمن))،

2 - {ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}.

و ((الرحيم))، وأسماء مضافة: ((ربّ العالمين))، ((مالك يوم الدين))، ومن الصفات: ((الهداية))، و ((الغضب))، حيث جاء التعبير عن المغضوب عليهم باسم المفعول الدّالّ على أنّ الغضب عليهم حاصل من اللَّه تعالى ومن أوليائه، وهذا من بلاغة القرآن)) (¬1). وغضبه تعالى من صفاته الفعلية التي تتعلق بمشيئته وحكمته. 2 - {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬2). 3 - {وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (¬3). هذه أولى الدعوات التي ذكرها المؤلف حفظه اللَّه تعالى من دعوات إبراهيم - عليه السلام - إمام الحنفاء، وقدوة الموحدين، وخليل الرحمن، الذي وصفه ربنا - عز وجل - بأنه الجامع لخصال الخير كلّها: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (¬4). فهذه الدعوة المباركة جمعت عدة مطالب عظيمة لا غنى عنها للعبد في أمور دينه ودنياه. أولها: سؤال اللَّه تعالى القبول في الأعمال، والأقوال، فقال وابنه ¬

(¬1) تفسير سورة الفاتحة لابن عثيمين، 1/ 16. (¬2) سورة البقرة، الآية: 127. (¬3) سورة البقرة، الآية: 128. (¬4) سورة النحل، الآية: 120.

إسماعيل عليهما السلام: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1). وقوله: ((و (يرفع): فعل مضارع، والمضارع للحاضر، أو للمستقبل، ورفع البيت ماضٍ؛ لكنه يعبَّر بالمضارع عن الماضي على حكاية الحال، كأن إبراهيم يرفع الآن، يعني: ذكِّرهم بهذه الحال التي كأنها الآن مشاهدة أمامهم)) (¬2). ففيه تنبيه للعبد أن يستحضر هذه المعاني وكأنها أمامه، من جليل الأعمال من رفع القواعد، وكذلك دعاؤهما، حتى يتأسى العبد بهذه المقاصد والمطالب الجليلة من إخلاص العمل للَّه تعالى، وما يحمل الدعاء في طياته من جميل المعاني من الخوف، والرجاء، والرغبة، والرهبة. {رَبَّنَا}: ((ربّ)) منادى حذفت منه (يا) النداء، وأصله: يا ربنا، حذفت ((يا)) النداء للبداءة بالمدعو المنادى، وهو اللَّه جلّ شأنه، أي كلّ واحد يقول بلسانه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} (¬3). فقد جاء في صحيح البخاري (( ... ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لِأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي، فَجَاءَ فَوَافَقَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ وَرَاءِ زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلًا لَهُ، فَقَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ بَيْتًا، قَالَ: أَطِعْ رَبَّكَ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ، قَالَ: إِذَنْ أَفْعَلَ، أَوْ كَمَا ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 127. (¬2) تفسير سورة البقرة للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 2/ 57. (¬3) المصدر السابق.

قَالَ، قَالَ: فَقَامَا فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَيَقُولَانِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (¬1). انظر يا عبد اللَّه، وتأمّل في شأنهما: يقومان بأجلّ الأعمال وأرفعها بإذنٍ من ربهما تعالى، وهما يسألان {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}، فتأمّل كيف كان حالهما من الخوف والرجاء ألاّ يتقبل عملهما، فإذا كان هذا حال إمام الحنفاء، وقدوة الموحدين، فكيف بحالنا وتقصيرنا؟. فعن وهيب بن الورد أنه قرأ: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا}، ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن، ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك؟)) (¬2). وهذا كما حكى اللَّه تعالى عن حال المؤمنينَ الخُلَّص في قوله تعالى: {وَالَّذينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} (¬3)، أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (¬4)، أي: خائفة ألاّ يتقبل منهم، كما جاء في الحديث أن عائشة رَضْيَ اللَّهُ عنْهَا سألت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: ((أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ، وَيُصَلُّونَ، وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب (يزفّون)، 4/ 145، برقم 3365. (¬2) تفسير ابن كثير، 1/ 254. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 60. (¬4) سورة المؤمنون، الآية: 60.

يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (¬1)، والتعرض لوصف الربوبية في دعائهم؛ لأن إجابة الدعاء من شأن الربوبية وخصائصها لما فيها من معاني التربية والإصلاح والتدبير، وقولهما: {تَقَبَّلْ مِنَّا}: ((القبول: أخذ الشيء والرضا به، فتقبّل اللَّه سبحانه للعمل أن يتلقّاه بالرضى فيرضى عن فاعله، وإذا رضي اللَّه تعالى عن فاعله، فلا بدّ أن يثيبه الثواب الذي وعده إيّاه)) (¬2): وقولهما: {إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تعليل لطلب القبول، ومزيد استدعاء للإجابة. والسميع والعليم اسمان للَّه تعالى من أسمائه الحسنى يدلاّن على صفة السمع والعلم، أي: أنت السميع لأقوالنا التي من جملتها دعاؤنا العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك، والطاعة في القول والعمل، ولا يخفى عليك شيء في قلوبنا. ((وقصر صفتي السمع والعلم عليه تعالى لإظهار اختصاص دعائهما به تعالى، وانقطاع رجائهما عمّا سواه بالكلية)) (¬3). ((ولمّا كان العبد مهما كان، لابدّ أن يعتريه التقصير ويحتاج إلى التوبة قالا: {وَتُبْ عَلَيْنَا}، قالاه هضماً لأنفسهما، وتعليماً للذرّية ¬

(¬1) سنن الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ومن سورة المؤمنون، 5/ 327، برقم 3175، وصححه الشيخ الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 79، برقم 2537، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 304، برقم 162. (¬2) تفسير سورة البقرة للعلامة ابن عثيمين، 2/ 58. (¬3) تفسير أبي السعود، 1/ 161.

بعدهما أن يلازموا هذا الطلب، والمقصد الجليل)) (¬1). وقولهما: {إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}: هذه الجملة كسابقتها تعليل لطلب القبول، ومزيد استدعاء للإجابة. التواب: أي أنك كثير التوبة على عبادك، فهو يقبل التوبة من عبده كلما تكررت التوبة منه إلى ما لانهاية. الرحيم: أي ذو الرحمة الشاملة للمؤمنين يوم القيامة، وهذا الاسم: يخصّ به المؤمنين يوم القيامة، أما الرحمن فهي رحمته تبارك وتعالى الشاملة لجميع الخلائق في الدنيا مؤمنهم وكافرهم، إنسهم وجنهم. الفوائد: تضمنت هاتان الآيتان الكثير من الفوائد الجليلة منها: 1 - أهمية القبول حيث إن مدار الأعمال الصالحة عليه، وذلك يقوم على الإخلاص للَّه تعالى، والاتباع لما جاء به الشرع المطهر. 2 - دلّت الآية: أنّ على العبد ملازمة سؤال اللَّه قبول أعماله بعد أدائه لها، ومنها الدعاء، فقد كان هذا من هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: فإنه كان يستغفر ثلاثاً بعد الصلاة، وكان يقول بعد صلاة الصبح: ((اللهمَّ إنّي أسألك علماً نافعاً، ورزقاً طيباً، وعملاً مُتقبّلاً)) (¬2)، وكان يقول ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، 1/ 2. (¬2) انظر شرح هذا الدعاء في الدعاء رقم:102.

- صلى الله عليه وسلم -: ((ربّ تقبّل توبتي، واغسل حوبتي، وأجب دعوتي)) (¬1)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من عمل لا يُرفع: ((اللهمّ إنّي أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن عمل لا يُرفع)) (¬2)، وغير ذلك. 3 - ينبغي للعبد أن يكون في حال عبادته لربه ودعائه، خائفاً راجياً، كجناحي الطائر، فلا يغلّب الخوف، فيقع في القنوط، ولا يغلب الرجاء، فيقع في الغرور، والأمن من مكر اللَّه تعالى. 4 - التوسّل إلى اللَّه تعالى بأسمائه وصفاته ما يناسب المطلوب والسؤال؛ فإن (السميع) مناسب في سماع دعائهما، و (العليم) مناسب للعلم بنياتهما، وصدق تضرعهما، وكذلك (التواب الرحيم) .. 5 - ملازمة التواضع والإخبات للَّه تعالى في حال القيام بطاعته ولو بأجلّ العبادات والمقامات. 6 - أن الدعاء ملجأ ومقصد كل الأنبياء والمرسلين، وأن العبد لا غنى له عنه في كل أحواله الشرعية والدنيوية. 7 - طرد الإعجاب بالنفس، وعدم الإدلال على اللَّه تعالى بما قام من العمل، فإنّ ذلك مفسد للعمل. ¬

(¬1) انظر شرح هذا الدعاء في الدعاء رقم: 73. (¬2) انظر شرح هذا الدعاء في الدعاء رقم: 139.

4 - {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}.

8 - أهمية سؤال اللَّه تبارك وتعالى الثبات على الإسلام، ((وهو يشمل على الاستسلام للَّه تعالى ظاهراً أو باطناً (¬1). 9 - ((أنه ينبغي للإنسان أن يشمل ذريته في الدعاء، لأنّ الذرية الصالحة من آثار الإنسان الصالحة؛ لقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}. 10 - ((شدة افتقار الإنسان إلى ربه تعالى؛ حيث كرر كلمة ((ربنا))، وأنه بحاجة إلى ربُوبيَّتِهِ اللَّه تعالى الخاصة التي تقتضي عناية خاصة)) (¬2). 4 - {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬3). بيّن اللَّه جلّ في علاه في كتابه (الذكر الحكيم) دعوات لأهل الهمم القليلة، وأصحاب الحظوظ الدنيوية يسألون حظ الدنيا فقط: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ} (¬4). ثم ثنّى ـ بأصحاب الهمم العالية الذين يسألون خيري الدنيا ¬

(¬1) تفسير سورة البقرة، لابن عثيمين، 2/ 64. (¬2) تفسير سورة البقرة للعلامة ابن عثيمين، 2/ 64. (¬3) سورة البقرة، الآية: 201. (¬4) سورة البقرة، الآية: 200.

والآخرة، وذكر سبحانه هذه الدعوة في سياق الثناء والتبجيل في كتابه الكريم تعليماً لنا في التأسي والعمل بالتنزيل بملازمتها مع فهم معانيها ومضامينها، وما حوته من جوامع الكلم الطيب، مع قلّة المباني، وعظيم المعاني. فقدموا توسلهم بأجمل الأسامي والصفات: (ربنا): نداء فيه إقرار بالربوبية العامة للَّه تعالى المستلزمة لتوحيده في الألوهية، فجمعوا بين أنواع التوحيد التزاماً وتضمناً، وهم يستحضرون كذلك ربوبيته الخاصة لخيار خلقه الذين رباهم بلطفه، وأصلح لهم دينهم ودنياهم، فأخرجهم من الظلمات إلى النور، وهذا متضمن لافتقارهم إلى ربهم، وأنهم لا يقدرون على تربية نفوسهم من كل وجه، فليس لهم غير ربهم يتولاهم، ويصلح أمورهم)) (¬1). لهذا ينبغي للداعي أن يستحضر هذه المعاني الجميلة من ربوبيته تعالى العامة لكل الخلق، وربوبيته الخاصة، فإن ذلك يوجب للعبد الخشوع والخضوع، وتذوق حلاوة المناجاة، والدعاء التي لا يعادلها أي شيء من المحبوبات. {آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً}: سؤال من خير الدنيا كله بأوجز لفظ وعبارة، فجمعت هذه الدعوة كل خير يتمناه العبد، ((فإنّ الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودارٍ رحبةٍ، وزوجةٍ ¬

(¬1) المواهب الربانية للعلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي، ص 124.

حسنةٍ، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيءٍ، وثناء جميل، إلى غير ذلك)) (¬1). {وفي الآخِرَةِ حَسَنَةً}: أما ((الحسنة في الآخرة فلا شك أنها الجنة؛ لأن من لم ينلها يومئذٍ فقد حُرم جميع الحسنات)) (¬2)، فهي أعلى حسنة، ويدخل في حسنات الآخرة كذلك: ((الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب)) (¬3)، وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة. {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: ((وهذا يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام، وترك الشبهات والحرام)) (¬4)، وتتضمن هذه الوقاية أيضاً ((ألاّ يدخل النار بمعاصيه، ثم تخرجه الشفاعة)) (¬5)، ثم بين ـ علو درجتهم، وبعد منزلتهم في الفضل، كما دلّ على ذلك اسم الإشارة (أولئك) {أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬6). ولما كان هذا الدعاء المبارك الجامع لكل معاني الدعاء من أمر الدنيا والآخرة، كان أكثر أدعيته - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر بذلك أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 1/ 343. (¬2) ابن جرير الطبري، 1/ 553. (¬3) ابن كثير، 1/ 342. (¬4) المصدر السابق. (¬5) تفسير القرطبي، 1/ 786. (¬6) سورة البقرة، الآية: 202.

كان أكثر دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). واقتدى بذلك أنس - رضي الله عنه -، فكان لا يدعه في أي دعاء يدعو به (¬2)، وقد طلب منه بعض أصحابه أن يدعو لهم، فدعا لهم بهذه الدعوة المباركة، ثم قال: ((إذا آتاكم اللَّه ذلك فقد آتاكم الخير كله)) (¬3). تضمنت هذه الدعوة جملاً من الفوائد، منها: 1 - يحسن بالداعي أن يجمع في دعائه خيري الدنيا والآخرة. 2 - ينبغي لكل داعٍ أن يكون جُلَّ دعائه ونصيبه الأكبر في أمورالآخرة، فجاء في هذا الدعاء سؤال أمرين عظيمين من أمور الآخرة: وأمرٍ واحدٍ من أمور الدنيا {وَفِي الآخِرَةْ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. 3 - أهمية التوسل بصفاته تعالى الفعلية (قنا)؛ لقول اللَّه، وتأسيّاً برسولنا - صلى الله عليه وسلم -. 4 - ينبغي للداعي أن يكون من أصحاب الهمم العالية. 5 - ((أن الإنسان لا يذم إذا طلب حسنة الدنيا مع حسنة الآخرة. ¬

(¬1) انظر: صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة)، 8/ 83، برقم 6398، ومسلم، كتاب العلم، باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، 4/ 2070، برقم 2690. (¬2) صحيح مسلم، كتاب العلم، باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، 4/ 2070، برقم 2690. (¬3) فتح الباري، 11/ 229.

5 - {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}.

6 - أن كل إنسان محتاج إلى حسنات الدنيا والآخرة)). 7 - من حُسن الدعاء أن يجمع في مطالبه بين الرغبة: {آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً}، والرهبة: {قِنَا عَذَابَ النَّارِ}. حتى يكون العبد بين الخوف والرجاء. 8 - أهمية الأدعية في كتاب اللَّه تعالى، فهي كافية وشافية من جميع المطالب التي يتمناها العبد في دينه، ودنياه، وآخرته. فعلى العبد ملازمة هذه الدعوة اتباعاً. 5 - {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (¬1). 6 - {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬2). هاتان الآيتان الكريمتان اللتان هما آخر آيات سورة البقرة قد جاءت الأخبار في فضلهما في عدة أحاديث عن الصادق المصدوق حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ)) (¬3). ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 285. (¬2) سورة البقرة، الآية: 286. (¬3) صحيح البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، برقم 5008، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، برقم 808.

وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلي)) (¬1)، وما جاء كذلك: ((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: بَيْنَمَا جِبْرِيلُ - عليه السلام - قَاعِدٌ عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: ((هَذَا بَابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتِحَ الْيَوْمَ، لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إِلا الْيَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ، فَقَالَ: هَذَا مَلَكٌ نَزَلَ إِلَى الأَرْضِ لَمْ يَنْزِلْ إِلا الْيَوْمَ فَسَلَّمَ، وَقَالَ: أَبْشِرْ بنورَيْنِ أُوتِيتَهُمَا لَمْ يُؤْتَهُمَا نَبِيٌّ قَبْلَكَ: فَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَخَوَاتِيمِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ لَنْ تَقْرَأْ بِحَرْفٍ مِنْهَا إِلا أُعْطِيتَهُ)) (¬2). فقد حوت هذه الآيات الكثير من المعاني الجليلة، والمقاصد العظيمة، والدلالات الواسعة، ففي صدرها أخبر ربنا - جل جلاله - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ومن معه من المؤمنين قد أقروا بأصول الإيمان العظيمة، بالإيمان باللَّه - عز وجل -، والاستسلام الكامل له تبارك وتعالى ظاهراً وباطناً، وأنهم قد جمعوا بين كمال الإيمان، وشمول الإسلام، وفي الإخبار عنهم جميعاً مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سياق واحد فضيلة ظاهرة، وشرفٌ عظيمٌ للمؤمنين، وفيه بيان ((بأن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مشارك للأمّة في الخطاب الشرعيّ له، وقيامه التامّ به، وأنه فاق؛ بل فاق جميع المرسلين في القيام بالإيمان وحقوقه)) (¬3). {وَقَالُوْا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا}: أي سمعنا قولك، وفهمنا ما جاءنا من الحق، ¬

(¬1) مسند الإمام أحمد، برقم 21344، مستدر الحاكم، 1/ 563، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 6/ 312: ((رواه كله أحمد بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح))، وقال الأرناؤوط في تخريجه للمسند: ((صحيح لغيره)). (¬2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، برقم 808. (¬3) تفسير ابن سعدي، ص 961.

وتيقنّا بصحته، وأطعنا بامتثال أوامرك، واجتنبنا نواهيك. ((وهذا إقرار منهم بركني الإيمان اللّذَين لا يقوم إلا بهما، وهما: السمع: المتضمّن للقبول والتسليم، والطاعة المتضمنّة لكمال الانقياد وامتثال الأمر)) (¬1). {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}: ((قدموا السمع والطاعة على المغفرة؛ لأن تقدم الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول))، وفي (¬2) طلبهم المغفرة لأنهم علموا أنهم لا بد وأن يقع منهم التقصير والنقصان بطبيعتهم البشرية، فإن ذلك من لوازمهم التي لا تنفك عنهم، ثم أقرّوا للَّه تعالى: الرجوع، والمآب في جميع الأمور الدنيوية والأخروية إليه، ومن أعظمها يوم القيامة. ولا يخفى في هذه الدعوات جميل الأدب، وحسن الاختيار، وجميل الثناء والطلب، الموجب القبول والرضى عند بارئهم تبارك وتعالى. ولما كمل من ذلك الأدب الجليل المعبر عن كمال الخضوع والتعظيم، شرعوا في أنواع المطالب والسؤال. فقالوا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}: يا ربنا لا تؤاخذنا إن تركنا فرضاً على جهة النسيان، أو فعلنا الحرام كذلك. {أَوْ أَخْطَأْنَا}: أي الصواب في العمل، جهلاً منّا بوجهه الشرعي. ¬

(¬1) فقه الداعية، 4/ 440. (¬2) تفسير أبي السعود، 2/ 327.

إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء:

وقد جاء الخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اللَّه تبارك وتعالى قال: (نعم) (¬1). وفي لفظ قال - عز وجل -: ((قد فعلت)) (¬2). وقد جاء ما يشير إلى ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي اَلْخَطَأَ , وَالنِّسْيَانَ , وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ)) (¬3). {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}: أي لا تكلّفنا من الأعمال الشاقّة وإن أطقناها، كما شرعته للأمم الماضية قبلنا من الأغلال والأعباء الشديدة التي كانت عليهم. {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}: وتكرير لفظ الربوبية في الآيات لإبراز مزيد من الضّراعة الموصل إلى كمال العبادة المؤذن إلى القبول والإجابة. أي: لا تحمّلنا من التكليف والمصائب والبلاء ما لا نقدر عليه. {وَاعْفُ عَنَّا} أي: ((اصفح عنّا فيما بيننا وبينك من تقصيرنا، وزللنا {وَاغْفِرْ لَنَا} أي: فيما بيننا وبين عبادك، فلا تُظهِر على مساوينا، وأعمالنا القبيحة. {وَارْحَمْنَآ}: ((فيما يُستقبل فلا توقعنا بتوفيقك إلى ذنب آخر؛ ولهذا قالوا: إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء: - أن يعفو اللَّه عنه فيما بينه وبينه. ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه - سبحانه وتعالى - لم يكلف إلا ما يطاق، برقم 125. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه - سبحانه وتعالى - لم يكلف إلا ما يطاق، برقم 126. (¬3) سنن ابن ماجه، كتاب الطلاق، باب طلاق المكره والناسي، برقم 2045، والسنن الكبرى للبيهقي، 6/ 84، وحسنه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 123.

- وأن يستره عن عباده، فلا يفضحه به بينهم.

- وأن يستره عن عباده، فلا يفضحه به بينهم. - وأن يعصمه، فلا يوقعه في نظيره. وقد تقدم أن اللَّه تعالى: قد قال: (قد فعلت))) (¬1). وفي تقديم العفو والمغفرة على طلب الرحمة كما تقدم: أن التخلية سابقة على التحلية، ولم يأتِ في هذه الجمل الثلاث قوله: (ربنا): ((لأنها فروع لهذه الدعوات الثلاث، ونتائج لها {أَنتَ مَوْلاَنَا} أي: أنت مالكنا، وسيّدنا، وناصرنا. {فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: ((حيث أتى بـ (الفاء) إيذاناً بالسببية؛ لأن اللَّه - عز وجل - لما كان مولاهم ومالكهم، ومدبر أمورهم، تسبّب عنه أن دعوه بأن ينصرهم على أعدائهم)) (¬2). أي: يا ربنا انصرنا على الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيّك، وعبدوا غيرك، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة، كما في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ)) (¬3). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 1/ 475، والحديث في مسلم، برقم 126، وتقدم تخريجه .. (¬2) الألوسي، 3/ 112. (¬3) رواه النسائي في السنن الكبرى، كتاب الجمعة، باب كم صلاة الجمعة، برقم 10445، وأحمد، 24/ 247، برقم 15492، والبخاري في الأدب المفرد، ص 243، والحاكم، 1/ 507، وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، وصحيح ابن خزيمة، 2/ 155، والطبراني في الكبير، 5/ 47، برقم 4549، ومسند البزار، 9/ 175، برقم 3724، وصححه الألباني في تعليقه على صحيح ابن خزيمة، 2/ 155، وفي صحيح الأدب المفرد، ص 254، وغيرهما.

تضمنت هذه الدعوات الجليلات من عظيم الفوائد والمنافع:

وهذا يدل على عنايتهم الكبرى بدينهم، وأنه شغلهم الشاغل مرضات اللَّه تعالى في كل الأحوال والأوقات؛ فإن همَّ الدين والآخرة هو الهمّ المرغوب فيه حيث يحوي خيري الدنيا والآخرة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ كَانَ هَمُّهُ الْآخِرَةَ، جَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الدُّنْيَا، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ)) (¬1). تضمنت هذه الدعوات الجليلات من عظيم الفوائد والمنافع: 1 - أن الإيمان هو أعظم أعمال القلوب المستلزم لأعمال الأركان. 2 - أن الإيمان الكامل هو الإيمان بكل ما جاء عن اللَّه تعالى، وبكل ما جاء عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، مع الانقياد والتسليم. 3 - ((إثبات علوّ اللَّه - عز وجل - لقوله تعالى: {بِمَا أَنْزَلَ اللَّه}، والنزول يكون من أعلى إلى الأسفل. 4 - أن من صفات المؤمن السمع والطاعة. 5 - أن كل الخلق محتاج إلى مغفرة اللَّه تبارك وتعالى، وحتى الأنبياء والرسل. 6 - أنه كلما كان الإنسان أقوى إيماناً بالرسول - صلى الله عليه وسلم - كان أشد اتباعاً له)) (¬2). 7 - عِظم وسَعَة رحمة اللَّه - عز وجل - لهذه الأمة في إسقاط كثير من التكاليف ¬

(¬1) رواه أحمد بلفظه، برقم 21590، وصحح إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 986، برقم 404، وأخرجه الترمذي بلفظ: ((مَنْ كانَتِ الآخرةُ هَمَّهُ، جعل اللَّهُ غِناه في قلبه، وجمع عليه شَمْلَهُ، وأتَتْهُ الدنيا وهي راغِمَة، وَمَنْ كانت الدنيا هَمَّه، جعل الله فَقْرَه بين عينيه، وفَرَّق عليه شَمْلَهُ، ولم يأتهِ من الدنيا إلا ما قُدِّر له))، برقم 2465، وابن ماجه بلفظ: ((مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ))، برقم 4105. (¬2) تفسير سورة البقرة للعلامة ابن عثيمين، 3/ 446 - 461.

8 - من عظيم رحمة الله تعالى علينا كذلك أنه علمنا هذا الدعاء الذي ندعوه

الشّاقّة، دلّ عليه قول اللَّه - عز وجل -: ((قد فعلت))، فينبغي ملازمة حمده وشكره آناء الليل وأطراف النهار بما تفضّل علينا بهذا الدين العظيم، فله المنَّة، والحمد، والثناء. 8 - من عظيم رحمة اللَّه تعالى علينا كذلك أنه علّمنا هذا الدعاء الذي ندعوه، ثم يستجيب لنا تفضّلاً منه ونعمة. 9 - أهمية سؤال اللَّه تعالى: (العفو، والمغفرة، والرحمة)؛ لما فيها من كل خير يتمنّاه العبد، ومن كلّ شرٍّ يخافه في الدنيا والآخرة. 10 - إثبات ولاية اللَّه الخاصّة للمؤمنين التي تقتضي النصرة والعناية والتأييد، وهذه غير ولاية اللَّه العامّة لكل الخلق. 11 - أن العبد محتاج إلى سؤال اللَّه تعالى النصرة على الكافرين في كل زمان. 12 - أهمّيّة الدعاء للعبد المسلم في حياته ومهمّاته، وذلك أنه تعالى ضمنّه في آيات لها فضل عظيم كما جاء بالأخبار عنها قرآن يتلى إلى يوم الدين. 13 - أهمية الإلحاح في الدعاء، وأنه من أهم الأسباب في قبول الدعاء؛ حيث ورد التوسل بربوبيّته تعالى أربع مرات. 14 - الدعاء الأكمل هو الجامع لأكثر من توسّل؛ حيث جمعوا التوسل بأسمائه تعالى وصفاته، وكذلك بأعمالهم الصالحة ((سمعنا وأطعنا)). 15 - يُستحبّ البسط في الدعاء لما فيه من كمال العبودية المقتضي لكثرة الثواب، وإجابة الدعاء. 16 - أنَّ ذكر بعض الخصال التي يقوم بها العبد إلى اللَّه تعالى حال الدعاء، ليس من باب التزكية، وإنما من باب التوسل إليه تعالى بعمله الصالح

17 - أن أعظم التوسل إلى الله تعالى على الإطلاق التوسل إليه بربوبيته تعالى

المتضمّن للتذلّل والخشوع له جل وعلا. 17 - أن أعظم التوسل إلى اللَّه تعالى على الإطلاق التوسل إليه بربوبيته تعالى، التي تحصل بها المحبوبات، وتندفع بها المكروهات؛ ولهذا كانت أغلبية أدعية القرآن مصدرة بالتوسل به (¬1). 7 - {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (¬2). المفردات: لا تزغ: الزيغ: الميل عن الاستقامة والانحراف عن الحق، ومنه زاغت الشمس أي مالت وانحرفت (¬3). الوهاب: اسم من أسماء اللَّه تعالى الحسنى: من صيغ المبالغة مبالغة على وزن فعّال، والهبة هي: ((العطية الخالية عن الأعواض والأغراض)) (¬4). الشرح: ما زلنا نقتطف من جميل أدعية المؤمنين في كتاب ربنا الحكيم، ذكرها اللَّه تعالى ثناءً على أهلها، وتأسياً لنا في ملازمة الدعاء بها، والعمل في مضامينها، وذكر لنا دعوات أخرى في غاية الأهمية من هذا المعين المبارك لأناس قرن اللَّه - عز وجل - شهادتهم ¬

(¬1) المواهب الربانية للعلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي، ص 123 (¬2) سورة آل عمران، الآية: 8. (¬3) مفردات ألفاظ القرآن للراغب، ص 387. (¬4) لسان العرب، 1/ 803.

بشهادته، وأثنى عليهم في مواضع كثيرة من الذكر الحكيم، قال اللَّه تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} (¬1). فهم ورثة الأنبياء، ونعم الميراث العظيم، هم العلماء، وصفهم تعالى بكمال الوصف الثابت، وبالأساس الراسخ. قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} (¬2)، فهم أصحاب العقول السليمة، والمفاهيم المستقيمة. فبعد أن عطر بالوصف والثناء عليهم بخلوص الإيمان واليقين في قلوبهم، فأثمر لهم من عظيم المعارف والهمم، آمنوا بالكتاب كله: محكمه، ومتشابهه؛ لأنه جاء من ربهم الحكيم الخبير، ذكر لنا فواح هذا العطر النافع والناصح؛ لنتأمل من هذا الروض الجميل في أهم مقاصد الدين، حتى نستن بهم عملاً وقولاً. فقالوا: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} صدروا دعاءهم بربوبيته تعالى التي هي أفضل وأعلى الغايات، وهو استقامة القلوب على ما يحبه اللَّه تعالى ويرضاه، والثبات على ذلك: فقالوا: يا ربنا، ويا مدبر أمورنا، لا تُمِل قلوبنا بعد الهدى الذي أنعمت به ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 18. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 7.

علينا، توسلوا بسابق إحسانه وإنعامه بعد التوسل بربوبيته دلالة على أهمية مطلبهم لربهم، وأنهم في تضرع كبير لهذا المطلب المهم، لا كالذين أزاغ اللَّه قلوبهم من اتباع المتشابه في القرآن ابتغاء الفتنة، فهم ضلوا وأضلوا، والعياذ باللَّه، أما العلماء فقد اهتدوا وهدوا. فتضمّن هذا المطلب الجليل سؤال اللَّه تعالى الثبات على الدين القويم، والصراط المستقيم الذي عليه النجاة في يوم الدين، ولا يكون ذلك إلا بالتوفيق من اللَّه تعالى رب العالمين. لهذا كان أكثر دعاء نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم -: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) (¬1)، وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)) (¬2). {وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً}: ومن جميل تضرعهم وتوسلهم سألوا اللَّه تعالى بلفظ الهبة إشارة إلى أن ذلك منه تعالى تفضل محض دون شائبة وجوب عليه - سبحانه وتعالى - (¬3). وسألوا ربهم {رَحْمَةً} بالتنوين والتنكير دلالة على التفخيم ¬

(¬1) سنن الترمذي، كتاب القدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، برقم 2140، وسنن النسائي الكبرى، كتاب صفة الصلاة، باب الاستغفار بعد التسليم، برقم 7690، ومسند الإمام أحمد، برقم 12207، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2140. (¬2) صحيح مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء، برقم 2654. (¬3) روح المعاني، 3/ 146.

والتعظيم (¬1)، أي رحمة عظيمة واسعة شاملة التي تقتضي حصول نور الإيمان والتوحيد والمعرفة في القلب، وحصول الطاعة في الجوارح والأركان. فالرحمة من آثارها التوفيق، والدوام على الهدى في الدنيا، والنعيم الأبدي في الآخرة؛ ولهذا كثرة الأدعية في كتاب اللَّه لهذا المطلب الجليل. {مِنْ لَدُنْكَ}: جُعلت الرحمة من عنده؛ لأن تيسير الأسباب، وتكوين الهيئات منه جل وعلا تفضلاً وتكرماً، وفيها معاني التعظيم والإجلال للَّه تعالى، وهذا من حسن دعائهم، وأدبهم مع ربهم - عز وجل - التي ملأت قلوبهم حباً وتعظيماً له - جل جلاله -. {إنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ} عللوا طلبهم، وأكَّدوه بخصوصية الهبة المطلقة الكاملة للَّه تعالى، التي لايعدّها عادٌّ، ولا يحدّها حادّ، إيماناً منهم بكمال صفاته تعالى، ومن جملتها هباته تعالى؛ لأن هبات الناس بالنسبة لما أفاض اللَّه تعالى من الخيرات شيء لا يُعبأ به. لذلك قالوا: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ} ((حيث استحضروا عند طلب الرحمة أحوج ما يكونون إليه، وهو يوم تكون الرحمة سبباً للفوز الأبدي، فأعقبوا بذكر هذا اليوم دعاءهم على سبيل الإيجاز، كأنهم قالوا: وهب لنا من لدنك رحمة، وخاصة يوم ¬

(¬1) روح المعاني للألوسي، 3/ 147.

تضمنت هذه الدعوات المباركات كثيرا من المنافع والفوائد:

تجمع الناس)) (¬1). ((توسَّلوا إلى ربهم بالإيمان ومنة اللَّه تعالى به، من الوسائل المطلوبة، فيكون هذا من تمام دعائهم)) (¬2). وفيه إقرار منهم بكمال صفاته الفعلية؛ لذلك قالوا: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ}. تضمنت هذه الدعوات المباركات كثيراً من المنافع والفوائد: 1 - أن العلم باللَّه تعالى هو أشرف العلوم على الإطلاق. 2 - ((أن الرسوخ في العلم هو قدر زائد على مجرد العلم، فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون عالماً محققاً)) (¬3). 3 - أن سؤال اللَّه تعالى الثبات على الإيمان هو أعظم مقاصد الشارع المطلوبة. 4 - ينبغي للعبد أن يستحضر دوماً نعم اللَّه تعالى عليه، وخاصة نعمة الدين. 5 - كما أن التوسل إلى اللَّه تعالى بأسمائه وصفاته، كذلك يتوسل إليه بصفاته المنفية عنه تعالى {إنَّ اللَّه لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ}. وهذا النفي يتضمّن صفات الكمال، ومنها كمال صدقه وقدرته جلَّ وعَلا. ¬

(¬1) التحرير والتنوير لابن عاشور، 3/ 169. (¬2) المواهب الربانية، ص 127. (¬3) تفسير ابن سعدي، ص 127.

6 - أهمية التوسل إلى الله تعالى بنعمه {بعد إذ هديتنا}.

6 - ((أهمية التوسل إلى اللَّه تعالى بنعمه {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}. 7 - ((إنّ الإنسان لا يملك قلبه؛ لأنه بين إصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء، فيسأل اللَّه ألاَّ يزغه)). 8 - ((أن التخلية تكون قبل التحلية، يعني يُفرغ المكان من الشوائب والأذى، ثم يطهر، دلَّ عليه قوله: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا) ثم قال: {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}. 9 - أن العطاء يكون على قدر المعطي؛ لقوله تعالى: (وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً)، هذا من باب التوسل بحال المدعو، ومن باب التوسل بصفات اللَّه - عز وجل -)) (¬1). 10 - أن كل الخلق لا غنى لهم عن دعاء ربهم - عز وجل - في جلب المنافع، ودفع المضار. فبعد هذا الوصف الجميل لهم، يجدر بالعبد السالك إلى طريق اللَّه المستقيم أن يحرص على هذه الكلمات اليافعات، والدعوات المباركات، ويستحضر هذه المعاني، والمطالب العالية. 8 - {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (¬2). هذه الدعوة المباركة من دعوات أهل العلم والإيمان، سطّرها لنا ¬

(¬1) تفسير آل عمران، لابن عثيمين رحمه الله، 1/ 55 - 56، بتصرف يسير. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 16.

ربنا في كتابه دعواتٍ تُتلى إلى يوم القيامة، دلالة جلية على أهميتها. فبعد أن ذكر اللَّه - عز وجل - حُبَّ الناس الشهوات من النساء والبنين وغيرها من ملذات الدنيا، وإيثار بعضهم لهذه الدار على الآخرة، أعقب بذكر الدار الحقيقية التي لا يفنى نعيمها ولا ينفد، التي أعدها لأصحاب النفوس الزكيَّة، الذي كان من جليل أعمالهم وأقوالهم: {يقولون ربنا إننا آمنا}: جاء بصيغة المضارع (يقولون) الذي يدلّ على الاستمرارية والتجدد في سؤالهم، وتضرّعهم بهذه الدعوات. {ربّنا إننا آمنا}: توسّلوا إلى اللَّه تعالى بربوبيته التي من مقتضاها الإجابة والعناية، وذلك أن ربوبية اللَّه تبارك وتعالى ربوبيتان: عامة: لجميع الخلائق بالرزق، والتدبير والإصلاح، وخاصة: لأوليائه التي تقتضي الحفظ، والعناية، والإجابة، وإصلاح أحوالهم وشؤونهم في دينهم ودنياهم، فهم توسّلوا بهذه الربوبية العليّة التي من مقتضاها إجابة دعائهم. {إنَّنا آمنَّا}: أكدوا إيمانهم بـ ((إنَّ)) المؤكدة، دلالة على قوة إيمانهم، وصفاء توحيدهم من كل أدران الشرك والشك، أي آمنّا بك وبكتابك وبرسولك، وبكل ما جاء منك، قدموا توسلهم بإيمانهم باللَّه قبل سؤالهم؛ لأنه من أعظم الوسائل التي يحبها اللَّه - عز وجل -، أن يتوسّل العبد إلى ربّه تعالى بما منَّ عليه من الإيمان، والأعمال الصالحة، إلى تكميل نعم اللَّه تعالى عليه، بحصول الثواب

1 - من صفات المؤمنين إعلانهم الإيمان بالله تبارك وتعالى.

الكامل، واندفاع العقاب)) (¬1). وقوله: {فاغفر لنا}: ((الفاء هنا للسببية، أي بسبب إيماننا فاغفر لنا؛ لأن الإيمان لا شك أنه وسيلة للمغفرة، وكلما قوي الإيمان قويت أسباب المغفرة، والمغفرة: مأخوذة من الغفر، وهو الستر والوقاية. ومنه (المِغْفَر) الذي يلبسه المقاتل في رأسه ليستر الرأس، ويقيه السهام، فمغفرة الذنوب: سترها في الناس، والعفو عن عقوبتها)) (¬2). وقوله: ((ذنوبنا)): المراد كل الذنوب من الصغائر والكبائر. وقوله: {وقنا عذاب النار}: أي اجعل بيننا وبين النار وقاية تجنبنا هذا الشر الأليم. تضمنت هذه الدعوة: التوفيق إلى الأعمال، والأقوال، والأخلاق التي تقي عذاب النار، والفوز بدار القرار. الفوائد: 1 - ((من صفات المؤمنين إعلانهم الإيمان باللَّه تبارك وتعالى. 2 - أنّ من صفات المتقين عدم الإعجاب بالنفس، وأنّهم مقصرون لطلبهم المغفرة من اللَّه تعالى. ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، 1/ 363. (¬2) تفسير آل عمران للعلامة ابن عثيمين، 1/ 108.

3 - جوا ز التوسل بالإيمان {ربنا إننا آمنا}.

3 - جواز التوسل بالإيمان {ربّنا إنّنا آمّنّا})) (¬1). 4 - أهمية البسط في الدعاء، فإنّ ((سؤال المغفرة يغني عن سؤال الوقاية من النار، إلا أنه في باب الدعاء ينبغي البسط لأربعة أسباب: أ- السبب الأول: أن يستحضرالإنسان جميع ما يدعو به بأنواعه. ب- أنّ الدعاء مخاطبة للَّه - عز وجل -، وكلّما تبسّط الإنسان مع اللَّه في المخاطبة كان ذلك أشوق، وأحبّ إليه مما لودعا على سبيل الاختصار. جـ- أنه كلما ازداد دعاء ازداد قربة إلى اللَّه - عز وجل -. د- أنه كلما ازدا د دعاء كان فيه إظهار لافتقار الإنسان إلى ربه - عز وجل -)) (¬2). 5 - أهمية التوسل بالعمل الصالح في الدعاء، وأنّ من أعظم أنواعه على الإطلاق التوسل بإيمان العبد بربه تعالى. 6 - ينبغي للداعي أن يحرص في أدعيته على سؤال المغفرة، والوقاية من النار، فمن تحصَّل بهذين المطلوبين فاز في الدنيا والآخرة. 7 - أنه كلما أكثر العبد في التوسل كان أرجى في قبول دعوته، فقد توسلوا بوسيلتين: أ- بأسمائه تعالى الحسنى {رَبَّنَا}. ب- بالعمل الصالح {إِنَّنَا آمَنَّا}. ¬

(¬1) المصدر السابق، 1/ 116. (¬2) تفسير سورة آل عمران لابن عثيمين، 1/ 116.

9 - {رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء}.

9 - {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (¬1). هذه إحدى دعوات زكريا - عليه السلام - التي قصّها اللَّه تعالى في كتابه. لما رأى زكريا - عليه السلام - أنّ اللَّه يرزق مريم فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، طمع حينئذٍ في الولد، وكان شيخاً كبيراً قد وهن العظم منه، واشتعل الرأس شيباً، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعقيماً، لكنه لكمال إيمانه، وحسن ظنه بربه بكمال قدرته تعالى، ونفوذ مشيئته وحكمته، أقبل على الدعاء من غير تأخير، كما أفاد قوله تعالى: {هنالك}. سأل ربه، وناداه نداء خفياً، كما في قوله تعالى في سورة مريم: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (¬2)، فقوله: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ} (¬3): جاء الطلب بلفظ الهبة؛ لأنّ الهبة إحسان محض، ليس في مقابله شيء، وهو يناسب ما لا دخل فيه للوالد؛ لكبر سنّه، ولا للوالدة؛ لكونها عاقراً لا تلد، فكأنه قال: أعطني من غير وسط معتاد)) (¬4)؛ لأنه لم ينظر - عليه السلام - إلى الأسباب والمسببات بظروفها العادية؛ بل نظر إلى خالقها، وموجدها، ومكونها، وهذا هو الإيمان الصادق الخالص للَّه ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 38. (¬2) سورة مريم، الآية: 3. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 38. (¬4) تفسير الألوسي، 3/ 232.

تعالى، وعلى حسن ظن العبد بربه ينال من كراماته، وسحب فضائله التي لا تحدّ ولا تعدّ. وقوله: {مِن لَّدُنْكَ}: أي من عندك، إضافة العندية إلى اللَّه تعالى ليكون أبلغ وأعظم؛ لأنّ هديّة الكريم عظيمة وجليلة تليق بمقام العظيم الكريم. {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}: في تقييد الذرية بالطيّبة إشارة مهمّة أنّ العبد لا يسأل اللَّه تعالى الذرية فقط، فلابدّ أن يقيّدها بالصلاح والطيب التي يُرجى منها الخير في الدنيا والآخرة، فالذُّرِّيَّة الطيّبة، هي الطيّبة ((في أقوالها، وأفعالها، وكذلك في أجسامها، فهي تتناول الطيب الحسّيّ، والطيِّب المعنوي)) (¬1). قوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (¬2): تعليل للسؤال: أي إني ما التجأت إليك، وسألتك إلا لأنك مجيب الدعاء، غير مخيّب للرجاء، وختم الدعاء بأحسن ختام من التوسل بأسمائه تعالى الحسنى، وصفاته العُلا التي تناسب الدعاء، فجاءته البشارة العاجلة عقيب السؤال، كما أفاد ذلك حرف التعقيب (الفاء) في قوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬3). ¬

(¬1) تفسير آل عمران للعلامة محمد بن عثيمين، 1/ 232. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 38. (¬3) سورة آل عمران، الآية: 39.

1 - إن جميع الخلق مفتقرون إلى الله - عز وجل -،.

الفوائد: تضمّنت هذه الدعوة المباركة فوائد، وحِكَماً، منها (¬1): 1 - ((إنّ جميع الخلق مفتقرون إلى اللَّه - عز وجل -، حتى الأنبياء لايستغنون عن دعاء اللَّه تعالى في كل أحوالهم، دلّ على ذلك قوله تعالى: {دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ})) (¬2). 2 - إن من أعظم التوسل إلى اللَّه - عز وجل - بالدعاء هو ((اسم (الربّ)؛ لقوله: (ربّه)، ولم يقل (اللَّه)؛ ولهذا أكثر الأدعية مصدرة بـ (الربّ)؛ لأنّ إجابة الداعي من مقتضى الربوبية؛ فلهذا يتوسل الداعي دائماً باسم (الرب)، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يمدّ يديه إلى السماء: يا ربّ، يا ربّ)) (¬3). (¬4). 3 - إنه لاينبغي للإنسان أن يسأل مطلق الذرية؛ لأنّ الذريّة قد يكونون نكداً وفتنة، وإنّما يسأل الذريّة الطيّبة)) (¬5). 4 - إنّ حُسن الظنّ من حسن العبادة، وأنه تعالى يجازي عبده، ويعطيه على قدر حسن الظنّ به، دلّ عليه قوله تعالى: {هُنَالِكَ ¬

(¬1) استنبطت الفوائد من هذه الدعوة في هذه السورة، وفي سورة مريم، وفي سورة الأنبياء. (¬2) تفسير آل عمران للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 1/ 236. (¬3) صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، برقم 1015. (¬4) تفسير آل عمران، 1/ 236. (¬5) المرجع السابق، 1/ 238.

5 - إن من تمنى أمرا عظيما، أو رأى شيئا جليلا يتمناه.

دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ}، حيث أقبل على الدعاء مباشرة لحسن ظنّه بربه تعالى، كما جاء في الحديث القدسي عن ربّ العزّة والجلال: ((أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا دعاني)) (¬1). 5 - إنّ من تمنى أمراً عظيماً، أو رأى شيئاً جليلاً يتمناه، أن يقبل على الدعاء في لحظته، ولايؤخره، دل عليه قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا} ففي ((تقديم الظرف للإيذان بأنه أقبل على الدعاء من غير تأخير)) (¬2). 6 - ((إنه ينبغي للإنسان أن يفعل الأسباب التي تكون بها ذريته طيبة، ومنها الدعاء؛ دعاء اللَّه تعالى، وهومن أكبرالأسباب)) (¬3). 7 - فيه دلالة على أن الدعاء يردّ القضاء، وذلك أن من الأسباب العادية، أن العقيم والعجوز لاتلد، فلمّا دعا اللَّه تعالى أن يرزقه الولد، جاءت البشرى مباشرة، كما أفاد قوله تعالى: {فَنَادَتْهُ المَلائِكَةُ} (¬4) عقب دعائه مباشرة، دلّ على ذلك بـ ((الفاء السببية))، والتي تفيد التعقيب والترتيب بدون مهلة. 8 - ((إثبات سمع اللَّه - عز وجل -، وكرم اللَّه تعالى، وقدرته، وجه ذلك: ¬

(¬1) البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ}، برقم 7405، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب الحث على ذكر الله تعالى، برقم 2675, ومسند أحمد واللفظ له، 15/ 466، برقم 9749. (¬2) روح المعاني، 3/ 231. (¬3) تفسير آل عمران، للعلامة ابن عثيمين، 1/ 238. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 39.

9 - أهمية التوسل بأسماء الله المضافة

أنه يسمع الدعاء، ويجيب من دعاه، وقادرعلى الإجابة)) (¬1). 9 - أهمية التوسل بأسماء اللَّه المضافة (إنك سميع الدعاء)، وأنها من أعظم الوسائل إلى إجابة الدعاء، حيث اختاره - صلى الله عليه وسلم - دون غيره من الأسماء. 10 - إنه كما يُتوسل إليه تعالى بأسمائه، كذلك يُتوسل إليه جل وعلا بأفعاله، فقوله: {هَبْ لِي}، توسّل بصفة الهبة، وهي صفة فعلية، وهي مشتقة من اسمه (الوهّاب). 11 - أن في ذكر هذه القصة العجيبة، وما تضمنته من دعوة جليلة ((حتى لا ييأس أحد من فضل اللَّه تعالى ورحمته، ولايقنط من فضله تعالى وتقدّس)) (¬2). 12 - يستحب الإسرار بالدعاء، دلّ عليه قوله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} (¬3). 13 - استحباب الخضوع في الدعاء، وإظهار الذُّلِّ، والمسكنة، والضعف؛ لقوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (¬4). 14 - أنّ من أحبّ الوسائل إلى اللَّه تعالى التوسل إليه بضعف الداعي، وعجزه، وفقره إلى اللَّه تعالى؛ لأنه يدلّ على التبري من ¬

(¬1) تفسير سورة آل عمران، للعلامة ابن عثيمين، 1/ 239. (¬2) البداية والنهاية، 2/ 395. (¬3) سورة مريم، الآية: 3. (¬4) سورة مريم، الآية: 4.

15 - أن الشكوى إلى الله تعالى لاتنافي الصبر،.

الحول والقوة، وتعلّق القلب بحول اللَّه، وقوته؛ لقوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (¬1). 15 - أنَّ الشكوى إلى اللَّه تعالى لاتنافي الصبر، وإ نما هي من كمال العبودية للَّه تعالى. 16 - يُستحبّ التوسّل إلى اللَّه تعالى بنعمه، وعوائده الجميلة السابقة عليه؛ لقوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}، ((أي لم أشقَ يا ربّ بدعائك؛ لأنك لم تخيّب دعائي؛ بل كنت تجيب دعوتي، وتقضي حاجتي، فهوتوسّل إليه بما سلف من إجابته وإحسانه طالباً أن يجازيه على عادته التي عوّده من قضاء حوائجه، وإجابته إلى ما سأله)) (¬2). لهذا يستحسن للداعي أن يستحضر نعم اللَّه تعالى عليه، وأنوع إحسانه بين يدي دعائه. 17 - ينبغي للداعي أن يكون جُلُّ دعائه في مطالب الدين؛ لقوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} (¬3)، أي: ((وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي، ألاّ يقوموا بدينك حق القيام، ولا يدعوا عبادك إليك)) (¬4). 18 - أنّ فعل الخيرات والمسارعة إليها من أعظم أسباب ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن سعدي، ص 569، وتيسير اللطيف المنان، ص 132. (¬2) بدائع الفوائد، 3/ 504. (¬3) سورة مريم، الآية: 5. (¬4) تفسير ابن سعدي، ص 564.

19 - أن دعاء الله تبارك وتعالى في حالتي الرغبة والرهبة.

الإجابة، دلّ عليه قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} بسبب {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} (¬1)، علّل جلّ وعلا بإجابته لدعائه، ووهبه إياه يحيى، وإصلاح له زوجه بـ ((إن)) التي هي من حروف التعليل، وكذلك التأكيد (¬2)،أي استجبنا لهم بسبب مسارعتهم إلى القربات والطاعات، ((ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها إلاّ انتهزوا الفرصة فيها)) (¬3). 19 - أنّ دعاء اللَّه تبارك وتعالى في حالتي الرغبة والرهبة من أسباب إجابة الدعاء، دلّ عليه في الآية السابقة: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}. 20 - أنّ الخشوع من أسباب إجابة الدعاء، كما في قوله تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (¬4) بالجملة الاسمية التي تدلّ على الدوام والثبوت، ((والخشوع هو: التذلّل، والتضرّع، والخوف اللازم للقلب الذي لايفارقه)) (¬5). 10 - {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 90. (¬2) انظر بتوسع: القياس في القرآن الكريم والسنة والنبوية، ص 361. (¬3) ابن سعدي، ص 615. (¬4) سورة الأنبياء، الاية: 90. (¬5) تفسير ابن كثير، ص 1046.

مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬1). هذا الدعاء جاء ذكره في كتاب اللَّه العزيز تنويهاً بأهميّته، والحثّ على العناية به في كتابٍ يُتلى إلى يوم القيامة؛ لأنه جاء عن خلصاء أصحاب عيسى، وأصفيائه، وأنصاره، سمّاهم اللَّه تبارك وتعالى (الحواريون) من صفائهم، كالشيء الأبيض الخالص البياض، من شدة النقاء والصفاء. فقد أخلصوا سرائرهم، وعلانيتهم، ونياتهم، فصاروا في أعلى درجات النقاء في ظاهرهم وباطنهم. قولهم: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} قدّموا توسّلهم بربوبيته تعالى؛ ((لأنّ الربوبية تدور على ثلاثة أشياء: الخلق، والملك، والتدبير، وإجابة الدعاء، داخل في هذه الثلاثة، فلذلك كان كثيراً ما يتوسّل به الداعون من الأنبياء والمرسلين، وغيرهم من المؤمنين، كما في الحديث الصحيح: (يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ) (¬2). أي: يا ربّنا صدَّقنا بكتابك الذي أنزلته (وهو الإنجيل)، وبكلّ ما أنزلته، وهذا الإيمان الكامل الذي يتضمّن الإيمان بكلّ ما أنزل اللَّه تعالى على أنبيائه من الكتب من قبلهم، ومن بعدهم، وفي تقديم ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 53. (¬2) مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار، برقم 1015.

الإيمان باللَّه ((لأنّه هو أصل كلّ شيءٍ، ومقدّم على كل شيء، والإيمان باللَّه تعالى يتضمّن أموراً: الأول: الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيّته، والإيمان بأسمائه، وصفاته جلّ وعلا)) (¬1). {وَاتَّبَعْنَا الرَّسولَ}: أي امتثلنا بما أتى به ظاهراً وباطناً، وهذا هو ثمرة الإيمان، والاتّباع، والإذعان، فجمعوا في دعائهم عدّة توسّلاتٍ عظيمة: توسّلاً بربوبيته، وبإيمانهم، وعملهم الصالح بين دعائهم، وطلبهم، استمطاراً لسحائب الإجابة منه - عز وجل -. {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}: هذه الغاية عندهم بعد تقديمهم الوسيلة: ((فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق، وأقروا لك بالتوحيد، وصدَّقوا رسلك، واتبعوا أمرك ونهيك، فاجعلنا في عدادهم ومعهم، فيما تكرمهم من كرامتك، وأحلّنا محلّهم ... )) (¬2). ويدخل في ذلك دخولاً أوليّاً أمتنا أمة الحق والوسط، وهذا إخبار ربّ العالمين، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬3)؛ لأنها هي آخر الأمم. قال شيخ المفسرين الطبري: ((يعرف خلقه - جل ثناؤه- بذلك سبيل الذين رضي أقوالهم وأفعالهم: ليحتذوا طريقهم، ويتبعوا ¬

(¬1) تفسير سورة آل عمران لابن عثيمين رحمه الله، 1/ 483. (¬2) تفسير سورة آل عمران لابن عثيمين رحمه الله، 1/ 483. (¬3) سورة البقرة، الآية: 143.

1 - إن الإيمان لا بد له من اتباع.

منهاجهم، فيصلوا إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامتهم)) (¬1). تضمّن هذا الدعاء من الآداب والفوائد: 1 - ((إنّ الإيمان لا بد له من اتباع. 2 - إنّه يجب أن يكون الإيمان شاملاً لكل ما أنزل اللَّه تعالى)) (¬2). 3 - ((إنّ إشهاد الإنسان على نفسه بالإيمان أو بالإسلام، وما أشبه ذلك لا يعد من الرياء، لا سيما في الاتباع؛ لأن في ذلك فائدة، وهي تقوية المتبوع)) (¬3). 4 - أهمية التوسل إلى اللَّه تبارك وتعالى بأكثر من وسيلة، فقد توسّل الأنبياء إلى اللَّه تعالى بوسيلتين عظيمتين: أ- الإيمان به. ب- واتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في قبول دعوتهم. 5 - الحرص على صحبة الأخيار؛ لأن في ذلك الصلاح في الدنيا، والفلاح في الآخرة، لقوله تعالى: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬4). 11 - {ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ ¬

(¬1) انظر: جامع البيان، 2/ 264. (¬2) تفسير سورة آل عمران لابن عثيمين رحمه الله، 1/ 308 - 313. (¬3) المرجع السابق. (¬4) المرجع السابق بتصرف يسير، 1/ 315.

المفردات:.

أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬1). المفردات: ((السّرف: تجاوز الحدّ في كل فعل يفعله الإنسان)) (¬2). فالإسراف: ((مجاوزة الحدّ، ومجاوزة الحدّ هي إما في غلو، وإما في تقصير)) (¬3). ما زلنا نقتطف من معين كتاب ربنا المبارك من جميل المباني، ودقائق المعاني، كلمات يستعذب بها الفؤاد، وتطيب الألسن، دعوات تتدفق منها الرحمات، والبركات، والخيرات. يُبيِّن لنا ربّنا من جميل الإشادة بالمؤمنين الصادقين الصابرين من أتباع الأنبياء والرسل، في الصبر، والثبات، والقوة، في مواضع المحن، وشديد البلاء، حثّاً لنا على الاقتداء بفعلهم ودعائهم، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّه وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} (¬4)، فما أصابهم الوهن والجزع، ولا الضعف لصلابتهم في الدين، وقوة يقينهم، فما كان لهم من القول في هذه الشدة إلاّ التضرّع إليه بالدعاء: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} (¬5)، أي ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 147. (¬2) المفردات، مادة (سرف). (¬3) تفسير سورة آل عمران للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 2/ 265. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 146. (¬5) سورة آل عمران، الآية: 147.

استر، وتجاوز عن صغار سيئاتنا، سألوا اللَّه تعالى المغفرة، وهم في أشدّ البلاء: {وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا}، أي وكذلك كبائر ذنوبنا، وإنما أضافوا إلى أنفسهم بهذا السؤال مع أن الظاهر أنهم برآء من التفريط في جنب اللَّه - عز وجل - هضماً لأنفسهم، واستقصاراً لهممهم (¬1)، وهذا من كمال العبودية للَّه ربّ العالمين. علموا أنّ الذنوب والإسراف فيها أعظم أسباب الخذلان والخسران، وأنّ التّخلّي عنها من أعظم أسباب النصر، فسألوا ربّهم المغفرة من كل الذنوب، وهذه هي صفات المتقين، فهم في رجاء وخوف، حتى وهم على أسنّة الشدائد والمصائب؛ لكون أكبر همّهم هو التّوجّه إلى اللَّه تعالى بأهمّ المطالب الدنيوية والأخروية، وهي: 1 - المغفرة للذنوب. 2 - وتثبيت الأقدام في مواضع الزّلل. 3 - والنّصر والظّفر على أعداء اللَّه تعالى. قوله: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}: أي قوِّ قلوبنا على جهادهم؛ لتثبت أقدامنا فلا ننهزم، والأقدام إنما تثبت عند ثبوت قوّة القلب واليقين، والعبد محتاج إلى اللَّه أن يثبّت قدمه في ثلاث مواطن: ((أن يثبته في مواطن القتال إذ لو لم يثبته اللَّه لفرّ، وأن يثبته اللَّه عند الشبهات؛ إذ لو لم يثبته اللَّه لزاغ، وأن يثبته اللَّه عند الشهوات، إذ لو لم يثبته اللَّه ¬

(¬1) القرطبي، 2/ 580، وروح المعاني، 3/ 131.

لهلك)) (¬1). {وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}: أي اجعل النصر لنا عليهم، فنكون الغالبين، وهم المخذولين، فإنّ النصر لا يستجلب إلاّ منك عزَّ شأنك. وفي طلبهم النصر مع كثرتهم المفرطة كما دلّ عليها لفظة (كأيّن) (¬2) في الآيات السابقة إيذاناً بأنّهم لا ينظرون إلى كثرتهم، ولا يُعوِّلون عليها، بل يسندون ثباتهم إلى اللَّه تعالى، مع كمال يقينهم بأنّ النّصر من اللَّه جلّ في علاه (¬3)، فلمّا جمعوا من عظيم الخصال في عصيب الحال، من الصبر، وترك الوهن، والضعف، والاستكانة، وطلب المغفرة والتوبة، وحسن الأدب في الخضوع بالدعاء، والاستنصار باللَّه تعالى وحده، أجابهم بحسن الثواب جزاءً وفاقاً، فقال عزّ من قائل: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (¬4)، ثواب الدنيا: النّصر، والغنيمة، والتمكين في الأرض، وحسن ثواب الآخرة: هو النعيم الأبدي في روضات الجنّات، وتخصيص ثواب الآخرة بالحسن لتفضيله ومزيّته على كل ثواب {واللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}: الذين أحسنوا العمل، ¬

(¬1) تفسير سورة آل عمران، لابن عثيمين، 2/ 266. (¬2) (كأيّن): التي تفيد الكثرة. (¬3) روح المعاني، 3/ 131 - 132. (¬4) سورة آل عمران، الآية 148.

الفوائد:

والقول، والفعل، فنالوا أفضل المحابّ، ومحبته تعالى هي صفة فعليَّة من صفاته العليَّة التي تليق به - عز وجل -. الفوائد: 1 - ((أنّ الإنسان مفتقر إلى اللَّه تعالى غاية الافتقار. 2 - ينبغي للإنسان أن يدعو اللَّه تعالى بهذا الدعاء، لا سيّما عند ملاقاة الكفار، حتى ينتصر عليهم. 3 - أن الإنسان لا يخلو من الإسراف على نفسه: إمّا في غلو، وإمّا في تقصير)) (¬1)، فينبغي له الإكثار من هذا الدعاء؛ لأنه مناسب لحاله. 4 - أنّ البسط في الدعاء أفضل من اختصاره؛ فإنهم لو قالوا: (اغفر لنا) لكفى المعنى، ولكن بسطوا في الدعاء في قولهم: (اغفر لنا)، أي للصغائر: (إسرافنا) للكبائر؛ لأن الدعاء مقام عظيم في العبودية، فكلما أكثر العبد منه، وبالغ فيه، زادت عبوديته لربّه تعالى، وهذا منتهى العبادات والمقامات. 5 - أنّ الذنوب سبب للخذلان والهوان؛ ولهذا سألوا اللَّه تعالى إزالتها. 6 - أنّ الدعاء من أعظم الأسباب لحصول المرغوب، ودفع المكروه؛ لقوله: (فآتاهم)، فرتّب الثواب على الدعاء بـ (الفاء) التي تفيد التعقيب، والترتيب، والسبب. ¬

(¬1) تفسير آل عمران، 2/ 267.

7 - ينبغي للعبد ألا يتكل على الأسباب ذاتها

7 - ينبغي للعبد ألاّ يتّكل على الأسباب ذاتها، بل على خالقها وموجدها،: ((فهم على كثرتهم لم ينظروا إلى كثرتهم، ولا يعوّلون عليها، بل يسندون ثباتهم ونصرهم إلى اللَّه تعالى)) (¬1). 12 - {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} (¬2). سبحانك: اسم مصدر منصوب على المفعولية المطلقة، وأصله من التنزيه والإبعاد عن السوء (¬3). الأبرار: جمع بر، والبرّ هو: التوسّع في فعل الخير (¬4). والخزي: الذلّ والهوان (¬5). ¬

(¬1) روح المعاني، 3/ 131. (¬2) سورة آل عمران، الآيات: 191 - 194. (¬3) تفسير سورة آل عمران لابن عثيمين، 2/ 543. (¬4) مفردات القرآن، مادة (بر). (¬5) المصدر نفسه، مادة (خزي).

هذه الدعوات الجليلة من أهل الإيمان، ينبغي للعبد أن يقف رويداً عندها بالتأمل والتدبر بما حوته من عظيم المنافع في مسائل الإيمان والمعاد. فقد جاء عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنّه قال لأُمِّنَا الصدّيقة بنت الصدّيق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَخْبِرِينَا بِأَعْجَبِ شَيْءٍ رَأَيْتِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: فَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِيِ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ، ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ اللَّيْلَةَ لِرَبِّي)، قُلْتُ: وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّ قُرْبَك، وَأُحِبُّ مَا يَسُرُّك، قَالَتْ: فَقَامَ فَتَطَهَّرَ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي، قَالَتْ: فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ حِجْرَهُ، قَالَتْ: وَكَانَ جَالِسًا، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، قَالَتْ: ثُمَّ بَكَى، فَلَمْ يَزَلْ يَبْكِي حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، فَجَاءَ بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِالصَّلَاةِ، فَلَمَّا رَآهُ يَبْكِي قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَبْكِي وَقَدْ غُفِرَ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟ لَقَدْ نَزَلَتْ عَلَيَّ اللَّيْلَةَ آيَةٌ وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا)) (¬1). إنه موقف عظيم للنبي - صلى الله عليه وسلم -، ينبغي للعبد أن يتأمّل جيّداً في هذا الخلق العظيم العجيب في أقطار السموات والأرض، وما يسمو به ذلك من المعارف، والإيمان، والحبّ، والتعظيم، والذكر الكثير لله ربّ العالمين. قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ ¬

(¬1) رواه ابن حبان في صحيحه، 2/ 386، برقم 620، وقال عنه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 106، برقم 68،: ((إسناده جيد)).

وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1). أي: ((هذه في ارتفاعها واتساعها، وهذه في انخفاضها وكثافتها، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات، وثوابت، وبحار، وجبال، وقفار، وأشجار، ونبات، وزروع، وثمار. {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}: أي تعاقبهما، وتعارضهما الطول والقصر، فتارة يطول هذا، وتارة يقصر هذا، ثمّ يعتدلان. {لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} أي: العقول التامّة الذكيّة التي تدرك الأشياء بحقائقها على جليّاتها)) (¬2). ثم وصف أصحاب العقول السليمة بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} أي: يذكرون اللَّه في كلّ أحوالهم، وأوقاتهم سرَّاً وعلانية. {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}: يتأمّلون في عظيم خلقه، وبديع صنعه، فدلّ هذا على أنّ التفكّر في خلق السموات والأرض من صفات أولياء اللَّه تعالى؛ لأنهم إذا تفكّروا بها، وتدبروا في خلقها العجيب، أثمر لهم برد اليقين، وقوّة التسليم بأن اللَّه تعالى خلق هذه الأجرام بالحق الذي يسمو منه الحكم الباهرة، فقالوا: ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآيتان: 190 - 191. (¬2) تفسير ابن كثير، 1/ 559.

{رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا}، أي: لم تخلقه عبثاً لكمال حكمتك، وسعة علمك. {سُبْحَانَكَ}: من ((التسبيح، وهو التنزيه، والإبعاد عن السوء، والذي ينزه اللَّه تعالى عنه شيئان: (النقص)، (ومماثلة المخلوقات))) (¬1)، أي: ننزهك عن كل نقص وعيب، ومن ذلك أن تخلق شيئاً عبثاً لا حكمة فيه، فإن خلقك وفعلك كامل من كل الوجوه، لكمال حكمتك وحمدك وجلالك، وهذا يدلّ على حسن توسّلهم حال دعائهم. {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}: قدّموا التنزيه المتضمّن لكل كمال قبل السؤال لشدّة رجائهم في الوقاية من هذا المهلك الرهيب، توسّلوا إليه تعالى أن يبعد عنهم أشدّ الشرّ وأعظمه، ثم بيّنوا علة سؤالهم: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}: أي من أدخلته النار فقد أهنته، وأخزيته أمام الجميع في المحشر، وهذا الخزي العظيم الذي لا نصير لهم في هذا اليوم العظيم، ذكروا هذا الكلام في سياق الأخبار متضمناً لسؤالهم اللَّه تعالى الوقاية من النار. {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}: أي داعياً يدعو إلى الإيمان، وهو الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: المنادي هو كتاب اللَّه تعالى، وكلاهما صحيح ومتعيّن: ((وهذا صريح في ¬

(¬1) تفسير آل عمران للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 2/ 543 - 548).

الإيمان بالرسول والمرسل)) (¬1)؛ لأن ((عامّة ألفاظ القرآن تدلّ على معنيين فأكثر)) (¬2). {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}: في هذا إخبار منهم بمنَّة اللَّه عليهم بالإيمان، فقدَّموا هذا التوسّل ليكون وسيلة إلى الغاية العظيمة المرجوَّة عندهم من المغفرة والنجاة في الدار الآخرة. {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}: أي بسبب إيماننا اغفر لنا ذنوبنا، وهذا من حسن توسّلهم إلى اللَّه تعالى، حيث توسّلوا للَّه بأفضل أعمالهم، وهو إيمانهم به تعالى، والإيمان به يعني: الإيمان: 1 - بوجوده. 2 - وربوبيته. 3 - وألوهيته. 4 - وأسمائه، وصفاته، وأفعاله. ففي تكرير النداء إظهار لكمال التضرع والخضوع، وهذا الذي ينبغي أن يكون عليه الداعي من الضراعة والرغبة والرهبة في دعائه إلى مولاه - عز وجل -، فإن ذلك أرجى في الإجابة والقبول. {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}: الذنوب طلبوا مغفرتها، والسيئات طلبوا ¬

(¬1) الضوء المنير على التفسير للصالحي، 2/ 160. (¬2) مجموع الفتاوى، 15/ 11.

تكفيرها؛ لأن الذنوب هي: الكبائر، والسيئات هي الصغائر (¬1). {وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}: طلبوا المغفرة من صغائر الذنوب، بعد أن سألوا المغفرة لكبار ذنوبهم، يدلّ على بسطهم في دعائهم لهذا المطلب الجليل، وقد بيّنا أهمية البسط في الدعاء سابقاً. {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}: طلبوا الوفاة مع الأبرار وجملتهم، فتضمن هذا الدعاء سؤال اللَّه التوفيق لفعل الخير، وترك الشرّ، الذي به يكون العبد من الأبرار. {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ}: وفي تكرير النداء بربوبية اللَّه تعالى إظهاراً لكثرة تضرعهم، وإلحاحهم المؤمّل منه الإجابة والقبول، وهذا يدل على كمال إيمانهم، وعبوديتهم لربهم جلّ وعلا. سألوا اللَّه تبارك وتعالى أن ينجز لهم ما وعدهم به على ألسنة الرسل من النصر والتمكين في الأرض، والفوز برضوان اللَّه تعالى، وجنانه في دار الآخرة، ثم أكّدوا ذلك متوسّلين أنّه لا يخلف الميعاد؛ لكمال صدقه في قوله ووعده، وكمال قدرته جلّ وعلا، كما قال: {فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} (¬2)، وقال عزّ من قائل: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} (¬3)، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا ¬

(¬1) تفسير آل عمران للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 2/ 555. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 47. (¬3) سورة النساء، الآية: 122.

وَعَدْلًا} (¬1)؛ لأن إخلاف الوعد إما أن يكون لكذب الواعد، وإما أن يكون لعجز الواعد، وكلا الأمرين منتفيين عن اللَّه جلّ وعلا (¬2). ثم بيّن - سبحانه وتعالى - من سننه القويمة التي لا تتغيّر ولا تتبدّل، كما قال عزّ شأنه: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} (¬3)، أنه يجيب من دعاه، ولاذ ببابه، وبجنابه العظيم. {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} الآيات ... أكّد - سبحانه وتعالى - بالإجابة السريعة (كما دلّت الفاء)، والعظيمة بحصول مطلوبهم، كما دلّ على ذلك حرف (الفاء)، و (السين)، و (التاء) الذي يفيد المبالغة، والتأكيد (¬4). ((وقوله: (ربهم)، ولم يقل اللَّه: (لأنهم كانوا يدعون بقولهم: {رَبَّنَا}، فالموقع هنا يقتضي الربوبية، وهي هنا ربوبية خاصة؛ لأن ربوبيته تعالى تنقسم إلى قسمين: عامّة وخاصّة، وقد اجتمع القسمان في قوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}، ((ومقتضى الربوبية العامّة مطلق التصرف، ومقتضى الربوبية الخاصّة النصر، والتأييد، و [الحفظ])) (¬5). وهذه الآيات البيّنات المشتملة على حسن الدعوات التي دعا بها ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 115. (¬2) تفسير آل عمران، لابن عثيمين، 2/ 565. (¬3) سورة فاطر، الآية: 43. (¬4) تفسير الطاهر بن عاشور، 3/ 202. (¬5) تفسير آل عمران لابن عثيمين، 2/ 568.

1 - الحث على التأمل في خلق السموات والأرض.

أُلو الألباب تحث العبد على الاجتهاد في الإكثار من الدعاء بها بتضرّعٍ وتذلّلٍ، ومما يدلّ على أهميتها ما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يقرؤها إذا قام من الليل (¬1). تضمّنت هذه الدعوات الكثير من الفوائد المهمّة والجليلة: 1 - الحث على التأمّل في خلق السموات والأرض؛ لأنّ اللَّه تعالى ذكر فيهما آيات. 2 - إنّ التأمّل في خلق اللَّه تعالى يثمر حسن العبادة: من الذكر، والتضرّع، والدّعاء، وزيادة الإيمان. 3 - ((فضيلة إدامة ذكر اللَّه - عز وجل - على كل حال، وأنه من لوازم العقل ومقتضياته. 4 - انتفاء الباطل في خلق اللَّه تعالى نصّاً مطلقاً، وإذا انتفى الباطل ثبت الحقّ في مقابله. 5 - إثبات ما أثبته أهل السنة: أن الصفات المنفية لا يُراد بها مجرد النفي، وإنما يُراد بها النفي مع إثبات كمال الضدّ. ¬

(¬1) أخرج الإمام البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: {إنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ... } أنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: ((بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ قَعَدَ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ، فَصَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ)). ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 191 (763).

6 - تنزيه الله جل وعلا عن كل عيب ونقص.

6 - تنزيه اللَّه جلّ وعلا عن كلّ عيبٍ ونقصٍ. 7 - إنّ صفوة الخلق محتاجون إلى الدعاء من الوقاية من النار. 8 - إثبات التوسّل في الدّعاء بصفات اللَّه تعالى، من قوله: {فَقِنَا}؛ لأنهم بنوا {فَقِنَا} على قولهم: {سُبْحَانَكَ فَقِنَا} يعني أننا نتوسل إلى اللَّه - عز وجل - بتَنَزُّهِهِ عن النقص أن يقينا من النار)) (¬1). 9 - إن الدّعاء كما يكون بصيغة الطلب، يكون كذلك بصيغة الخبر المتضمّن للطلب: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَه} أي: لا تخزنا فتدخلنا النار. 10 - إن سؤال اللَّه تعالى في مطالب الدِّين والدار الآخرة هي أفضل المطالب، وأعلى المراتب في الدعاء. 11 - فضيلة البسط في الدعاء على الاختصار؛ لأنه مقام عبودية، فكلما كثّره وطوّله العبد ازداد عبودية، وقربةً، وشوقاً إلى اللَّه تعالى؛ ولأنه يدلّ على الإلحاح الذي هو من موجبات الإجابة، فكل هذه الأسباب وغيرها تجعل الدعاء أكثر استجابة وقربة إلى اللَّه تعالى. 12 - يحسن بالداعي أن يذكر بعض منن وآلاء اللَّه تعالى عليه حال دعائه لقوله: {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}. ¬

(¬1) تفسير سورة آل عمران للعلامة ابن عثيمين، 2/ 544 - 551، و2/ 557.

13 - إن ذكر الإنسان لعمله الصالح لا يحبطه

13 - ((إنّ ذكر الإنسان لعمله الصالح لا يحبطه، لقوله: {أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}. 14 - جواز التوسل في الدعاء بالأعمال الصالحة؛ لقوله {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} عطفاً على قولهم: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا})) (¬1). 15 - أهمية التوسل إلى اللَّه بأسمائه كما في تكرارهم في توسلهم لهذا الاسم الجليل ((الرب)). 16 - وكذلك التوسّل إليه تعالى بصفاته، كما في قوله: (فَقِنَا)، وكذلك بصدق وعده: {مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ}، وهما صفتان فعليتان. 17 - من حسن الدعاء ذكر علّة السؤال؛ لقوله: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}، وكقوله: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} أي: ما سألناك أن تعطينا إلا لأنك لا تخلف الميعاد. 18 - إن كثرة الثناء مع التوسّلات الجليلة بين يدي الدعاء من أعظم أسباب الإجابة، وسرعة إعطاء المطلوب، كما يظهر في ثنائهم وتوسلاتهم، وما أفاد قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ}. 19 - مشروعية التوسّل إلى اللَّه بصفاته المنفية كما في: {إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}، وقوله: {أَنِّي لَا أُضِيعُ}، فيتوسل بها كما ¬

(¬1) المصدر السابق نفسه.

20 - فيه ظهور كمال أسماء الله تعالى وصفاته

يتوسل بصفات الإثبات. 20 - فيه ظهور كمال أسماء اللَّه تعالى وصفاته ... من سعة الكرم، والفضل، والعلم، والسمع، والإجابة، والقدرة، وكثرة المتعلقات، والآثار لهذه الأسماء والصفات في الخلق، وهذا من أعظم آثار وثمرات الأسماء والصفات في الخلق والكون. 13 - {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (¬1). لقد استوفينا شرحاً لمثيلتها من (سورة آل عمران) فارجع إليها (¬2). 14 - {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3). هذه الدعوة المباركة من دعاء أبوينا عليهما السلام، فهي الدعوات العظيمة المهمة لما حوته من عظيم المقاصد، والمدلولات الجليلة في كيفية التوبة والأوبة، من الذنوب والمعاصي، فذكرها ربنا - جل جلاله -؛لتكون لنا نبراساً وهدياً مستقيماً، نستهلّ به دعاءنا في حياتنا الدنيا. المفردات: (الربّ): هو المربّي، والمدبّر، والمُصلح، والسيّد، ¬

(¬1) سورة المائدة، الآية: 83. (¬2) انظر: ص148 من هذا الكتاب. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 23.

الشرح

والمالك، والمنعم (¬1). الظلم: ((وضع الشيء في غير محلّه المختصّ به، إمّا بنقصان أو زيادة، أو بعدول عن وقته، أو مكانه، والظلم يقال في مجاوزة الحدّ، ويستعمل في الذنب الكبير، وفي الذنب الصغير)) (¬2)، ويطلق الظلم على الشرك؛ لأنه أعظم الظلم، وأقبحه، قال تعالى مبيِّناً لوصايا لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬3). المغفرة: هي ستر الذنب، والتجاوز عنه، مأخوذة من (المغفر): الذي يستر به المقاتل رأسه، ويتقي به السهام وغيرها، فالمغفر جامع للستر والوقاية (¬4). الشرح: ((هذا الخبر الذي أخبر اللَّه - عز وجل - عن أبينا آدم من قيله الذي لقَّاه اللَّه تعالى إياه، فقال تائباً إليه من خطيئته تعريف منه جلّ وعلا ذكره جميع المخاطبين بكتابة كيفية التوبة إليه من الذنوب ... وأن خلاصهم مما هم عليه مقيمون من الضلالة، نظير خلاص أبيهم آدم من خطيئته، فقالا لربهما: يا ربنا فعلنا بأنفسنا من الإساءة إليها بمعصيتك، وخلاف أمرك، وبطاعتنا عدوك فيما لم يكن لنا أن نطيعه ¬

(¬1) النهاية لابن الأثير، 2/ 179. (¬2) مفردات القرآن للراغب الأصفهاني، ص 537. (¬3) سورة لقمان، الآية: 13. (¬4) انظر: مقاييس اللغة لابن فارس مادة (غفر)، 4/ 385، لسان العرب لابن منظور، 4/ 323، وانظر أيضاً: تفسير سورة آل عمران للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 1/ 192.

فيه به بعقوبتك إيَّانا عليه، (وَتَرْحَمْنَا): بتعطّفك علينا، وتركك أخذنا به: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}: لنكوننّ من الهالكين (¬1)، استدلّ بالآية أن الصغائر يعاقب عليها مع اجتناب الكبائر إن لم تغفر (¬2)، فغفر اللَّه لهما ذلك: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (¬3)، وهذه سنّة اللَّه تعالى التي لا تتغير في الصادقين المسرعين في توبتهم إليه بالعفو، والتجاوز، والصفح، وإن كان الذنب عظيماً. قال ابن كثير رحمه اللَّه: ((وهذا اعتراف، ورجوع، وإنابة، وتذلل، وخضوع، واستكانة، وافتقار إليه تعالى، وهذا السرّ ما سرى في أحد من ذرّيته إلا كانت عاقبته إلى خير في دنياه وأخراه)) (¬4). ((فمن أشبه آدم بالاعتراف وسؤال المغفرة والندم، والإقلاع، إذا صدرت منه الذنوب، اجتباه ربّه وهداه، ومن أشبه إبليس إذا صدر منه الذنب، لا يزال يزداد من المعاصي؛ فإنه لا يزداد من اللَّه تعالى إلاّ بُعداً)) (¬5). وفي تقديم طلب المغفرة على الرحمة دلالة دقيقة على أن ¬

(¬1) جامع البيان (تفسير الطبري)، 3/ 427. (¬2) تفسير أبي السعود، 2/ 486. (¬3) سورة طه، الآيتان: 121 - 122. (¬4) البداية والنهاية، 1/ 184. (¬5) تفسير ابن سعدي، 3/ 13.

الفوائد المستنبطة من الدعاء:

الرحمة لا تنال إلا بالمغفرة، وهذا التعبير ظاهر في أغلب سياقات الدعاء في القرآن (¬1). الفوائد المستنبطة من الدعاء: 1 - إن تقديم الاعتراف بالخطأ، وظلم النفس قبل طلب المغفرة هو أرجى في قبول المغفرة والإجابة. 2 - أهميّة التوسّل بربوبية اللَّه تعالى حال الدعاء، كما في تصدير دعائهم بـ (ربّنا) الذي يدلّ على التربية، والعناية، والإصلاح، ومن ذلك إجابة دعائهم. 3 - جمع هذا الدعاء المبارك ((أربعة أنواع من التوسّل: الأول: التوسّل بالربوبية (ربنا). الثاني: التوسّل بحال العبد: (ظلمنا أنفسنا). الثالث: تفويض الأمر إلى اللَّه جلّ وعلا: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا}. الرابع: ذكر حال العبد إذا لم تحصل له مغفرة اللَّه ورحمته: {لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ})) (¬2). 4 - ((منّة اللَّه تعالى على آدم بقبول التوبة، فيكون في ذلك منّتان: ¬

(¬1) انظر: الدعاء في القرآن الكريم، ص 67. (¬2) تفسير سورة البقرة، ابن عثيمين، 1/ 135.

5 - تضمنت هذه الدعوة أخلص شروط التوبة النصوح.

الأولى: التوفيق للتوبة، والثانية: قبول التوبة)) (¬1)، وهذه منه عامّة لكل من يتوب إلى اللَّه تعالى، فينبغي للعبد أن يشكر ربه إن وفّقه للتوبة. 5 - تضمّنت هذه الدعوة أخلص شروط التوبة النّصوح، وهي: ترك الذنب، والندم عليه، والعزيمة مستقبلاً على عدم العودة إليه. 6 - هذه الدعوة من أفضل الصيغ في طلب المغفرة؛ لأن ربّنا علّمها أبا البشر، وجُعِلت قرآناً يُتلى إلى قيام الساعة. 7 - من كمال الدعاء أن يجمع الداعي حال دعائه بين الرغبة والرهبة والتوبة: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. 8 - من حُسن الدعاء وأدبه أن يكون بصيغة التعريض المتضمّنة للطلب. 9 - إنّ مطلب المغفرة، والرحمة من أهمّ المطالب. 10 - يُستحبّ للدّاعي أن يذكر سبب الدعوة التي يدعو بها: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. 11 - فيها بيان أن الذنب ينبغي أن يُستعظم، وإن كان صغيراً؛ فإنه في حقّ العظيم عظيم. 12 - إنّ الدعاء ملجأ جميع الأنبياء والمرسلين، وأنه لاغنى لأحد ¬

(¬1) المصدر السابق.

15 - {ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين}.

عنه من الخلق أجمعين. 15 - {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬1). هذه دعوة أصحاب الأعراف، ((والأعراف: موضع بين الجنة والنار، يشرف على كل منهما، وليس هو موضع استقرار، وإنما هو موضع أُناسٍ تساوت حسناتهم وسيئاتهم، يمكثون فيه مدة كما يشاء اللَّه، ثم يدخلون الجنة، وفي ذلك حِكَمٌ نبَّه اللَّه تعالى عليها ... )) (¬2). وقد ذكر اللَّه - عز وجل - دعوتهم في قوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: وإذا صُرفت أبصار أصحاب الأعراف حيال وجوه أصحاب النار، رأوا منظراً شنيعاً في تشويه اللَّه تعالى لهم، وهَوْلاً فظيعاً في ما هم فيه، فتضرّعوا إلى اللَّه ألاّ يصيبهم ما أصابهم، فقالوا: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: سألوا اللَّه تعالى أن يُعيذهم من سوء حال الظالمين في النار، وهذا يدلّ على شدّة العذاب المحيط بهم، والعياذ باللَّه تعالى: ((وفي وصفهم بـ (الظلم): دون ما هم عليه حينئذٍ من العذاب، وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء إشعارٌ بأنّ المحذور عندهم ليس نفي العذاب فقط؛ بل مع ما يوجبه، ويؤدي إليه من الظلم)) (¬3) دلالة على سوء هذا الوصف المهين. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 47. (¬2) المواهب الربانية، ص 37. (¬3) تفسير أبي السعود، 2/ 496.

1 - ينبغي للعبد أن يجتنب كل ما يؤدي - والعياذ لله - إلى سوء المآل والحال

ولما كان اللَّه تعالى ((قد قضى أنّ أصحاب الأعراف سيدخلون الجنّة، جعل الطمع والرجاء في قلوبهم، والدعاء أن يجيرهم من النار، ولا يجعلهم مع القوم الظالمين في ألسنتهم، والدعاء مع الرجاء والطمع لا تتخلف عند الإجابة)) (¬1). فالمؤمن ينبغي له أن يلازم سؤال اللَّه تعالى ألاّ يجعله مع القوم الظالمين في الدنيا ولا في الآخرة، فينبغي له أن يفارقهم، ولا يجاورهم في الدنيا، حتى لا يحوطه من العذاب ما يحوطهم، كما قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} (¬2). وحتى لا يكون معهم في الآخرة لما هم فيه من سوء المكان من العذاب المهين، فالنجاة في الابتعاد عنهم، والتمسك بصراط اللَّه تعالى المستقيم. تضمّنت هذه الدعوة جُملاً من الفوائد: 1 - ينبغي للعبد أن يجتنب كلّ ما يُؤدّي - والعياذ للَّه - إلى سوء المآل والحال إلى جهنم وبئس المصير من الأقوال والأفعال والأخلاق. 2 - ينبغي الإكثار من هذه الدعوة المهمّة؛ لأنّها تضمّنت الاستعاذة من أسوأ الخصال التي تورد سوء المآل. ¬

(¬1) المواهب الربانية، ص 38. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 25.

3 - أهمية الدعاء، فلا غنى للخلائق عنه حتى في الدار الآخرة

3 - أهمّية الدعاء، فلا غِنى للخلائق عنه حتى في الدار الآخرة، فما استجلب النعم، ودفعت النقم بمثله. 4 - دلّت هذه الدعوة على المبالغة في سؤال اللَّه تعالى مجانبة الظالمين، كما دلّ قوله: (مع)، ولم يقل (من) دلالة على شدّة المباعدة؛ فإن السؤال ألاّ يكون معهم آكد في توكيد اللفظ والمعنى، ألاّ يكون منهم من باب أولى. واللَّه تعالى أعلم. 16 - اللَّهُمَّ {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ* وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ} (¬1). هذه الدعوة المباركة من دعوات موسى - عليه السلام - تحمل في طيّاتها من كمال الآداب الجميلة، والمطالب الجليلة، التي يحسن بالداعي فهم معانيها ومضامينها، حتى يدعو ربّه الكريم بأجمل المباني، وأجلّ المعاني، وقدّم المؤلف حفظه اللَّه (اللَّهم)، ومعناها: يا اللَّه، حتى تتناسب في البدء بالدعاء أدباً وكمالاً، فبدأ - عليه السلام - بالثناء على اللَّه تبارك وتعالى بدءاً بضمير الفصل (أنت) الذي يفيد: ((التوكيد، والحصر، وإزالة اللبس بين الصفة والخبر)) (¬2)، فقال: أنت القائم ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآيتان: 155 - 156. (¬2) تفسير سورة البقرة لابن عثيمين، 1/ 102.

بأمورنا الدنيوية والأخروية، وأنت ناصرنا، وحافظنا، لا غيرك (¬1)، قدّم ذكر ولايته تعالى لهم على المغفرة؛ ليكون أدعى للإجابة، وتمهيداً لطلب المغفرة والرحمة، وهذا من حُسن أدبه في الدعاء لربه - عز وجل -، وكذلك في اختياره التوسّل إلى اللَّه تعالى باسم من أسمائه تعالى الحسنى، وهو (الوليّ): الذي له تعالى الولاية العامة على كل الخلائق: بالخلق، والتدبير، والرزق، والتصريف، وله الولاية الخاصّة لأوليائه: من الحفظ، والعناية، والرعاية، والنصرة على عدوّهم، وهذه الولاية التي سألها موسى - عليه السلام -. وفي تقديم طلب المغفرة قبل الرحمة، من باب التخلية قبل التحلية؛ لأن التخلية أهمّ من التحلية (¬2). وقوله: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ}: اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من الدعاء، وتخصيص المغفرة بالذكر؛ لأنها الأهم بحسب المقام (¬3). أي أنّ كلّ ((غافر سواك، إنما يغفر لغرض، كحب الثناء، ودفع الضرر، أما أنت فإنك تغفر لا لطلب عوض، ولا غرض، بل لمحض الفضل والكرم)) (¬4). ¬

(¬1) تفسير أبي السعود، 3/ 36. (¬2) روح المعاني، 6/ 111. (¬3) تفسير أبي السعود، 3/ 36. (¬4) روح المعاني، 6/ 111.

والغفر - كما تقدم مراراً- هو: ((الستر، وترك المؤاخذة بالذنب، والرحمة إذا قُرنت مع الغفر يُراد بها أن لا يُوقعه في مثله في المستقبل)) (¬1). ثم شرع سؤال خيري الدنيا والآخرة بأوجز لفظٍ، وأشمل معنى، فقال - عليه السلام -: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ} فقوله: (اكتب): طلب ذلك بفعل الكتابة لإفادة معنى الثبات والتجدد، قال ابن عاشور رحمه اللَّه: ((لمعنى العطاء المحقّق حصوله، المجدد مرة بعد مرة؛ لأن الذي يريد تحقيق عقد، وعدة، أو عطاء، وتعلقه بالتجدد في المستقبل يكتب به في صحيفته، ولو كان العطاء أو التعاقد لمرة واحدة لم يحتج للكتابة، فالمعنى آتنا الحسنة تلو الحسنة في أزمان حياتنا، ويوم القيامة)) (¬2). وقد تقدم سابقاً في تفسير معنى الحسنة في سورة البقرة، وهي كلمة جامعة لكل ما يتمنّاه العبد في دينه، ودنياه، وآخرته. ثم ختم دعاءه بقوله: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}: أي تبنا، وأنبنا إليك، في جميع أحوالنا: ((والجملة مستأنفة مسوق لتعليل الدعاء؛ فإن التوبة مما يوجب قبول الوعد المحتوم)) (¬3). وهي من أهم مؤكدات قبول وإجابة الدعاء، فَحَسُنَ الختام بها. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، ص 646. (¬2) التحرير والتنوير، 8/ 310. (¬3) تفسير أبي السعود، 3/ 36.

1 - ينبغي للداعي أن يختار في دعائه لربه تبارك وتعالى أنبل الألفاظ،

الفوائد: 1 - ينبغي للداعي أن يختار في دعائه لربه تبارك وتعالى أنبل الألفاظ، وأجمل المعاني والتعظيم مثل: أ- ضمير الفصل (أنت). ب- توسّل باسم من أسمائه الحسنى (الولي) كما في قوله: (وليّنا). ج- ومن الأسماء المضافة (خير الغافرين). د- التأكيد والعزم على التوبة، والأوبة: (إنا هدنا إليك). 2 - العناية بأجلّ المطالب والمقاصد في الدنيا والآخرة حال الدعاء، وهي: طلب المغفرة، والرحمة: (فاغفر لنا وارحمنا). 17 - {حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} (¬1). حسب: يستعمل في معنى الكفاية (حسبنا اللَّه) أي: كافينا (¬2). هذا الدعاء المبارك الذي أمر - سبحانه وتعالى - نبي الرحمة - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله إذا تولى عنه المعرضون بما جاءهم من الحق والهدى والصراط المستقيم، ولم يقبلوا منه النصيحة، ولا الموعظة الحقة أن يستعين ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية: 129. (¬2) مفردات القرآن للراغب، مادة (حسب).

باللَّه عليهم في الدعاء، والتوكل عليه، وقبل أن نشرح هذا الدعاء ينبغي أن نعلم أن الدعاء يُطلق على نوعين اثنين: 1 - دعاء مسألة وطلب. 2 - دعاء العبادة، وهذا يدخل في كلّ ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير اللَّه، والثناء على الداعين يتناول هذين النوعين، وكلاهما متلازمان، فالداعي دعاء المسألة يستلزم دعاء العبادة، وبالعكس، فالداعي دعاء العبادة هو مُتعبِّدٌ للَّه تعالى، طالبٌ وداعٍ دعاء بلسان مقاله، ولسان حاله ربه، قبول تلك العبادة، والإثابة عليها، والداعي دعاء المسألة، هو كذلك داعٍ للَّه تعالى بلسانه وحاله إن اللَّه يقبل دعاءه، ويثيبه عليه. {حَسْبِي اللَّهُ}: أي كافيني ربي من جميع ما أهمّني. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُو}: لا معبود بحقٍّ إلاّ هو، تضمّنت هذه الكلمة العظيمة التي عليها الفلاح والنجاح: نفي وإثبات، (لا إله) نفي لكل الآلهة التي تُعبد من دون اللَّه تبارك وتعالى: (إلاَّ هو) إثبات في تخصيص العبودية له جلّ وعلا بالحق، دون أحدٍ سواه. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ}:التوكل: هو اعتماد القلب على اللَّه وحده، وسكونه، وعدم اضطرابه؛ أي: اعتمدت عليه، ووثقت به وحده في جلب ما ينفع، ودفع ما يضر، وفي تقديم (عليه) للحصر والقصر:

والتوكل يقوم على ركنين:

أي لا أعتمد إلا عليه وحده عزَّ شأنه. والتوكل يقوم على ركنين: الركن الأول: اعتماد القلب على اللَّه تعالى. الركن الثاني: العمل بالأسباب. {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}: أي هو مالك أعظم المخلوقات على الإطلاق المحيط بكل شيء الذي هو سقف المخلوقات، وعليه استوى كما يليق به جلّ وعلا، فدونه من المخلوقات داخلون في ربوبيته، وملكه من باب أولى. وهذا الدعاء، وإن كان من باب الإخبار، إلا أنه متضمّن للسؤال والطلب، كما بيّنا سابقاً، وكأنّ حال السائل يقول: اكفني يا ربي من كل شيء يهمّني، ويخيفني، فتضمّن هذا الدعاء كمال حُسن الظن، واليقين باللَّه، وتوحيده، والتوكّل عليه، والثناء له، في ملكوته لكل شيء، فهو المستحقّ أن يفزع، ويرجع إليه في كل الأمور. وقد جاء في فضل هذا الدعاء المبارك من حديث أبي الدرداء - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((مَنْ قالَ فِي كُلّ يَوْمٍ حِينَ يُصْبحُ، وَحِينَ يُمْسِي: {حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ} سَبْعَ مَرَّاتٍ كَفَاهُ اللَّهُ تَعالى ما أهمَّهُ مِنْ أمْرِ الدُّنْيا والآخِرَةِ)) (¬1). ¬

(¬1) رواه ابن السني في عمل اليوم والليلة، ص 132، وابن عساكر، 36/ 196، وصحح إسناده الأرناؤوط في زاد المعاد، 2/ 37 موقوفاً، وحسّنه سليم الهلالي في عمل اليوم والليلة، برقم 72.

تضمن هذا الدعاء فوائد كثيرة، منها:

تضمّن هذا الدعاء فوائد كثيرة، منها: 1 - أهمية هذه الدعوة لما جاء في فضلها من السنة في الكفاية من كل ما يهمّ العبد في دينه ودنياه. 2 - أنّ على العبد أن يستفرغ كل ما في وسعه من الأسباب الشرعية وغيرها في تحقيق مقصوده، ثم يتوكل عليه جلّ وعلا، وهذا من كمال التوحيد. 3 - إنّ التوكّل سبب لكفاية اللَّه تعالى للعبد، كما قال - عز وجل -: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1). 4 - فضل كلمة التوحيد، فإنّ فيها النجاة في الدنيا والآخرة. 5 - أهمية التوسّل إلى اللَّه تعالى بتوحيده، والتوكل عليه، وربوبيته تعالى لأعظم مخلوقاته. 6 - أن الدعاء كما يكون بصيغة الطلب، يكون كذلك بصيغة الخبر. 7 - ينبغي للداعي أن يُحسن ظنّه بربه حال دعائه، كما في قوله: {حَسْبِيَ اللَّهُ}، وهذا من التوسّل، والعمل الصالح. 18 - {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 3.

بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (¬1). هذه الدعوة المباركة ضمن الدعوات الكثيرة التي ذكرت في كتاب ربنا لموسى - عليه السلام - مع فرعون كما سبق لما فيها من مقصدٍ عظيمٍ، في شأنٍ مهمّ وخطيرٍ، في كيفية تعامل المؤمن مع الكافرين والظالمين، عند الفتن، والتسلّط عليهم، وأن ملجأهم الأول اللَّه جلّ وعلا في التوكل والإنابة إليه، والالتجاء إليه بالدعاء، والتضرّع، وهذه الدعوة لها شبه من دعوة نوح - عليه السلام - وقومه، وقد شرحناها سابقاً. ((يخبر - سبحانه وتعالى - أنه لم يؤمن بموسى مع ما جاء به من الآيات البينات، والحجج القاطعات، والبراهين الساطعات إلا قليل من قوم فرعون (¬2) من الذرية، وهم الشباب على وجه التخوف منه، ومن ملّته أن يردّوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر)) (¬3)، كما قال تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} (¬4). ثم أمرهم عليه الصلاة والسلام بإخلاص التوكل على اللَّه تعالى: ¬

(¬1) سورة يونس، الآيتان: 85 - 86. (¬2) وقيل: بني إسرائيل، ورجّحه ابن جرير، والصحيح قول ابن كثير رحمه الله، لأن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى - عليه السلام -، واستبشروا بمجيئه. (¬3) تفسير ابن كثير، 2/ 579. (¬4) سورة يونس، الآية: 83.

{وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} (¬1):أمرهم - عليه السلام - بالتوكل؛ لأن اللَّه تعالى يكفي كل ما يهمّ العبد، ويخافه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬2) أي: ((كافيه، وكثيراً ما يقرن اللَّه تعالى بين العبادة والتوكل)) (¬3) لتلازمهما، وأنهما لا ينفكان {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (¬4). قال الإمام ابن القيم رحمه اللَّه: ((التوكل على اللَّه تعالى نوعان: أحدهما: توكل عليه في جلب حوائج العبد، وحظوظه الدنيوية، أو دفع مكروهاته، ومصائبه الدنيوية. الثاني: التوكل عليه في حصول ما يحبه، ويرضاه من الإيمان، واليقين، والجهاد، والدعوة إليه. وفي النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا اللَّه تبارك وتعالى، فمتى توكّل عليه العبد في النوع الثاني، حقّ توكله كفاه، والنوع الأول تمام الكفاية، ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل فيما يحبه ويرضاه)) (¬5). قال لهم موسى إن كنتم صدّقتم باللَّه، وما جاء به من الحقّ، ومن ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 84. (¬2) سورة الطلاق، الآية: 3. (¬3) تفسير ابن كثير، 2/ 579. (¬4) سورة هود، الآية: 123. (¬5) الفوائد، ص 78.

ذلك نصره، فتوكّلوا عليه وحده، كرر الشرط تأكيداً وبياناً أن كمال الإيمان بتفويض الأمر إلى اللَّه - عز وجل -، فكان منهم الاستجابة والطاعة الفورية، كما أفادت (الفاء) التعقيبية: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} أي: أسلمنا أمورنا إليه، ورضينا بما كتب علينا من قضائه وقدره الذي كلّه خير. وفي تقديمهم التوكل على سؤالهم، فهذا من باب التوسّل إليه بأعمالهم الصالحة. ولا يخفى ((في ترتيب الدعاء على التوكل تلويح بأن حقّ الداعي أن يبني دعاءه على التوكل على اللَّه، فإنه أرجى للإجابة)) (¬1). {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: ((أي: لا تسلّطهم علينا فيعذبونا حتى يفتنونا عن ديننا، ولا تجعلنا فتنة لهم يفتنون بنا غيرنا، فيقولون لهم: لو كان هؤلاء على حق لما سُلّطنا عليهم وعذبناهم)) (¬2). سألو السلامة والعصمة في دينهم لهم ولغيرهم، وهذا يدلّ على قوة إيمانهم على ما هم فيه من الشدَّة والكُرْبة، وبعد أن دعوا اللَّه تعالى في أن يصون دينهم عن الفساد والهلاك، أتبعوه بسؤال اللَّه السلامة لأنفسهم (¬3) من الهلاك والضرّ، فقالوا: ¬

(¬1) تفسير أبي السعود، 4/ 670. (¬2) تفسير الشوكاني، 2/ 466. (¬3) انظر: المرجع السابق.

1 - إن الإيمان الصادق يقتضي التوكل على الله تعالى وحده

{وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} أي: خلّصنا بواسع رحمتك من مجاورة القوم الكافرين، وتخصيص التوسل برحمته؛ لأنّ بها يحصل المطلوب، ويزول المكروه، وفي هذا دليل على اهتمامهم بأمر دينهم فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم؛ ولهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من مصائب الدين؛ لأنها أشد المصائب والمهالك، ((وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا)) (¬1). الفوائد: 1 - إن الإيمان الصادق يقتضي التوكل على اللَّه تعالى وحده: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا}. 2 - إن الدعاء لا ينافي التوكل على اللَّه تعالى والتقوي به، بل هو أدلُّ على التوجه بالتوكل والاعتماد على اللَّه تعالى، والمؤمن لا يتمنّى البلاء، ولكن يثبت عند اللقاء)) (¬2). 3 - أهمية التوسل إلى اللَّه تعالى حال الدعاء، حيث توسلوا إليه بعملهم الصالح: (عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا)، وتوسلوا إليه باسم من أسمائه الحسنى (رَبَّنَا)، وصفة من صفاته العلا (برحمتك) ((نجنا برحمتك)). ¬

(¬1) سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا علي بن حجر، برقم 3502، والنسائي، كتاب الجمعة، الصلاة قبل الجمعة والإمام على المنبر، برقم 10151. وحسّنه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2783. (¬2) في ظلال القرآن، 3/ 1816.

4 - ينبغي الاستعاذة من الفتن لشدة خطورتها على الدين

4 - ينبغي الاستعاذة من الفتن لشدة خطورتها على الدين، فقد كان - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالاستعاذة منها: ((تعوَّذوا باللَّه من الفتن: ما ظهر منها، وما بطن)) (¬1)، وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه قبل السلام: ((اللَّهُمَّ إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات)) (¬2). 19 - {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} (¬3). المفردات: العَوذ: الالتجاء إلى الغير، والتعلّق به، يقال: عاذ فلان بفلان (¬4)، ((وحقيقة معناه: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه)) (¬5). الشرح: هذه الدعوة المباركة من النبي نوح - عليه السلام - بعد أن أهلك اللَّه تعالى ابنه مع الكافرين في الطوفان، سأل ربه سؤال استعلام عن حال ولده الذي غرق: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنة، وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، برقم 2867. (¬2) البخاري، كتاب الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، برقم 1377، وبنحوه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم 588. (¬3) سورة هود، الآية: 47. (¬4) مفردات ألفاظ القرآن، ص 594. (¬5) بدائع الفوائد، 2/ 200.

وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (¬1)، ((لعلّه عليه الصلاة والسلام حملته الشفقة، وأنّ اللَّه تعالى وعده بالنجاة لأهله، فظن أن الوعد لعمومهم: من آمن، ومن لم يؤمن، فبيّن له تعالى إنه ليس من أهلك الذين وعدتهم بالإجابة)) (¬2)، فقال تعالى له: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (¬3)، فقال نوحٌ - عليه السلام - نادماً، وملتمساً الصفح من ربه: إني أستجير بك، وأحتمي بجنابك من أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح بأنه جائز السؤال به لجهلي، وسعة علمك الذي وسع كل شيء. وقوله: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي}: ما فرط مني من قول، وما صدر عني من فعل بسبب جهلي، لا عن قصدٍ مني، وهذا دأب الصادقين في سرعة التوبة إلى اللَّه تعالى، مخافة أن يدركهم غضبه وعقابه، وطلب المغفرة قبل الرحمة؛ لأن التخلية مقدمة على التحلية. ثم أعقبها {وَتَرْحَمْنِي}، وتتداركني برحمتك التي وسعت كل شيء {أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} الذين خسروا في الدنيا بالاحتجاب عن علمك وحكمتك، وخسروا آخرتهم وسعادتهم، فدلّ على أن المغفرة والرحمة سبب لدفع المرهوب، والاستجلاب للمرغوب ¬

(¬1) سورة هود، الآية: 45. (¬2) تفسير ابن سعدي، ص 429. (¬3) سورة هود، الآية: 46.

وفي هذا الدعاء المبارك آداب مهمة ينبغي للداعي أن يعتني بها:

المحبوب. الفوائد: وفي هذا الدعاء المبارك آداب مهمّة ينبغي للداعي أن يعتني بها: 1 - ينبغي للداعي أن يتفَقَّه في باب الدعاء حتى يدعو على علمٍ، وبصيرةٍ، وفهمٍ. 2 - ينبغي للعبد الاعتناء في طلب هذين المقصدين العظيمين: المغفرة، والرحمة حال دعائه، كما في غالب الأدعية؛ لأن فيهما الوقاية والعناية، وذلك أنّ المغفرة هي ستر الذنب، والتجاوز عنه، وهذه هي الوقاية، والرحمة تقتضي الإحسان، والإنعام، والخيرات، وهذه هي العناية. 3 - أهمية سؤال اللَّه بربوبيته، سواء كان في الطلب أو في الاستعاذة؛ فإنه من مؤكدات الإجابة. 4 - ينبغي للداعي أن يتجنّب الاعتداء في الدعاء. 5 - فيه دلاله على أن العبد مهما كانت منزلته، فإنه مفتقر إلى اللَّه بالتوبة والمغفرة. 6 - ينبغي للداعي أن يعتني بالأدعية الشرعية؛ فإن فيها السلامة من الخلل، والزلل، وفيها كمال المقصد والمقاصد. 7 - ((عدم جواز الدعاء بما لا يعلم الإنسان مطابقته للشرع)) (¬1). ¬

(¬1) انظر: تفسير الشوكاني، 3/ 428.

20 - اللهم يا {فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا}.

20 - ((اللَّهُم يا {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (¬1). المفردات: فاطر: فطر الشيء يفطره وفطَّره: شقه، وتفطَّر الشيء: تشقّق، وأصل الفطر: الشقَّ طولاً، وجمعه فطور، قال تعالى: {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} (¬2)، أي: اختلال، ووهْيٍ فيه، والفطر والفطرة: الابتداء والاختراع (¬3). هذه الدعوة المباركة من النبي يوسف الصديق - عليه السلام -: ((دعا به ربه - عز وجل - لمّا تمّت النعمة عليه باجتماعه بأبويه وإخوته، وما منَّ اللَّه تعالى به عليه من النبوة والملك، سأل ربه - عز وجل - كما أتمّ نعمته عليه في الدنيا، أن يستمرّ بها عليه في الآخرة، وأن يتوفّاه مسلماً حين يتوفّاه، وأن يُلحقه بالصالحين، وهم إخوانه من النبيين والمرسلين صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين)) (¬4). وهذا يدلّنا على أهمية الدعاء، وأنه منهج كل الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وأنه ملجؤهم إليه في سرائهم وضرائهم، وفي كل أحوالهم، وأنه ينبغي أن يكون الدعاء ملجأ العبد في حياته ¬

(¬1) انظر: سورة يوسف، الآية: 101،وانظر للفائدة: كتاب الفوائد لابن القيم، ص 436، و437. (¬2) سورة الملك، الآية 3. (¬3) انظر: الصحاح، 2/ 281، واللسان، 5/ 3432، والمفردات، ص 64. (¬4) تفسير ابن كثير، 2/ 622.

في جميع شؤونه، وفي كل صغيرة وكبيرة. فصدر دعائه بأجمل الألفاظ، وأكمل المعاني، من أسمائه الحسنى، وصفاته العلا. فقال: {فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ}: أي يا خالق السموات والأرض، ومبدعهما، ومبتدئهما من غير مثال سابق. {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: مالك كل أموري، وكل أحوالي، في الأولى والآخرة. فسأل اللَّه تعالى الولاية الخاصة التي من مقتضاها: العناية، والرعاية. {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا}: سأل اللَّه تعالى الثبات على الإسلام حتى يتوفاه عليه، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). وهذا المطلب الجليل كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يسأله ربه تبارك وتعالى: ((يا وليَّ الإسلام وأهله، مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه)) (¬2). ثم سأل ربه تعالى أن يكمل له هذه النعمة في مرافقة الصالحين من أوليائه في جنات النعيم، فقال تعالى: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}. ولا يدلّ هذا الدعاء المبارك على أن يوسف - عليه السلام - دعا باستعجال ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 102. (¬2) ذكره صاحب العقيدة الطحاوية، ص 420، وصححه الشيخ الألباني في الموضع نفسه، كما ذكره الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1823، وقال: ((أخرجه السلفي في الفوائد المنتقاة))، وصححه.

الفوائد:

الموت، فإن هذا لا يجوز في شريعتنا (¬1). كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا لِلْمَوْتِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي)) (¬2). الفوائد: ((جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد، والاستسلام للرب - عز وجل -، وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غيره سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجلّ غايات العبد، وأن ذلك بيد اللَّه تعالى، لا بيد العبد، والاعتراف بالمعاد، وطلب مرافقة السعداء)) (¬3). 21 - {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} (¬4). هذه من دعوات أبينا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - تحمل في طياتها من جليل المعنى، وعظيم المقصد والمطلب في التوسل إلى اللَّه تعالى في الوقاية من أدران الشرك بأنواعه. ((أي واذكر إبراهيم - عليه السلام - في هذه الحالة الجميلة {رَبِّ اجْعَلْ ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 2/ 662. (¬2) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء بالموت والحياة، برقم 6351، مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب كراهة تمني الموت لضر نزل به، برقم 2680. (¬3) انظر: تفسير ابن كثير، 2/ 663. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 35.

هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا}: أي الحرم آمناً، فاستجاب اللَّه دعاءه شرعاً وقدراً، فحرّمه اللَّه تعالى في الشرع، ويسّر من أسباب حرمته قدراً ما هو معلوم، حتى إنه لم يُرده ظالم بسوء إلا قصمه اللَّه تعالى، كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم)) (¬1). ومن خواص هذا المكان المبارك الطيّب الطاهر أنه من أراد به مجرد الإرادة بالسوء والشرّ، فإنّ اللَّه تعالى يذيقه من العذاب الشديد، قال تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬2). وعن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - في قول اللَّه - عز وجل -: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} قال: لَوْ أَنَّ رَجُلًا هَمَّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ لَأَذَاقَهُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا)) (¬3). ولما دعا للبلد الحرام بالأمن، دعا لنفسه ولبنيه بالأمن كذلك، فقال: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}: أي وأبعدني وبنيّ جانباً بعيداً عن عبادتها، ((وكان إبراهيم التيمي يقول: من يأمن البلاء بعد الخليل حين يقول: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) كما عبدها أبي وأمي)) (¬4). ¬

(¬1) الفوائد، ص 201. (¬2) سورة الحج، الآية: 25. (¬3) مسند الإمام أحمد، 7/ 340، برقم 4316، المستدرك، 2/ 388، وصححه على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقوّى الشيخ الألباني في السلسلة الضعيفة، 14/ 159روايته موقوفاً، وضعف الرواية المرفوعة. (¬4) تفسير القرطبي، 5/ 333.

فسأل اللَّه تعالى الثبات على التوحيد الصافي النقي، من كل أدران شرك، وكل شائبة تقدح فيه، له ولذريته، بكل شفقة وخوف ورجاء. قال ابن كثير رحمه اللَّه: ((ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته)) (¬1). فقد تضمّن سؤاله - عليه السلام - الأمان وما يضادّه من سلب الإيمان. وهذا الدعاء، وإن كان في القرون الغابرة، فمازال سارياً في عبادة الأصنام إلى يومنا هذا، بل وفي بعض البلاد، التي تنسب إلى الإسلام، ويدخل في هذا الدعاء، كل من عُبد دون اللَّه تبارك وتعالى، من حجر، أو شجر، أو بشر؛ فلذلك كانت هذه الدعوة في غاية الأهمية في كل زمان، ومكان، وتُتلى في الكتاب الحكيم المعجز إلى قيام الساعة، وهذا من أوجه إعجازه. ثم ذكر الموجب لخوفه منها، وعلى بنيه لكثرة من افتتن وابتلي بعبادتها من البشر: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} وهذا يدل على شدة شفقته على ذريته في مجانبتها، وأن ذلك شغله الشاغل، وهمّه الأكبر، وهذا يدلّنا على أهمية العناية بمسائل التوحيد، وما يضادّه من الشرك والكفر، وأنَّ أصفياء اللَّه تعالى وأنبياءه؛ بل وخليله، يلوذون به تعالى في وقايتهم من الشرك بأنواعه وأشكاله، فيا ليت الدعاة يعتنون بهذا الأمر العظيم في تبليغه للناس، وكذلك كل من له ولاية عامة أو ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 2/ 729.

1 - ينبغي لكل مسلم الإكثار من هذه الدعوة العظيمة.

خاصة، ومن ذلك تعليم الوالدين لأبنائهم عظم هذه الأمور. الفوائد: 1 - ينبغي لكل مسلم الإكثار من هذه الدعوة العظيمة؛ لاشتمالها في الاستعاذة من أعظم الذنوب، وأخطر الشرور وهو (الشرك). 2 - ينبغي للداعي أن يبثّ إلى ربه تعالى الشكوى مما يخافه ويخشاه، وأن هذه سنة الأنبياء في الدعاء، كما في قول يعقوب - عليه السلام -: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّه} (¬1). 3 - ينبغي مجانبة كل الأسباب والأحوال التي تُضلّ العباد عن دينهم {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ}. 4 - ينبغي لكل أحد أن لا يأمن على نفسه وذريته من عظام الذنوب، مهما كان في عبادة وطاعة. 5 - أهمية مسائل التوحيد والعقيدة، وأنه ينبغي للمؤمن الاعتناء بها، ومن جملة ذلك الدعاء. 22 - {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} (¬2). لا يزال ذكر الحديث عن أدعية خليل الرحمن في كتاب ربنا الجامع للخيرات الدنيوية والأخروية التي ينبغي للعبد العناية بها ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 86. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 40.

وملازمتها، حيث ذكرها ربنا تبارك وتعالى لملازمة الدعاء بها، والعمل بمقاصدها ومضامينها. قوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاة} أي: يا ربّ اجعلني ممن يحافظ على الصلاة في أوقاتها وأركانها وشروطها، وكل ما يؤدي إلى القيام بكمالها، وخصّ إقامة الصلاة بالدعاء لأهميتها؛ ولكونها شعار الإيمان ورأس الإسلام. وقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} أي: واجعل كذلك بعض ذريتي من يقيمها على الوجه الأتمّ والأكمل، وقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} فمن للتبعيض، وإنما خص بعض ذريته بهذا الدعاء لعلمه بإعلام اللَّه له، أن من ذريته من لا يقيم الصلاة، ويكون بعضهم كفاراً، أو فسقة، أو لا يصلّون (¬1). وهذه الدعوات من خير الدعوات التي يدعو بها العبد المؤمن له ولذريته، فلا أحبّ له من أن يكون مقيماً للصلاة هو وذريته على الوجه الأكمل والأتم. وقوله: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} أي وتقبّل دعائي، ولا يخفى في تكرار التوسل بربوبية اللَّه تعالى لكمال التضرّع والتذلل بين يدي اللَّه تعالى، ((وإظهار أن كل دعوة من هذه الدعوات مقصودة بالذات)) (¬2). ¬

(¬1) روح المعاني، للألوسي، 8/ 351. (¬2) ابن عاشور، 1/ 700.

1 - أهمية الصلاة، حيث خصها بالدعاء دون غيرها من العبادات.

الفوائد: 1 - أهمية الصلاة، حيث خصّها بالدعاء دون غيرها من العبادات. 2 - أهمية التوسل حال الدعاء بربوبية اللَّه - عز وجل -؛ لأن إجابة الدعاء من لوازمها. 3 - أهمية الإلحاح في الدعاء، وأنه من الأسباب العظيمة الموجبة للإجابة، حيث كرّر لفظ الربوبية (مرتين). 4 - ينبغي للداعي أن يكثر من سؤال اللَّه تعالى قبول دعائه. 5 - ((ينبغي لكل داع أن يدعوا لنفسه ولوالديه ولذريته)) (¬1). 6 - ينبغي للداعي أن يكون جُلَّ دعائه في مطالب الدين لأنها هي أهم المقاصد والمطالب التي يكون عليها الفلاح في الدارين. 7 - أن الدعاء هو ملجأ جميع الأنبياء والمرسلين والصالحين بل الخلق كلهم أجمعين. 23 - {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (¬2). هذه الدعوة العظيمة من الدعوات الجليلة التي دعا بها خليل الرحمن فيها أعظم المطالب والمقاصد التي عليها النجاة، في الدار الآخرة، وهو طلب المغفرة له ولجميع المؤمنين يدل دلالة جليلة ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 4/ 431. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 41.

على ما أوتيه - صلى الله عليه وسلم - من الشفقة لجميع المؤمنين. قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي}: خصَّ نفسه بالمغفرة، وقدّمها في الدعاء هضماً لها وشعوراً بالتقصير مما لا يسلم منه البشر. قوله: {وَلِوَالِدَيَّ} دعا لهما بالمغفرة لعظم حقهما عليه، كما قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (¬1)، إلا أنه دعا لأبيه بالمغفرة إنما كان عن موعدة وعدها إياه، فلمّا أصرّ على الكفر تبرأ منه قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬2)، فدلّت الآية الكريمة على عدم جواز الدعاء للمشركين بالمغفرة ما داموا على الكفر، والشرك سواء كان في حياتهم أو بعد مماتهم؛ لكن له أن يدعو لهم بالهداية والتوفيق للإيمان، كما قال الإمام البخاري رحمه اللَّه في صحيحه: ((باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم)) (¬3)، ثم ذكر الأدلة في ذلك. وقوله: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}: أي واستر ذنوب المؤمنين، وتجاوز عن سيئاتهم يوم يثبت ويتحقق محاسبة أعمال المكلَّفين على الوجه الأعدل منك، ولا يوجد أعدل منك يا ربنا. وفي هذه الدعوة البشارة الكبيرة لكل مؤمن ومؤمنة بالمغفرة؛ لأن ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 24. (¬2) سورة التوبة، الآية: 114. (¬3) البخاري، كتاب الجهاد، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألّفهم، قبل الحديث رقم 2937.

1 - أهمية مطلب سؤال الله المغفرة لأن عليها السلامة والفلاح.

اللَّه تعالى لا يرد دعاء خليله فيما سأله، وكذلك بشارة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، قال: سمعت النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب اللَّه له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)) (¬1)، والحسنة بعشر أمثالها إلى أضعاف كثيرة، فهنيئاً لمن أصابته هذه الدعوة الطيِّبة. لذا ينبغي للعبد أن يكثر من هذه الدعوة المباركة الشاملة لكل مؤمنٍ ومؤمنةٍ من لدن آدم إلى قيام الساعة، ويدخل في ذلك الداعي وأهله دخولاً أولياً. قال ابن كثير رحمه اللَّه: ((ينبغي لكلِّ داعٍ أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته)) (¬2). الفوائد: 1 - أهمّية مطلب سؤال اللَّه المغفرة لأنّ عليها السلامة والفلاح في الدنيا والآخرة، حيث خصّ سؤالها خليل الرحمن في دعائه، وذكرها لنا ربنا لنقتدي به. 2 - ينبغي للداعي أن يجعل نصيباً في دعائه لوالديه؛ لأنه من كسبهما؛ ولعظيم فضلهما عليه. ¬

(¬1) قال حمدي عبد المجيد السلفي في مسند الشاميين للطبراني، 3/ 234: ((أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 19/ 909، وأبو يعلى، 2/ 346، قلت: وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 210، وقال: ((رواه الطبراني وإسناده جيد))، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، 5/ 242، برقم 5902. (¬2) تفسير ابن كثير، 4/ 431.

3 - عظم الثواب المترتب على هذه الدعوة الطيبة المباركة:

3 - عِظم الثواب المترتب على هذه الدعوة الطيبة المباركة: أ-كونها ذكرت في كتاب اللَّه، قرآناً يتلى إلى يوم القيامة. ب-عِظم أجرها، فإن الداعي ينال بدعائه للمؤمنين بكل مؤمن ومؤمنة حسنة، والحسنة بعشر أمثالها. جـ-أنها دعوة من خليل الرحمن، واللَّه جلَّ وعلا لا يردّ دعوة خليله. د- أنها دعوة مستجابة، فإنّ دعوة المرء المسلم لأخيه المسلم بالغيب مستجابة كما تقدّم. 4 - ينبغي للداعي أن يكون له حظ من دعواته لإخوانه المؤمنين. 5 - أنّ الإكثار من هذه الدعوة توجب المحبة، وكمال الأخوة بين المؤمنين، وهذا من مقاصد الشارع الحكيم. 6 - يستحبّ للداعي أن يبدأ بنفسه حال دعائه، كما قال - سبحانه وتعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬1)، هذا في الأغلب، وذلك أنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه دعا ولم يبدأ بنفسه، كدعائه لأنس وابن عباس وغيرهما. 7 - ينبغي للداعي أن يكون أكثر دعائه في أمور الآخرة. 8 - أهميّة الأدعية الشرعية؛ فإنّ فيها عظيم المقاصد والمعاني التي تجمع كل مطالب الدنيا والآخرة التي يتمنّاه العبد بأوجز لفظ، ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 19.

24 - {ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا}.

وأجمل عبارة. 24 - {رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (¬1). المفردات: (الهيئة): هي ((الحالة التي يكون عليها الشيء محسوسة كانت أو معقولة)) (¬2). ((وأصل التهيئة: إحداث هيئة الشيء، أي أصلح ورتب)) (¬3). ((والرشد: خلاف الغي، ويُستعمل استعمال الهداية)) (¬4). وهو: ((إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب، والاهتداء إليه)) (¬5). الشرح: ((يخبر ربنا تبارك وتعالى عن أولئك الفتية الذين فرّوا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه، فهربوا منهم، فلجأوا إلى غارٍ في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا سائلين اللَّه تعالى من رحمته ولطفه: {رَبَّنَا آتِنَا} (الآية))) (¬6)، فأفادت هذه الآية ((أن وظيفة المؤمن ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 10. (¬2) مفردات الراغب، مادة (هيأ). (¬3) تفسير أبي السعود، 4/ 171. (¬4) مفردات الراغب، مادة (رشد). (¬5) تفسير أبي السعود، 4/ 171. (¬6) تفسير ابن كثير، 3/ 105.

التفكر في جميع آيات اللَّه التي دعا اللَّه تعالى العباد إلى التفكر فيها)) (¬1)، المنبثقة في ملكوت السموات والأرض، وأن كل آية تدلّ على كمال وحدانيته جلّ وعلا، وأن آياته لم تخلق عبثاً، وإنما فيها من بديع الحكم ما يستنير منها أهل الإيمان، فيزدادون إيماناً وهدى، ومفتاح إلى طريق كسب العلم والمعرفة، واليقين إلى كسب العلم والمعرفة. فلما فرّوا بدينهم ممن كان يطلبهم من الكافرين، وبذلوا السبب في ذلك اشتغلوا بأهم الأسباب: التضرّع إلى اللَّه واللجوء إليه بالدعاء، فقالوا: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً}: سألوا اللَّه تبارك وتعالى ((أنْ يمنَّ عليهم برحمة عظيمة، كما أفاد التنوين في {رَحْمَةً} تناسب عنايته باتّباع الدين الذي أمر به، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: {مِنْ لَدُنْكَ}، فإن {مِنْ}، تفيد معنى الابتداء، و {لَدُنْكَ}: تفيد معنى العندية، فذلك أبلغ ما لو قالوا: آتنا رحمة؛ لأن الخلق كلهم بمحل الرحمة)) (¬2)، فسألوا رحمة خاصة من ربهم جلَّ وعلا تقتضي كمال العناية بهم، وتفيض عليهم من كمال الإحسان والإنعام. وقوله: {وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} أي يسِّر لنا وسهِّل علينا الوصول إلى طريق الهداية والرشاد في الأقوال والأفعال في أمر ديننا ودنيانا. ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، 5/ 12. (¬2) تفسير ابن عاشور، 15/ 25.

تضمنت هذه الدعوة المباركة من الفوائد العظيمة الفوائد الآتية:

((حيث جمعوا بين السعي والفرار من الفتنة إلى محل يمكن الاستخفاء فيه، وبين تضرّعهم وسؤالهم اللَّه - عز وجل - تيسير أمورهم، وعدم اتكالهم على أنفسهم، وعلى الخلق)) (¬1)، فجعل اللَّه لهم مخرجاً، ورزقهم من حيث لا يحتسبون، وهي سُنّة اللَّه تعالى التي لا تتبدل مع المتقين الصادقين، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (¬2). وهذا السؤال من المؤمنين كان أيضاً من هدي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في سؤاله لربه - عز وجل -: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَهْدِيكَ لأَرْشَدِ أَمْرِي)) (¬3)، ((وَمَا قَضَيْتَ لِي مِنْ قَضَاءٍ، فَاجْعَلْ عَاقِبَتَهُ رَشَدًا)) (¬4). تضمنت هذه الدعوة المباركة من الفوائد العظيمة الفوائد الآتية: 1 - ينبغي الفرار من الأماكن التي لا يستطيع العبد القيام بدينه فيها، وإن ذلك من أوجب الواجبات. 2 - ((أنَّ من أوى إلى اللَّه تعالى، أواه اللَّه تعالى ولطف به، وجعله ¬

(¬1) تفسير السعدي، 5/ 13. (¬2) سورة الطلاق، الآيتان: 2 - 3. (¬3) مسند الإمام أحمد، 26/ 199، برقم 26296، مصنف ابن أبي شيبة، 10/ 282، برقم 30007، وصحيح ابن حبان، 3/ 183، برقم 901، والدعوات الكبير، للبيهقي، ص 142، والمعجم الكبير للطبراني، 9/ 53، برقم 8369، والمعجم الصغير له أيضاً، 2/ 8، برقم 682، وصححه الألباني في صحيح موارد الظمآن، برقم 2095. (¬4) الأدب المفرد، للبخاري، ص 222، ومسند الطيالسي، 3/ 148، والدعوات الكبير للبيهقي، ص 288، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 243.

3 - أن من ترك شيئا لله تعالى عوضه الله خيرا منه.

سبباً لهداية الضالين)) (¬1). 3 - أنّ من ترك شيئاً للَّه تعالى عوّضه اللَّه خيراً منه. 4 - أنّ من اتّقى اللَّه تعالى جعل اللَّه له مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب. 5 - ينبغي للعبد أن يجمع بين الأسباب الدنيوية والشرعية المطلوبة. 6 - أنّ رحمة اللَّه تعالى نوعان: رحمة عامة لكل الخلق مؤمنهم، وكافرهم، ورحمة خاصة لعباده الصالحين التي تقتضي العناية والتوفيق والهدى والسداد، والعبد يسأل ربه على الدوام أن يمنَّ عليه من خزائن رحمته الخاصة المكنونة. 7 - أنّ الدّعاء ينبغي أن يستجمع معه بذل الأسباب، فهم سألوا اللَّه تعالى، ثمّ بذلوا الأسباب التي منها فرارهم بدينهم إلى الكهف. 8 - أن الجزاء من جنس العمل، فهم حفظوا إيمانهم فحفظهم اللَّه تعالى بأبدانهم ودينهم. 9 - أنّ الدعاء وظيفة المؤمن في كل مهماته في حياته. 10 - الإكثار من دعاء اللَّه تعالى بسؤال الرحمة والرشد؛ لأن فيهما الصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة. 11 - تعظيم الرغبة في الدعاء كما أفاد سؤالهم: {رَحْمَةً} بالتنوين ¬

(¬1) تيسير اللطيف المنان، ص 163.

12 - أن الأدعية الشرعية جمعت وحوت كل ما يتمناه العبد في دينه ودنياه.

التي تدلّ على التعظيم. 12 - أنّ الأدعية الشرعية جمعت وحوت كلّ ما يتمنّاه العبد في دينه ودنياه. 25 - {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} (¬1). هذه الدعوة المذكورة في كتاب ربنا جلّ جلاله لنبي اللَّه موسى - عليه السلام - سألها اللَّه تعالى، لأمر عظيم وكبير، حين أمره اللَّه تعالى، بدعوة فرعون أعْتَى أهل الأرض كفراً، وطغياناً، وأكثر جنوداً وعتاداً، ادّعى الألوهية كذباً وزوراً؛ ولذلك جاءت قصص موسى - عليه السلام - في كتاب اللَّه كثيرة ومتنوعة. ولما كان هذا الأمر الخطب في غاية الأهمية والخطورة سأل اللَّه تعالى التوفيق إلى بعض المطالب والمقاصد التي تكون له عوناً لدعوته؛ فإن الدعاء هو سلاح المؤمن الذي يستنصر به، فبه تستجلب الخيرات، وتدفع به الشرور، والعبد يسأل ربه محسناً الظن به، فإن الداعي يُعطَى طلبه على قدر ظنه بربه الكريم، كما قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي)) (¬2). ¬

(¬1) سورة طه، الآيات: 25 - 28. (¬2) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:) وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ (، برقم 7405، ومسلم بلفظه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الذكر، والدعاء والتقرب إلى اللَّه تعالى، برقم 2686، ولفظ البخاري: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي))، ومسلم باللفظ نفسه، برقم 2675.

فبدأ بقوله: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي}: أي وسِّعْه بالنور، والإيمان، والحكمة، حتى أتحمّل الأذى بكل أنواعه القولي والفعلي؛ فإن انشراح الصدر يحوّل مشقّة التكليف إلى راحة، ونعيم، ويسر (¬1). وقوله: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي}: أي سهِّل عليَّ كل أمر أسلكه، وكل طريق أقصده في سبيلك، وهوّن عليَّ ما أمامي من الشدائد. قال العلامة ابن سعدي رحمه اللَّه: ((ومن تيسير الأمر أن ييسّر للداعي أن يأتي جميع الأمور من أبوابها، ويخاطب كل أحد بما يناسب له، ويدعوه بأقرب الطرق الموصلة إلى قبول قوله)) (¬2). فلمّا كانت أهم وسائل الدعوة إلى اللَّه قدرة الداعي على البيان، والإفهام بالقول قال: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي}: ففي هذا طلب التوفيق إلى حسن الكلام في الدعوة إلى اللَّه في خطاب الناس، والتأثير على عقولهم، وعواطفهم بالحكمة بالقول، وإلى الرفق بالفعل. وسؤاله - عليه السلام - لربه أن يزول عنه (اللثغ) ((وذلك حين عرض عليه التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه حين كان صغيراً ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، 5/ 153. (¬2) المصدر السابق نفسه.

1 - فيه بيان لفضيلة الذكر.

في بيت آسية زوجة فرعون, ولم يسأل - عليه السلام - أن يزول من لسانه بالكلية، بل بحيث يزول العي، ويحصل له فهم ما يُراد منه، وهو قدر الحاجة)) (¬1). وبعد أن سأل ربه تعالى من المطالب الأخرى: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} بيّن الغاية من هذه المطالب {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} (¬2)، وعبّر بقوله: (كَيْ)، والتي تفيد العلية (¬3)، أي: سألتك تلك الأمور حتى نذكرك الذكر الكثير من التسبيح والتهليل وغيره. فتضمّنت هذه الدعوة المباركة سؤال اللَّه تعالى الإعانة على أمور الدين من العبادة، والطاعة، والذكر، والتسبيح؛ لهذا يندب للداعي ذكر علة دعائه خاصة إذا كان من أمور الدين. الفوائد: 1 - فيه بيان لفضيلة الذكر، ((فإن مدار العبادات كلها والدين على ذكر اللَّه. 2 - أنّ الدعاء هو العبادة التي خُلِقَ الخلق من أجلها. 3 - إن الذكر يعين العبد على القيام بالطاعات وإن شقّت، ويهوّن ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 3/ 204. (¬2) سورة طه، الآيات: 29 - 35. (¬3) انظر: القياس في القرآن والسنة النبوية، ص 351.

4 - فيه فضيلة التسبيح.

عليه الوقوف بين يدي الجبابرة)) (¬1). 4 - فيه فضيلة التسبيح؛ لأنه عطف الذكر على التسبيح، وهو داخل به من عطف العام على الخاص لعظمة شأنه، وأنه من الأسباب العظيمة من النجاة من المرهوب، وحصول المرغوب، فكانت الأنبياء تلجأ إلى اللَّه في شدائدهم، كما في دعوة يونس: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، وكذلك في قوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (¬2)، وأنه تعالى قال لنبيّه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (¬3). 5 - إن التعبّد بأسماء اللَّه تعالى وصفاته له أثر عظيم في عبودية العبد لرب العالمين؛ لقوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}، فإن لكل اسم وصفة عبودية خاصة وثمرة. 6 - أهمية البسط في الدعاء وأنه مطلوب ((فكلّما كثّره العبد وطوّله وأعاده ونوّع جمله، كان ذلك أبلغ في العبودية من التذلل، وأقرب له من ربه، وأعظم لثوابه)) (¬4)، فهو - عليه السلام - لم يوجز في دعائه ¬

(¬1) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي، ص 583، وتيسير اللطيف المنان، للسعدي أيضاً، ص 135. (¬2) سورة الصافات، الآية: 143. (¬3) سورة الحجر، الآيتان: 97 - 98. (¬4) جلاء الأفهام، ص 230.

7 - إن مطالب الدين هي أعظم المطالب

كأن يقول: ((اللَّهم أعني أو وفقني))، وإنما عدَّد مطالبه وسؤاله. 7 - إنّ مطالب الدِّين هي أعظم المطالب، وأسمى المراتب التي ينبغي لكل داعٍ العناية بها. 8 - ينبغي للداعي أن يجمع مع دعائه لوازمه ومتمماته لكي يبذل الأسباب، والجد بها في نيل مطلوبه؛ فإنه سأل ربه أن يعينه، ثم ذهب إلى دعوته، فجمع بين الدعاء، وأسباب حصول مقصوده. 26 - {رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬1). أمر ربنا - عز وجل - نبيّه محمداً - صلى الله عليه وسلم - أن يسأله الزيادة في العلم، والأمر لنبيّنا هو أمر لنا كذلك؛ فإن الخطاب وُجّه إليه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه هو القدوة والأسوة للأمة بأكملها، ومعلوم أن الخطاب للقدوة خطاب لأتباعه من حيث الأصل (¬2)، إلا ما خصّه الدليل به دون غيره. فقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}، وقل يا محمد: ربِّ زدني علماً إلى ما علمتني، أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم (¬3). فأمره تعالى بزيادة في العلم، وأهمّها علم كتابه الكريم؛ فإنه الموصل إلى الترقّي في العلوم والمعارف والمنافع في الدنيا والآخرة، ولم يأمره - سبحانه وتعالى - بطلب الزيادة في الشيء إلا في العلم دلالة واضحة على فضيلة العلم، وأنه أفضل الأعمال، ((فلم يزل - صلى الله عليه وسلم - في ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 114. (¬2) قواعد التفسير، 2/ 579. (¬3) تفسير الطبري، 5/ 325.

الزيادة والترقي في العلم حتى توفّاه اللَّه تعالى)) (¬1). وهذا المطلب كان من مطالب الصحابة - رضي الله عنهم -، فكان من دعاء عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -: ((اللَّهُمَّ زِدْنِي إِيمَانًا وَيَقِينًا وَفَهْمًا, أَوْ قَالَ: وَعِلْمًا)) (¬2). فانهلّ أهل العلم في مشارق الأرض ومغاربها من تلكم الساعة إلى يومنا هذا، وإلى قيام الساعة بطلبه، والانشغال به آناء الليل والنهار. وقد جاءت أحاديث متنوعة تحث على هذا المطلب العظيم، فكان من أدعيته - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ انْفَعَني بِمَا عَلَّمْتنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُني، وَزِدْنِي عِلْمًا)) (¬3). وفي لفظ: ((اللهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، وارْزُقْنِي عِلْماً تَنْفَعُنِي بِهِ)) (¬4). ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 3/ 230. (¬2) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 9/ 105، والبيهقي في شعب الإيمان، 1/ 149، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 296: ((رواه الطبراني وإسناده جيد)). (¬3) سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا أبو كريب، برقم 3599، وسنن ابن ماجه، المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، برقم 251، ومصنف ابن أبي شيبة، 10/ 281، والبيهقي في شعب الإيمان، 4/ 91، ومسند عبد بن حميد، 2/ 32، والطبراني في الأوسط، 2/ 208، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2845. (¬4) هذا اللفظ في: السنن الكبرى للنسائي، كتاب صفة الصلاة، نوع آخر، 4/ 444، برقم 7808، وشعب الإيمان، للبيهقي، 6/ 18، والدعوات الكبير له أيضاً، ص 158، ومستدرك الحاكم، 1/ 510، والديلمي في الفردوس، 1/ 135، وقال الحاكم: ((صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه))، ووافقه الذهبي، وقال الألباني في السلسلة الصحيحة، 11/ 9: ((وهو كما قالا)).

27 - {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}.

وقد استنبط بعض العلماء ((الأدب في تلقي العلم أن المستمع للعلم ينبغي له أن يتأنَّى، ويصبر حتى يفرغ المُملي والمعلم من كلامه المتصل بعضه ببعض)) (¬1). 27 - {لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬2). المفردات: {سُبْحَانَكَ}: أصله من التسبيح: وهو تنزيه اللَّه تعالى، أي إبعاد اللَّه تعالى عن كل سوء ونقص، المتضمِّن لكل كمال (¬3). ((الظلم: وضع الشيء في غير موضعه المختصّ به، إمّا بنقصان، أو بزيادة، وإمّا بعدول في وقته أو مكانه، وهو ثلاثة أنواع: الأول: ظلم بين الإنسان وبين اللَّه تعالى، وأعظمه: الكفر، والشرك، والنفاق. والثاني: ظلم بينه وبين الناس. والثالث: ظلم بينه وبين نفسه)) (¬4). هذه الدعوة من الدعوات العظيمة المباركة في كتاب ربنا جل ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، 5/ 194. (¬2) سورة الأنبياء، الآية: 87. (¬3) انظر معاني التسبيح في الكتاب النفيس: ((التسبيح في الكتاب والسنة))، 1/ 35. (¬4) مفردات الراغب، ص 537.

شأنه دعاء يونس - عليه السلام - الذي بعثه جلَّ في عُلاه إلى أهل (نينوى) من أرض موصل في العراق، وقد قصّ لنا كتاب اللَّه تعالى في عدّة مواضع عنهم كما في هذه السورة، وفي سورة (الصّافّات)، وفي سورة (القلم) دلالة على أهميتها لما فيها من الحكم، والفوائد الجليلة في مصالح الدين والدنيا والآخرة، وقد ذكرت لنا التفاسير: أن اللَّه تبارك وتعالى أرسله إلى قومه، فدعاهم إلى اللَّه تعالى بالإيمان به، فأبوا عليه، ولم يؤمنوا، وتمادوا في كفرهم فوعدهم بالعذاب بعد ثلاث، ثم خرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم قبل أن يأمره اللَّه تعالى، فظنّ أن اللَّه تعالى لن يقضي عليه عقوبة ولا بلاء، فلمّا تحقّقوا من ذلك، وعلموا أنّ النبيَّ لا يكذب خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم ... ثمّ تضرّعوا إلى اللَّه تعالى وجأروا إليه ... فرفع اللَّه عنهم العذاب، قال سبحانه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} (¬1). وأما يونس - عليه السلام -، فإنه ذهب فركب مع القوم في السفينة، فلججت بهم، وخافوا أن يغرقوا، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم ... فوقعت القرعة على يونس، فأبوا أن يُلقوه، ثم أعادوها ثلاث مرات فوقعت عليه، قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ¬

(¬1) سورة يونس، الآية: 98.

هذا الدعاء من كمال التوحيد والعبودية في ثلاثة مطالب عظيمة:

الْمُدْحَضِينَ} (¬1)، فألقى بنفسه في البحر، فأرسل اللَّه تعالى من البحر حوتاً عظيماً، فالتقم يونس، وأوحى اللَّه جلَّ شأنه ألاَّ يأكله، بل يبتلعه ليكون بطنه له سجناً (¬2). فلما صار - عليه السلام - في بطن الحوت {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ}: ((قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ظلمة بطن الحوت، وظلمة البحر، وظلمة الليل)) (¬3)، فاستغاث بربه السميع العليم الذي لا تخفى عليه خافية في السماء والأرض، مهما دقّت وخفت، فأنجاه اللَّه تعالى كما هي سنته مع الموحدين المخلصين الداعين. ففي القصة من الحِكَمِ والمنافع التي تستدعي ذكرها أن قوله: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}: تضمن هذا الدعاء من كمال التوحيد والعبودية في ثلاثة مطالب عظيمة: 1 - إثبات كمال الألوهية واختصاصها باللَّه - عز وجل -: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ}. 2 - إثبات كمال التنزيه للَّه تعالى عن كل نقصٍ، وعيبٍ، وسوء المتضمن لكماله تعالى من كل الوجوه: {سُبْحَانَكَ}. 3 - الاعتراف بالذنب والخطأ المتضمن لطلب المغفرة، ¬

(¬1) سورة الصافات، الآية 141. (¬2) انظر: تفسير ابن كثير، 3/ 264. (¬3) مصنف بن أبي شيبة، 11/ 542، برقم 32527، المستدرك، 2/ 415، برقم 3445، وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، ووافقه الذهبي، وانظر: تفسير ابن كثير، 3/ 264.

فتضمن هذا الدعاء المبارك أنواع التوحيد الثلاثة:

المستلزم لكمال العبادة من الخضوع، والذل للَّه تعالى: {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. فتضمّن هذا الدعاء المبارك أنواع التوحيد الثلاثة: - توحيد الألوهية المتضمِّن لتوحيد الربوبية في قوله تعالى:) لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ (. - وتوحيد الأسماء والصفات في قوله: ((سُبْحَانَكَ)) فهذه أنواع التوحيد التي عليها الفلاح والنجاح في الدنيا والآخرة. وكذلك تضمّن هذا الدعاء الجليل صدق العبودية للَّه تعالى ربّ العالمين من كل الوجوه؛ ((فإن التوحيد والتنزيه يتضمّنان إثبات كل كمال للَّه تعالى ربّ العالمين، وسلب كلّ نقصٍ، وعيبٍ، وتمثيلٍ عنه، والاعتراف بالظلم يتضمّن إيمان العبد بالشرع، والثواب، والعقاب، ويوجب انكساره، ورجوعه إلى اللَّه تعالى، واستقالته عثرته، والاعتراف بعبوديته، وافتقاره إلى ربّه - عز وجل -، فها هنا أربعة أمور قد وقع التوسل بها: التوحيد, والتنزيه، والعبودية، والاعتراف)) (¬1). وكأنّ لسان حاله يقول: أي يا ربّ أنت الواحد المنفرد بالألوهية، المنزّه عن كل نقصٍ وعيبٍ، ومن ذلك أن ما وقع لي ليس بظلم منك، فأنت الكامل في أسمائك، وصفاتك، المنزّه عن كل سوء، فإني ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي بتعريضي للهلاك، فتضمّن هذا الإقرار: طلب الغفران منه جلّ وعلا، والتجاوز عنه، وإنقاذه ممّا هو ¬

(¬1) زاد المعاد، 4/ 208.

فيه من الكرب، والشدة، بألطف الكلمات، وفي هذا الدعاء من دقائق الأدب، وحسن الطلب، ما يوجب استجابته منها: ذكر ظلمه لنفسه، وسلك نفسه مسلك الظالمين لأنفسهم، ولم يطلب من اللَّه بصيغة الطلب الصريح أن يغفر له ذنبه؛ لاستشعاره أنه مسيء ظالم، وهو الذي أدخل الضر على نفسه، وأنه تعالى لم يظلمه، فتضمّن الطلب على ألطف وجه (¬1). فكأنه يقول: إن تعذبني فبعدلك، وإن تغفر لي فبرحمتك. وقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ}: بـ (الفاء): التي تفيد التعقيب دون مهلة، وبالإجابة الواسعة العظيمة التي يشير إليها (الألف، والسين، والتاء) التي تفيد المبالغة. ثم قال: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}: ((يقول جلّ ثناؤه: وكما أنجينا يونس من كرب الحبس في بطن الحوت في البحر إذ دعانا، كذلك ننجي المؤمنين من كربهم إذا استغاثوا بنا، ودعونا)) (¬2). وهذه البشارة، والوعد العظيم الذي لا يتخلف من اللَّه ربّ العالمين لكل مؤمن ومؤمنة إذا وقع في الشدائد والهموم، فدعا ربه القدير بهذه الدعوة العظيمة بصدقٍ وإخلاصٍ أن ينجيه ويفرج عنه. وجاءت هذه البشارة كذلك عن سيد الأولين والآخرين نبينا ¬

(¬1) انظر: مجموع الفتاوى، 10/ 247. (¬2) ابن جرير الطبري، 5/ 276.

وفي هذا الدعاء الذي فيه جوامع الأدب، والكلم الطيب الفوائد الكثيرة، منها:

محمد - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: ((دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنْ الظَّالِمِينَ) فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ)) (¬1). وفي رواية أخرى عنه - صلى الله عليه وسلم -: ((أَلاَ أُخْبِرُكُمْ أَوْ أُحَدِّثُكُمْ بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ كَرْبٌ أَوْ بَلاَءٌ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا دَعَا بِهِ فَفَرَّجَ عَنْهُ؟ فقَالُوا: بَلَى , قَالَ: دُعَاءُ ذِي النُّونِ))؟ (¬2). قال ابن القيم رحمه اللَّه: ((أمّا دعوة ذي النون فإن فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربّ - عز وجل -، واعتراف العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدوية الكرب والهمّ والغمّ، وأبلغ الوسائل إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - في قضاء الحوائج)) (¬3). وفي هذا الدعاء الذي فيه جوامع الأدب، والكلم الطيب الفوائد الكثيرة، منها: 1 - أن الدعاء كما يكون طلباً صريحاً يكون كذلك تعريضاً متضمناً ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا محمد بن يحيى، برقم 3505، وسنن النسائي الكبرى، كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة، برقم 10417، ومسند أحمد، 3/ 66، برقم 1462، وشعب الإيمان للبيهقي، 2/ 134، والدعوات الكبير له، 1/ 126، والمستدرك، 1/ 505، برقم 1863، ومسند أبي يعلى، 2/ 110، وكشف الأستار عن زوائد البزار، 1/ 25، ومكارم الأخلاق للخرائطي، 1/ 232، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2785 وغيره. (¬2) سنن النسائي الكبرى، كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة، برقم 10416، والحاكم، 1/ 505، وصححه، والدعوات الكبير للبيهقي، 1/ 271، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1744. (¬3) زاد المعاد، 4/ 208.

2 - أن هذه الصيغة جمعت آداب الدعاء، وأسباب الإجابة.

للطلب. 2 - أن هذه الصيغة جمعت آداب الدعاء، وأسباب الإجابة، فيحسن بالعبد أن يكثر منها حال دعائه، وكربه، وغمومه، وشدائده، كما أخبر بذلك الشارع الحكيم. 3 - هذه الدعوة فيها من كمال التوحيد، والإيمان باللَّه تعالى، الذي ينبغي لكل داع أن يضمن هذه المضامين في أدعيته. 4 - فيه دلالة على أن التسبيح سبب للإنجاء من الكرب والهمّ، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} (¬1). 5 - إن التوحيد والإيمان والإقرار بالذنوب من أكبر أسباب النجاة من مهالك الدنيا والآخرة. 6 - إن الذنوب من أعظم الأسباب الموجبة لزوال النعم، وحصول النقم. 7 - ينبغي أن يدعو العبد بحسن ظنٍّ عظيم في حقّ ربه تعالى حال دعائه؛ فإن اللَّه تعالى يعامله على حسب ظنّه به. 8 - إن ما يوقع على العبد من المصائب فإن سببها تقصيره في حق ربه تعالى. 9 - صحّة اعتقاد أهل السنة والجماعة أن التنزيه يتضمّن الكمال والتعظيم للَّه ربّ العالمين؛ فإن قوله: {سُبْحَانَكَ} أي أنزهك عن ¬

(¬1) سورة الحجر، الآيتان: 97 - 98.

10 - إن كل الخلق مهما كانت رتبهم ومنزلتهم مفتقرون إلى الله

كلِّ سوء، ومن ذلك ما وقع مني؛ فإنه ليس بظلم منك؛ فإنّك تنزّه عنه، وإنما بسبب جنايتي على نفسي، فدل أن التنزيه يتضمن الثناء والتعظيم من كل الوجوه. 10 - إن كل الخلق مهما كانت رتبهم ومنزلتهم مفتقرون إلى اللَّه تعالى فعليهم أن يفرّوا إليه وحده بالدعاء والرجاء والرغبة والرهبة. 28 - {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} (¬1). هذه الدعوة الطيبة المباركة الثانية لزكريا - عليه السلام - ذكرها المؤلف حفظه اللَّه تعالى ووفقه عقب الدعوة الأولى له، فتلك جاءت بلفظ حصول المطلوب الذي يرغبه وهو الولد بصيغة الطلب، وهذه جاءت بطلب عدم وقوع ما يكرهه في أن يكون فرداً دون ولد، وهو متضمن لسؤال اللَّه تعالى أن يرزقه ولداً، وكلا الدعوتين فيهما من كمال الأدب وحسنه في سؤال رب العالمين كما ترى، والعبد يتخير في مناجاة ملك الملوك الوسائل النبيلة التي تليق في الثناء والطلب على ربه الكريم. {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً} دعا ربه دعاءً خفياً منيباً قائلاً: ربي لا تتركني وحيداً بلا ولد ولا وارث. {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ}: أي أنت خير من يبقى بعد كل من يموت، ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية: 89.

فيه مدح له تعالى بالبقاء، وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء، وفي ذلك استمطار لسحائب لطفه - عز وجل - (¬1)، توسّل إليه بما يناسب مطلوبه باسمه تعالى: {خَيْرُ الْوَارِثِينَ}، بل أتى على وزن (افعل) للتفضيل زيادة في المبالغة في الثناء على اللَّه تعالى، استعطافاً للإجابة. فاستجاب - سبحانه وتعالى - لدعائه، ورزقه نبياً صالحاً سمّاه اللَّه تعالى {يَحْيَى} - عليه السلام -، وجعل امرأته ولوداً، بعد أن كانت عاقراً، دلالة على كمال قدرته - سبحانه وتعالى -، الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. ثم بين - سبحانه وتعالى - سبب إجابته له، فقال عزّ من قائل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} كانوا يبادرون في وجوه الخيرات على اختلاف أشكالها وأنواعها في أوقاتها الفاضلة، ويكمِّلونها على الوجه اللائق الكامل {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} كانوا ملازمي الخضوع والتضرع في كل الأحوال والأوقات. {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}: أي وكانوا أيضاً يفزعون إلينا بالدعوات، ويسألون الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوّذون من الأمور المرهوب منها، من مضارّ الدنيا والآخرة، في حال الرخاء، وفي حال الشِّدّة، وجاء اللفظ بصيغة المضارع: {وَيَدْعُونَنَا}: لفائدتين: 1 - كثرة سؤالهم، ومداومتهم في الدعاء بالرغبة والرهبة، كما أفاد ¬

(¬1) روح المعاني، 10/ 129.

29 - {رب أعوذ بك من همزات الشياطين}.

الفعل المضارع {يُسَارِعُونَ}. 2 - تصور صورتهم الجميلة في الذهن، فكأنّ المخاطب يراها في حينه، فينشأ عن ذلك التأسي في فعلهم والاقتداء بهم. أما الفوائد فقد ذُكرت مستوفاة كما في الدعوة السابقة فليرجع إليها. 29 - {رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} (¬1). إنّ النّاظر في الأدعية القرآنية، وكذلك السنّة النّبويّة يجد أنّها جاءت بعدة أنواع، فمنها: طلب حصول الفعل، كقوله تعالى: {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} (¬2)، ومنها ما جاء بطلب عدم الوقوع، وذلك في النفي، وتكون صيغته لا تفعل، مثل قوله تعالى: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} (¬3)، ومنها ما جاءت بصيغة الخبر المتضمنة للطلب، وهي كذلك أنواع، مثل قوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (¬4)، وأكمل الأدعية ما كان جامعاً من الأنواع كلها، وهذه هي غالب أدعية النبي - صلى الله عليه وسلم - تجمع هذه الأنواع مثال ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر - رضي الله عنه -، لما قال له: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، قال: ((قُلْ: ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآيتان: 97 - 98. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 193. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 86. (¬4) سورة القصص، الآية: 24.

هناك نوع آخر، وهو الاستعاذة: ويأتي على نوعين:

اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا ... )) (الحديث) (¬1). وهناك نوع آخر، وهو الاستعاذة: ويأتي على نوعين: 1 - شرّ موجودٌ بالفعل، فهذا يطلب رفعه وإزالته، أو تخفيفه مثل: ((أعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ ما أجِدُ وأُحَاذِرُ)) (¬2). 2 - شرٌّ يخاف وقوعه في المستقبل، فإنه يطلب منعه، مثل: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ وَعَذَابِ الْقَبْرِ)) (¬3)، فالاستعاذة يجب أن يعلم أنها خاصة بدفع الضرر الحاصل أو المتوقع، كما أن الخير المطلق نوعان كذلك: 1 - خيرٌ موجود بالفعل، فهذا يطلب دوامه وثباته، وأن لا يُسلب ولا يزول. 2 - خيرٌ معدوم، فهذا يطلب وجوده، وحصوله، ووقوعه. فهذه أربعة هي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين، ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، برقم 834، مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، برقم 2705. (¬2) مسلم، كتاب السلام، باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء، برقم 2202، وابن ماجه، كتاب الطب، باب ما عَوَّذ به النبي - صلى الله عليه وسلم - وما عُوِّذ به، برقم 3522، واللفظ له. (¬3) أحمد، 16/ 147، برقم 10180، والترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في جامع الدعوات عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3494، والنسائي، كتاب السهو، نوع آخر، برقم 1310، والبيهقي في الكبرى، 2/ 154، برقم 2998، والحاكم، 1/ 533، والبزار، 2/ 175، وقال محققو مسند الإمام أحمد، 16/ 147: ((إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير محمد بن أبي عائشة، فمن رجال مسلم)).

أهمية الاستعاذة:

وعليها مدار طلباتهم، وأسئلتهم وأمنياتهم)) (¬1). وقد جمع هذه المطالب المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بهذا الدعاء العظيم في أمره لأم المؤمنين عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ((عَلَيْكِ بِجُمَلِ الدُّعَاءِ وَجَوَامِعِهِ))، وفي رواية: ((عَلَيْكِ بِالْكَوَامِلِ))، أَوْ كَلِمَةً أُخْرَى، فَلَمَّا انْصَرَفَتْ عَائِشَةُ سَأَلَتْهُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ لَهَا: ((قُولِي: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ ... ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ)) (¬2). أهمية الاستعاذة: لما كانت الاستعاذة نوعاً خاصاً من أنواع الأدعية، يجب إفراده - سبحانه وتعالى - به، كما أن الطلب والسؤال عبادة مختصة باللَّه تعالى، لهذا جاء الكتاب والسنة لتحقيق هذه العبودية الحقة للَّه تعالى، لا يشاركه فيه أي مشارك، ((وهذا من تحقيق التوحيد، وإخلاص الدين للَّه رب العالمين وحده، الذي هو أساس سعادة العبد، وفلاحه في الدنيا والآخرة، وأما الاستعاذة بغير اللَّه تعالى من الخلق؛ فإنها طغيان، وشرٌّ عظيم، كما قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (¬3)) (¬4)؛ لذا ينبغي للداعي معرفة هذا ¬

(¬1) انظر: الدعاء ومنزلته في العقيدة، 1/ 86 - 88، و1/ 146 - 159. (¬2) سنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الجوامع من الدعاء، برقم 3846، مسند أحمد، 42/ 67، برقم 25137، الأدب المفرد للبخاري، ص 178، برقم 654، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم 498، والأرناؤوط في تعليقه على المسند، 42/ 67. (¬3) سورة الجن، الآية: 6. (¬4) فقه الأدعية، 4/ 499 - 500.

المفردات:

المقصد الجليل، وأهمّيته في سؤال اللَّه تعالى، وأن الاستعاذة جاءت في الكتاب والسنة بأوجز لفظ وأجمعه وأكمله، وأدله على المراد. ... المفردات: أعوذ: أي ألتجئ وأتحصّن ((لأن لفظ (عاذ) وما تصرّف منه يدل على الحرز والتحصّن والنجاة، وحقيقة معناه: الهروب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه)) (¬1). همزات: جمع هَمْزَ: والهمز في اللغة: النخس والدفع (¬2)، والمقصود هنا: وساوس الشياطين، وجميع إصاباتهم وأذاهم لبني آدم. الشرح: خلق اللَّه - سبحانه وتعالى - بحكمته الشرّ في هذه الدار، وخلق أعظم الشرّ، ومنبعه، وأصله، وأعظم أسبابه، وهو الشيطان الرجيم، تتسامى في ذلك الحكم العظيمة، من الابتلاءات المتنوعة الكثيرة، فيزداد الذين اهتدوا هدى، ويضل اللَّه الظالمين بضلالهم. فلما كانوا يروننا ولا نراهم كما قال تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} (¬3) أمرنا بالاستعاذة بربنا - جل جلاله - الذي يراهم ولا يرونه أن يقينا هذا الشرّ الخطير. {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ}: أي اسأل اللَّه تعالى أن يعصمك، ويحميك بجنابه العظيم؛ لما له من الأسماء الحسنى، والصفات ¬

(¬1) بدائع الفوائد، 2/ 200. (¬2) تفسير القرطبي، 6/ 8452. (¬3) سورة الأعراف، الآية 27.

العُلا الجليلة. {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}: ((همزاتهم: دفعهم الوساس، والإغواء في القلب)) (¬1)، وجمعهم دلالة على كثرتها وتنوّعها، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ من أنواع شرور الشيطان كلِّها: ((أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ: مِنْ نَفْخِهِ، وَنَفْثِهِ، وَهَمْزِهِ)) ثم فسر هذه المعاني بعض رواة الحديث فقال: ((نَفْثُهُ: الشِّعْرُ، وَنَفْخُهُ: الْكِبْرُ، وَهَمْزُهُ: الْمُوتَةُ)) (¬2)، والموتة هي تشبه الجنون، لكن الذي ((يظهر: أن همزات الشياطين إذا أُفردت دخل فيها جميع إصابتهم لابن آدم، وإذا قُرنت بالنفخ والنفث كان نوعاً خاصاً)) (¬3). وقوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}: كرّر التوسل بربوبيته زيادة في التضرّع، والتوسل به تعالى من شرورهم؛ لشدّة خطرهم وأذاهم لبني آدم، أي أحتمي بك يا ربي أن يحضرني الشيطان في ¬

(¬1) إغاثة اللهفان، 1/ 154. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، برقم 764، سنن الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة، برقم 242، ابن ماجه، كتاب الصلاة، باب الاستعاذة في الصلاة، برقم 807، سنن الدارقطني، كتاب الصلاة، باب الاستفتاح بعد التكبير، 1/ 289، مسند أحمد، 6/ 378، برقم 3828، ورقم 3830، و11473، و16739، و16740، و16760، و16784، 22179، 25226، وابن حبان، 5/ 78، وصحيح ابن خزيمة، 1/ 238، ومصنف عبد الرزاق، 2/ 82، ومصنف ابن أبي شيبة، 1/ 231، والحاكم، 1/ 207، وسنن البيهقي الكبرى، 2/ 34، والمعجم الكبير للطبراني، 2/ 134، برقم 1568، والدارمي، 1/ 94، ومسند أبي يعلى، 2/ 358، وحسّنه الألباني في إرواء الغليل، 2/ 51 - 54. (¬3) إغاثة اللهفان، 1/ 154 - 155.

تضمنت هذه الاستعاذة الكثير من الفوا ئد المهمة، منها:

أي أمرٍ من أموري، كما أخبر بذلك - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ، حَتَّى يَحْضُرَهُ عِنْدَ طَعَامِه ... )) (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((كل شيء)): دلالة على العموم، فتضمّنت هذه الاستعاذة العظيمة: الاستعاذة من مادة الشرّ كلّه، وأصله، والتي هي ((من جميع نزغات الشيطان، ومن مسّه، ووسوسته، فإذا أعاذ اللَّه عبده من هذا الشرّ، وأجاب دعاءه، سلم من كل شرّ، ووُفِّقَ لكل خير)) (¬2). وقوله تعالى: {أَنْ يَحْضُرُونِ} أي أعذني أن يحضر في كل الأحوال والأوقات، ومن ذلك حال النزع التي هي أشدّ الأحوال. وكان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّم الصحابة هذه الكلمات عند الفزع من النوم، قال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: قال رسولُ اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فَزِعَ أحَدُكم في النوم فَلْيَقُلْ: أَعوذ بكلمات اللَّه التَّامَّة من غضبه، وعِقَابِهِ، وشرِّ عِبادِهِ، ومن هَمَزَاتِ الشَّياطينِ، وأنْ يَحضُرونِ، فإنَّها لَنْ تَضُرَّهُ، فكان عبد اللَّه بن عمرو يُعَلِّمُها من بلغ من ولده ... )) (¬3). تضمنت هذه الاستعاذة الكثير من الفوا ئد المهمّة، منها: ¬

(¬1) مسلم، كتاب الأشربة، باب لعق الأصابع والقصعة، وأكل اللقمة الساقطة بعد مسح ما يصيبها من أذى، وكراهة مسح اليد قبل لعقها، برقم 2033. (¬2) تفسير ابن سعدي، ص 653. (¬3) الترمذي، بلفظه، كتاب الدعوات، باب حدثنا محمد بن حاتم، برقم 3528، وأبو داود، كتاب الطب، باب كيف الرقى، برقم 3893، وابن أبي شيبة، 5/ 439، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول فى أحاديث الرسول، 1/ 2، وحسّنه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2793، وصحيح الترغيب والترهيب، 1/ 128، برقم 1601.

1 - أن العاصم على الإطلاق هو الله تعالى من كل شيء.

1 - أن العاصم على الإطلاق هو اللَّه تعالى من كل شيء. 2 - أنه كلما كان المطلوب مهماً، كان من حسن الدعاء المبالغة في التضرّع، حيث كُرّر التوسل بالربوبية. 3 - أنه كما يتوسل بربوبيّة اللَّه بالطلب، كذلك يتوسل بها في الاستعاذة. 4 - شدّة خطورة الشيطان على بني آدم؛ لإنه مترصِّدٌ له في أحواله كلها. 30 - {رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (¬1). هذه الدعوة الطيبة المباركة التي ذكرها اللَّهُ - عز وجل -، في المؤمنين الصادقين، في سؤالهم لربهم، قد جمعت من المطالب والوسائل الجليلة، وقد تقدم من ذلك عدّة آيات دلالة على أهمية هذه المطالب، والوسائل، فتكرارها بين دفتي الكتاب العزيز، بيان من اللَّه الرؤوف الرحيم لعباده أن يعتنوا بها، بالسؤال والطلب، بين الحين والآخر، فإنّ فيها النجاة من كل مرهوب، والنيل لكل مطلوب. وسبب ورود هذا الدعاء الطيّب أن الكفار في النار يسألون الخروج منها، والرجعة إلى الدنيا، فقال ربّ العزّة والجلال لهم: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} أي امكثوا صاغرين مهانين {وَلَا ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية: 109.

تُكَلِّمُونِ}: أي لا تعودوا إلى سؤالكم، ثم بيّن جلّ وعلا علّة تعذيبهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا ... } يقول الشنقيطي - رحمه اللَّه - عن قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ ... }: قد تقرّر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه أن (إنَّ) المكسورة المشدّدة من حروف التعليل، كقولك: عاقبه إنه مسيء: أي لأجل إساءته، أن من الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن (¬1). وقوله: {يَقُولُونَ}: دلالة ظاهرة على استمراريتهم في الدعاء، والإكثار منه في حياتهم الدنيا، كما أفاد الفعل المضارع بعد كان (¬2). {رَبَّنَا آمَنَّا}: أي بك وبرسلك، وما جاؤا به من عندك، قدّموا التوسّل بإيمانهم قبل سؤالهم؛ لأن الإيمان هو أعظم أعمال القلوب المقتضى لقبول الدعاء، وحصول الرجاء. {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا}: استر علينا مما يوقع من تقصيرنا في حقك وحق غيرنا فتجاوزه عنا، وتعطف علينا برحماتك التي لا تُعدُّ ولا تُحصى. {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}: أكدوا إيمانهم ويقينهم بأنه تعالى خير من رحم، وفيه دلالة على أهمية التوسل بأسمائه تعالى المضافة في الدعاء؛ فإن فيها من كمال الأدب، والثناء على اللَّه. ¬

(¬1) أضواء البيان، 5/ 563. (¬2) المصدر السابق، 2/ 243.

1 - إن التوسل إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة من التوسلات الجليلة

تضمّن هذا الدعاء من الآداب الجمة، حيث ((إنهم جمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله الصالحة، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة، والتوسّل إليه بربوبيته، ومنّته عليهم بالإيمان، والإخبار بسعة رحمته، وعموم إحسانه، وفي ضمنه ما يدل على خضوعهم، وخشوعهم وانكسارهم لربهم، وخوفهم، ورجائهم)) (¬1). فلمّا قدّموا الصبر مع جميل أفعالهم ودعائهم، كان الجزاء وفقاً لهذا الصبر: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬2). الفوائد: 1 - إنّ التوسّل إلى اللَّه تعالى بالأعمال الصالحة من التوسّلات الجليلة التي يُرجى معها الإجابة والعطاء. 2 - إن التوسّل بالإيمان هو أعظم التوسلات بالأعمال الصالحة، حيث خصّوا توسّلهم به دون غيره 3 - إن سؤال المغفرة من أهم المسائل التي ينبغي للداعي أن يحرص عليها، كما في أكثر الدعوات في الكتاب والسنة؛ لأن في حصول المغفرة السلامة من العذاب، وكلِّ المكروهات. 4 - إن سؤال المغفرة مقدّم على سؤال الرحمة؛ لأن التخلية مقدمة على التحلية. ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، 5/ 383. (¬2) سورة المؤمنون، الآية: 111.

5 - ينبغي للداعي أن يختار في دعائه أجمل الألفاظ

5 - ينبغي للداعي أن يختار في دعائه أجمل الألفاظ، وأنبل المعاني، كما في قوله: {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فـ (أنت) ضمير الفصل يفيد: التأكيد، والحصر المتضمن الثناء والتعظيم للَّه ربّ العالمين. 6 - فيه بيان خطورة الاستهزاء بالمؤمنين، وأن مصير ذلك النار، والعياذ باللَّه. 31 - {رَّبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (¬1). هذا أمر من اللَّه تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يطلب أهم مطلبين، وهما: طلب المغفرة، وسؤال الرحمة، وأن يُتوسّل إليه تعالى بأفضل التوسلات، وهو التوسّل بأسمائه الحسنى المتضمنة للصفات العُلا، إيذاناً بأن الدعاء بما فيه من المطالب العُلا من أهم الأمور التي ينبغي أن يعتني بها الداعون العناية الكبرى، إذ أُمر به (¬2) من قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكيف بمن عداه من العباد؟ {رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} قال ابن كثير رحمه اللَّه: ((الغفر إذا أُطلق معناه: محو الذنب، وستره عن الناس، والرحمة معناها: أن يُسدّده ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية: 118. (¬2) نوّه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن: ((الدعاء الذي أُمر به - صلى الله عليه وسلم - أفضل لنا مما فعله، ولم يأمر به))، ثم ضرب أمثلة، انظر: مجموع الفتاوى، 22/ 266، فدلّ على أن الأدعية التي جاءت بصيغة الأمر أفضل من غيرها، والله تعالى أعلم.

ويُوفقه في الأقوال والأفعال)) (¬1): أي يا رب استر عليَّ ذنوبي، وتجاوز عنها بعفوك، وارحمني بأن تُسدِّدني، وتُوفِّقني في الأقوال، والأفعال، وفي تقديم المغفرة قبل الرحمة من باب التخلية قبل التحلية، فبالمغفرة يزول المكروه، وبالرحمة يحصل المطلوب من النعم الدينية والدنيوية. ثم ختم السؤال بخير الختام، بوصف كمال رحمته - عز وجل - التي وسعت الخلق كلهم أجمعين: {وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} أنت: ضمير الفصل الذي يفيد ثلاث فوائد: 1 - التوكيد 2 - الحصر 3 - الفصل بين الصفة والخبر (¬2). وخَتْم الدعاء بهذا التوسل الجليل مناسب لما طلب في أول الدعاء مما لا يخفى، و {خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} من أسماء اللَّه الحسنى المضافة التي جاءت على وزن (خير) أفعل للتفضيل التي تدلّ على عظم هذه الرحمة، وسعتها لكل شيء. فهو جلّ وعلا أرحم الراحمين، وخير الراحمين، فمن كمال رحمته تعالى أنها وسعت كل شيء في هذا الكون العجيب، قال ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 3/ 358. (¬2) تفسير سورة البقرة، لابن عثيمين، 1/ 102.

1 - أهمية هذه الدعوة؛ لأنها بصيغة الأمر.

تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬1)، وخصّ من رحمته العظيمة خواصّ من العباد {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} (¬2)، فمن أراد أن ينال هذه الرحمة التي فيها السعادة في الدارين، فليتّبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالأقوال، والأفعال، وفي كل الأحوال. فهذا الإرشاد من اللَّه تعالى بملازمة هذا الدعاء المبارك لما تضمنه من خيري الدنيا والآخرة الذي يتمنّاه كل عبدٍمؤمنٍ، لذا علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - نظير هذا الدعاء أبا بكر الصديق: حيث سأله - رضي الله عنه - قائلاً: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِي! فقال: ((قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي، إِنَّك أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) (¬3). الفوائد: 1 - أهمية هذه الدعوة؛ لأنها بصيغة الأمر. 2 - فيه بيان أهمية التوسل إلى اللَّه تعالى بربوبيته التي من مقتضياتها إجابة الدعاء. 3 - ينبغي للداعي أن يقدم طلب المغفرة قبل سؤاله الرحمة، كما هي ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 156. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 157. (¬3) البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، ومسلم، كتاب العلم، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، برقم 2705.

4 - أهمية هذين المطلبين: المغفرة، والرحمة.

عامة الأدعية. 4 - أهمية هذين المطلبين: المغفرة، والرحمة: فالمغفرة تندفع بها جميع المكروهات، والرحمة التي تحصل بها جميع المحبوبات (¬1). 5 - إن من آثار وثمرات المغفرة حصول الرحمة. 6 - إن التوسّل بأسماء اللَّه تعالى المضافة من أعظم الممادح التي يُمدح بها رب العزّة والجلال، ومن أهم الأسباب الموجبة لقبول الدعاء؛ لأنه تعالى علّمنا بهذا الدعاء كيف ندعوه، وكيف نتوسّل إليه. 32 - {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا*إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} (¬2). المفردات: غراماً: أي ملازماً دائماً غير مفارق. الشرح: هذه الدعوة المباركة ضمن دعوات وخصال لعباد اللَّه تعالى وصفهم، وأثنى عليهم في أكمل الصفات، ونعتهم بأجمل النعوت، وأضافهم إلى نفسه الكريمة إضافة تشريف وتعظيم، إجلالاً لقدرهم، فصدَّر صفاتهم بقوله: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ}، وذلك أن ¬

(¬1) المواهب الربانية للعلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، ص 135. (¬2) سورة الفرقان، الآيتان: 65 - 66.

1 - عبودية الربوبية

العبودية للَّه تعالى نوعان: 1 - عبودية الربوبية، فهذه يشترك فيها سائر الخلق مسلمهم وكافرهم، برّهم وفاجرهم، فكلهم عبيد للَّه مربوبون مُدَبّرون: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (¬1). 2 - وعبودية لألوهيته وعبادته ورحمته، وهذه عبودية خاصة، وهي: عبودية أنبيائه وأوليائه، وهي المراد هنا؛ ولهذا أضافها إلى اسمه الرحمن (¬2). فيا له من شرف عظيم، ومكرمة كريمة لمن كان مثلهم. ثم ذكر من الخصال الجميلة أدعية دعوها، فقالوا: {رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ}: أي نجّنا يا ربنا من عذابها، ومن أسبابه في الدنيا؛ بتيسير الأعمال الصالحة، واجتناب السيئات المقتضية لها, وفيه إشارة لما ينبغي عليه المؤمن من الخوف من العذاب، مع الرجاء، فيجمع بين الترغيب والترهيب كالجناحين للطائر، وأن العبد ينبغي له أن لا يغترّ بعمله مهما كان صالحاً، فهم مع كل هذه الصفات الجليلة يخافون من عذابه، ويبتهلون إليه تعالى لكي يصرفه عنهم، غير مغترّين بأعمالهم، وهذا من حسن العبادة، وكمالها. كما قال تعالى عن المؤمنين: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ ¬

(¬1) سورة مريم، الآية: 93. (¬2) تفسير السعدي، 5/ 493 بتصرف يسير.

وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (¬1)، وقد بينا بذلك ما جاء في معناها وما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفسيرها (¬2). وقوله: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}: ثم ذكروا علّة هذا السؤال: أن عذابها كان شرّاً دائماً، وهلاكاً غير مفارق لمن عُذِّب به، فغراماً ملازماً دائماً بمنزلة الغريم لغريمه: كملازمة الدائن للمديون من حيث لا يفارقه بإلحاحه ومطالبته؛ و ((لهذا قال الحسن: كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام، وإنما الغرام: الملازم ما دامت السموات والأرض)) (¬3). وقوله تعالى: {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}: أي بئس المنزل منظراً، وبئس المقيم مقاماً، هذا منهم على وجه التضرّع والخوف، يستفرغون نهاية الوسع في سؤالهم من النجاة منها، وكأنهم على كمال صفاتهم غارقون في المعاصي والآثام. ولا يخفى في أهمية الاستعاذة من النار، حيث صدَّروا استعاذتهم بها؛ لأنها أشدّ شرّاً توعد اللَّه به، وفي هذه الدعوات بيان أن الداعي يحسن له أن يذكر سبب ما يدعوه {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}. ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية: 60. (¬2) تقدم التعليق وتفسير هذه الآية في الدعاء الثالث من هذا الكتاب. (¬3) تفسير ابن كثير، 3/ 446.

الفوائد:

الفوائد: 1 - أهمّية هذه الدعوة: أ - حيث ذكرها اللَّه تعالى لناسٍ أثنى عليهم، وأضافهم إلى نفسه في كتاب يُتلى إلى يوم القيامة. ب - أنّها جاءت بصيغة الفعل المضارع في قوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ} الذي يدلّ على كثرة سؤالهم بها، ومداومتهم عليها. 2 - فيه بيان أنه يندب للداعي أن يذكر سبب علّة دعوته كما في قوله: {إِنَّ عَذَابَهَا} {إِنَّهَا سَاءَتْ}. 3 - ينبغي للدّاعي أن يجمع في دعائه بين الخوف والرجاء، وأن ذلك أرجى في قبول الدعاء. 4 - أن البسط في الدعاء أمر مرغوب فيه عند الشارع، كما يظهر في بسطهم في ذكر علّة دعوتهم. 5 - إن التوسّل بربوبية اللَّه - عز وجل - وألوهيته في الدعاء هو من أعظم أنواع التوسل على الإطلاق. 33 - {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} (¬1). قرّة أعين: كناية عن السرور والفرح، وهو مأخوذ من القرر، وهو ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآية: 84.

البرد، لأن دمعة السرور باردة (¬1). قال الزجاج: يقال: أقرّ اللَّه عينك: صادف فؤادك ما يحبه (¬2). هذه الدعوة الثانية من دعوات عباد الرحمن الذين جمعوا الخصال والفعال الحميدة، ومن جميل الكلمات الحسان من الدعوات، فقالوا: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}: أي يا ربنا هب لنا من هباتك العظيمة الكثيرة أزواجاً، وذرية صالحة ((من يعمل لك بالطاعة، فتقرّ أعيننا بهم في الدنيا والآخرة)) (¬3). فهم يلحّون بهذا السؤال، كما أفاد الفعل المضارع ((يقولون)) أن يرزقهم اللَّه تعالى من يخرج من أصلابهم ومن ذرياتهم من يطيعه، ويعبده وحده لا شريك له. وهذا الدعاء لأزواجهم وذريتهم في صلاحهم؛ فإنه دعاء لأنفسهم؛ لأن نفعه يعود عليهم، ويدوم في الدنيا والآخرة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ ¬

(¬1) انظر: تفسير الماوردي (النكت والعيون)، 4/ 161، وتذكرة الحفاظ، 3/ 293. (¬2) انظر: تفسير البغوي، 5/ 227، والألوسي، 5/ 152، ولم ينسباه للزجاج، وقد نسبه للزجاج كثير من المفسرين مثل: غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري، 10/ 203، والرازي في مفاتيح الغيب، 24/ 100، وابن عادل الحنبلي في اللباب، 14/ 576، والشوكاني في فتح القدير، ص 1230. (¬3) أخرجه الطبري في تفسيره، 19/ 318، وحسّن إسناده صاحب التفسير الصحيح، 3/ 509.

صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)) (¬1)، وفي الآخرة مرافقتهم في جنات النعيم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} (¬2). ((بل ويعود هذا النفع إلى عموم المسلمين؛ لأن بصلاح من ذُكر يكون سبباً لصلاح كثير ممن يتعلق بهم، وينتفع بهم)) (¬3). ((وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق، شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى اللَّه - عز وجل -، وفي أولهم الذرية والأزواج، فهم أقرب الناس تبعة، وهم أول أمانة يُسأل عنها الرجال)) (¬4). {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}: أي واجعلنا أئمة هدىً يقتدي بنا أهل التقوى، في الفعل، والقول، وفي إقامة الدين، وسؤالهم أن يجعلهم أئمة للمتقين يُقتدَى بهم، هو طلب من اللَّه أن يهديهم، ويوفقهم، ويمنَّ عليهم بالعلوم النافعة، والأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة التي توصلهم إلى هذه المنزلة العليّة. ((وسؤالهم هذا هو كذلك سؤال لأعلى درجات العبودية، وهي ¬

(¬1) مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم 1631. (¬2) سورة الطور، الآية: 21. (¬3) تفسير ابن سعدي، ص 688. (¬4) في ظلال القرآن، 4/ 258.

درجات الكُمَّلِ من عباد اللَّه، والصدّيقين، وهي درجة الإمامة في الدين، وهذه الدرجة السامية لا تتمّ إلا بالصبر واليقين، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} (¬1)) (¬2)، فهذا الدعاء دلّ بمنطوقة ومفهومه على سؤال اللَّه أن يكونوا كاملين لهم ولغيرهم، هادين مهتدين، وهذه أعلى الحالات، وأجلّ الكمالات، ولمّا كانت هممهم ورغباتهم عالية، كان الجزاء من جنس العمل، فجازاهم بالمنازل والدرجات العالية {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا} (¬3). وقد بيّن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - علو منازل أهل الغرف، من علوّ، ورفعة المكانة، والمكان، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: ((بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ)) (¬4)، وفي لفظ لأحمد: ((في تفاضل الدرجات)) (¬5)، وفائدة ذكر المشرق والمغرب بيان للرفعة، وشدة ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية: 24. (¬2) انظر: تفسير ابن سعدي، 5/ 499 بتصرف. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 75. (¬4) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم 3256، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، كما يرى الكوكب في السماء، برقم 2830. (¬5) المسند، 14/ 178، برقم 8471.

1 - أهمية هذه الدعوة كسابقتها لثناء الله تعالى على قائليها

البعد، فدل على سموّ منازل أهل الغرف، جعلنا اللَّه من أهلها (آمين)، وكذلك دلّ على التفاوت العظيم في الدرجات في جنات النعيم. الفوائد: 1 - أهمية هذه الدعوة كسابقتها لثناء اللَّه تعالى على قائليها، وكذلك ملازمتهم، وتكرارهم هذه الدعوة بين الحين والآخر، كما أفاد الفعل المضارع (يقولون). 2 - إن هبة اللَّه تعالى من أعظم النعم، ولذلك توسّلوا بها. 3 - إن سؤال اللَّه تبارك وتعالى إصلاح الزوجة والذرية من المقاصد المهمّة التي ينبغي للداعي الاعتناء بها. 4 - ينبغي للداعي أن يعظم رغبته في الدعاء، وأن يسأل اللَّه تعالى أعلى المطالب، وأسمى المراتب، كما في سؤالهم اللَّه تعالى أعلى مراتب الدين {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}. 5 - فيه بيان لعظم الدعاء، وأنه من أعظم الأسباب في إعطاء المرجوّ، وأنه يدلّ على عظم كرم اللَّه تعالى، وكمال قدرته، وسمعه، وعلمه، ويدلّ على محبّة اللَّه تعالى له، ولعلك يا عبد اللَّه قد علمت لماذا وصفهم تعالى بهذه الصفات الجميلة، والخصال الحميدة، وشرّفهم بأن أضافهم إلى نفسه الكريمة، فجاهِدْ نفسك بأن تكون على شاكلتهم.

34 - {رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين}.

34 - {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ* وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} (¬1). بعدأن قدّم الخليل إبراهيم - عليه السلام - الثناء على ربّه - عز وجل - بما له من الصفات العلية، والنعوت الجليلة، والأفضال الجزيلة قبل السؤال؛ لأنها أعظم الوسائل الموجبة لقبول الدعاء واستجابته، وهذا النوع هو أعلى أنواع التوسل إلى اللَّه - عز وجل - كما تقدم، وهو التوسل إليه تعالى بالأسماء الحسنى، أو بالصفات العُلا، سواء كانت ذاتية أو فعلية. فبدأ بقوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}. قوله: {حُكْمًا}: ((معرفة بك، وبحدودك، وأحكامك)) (¬2)، ((أي علماً أعرف به الأحكام، والحلال، والحرام، وأحكم به بين الأنام)) (¬3)، وقيل هب لي نبوة (¬4)، و ((لا يجوز تفسير الحكم بالنبوة، لأنها حاصلة له - عليه السلام -)) (¬5). وقوله: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}: أي اجعلني مع الصالحين في ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآيات: 83 - 85. (¬2) تفسير القرطبي، 7/ 105. (¬3) تفسير ابن سعدي، 5/ 524. (¬4) انظر: تفسير الطبري، 19/ 364. (¬5) تفسير الدعوات المباركات، ص 34.

الدنيا والآخرة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الاحتضار: ((اللَّهُمّ في الرفيق الأعلى))، قالها ثلاثاً (¬1)، وهذا المطلب كان من سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ، غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مَفْتُونِين)) (¬2). فالعبد يجتهد أن يرافق الصالحين في الدنيا، فإن الرحمة والسلامة، والهدى تحوطهم حتى ينال صحبتهم، ومنازلهم ومقامهم في الآخرة، وإن لم يعمل بعملهم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ)) (¬3). وقوله: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}: يعني الثناء الحسن بين الناس، أُذكر بالخير، والثناء الطيّب في باقي الأمم الآتية من بعدي، ((وهذا يتضمّن سؤال الدوام والختام على الكمال، وطلب نشر الثناء عليه، وهذا ما تتغذى به الروح من بعد موته؛ لأن الثناء عليه يستدعي دعاء الناس له، والصلاة والتسليم جزاء على ما ¬

(¬1) البخاري، كتاب الرقاق، باب من أحب لقاء الله، أحب الله لقاءه، برقم 6509، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب في فضل عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، برقم 2444. (¬2) أحمد بلفظه، 24/ 247 برقم 15492، والنسائي في الكبرى، كتاب الجمعة، كم صلاة الجمعة، برقم 10372، والحاكم، 1/ 507، 3/ 23 - 24، والأدب المفرد للبخاري، برقم 699، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد للبخاري، برقم 538، ص 259، وسيأتي تخريجه في الدعاء رقم 127. (¬3) البخاري، كتاب الأدب، باب علامة الحب في الله - عز وجل -، برقم 6168_ 6169، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب، برقم 2640.

عرفوه من زكاء نفسه)) (¬1). فاستجاب اللَّه دعاءه، ((فوهب له من العلم والحكم، ما كان به من أفضل المرسلين، وألحق بإخوانه المرسلين، وجعله محبوباً مقبولاً، مُعظَّماً مُثنىً عليه في جميع الملل، في كل الأوقات)) (¬2)، وفي كل الأزمنة. ((وقد أخذ أهل العلم من هذه الدعوة الترغيب في العمل الصالح الذي يكسب العبد به الثناء الحسن، ويورّثه الذكر الجميل، إذ هو الحياة الثانية، كما قيل: (قد مات قوم وهم في الناس أحياء) أي بذكرهم الطيّب، وسيرتهم العطرة)) (¬3). ((روى أشهب عن مالك قال: قال اللَّه - عز وجل -: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ}: لا بأس أن يحب الرجل أن يُثنى عليه صالحاً، ويُرى في عمل الصالحين، إذا قصد به وجه اللَّه تعالى)) (¬4). بعد أن سأل الله سعادة الدنيا سأل الله سعادة الأخرى الأبدية: قوله: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}:أي من السعداء في الآخرة الذين يستحقون ميراث جنات الخلد، وقد أجاب اللَّه تعالى دعوته، فرفع منزلته في أعلى جنات النعيم، وفي هذا حثٌّ من اللَّه ¬

(¬1) التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور، 19/ 156. (¬2) تفسير ابن سعدي، ص 693. (¬3) فقه الأدعية والأذكار، د. عبد الرزاق عبد المحسن البدر، 4/ 360. (¬4) تفسير القرطبي، 7/ 105.

35 - {ولا تخزني يوم يبعثون * يوم لا ينفع مال ولا بنون}.

تبارك وتعالى لعباده على قوّة الهمم إلى الجدّ في السؤال بهذه الدعوات المباركات؛ لما تتضمنه من خيري الدنيا والآخرة. وانظر فوائد هذه الدعوة في الدعوة القادمة. 35 - {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬1). هذه الدعوة المباركة تكملة لدعوات خليل الرحمن، فقوله: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}: الخزي هو: الذل، والهوان. يقال: خزي الرجل: لَحِقَه انكسار إما من نفسه وإما من غيره (¬2). أي اعصمني من الذلّ والهوان يوم القيامة، يوم بعث الخلائق لمحاسبتهم، فتضمّن هذا الطلب السلامة من الفضيحة بالتوبيخ على الذنوب، والعقوبة عليها. وهذا الدعاء من خليل الرحمن، كان من دعاء نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم لا تخزني يوم القيامة، ولا تخزني يوم البأس، فإن من تخزه يوم البأس فقد أخزيته)) (¬3). ثم ذكر العلّة في سؤاله لذاك اليوم: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآيات: 87 - 89. (¬2) مفردات ألفاظ القرآن، مادة (خزي). (¬3) عمل اليوم والليلة لابن السني، برقم 128، وعلل الحديث لابن أبي حاتم، برقم 2065، والدعاء الأول منه في مسند أحمد، 29/ 596، برقم 18056، والجملتان الأوليتان في المعجم الكبير للطبراني، 3/ 20، ومسند الفردوس للديلمي، 1/ 143، ورواية الإمام أحمد صححها الأرناؤوط في مسند أحمد، 29/ 596.

1 - يحسن بالداعي أن يجمع في دعائه من خيري الدنيا والآخرة.

* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}: أي لا يقي المرء من عذاب اللَّه ولو افتدى بملء الأرض ومن عليها ذهباً وبشراً، إلاّ من أتى اللَّه بقلب سليم من كل المساوئ، والعيوب من أمراض الشبهات، كالشرك، والشك، والنفاق، والإصرار على البدع والضلالات، ومن أمراض الشهوات مثل حب الدنيا، وغرورها، وبالجملة السالم من الخصال الذميمة، المتصف بالصفات الجميلة، وخصّ القلب بالذكر لأنه الذي إذا سلم سلمت الجوارح كلها، وإذا فسد فسدت سائر الجوارح، وهذا المطلب المهمّ كان من مطالب النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبًا سَلِيمًا، وَلِسَانًا صَادِقًا)) (¬1). تضمنت هذه الدعوات الجليلات جملاً من الفوائد: 1 - يحسن بالداعي أن يجمع في دعائه من خيري الدنيا والآخرة، وأن تكون الدار الآخرة هي مقصده، ومطلبه الأعظم. 2 - ينبغي للداعي أن يسأل اللَّه تعالى أن يزيده من العلم والحكمة لما ينفعه في دينه ودنياه وآخرته. ¬

(¬1) سنن النسائي، كتاب السهو، نوع آخر من الدعاء، برقم 1304، والسنن الكبرى له أيضاً، 1/ 387، كتاب صفة الصلاة، نوع آخر، برقم 1228، ومسند أحمد، 28/ 338، برقم 17114، ومصنف ابن أبي شيبة، 10/ 241، والمعجم الكبير للطبراني، 6/ 450، وحسنه لغيره الأرناؤوط في تعليقه على المسند، 28/ 338، وسيأتي في الدعاء رقم 132 آخر الكتاب.

3 - ينبغي للعبد أن يسأل الله تعالى أن يرزقه مرافقة الصالحين

3 - ينبغي للعبد أن يسأل اللَّه تعالى أن يرزقه مرافقة الصالحين في الدنيا والآخرة. 4 - وكذلك أن يرزقه الثناء الحسن في الدنيا لما يترتب عليه من الفوائد الآتية: أ - الدعاء له. ب - الاقتداء، والتأسي به. ج - القبول عند المخاصمة، والوعظ، وغير ذلك. 5 - أهمية التوسّل بصفات اللَّه تعالى، ومنها صفة (الهبة) الفعلية، كما في كثير من الأدعية القرآنية؛ فإن فيها من كمال الأدب، والتعظيم، والثناء على اللَّه تعالى حال السؤال، والدعاء. 6 - أن ذكر العلة في السؤال من حسن الدعاء، كما أفاد قوله: أ - {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬1). ب - وكقوله تعالى: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} (¬2). 7 - يحسن بالداعي أن يدعو لوالديه وإن كانوا على غير صلاح، ولا هدى. 8 - أن جميع الأنبياء والمرسلين مشفقون من يوم القيامة. 9 - أن القلب هو أعظم مضغة، فإن صلحت صلح سائر الجسد، ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآيتان: 88 - 89. (¬2) سورة الشعراء، الآية: 86.

10 - ينبغي للعبد أن لا يغتر بعمله.

وإن فسدت فسد سائر الجسد؛ لهذا خصَّها عليه الصلاة والسلام بالذكر دون غيرها. 10 _ ينبغي للعبد أن لا يغترَّ بعمله، فإذا كان إمام الأنبياء يخاف من ذلك اليوم على ما أوتي من الخصال الحميدة، فمن باب أولى من كان دونه. 36 - {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين} (¬1). المفردات: {أَوْزِعْنِي}: قال الجوهري: ((استوزعت اللَّه فأوزعني، أي استلهمته فألهمني))، وقال الراغب: ((وتحقيقه أولعني بذلك)) (¬2)، والمعنى: أي ألهمني، واجعلني مولعاً به، راغباً في تحصيله. هذه من الدعوات المباركة في كتاب ربنا - جل جلاله - الذي نحن متعبدون بتلاوته، المأمورون بتدبره، والعمل به. ففي هذه الدعوات العلم النافع، والعمل الموفق الصالح، إذا تدبّرها العبد، وعمل بمقاصدها، وما دلّت عليه من المدلولات، فإن مآلها الخير العظيم في الدارين من كل خير. ¬

(¬1) سورة النمل، الآية: 19. (¬2) المفردات، ص 868.

فلقد أعطى اللَّه تعالى سليمان - عليه السلام - النبوة والملك، وعُلِّم منطق الطير، فكان شاكراً لأنعم اللَّه عليه. فقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ}: أي ألهمني، ووفقني لشكر نعمائك، وأفضالك عليَّ بالنعم الكثيرة التي لا تُعَدُّ، ولا تُحصى، فتضمّن سؤال اللَّه تعالى التوفيق لملازمة شكره على الدوام. {وَعَلَى وَالِدَيَّ}: ((أدرج فيه والديه تكثيراً للنعمة؛ فإن الإنعام عليهما إنعام عليه من وجه مستوجب الشكر، أو تعميماً لها)) (¬1)، فإن النعمة عليه يرجع نفعها إليهما كذلك. لهذا سأل ربه تبارك وتعالى التوفيق للقيام بشكر نعمه الدينية، والدنيوية، وهذا من كمال الشكر وأحسنه؛ فإن النعم من اللَّه على عبده المؤمن لا تُعَدّ ولا تحصى, والتي أعظمها نعمة الإسلام التي مغبون فيها كثير من الناس. {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}: صالحاً - بالتنوين والتنكير-: للتفخيم والتكثير، فسأل اللَّه تعالى التوفيق بالقيام بالأعمال الجليلة والكثيرة التي تستوجب رضاه الذي هو أمنية كل مؤمن، فإن تمام الشكر وأكمله، أن يكون باللسان، والقلب، والأركان. وقوله: {تَرْضَاهُ}: فيه نكتة مهمة: أن ليس كل عمل يعمله العبد ¬

(¬1) الألوسي، 11/ 269.

طلب عليه الصلاة والسلام كمال السعادة البشرية الدنيوية والأخروية:

الصالح، وإن كان ظاهره صلاحاً، بل قد لا يكون مرضياً عند اللَّه - عز وجل - لما فيه من المنقصات من الرياء والعجب والشرك. والثاني: غير موافق لشريعته الحكيمة التي أنزلها تعالى على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - من المتابعة. وفي هذا بيان على الحثّ في تصحيح الأعمال، والأقوال، والنيات، وعلى السبق إلى أفضل الأعمال التي توجب رضا اللَّه تعالى الذي هو أعظم مطلوب، وأهمّ مقصود. وقوله: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}: أي وأدخلني الجنة دار رحمتك التي لا يدخلها أحد إلا أن تتغمَّده برحمتك وفضلك. قوله: {فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} ألحقني بالصالحين من عبادك، والرفيق الأعلى من أوليائك في أعلى جنانك؛ جنات الخلد التي لا يدخلها إلا الصالحون. فقد طلب عليه الصلاة والسلام كمال السعادة البشرية الدنيوية والأخروية: 1 - التوفيق للشكر على نعمه الجليلة الدينيَّةِ والدنيويَّة. 2 - وعمل الطاعات المرضيّة. 3 - ومرافقة خير البريَّة. وقد تضمنت هذه الدعوة المباركة جملاً من الفوائد: 1 - أهمية سؤال اللَّه تعالى العون على الطاعة، ومن أخصِّها الشكر

2 - أن نعمة الإسلام هي أعظم النعم على الإطلاق.

التي تستوجب حفظ النعم الدينية والدنوية، وهذا المقصد كان من سؤال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)) (¬1). 2 - أن نعمة الإسلام هي أعظم النعم على الإطلاق؛ ولهذا كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يسأل اللَّه تعالى أن يتمّ عليه هذه النعمة: ((اللَّهُمَّ احْفَظْنِي بِالْإِسْلَامِ قَائِمًا ... )) (¬2). 3 - إثبات صفة الرضى للَّه، تعالى وهي من الصفات الفعلية التي تتعلق بمشيئته - عز وجل -. 4 - أن الإيمان بصفات اللَّه تعالى يوجب حسن العمل والقول. 5 - إن وصف العبودية هو أعظم الأوصاف. 6 - أهمية مطلب مرافقة الصالحين. 7 - العناية بإصلاح الأعمال والأقوال حتى تكون عند اللَّه مقبولة ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الوتر، باب في الاستغفار، برقم 1526، النسائي، كتاب صفة الصلاة، نوع آخر من الدعاء، برقم 1303، وفي السنن الكبرى له أيضاً، كتاب صفة الصلاة، نوع آخر، برقم 1227، والمسند، 36/ 429، برقم 22119، ورقم 22126، وابن أبي شيبة، 10/ 284، برقم 30013، وابن خزيمة، 1/ 369، برقم 751، والمستدرك، 1/ 273، برقم 1010، والأدب المفرد للبخاري، ص 172، برقم 690، ومسند عبد بن حميد، 1/ 54، والبزار، 5/ 438، والتعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، 6/ 1457، وعمل اليوم والليلة لابن السني، ص 225، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، 6/ 1457، وفي صحيح الأدب المفرد، ص118، برقم 534. (¬2) المستدرك، 1/ 525، برقم 1924، صحيح ابن حبان، 3/ 214، المختارة، 1/ 172، الدعوات الكبير للبيهقي، 1/ 345، مكارم الأخلاق للخرائطي، ص 239، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 54، برقم 1540، وانظر شرحه عند الرقم 77.

8 - يستحب للداعي أن يشرك والديه في الدعاء؛ لعظم فضلهما عليه.

ومرضية. 8 - يستحب للداعي أن يشرك والديه في الدعاء؛ لعظم فضلهما عليه. 9 - إن الوالدين من أعظم النعم من اللَّه عزّ شأنه على العبد. 10 - أهمية الأدعية القرآنية؛ لاستجماعها جوامع الكلم من حسن الأدب، وكمال المقصد. 37 - {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} (¬1). هذه الدعوة الثانية ذكرها المؤلف لموسى - عليه السلام - هي من ضمن عدة دعوات في أمور مهمّات، سطَّرها كتاب ربنا بأساليب عديدة، في مواضع كثيرة، تنبئ عن أهمّيتها وشدّة العناية بها، وتبيّن ما ينبغي للعبد أن يكون عليه في مواطن الفتن والشدائد، وكيفيّة التعامل بها على منهج اللَّه القويم، والصراط المستقيم، الذي من تمسّك به، فلن يضلّ في الدنيا، ولن يشقى في الآخرة. وسبب هذه الدعوة أن موسى - عليه السلام - قتل رجلاً قبطياً خطأً دون قصد أو تعمّد، حين أقدم رجل إسرائيلي من شيعته على الاستنصار به على القبطي، فضربه بقبضة يده فمات في الحال، وعدَّ ذلك ذنباً لأنه قتل نفساً لم يأمره اللَّه بقتلها. قوله: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} اعترافٌ وندمٌ منه، فحمله ندمه على الخضوع لربه، والاستغفار من ذنبه، قال قتادة ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 16.

رحمه اللَّه عن الأية: ((عَرَفَ نَبِيُّ اللَّهِ - عليه السلام - مِنْ أَيْنَ الْمَخْرَجِ)) (¬1)، ((ثم لم يزل يعدد ذلك على نفسه، مع علمه بأنه قد غفر له، حتى أنه في القيامة يقول: إني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، وإنما عدده على نفسه ذنباً من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر؛ فإن الأنبياء يُشفقون مما لا يشفق منه غيرهم)) (¬2). فإذا كان نبي اللَّه - عليه السلام - يعدد ذنبه على نفسه، مع علمه بمغفرة اللَّه له، فكيف بنا نحن لا نعدد ذنوبنا وسيئاتنا التي نجترحها في الليل والنهار، ولا نعلم هل يغفر لنا أم لا! فإن العبد ينبغي له أن يقف متأملاً في حاله، وفي مصيره، وإنه مسؤول عن كل صغير وكبير، فاليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل. ذكر العلامة ابن سعدي رحمه اللَّه من فوائد هذه القصة: ((أن قتل الكافر الذي له عهد بعقد، أو عرف، لا يجوز، وأن الذي يقتل النفوس بغير حقٍّ يُعدُّ من الجبارين المفسدين في الأرض، ولو كان غرضه من ذلك الإرهاب، ولو زعم أنه مصلح، حتى يرد في الشرع بما يبيح قتل النفس)) (¬3)، ومن الفوائد: أن العبد ينبغي له أن يستعظم الذنب، ويخاف عاقبته، ويتوسّل إلى اللَّه بذكر مظلمته، وعزمه على التوبة والأوبة. ¬

(¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير، 9/ 2955، وحسّن إسناده في التفسير الصحيح، 4/ 46. (¬2) تفسير القرطبي، 7/ 233. (¬3) تيسير الكريم المنان، ص 131.

1 - إن الاعتراف بالذنب توبة وندم، مع الاقلاع عن الذنب

فكأنه رحمه اللَّه يحكي حال اليوم وما يقوم به المتجاهلون على الدين والشرع، من قتل الأبرياء، واستحلال الدماء والأموال والأنفس بدعوى الجهاد، وإنما هو ضلال وفساد، نسأل اللَّه العافية في الدنيا والآخرة. الفوائد: 1 - إن الاعتراف بالذنب توبة وندم، مع الإقلاع عن الذنب، والعزيمة على أن لا يعود إليه. 2 - تقديم الاعتراف بالذنب وظلم النفس قبل الطلب، من موجبات الإجابة. 3 - ينبغي لمن وقع في ذنب المبادرة إلى التوبة والأوبة في الحال. 4 - إن الاعتراف بظلم النفس، وطلب المغفرة من اللَّه من سنن الأنبياء والمرسلين، كما قال أبوينا عليهما السلام: {قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1). 5 - إن هذه الدعوة من أهم الدعوات في طلب المغفرة؛ حيث ذكرها تعالى في سياق الثناء المقتضي للتأسي والاقتداء. 6 - دلّت هذه الدعوة الكريمة على محبة اللَّه للتوبة والمغفرة؛ لقوله: {فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ}، حي ث رتب المغفرة بـ (الفاء) التي تفيد السببية، والتعقيب، والترتيب دون مهلة. ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 23.

7 - إن التوسل إلى الله تعالى بهذا الاسم (الرب) يناسب الدعاء به.

7 - إن التوسل إلى اللَّه تعالى بهذا الاسم (الرب) يناسب الدعاء به في أي مطلوب؛ لأن ربوبية اللَّه تعالى من لوازمها إجابة الدعوات كما تقدم. 38 - {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬1). هذه الدعوة المباركة من دعوات موسى - عليه السلام - التي تكرّرت في كتاب اللَّه - عز وجل -؛ فإن فيها إرشاداً من اللَّه تعالى لنا في التمسك بطرق الخير، ومجانبة طرق الباطل؛ لنكون في عصمة اللَّه في ديننا ودنيانا. سأل موسى - عليه السلام - ربه النجاة من فرعون وزمرته، فقال: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: توسل بربوبية اللَّه - عز وجل - التي من معانيها التربية والعناية والإصلاح والتدبير، وإجابة الدعاء، فناسب أن يسأل ربه - عز وجل - في إصلاح أمره، وتدبير حاله، في النجاة من هؤلاء الظلمة، أي: يا ربي نجّني، وخلّصني من هؤلاء القوم الكافرين، الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم بك، ووصفهم بالظلم إظهار لشناعة هذا الوصف، ومن كان من أهله. فأنجاه السميع العليم، كما هي عادته مع أنبيائه وأوليائه الذين يفرون إليه في كل أمورهم، وأحوالهم، وعند الشدائد والمهالك، والأخطار. وسؤال اللَّه النجاة من الظالمين، كما هو دأب الأنبياء ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 21.

1 - ينبغي للعبد أن يحرص في دعائه على سؤال الله تعالى العصمة

والمرسلين، كان له نصيب من أدعية المؤمنين، كما قصَّ اللَّه لنا عن المؤمنة آسية زوج فرعون حين قالت: {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬1)، فسألت النجاة من فرعون الظالم، ثمّ عمّمت سؤال النجاة من كلّ من يتّصف بهذه الصفة الشنيعة التي حرّمها ذو الجلال والإكرام على نفسه، وعلى عبيده. فقد جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في قصة تعذيبها أنه قال: ((إِنَّ فِرْعَوْنَ أَوْتَدَ لِامْرَأَتِهِ أَرْبَعَةَ أَوْتَادٍ فِي يديها ورجليها، فكان إِذَا تَفَرَّقُوا عَنْهَا أَطْلَقَتْهَا الْمَلَائِكَةُ، فَقَالَتْ:) رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬2)، قَالَ: فَكَشَفَ لَهَا عَنْ بَيْتِهَا فِي الْجَنَّةِ)) (¬3)، وهذا حكمه حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال بالرأي. الفوائد: 1 - ينبغي للعبد أن يحرص في دعائه على سؤال اللَّه تعالى العصمة، ¬

(¬1) سورة التحريم، الآية: 11. (¬2) سورة التحريم، الآية: 11. (¬3) أخرجها ابن جرير عن أبي رافع في التفسير، 24/ 409، وذكر فيه بعد ذكر الأوتاد: ((ثم جعل على ظهرها رحىً عظيمة حتى ماتت))، ولم يذكر تظليل الملائكة لامرأة فرعون، وبلفظه تفسير الصنعاني، 2/ 371، ومستدرك الحاكم، 2/ 523، وصححه ووافقه الذهبي، وشعب الإيمان للبيهقي، 3/ 178، وعزاها السيوطي في الدر المنثور، 14/ 595 إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان عن سلمان - رضي الله عنه -، وبلفظ المتن أخرجه أبو يعلى، 11/ 316، وصحح الشيخ الألباني لفظ المتن في السلسلة الصحيحة، 6/ 35، برقم 2508.

2 - لم تستجلب النعم، وتدفع النقم بمثل الدعاء

والحفظ من الظالمين؛ لشدة خطرهم على الدين والنفس. 2 - لم تستجلب النعم، وتدفع النقم بمثل الدعاء؛ ولذلك كان ملجأ الأنبياء، والأولياء في كل زمان ومكان. 3 - أهمية التوسّل بصفات اللَّه تعالى حال السؤال والطلب، كما في توسَّل موسى - عليه السلام - {نَجِّنِي}، وهذه صفة فعلية عليّة، تدلّ على كمال القوة، والإرادة، والنصرة. 39 - {عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} (¬1). هذه دعوة مباركة أخرى ضمن دعوات موسى - عليه السلام - في الكتاب الحكيم. حين قتل موسى - عليه السلام - القبطي أصبح {فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} (¬2)، {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} (¬3)، فأثنى اللَّه تبارك وتعالى على هذا الرجل الصالح. ووصفه بالرجولية؛ لأنه خالف الطريق، فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه، فسبق إلى موسى، فنصحه في الخروج فأخذ بها، فلما أخذ طريقاً سالكاً قاصداً وجهة مدين، وهي جنوبي ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 22. (¬2) سورة القصص، الآية: 18. (¬3) سورة القصص، الآية 20.

1 - في هذه الآية تعليم وإرشاد أن على العبد أن يفرغ ما في وسعه

فلسطين حيث لا ملك لفرعون بها. قال تعالى: {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ}: خرج منها فاراً بنفسه، منفرداً خائفاً، لا شيء معه من زاد ولا راحلة، ولا حذاء، أسند إلى دعاء ربه مستغيثاً به الذي من طرق بابه، ولاذ بجنابه، لا يردُّه، ولا يُخيّبه (¬1). {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ}: أي إلى الطريق الأقوم، والمختصر الموصل إليها بسهولةٍ، ورفقٍ، فهداه اللَّه - عز وجل - إليها، وهداه - سبحانه وتعالى - إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، فجعله هادياً مهدياً (¬2). من فوائد هذا الدعاء: 1 - في هذه الآية تعليم وإرشاد أن على العبد أن يفرغ ما في وسعه في بذل الأسباب، ثم يلجأ إلى اللَّه تعالى أن ييسر له الأسباب، وهذا من كمال التوكّل. 2 - ((أن الناظر في العلم عند الحاجة إلى العلم، أو التكلم به إذا لم يترجّح عنده أحد القولين؛ فإنه يستهدي ربه، ويسأله أن يهديه إلى الصواب من القولين، بعد أن يقصد الحق بقلبه، ويبحث عنه، فإن اللَّه تعالى لا يخيب من هذه حاله)) (¬3). 3 - ينبغي للعبد أن يسأل ربه - عز وجل - الهداية الحسيّة، والمعنوية، حتى ¬

(¬1) تفسير القرطبي، 7/ 237. (¬2) تفسير ابن كثير، 6/ 236. (¬3) تيسير اللطيف المنان، ص 131.

4 - افتقار الخلق كلهم إلى الله تعالى بالهداية والتوفيق.

يهديه ربه - عز وجل - إلى أسهل وأقرب الطرق الموصلة لذلك المقصد في دينه ودنياه. 4 - افتقار الخلق كلهم إلى اللَّه تعالى بالهداية والتوفيق. 5 - فضل الدعاء في جلب المنافع، ودفع المضار. 40 - {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (¬1). هذه الدعوة ضمن دعوات ذكرها المؤلف حفظه اللَّه تعالى ووفقه، من دعوات موسى - عليه السلام -، الذي كثر عنها الحديث في كتاب ربنا دلالة على أهميتها، والدعوة إلى العناية بها، فهماً، وعلماً، وسؤالاً، ومطلباً، ففيها من الخيرات والمنافع الكثيرة التي تعود على العبد بما يصلح أموره، وأحواله في الدنيا، ومرجعه في الآخرة. فقد ذكر المفسرون أن موسى - عليه السلام - لما جهد في السفر، وانقطع عن الأهل، بلغ به الجوع كل مبلغ، ولم يكن معه من الطعام ما يأكله، فعرف أين المقصد، وأين المخرج، فعرف أن المفرّ إلى ربه تبارك وتعالى الذي اعتنى به منذ صغره إلى هذه الحال، عرف ربه في الرخاء، فعرفه في الشدة، فتوسّل إليه بألطف الوسائل. قوله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}: ذكر حاله إلى ربه تبارك وتعالى بألطف الكلمات والعبارات، المتضمن لطلب إنزال اللَّه الخيرات، وهذا من أبلغ الوسائل، وألطفها لما فيها من حسن ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 24.

الأدب وكمال الطلب. وكأني بحاله يقول: يا ربي، إني لما أنزلت إليَّ من فضلك وغناك وخيرك فقير إلى أن تغنيني بك عمن سواك. ((وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال)) (¬1). ((فإن اللَّه تعالى كما يحب من الداعي أن يتوسل إليه بأسمائه، وصفاته، ونعمه العامة والخاصة، فإنه يحب منه أن يتوسّل إليه بضعفه، وعجزه، وفقره، وعدم قدرته على تحصيل مصالحه، ودفع الأضرار عن نفسه، لما في ذلك من إظهار التضرع والمسكنة، والافتقار للَّه - عز وجل - الذي هو حقيقة كل عبد)) (¬2). فقد تضمّن كتاب ربنا أنواعاً في كيفية الطلب والدعاء، فتارة يكون الدعاء بصيغة الطلب: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} (¬3). وتارة يكون بصيغة الخبر المتضمن للطلب مثل هذا الدعاء، وكدعاء زكريا: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (¬4). ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، 6/ 16. (¬2) تفسير اللطيف المنان، ص 132. (¬3) سورة المؤمنون، الآية: 118. (¬4) سورة مريم، الآية: 4.

1 - أن الشكوى إلى الله تعالى لا تنافي الصبر

وكقوله تعالى عن أيوب: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (¬1)، والعبد الصالح السالك طريق الأنبياء والمرسلين يحسن به الاقتداء بهم، والأخذ بسننهم في الدعاء) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ((¬2). فيجمع العبد بين هذه التوسلات العلية في سؤاله ورغبته: وإذا كان موسى - عليه السلام - قد سأل اللَّه الخير بصيغة الحال، فإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل اللَّه - عز وجل - الخير بصيغة الطلب، كما في الحديث العظيم الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لأُمِّنا عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حين قال لها: ((عَلَيْكِ بِالْكَوَامِلِ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ ... ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ))، وفي رواية: ((عليك بالجوامع الكوامل)) (¬3). تضمنت هذه الدعوة المباركة جملاً من الفوائد منها: 1 - أن الشكوى إلى اللَّه تعالى لا تنافي الصبر، بل من كمال الإيمان باللَّه تعالى، والرضا بقدره. 2 - على الداعي أن يتوسل إلى اللَّه بأنواع التوسل المشروعة، وإن ذلك من كمال العبودية التي يحبها اللَّه - عز وجل -. 3 - مشروعية الاستعاذة من الفقر، وأنها سُنَّة الأنبياء والمرسلين، ¬

(¬1) سورة الأنبياء، الآية 83. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 90. (¬3) سنن ابن ماجه، برقم 3846، مسند أحمد، برقم 25137، ورقم 25138، واللفظ له، الأدب المفرد للبخاري، وقد تقدم تخريجه في الدعاء رقم 29، مع التعليق عليه.

41 - {رب انصرني على القوم المفسدين}.

فقد كان من دعاء رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ، وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ)) (¬1). 41 - {رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} (¬2). هذا الدعاء من نبي اللَّه لوط - عليه السلام -، وقد كان مرسلاً إلى قوم قد جمعوا بين الشرك، والكفر، والفعل الشديد النكران. فكانوا يأتون الذكران من العالمين، ولم يسبقهم أحد مثلهم من السابقين، وقصَّ ربّنا - عز وجل - لنا عن دعوته لهم، فلم يستجيبوا له، حتى أقرب الناس إليه زوجه، فلمّا يئس منهم دعا عليهم بعد أن تمادوا إلى أشد النكران والكفران. حيث أرادوا الفاحشة في ملائكة العذاب حين أتوه بالبشرى في صورة أضياف آدميين شباب. فأوى إلى المليك المقتدر السميع القريب فقال: {رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}: يا رب انصرني عليهم بإنزال العذاب الموعود الذي لا يتخلف، والآتي المتحقق، وتوسّلَ إلى اللَّه تعالى بربوبيته التي من معانيها النفع، ودفع الضر، والنصر، والتربية، والتدبير، فكان في غاية الحسن في السؤال. وقوله: {عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}: على أصحاب الفاحشة الذين ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، برقم 1544،والنسائي، برقم 5475، وسيأتي تخريجه وشرحه، في الدعاء رقم 94. (¬2) سورة العنكبوت، الآية: 30.

1 - لا عاصم على الإطلاق إلا الله تبارك وتعالى.

سنُّوا هذا الفعل لمن بعدهم، وإنما وصفهم (بالْمُفْسِدِينَ): مبالغة في استنزال العذاب عليهم، وقد بيَّن اللَّه تعالى لنا في كيفية هلاكهم: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} (¬1)، فكما قلبوا فطرتهم، قلب اللَّه - عز وجل - أجسادهم وبيوتهم جزاءً وفاقاً. وفي هذا القصص عبرة للعباد، وإرشاد إلى الاعتصام باللَّه تعالى في سؤال اللَّه العصمة، والاستعاذة به - عز وجل - من المنكرات المضلَّة التي تُفسد القلب، والعقل، والجسم، والفطرة السليمة. تضمنت هذه الدعوة المباركة من الفوائد الكثيرة: 1 - لا عاصم على الإطلاق إلا اللَّه تبارك وتعالى. 2 - أن الداعي ينبغي له أن يجانب مصاحبة المفسدين، حتى لا يصيبه ما أصابهم، وأن يستعين باللَّه في دعائه كذلك عليهم. 3 - أهمية التوسّل إلى اللَّه بالدعاء على المفسدين، كما أفاد لفظ (انْصُرْنِي)، ولم يقل (أعذني) دلالة على شدة خطورتهم، وأنه من عُصِمَ منهم فقد نُصِرَ نَصْراً مُؤزَّراً من اللَّه جلّ شأنه. 42 - {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬2). الصلاح: ((ضد الفساد، وهما مختصّان في أكثر الاستعمال بالأفعال، وقُوبل في القرآن تارة بالفساد، وتارة بالسيئة، قال تعالى: ¬

(¬1) سورة الحجر، الآية: 74. (¬2) سورة الصافات، الآية: 100.

{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} (¬1)، وقال تعالى: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} (¬2)) (¬3). هذه الدعوة ضمن دعوات إبراهيم - عليه السلام -، حيث سأل اللَّه تعالى أن يهب له ولداً صالحاً، فبعد أن طلب الصلاح لنفسه: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} طلب الصلاح من اللَّه تعالى لذريته، حتى يتم الكمال له ولذريته، ومطلب الصلاح هو سؤال الأنبياء والمرسلين. فقد طلبه سليمان - عليه السلام - فقال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (¬4). وطلبه يوسف - عليه السلام - فقال: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (¬5)، وهي -كما تقدم - دعوة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهم توفنا مسلمين، وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين))؛ لأن الصلاح هو أفضل الخصال، وأسماها، وأشرف مقامات السالكين إلى اللَّه تعالى، فمن ناله صلح أمره وشأنه في الدنيا، وحسنت عاقبته في الآخرة. ¬

(¬1) سورة التوبة، الآية 102. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 56. (¬3) انظر: مفردات القرآن، مادة (صلح). (¬4) سورة النمل، الآية: 19. (¬5) سورة يوسف، الآية: 101.

فإن الولد الصالح من أعظم النعم، وأقرِّ الأعين، وأحبِّ المُنى، وهل يكون الفلاح في الآخرة إلا بالصلاح، وسؤال اللَّه تعالى الصلاح للذرية يدخل فيه سؤال اللَّه صلاح البدن، والخلق، والدِّين أن يكون سليماً مستقيماً في خِلْقته، وخُلُقه في ظاهره وباطنه، وهذه من أعظم النعم التي يتمناها كل عبدٍ صالح. وقوله: {رَبِّ هَبْ لِي} فيه بيان أن رزق الولد الصالح مِنَّةٌ ربانيةٌ، ومِنحةٌ إلهيةٌ، والهبة هي: عطاء بلا عوض، ولا ثمن، فالهبة منه - عز وجل - كمال محض؛ لأن الإعطاء منه تفضلاً، وابتداءً من غير استحقاق، ولا مكافأة (¬1). قوله: {مِنَ الصَّالِحِينَ} قَيّد في سؤاله الصلاح، وهذا أمر مهمٌّ؛ لأن من الذرية ما يكون سبباً للهمِّ والنّكَدِ، وسوء الخُلُقِ. قال ابن جرير الطبري رحمه اللَّه: ((يقول: يا ربِّ هبْ لي منك ولداً يكون من الصالحين الذين يطيعونك، ولا يعصونك، ويصلحون في الأرض، ولا يفسدون)) (¬2). ففي صلاح الذرية النفع الكبير للوالدين في الدارين، ففي الدنيا طاعتهما، والقيام على خدمتهما، وبذل المعروف لهما، وبعد موتهما بالدعاء لهما، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا ماتَ الإِنْسانُ انْقَطَعَ عنه عَمَلُهُ إلاَّ ¬

(¬1) انظر: النهاية، 5/ 231، واللسان، 6/ 4929. (¬2) تفسير الطبري، 1/ 314.

مِنْ ثَلاَثةٍ: صَدَقَةٍ جارِيَةٍ، أوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ وَلَدٍ صالحٍ يَدْعُو لهُ)) (¬1)، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((بَخٍ بَخٍ, خَمْسٌ مَا أَثْقَلَهُنَّ فِي الْمِيزَانِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَسُبْحَانَ اللَّهِ, وَالْحَمْدُ لِلَّهِ, وَاللَّهُ أَكْبَرُ, وَالْوَلَدُ الصَّالِحُ يُتَوَفَّى لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فَيَحْتَسِبُهُ)) (¬2)، وفي الآخرة من رفع الدرجات، والمنازل العُلا، قال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا؟ فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ)) (¬3)، وفي لفظ آخر موقوفاً على أبي هريرة: ((ترفعُ للميّت بعدَ موتِهِ درجتُه، فيقولُ: أيْ ربِّ، أيُّ شيءٍ هذا؟ فيُقالُ: ولدُكَ استغفَرَ لَكَ)) (¬4). ولمّا كانت هبة الولد الصالح عطية عظيمة من اللَّه تعالى، ونعمة جليلة من نعمه، كان شكرها، وحمد الرب تبارك وتعالى عليها واجباً على العبد، كما قال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّه عَلَيْكُمْ وَمَا ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، برقم 1631. (¬2) السنن الكبرى للنسائي، 6/ 50، برقم 9995، ومسند الإمام أحمد، 24/ 430، وشعب الإيمان للبيهقي، 12/ 216، برقم 15662، وبأرقام: 18076، 23100، والمعجم الأوسط للطبراني، 5/ 225، والمعجم الكبير له أيضاً، 22، 348، ومسند الشاميين له أيضاً، 1/ 357، ومسند البزار، 2/ 123، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم، برقم 817، و1973، و6221، و6269، وموارد الظمآن للهيثمي، ص 232، والفردوس للديلمي، 2/ 27، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 1557، ورقم 2009. (¬3) سنن ابن ماجه، أبواب الأدب، باب بر الوالدين، برقم 3660، ومسند أحمد، 16/ 357، برقم 10611، والطبراني في المعجم الأوسط، 5/ 210، ومصنف ابن أبي شيبة، 10/ 396، برقم 30359، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم 2497، وحسّنه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 129، برقم 1598، وصحيح ابن ماجه، برقم 3650. (¬4) الأدب المفرد للبخاري، ص 28، برقم 36، وحسّن إسناده الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 17، برقم 27.

1 - إن كل أحد وإن علا قدره من البشر مفتقر إلى الله - عز وجل -.

أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} (¬1)؛ ولأن بالشكر تدوم النعم {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (¬2)، فقد وفّى خليل الرحمن بهذه النعمة خير التمام، حيث قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (¬3)، أكد الجملة بـ (إنَّ) (¬4)، و (اللام) للدعاء، والإجابة، أي وهب اللَّه لي على الكبر إسماعيل، وإسحاق؛ لأنه تعالى سميع الدعاء، وهذه هي عادة اللَّه تبارك وتعالى مع الصادقين السائلين أن يجيبهم، ويؤتيهم سؤلهم؛ لأنه - جل جلاله - مجيب لمن دعاه، كما دلّ قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهُ} ((بالفاء التي تفيد التعقيب والترتيب والسببية، أي فبسبب دعائه ببشارته)) (¬5)، ودلّت هذه البشارة أنها جاءت عقب الدعاء مباشرة، كما دلّ على ذلك بـ (الفاء) التي تدلّ على التعقيب دون مهلة، وهذا يدلّ على عظم شأن الدعاء، فما استجلبت النعم، ودفعت النقم بمثله. تضمن هذا الدعاء من الفوائد: 1 - إن كل أحد وإن علا قدره من البشر مفتقر إلى اللَّه - عز وجل -، ومفتقر ¬

(¬1) سورة البقرة، الآية: 231. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬3) سورة إبراهيم، الآية: 39. (¬4) (إن): هي حرف توكيد، تنصب الاسم، وترفع الخبر، وكذلك أنها تفيد العليّة كما صرح بذلك الأصوليون. انظر: القياس في القرآن الكريم والسنة النبوية، وليد الحسيني. (¬5) تفسير سورة الصافات للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، ص 234.

2 - أهمية الصلاح، وأنه مطمع، ومأمل كل الأنبياء والمرسلين والصالحين.

إلى من يغنيه، لقوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِن َالصَّالِحِينَ}. 2 - أهمية الصلاح، وأنه مطمع، ومأمل كل الأنبياء والمرسلين والصالحين، فينبغي للعبد أن يسأله له، ولأهله، ولذريته، ولجميع المسلمين. 3 - ينبغي للعبد حين سؤاله ربه الذرية أن يقيّدها بالصلاح. 4 - أهمية التوسل إلى اللَّه حال الدعاء بأسمائه الحسنى، وكذلك بصفاته الفعلية العُلا، ومنها (الهبة) المشتقة من اسمه تعالى (الوهّاب). 5 - الإكثار من الدعاء للأبناء بالصلاح؛ لأن الذرية الصالحة من آثار العبد الصالح، كما في دعاء إبراهيم، وإسماعيل عليهما السلام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}. 6 - على العبد أن يتخيّر في دعائه أحسن الألفاظ، وأجمل المعاني، كما دلّ قوله: {هَبْ لِي}. 7 - أن الذرية الصالحة هبة محضة من اللَّه تعالى، فمن أوتيها ينبغي له أن يحمد اللَّه تعالى عليها كثيراً. 8 - أن من أعظم أسباب هبة الولد الصالح الدعاء. 9 - يحسن للداعي أن يذكر بعض الأمور الحميدة التي يتمناها حال سؤاله. 10 - أهمية الدعاء في حياة المؤمن؛ لما فيه من تحصيل المنافع،

43 - {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي}.

واعطاء المرجو في العاجل والآجل. 43 - {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (¬1). المفردات: أوزعني: أي ألهمني، وأولعني أن أشكر نعمتك بحيث لا أنفكُّ عن شكرها، وقد سبق لنا أن شرحنا مثل هذه الدعوة المباركة الطيبة على لسان سليمان - عليه السلام -، إلاّ أنه ختم الدعاء هناك بقوله: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} (¬2)، وختم هنا بقوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}. فبدأ اللَّه تعالى بالوصية لمن كان سبباً في وجوده في هذه الحياة الدنيا بعد اللَّه - عز وجل - بالإحسان إليهما، وبرِّهما، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي تناهى عقله، وكمل فهمه وحلمه، ففيه بيان أن العبد إذا بلغ أربعين سنة أن يجدد التوبة للَّه تعالى. {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ}: يا ربي وفقني أن أشكر ¬

(¬1) سورة الأحقاف، الآية: 15. (¬2) سورة النمل، الآية: 19.

نعمك التي لا تُحصى عليّ من نعم الدنيا، والدين الذي هو أعظم النعم التي أسبغتها عليّ، فكم من محروم منها. تضمّن هذا السؤال التوفيق للعمل بالطاعات، واجتناب المحرّمات. {وَعَلَى وَالِدَيَّ}: أدرج ذكر والديه تكثيراً للنعم، والنعم على الوالدين نعم على أولادهم؛ لأنهم لابد أن ينالهم شيئاً منها، ومن أسبابها وآثارها، خصوصاً نعم الدين، فسأل ربه التوفيق للقيام بشكر نعمته الدينية والدنيوية. {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}: وألهمني ووفقني أن أعمل صالحاً ترضاه في المستقبل، فجمع بين أنواع الشكر المطلوبة: شكرها باللسان، بالثناء والذكر، المستلزم للشكر بالجنان، وأردفه الشكر بالأركان، وهو القيام بصالح الأعمال عنده جل وعلا عليه وعلى والديه. وقوله: {صَالِحًا تَرْضَاهُ}: فتقييده بـ (ترضاه) يدلّ أنه ليس كل عمل صالحٍ في الظاهر يرضاه اللَّه تعالى، بل لا بدّ أن يوفّق إلى الأعمال والأقوال الموجبة لرضاه جل وعلا، من صدق الإخلاص، وحسن العبادة في المتابعة. {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي}: أي واجعل الصلاح سارياً في ذريتي، راسخاً فيهم، متمكنين منه، ولذلك عُدِّي بـ (في) (¬1)، وفيه إشارة إلى ¬

(¬1) فتح البيان لصديق حسن خان، 6/ 301 بتصرف يسير.

تضمن هذا السؤال كمال السعادة البشرية المرجوة في الدنيا والآخرة:

أن صلاح الآباء يورث صلاح الأبناء. تضمن هذا السؤال كمال السعادة البشرية المرجوة في الدنيا والآخرة: 1 - أن يوقفه للشكر على النعم الدنيوية والشرعية. 2 - أن يوفقه بالطاعة المرضية عنده جل وعلا التي تكون بالمتابعة والإخلاص. 3 - أن يصلح له ذريته على صراط اللَّه تعالى المستقيم. 4 - التوفيق إلى التعبد بمقتضيات صفاته، وآثارها، ومنها صفة الرضا في قوله: {صَالِحًا تَرْضَاهُ}. قوله: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِين}: ختم هذا الدعاء بتجديد التوبة، والاستسلام للَّه تعالى في أمره ونهيه، قال ابن كثير رحمه اللَّه تعالى: ((هذا فيه إرشاد لمن بلغ أربعين سنة أن يجدد التوبة والإنابة إلى اللَّه - عز وجل -، ويعزم عليها)) (¬1). الفوائد: 1 - أهمية هذه الدعوة؛ فإنها تكررت مرتين في كتاب اللَّه تعالى: مرة على لسان سليمان - عليه السلام -، ومرّة هنا على لسان الصالحين من عباده تعالى. 2 - أهمّية سؤال اللَّه - عز وجل - التوفيق إلى الشكر؛ لقوله: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ}. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 4/ 202.

3 - أن نعم الله تعالى على العبد، وعلى الخلق لا تحصى

3 - أن نعم اللَّه تعالى على العبد، وعلى الخلق لا تُحصى، كما أفاد قوله: {نِعْمَتَكَ} مفرد مضاف يفيد العموم. 4 - أن نعمة الإسلام هي أعظم النعم من اللَّه - جل جلاله - التي ينبغي للعبد استشعارها، وحمده تعالى عليها سراً وعلانية. 5 - إن أحق من يُشْكَر بعد اللَّه تعالى الوالدين لقوله: {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ}. 6 - أهمية سؤال اللَّه تعالى التوفيق إلى أحسن الأعمال لقوله: {تَرْضَاهُ} (¬1). 7 - ينبغي مراقبة اللَّه تعالى في الأعمال، وأن تكون خالصةً لوجهه - عز وجل -: {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}. 8 - إثبات صفة (الرِّضَا) لله تعالى، وهي صفة فعلية تتعلق بمشيئتة وإرادته. 9 - ينبغي للداعي أن يبذل ما في وسعه بالتقرب إلى اللَّه تعالى بالأعمال، والأقوال، والأخلاق التي تقتضي رضاه تعالى؛ لأن رضاه صفة فعلية، والصفات الفعلية تتعلق بمشيئته متى وُجد سبب الرضا وُجد الرضا. 10 - ينبغي للداعي أن يسأل اللَّه على الدوام إصلاح ذريته؛ لأن النفع يعود عليهم جميعاً، بل وعلى المؤمنين. ¬

(¬1) كما في قوله: (صالحاً) بالتنوين الذي يفيد التفخيم والتكثير، روح المعاني، 14/ 30.

11 - أهمية التوسل بالعمل الصالح

11 - أهمية التوسل بالعمل الصالح، وكلّما كثّره العبد كان أرجى في الإجابة، كما في قوله تعالى: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ}، {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِين}. 12 - إن التوبة من الذنوب من أعظم أسباب قبول الدعاء: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ}. 13 - ((إن إشهاد الإنسان على نفسه بالإيمان، أو بالإسلام، وما أشبه ذلك، لا يُعدّ من الرياء، ولا سيما في الاتباع)) (¬1)، بل يدلّ على الإقرار لله تعالى، والخضوع والتذلل له، وهذا من أعظم أنواع التوسل بالعمل الصالح؛ لأن الإسلام هو الاستسلام في ظاهر العبد، وباطنه لله رب العالمين. 14 - ينبغي للعبد أن يجدد توبته، وإنابته إلى اللَّه خاصة إذا كمل أربعين عاماً (¬2). 15 - ينبغي للداعي أن يكون له حظ كبير في أدعيته لوالديه، ولذريته؛ فإن هذا النفع يعود عليه، وعليهم جميعاً في الصلاح في الدنيا، والأنس والاجتماع بعضهم مع بعض في جنات النعيم. 44 - {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ ¬

(¬1) تفسير آل عمران للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 1/ 308. (¬2) تفسير ابن كثير، 4/ 202.

رَّحِيمٌ} (¬1). هذه الدعوات هي في غاية الأهمية، ذكرها ربنا تبارك وتعالى لأهل الإيمان المخلصين من بعد الصحابة رضوان اللَّه عليهم أجمعين من التابعين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، دعوات تدلّ على المحبة والتآخي في قلوب المؤمنين؛ فإن حقوق المؤمن على المؤمن كثيرة، ومنها الدعاء له في غيبته: في حياته، وبعد موته. بعد أن أثنى اللَّه - عز وجل - على المهاجرين {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّه وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّه وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (¬2). ثم ثنَّى بالأنصار: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}. ثم الصنف الثالث من المؤمنين الذين جاؤوا من بعدهم إلى يوم القيامة: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}، فاستوعبت هذه الآيات جميع المسلمين، وليس أحدٌ إلاّ له فيها حق. {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ}: ذكروهم في ¬

(¬1) سورة الحشر، الآية: 10. (¬2) سورة الحشر، الآية: 10.

الثناء عليهم في محبتهم بالسبق بالإيمان، اعترافاً بفضلهم؛ لأن الأخوّة في الدين عندهم أعزّ وأشرف من أخوَّة النسب، فجمعوا في الدعاء بطلب المغفرة لهم وللسابقين، وهذا من كمال الدعوات وأحسنها وأنفعها. قال العلامة ابن سعدي رحمه اللَّه: ((وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين من السابقين من الصحابة، ومن قبلهم، ومن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان، أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان، المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين، التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضاً؛ ولهذا ذكر اللَّه تعالى في هذا الدعاء نفي الغل في القلب الشامل لقليله وكثيره، الذي إذا انتفى، ثبت ضده، وهو المحبّة بين المؤمنين)) (¬1). فجمعوا في هذه الدعوة المباركة بين سلامة القلب، وسلامة الألسن، فليس في قلوبهم أي ضغينة، ولا وقيعة، ولا استنقاص لأحد بالذكر في اللسان، دلالة على جماع المحبّة الصادقة للَّه ربِّ العالمين. قال أبو مظفر السمعاني رحمه اللَّه: ((وفي الآية دليل على أن الترحم للسلف، والدعاء لهم بالخير، وترك ذكرهم بالسوء من ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، ص 1012.

علامة المؤمنين)) (¬1). ثم أكّدوا في تضرّعهم بإجابة دعائهم: {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}: توسّلوا إليه تعالى باسمين كريمين دالَّين على كمال رحمة اللَّه تعالى، أي: يا ربنا ما دعوناك بهذا السؤال والدعاء إلا لأنك رؤوف رحيم. والرؤوف: اسم للَّه تعالى يدلّ على شدّة الرحمة وأعلاها، فهو أخصُّ من الرحمة. ومن كانت هذه خصالهم في الحبّ والمودّة في القلب واللسان بالدعاء والثناء لإخوانهم المؤمنين، جازاهم اللَّه تعالى خير الجزاء، قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (¬2)، وقد تقدّمت بشارة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيمن دعا لإخوانه المؤمنين ((من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب اللَّه له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)) (¬3). ولا يخفى يا عبد اللَّه أن في الإكثار من هذه الدعوة العظيمة خيرات كثيرة في الدنيا والآخرة؛ لما في ذلك من الاستجابة لأمر اللَّه تعالى، وكثرة الحسنات التي لا تُعدُّ ولا تُحصى للداعي بها كما ¬

(¬1) تفسير أبي المظفر السمعاني، 5/ 402. (¬2) سورة الحشر، الآية: 10. (¬3) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 19/ 909، ومسند الشاميين، 3/ 234، وأبو يعلى، 2/ 346. وحسنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، برقم 6026، وتقدم.

1 - أهمية هذه الدعوة المباركة التي ينبغي لكل مسلم الإكثار منها.

تقدم، وأن الدعاء بهذه الدعوات الطيبة يثمر في قلب العبد حب المؤمنين، والبُعد عن الكراهية، والحسد، والغلّ فتطهر بذلك القلوب، وهذا من أعظم مقاصد الدين. الفوائد: 1 - أهمية هذه الدعوة المباركة التي ينبغي لكل مسلم الإكثار منها في ليله ونهاره، فإن ثمارها ومنافعها لا تُحصى في الدنيا والآخرة. 2 - أن من أعظم حقوق المؤمن على المؤمن الدعاء. 3 - أهمية سؤال اللَّه تبارك وتعالى المغفرة؛ لأن من عظيم ثمارها زوال السيئات والمكروهات، وحصول النعم والخيرات، والفوز بالجنات. 4 - ينبغي للمؤمن ألا ينسى فضل من سبقه بالإيمان، فيذكره بالثناء والدعاء. 5 - جمع هذا الدعاء توسلين جليلين من التوسلات المهمة، وهما: أ - التوسل إليه بربوبيته، كما في قوله: {رَبَّنَا}، وباسمين من أسمائه الحسنى: {رَءُوفٌ رَحِيمٌ}. ب- وتوسل إليه تعالى بنعمته عليهم بالإيمان، وعلى من قبلهم، وهو توسّل بسابق الإحسان. 45 - {رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ

46 - {ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا}.

الْمَصِيرُ} (¬1). 46 - {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬2). المفردات: الإسوة والأسوة: ما يُتأسَّى به، مثل قِدوَة وقُدوة، ويقال: هو إسوتك أي مثلك، وأنت مثله (¬3). قال أبو السعود: خصلةٌ حميدةٌ حقيقةٌ بأنْ يُؤتَسَى ويُقْتَدى بهَا، ويتبع أثرها (¬4). الفتنة، أصل الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، ثم أطلق على الابتلاء والامتحان (¬5). بعد أن ذكر اللَّه جلّ شأنه من تبرئ إبراهيم - عليه السلام - والذين معه من الذين كفروا من قولهم وفعلهم، وبارزوا لهم التبري حتى يؤمنوا باللَّه تعالى وحده، ويوحِّدوا له العبادة لا شريك له، شرعوا في التوسل إليه تعالى بأسمائه الحسنى، وجميل أفعالهم، فجمعوا بين توسلين في حال دعائهم، استعطافاً لقبول دعائهم: ... ¬

(¬1) سورة الممتحنة، الآية: 4. (¬2) سورة الممتحنة، الآية: 5. (¬3) تفسير القرطبي، 9/ 309. (¬4) انظر: تفسير أبي السعود، 8/ 236. (¬5) انظر: المفردات، مادة (فتن)، وتذكرة الحفاظ، 3/ 197.

من التوكل والإنابة إليه - عز وجل -، والإيمان باليوم الآخر، ولمّا كانت هذه الخصال يحبّها اللَّه تعالى، حثَّنا وأكّد - سبحانه وتعالى - لنا في الاقتداء بهم، واتباع سيرته - عليه السلام -، والذين معه، إلاّ في استغفاره لأبيه، قال قتادة في هذه الآية: ((ائتسوا به في كل شيء، ما خلا قوله لأبيه: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} فلا تأتسوا بذلك منه، فإنها كانت عن موعدة وعدها إياه)) (¬1). فأمَرَنا ربنا تبارك وتعالى بالاقتداء بهم بالقول والفعل والدعاء. {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا}: بعد أن تبرؤوا شرعوا في التوسل إليه تعالى بخالص أعمالهم، وعبودياتهم له تعالى، مقدمة لسؤالهم ليكون أرجى في الإجابة والقبول: أي يا ربنا توكلنا عليك في جميع أمورنا: صغيرها، وكبيرها، وسلّمنا أمورنا إليك وحدك. {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا}: وإليك رجعنا بالاعتراف لك بكل ذنوبنا دون غيرك. {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}: وإليك مصيرنا ومرجعنا يوم تبعثنا من قبورنا، وتحشرنا يوم القيامة إلى موقف العرض، ((وفي تقديم الجار والمجرور (إليك) دلالة للحصر)) (¬2)، والقصر في التوكل والإنابة والمصير عليه وحده جل وعلا دلالة على كمال توحيدهم، وإيمانهم. ¬

(¬1) أخرجه الطبري في التفسير، 23/ 318، وقال حكمت بن بشير بن ياسين في التفسير الصحيح، 4/ 473: ((بإسناد حسن)). (¬2) تفسير ابن عاشور، 28/ 147.

{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا}: للآية معنيان: الأول: جاء عن مجاهد أنه قال: ((لا تعذبنا بأيديهم، ولا بعذاب من عندك، فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا)) (¬1). المعنى الثاني: ما جاء عن قتادة أنه قال: ((يقول: لا تظهرهم علينا فيُفتنوا بذلك، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحقٍّ هم عليه)) (¬2)، والآية تحتمل هذين المعنيين؛ لأن القاعدة في تفسير كتاب اللَّه تقول: ((إذا احتمل اللفظ معاني عدّة، ولم يمتنع إرادة الجميع حمل عليها)) (¬3)، فتضمن هذا الدعاء المبارك سؤال اللَّه السلامة في الدين والدنيا. وهذا المقصد العظيم كان من سؤال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: (( ... ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ... )) (¬4)، والفتنة في الدين هي أخطر وأصعب الفتن، والعياذ باللَّه. كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (¬5)، {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (¬6). ¬

(¬1) تفسير مجاهد، 2/ 667، وتفسير الطبري، 23/ 320، وصحح إسناده في التفسير الصحيح، 4/ 473. (¬2) تفسير الطبري، 23/ 320، وصحح إسناده في التفسير الصحيح، 4/ 473. (¬3) انظر: قواعد التفسير لخالد بن عثمان السبت، 2/ 807. (¬4) انظر شرح الحديث في الدعاء رقم 82. (¬5) سورة البقرة، الآية: 197. (¬6) سورة البقرة، الآية: 217.

أي أن فتنة المسلم عن دينه حتى يرجع إلى الكفر بعد إيمانه أكبر عند اللَّه من القتل، وإزهاق النفس. وقولهم: {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا}: بعد أن سألوا اللَّه تعالى أن يصلح لهم دينهم في معاشهم، سألوه تعالى ما يصلح لهم أمورهم في آخرتهم: أي: واستر ذنوبنا فيما بيننا وبين غيرك، وتجاوز عنها فيما بيننا وبينك. ((وفي تكرار النداء بقولهم: {رَبَّنَا} إظهار للمبالغة في التضرع مع كل دعوة من الدعوات الثلاث)) (¬1)، وهذا يدلّ على شدّة إخلاصهم في دينهم، وكثرة توسّلهم إلى اللَّه تعالى في مطلوبهم. {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}: ثم بيّنوا علّة سؤالهم له تبارك وتعالى تأكيداً وتحقيقاً بأنه تعالى هو: {الْعَزِيزُ}: الغالب الذي لا يُغلب، ولا يُذلُّ من لاذ بجنابه جلّ وعلا. {الْحَكِيمُ}: أي أنت الحكيم في أقوالك، وأفعالك، وشرعك، وقدرك، فتضع الأشياء في محلها، ((واقتران العزيز بالحكيم يدلّ على كمال آخر غير كمال كل اسم بمفرده، وذلك: أن عزته جلّ وعلا مقرونة بالحكمة، فلا تقتضي ظلماً وجوراً وسوءاً، كما في المخلوقين قد تأخذه العزّة بالإثم فيظلم، وكذلك حكمه تعالى وحكمته مقرونة بالعزّ الكامل، بخلاف المخلوق، فإن حكمته قد ¬

(¬1) تفسير ابن عاشور، 28/ 13 بتصرف يسير.

في هذه الدعوات فوائد كثيرة، منها:

يعتريها الذل)) (¬1). ثم كرَّر - سبحانه وتعالى - الحثَّ على التأسِّي بهم، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} للمبالغة في التأسِّي بهم في أفعالهم، وأقوالهم، ودعائهم. ثم قال: {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّه وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} تهييج من اللَّه للمؤمنين باللَّه تعالى واليوم الآخر إلى الاقتداء والتأسِّي بهم. الفوائد: في هذه الدعوات فوائد كثيرة، منها: 1 - أهمية التوسّل إلى اللَّه تعالى بالعمل الصالح، وهو من موجبات إجابة الدعاء. 2 - تذييل الدعاء باسم يناسب المطلوب، دلّ على ذلك ختمهم باسم (العزيز الحكيم). 3 - أهمية سؤال اللَّه تعالى المغفرة، كما في غالب الأدعية القرآنية، والسنة النبوية؛ لما فيها من إزالة كل مرهوب. 4 - أهمية تقديم الأهم في الدعاء، كما جاء في سؤالهم العصمة، والنجاة من المفسدين لدينهم، وعقيدتهم. 5 - أهمية تكرير التوسل بربوبية اللَّه تعالى المؤذن للإجابة، والقبول، والعناية، والحفظ؛ لأنّ ربوبية اللَّه - عز وجل - ربوبيتان: عامة، وخاصة، فالعامة لجميع الخلائق، والخاصة لخواصّ خلقه من المؤمنين، فهم يسألون هذه الربوبية التي تقتضي ما ذكر من ¬

(¬1) القواعد المثلى للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، ص 10.

6 - أن الدعاء سلاح الأنبياء، والمؤمنين في كل أحوالهم.

العناية؛ ولهذا كانت أغلب أدعية القرآن مصدّرة بالتوسل إلى اللَّه بربوبيته؛ لأنها أعظم الوسائل على الإطلاق، التي تحصل بها المحبوبات، وتندفع لها المكروهات (¬1). 6 - أن الدعاء سلاح الأنبياء، والمؤمنين في كل أحوالهم. 7 - التوسل إلى اللَّه تعالى بأكثر من توسل، وهو آكد في حصول الإجابة، دلّ على ذلك أنهم جمعوا بين توسلين: أ- توسلهم بأعمالهم الصالحة. ب - وتوسلهم بأسمائه تعالى الحسنى: (ربنا، العزيز، الحكيم). 8 - أن العبد لا غنى له عن ربه - عز وجل - طرفة عين، وأنه هو ملجأه، وملاذه في الشدائد والمصائب، وكل الأحوال. 9 - ينبغي لكل داع أن يخصّ في دعواته سؤال ربه تعالى السلامة من الفتن في الدين؛ لأنها أشد الفتن والمصائب. 10 - أهمية معرفة مسالك العلّة التي جاءت في الكتاب والسنة حيث إنها تعين في معرفة معاني كتاب اللَّه تعالى، وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وما حوى من الأدعية الكريمة، كما في هذه الآية، فقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} علّلوا دعوتهم, أي ما دعوناك إلا لأنك أنت العزيز الذي تُعزّ من تشاء، فنسألك من عزتك التي لا ترام أن تعزَّنا، وتنصرنا على هؤلاء الكفرة الفجرة؛ ولأنك ¬

(¬1) المواهب الربانية للعلامة ابن سعدي رحمه الله، ص 125.

11 - أهمية التوكل، دل على ذلك تصديرهم به.

حكيم، فحكمتك تمنع أن تكون النصرة للكافرين على المؤمنين. 11 - أهمية التوكل، دلّ على ذلك تصديرهم به؛ لأنه من توكل على اللَّه فقد كفاه ما يهمّه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1). 12 - ينبغي للداعي معرفة معاني أسماء اللَّه الحسنى، وصفاته العلا حتى يتوسل بما يناسب مطلوبه. 47 - {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬2). هذا الدعاء النافع جاء ذكره في كتاب اللَّه العزيز الحكيم من دعاء المؤمنين في يوم القيامة حين ينطفئ نور المنافقين، والعياذ باللَّه، فقد صحّ عن مجاهد رحمه اللَّه في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} (¬3)، قال: ((قول المؤمنين حين يطفأ نور المنافقين)) (¬4). كما في الآية نفسها من قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} (¬5). ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 3. (¬2) سورة التحريم، الآية: 8. (¬3) سورة التحريم، الآية: 9. (¬4) تفسير مجاهد، 4/ 403، وتفسير الطبري، 23/ 496، وصحح إسناده في التفسير الصحيح، 4/ 511. (¬5) سورة التحريم، الآية: 9.

وهذا النور أحد العلامات التي يَعرِف بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((أَنَا أَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ بِالسُّجُودِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يُؤْذَنُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُنْظِرُ بَيْنَ يَدَيَّ، فَأَعْرِفُ أُمَّتِي مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ))، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَكَيْفَ تَعْرِفُ أُمَّتَكَ مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ؟ مَا بَيْنَ نُوحٍ إِلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ: ((غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، ولَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَأَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، وَأَعْرِفُهُمْ بِنُورِهِمُ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ، وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ)) (¬1). السعي: المشي السريع، نورهم: أي نور إيمانهم، وطاعتهم على الصراط. {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: أي يضيء قدّامهم. {وَبِأَيْمَانِهِمْ}: أي وعن أيمانهم، وشمالهم على وجه الإضمار، يعني جهة أيمانهم وشمالهم (¬2). يقولون: أي يقول المؤمنون إذا طفئ نور المنافقين إشفاقاً وخوفاً. {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا}: المراد بالإتمام المداومة والاستمرارية إلى ¬

(¬1) أخرجه أحمد، 36/ 64، برقم 21737 - 21739، والبيهقي في شعب الإيمان، 4/ 262، والبزار، 2/ 116، والطبراني في الأوسط، 3/ 304، والحاكم، 2/ 520، وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 43، برقم 180. (¬2) تنوير الأذهان من تفسير روح البيان للبروسوي، 4/ 375.

أن يصلوا إلى دار السلام، جاء عن الضحاك: ((ليس أحد إلا يُعطَى نوراً يوم القيامة، فإذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين فلما رأى المؤمنون ذلك أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفأ نور المنافقين)) (¬1). قال العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه اللَّه: ((حين يسعى المؤمنون يوم القيامة بنور إيمانهم، ويمشون بضيائه، ويتمتعون بروحه وراحته، ويشفقون إذا طفئت الأنوار، التي تعطى المنافقين، ويسألون اللَّه تعالى أن يُتمِّمَ لهم نورهم، فيستجيب اللَّه دعوتهم، ويوصلهم بما معهم من النور واليقين، إلى جنات النعيم، وجوار الرب الكريم، وكل هذا من آثار التوبة النصوح)) (¬2). {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: علَّلوا بسؤالهم أنك يا ربنا ما سألناك بهذه المطالب إلا لأنك على كل شيء قدير، فلا يعجزك شيء، فأتمم لنا هذا الخير، وأدمه إلى أن نصل إلى موعودنا دار السلام. ¬

(¬1) تفسير ابن كثير، 4/ 405، ورواية الطبري في تفسيره 23/ 496 عن الحسن: ((ليس أحد إلا يُعطى نورًا يوم القيامة، يعطى المؤمن والمنافق، فيطفأ نور المنافق، فيخشى المؤمن أن يطفأ نوره))، ورواية الحاكم في المستدرك وصححها، 2/ 538: ((ليس أحد من الموحدين إلا يُعطى نوراً يوم القيامة، فأما المنافق فيطفأ نوره، والمؤمن مشفق مما رأى من إطفاء نور المنافق)). وعزاه السيوطي في الدر المنثور، 14/ 593 للحاكم، والبيهقي في البعث، (¬2) تفسير ابن سعدي، ص 1036.

وهذا النور يا عبد اللَّه على قدر نور أعمالك في الدنيا، فالجزاء من جنس العمل، فقد جاء عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - عن قوله تعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}: ((قَالَ: يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ، مِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ الْجَبَلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ نُورُهُ مِثْلُ النَّخْلَةِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ عَلَى إِبْهَامِهِ يُطْفَأَ مَرَّةً، وَيُوقَدُ أُخْرَى)) (¬1)، وهذا الخبر حكمه حكم المرفوع، أي من قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه من أمور الغيب التي لا تعلم إلا بخبر من الشارع. والعبد يسأل اللَّه - عز وجل - أن يتم نوره، ويسبغه عليه في الدنيا حتى يتم له كمال النور على الصراط يوم القيامة، فقد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل ربه تبارك وتعالى أن يرزقه نوراً في كل أجزاء جسده الشريف؛ ليكمل له العلم، والمعارف، والهدى، ولنا في رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة (¬2): ((اللهُمَ اجعَل فِي قَلبِي نُوراً وفِي سَمعي نُوراً وعَن يَمينِي نُوراً وعن يَسارِي نُوراً وفَوقِي نُوراً وتَحتِي نُوراً وأَمامِي نُوراً وخَلفِي ¬

(¬1) مصنف ابن أبي شيبة، 13/ 229، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 2/ 478، وتفسير ابن أبي حاتم، 10/ 3336، وتفسير الطبري، 23/ 179، وصححه الألباني في شرح العقيدة الطحاوية، ص 469، وبنحوه في معجم الطبراني الكبير، 9/ 357، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3591. (¬2) فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يدعو بها في سجوده، كما في سنن النسائي، كتاب التطبيق، باب الدعاء في السجود، برقم 1121، السنن الكبرى للنسائي، 1/ 237، ومصنف بن أبي شيبة، 10/ 221، والمعجم الكبير للطبراني، 11/ 318، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 363.

1 - أهمية سؤال الله تعالى بهذه الدعوة:

نُوراً وأَعظِم لِي نُوراً))، قال كُرَيب: وسَبعاً فِي التَابُوت فَلقيتُ رَجلاً مِن ولَدِ العَباس فَحدَّثنِي بِهنَّ فذكر: ((عَصبِي ولَحمِي ودَمِي وشَعَرِي وبَشَرِي ... وزِدنِي نُوراً وزِدنِي نُوراً وزِدنِي نُوراً)) (¬1). الفوائد: 1 - أهمية سؤال اللَّه تعالى بهذه الدعوة، فإن فيها سؤالين من أجلّ المطالب في الدين والدنيا والآخرة: أ - إتمام النور: أي إسباغه الذي من آثاره العلم، والهدى، والإيمان؛ لهذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه كما تقدم في ذهابه إلى الصلاة، وفي سجوده، وقيامه بالليل، بل سأل اللَّه تعالى في سياق البسط والتطويل أن يرزقه نوراً عظيماً، كما أفاد (التنوين) في كل أجزاء جسده الطاهر، فمن رزق هذا النور في الدنيا، فإنه سوف يكمل له هذا النور في الآخرة. ب - سؤال اللَّه تعالى المغفرة للذنوب، وهذا فيه الوقاية من كل الشرور ومن أعظمها النار والعياذ باللَّه. 2 - أن كل الخلق مفتقرون، حتى الأنبياء، إلى هذين المطلبين في الدنيا والآخرة. 3 - أن التوسل باسمه تعالى (القدير) مناسب في أي سؤال، ¬

(¬1) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا انتبه من الليل، برقم 6316، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 763، والأدب المفرد، وهذا لفظه، ص 242، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 254.

4 - أن من أعظم ثمرات التوبة النصوح

ومطلوب. 4 - أن من أعظم ثمرات التوبة النصوح: الفلاح، والنجاح، والأمان إلى دار السلام. 5 - فضل الدعاء، وعظم شأنه، وأن منافعه تعود على الداعي بالخير في الدنيا والآخرة، فلا غنى للخلق عنه مهما كانت رتبهم، وعلو منازلهم. 48 - {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} (¬1). هذه هي الدعوة الثانية من دعوات نوح - عليه السلام - جمعت، وشملت لأهم مطالب الدنيا والآخرة، وهي طلب المغفرة العامة له، ولوالديه، ولكل المؤمنين من لدن آدم إلى قيام الساعة، الأحياء منهم والأموات. وذلك لما علم نوحٌ - عليه السلام - بوحي من اللَّه تعالى أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، توجه إلى ربه بالدعاء أن يهلكهم، ولا يترك منهم على الأرض من يسكن الديار (¬2)، وعلَّل ذلك بأنهم إن تُركوا فسيكونون سبب الضلال لغيرهم، ولا يلدوا إلا فجّاراً كفّاراً لا يرجى منهم، أو من ذريتهم أي خير، ولذا دعا عليهم بهذا الدعاء. ¬

(¬1) سورة نوح، الآية: 28. (¬2) تفسير الشوكاني، 5/ 299.

قوله: {رَبِّ اغْفِرْ لِي}: أي استر عليَّ ذنوبي، وتجاوز عنها: قالها هضماً لنفسه، وتعليماً لمن بعده، {وَلِوَالِدَيَّ}: خصّهما لعظم فضلهما عليه، فكان أولى وأوجب، وأحب له في ذكرهما بدعائه قبل غيرهما. {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًاَ}: منزلي من المصدقين الموحدين، فإن في صحبتهم السلامة، والثبات على الدين، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لاَ تُصَاحِبْ إِلاَّ مُؤْمِنًا، وَلاَ يَأْكُلْ طَعَامَكَ إِلاَّ تَقِيٌّ)) (¬1)، وتقييده (مؤمناً)، هذا القيد الواجب في الدعاء، أما الكافر فلاحظ له في طلب المغفرة له، قال تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (¬2)، والدعاء للكافرين بالهداية، والتوفيق للإيمان والإسلام جائز؛ لذا بوّب البخاري رحمه اللَّه في صحيحه: ((باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم)) (¬3)، فبعد أن ((خصّ أولاً من يتصل به نسباً وديناً؛ لأنهم أولى وأحق بدعائه، ثم عمّ المؤمنين ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الأدب، باب من يؤمر أن يجالس، برقم 4834، الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء في صحبة المؤمن، برقم 2395، والإمام أحمد، 17/ 437، برقم 11337، وابن حبان، 2/ 314، والحاكم، 4/ 128، وصححه، والبيهقي في شعب الإيمان، 12/ 16، وفي الآداب له، برقم 235، والطبراني في الأوسط، 3/ 277، والطيالسي، 3/ 664، والديلمي في الفردوس، 2/ 59، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 3/ 95، برقم 3036. (¬2) سورة التوبة، الآية: 113. (¬3) البخاري، كتاب الجهاد، باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألّفهم، قبل الحديث رقم 2937.

فإن هذه الدعوة المباركة لها من الأهمية الشيء الكبير، وذلك:

والمؤمنات)) (¬1)، فقال: {وللْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتُ}: أي واستر، وتجاوز عن ذنوب كل الموحدين المصدقين بك والمصدقات. فإن هذه الدعوة المباركة لها من الأهمية الشيء الكبير، وذلك: أ - أن دعوة الأنبياء مستجابة، فيرجى لنا استجابة اللَّه لهم فينا. ب - أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بشّر بالأجر العظيم بها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنِ اسْتَغْفَرَ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَهٍ حَسَنَةً)) (¬2). فلك أن تتصور عظم هذا الأجر؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها، إلى أضعاف مضاعفة كثيرة في بلايين المؤمنين، من لدن أبي البشر إلى يوم الحشر، وهذا يدلّ على عظم فضل اللَّه على المؤمنين. ((ولذا يستحبّ مثل هذا الدعاء اقتداء بنوح - عليه السلام -)) (¬3)، وذلك أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أُمر بالاقتداء بالأنبياء قبله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّه فَبِهُدَاهُ اقْتَدِهْ} (¬4)، ونحن مأمورون بالاقتداء برسولنا - صلى الله عليه وسلم -: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّه وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّه ¬

(¬1) تنوير الأذهان من تفسير روح البيان للبروسوي، 4/ 420. (¬2) مسند الشاميين للطبراني، 3/ 234، والمعجم الكبير له، 19/ 909، وحسّنه الشيخ الألباني في صحيح الجامع، برقم 6026. (¬3) تفسير ابن كثير، 4/ 568. (¬4) سورة الأنعام، الآية: 90.

الفوائد:

كَثِيرًا} (¬1). ثم ختم - عليه السلام - الدعاء: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا}: أي لا تزد الظالمين أنفسهم بالكفر إلا هلاكاً وخسراناً ودماراً، ((وقد يشمل هذا كل ظالم إلى يوم القيامة، كما شمل دعاؤه للمؤمنين والمؤمنات إلى يوم القيامة)) (¬2). الفوائد: 1 - أهمية سؤال اللَّه تعالى المغفرة، كما في غالب الأدعية؛ لأنها من أعظم أسباب دخول الجنة. 2 - أن الداعي ينبغي له أن يبدأ بالسؤال: بالأهمّ، ثم الذي يليه. 3 - أهمية سؤال اللَّه تعالى المغفرة للوالدين؛ لعظم شأنهما. 4 - يحسن بالداعي أن يشرك إخوانه المؤمنين بالدعاء. 5 - أن الإكثار من هذه الدعوة ينال الداعي بها الإجابة المؤكدة لأمرين: أ - أنها دعوة من نبي من أولي العزم. ب - أنها دعوة بظهر الغيب. 6 - أهمية التوسل بربوبية اللَّه تعالى في الدعاء، وأنها سنة جميع الأنبياء والمرسلين. ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 21. (¬2) فتح البيان لصديق حسن خان، 7/ 221.

7 - ينبغي للداعي أن يشمل ذريته في الدعاء حتى يعود النفع له، ولهم.

7 - ينبغي للداعي أن يشمل ذريته في الدعاء حتى يعود النفع له، ولهم. 8 - ينبغي أن يكون جُلُّ الدعاء في أمور الآخرة. 9 - جواز الدعاء على الظلمة، ويتأكد ذلك عند مظنة ضررهم على غيرهم. 10 - يحسن للداعي أن يذكر عِلَّة دعائه. 49 - ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (¬1). هذا الدعاء المبارك مقتبس من سورة البقرة في قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّه يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2). وقد جاء نظير هذا الدعاء من السنة المطهرة، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفتتح صلاته في قيام الليل: ((اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإذْنِكَ، إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (¬3). فهذا الدعاء جليل القدر، فيه أعظم المقاصد، وأرفع المطالب، وهو طلب العبد من الرب تبارك وتعالى الهداية، التي عليها الفلاح ¬

(¬1) مقتبس من سورة البقرة، الآية: 213. (¬2) سورة البقرة، الآية: 213. (¬3) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 770.

50 - اللهم آتني الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا.

في الدنيا، والدار الآخرة، ثم ذكر علّة مطلبه وسؤاله فقال: {إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. أي: يا ربي، ما سألتك هذا الأمر العظيم إلا لأن بيدك الهداية والاستقامة، فتوفِّق من شئت إليها، فأسألك أن تنعم عليَّ بالهداية، هداية العلم والإرشاد، وهداية التوفيق والثبات على صراطك المستقيم، الذي ليس فيه اعوجاج في الدنيا حتى أثبت على صراط الآخرة الذي من نجا منه فقد فاز فوزاً عظيماً، وهُدي إلى صراط مستقيم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّه يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} (¬1). 50 - ((اللَّهُمَّ آتِني الحِكْمَةَ الَّتي مَنْ أُوتِيهَا فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)) (¬2). ((تضمّن سؤال اللَّه تعالى الحكمة، وهي: العلوم النافعة والمعارف الصائبة، وإصابة الصواب في الأقوال، والأفعال، وهذا أفضل وأعظم العطايا، وأجلٌّ الهبات)) (¬3). قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}، قال النبي ¬

(¬1) سورة الحج، الآيتان: 23 - 24. (¬2) قال - سبحانه وتعالى -: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [سورة البقرة، الآية:269]. (¬3) تفسير ابن سعدي، 1/ 332.

51 - اللهم ثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

- صلى الله عليه وسلم -: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)) (¬1)، وأعظم وأجلُّ ما يدخل في الحكمة تعلُّم القرآن، فقد صحَّ عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا في تفسير الحكمة أنه قال: ((يعني المعرفة بالقرآن: ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله)) (¬2). 51 - ((اللَّهُمَّ ثَبِّتْنِي بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ)) (¬3). هذه الدعوة المباركة الجليلة اقتبسها المؤلف حفظه اللَّه تعالى وسدَّده من قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (¬4). وهذه الآية الكريمة نزلت في سؤال المسلم في القبر، فعن البراء بن عازب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمداً رسول اللَّه، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ ¬

(¬1) البخاري، كتاب الزكاة، باب إنفاق المال في حقه، برقم 1409، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه، وفضل من تعلم حكمة من فقه أو غيره فعمل بها وعلمها، برقم 816. (¬2) تفسير الطبري، 5/ 576، وابن أبي حاتم في التفسير، 2/ 531، وحسّن إسناده في التفسير الصحيح، 1/ 378. (¬3) مقتبس من سورة إبراهيم، الآية: 27. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 27.

اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (¬1)؛ ولهذا كان - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الْمَيِّتِ وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ التَّثْبِيتَ، فَإِنَّهُ الآنَ يُسْأَلُ)) (¬2). وتضمن هذا الدعاء المبارك، سؤال اللَّه تعالى الثبات في الحياة الدنيا ((عند ورود الشبهات بالهداية إلى اليقين، وعند عروض الشهوات بالإرادة الجازمة على تقديم ما يحبه اللَّه تعالى على هوى النفس ومراداتها، وفي الآخرة عند الموت بالثبات على الدين الإسلامي، والخاتمة الحسنة، وفي القبر عند سؤال الملكين للجواب الصحيح إذا قيل للميت: ((من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟)) (¬3). وهذا الدعاء الطيب له نظائر في أدعية المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، من جوامع الكلم التي أوتيها، فمنها: (( ... إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَسْأَلَةِ وَخَيْرَ الدُّعَاءِ وَخَيْرَ النَّجَاحِ وَخَيْرَ الْعَمَلِ وَخَيْرَ الثَّوَابِ وَخَيْرَ الْحَيَاةِ وَخَيْرَ الْمَمَاتِ وَثَبِّتْنِي ... )) (¬4)، وكذلك في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لجرير بن عبد اللَّه - رضي الله عنه -: ¬

(¬1) البخاري، كتاب التفسير، سورة إبراهيم، باب يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، برقم 4699، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه، برقم 2871. (¬2) أبو داود، كتاب الجنائز، باب الاستغفار عند القبر للميت في وقت الانصراف، برقم 3223، والزهد للإمام أحمد بن حنبل، ص 129، والسنن الكبرى للبيهقي، 4/ 56، والدعوات الكبير له، 2/ 294، والسنن الصغير له، 2/ 29، وإثبات عذاب القبر له أيضاً، 124، وعمل اليوم والليلة لابن السني، ص 124، وفضائل الصحابة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، ص 475، برقم 773، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 3/ 207. (¬3) تفسير السعدي، ص 484. (¬4) الحاكم، 1/ 25، وصححه ووافقه الذهبي، والدعوات الكبير للبيهقي، 1/ 348، المعجم الكبير للطبراني، 23/ 316، والأوسط، 6/ 213، قال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 280: ((رواه الطبراني في الكبير، وراوه في الأوسط باختصار بأسانيد، وأحد إسنادي الكبير، والسياق له، ورجال الأوسط ثقات)).

52 - اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا.

((اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا)) (¬1)، ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((رَبِّ أَعِنِّي ... وَثَبِّتْ حُجَّتي)) (¬2)، وقوله: (وثبتني) يفيد العموم، أي سأل اللَّه تعالى الثبات في الدنيا، والبرزخ والآخرة، فوافق هذا الدعاء الطيب الأدعية التي جاءت عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم -. 52 - ((اللَّهُمَ حَبَّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ)) (¬3). هذا الدعاء المقتبس، قد جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، في أصل الكتاب رقم (127) فانظر شرحه هناك. 53 - ((اللَّهُمَّ قِنِي شُحَّ نَفْسِي وَاجْعَلْنِي مِنَ ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من لا يثبت على الخيل، برقم 3036، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب من فضائل جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -، برقم 2475. (¬2) أبو داود، كتاب الوتر، باب ما يقول الرجل إذا سلم، برقم 1512، والترمذي، كتاب الدعوات، باب في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3551، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب أبواب الدعاء، برقم 3830، والنسائي في الكبرى، 6/ 155، برقم 10368، والإمام أحمد، 3/ 452، برقم 1997، وابن أبي شيبة، 1/ 236، وابن حبان، 3/ 227، وعبد بن حميد، ص 236، والأدب المفرد للبخاري، ص 232، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم 517. (¬3) مقتبس من سورة الحجرات، الآية: 7.

المفردات:

الْمُفْلِحِينَ)) (¬1). قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (¬2). المفردات: الشح: هو البخل مع الحرص، وذلك فيما كان عادة كما قال تعالى (¬3): {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} (¬4). الفلاح: الظفر وإدراك البُغْية، وهو ضربان: دنيوي، وأخروي، فالدنيوي: الظفر بالسعادات التي تطيب بها حياة الدنيا، والأخروي أربعة أشياء ... : (¬5) أعلاه: الفوز بأعلى الجنات. تضمن هذا الدعاء الاستعاذة من أشد الخصال المذمومة التي جُبلت عليها أكثر النفوس، وهو الشحّ، وهو البخل مع الحرص، والتعلّق بالمال الذي يمنع من الإنفاق في الواجبات والمستحبات، بل يوصل إلى سفك الدماء، واستحلال المحارم، وإلى الظلم، والفجور، فَيُورِدُ العبدَ ويوصله إلى شر الموارد، والهلكات في الدنيا والآخرة، ولهذا حذَّر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من هذا المرض العضال، وبيَّن ¬

(¬1) مقتبس من سورة التغابن، الآية: 16. (¬2) سورة التغابن، الآية: 16. (¬3) مفردات القرآن، ص 446. (¬4) سورة النساء، الآية: 128. (¬5) المفردات، ص 644.

أنه سبب في هلاك الأمم الغابرة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ: أَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْبُخْلِ فَبَخِلُوا، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا)) (¬1). وفي رواية: (( ... وَاتَّقُوا الشُّحَّ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ)) (¬2). فقد جاء عن سفيان الثوري رحمه اللَّه تعالى أنه قال: ((كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلاً يقول: ((اللَّهم قني شح نفسي)) لا يزيد على ذلك، فقلت له، فقال: ((إني إذا وقيت شُحَّ نفسي لم أسرق، ولم أزن، ولم أفعل))، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -)) (¬3). وقوله: ((واجعلني من المفلحين)): أي الفائزين في الدنيا، والآخرة، ومن حصل له ذلك، فقد أدرك كل مطلوب، ونُجّي من كل مرهوب. ونختم بكلام جامع للعلامة السعدي - رحمه اللَّه تعالى، قال: ((ووقاية شُح النفس لكل ما أمر به العبد، ونهي عنه، فإنه إن كانت نفسه شحيحة، لا تنقاد لما أمرت به، ولا تخرج ما ¬

(¬1) أخرجه الإمام أحمد، 11/ 26، برقم 6487، والنسائي في الكبرى، 6/ 486، برقم 11519، والحاكم، 1/ 11، والبيهقي في السنن، 10/ 243، وشعب الإيمان له، 13/ 283، والآداب له أيضاً، ص 104، والطيالسي، 4/ 29، والبزار، 2/ 438، والبخاري في الأدب المفرد، ص 171، وابن حبان، 11/ 579، والمعجم الكبير للطبراني، 22/ 204، والأوسط له، 3/ 340، والحميدي، 2/ 490، وعبد بن حميد، 346، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 2/ 263، برقم 2217. (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم 2578. (¬3) تفسير ابن كثير، 4/ 446.

قبلها من النفقات المأمورة بها لم يفلح، بل خسر الدنيا والآخرة، وإن كانت نفسه سمحة مطمئنة منشرحة لشرع اللَّه طالبة لمرضاته؛ فإنها ليس بينها وبين فعل ما كلفت به إلا العلم به، ووصول معرفته إليها، والبصيرة بأنه مُرضي للَّه تعالى، وبذلك تفلح وتنجح، وتفوز كل الفوز)) (¬1). وفي ختام هذه الآية من آيات الدعاء نكون قد ختمنا شرح آيات الدعاء في هذا الكتاب الطيب الذي أحسن المؤلف وفقه اللَّه في اختيار أفضل الأدعية القرآنية الجامعة لكل خيرات الدنيا والآخرة. هذا آخر ما ذكر المؤلف وفّقه اللَّه تعالى من الأدعية القرآنية، ثم بدأ بعد ذلك بالأدعية النبوية. ولا شك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعطاه اللَّه تعالى جوامع الكلم، كما قال - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه: ((بُعِثْتُ بِجَوامِعِ الْكَلِمِ)) (¬2)، وقد فسّر ابن مسعود - رضي الله عنه - بعض معاني ولوازم جوامع الكلم، حيث قال: ((عُلِّمَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ وَجَوَامِعَهُ أَوْ جَوَامِعَ الْخَيْرِ وَفَوَاتِحَهُ)). وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فقال لها: ((يا عائشة عليك بالجوامع الكوامل))، وفي لفظ: ((عليك بجمل الدعاء وجوامعه)) (¬3)، ¬

(¬1) تفسير ابن سعدي، 7/ 334، 7/ 404. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((نصرت بالرعب مسيرة شهر))، برقم 2977، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، برقم 523، بلفظ: ((أُعْطِيتُ)). (¬3) أخرجه ابن ماجه، برقم 3846، وأحمد، برقم 25137، وسبق تخريجه في آخر شرح الدعاء رقم 29.

ومعنى جوامع الكلم ما قاله الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه اللَّه: ((وبلغني أن جوامع الكلم: أن اللَّه - عز وجل - يجمع الأمور الكثيرة، التي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد، والأمرين، أو نحو ذلك)) (¬1)، ((وحاصله أنه - صلى الله عليه وسلم - يتكلم بالكلام الموجز القليل اللفظ الكثير المعنى)) (¬2). فإذا كان الأمر كذلك فينبغي لكل داع أن يعتني بأدعية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - العناية الفائقة، فإن فيها جماع الخير كله وتمامه وشموله، وكل أنواعه، من جليل المقاصد الرفيعة، وأشرف المطالب العالية، من خيري الدنيا والآخرة، وغير ذلك؛ فإن فيها السلامة من الخطأ، والزلل، وذلك أن الدعاء فيه ((مناجاة العبد لسيد السادات الذي ليس له مثيل، ولا نظير، ولو تقدم بعض خدم ملوك الدنيا إلى صاحبه، ورئيسه في حاجة لرفعها إليه، أو معونة يطلبها منه، ليتخير له محاسن الكلام، ولتَتَخلَّص إليه بأجود ما يقدر عليه من البيان، ولئن لم يستعمل هذا المذهب في مخاطبته إياه، ولم يسلك هذه الطريقة فيها معه، أوشك أن ينبو سمعه عن كلامه، وألاَّ يحظَى بطائل من حاجته عنده، فما ظنّك برب العزة سبحانه ((وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى))، وبمقام عبده الذليل بين يديه، ومن عسى أن يبلغ بجهد بيانه كنه ¬

(¬1) البخاري، كتاب التعبير، باب المفاتيح في اليد، بعد الحديث رقم 7013. (¬2) فقه الأدعية والأذكار لعبد الرزاق البدر، 2/ 59.

علم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء:

الثناء عليه ... )) (¬1). قال القاضي عياض رحمه اللَّه: ((أذن اللَّه تعالى في دعائه، وعَلَّم الدعاء في كتابه لخليقته، وعلَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء لأمته، واجتمعت فيه ثلاثة أشياء: 1 - العلم بالتوحيد. 2 - والعلم باللغة. 3 - والنصيحة للأمة، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عن دعائه - صلى الله عليه وسلم -)) (¬2). 54 - ((اللَّهُمَّ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) (¬3). المفردات: ((اللَّهم)): يا اللَّه: ولا تستعمل هذه الكلمة إلا في الطلب، فلا يقال اللَّهم غفور رحيم، وإنما يقال: اللَّهم اغفر لي، وارحمني .. ونحو ذلك. ((ربنا)): معنى الرب: هو المالك، والسيد , والمدبر, والمربي, والمنعم, والمتصرف للإصلاح, ولا يستعمل الرب لغير اللَّه إلا ¬

(¬1) شأن الدعاء للخطابي، ص 15 - 16. (¬2) نقلاً عن الفتوحات الربانية، 1/ 17. (¬3) البخاري، كتاب التفسير، باب {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً}، برقم 4522، ورقم 6389، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل الدعاء باللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، برقم 2690.

الشرح:

بالإضافة، نحو: رب الدار, ورب البيت (¬1). الشرح: هذه أول الدعوات النبوية الجليلة في كتاب المؤلف حفظه اللَّه تعالى ووفقه، بدأ بها لأنها كانت أكثر دعوات النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد جاءت هذه الدعوة في كتاب اللَّه بلفظ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} (¬2). وجاءت بالسنة بزيادة ((اللَّهم))، فأصبح اللفظ: ((اللَّهم ربنا))، ولم يأت مثل هذا اللفظ الجليل في القرآن العظيم: ((اللَّهم ربنا)) إلا في دعوة عيسى - عليه السلام -: {اللَّهمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} (¬3). فنادى اللَّه تعالى بهذا اللفظ مرتين: مرة بوصف الألوهية ((اللَّهم)) الجامعة لجميع الكمالات من الأسماء والصفات، ومرةً بوصف الربوبية ((ربنا)) المنبئة عن التربية والإنعام، إظهاراً لغاية التضرع، ومبالغة في الدعاء استعطافاً لله تعالى ليجيب الدعاء (¬4)، وذلك لعظم هذه الدعوة؛ لما فيها من جزيل المعاني، وعظيم المطالب والمقاصد، فقد جمعت معاني الدعاء كلِّه من خيري الدنيا والآخرة، [وفيها الالتجاء إلى اللَّه تعالى، وطلب الوقاية من عذاب النار، التي هي أعظم الشرور بأوجز لفظ، وهذا من جوامع الكلم التي أعطيها ¬

(¬1) النهاية، 2/ 179. (¬2) سورة البقرة، الآية: 201. (¬3) سورة المائدة، الآية: 114 (¬4) تفسير أبي السعود، 2/ 340، والضوء المنير، 2/ 472.

55 - اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وعذاب النار، وفتنة القبر

نبينا - صلى الله عليه وسلم -] جاءت بها الشريعة العظيمة المطهرة. 55 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْغِنَى، وَشَرِّ فِتْنَةِ الْفَقْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ قَلْبِي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالْبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنْ الْخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الْأَبْيَضَ مِنْ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْكَسَلِ وَالْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ)) (¬1). المفردات: الفتنة: الامتحان والاختبار (¬2) من قولهم: فَتَنْتَ الذهب، إذا اختبرته بالنار لتنظر جودته، واستعملت في الشرع في اختبار كشف ما يكره العبد، وتطلق كذلك على القتل، والإحراق، والنميمة (¬3). المسيح الدجَّال: الدجَّال على وزن ((فعَّال)) أي كثير الكذب ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، برقم 832، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم 589. (¬2) النهاية، ص 691، والمفردات، ص 623. (¬3) فتح الباري، 2/ 410.

الشرح:

والتلبيس, وهو من الدجل، وهو التغطية، وسُمِّي بذلك لأنه يُغطِّي الحق بباطله، ((والمسيح)) هو الممسوحة إحدى عينيه، فهو أعور (¬1). اغسل: أي أزح، وامسح. المأثم: هو الوقوع في الإثم. الدنس: الوسخ. المغرم: هو الغُرم وهو: الدَّين. باعد: صيغة مفاعلة للمبالغة، أي المبالغة في طلب السلامة من الذنوب. الشرح: هذه الاستعاذات التي كان يستعيذ بها النبي - صلى الله عليه وسلم - هي من أهم الاستعاذات، و [فيها الاستعاذة] من أخطر الشرور والأمور في الدين والدنيا والآخرة؛ لهذا كان يستعيذ بها في كل صلاة قبل التشهد، وكان يأمر بها، كما جاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُعَلِّمُهُمْ هَذَا الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُهُمْ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ)) (¬2). فقوله: ((كما يعلمهم السورة من القرآن)) دلالة ظاهرة على أهمية هذه الاستعاذات، وأنه ينبغي الاعتناء بها، والعناية الكبرى في الإكثار، والعمل بما دلت عليه. ¬

(¬1) المصدر السابق نفسه، 13/ 91. (¬2) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم 590.

قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من فتنة النار)) أي الفتنة التي تؤدي إلى دخول النار، ومنها سؤال خزنتها لأهلها، وتوبيخهم كما قال تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} (¬1)، {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا ... } (¬2). ((وعذاب النار)): أي بالإحراق بعد فتنتها. قوله: ((وفتنة القبر)): وهو سؤال الملكين في القبر، وجاء في تسميتهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - منكر ونكير (¬3)، وهي فتنة عظيمة، لا يثبت عندها إلا المؤمن، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّه الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} (¬4)، وصحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها نزلت في عذاب القبر (¬5). قوله: ((وعذاب القبر)): عطف العام على الخاص, فعذابه ينشأ منه فتنة بأن يتحير في الجواب، فيعذب لذلك، كما في الكافر، والمنافق، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وقد يكون لغيرها، كأن ¬

(¬1) سورة الملك، الآية: 8. (¬2) سورة الزمر، الآية: 71. (¬3) انظر: مصنف بن أبي شيبة، 3/ 378، مصنف عبد الرزاق، 3/ 582، والبيهقي في شعب الإيمان، 1/ 358، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3560. (¬4) سورة إبراهيم، الآية: 27. (¬5) صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، برقم 1369، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه، برقم 2871.

يجيب بالحق، ولا يتحيّر، ثم يعذّب على تفريطه في بعض المأمورات أو المنهيات، كإهمال التنزه من البول، والنميمة، والنوم عن الصلاة المكتوبة، وردَّ القرآن، وغير ذلك، كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1) في أحاديث مشهورة كثيرة. قوله: ((وشرِّ فتنة الغنى)): قيَّد الاستعاذة بالشرّ؛ لأن فيه خير باعتبار، وشر باعتبار آخر، فالاستعاذة من شره يخرج ما فيه من الخير، وشر الغنى: مثل البطر، والطغيان، والتفاخر، والاستعلاء، وإزدراء الفقراء، وصرف المال في المحرمات، والشحّ بما يجب إخراجه من واجبات المال ومندوباته، أو الإسراف، والانخراط في الشهوات. قوله: ((وشر فتنة الفقر)): أيضاً قيّده بالشر كسابقه، ففيه خير وشر، وشره ما ينشأ: ((عنه من حسد الأغنياء، والطمع في مالهم، والتذلّل لهم بما يدنّس العرض، وينقص الدين، ويوجب عدم الرضا بما قسم)) (¬2)، والسخط، والقنوط لمن لا صبر له، يمنعه من ذلك إيمان قوي يدفعه عن ذلك, وقد يدفع إلى التورّط بعظائم الأمور بما لا يليق بأهل الدين والمروءة، كالزنى والقتل، والسرقة، والحرابة. قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من شر فتنة المسيح الدجال)): استعاذ منه لأنه هو أعظم الفتن الكائنة في الدنيا؛ ولهذا ما من نبي بعثه اللَّه ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 127. (¬2) فيض القدير، 2/ 127، وشرح صحيح مسلم للقاضي عياض، 8/ 202.

إلا حذّر منه قومه، وأنذر، قام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يوماً في الناس، فأثنى على اللَّه بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال: ((إِنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ [والنبيُّون من بعده]، وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ قَوْلًا لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ [تَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ]، [أَلَا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ])) (¬1). فمن صفاته الخَلْقية أنه أعور العين اليمنى. ومن صفاته الخُلقية أنه خداع، ويُلبس الأمور على الناس بالكذب، فهو منبع من منابع الكفر، ومصدر من مصادر الفتن الكبرى لما يظهر على يده من الأمور الخارقة من ادعاء الألوهية، فهو يضلّ ضعيف الإيمان, وهو من أشراط الساعة الكبرى. قوله: ((اللَّهمّ اغسل قلبي بماء الثلج والبرد)): جمع بينهما مبالغة في التطهير، أي طهِّرْني منها بأنواع مغفرتك، وخصَّها لأن بردها أسرع لإطفاء حرِّ عذاب النار التي هي غاية الحرِّ، وجعل الخطايا بمنزلة جهنم لكونها سببها، فعبّر عن إطفاء حرّها بذلك، وذكر أنواع المطهرات المنزلة من السماء التي لا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بأحدها، تبياناً لأنواع المغفرة التي لا يخلص من الذنوب إلا بها. ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، برقم 3057، ورقم 3337، ورقم 3439، ورقم6175، ومسلم بنحوه، كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، برقم 169.

قوله: ((ونقِّ قلبي من الخطايا كما نقّيت الثوب الأبيض من الدنس)): أي نظِّف قلبي من الذنوب، كما يُنظّف الثوب الأبيض من الوسخ؛ لأن زوال الوسخ في الثوب الأبيض أظهر بخلاف سائر الألوان، والقصد من هذا التشبيه أن ينظّف قلبه من كلّ الذنوب كنظافة الثوب الأبيض المنظَّف من الوسخ، فلا يبقى فيه أثر، ولا يخفي في بداية الدعاء بسؤال اللَّه تعالى أن يغسل قلبه، ثمّ كرّر بسؤال تنقية القلب أهمية هذه المضغة، فإنها موقع نظر الرب جلّ وعلا، وبصلاحها صلاح الجسد كله، وبفسادها فساد للبدن كله. قوله: ((وباعد بيني وبين خطاياي، كما باعدت بين المشرق والمغرب)): أي باعد بيني وبين خطاياي من محو ما حصل من الخطايا السابقة، وترك المؤاخذة عليها، والوقاية والعصمة من الوقوع فيها مستقبلاً، وعبّر بصيغة المفاعلة ((باعد)) مبالغة في البعد بينه وبين خطاياه، وشبّه ذلك ببعد المشرق والمغرب، أو لأن التقاء المشرق والمغرب مستحيل، فكأنَّه أراد ألا يبقى لها منه اقتراب بالكلية (¬1). قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم)). كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من الاستعاذة من الإثم والمعاصي والذنوب، وما يوجبها من الأقوال والأفعال والأخلاق، فعن عروة أَنَّ عَائِشَةَ ¬

(¬1) الفتوحات الربانية لابن علان، 1/ 437، وفيض القدير، 2/ 127.

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ))، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنَ الْمَغْرَمِ؟ قَالَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ، وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ)) (¬1)، وكذلك كان يكثر - صلى الله عليه وسلم - الاستعاذة من الدين، وهو إما الاستدانة فيما يكرهه اللَّه، أو فيما يجوز، ثم عجز عن أدائه، أما الدَّيْن الذي احتاج إليه وهو قادر على أدائه، فلا يستعاذ منه، ويدخل في الدين ما يلزم الإنسان أداؤه بسبب جناية أو دِية أو معاملة ونحو ذلك، وقد أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن من استدان وأراد أن يردّ ولم يستطع كان معه العون من اللَّه، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إن اللَّه مع المدين حتى يقضى دينه)) (¬2) هذا ما لم يكن فيما يكرهه اللَّه. ويستفاد من هذا الحديث سدّ الذرائع؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعاذ من الدين؛ لأنه في الغالب ذريعة إلى الكذب في الحديث، والخلف في الوعد (¬3)، والانشغال عن الواجبات الشرعية، والأعمال الصالحة. فينبغي للعبد الاحتياط لهذا الأمر، وأن لا يتساهل فيه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُصلِّ على صاحب الدين، حتى تكفل أبو قتادة بالسداد عنه، فصلَّى عليه، وأخبر جبريل - عليه السلام - أن الشهيد يُغفر له كلُّ ذنب إلا ¬

(¬1) البخاري، كتاب الاستقراض، باب من استعاذ من الدين، برقم 2397، وبرقم 6368، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم 589. (¬2) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، 1/ 145، والضياء في المختار، 9/ 192، وصححه الألباني في سلسلة الحاديث الصحيحة، برقم 1000. (¬3) انظر: فتح الباري، 5/ 76.

56 - اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل

الدين (¬1). 56 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ والْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ)) (¬2). المفردات: العجز: تخلُّف العبد عن فعل الخير لعدم القدرة. الكسل: ترك العبد فعل الشيء مع القدرة عليه. الجبن: هو مهابة الأشياء، والتأخّر عن فعلها. والهرم: الكِبَرُ والردُّ إلى أرذل العمر. الشرح: قوله: (كان يتعوّذ) ((يدلّ الفعل المضارع بعد (كان) على المداومة على الفعل)) (¬3). أي أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يداوم على هذا الدعاء لأهميته، وذلك: أن العجز ¬

(¬1) أخرجه مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل اللَّه كفرت خطاياه، إلا الدَّين، برقم 1886، ولم أجد رواية عن جبريل في كل الكتب التي خرّجت الحديث، فكلها عن عبد اللَّه بن عمرو عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، لا عن جبريل عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ما يُتعوذ من الجبن، برقم 2823، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره، برقم 2706. (¬3) انظر: أضواء البيان، 2/ 243.

والكسل يفوّت على العبد كثيراً من الواجبات من أعمال الصالحات التي ترجع إليه بالنفع في دينه ودنياه وآخرته، واستعاذته كذلك من (الجبن): وهو مهابة للأشياء يؤدي إلى عدم الوفاء بكثير من الواجبات وحقوق اللَّه تعالى، كالقتال في سبيله، وعدم الجرأة في الصدع بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وعدم مخالفة هوى النفس والشيطان واستعاذته من (الهرم) أي كبر السن الذي يؤدّي إلى تساقط بعض القوى، وضعفها كاختلال العقل والحواس والعجز عن كثير من الطاعات، والتساهل عن بعضها، وقوله: (وفتنة المحيا): هو ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا وشهواتها من النساء والأموال والأولاد، ويدخل كذلك من فتن الدين، ومن أعظم الفتن في الدنيا أن يموت العبد والعياذ باللَّه بسوء الخاتمة عند الموت. (والممات): قيل: فتنة القبر، وقيل: عند الاحتضار، وأضيفت الفتنة إلى الموت لقربها منه (¬1)، ويحتمل كل هذه المعاني. قال ابن بطال رحمه اللَّه: ((هذه كلمة (أي: المحيا والممات) جامعة لمعانٍ كثيرةٍ، وينبغي للمرء أن يرغب إلى ربه تعالى في رفع ما نزل، ودفع ما لم ينزل، ويستشعر الافتقار إلى ربه - عز وجل - في جميع ذلك)) (¬2). ¬

(¬1) فتح الباري، 2/ 412. (¬2) نقلاً عن فتح الباري، 11/ 210.

57 - اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء.

57 - ((اللهمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ الْبَلَاءِ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ)) (¬1). المفردات: قوله: (جهد البلاء): الجَهد بالفتح هو كل ما يصيب المرء من شدة ومشقة، وبالضم ما لا طاقة له بحمله، ولا قدرة له على دفعه. قوله: (درك الشقاء) الدَّرَك: اللحوق والوصول إلى الشيء، والشقاء، هو الهلاك، أو ما يؤدي إلى الهلاك، وهو نقيض السعادة. قوله: (سوء القضاء): ما يسوء الإنسان ويحزنه، ويوقعه في المكروه من الأقضية المُقدَّرة عليه. قوله: (شماتة الأعداء): فرحة الأعداء ببلاء يُصيب العبد (¬2). الشرح: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من هذا الدعاء، وأمر به أيضاً فدلّ على شدّة أهمّيته، والعناية به لما احتواه من عظيم الاستعاذات، وشمولها، في أهمّ المهمّات، في أمور الدين والدنيا والآخرة. قوله: (اللَّهم إني أعوذ بك من جهد البلاء): اللَّهمّ أجرني من ¬

(¬1) البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من جهد البلاء، برقم 6347، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره، برقم 2707، ولفظه: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء)). (¬2) انظر: الفتوحات الربانية، 3/ 626.

شدّة البلاء ومشقّته، والذي ما لا طاقة لي بحمله، ولا أقدر على دفعه، سواء كان هذا البلاء جسدياً كالأمراض وغيرها، أو كان بلاء معنوياً ذِكرياً كأن يُسلِّط عليَّ من يؤذيني بالسبّ والشتم والغيبة والنميمة والبهتان وغير ذلك، فهذه استعاذة من جميع البلاءات بشتى أنواعها وأشكالها. قوله: (ودَرَك الشقاء): وأجرني من أن يلحقني مشقّة، وهلكة في دنياي، في نفسي، وأهلي، ومالي، وفي آخرتي، من عقوبة وعذاب بما اقترفته بسبب الذنوب والآثام. قوله: (وسوء القضاء) هو ما يسوء الإنسان ويحزنه أو يوقعه في المكروه من القضية المقدّرة عليه، وهو شامل في الدين، والدنيا، في النفس، والأهل، والمال، والولد، والخاتمة (¬1)، وهذه الاستعاذة تتضمّن الحفظ في كل الأمور المذكورة. والاستعاذة من سوء القضاء لا يخالف الأمر بالرضا بالقضاء؛ فإن الاستعاذة منه من قضاء اللَّه - سبحانه وتعالى - وقدره، والتي شرعها لنا وجعلها سُنّة لعباده؛ لهذا يجب أن يعلم أن القضاء باعتبار العباد ينقسم إلى قسمين: خير وشر، فشرع لهم سبحانه الدعاء بالوقاية من شره، والاستعاذة منه، فهذا في القضاء المقضي المخلوق، أما قضاء اللَّه الذي هو حكمه وفعله، فكلّه خير لا شرّ فيه أبداً. كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ¬

(¬1) فيض القدير، 5/ 201، 3/ 256، الفتوحات الربانية، 3/ 626.

58 - اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري

((والشر ليس إليك)) (¬1). لكماله جلّ وعلا من كل الوجوه، فلا يدخل الشرّ في صفاته ولا في أفعاله، ولا يلحق في ذاته جلّ وعلا. قوله: (شماتة الأعداء): فرح الأعداء بما ينزل على الشخص من مكروه، وسوء ومحنة، فينكأ القلب عندها، ويحزن، ويبلغ من النفس أشدّ مبلغ، وقد يؤدّي إلى العداوة والبغضاء والحقد، وقد يُفضي إلى استحلال ما حرّمه اللَّه تعالى من القتال والانتقام والتعدي والظلم؛ لهذا أستعيذ منه لخطورته. فدلّ هذا الدعاء الجليل على أنه من جوامع الكلم التي أوتيها النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي جمع الاستعاذة من جميع الشرور في الدين والدنيا، فاعتن بهذا الدعاء العظيم في ليلك ونهارك، وفي سفرك وحضرك، حتى تكون في حفظ اللَّه وعصمته من جميع شرور الدنيا والآخرة. 58 - ((اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ)) (¬2). ¬

(¬1) مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، برقم 771. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، برقم 2720.

المفردات:

المفردات: عصمة أمري: أي ما يعتصم ويستمسك به، أمري: الأمر: الشأن والحال. معاشي: أي عَيشي. الشرح: قوله: (اللَّهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري): دعا بإصلاح الدين أولاً؛ لأنه أعظم المقاصد، وأهم المطالب؛ لأن من فسد دينه فقد خاب وخسر الدنيا والآخرة، وسؤال اللَّه إصلاح الدين هو أن يوفق إلى التمسك بالكتاب والسنة وفق هدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين في كل الأمور، وذلك يقوم على ركنين عظيمين: 1 - الإخلاص للَّه وحده في كل عبادة. 2 - والمتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - , بأن يكون ((خالصاً صواباً)). فإن التمسك بهذين الأصلين عصمة للعبد من الشرور كلها، أسبابها، ونتائجها ونهاياتها، ومن مضلات الفتن، والمحن, والضلالات التي تضيع الدين والدنيا. فنسأل اللَّه أن يصلح لنا ديننا الذي يحفظ لنا جميع أمورنا. قوله: (وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي): أي أصلح لي عيشي في هذه الدار الفانية القصيرة، بأن أُعْطَى الكفاف والصلاح،

فيما أحتاج إليه، وأن يكون حلالاً مُعيناً على طاعتك، وعبادتك على الوجه الذي ترضاه عني، وأسألك صلاح الأهل، من الزوجة الصالحة، والذرية والمسكن الهنيء، والحياة الآمنة الطيبة، قال جلّ شأنه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1). قوله: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}: أي في الدنيا بالقناعة، وراحة البال، والرزق الحلال والتوفيق لصالح الأعمال، ((فالحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت)) (¬2). قوله: (وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي): أي وفّقني للعمل الصالح الذي يرضيك عني، وملازمة طاعتك، والتوفيق إلى حسن الخاتمة حتى رجوعي إليك يوم القيامة، فأفوز بالجنان، قال اللَّه تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} (¬3)، لم يقل تعالى ممدود، بل قال: {مَعْدُودٍ} أي يُعدّ عدّاً إلى هذا اليوم العظيم، فينبغي لنا أن نعدّ العُدّة إلى هذا اليوم. قوله: (واجعل الحياة زيادة لي في كل خير): أي اجعل يا اللَّه الحياة سبباً في زيادة كل خير يرضيك عني من العبادة والطاعة. ويُفهم من ذلك أن طول عمر المسلم زيادة في الأعمال ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 97. (¬2) تفسير ابن كثير، 2/ 790. (¬3) سورة هود، الآية: 104.

الصالحة الرافعة للدرجات العالية في الدار الآخرة، كما سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَن خير الناس؟ فقال: ((مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ)) (¬1). قوله: (واجعل الموت راحة لي من كل شر): أي اجعل الموت راحة لي من كل هموم الدنيا وغمومها من الفتن والمحن، والابتلاءات بالمعصية والغفلة, ويُفهم من ذلك أن المؤمن يستريح غاية الراحة (¬2)، ويسلم السلامة الكاملة عند خروجه من هذه الدار، كما جاء في الصحيحين: أن رسول اللَّهِ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: ((مُسْتَرِيحٌ، وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ))، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا المُسْتَرِيحُ وَالمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: ((الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ، وَالْبِلَادُ، وَالشَّجَرُ، وَالدَّوَابُّ)) (¬3). ((قال الحرالي: قد جمع في هذه الثلاثة: صلاح الدنيا، والدين، والمعاد، وهي أصول مكارم الأخلاق الذي بُعث لإتمامها، فاستقى من هذا اللفظ الوجيز صلاح هذه الجوامع الثلاث التي حلت في ¬

(¬1) مسند أحمد، 29/ 240، برقم 17698، والترمذي، كتاب الزهد، باب حدثنا أبو حفص عمرو بن علي، برقم 2329، وسنن الدارمي، 1/ 205، ومصنف بن أبي شيبة، 13/ 254، برقم 35561، ومستدرك الحاكم، 1/ 337، والطيالسي، 2/ 194، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3364، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1836. (¬2) فقه الأدعية والأذكار بتصرف، 4/ 494. (¬3) البخاري، كتاب الرقاق، باب سكرات الموت، برقم 6512، مسلم، كتاب الجنائز، باب ما جاء في مستريح ومستراح منه، برقم 950.

59 - اللهم إني أسألك الهدى، والتقى، والعفاف، والغنى.

الأولين بداياتها، وتمت غاياتها ... )) (¬1). 59 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى، وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ، وَالْغِنَى)) (¬2). الشرح: هذا الدعاء العظيم، شامل لأربعة مطالب عظيمة، وجليلة، لا غنى عنها لأي عبد سائر إلى اللَّه - عز وجل - لما فيها من أهم مطالب الدنيا والآخرة. فبدأ بسؤال (الهدى) وهو أعظم مطلوب للعباد، لا غنى لهم عنه في هذه الدار؛ لأن الهدى: هو طلب الهداية، وهي كلمة شاملة تتناول كل ما ينبغي أن يُهتدى إليه من أمر الدنيا والآخرة من حسن الاعتقاد، وصلاح الأعمال، والأقوال، والأخلاق. قوله: (التُّقَى): أي التقوى: وهو اسم جامع لفعل ما أمر اللَّه به، وترك ما نهى عنه، ((قال الطيبي: أطلق الهدى والتقى؛ ليتناول كل ما ينبغي أن يهتدي إليه من أمر المعاش والمعاد ومكارم الأخلاق، وكل ما يجب أن يتقي منه من الشرك، والمعاصي، ورذائل الأخلاق، وطلب العفاف)) (¬3). وأصل الكلمة من التوقي، وهو أن ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 137. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، برقم 2721. (¬3) نقلاً عن شرح صحيح الأدب المفرد، للشيخ حسين العوايشة، 2/ 333.

تجعل بينك وبين عقوبة اللَّه تعالى وقاية, ويكون بفعل الطاعات، واجتناب المحرمات. قوله: (العفاف):هو التنزُّه عما لا يُباح, والصيانة عن مطامع الدنيا، فيشمل العفاف بكل أنواعه ((العفاف عن الزنا كله بأنواعه: زنى النظر، وزنى اللمس، وزنى الاستماع، وزنى الفرج)) (¬1)، والتعفُّف عن الكسب، والرزق الحرام. قوله: (الغنى): وهو غنى النفس بأن يستغني العبد عن الناس، وعمّا في أيديهم، فيستغني العبد بما أعطاه اللَّه، سواء أُعطي قليلاً أو كثيراً، وهذه الصفة يحبها اللَّه - عز وجل -، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ، الْغَنِيَّ، الْخَفِيَّ)) (¬2)، وسؤال اللَّه (العفاف والغنى)، وهما داخلان في الهدى والتقى من باب التخصيص بعد التعميم، وذلك لعظم شأنهما، وشدة احتياج الخلائق لهما. قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه اللَّه عن هذا الحديث، فقال: ((هذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها، وهو يتضمن سؤال خير الدين وخير الدنيا، فإن الهدى هو: العلم النافع، والتقى: العمل الصالح، وترك ما نهى عنه اللَّه ورسوله، وبذلك يصلح الدين، فإن الدين علوم نافعة ومعارف صادقة فهو (الهُدَى)، وقيام بطاعة اللَّه ورسوله، فهو (التقى) , والعفاف، والغنى يتضمّن ¬

(¬1) شرح رياض الصالحين للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 4/ 58. (¬2) صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ما بين النفختين، برقم 2965.

60 - اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن.

العفاف عن الخلق، وعدم تعليق القلب بهم، والغنى باللَّه وبرزقه، والقناعة بما فيه، وحصول ما يطمئن به القلب من الكفاية، وبذلك تتم سعادة الحياة الدنيا، والراحة القلبية، وهي الحياة الطيبة، فمن رُزِقَ الهُدى، والتقى، والعفاف، والغنى نال السعادتين، وحصل على كل مطلوب، ونجا من كل مرهوب (¬1). وهذا الدعاء المبارك من جوامع الكلم التي أوتيها النبي - صلى الله عليه وسلم - التي تجمع فيها قلة الألفاظ والمباني، وكثرة المعاني، وسعة مدلولاتها، ومقاصدها في الدارين. 60 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَالْهَرَمِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ، اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا. أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا)) (¬2). ¬

(¬1) بهجة قلوب الأبرار، ص 249. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، برقم 2722.

المفردات:

المفردات: زكَّاها: أي طهرها. فيه حرص الصحابة على نقل ألفاظ الحديث بكل دقة وأمانة كما سمعوها - رضي الله عنهم - من النبي - صلى الله عليه وسلم -، دون زيادة ولا نقصان دلالة على عدالتهم وصدقهم في القول والإخبار. الشرح: قوله: (اللَّهم آت نفسي تقواها): فيه طلب من اللَّه تعالى أن يعطيه تقوى النفس بأن يحرزها عن متابعة الهوى، وارتكاب الفجور، والفواحش. قوله: (وزكِّها أنت خير من زكَّاها): أي طهِّر نفسي من خلق ذميم، ومن كل عيب وذنب؛ لأنك ((أنت خير من زكاها)): أي لا مُزكّي لها إلا أنت، فإنك تطهر النفوس فتصبح طاهرة طيبة بمقتضى حكمتك ومشيئتك، وسعة علمك لمن استحق ذلك. قوله: (أنت وليها ومولاها): وهذا استئناف على بيان الموجب، وأن إيتاء التقوى، وتصليح التزكية فيها، إنما كان لأنه هو المتولي لأمرها، وربها وسيدها ومالكها. قوله: (اللَّهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع): علم لا أعمل به، ولا أعمله، ولا يبدل أخلاقي وأقوالي لقلة الإخلاص، أو من رياء وسمعة، أو علم لا يحتاج إليه.

61 - اللهم اهدني، وسددني

قوله: (ومن قلب لا يخشع): لقساوته؛ لا يتأثر بالمواعظ، وبالزواجر، ولا بالنصائح، وفي قرن الاستعاذة من علم لا ينفع بالقلب الذي لا يخشع، إشارة إلى أن العلم النافع ما أورث الخشوع للَّه تعالى. قوله: (ومن نفس لا تشبع): من جمع حطام الدنيا، ولا تقنع بما أتيتها من فضلك، ولا تفتر عن الجمع، ويدخل كذلك بالنهمة، وهي كثرة الأكل، والطعام دون شبع. قوله: (ومن دعوة لا يستجاب لها): لفقدها شروط الاستجابة، أو لسوء بالداعي (¬1) , أو لعدم حسن ظنه بربه بالإجابة، أو دعوةٍ لا يحبها اللَّه لما فيها من سوء أو قطيعة رحم؛ فإن اللَّه تعالى سميع قريب مجيب كريم، لا يردُّ من دعاه لسعة كرمه وجوده وقربه من سائليه، فمن رُدَّ دعاؤه فقد خاب وخسر، والعياذ باللَّه، ومنع من خير الأبواب التي لا تغلق إلا على شقِيٍّ. ودلّ هذا الدعاء المبارك على أهمية التوسل بصفات اللَّه تعالى، ومنها صفة التزكية الفعلية (وزكها أنت خير من زكاها). فإن التوسل بصفات اللَّه تعالى وأسمائه أرجى في قبول الدعاء، ورفعه إلى ربّ الأرض والسماء. 61 - ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي، وَسَدِّدْنِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 153، الفتوحات الربانية لابن علان، 3/ 632.

المفردات:

وَالسَّدَادَ)) (¬1). المفردات: (اهدني): الهداية هي الدلالة والإرشاد. (السداد): السداد هو الاستقامة، والقصد في الأمور (¬2). الشرح: هذا الدعاء المبارك يتضمن أهم المطالب، وأشرف المواهب، ولا يحصل الفلاح والسعادة إلا بهما، وهما الهداية والسداد، فسؤال اللَّه الهُدَى وهو المعرفة بالحق تفصيلاً وإجمالاً, والتوفيق لاتباعه ظاهراً وباطناً. وسؤال اللَّه السداد، وهو التوفيق والاستقامة في جميع الأمور بما يكون صواباً على الحق، والطريق المستقيم في القول والفعل والاعتقاد، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬3) بيّن اللَّه تعالى أنه يترتب عليه فائدتان: 1 - صلاح الأعمال. ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، برقم 2725. (¬2) شرح النووي، 9/ 52. (¬3) سورة الأحزاب، الآيتان: 70 - 71.

2 - مغفرة الذنوب.

2 - مغفرة الذنوب (¬1). عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، أَنَّ عَلِيًّا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ((سَلِ اللهَ تَعَالَى الْهُدَى، وَالسَّدَادَ، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَاذْكُرْ بِالسَّدَادِ تَسْدِيدَكَ السَّهْمَ)) (¬2). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (واذكر بالهدى هدايتك الطريق): أن تذكر في حال دُعائك الهداية من ركب متن الطريق ((لا يكاد يفارق الجادة، ولا يعدل عنها يمنة ويسرة خوفاً من الضلال، وبذلك يصيب الهداية، وينال السلامة، يقول: إذا سألت اللَّه تعالى الهدى, فاخطر بقلبك هداية الطريق، وسل اللَّه الاستقامة، كما تتحرَّاه في هداية الطريق إذا سلكتها)) (¬3). قوله: (والسداد سداد السهم): واخطر المعنى في قلبك كذلك حين تسأل اللَّه السداد مثل سداد السهم نحو الغرض، لا يعدل عنه يميناً ولا شمالاً، فكذلك تسأل اللَّه تعالى أنَّ ما تنويه من السداد على شاكلة السهم (¬4)، وكذلك تسأل اللَّه غاية السداد وأكمله، ففي هذا الحديث أهمية استحضار المعاني والمدلولات؛ لأن الداعي يسأل رب السموات والأرض رب العالمين؛ فإن من قام في قلبه من ذلك ¬

(¬1) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين، 4/ 62. (¬2) أخرجه أحمد، 2/ 91، برقم 664، ورقم 1168، والحاكم، 4/ 268 بلفظ: ((يا علي سل الله ... ))، والبزار، 2/ 119، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم 3046. (¬3) معالم السنن للخطابي، 4/ 199. (¬4) المرجع السابق.

62 - اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك

حصل له الخشوع والخضوع والتضرع، واستلذاذ لذة المناجاة التي لا ألذّ منها، فيثمر ذلك على الجوارح من كمال الهمّة وكثرة النشاط والراحة والسكينة، فإن هذا هو لبّ العبادة، ومقصودها الأعظم. 62 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ)) (¬1). المفردات: قوله: (من زوال نعمتك): النعمة: كل ملائم تحمد عاقبته، أي النعم الظاهرة والباطنة؛ لأنه مفرد مضاف يفيد العموم. قوله: (تحوّل عافيتك): أي تبدل العافية بضدها من عافية إلى مرض وبلاء, والفرق بين الزوال والتحوّل, أن الزوال: ذهاب الشيء من غير بدل. والتحوّل: إبدال الشيء بالشيء كإبدال الصحة بالمرض، والغنى بالفقر. قوله: (فجاءة نقمتك): الفجأة: البغتة، والنقمة: العقوبة (¬2). (وجميع سخطك): السخط: الكراهية للشيء، وعدم الرضا به (¬3)، ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء، برقم 2739. (¬2) الفتوحات الربانية، 3/ 630. (¬3) تحفة الذاكرين، ص 421.

الشرح:

وهي صفة من صفات اللَّه الفعلية العظيمة التي تليق به جلّ وعلا، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (¬1). الشرح: قوله: (اللَّهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك): أي يا اللَّه إني ألتجئ إليك من ذهاب جميع نعمك الظاهرة والباطنة، الدنيوية والأخروية ما علمتها، وما لم أعلمها؛ لأن نعمك لا تُحصى، ولا تُعدُّ ((استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من زوال نعمته؛ لأن ذلك لا يكون إلا عند عدم شكرها)) (¬2)، فتضمّنت هذه الاستعاذة المباركة التوفيق لشكر النعم، والحفظ من الوقوع في المعاصي؛ لأنها تزيل النعم، قال اللَّه - سبحانه وتعالى -: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (¬3). وقال تعالى: {إِنَّ اللَّه لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (¬4). وقال جلّ شأنه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬5). قوله: (وتحول عافيتك): أي أعوذ بك يا اللَّه من تبدّل العافية التي ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 11. (¬2) النهاية، ص 322. (¬3) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬4) سورة الرعد، الآية: 11. (¬5) سورة الشورى، الآية: 30.

63 - اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت، ومن شر ما لم أعمل.

أعطيتني إياها، وهي السلامة من الأسقام والبلاء والمصائب، إلى الأمراض والبلاء، فتضمّنت أيضاً هذه الاستعاذة سؤال اللَّه دوام العافية وثباتها، والاستعاذة به - عز وجل - من تحوّل العافية؛ لأن بزوالها تسوء عيشة العبد، فلا يستطيع القيام بأمور دنياه ودينه، وما قد يصاحبه من التسخط وعدم الرضا وغير ذلك. قوله: (وفجأة نقمتك): أي أعوذ بك من العقوبة، والانتقام بالعذاب مباغتة، دون توقع وتحسب، وخُصَّ فجاءت النقمة بالاستعاذة؛ لأنها أشد وأصعب من أن تأتي تدريجياً، بحيث لا تكون فرصة للتوبة. قوله: (وجميع سخطك): أي ألتجئ وأعتصم إليك أن تعيذني من جميع الأسباب الموجبة لسخطك جلّ شأنك؛ فإنّ من سخطت عليه فقد خاب وخسر، ولو كان في أدنى شيء، وبأيسر سبب؛ ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((وجميع سخطك))، فهي استعاذة من جميع أسباب سخطه - جل جلاله - من الأقوال والأفعال والأعمال، ((وإذا انتفت الأسباب المقتضية للسخط حصلت أضدادها وهو الرضى)) (¬1). 63 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا عَمِلْتُ، وَمِنْ شَرِّ مَا لَمْ أَعْمَلْ)) (¬2). ¬

(¬1) الفتوحات الربانية، 3/ 631. (¬2) مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل، ومن شر ما لم يعمل، برقم 2716.

الشرح:

هذا الدعاء المبارك فيه من الاستعاذات الجامعة التي تعمّ كلّ شرٍّ مما عمله العبد، ومما لم يعمله، في الماضي والحاضر والمستقبل. الشرح: قوله: (اللَّهم إني أعوذ بك من شرّ ما عملت): أي من السيئات، أو من شر ما اكتسبته، مما قد يقتضي عقوبة في الدنيا، أو يقتضي في الآخرة (¬1)، أو عمل يحتاج فيه إلى العفو ((من حسنات يعني: من شر تَركي العمل بها)) (¬2)، فتضمّنت هذه الاستعاذة: الاستعاذة من كلّ الشرور، والذنوب الماضية. استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو المعصوم، ليلتزم خوف اللَّه، وإعظامه، وإجلاله، والافتقار إليه في كل أحواله، وليبيّن صفة الدعاء، ليُقتدَى به (¬3)، فهو - صلى الله عليه وسلم - أعماله: سابقها، ولاحقها، كلّها خير لا شرّ فيها. قوله: (ومن شرّ ما لم أعمل): من الحسنات، أي من شرِّ تركي العمل بها، أو المُراد من شرِّ ما لم أعمله بعدُ من السيئات والآثام، بأن تحفظني منه في المستقبل، ومن كل عمل لا يرضيك، ويجلب غضبك، وتضمنت هذه الاستعاذة: الاستعاذة من كل الشرور، والذنوب الحالية والمستقبلية. ¬

(¬1) شرح النووي على مسلم، 9/ 50. (¬2) قول الألباني رحمه اللَّه، انظر: شرح الأدب المفرد للعوايشة، 2/ 367. (¬3) فيض القدير، 2/ 17 بتصرف يسير.

64 - اللهم أكثر مالي، وولدي، وبارك لي فيما أعطيتني.

ففي هذه الاستعاذة بيان ودلالة ((إلى أن ما يصيب العبد من الشرِّ إنما هو بسبب ما عملته يداه، أو بسبب ما عملته أيدي الناس، وإن لم يكن هو العامل المباشر، كما قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬1)، وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّه شَدِيدُ الْعِقَابِ} (¬2)، وفي هذا دلالة على ضعف الإنسان، وشدة افتقاره إلى مولاه وخالقه - عز وجل -، في إصلاح شؤونه، واستقامة أموره، والوقاية من شرور نفسه، وسيئات أعماله، وأنه لا غنى له عن ربه - عز وجل - وسيده طرفة عين، وأنه ينبغي له دائماً السير على هذا المنوال، حتى يظفر برضا ربه - عز وجل -، ولا يخفى عليك يا عبد اللَّه في أهمية هذه الدعوة الطيبة لما أخبرت به أمُّنا أم المؤمنين عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن هذه الدعوة كانت أكثر ما كان يدعو بها - صلى الله عليه وسلم -، وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر. 64 - ((اللَّهُمَّ أكْثِرْ مَالِي، وَوَلَدِي، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أعْطَيْتَنِي)) (¬3)، (([وَأطِلْ حَيَاتِي عَلَى طَاعَتِكَ، وَأحْسِنْ ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 30. (¬2) سورة الأنفال، الآية: 25. (¬3) يدل عليه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنس: ((اللهمّ أكثر ماله، وولده وبارك له فيما أعطيته)) البخاري، كتاب الصوم، باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم، برقم 1982، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز الجماعة في النافلة، والصلاة على حصير وخمرة وثوب وغيرها من الطاهرات، برقم 660.

الشرح:

عَمَلِي] وَاغْفِرْ لِي)) (¬1). الشرح: روى البخاري عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: ((دَخَلَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ فَأَتَتْهُ بِتَمْرٍ وَسَمْنٍ، قَالَ: ((أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ فِي سِقَائِهِ، وَتَمْرَكُمْ فِي وِعَائِهِ، فَإِنِّي صَائِمٌ))، ثُمَّ قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ فَصَلَّى غَيْرَ الْمَكْتُوبَةِ، فَدَعَا لِأُمِّ سُلَيْمٍ وَأَهْلِ بَيْتِهَا، فَقَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي خُوَيْصَةً، قَالَ: ((مَا هِيَ؟)) قَالَتْ: خَادِمُكَ أَنَسٌ، فَمَا تَرَكَ خَيْرَ آخِرَةٍ وَلَا دُنْيَا إِلَّا دَعَا لِي بِهِ، قَالَ: ((اللَّهُمَّ ارْزُقْهُ مَالًا، وَوَلَدًا، وَبَارِكْ لَهُ))، فَإِنِّي لَمِنْ أَكْثَرِ الْأَنْصَارِ مَالًا، وَحَدَّثَتْنِي ابْنَتِي أُمَيْنَةُ أَنَّهُ دُفِنَ لِصُلْبِي مَقْدَمَ حَجَّاجٍ الْبَصْرَةَ بِضْعٌ وَعِشْرُونَ وَمِائَة (¬2). ورواية مسلم: قالت فيه أم أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ((يا رسول الله، خويدمك، ادعُ اللَّه له، قال: فدعا لي بكل خير وكان في آخر ما دعا لي به أن قال: ((اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيه)) (¬3). وفي رواية أخرى لمسلم: ((عن أم سليم أنها قالت: يا رسول الله ¬

(¬1) البخاري في الأدب المفرد، برقم 653، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 2241، وفي صحيح الأدب المفرد، ص 244، وما بين المعقوفين يدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل: من خير الناس؟ فقال: ((من طال عمره وحسن عمله))، الترمذي، برقم 2329، وأحمد، برقم 17716، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 271، قال المؤلف وفقه اللَّه: وقد سألت سماحة شيخنا ابن باز رحمه اللَّه عن الدعاء به، وهل هو سنة؟ فقال: ((نعم)). (¬2) البخاري، كتاب الصوم، باب من زار قوماً فلم يفطر عندهم، برقم 1982 (¬3) مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، برقم 660، وبرقم 2480.

خادمك أنس، ادع الله له، قال: فدعا لي بكل خير، وكان في آخر ما دعا لي به أن قال: ((اللهم أكثر ماله، وولده، وبارك له فيما أعطيته)) (¬1). وفي رواية قالت أم أنس: يا رسول اللَّه، هذا أنيس ابني، أتيتك به يخدمك، فادع الله له، فقال: ((اللهم أكثر ماله، وولده)) (¬2). وفي رواية: ((فقالت: بأبي وأمي يا رسول الله، أنيس، فدعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث دعوات، قد رأيت منها اثنتين في الدنيا، وأنا أرجو الثالثة في الآخرة)) (¬3). وهي موافقة لرواية الترمذي (¬4). وفي رواية للترمذي: ((قلت لأبي العالية: سمع أنس من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: خدمه عشر سنين، ودعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان له بستان يحمل في السنة الفاكهة مرتين، وكان فيها ريحان، كان يجيء منها ريح المسك)) (¬5). قول أم أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: (خويدمك): تصغير خادم ¬

(¬1) مسلم، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب من فضائل أنس بن مالك - رضي الله عنه -، برقم 2480. (¬2) مسلم، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب من فضائل أنس بن مالك - رضي الله عنه -، برقم 2481، وزاد في رواية: ((وبارك له فيه)). (¬3) مسلم، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب من فضائل أنس بن مالك - رضي الله عنه -، برقم 2481. (¬4) الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أنس بن مالك، برقم 3827، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3007. (¬5) الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أنس بن مالك، برقم 3833، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3010، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 2241.

للتحبب، صُغِّر تلطفاً، وطلباً لمزيد من الشفقة عليه، وفيه إيثار الأم لولدها. قولها: ((ادع اللَّه له)): فيه طلب الدعاء للولد، أو غيره ممن يُتوسّم فيه الخير، والصلاح، من أهل الخير، وفيه أيضاً طلب دعاء المرء لغيره، ممن يحبه ويهمّه أمره. قوله: ((اللَّهم أكثر مالي وولدي، وبارك لي فيما أعطيتني)): فيه جواز سؤال اللَّه كثرة المال، والولد مع البركة فيهما, وفيه استحباب أنه إذا دعا بشيء يتعلق في أمر من أمور الدنيا، أن يضمّ إلى دعائه طلب البركة، والصيانة فيه (¬1)، والبركة: هي الزيادة، والنماء، والدوام على الخير. قوله: ((وأطل حياتي على طاعتك)): فيه جواز سؤال اللَّه طول العمر، وأنه لا يخالف ما كتب اللَّه في اللوح المحفوظ؛ فإن الدعاء من جملة القدر المكتوب (¬2)، ولكن يقيد بطاعة اللَّه؛ لأن طول العمر بغير طاعة لا خير فيه. قال الحافظ ابن حجر رحمه اللَّه: ((في هذا الحديث الكثير من الفوائد: جواز التصغير على معنى التلطف لا التحقير، والدعاء بخيري الدنيا والآخرة، والدعاء بكثرة المال والولد، وأن ذلك لا ينافي الخير الأخروي، وفيه حسن التلطّف في السؤال، وفيه ¬

(¬1) شرح الأدب المفرد، 2/ 310. (¬2) من كلام العلامة الألباني رحمه اللَّه، السلسلة الصحيحة، بعد الحديث رقم 2241.

65 - لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم.

التحدث بنعم اللَّه تعالى، وبمعجزات النبي - صلى الله عليه وسلم -)) (¬1). قوله: ((وأحسن عملي)) وحسن العمل يكون بالإخلاص لله فيه، ومتابعة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قوله: ((واغفر لي)): وختم الدعاء بسؤال اللَّه المغفرة بعد سؤال اللَّه من أمور الدنيا؛ لأنها هي الأهمّ، وعليها الفلاح والنجاة، وفيه بيان أن على العبد أن لا يجعل جُلَّ دعائه وهمّه أمر الدنيا، فلا بد أن تكون الآخرة هي همه، والشاغل الأكبر، فيقرن بينهما في السؤال. كما في دعاء سليمان - عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (¬2). فإذا كان الأنبياء عليهم السلام محتاجون إلى مغفرة اللَّه تعالى، فنحن أولى بذلك؛ لكثرة تقصيرنا وتفريطنا، وكثرة ذنوبنا، واللَّه المستعان. 65 - ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ، وَرَبُّ الْأَرْضِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) (¬3). ¬

(¬1) فتح الباري، 4/ 229. (¬2) سورة ص، الآية: 35. (¬3) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الكرب، برقم 6345، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب دعاء الكرب، برقم 2730.

المفردات:

المفردات: العظيم: هو اسم جليل لربنا - عز وجل -، يدلّ على عظمة الذات، والصفات لله جلَّ وعلا، وهو من صفات الذات والفعل كذلك، دلّ عليه قوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّه أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّه يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} (¬1). الكريم: هذا الاسم للَّه تعالى يدل على سعة خيراته وفضائل كرائمه التي لا تحد ولا تعد فهو الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل، فمن كمال كرمه تعالى أنه تعالى يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما فارغتين دون عطاء، وهو يدل على صفة الذات والفعل. الحليم: وهذا الاسم يدل على الصفح والأناة، فاللَّه تعالى لا يعجل العقوبة على عباده مع كثرة ذنوبهم وعصيانهم، بل يرزقهم ولا يحبس أفضاله عليهم، وهو من صفة الأفعال. العرش: هو سرير الملك وهو أعظم المخلوقات، فوق جميع العباد استوى عليه تعالى استواء يليق بجلاله وعظمته، واستوائه جل وعلا من صفاته الفعلية التي تتعلق بمشيئته [فاستواؤه على العرش معلوم، والإيمان به واجب، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة]، أما علوّه تعالى فهو من الصفات الذاتية. ¬

(¬1) سورة الطلاق، الآية: 5.

الشرح:

الشرح: هذا حديث عظيم جليل القدر، ينبغي الاعتناء به، والإكثار منه عند الكرب، والأمور العظيمة، قال الطبري: كان السلف يدعون به ويسمونه دعاء الكرب (¬1). فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوله عند كربه وإذا حزبه أمر أي: إذا نزل وألمَّ به أمر شديد، سُمِّي بدعاء الكرب لأنه ذِكْرٌ يُستفتح به الدعاء ثم يدعو بما شاء (¬2)، ولأنه كذلك يتضمن الدعاء لأنه في سياق بيان الحال، وقد بيَّنا في تفسير بعض آيات الدعاء، أن الدعاء يكون بالطلب الصريح، ويكون بالطلب غير الصريح من شكاية الحال: من ضعفٍ، وعجزٍ، وغير ذلك، المتضمن للسؤال بالكشف عن ما ألمَّ به العبد من ضر (¬3). ((وهذا الدعاء المبارك فيه كلمات إيمان، عظيمة، كلمات , وتوحيد، وتعظيم، وإخلاص للَّه - عز وجل -، بالإفراد له تعالى: بالألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات، وفي هذا الحديث: دلالة واضحة على أن أعظم علاج للكرب، هو الإيمان، والتوحيد الخالص للَّه تعالى، وأن ترديد هذه الكلمات العظام مُذْهِبٌ للكرب، والهمّ، والغمّ، فما دفعت شدائد الدنيا، وأهوال الآخرة بمثل التوحيد، فإذا ¬

(¬1) شرح النووي على صحيح مسلم، 9/ 55. (¬2) شرح النووي على صحيح مسلم، 9/ 55. (¬3) مثل دعاء موسى - عليه السلام -: ((رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)).

قالها المسلم مُتأمِّلاً لمعانيها مُتفكِّراً في دلالاتها: سكن قلبه، واطمأنّت نفسه، وزال عنه كربه، وشدته)) (¬1)، فلا يثبت الكرب والهمّ أمام كلمات التوحيد والتعظيم الخالص للَّه تعالى رب العالمين، واقتران اسمه تعالى: ((العظيم الحليم)) دلالة على كمال آخر غير الكمال في إفراد أحدهما، ففي اقترانهما دلالة كمال عظمته مع حلمه تعالى عكس البشر، فإنه قد يكون عظيماً، وليس بحليم، وقد يكون حليماً وهو ذليل، فهو تعالى لم تمنعه عظمته من الحلم بخلقه، ولم يكن حلمه جل وعلا عن ضعف وعجز، بل عن كمال العظمة والجلال، وكذلك سعة حلمه مع كمال عظمته جل وعلا، فهو العظيم الحليم على الإطلاق. ووجه ذكر اسمه تعالى ((العظيم))؛ لأنه تعالى لا يتعاظم عليه شيء مهما كان، ومن ذلك تفريج الكروب والهموم، فكأنه يقول: يا رب أنت العظيم الذي لا يتعاظم عليك شيء، وأنت الحليم فلم تُعجِّل عليَّ عقوبتك مع كثرة ذنوبي، وأنت رب السموات والأرض، ورب أعظم مخلوقاتك عرشك العظيم، أسألك أن تَفْرُجَ عنِّي: كربي، وهمّي، وغمّي. ووجه ذكر اسمه تعالى ((الحليم)) في هذا الدعاء المبارك: لأن كرب المؤمن غالباً يكون بسبب تقصيرٍ في حق ربه؛ فإن المصائب بسبب الذنوب قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ ¬

(¬1) فقه الأدعية والأذكار، 4/ 186 بتصرف.

66 - اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين.

أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (¬1)، وقد يكون حصول الكرب بسبب الغفلة. وفي تكرير ذكر العرش لأنه أعظم المخلوقات (¬2)، والموجودات وتنبيهاً على عظم شأن خالقه - عز وجل -، فإن من كان كذلك لا يعجزه أي أمر مهما كان. 66 - ((اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ)) (¬3). المفردات: لفظ الحديث: ((دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ: اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِى طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلَّهُ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ)). المكروب: أي المغموم والمحزون، والكَرْب بالفتح فسكون: ما يدهم المرء مما يأخذ بنفسه ويغمَّه ويُحزنه (¬4). ¬

(¬1) سورة الشورى، الآية: 30. (¬2) قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ((الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى))، أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات، برقم 828، والطبراني في المعجم الكبير، 12/ 39، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول، 3/ 139، والضياء المقدسي في المختارة، 10/ 310، وأبو الشيخ في العظمة، 2/ 582، وصححه الألباني في شرح الطحاوية، ص 842، وهذا حكمه حكم المرفوع. (¬3) أبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم 5090، وأحمد، 34/ 75، برقم 20430، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 3/ 250، وفي صحيح الأدب المفرد، 260، وقد حسن إسناده أيضاً العلامة ابن باز في تحفة الأخيار، ص 24. (¬4) فيض القدير، 3/ 526.

الشرح:

والفرق بين الكرب والحزن: أن الكرب حزن مع شدة (¬1). الشأن: الأمر والحال (¬2). الشرح: هذه الكلمات الواردة في الحديث كلمات إيمان، وتوحيد، وإخلاص للَّه - عز وجل -، وبعد عن الشرك كله، كبيره وصغيره، وفي هذا أوضح دلالةً على أن أعظم علاج الكرب, هو تجديد الإيمان، وترديد كلمات التوحيد ((لا إله إلا أنت))؛ فإنه ما زالت شدَّة، ولا ارتفع همٌّ ولا كربٌ بمثل توحيد اللَّه، وإخلاص الدين له، وتحقيق توحيد العبودية له - عز وجل - التي خُلق الخلق من أجلها، فإن القلب عندما يُعمر بالتوحيد والإخلاص، ويُشغل بهذا الأمر العظيم، الذي هو أعظم الأمور، وأجلها على الإطلاق، تذهب عنه الكُربات، وتزول عنه الشدائد، والغموم خاصة إذا فُهِمَتِ المعاني، وعُمل بالمقاصد، فإن يونس - عليه السلام - ما أزال اللَّه عنه الكربات إلا عند قوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} (¬3). قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أخبركم بشيء: إذا نزل برجل منكم كرْبٌ، أو بلاء من بلايا الدنيا، دعا به يُفرج عنه؟ فقيل له: بلى , فقال: دعاء ذي النون)) (¬4). ¬

(¬1) العلم الهيب في شرح الكلم الطيب، ص 335. (¬2) المصدر نفسه. (¬3) سورة الأنبياء، الآية: 87. (¬4) أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب الجمعة، باب الصلاة بعد الجمعة، 6/ 168، برقم 10416، الحاكم، 1/ 505، رقم 1864، والدعوات الكبير للبيهقي، ص 125، وابن عساكر، 45/ 38، وصحح إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 243. وانظر: العلم الهيب، ص 339.

وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوات المكروب)): أي الدعوات النافعة المزيلة للمكروب المغموم. ((اللَّهم رحمتك أرجو)): في تأخير الفعل ((أرجو)) دلالة على الاختصاص (¬1)، أي نخصّك وحدك برجاء الرحمة منك، فلا نرجوها من أحد سواك، وتخصيص السؤال بصفة الرحمة؛ لأنها وسعت كل شيء قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2)، فرحمته تعالى وسعت كل جزء وذرة في هذا الكون العظيم، ومنها عبيده. قوله: ((فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين)): فيه شدة الافتقار، والاحتياج إلى مولاه وخالقه - عز وجل -، وأنه لا غنى له عن ربه طرفة عين في كل شأن من شؤونه، وقوله: ((طرفة عين)) خارج مخرج المبالغة. أي ولا لحظة واحدة. قوله: ((وأصلح لي شأني كله)): فيه سؤال اللَّه تعالى أن يصلح كل أحواله وشؤونه وأموره في كل جزئيةٍ من جزئياته، وكل جانب من جوانبه في حياته، وبعد مماته كما دلَّ قوله: ((كله)). ثم ختم بأحسن وأعظم الكلم ((لا إله إلا أنت)) إقرار، وإذعان، وإشهاد بالوحدانية الحقَّة [من الألوهية، والربوبية، والأسماء ¬

(¬1) العلم الهيب، ص 339. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 156.

67 - لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

والصفات] للَّه تعالى، وفيه إشارة إلى أن الدعاء إنما ينفع المكروب, ويزيل همّه وكربه، إذا كان مع حضور وشهود، ومن شهد للَّه تعالى بالتوحيد والجلال، مع جمع الهمّة وحضور البال، فهو حريٌّ بزوال الكرب في الدنيا، والرحمة، ورفع الدرجات في العقبى)) (¬1). ودلّ هذا الدعاء المبارك على أهمية التوسل بصفات اللَّه تعالى في كل ما يرجوه العبد ويخافه، وخاصة صفة الرحمة؛ فإن لها تأثيراً عظيماً في تفريج الهموم والغموم. قوله: ((اللَّهم رحمتك أرجو))؛ فإن من مقتضيات رحمته تعالى، وثمراتها الإحسان والإنعام، وزوال الأوهام والأحزان. 67 - ((لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) (¬2). [تقدم شرح] هذا الدعاء المبارك في الأدعية القرآنية رقم (14) فارجع إليه. 68 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ ¬

(¬1) فيض القدير، 3/ 526. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، بابٌ: حدثنا محمد بن يحيى، برقم 3505، والحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 505، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 168، ولفظه: ((دعوة ذي النون إذْ دعاه وهو في بطن الحوت: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}، فإنه لم يدعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له)).

المفردات:

بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي)) (¬1). المفردات: الناصية: مقدمة الرأس. ماضٍ: نافذ. الهمُّ: المكروه الوارد على القلب في الأمر المستقبل. الحزن: وهو عكس الهمّ: هو المكروه الوارد على القلب على أمر قد مضى (¬2). الشرح: قوله: ((اللَّهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك)): اعتراف العبد بأنه مخلوق للَّه تعالى، مملوك له، هو وآباؤه وأمهاته، ابتداءً من أبويه المقربين، وانتهاءً إلى آدم وحواء، فالكل مماليك للَّه - عز وجل - خالقهم، ومدبّر أمورهم، وشؤونهم، لا غنى لهم عنه طرفة عين، وليس لهم ¬

(¬1) أحمد، 6/ 247، برقم 3712، ورقم 4318، والحاكم، 1/ 509، والطبراني في المعجم الكبير، 9/ 13، والبزار، 5/ 363، وابن أبي شيبة، 10/ 253، وحسنه الحافظ ابن حجر في تخريج الأذكار، وصححه الألباني في تخريج الكلم الطيب، ص73. (¬2) مفتاح دار السعادة، 1/ 376.

من يلوذون ويعوذون به سواه، وهذا فيه كمال التذلّل والخضوع والاعتراف بالعبودية للَّه تعالى؛ لأنه لم يكتف بقوله: ((إني عبدك)) بل زاد فيه ((ابن عبدك ابن أمتك)) دلالة على التأكيد والمبالغة في التذلّل، والعبودية للَّه تعالى؛ لأن من ملك رجلاً ليس مثل من ملكه مع أبويه)) (¬1). وهذا يدلنا على أهمية الأدعية الشرعية لكمالها في ألفاظها ومعانيها، وجلال مقاصدها ومدلولاتها. قوله: ((ناصيتي بيدك)): ((أي مقدمة الرأس بيد اللَّه تعالى، يتصرّف فيه كيف يشاء، ويحكم فيه بما يريد، لا معقب لحكمه، ولا رادّ لقضائه)) (¬2). قوله: ((ماض فيَّ حكمك)): يتناول الحكمين: الحكم الديني الشرعي، والحكم القدري الكوني، فكلاهما ماضيان في العبد شاء أم أبى، لكن الحكم الكوني لا يمكن مخالفته، وأما الحكم الشرعي ((الأوامر والمنهيات)) فقد يخالفه العبد، ويكون متعرضاً للعقوبة. قوله: ((عدلٌ فيَّ قضاؤك)): إقرارٌ من العبد بأن ((جميع أقضيته - سبحانه وتعالى - عليه، من كل الوجوه: من صحة وسقم، وغنى وفقر، ولذة وألم، وحياة وموت، وعقوبة وتجاوز، وغير ذلك عدلٌ لا جور فيه، ولا ظلم بأي وجهٍ من الوجوه. قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ ¬

(¬1) العلم الهيب في شرح الكلم والطيب، ص 343. (¬2) فقه الأدعية، 4/ 192.

لِلْعَبِيدِ} (¬1)) (¬2). ثم شرع في الدعاء بعد إظهار غاية التذلل والخضوع لربه تعالى، وهذا من أدب السائلين، وهذه الحالة أقرب إلى إجابة السؤال ولا سيما إذا كان المسؤول منه كريماً، ومن أكرم من اللَّه تبارك وتعالى الذي لا يوازيه أيُّ كريم ولا يعادله أيّ نظير، إذا تضرع إليه عبده، وتذلل له، وأظهر الخضوع والخشوع ثم سأل حاجة ينفذها في ساعته على ما هو اللائق لكرمه وجوده (¬3). قوله: ((أسألك بكل اسم هو لك)): أتوسّل إليك بكل اسم من أسمائك الحسنى، وهذا هو أعظم أنواع التوسّل إلى اللَّه تعالى بالدعاء، كما قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬4). قوله: ((سمَّيت به نفسك)): أي اخترته لنفسك الذي يليق بكمالك وجلالك. قوله: ((أو أنزلته في كتابك)): في كتبك المنزلة على رسلك، يتعبّد به عبادك ويسألونك ويدعونك به، وأنا أحدهم. قوله: ((أو علمته أحداً من خلقك)): من الأنبياء والملائكة، ومنهم محمّد - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث الشفاعة الطويل الذي يقول فيه: (( ... فَأَخِرُّ ¬

(¬1) سورة فصلت، الآية: 46. (¬2) العلم الهيب في شرح الكلم الطيب، ص 343. (¬3) العلم الهيب، ص 343 بتصرف يسير. (¬4) سورة الأعراف، الآية: 180.

لَهُ سَاجِدًا، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي، وَلَيْسَ يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي ... )) (¬1). ((أو استأثرت به في علم الغيب عندك)): أي خصصت به نفسك في علم الغيب، فلم يطّلع عليه أحد، وهذا كلّه تقسيم لقوله: ((بكل اسم هو لك))، وهذا يدلّ على أن أسماءه تعالى الحسنى غير محصورة في عدد معين، فجعل أسماءه تعالى ثلاثة أقسام: قسم سمَّى به نفسه، فأظهره لمن شاء من أنبيائه ورسوله، وملائكته أو غيرهم، ولم يُنزله في كتابه. وقسم أنزله في كتابه، فتعرَّف به إلى عباده. وقسم استأثر به في علم الغيب عنده لا يطّلع عليه أحد، فتضمّن هذا الدعاء المبارك التوسّل إليه تعالى بأسمائه الحسنى كلّها، ما علم العبد منها، وما لم يعلم، والعلم بأسماء اللَّه وصفاته أصل لكل العلوم؛ لأنه كُلَّما كان عظيم العلم والمعرفة باللَّه تعالى وأسمائه وصفاته زادت خشية العبد لربه، وعظمت مراقبته وعبوديته له جلّ وعلا، وازداد بُعداً عن الوقوع في سخطه ومعصيته؛ ولهذا كان أعظم ما يطرد الهمّ والحزن والغمّ أن يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته، وأن يعمر قلبه بذكرها، والثناء بها عليه (¬2)، واستحضار ¬

(¬1) صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، برقم 193، ومسند الإمام أحمد، واللفظ له، 4/ 332، برقم 2546. (¬2) فقه الأدعية والأذكار، 4/ 192.

معانيها، فبعد أن قدَّم جملاً من الإقرار بالتذلل والخضوع له تعالى، والإيمان بكمال حكمه وقضائه وعدله، وهو توسل إليه بعمله الصالح، وتوسل إليه كذلك بأفعاله، ثم توسل إليه بجميع أسمائه الحسنى وصفاته العُلا، فجمع ثلاثة أنواع من التوسّلات الجليلة مقدمة بين يدي دعائه دلالة على أهمية هذه الوسائل في إعطاء ما يسأله العبد ربه - عز وجل - فقال: ((أن تجعل القرآن ربيع قلبي)): أي: فرح قلبي، وسروره، وخُصَّ ((الربيع)) دون فصول السنة؛ لأن الإنسان يرتاح قلبه في الربيع من الزمان، ويميل إليه ويخرج من الهمّ والغمّ، ويحصل له النشاط والسرور والابتهاج)) (¬1). ((فتضمّنت هذه الدعوة سؤال اللَّه تعالى أن يجعل قلبه مرتاحاً إلى القرآن، مائلاً إليه، راغباً في تدبره)) (¬2). وهذا يدلّ على أن القرآن هو الشفاء الناجح لمن تأمله وتدبّره، وتمسّك به. قوله: ((ونور صدري)): أي تشرق في قلبي بأنوار المعرفة، فأميّز الحق والباطل. قوله: ((وجلاء حزني، وذهاب همّي)): الجلاء هو: الانكشاف، أي انكشاف حزني وهمّي؛ لأن القرآن شفاء، كما قال تعالى: ¬

(¬1) العلم الهيب، ص 344. (¬2) تحفة الذاكرين، ص 297.

69 - اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك.

{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} (¬2)؛ لأنه كلام اللَّه تعالى الذي ليس كمثله شيء، وأي شيءٍ يقف أمام هذا الكلام العظيم، فالقرآن الذي هو أفضل الذكر، كاشف للحزن، ومُذهب للهمّ لمن يتلوه بالليل والنهار بتدبّر وتفكّر، فليس شيء مثله مُذهب للأوهام والأحزان، والأمراض النفسية العصرية، وفيه من نعيم القلب، وأنسه، ولذّاته، وراحته ما لا يوصف، وعلى قدر تحصيل العبد لكتاب اللَّه تعالى: تلاوةً، وحفظاً، وفهماً، ومدارسةً، وعملاً ينال من السعادة والراحة والطمأنينة والعافية في البدن والنفس ما لا يحصيه إلا اللَّه تعالى. ولعلّك يا عبد اللَّه بعد أن رأيت عظمة معاني هذا الدعاء المبارك، وما تضمّن من مقاصد ومعانٍ جليلة، علمت معنى قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن)) (¬3). 69 - ((اللَّهُمَّ مُصَرِّفَ القُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ)) (¬4). ¬

(¬1) سورة الإسراء، الآية: 82. (¬2) سورة فصلت، الآية: 44. (¬3) أخرجه أحمد، 7/ 341، برقم 4318، وابن حبان، 3/ 253، برقم 973، وابن أبي شيبة، 10/ 253، وأبو يعلى، 9/ 198، وصححه الشيخ الألباني في التعليقات الحسان، برقم 972، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 199. (¬4) مسلم، كتاب القدر، باب تصريف اللَّه تعالى القلوب كيف شاء، برقم 2654.

الشرح:

الشرح: في هذا الحديث بيان لأمرٍ عظيمٍ، وشأنٍ خطيرٍ وكبيرٍ، وهو أن اللَّه جلّ قدره هو الذي يتولّى قلوب العباد بنفسه، فيصرّفها كلها كقلبٍ واحدٍ كيف يشاء، باقتدار تام، لا يشغله قلب عن قلب، وأنه هو جلّ وعلا يتولّى الأمر بنفسه، لا يكله لأحدٍ من الملائكة، ولم يُطلِعْ أحداً على سرائره من خلقه لمحض رحمته وفضله، وكمال حكمته جلّ وعلا، وفيه بيان أن العبد ليس إليه شيء من أمر سعادته، أو شقاوته، بل إن الأمر كلّه للَّه، فإن اهتدى فبهداية اللَّه تعالى إيَّاه، وإن ضلّ فبصرفه له بحكمته وعدله، وعلمه السابق - عز وجل -، فلعظم هذا الأمر كان سيد الأولين والآخرين، المزكَّى من رب العالمين، مفتقراً إلى اللَّه - عز وجل - في كل حين بالدعاء؛ لتثبيت قلبه على دينه وطاعته، فكيف بنا نحن؟ فهذا التعليم المهمّ منه - صلى الله عليه وسلم - لأمته أن يكونوا ملازمين لمقام الخوف، مشفقين غير آمنين من سلب الدين واليقين والإيمان، [ولكن مع ذلك لا ييأسون من رحمة اللَّه تعالى، بل يجمع العبد بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة] (¬1). قوله: ((صرِّف قلوبنا على طاعتك)): أي ثبِّت قلوبنا، واصرفها إلى طاعتك ومرضاتك في كل ما تحبه من الأقوال، والأعمال والأخلاق. ¬

(¬1) انظر: أوراد الذاكرين، ص 152، وفقه الأدعية، 4/ 484.

70 - يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك.

وقوله: ((على [طاعتك])) أي أن ينقلب القلب من طاعة إلى طاعة أخرى، من صلاة إلى صيام إلى زكاة)) (¬1)، فسأل اللَّه تعالى الثبات على الدين جملة وتفصيلاً، ودلَّ الحديث والذي بعده على أهمية التوسّل إلى اللَّه تبارك وتعالى بأفعاله ومنها ((التصريف)) الفعلية التي تتضمّن كمال المشيئة، والحكمة البليغة، وكذلك [يدل على] صفة ((الأصابع)) الذاتية الجليلة، [على الوجه اللائق باللَّه - عز وجل -، لا يشبه أحداً من خلقه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}]. 70 - ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّت قَلْبِي عَلَى دِينِكَ)) (¬2). عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: ((نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ)) (¬3). وفي حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنها قالت: يا رسول اللَّه، إنك تُكثر أن ¬

(¬1) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين، 4/ 61. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا أبو موسى الأنصاري، برقم 3522، وأحمد، 18/ 100، برقم 12107، والحاكم، 1/ 525، و528، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 6/ 309، وصحيح الترمذي، 3/ 171. وقد قالت أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ((كان أكثر دعائه - صلى الله عليه وسلم -)). (¬3) الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، برقم 2140، وأحمد، 19/ 160، برقم 12107، ومصنف بن أبي شيبة، 11/ 36، برقم 31044، وشعب الإيمان للبيهقي، 2/ 209، ومسند أبي يعلى، 6/ 359، والمختارة للضياء المقدسي، 2/ 458، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2140.

71 - اللهم إني أسألك [اليقين]، و [العفو و] العافية في الدنيا والآخرة

تدعو بهذا الدعاء؟ فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ قَلْبَ الْآدَمِيِّ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ - عز وجل -، فَإِذَا شَاءَ أَزَاغَهُ، وَإِذَا شَاءَ أَقَامَهُ)) (¬1). وقوله: ((إن قلوب)) تعليلاً لسبب دعوته - صلى الله عليه وسلم -، وهي أن قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه، من يشأ يضللْه، ومن يشأ يهديه، فينبغي للعبد الإكثار من هذه الدعوات المهمة التي تتعلق بأجل مقامات العبودية. 71 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ [اليقين]، و [العفو و] الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) (¬2). المفردات: ((اليقين)): هو الأمر الثابت الذي لا شك يخالجه (¬3)، فاليقين من ¬

(¬1) مسند أحمد، 41/ 151، برقم 24604، وسنن النسائي الكبرى، كتاب صفة الصلاة، الاستغفار بعد التسليم، 4/ 414، برقم 7690 من حديث النواس بن سمعان، وسنن ابن ماجه، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، برقم 199، ومستدرك الحاكم، 1/ 525، وصحيح ابن حبان، 1/ 135، والأسماء والصفات للبيهقي، ص 322، وهناك روايات عن أم سلمة، وعن سبرة بن فاتك الأسدي، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 165، وغيره. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا يوسف بن عيسى، برقم 3514، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 726، ولفظه عند الترمذي: ((سلوا الله العافية في الدنيا والآخرة))، وفي لفظ: ((سلوا الله العفو والعافية فإن أحداً لم يعط بعد اليقين خيراً من العافية))، وقد صححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 180، و3/ 185، و3/ 170، وله شواهد، انظرها في: مسند الإمام أحمد بترتيب أحمد شاكر، 1/ 156 - 157. (¬3) تذكرة الحفاظ، 4/ 356.

صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها، يقال: علمٌ يقينٌ، ولا يقال: معرفةُ يقينٌ، وهو مكوّن الفهم مع ثبات الحكم (¬1). ((العفو)): التجاوز عن الذنب: وترك العقاب عليه. ((العافية)): هي كلمة جامعة في تأمين اللَّه تعالى للعبد، ودفاع عنه كل نقمة، ومحنة، وشرٍّ وبلاء، والسلامة من الأسقام، والبلايا، وهي الصحة ضد المرض (¬2). هذا الدعاء المبارك الجليل القدر فيه أجلّ المطالب، وأهم المقاصد التي يتمنّاها كل عبد في دينه، ودنياه، وآخرته، ففيها سؤال اللَّه تبارك وتعالى السلامة، والوقاية من كل الشرور، بكل أنواعها الظاهرة والباطنة، الجليّة والخفيّة، فإن السلامة والحفظ مبتغى كل الخلائق، في هذه المعمورة، وخاصة عباد اللَّه تبارك وتعالى المؤمنين. ولهذا كانت هذه الدعوة وما تتضمنه من مقاصد عظيمة عزيزة وجليلة عند الشارع الحكيم، في قوله، وأمره، وفعله، ولما كانت الآفات والبلايا منها ظاهرة، كأمراض البدن، وعلله الحسية، ومنها باطنة معنوية كآفات القلب، قُدِّم سؤال السلامة في أهمّ أنواعه، وهو القلب: ((اللَّهم إني أسألك اليقين))، وهو تمام العلم وكماله، وهو المنافي للشك والريب، فهذا سؤالٌ لِأَعلى درجات الإيمان، الذي ¬

(¬1) المفردات، ص 892. (¬2) انظر: النهاية، ص 627، معجم مقاييس اللغة، 4/ 56، فيض القدير، 2/ 32.

عليه الفلاح في الدنيا والآخرة (¬1). قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((اليقين الإيمان كله)) (¬2)؛ فلذا كان من دعائه - رضي الله عنه -: ((اللَّهم زدنا إيماناً ويقيناً وفهماً)) (¬3). فإذا رسخ اليقين في القلب، انقطع عن الدنيا، وتعلّق بالآخرة، قال سفيان الثوري رحمه اللَّه: ((لو أن اليقين وقع في القلب كما ينبغي، لطار اشتياقاً إلى الجنة، وهروباً من النار))، قال ابن حجر رحمه اللَّه معلقاً: ((فإذا أيقن القلب، انبعثت الجوارح كلها للقاء اللَّه - عز وجل - بالأعمال الصالحة)) (¬4). ولا شك أن هذا هو منتهى الإرادات والمنى، فدلّ هذا المطلب العظيم على أنه أهمّ مسائل الدِّين، لأنه يتعلّق في أهم منازله، وهو مسائل الإيمان والتوحيد، الذي هو حق اللَّه تعالى على كل العبيد. وقوله: ((والعفو والعافية في الدنيا والآخرة)): جمع بين عافيتي الدين والدنيا؛ لأنه لا غنى عنهما للعبد، فإن النجاة والفلاح منوطة بهما. ¬

(¬1) انظر: اللآلئ الزكية في شرح الأدعية النبوية، ص 94. (¬2) أخرجه أحمد، 14/ 278، برقم 8630، والبخاري معلقاً مجزوماً به، كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((بني الإسلام على خمس))، قبل الحديث رقم 8، والحاكم، 2/ 446، وانظر: سلسلة الآثار الصحيحة، 2/ 536. (¬3) ذكره الإمام ابن تيمية في كتاب الإيمان، 1/ 284، وعزاه بإسنادٍ إلى الإمام أحمد، وصحح إسناده، ابن حجر في الفتح، 1/ 68. (¬4) المصدر السابق.

فسؤال اللَّه تعالى ((العفو)): يتضمّن سؤال اللَّه السلامة من الذنوب، وتبعاتها، ونتائجها، وآثارها. و ((العافية)): هو طلب السلامة والوقاية من كل ما يضرُّ العبد في دينه ودنياه، من السقام والمصائب والمكاره والفتن والمحن. وقد دلّ أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله، وفعله، [على] أهمية هذه المقاصد الجليلة، فمن ذلك ما جاء عن عمّ النبي - صلى الله عليه وسلم - العباس - رضي الله عنه - أنه جاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((يارسول اللَّهِ، عَلِّمْني شَيْئاً أَسْأَلُهُ اللَّه تَعَالى، قَالَ: ((سَلُوا اللَّه العافِيةَ))، فَمكَثْتُ أَيَّاماً، ثُمَّ جِئتُ فَقُلْتُ: يا رسولَ اللَّه: علِّمْني شَيْئاً أَسْأَلُهُ اللَّهَ تعالَى، قَالَ لي: ((يَا عبَّاسُ، يا عمَّ رَسولِ اللَّهِ، سَلُوا اللَّه العافيةَ في الدُّنْيا والآخِرةِ)) (¬1)، ففي تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمِّه الذي هو صنو أبيه، هذا الدعاء دون غيره من الأدعية بعد تكريره له، وكذلك خطابه بأداة المناداة ((يا عباس))، ((يا عم رسول اللَّه)) التي تفيد التأكيد والتنبيه، يدل دلالة جليلة على أهمية هذه الدعوة الجليلة. ومن الأدلة كذلك، أن رجلاً ((جاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((تَسْأَلُ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا يوسف بن عيسى، برقم 3514، مسند الإمام أحمد، 3/ 303، برقم 1783، مسند البزار، 4/ 139، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 726، وصححه الألباني في: صحيح الترمذي، 3/ 171، وصحيح المشكاة، برقم 2490، والتحقيق الثاني من سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1523.

الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) ثُمَّ أَتَاهُ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((تَسْأَلُ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ))، ثُمَّ أَتَاهُ الْيَوْمَ الثَّالِثَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الدُّعَاءِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: ((تَسْأَلُ رَبَّكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَإِنَّكَ إِذَا أُعْطِيتَهُمَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أُعْطِيتَهُمَا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ أَفْلَحْتَ)) (¬1). دلّ هذا الحديث على حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على علوّ الهمة، ومن ذلك حرصهم على معرفة أفضل الدعاء. ومن الأدلة السنيّة التي تدلّ على أهمية هذين المطلبين: (العفو، والعافية) أنه كان - صلى الله عليه وسلم - يلازم سؤالهما ربه - عز وجل - في صباحه ومسائه. فعن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أنه قال: ((لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَدَعُ هَؤُلاَءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُمْسِي، وَحِينَ يُصْبِحُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللَّهُمَّ استُرْ عَوْرَاتي، وآمِنْ رَوْعَاتي، اللَّهمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَينِ يَدَيَّ، ومِنْ خَلْفي، وَعن يَميني، وعن شِمالي، ومِن فَوْقِي، وأعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحتي)) (¬2). ¬

(¬1) أحمد، 19/ 304، برقم 12291، واللفظ له، والترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا يوسف بن عيسى، برقم 3512، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، برقم 3848، والأدب المفرد للبخاري، ص 222، ومسند البزار، 2/ 274، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 243، برقم 496، وحسنه الأرناؤوط لغيره في تعليقه على المسند، 19/ 304. (¬2) أبو داود، واللفظ له، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم 5076، ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى، برقم 3871، أحمد، 3/ 408، برقم 4785، صحيح ابن حبان، 3/ 241، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 488، برقم 508، وصحيح ابن ماجه، برقم 3121.

فسؤاله - صلى الله عليه وسلم - العافية (في الدين): هو طلب الوقاية والسلامة من كل أمر يشين الدين ويخلّ به، ويخدش في عقيدة المؤمن، وتوحيده، من الفتن والضلالات، والشبهات، والشهوات من كل أنواعهما. وسؤال اللَّه تعالى العافية (في الدنيا): هو طلب السلامة والأمان من كل ما يضرّ العبد في دنياه، من المصائب والبلايا، والشدائد، والمكاره، وسؤال اللَّه تعالى العافية (في الآخرة): هو طلب النجاة، والوقاية من أهوال الآخرة، وشدائدها، وكرباتها، وما فيها من العقوبات، بدأَ من الاحتضار، وعذاب القبر، والفزع الأكبر، والصراط، والنجاة من أشد الأهوال، والعذاب بالنار، والعياذ باللَّه. وأما سؤاله - صلى الله عليه وسلم - العافية (للأهل): فبوقايتهم من الفتن، وحمايتهم من البلايا والمحن. وأما في (المال): فبحفظه مما يتلفه من غرق أو حرق أو سرقة، أو نحو ذلك، فجمع في ذلك سؤال اللَّه الحفظ من جميع العوارض المؤذية، والأخطار المضرة)) (¬1). فدلّ ذلك كله على أن هذه الدعوات الكريمة الجليلة من جوامع الكلم: ((وذلك أنه ليس شيء يعمل للآخرة يتلقى إلا باليقين, وهو ¬

(¬1) فقه الأدعية والأذكار، 3/ 31.

جمع هذا الدعاء بهذه الكلمة بين ثلاث مزايا:

الإيمان الراسخ الذي لا شك فيه ولا ريب، وهو أعلى الدرجات كما سبق، وليس شيء من الدنيا يهنأ لصاحبه إلا مع العافية، وهي الأمن والصحة، وفراغ القلب من كل مكروه، فجمع أمر الدنيا كله في كلمة، والآخرة في كلمة)) (¬1). وأختم لك بشرح نفيس للعلامة الشوكاني رحمه اللَّه فقد قال: ((العافية: دفاع اللَّه - سبحانه وتعالى - عن العبد، فقوله (¬2): دفاع اللَّه تعالى عن العبد، يفيد أن العافية: جميع ما يدفعه اللَّه تعالى عن العبد من البلايا والمحن كائنة ما كان. ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث: ((فإن أحداً لم يُعطَ بعد اليقين خيراً من العافية))، سأل النبي ربه - سبحانه وتعالى - أن يرزقه العفو الذي هو العمدة في الفوز بدار المعاد، ثم سأله أن يرزقه العافية التي هي العمدة في صلاح أمور الدنيا والسلامة من شرورها ومحنها، فكان هذا الدعاء من الكلم الجوامع، والفوائد، والنوافع. ثم علق رحمه اللَّه على الأحاديث التي ذكرناها سابقاً فقال: ((إن الدعاء بالعافية أحب إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - من كل دعاء كائناً ما كان، كما يفيده هذا العموم، وتدلّ عليه هذه الكلية, فجمع هذا الدعاء بهذه الكلمة بين ثلاث مزايا: أولها: شموله لخيري الدنيا والآخرة. ¬

(¬1) فيض القدير، 4/ 106. (¬2) أي عن صاحب (الصحاح).

وثانيها: أنه أفضل الدعاء على الإطلاق.

وثانيها: أنه أفضل الدعاء على الإطلاق. وثالثها: إنه أحب إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - من كل دعاء يدعو به العبد على الإطلاق كائناً ما كان (¬1). فينبغي للعبد الصالح ملازمة هذه الدعوات المباركات في الصباح والمساء، اقتداء واستناناً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في ليله ونهاره: في سفره وحضره, وفي سرائه وضرائه، وفي كل أحواله. 72 - ((اللهمّ أحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ)) (¬2). المفردات: ((الخزي)): هو الذلّ والهوان (¬3). ويأتي بمعنى الهلاك، والوقوع في بلية (¬4). ((عاقبتنا)): العاقبة آخر كل شيء. ¬

(¬1) تحفة الذاكرين، 454 - 459. (¬2) أحمد، 29/ 171، برقم 17628، والحاكم، 3/ 591، والطبراني في الكبير، 2/ 33/ 1169، وفي الدعاء، برقم 1436، وابن حبان، برقم 2424، 2425 (موارد)، والدعوات الكبير للبيهقي، 1/ 359، والديلمي في الفردوس، 1/ 141، قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 178: ((رجال أحمد وأحد أسانيد الطبراني ثقات))، وقال الأرناؤوط في تعليقه على المسند: ((رجاله موثقون)). (¬3) المفردات، 281. (¬4) النهاية، ص 263.

الشرح:

الشرح: ((اللَّهمّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلها)): أي يا اللَّه اجعل عاقبة كل أمر من أموري حسناً طيباً، فإن الأعمال بالخواتيم، فاجعل أعمالنا كلها طيّبة, مرضيّة عندك, وثبّتنا على ذلك إلى أن نلقاك بأحسن أعمالنا. ((وأجرنا من خزي الدنيا)) أي اعصمنا من هلاك الدنيا، وهي مصائبها، وغرورها، وشرورها، ومن كل ذلٍّ وهوانٍ، وفضيحة فيها. ((وعذاب الآخرة)) أي: أعذنا من جميع أنواع عذاب الآخرة، كما يفيد ((إضافة اسم الجنس)). فتضمّن هذا السؤال السلامة، والأمان من كل الأوجه، فإن من سلم من خزي الدنيا، وعذاب الآخرة، فقد ظفر بخير الدارين، وَوُقِيَ من كلِّ شرٍّ فيهما، فدلّ هذا الدعاء على أنه من جوامع الكلم. 73 - ((رَبِّ أَعِنِّي وَلَا تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلَا تَنْصُرْ عَلَيَّ، وَامْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ، وَاهْدِنِي وَيَسِّرِ الهُدَى إِلَيَّ، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيَّ، رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مِطْوَاعًا، إِلَيْكَ مُخْبِتًا أَوَّاهاً مُنِيبًا، رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ

المفردات:

قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي)) (¬1). المفردات: ((رهَّاباً)): الرهبة، الخوف، والفزع. ((مخبتاً)): الخاشع، والمخلص في خشوعه. ((أواهاً)):المتضرّع، والبكّاء، وقيل كثير الدعاء. ((منيباً)):التائب، والراجع إلى اللَّه في أموره. ((حوبتي)):الحوْبةُ، والحوبُ: الإثم، والذنب. ((حجتي)): الحجة: الدليل، والبيِّنة (¬2). ((سخيمة قلبي)): غلّ القلب، وحقده. الشرح: هذا الدعاء العظيم اشتمل على اثنين وعشرين سؤالاً، ومطلباً هي من أهم مطالب العبد، وأسباب صلاحه، وسعادته في الدنيا والآخرة (¬3): ¬

(¬1) البخاري في الأدب المفرد، برقم 664، و665، وأبو داود، كتاب الوتر، باب ما يقول الرجل إذا سلّم، برقم 1510، و1511، والترمذي، كتاب الدعوات، باب في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3551، وابن ماجه، أبواب الدعاء، باب دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3830، والنسائي في السنن الكبرى، 6/ 151، وأحمد 3/ 452، برقم 1997، وصحيح ابن حبان، 3/ 227، ومصنف ابن أبي شيبة، 10/ 280، وعبد بن حميد، 1/ 236، والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 519، ومسند الشهاب، 2/ 344، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 1/ 414، وفي صحيح الترمذي، 3/ 178. (¬2) جامع الأصول، 4/ 337. (¬3) فقه الأدعية، 4/ 487.

1 - قوله: ((رب أعني)): أي أطلب منك العون، والتوفيق لطاعتك، وعبادتك على الوجه الأكمل الذي يُرضيك عنِّي, وأطلب منك العون على جميع الأمور الدينية والدُّنيوية، والأخروية، وفي مقابلة الأعداء أمدّني بمعونتك وتوفيقك. 2 - قوله: ((ولا تُعن عليَّ)): ولا تمدّ العون لمن يمنعني عن طاعتك: من النفس الأمّارة بالسوء، ومن شياطين الإنس والجن. 3 - قوله: ((وانصرني))، وهو طلب النصرة، وهي الغلبة، أي في كل أحوالي، [وانصرني] على الكفار أعدائي، وأعداء دينك، وقيل انصرني على نفسي الأمّارة بالسوء؛ فإنها أعدى أعدائي {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (¬1)، ولا مانع من إرادة الجميع؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُخصِّص نوعاً معيناً، والأصل إبقاء العموم على عمومه. فتضمّن هذا الدعاء سؤال اللَّه تعالى النصر والظفر على كل الأعداء، سواء كان العدوُّ خارجيَّاً، أو داخليَّاً. 4 - قوله: ((ولا تنصر عليَّ)): ولا تجعلني مغلوباً، فتسلّط عليَّ أحداً من خلقك, ولا تنصر النفس الأمارة بالسوء عليَّ، فأتّبع الهوى وأترك الهدى. 5 - قوله: ((وامكُر لي)): المكر هو الخداع، وهو من اللَّه إيقاع بلائه ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 53.

الهداية نوعان:

بأعدائه من حيث لا يشعرون (¬1)، أي أنزل مكرك بمن أراد بي شرّاً وسوءاً (¬2)، وارزقني الحيلة السليمة، والطريقة المثلى في دفع كيد عدوي، فأسلم من كيدهم وشرّهم. 6 - قوله: ((ولا تمكر عليَّ)): أي ولا تهدِ عدويّ إلى طريق دفعه إياي عن نفسه, ولا تعاملني بسوء نيتي، فأغترّ وأتجاوز الحد من حيث لا أشعر فأهلك. 7 - قوله: ((واهدني)): الهداية نوعان: أ - هداية دلالة وإرشاد. ب - وهداية توفيق وتثبيت، والعبد حينما يسأل اللَّه تعالى الهداية ينبغي أن يستحضر هذه المعاني، فيقول: دلّني، ووفّقني لطرق الهداية والمعرفة، ووفّقني لها، ولا أزيغ عنها حتى ألقاك، فتضمّن هذا السؤال التوفيق إلى فعل الخيرات من الأعمال الصالحات، والعلم النافع، واجتناب المحرّمات. 8 - قوله: ((ويسّر الهُدى إليَّ)): أي سهّل لي اتِّباع الهداية، وسلوك طريقها، وهيّئ لي أسباب الخير، حتى لا أستثقل الطاعة، ولا أنشغل عن العبادة. 9 - قوله: ((وانصرني على من بغى عليّ)): وانصرني على من ظلمني ¬

(¬1) شرح الأدب المفرد، 2/ 321. (¬2) المكر من صفات الله تعالى الفعلية المقيدة التي تقع بمشيئته، فلا تطلق على الله تعالى إلا في سبيل المقابلة والجزاء لمن يمكر به تعالى وبأوليائه.

وتعدّى عليَّ, وهذا تخصيص بعد العموم في قوله أولاً: ((وانصرني ولا تنصر عليَّ)) , يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه: ((دعاء عادل، لا دعاء معتدٍ، يقول: انصرني على عدوّي مطلقاً)) (¬1)، وهو يدلّ على أهمية النصرة، والظفر على من اعتدى وبغى بغير حقّ؛ لما في ذلك من سرور القلب، وطمأنينة النفس، وراحة البال من وقاية الأعداء، والثقة بقدرة اللَّه تعالى ونصره. 10 - قوله: ((اللَّهُمَّ اجعلني لكَ شكَّاراً)) بعد: أن توسَّل إليه تعالى فيما ينفعه في تعامله وسيره مع خلقه، شرع في التوسل إلى اللَّه تعالى فيما ينفعه ويقرّبه، ويصلح أحواله مع عبادته لربه تعالى، وأن هذه المطالب هي الأعظم والأهمّ عنده، كما دلّ على ذلك صيغ المبالغة، وتقديم الجار والمجرور، فقال: ((اللَّهم اجعلني لك شكَّاراً)): أي كثير الشكر، كما تفيده صيغة المبالغة في قوله: ((شكَّاراً))، أي اجعلني كثير الشكر في السرّاء والضرّاء في القول، والعمل، وفي السرّ، وفي العلن على النعماء والآلاء، وفي تقديم الجار والمجرور ((لك)) للدلالة على الاختصاص، أي أخصّك بالشكر؛ لأنك خالق النعم، ومعطيها، سأل اللَّه التوفيق إلى الشكر؛ لأن به تدوم النعم. 11 - قوله: ((لك ذكَّاراً)): أي كثير الذكر لك في كل الأوقات، والأحوال قائماً، وقاعداً، وعلى جنب في الصباح، والمساء، وفي ¬

(¬1) الرد على البكري، 1/ 207، نقلاً من فقه الأدعية، ص 488.

السر والعلن، وفي سؤاله تعالى التوفيق إلى الذكر؛ لأنه هو أفضل الأعمال. 12 - قوله: ((لك رهّاباً)): أي خائفاً منك في كل أحوالي: في ليلي ونهاري، في سفري وفي حضري، وفي الغيب والشهادة. 13 - قوله: ((لك مطواعاً)): أي كثير الطوع، وهو الانقياد والامتثال والطاعة لأوامرك، والبعد عن نواهيك. 14 - قوله: ((لك مخبتاً)): أي كثير الإخبات، وعلامته: أن يذلّ القلب بين يدي اللَّه تعالى إجلالاً وتذلّلاً، أي لك خاشعاً متواضعاً خاضعاً. 15 - قوله: ((إليك أواهاً منيباً)): ((والأوَّاه: هو: كثير التضرّع والدعاء والبكاء للَّه - عز وجل - (¬1)، كثير الرجوع إليك من الذنوب والخطايا. وتقديم الجار والمجرور في هذا، والذي قبله للاهتمام والاختصاص، وتحقيق الإخلاص، أي أخصّك وأخلص لك وحدك. سأل اللَّه تعالى التوفيق إلى روح العبادات، وأزكاها، وأسماها، وأهمّها، للقيام بها على الوجه الأكمل، والأمثل، والأتمّ، وكما دلّت الصيغ (شكاراً، ذكاراً، رهاباً، مطواعاً ... ) على كمال الذُّل والعبودية لله تعالى، وأنه ينبغي للعبد أن يتوسّل إليه تعالى ¬

(¬1) تحفة الذاكرين، ص 427.

[بأسمائه الحسنى، وصفاه العلا، ويسأله] التوفيق إلى أفضل الأعمال من العبادات الخالصة له تعالى، فإن ذلك يرجع إليه بعظيم الثواب، ورفع الدرجات. 16 - قوله: ((ربّ تقبّل توبتي)): أي اجعلها صحيحة بشرائطها، واستجماع آدابها، وتقبّلها مني. 17 - قوله: ((واغسل حَوْبتي)): أي امسح ذنبي وإثمي، وذكر الغسل ليفيد إزالته بالكلية. 18 - قوله: ((وأجب دعوتي)): أي أجب كل دعواتي، واجعلها مقبولة عندك مستجابة [نافعة لي]. 19 - قوله: ((وثبّت حجّتي)): كسابقه يفيد العموم، أي ثبت حُججي، في الدنيا على أعدائك بالحجة الدامغة، والدعوة والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بالأدلة البينات الساطعة، وثبّت قولي في الآخرة عند سؤال الملكين في القبر، والحجج هي البيِّنات والدلائل. 20 - قوله: ((واهدِ قلبي)): إلى معرفتك، ومعرفة الحق والهدى والصراط المستقيم، وإلى كل خير ترضاه، فبهدايته تهتدي كل الجوارح، والأركان في البدن. 21 - قوله: ((وسدّد لساني)): أي صوّب لساني حتى لا ينطق إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق.

74 - اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -،

22 - ((واسلُلْ سخيمة قلبي)): أي أخرج من قلبي: الحقد، والغلّ، والحسد، والغشّ، [والبغضاء للمؤمنين]، وغير ذلك من ظلمات القلب. فالزم هذا الدعاء المبارك الذي فيه جميع المنافع التي يحتاجها العبد في دينه، ومعاشه، ومعاده، فقد ذكر الحافظ عمر بن علي البزّار في ترجمته لشيخ الإسلام ابن تيمية أن هذا الدعاء كان غالب دعائه رحمه اللَّه)) (¬1). 74 - ((اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ نَبِيُّكَ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَنْتَ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)) (¬2). الشرح: أصل هذا الحديث العظيم الذي هو في غاية الأهمية، أن أبا أمامة - رضي الله عنه - قال: دعا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بدعاء كثير لم نحفظ منه شيئاً قال: ((ألا أدلكم على ما يجمع ذلك كله)) فذكر هذا الدعاء المبارك جليل القدر. ¬

(¬1) الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، ص 37، نقلاً من فقه الأدعية، ص 490. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا محمد بن حاتم، برقم 3521، وابن ماجه، أبواب الدعاء، كتاب الجوامع من الدعاء، برقم 3846، بمعناه، وقال الترمذي: ((هذا حديث حسن غريب))، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي، ص 387.

75 - اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي، ومن شر بصري

فهذا الدعاء المبارك لا شيء أجمع وأنفع منه؛ لأنه لم يُبقِ من خير في الدنيا والآخرة، إلا وقد سأله النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يُبقِ من شر في الدنيا والآخرة إلا وقد استعاذ منه - صلى الله عليه وسلم -، فمن سأل اللَّه - عز وجل - من خير ما سأله منه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقد سأل الخير كله على اختلاف أنواعه ما عُلم منه وما جُهل، ومن استعاذ من شرّ ما استعاذ منه نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقد استعاذ من الشرّ كله على اختلاف أنواعه (¬1) ما علمه العبد، وما لم يعلمه، وهذا من جوامع الكلم. قوله: ((وأنت المستعان)): بضمير الفصل، الذي يفيد كما تقدم التأكيد، والحصر والقصر، و ((المستعان)): [اسم من الأسماء الحسنى] أي أطلب منك وحدك لي العون، على [أموري كلِّها: في الدين، والدنيا، والآخرة، فأنت الذي تعين على هذه الأمور وغيرها، وتجيب دعواتي]. 75 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي، وَمِنْ شَرِّ بَصَرِي، وَمِنْ شَرِّ لِسَانِي، وَمِنْ شَرِّ قَلْبِي، وَمِنْ شَرِّ مَنِيِّي)) (¬2). ¬

(¬1) تحفة الذاكرين، ص 453. (¬2) أبو داود، أبواب الوتر، باب في الاستعاذة، برقم 1551، والترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا أحمد بن منيع، برقم 3492، والنسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من شر السمع والبصر، برقم 5470، وفي السنن الكبرى له، 4/ 446، ومسند أحمد، 24/ 304، برقم 15541، وغيرهم. وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 166، وصحيح النسائي، 3/ 1108.

الشرح:

الشرح: قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من شرِّ سمعي)): يا اللَّه، إني أعوذ بك من كل ما حرَّمت السماع منه ولا ترضاه: كالشرك، والكفر، والغيبة، [والنميمة، والكذب]، والزور، والبهتان، والمعازف، أو بأن لا أسمع إلاَّ الحق من ذكر ونصح وموعظة. قوله: ((ومن شرّ بصري)): كي لا أرى شيئاً لا ترضاه من المحرمات من النساء، والمُرد من الصبيان، ومنه النظر على وجه الاحتقار لأحد من الخلق، أو أهمل النظر والاعتبار في المخلوقات العجيبة في الأرض والسماء. قوله: ((ومن شرِّ لساني)): أعذني من كلّ محرّم أنطقه بلساني، كالكذب، والغيبة، والنميمة، والسبّ، والقذف، وغيره من المحرّمات؛ فإن اللسان أكثر الخطايا والمهالك فيه. والاستعاذة من شرِّ اللسان يتضمّن نقيضه بأن لا ينطق إلا الحق كالذكر، والثناء عليك، والشكر على نعمتك وآلائك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ولا أتكلّم فيما لا يَعنيني، والسكوت عما يُغنيني، وحفظ اللسان من اللغو، واللَّهو، والباطل. قوله: ((ومن شرِّ قلبي)): أعذني من كل شرٍّ من السيئات في قلبي، كالنفاق، والحسد، والحقد، والرياء، والكبر، وسوء الظن، ومن

76 - اللهم إني أعوذ بك من البرص، والجنون، والجذام

الاعتقادات الفاسدة، ومن حُبّ الدنيا من الشهوات والشبهات. قوله: ((ومن شر منييِّ)): أي من شرِّ فرجي، بأن أوقعة في غير محلّه من الزنى، واللواط، والاستمناء، وغير ذلك من المحرّمات، أو يوقعني في مقدمات الزنى من النظر، واللمس، والمشي، والعزم، وأمثال ذلك؛ فإن شهوة الفرج من أعظم ما ابتُلي به الإنسان، فقد تؤدي إلى المسالك الرديئة، وإلى المهالك البعيدة، وخاصّة في هذا الزمان، مع كثرة دعاة الفتن والفساد، [وكثرة دواعيه]، وانتشارها، وكثرة وسائلها، وسهولة حصولها في كل مكان [إلاّ من رحمه الله تعالى]. ولا يخفى بتخصيص الاستعاذة من هذه الجوارح لما فيها من مناط الشهوة، ومثار الّلذة؛ ولأنها أصل كل شرٍّ وقاعدته ومنبعه؛ فإن اللَّه الحكيم جلّ قدره خلق هذه الآلات والحواس للانتفاع بها في منابع الخير، كالطاعات، وسبل الخيرات، والتأمّل في الآفاق من عجائب [قدرة اللَّه - عز وجل -]، واستعمالها في الوقاية من الشرور والمعاصي، المؤدّية إلى الهلكات في الدنيا والآخرة. 76 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الأَسْقَامِ)) (¬1). ¬

(¬1) أبو داود، أبواب الوتر، باب في الاستعاذة، برقم 1554، والنسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من الجنون، برقم 5493، والطيالسي، ص 268، وأحمد، 20/ 309، رقم 13004، وابن حبان، 3/ 295، برقم 1017، والحاكم، 1/ 712، والضياء في المختارة، 6/ 340، وأبو يعلى، 5/ 277، برقم 2897، والطبراني في الصغير، 1/ 198، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 5/ 276، وفي صحيح الجامع الصغير، برقم 1281.

المفردات:

المفردات: البَرَصُ: داءٌ معروف، نسأَل الله العافيةَ منه، ومن كل داءِ، وهو بياض يقع في الجسد (¬1)، مما يغير الصورة والشكل. الجنون: زوال العقل. الجذام: علة تسقط الشعر وتفتت اللحم وتجري الصديد مما ينفر الناس منه لبشاعته. سيئ الأسقام: الأمراض القبيحة الرديئة (¬2). الشرح: استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأمراض التي تُغيّر في الخِلْقة؛ لشدة فظاعتها، ونفورها عند الناس، فاستعاذ - صلى الله عليه وسلم - منها: قوله: ((من البرص)): وهو مرض يُظهر في الأعضاء بياضاً غريباً رديئاً يُغيّر في الخلق، والصورة، والشكل، فينظر الناظر إليها، فيحصل للمصاب منها الحزن والهمّ والكدر. قوله: ((الجنون)): استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من ((الجنون)): وهو ذهاب العقل، وهو على درجات مختلفة من ذلك، ولا يخفى علينا أهمية الاستعاذة منه كذلك. ¬

(¬1) لسان العرب، 7/ 5، مادة (برص). (¬2) الفتوحات الربانية، 3/ 641.

77 - اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق

قوله: ((الجذام)): وهو مرض خطير، وشديد، ومعدٍ بقدرة اللَّه تعالى، يحصل بسببه سقوط الشعر، وتقطع الأعضاء، واللحم، ويجري الصديد منه، مما ينفّر منه الناس لشدة فظاعته، وسوء منظره، ويوضع صاحبه في معزل عن الخلق، نسأل اللَّه السلامة، والعافية. وقوله: ((ومن سيئ الأسقام)): أي الأمراض الخطيرة الرديئة: كالفالج، والسل، والأمراض المزمنة، مع اختلاف أنواعها، وكأمراض هذا الزمان مثل: السرطان، والإيدز، وغير ذلك، والعياذ باللَّه، ولم يستعذ - صلى الله عليه وسلم - من كل الأمراض؛ لأن منها ما إذا تحامل عليها العبد على نفسه بالصبر خفّت مؤنته كالحمى، والصداع، والرمد، أما تلك الأمراض المزمنة؛ فإن العبد قد لا يؤمن عليه السخط، والوقوع في الأمور غير المحمودة، في أمور دينه، ويفرّ منه الصديق، والحميم، والأنيس، والمداوي، والاستعاذة ((من سيئ الأسقام)): مع دخول الثلاثة ((البرص، والجنون، والجذام)) فيها هو من عطف العام على الخاص لكونها أبغض شيء إلى العرب، لما تفسد هذه الأمراض الخلقة، وتورث الآفات والعاهات، ولذا عدّوا من شروط الرسالة: السلامة ممّا ينفر منه الخَلْق ويشوِّه الخُلُق (¬1). 77 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ مُنْكَرَاتِ الْأَخْلَاقِ، ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 122، 3/ 150.

المفردات:

وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَهْوَاءِ)) (¬1). المفردات: منكرات: المنكر كل فعل تتفق في استقباحه العقول، وتحكم بقبحه الشريعة. الأهواء: هي الزيغ والانهماك في الشبهات والشهوات. الأدواء: جمع داء، وهو السقم والمرض (¬2). الشرح: قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق)): أي يا اللَّه أجرني من الأخلاق السيئة التي ينكرها العباد، كالحقد، والحسد, [والكبر]، والبخل, والجبن, وسوء اللسان من: السب، والشتم، والقذف، والتعدي بالجوارح: بالضرب باليد، أو الرجل؛ فإن الأخلاق المنكرة سببٌ لجلب كل شر، ودفع كل خير. قوله: ((والأعمال)): أي أعوذ باللَّه من الأعمال السيئة: كالقتل، والزنى، وشرب الخمر، والسرقة, والبطش, والتعدي, والظلم بغير حق، وغير ذلك. قوله: ((الأهواء)): جمع هوى، وهو هوى النفس, وميلها إلى ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الدعوات، باب دعاء أم سلمة، برقم 3591، وابن حبان، 3/ 240، برقم 960، والحاكم، 1/ 532، والطبراني في الكبير، 19/ 19/36، والبيهقي في الدعوات الكبير، 1/ 351، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول، 1/ 203، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 184. (¬2) انظر: الفتوحات الربانية، 3/ 640، وفيض القدير، 2/ 100.

78 - اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عني.

المستلذات, والانهماك في الشهوات الباطلة, والاستعاذة كذلك من الزيغ والضلالات الفاسدة في الاعتقادات، والشبهات فإن الشر كل الشر أن يكون الهوى يُصيِّر صاحبه باتباعه كالعابد له, فلا شيء في الشر أزيد منه؛ لأنه يضيع الدنيا والدين والعياذ باللَّه، قال اللَّه - سبحانه وتعالى -: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} (¬1)، وهوى الشبهات أشد وأخطر من هوى الشهوات. قوله: ((والأدواء)): [جمع داء، وهو المرض، والمعنى:] أعوذ بك من منكرات الأسقام، والأمراض الخطيرة, مثل الجذام، والبرص، والسل، والسرطان والأيدز، وغير ذلك، فهذه كلها بوائق الدهر, وإنما استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأربع المنكرات؛ لأن ابن آدم لا ينفك منها في تقلبه في ليله ونهاره (¬2). 78 - ((اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي)) (¬3). المفردات: العفوُّ: أصله المحو والطمس: مأخوذ من عفت الرياح الآثار إذا ¬

(¬1) سورة الجاثية، الآية: 23. (¬2) تحفة الذاكرين، ص 422، وفيض القدير، 2/ 110 بتصرف. (¬3) الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا يوسف بن عيسى، برقم 3513، والنسائي في الكبرى، برقم 7712، وبنحوه ابن ماجه، أبواب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، برقم 3850، ومسند أحمد، 42/ 236، برقم 25384، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 170.

الشرح:

أخفتها ومسحتها (¬1)، وهو من صيغ المبالغة على وزن ((فعول)) وهو اسم من أسماء اللَّه الحسنى يدل على سعة صفحه عن ذنوب عباده مهما كان شأنها إذا تابوا وأنابوا. الكريم: هو البهي الكثير الخير، العظيم النفع (¬2). الشرح: في تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذا الدعاء , دون غيره في هذه الليلة المباركة [ليلة القدر، كما دلّ على ذلك حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا] يدل دلالة واضحة على أهميته، فالعفو هو سؤال اللَّه - عز وجل - التجاوز عن الذنب، وترك العقاب عليه. قال القرطبي رحمه اللَّه تعالى: ((العفو، عفو اللَّه - عز وجل - عن خلقه، وقد يكون بعد العقوبة وقبلها، بخلاف الغفران، فإنه لا يكون معه عقوبة البتة)) (¬3). قوله: ((تحب العفو)) أي أن اللَّه تعالى يحب أسماءه وصفاته، ويحب من عبيده أن يتعبَّدوه بها، والعمل بمقتضاها وبمضامينها [ويحب اللَّه تعالى العفوَ من عباده بعضهم عن بعض فيما يحب اللَّه العفو فيه]. وهذا المطلب في غاية الأهمية، وذلك أن الذنوب إذا تُرِكَ العقاب عليها يأمن العبد من استنزال اللَّه تعالى عليه المكاره والشدائد، حيث إن الذنوب والمعاصي من أعظم الأسباب في إنزال ¬

(¬1) لسان العرب، 4/ 3019، المفردات، ص 339. (¬2) البيان في أقسام القرآن، س 286. (¬3) تفسير القرطبي، 1/ 797.

79 - اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات.

المصائب، وإزالة النعم في الدنيا، أما الآخرة فإن العفو يترتب عليه حسن الجزاء في دخول النعيم المقيم. ولا يخفى في تقديم التوسل باسمين كريمين للَّه تعالى قبل سؤاله له أهميّة جليلة في إعطاء المرجوّ منه تعالى. 79 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ)) (¬1). قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها حق , فادرسوها ثم تعلموها)) (¬2). الشرح: هذا الدعاء المبارك الذي بين يديك يا عبد اللَّه، هو من أجمع الأدعية وأكملها، وأجلّها قدراً وشأناً؛ لتضمّنه سؤال اللَّه تعالى ¬

(¬1) أخرجه أحمد بلفظه، 36/ 423، برقم 22109، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة ص، برقم 3235، بنحوه، وحسنه، وقال: سألت محمد بن إسماعيل - يعني البخاري - فقال: ((هذا حديث حسن صحيح))، وفي آخر الحديث قال - صلى الله عليه وسلم -: ((إنها حقٌّ فادرسوها ثم تعلّموها))، والموطأ، برقم 736، والحاكم، 1/ 521، والبزار، 2/ 121، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 318. (¬2) هذه الزيادة عند أحمد، والترمذي كما في التخريج السابق، وصححها الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2582.

التوفيق إلى القيام بأفضل الأعمال من الصالحات, وسؤاله الوقاية من كل المنكرات والسيئات، والفتن والمحن في الدين والمعاش، والمعاد، فينبغي للعبد الإكثار منه, وفهم مقاصده ومدلولاته، والعمل بمضامينه؛ فإن من [تعلَّمه] وعمل به نال السعادة والهنا في الدنيا، والبرزخ، والآخرة، فمن جلالة هذا الدعاء، وعلو مكانته أن اللَّه تبارك وتعالى أمر حبيبه النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما رآه في المنام، ورؤية الأنبياء حق فقال له: ((يا محمد، إذا صليت فقل: اللَّهم إني أسألك فعل الخيرات، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي، وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةَ قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ))، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا وَتَعَلَّمُوهَا))، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بمدارسته وتعلّم معانيه ومقاصده، فدلّ على خصوصية هذا الدعاء على غيره لهذه الأمور كما ترى. قوله: ((اللَّهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات)) تضمّن هذا السؤال طلب كل خير، وترك كل شرّ؛ فإن الخيرات: تجمع كل ما يحبه اللَّه - جل جلاله -، ويُقرّب إليه من الأعمال والأقوال، ومن الواجبات والمستحبات. والمنكرات: تشمل كل ما يكرهه اللَّه تعالى، ويباعد عنه من الأقوال والأعمال، فمن تحصَّل له هذا المطلوب، حصل له خير الدنيا والآخرة , وهذا من الجوامع التي أوتيها النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه كان يحبّ مثل هذه الأدعية الجامعة، كما في حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا

أنها قالت: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستحب الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك)) (¬1). قوله: ((وحُبَّ المساكين)): حب المساكين يدخل من جملة فعل الخيرات، وإنما أفرده بالذكر، وهو ما يُسمّى بعطف الخاص على العام لشرفه وقوة العناية والاهتمام به، فقد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - اللَّه أن يجعله منهم، ويرزقه الحشر والوفاة معهم ((اللَّهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)) (¬2). وحب المساكين هو أصل الحب في اللَّه تعالى؛ لأنه ليس عندهم من الدنيا ما يوجب محبتهم لأجله، فلا يحبون إلا للَّه - عز وجل -، والحب في اللَّه من أوثق عُرى الإيمان، وهو أفضل الإيمان، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب للَّه، وأبغض للَّه، وأعطى للَّه، ومنع للَّه، فقد استكمل الإيمان)) (¬3)، وتذوق حلاوة الإيمان, قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الوتر، باب الدعاء، برقم 1482، والطيالسي، 2/ 444، وابن أبي شيبة، 6/ 21، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، 1/ 278. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، برقم 2352، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب مجالسة الفقراء، برقم 4126، والحاكم، 4/ 322، والسنن الكبرى للبيهقي، 7، 12، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 308، وفي صحيح سنن ابن ماجه، برقم 3328. (¬3) أبو داود، كتاب السنة، باب الدليل على زيادة الإيمان، برقم 4683، والترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق، باب حدثنا أبو حفص، برقم 2521 بنحوه، ومسند أحمد، 24/ 383، مصنف عبد الرزاق، 3/ 197، وابن أبي شيبة، 11/ 47، وأبو يعلى، 3/ 60، والطبراني في الكبير، 8/ 134، وحسّنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 1/ 657، برقم 380، وصحيح الجامع، برقم 5965.

فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ)) (¬1)، ووصَّى أمَّنا أمَّ المؤمنين الصدِّيقة بنت الصدِّيق عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فقال لها: ((يا عائشة أحبِّي المساكين، وقرّبيهم، فإن اللَّه يقربك يوم القيامة)) (¬2). قوله: ((وأن تغفر لي، وترحمني))، سأل المغفرة والرحمة لأنهما يجمعان خير الآخرة كله، فبالمغفرة يأمن العبد من العذاب، وكل شرٍّ، وأما الرحمة فهي دخول الجنة، وعلوّ درجاتها، فجميع ما في الجنة من النعيم بالمخلوقات فإنه من رحمته تعالى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن اللَّه - عز وجل - يقول للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي)) (¬3) أن تستر عليَّ ذنوبي، وتمحوها، وأن ترحمني بتوالي نعمك عليَّ في الدنيا والآخرة، وأن توفقني إلى التوبة وتقبلها مني. قوله: ((وإذا أردت بعبادك فتنة، فاقبضني إليك غير مفتون)): وإذا أردت أن توقع بقوم فتنة وعقوبة في الدين، أو عقوبة دنيوية من ¬

(¬1) البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، برقم 16، ومسلم، واللفظ له، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، برقم 43. (¬2) الترمذي، كتاب الزهد، باب ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم، برقم 2352، والبيهقي في السنن الكبرى، 7/ 12، وشعب الإيمان له، 3/ 50، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 3252. (¬3) البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:) وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (، برقم 4850، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء، برقم 2846.

البلايا والمحن والعذاب، فتوفّني إليك قبل وقوعها، وافتتان الناس بها؛ فإن المقصود من هذا الدعاء العظيم السلامة من الفتن طول الحياة، والنجاة من الشر كله قبل حلوله، ووقوعه، وبأن يتوفّاه اللَّه تعالى سالماً معافىً قبل حلول الفتن، وهذا لا شك من أهم الأدعية لأنه من أعظم المنى أن يحيى المؤمن معافىً سليماً مدة حياته من الفتن والمحن، ثم يقبضه اللَّه تعالى إليه قبل وقوعها؛ ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه أن ((يتعوّذوا باللَّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن)) (¬1). وفيه جواز الدعاء بالموت خشية الفتنة في الدين، كما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اثْنَتَانِ يَكْرَهُهُمَا ابْنُ آدَمَ: الْمَوْتُ، وَالْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْفِتْنَةِ، وَيَكْرَهُ قِلَّةَ الْمَالِ وَقِلَّةُ الْمَالِ أَقَلُّ لِلْحِسَاب)) (¬2). قوله: ((وأسألك حُبك)) ثم شرع في سؤال أعظم المطالب، وأسمى المراتب، وأغلى الأماني، فقال: ((وأسألك حُبك)): أي أسألك حبّك إيّاي، وهذا أعظم مطلوب أن يكون العبد محبوباً عند اللَّه - عز وجل -، وتضمن سؤاله حبه تعالى، سؤال محبة العبد لربه تعالى، أي وأسألك حبي إياك، فلا يكون شيء أحب إليَّ منك، فدلّ هذا الدعاء العظيم من أجلِّ الأدعية لتضمّنه جوامع الكلم؛ لأنه يجمع كل خير، فإذا كانت محبّة ¬

(¬1) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه، برقم 2867. (¬2) أحمد، 39/ 36، برقم 23625، وأبو نعيم في معرفة الصحابة، 5/ 2525، برقم 6114، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 129، وصحيح الجامع، برقم 139.

اللَّه تعالى ثابتة في قلب العبد نشأت عنها حركات الجوارح، فكانت بحسب ما يحبه اللَّه تعالى ويرتضيه، فأحب ما يحبه اللَّه تعالى من الأعمال، والأقوال كلها ففعل حينئذ الخيرات كلها، وترك المنكرات كلها، وهذا كمال العبودية للَّه تعالى رب العالمين، ومن طلب محبة اللَّه - عز وجل - أعطاه اللَّه تعالى فوق ما يريده من الدنيا تبعاً. فمن رزق هذه المحبة كانت كل أعماله، وأقواله، وأفعاله مسددة على مراد اللَّه تعالى، فيُجعل له الحب والقبول في الأرض، وفي السماء كما في الصحيح (¬1). قوله: ((وحبّ من يحبُّك))، وأسألك حب من يحبك من الأنبياء والعلماء والصالحين. قوله: ((وحّب عمل يقرّبني إلى حبك)) أي وأسألك أن توفّقني إلى أحب الأعمال الصالحة التي تقرّبني إلى حبّك، فمن رزق هذه المحابّ فاز في الدنيا والآخرة. وفي سؤال هذه المحاب وهي داخلة في صدر الدعاء ((فعل الخيرات)) هو من عطف الخاص على العام لجلالة شرف وقوة الاهتمام بهذه المطالب المهمة من المحاب، وأنها هي أصل فعل الخيرات كلها، ومنتهاها وجماعها إليها. ¬

(¬1) البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم 3209، مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب الله عبداً حببه إلى عباده، برقم 2637.

80 - اللهم إني أسألك من الخير كله: عاجله وآجله

ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بفهمها والعمل بمقتضاها، وذلك لعظم شأنها لما حوته من المطالب، والمقاصد الجليلة في الدنيا والآخرة، وأنه ينبغي العناية بفهم الألفاظ، واستحضار المعاني عند السؤال، فإن ذلك أرجى في قبول الدعاء، وأكثر أثراً في النفس، وتذوق حلاوة الإيمان، ولذَّة مناجاة اللَّه تبارك وتعالى. 80 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ: عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْتُ مِنْهُ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا سَأَلَكَ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ [مَا اسْتَعَاذَ بِكَ] [مِنْهُ] عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لِي خَيْرًا)) (¬1). ¬

(¬1) ابن ماجه، أبواب الدعاء، باب الجوامع من الدعاء، برقم 3846، بلفظه، وأحمد، 41/ 474، برقم 25019، ولفظ الزيادة الثانية له، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، 1/ 521، ولفظ الزيادة الأولى له، وابن أبي شيبة، 10/ 263، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 327.

الشرح:

الشرح: هذا الدعاء العظيم الذي بين يديك أطلق عليه سيد الأولين والآخرين، بعد أوصاف كمالٍ وجلالٍ: أنه من ((الكوامل الجوامع)) (¬1) الذي ليس بعده مبنى يفيد في معنى الكمال في سعة المعنى، وشموله، واحتوائه على أجلّ المقاصد، وأعلى المطالب منه، حيث أمر به - صلى الله عليه وسلم - إلى أحب أزواجه، وابنة أحب رجاله، فما من خير يتمناه العبد ما علمه وما لم يعلمه في دينه ودنياه وآخرته إلا وقد دخل فيه، وما من شرٍّ يخافه العبد مما علمه، ومما لم يعلمه في دنياه وآخرته إلا وقد دخل في الاستعاذة منه, وغير ذلك أنه من دعا به فقد كفاه ما دعا به سيد الأولين والآخرين طول حياته في سرِّه وعلانيته، فأظنك يا عبد اللَّه قد علمت لماذا وصفه - صلى الله عليه وسلم - بأنه من الكوامل الجوامع، بعد كل هذه المزايا ينبغي للعبد أن يفرّ إليه في كل أحواله في أدعيته في ليله ونهاره، وفي سفره وحضره، مع قلّة ألفاظه، وجزالة معانيه، وعذوبة كلماته، التي تجعلك يا عبد اللَّه أن تتشبّث به. قوله: ((اللَّهمّ إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمت منه وما لم أعلم)): أي يا اللَّه أعطني من جميع أنواع الخير مطلقاً في ¬

(¬1) أخرجه الطحاوي في شرح مشكل الآثار بلفظ: ((الْجَوَامِعِ الْكَوَامِلِ))، شرح مشكل الآثار، 15/ 290، وقال يوسف بن موسى جمال الدين الملطي في المعتصر من المختصر من مشكل الآثار، 2/ 239: ((وله طرق كثيرة صحيحة)).

الدنيا والآخرة ما علمت منه وما لم أعلم، والتي لا سبيل لاكتسابها بنفسي إلا منك (¬1) , فأنت تعلم أصلح الخير لي في العاجل والآجل. قوله: ((وأعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمت منه، وما لم أعلم)): أي: اللَّهمّ أجرني واعصمني من جميع الشرور العاجلة والآجلة في الدنيا والآخرة، الظاهرة منها والباطنة، والتي أعلم منها، والتي لا أعلمها؛ فإن الشرور إذا تكالبت على العبد أهلكته. قوله: ((اللَّهم إني أسألك من خير ما سألك عبدك ونبيك)): تأكيد لما قبله، وتفضيل لاختيار الرسول على اختيار الداعي، لكمال نصحه، وحرصه على المؤمنين من أنفسهم، وهذا الدعاء الجليل، يتضمن كل ما فات الإنسان من أدعية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي لم تبلغه أو لم يسمع بها، فهو يسأل كل ما سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - بأوجز لفظ، وبأشمل معنى. قوله: ((وأعوذ بك من شر ما استعاذ به عبدُك ونبيُّك)): وهذا كسابقه، فذاك في [سؤال] الخير، وهذا في الاستعاذة من الشر، ويدخل كذلك كل شر ما استعاذ منه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قوله: ((اللَّهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل)): أي وفقني يا اللَّه إلى الأسباب القولية والفعلية الموصلة إلى الجنة، ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 128 بتصرف.

وهذا الدعاء فيه تخصيص الخير الذي سأله من قبل؛ لأن هذا الخير هو أعظمه، وأكمله، وهو الجنة، فلا خير أعظم منها [إلا رضى اللَّه، والنظر إلى وجهه الكريم]. قوله: ((وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل)): أي قني واعصمني من الوقوع في الأسباب الموجبة لدخول النار، سواء كانت [اعتقادية، أو] قولية أو فعلية، وهذا الدعاء فيه تخصيص من الشر المستعاذ منه من قبل، والعياذ باللَّه، فهي أشد الشر وأخطره، فما من شر أشد منها. قوله: ((وأسألك أن تجعل كل قضاء قضيته لي خيراً))، وفي رواية وهي مفسرة للرواية الأخرى: ((وَمَا قَضَيْتَ لِي مِنْ قَضَاءٍ، فَاجْعَلْ عَاقِبَتَهُ لِي رَشَدًا)) (¬1): أي أسألك يا اللَّه أن تكون عواقب كل قضاء تقضيه لي خيراً، سواء كان في السراء أو الضراء، وافق النفس أو خالفها؛ لأن كل الفوز والغنيمة في الرضا بقضائك؛ فإنك لا تقضي للمؤمن إلا خيراً، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عجباً لأمر المؤمن، إنّ أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن ¬

(¬1) الأدب المفرد للبخاري، ص 222، ومسند الطيالسي، 3/ 148، ومسند إسحاق بن راهويه، 2/ 590، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 243، برقم 498، وصحيح الجامع، برقم 4047.

81 - اللهم احفظني بالإسلام قائما، واحفظني بالإسلام قاعدا،

أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)) (¬1). 81 - ((اللَّهُمَّ احْفَظنِي بالإِسْلاَمِ قائِماً، واحْفَظْنِي بالإِسْلاَمِ قاعِداً، واحْفَظنِي بالإِسْلاَمِ راقِداً، ولا تُشْمِتْ بِي عَدُوّاً ولا حاسِداً. اللَّهُمَّ إِنِّي أسْألُكَ مِنْ كُلِّ خَيْر خزائِنُهُ بِيَدِكَ، وأعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرَ خَزَائِنُهُ بِيَدِكَ)) (¬2). المفردات: تشمت: الشماتة هي الفرح ببلية العبد. حاسداً: الحسد تمني زوال نعمة المحسود. الخزائن: جمع خزينة وهي ما يحفظ فيه، ويودع من الذخائر (¬3). الشرح: قوله: ((اللَّهم احفظني بالإسلام قائماً)): أي اجعلني يا الله متمسكاً بالإسلام حال قيامي. قوله: ((واحفظني بالإسلام قاعداً، واحفظني بالإسلام راقداً)) أي في حال كوني قاعداً، وحال كوني راقداً، أي في جميع الأحوال، ¬

(¬1) مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، برقم 2999. (¬2) الحاكم، 1/ 525 وصححه ووافقه الذهبي، وابن حبان، 3/ 214، والدعوات الكبير للبيهقي، ص 165، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، 2/ 398، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 54، برقم 1540. (¬3) المفردات، ص 280.

82 - اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك.

حيث إن هذه الأحوال متقلب الإنسان كلها، ففيه سؤال اللَّه أن يجعله متمسكاً بالإسلام في كل أحواله، والموت عليه، كما قال تعالى: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1). قوله: ((ولا تشمت بي عدواً ولا حاسداً)): أي أسألك يا اللَّه ألا تجعل عدوي يفرح ببلية تنزل عليَّ، ولا حاسداً يتمنى زوال نعمتي، فيسوء عيشي. قوله: ((اللَّهم إني أسألك من كلِّ خير خزائنه بيدك)): فيه سؤال اللَّه تعالى من كل أنواع الخير، وأقسامه المخزونة عنده جل وعلا، ما علمناها، وما جهلناها. قوله: ((وأعوذ بك من كل شر خزائنه بيدك)): أي أستعيذ بك من كل الشرور وأنواعها، مما أعلمها، ومما لا أعلمها. 82 - ((اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ الْيَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، اللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُوَّاتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 102.

المفردات:

أَكْبَرَ هَمِّنَا، وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا)) (¬1). المفردات: اقسم: قسمة ونصيباً. قلَّمَا: تدل على القلة والندرة. تهون: أي سهل وخفف. خشيتك: الخشية الخوف مقترن بالتعظيم. الثأر: الذحل ... والطَّلَبُ بالدَّمِ، وقيل الدم نفسه (¬2). تبلغنا: توصلنا. ما يحول: ما يحجب ويمنع. واجعله الوارث منا: كناية عن الاستمرارية إلى آخر العمر. اليقين: هو استقرار العلم الذي لا يتقلب، ولا يحول، ولا يتغيّر، وهو أعلى درجات الإيمان، فهو إيمان لا شك فيه (¬3). هذه الدعوة جامعةٌ لأبواب الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا علي بن حجر، برقم 3502، والنسائي في الكبرى، 6/ 106، والحاكم، 1/ 528، وابن السني في عمل اليوم والليلة، برقم 445، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 168، وصحيح الجامع، 1/ 400. (¬2) انظر: لسان العرب، 4/ 97. (¬3) الفتوحات الربانية، 3/ 268، العلم الهيب، ص 524.

الشرح:

فقد جمعت من مقاصد ومطالب جليلة فيما يحتاجه العبد في دينه ودنياه، ومعاده؛ لهذا كان عليه الصلاة والسلام نادراً ما يقوم من مجلس إلا وقد رطب لسانه من هذه الكلمات، والدعوات الجميلة، [فقد ذكر الترمذي وغيره عن خالد بن أبي عمران أن ابن عمران قال: ((قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه)) الحديث] (¬1). فيحسن بالعبد أن يتعلم معانيها، ويعمل بمقاصدها ويكثر منها، خاصة في المجالس اتباعاً واقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: قوله: ((اللَّهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك)): اللَّهم اجعل لنا حظَّاً ونصيباً من خوفك المقترن بتعظيمك وإجلالك، ما يكون حاجزاً لنا ومانعاً من الوقوع في المعاصي والذنوب والآثام، وهذا فيه دلالةٌ على أن خشية اللَّه هي أعظم رادع وحاجز للإنسان عن الوقوع في الذنوب؛ ولهذا كان العلماء هم أكثر خشية للَّه جل وعلا لمعرفتهم وعلمهم باللَّه جل وعلا، قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّه مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬2)، فكلما ازدادت معرفة العبد باللَّه بما له من الأسماء الحسنى والصفات العُلا، امتلأ القلب خشية، وأحجمت الأعضاء، والجوارح، جميعها ¬

(¬1) سنن الترمذي، 5/ 528، برقم 3502. (¬2) سورة فاطر، الآية: 28.

عن ارتكاب المعاصي. قوله: ((ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك)): ويسر لي من طاعتك ما يكون سبباً لنيل رضاك، وبلوغ جنتك العظيمة، التي أعددتها لعبادك المتقين (¬1). قوله: ((ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا)): أي اقسم لنا من اليقين الذي هو أعلى الإيمان، وأكمله، كما قال عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - اليقين: هو الإيمان كله (¬2). فهو إيمان لا شك فيه، ولا تردد، فالغائب عنده كالمشاهد من قوته، قال سفيان الثوري: لو أن اليقين وقع في القلب، لطار اشتياقاً إلى الجنة وهروباً من النار (¬3). فنسألك من اليقين ما يكون سبباً لتهوين المصائب والنوازل التي تحل علينا، واليقين كلما قوي في الإنسان كان ذلك فيه أدعى إلى الصبر على البلاء؛ لعلم الموقن أن كل ما أصابه إنما هو من عند ¬

(¬1) الفتوحات الربانية، 3/ 269، فيض القدير، 2/ 132 بتصرف يسير. (¬2) البخاري موقوفاً معلقاً مجزوماً به، كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بني الإسلام على خمس))، المستدرك موقوفاً، 2/ 446، والبيهقي في شعب الإيمان، 7/ 123 موقوفاً ومرفوعاً، وأشار إلى ضعف المرفوع، ومثله في الآداب برقم 757، والطبراني في الكبير، 9/ 104، برقم 8540، والترمذي الحكيم في نوادر الأصول، 1/ 70، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، 1/ 170: ((صحيح موقوف ... رواه الطبراني في الكبير ورواته رواة الصحيح، وهو موقوف وقد رفعه بعضهم)). (¬3) فتح الباري، 1/ 63.

اللَّه (¬1) الحكيم العليم، فيرضى ويسلم ويكون برداً وسلاماً على قلبه. قوله: ((ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا)): أي أدم عليَّ السمع والبصر وسائر قواي أتمتع بها في مدة حياتي؛ لأنها الدلائل الموصلة إلى معرفتك وتوحيدك، من البراهين المأخوذة: إما من الآيات المنزلة وطريق ذلك السمع، أو من الآيات في الآفاق والأنفس، وطريق ذلك البصر (¬2). قوله: ((وأجعله الوارث منا)): اجعل يا اللَّه تمتعنا بالحواس والقوى صحيحة وسليمة إلى أن نموت، وقوله ((وقواتنا ما أحييتنا)): أي متعنا بسائر قوانا من الحواس الظاهرة والباطنة، وكل أعضائنا البدنية، سأل التمتع بكامل قواه طول حياته إلى موته؛ لأن الضعف وسقوط القوة في الكبر يضرُّ الدين والدنيا مما لا يخفى (¬3). قوله: ((الوارث منا)): يحتمل معنيين: الأول: الباقي بعدنا؛ لأن وارث المرء إلا الدين يبقى بعده، ومعنى بقائه دوامه إلى يوم الحاجة إليه، والثاني: الذي يرث ذكرنا فنذكر به بعد انقضاء الآجال وانقطاع الأعمال، وهذا المعنى سؤال خليل الرحمن: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (¬4). ¬

(¬1) فقه الأدعية، ص 316. (¬2) الفتوحات الربانية، 3/ 269 - 270. (¬3) العلم الهيب، ص 525. (¬4) العلم الهيب، ص 526، الفتوحات الربانية، 3/ 270.

قوله: ((واجعل ثأرنا على من ظلمنا)): أي وفقنا للأخذ بثأرنا ممن ظلمنا، دون أن نتعدَّى فنأخذ بالثأر من غير الظالم. قوله: ((وانصرنا على من عادانا)): تعميم بعد تخصيص أي اكتب لنا الظفر والفوز على من تعدَّى علينا بغير حق. قوله: ((ولا تجعل مصيبتنا في ديننا)): أي لا تُصيبنا بما ينقص ديننا ويذُهبه من اعتقاد سيئ، أو تقصير في الطاعات، أو فعل المحرمات، أو كتسليط الكفار، والمنافقين، والظلمة على أهل الدين والإيمان؛ لأن مصيبة الدين هي أعظم المصائب، التي لا تنجبر ولا يُعوِّض عنها، خلاف مصائب الدنيا. قوله: ((ولا تجعل الدنيا أكبر همنا)): أي لا تجعل أكبر قصدنا وتعلقنا، وحزننا لأجل الدنيا؛ فإن من كان أكبر همه الدنيا كان في معزل عن الآخرة، بل اجعله مصروفاً في عمل الآخرة، وفي هذا دليل على أن القليل من الهمّ لابُدَّ منه في الدنيا ويُرخص فيه (¬1). قوله: ((ومبلغ علمنا)): أي لا تجعل أكثر علمنا وتفكيرنا في أحوال الدنيا كالكافرين، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (¬2)}. قوله: ((ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا)): أي لا تجعلنا مغلوبين ¬

(¬1) الفتوحات الربانية، 3/ 270. (¬2) سورة الروم، الآية: 7.

83 - اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن

من الكفار، والظلمة، والفجرة، بتوليتهم علينا، فيكونوا سبباً لتعذيبنا في ديننا ودنيانا، ويجوز حمله على ملائكة العذاب في القبر، أو في النار، ولا مانع من إرادة الجميع، واللَّه تعالى أعلم (¬1). ويحسن بالداعي أن يستحضر كل هذه المعاني حال دعائه. ولقد بيَّن اللَّه تعالى في عدة آيات سؤال الأنبياء والمؤمنين السلامة من الظالمين والكافرين كما ذكر اللَّه عن موسى - عليه السلام -: {رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬2)، وإبراهيم والذين معه: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3)، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: {رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (¬4). 83 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وَأَعوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ، وَأعُوذُ بِكَ أنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ العُمُرِ، وَأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ)) (¬5). الشرح: قوله: ((من البخل)): الذي هو ضد الكرم؛ لأنه يؤدي إلى عدم ¬

(¬1) الفتوحات الربانية، 3/ 270. (¬2) سورة القصص، الآية: 21. (¬3) سورة الممتحنة، الآية: 5. (¬4) سورة المؤمنون، الآية: 94. (¬5) البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من البخل، برقم 6370، وانظر في صحيح البخاري: الأرقام: 2822، و6365، و6374، و6390.

الوفاء بكثير من الواجبات المالية، كالزكاة، والإنفاق على من يلزم عليه الإنفاق، كالوالدين، والزوجة، والذرية، وغير ذلك. قوله: ((من الجبن))، وهو المهابة للأشياء، والتأخّر عن فعلها، وهو ضد الشجاعة؛ لأنه يؤدّي إلى عدم الوفاء بكثير من الواجبات كفرض الجهاد في سبيل اللَّه تعالى، والصَّدْع بالحق، وإنكار المنكر، وكذلك عدم الجرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك، وبشجاعة النفس وقوتها تتم العبادات على أكمل وجه، ومن ذلك نصرة المظلوم، والجهاد في سبيل اللَّه. قوله: ((أن أُردَّ إلى أرذل العمر)): أن يُردَّ إلى أرذل العمر، وهو البلوغ إلى حدٍّ في حالة الكبر، وهو ما يسمى بالخرف، يعود معه كالطفل في سخف العقل، وقلّة الفهم، وضعف القوة البدنية والعقلية، فيصبح عالة على غيره. قوله: ((من فتنة الدنيا)): أي الافتتان بالدنيا في شهواتها وغرورها، فإنها تنسي الآخرة، وتدخل في هذه الاستعاذة المهمّة كل الفتن حال الحياة في هذه الدار. قوله: ((من عذاب القبر)) مما يعرض له عند مساءلة الملكين، وما ينشأ عنهما من فتنة عظيمة، ومشاهدة أعماله السيئة في أقبح صورة كما ثبت، وضيقه، وضمّته، فعذاب القبر ينشأ بعد فتنة الملكين، فتضمّن السؤال سؤال اللَّه تعالى العصمة منه بالتوفيق إلى صالح

84 - اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري.

الأعمال المانعة من عذابه. 84 - ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي، وَجَهْلِي، وَإِسْرَافِي فِي أَمْرِي، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي هَزْلِي وَجِدِّي، وَخَطَئي، وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي)) (¬1). المفردات: الإسراف: مجاوزة الحدِّ في كل شيء. الشرح: هذا الدعاء من أجمع الأدعية في الاستغفار؛ لأنه دعاء بألفاظ التعميم، والشمول، مع البسط والتفصيل بذكر كل معنى بصريح لفظه، دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه؛ ليأتي الاستغفار على ما علمه العبد من ذنوبه، وما لم يعلمه، ومعلوم أنه لو قيل: اغفرلي كلَّ ما صنعت؛ لكان أوجز، ولكن ألفاظ الحديث في مقام الدعاء والتضرّع، وإظهار العبودية والافتقار لربّ العالمين، واستحضار الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلاً أحسن وأبلغ من الإيجاز والاختصار (¬2)؛ ولهذا يحسن العناية والتدبير واستحضار المعاني عند ¬

(¬1) متفق عليه: البخاري، كتاب الدعوات، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهمّ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت))، برقم 6398، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من شر ما عمل، وشر ما لم يعمل، برقم 2719. (¬2) جلاء الأفهام، ص 230، ومدارج السالكين، 1/ 273.

في باب الدعاء ينبغي البسط لأربعة أسباب

الدعاء بها؛ لأن ذلك يورث أثراً عظيماً طيباً في النفس، ويورث الخشوع، والخضوع، والتذلّل بين يدي اللَّه تعالى، وهذا من كمال العبودية لله رب العالمين، يقول العلامة ابن عثيمين رحمه اللَّه: ((في باب الدعاء ينبغي البسط لأربعة أسباب: السبب الأول: أن يستحضر الإنسان جميع ما يدعو به بأنواعه. السبب الثاني: أن الدعاء مخاطبة للَّه - عز وجل -، وكلَّما بسط الإنسان مع اللَّه تعالى في المخاطبة، كان ذلك أشوقَ وأحبَّ إليه ممّا دعا على سبيل الاختصار. السبب الثالث: أنه كلما ازداد دعاء، ازداد قربه إلى اللَّه - عز وجل -. السبب الرابع: أنه كلما ازداد دعاء، كان فيه إظهار لافتقار الإنسان إلى ربه - عز وجل - ... )) (¬1). والمعنى: يا اللَّه اغفر لي ذنوبي كلَّها: صغيرها وكبيرها، ما صدر عنِّي من جهل نفسي، ومجاوزتي للحدِّ في كلِّ شيء، اللَّهم اغفري ذنوبي كلَّها مما علمتها، ومما لم أعلمها، في حال جدّي، وهزلي، وفي حال خطئي وتعمّدي، فأنا متّصفٌ بكلّ هذه الذنوب ومُقِرٌّ بها. قوله: ((وكل ذلك عندي)): إقرار العبد لربه بكثرة الذنوب، ((ومتحقّق لها، فهو كالتذييل للسابق: أي أنا متصف بهذه الأشياء ¬

(¬1) تفسير سورة آل عمران، 1/ 116.

85 - اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت

فاغفرها)) (¬1)، فدلّ على أن إقرار العبد على نفسه بالتقصير من أسباب قبول توبته ومغفرته لذنوبه، واللَّه أعلم. 85 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ، وَارْحَمْنِي إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) (¬2). المفردات: ظلمت نفسي: الظلم: وضع الشيء في غير محلّه، وهو على مراتب: أعلاها الشرك، ويندرج تحته الذنوب الكبيرة والصغيرة (¬3). فاغفر لي: الغفر: الستر والتغطية، مأخوذة من المغفر، وهو الذي يوضع على رأس المحارب لحمايته من الضرب، فهو وقاية وحماية. الغفور: اسم من أسماء اللَّه الحسنى العظيمة، وهو من أبنية المبالغة؛ لأنه يفعل ذلك بعباده مرة بعد مرة إلى ما لا يُحصى، والمعنى: الذي يكثر منه ستر الذنوب لعباده المؤمنين، والتجاوز عنها. ¬

(¬1) الفتوحات الربانية، 3/ 630. (¬2) متفق عليه: البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، برقم 834، مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، برقم 2705. (¬3) المفردات، ص 537.

الشرح:

الرحيم: اسم من [أسماء اللَّه الحسنى] الكريمة الدالة على كثرة الرحمة، والتعطف على عباده المؤمنين، وفي تعليم النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر هذا الدعاء إشارة إلى إيثار أمر الآخرة على أمر الدنيا الزائلة، وخصّ الدعاء بالصلاة؛ لأنها بالإجابة أحقّ، فهي محلّ المناجاة بين العبد وخالقه، ولا يخفى اختيار الحبيب للحبيب في مناجاة السميع القريب له دلالة على عظم شأن هذا الدعاء، فيجدر بنا العناية به استناناً واقتداءً بالحبيب - صلى الله عليه وسلم -. الشرح: هذا الحديث عظيم القدر، من تدبَّره وتمعَّن فيه ظهر له من جلالته؛ لأن فيه الاعتراف بغاية التقصير، والإقرار بنهاية الكمال لله تعالى، وطلب العفو، والتجاوز الموصل إلى حصول النعيم الأبدي. قوله: ((اللَّهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً)): هذا اعتراف من العبد إلى ربه بالتقصير بملابسته ما يستوجب العقوبة أو النقص، وإن الإنسان لا يعرى عن التقصير ولو كان صدّيقاً. قوله: ((ظلماً كثيراً))، أكده بالمصدر، ووصفه زيادة في التذلّل والخضوع للمولى - سبحانه وتعالى -)) (¬1). وهذا تعليم للداعي أنه ينبغي حالة دعائه أن يظهر غاية التذلّل والخضوع لربه؛ فإن ذلك أقرب للإجابة، وأكثر ثواباً وجزاء. ¬

(¬1) شرح الأدب المفرد، 2/ 385.

((وفيه دليل على أن الواجب على العبد أن يكون على حذر من ربه تعالى في كل أحواله، وإن كان من أهل الاجتهاد في العبادة في أقصى غاية، إذ كان الصدِّيق مع موضعه في الدِّين لم يسلم مما يحتاج إلى الاستغفار إلى ربه تعالى منه)) (¬1)، فمن باب أولى من كان دونه. قوله: ((ولا يغفر الذنوب إلا أنت)): أي لا أحد يقدر على ستر الذنوب، والتجاوز عنها إلا أنت وحدك، ففيه الإقرار بالوحدانية للَّه تعالى، واستجلاب المغفرة منه. قوله: ((فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني)): دلّ تنكير ((مغفرة)) على أن المطلوب غفران عظيم، لا يُدرك كنهه، ووصفه بكونه من عنده - سبحانه وتعالى - بيان لذلك العظم؛ لأن الذي يكون من عند اللَّه تعالى لا يحيط به وصف، وفيه إشارة إلى طلب مغفرة متفضّل بها لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره. والمعنى: هبْ لي مغفرة تفضلاً، وإن لم أكن لها أهلاً بعملي؛ لهذا أضافها إليه ((من عندك)) فإنها تكون أعظم وأبلغ، فإن عظم العطاء من عظم المُعطي (¬2). وقدّم ((ظلمت نفسي)): وهو الاعتراف بالتقصير والذنب على سؤال المغفرة، فاغفر لي أدباً جميلاً، كما قال ذلك أبوانا: آدم وحواء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ ¬

(¬1) الفتوحات الربانية، 1/ 609. (¬2) الفتح، 2/ 413، والفتوحات الربانية، 1/ 610.

تضمن هذا الدعاء الجليل توسلين عظيمين:

الْخَاسِرِينَ} (¬1)، ولا يخفى حسن ترتيب هذا الحديث، حيث قدّم الاعتراف بالذنب، ثم الوحدانية، ثم سؤال المغفرة؛ فإن الاعتراف بذلك أقرب إلى العفو والثناء على السيد بما هو أهله، وأرجى لقبول سؤاله. قوله: ((إنك أنت الغفور الرحيم)): إنك أنت مشعر بالتعليل، أي اغفر لي، وارحمني لأن من دعاك يا ربنا، ولجأ إليك، وسألك المغفرة والرحمة، تغفر له وترحمه؛ لأنك كثير المغفرة، وكثير الرحمة بنا يا ربنا، فتضمّن هذا الدعاء الجليل توسلين عظيمين: 1 - توسل بظلم النفس بتقصيرها وضعفها، وهو من التوسّلات الجليلة التي يحبها اللَّه - عز وجل - كما سبق. 2 - توسّل بأسماء اللَّه تعالى الحسنى، ولا يخفى بحسن الختام مقابلةً في السؤال والطلب فـ (اغفر لي) مناسب (للغفور)، و (الرحيم) مناسب لـ (وارحمني)، وهو مناسب ما أمر اللَّه تعالى به في الدعاء بأسمائه الحسنى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬2). قال الكرماني: هذا الدعاء من الجوامع؛ لأن فيه الاعتراف بغاية التقصير، وطلب غاية الإنعام، فالمغفرة بستر الذنوب ومحوها، والرحمة إيصال الخيرات [ولا شك، ولا ريب أن رحمة اللَّه صفة ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 23. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 180.

86 - اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت

من صفاته العظيمة، تليق بجلاله، ومن مقتضاها وآثارها إيصال الخيرات، ودفع النقمات]، ففي الأول طلب الزحزحة عن النار، وفي الثاني طلب إدخال الجنة، وهذا هو الفوز العظيم، وهذا الدعاء الجليل قد جاء بمثيله في تضمّنه لهذه المطالب والمقاصد، من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ أَوْفَقَ الدُّعَاءِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي وَاعْتَرَفْتُ بِذَنْبِي، يَا رَبِّ فَاغْفِرْ لِي ذَنْبِي، إِنَّكَ أَنْتَ رَبِّي، إِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذَّنْبَ إِلَّا أَنْتَ)) (¬1). وقوله: (أوفق) أي: ((أكثر موافقته للداعي)) (¬2)، ولا يخفى في قوله: ((أوفق)) على وزن أفعل يدل على تفضيله، وأهميته في باب الأدعية. 86 - ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ. اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ)) (¬3). ¬

(¬1) أحمد، 16/ 401، برقم 10681، وبنحوه الطبراني في المعجم الكبير، 3/ 295، برقم 3449، وفي مسند الشاميين له أيضاً، 2/ 445، والبخاري في الأدب المفرد، ص 232، وقال السيوطي في الجامع الكبير، برقم 9584: ((رواه محمد نصر المروزي))، وقال الشيخ الأرناؤوط في تعليقه على المسند، 16/ 401: ((إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصحيح غير عمرو بن عاصم)). (¬2) فيض القدير، 3/ 79. (¬3) مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، برقم 2719، وبنحوه برقم: 769، والبخاري، أبواب التهجد، باب التهجد بالليل، برقم 1120، وانظر الأرقام: 6317، و7385، و7442، و7499.

المفردات:

المفردات: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لك أسلمت وبك آمنت)): أي لك انقدت، واستسلمت، لحكمك وأمرك، ومن ذلك نطقي بالشهادتين، وبك صدقت بذاتك، وما يليق بها من كمال الصفات، وفيه إشارة إلى الفرق بين الإيمان والإسلام، وفي تقديم الجار والمجرور ((لك)) دلالة على الاختصاص، أي أخصّك بالانقياد والاستسلام دون أحد غيرك. ((وعليك توكلت)): فوّضت أموري كلّها إليك. ((وإليك أنبت)): أي أقبلت بعباداتي وطاعتي لك، وأعرضت عما سواك. ((وبك خاصمت)): أي بك أحاج وأدافع، وأقاتل أعداءك بالحجة والبيان والسيف والسنان. ((اللَّهم إني أعوذ بعزتك)): استعاذ بعزته، وهي صفة من صفات اللَّه تعالى الجليلة، وهي مشتقة من اسمه تعالى العزيز، والعزّة يُراد بها ثلاثة معانٍ: عزة القوة والقدرة، وعزة الامتناع، وعزة القهر والغلبة، والرب تبارك وتعالى له العزة التامّة بالاعتبارات الثلاثة)) (¬1). ¬

(¬1) مدارج السالكين، 3/ 268 - 269، والنونية، ص 142.

الشرح:

الشرح: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - في دعائه، جملة من أجلّ العبادات، والمقامات العبودية للَّه تعالى بين يدي دعائه توسلاً عظيماً، من تخصيص العبودية له تعالى من أعمال القلوب، والأركان، فبدأ بالإقرار الكامل له تعالى بالإسلام، والإيمان، والتوكل، والرجوع إليه في كل مهامه وشؤونه الدنيوية، والدينية، والدفاع عنه والمجاهدة لدينه بالحجة والقوة، مقدمة قبل سؤاله؛ ليكون أرجى في القبول، فالوسيلة مقدمة على الوصيلة. قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم إني أعوذ بعزتك)): استعاذ بصفة من صفاته العظيمة وهي العزة الكاملة، فمن أراد العزة فليطلبها منه تعالى، قال - عز وجل -: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬1). ولا تنال العزة إلا بالإيمان بالله تعالى، والخضوع له والتوكل عليه في كل الأمور، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). وقرن هذه الاستعاذة بـ (لا إله إلا أنت) أي لا معبود بحق إلا أنت مبالغةً في تحقيق العبودية، وطمعاً في الاستجابة: ((أن تضلّني)) أي أن تغويني وتضلّني بعد الهداية، ولا يخفى في تقديم هذه التوسلات من ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 10. (¬2) سورة المنافقون، الآية: 8. .

الأعمال الصالحات، وإثبات الوحدانية لربّ الأرض والسموات، والتوسّل بكمال الصفات في الاستعاذة من الضلالات [أن ذلك] يدلّ على أهمية هذا المطلب، وأنه مطلب خطير، قال تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (¬1)، وقال عز شأنه: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (¬2)، فدلّ على أن الهداية والضلال بيد الله تعالى رب العالمين. فينبغي للعبد أن يسأل الله تعالى دائماً أن يعصمه من الضلالة، وأن يُديم عليه الهداية إلى أن يلقاه يوم القيامة. وفيه دليل على جواز الاستعاذة بصفة من صفات الله تعالى الجليلة. قوله: ((أنت الحيّ الذي لا يموت والجن والإنس يموتون)) تأكيد لانفراد الله تعالى بالحياة: أي أنت الحيّ لك الحياة الكاملة التي لا يعتريها أي نقص المتصفة بكل كمال، المستلزمة لكل صفات الذات، فحياته تعالى لا يعتريها نوم، ولا نعاس، ولا تبيد، ولا تفنى، والخلق كلهم، ميتون ومنتهون، قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ} (¬3)، وقال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه} (¬4). ففي هذا الدعاء المبارك جمع في بداياته، وطياته ونهاياته، توسلين من التوسّلات العظيمة إلى الله تعالى: التوسّل بالعمل ¬

(¬1) سورة الزمر، الآية: 36. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 39. (¬3) سورة الفرقان، الآية: 58. (¬4) سورة القصص، الآية: 88.

87 - اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك

الصالح [كقوله: ((اللَّهمّ لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت ... ))]، والتوسل بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا [كقوله: ((أنت الحي الذي لا يموت ... ))]؛ لبيان أهمية الاستعاذة من الضلالة، فإنها تورد الموارد المهلكة، وتضيع الدين والدنيا والآخرة وفي العصمة منها، النجاة من كل مرهوب، وحصول كل مرغوب. 87 - ((اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُكَ مُوجِباتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزائِمَ مَغْفِرَتِكَ، والسَّلامَةَ مِنْ كُلِّ إثمٍ، والغَنِيمَةَ مِنْ كُلِّ بِرٍّ، والفَوْزَ بالجَنَّةِ، والنَّجاةَ مِنَ النَّارِ)) (¬1). المفردات: موجبات: بكسر الجيم، جمع موجبة، وهي ما أوجبت لقائلها الرحمة من قربه. عزائم: جمع عزيمة، والعزيمة عقد القلب على إمضاء الأمر (¬2). الشرح: هذا الدعاء من جوامع الكلم التي أوتيها سيد الأولين والآخرين - صلى الله عليه وسلم -، فإنه سأل أولاً أن يرزقه ما يوجب له رحمته - عز وجل -، من الأقوال، والأفعال، والخصال، فقد دخل بذلك تحت رحمته التي وسعت كل شيء، واندرج في سلك أهلها، وفي عداد مستحقها، ثم سأل اللَّه ¬

(¬1) الحاكم، 1/ 525، وصححه، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الدعوات، برقم 206، وانظر: الأذكار للنووي، ص340، فقد حسنه المحقق عبد القادر الأرنؤوط. (¬2) تحفة الذاكرين، ص 450، والفتوحات الربانية، 2/ 428.

88 - اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات.

تعالى أن يهب له عزماً على الخير يكون سبباً لمغفرته من الأعمال, والأقوال كذلك, ولما كان الإنسان بعد مغفرة ذنوبه لا يأمن من الوقوع في معاصٍ أُخَر، وذنوبٍ مستأنفة، سأل ربه - عز وجل -، أن يرزقه السلامة والحفظ, من كل الذنوب والآثام، كائناَ ما كان، كما دلّ عليه ((كل)) التي تفيد العموم والشمول في كل فرد من أفرادها، ثم سأل ما يكمل له في كمال العبودية من الأعمال الصالحات، ومن ذلك التوفيق إلى كل نوع من أنواع البر، وهو الطاعة، بشتى أنواعها (¬1)، وكيفياتها، وفي التعبير ((بالغنيمة))، وهو الظفر، ومنه الغنائم في الحرب، وهي ما يصيب المسلمون من أموال أهل الحرب دلالة على شدة العناية، والرجاء في الحصول على هذه [الغنيمة] الجليلة, ثم ختم السؤال والطلب بأغلى مراد مطلوب في الآخرة، وهي الجنة, وسأل السلامة والنجاة من أشد مرهوب في دار الآخرة, وهي النار، والعياذ بالله. 88 - ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)) (¬2). هذه الدعوة المباركة قد جاءت في كتاب ربنا تبارك وتعالى , في ¬

(¬1) تحفة الذاكرين ص 450، والفتوحات الربانية: 2/ 428 بتصرف يسير. (¬2) لحديث عبادة - رضي الله عنه -، قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب الله له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة))، الطبراني في مسند الشاميين، 3/ 234، برقم 2155، وقال الزين العراقي في تخريج أحاديث الإحياء،3/ 72: ((ولأبي الشيخ ابن حبان في الثواب، والمستغفري في الدعوات من حديث أنس))، وجوَّد إسناده الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 352، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 6026، 3/ 345.

89 - اللهم اغفر لي ذنبي، ووسع لي في داري، وبارك لي في رزقي

دعاء إبراهيم - عليه السلام -: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} (¬1). وفي دعوة نوح - عليه السلام -: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬2). وكذلك في أمر الرب - عز وجل - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬3). [فدلَّ ذلك] على أهمية هذه الدعوة المباركة, وإنها من سنن الأنبياء والمرسلين؛ ولهذا أمر اللَّه تعالى نبيه بها، فجاءت البشارة من سيد الأولين والآخرين على فضلها، كما في الحديث: ((من استغفر للمؤمنين والمؤمنات كتب اللَّه له بكل مؤمن ومؤمنة حسنة)) (¬4). فانظر رعاك اللَّه تعالى إلى عظم هذا الأجر الجزيل، من رب كريم، بالدعاء بكلمات يسيرة تنال هذا الثواب الكبير، فيشمل هذا الاستغفار كل مؤمن ومؤمنة من لدن آدم إلى قيام الساعة، ولك بكل واحد منهم حسنة , والحسنة بعشرة أمثالها: ((هذا أقل ما يكون من التضعيف))، واللَّه الهادي إلى سواء السبيل. 89 - ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَوَسِّعْ لِي فِي دَارِي، وَبَارِكْ لِي فِي رِزْقِي)) (¬5). ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 41. (¬2) سورة نوح , آية: 28. (¬3) سورة محمد , آية: 19. (¬4) انظر تخريجه للمؤلف حفظه الله، كما تقدم في تخريج الحديث رقم 88. (¬5) أخرجه أحمد، 27/ 144، برقم 16599، والترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا علي بن حجر، برقم 3500، والنسائي في السنن الكبرى، 6/ 24، برقم 9828، والطبراني في المعجم الأوسط، 7/ 73، برقم 6891، والصغير، 2/ 196، برقم 1019، وابن أبي شيبة، 10/ 281 وأبو يعلى، 13/ 205، برقم 7273، وحسنه الألباني في ضعيف الترمذي، برقم 3794، وصحيح الجامع الصغير، 1/ 399.

الشرح:

الشرح: قوله: ((اللهم)): يا اللَّه بأسمائك الحسنى، وصفاتك العُلا، أسألك أن تستر عليَّ كل ذنوبي، فتمحها، فإن الذنوب إذا تراكمت قَسَّت القلب، وفَسَّدت الحال, والمآل، وأوردت دار البوار. قوله: ((ووسِّع لي في داري)): ووسع محل سكني في الدنيا، لأسعد بالسكن الواسع الهنيء؛ لأن ضيق المرافق والدار يُضيِّق الصدر، ويشتت الأمتعة, ويجلب الهم، ويشغل البال، وقيل المراد القبر: إذ هو الدار الحقيقية، أي فوسع قبري، واجعله روضة من رياض الجنة [ولا مانع من أن ينوي الداعي بذلك هذين الأمرين حتى يحصل على السعادتين]. قوله: ((وبارك لي في رزقي)): أي اجعل رزقي حلالاً طيباً، محفوظاً بالنماء، والزيادة في الخير, ووفقني بالرضا بما قسمته لي, وعدم التفات إلى غيره (¬1). قوله: ((فهل تراهنَّ تركن شيئاً)): هذا الاستفهام منه - صلى الله عليه وسلم - لبيان أنهن لم يتركن شيئاً من خيري الدنيا والآخرة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها النبي - صلى الله عليه وسلم - , وذلك أن المغفرة هي تنقية العبد من آثار الذنوب والآثام، وهذا يوصل إلى دخول الجنان, وبسَعَة الدار, ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 110.

90 - اللهم إني أسألك من فضلك ورحمتك، فإنه لا يملكها إلا أنت.

وبركة الرزق الحلال في الحال, يحيى الحياة الطيبة الهنيئة في هذه الدار، وهذه كمال السعادة المرجوة في الدارين. 90 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك مِنْ فَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْلِكُهَا إِلاَّ أَنْتَ)) (¬1). المفردات: ((فضلك)): الفضل هو الزيادة عن الاقتصار (¬2). والإفضال: الإحسان, والفواضل: الأيادي الجميلة (¬3). الشرح: سأل المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من فضل اللَّه كما أمر - سبحانه وتعالى - بذلك: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} (¬4) أي اسألوا اللَّه تعالى من مزيد إحسانه وإنعامه من أمور الدنيا والآخرة كما قال جل وعلا: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء} (¬5)، حيث إن الفضل بيده جل وعلا يتصرّف فيه كيف شاء، ويعطيه من شاء, بكمال الحكمة والقدرة, فلا يُسأل إلا منه. قوله: ((اللَّهم إنّي أسألك من فضلك ورحمتك)): أي أسألك يا ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير، 10/ 178، وابن أبي شيبة، 7/ 94، ودلائل النبوة للبيهقي، 6/ 128، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 159: ((رجاله رجال الصحيح غير محمد بن زياد وهو ثقة))، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، 4/ 57، صحيح الجامع، 1/ 114. (¬2) المفردات ص: 381. (¬3) الصحاح، 5/ 1791، واللسان، 5/ 3428. (¬4) سورة النساء, ص: 32. (¬5) سورة آل عمران, آية: 73.

اللَّه الزيادة من خيرك وعطائك وآلائك التي لا غنى لي عنها, وأسألك رحمتك التي وسعت كل شيء, أن تسبغ عليَّ من رحماتك، وتعطفك الدائم عليَّ؛ لأنه يا ربي لا غنى لي عن فضائلك ورحماتك طرفة عين. قوله: ((فإنه لا يملكها إلا أنت)): ((أي لا يملك الفضل والرحمة غيرك، فإنك مُقدِّرها ومُرسلها، فلا يطلبان إلا منك)) (¬1)؛ لأنه - عز وجل - هو مالك كل شيء, وله كل شيء، ومقدر لكل شيء، فلا يسأل إلا منه جل وعلا. قوله: ((فأُهديت له شاة مصلية)) يدلّ على سرعة استجابة رب العالمين لنبيه - صلى الله عليه وسلم - يدل على ذلك بـ ((الفاء)) التي تدلّ على التعقيب والترتيب دون مهلة, فأهديت له هذه الشاة مباشرة ترتيباً وتعقيباً على دعائه, وهكذا كل من دعا اللَّه رب العالمين، بحسن ظن ويقين، وصدق في التوجه، أعطاه اللَّه ما سأله في العاجل أو الآجل على مقتضى حكمته, كما بيَّن اللَّه تعالى عن موسى عليه الصلاة والسلام حينما قال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} (¬2)، فكانت الاستجابة: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (¬3)، ورزقه اللَّه في العاجل والآجل، كما قصّ لنا ربنا في كتابه الكريم. ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 144. (¬2) سورة القصص، الآية: 24. . (¬3) سورة القصص، الآية: 25.

91 - اللهم إني أعوذ بك من الهدم، وأعوذ بك من التردي

91 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَدْمِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدِّي، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْغَرَقِ، وَالْحَرَقِ، وَالْهَرَمِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِيَ الشَّيْطَانُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا)) (¬1). المفردات: ((الهدم)): بسكون الدال أي سقوط البناء, ووقوعه على الشيء. ((التردي)): السقوط من عالٍ كالوقوع من شاهق جبل أو في بئر. ((الغرق)): بكسر الراء الموت غرقاً بالماء. ((الغم)): ألم يصيب القلب في الحاضر, يجهد القلب والعقل والجسد. ((الحرق)): الالتهاب بالنار. ((مدبراً)): المولي دُبره: المنهزم في الجهاد. الشرح: استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمور مع ما فيها من نيل الشهادة، كما دلَّت على ذلك الأحاديث؛ لأنها مجهدة, مغلقة, لا يثبت المرء عندها, ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، واللفظ له، كتاب الوتر، باب في الاستعاذة، برقم 1552، والنسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من التردي والهدم، برقم 5546، والنسائي في الكبرى، 4/ 467، برقم 7918، وأحمد، 14/ 303، برقم 8667، والطبراني في الكبير، 19/ 170، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 1123، وصحيح سنن أبي داود، 5/ 275.

فربما استزله الشيطان فأخل بدينه, ولأنه يُعد فجأة ومؤاخذة أسف؛ ولأنها في الظاهر مصائب ومحن وبلاء كالأمراض السابقة المستعاذ منها, والفرق بين الشهادة الحقيقية وبين هذه الشهادة أن الشهادة الحقيقية أُمنية كل مؤمن ومطلوبه, وقد يجب عليه السعي لها في بعض حالات القتال، بخلاف هذه الأمور يجب التحرز عنها والسعي لعدم الوقوع فيها؛ لأن الموت حينها يكون بغتة, دون توبة, ورد للمظالم, وإقرار للوصية, وعدم النطق بالشهادة لما يفجؤه من فزع وهلع، وما يدهمه من الخوف. قوله: ((وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مُدبراً)): أي أعوذ بك أن أموت في حال هروبي من قتال أعدائك فاراً من الزحف أثناء الجهاد، وهو من الكبائر الموبقات كما جاء في الصحيح, وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مرتداً، أو مدبراً عن ذكرك، ومقبلاً على غيرك (¬1). قوله: ((وأعوذ بك أن أموت لديغاً)): أي أعوذ بك أن أموت عقب لدغ ذوات السم, كالحية والعقرب وغيرهما, فيكون من قبيل موت الفجأة، فلا يستطيع إعداد الوصية والتوبة, وقد يتأخر موته فينشغل بالألم الشديد من شدة اللدغ, ولا يخفى [ما] في أهمية هذه الاستعاذات في حياة المؤمن، وهو يشاهد ويسمع من وقع فيها، فإنها أمور مفزعة ومقلقة، فينبغي التوخّي عنها قدر الاستطاعة ببذل الأسباب, والاستعانة باللَّه جل وعلا بالدعاء. ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 148، الفتوحات الربانية،: 3/ 642.

92 - اللهم إني أعوذ بك من الجوع؛ فإنه بئس الضجيع

92 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ؛ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ؛ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ)) (¬1). قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من الجوع)): فيه استعاذة من ألم الجوع، وشدة مصابرته؛ فإن الجوع يضعف القوى, ويشوش الدماغ, فيثير أفكاراً رديئة, وخيالات فاسدة, فيخل بوظائف العبادات، والمراقبات، ويثير الغضب، وسوء الخلق. قوله: ((فإنه بئس الضجيع)): أي المضاجع, أي النائم معي في الفراش الواحد, فلما كان يلازم صاحبه في المضجع سُمي ضجيعاً, وقوله: ((بئس)) لأنه يمنع استراحة البدن، وخُصّ الضجيع بالجوع لينبه على أن المراد الجوع الذي يلازم الليل والنهار. قوله: ((وأعوذ بك من الخيانة)): وهي مخالفة الحق بنقض العهد في السر, وهي تشمل الخيانة بين العبد والعبد, وتشمل الخيانة بين العبد وربه تعالى، فهي شاملة لجميع التكاليف الشرعية التي أمر اللَّه - عز وجل -[بها] , قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الوتر، باب في الاستعاذة، برقم 1547، والنسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من الجوع، برقم 5483، وفي السنن الكبرى، 4/ 452، برقم 7851، وابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب التعوذ من الجوع، برقم 3354، وابن حبان، 3/ 304، والحاكم، 1/ 534، وأبو يعلى، 11/ 297، وعبد الرزاق، 10/ 440، وابن أبي شيبة، 10/ 187، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، 2/ 91، وصحيح ابن ماجه، 2/ 238، وصحيح النسائي، 3/ 1112.

93 - اللهم إني أعوذ بك من العجز، والكسل، والجبن، والبخل

وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (¬1). قوله: ((فإنها بئس البطانة)): هي خلاف الظهارة, واستعيرت لمن يخصه الرجل بالاطلاع على باطن أمره, فلما كانت الخيانة أمراً يبطنه الإنسان ويُسرّه، ولا يُظهره سُميت بطانة (¬2). 93 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ العَجْزِ، والكَسَلِ، والجُبْنِ، والبُخْلِ، والهَرَمِ، والقَسْوَةِ، والغَفْلَةِ، والعَيْلَةِ، والذِّلَّةِ، والمَسْكَنَةِ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ الفَقْرِ، والكُفْرِ، [والشِّرْك] (¬3)، والفُسُوقِ، والشِّقاقِ، والنِّفاقِ، والسُّمْعَةِ، والرِّياءِ، وأعُوذُ بِكَ مِنَ الصَّمَمِ، والبَكَمِ، والجُنُونِ، والجُذامِ، والبَرَصِ، وَسَيِّىءِ الأَسْقامِ)) (¬4). الشرح: استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من آفات الجسد، وآفات الدين لما ينشأ عنهما من ¬

(¬1) سورة الأنفال، الآية: 27. (¬2) فيض القدير، 2/ 123 , 150. (¬3) زادها ابن حبان في صحيحه، 3/ 300، وانظر: صحيح موارد الظمآن، 2/ 456، برقم 2072. (¬4) أخرجه النسائي، كتاب الاستعاذة، الاستعاذة من الجنون، برقم 5493، والحاكم، 1/ 530، والبيهقي في الدعوات الكبير، 1/ 459، والطبراني في الصغير، 1/ 199، والضياء المقدسي في المختارة، 3/ 41، وصححه الألباني في صحيح الجامع، 1/ 406، وإرواء الغليل، برقم 852.

مفاسد في الدين والدنيا والآخرة. قوله: ((العجز)): تقدم في حديث رقم (56)، ورقم (60) معناه: وهو تخلف العبد عن أسباب الخير لسلب قدرته وقوته, واستعاذته منه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يمنع من أداء الحقوق الواجبة عليه الدينية والدنيوية، وقد ذمّ اللَّه جلّ وعلا العاجز في كتابه، وضرب فيه مثلاً للعبرة والاتعاظ، قال عز شأنه: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} (¬1). قوله: ((الكسل)): وهو تخلف العبد عن أسباب الخير مع وجود القدرة، وهي صفة ذميمة تدعو إلى التثاقل عما لا ينبغي التثاقل عنه بسبب عدم انبعاث النفس إلى الخير, فيضيع على العبد كثير من المنافع الدنيوية والشرعية، وقد ذم اللَّه - سبحانه وتعالى - المنافقين، وذكر من صفاتهم الكسل: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى} (¬2). قوله: ((البخل)): يمنع صاحبه من إنفاق الحقوق المالية عليه، كالزكاة، والضيافة، والإنفاق على من يعول، والحقوق القولية كعدم الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعدم الرد على السلام. قوله: ((الجبن)): الخوف من الحرب، والجهاد في سبيل اللَّه، والخوف من الصدع بالحق: في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومجاهدة الشيطان والنفس. قوله: ((الهرم)): كبر السن المؤدي إلى تساقط القوى، ومن ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 75. (¬2) سورة التوبة, الآية: 54.

اختلال العقل, والحواس، وتشوّه المنظر, وقد يصبح ثقيلاً على غيره [فيكون كالطفل في المهد والعياذ باللَّه - عز وجل -]. قوله: ((القسوة)): غلظة القلب, وصلابته، بحيث لا يقبل موعظة حسنة، ولا يخاف العقوبة، ولا يرحم من يستحق الرحمة، كما ذكر اللَّه تعالى عن بني إسرائيل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَة} (¬1). قوله: ((الغفلة)): غيبة الشيء عن البال، وذهول عن الخير, وعدم تذكره، والتنبه لما ينبغي له، واستعمل في تاركه إهمالاً وإعراضاً كما قال تعالى: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُون} (¬2). قوله: ((العيلة)): بفتح العين المهملة، وهي الفاقة والحاجة وعدم القدرة على القيام بما يحتاج إليه هو ومن يعوله. قوله: ((الذلة)) - بالكسر-: الهوان على الناس, ونظرتهم إليه بعين الاحتقار والاستخفاف، وهي ضد العزة. قوله: ((المسكنة)): قلة المال، وسوء الحال, وهي الخضوع، والذلة لما يعرض [عند] الحاجة. قوله: ((الفقر)): أصله كسر فقار الظهر, وهو خلو اليد من المال. قوله: ((الكفر)): أصله الستر، وهو عدم الإيمان باللَّه، وهو أنواع: منه كفر العناد، والجحود، والنفاق, وأورده عقب الفقر؛ لأنه قد يفضي إليه. ¬

(¬1) سورة البقرة, الآية: 74. (¬2) سورة الأنبياء, الآية: 1.

قوله: ((الشرك)): وهو نوعان: النوع الأول الأكبر: وهو أن يجعل مع اللَّه نداً، أو شريكاً في ربوبيته، أو ألوهيته، أو أسمائه وصفاته، وهو الشرك الأكبر المخرج من الملّة، والعياذ باللَّه تعالى. والنوع الثاني الأصغر: مثل الرياء، والحلف بغير اللَّه [وهو ما ورد في النصوص تسميته شركاً، ولم يصل إلى حد الشرك الأكبر، أو هو كل وسيلة قولية أو إرادية، أو فعلية توصل إلى الشرك الأكبر] وهو غير مخرج من الملة, وهو من الكبائر. قوله: ((الفسوق)): خروج عن الاستقامة بارتكاب المعاصي، والوقوع في المحرمات. قوله: ((الشقاق)): مخالفة الحق بأن يصير كل واحد من المتنازعين في شق وناحية أخرى, والاستعاذة منه لأنه يؤدي إلى الفرقة بين الإخوة، فتحصل العداوة والبغضاء، مما يؤدي إلى ضعف القوة بين المؤمنين، قال تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (¬1). قوله: ((النفاق)): وهو إظهار عكس ما ينطوي عليه القلب، وهو نوعان: نفاق اعتقادي, وهو أن يظهر الإيمان، ويبطن الكفر، وهو مخرج من الملة، والعياذ باللَّه، ونوع عملي، كالإخلاف في الوعد، والكذب، وخيانة الأمانة [والغدر, والفجور في المخاصمة، وهو نفاق أصغر]. قوله: ((السمعة)): [الإخبار بالعمل، وإظهار الصوت بالذكر، أو ¬

(¬1) سورة الأنفال, الآية: 46.

القراءة؛ ليسمعه الناس فيحصل على الثناء والمدح]، فلا يعمله للَّه - عز وجل - خالصاً. قوله: ((والرياء)): بكسر الراء والمد: إظهار العبادة ليراها الناس فيحمدوه, وذكر هذه الخصال؛ لكونها أقبح خصال الناس، فاستعاذته - صلى الله عليه وسلم - منها إبانة وزجر الناس عن التخلق بها بألطف وجه وأحسن عبارة. قوله: ((الصمم)): بطلان السمع، أو ضعفه. قوله: ((البكم)) - بالتحريك-: هو الخرس [وعدم استطاعة النطق بالكلام]. قوله: ((الجنون)): زوال العقل. قوله: ((الجذام)): علَّةٌ تُسقط الشعر, وتُفتت اللحم, وتُجري الصديد منه, مما ينفر الناس منه لبشاعته، والقذارة فيه. قوله: ((البرص)): عِلَّةٌ تُحدث في الأعضاء بياضاً رديئاً مما تغير الصورة والشكل. قوله: ((سيئ الأسقام)): أي الأمراض الفاحشة الرديئة الخطيرة، كالفالج، والسل، والأمراض المزمنة، كأمراض هذا الزمان، مثل: السرطان وأنواعه، والإيدز، وغير ذلك, ولم يستعذ - صلى الله عليه وسلم - من سائر الأسقام من الأمراض؛ لأن منها ما إذا تحامل الإنسان فيها على نفسه بالصبر خفت مؤنته، كالحمى، والصداع، والرمد، وغير ذلك, وإنما استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من السقم المزمن، فينتهي صاحبه إلى حال يفر منه الحميم والصديق، ويقل معه الأنيس والجليس، والمداوي، [ويقلّ

94 - اللهم إني أعوذ بك من الفقر، والقلة، والذلة

معه العمل الصالح، أو يحصل عدم الصبر، والعياذ باللَّه]. والاستعاذة من ((سيئ الأسقام)): مع دخول الثلاثة: ((الجنون، والجذام، والبرص)) فيه هو من عطف العام على الخاص؛ لكونها أبغض شيء إلى العرب؛ لما تُفسد الخلقة، وتورث الآفات والعاهات؛ لهذا عدّوا من شروط الرسالة: السلامة من كل ما ينفر الخَلق، ويشوّه الخُلُق (¬1). 94 - ((اللهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ، وَالْقِلَّةِ، وَالذِّلَّةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ أَنْ أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ)) (¬2). وفي رواية: (( ... من الفقر، والفاقة, والقلة، والذلة, والعيلة ... )) (¬3). ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 150. (¬2) أخرجه أبو داود، كتاب الوتر، باب في الاستعاذة، برقم 1544،والنسائي، كتاب الاستعاذة، باب الاستعاذة من الذلة، برقم 5475، والنسائي في الكبرى، 4/ 451، برقم 7438 وما بعده، والحاكم، 1/ 531، وأحمد، 13/ 418، برقم 8053، والبيهقي، 7/ 12، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 5/ 269، وصحيح ابن ماجه، برقم 3099، (¬3) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْقَسْوَةِ، وَالْغَفْلَةِ، وَالْعَيْلَةِ، وَالذِّلَّةِ، وَالْمَسْكَنَةِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفُسُوقِ، وَالشِّقَاقِ، وَالنِّفَاقِ، وَالسُّمْعَةِ، وَالرِّيَاءِ)). المعجم الصغير للطبراني، 1/ 199، والحاكم، 1/ 530، والضياء المقدسي في المختارة، 6/ 344، وابن حبان، برقم 2446، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 3/ 357، (( ... والحاكم من طريقين عن قتادة به، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي. قلت [الألباني]: إسناده عند الحاكم على شرط البخاري فقط))، وفي صحيح الجامع الصغير، برقم 1285.

المفردات:

المفردات: الفقر: أصله كسر فقار الظهر، وهو خلوّ ذات اليد من المال، سواء عنده بعض كفايته، أو لم يجد كفايته. الفاقة: شدة الحاجة إلى الخلق. القلة: قلة الشيء من قلة المال أو قلة أبواب الخير, أو قلة العدد أو المدد .. إلخ. الذلة: الصغار والهوان، مثل انحطاط القدر عند الناس. العيلة: الفقر، وهو خلوّ اليد من الرزق. الشرح: قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من الفقر)) أي: يا اللَّه أعذني من عدم كفايتي من المال الذي أقوت به نفسي، وأهلي، وأولادي، وأخاف من أن يؤدي بي إلى عدم الصبر، وإلى التسخّط وعدم القناعة، وتسلّط الشيطان عليَّ بذكر نعم الأغنياء، وأعذني يا إلهي من شدة الحاجة إلى الخلق، والتعرّض لهم بالسؤال والطلب والاحتياج إلى غيرك، أستعيذ منهما لأنهما قد يفضيان إلى الخلل في الدين والمروءة والعزة. قوله: ((القلة)) - بالكسر-: أعوذ بك من قلّة المال, التي يخاف منها قلّة الصبر من الإقلال، أو المراد قلة أبواب الخير والبر، أو قلة العدد، أو المدد، أو قلة الأنصار (¬1)، ولا مانع من إرادة الجميع، أي ¬

(¬1) فيض القدير،2/ 149، والفتوحات الربانية،1/ 651، وشرح الأدب المفرد،2/ 337 بتصرف.

95 - اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة

قِلَّة كانت؛ لأن الأصل بقاء العموم على عمومه، ما لم يأت مخصِّص، ولم يخصِّصِ الشارع بفرد من هذه الأفراد، ولم يحدد نوعاً من أنواع الإقلال، واللَّه - عز وجل - أعلم. قوله: ((الذلة)): أن أكون ذليلاً في أعين الناس يستحقروني، ويستخفّون بشأني, والتذلّل للأغنياء على وجه المسكنة, أو المراد الذلّة الحاصلة من المعصية، والخطيئة (¬1) , ولا مانع من إرادة الجميع؛ لأنه لم يخصِّص نوعاً من أنواع الذلة كما سبق, وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -. قوله: ((وأعوذ بك أن أظلم)): أعوذ بك أن أعتدي، وأجور في حقٍّ من حقوقك, أو في حقٍّ من حقوق خلقك. قوله: ((أو أُظلم)): أي أعوذ بك أن يقع عليَّ ظلمٌ وبغي, من العباد بغير حقٍّ. استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمور؛ لما فيها من شدّةٍ في النفس، ونقصٍ في الدين من الإخلال عن كثير من العبادات، والتسخّط على اللَّه - عز وجل -، وعدم الصبر، والقناعة، وإتعاب العقل والبدن بالتفكير والهمّ، والحزن، فلا تطيب الحياة، ولا ترضى النفس. 95 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ فِي دَارِ الْمُقَامَةِ؛ فَإِنَّ جَارَ الْبَادِيَةِ يَتَحَوَّلُ)) (¬2). ¬

(¬1) شرح الأدب المفرد، 2/ 338. (¬2) البخاري في الأدب المفرد، برقم 117، وأخرجه النسائي، كتاب الاستعاذة، الاستعاذة من جار السوء، برقم 5517، والحاكم، 1/ 532، وصححه ووافقه الذهبي، ومسند أبي يعلى، 11/ 411، برقم 6536، وابن أبي شيبة، 8/ 359، وشعب الإيمان للبيهقي، 7/ 81، والدعوات الكبير له، 1/ 458، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1290، وصحيح النسائي، 3/ 1118.

الشرح:

الشرح: قوله: ((المقامة)) - بالضم-: الإقامة, أي دار الإقامة، كما في قوله تعالى: {لَا مُقَامَ لَكُمْ} (¬1) أي: لا موضع لكم (¬2). قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من جار السوء)): أي: أستعيذ بك من كل مجاور جمع الصفات الدنيئة، والأخلاق الرذيلة، قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((واللَّهِ لا يُؤمِن، وَاللَّهِ لا يُؤمِن, وَاللَّهِ لا يُؤمِن))، قيل: من يا رسول اللَّه؟ قال: ((الذي لا يأمَنُ جارُه بوائِقَهُ)) (¬3)، أي: شروره، وعدوانه. وقد استعاذ المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من جار السوء في دار المقامة؛ لأنه: هو الشر الدائم، والأذى الملازم؛ ولهذا قال: ((فإن جار البادية يتحول))؛ لأن مدته قصيرة يمكن تحملها, فلا يعظم الضرر فيه, ويشمل جار المقام: الزوجة، والخادم، والصديق الملازم, وفيه إيماء أنه ينبغي تجنّب جار السوء، والتباعد بالانتقال عنه إذا وجد لذلك سبيلاً، بمفارقة الزوجة [إذا تعسَّر إصلاحها]، وبيع الخادم, وأن المسافر إذا وجد من أحد من رفقته ما يذم شرعاً فارقه, وينبغي ¬

(¬1) سورة الأحزاب, آية: 13. (¬2) المصباح، 2/ 139، فضل الله الصمد،1/ 184. (¬3) البخاري، كتاب الأدب، باب إثم من لا يأمن جاره بوائقه، برقم 6016 , ومسلم بنحوه، كتاب الإيمان، باب بيان تحريم إيذاء الجار، برقم 46.

96 - اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع

الحرص على جوار أهل الصلاح والتقوى, وفي الحديث فضل الاستعاذة باللَّه تعالى، والالتجاء إليه، والاستعانة به في كل الأمور, وفيه بيان تفصيل معاناة العبد حين الدعاء, وبثّ الشكوى والهمّ إلى اللَّه تبارك وتعالى (¬1). 96 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لاَ يَخْشَعُ، ومِنْ دُعَاءٍ لاَ يُسْمَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لاَ تَشْبَعُ، وَمِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلاَءِ الأَرْبَعِ)) (¬2). الشرح: قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع)): يا اللَّه الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العُلا, أعذني من قلب لا يخشع لذكرك وموعظتك, ولا تؤثّر فيه النصيحة، وذلك القلب القاسي, قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (¬3). قوله: ((ومن دعاء لا يُسمع)): أعوذ بك من دعاء لا يُستجاب، ¬

(¬1) شرح صحيح الأدب المفرد،1/ 144، أوراد الذاكرين، ص 163. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا أبو كريب، برقم 3482، وأبو داود، كتاب الوتر، باب في الاستعاذة، برقم 1549، والنسائي، كتاب الاستعاذة، الاستعاذة من الشقاق والنفاق، برقم 5470، وأحمد، 11/ 120، برقم 6561، وابن أبي شيبة، 10/ 192، وعبد الرزاق، 10/ 439، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 1384 - 1385، وفي صحيح الجامع، برقم 1297. (¬3) سورة الزمر، الآية: 22.

97 - اللهم إني أعوذ بك من يوم السوء، ومن ليلة السوء،

ولا يُعتدّ به, فكأنه غير مسموع, وذلك بأن يكون الدعاء يكرهه اللَّه؛ لما فيه من إثم أو قطيعة رحم، وكون الداعي لم يأت بشروط الدعاء, من الإخلاص, والمأكل الحلال, وغير ذلك, ومن لم يستجب اللَّه دعاءه فقد خاب وخسر؛ لأنه طُرد من الباب الذي لا يُستجلب الخير إلا منه، ولا يُستدفَع الضرُّ إلا منه؛ لأن اللَّه تعالى كريم سميع قريب، مجيبٌ للدعاء، فمن حُرم ذلك فقد حُرم الخير كله، والعياذ باللَّه. قوله: ((ومن نفس لا تشبع)): وأعوذ بك من نفس لا تقنع بما أتيتها من خيرك وعطائك, ولا تشبع من جمع الحطام, والحرام, ولا تشبع من كثرة الطعام, والإنعام الذي يؤدي إلى (النهمة). قوله: ((وأعوذ بك من علم لا ينفع)): أعذني من علم لا أعمل به، ولا أنتفع به، ولا أُعلِّمه, ولا يُهذّب الأخلاق والأعمال والأقوال؛ لأن العلم النافع هو الذي يزيد في الخوف من اللَّه تبارك وتعالى، ويزيد في بصيرة العبد بعيوب نفسه, وآفات عمله, ويزهّد في الدنيا (¬1). قوله: ((أعوذ بك من هؤلاء الأربع)): زيادة في تأكيد أهمية الاستعاذة من هؤلاء الأربع. 97 - ((اللَّهُمَّ إنّي أعُوذُ بِكَ مِنْ يَوْمِ السُّوءِ، وَمِنْ لَيْلَةِ السُّوءِ، وَمِنْ سَاعَةِ السُّوءِ، وَمِنْ صَاحِبِ السُّوءِ، وَمِنْ ¬

(¬1) تحفة الذاكرين، ص 419, فيض القدير، 2/ 153، 5/ 478، الفتوحات الربانية،3/ 132.

الشرح:

جَارِ السُّوءِ في دَارِ الْمُقامَةِ)) (¬1). الشرح: قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من يوم السوء)): استعاذة باللَّه تعالى من يوم يكون فيه القبح والفحش, والشر, وتكون فيه المصائب، ونزول البلاء، والغفلة, فهذه استعاذة كاملة من كل سوء وشرٍّ يقع في اليوم (¬2). قوله: ((ومن ليلة السوء)): عطف الخاص على العام، ومن ليلة ينزل فيها شر، وسوء وبلاء. قوله: ((ومن ساعة السوء)): تخصيص بعد تخصيص لشدة الافتقار إلى حفظ اللَّه تعالى للعبد في كل الأزمنة، وفيه بيان أن العاصم هو اللَّه جلَّ وعلا، لا أحد سواه، وأن العباد لا غنى لهم عنه تعالى طرفة عين في كل الأحوال والأوقات. قوله: ((ومن صاحب السوء)): ومن صاحب الشرّ الذي ليس فيه صلاح؛ فإن مصاحبته فيها ضرّ وهلاك في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي ¬

(¬1) أخرجه الطبراني في الكبير، 17/ 294، برقم 810، والديلمي، 1/ 461، برقم 1873. قال الهيثمي في الزوائد، 10/ 144: ((ورجاله رجال الصحيح)). وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 1443، وصحيح الجامع، 1/ 278، برقم 1299. (¬2) فيض القدير، 2/ 139 بتصرف.

عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} (¬1). قوله: ((ومن جار السوء في دار المقامة)): لأن شرّه دائم, وأذاه ملازم، الذي لا يأتمر بأوامر اللَّه تعالى, ولا ينتهي عن نواهيه، ومنها معرفة حق الجار، ويشمل جار المقام: الزوجة، والخادم, والصديق الملازم, وفيه إيماء إلى أنه ينبغي تجنب جار السوء, والتباعد بالانتقال عنه إن وجد إلى ذلك سبيلاً. وجاء في رواية أخرى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهم إني أعوذ بك من جار في دار المقامة فإن جار البادية يتحول)) (¬2)، فيه بيان علّة الاستعاذة من جار السوء في دار المقام, فإنه ثابت ولا يتحول، عكس جار البادية، وفيه بيان تفصيل معاناة العبد حال الدعاء، وبث الشكوى، والهمّ، والحزن له تعالى, وإظهار العبد فاقته، وفقره، واحتياجه إلى ربه تعالى، الذي هو روح العبادة ولبُّها؛ فإن أحقّ من يلجأ إليه، ويشكو له الهم والحزن، وكلّ ما به هو الربّ - عز وجل -، كما ذكر اللَّه عن يعقوب أنه قال: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} (¬3). وفي الحديث بيان لأهمية الاستعاذة من كل الشرور، وإن التفصيل في الاستعاذة أمر مطلوبٌ ومُهمّ؛ لأن المقام مقام عبادة، ¬

(¬1) سورة الفرقان، الآيات: 27 - 29. (¬2) البخاري في الأدب المفرد، برقم 117، وأخرجه النسائي، برقم 5517، والحاكم، 1/ 532، وصححه ووافقه الذهبي، ومسند أبي يعلى، 11/ 411، برقم 6536، وابن أبي شيبة، 8/ 359، وشعب الإيمان للبيهقي، 7/ 81، والدعوات الكبير له، 1/ 458، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم 1290، وفي صحيح النسائي، 3/ 1118. (¬3) سورة يوسف، آية: 86.

98 - اللهم إني أسألك الجنة وأستجير بك من النار

فكلما أكثر فيه العبد من السؤال والدعاء، كان أكثر عبودية للَّه تعالى الذي يستوجب الخضوع له تعالى, والحبّ والتعلّق به، والتملُّق له، وفيه وعيد من أذى الجار، كائناً ما كان؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخصّص جاراً دون جار. 98 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَأَسْتَجِيْرُ بِكَ مِنَ النَّارِ)) (¬1) (ثَلاَثَ مَرَّاتٍ). الشرح: قوله: ((من سأل اللَّه الجنة)): أي دخولها بصدق، وإيمان، وحسن نية، وإلحاح. قوله: ((قالت الجنة: اللَّهم أدخله الجنة)): فيه تعظيم للسائل، حيث إن اللَّه تعالى يخلق لهذه الدار الحياة والقدرة على النطق بذكره، وهي جماد، وهذا من كمال قدرة رب العالمين, وأنه لا يعجزه شيء جل وعلا, كما أنطق الحصى بالتسبيح والطعام في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬2) , كما في قول ابن مسعود - رضي الله عنه -: (( ... ولقد كنا نسمع ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة أنهار الجنة، برقم 2572، وابن ماجه، برقم 3340، والنسائي، كتاب الاستعاذة، الاستعاذة من حر النار، برقم 5521، والنسائي في الكبرى، 6/ 33، والإمام أحمد، 20/ 408، برقم 13173، والحاكم، 1/ 535، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، 2/ 319، وصحيح النسائي، 3/ 1121، ولفظه: ((من سأل الله الجنة ثلاث مرات قالت الجنة: اللهمّ أدخله الجنة ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهمّ أجره من النار)). (¬2) فيض القدير، 6/ 144.

تسبيح الطعام وهو يؤكل)) أي على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬1). قوله: ((ومن استجار ... )) الحديث: كسابقه. وهنا في إنطاق النار على الكلام حقيقته (¬2)، حيث تطلب من خالقها أن تُجِرْهُ من النار إذا أتى بالعدد المذكور، وهو الثلاثة؛ فإن التقيّد بهذا العدد مشروط في جعل اللَّه لهذه الجمادات القدرة على النطق بإنطاق اللَّه تعالى لها؛ فإن ذلك يُعطي المؤمن العزم، والجدَّ في السؤال والطلب بإلحاح، والتقيد بالعدد ثلاثة هو أقل درجات الإلحاح في الدعاء، واللَّه أعلم. ودلّ هذا الحديث الجليل على عظم فضل اللَّه - عز وجل - لعباده الداعين، وأنه تعالى يسخّر لهم الجنة والنار على عظمهما في التوسّل إلى اللَّه، والدعاء لهم, كما سخّر لهم الملائكة الكرام العظام حملة العرش في الدعاء لهم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (¬3). ¬

(¬1) البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، برقم 3579. (¬2) هذا هو الأصل, أن يحمل الكلام على الحقيقة, قال ابن عبد البر: ((وحمل كلام الله تعالى، وكلام نبيه - صلى الله عليه وسلم - على الحقيقة, أولى بذوي الدين والحق)) التمهيد، 5/ 16, 7/ 145، والقاعدة في ذلك: ((يجب حمل نصوص الوحي على الحقيقة)) انظر: قواعد الترجيح، 2/ 387. (¬3) سورة غافر، الآيتان: 7 - 8.

99 - اللهم فقهني في الدين اللهم علمني الكتاب والحكمة.

كما أن الشارع الحكيم شرع لنا سؤال اللَّه تعالى الجنة كذلك، وحثّنا على سؤال أعلاها، وهي الفردوس الأعلى, قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سألتم اللَّه فاسألوه الفردوس (¬1) الأعلى)) (¬2). فينبغي للعبد أن يكثر الدعاء بسؤال اللَّه تعالى تلكم المنزلة العظيمة التي فوقها عرش الرحمن، وليس فوقها منزلة. 99 - ((اللَّهُمَّ فَقِّهْنِي فِي الدِّينِ [اللَّهُمَّ عَلِّمْنِي الكِتَابَ وَالحِكْمَةِ])) (¬3). هذا الدعاء مأخوذ من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رضي اللَّه عنهما: ((اللَّهم فقهه في الدين)). وفي لفظ: ((اللَّهم علّمه الكتاب والحكمة)) (¬4). فيسنُّ للدّاعي أن يجمع بين هذه الروايات في الدعاء، فيقول: ((اللَّهمّ علّمني الكتاب، والحكمة، وفقّهني في الدين)). ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب المجاهدين في سبيل الله، برقم 2790. (¬2) صحيح ابن حبان، 3/ 238، برقم 958، والضياء المقدسي في المختارة، 3/ 378، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم، 2/ 740، والبيهقي في البعث والنشور، ص 229، وصححه الألباني في التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان، برقم 954. (¬3) يدل عليه رواية البخاري ومسلم في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. البخاري، كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء، برقم 143، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب فضائل عبد الله بن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، برقم 2477، وما بين المعقوفين، البخاري، كتاب العلم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم علمه الكتاب، برقم 75، ورقم 3756، ورقم 7270. (¬4) البخاري، برقم 75, ورقم 143، وتقدم تخريجه في الحاشية السابقة.

الشرح:

الشرح: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهم علمه الكتاب)) أي كتاب اللَّه - عز وجل -، القرآن، فهذا السؤال تضمّن التوفيق إلى تعلّم أفضل العلوم، وأسماها، وهو القرآن الذي يجمع كل العلوم الشرعية المطلوبة, الذي عليها الفلاح في الدارين. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)) (¬1). قوله: ((الحكمة)): أي السنة النبوية. قوله: ((اللَّهم فقهني في الدين)) الفقه في اللغة الفهم، قال اللَّه تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} (¬2). أي معرفة الأحكام الشرعية، وكيفية الاستنباط منها في الكتاب والسنة. وبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهمية الفقه في الدِّين، وأن من رزقه اللَّه تعالى الفقه في الدين نال محبته - عز وجل - التي هي أعظم المحابّ، وأعلاها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((من يُرِدِ اللَّهُ به خيراً يفقهه في الدين)) (¬3). قال ابن القيم رحمه الله في مفهوم الحديث: ((وهذا يدلّ على أن من لم يفقهه في دينه لم يرد به خيراً، كما أن من أراد به خيراً فقهه في دينه، ومن فقهه في دينه فقد أراد به خيراً إذا أريد بالفقه العلم ¬

(¬1) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، برقم 5027. (¬2) سورة الإسراء، الآية: 44. (¬3) البخاري، كتاب العلم، باب من يرد اللَّه به خيراً يفقهه في الدين، برقم 71، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 1037.

100 - اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم.

المستلزم للعمل، وأما إن أريد به مجرد العلم، فلا يدلّ على أن من فقه في الدين فقد أريد به خيراً؛ فإن الفقه حينئذ يكون شرطاً لإرادة الخير، وعلى الأول يكون موجباً)) (¬1). فتضمّنت هذه الدعوات المهمّات التوفيق إلى أكمل العلوم: الكتاب، والسنة، والفهم، والمعرفة في الاجتهاد فيهما، فينبغي للعبد طالب العلم خاصة أن يكثر من هذا الدعاء المبارك. 100 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لاَ أَعْلَمُ)) (¬2). الشرح: اشتمل هذا الحديث على أعظم شر وأخطره يُستعاذ باللَّه منه، وهو الشرك، فإن الشرك باللَّه العظيم أعظم الظلم والجرم، قال اللًّه تعالى عن لقمان وهو يعظ ابنه: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬3)، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬4). ¬

(¬1) مفتاح دار السعادة، 1/ 46. (¬2) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، ص 250، برقم 716، والضياء المقدسي، 1/ 45، وهو في عمل اليوم والليلة لابن السني، برقم 258، وهناد في الزهد، 2/ 434، برقم 849، والحكيم الترمذي، 4/ 142، وأبو يعلى 1/ 60، برقم 58، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 266، برقم 551. (¬3) سورة لقمان، الآية: 13. (¬4) سورة النساء، الآية: 48.

101 - اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني

فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العبد غير آمن من الوقوع في الشرك، وأنه لشدّة خفائه أخفى من دبيب النمل، فقد يقع فيه العبد، ويتسلّل إلى نفسه وهو لا يعلم، ولا يدري، هذا الإخبار من الرسول لخير البشرية بعد الرسل، وهم الصحابة رضوان اللَّه عليهم، الذين عصرهم هو خير العصور، فكيف بنا نحن، ولا شك في أن هذا بياناً على أن أفضل الناس قد يقع منه الشرك من حيث لا يعلم، ((والمراد بالشرك هنا الرياء والسمعة والعجب، وهذه الذمائم لا تذهب عن الرجل ما لم يعرف نفسه)) (¬1)، وهكذا ينبغي للعبد أن يراقب نفسه، ويحاسبها بين الحين والآخر حتى لا يقع فيه. وقول أبي بكر - رضي الله عنه -: ((وهل الشرك إلا من جعل مع اللَّه إلهاً آخر))، وفيه تعظيم أبي بكر للشرك، وأن بعض المسائل قد تخفى على كبار العلماء (¬2). فعليك يا أخي أن تلتجئ إلى اللَّه أن يُعيذك من هذا الشرك، وأن تبذل كل الأسباب في الابتعاد عنه: قولاً، وفعلاً، وأن تكثر من هذا الدعاء العظيم؛ فإن اللَّه رب العالمين لا يخيب من التجأ إليه، وأخلص في قوله وعمله. 101 - ((اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي، وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي، ¬

(¬1) فضل الله الصمد، 2/ 179. (¬2) شرح الأدب المفرد، 2/ 395.

الشرح:

وَزِدْنِي عِلْمًا)) (¬1). وفي لفظٍ: ((وأعوذ باللَّه من حال أهل النار)) (¬2)، وفي لفظٍ آخر: ((وارزقني علماً تنفعني به)) (¬3). الشرح: هذا الحديث اشتمل على دعوة جامعة تتعلق بالعلم، وما ينبغي أن يكون عليه شأن المسلم، وطالب العلم مع العلم، وهو يتكوّن من أربع جمل، ثلاث منها في تحقيق هذا المطلب الجليل والمقصد العظيم للعلم. قوله: ((اللَّهم انفعني بما علمتني)): أي أسألك يا اللَّه الانتفاع بما أتعلمه من العلوم المفيدة، وأن أعمل بمقتضاه خالصاً لوجهك الكريم، لا للانتفاع به في أغراض الدنيا وزخرفها، ومن رياء وسمعة؛ فإن العلم النافع هو المقصود، والوسيلة به إلى التعبد للَّه تعالى، فيصلح الأعمال، والأقوال الظاهر منها والباطن (¬4). قوله: ((وعلمني ما ينفعني)): فيه سؤال اللَّه أن يمنّ عليه بالعلم ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا أبو كريب، برقم 3599، وابن ماجه، المقدمة، باب الانتفاع بالعلم، برقم 251، وابن أبي شيبة، 10/ 281، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 53، وصحيح الترمذي، برقم 2845. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا أبو كريب، برقم 3599، ابن ماجه، كتاب الأدب، باب فضل الحامدين، برقم 3804، وضعف الألباني هذه الزيادة في التخريج السابق. (¬3) أخرجه النسائي في الكبرى، 4/ 444، والحاكم، وصححه، 1/ 510، والدعوات الكبير للبيهقي، 1/ 158، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، 11/ 9، برقم 3151. (¬4) فقه الأدعية الأذكار، 4/ 495 بتصرف يسير.

النافع، وهو علم الشريعة الذي فيه صلاح الدين والدنيا من العبادات والمعاملات، والعلم باللَّه وبأسمائه وصفاته الذي هو أشرف العلوم، وما يجب له من القيام بأمره، وتحقيق طاعته. قوله: ((وزدني علماً)): أي زدني علماً إلى ما علمتني، كما قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} (¬1)، ولم يأمر نبيه بزيادة في أي أمر إلا في العلم؛ فإن الزيادة فيه ترقي العبد إلى الزيادة في المعارف والعلوم التي تقتضي العمل؛ فإن العلم وسيلة للعمل، وهو أول المعارف، وأصلها قال اللَّه تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ}، ثم العمل: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (¬2). وهنا أمر لا بد من التنبيه إليه، أن من يدعو اللَّه تعالى بأن يمنحه العلم النافع، وأن ينفعه بما علمه كما في الدعاء السابق، لابد له مع الدعاء من بذل الأسباب المشروعة لتحصيل العلم، قال العلامة ابن سعدي رحمه اللَّه: ((الأدعية القرآنية والنبوية الأمر بها، والثناء على الداعين بها، يستتبع لوازمها ومتمماتها، فسؤال اللَّه الهداية يستدعي فعل جميع الأسباب التي تدرك بها الهداية العلمية والعملية)) (¬3). قوله: ((وأعوذ باللَّه من حال أهل النار)): استعاذ من حالهم لما فيه من الألم الشديد، والعذاب المديد، وهذا حال من لم ينتفع بعلمه، ولم يعمل به، فكان حاله ومصيره هو عذاب النار والسعير. ¬

(¬1) سورة طه، الآية: 114. (¬2) سورة محمد، الآية:19.وانظر: فيض القدير، 2/ 133،وفقه الأدعية، 4/ 495 بتصرف يسير. (¬3) مجموع الفوائد، ص 97.

102 - اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا طيبا، وعملا متقبلا.

102 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا)) (¬1). الشرح: هذا الدعاء المبارك الذي كان - صلى الله عليه وسلم - يستفتح بعد صلاة الصبح به كل يوم في غاية المناسبة؛ لأن الصبح هو بداية اليوم، ومفتتحه والمسلم ليس له مطمع في يومه إلا تحصيل هذه الأهداف، والمقاصد العظيمة، والأهداف النبيلة في تحديد همته في أول النهار، وهي ((العلم النافع، والرزق الطيب، والعمل المتقبل))، وكأنه في افتتاحه ليومه بذكر هذه المقاصد الثلاثة دون غيرها، يحدّد أهدافه ومقاصده في يومه، ولا ريب في ذلك أنه أجمع للقلب، وأضبط لسير العبد (¬2)، ومسلكه في هذه الحياة، وفيه استعانة وتضرّع لربه في صباحه، وأول يومه أن يمدَّ له العون، والخير، والتوفيق للسير على هذه الأهداف كل يوم؛ فإن هذه المقاصد الثلاث عليها الفلاح في الدنيا والآخرة. وتأمّل كيف بدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الدعاء بسؤال اللَّه العلم النافع، قبل سؤاله الرزق الطيب، والعمل المتقبَّل، وفي هذا إشارة إلى أن العلم النافع مقدم به، وبه يبدأ، قال اللَّه تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ¬

(¬1) أخرجه ابن ماجه، كتاب الصلاة، باب ما يقال بعد التسليم، برقم 925، والنسائي في السنن الكبرى، 6/ 31، برقم 9850، وفي عمل اليوم والليلة له، برقم 102،وأحمد، 44/ 140، برقم 26521، ورقم و26602، ورقم 26700، ورقم 26731، والحاكم، 1/ 472، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 1/ 152، برقم 753. (¬2) فقه الأدعية، 4/ 40.

وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} (¬1)، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل؛ لأنه لا يمكن أن يكون العمل صحيحاً وموافقاً للكتاب والسنة دون علم، وفي البدء بالعلم النافع حكمةٌ ظاهرة لا تخفى على المتأمل، ألا وهي أن العلم النافع به يستطيع المرء أن يميز بين العمل الصالح وغير الصالح، ويستطيع أن يميّز بين الرزق الطيّب وغير الطيّب. قوله: ((علماً نافعاً)) فيه دلالةٌ على أن العلم نوعان: علمٌ نافع، وعلم ليس بنافع، كما تقدّم في حديث: ((سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نافِعاً، وَتَعوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ)) (¬2)، قال الحسن البصري رحمه اللَّه: ((العلم علمان، علم باللسان، وعلم بالقلب، فعلم القلب هو العلم النافع، وعلم اللسان هو حجة اللَّه على ابن آدم)) (¬3)، فالعلم النافع هو ما باشر القلب، فأوجب له السكينة والخشوع، والإخبات للَّه تعالى، وإذا لم يباشر القلوب ذلك من العلم، وإنما كان على اللسان فهو حجة اللَّه على بني آدم. قوله: ((رزقاً طيباً)) فيه إشارة كذلك إلى أن الرزق نوعان: طيب، وخبيث، واللَّه تعالى لا يقبل إلا طيباً، وقد أمر اللَّه تعالى المؤمنين ¬

(¬1) سورة محمد، الآية: 9. (¬2) ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما تعوذ منه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3843، وابن أبي شيبة، 9/ 123، برقم 27248، وأبو يعلى، 3/ 437، برقم 1927، وعبد بن حميد، ص 330، والبيهقي في شعب الإيمان، 3/ 276، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، 2/ 327، بقرم 3100، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1511. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة، 13/ 235، برقم 35502، والدارمي، 1/ 54، والحكيم الترمذي، 2/ 176، وشعب الإيمان للبيهقي، 3/ 188، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، ص 313.

103 - اللهم إني أسألك يا ألله بأنك الواحد الأحد، الصمد

بما أمر به المرسلين، فقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} (¬1) , وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (¬2)، فإن من أعظم الأسباب الموجبة لإجابة الدعاء طيب المأكل. قوله: ((عملاً متقبلاً)) فيه إشارة إلى أنه ليس كل عمل يتقرب به العبد إلى اللَّه متقبلاً، بل المتقبَّل من العمل هو الصالح فقط، والصالح هو ما كان للَّه تعالى وحده، وعلى هدي وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، فلا بد أن يكون خالصاً للَّه، وصواباً على هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - (¬3). فهذا دعاء عظيم النفع، كبير الفائدة، يحسن بالمسلم أن يحافظ عليه كل صباح، تأسّياً بالنبي الكريم - صلى الله عليه وسلم -، ثم يُتبع الدعاء بالعمل، فيجمع بين الدعاء، وبذل الأسباب، وهذا أكمل الدعاء؛ لينال هذه الخيرات العظيمة، والأفضال الكريمة (¬4). 103 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا أَللَّهُ بِأَنَّكَ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) (¬5). ¬

(¬1) سورة المؤمنون، الآية:51. (¬2) سورة البقرة، الآية: 172. (¬3) قول الفضيل بن عياض في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} سورة الملك، الآية:3. (¬4) فقه الأدعية والأذكار للدكتور عبد الرازاق البدر، 4/ 40 - 43. (¬5) أخرجه النسائي، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، برقم 1301، واللفظ له، والنسائي في الكبرى، برقم 7665، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول بعد التشهد، برقم 985، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 147.

المفردات:

المفردات: الأحد: الكامل في أحديته، فلا شبيه له، ولا نظير. الواحد: هو الذي توحّد بجميع الكمالات، بحيث لا يشاركه فيها مشارك. الصمد: المقصود في الحوائج، وهو الذي انتهى سؤدده. كفواً: أي مماثلاً، واللَّه تعالى ليس له مماثل، ولا نظير في كمال ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله بوجه من الوجوه (¬1). الشرح: هذا الدعاء العظيم فيه توسّل إلى اللَّه - عز وجل - بأجمل الوسائل، وأعلاها، وهو التوسّل بأسماء اللَّه الحسنى، وبصفاته العظمى العلا مقدمة قبل سؤال اللَّه تعالى المغفرة للذنوب, والتجاوز عنها، ثم أكّد سؤاله وعلّله: بأنك يا ربي عظيم المغفرة للذنوب، مهما تكررت وبلغت، عظيم الرحمة التي وسعت كل شيء, فناسب في ختم هذين الاسمين، السؤال والطلب. قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَد}: فيه جواز التوسّل بصفات اللَّه تعالى المنفية, في الدعاء, وأن من معاني ((الصمد)) هذه المنفيات عنه تعالى. وهذا الدعاء الجليل فيه مظنّة اسم اللَّه الأعظم؛ لتضمنّه أعظم ¬

(¬1) تفسير ابن السعدي 1/ 174، الفتوحات الربانية 3/ 636.

104 - اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت وحدك

الأسماء الحسنى ((اللَّه)) , فينبغي الإكثار من الاعتناء به في حال الدعوات. 104 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ [وَحْدَكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ] الْمَنَّانُ [يَا] بَدِيعَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، يَا ذَا الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، إِنِّي أَسْأَلُكَ [الْجَنَّةَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ])) (¬1). [المفردات]: المنان: اسم من أسماء اللَّه تعالى الحسنى, أي كثير العطاء، من المنَّة بمعنى النعمة، أو النعمة الثقيلة, أي صاحب النعم المتتالية دون طلب عوض, وغرض. بديع السموات والأرض: أي مبدعهما بمعنى مخترعهما ومنشئهما على غير مثال سابق. ذا الجلال والإكرام: ذو الجلال: صاحب العظمة والكمال والإكرام: هو سعة الفضل، والجود بما ليس له حدود. ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء، برقم 1495، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب اسم اللَّه الأعظم، برقم 3858، والنسائي، كتاب السهو، باب الدعاء بعد الذكر، برقم 1299، وفي السنن الكبرى له، 1/ 386، 1224، والترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا قتيبة، برقم 3544، وأحمد، 19/ 238، برقم 12205،وابن حبان، 3/ 175، وابن أبي شيبة، 10/ 272، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 279، وفي صحيح ابن ماجه، 2/ 329، وفي السلسلة الصحيحة، برقم 1342.

الشرح:

الحي: اسم من أسمائه تعالى، وهو الذي له الحياة الدائمة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات. القيوم: اسم من أسمائه تعالى: وهو القائم بنفسه، فلم يحتج إلى أحد، والمقيم لغيره بالتدبير والإصلاح, وكل صفات الفعل ترجع إلى هذا الاسم الجليل. الشرح: بدأ بمقدمة من الثناء على اللَّه تعالى، واستحقاقه الحمد بكل أنواعه، وإثبات وحدانيته وألوهيته بالعبادة دون غيره, ثم ذكر جملاً من أسمائه الحسنى، مقدمة بين يدي دعائه, فجمع بين التوسل بالعمل الصالح للَّه تعالى، توسّلاً بما له من الكمالات التي لا تُحصى, رجاء عظيماً في قبول دعوته؛ لما شملته من أسمى مطلب في الدنيا والآخرة, وهو مغفرة الذنوب, واستعاذة من أعظم مرهوب، وهو النار. قوله: ((يا بديع السموات والأرض)): يا خالق ومنشئ السموات والأرض على غير مثال سابق. قوله: ((يا ذا الجلال والإكرام)): يا صاحب العظمة، والكبرياء، والمجد، ويا واسع الفضل والجود والكرم, تُكرم أولياءك، وخواصّ خلقك، بأنواع الكرم والجود، بما ليس له حدود، ولا مُقيّد بقيود. قوله: ((يا حي يا قيوم)): يا دائم الحياة الذي ليس لك ابتداء، وليس لك فناء، ولا انتهاء، يا قائم بتدبير الخلق, والغني عن كل الخلق، الكلّ مفتقرٌ إليك، ومحتاجٌ لك.

105 - اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت

قوله: ((إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار)): بعد ثنائه على اللَّه تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا، شرع في سؤال أعظم مطلب، وهو الجنة، واستعاذ من أشد مرهب، وهو النار والعياذ باللَّه. قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد دعا اللَّه تعالى باسمه الأعظم)): والاسم الأعظم من ثمرات الدعاء به أنه يفيد أصل التعجيل، أو زيادته، وكمالاً في المستجاب، أو في بدل المدعو به (¬1)، فهو لا شك له أكبر الأثر في قبول وإجابة الدعاء، فحريٌ الاعتناء به أشد العناية، حتى يتكرّم ربنا بإعطائنا ما نرجوه في العاجل والآجل. 105 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّه لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، الأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ، وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ)) (¬2). المفردات: الأحد: اسم من أسماء اللَّه تعالى الحسنى، ومعناه الفرد الذي لا نظير له، ولا شبيه له في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على اللَّه تعالى. ¬

(¬1) الفتوحات الربانية: 3/ 638. (¬2) أبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يقول بعد التشهد، برقم 985، والترمذي، كتاب الدعوات، باب ما جاء في جامع الدعوات عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3475، وابن ماجه، برقم 3857، والنسائي في الكبرى، 4/ 394، برقم 7619، وأحمد 38/ 64، برقم 22965، وعبد الرزاق، 2/ 485، برقم 4178، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، 3/ 163، وفي صحيح الترغيب والترهيب، برقم 1640.

الشرح:

الصمد: في اللغة ((القصد))، وهو اسم من أسمائه تعالى، والمعنى هو السيد الذي يُقصد بالسؤال والرغبة والرهبة والحوائج، وهو الذي انتهى سؤدده، فلا أحد فوقه جلَّ وعلا، وهو الذي لا جوف له، ولا يأكل، ولا يشرب. كفواً أحد: أي لا مثيلاً، ولا نظيراً لكماله تعالى على الإطلاق من كل الوجوه. الشرح: قوله: ((اللَّهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت اللَّه)): أي أسألك يا اللَّه بأني أقر وأشهد أنك أنت المعبود بحق، لا أحد سواك, وهذا قسم استعطافي، أي: أسألك باستحقاقك لتلك الصفات الثبوتية، والسلبية (¬1). قوله: ((الأحد الصمد)): أي أسألك باسمك الأحد الذي لا نظير له، ولا شبيه، ولا عديل، المنفرد بالربوبية، والألوهية, لكمال أسمائك وصفاتك وأفعالك، وأنت السيد الذي ليس فوقك أحد, وأنت الذي تصمد القلوب لك بالسؤال والحاجة. قوله: ((الذي لم يلد ولم يولد)): الذي ليس له ولد، ولا والد، ولا صاحبة, وهذا النفي متضمن لكمال غناه، وعدم حاجته جل وعلا لأحد من خلقه. قوله: ((ولم يكن له كفواً أحد)): أي ليس لك مماثل، ولا شبيه، ولا نظير في ذاتك، ولا في صفاتك، ولا في أفعالك بوجه من ¬

(¬1) الفتوحات الربانية، 3/ 636.

اختلف العلماء في تحديد اسم الله الأعظم:

الوجوه, وهذا النفي متضمّن لكماله تعالى من كل الوجوه في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله - عز وجل -. قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد سألت اللَّه باسمه الأعظم)): فيه دلالة أن للَّه اسماً أعظم، إذا دعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى, وفيه دلالة على تفاضل بين أسماء اللَّه تعالى، فهناك اسم أعظم، وهناك اسم عظيم، فأسماء اللَّه وصفاته كلها عظيمة، لا نقص فيها البتة، لكن بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن هناك اسماً، هو أعظم الأسماء، مذكور في هذا الحديث، والذي قبله، واللَّه تعالى أعلم. وقد اختلف العلماء في تحديد اسم اللَّه الأعظم، والذي عليه الأكثر هو اسم الجلالة ((اللَّه)) وذلك: 1 - أنه الاسم الذي ورد في كل الأحاديث التي أخبر بها المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أن فيها اسم اللَّه الأعظم. 2 - أنه أكثر اسم ورد في كتاب اللَّه تعالى، حيث ورد (724) مرة. 3 - هو الاسم جامع لجميع معاني أسماء اللَّه تعالى الحسنى، متضمن لسائر صفاته العلا؛ ولهذا يضيف تعالى سائر الأسماء إليه، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1). فيقال: ((الرحمن))، ((الرحيم)) من أسماء اللَّه, ولا يقال ((اللَّه من أسماء الرحمن)) (¬2). 106 - ((رَبِّ اغْفِرْ لِي، وَتُبْ عَلَيَّ، إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الْغَفُورُ)) (¬3). ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 180. (¬2) مدارج السالكين، 1/ 32، أسماء الله الحسنى للدكتور عمر الأشقر، ص33. (¬3) أبو داود، كتاب الوتر، باب في الاستغفار، برقم 1518، والترمذي، كتاب الدعوات، باب ما يقول إذا قام من المجلس، برقم 3434، واللفظ له، والنسائي في الكبرى، 6/ 119، برقم 10220، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب الاستغفار، برقم 3814، وأحمد، 8/ 350، برقم 4726، والبخاري في الأدب المفرد، 217، والطبراني في الكبير، 5/ 119، والأوسط، 6/ 231، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، 5/ 248، صحيح ابن ماجه، 2/ 321، وفي صحيح الترمذي، 3/ 153.

الشرح:

الشرح: سبب هذا الدعاء ما جاء عن ابن عمر رضي اللَّه عنهما قال: كنا نعدَّ لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في المجلس الواحد مائة مرة ((رب اغفر لي وتُب عليَّ، إنك أنت التواب الغفور))، وفي لفظ: (الرحيم). فإذا كان المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر - صلى الله عليه وسلم - يعدّون له طلب المغفرة بهذا العدد الجمّ، فكيف بنا ونحن نخطئ بالليل والنهار ما اللَّه به عليم، فمن باب أولى أن نجتهد بأكثر من ذلك العدد، وهذه رحمة من اللَّه - عز وجل - لعباده، فإن العباد خطاؤون كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)) (¬1). فجعل اللَّه تعالى لهم كفارة بما يقعون به، وليعلم أن الخطأ الذي يصدر من بني آدم له سببان: إما تقصير في واجب، أو فعل المحرم، ولا يخلو أي عبد من ذلك، فجعل الدواء الاستغفار. ¬

(¬1) الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، باب حدثنا هناد، برقم 2499، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر التوبة، برقم 4251، والحاكم، 4/ 244، وابن أبي شيبة، 13/ 187، والبزار، برقم 7236، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 4241، وتخريج المشكاة، برقم 2341.

107 - اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق.

قوله: ((رب اغفر لي)) توسل بربوبية اللَّه - عز وجل - العظيمة في أن يستر اللَّه على عبده الذنب ويتجاوز عنه. قوله: ((وتب عليَّ)) أي وفّقنا للتوبة فنتوب، والتوبة من العبد: هي الرجوع من المعصية إلى الطاعة ومن اللَّه - عز وجل -: هي توفيق العبد للتوبة ثم قبولها منه. قوله: ((إنك أنت التواب الغفور)) , تعليل للطلب، فهي وسيلة يتوسّل بها الداعي إلى حصول المطلوب, والتوّاب هو: اسم من أسماء اللَّه تعالى الحسنى على صيغة المبالغة على وزن ((فعال)) (¬1)؛ لكثرة من يتوب اللَّه - عز وجل - عليهم، وكثرة توبته على العبد. والغفور: هو الذي يستر ذنوب عباده، ويغطّيهم بستره (¬2)، ولا يخفى في ختام بهذين الاسمين ما يناسب المطلوب، وهذا الذي ينبغي للداعي أن يتوسل إلى ربه بأسمائه الحسنى بما يناسب مطلوبه, تحقيقاً لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬3). 107 - ((اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الْحَيَاةَ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْرًا لِي، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ ¬

(¬1) اشتقاق أسماء الله، ص 62. (¬2) شأن الدعاء، ص 52. (¬3) سورة الأعراف، الآية: 180.

فيه من معان ومقاصد جليلة

وَالشَّهَادَةِ، وَأَسْأَلُكَ كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمَاً لاَ يَنْفَدُ، وأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لاَ تَنْقَطِعْ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَا بَعَدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأْلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ)) (¬1). هذا الدعاء كبير النفع، عظيم الشأن، وغزير الفوائد؛ لما فيه من معانٍ ومقاصد جليلة, ومطالب عالية في العقيدة والأخلاق والعبادات الظاهرة والباطنة، ففيه: 1 - توسل إلى اللَّه تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلا. 2 - وتفويض الأمور إلى اللَّه تعالى. 3 - والتوكل عليه جل وعلا. 4 - وسؤاله التوفيق إلى كمال العبودية من العبادات. ¬

(¬1) النسائي، كتاب السهو، نوع آخر، برقم 1305، والسنن الكبرى له، 1/ 387، وأحمد، 30/ 265، برقم 18325، وابن حبان، 5/ 304، وأبو يعلى، 3/ 195، والحاكم، 1/ 425، وابن أبي شيبة، 10/ 264، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1/ 280، برقم 1304، وفي صحيح الجامع، برقم 1301.

5 - وفيه سؤال أعلى نعيم الآخرة, وأعلى نعيم الدنيا

5 - وفيه سؤال أعلى نعيم الآخرة, وأعلى نعيم الدنيا, وغير ذلك من المطالب المهمة. وإنما تعظم فائدة هذا الدعاء، وغيره من الأدعية، في فهم معانيها، والتدبر في دلالاتها, ومقاصدها النفيسة، والمجاهدة في تحصيل تحقيقها: قولاً، وفعلاً، والإكثار منها في السؤال والطلب. المفردات: قوله: ((القصد)): التوسط والاعتدال. قوله: ((نعيماً لا ينفد)): أي لا ينقطع ولا ينتهي. قوله: ((قرة عين لا تنقطع)): ما تقرّ به العين من لذة وسرور. قوله: ((برد العيش)): أصل البرد في الكلام: السهولة. قوله: ((خشيتك)): خوف مقترن مع تعظيم. قوله: ((ضراء)): عكس السراء, وهي الحال المضرة. قوله: ((فتنة)): الاختبار والامتحان. ... الشرح: قوله: ((اللَّهم بعلمك الغيب)): الباء للاستعطاف والتذلّل, أي أنشدك بحق علمك ما خفي على خلقك (¬1)، ولم يخف عليك مما استأثرت به, فيه تفويض العبد أموره إلى اللَّه جل شأنه, وطلب الخيرة في أحواله، وشأنه منه جل وعلا, وتوسلاً إليه سبحانه ¬

(¬1) العلم الهيب، 311.

الحاجات التي يطلبها العبد من الله تعالى نوعان:

وتعالى بعلمه الذي وسع كل شيء, وأحاط بكل شيء. قوله: ((وبقدرتك على الخلق)): توسل لكمال قدرته النافذة على جميع المخلوقات: إنسها، وجنّها، وملائكتها، وهذا توسل بصفة القدرة بعد صفة العلم، أرجَى في قبول الدعاء واستجابته؛ لأن التوسل بأسماء اللَّه وصفاته كما سبق مراراً هو أكبر الوسائل التي يرجى معها استجابة الدعاء. ((وينبغي أن يعلم أن الحاجات التي يطلبها العبد من اللَّه تعالى نوعان: النوع الأول: ما عُلِم أنه خير محضٍ، كسؤال خشيته من اللَّه تعالى, وطاعته وتقواه، وسؤال الجنة، والاستعاذة من النار, فهذا يطلب من اللَّه تعالى بغير تردد، ولا تعليم بالعلم بالمصلحة؛ لأنه خير محض. النوع الثاني: ما لا يعلم هل هو خير للعبد أم لا، كالموت والحياة، والغنى والفقر، والولد والأهل، وكسائر حوائج الدنيا التي يجهل عواقبها، فهذه لا ينبغي أن يُسأل اللَّه منها إلا ما يعلم فيه الخيرة للعبد؛ لأن العبد جاهل بعواقب الأمور، وقد تضمّن الدعاء في هذا الحديث النوعين معاً؛ فإنه لما سأل الموت والحياة قيّد ذلك بما يعلم اللَّه تعالى أن فيه الخيرة لعبده, ولما سأل الخشية وما بعدها مما هو خير صرف جزم به، ولم يقيّده بشيء)) (¬1). ولهذا ينبغي للعبد أن يفقه في باب الدعاء، ما يدعو به؛ لأنه يدعو رب الأرض والسموات، فينبغي أن يتخيَّر لمولاه أجمل ¬

(¬1) مجموع رسائل ابن رجب: 1/ 164.

الألفاظ، وأحسن المعاني، وأنبل الأماني. قوله: ((أحيني ما علمت الحياة خيراً لي)): أسألك بأن تحيني حياة طيبة، بأن يغلب خيري على شرّي, بأن أتمسك بشريعتك، متبعاً لسنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، إذا كانت الحياة خيراً لي, وفي هذا تفويض كامل للَّه تعالى, وتقديم اختياره تعالى على اختيار نفسه, لعجزه، وضعف اختيار العبد لنفسه، فهو عاجز عن تحصيل مصالحه، ودفع مضارّه إلا بما أعانه اللَّه عليه، ويَسَّره له, وفيه كذلك حسن الظن باللَّه جل وعلا بكمال أفعاله، وصفاته المقترنة بكمال الحكمة والعلم والعدل. قوله: ((وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي)): بأن تغلب سيئاتي على حسناتي, بأن تقع الفتن والفساد والشر في الدين، ففي هذه الحال يكون الموت خيراً لما فيه من الراحة للمؤمن، والسلامة من البلايا؛ ولهذا جاء النهي في السنة عن تمني الموت لضُر نزل بالعبد لجهله بالعواقب، ففي صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ)) (¬1). أي علّة النهي عن تمني الموت بأن العبد إن كان محسناً فحياته يرجى أن يزداد بها إحساناً، وإن كان مسيئاً فإنه يسترضي اللَّه بالإقلاع عن الذنوب، وطلب المغفرة. ثم شرع في سؤال المنجيات الثلاث كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ: شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ ¬

(¬1) صحيح البخاري، كتاب التمني، باب ما يُكره من التمني، برقم 7235.

والموجب لخشية الله تعالى في السر والعلانية، أمور منها:

بِنَفْسِهِ، وَثَلَاثٌ مُنْجِيَاتٌ: خَشْيَةُ اللَّهِ فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ، وَالْقَصْدَ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَكَلِمَةُ الْحَقِّ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ)) (¬1). قوله: ((وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة)): أي أسألك يا إلهي دوام الخشية مع الخوف في السر والعلن، والظاهر والباطن في حال كوني مع الناس، أو غائباً عنهم، فإن خشيتك رأس كُل خير، فقد مدح اللَّه جل وعلا في عدة آيات من يخشاه بالغيب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} (¬2)، وقال: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} (¬3). ((وقد فُسّر الغيب في هذه الآيات بالدنيا؛ لأن أهلها في غيب عما وعدوا به من أمر الآخرة، والموجب لخشية اللَّه تعالى في السر والعلانية، أمور منها: 1 - قوة الإيمان بوعده ووعيده على المعاصي. 2 - النظر في شدة بطشه وانتقامه وقوته وقهره. 3 - قوة المراقبة للَّه، والعلم بأنه شاهد ورقيب على قلوب عباده ¬

(¬1) الطبراني في الأوسط، 5/ 328، برقم 5452، والبيهقي في شعب الإيمان، 2/ 203، ومسند الشهاب، 1/ 214، ومسند الفردوس، 1/ 173، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، 2/ 7، وروى البزار القسم الأول منه، 2/ 346، وقال العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة: ((وبالجملة فالحديث بمجموع هذه الطرق حسن على أقل الدرجات إن شاء الله تعالى))، 4/ 301،، برقم 1802. (¬2) سورة الملك، الآية: 12. (¬3) سورة ق، الآية: 33.

وأعمالهم، وأنه مع عباده، حيث كانوا)) (¬1). قوله: ((وأسألك كلمة الحق في الرضى والغضب)): وهذا المطلب عزيز جداً يقلّ في واقع العبد، لذلك سأله ربَّه تعالى، وأسألك يا اللَّه النطق بالحق في جميع أحوالي، في حال غضبي، وفي حال رضاي، فلا أداهن في حال رضى الناس وغضبهم عليَّ، ويكون الحق مقصدي في جميع الأحوال. قوله: ((وأسألك القصد في الغنى والفقر)): وبأن أكون مقتصداً معتدلاً في حال غناي وفقري، فلا أنفق في الغنى بسرف، ولا طغيان، ولا أضيّق في حال فقري خوف نفاد الرزق، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} (¬2). والقوام هو القصد، والتوسّط، وفي كل الأمور. قوله: ((وأسألك نعيماً لا ينفد)): أي أسألك نعيماً لا ينقضي، ولا ينتهي، وليس ذلك إلا نعيم الآخرة، قال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (¬3)، وقال جل شأنه: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (¬4) أي في الجنة، فهو دائم لا ينتهي ولا ينقص. ((أما نعيم الدنيا فهو نافد، كما أن الدنيا كلها نافذة، وكأنه حين ¬

(¬1) مجموع رسائل ابن رجب 1/ 164. (¬2) سورة الفرقان، الآية: 67. (¬3) سورة النحل، الآية: 96. (¬4) سورة ص، الآية: 54.

ينزل به الموت وسكراته لم يذق نعيماً من نعيم الدنيا)) (¬1). قوله: ((وأسألك قرة عين لا تنقطع)): وقرة العين هي من جملة النعيم الذي أسأله في الدنيا والآخرة؛ لأن النعيم منه ما هو منقطع، ومنه ما لا ينقطع، فمن قرّت عينه بالدنيا فقُرَّة عينه منقطعة، سروره فيها زائل؛ لأن لذاتها مشوبة بالفجائع والمنغصات، فلا تقرَّ عين المؤمن في الدنيا إلا باللَّه - عز وجل -، وذكره ومحبته والأنس به، والمحافظة على طاعته في الليل والنهار، ومن أعظمها الصلاة، كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ)) (¬2)، وقرّة العين في الآخرة تشمل النعيم في البرزخ، وفي الجنة، وقرّة العين التي لاتنقطع هي التي لا تنتهي، فإنّ من قرَّت عينه باللَّه جلّ وعلا فقد حصلت له قرة عين لا تنقطع في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة. قوله: ((وأسألك الرضى بعد القضاء)): سأل الرضى بعد حلول القضاء؛ لأنه حينئذ تتبين حقيقة الرضا، وأما الرضى قبل القضاء، فهو عزم ودعوى من العبد، فإذا وقع القضاء، فقد تنفسخ العزائم، وسؤال اللَّه الرضى بعد القضاء يتضمن الرضا بما فيه من خير أو شر، فأما في الخير فيرضى ويقنع به ولا يتكلف في طلب ¬

(¬1) مجموع رسائل ابن رجب، ص 173. (¬2) مسند أحمد، 21/ 433، برقم 14037، وعبد الرزاق، والنسائي في السنن الكبرى، 5/ 280، والطبراني في الكبير، 20/ 420، والحاكم، 2/ 160، وجوّد إسناده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 13/ 94، وفي صحيح الجامع، برقم 3098.

الزيادة، ويشكر على ما أوتي به. وأما في الشر فيصبر، ولا يتكلّف في طلب الزيادة، ويشكر على ما أوتي به، وأما في الشر فيصبر ولا ينزعج ولا يتسخّط، ويتلّقاه بوجهٍ منبسطٍ، وخاطرٍ منشرحٍ، وشكرٍ مستمرٍّ (¬1)، والرضى بالقضاء مقام عظيم، من حصل له فقد رضي اللَّه عنه، فإن الجزاء من جنس العمل، قال اللَّه تعالى: {رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} (¬2). ((قال عبد الواحد بن زيد: الرضا باب اللَّه الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العابدين)) (¬3). قوله: ((وأسألك بَرْدَ العيش بعد الموت)): أي أسألك الراحة بعد الموت، ويكون ذلك برفع الروح إلى الجنان في عليين، وهذا يدل على أن العيش وطيبه، وبرده، إنما يكون بعد الموت للمؤمن، فإن العيش قبل الموت منغصٌ لما فيه من الهموم والغموم. قوله: ((وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك)): جمع هذا الدعاء أطيب وأهنأ شيء في الدنيا، وهو الشوق إلى لقاء اللَّه - عز وجل -، وأنعم وأطيب شيء في الآخرة هو النظر إلى وجه اللَّه الكريم، الذي لا شيء أجمل، ولا أنعم، ولا أهنأ من رؤيته، فعن صهيب - رضي الله عنه -، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُريدُونَ شَيئاً أَزيدُكُمْ؟ فَيقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ ¬

(¬1) الشر في القضاء كما سبق في المخلوق، وليس في صفات الله تعالى وأفعاله؛ لأنها كلها خير، وحق، وعدل، وفضل، ولطف، وليعلم أن الله تعالى لا يخلق شراً محضاً، بل لا بد فيه من خير من جهة أخرى. (¬2) سورة المجادلة، الآية: 22. (¬3) مجموع رسائل ابن رجب، 1/ 175.

وُجُوهَنَا؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ قال: فَيَكْشِفُ الحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلَى رَبِّهِمْ - عز وجل -)) (¬1)، فهو أعظم من كل نعيم في الجنة وما فيها. قوله: ((في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مُضلة)): أي أسألك شوقاً لا يوجد فيه ما يُضرني في ديني، ولا في دنياي بأن أحيا حياة خالية من الضرّ والبلاء الذي لا صبر عليه، وخالية من الفتن المضلّة، الموقعة في الحيرة، ومفضية إلى الهلاك. قوله: ((اللَّهم زَينا بزينة الإيمان)): يا اللَّه زيَّن بواطننا وظواهرنا بزينة الإيمان، فتشمل زينة الباطن بالاعتقاد الصحيح، واليقين الثابت، وزينة اللسان بالذكر والقرآن، وزينة الظاهر بالأعمال الصالحة، والطاعة الدائمة، فإن الزينة الكاملة النافعة الدائمة، هي زينة الإيمان والتقوى إذا شملت القلب والبدن. فقد سمَّى اللَّه تعالى التقوى لباساً، وأخبر أنها خير من لباس الأبدان {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} (¬2) (¬3). قوله: ((واجعلنا هداة مهتدين)): بأن نهدي أنفسنا، ونهدي غيرنا، وهذا أفضل الدرجات، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (¬4)، وكما في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاوية - رضي الله عنه -: ((اللَّهم اجعله هادياً ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم - سبحانه وتعالى -، برقم 180. (¬2) سورة الأعراف، الآية: 26. (¬3) مجموع رسائل ابن رجب، 1/ 180. (¬4) سورة الأنبياء، الآية: 73.

108 - اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك

مهدياً، واهده، واهد به)) (¬1). ووصف الهداة بالمهتدين، وذلك أن يكون العبد عالماً بالحق متبعاً له، معلّماً لغيره ومرشداً له، ((ويدخل فيمن دعا إلى الهدى، ومن دعا إلى التوحيد من الشرك إلى السنة من البدعة)) (¬2)، فحقّ على الداعي أن يعتني بهذا الدعاء العظيم الجامع والشامل لكل خيرات الدنيا والآخرة. 108 - ((اللَّهُمَّ ارزُقني حُبَّكَ، وحُبَّ مَنْ يَنْفَعُني حُبُّهُ عندَك، اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَني مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغاً لِي فِيمَا تُحِبُّ)) (¬3). المفردات: ((زويت)): صرفت ومحيت. ¬

(¬1) أخرجه أحمد،29/ 426،برقم 17895،والترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه -، برقم 3842، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم، 4/ 1836، والطبراني في الأوسط، 1/ 205، وابن حبان، 16/ 176، وصححه الألباني في صحيح الترمذي 3/ 236، والمشكاة، برقم 623، سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1969. (¬2) مجموع رسائل ابن رجب، 1/ 180. (¬3) أخرجه الترمذي كتاب الدعوات، باب ما جاء في عقد التسبيح باليد،، برقم 3491، وحسنه. ومصنف ابن أبي شيبة، 10/ 354، برقم 30208، وقال الشيخ عبد القادر الأرنؤوط: ((وهو كما قال)). انظر تحقيقه لجامع الأصول، 4/ 341.

الشرح:

الشرح: قوله: ((اللَّهم ارزقني حُبَّك)): اللَّهم ارزقني بفضلك حُبك، لأنه لا سعادة لقلبي، ولا لذة، ولا نعيم، ولا صلاح إلا بأن تكون أحب إليّ من كل شيء مما سواك، وارزقني حُبَّ نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - باتباعه، لا ينفعني عندك إلا حُبُّه، وارزقني حبَّ أوليائك كالملائكة، والأنبياء، والمؤمنين. قوله: ((اللَّهم ما رزقتني مما أحب، فاجعله قوة لي فيما تحب)): اللَّهمّ أسألك ما رزقتني مما أحب من عافية البدن وقوته، ومتاع الدنيا من المال والأولاد والفراغ، فاجعله قوّة وعدّة وإعانة لي فيما تحبّ بأن تصرفه فيما تحبّه وترضاه من الطاعة والعبادة، من الأقوال والأفعال. قوله: ((اللَّهمّ ما زَويْت عنِّي مما أحبّ، فاجعله فراغاً لي فيما تُحبّ)) اللَّهمّ ما صرفت ومحوت عني من محابّي من المال والأولاد، وزخرف الدنيا وزينتها، فاجعله سبباً لفراغي بمحابّك من الطاعة، والعبادة لك، ولا تشغل به قلبي وفكري، فيُشغَل عن ذكرك يا اللَّه. سأل اللَّه تعالى التوفيق إلى محابّه في كل أحواله؛ لأن محبة اللَّه تعالى هي أعظم العون على القيام بطاعته تعالى، واجتناب مناهيه، فينبغي للعبد الإكثار من سؤال اللَّه تبارك وتعالى محبّته؛ لأنها أعظم المطالب، وأسمى المراتب. قد انطوى تحت هذا الحديث عدّة مقامات عظيمة: مقام الحب،

109 - اللهم طهرني من الذنوب والخطايا، اللهم نقني منها.

ومقام التوحيد، ومقام الصبر، ومقام الشكر، ومقام الرضى، ومقام التسليم، ومقام الأُنس، ومقام البسط، ومقام التمكين، وغير ذلك، ولم يجتمع مثلها في حديث قصير إلا قليلاً، فأنت ترى جُلّ مقامات العبودية قد دخلت فيه (¬1). 109 - ((اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي مِنَ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا، اللَّهُمَّ نَقِّنِي مِنْهَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ، اللَّهُمَّ طَهِّرْنِي بِالثَّلْجِ وَالْبَرَدِ وَالْمَاءِ الْبَارِدِ)) (¬2). الشرح: قوله: ((اللَّهم طهّرني من الذنوب والخطايا، اللَّهم نقني منها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)): جمع بين طهارة الذنوب ونقائها، مبالغة في سؤال اللَّه السلامة من الذنوب، ومحو أثرها، كنقاء وصفاء الثوب الأبيض من الوسخ، لأن التطهير فيه أظهر من أي لون آخر. ثم سأل اللَّه تعالى التطهير بأنواع المغفرة التي تمحق الذنوب، وذكر التطهير بأنواعه الثلاثة: ((الثلج، والبرد، والماء البارد))، تعبير عن غاية المحو، فإن الثواب الذي يتكرر عليه ثلاثة أشياء منقيّة، يكون في غاية النقاء، فذكر أنواع التطهير مبالغة في توكيد التطهير، ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 109. (¬2) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقول إذا رفع رأسه من الركوع، برقم 476، والنسائي، كتاب الغسل والتيمم، باب الاغتسال بالثلج والبرد، برقم 400، واللفظ له.

110 - اللهم إني أعوذ بك من البخل، والجبن، وسوء العمر،

وخصَّ هذه الثلاثة بالذكر كذلك؛ لأنها منزلة من السماء، ولا يمكن حصول الطهارة الكاملة إلا بواحدة منها، فكان تبياناً لأنواع المغفرة التي لا يخلص من الذنوب إلا بها، أي: طهّرني من الخطايا بأنواع مغفرتك التي هي في تمحيص الذنوب بمنزلة هذه الأنواع الثلاثة في إزالة الأرجاس، ورفع الأحداث والأنجاس، وفي سؤال اللَّه تعالى المغفرة يتضمّن سؤال اللَّه تعالى العصمة من اقتراف الذنوب بكل أنواعها وأشكالها (¬1). 110 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْبُخْلِ، وَالْجُبْنِ، وَسُوءِ الْعُمُرِ، وَفِتْنَةِ الصَّدْرِ، وَعَذَابِ الْقَبْرِ)) (¬2). الشرح: تكرّرت في دعوات النبي - صلى الله عليه وسلم - الاستعاذة من هذه المطالب المهمّة؛ لأن فيها يقع الضرر في الدين والدنيا، وذلك أن البخل: يمنع من أداء الواجبات المالية المفروضة على العبد، كالزكاة، ¬

(¬1) انظر: تحفة الذاكرين، 153 - 160، والفتوحات الربانية، 1/ 438. (¬2) النسائي، كتاب الاستعاذة، الاستعاذة من سوء العمر، برقم 5469، ولفظه: ((كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من خمس: اللهم إني أعوذ بك من البخل، والجبن، وأعوذ بك سوء العمر، وأعوذ بك من فتنة الصدر، وأعوذ بك من عذاب القبر))، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب صفة الصلاة، الاستعاذة من سوء العمر، برقم 7881، وأخرجه أبو داود، كتاب الوتر، باب في الاستعاذة، برقم 1539، وابن حبان، 3/ 300، برقم 1024، والبزار، 1/ 455، وحسنه الأرنؤوط في تخريجه لجامع الأصول، 4/ 363، وقال في تحقيقه لصحيح ابن حبان، 3/ 300: ((إسناده صحيح على شرط مسلم))، وقال الشيخ الألباني في التعليقات الحسان، 3/ 1073: ((صحيح لغيره)).

111 - اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، ورب إسرافيل

والإنفاق على من تجب عليه النفقة: كالوالدين، والزوجة، والذرية، وغير ذلك، واستعاذ من ((الجبن)) الذي هو ضدّ الشجاعة والإقدام، وهو صفة ذميمة، يؤدي إلى عدم الوفاء بكثير من الواجبات الشرعية، كالجهاد في سبيل اللَّه، والصدع بالحق من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر وغير ذلك. قوله: ((وسوء العمر))، هو البلوغ إلى حدّ الهرم، مما يؤدي إلى الخرف من ذهاب العقل، فيصبح كالطفل في قلّة الفهم، وضعف القوّة الذهنية والبدنية، فيصبح عالة على الأهل. قوله: ((وأعوذ بك من فتنة الصدر)): هو استعاذة بكل ما ينطوي عليه الصدر من الغلّ، والحسد، والشكوك، والوسواس، وعقيدة غير مرضية من سوء الاعتقاد، ((وعذاب القبر))، فإنه حق ثابت في الكتاب والسنة، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يستعيذ منه في كل صلاة لخطورة أمره. 111 - ((اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، وَرَبَّ إِسْرَافِيلَ، أَعُوذُ بِكَ مِنَ حَرِّ النَّارِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ)) (¬1). ¬

(¬1) أخرجه النسائي، كتاب الاستعاذة، الاستعاذة من حر النار، برقم 5519، وفي الكبرى، كتاب صفة الصلاة، الاستعاذة من حر النار، وأحمد، 40/ 380، برقم 24324، والبيهقي في الدعوات، برقم 109، وأبو يعلى، 8/ 213، برقم 4779، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 1121، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم 1544.

المفردات

المفردات: ((الرب)): هو: السيد، والمالك، والمنعم، والمربي، والمصلح. ((جبريل)): المَلَك الموكّل بالوحي. ((ميكائيل)): الموكل بالقطر، والنبات. ((وإسرافيل)): المَلَك الموكل بالنفخ في الصور. الشرح: قوله: ((اللَّهم رب جبريل)): فيه توسّل إلى اللَّه بربوبية جبريل، وهو الموكل بالوحي الذي فيه حياة القلوب، وهدايتها. قوله: ((ورب ميكائيل)): وهو توسّل بربوبية اللَّه لميكائيل الموكل بالقطر والنبات الذي فيه حياة الأرض والحيوان. قوله: ((ورب إسرافيل)): وهو الموكل بالنفخ بالصور الذي هو سبب حياة العالم، وعودة الأرواح إلى الأشباح. فوجه تخصيص السؤال بربوبيته لهؤلاء الملائكة، وهو ربّ كلّ شيء لانتظام هذا الوجود بهم؛ ولأنهم أشرف الملائكة؛ لما أنها موكلة بالحياة بأنواعها، والإتيان على هذا الترتيب لفضل مراتبهم بالذكر. فالتوسل إلى اللَّه - سبحانه وتعالى - بربوبيته لهذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة له تأثير في حصول المطلوب (¬1). ¬

(¬1) انظر: فيض القدير، 2/ 101.

112 - اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي.

قوله: ((أعوذ بك من حرِّ النار)): سأل اللَّه النجاة من النار بعد توسله بربوبيته العظيمة لهذه الأملاك العظيمة؛ لعظم أمرها، وخطورة شأنها، وشدّة هولها، وهذا من أفضل أنواع التوسل قبل الدعاء كما تقدم. قوله: ((وعذاب القبر)): القبر هو أول منزل من منازل الآخرة، فعَنْ هَانِئٍ مَوْلَى عُثْمَانَ - رضي الله عنه -، قَالَ: ((كَانَ عُثْمَانُ إِذَا وَقَفَ عَلَى قَبْرٍ بَكَى، حَتَّى يَبُلَّ لِحْيَتَهُ، فَقِيلَ لَهُ: تَذْكُرُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ فَلا تَبْكِي، وَتَبْكِي مِنْ هَذَا؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: ((إنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ، فَإِنْ نَجا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ، فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ)). قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا رَأَيْتُ مَنْظَرًا قَطُّ إِلَّا وَالْقَبْرُ أَفْظَعُ مِنْه)) (¬1). فعذاب القبر حق وثابت؛ ولهذا كان المصطفى - صلى الله عليه وسلم - يأمر بالاستعاذة منه في كل صلاة، فلا ينجو منه إلا المؤمن الموحِّد المُخلِص. 112 - ((اللَّهُمَّ أَلْهِمْنِي رُشْدِي، وَأَعِذْنِي مِنْ شَرِّ نَفْسِي)) (¬2). ¬

(¬1) الترمذي، كتاب الزهد، باب حدثنا هناد، برقم 2308، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى، برقم 4267، وأحمد، 1/ 503، برقم 453، والحاكم، 1/ 371، والبيهقي، 4/ 256، والمقدسي في المختارة، 1/ 524، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 3442، وصحيح الجامع الصغير، برقم 1684. (¬2) رواه أحمد، 33/ 197، برقم 19992، والترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا أحمد بن معاوية، برقم 3483، واللفظ له، والبزار، 9/ 53، والأسماء والصفات للبيهقي، 2/ 430، وإسناده عند أحمد صحيح على شرط مسلم، كما قال محققو المسند، 33/ 197.

المفردات

المفردات: الرشد: خلاف الغي، يستعمل استعمال الهداية (¬1). الشرح: سأل اللَّه تعالى أن يوقع في نفسه الرشد، وهو طاعة اللَّه ورسوله، كما أرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيباً في خطبته: ((من يطع اللَّه ورسوله فقد رشد، ومن يعص اللَّه ورسوله فقد غوى)) (¬2). أي: يا اللَّه، يا ذا الأسماء الحسنى، والصفات العُلا, ألقِ في نفسي الهداية, والصلاح, والرشاد، والسداد, واعصمني من شرِّ نفسي؛ لأنها أمَّارة بالسوء, فشرّ النفس أحد منابع الشر وأصوله، وطرقه المؤدية إلى الهلاك، إذا لم يعصم اللَّه تعالى العبد منها, قال اللَّه تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬3). 113 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ)) (¬4). ¬

(¬1) المفردات ص 354. (¬2) مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم 870. (¬3) سورة يوسف, الآية: 53. (¬4) أخرجه النسائي في الكبرى، كتاب صفة الصلاة، الاستعاذة من علم لا ينفع، برقم 7818، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما تعوذ منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3843، والطبراني في الأوسط، 7/ 154، برقم 7139، وابن حبان، 1/ 283، برقم 82، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، 2/ 327، ولفظه: ((سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع)).

114 - اللهم رب السموات السبع ورب الأرض، ورب العرش

الشرح: أمر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - أن نسأل اللَّه علماً نافعاً، وهو الذي يُهذِّب الأخلاق الباطنة، فيسري إلى الأعمال الظاهرة, فيصلح الظاهر، والباطن, والعلم النافع هو العلم بالشريعة الذي يفيد المكلف ما يجب عليه من أمور دينه في عباداته، ومعاملاته، وأخلاقه، وسلوكه. وأفضل العلوم النافعة في الوجود، وأولاها: العلم باللَّه جلّ شأنه، وأسمائه، وصفاته، [وأفعاله]، [و] الذي يجوز في حقه تعالى، وما لا يجوز, فهذا هو أعظم العلوم وأنفعها, ومن علامة إرادة اللَّه الخير لعبده, التوفيق لطلب العلم وتفقهه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد اللَّه به خيراً يفقهه في الدين)) (¬1). قوله: ((وتعوذوا باللَّه من علم لا ينفع)): وهو العلم الذي لا يُعمل به، ولا يُعلمه، ولا ينتفع به، ولا يُهذِّب الأخلاق والأقوال والأفعال, وهذا حجة على صاحبه، ويدخل كذلك في علم لا ينفع من لا يؤذن في تعلمه، كالعلوم الفاسدة، مثل: السحر وغيرها. 114 - ((اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَوَاتِ [السَّبْعِ] وَرَبَّ الْأَرْضِ، وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، ¬

(¬1) البخاري، كتاب العلم، باب من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، برقم 71، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم 1037.

المفردات:

أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ)) (¬1). المفردات: الفلق: بسكون اللام, وهو الشق. ... الشرح: هذا دعاء عظيم، ذو شأن كبير؛ لما فيه من التوسلات العظيمة إلى اللَّه تبارك وتعالى بربوبيته لكل شيء, والتي منها الأجرام العظيمة من السموات السبع, والأرضين السبع, وأعظم المخلوقات العرش العظيم, وبإنزاله لكلامه العظيم، ووحيه المبين، بأن يحفظه من جميع الشرور, كما اشتمل على التوسل إلى اللَّه جل وعلا ببعض أسمائه الحسنى الجليلة، الدالة على كمال صفاته العظيمة، بأن يقضي عن الإنسان دينه، ويغنيه من الفقر. قوله: ((اللَّهم رب السموات السبع, ورب الأرض، ورب العرش العظيم)): أي يا خالق هذه الكائنات العظيمة ومبدعها، وموجدها من ¬

(¬1) أخرجه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع، برقم 2713، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.

العدم, وخُص بربوبيته لهذه المخلوقات بالذكر؛ لعظمها وكبرها, ولكثرة ما فيها من الآيات البينات, والدلالات الباهرات على كمال خالقها وعظمة مبدعها (¬1)، قال اللَّه تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2). وقوله: ((رب العرش العظيم)) توسل بربوبيته لأعظم المخلوقات كما روى عبد الرحمن بن زيد قال: حدثني أبي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس))، قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَا الْكُرْسِيُّ فِي الْعَرْشِ، إِلَّا كَحَلَقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاةٍ مِنَ الْأَرْضِ)) (¬3)، والكرسي أكبر من السموات والأرض {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ} (¬4)، فانظر رحمك اللَّه إلى عظم هذا العرش العظيم بهذه العظمة والسعة والمجد، فكيف بخالقه وموجده ومبدعه؟ تبارك ربنا وتعالى الذي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. وقوله: ((فالق الحب والنوى)): منه الفلق، وهو الشق أي: شاق حبة الطعام والنوى، وهي: عجمة التمر؛ لتخرج الأشجار والزروع؛ فإنَّ النباتات إما أشجار أصلها نوى، أو زروع أصلها الحب، فاللَّه - سبحانه وتعالى - ¬

(¬1) فقه الأدعية: 4/ 75. (¬2) سورة غافر، الآية: 57. (¬3) الطبري في التفسير، 5/ 399، برقم 5794، العظمة لأبي الشيخ، 2/ 587، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، 1/ 108، برقم 109، (¬4) سورة البقرة , الآية: 255.

لكمال قدرته، وبديع خلقه هو الذي يفتح هذا الحبّ والنوى اليابس الذي كالحجر لا ينمو ولا يزيد، فينفرج وتخرج منه الزروع العظيمة، والأشجار الكبيرة، وفي هذا آية باهرةٌ على كمال المبدع، وعظمة خالقه - سبحانه وتعالى - كما قال اللَّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} (¬1) (¬2)، ((والتخصيص في ذكرهما إما لفضلهما، واحتياج كل الخلائق لهما، أو لكثرة وجودهما في ديار العرب)) (¬3)، ولا شك أن كلا الأمرين متعين فيهما. قوله: ((ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان)): فيه توسُّل إلى اللَّه - عز وجل - بإنزاله لهذه الكتب العظيمة المشتملة على هداية الناس، وفلاحهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وخص هذه الكتب الثلاثة؛ لأنها أعظم كتب أنزلها اللَّه تعالى، وذكرها مرتبة ترتيباً زمنياً، ((والفرقان)) هو القرآن (¬4)، وسُمِّي فرقاناً لأنه يفرق بين الحق والباطل، وفي هذا دلالة على أن هذه الكتب من كلام اللَّه، أي صفة من صفاته، وهي صفة الكلام العظيمة، وهي صفة ذات وفعل، ولهذا فرق جل وعلا في هذا الدعاء بينهما، ففي المخلوقات قال: ((رب)) و ((وفالق))، وفي كلامه ووحيه قال: ((مُنزل))؛ لأن كلامه تعالى غير مخلوق. ثم شرع بسؤال مطلوبه بعد ذكر هذه الوسائل العظيمة طمعاً في ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 95. (¬2) فقه الأدعية، 4/ 75، وانظر: تفسير الرازي، 13/ 93، فله كلام نفيس جداً. (¬3) الفتوحات الربانية، 1/ 728. (¬4) كما في رواية ابن ماجه: (والقرآن العظيم) 3831.

حصول الإجابة. قوله: ((أعوذ بك من شرِّ كل شيء أنت آخذ بناصيته)): شملت هذه الاستعاذة على كل الشرور، فإن (كل) من صيغ العموم، (شيء) أعم العمومات، فما من شر إلا وقد استعيذ منه. وأعوذ: أي ألتجيء، وأعتصم بك، وأحتمي بجانبك: فمن استعاذ بك عذته. قوله: ((ومن شر كل دابة)) الدابة: هي كل ما يدبُّ على الأرض، وهو يشمل الذي يمشي على بطنه، أو على رجلين، أو على أربع، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (¬1). قوله: ((أنت آخذٌ بناصيتها))، والناصية هي مقدم الرأس، فيه دلالة على أن كل المخلوقات داخلةٌ تحت قهره وسلطانه وتصرفه قادرٌ عليها، يتصرف فيها كيف يشاء، ويحكم فيها ما يريد عز شأنه. ثم شرع في التوسل ببعض أسمائه الحسنى، وصفاته العظيمة العُلا فقال: ((اللَّهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء)): أي يا اللَّه، أنت الأول الذي لا شيء قبلك، ولا معك، وأنت الآخر الباقي بلا انتهاء، بعد فناء كل شيء، وأنت ((الظاهر فليس فوقك شيء)): أي أنت العالي فوق كل شيء، فلا شيء أعلى منك، ((وأنت الباطن)): أي أنت المطلع على السرائر والضمائر والخبايا والخفايا، وأنت المحتجب عن الخلق، فلا يقدر أحد على ¬

(¬1) سورة النور، الآية: 45.

115 - اللهم ألف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام

إدراك ذاتك مع كمال ظهورك. ومدار هذه الأسماء الأربعة على بيان إحاطة الرب - سبحانه وتعالى -، وهي إحاطتان: زمانية ومكانية، أما الزمانية فقد دل عليها اسمه الأول والآخر، والمكانية فقد دل عليها اسمه الظاهر والباطن، وهذا مقتضى تفسير النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا تفسير أكمل من تفسيره (¬1). قوله: ((اقض عنَّا الدين)) فبعد تلك التوسلات الجليلة من أسمائه العليَّة شرع في السؤال والطلب: أي أدِّ عنا الحقوق التي بيننا وبينك، والحقوق التي بيننا وبين عبادك، وفي هذا تبرؤ العبد من الحول والقوة، وأنه لا حول له ولا قوة له إلا باللَّه العظيم. قوله: ((وأغننا من الفقر)) الغنى: هو عدم الحاجة لوجود الكفاية، والفقر: خلو ذات اليد، والفقير من وجد بعض كفايته، أو لم يجد شيئاً، والديْن والفقر همّهما عظيم يصيب العبد بسببهما الهم والحزن، وقد يوقعان الضرر في الدين والدنيا من ذل السؤال، والاحتياج إلى الخلق، والوقوع في المحذورات الشرعية من الكذب والإخلاف في الوعد، والتثاقل عن الطاعات، وغير ذلك الكثير من المذمومات (¬2). 115 - ((اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، ¬

(¬1) انظر: مدارج السالكين، 1/ 31، والحق الواضح، ص 25. (¬2) الفتوحات الربانية، 1/ 727، والعلم الهيب، ص 179، وفقه الأدعية، 4/ 74 - 78.

المفردات:

وَجَنِّبْنَا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا، وَأَبْصَارِنَا، وَقُلُوبِنَا، وَأَزْوَاجِنَا، وَذُرِّيَّاتِنَا، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، وَاجْعَلْنَا شَاكِرِينَ لِنِعْمِكَ مُثْنِينَ بِهَا عَلَيْكَ، قَابِلِينَ لَهَا، وَأَتِمِمْهَا عَلَيْنَا)) (¬1). المفردات: ألف: اجتماع مع التئام. الفواحش: قبائح الذنوب والكبائر مثل الزنى واللواط (¬2). الشرح: قوله: ((اللَّهم ألف بين قلوبنا)): أي اجعل بينها الإيناس والمودة والتراحم؛ لنثبت على الإسلام، ونقوى على الإيمان؛ لنصرة دينك، ونكون على قلب واحد كالجسد الواحد. قوله: ((وأصلح ذات بيننا)): أبعد عنا يا اللَّه الشحناء والفراق والشقاق بين الخصماء، لنكون على المحبة والإخاء فيما بيننا. قوله: ((واهدنا سبل السلام)): سُبل: جمع سبيل، وهي الطرق: أي دلنا ووفقنا إلى الطريق الذي فيه السلامة من الآفات والمهلكات ¬

(¬1) أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب التشهد، برقم 969، والحاكم، واللفظ له 1/ 265، وقال: ((صحيح على شرط مسلم))، ووافقه الذهبي، 1/ 26، وابن حبان، 3/ 277، وبمحوه في الأدب المفرد، ص122، ومسند البزار، 5/ 153، وقال عنه الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم 630: ((صحيح)). (¬2) المفردات، ص 81.

والضلالات، بالقيام بصالح الأعمال: من الواجبات والمستحبات، واجتناب المحرمات والمكروهات، حتى توصلنا إلى دار السلام وهي الجنة {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬1). قوله: ((ونجنا من الظلمات إلى النور)): أي انقذنا من ظلمات الدنيا والتي أعظمها: الشرك، والكفر، والنفاق، والفسوق، والمعاصي، والشرور إلى نور الطاعات والصالحات، والتي أعظمها: الإيمان، والتوحيد الخالص للَّه، جَمَعَ كلمة ((ظلمات)) وَوَحَّد ((النور))؛ لأن طرق الشر كثيرة، وطريق الحق واحد، كما قال اللَّه تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} (¬2). قوله: ((وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن)): أي أبعد عنا قبائح الذنوب القولية والفعلية التي تستقبحها كل العقول السليمة: الظاهرة منها، والباطنة، مثل: الزنى، واللواط، كما قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن} (¬3)، فسمَّاها اللَّه فواحش لتناهي قبحها، ففيه بيان أن العبد لا قوة له إلا باللَّه تعالى، لضعفه وعجزه في دفع الشرور، والسيئات، والمهلكات، وأنه لا غنى له عن ربه طرفة عين في كل أموره. قوله: ((وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا)): فيه سؤال اللَّه أن توظَّفَ هذه الأعضاء في الطاعات، والزيادة في الخيرات؛ فإن البركة هي النماء في الخير، والدوام عليه. ¬

(¬1) سورة الأنعام، الآية: 127. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 1. (¬3) سورة الأنعام، الآية: 151.

قوله: ((وأزواجنا وذرياتنا)): بتوفيقهم للطاعات، والإكثار من النسل الطيِّب، فتقر أعيننا بهم في الدنيا والآخرة، سأل اللَّه تعالى البركة لزوجه، ولذريته؛ ليكمل له الخير في كل محابه؛ فإنه لا أقرّ لعين العبد في أن يراه أهله على الطاعة، والاستقامة؛ لأن ذلك يعود عليهم جميعاً في نيل الزلفى، والاجتماع بعضهم مع بعض في جنات اللَّه العلا. قوله: ((وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم)) أي وفقنا للتوبة، وثبِّتنا عليها، ثم علَّل طمعه في ذلك بأن عادته جلَّ شأنه التفضل ((إنك أنت التواب الرحيم)) أي الرّجاع بعباده إلى مواطن النجاة، والتوّاب اسم من أسماء اللَّه الحسنى الدال على كثرة قبول توبة عباده، فهو يقبل توبة عبده كلما تكررت توبته لربه إلى ما لا نهاية [وهو الذي يوفق لها]. والرحيم: [اسم من أسماء اللَّه الحسنى يشتق منه صفة الرحمة للَّه - عز وجل -، على ما يليق بجلاله، ولا تشبه رحمته رحمة المخلوق]، والرحيم: المبالغة في الرحمة، والرحمة هي: العطف، والرأفة، وهي خاصة بالمؤمنين، كما قال اللَّه تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} (¬1). و ((الرحمن)) عام لجميع الخلائق: مؤمنهم، وكافرهم، إنسهم، وجنهم. قوله: ((واجعلنا شاكرين لنعمك)): أي إنعامك، بأن توفِّقنا إلى شكر نعمك التي لا تُحصى في الليل والنهار، وفي السرّ والعَلَن، ¬

(¬1) سورة الأحزاب، الآية: 43.

116 - اللهم إني أسألك خير المسألة، وخير الدعاء، وخير النجاح

فإن شكرها يقيض حفظها ودوامها، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} (¬1). قوله: ((مثنين بها عليك)): أي من الثناء، وهو المدح، والمراد هنا التحدث بالنعم، كما أمر اللَّه تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} (¬2)، {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (¬3). قوله: ((قابلين لها)):بالقول، والعمل، [والاعتراف، والتحدّث بها]. قوله: ((وأتممها علينا))، فيه طلب حفظ النعم، ودوامها، وبقائها (¬4). قوله: ((وأتممها علينا)): فيه طلب حفظ النعمة، وتمامها، وكمالها، ودوامها، ولا يكون ذلك إلا بحفظ أوامر اللَّه تعالى، والبعد عن محارمه ومعاصيه، وشكره جلَّ وعلا على كل نعمه، فتضمَّن هذا الدعاء سؤال اللَّه تعالى التوفيق إلى طاعته، والبعد عن معاصيه. 116 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ الْمَسْأَلَةِ، وَخَيْرَ الدُّعَاءِ، وَخَيْرَ النَّجَاحِ، وَخَيْرَ الْعَمَلِ، وَخَيْرَ الثَّوَابِ، وَخَيْرَ الْحَيَاةِ، وَخَيْرَ الْمَمَاتِ، وَثَبِّتْنِي، وَثَقِّل مَوَازِينِي، وَحَقِّقْ ¬

(¬1) سورة إبراهيم، الآية: 7. (¬2) سورة البقرة، الآية:231. (¬3) سورة الضحى، الآية: 11. (¬4) انظر: فيض القدير، 2/ 118، شرح الأدب المفرد، 2/ 282 بتصرف.

إِيمَانِي، وَارْفَعْ دَرَجَاتِي، وَتَقَبَّلْ صَلاَتِي، وَاغْفِرْ خَطِيئَتِي، وَأَسْأَلُكَ الدَّرَجَاتِ العُلاَ مِنَ الْجَنَّةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فَوَاتِحَ الْخَيْرِ، وَخَوَاتِمَهُ، وَجَوَامِعَهُ، وَأَوَّلَهُ، وَظَاهِرَهُ، وَبَاطِنَهُ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا مِنَ الْجَنَّةِ آمِينْ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ خَيْرَ مَا آتِي، وَخَيْرَ مَا أَفْعَلُ، وَخَيْرَ مَا أَعْمَلُ، وَخَيْرَ مَا بَطَنَ، وَخَيْرَ مَا ظَهَرَ، وَالدَّرَجَاتِ العُلَا مِنَ الْجَنَّةِ آمِينْ، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ أنْ تَرْفَعَ ذِكْرِي، وَتَضَعَ وِزْرِي، وَتُصْلِحَ أمْرِي، وَتُطَهِّرَ قَلْبِي، وَتُحَصِّنَ فَرْجِي، وَتُنَوِّرَ قَلْبِي، وَتَغْفِرَ لِي ذَنْبِي، وَأَسْأَلُكَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا مِنَ الْجَنَّةِ آمِينْ، اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ أنْ تُبَارِكَ فِي نَفْسِي، وَفِي سَمْعِي، وَفِي بَصَرِي، وَفِي رُوحِي، وَفِي خَلْقِي، وَفِي خُلُقِي، وَفِي أَهْلِي، وَفِي مَحْيَايَ، وَفِي مَمَاتِي، وَفِي عَمَلِي، فَتَقَبَّلْ حَسَنَاتِي، وَأَسْأَلُكَ الدَّرَجَاتِ العُلَا مِنَ الْجَنَّةِ، آمِينْ)) (¬1). ¬

(¬1) أخرجه الحاكم عن أم سلمة مرفوعاً، 1/ 520، وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 520، والبيهقي في الدعوات، برقم 225، والطبراني في الكبير، 23/ 326، برقم 717، والأوسط، 6/ 213، برقم 6218، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: ((رواه الطبراني في الكبير ورواه في الأوسط باختصار بأسانيد، وأحد إسنادي الكبير، والسياق له، ورجال الأوسط ثقات))، مجمع الزوائد، 10/ 280.

الشرح:

الشرح: هذا الدعاء العظيم المبارك الجامع لكل خيرات الدنيا والآخرة تفصيلاً، وتنويعاً، فهو أشمل وأكثر الأحاديث التي جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - التي فيها من التفصيل والتعميم والشمول في طلب كل أنواع الخير، وذلك ((إنَّ الجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال، كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفها؛ ولهذا يشرع تكرارها، وإبداؤها، وإعادتها؛ لأن في مقام الدعاء والتضرّع، وإظهار العبودية، والافتقار، واستحضار الأنواع التي يدعو بها العبد، ويسألها ربّه جلَّ وعلا أفضل، وأبلغ من اختصارها، فكلما كَثَّر العبدُ الدعاءَ، وطوَّله، وأعاده، وأبداه، ونوَّع جمله، كان ذلك أبلغ في عبوديته، وإظهار فقره، وتذلُّلِه، وحاجته، وكان ذلك أقربَ له من ربه، وأعظم لثوابه، واللَّه تعالى يحبُّ الملحِّين في الدعاء)) (¬1). قوله: ((اللَّهم إني أسألك خير المسألة، وخير الدعاء)): استفتح هذا الدعاء المبارك بسؤال اللَّه تعالى خير المسألة، وخيرها هو: أقواها تأثيراً في الإجابة، وأحسنها جمعاً للمطلوب الذي العبد أحوج إليه من غيره من خيري الدنيا والآخرة، وقوله (خير) على وزن فَعْل للتفضيل. ¬

(¬1) جلاء الإفهام، ص 230.

قوله: ((وخير النجاح)): أي التمام والكمال في الأمور، والحصول على كل المطلوب. قوله: ((وخير العمل)): أي التوفيق إلى أفضل العمل، وأحسنه الذي يحبّه الربُّ جلَّ وعلا، الذي فيه الثواب الأكثر، والأجزل، ومنه الصلاة؛ لأنها أفضل العمل قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اعلموا أن خير أعمالكم الصلاة)) (¬1). قوله: ((وخير الثواب)): فيه سؤال اللَّه أن يثيبه أكثر الثواب، وأحسنه، وأعظمه، بمضاعفة الأجر والثواب، فتضمّن هذا السؤال التوفيق إلى أفضل الأعمال، والأقوال عند اللَّه تعالى، وأرفعها قدراً. قوله: ((وخير الحياة)): أي أفضل الحياة، وأحسنها، بأن تكون في طاعة الرحمن، وحسن العبادة له، واجتناب معاصيه - عز وجل -، والحياة الطيبة المطمئنة الآمنة من البلاء، والمصائب، والأكدار. قوله: ((وخير الممات)): بأن يموت مَرْضِيَّاً عنه، مغفوراً له مثاباً، متشبثاً على الحق، وحسن الخاتمة من العمل الصالح، وكلمة الشهادة. قوله: ((وثبتني)): سؤال اللَّه الثبات، والاستقامة في جميع الأمور في الأقوال، والأفعال، والأخلاق في الدنيا، والبرزخ والآخرة؛ لما في حذف المفعول من إشعار بالتعميم والشمول. ¬

(¬1) ابن ماجه، كتاب الطهارة، باب المحافظة على الوضوء، برقم 277، وأحمد، 37/ 110، برقم 22436، وابن حبان، 3/ 311، والحاكم، 1/ 130، والبيهقي، 1/ 82، والدارمي، 1/ 66، وحسن إسناده الألباني في السلسلة الصحيحة، 1/ 181، برقم 115.

قوله: ((وثقِّل موازيني)): بكثرة الحسنات من الأعمال الفاضلات الصالحات على السيئات، ومنها حسن الخلق؛ لأنه أثقل الأعمال في الميزان، فإن من كثرت حسناته على سيئاته فقد فاز بالسعادة الأبدية، قال اللَّه تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون} (¬1). قوله: ((وحقِّق إيماني)): بأن يكون ثابتاً قوياً لا شك فيه، ولا ريب، سأل ربه تعالى أجلَّ مطالب الدين الذي عليه الفلاح في الدارين. قوله: ((وارفع درجاتي)): في الدنيا بإعلاء الثناء، والذكر الحسن، والقبول في الموعظة، وامتثال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والشفاعة، وغير ذلك، ورفع الدرجات والمنازل العالية في الآخرة. قوله: ((وتقبَّل صلاتي)): بأن تكون مقبولة؛ لأنها رأس الإيمان وأساسه، وقبولها يستلزم قبول غيرها من العمل. قوله: ((واغفر خطيئتي)): أي تجاوز عن كل خطيئاتي: سرّها، وعلانيتها: صغيرها، وكبيرها التي بيني وبينك، وبيني وبين عبادك؛ لأنَّ من غفر اللَّه له ذنوبه نجا من كل مرهوب، ونال كل محبوب. قوله: ((وأسألك الدرجات العُلا من الجنة آمين)): ختم هذا الدعاء بأعظم ما يتمنَّاه كل مؤمن، وهو الجنة، بل سأل الدرجات العُلا التي فيها، وهي أعلى منازلها ورتبها، وهذا الدعاء كالتخصيص في الدعاء السابق: ((وارفع درجاتي)) من باب عطف الخاص على ¬

(¬1) سورة الأعراف، الآية: 8.

العام؛ لأهميّة هذا الخاص، وشدّة العناية به، وذلك أن درجات الجنة هي أعلى وأغلى الدرجات والأمنيات، وهذا تعليم لرفع الهمة في الدعاء المستلزم للإكثار من العبادة الرافعة لدرجات الآخرة. عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَا لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ (¬1) , كَمَا تَرَوْنَ النَّجْمَ الطَّالِعَ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ, وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ, وَأَنْعِمَا)) (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ مِنَ الْأُفُقِ مِنَ الْمَشْرِقِ، أَوْ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ، قَالَ: ((بَلَى، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ: رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ، وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ)) (¬3). ثم ختم بالتأمين، ومعناه [اللهمّ استجب]، والتأكيد لما سبق من الدعاء. ¬

(¬1) أي أهل الجنة الذين دونهم في الرتب، ولا يخفى عليك عظم هذا النعيم، والرفعة العالية، حيث إن أصحاب الجنة يرونهم كما يرون الكواكب في أعلى السماء؛ لعظم التفاضل وعلو المراتب. (¬2) الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - ... ، برقم 3658، واللفظ له، وابن ماجه، المقدمة، باب في فضائل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، برقم 96، وأحمد، 17/ 301، برقم 11206، والطبراني في الكبير، 2/ 254، برقم 2065، وأبو يعلى، 2/ 369، وابن أبي شيبة، 12/ 32588، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2892، وصحيح ابن ماجه، برقم 96. (¬3) مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب ترائي أهل الجنة أهل الغرف، كما يرى الكوكب في السماء، برقم 2831، وبنحوه في: أحمد، 14/ 178، برقم 8471، وابن حبان، 16/ 404، والطبراني في الأوسط، 9/ 184، برقم 9488، والدارمي، 1/ 214 وغيرها.

ولا تخفى أهمية هذه الدعوات السابقة، بما حوته من مطالب عالية، وكذلك أنها جاءت بصيغة التفضيل التي تدلّ على الخيريّة، والأفضليّة، وهذا تحقيقاً في تعظيم الرغبة، والطلب في الدعاء الذي أمر به المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((إذَا دَعَا أحَدُكُمْ فَلْيُعَظِّمِ الرغبةَ؛ فَإِنَّه لاَ يَتَعَاظمُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ)) (¬1). قوله: ((اللَّهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه)): ((فجمع في السؤال بين طرفي الخير. قوله: ((وجوامعه)): سأل اللَّه جوامع الخير؛ لأنه ما يجمع الأمر المتفرّق هو أقرب إلى ضبطه, وأسهل لتيسيره، وأقرب لحصوله)) (¬2). ثم أكَّد الطلب فقال: ((وأوله، وآخره، وظاهره، وباطنه)) سؤال اللَّه كل الخير من جميع أنواعه، وصوره الظاهرة والباطنة، بأشمل، وأوسع عبارة في السؤال، وكان يغني سؤال اللَّه الخير بلفظة واحدة: ((اللَّهم إني أسألك الخير كله)) لكن في باب التضرع والسؤال، كما سبق أفضل في البسط والشمول، وحتى يستحضر أنواع الخير التي يتمنّاها العبد من ربه التي فيها سعادته في الدنيا والآخرة, ولا يخفى أن التفصيل في سؤال اللَّه تعالى الخير؛ لأنه تتشوق إليه كل نفس؛ فإن هذا المطلب عزيز في النفوس. ¬

(¬1) ابن حبان، 3/ 177، والدعوات الكبير للبيهقي، 2/ 93، وبنحو منه في صحيح مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب العزم بالدعاء، ولا يقل إن شئت، برقم 2679 بلفظ: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن اللَّه لا يتعاظمه شيء أعطاه)). وأما رواية ابن حبان، فصححها الألباني في التعليقات الحسان، 3/ 817، برقم 893. (¬2) تحفة الذاكرين, 438.

ثم ختم بقوله: ((والدرجات العُلا من الجنة آمين)) كرّر سؤال الدرجات العُلا من الجنة، وهي أعلى مراتبها كما سبق؛ لأن هذا المطلب لا أسمى، ولا أفضل منه لكل راغب في ما عند اللَّه تعالى في أن يكون في أعالي الجنان على الدوام؛ ولهذا كرّره - صلى الله عليه وسلم - بعد كل جملة من جمل الدعاء خمس مرات دلالة على أنه حق على كل داعٍ أن يكون جلَّ دعائه في هذه الأمور. قوله: ((اللَّهم إني أسألك خير ما آتي)) أي أسألك خير الذي آتيه من جميع الأمور, من الأقوال، والأفعال, والأخلاق كما دلَّ عليه اسم الموصول (ما). ثم عطف عليه ((خير ما أفعل، وخير ما بطن، وخير ما ظهر)): من عطف الخاص على العام، والنكتة فيه معروفة؛ لأهميته، وشدة العناية به, ففيه سؤال اللَّه أن تكون كل أعماله، وأفعاله على الوجه الأكمل، والأمثل المرضي عنده - عز وجل -. ثم ختم السؤال: ((وأسألك الدرجات العُلا من الجنة آمين)) مرة ثالثة, وهذا أقلّ درجات الإلحاح, وهذا يدلُّك على عظم هذا المطلوب, وأنه ينبغي أن يكون أكثر السؤال والمنوال, وهو دأب الراغبين في علو الهمة، والرغبة فيما عند اللَّه تعالى في دار الآخرة. قوله: ((اللَّهم إني أسألك أن ترفع ذكري)): سأل اللَّه أن يُعلي ذكره بالثناء عليه؛ لأنه يترتب على ذلك مصالح من قبول الحق, وامتثال الموعظة الحسنة، وهذا قد سأله خليل الرحمن إبراهيم: {وَاجْعَلْ

لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (¬1). قوله: ((وتضع وزري)): أن تسقط عني ذنوبي وآثامي. قوله: ((وتُصلح أمري)):سؤال اللَّه إصلاح أحواله كلها، وشؤونه, كما يدلّ عليه إضافة اسم الجنس إلى الضمير. قوله: ((وتطهر قلبي)): سأل اللَّه طهارة القلب من كل ما يشينه من سوء وإثم, فإذا طهر القلب أبصر الحق فتبعه, وعرف الباطل فاجتنبه (¬2). قوله: ((وتحصّن فرجي)): أي أسألك أن تعصمني من الوقوع بالذنوب المتعلقة بالفرج، ومنها النظر إلى كل ما حرُم الذي هو بريد الزنى، ومقدماته من الزنى، والاستمناء. قوله: ((وتُنور قلبي)): أسألك أن تنوّره بأنوار المعرفة، والهداية؛ لأن بتنويره يستلزم تنوير كل الأعضاء إلى اتباع الحق، واجتناب الباطل, سأل طهارة القلب أولاً من باب التخلية التي قبل التحلية, فإذا دخل النور فيه استلزم الهداية، وأنوار المعرفة، والحكمة، والعلم، والهدى، فيسري على كل الأعضاء، والأركان في الجسد. قوله: ((وتغفر لي ذنبي)): وأن تستر وتتجاوز عن سيئاتي كلها، ففي المغفرة الأمان من العذاب, والسلامة من كل مرهوب، والفوز بكل محبوب. ثم ختم الدعاء بمرة رابعة ((وأسألك الدرجات العُلا من الجنة ¬

(¬1) سورة الشعراء، الآية: 34. (¬2) تحفة الذاكرين، 439 بتصرف.

آمين))؛ لأن الدرجات العُلا هي منازل السابقين المقربين عند رب العالمين؛ ولهذا يحسن الإلحاح في طلبها. قوله: ((اللَّهم إني أسألك أن تبارك في نفسي)): البركة هي الخير والنمو الدائم، والثابت, وسؤال اللَّه البركة في النفس بأن تكون منشرحة لقبول الحق، ومحبة الخير, نشيطة في الطاعة قوية في الهمَّة. قوله: ((وفي سمعي، وفي بصري)): والبركة فيهما أن يكونا صحيحين سالمين من كل آفة وعيب, واستعمالهما في الحق، وردّ الباطل، وتوظيفهما في طاعة اللَّه، ومرضاته. قوله: ((وفي روحي)) إذا كانت الروح مباركة، كانت جميع الأعمال الصادرة عنها مباركة جارية على الصواب والرشاد. قوله: ((وفي خَلْقي)): والبركة في الخَلْق وهي الخِلْقة تحسينها، واستواء الصورة فيها، خالية من العيوب، والآفات المشوهة للصورة، والمنفِّرة منها. قوله: ((وفي خُلُقي)) سؤال البركة في الخُلُق بأن يكون حسناً على الوجه الأكمل, فإذا بورك فيه كان سبباً لجلب كل خير، ودفع كل شرٍّ, وهو من أعظم ما يثقل به ميزان المؤمن يوم القيامة، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي مِيزانِ المؤمِنِ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ)) (¬1). ... ¬

(¬1) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق، برقم 2002، وابن أبي الدنيا في التواضع والخمول، ص 220، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 876.

قوله: ((وفي أهلي)): سأل اللَّه البركة في الأهل, بأن يكونوا قرة عين له في الدنيا والآخرة, ففي الدنيا صلاحهم, وكثرة النسل, وفي الآخرة مرافقتهم معه في جنات النعيم. قوله: ((وفي محياي)): من رزق طيب، وزوجة وذرية صالحة، والحياة الآمنة، والتوفيق لصالح الأعمال. قوله: ((وفي مماتي)): على التوبة، والعمل الصالح، وحسن الختام، والسلامة من ميتة مصارع السوء. قوله: ((وفي عملي)) سؤال البركة في الأعمال، بأن تكون كثيرة على الوجه الصواب من الإخلاص، والسداد، والاتباع, المقتضي لمضاعفة الأجر والثواب. قوله: ((فتقبّل حسناتي)): بأن تكون مقبولة، وذخيرة لي في آخرتي, فتضمن هذا الطلب سؤال اللَّه تعالى أن يكون من المتقين، لأن اللَّه تعالى يتقبل منهم, قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} (¬1). قوله: ((وأسألك الدرجات العُلا من الجنة آمين)) ختم بهذا الدعاء خمس مرات؛ لأنه أعظم مقصد، وأجل مطلب للأنبياء والمرسلين، بأن يكونوا في أعالي جنات النعيم المقيم؛ فإنها منزلة رفيعة، وعظيمة، لا يصلها إلا المشمرون الدائبون في مرضات اللَّه تعالى بالقول والعمل, مع حسن الإلحاح في سؤالها، والتأمين عند ¬

(¬1) سورة المائدة، آية: 27.

117 - اللهم جنبني منكرات الأخلاق، والأهواء، والأعمال، والأدواء.

خاتمتها، ينالها الداعون بإذن اللَّه الكريم المنان. فقد تضمّن هذا الدعاء المبارك جليل القدر على خمسة وأربعين سؤالاً، ومطلباً في أهم مهمّات الدنيا والآخرة. 117 - ((اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي مُنْكَرَاتِ اَلْأَخْلَاقِ، وَالْأَهْوَاءِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالْأَدْوَاءِ)) (¬1). المفردات: المنكرات: الإنكار ضد العرفان, والمنكر كل فعل تتفق في استقباحه العقول, وتحكم بقبحه الشريعة. الأهواء: جمع هوى، هي الزيغ، والانهماك في الشبهات والشهوات. الأدواء: جمع داء, وهو السقم، والمرض. الشرح: قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق)): أي يا اللَّه أجرني من الأخلاق السيئة التي ينكرها العباد: كالحقد, والحسد, والبخل, والجبن, وسوء اللسان: من السب, والشتم, والقذف, ¬

(¬1) أخرجه الحاكم، 1/ 532، وقال: ((صحيح على شرط مسلم))، ووافقه الذهبي، 1/ 532، وابن أبي شيبة، 10/ 354، برقم 30210، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، 1/ 203، والطبراني في المعجم الكبير، 19/ 19 برقم 36، وبنحوه ابن حبان، 3/ 240، وصححه الألباني في ظلال الجنة، برقم 13، وفي التعليقات الحسان له، 3/ 945.

والتعدي بالجوارح: كالضرب باليد أو الرجل؛ فإن الأخلاق المنكرة سبب لجلب كل شر، ودفع كل خير. قوله: ((والأعمال)): أي منكرات الأعمال الظاهرة, اللَّهم إني أستعيذ بك من الأعمال السيئة: كالقتل, والزنى, وشرب الخمر, والسرقة، والبطش، والتعدي، والظلم بغير حق، وغير ذلك. قوله: ((الأهواء)): جمع هوَى, وهو هوى النفس، وميلها إلى المستلذات, والانهماك في الشهوات الباطلة؛ لأنه يشغل عن الطاعة، ويؤدي إلى الأشر، والبطر، والاستعاذة كذلك من: الزيغ، والضلالات الفاسدة في الاعتقادات، والشبهات؛ فإن الشرّ كلّ الشرّ أن يكون الهوى يُصيَّر صاحبه باتباعه كالعابد له, فلا شيء في الشرّ أزيد منه؛ لأنه يضيّع الدنيا والدين، والعياذ باللَّه، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاه} (¬1). قوله: ((والأدواء)): وأعوذ بك من منكرات الأسقام, والأمراض الخطيرة، مثل: الجذام، والبرص, والسّلّ، والسرطان، والأيدز، وغير ذلك, فهذه كلها من بوائق الدهر, وإنما استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأربع المنكرات؛ لأن ابن آدم لا ينفكّ منها في تقلبه في ليله ونهاره (¬2). فتضمَّنت هذه الاستعاذات المهمّة من كلّ الذنوب الظاهرة والباطنة. ¬

(¬1) سورة الجاثية , الآية: 23. (¬2) انظر: فيض القدير، 2/ 110, الفتوحات الربانية، 3/ 639, تحفة الذاكرين، ص 422.

118 - اللهم قنعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف علي

118 - ((اللَّهُمَ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لي فِيهِ، وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ)) (¬1). قوله: ((اللَّهم قنعني بما رزقتني)): اللَّهم إني أسألك أن ترضِّني بما أتيتني من الكفاف، مما أستغني به عن السؤال، واجعلني راضياً برزقك، منشرح الصدر والبال. قوله: ((وبارك لي فيه)): وزدني في رزقي، واجعله نامياً، وخيراً دائماً من الحلال الطيب. قوله: ((واخلف عليَّ كُل غائبة لي بخير)): أي أسألك أن تجعل لي عوضاً حاضراً، أو مما غاب عليَّ وفات، ولا أتمكن من إدراكه, سواء ما غاب عني من مال, أو ولد، أو أي أمر من الأمور، حتى يعود إليَّ بالخير العاجل أو الآجل (¬2)، ففيه سؤال اللَّه التعويض والتفويض. فتضمّن هذا الدعاء المبارك سؤال اللَّه تعالى بأن يرزقه خير ما فات عن العبد من أي خير كان, وفيه كذلك التعريض، وتفويض الأمور إلى الرب - عز وجل - , حتى لا ينشغل بالحزن، والندم، والحسرة ¬

(¬1) أخرجه الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي، 1/ 455، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وابن خزيمة، 4/ 218، وابن أبي شيبة، 4/ 109، والبيهقي في شعب الإيمان، 4/ 454، وفي الآداب له، برقم 1084، وفي الدعوات الكبير له أيضاً، 211، والضياء المقدسي في المختارة، 4/ 229، وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتوحات الربانية، 4/ 383. (¬2) انظر: تحفة الذاكرين، ص 242, أوراد الذاكرين، ص 210.

119 - اللهم حاسبني حسابا يسيرا.

على فقدانه، وأنْ يكل أمره إلى ربه الكريم. 119 - ((اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَابَاً يَسِيرَاً)) (¬1). الشرح: ثبت عن عائشة رضي اللَّه عنها أنها قالت: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((من نوقش الحساب عُذِّب))، قالت: فقلت: يا رسول اللَّه، أفليس قال اللَّه تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} (¬2) , قال: ((ليس ذاك بالحساب, ولكن ذلك العَرْض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب)) (¬3). وسبب هذا الدعاء المبارك أن عائشة رضي اللَّه عنها سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول في بعض صلاته: ((اللَّهم حاسبني حساباً يسيراً))، فلما انصرف قالت: قلت يا رسول اللَّه: ما الحساب اليسير؟ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه إنه من نوقش الحساب يا عائشة ¬

(¬1) رواه أحمد، 40/ 260، برقم 24215، والحاكم، 1/ 57، وقال: ((صحيح على شرط مسلم))، ووافقه الذهبي، 1/ 57، وابن خزيمة، 2/ 30، برقم 849، وابن حبان، 16/ 372، والطبراني في الأوسط، 4/ 74، وسياق الحديث: قالت عائشة رضي الله عنها: فلما انصرف قلت: يا نبي الله ما الحساب اليسير؟ قال: ((أن ينظر في كتابه فيتجاوز عنه إنه من نوقش الحساب يومئذ يا عائشة هلك، وكل ما يصيب المؤمن يكفر الله - عز وجل - به عنه حتى الشوكة تشوكه))، وقال عنه العلامة الألباني في مشكاة المصابيح: ((وإسناده جيد))، وحسّنه في التعليقات الحسان، برقم 7328. (¬2) سورة الانشقاق، الآية: 8. (¬3) البخاري، كتاب الإيمان، باب من سمع شيئاً فراجع حتى يعرفه، برقم 103، ومسلم، باب في دوام نعيم أهل الجنة، باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم 2876.

120 - اللهم أعنا على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك.

يومئذ هلك)). بيَّن - صلى الله عليه وسلم - معنى هذا الدعاء أن الحساب اليسير هو عرض ذنوب العبد المؤمن على اللَّه، فيقرره بذنوبه، ثم يغفر له بعد أن يخلو اللَّه بعبده دون أن يطّلع عليه أحد، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يَدْنُو أَحَدُكُمْ مِنْ رَبِّهِ، حَتَّى يَضَعَ كَنَفَهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَيَقُولُ: عَمِلْتَ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ فَيُقَرِّرُهُ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنِّي سَتَرْتُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ)) (¬1). 120 - ((اللَّهُمَّ أعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ)) (¬2). المفردات: ((تجتهدوا)): من الجهد، وهو استفراغ ما في الوسع والطاقة من قول أو عمل، يقال: جهد الرجل في الشيء: إذا جدَّ فيه وبالغ (¬3)، والمقصود هنا الجد، والمبالغة في الدعاء. ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب ستر المؤمن على نفسه، برقم 6070، وبنحوه مسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله، برقم 2768. (¬2) أخرجه أحمد، 13/ 360، برقم 7982، ونص حديث أبي هريرة عنده: <قَالَ أَتُحِبُّونَ أَنْ تَجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ؟ قُولُوا: اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى شُكْرِكَ، وَذِكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ>، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، برقم 1524، والنسائي، كتاب السهو، نوع آخر من الدعاء، برقم 1303، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 690، والحاكم، 1/ 273، وصححه، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، وهو عند أبي داود، برقم 1524، والنسائي في الكبرى، برقم 9973، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم 534. (¬3) النهاية، ص 175.

الشرح:

الشرح: هذا الدعاء جليل القدر, عظيم الشأن؛ لشرف متعلقه، وذلك أن: ((أنفع الدعاء: طلب العون على مرضاته, وأفضل المواهب: إسعافه بهذا المطلوب، وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا, وعلى دفع ما يضادّه، وعلى تكميله، وتيسير أسبابه فتأملها, قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدّس الله روحه: تأملت أنفع الدعاء, فإذا هو سؤال العون على مرضاته, ثم رأيته في الفاتحة في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬1) > (¬2). لهذا وصَّى المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حبيبه معاذاً أن لا يدع هذا الدعاء الجليل بعد كل صلاة، وكذلك حثّه - صلى الله عليه وسلم - بأسلوب التشويق والترغيب: ((أتحبون أن تجتهدوا)) للأمة كلها. قوله: ((اللَّهم أعني على ذكرك)): فيه الطلب من اللَّه، والعون على القيام بذكره؛ لأنه أفضل الأعمال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إنْفاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ > قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: <ذِكْرُ اللَّهِ تعالى)) (¬3). ¬

(¬1) سورة الفاتحة، الآية: 5. (¬2) مدارج السالكين، 1/ 75 - 78. (¬3) أخرجه أحمد، 36/ 33، برقم 21702، والترمذي، واللفظ له، كتاب الدعوات، باب منه، برقم 3377، وابن ماجه، كتاب الأدب، باب فضل الذكر، برقم 3370، والموطأ، 2/ 295، والحاكم، 1/ 496، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2688، وصحيح ابن ماجه، برقم 3057.

والذكر يشمل القرآن، وهو أفضل الذكر، ويشمل كل أنواع الذكر من التهليل، والتسبيح، والاستغفار، والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - والدعاء. قوله: ((وشكرك)): أي شكر نعمتك الظاهرة والباطنة التي لا يمكن إحصاءها: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} (¬1)، والقيام بالشكر يكون بالعمل، كما قال اللَّه تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} (¬2)، ويكون باللسان، بالحمد، والثناء، والتحدث بها، قال اللَّه تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} (¬3). وأعظم الشكر تقوى اللَّه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (¬4)، ولا شكّ أن التوفيق إلى الشكر يحتاج إلى شكر آخر، إلى ما لا نهاية، قال ابن رجب رحمه اللَّه: ((كل نعمة على العبد من اللَّه تعالى في دين أو دنيا، تحتاج إلى شكر عليها، ثم التوفيق للشكر عليها نعمة أخرى، تحتاج إلى شكر ثانٍ، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى يحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبداً، فلا يقدر العبد على القيام بشكر النعم، وحقيقة الشكر: الاعتراف بالعجز في الشكر)) (¬5). ¬

(¬1) سورة النحل، الآية: 18. (¬2) سورة سبأ، الآية: 13. (¬3) سورة البقرة، الآية: 231. (¬4) سورة آل عمران، الآية: 123. (¬5) لطائف المعارف، ص 301.

121 - اللهم إني أسألك إيمانا لا يرتد، ونعيما لا ينفد

قوله: ((وحسن عبادتك)): على القيام بها على الوجه الأكمل والأتمّ، ويكون ذلك من صدق الإخلاص للَّه فيها، واتّباع ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعدم الابتداع فيها. 121 - ((اللَّهُمّ إِنِّي أَسْأَلُكَ إِيمَانًا لاَ يَرْتَدُّ، وَنَعِيمًا لاَ يَنْفَدُ، وَمُرَافَقَةَ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فِي أَعْلَى جَنَّةِ الْخُلْدِ)) (¬1). المفردات: لا يرتدّ: لا يرجع من الإسلام إلى الكفر. لاينفد: لا ينقطع. الشرح: هذا الدعاء العظيم من الأدعية العظيمة؛ لاشتماله على أعظم المقاصد، وأرجى المطالب، وأعلى الأماني في الدنيا والآخرة، فقد دعا به من خيرة الصحابة الميامين عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه -، في مرافقة سيد الأولين والآخرين في أعلى جنات النعيم، ولا شك أن هذا أعظم وأعلى المنازل؛ ولهذا كان - رضي الله عنه - يلازم هذا الدعاء في خير الأعمال، وأفضلها، ألا وهي الصلاة، فقد كان - رضي الله عنه - يقول: ((قد صليت منذ كذا وكذا، ما صليت فريضة ولا تطوعاً إلا دعوت اللَّه به في دبر ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان، 5/ 303، برقم 1970، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - موقوفاً، ورواه أحمد من طريق آخر، 7/ 359، برقم 4340، والنسائي في عمل اليوم والليلة، برقم 869، والحاكم، 3/ 317، وبنحوه الطبراني في الكبير، 7/ 453، برقم، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، تحت رقم 2301، وفي التعليقات الحسان، برقم 1967.

كل صلاة)) (¬1)، ويقول - رضي الله عنه - ((إنه من دعائي الذي لا أكاد أن أدع)) (¬2)، أي هذا الدعاء، وهذا يدل على كمال همّته، وشدّة حرصه لمطلوبه، وسبب هذا الدعاء، أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دخل المسجد وهو مع أبي بكر وعمر، وإذا ابن مسعود يصلي، وإذا هو يقرأ (النساء)، فانتهى إلى رأس المائة، فجعل ابن مسعود يدعو وهو قائم يصلي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اسأل تعطه، اسأل تعطه)) (¬3). قوله: ((اللَّهم إني أسألك إيماناً لا يرتد)): أي أسألك يا اللَّه إيماناً ثابتاً قوياً، لا شكّ فيه، ولا تردّد، وأن تعصمني من الوقوع إلى الردّة وهي الكفر، وهذا أعظم مطلوب في الدنيا؛ لأنه أفضل الأعمال عند اللَّه تعالى، فعن عبد اللَّه بن حُبشي الخثعمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئل: أي العمل أفضل؟ قال ((إِيمَانٌ لَا شَكَّ فِيهِ)) (¬4). قدم دعاءه في سؤال اللَّه تعالى الإيمان الثابت قبل سؤاله أعلى الجنان؛ لأنها لا تنال هذه المنزلة العلية إلا بالإيمان الكامل. قوله: ((ونعيماً لا ينفد)): أي نعيماً دائماً لا ينتهي، ولا ينقص، ولا ¬

(¬1) تاريخ ابن عساكر، 33/ 96، وبنحوه أحمد، 7/ 359، برقم 4340. (¬2) صححه لغيره الأرناؤوط في تعليقه على مسند أحمد، 6/ 178، برقم 3662. (¬3) مسند أحمد، 7/ 359، برقم 4340، ومسند ابن راهويه، 1/ 84، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، 5/ 379، برقم 2301، وصححه بشواهده الأرناؤوط في تعليقه على المسند، 7/ 359. (¬4) النسائي، كتاب الزكاة، جهد المقل، برقم 2526، والسنن الكبرى له، 2/ 31، برقم 2317، وأحمد، 24/ 122، برقم 15401، والبيهقي، 3/ 9، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1504، وفي صحيح الترغيب والترهيب، برقم 1318.

ينقطع، وهو نعيم الجنة، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} (¬1)، أما النعيم في الدنيا، فهو زائل، ومنقص، قال اللَّه تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (¬2). وقوله: ((ومرافقة نبينا محمد في أعلى جنة الخلد)): بعد أن سأل اللَّه النعيم المقيم في الجنة، سأل اللَّه الكريم العظيم أن يكون مرافقاُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - في أعلى درجة من الجنة، وهو من عطف الخاص على العام؛ لعظم أهمية هذه المرتبة والمنزلة، فهي أعظم النعيم، وأرفعه، وأكمله، وأعلاه، في أن يكون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أعلى درجات الجنان، ولا شك أنه أعظم مطلب أخروي، عظم رغبته - رضي الله عنه - عملاً في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُولَنَّ اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ وَلَكِنْ لِيُعْظِمْ رَغْبَتَهُ فَإِنَّ اللَّهَ - عز وجل - لَا يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ شَيْءٌ أَعْطَاهُ)) (¬3). وقوله: <في أعلى درجة الجنة>: لأن في الجنة مائة درجة، قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فإِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)) (¬4). وأعلى درجة هي الفردوس الأعلى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والفردوس ¬

(¬1) سورة ص، الآية: 54. (¬2) سورة النحل، الآية: 96. (¬3) مسند أحمد، 16/ 6، برقم 9900، وقال محققو المسند: ((إسناده صحيح على شرط مسلم)). وفي حديث لمسلم، برقم 2678: ((إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه)). (¬4) صحيح البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، برقم 2790، والترمذي، واللفظ له، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة درجات الجنة، برقم 2530.

أعلاها درجة)) (¬1). ولهذا حثنا - صلى الله عليه وسلم - أن نسألها: ((فإذا سألتم اللَّه تعالى فسلوه الفردوس الأعلى)) (¬2). وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سألتم اللَّه تعالى فأسألوه الفردوس، فإنه سر الجنة)) (¬3)، أي أفضل موضع فيها. وفي رواية أخرى عنه أنه دعا فقال: ((ومرافقة محمد في أعلى عليين في جنانك، جنان الخلد)) (¬4). وهذه الرواية تفسر الرواية السابقة، وهي سؤاله أن يكون في أعلى الجنان، لأن ((عليّون))، صيغة مبالغة من العلوّ، علوّ المكانة والارتفاع، وعلوّ المنزلة والقدر في الجنة، قال اللَّه تعالى: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} ثم فخمه وعظم مرتبته وشأنه {وَمَا أَدْرَاكَ ¬

(¬1) الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة درجات الجنة، برقم 2531، وأحمد، 37/ 369، برقم 22695، وابن أبي شيبة، 13/ 138، برقم 35211، والضياء في المختارة، 3/ 337، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 921، وصحيح الترمذي، برقم 2531. (¬2) أخرجه الطبراني في الكبير، 3/ 231، برقم 3235، وابن حبان، 3/ 238، برقم 958، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم 945، وأصله في صحيح البخاري، برقم 2790، ورقم 7423. (¬3) أخرجه الطبراني في الكبير، 18/ 254، برقم 635، والبيهقي في البعث والنشور، ص 231، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 2145، وصحيح الجامع، برقم 592. (¬4) رواه الحاكم 3/ 317، وصححه ووافقه الذهبي، وبنحوه في مسند أحمد، 7/ 359، برقم 4340، وابن حبان، 5/ 303،وصحح إسناده بشواهده الأرناؤوط في تعليقه على المسند، 7/ 359، وحسنه الألباني في التعليقات الحسان، برقم 1967.

مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} (¬1). قال الفرّاء: عليون ارتفاع بعد ارتفاع لا غاية له (¬2)، ووجه هذا أنه منقول من جمع عليّ من العلو، قال الزجاج: هو أعلى الأمكنة. قال ابن كثير: والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع، ولعظم شأن هذا المكان قال اللَّه تعالى: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} (¬3) أي الملائكة المقربون (¬4). ولقد جاء في السنة المطهرة ما يدلّ أن عليين هو أعلى مرتبة، وأسمى منزلة، فقد جاء في حديث طويل عن عبد اللَّه بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أدنى أهل الجنة منزلة ... فيقول اللَّه جلّ ذكره له: ((أَلَمْ تَرْضَ أَنْ أُعْطِيَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا مُنْذُ خَلَقْتُهَا إِلَى يَوْمِ أَفْنَيْتُهَا وَعَشَرَةَ أَضْعَافِهِ؟، ثم ذكر ما له من نعيم ما لا يتصور عقل، ولا يصفه واصف ... فَقَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه -: أَلا تَسْمَعُ مَا يُحَدِّثُنَا ابْنُ أُمِّ عَبْدٍ (عبد الله بن مسعود) يَا كَعْبُ عَنْ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلاً، فَكَيْفَ أَعْلاهُمْ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: <مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ، إِنَّ اللَّهَ - عز وجل - جَعَلَ دَارًا، فَجَعَلَ فِيهَا مَا شَاءَ مِنَ الأَزْوَاجِ، وَالثَّمَرَاتِ، وَالأَشْرِبَةِ، ثُمَّ أَطْبَقَهَا، ثُمَّ لَمْ يَرَهَا أَحَدٌ مِنَ خَلْقِهِ، لا جِبْرِيلُ وَلا غَيْرُهُ مِنَ الْمَلائِكَةِ، ثُمَّ قَرَأَ كَعْبٌ: {فَلَا تَعْلَمُ ¬

(¬1) سورة المطففين، الآيات: 18 - 21. (¬2) معاني القرآن، 3/ 247. (¬3) سورة المطففين، الآية: 21. (¬4) تفسير ابن كثير ص 1693.

نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬1)، قَالَ: وَخَلَقَ دُونَ ذَلِكَ جَنَّتَيْنِ، وَزَيَّنَهُمَا بِمَا شَاءَ، وَأَرَاهُمَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ كِتَابُهُ فِي عِلِّيِّينَ نَزَلَ تِلْكَ الدَّارَ الَّتِي لَمْ يَرَهَا أَحَدٌ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ لَيَخْرُجُ فَيَسِيرُ فِي مُلْكِهِ، فَمَا تَبْقَى خَيْمَةٌ مِنْ خِيَمِ الْجَنَّةِ إِلا دَخَلَهَا مِنْ ضَوْءِ وَجْهِهِ، فَيَسْتَبْشِرُونَ بِرِيحِهِ، فَيَقُولُونَ: وَاهًا (¬2) لِهَذَا الرِّيحِ! هَذَا ريحُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ، قَدْ خَرَجَ يَسِيرُ فِي مُلْكِهِ)) (¬3). فانظر يا أخي في اللَّه علوّ هذه المنزلة، وتأمّل ما جاء فيها من النعيم المقيم، ألا يهفو قلبك إلى هذه المنزلة العظيمة الأبدية؟ ألا تريد أن تكون من ساكنيها أبد الآبدين، لا تحول عنها ولا تزول، فشمِّرْ يدَ الجدّ في الدعاء من الأن، وأكثر من هذين الدعاءين في النهار، وفي كل فرض ونفل، كما كان يفعل هذا الصحابي الجليل مع حسن الظن باللَّه ذي الجلال والإكرام، وأكثر طرق الباب، فإنه سوف يُفتح، قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: ((جدّوا بالدعاء، فإنه من يكثر قرع الباب يوشك أن يفتح له)) (¬4)، وتذكَّرِ الحديث القدسيَّ، واجعله دائماً أمام عينيك، عن ربِّ العزة والجلال أنه قال: ((يَا عِبادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ ¬

(¬1) سورة السجدة، الآية: 17. (¬2) عجباً. (¬3) الطبراني في المعجم الطبير، 8/ 309، برقم 9648، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3591. (¬4) المصنف لابن أبي شيبة، 10/ 202، وعبد الرزاق، 10/ 442، والبيهقي في شعب الإيمان، 2/ 52،.

122 - اللهم قني شر نفسي، واعزم لي على أرشد أمري

كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ (¬1) إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ)) (¬2). فأكثر من هذه الدعوة يا عبد اللَّه، وكنْ عظيم الهمة والرغبة في ليلك ونهارك، وفي كل صلواتك، واقتدِ بهذا الصحابي الذي قال عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر، وتمسكوا بعهد ابن مسعود)) (¬3)، والذي قاله عنه أبو حذيفة - رضي الله عنه -: <كَانَ أَقْرَبُ النَّاسِ هَدْيًا وَدَلًّا وَسَمْتًا بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - > (¬4). 122 - ((اللَّهُمَّ قِنِي شَرَّ نَفْسِي، وَاعْزِمْ لِي عَلَى أَرْشَدِ أَمْرِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَسْرَرْتُ، وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَخْطَأْتُ، وَمَا عَمَدْتُ، وَمَا عَلِمْتُ، وَمَا جَهِلْتُ)) (¬5). ¬

(¬1) المخيط: الإبرة، والمعنى لا ينقص شيئاً أصلاً، وضرب المثل بالمخيط في البحر، لأنه غاية ما يضرب به المثل في القلة. (¬2) مسلم، كتاب البر والصلة والأدب، باب تحريم الظلمة، برقم 2577. (¬3) أحمد، 38/ 280، برقم 23245، والترمذي، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كليهما، برقم 3662، وابن أبي شيبة، 12/ 11، والحاكم، 3/ 75، وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 22895، وفي صحيح ابن ماجه، برقم 79، وقال الحافظ في الإصابة: إسناده صحيح. (¬4) الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، برقم 3807، وأحمد، 38/ 366، برقم 23341، وابن أبي شيبة، 13/ 411، والطبراني في الكبير، 9/ 86، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2944. (¬5) أخرجه النسائي في الكبرى، 6/ 246، برقم 10830، والحاكم، 1/ 510 وصححه، ووافقه الذهبي، وأخرجه أحمد، 33/ 197، برقم 19992، وصحيح ابن حبان، 3/ 181، وقال الحافظ في الإصابة: ((إسناده صحيح))، وصححه الألباني في تخريج رياض الصالحين، في تعليقه على الحديث رقم 1495، والتعليقات الحسان، برقم 896، والأرناؤوط في تعليقه على المسند، 33/ 197.

المفردات:

وفي رواية عن عثمان بن أبي العاص أنه سمع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((اللَّهم إني أستهديك لأرشد أمري، وأعوذ بك من شر نفسي)) (¬1). المفردات: ((اعزم لي)): العزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر (¬2)؛ فإنَّ أصل العزم: هو الجد والصبر، قال اللَّه تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} (¬3)، ((لأرشد)): الرشد هو: ضد الغيّ، وهو الطاعة والصلاح والصواب، ((أستهديك)): السين: سين الطلب، أي أطلب الهداية. الشرح: أمر رسولنا - صلى الله عليه وسلم - الرحمة للعالمين، الصحابي الجليل، عمران أن يسأل اللَّه تعالى أن يقيه شر النفس؛ لأنها هي أحد مبادئ ومنابع وأصول الشر؛ فإن شر النفس يولد الأعمال السيئة، والذنوب ¬

(¬1) أخرجه أحمد، 26/ 199، برقم 16296، وابن أبي شيبة، 10/ 282، برقم 30007)، والطبراني في الكبير، 9/ 53، برقم 8369، وأخرجه أيضًا: ابن حبان 3/ 183، وقال الشيخ الألباني في تعليقه على رياض الصالحين، ص 506: <إسناده جيد >، وصححه الوادعي في (صحيح المسند) مما ليس في الصحيحين، 2/ 7، برقم 905، وبنحوه الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا أحمد بن منيع، برقم 3483. (¬2) فيض القدير، 2/ 130. (¬3) سورة الأحقاف، الآية: 35.

1 - عزم في الدخول إلى الهدى والرشاد

الكبيرة، والآثام العظيمة، قال اللَّه تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} (¬1). ثم أمره أن يسأل اللَّه تعالى: ((واعزم لي على أرشد أمري)): سأل العزيمة على الرشد؛ لأنها مبدأ الخير؛ فإن الإنسان قد يعلم الرشد، وليس له عزم؛ فإذا عزم على فعله أفلح، والعزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر الذي يستلزم القصد الجازم المتصل بالفعل، وقيل: استجماع قوى الإرادة على الفعل، ولا قدرة للعبد على ذلك إلا باللَّه تبارك وتعالى؛ فلهذا سأل اللَّه تعالى أن يمضي قلبه، وقصده إلى أحسن الصلاح، والطاعة له تعالى في كل أحواله وأموره؛ لأنه طريق النجاة في الدار الآخرة، فالعبد محتاج إلى الاستعانة باللَّه تعالى، والتوكل عليه، في تحصيل العزم، في العمل بمقتضى العزم، بعد حصول العزم، قال اللَّه تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} (¬2)، والعزم نوعان: 1 - عزم في الدخول إلى الهدى والرشاد. 2 - وعزم على الدوام والثبات على هذا الهدى، بعد الدخول فيه، والانتقال من حال إلى حال أكمل منها؛ ولهذا سمى اللَّه تعالى خواص الرسل ((أولي العزم)). فإن عون اللَّه تعالى للعبد على قدر قوة عزيمته، وضعفها، فمن ¬

(¬1) سورة يوسف، الآية: 53. (¬2) سورة آل عمران، الآية: 159.

الهداية نوعان:

صمّم على إرادة الخير أعانه ربه تعالى، وثبته عليه (¬1)، ثم أمره أن يدعو ((اللَّهم اغفر لي ما أسررت وما أعلنت وما أخطأت، وما عمدت وما علمت وما جهلت)). فيه سؤال اللَّه تعالى المغفرة، وهي الستر، والتجاوز عن كل الذنوب بكل مراتبها وأنواعها، التي يقترفها العبد في كل أحواله وأوقاته، فما من ذنب إلا وقد دخل فيه هذا الاستغفار العظيم؛ فإن الفائدة في سؤال اللَّه تعالى غفران الذنوب بهذا التفصيل والتعميم تكثيراً لمقام العبودية والذل للَّه تعالى، وحتى يستحضر العبد ما يدعو به؛ فإن استحضار هذه الذنوب بأنواعها، وإفرادها له وقع عظيم في النفس في تقوية إرادتها في عدم الوقوع بها في العاجل والآجل. وفي الحديث الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا: ((اللَّهم إني أستهديك لأرشد أمري)) فيه سؤال اللَّه تعالى طلب الهداية كما أفاده حرف (السين). فإن الهداية نوعان: 1 - هداية دلالة وإرشاد قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (¬2) أي دللناه طريق الحق، وطريق الباطل, وهذه الهداية هي التي دعا إليها الرسل، وأولو العلم، والصالحون في كل زمان ومكان. ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 130، مجموع رسائل ابن رجب، 1/ 362 - 396، شرح حديث (شداد ابن أوس) بتصرف. (¬2) سورة الإنسان، الآية: 3.

2 - هداية توفيق.

2 - هداية توفيق: وهي لا يقدر عليها إلا اللَّه تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (¬1). والعبد يسأل اللَّه تعالى الهدايتين: أن يدله على طريق الخير, وأن يوفقه ويثبته عليه, وقوله: ((لأرشد أمري)): أي أن توفقني إلى أفضل السبل الموصلة إلى صلاح أموري, وشؤوني, في ديني, ودنياي, فأفوز برضاك، وأنال جنتك. 123 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الْعَدُوِّ، وَشَمَاتَةِ الأعْدَاءِ)) (¬2). غلبة الدين: شدته وثقله. غلبة العدو: تسلط العدو بغير حق. الشرح: قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من غلبة الدَّيْن)): استعاذ - صلى الله عليه وسلم - من شدة الدين، وثقله بحيث لا قدرة على وفائه سيما مع الطلب؛ لما فيه من الوقوع بالمحذورات الشرعية: كالخلف في الوعد والكذب كما ¬

(¬1) سورة القصص، الآية: 56. (¬2) أخرجه النسائي، كتاب الاستعاذة، الاستعاذة من غلبة الدين، برقم 5475، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب صفة الصلاة، باب الانصراف من الصلاة، برقم 7863، وأحمد 11/ 189، برقم 6618، وابن حبان، 3/ 394، والحاكم، 1/ 531، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 3/ 1113.

124 - اللهم اغفر لي، واهدني، وارزقني، وعافني

أخبر بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، والانشغال عن الطاعات؛ ولما فيه كذلك من الغم على القلب، وإتعاب العقل، ووهن الجسد، والنفس, وإنما استعاذ من غلبته؛ لأن الاستدانة بدون غلبة قد يحتاج إليها كثير من العباد, وقد مات - صلى الله عليه وسلم - ودرعه مرهونة في أصواع من شعير. قوله: ((وغلبة العدو)): والاستعاذة من تسلط العدو بغير حق؛ لأنه يتحكم بمن يعاديه، وينزل به أنواع المضار في دينه ودنياه. قوله: ((وشماتة الأعداء)): والاستعاذة من شماتة الأعداء، وهي فرحهم ببلية تنزل على من يعادونه؛ فإن في ذلك موقعاً عظيماً في القلب، وتأثيراً كبيراً في النفس (¬1). ولا يخفى أن الاستعاذة من كل الأمور السابقة لما فيها من المضار والمساوئ في الدين والدنيا. 124 - ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَاهْدِنِي، وَارْزُقْنِي، وَعَافِنِي، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) (¬2). ¬

(¬1) انظر تحفة الذاكرين ص 423. (¬2) النسائي، كتاب قيام الليل، وتطوع النهار، باب ذكر ما يستفتح به القيام، برقم 1617، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة، برقم 1318، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، برقم 766، وابن ماجه، كتاب الصلاة، باب ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الليل، برقم 1356، وابن أبي شيبة، 10/ 260، برقم 29948، وصححه الألباني في صحيح سنن النسائي، 1/ 356، وفي صحيح ابن ماجه، 1/ 226.

الشرح:

الشرح: أصل هذا الدعاء الجامع أن عائشة رضي اللَّه عنها أخبرت عن قيام الليل للنبي - صلى الله عليه وسلم -، واستفتاحه بالصلاة بهذا الدعاء والذكر, فقالت: كان يكبر عشراً, ويسبح عشراً, ويستغفر عشراً, ثم ذكرت هذا الدعاء, وفي رواية أنه قال: ((اللَّهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا، وضيق القيامة)) (¬1). وهذا الدعاء قد جمع خيري الدنيا والآخرة، وكذلك فيه استعاذة من عظام الشرور في الدنيا والآخرة. قوله: ((اللَّهم اغفر لي)): أي استر يا اللَّه ذنوبي، وتجاوز عنها، ((واهدني)): فيه سؤال اللَّه الهداية الكاملة, وهي الدلالة والمعرفة إلى طرق الحق، والتوفيق على هذا الطريق المستقيم بأن لا يزيغ عنه إلى أن يلقى ربه - عز وجل - , فعندما يسأل العبد ((الهداية)) ينبغي له أن يستحضر هذه المعاني. قوله: ((وارزقني)): الرزق النافع الطيب الحلال الذي يعود على العبد بالبركة، والخير, و ((عافني)): أي من جميع البلايا والشرور في الدين والدنيا والآخرة, ففيه سؤال اللَّه السلامة الكاملة من كل شرّ, المتضمن العافية والصحة, ثم استعاذ اللَّه من ضيق المقام يوم القيامة؛ فإنه مقام عظيم من كثرة الخلق, والحر الشديد, والبلاء الرهيب, في هذا اليوم العصيب، فتلك الاستعاذة تتضمن سؤال اللَّه ¬

(¬1) سنن أبي داود، كتاب الأدب، باب ما يقول إذا أصبح، برقم 5087، والنسائي في الكبرى، كتاب صلاة العيدين، الخطبة يوم العيد، برقم 10623، عمل اليوم والليلة لابن السني، برقم 759، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 1356.

125 - اللهم متعني بسمعي، وبصري، واجعلهما الوارث مني

تعالى النجاة والسلامة من شرّ هذا اليوم الموعود, وفي الرواية الأخرى: ((اللَّهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا)): لأن ضيقها يشتّت العقل, ويشغل القلب بالهمّ, والحزن, وضيق النفس، فينشغل عن كثير من العبادات النافعة، والمصالح المهمّة، وتضمّن هذا الدعاء كذلك سؤال اللَّه الراحة النفسية، والبدنية، وطيب النفس والحياة. وهذا يدلنا على أهمية التمسك، والعناية بالأدعية الشرعية؛ فإنها كاملة في ألفاظها، شاملة في معانيها، ومدلولاتها، فهي تجمع من كل خير في الدين، والدنيا، والآخرة. 125 - ((اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بِسَمْعِي، وَبَصَرِي، وَاجْعَلْهُمَا الْوَارِثَ مِنِّي، وَانْصُرْنِي عَلَى مَنْ يَظْلِمُنِي، وَخُذْ مِنْهُ بِثَأْرِي)) (¬1). المفردات: ((الوارث مني)): استعارة من وارث الميت. ((انصرني)):النصر هو الظفر، والغلبة. ((وخذ منه بثأري)): أي اثأر لي. ¬

(¬1) أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب اللهم متعني بسمعي، برقم 3604، والبخاري في الأدب المفرد، برقم 650، والحاكم، 1/ 523، وصححه ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي، 3/ 188.

الشرح:

الشرح: قوله: ((اللَّهم متّعني بسمعني وبصري)): يا اللَّه انفعني بسمعي وبصري, واجعلهما سليمين صحيحين، واحفظهما من جميع الأسقام والأمراض حتى أستعملهما في مرضاتك وطاعتك. قوله: ((واجعلهما الوارث مني)): أي أبقي لي هاتين الحاستين بكامل قوامهما عند الكبر صحيحاً سليماً إلى أن أموت, فيكون البصر والسمع هما الوارث مني سائر القوى، والباقي بعدها. قوله: ((وانصرني على من يظلمني)): اجعلني غالباً منتصراً على من تعدَّى عليَّ بغير حق، وعلى من تعدَّى على دينك، فأنتقم منه, لأنه لا قدرة للعبد على الإنصاف والانتصار إلا بإقدار الرب جل وعلا له. قوله: ((وخذ منه بثأري)): اجعل إدراك ثأري مقصوراً على من ظلمني، ولا تجعلني ممَّن تعدَّى في طلب ثأره، فأخذ به غير الجاني، وفيه إشارة إلى قوة المخالفين والأعداء حثاً على تصحيح الالتجاء، والصدق في الرغبة (¬1) إلى الربِّ العظيم، حتى يكون منصوراً محفوظاً في كل الأحوال والأوقات من الظلمة والأعداء. جاء بحرف الاستعلاء (على) الذي يفيد التمكين والاستعلاء, أي اجعلني متمكناً مستعلياً عليه بالنصرة والغلبة, ولا يخفى مجيء الفعل المضارع: (يظلمني) ليفيد الاستمرارية والتجدّد, أي سؤال اللَّه ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 111.

126 - اللهم إني أسألك عيشة نقية، وميتة سوية، ومردا غير مخز

النصرة في الحال وفي الاستقبال، وفي كل الأحوال, واللَّه أعلم. 126 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ عِيشَةً نَقِيَّةً، ومِيتَةً سَوِيَّةً، ومَرَدّاً غَيْرَ مَخْزٍ ولا فاضِحٍ)) (¬1). المفردات: ((عيشة نقية)): أي عيشة مملوءة بالاستقامة والصلاح. ((عيشة تقيَّة)): خالية من الأكدار والمصائب. ((وميتة سويَّة)): معتدلة. ((مردّاً غير مخز)): مرجعاً إلى الآخرة، سالماً من الذل، والعذاب، والهوان. ((ولا فاضح)): غير كاشف للمساوئ والعيوب. الشرح: قوله: ((اللَّهم إني أسألك عيشة نقية ((وتقية)): اللَّهم إني أسألك حياة مليئة بالاستقامة، والصلاح على دينك وطاعتك, ونقية من المعاصي والأكدار والمصائب, فإن النقيّ من كل شيء خياره، ¬

(¬1) أخرجه الحاكم، 1/ 541، وكشف الأستار، 4/ 55، برقم 3186، والدعوات الكبير للبيهقي، 1/ 283، والطبراني في المعجم الأوسط، 7/ 306، برقم 7572، في الدعاء، برقم 1435، وبنحوه: أحمد، 32/ 144، برقم 19402، ومسند الشهاب، 2/ 346، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 179: ((إسناد الطبراني جيد))، وقال محققو مسند أحمد،32/ 144: ((حديث صحيح لغيره)).

127 - اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت

وأطيبه؛ لأنه لم يشب بما يلحقه، ولا خالطه ما يكدره (¬1). ((وميتةً سويةً)): وأسألك عند الموت ميتة نقية معتدلة خالية من الأمراض، فلا أردّ إلى أرذل العمر، ولا أقاسي مشاق الهرم, وتكون بحسن خاتمة, من النطق بالشهادتين، والتوبة النصوح، والختام على عمل صالح. قوله: ((ومرداً غير مُخزٍ ولا فاضح)): وأسألك مرتجعاً إلى دار الآخرة سالماً من الذُل والعذاب، ولا كاشف للمساوئ والعيوب (¬2)، وتضمَّن هذا الدعاء سؤال اللَّه العافية في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا معافىً من كل شرٍّ وبلاء، وفي الممات سلامة من سوء الخاتمة، وفي الآخرة السلامة من عذاب القبر، وأهوال الحشر، وعذاب جهنّم، والفوز والستر والتجاوز. 127 - ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لاَ قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلاَ بَاسِطَ لِمَا قَبَضْتَ، وَلاَ هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلاَ مُضِلَّ لِمَنْ هَدَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلاَ مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، ¬

(¬1) تحفة الذاكرين، ص 433. (¬2) انظر فيض القدير، 2/ 135، تحفة الذاكرين، ص 433, وأوراد الذاكرين، ص 160.

وَرَحْمَتِكَ، وَفَضْلِكَ، وَرِزْقِكَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لاَ يَحُولُ وَلاَ يَزُولُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ يَوْمَ الْعَيْلَةِ، وَالأَمْنَ يَوْمَ الْخَوْفِ، اللَّهُمَّ إِنِّي عَائِذٌ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنَا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزِيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ مَفْتُونِينَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ، وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ، وَاجْعَلْ عَلَيْهِمْ رِجْزَكَ وَعَذَابَكَ، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، إِلَهَ الْحَقِّ [آمِينْ])) (¬1). ¬

(¬1) أحمد بلفظه، 24/ 246، برقم 15492، وما بين المعقوفين للحاكم، 1/ 507، 3/ 23 - 24، والنسائي في الكبرى، كتاب الجمعة، باب كم الجمعة، 6/ 156، والبزار، 9/ 175، وأخرجه البخاري في الأدب المفرد، برقم 699، وأبو نعيم في معرفة الصحابة، 3/ 1644، والدعوات الكبير للبيهقي، 1/ 279، وصححه الألباني في تخريج فقه السيرة، ص 284، وفي صحيح الأدب المفرد للبخاري، برقم 538، ص 259، وقال محققو المسند، 24/ 247: <رجاله ثقات>.

المفردات:

المفردات: ((لا قابض لما بسطت)): القبض هو الإمساك والتضييق, والبسط: السعة. ((بركاتك)): الخير، والنماء، والزيادة. ((العيلة)): الفقر. ((غير خزايا)): جمع خزيان وهو من وقع في ذل المعصية ((ولا مفتونين)): غير واقعين في الفتنة، والبلية الأخروية. ((رجزك)): العذاب المعلق، قال تعالى: {عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} (¬1) أي مزلزل مزعج. الشرح: قوله: ((اللَّهم لك الحمد كله)): يا اللَّه لك المحامد، نخصك بها لكمالك وعظمتك. بدأ بالحمد والثناء على اللَّه، والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، وذلك أرجا وأوقع في قبول الدعاء، كما تقدم في آداب الدعاء. قوله: ((اللَّهم لا قابض لما بسطت, ولا باسط لما قبضت)): اللَّهم لا أحد يستطيع أن يُضيِّق ما وسعت، وبسطت له لكمال قدرتك ومشيئتك, ولا أن يُوسع إذا أردت أن تضيق عليه، فلك المشيئة والقدرة الكاملة. قوله: ((ولا هادي لمن أضللت، ولا مُضلَّ لمن هديت)): أي لا ¬

(¬1) سورة سبأ، آية: 5.

أحد يقدر أن يهدي من أردت إضلاله، ولو اجتمع عليه جميع الخلائق, ولا يقدر أحد أن يُضلَّ من هديت، لنفوذ مشيئتك، وقدرتك، وحكمتك. قوله: ((ولا معطي لما منعت, ولا مانع لما أعطيت)): من علم، أو رزق، أو مال، أو سلطان، أو جاه، أو غير ذلك، فلا أحد يقدر على المنع أو الإعطاء إلا بإذنك. ولا يخفى في تعظيم كمال صفاته جل وعلا، حيث نفى ما يُضادّ كمال صفاته من كل وجه. قوله: ((اللَّهم ابسط علينا من بركاتك، ورحمتك، وفضلك، ورزقك)): بعد أن قدم الثناء على اللَّه جل وعلا، والتوسل بأسمائه وصفاته, شرع بمطلوبه من خيري الدنيا والآخرة، اللَّهم وسِّع علينا وكثِّر من خيراتك, ورحماتك، وفضلك، ورزقك، وأدمها, فأنت مالك كل شيء، فنسأله منك لا من أحد سواك. قوله: ((اللَّهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول)): أسألك يا اللَّه النعيم الدائم الذي لا يتحول, ولا يتغير، وهو نعيم الآخرة. قوله: ((اللَّهم إني أسألك النعيم يوم العيلة)): أسألك يا اللَّه أن تكمل علي النعيم يوم الشدة والفقر, وأن تُغنيني عن السؤال، والافتقار لسواك من الخلق. قوله: ((والأمن يوم الخوف)): وأسألك الأمان, والاطمئنان, يوم أن يحل الخوف والفزع.

وفي رواية: ((والأمن يوم الحرب)) (¬1): سؤال اللَّه الأمان, وثبات الأقدام في الحرب والقتال. قوله: ((اللَّهم إني عائذ بك من شرِّ ما أعطيتنا)): فيه طلب الاستعاذة من شر ما يُعطاه, من الرزق والخير, فيؤدي به إلى ترك ما يجب عليه من الزكاة، وصلة الأرحام, وبأن يكون سبباً للطغيان والعصيان والاستكبار، قال اللَّه تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (¬2)، وقد لا يوظّف ما أعطاه اللَّه ورزقه في الطاعات والخيرات. قوله: ((وشرِّ ما منعتنا)): استعاذ من الشر الذي منعه اللَّه منه, لكمال علمه, وحكمته بحاله, فيؤدي إلى الحسد، وما يتولَّد عن الحسد, كالسعي في هلاكه بغياً وعدواناً، ومن الحزن، والهمّ المانع من الأمور المهمّة في الدين, والدنيا, بسبب عدم القناعة والرضى بما قسم اللَّه له. قوله: ((حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا)): أي اجعل الإيمان محبوباً لنا في نفوسنا، مُزيناً في قلوبنا، فيتزَّين ظاهرنا بالأعمال الصالحة، بما زيّنت به باطننا، فإنه أعظم أعمال القلوب الموصلة إلى دار الخلود. قوله: ((وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان)): أي اجعل قلوبنا ونفوسنا تكره وتبغض هذه المعاصي العظام من الكفر، والخروج ¬

(¬1) الأدب المفرد، للإمام البخاري، برقم 699، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، ص 538. (¬2) سورة العلق، الآيتان: 6 - 7.

عن الطاعة، والعمل بالمعصية. قوله: ((واجعلنا من الراشدين)): اجعلنا راشدين مستقيمين، في أعمالنا على طاعتك، وحسن عبادتك في الظاهر والباطن، وفي كل أحوالنا، كما أفادته الجملة الاسمية من الدوام والثبات. قوله: ((اللَّهم توفنا مسلمين)): اللَّهمّ أمتنا على الإسلام، ففيه سؤال اللَّه تعالى الموت بحسن الخاتمة. كما قال اللَّه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬1)، فمن مات عليه بُعث سالماً من العذاب. قوله: ((وأحْيِنا مسلمين)): بأن نحيا على الإسلام، وذلك بالاستسلام لك في الظاهر والباطن. قوله: ((وألحقنا بالصالحين)): بأن نلحق في ركبهم، وهذا لا يكون إلا إذا صحبهم العبد في الدنيا وأحبهم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((المرء مع من أحبّ)). قوله: ((غير خزايا)): أصل الخزي، هو الذل الذي يُستحيا من مثله لما يخاف من الفضيحة منه، والمعنى لا تذلّني بمعصيتك، ولا تُهني بترك أوامرك. قوله: ((ولا مفتونين)): أي غير واقعين في الفتنة الدينية، والبلية الأخروية، أو لا معذبين، نسأل اللَّه الحفظ والسلامة في الدنيا ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 102.

والآخرة (¬1). قوله: ((اللَّهم قاتل الكفرة الذين يُكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك)): بتثبيتنا، وقذف الخوف والوهن في قلوبهم، أو بإمداد الملائكة، وفيه بيان من يستحق عليهم القتال، وبيان العلّة في قتالهم، وهو من يصدّ عن سبيل اللَّه، ويكذّب الرسل. قوله: ((واجعل عليهم رجزك وعذابك)) أي أنزل عليهم الرجس والعذاب، وإنما خصّ الرجس بالذكر مع كونه داخلاً تحت العذاب لبيان شدته وقوته (¬2). قوله: ((اللَّهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق آمين)) هذا الدعاء كسابقه، فذاك للكافرين عامّة، وهذا في كفار أهل الكتاب، ثم ختم باسمين من أسمائه جلّ وعلا، وهذا من حسن الختام، ومعنى اسمه تعالى ((الإله)) هو المألوه، أي المستحقّ أن يؤلّه: يعبد، ويفرد بالعبادة دون أحد سواه. واسمه ((الحق)) هو الإله الحق: ضد الباطل، وكل معبود دونه باطل، فهو سبحانه متحقق في وجوده، وفي ربوبيته، وإلهيته، وأسمائه، وصفاته أزلاً وأبداً. قوله: ((آمين)) أي استجب، فهو طلب الإجابة من الرب - عز وجل - واستنجازها، والتأمين: تأكيد لما تقدّم من الدعاء، وتكرير له بأوجز عبارة، فيُندب للداعي أن يؤمّن في نهاية دعائه - كما تقدم سابقاً في ¬

(¬1) انظر: فضل الله الصمد، 2/ 49، وشرح الأدب المفرد، 2/ 365 - 367 بتصرف. (¬2) تحفة الذاكرين، ص 254.

128 - اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني.

آداب الدعاء- ويدلّ كذلك على تضرّع العبد للربّ، وذلّه، وعبوديته في الطمع في إجابة مسألته، ففيه نوع من الإلحاح. 128 - ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، وَارْحَمْنِي، وَاهْدِنِي، وَعَافِنِي، وَارْزُقْنِي)) (¬1). (( ... وَاجْبُرْنِي، وَارْفَعْنِي)) (¬2). الشرح: قوله: ((اللَّهم اغفر لي)): سؤال اللَّه المغفرة، وهو محو الذنوب، وسترها عن الناس. قوله: ((وارحمني)): أي تعطَّف عليَّ، ففيه سؤال اللَّه الرحمة التي تقتضي توالي الخيرات والبر والإحسان والنعم، ففي المغفرة يأمن العبد من كل مرهوب، وفي سؤال الرحمة يفوز العبد بكلّ مرغوب. قوله: ((وعافني)): أي سلّمني من جميع الآفات، والفتن، والنجاة من البلايا والمحن في الدين والدنيا والآخرة. قوله: ((وارزقني)): أعطني ما ينفعني عطاءً واسعاً بما يغنيني عن ¬

(¬1) مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم 2696، ورقم 2697، وفي رواية لمسلم: ((فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك))، وفي سنن أبي داود، كتاب الصلاة، باب الدعاء بين السجدتين، برقم 850: قال: ((فلما ولَّى الأعرابي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لقد ملأ يديه من الخير)). (¬2) الترمذي، كتاب الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 284، وابن ماجه، أبواب إقامة الصلوات، باب ما يقول بين السجدتين، برقم 898، والحاكم، 1/ 271، صحيح ابن ماجه، 1/ 148، وصحيح الترمذي، 1/ 90.

سواك، من الرزق الحلال أستعين به على القيام بالتكاليف المطلوبة من الإنفاق على الأهل، والولد، والفقير وغير ذلك، سأل الرزق الذي تقوم به الأبدان، ثم سأل ما به قوام الأرواح، وارزقني العلم والإيمان واليقين، وهذا الأخير أفضل أنواع الرزق الذي يعود نفعه على العبد في الدنيا والآخرة، كما كان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... وارزقني علماً تنفعني به)) (¬1). قوله: ((واهدني)): أرشدني ووفقني للحق الذي الصلاح فيه الحال، والمآل حتى أتوصَّل به إلى أبواب السعادة في الدنيا والآخرة؛ فإن الهداية هديتان: كما سبق هداية علم وبيان، وهداية توفيق ورشد، فالعبد يسألهما ربه - عز وجل -. قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك)): أي تجمع لك كل الخيرات التي تطلبها في دنياك وآخرتك، وتتضمن الوقاية من كل شر فيهما. قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اجبرني)) [سأل اللَّه] أن يجبره لما فيه سدّ حاجته، وأن يردَّ عليه ما ذهب من خير، وأن يعوّضه، ويصلح ما نقص منه، فإن من أسمائه تعالى ((الجبار))، ((ومن معانيه الجليلة: الذي يجبر الضعيف والكسير، ويغني الفقير، وييسّر كل عسير)) (¬2)، فعندما يدعو العبد به ينبغي أن يستحضر هذه المعاني الجليلة. ¬

(¬1) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب الاستعاذة، الاستعاذة من علم لا ينفع، برقم7808، والحاكم، 1/ 510، والبيهقي في الدعوات الكبير، 157 - 158، والطبراني في الدعاء، برقم1405، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 3151. (¬2) الحق الواضح، ص 77.

129 - اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا

قوله: ((وارفعني)) [سأل اللَّه] أن يرفع قدره في الدنيا والآخرة؛ لحذفه المفعول الذي يفيد العموم، ففي الدنيا من رفع المكانة من الثناء الحسن، والقبول عند الناس، والرفعة في العلم والقدر، وفي الآخرة في الدرجات العُلا في أعالي الجنان. ((اللَّهُمَّ زِدْنَا وَلَا تَنْقُصْنَا، وَأَكْرِمْنَا وَلَا تُهِنَّا، وَأَعْطِنَا وَلَا تَحْرِمْنَا، وَآثِرْنَا وَلَا تُؤْثِرْ عَلَيْنَا، وَأرْضِنَا وَارْضَ عَنَّا)) (¬1). قوله: ((اللَّهم زدنا)): يا اللَّه زدنا من خيرك وفضلك، وعطائك من خيري الدارين، ومن العلوم والمعارف, وفي هذا مشروعية طلب الزيادة من نعم اللَّه الواسعة، ولما كانت الزيادة ربما تكون في شيء من أمور الدنيا والآخرة، ويلحق النقص بشيء آخر، قال: ((ولا تنقصنا)): أي لا تُذهب منا شيئاً مما أعطيتنا إياه. قوله: ((وأكرمنا)): من عطاياك [الدينية، و] الدنيوية المباركة، ومنها قضاء حاجاتنا في هذه الدار, ومن أعظم الإكرام تقوى اللَّه، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (¬2)، وأكرمنا بالآخرة برفع ¬

(¬1) الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المؤمنين، برقم 3173، والنسائي في السنن الكبرى، كتاب الطهارة، صفة الغسل من الجماعة، برقم 1443، والإمام أحمد، 1/ 351، برقم 223، وعبد الرزاق، 3/ 348، والحاكم، 1/ 535، وصححه، والبزار، 1/ 427، وعبد بن حميد، برقم 15، وحسّنه الشيخ عبد القادر الأرنؤوط في تحقيقه لجامع الأصول، 11/ 282، برقم 8847. (¬2) سورة الحجرات، آية: 13.

درجاتنا في الجنان، لأنك أنت أكرم الأكرمين. قوله: ((ولا تهنا)) أي لا تذلنا بتسليط الكفار والأعداء علينا بسبب ذنوبنا وتقصيرنا [،ولا تهنّا بردّ دعائنا]. قوله: ((وأعطنا ولا تحرمنا)): قال الطيبي: عطف الأوامر، وهي ((زدنا, وأكرمنا, وأعطنا)) على النواهي ((لا تنقصنا, ولا تُهنا، ولا تحرمنا)) تأكيداً, ومبالغة, وتعميماً (¬1) , أي: وأعطنا ما سألناك، ومن خير ما لم نسألك، ولا تمنعنا من خيرك وفضلك، ولا تجعلنا من المحرومين, تضمّن هذا الدعاء سؤال اللَّه تعالى من كل خير في الدنيا والآخرة. قوله: ((وآثرنا، ولا تؤثر علينا)): اخترنا بعنايتك، ورحمتك, ولا تؤثر علينا غيرنا، فتعزّه وتذلّنا، ففيه سؤال اللَّه تعالى أن يجعله من الغالبين على أعدائه، لا من المغلوبين. قوله: ((وارضنا، وارض علينا)): أي اجعلنا راضين بما قضيت لنا, أو علينا بإعطائنا: الصبر، والقناعة، والرضا في كل ما هو آت منك حتى ندرك رضاك. قوله: ((وارض عنا)): فهو أعظم مطلوب ومرغوب يأمله منك العبد في الدنيا والآخرة. سأل الرضى: ((لأن منزلة ((الرضى)): هي أشرف المنازل بعد النبوة، فمن رضي اللَّه عنه, فقد رضي اللَّه عنه؛ لقوله تعالى: {رَضِيَ ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 108.

130 - اللهم أحسنت خلقي فأحسن خلقي.

اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه} (¬1) , فجعل أحد الرضاءين مقروناً بالآخر)) (¬2). 130 - ((اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي)) (¬3). الشرح: أي كما جعلت يا اللَّه خلقي مستقيماً معتدلاً في غاية الإحسان والإتقان, أسألك أن تُحسّن أخلاقي فتكون في غاية الحسن، والكمال كهيئة خَلْقي. فيه توسل إلى اللَّه تعالى بصفاته، وأفعاله من كمال القدرة, وحسن التصوير، وهو من أعظم أنواع التوسل إلى اللَّه تعالى. قوله: ((كما أحسنت)) فيه توسلٌ آخر، وهو توسل بنعمه السابقة، فجمع بين توسلين عظيمين, قبل الدعاء لما يترتب عليها من الاستجابة والقبول. وسؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يُحسّن خُلُقَه تعليماً له ولأمته في سؤال لما له من شأن عظيم، وفضل كبير, وموقع جليل في قلوب العباد، فقد جاءت الأحاديث الكثيرة في بيان فضله، وعلو شأنه: فعن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللَّه عنهما قال: لم يكن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً، ولا ¬

(¬1) سورة الحشر , الآية: 22. (¬2) فيض القدير، 2/ 108. (¬3) أخرجه أحمد، 1/ 373، برقم 3823، وأرقام 24392، و25221، والأدب المفرد، برقم 290،، وابن حبان، برقم 959، والطيالسي،374، ومسند أبي يعلى، برقم 5181، وصححه الألباني في إرواء الغليل، 1/ 113، برقم 74.

متفحشاً, وكان يقول: ((إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً)) (¬1). وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة, من حسن الخُلق)) (¬2)، وهو من أعظم الأسباب في القرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، فعن جابر - رضي الله عنه - أن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن من أحبكم إليَّ، وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً)) (¬3). وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة في فضل حسن الخلق. ((وحسن الخلق يكون مع اللَّه تعالى, ويكون مع عباد اللَّه، فحسن الخلق مع اللَّه تعالى: يكون الرضا بحكمه شرعاً وقدراً, وتلقي ذلك بالانشراح وعدم التضجر، وعدم الأسى والحزن، وحمده وشكره على بلائه ونعمائه سراً وعلناً، وحسن الخلق مع الخلق هو كف الأذى، وبذل الندى، وطلاقة الوجه. كف الأذى: بألا يؤذي الناس لا بلسانه، ولا بجوارحه. وبذل الندى: يعني العطاء, من مال وعلم وجاه وغير ذلك. ¬

(¬1) البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 3559، ومسلم، كتاب الفضائل، باب كثرة حيائه - صلى الله عليه وسلم -، برقم 2321. (¬2) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق، برقم 2002، والأدب المفرد، برقم 470، وابن أبي الدنيا في التواضع والخمول، برقم 172،وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، تحت الرقم 876، وفي صحيح الترغيب والتهيب، برقم 2641. (¬3) الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في معالي الأخلاق، برقم 2018، وابن حيان، 2/ 231، وابن أبي شيبة، برقم 25829، وعبد الرزاق، 11/ 144، والطبراني في الكبير، 19/ 80، برقم 4616، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم 482، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 791.

131 - اللهم ثبتني واجعلني هاديا مهديا

وطلاقة الوجه: أن يلاقي الناس بوجه منبسط (¬1). 131 - ((اللَّهُمَّ ثَبِّتْنِي وَاجْعَلْنِي هَادِياً مَهْدِيَّاً)) (¬2). الشرح: وأصل هذا الدعاء المبارك أن جرير بن عبد اللَّه البجلي - رضي الله عنه - شكا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يثبت على الخيل، فضرب - صلى الله عليه وسلم - بيده الكريمة على صدره ثم دعا له فقال: ((اللَّهم ثبته، واجعله هادياً مهدياً)). قوله: ((اللَّهم ثبته)): تضمن هذا الدعاء المبارك التوفيق إلى الثبات في كل الأحوال، ومن كل الأنواع من الثبات الحسي والمعنوي، الدنيوي والأخروي, كما أفاد حذف المفعول الذي يفيد العموم, وهذا من جوامع الكلم في الدعاء؛ فإن سؤال اللَّه تعالى الثبات في الدنيا يكون: في ثبات القلب أمام ملاقاة أعداء اللَّه تعالى يستلزم ثبات الأقدام والجسد، وكذلك الثبات أمام الفتن، والضلالات، والزيغ، والشهوات، والشبهات, وكذلك تضمّن سؤال اللَّه تعالى الثبات عند الاحتضار الذي يأتي الشيطان لإضلال العبد، وكذلك في البرزخ عند سؤال منكر ونكير, وكذلك في اليوم الآخر على الصراط, فتضمّنت هذه الكلمات القليلة المعاني الكثيرة والجليلة في الدين والدنيا والآخرة. ¬

(¬1) شرح رياض الصالحين للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، 2/ 341. (¬2) دلّ عليه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لجرير - رضي الله عنه -. انظر: البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب حرق الدور والنخيل، برقم 3020، وكذلك برقم 4356، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل جرير بن عبد الله، برقم 2475، و2476.

132 - اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد

قوله: ((واجعلني هادياً مهدياً)): وهذه أكمل الحالات، وأفضل الدرجات أن يجتمع في العبد الهداية القاصرة والمتعدية, أي أن يكون مهدياً بنفسه، هادياً لغيره, وهذا من أجل النعم من الرب - عز وجل - أن يثبت العبد، ويهديه على الهدى، ثم يرزقه التوفيق إلى دعوة الناس من الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر، وما يترتب على ذلك من الأجر العظيم له, وهذا يدل على أهمّية الأدعية النبوية, التي فيها أجلّ المقاصد، والمطالب الدنيوية والأخروية بأوجز الألفاظ. 132 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبَاً سَلِيمَاً، وَلِسَانَاً صَادِقَاً، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)) (¬1). ¬

(¬1) أحمد، 28/ 338، برقم 17114، و28/ 356، برقم 17133، والترمذي، كتاب الدعوات، باب منه، برقم 3407، والنسائي، كتاب السهو، نوع آخر من الدعاء، برقم 1304، ومصنف ابن أبي شيبة، 10/ 271، برقم 29971، والطبراني في المعجم الكبير بلفظه، برقم 7135، وبرقم 7157، و7175، ورقم 7176، و7177، و7178، و7179، و7180، وأخرجه ابن حبان في صحيحه، 3/ 215، برقم 935، و5/ 310، برقم 1974، وحسنه شعيب الأرنؤوط في صحيح ابن حبان، 5/ 312، وحسنه بطرقه محققو المسند، 28/ 338، وذكره الألباني سلسلة الأحاديث الصحيحة في المجلد السابع، برقم 3228، وفي صحيح موارد الظمآن، برقم 2416، 2418، وقال: ((صحيح لغيره)).

هذا الدعاء العظيم المبارك, في غاية الأهمية, فقد اشتمل على أعظم مطالب الدين, والدنيا, والآخرة, [و] فيه من جوامع الكلم التي لا تستقصيها هذه الوريقات لجلالة قدرها (¬1). ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - شداد بن أوس, والصحابة - رضي الله عنهم - بالإكثار من هذا الدعاء بأجمل الألفاظ، وأجلّ المعاني فقال: ((يا شداد بن أوس، إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة, فاكنز هؤلاء الكلمات)) (¬2). وفي لفظ ((إذا اكتنز الناس الدنانير والدراهم, فاكتنزوا الكلمات ... )) (¬3). ومما يدل على أهمية هذه الدعوات الطيبات أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[كان يقولها في صلاته، ففي رواية عند ابن حبان، والطبراني، ولفظ الحديث عند النسائي عن شداد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -] [كان يقول في صلاته]: اللهم إني أسألك الثبات ... )) الحديث (¬4). أي أنه كان يكثر من هذه الدعوات (¬5) في أعظم الأعمال، وهي الصلاة, فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فأكثروا))، وأمر - صلى الله عليه وسلم - (باكتنازها)؛ لأن نفعها دائم لا ¬

(¬1) قد شرح هذا الدعاء العلامة الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله في مؤلف خاص له. انظر مجموع الرسائل له، 1/ 362 - 396. (¬2) أحمد، 4/ 123، رقم 17155، أخرجه ابن أبي شيبة، 6/ 46، رقم 29358، والطبراني في الكبير، 7/ 279، برقم 7135، وأبو نعيم في الحلية، 6/ 77، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 3228. (¬3) ابن حبان، 3/ 215، والمعجم الكبير للطبراني، 7/ 287، برقم 7175، وصححه الألباني لغيره في التعليقات الحسان، برقم 971. (¬4) النسائي، برقم 1304، والطبراني في المعجم الكبير، 7/ 294، برقم 7178، ورقم 7179، ورقم 7180، وابن حبان في صحيحه، 5/ 310، برقم 1974، وقال الألباني في صحيح موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، 2/ 446، برقم 2047 - 2416: ((صحيح لغيره)). (¬5) [تقدم] مراراً أن فعل المضارع بعد كان يفيد الدوام على الفعل، والاستمرار عليه.

تضمن هذا الدعاء المبارك على عدة مقاصد ومطالب جليلة

ينقطع في الدنيا وفي الآخرة, كما قال اللَّه تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} (¬1)، وهذا هو الكنز الحقيقي الذي لا يفنى. فتضمَّن هذا الدعاء المبارك على عدة مقاصد ومطالب جليلة في أعظم مهمات الدين، والمعاش، والمعاد، منها: 1 - سؤال اللَّه تعالى الثبات على الهدى في كل الأحوال. 2 - التوفيق إلى صالح الأعمال على التمام. 3 - الشكر على النعم والآلاء في الليل والنهار. 4 - إصلاح أعمال القلب, والأركان. 5 - الفوز بكل خير ومنوال على الدوام. 6 - السلامة من كل شر في كل الأحوال والأزمان. 7 - مغفرة الذنوب في الماضي, والحال, والمآل. المفردات: الكنز: ((أصل الكنز المال المدفون تحت الأرض؛ فإذا أخرج منه الواجب عليه لم يبق كنزاً, وإن كان مكنوزاً)) (¬2)، والكنز: هو الشيء النفيس المدخر, ومنه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لا حول ولا قوة إلا باللَّه كنز من كنوز الجنة)) (¬3). ((أي المدخر لقائلها، والمتصف بها، كما يدخر ¬

(¬1) سورة الكهف، الآية: 46. (¬2) انظر: المفردات، ص 727 , والنهاية، ص 814. (¬3) البخاري، كتاب الدعوات، باب الدعاء إذا علا عقبة، برقم 6384، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب استحباب خفض الصوت بالذكر، برقم 2704.

الشرح:

الكنز)) (¬1). العزيمة: العزم والعزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر, يقال: عزمتُ الأمر, وعزمت عليه, واعتزمت, قال اللَّه تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (¬2). (¬3) الرشد: الرَّشَدُ والرُّشْدُ: خلاف الغي (¬4) , وهو الصلاح والفلاح, والصواب (¬5). القلب السليم: هو الخالي من الشرك والكفر, والنفاق والإثم وكل وصف ذميم. الشرح: قوله: ((اللَّهم إني أسألك الثبات في الأمر)): سأل اللَّه تعالى الثبات في الأمر, وهي صيغة عامة يندرج تحتها كل أمر من الأمور)) (¬6) من أمور الدنيا, والدين, والآخرة؛ فإن الثبات عليها يكون بالتوفيق [إليها] بالاستقامة، والسداد, وأعظم ذلك الثبات على الدين والطاعة، والاستقامة على الهدى، وأحوج ما يكون العبد [لهذه] الاستقامة, عند الاحتضار من نزغات الشيطان وإغوائه, والثبات في ¬

(¬1) النهاية، ص 814. (¬2) سورة آل عمران, آية 159. (¬3) المفردات، ص 565. (¬4) المصدر السابق، ص 354. (¬5) تحفة الذاكرين، ص 428. (¬6) تحفة الذاكرين، ص 428.

سؤال الملكين, وعند المرور على الصراط وقد جمع اللَّه تبارك وتعالى كل هذه الأمور, في قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} (¬1)، فتضمّنت هذه الدعوة الجليلة الثبات في كل الأحوال, والأوقات, والأماكن. وقوله: ((والعزيمة على الرشد)): ((سأل اللَّه تعالى عزيمة الرشد، وهي الجد في الأمر, بحيث ينجز كل ما هو رشد من أموره)) (¬2) في أمور معاشه وآخرته, والرشد كما [تقدم] هو الصلاح، والفلاح, والصواب، فلذلك كانت العزيمة على الرشد مبدأ الخير؛ فإن الإنسان قد يعلم الرشد، وليس له عليه عزيمة، فإذا عزم على فعله أفلح, والعزيمة: هي القصد الجازم المتصل بالفعل, وهو عقد القلب على إمضاء الفعل, ولا قدرة للعبد على ذلك إلا باللَّه تعالى؛ فلهذا كان من أهم الأمور سؤال اللَّه تعالى العزيمة على الرشد؛ ولهذا علَّم النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد الصحابة أن يقول: ((قل اللَّهم قني شر نفسي، واعزم لي على أرشد أمري)) (¬3). فالعبد يحتاج إلى الاستعانة باللَّه, والتوكل عليه في تحصيل العزم, وفي العمل بمقتضى العزم بعد حصول العزم, قال اللَّه تعالى: ¬

(¬1) سورة إبراهيم, الآية: 27. (¬2) تحفة الذاكرين، ص 428. (¬3) أخرجه أحمد، 33/ 197، برقم 19992، والنسائي في الكبرى، 6/ 246، كتاب صلاة العيدين، الصلاة بعد العيدين، برقم 10764، وابن حبان، 3/ 181، برقم 899، والحاكم، 1/ 510، وقال: ((صحيح على شرط الشيخين))، والطبراني في الكبير، 13/ 151، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، 4/ 323، برقم 2354، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم 896، وصححه محققو المسند، 33/ 197.

والعزم نوعان:

{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (¬1). والرشد: هو طاعة اللَّه ورسوله، كما قال اللَّه تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} (¬2). وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته: ((من يطع اللَّه ورسوله فقد رشد، ومن يعصي اللَّه ورسوله فقد غوى)) (¬3). والرشد ضد الغي, قال اللَّه تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَي} (¬4)، فمن لم يكن رشيداً, فهو: إما غافل, أو ضال. والعزم نوعان: أحدهما: عزم المريد على الدخول في الطريق, وهو من البدايات. والثاني: العزم على الاستمرار على الطاعات بعد الدخول فيها, وعلى الانتقال من حال كامل, إلى حال أكمل منه, وهو من النهايات, ولهذا سمَّى اللَّه تعالى خواصّ الرسل أولي العزم, وهم خمسة، وهم أفضل الرسل. فالعزم الأول يحصل للعبد به الدخول في كل خير, والتباعد من كل شر, إذ به يحصل للكافر الخروج من الكفر، والدخول في ¬

(¬1) سورة آل عمران, الآية: 159. (¬2) سورة الحجرات، الآية: 7. (¬3) انظر: صحيح مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، برقم 870. (¬4) سورة البقرة, الآية: 256.

الإسلام, وبه يحصل للعاصي الخروج من المعصية, والدخول في الطاعة, فإن كانت العزيمة صادقة, وصمم عليها صاحبها, وحمل على هوى نفسه, وعلى الشيطان حملة صادقة, ودخل فيما أُمِرَ به من الطاعات فقد فاز. وعون اللَّه للعبد على قدر قوة عزيمته، وضعفها, فمن صمَّم على إرادة الخير أعانه، وثبّته. ومن صَدَقَ العزيمة يئس منه الشيطان, ومتى كان العبد متردداً طمع فيه الشيطان, وسوّفه، ومنَّاه. سُئل بعض السلف متى ترتحل الدنيا من القلب؟ قال: إذا وقعت العزيمة ترحّلت الدنيا من القلب, ودرج القلب في ملكوت السماء, وإذا لم تقع العزيمة اضطرب القلب, ورجع إلى الدنيا (¬1). قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وأسألك موجبات رحمتك)): موجبات- بكسر الجيم-: جمع موجبة، وهي ما أوجبت لقائلها الرحمة، من قربة, أيّ قربةٍ كانت, أي: نسألك من الأفعال, والأقوال، والصفات التي تتحصَّل بسببها رحمتك (¬2) , والتي توجب بها الجنة التي هي أعظم رحماتك، كما قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّه هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (¬3). قوله: ((وعزائم مغفرتك)): العزائم: جمع عزيمة: وهي عقد ¬

(¬1) مجموع رسائل ابن رجب، 1/ 372 - 377. (¬2) تحفة الذاكرين, 450 , وانظر: أوراد الذاكرين، ص 168. (¬3) سورة آل عمران, الآية: 107.

القلب على إمضاء الأمر كما مر, أي أسألك أن ترزقنا من الأعمال والأقوال والأفعال التي تعزم، وتتأكد بها مغفرتك, وهذا الدعاء من جوامع الكلم النبوية, فإنه سأله أولاً أن يرزقه ما يوجب له رحمة اللَّه - عز وجل - , ومن فعل ما يوجب له الرحمة, فقد دخل بذلك تحت رحمته التي وسعت كل شيء, واندرج في سلك أهلها, وفي عداد مستحقها, ثم سأله أن يهب له عزماً على الخير يكون به مغفوراً له؛ فإن من غفر اللَّه تعالى له ذنوبه، وتفضّل عليه برحمته، فقد ظفر بخيري الدنيا والآخرة, واستحق العناية الربانية في محياه ومماته؛ لأنه قد صفا من كدورات الذنوب (¬1). وهذان المطلبان قد تقدما كثيراً في أدعية القرآن، وكذلك السنة؛ لأن في المغفرة التخلية من كل الذنوب وتبعاتها, وهي التصفية، والتنقية من آثارها وشؤمها في الدنيا والآخرة, والرحمة تحلية، التي تتحصل بمقتضاها النعم, والآلاء, ومن أجلها النعيم المقيم، في جنات النعيم. قوله: ((وأسألك شكر نعمتك)): أي أسألك التوفيق لشكر نعمك التي لا تُحصى؛ لأن شكر النعمة يوجب مزيدها، وحفظها، واستمرارها على العبد، كما قال اللَّه تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (¬2)، والشكر يكون: بالقلب, واللسان, والأركان. فالشكر بالقلب: ذكرها، وعدم نسيانها. ¬

(¬1) تحفة الذاكرين، 450 - 451. (¬2) سورة إبراهيم، الآية: 7.

ويكون ذلك على ركنين:

والشكر باللسان: الثناء، والحمد بالنعم، وذكرها, وتعدادها, والتحدث بها. والشكر بالأركان, أن يستعان بنعم اللَّه تعالى على طاعته, وأن يجنب في استعمالها في شيء من معاصيه (¬1). قوله: ((وحسن عبادتك)): يكون بإتقانها، والإتيان بها على أكمل وجه، ويكون ذلك على ركنين: 1 - الإخلاص للَّه تعالى فيها. 2 - المتابعة فيما جاء في الكتاب الحكيم, وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - الرؤوف الرحيم، وأعظم الإحسان في العبادة مقام (الإحسان): قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سأله جبريل عن الإحسان، فقال: ((الإحسان أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه, فإنه يراك)) (¬2). ((فأشار إلى مقامين: أحدهما: أن يعبد اللَّه تعالى مستحضراً لرؤية اللَّه تعالى إياه، ويستحضر قرب اللَّه منه، واطّلاعه عليه, فيخلص له العمل، ويجتهد في إتقانه، وتحسينه. ¬

(¬1) مجموع رسائل ابن رجب، 1/ 377 - 379, وانظر: اللآلئ الزكية في شرح الأدعية النبوية، ص 78. (¬2) البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان، برقم 50، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، ووجوب الإيمان بإثبات قدر الله - سبحانه وتعالى -، برقم 9.

والثاني: أن يعبده على مشاهدته إياه بقلبه

والثاني: أن يعبده على مشاهدته إياه بقلبه, فيعامله معاملة حاضر لا معاملة غائب)) (¬1). فينبغي للداعي حينما يدعو ربه تعالى المجيب أن يستحضر هذه المعاني. وقوله: ((وأسألك قلباً سليماً)): هو القلب النقي من الذنوب، والعيوب ((الذي ليس فيه شيء من محبة اللَّه ما يكرهه اللَّه تبارك وتعالى, فدخل في ذلك سلامته من الشرك الجلي والخفي, ومن الأهواء والبدع، ومن الفسوق والمعاصي: كبائرها، وصغائرها، الظاهرة، والباطنة، كالرياء، والعجب, والغِلِّ, والغش, والحقد, والحسد، وغير ذلك, وهذا القلب السليم هو الذي لا ينفع يوم القيامة سواه, قال اللَّه تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (¬2) , فإذا سلم القلب لم يسكن فيه إلا الرب تبارك وتعالى)) (¬3). قوله: ((ولساناً صادقاً)): أي محفوظاً من الكذب, والإخلاف بالوعد, سأل اللَّه تعالى لساناً صادقاً؛ لأنه من أعظم المواهب, وأجلّ المنح والرغائب؛ فإنه أول الطريق إلى درجة الصدِّيقيَّة التي هي أعلى الدرجات بعد الأنبياء, قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بالصدق, فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة, وما يزال الرَّجُل ¬

(¬1) مجموع رسائل ابن رجب، 1/ 380. (¬2) سورة الشعراء، الآيتان: 88 - 89. (¬3) ابن رجب، 1/ 380.

يصدق, ويتحرى الصدق, حتى يكتب عند اللَّه صديقاً ... )) (¬1). قوله: ((وأسألك من خير ما تعلم)): هذا سؤال جامع لكل خير ما علمه العبد، وما لم يعلمه، فما من خير إلا وقد دخل فيه؛ لهذا أسنده إلى ربه تعالى العليم, الذي وسع علمه كل شيء, في العالم السفلي والعلوي, ((وهذا السؤال العام بعد سؤال تلك الأمور الخاصة من الخير, هو من باب ذكر العام بعد الخاص)) (¬2). قوله: ((وأعوذ بك من شر ما تعلم)): وهذه الاستعاذة شاملة من كل الشرور: صغيرها، وكبيرها, الظاهر منها، والباطن, حيث قيد الاستعاذة من الشرور الذي يعلمها سبحانه؛ لأن الرب تبارك وتعالى يعلم كل شيء, وهذا في غاية التلطف، والأدب، والتعظيم للرب حال الدعاء. قوله: ((وأستغفرك لما تعلم)): ختم الدعاء بطلب الاستغفار الذي عليه المعوَّل، والمدار؛ فإنه خاتمة الأعمال الصالحة, كما في كثير من العبادات. وهذا الاستغفار يعمّ كل الذنوب التي عملها العبد في الماضي, والحاضر, والمستقبل, ((فإن من الذنوب ما لا يشعر العبد بأنه ذنب بالكلية، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر: ((يا أبا بكر لَلشرك فيكم، أخفى ¬

(¬1) البخاري، كتاب الأدب، باب قول اللَّه تعالى:) يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين ([التوبة: 119،برقم 6094، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب، وحسن الصدق، وفضله، برقم 2607. (¬2) مجموع رسائل لابن رجب، 1/ 389.

133 - اللهم إني أسألك الفردوس أعلى الجنة.

من دبيب النمل ... )) الحديث (¬1) , ومن الذنوب ما ينساه العبد، ولا يذكره وقت الاستغفار, فيحتاج العبد إلى استغفار عام من جميع ذنوبه، ما علم منها، وما لم يعلم, والكل قد علمه اللَّه، وأحصاه)) (¬2). ثم ختم دعاءه, بأحسن ختام, من صفات اللَّه تعالى العظام ((إنك أنت علام الغيوب)): باسم من أسمائه المضافة, التي تدل على سعة العلم, فإن (علَّام) صيغة مبالغة لكثرة العلم وشموله, فهذا توسّل جليل, لهذا المقام العظيم, فيه غاية الأدب والتعظيم, للرب الجليل, وذلك أنه أكّده بـ (إنَّ) وضمير الفصل (أنت) الذي يفيد التأكيد, والحصر والقصر, في اختصاص رب العالمين بالعلم الواسع, ومن ضمنه ذلك الداعي السائل لهذه المطالب العلية, في الدين, والدنيا, والآخرة. وأنت ترى رعاك اللَّه, إلى جلالة هذه الكلمات في هذه الدعوات, من المقاصد, والمطالب, والمضامين المهمّة؛ لذا أمر - صلى الله عليه وسلم - باكتنازها؛ لأنها هي الكنز الحقيقي الذي ينمو في ازدياد من الخير في الدار الدنيا, والادخار في الدار الآخرة. 133 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْفِرْدَوْسَ أَعْلَى الْجَنَّة)) (¬3). ¬

(¬1) الأدب المفرد، برقم 716، وأحمد، 23/ 384، برقم 19606، وأبو يعلى، 1/ 60، وابن أبي شيبة، 10/ 337، والطبراني في الأوسط، 4/ 10، وعمل اليوم والليل لابن السني، برقم 285، والترمذي في نوادر الأصول، 4/ 101، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم 716، وصحيح الجامع الصغير، برقم 3730. (¬2) مجموع رسائل ابن رجب، 1/ 391 - 392. (¬3) مأخوذ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (( ... فَإذِا سَأَلْتُمُ اللهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ؛ فَإِنًّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ)). البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، برقم 2790، ورقم 7423.

المفردات:

المفردات: الفردوس: الفردوس اسم من أسماء الجنة, وأصله البستان الواسع الذي يجمع كل ما في البساتين, من أصناف الثمر, والمراد هنا مكان الجنة من أفضلها (¬1). الشرح: هذا الدعاء المبارك فيه أعظم مطلب, وأسمى مقصد, وأجلّ مأمل في الدار الآخرة؛ فإن الرب الحكيم العليم, جعل الجنة جنان عالية, عليَّة مكاناً, ومكانةً, بعضها فوق بعض، على قدر أعمال العباد, حتى تتسابق الهمم على نيل أعلاها, كما قال اللَّه تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (¬2)، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من آمن باللَّه، وبرسوله، وأقام الصلاة، وصام رمضان، كان حقاً على اللَّه تعالى أن يدخله الجنة, جاهد في سبيل اللَّه أو جلس في أرضه [أو جلس في بيته] فقالوا: يا رسول اللَّه, أفلا نبشِّرُ الناس؟ قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها اللَّه للمجاهدين في سبيل اللَّه, ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, فإذا سألتم اللَّه فاسألوه الفردوس، فإنه أوسط الجنة, وأعلى الجنة, وفوقه عرش الرحمن, ومنه تفجر أنهار ¬

(¬1) انظر: تفسير ابن جرير، 15/ 430 - 437، وانظر: المنتقى من الفردوس لعبد الملك السلمي القرطبي، 83 - 100. (¬2) سورة المطففين، الآية: 26.

الجنة)) (¬1). وفي لفظ: ((ألا أخبر الناس؟ فقال: ((ذر الناس يعملون؛ فإن في الجنة مائة درجة, ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض, والفردوس أعلى الجنة, وأوسطها)) (¬2) فقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((في الجنة مائة درجة)): ((تعليل لترك البشارة المذكورة)) (¬3). قال الطيبي رحمه اللَّه: ((هذا الجواب من أسلوب الحكيم، أي بشرهم بدخولهم الجنة بما ذكر من الأعمال, ولا تكتف بذلك, بل بشرهم بالدرجات, ولا تقتنع بذلك, بل بشرهم بالفردوس الذي هو أعلاها)) (¬4). قوله: ((ذر الناس يعملون)): ((أي لا تطمعهم في ترك العمل, والاعتماد على مجرد الرجاء)) (¬5). قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوسط الجنة وأعلى الجنة)): ((المراد بالأوسط هنا الأعدل، والأفضل, كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬6) , ¬

(¬1) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب درجات المجاهدين في سبيل الله، برقم 2790، وما بين المعقوفين ذكر القاري أنها في بعض نسخ البخاري. انظر: عمدة القاري، 14/ 90. (¬2) الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة درجات الجنة، برقم 2530، والطبراني في الكبير، 20/ 157، برقم 327، وكشف الأستار، 1/ 19، وبنحوه: أحمد، 14/ 143، برقم 8419، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1913، وصحيح الجامع، برقم 5741. (¬3) فتح الباري، 6/ 16. (¬4) المرجع السابق، 6/ 16 (¬5) فيض القدير، 3/ 561. (¬6) سورة البقرة, الآية: 143.

فعلى هذا فعطف الأعلى عليه للتأكيد, وقال الطيبي: المراد بأحدهما العلوّ الحسّي, وبالآخر العلوّ المعنوي, وقال ابن حبان: أي ((الفردوس وسط الجنة في العرض, (وأعلى الجنة) يريد به في الارتفاع)) (¬1). قلت: قول الطيبي، وكذلك قول ابن حبان هو الصحيح؛ لأنه كما هو معلوم أن لعطف يفيد المغايرة, والأمر الثاني: ((أن التأسيس مقدم على التأكيد)) (¬2). لأن فيه زيادة للمعنى، وهذا هو الأصل. وقول ابن حجر رحمه اللَّه: أن معنى الأوسط: الأعدل، والأفضل فصحيح، إذا لم يقر معه لفظ يغايره كما هنا, ومما يدل على ذلك, ما جاء عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - , عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا)) (¬3). والربوة - بالضم والفتح-: ما ارتفع من الأرض (¬4)، فغاير بين رفعتها مكاناً، وبين ((أوسطها وأفضلها)) مكانة، أي علوّ شأنها وقدرها. ¬

(¬1) انظر الفتح، 6/ 17, وصحيح ابن حبان، 7/ 64 برقم 4592. (¬2) انظر هذه القاعدة في: قواعد الترجيح للحربي، 2/ 473. (¬3) أخرجه أحمد، 21/ 280، برقم 13741، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المؤمنين، برقم 3174، والطبراني في المعجم الكبير، 7/ 213، برقم 6885، وبنحوه البزار، برقم 4649، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2536، وفي صحيح الجامع، برقم 7852. (¬4) النهاية، ص 344.

قال ابن القيم رحمه اللَّه: ((أنزه الموجودات، وأظهرها، وأنورها، وأعلاها ذاتاً وقدراً عرش الرحمن، وكلّما قرب إلى العرش كان أنور، وأزهر، فلذا كان الفردوس أعلى الجنان وأفضلها)) (¬1). ولما كانت الفردوس أعلى الجنان درجة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والفردوس أعلاها درجة ... )) (¬2)، فهي كذلك تتفاوت في العلو والرفعة كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم حارثة، حينما سألت عنه حين أصيب يوم بدر، فقال لها: ((ويحك، أهبلت، أوَجنةٌ واحدةٌ هي؟ إنها جنان في جنة))، وفي رواية: ((إنها جنان كثيرة، وإنه في الفردوس الأعلى)) (¬3)، فلذلك حثّنا - صلى الله عليه وسلم - أن نسأل أعلاها، فقال: ((فإذا سألتم اللَّه فسلوه الفردوس [الأعلى])) (¬4). ففي بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - في تفصيل لدرجات الجنة، وإن الفردوس هي أعلاها، وحثّه - صلى الله عليه وسلم - لنا في سؤالها يدل دلالة واضحة على حرصه، وعنايته للخير لأمته في أحسن أسلوب من الترغيب والتشويق، وفي أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الجميع بالدعاء بالفردوس، بل بالفردوس الأعلى ((إن درجة المجاهد قد ينالها غير المجاهد، إما بالنية الخالصة، أو بما ¬

(¬1) فيض القدير، 4/ 107. (¬2) أخرجه أحمد، 37/ 369، برقم 22695، والترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في صفة درجات الجنة، برقم 2531، وابن أبي شيبة، 13/ 138، برقم 35211، والمقدسي في المختارة، 3/ 337، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 922، وصحيح الترمذي، 2531. (¬3) صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، برقم 6550 - 6567. (¬4) البخاري في جزء من حديث، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء، برقم 7423، وما بين المعقوفين من موارد الظمآن، برقم 2432.

يوازيه من الأعمال الصالحة)) (¬1). فقد بيّن لك يا عبد اللَّه نبي الرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم - منزلة الفردوس عن باقي الجنان، وأرشدك إلى أعظم الأسباب والأبواب إلى نيلها، وهو دعاء اللَّه تبارك وتعالى وسؤاله. وهو أعظم الأسباب، وأيسر الأبواب، فشدَّ ساعد الجد والعمل من هذه اللحظة، ولا تسوِّف، ولا تتأخر أبداً من الآن في الإلحاح، وطرق الباب آناء الليل وأطراف النهار؛ فإنه سوف يفتح لك الباب [إن شاء اللَّه]. قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: ((جدوا في الدعاء، فإنه من يُكثر قرع الباب يوشك أن يُفتح له)) (¬2). وتَذَكَّر قول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة اللَّه غالية، ألا إن سلعة اللَّه الجنة)) (¬3)؛ فإن هذه السلعة غالية، نفيسة، لاتنال بالأماني، والتسويف، والقعود، وإنما تنال بالهمة، والعزيمة في القول والفعل، فكن كيِّساً، ولا تكن عاجزاً. وقد رُوي: ((الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، ¬

(¬1) الفتح، 6/ 17. (¬2) المصنف لابن أبي شيبة، برقم 8441، وعبد الرزاق، برقم 19644، وتقدم تخريجه. (¬3) الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق، باب حدثنا محمد بن حاتم المؤدب، برقم 2450، والحاكم، 3/ 408، وصححه، وعبد بن حميد، برقم 460، والبيهقي في الشعب، 2/ 266، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 954، وصحيح الترغيب والترهيب، برقم 3377.

وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ [الأماني])) (¬1). والكيس هو العاقل (¬2) الذي عنده ((القدرة على جودة استنباط ما هو أصلح في بلوغ الخير)) (¬3)، وهذا هو اللبيب الحازم، الذي ينظر في عواقب الأمور، فينظر إلى الدنيا وقد علم أنها دار الفناء، وأن الجنة هي دار القرار، وهذه الدار عالية، وعليَّة، درجات بعضها فوق بعض، كلما علت اتسعت، وعلت في المنزلة والمكانة، وأن الفردوس هي أعلى الجنان، فعند ذلك تعلو همّته، وتصدق عزيمته، فجعل هذه المنزلة العظيمة هي مقصده الأعظم، فشمّر في العمل في لحظته وآنه، فقوله: ((دان نفسه)): ((أي حاسبها، وأذلها، واستبعدها، وقهرها، فجعلها منقادة لأوامر اللَّه تعالى وطاعته، ((وعمل لما بعد الموت)): قبل نزوله؛ لأن الموت عاقبة أمور الدنيا، فالكيس من أبصر العاقبة، ((والعاجز من اتبع نفسه هواها)): أي الذي غلبت عليه نفسه وقهرته، فأعطاها ما تشتهيه. ((وتمنى على اللَّه الأماني)): أي أنه يتمادى بالمعصية، ويتمنى على اللَّه المغفرة، فالتمني مذموم؛ لأنه يُفضي بصاحبه إلى الكسل، بخلاف ¬

(¬1) أخرجه أحمد، 28/ 350، برقم 17124، والترمذى (4/ 638، رقم 2459، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الموت والاستعداد له، برقم 4260، والبيهقي، في الشعب، برقم 10061، والطبراني في الكبير، 7/ 281، برقم 7141، وفي الصغير له، 2/ 107، برقم 863، والحاكم، 1/ 57، وصححه على شرط البخاري، والطيالسي، 3/ 445، والبزار، 8/ 417، برقم 3489. وما بين المعقوفين زيادة من مسند الفردوس، برقم 4930، (¬2) النهاية، ص 820. (¬3) انظر: فيض القدير، 5/ 67.

الرجاء؛ فإنه تعليق القلب بمحبوب يحصل حالاً)) (¬1)، فيجمع ما تتوق نفسه إلى المحبوب بالجد والعمل، مع حسن الظن بربه تعالى. وختاماً أذكر لك رعاك اللَّه ما جاء في فضل الفردوس من الكتاب والسنة من أوصاف عظيمة، عسى أن تكون لك حافزاً في العمل، والهمّة، والسؤال لربك بالرغبة، والإلحاح، والضراعة. ((الفردوس: ربوة الجنة، وأوسط الجنة، وأعلى الجنة، وأفضلها، وأحسنها، فإنه سر الجنة (¬2)، وأعلاها (الجنة) درجة، وأن العرش على الفردوس، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة)) (¬3)، وإن من دخلها لا يبغي عنها تحولاً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} (¬4). ((أي: خالدين في جنات الفردوس، لا يبغون عنها حولاً، أي تحولاً إلى منزل آخر؛ لأنها لا يوجد منزل أحسن منها، يرغب فيها إلى التحول إليه عنها، بل هم خالدون فيها دائماً من غير تحول، ولا انتقال ... )) (¬5). ¬

(¬1) المصدر السابق. (¬2) السر بالكسر السين وشدة الراء، المراد أفضل موضع فيها، والسر جوف كل شيء ولبه وخالصه (النهاية). (¬3) انظر هذه الروايات الصحيحة في/ البخاري، برقم 2790، و7423، وصحيح الترمذي، برقم 2531، و3174، وصحيح ابن ماجه،4331، وصحيح النسائي، برقم2530، وصحيح الجامع، برقم 592، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم922، و1811، و2003. (¬4) سورة الكهف، الآيتان/ 107 - 108. (¬5) أضواء البيان للشنقيطي، 4/ 150.

134 - اللهم جدد الإيمان في قلبي.

جعلني اللَّه وإياك من أهلها ((اللَّهم آمين))، اللَّهم يا خير الرازقين، ارزقنا مرافقة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - في أعلى الفردوس. 134 - ((اللَّهُمَّ جَدِّدِ الإيْمَانَ فِي قَلْبِي)) (¬1). قال عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم، كما يخلق الثوب، فاسألوا اللَّه أن يجدد الإيمان في قلوبكم)). المفردات: ليخلق: أي يكاد أن يبلى (¬2). الشرح: هذا الدعاء فيه من عظيم المقصد، وأجلّ مطلب، في إصلاح أهم مضغة في الجسد، التي هي محلّ نظر الرب تبارك وتعالى، التي إن صلحت صلح سائر الجسد كله، وإن فسدت فسد الجسد كله؛ فلهذا اهتم الشارع الحكيم إلى سؤال اللَّه تبارك وتعالى في إصلاح هذه المضغة. [وقد] تقدم من أدعية المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهم مصرف القلوب ¬

(¬1) مقتبس من حديث عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنّ الإِيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكُمْ كما يَخْلَقُ الثَّوْبُ الخَلقُ، فاسْأَلُوا اللَّهَ أن يُجَدِّدَ الإِيمانَ في قُلُوبِكُمْ))، الحاكم، 1/ 4، وصححه، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد، 1/ 52: ((رواه الطبراني في الكبير، وإسناده حسن))، وحسنه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 4/ 113، برقم 1585. (¬2) فيض القدير، 2/ 323.

صرف قلوبنا على طاعتك))، ((يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك))، ((اللَّهم حبِّب إلينا الإيمان، وزيّنه في قلوبنا))، وغير ذلك الكثير من الأدعية. قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الإيمان ليخلق)): أكد الأمر بـ (إنّ)) أي الإيمان ليتلف ويبلى ويتغير، ثم شبهه بالأمر المحسوس المشاهد بالثوب الذي يبلى ولا يبقى، وهذا في غاية الأهمية في تثبيت الأمر المهم في الذهن، وتأكيد الحقائق المهمة الجليله، بالأمور المحسوسة، الذي يقتضي المراقبه، وحسن المجاهدة ((شبه - صلى الله عليه وسلم - الإيمان بالشيء الذي لا يستمر على هيئته)) (¬1)؛ فإن الثوب يبلى لرداءته، أو كثرة استعماله، وكذلك الإيمان، لا يبقى على حال، فهو يضعف، ويفتر بسبب كثرة المعاصي والآثام، والبعد عن ذكر اللَّه - عز وجل -، وقلّة [الأعمال] الصالحات والطاعات، وعدم تجديد التوبة بعد الذنوب والسيئات. ففيه دليل على صحة اعتقاد أهل السنة والجماعة، كما هو مقرَّر في كتب العقيدة: إن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعات، وينقص بالمعاصي والآثام. ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((فاسألوا اللَّه أن يجدد الإيمان في قلوبكم))، وقد تقدم أن في أمره - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء، أفضل من غيره من الأدعية التي لم يأمر بها. وفي صيغة المضارع ((أن يجدد)): الذي يدلّ على الاستمرارية ¬

(¬1) فيض القدير، 2/ 323.

135 - اللهم إني أعوذ بك من صلاة لا تنفع.

والتجدّد، فيه حث على الاعتناء بهذا الدعاء، وملازمته، والاعتناء به على الدوام، وتضمّن هذا الدعاء المبارك سؤال اللَّه تبارك وتعالى التوفيق إلى صالح الأعمال، والتي من أجلّها: مسائل الإيمان من حسن الاعتقاد، المنافي للشبهات، والبدع، والضلالات، وكذلك تضمّن سلامته من الشرك، والرياء، والسمعة، والنفاق، وباقي الذنوب، والشرور، والسيئات. فخذ بوصية المصطفى - صلى الله عليه وسلم - تكن من الفائزين. 135 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ صَلَاةٍ لَا تَنْفَعُ)) (¬1). الشرح: الصلاة أعظم صلة بين العبد وربه - عز وجل - , وهي أفضل الأعمال، وأحبها إلى اللَّه - عز وجل - , كما جاء في الأدلة الوفيرة في عظم منزلتها, فهي من أعظم الأعمال الرافعة في الدرجات الآخرة, فلا عمل بعد توحيد اللَّه تبارك وتعالى أفضل منها، وذلك لاشتمالها على التوحيد، والتعظيم والثناء على اللَّه - عز وجل - بكلِّ أنواعه، واشتغال كل الأعضاء، والحركات في البدن للَّه تبارك وتعالى, وثمراتها, وفوائدها لا تعدّ، ولا تحصى, فمن منافعها, أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر, قال اللَّه تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر} (¬2). ¬

(¬1) أبو داود، كتاب الوتر، باب في الاستعاذة، برقم 1549، وابن حبان، 3/ 293، والضياء في المختارة، 6/ 156، والدعوات الكبير للبيهقي، 1/ 469، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم 1370. (¬2) سورة العنكبوت, الآية: 45.

136 - اللهم إني أعوذ بك من جار السوء، ومن زوج تشيبني.

لذا استعاذ منها نبي الرحمة, التي جعلت الصلاة قرة عينه من عدم منافعها, وذلك يكون لعدم الإتيان بها على الوجه الصحيح من الإخلاص، وصحة الأركان, والواجبات, والشروط (¬1). فتضمّنت هذه الاستعاذة الطيبة, التوفيق إلى القيام بها على الوجه الأكمل والأتمّ, فإذا أقامها العبد كما ينبغي, اقتطف من ثمار، ومنافع الخيرات في الدنيا والآخرة. 136 - ((اللَّهُمَّ إنِّي أّعُوذُ بِكَ مِنْ جَارِ السُّوءِ، وَمِنْ زَوْجٍ تُشَيِّبُنِي قَبْلَ المَشِيبِ، وَمِنْ وَلَدٍ يَكُونُ عَليَّ رَبّاً، وَمِنْ مَالٍ يَكُونُ عَلَيَّ عَذَابَاً، وَمِنْ خَلِيْلٍ مَاكِرٍ عَيْنُهُ تَرَانِي، وَقَلْبُهُ يَرْعَانِي؛ إِنْ رَأَى حَسَنَةً دَفَنَهَا، وَإِذَا رَأَى سَيِّئَةً أَذَاعَهَا)) (¬2). الشرح: هذا الدعاء المبارك فيه استعاذة من خمسة مجاورين من الصفات الذميمة التي لا ينفك عنها العبد في عيشه في هذه الدار. فأولها: ((جار السوء)):وتقدم شرحه في الدعاء رقم (95) , (97). وقوله: ((ومن زوج تُشِّيبني قبل المشيب)): ((وهي المرأة السوء, ¬

(¬1) اللآلئ الدرية في شرح الأدعية النبوية، 70. (¬2) الطبراني في الدعاء، 3/ 1425، برقم 1339، وهناد في الزهد، برقم 1038، وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، 7/ 377، برقم 3137،: ((قلت: وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم من رجال التهذيب ... )).

وهي التي تراها فتسوؤك لقبح ذاتها, أو أفعالها, وتحمل لسانها عليك بالبذاءة, وإن غبت عنها لم تأمنها على نفسها ومالك)) (¬1). فينشأ بسببها الشيب قبل وقته، بسبب ما يحصل من الهم، والغم، وكدر العيش. قوله: ((ومن ولد يكون عليَّ ربَّاً)): أي أستعيذ بك أن ترزقني ولداً يكون عليَّ مالكاً، لعقوقه وعدم برّه, وتسلّطه عليَّ كأنه هو المالك السيد، وأنا العبد المملوك عنده. قوله: ((ومن مال يكون عليَّ عذاباً)): ومن مال يكون سبباً لعذابي وخسارتي, لحرصي على جمعه من غير حِلِّه, وهذا المال الحرام الذي تفقد بركته وخيره في معاش العبد، ويورد شرّ الموارد في الآخرة, وتضمّنت هذه الاستعاذة والتي قبلها وبعدها أضداد هذه الشرور في سؤال اللَّه تعالى الرزق من الزوجة الصالحة, والولد الصالح, والمال الحلال في الكسب والإنفاق, وكذلك مصاحبة الصالحين الذين يعينون العبد في دينه ودنياه وآخرته. قوله: ((ومن خليل ماكر)): أي أعوذ بك من صديق يظهر المحبة, والخلّة والودّ, وهو في باطن الأمر محتال مخادع. قوله: ((عينه تراني)): أي ينظر إليَّ نظر الخليل لخليله خداعاً، ومداهنة، ومكراً. قوله: ((وقلبه يرعاني)): أي قلبه يراعي إيذائي، وهو لي بالمرصاد، يتربص بي الشرّ والسوء. ¬

(¬1) بداية المبتدئ وهداية السالك، ص 214.

137 - اللهم لا تخزني يوم القيامة.

قوله: ((إن رأى حسنة دفنها)): أي إذا علم مني بفعل حسنةً فعلتها. ((دفنها)): سترها، وغطّاها، وكتمها، ولم ينشرها. قوله: ((وإذا رأى سيئة أذاعها)): أي إذا علم مني بفعل سيئة زللت بها, نشرها، وأظهرها خبراً بين الناس (¬1) , فهذا والعياذ باللَّه ليس بخليل ولا صديق, إنما [هو] عدوّ غشوم, ظلوم, وحاله هذه: حال المنافقين التي بيّنها اللَّه تبارك وتعالى في كتابه العزيز: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} (¬2). 137 - ((اللَّهُمَّ لاَ تُخْزِنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) (¬3). أصل هذا الدعاء المبارك, أن رجلاً من بني كنانة قال: ((صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح, فسمعته يقول: ((اللَّهم لا تخزني يوم القيامة)). وجاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول هذه الدعوات, فعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يدعو بهذه الدعوات كلّما سلّم)): ((اللَّهم لا تخزني يوم القيامة, ولا تخزني يوم البأس, فإن من تخزه يوم البأس فقد أخزيته)) (¬4). ¬

(¬1) انظر: فيض القدير، 2/ 145، وبداية المبتدئ وهداية السالك، ص 215 بتصرف. (¬2) سورة آل عمران, الآية: 120. (¬3) أحمد في المسند، 29/ 596، برقم 18056، وقال محققو المسند: ((إسناده صحيح))، وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير، 3/ 20، برقم 2524 بلفظ: ((اللهم لا تخزني يوم القيامة، ولا تخزني يوم البأس)). (¬4) أخرجه ابن السني قس عمل اليوم والليلة، برقم 129، وقال محققه سليم الهلالي: <إسناده صحيح>، وأورده ابن أبي حاتم في علل الحديث، برقم 2065.

المفردات:

المفردات: الخزي: يقال خزي الرجل: لحقه انكسار, إما من نفسه, أو من غيره (¬1) , وخزي يخزي خزياً, أي: ذلَّ وهان (¬2). البأس: البأس والبؤس والبأساء كلها الشدة والمكروه (¬3). الشرح: دلّ قول الصحابي: ((كان رسول اللَّه يدعو بهذه الدعوات كلّما سلّم)) على أهمية هذه الدعوات، وذلك أن فعل المضارع بعد كان يدل على المداومة على الفعل, والاستمرارية عليه, وقد تقدَّم ذكر ذلك مراراً, وقوله: ((كلما سلم)): يحتمل قبل السلام أو بعد السلام, وكلا الموطنين موطن عظيم في الإجابة، كما بينا في آداب الدعاء. هذه الدعوة المباركة شبيهةٌ بدعوة خليل الرحمن في قوله تعالى: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} (¬4)، وقد شرحناها، وهي برقم (35)، فاجتمع عليهما الصلاة والسلام في هذه الاستعاذة المهمة. قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهم لا تخزني يوم القيامة)) أي: يا اللَّه لا تذلّني، وتهينني بالتوبيخ على الذنوب والمعاصي, والعقوبة عليها, والفضيحة بها أمام الخلائق يوم القيامة, استعاذ - صلى الله عليه وسلم - ليكون ملازماً ¬

(¬1) المفردات، 281. (¬2) النهاية، 263. (¬3) تذكرة الحفاظ، 1/ 153. (¬4) سورة الشعراء، الآية: 87.

138 - اللهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة.

للخوف والخشية، وهضم النفس, وتعليماً لأمته بملازمة هذه الدعوة, وإلا فهو - صلى الله عليه وسلم - مغفور له ما قدم وما أخر. قوله: ((ولا تخزني يوم البأس)): أي يوم الشدة، والمكاره, وشدة الحاجة، والافتقار. ثم علّل سبب دعوته: ((فإن من تخزه يوم البأس فقد أخزيته)): أي فقد ذلّلته وأهنته, وفي هذا التفصيل في الدعاء, وتعليل سبب الدعوة، دون الإيجاز والاختصار, كما بيَّنا سابقاً (¬1)؛ لأنه مقام عبودية، فكلّما بسط العبد الدعاء، وزاد فيه, زادت عبوديته المقتضية لكثرة الثواب والأجر, وكذلك بثّ الشكوى إلى اللَّه تعالى, واستحضار ما يدعو به العبد, فتضمن هذا الدعاء سؤال اللَّه تعالى السلامة من كل المكاره في الدنيا والآخرة, وأنه يحسن بالداعي أن يذكر علة وسبب دعوته؛ فإنها من سنن الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، كما تقدّم في أدعية الكتاب, واللَّه تعالى الموفق إلى الهدى والصواب. 138 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْمُعَافَاةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) (¬2). ¬

(¬1) ارجع إلى الدعاء رقم (84)، فهناك توسع في الشرح. (¬2) ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، برقم 3851، والمعجم الكبير للطبراني، 20/ 165، والديلمي في الفردوس، برقم 6145، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، 3/ 259، برقم 3841، وفي سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1138.

المفردات:

المفردات: المعافاة: هي أن يعافيك اللَّه من الناس, ويعافيهم منك, وأن يُغْنِيك اللَّه عنهم، ويُغْنيهم عنك، ويَصْرف أذاهُم عنك، ويصرف أذَاكَ عنهم (¬1)، وحقيقتها حفظ اللَّه تبارك وتعالى للعبد, عن كل ما يكرهه, ويحزنه, ويسوءه في دينه, ودنياه, وآخرته. الشرح: هذه الدعوة المباركة, أخبر سيد الأولين والآخرين, أنها أفضل دعوة, فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: ((ما من دعوة يدعو بها العبد، أفضل من: اللَّهم إني أسألك المعافاة في الدنيا والآخرة)). وجاء عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه خطب الناس على منبر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: قام رسول اللَّه في مقامي هذا عام الأوَّل، ثم بكى أبو بكر - رضي الله عنه - ثم سُرِّي عنه فقال: سمعت رسول اللَّه يقول: ((إِنَّ النَّاسَ لَمْ يُعْطَوْا فِي الدُّنْيَا خَيْرًا مِنَ الْيَقِينِ وَالْمُعَافَاةِ، فَسَلُوهُمَا اللَّهَ - عز وجل -)) (¬2). وقد تقدّم في الدعاء رقم (71) ((اللَّهم إني أسألك اليقين, والعفو, والعافية في الدنيا والآخرة)) , بشرح موسَّع لمعنى هذه ¬

(¬1) نظر النهاية، 627. (¬2) رواه أحمد في المسند، 1/ 212، برقم 38، وأبو يعلى، 1/ 121، وبنحوه في الترمذي، كتاب الدعوات، أحاديث شتى من أبواب الدعوات، برقم 3553، وسنن ابن ماجه، كتاب الدعاء، باب الدعاء بالعفو والعافية، برقم 3849، والسنن الكبرى للنسائي، 6/ 222، والسنن الصغير للبيهقي، 1/ 15، وصححه لغيره الأرناؤوط في تعليقه على المسند، 1/ 212، وصححه محقق مسند أبي يعلى، 1/ 121.

الدعوات. دلّت هذه الدعوة على عظم شأنها, وجلالة قدرها، وأنها لا يعدلها شيء، وذلك أن السلامة والحفظ والأمان هي أجلّ المقاصد، والمطالب التي يتشوّف إليها كل العباد؛ فإنه من أُعطي هذا المطلوب، نجا من كل مرهوب, وحصل له كل مطلوب, وهذه الدعوة يا عبد اللَّه من جوامع الكلم كما تقدّم؛ لأنه ليس شيء يعمل للآخرة يتلقى إلا باليقين, وهو الإيمان الثابت الراسخ الذي لا ريب فيه ولا شك, وهذا أفضل العمل, فعن عبد اللَّه بن حبشي الخثعمي - رضي الله عنه - قال: سُئل رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان لا شك فيه)) (¬1). وعلى قدر الإيمان يكون رفع المنازل في الجنان، فعَن أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَن النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَرَاءَوْنَ فِي الْغُرْفَةِ كَمَا تَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الشَّرْقِيَّ أَوْ الْكَوْكَبَ الْغَرْبِيَّ الْغَارِبَ فِي الْأُفُقِ أوالطَّالِعَ فِي تَفَاضُلِ الدَّرَجَاتِ)) فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُولَئِكَ النَّبِيُّونَ؟ قَالَ: ((بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَأَقْوَامٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ)) (¬2). ¬

(¬1) النسائي، برقم 2526، والكبرى له، برقم 2317، وأحمد، برقم 15401وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 1504، وتقدم. (¬2) الترمذي، كتاب صفة الجنة، باب ما جاء في ترائي أهل الجنة في الغرف، واللفظ له برقم 2556، ومسند الإمام عبد اللَّه بن المبارك، ص 71، وفي صحيح البخاري: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: قَالَ: ((إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ مِنْ الْمَشْرِقِ أَوْ الْمَغْرِبِ؛ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ)) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ، لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ؟ قَالَ: ((بَلَى وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ))، البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وانها مخلوقة، برقم 3256، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ترائي أهل الجنة الغرف، كما يرى الكوكب في السماء، برقم 3831، وأما رواية الترمذي، فقد صححها الشيخ الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2556.

139 - اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع

قوله: ((وأقوام آمنوا باللَّه ورسوله، وصدقوا المرسلين)): أي أن هذه الغرف، والمنازل العُلا، ينالها أيضاً أقوام غير الأنبياء المرسلين ((ولم يذكر عملاً، ولا شيئاً سوى الإيمان، والتصديق للمرسلين, وذلك ليعلم أنه عنى الإيمان البالغ، وتصديق المرسلين من غير سؤال، ولا تلجلج, وإلاّ كيف تنال الغرفات بالإيمان والتصديق الذي للعامة, ولو كان كذلك, كان جميع الموحدين في أعلى الغرفات, وأرفع الدرجات, وهذا محال)) (¬1) قوله: ((المعافاة في الدنيا والآخرة)): أي السلامة والأمان في الدارين: ففي الدنيا, فإنه ليس شيء يهنأ فيها إلا مع السلامة, والعناية والوقاية, من شرورها كلها: ظاهرها وباطنها، ومن جملتها السلامة من الخلق, والاستغناء عنهم. قوله: ((والمعافاة في الآخرة)): السلامة، والنجاة من الذنوب وتبعاتها، ومن جملة ذلك من القصاص، والحقوق التي بينك وبين العباد، وبين العباد وبينك، فمن رُزق المعافاة، ضمن دخول منازل وجنان الرحمن، فتضمّنت هذه الدعوات المباركة خيري الدنيا والآخرة، فاعتني بها يا عبد اللَّه في دعائك، وأكثر منها في ليلك ونهارك. 139 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لاَ يَنْفَعُ، وَعَمَلٍ ¬

(¬1) التذكرة للقرطبي، 433.

هذا الدعاء المبارك فيه استعاذة من أربعة مطالب مهمة:

لاَ يُرْفَعُ، وَقَلَبٍ لاَ يَخْشَعُ، وَقَولٍ لاَ يُسْمَعُ)) (¬1). هذا الدعاء المبارك فيه استعاذة من أربعة مطالب مهمة: 1 - علم لا ينفع. 2 - وعمل لا يُرفع، 3 - وقلب لا يخشع، 4 - وقول لا يُسمع. وقد تقدم في شرح الدعاء رقم (60)، والدعاء رقم (96) بعض معاني هذا الدعاء، مثل: ((علم لا ينفع))، و ((قلب لا يخشع))، فارجع إليها غير مأمور. قوله: ((عمل لا يُرفع)): أي لا يصعد إلى اللَّه تبارك وتعالى، وكونه لا يصعد أي لا يُقبل؛ لفقدانه، شروط القبول، والإجابة والتي أعظمها: أ- الإخلاص. ب- المتابعة. فهو تعالى يصعد إليه العمل الصالح، قال اللَّه تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه} (¬2). ¬

(¬1) أخرجه ابن حبان، 1/ 283، برقم 83، وأبو يعلى، 5/ 232، وأحمد، 20/ 308، برقم 13003، وابن أبي شيبة، 10/ 187، وصححه الألباني في التعليقات الحسان، برقم 83، وفي كتاب العلم لأبي خيثمة، ص 64. (¬2) سورة فاطر، الآية: 10.

140 - اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل

قوله: ((وقولٍ لا يُسمع)): القول يشمل: الذِّكْر، والدعاء، وقوله: (لا يُسمع): أي لا يُستجاب، ولا يُقبل، فحُكمه حكم عدم السماع؛ لأنه تعالى هو السميع، الذي وسع سمعه [ما في] السموات و [وما في] الأرض، فكونه لا يَسمعه تعالى أي لا يقبله؛ لأنه فَقَدَ شروط الإجابة والقبول كما سبق. وتضمّنت هذه الاستعاذات الأربع إلى ضدِّها، بالتوفيق إلى علمٍ نافعٍ، وعملٍ صالحٍ مقبولٍ يُرفع إلى اللَّه تبارك وتعالى، وقلب خاشع للذكر والموعظة، وقولٍ مقبولٍ مستجاب مسموع. 140 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ)) (¬1). عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: كنت أخدم رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كلما نزل، فكنت أسمعه يكثر أن يقول. الحديث. المفردات: الهمّ: المكروه المؤلم على القلب على أمر مستقبل يتوقعه. الحزن: المكروه المؤلم على القلب على أمر قد مضى. ضَلع الدين: أصل الضلع وهو بفتح المعجمة واللام: الاعوجاج، يقال: ضلَع - بفتح اللام - يضلع: أي مال، والمراد به ¬

(¬1) البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من غلبة الرجال، برقم 6363، قال أنس: ((كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - كُلَّمَا نَزَلَ، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: ((اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ ... )).

الشرح:

هنا ثِقل الدين وشدّته، الذي يميل بصاحبه عن الاستواء. غلبة الرجال: شدّة تسلّطهم وقهرهم بغير حق تغلباً وجدلاً (¬1). [الشرح]: العجز، والكسل، والبخل، والجبن: تقدم شرحها سابقاً. استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأمور؛ لأنها منغصات للحياة، من جميع الوجوه، في النفس، والجسد، والعقل، والقلب. قوله: ((اللَّهم إني أعوذ بك من الهم والحزن)): استعاذ منهما لما فيهما من شدة الضرر على البدن، وإذابة قواه، وتشويش الفكر والعقل، والإنشغال بهما يفوِّتان على العبد الكثير من الخير، وانشغال الفؤاد والنفس عن الطاعات والواجبات، هذا إن كان الهمّ والحزن في أمور الدنيا، أما همّ الآخرة، فهو محمود؛ لأنه يزيد في الطاعة، ويبعث النفس على الجدّ، والعمل، والمراقبة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا: هَمَّ الْمَعَادِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ في أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهِ هَلَكَ)) (¬2). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ ¬

(¬1) فتح الباري، 11/ 207، وفيض القدير، 2/ 151. (¬2) ابن ماجه، أبواب الزهد، باب الهم بالدنيا، برقم 4106، والحاكم، 2/ 443، وابن أبي شيبة، 13/ 220، والبزار، 5/ 68، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 207، وصحيح الترغيب والترهيب، برقم 3170.

141 - اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار، وأعوذ بك من عذاب

جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ)) (¬1). قوله: ((وضلَعَ الدين)): أي شدّته وثقله، حتى يميل صاحبه عن الاستواء والاعتدال؛ فلهذا استعاذ منه - صلى الله عليه وسلم -: لما فيه كذلك من شغل العبد عن القيام بالعبادة على الوجه الأكمل، والوقوع في المحذورات الشرعية كما سبق، مثل: الإخلاف في الوعد، والوقوع في الكذب. واستعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من غلبة الرجال)): وهو تسلّطهم، وظلمهم، وغلبتهم بغير الحق، يؤدي إلى وهن النفس، وضعفها، وإلى الذلة والهوان، فيفتر عن الطاعة والعبادة (¬2)؛ لما يوقع في النفس من الخور والأحزان، والأوهام، الذي قد يؤدّي إلى الحقد، والانتقام. فينبغي لكل مؤمن أن يُعنى بهذا الدعاء الجليل، فنحن في أشدّ الحاجة إليه في زمننا هذا، وقد تكالبت علينا الهموم، والغموم والأعداء من كل مكان، فنسأل اللَّه السلامة في ديننا ودنيانا. 141 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ ¬

(¬1) الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق، باب حدثنا قتيبة، برقم 2465، والدارمي، 1/ 45، وصححه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3169، وحسنه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، برقم 949. (¬2) اللآلئ الدرية في شرح الأدعية النبوية، ص 60.

مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجالِ)) (¬1). قد تقدّم شرح بعض كلمات هذا الدعاء، مثل ((عذاب النار، وعذاب القبر، فتنة الدجال)) في دعاء رقم (55)، ورقم (83)، ورقم (151). أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة من هذه الأمور الأربعة؛ لأنها أشد الشرور في الدنيا والآخرة؛ ولهذا أمر - صلى الله عليه وسلم - بالاستعاذة منها، وقد بيَّنا سابقاً أن الدعاء الذي فيه أمر من النبي آكدَ من غيره من الأدعية، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ منها في دبر كل صلاة لشدة خطورتها. عن ابن عباس - رضي الله عنهم - قال: ((كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يتعوّذ في دبر كل صلاة من هذه الأربع)) (¬2). وأمرنا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - التعوذ (من الفتن ما ظهر منها وما بطن): لأنها في غالب سبب هتك الحُرَم، وسفك الدماء، ونهب الأموال، ومع هذا فهي أعظم الأسباب في الوقوع بالإثم، ولهذا سأله نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أنه إذا أراد بقوم فتنة أن يتوفاه غير مفتون (¬3). وأرشدنا إلى أن نقول ذلك، وندعوه به، ففي ذلك دليل على أن ((خطبها عظيم، وإثمها وخيم، وعقابها جسيم، وفيه دليل على أن ¬

(¬1) انظر: مسلم، كتاب الجنة، وصفة نعيمها وأهلها، برقم 2867، وفيه: ((تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَاب النَّار)) ... ، [تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ عَذَاب الْقَبْر ... ] إلى آخره. (¬2) رواه الإمام أحمد في المسند، 4/ 496، برقم 2778، والطبراني في الكبير، 12/ 166، برقم 12779، وعبد بن حميد، ص 234، وصححه إسناده الأرناؤط، 4/ 496، وحسن إسناده الألباني في صحيح أبي داود أثناء تعليقه على الحديث رقم 904. (¬3) انظر شرح هذا الدعاء، رقم (89).

142 - اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك.

الفتنة أعظم من الموت كما وصفها اللَّه - سبحانه وتعالى - بأنها أكبر من القتل)) (¬1)، قال اللَّه تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْل} (¬2)، وقال عز شأنه: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْل} (¬3)، فإن فتنة المؤمن في دينه حتى يرد إلى الكفر بعد إيمانه، فذلك أكبر عند اللَّه تعالى من القتل (¬4). قوله: ((ما ظهر منها وما بطن)): إن من الفتن ما يكون ظاهراً، وما يكون باطناً خفياً لا يُرى ولا يُعلم، وهذا أشدّ ما يكون من الفتن، والعياذ باللَّه، فتضمّنت هذه الاستعاذة العظيمة من جميع أنواع الفتن. ((ثم عطف فتنة المسيح الدجال على الفتن العامة، وهو من عطف الخاص على العام، ويستفاد منه أن فتنة المسيح الدجال، أشدّ الفتن وأعظمها، كما يقتضيه نكتة هذا العطف)) (¬5). 142 - ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ)) (¬6). قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من سأل اللَّه الشهادة بصدق، بلّغه اللَّه منازل الشهداء وإن مات على فراشه)). وفي لفظ آخر: ((من طلب الشهادة صادقاً أعطيها ولو لم ¬

(¬1) تحفة الذاكرين، ص 442. (¬2) سورة البقرة، الآية: 191. (¬3) سورة البقرة، الآية: 217. (¬4) انظر: تفسير ابن كثير، 197. (¬5) تحفة الذاكرين ص 442. (¬6) مقتبس من قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ)) مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة، برقم 1909.

الشرح

تصبه)) (¬1). [الشرح]: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((بصدق)): قيد السؤال بهذا المطلب الجليل. لأنه هو أساس قبول الأعمال، ومعيار صحة النية من الأقوال والأعمال والأخلاق. قوله: ((بلغه اللَّه منازل الشهداء وإن مات على فراشه)): أي جازاه اللَّه تبارك وتعالى تفضلاً منه ونعمه، على صدق نيته وإخلاصها، المنازل العلا للشهداء، وإن مات على فراشه، أو على أي حالٍ مات فيها. قال النووي رحمه اللَّه: ((فيه استحباب سؤال الشهادة، واستحباب نية الخير)) (¬2). وفي هذا دليل على سعة كرم اللَّه تعالى وفضله أنه يعطي العبد على صدق نيته مع حسن الدعاء، وقوة الرجاء، المنازل العلا وإن لم يعملها، وأدلة ذلك في الكتاب والسنة لا حصر لها، فينبغي للعبد أن يحسن نيته، ويصلحها في طلب الأعمال الجليلة حتى يُعطاها وإن كان لم يفعلها، وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى الشهادة في سبيل اللَّه تعالى: ((من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو سبيل اللَّه)) (¬3). وقد بين كتاب ربنا - جل جلاله - في كثير من الآيات عظم منزلة الشهداء، ¬

(¬1) مسلم، كتاب الإمارة، باب استحباب طلب الشهادة، برقم 1908. (¬2) شرح صحيح مسلم، 7/ 64. (¬3) البخاري، كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً، برقم 123، ومسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، برقم 1904.

وأنها بعد درجة الصديقية، قال اللَّه تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬1). وسنة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - حافلةٌ بذكر فضل الشهداء فمنها: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا، وَإِنَّ لَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ الشَّهِيد، فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنَ الْكَرَامَةِ)) (¬2). وفي رواية: ((لما يرى من فضل الشهادة)) (¬3). قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها اللَّه للمجاهدين في سبيل اللَّه، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض ... )) الحديث (¬4). فلمّا كان عظم الشهادة، وعلوّ منازل أهلها، كان أكثر دعاء الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لها، فعن عبد اللَّه بن عمر - رضي الله عنهم - قال: ((كان جُلَّ (¬5) دعاء عمر - رضي الله عنه - بها: ((اللَّهم ارزقني الشهادة في سبيلك)). وعن حفصه رضي اللَّه عنها، أن عمر قال: ((اللَّهم ارزقني شهادة في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك)) فقالت حفصه: ((أنى يكون ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 69. (¬2) البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب تمني المجاهد أن يرجع إلى الدنيا، برقم 2817، ومسلم، واللفظ له، كتاب الإمارة، باب فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، برقم 1877. (¬3) البخاري، برقم 2817، ومسلم، برقم 1877. (¬4) البخاري، برقم 2790، وتقدم تخريجه. (¬5) أي معظم دعائه.

143 - اللهم اغفر لي، اللهم اجعلني يوم القيامة فوق كثير.

هذا؟ قال: يأتيني به اللَّه إن شاء)) (¬1). فانظر رعاك اللَّه تعالى، وسددك على الهدى، لما صدق عمر - رضي الله عنه - مع اللَّه تعالى في سؤاله ربه تعالى، وأحسن الظن بربه الكريم، الذي لا يخيب من أحسن الظن به، وصدق في دعائه وسؤاله، أعطاه ما تمنى مع خلاف حصول ذلك عادة؛ ولهذا قالت حفصة رضي اللَّه عنها: ((أنَّى يكون هذا))؟ 143 - ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَوْقَ كَثِيرٍ مِنْ خَلْقِكَ مِنَ النَّاسِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَأَدْخِلْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُدْخَلاً كَرِيمًا)) (¬2). [الشرح]: هذا الدعاء المبارك جاء في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذين الصحابيين الجليلين، فعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: ((لما فرغ النبي - صلى الله عليه وسلم - من حنين، بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس، فلقي دُريد بن الصِّمَّة، فُقتل دُريد، وهزم اللَّه أصحابه، قال أبو موسى: وبعثني مع أبي عامر، فرُمي أبو عامر في رُكبته، رماه رجل من بني جُشم بسهم، فأثبته في رُكبته، فانتهيت إليه فقلت: يا عمِّ من رماك؟ فأشار إلى أبي موسى ¬

(¬1) انظر صحيح البخاري، أبواب فضائل أبواب المدينة، باب كراهية النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تُعرى المدينة، برقم 1890. (¬2) البخاري، برقم 4323، كتاب المغازي، باب غزوة أوطاس، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة - رضي الله عنهم -، باب من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، برقم 2498، والدعاء في المتن مقتبس من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لعُبَيْدٍ أبي عامر، ومن دعائه - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.

هذا الحديث العظيم مشتمل على فوائد عديدة في الدعاء، فمنها

فقال: ذاك قاتلي الذي رماني، فقصدت له، فلحقته، فلما رآني ولَّى، فاتبعته، وجعلت أقول له: ألا تستحي، ألا تثبت؟ فكفّ، فاختلفنا ضربتين بالسيف فقتلته، ثم قلت لأبي عامر: قتل اللَّه صاحبك، قال: فانزع هذا السهم، فنزعته فنزا منه الماء، قال: يا ابن أخي، أقرئ النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام وقل له: استغفر لي، واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيته على سرير مُرمل، وعليه فراش قد أثَّر رمال السرير بظهره وجبينه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، فدعا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بماء فتوضأ منه ثم رفع يديه، ثم قال: ((اللَّهم اغفر لعبيد أبي عامر)) ((حتى رأيت بياض إبطيه))، ثم قال: ((اللَّهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس))، فقلت: ولي يا رسول اللَّه! استغفر))، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((اللَّهم اغفر لعبد اللَّه بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مُدخلاً كريماً))، ((قال أبو بُرده: إحداهما لأبي عامر، والأخرى لأبي موسى)). هذا الحديث العظيم مشتمل على فوائد عديدة في الدعاء، فمنها: 1 - استحباب طلب الدعاء من الرجل الصالح. 2 - ((استحباب الوضوء لإرادة الدعاء. 3 - استحباب رفع اليدين في الدعاء خلافاً لمن خص ذلك بالاستسقاء)) (¬1). ¬

(¬1) انظر: فتح الباري، 8/ 43.

4 - يستحب لمن دعا لشخص أن يذكر اسمه

4 - يستحب لمن دعا لشخص أن يذكر اسمه، وكذلك كنيته، واسم أبيه, أو قبيلته. 5 - أهمية سؤال اللَّه تعالى المغفرة وأنها أحق بالتقديم في السؤال, وهذا هدي الأنبياء والمرسلين, كما في دعوة إبراهيم - عليه السلام - ونوح كما تقدم. 6 - أن التخلية مقدمة على التحلية؛ حيث قدم - صلى الله عليه وسلم - سؤال اللَّه تعالى المغفرة، وهي التخلية من الذنوب وآثارها على التحلية في قوله ((اللَّهم اجعله فوق كثير من خلقك من الناس)) أي في المنزلة، والرتبة في الجنان، وقوله كذلك لعبد اللَّه بن قيس: ((وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً)). 7 - تعظيم الرغبة والهمة في حال الدعاء، كما دل [عليه] قوله: ((اللَّهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من الناس)). 8 - أن من طلب منه الدعاء أن يدعو في حاله وحينه, ولا يؤخرّه, وهذه سنة الأنبياء, كما في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك في دعاء زكريا: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} (¬1). 144 - ((اللَّهُمَّ اهْدِنِي فِيمَنْ هَدَيْتَ، وَعَافِنِي فِيمَنْ عَافَيْتَ، وَتَوَلَّنِي فِيمَنْ تَوَلَّيْتَ، وَبَارِكْ لِي فِيمَا أَعْطَيْتَ، ¬

(¬1) سورة آل عمران, الآية: 38. وانظر شرح هذا الدعاء في الدعاء رقم (9).

الشرح:

وَقِنِي شَرَّمَا قْضَيْتَ، إِنَّهُ لا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، تَبَارَكْتَ رَبَّنَا وَتَعَالَيْتَ)) (¬1). [الشرح]: هذا الدعاء الجليل، عظيم القدر والشأن, مشتمل على مقاصد ومطالب عظيمة, في الدين, والدنيا, والآخرة، وفيه معان جلال, في مسائل العقيدة والتوحيد, من التوسلات: بأسماء اللَّه تعالى وصفاته, وأفعاله, وتوسلٌ بآلائه وإنعامه, وكذلك إثبات وإقرار بصفاته تعالى المثبتة والمنفية, وإيمان بالقضاء والقدر, والمشيئة, بأجمل المباني، وأوسع المعاني, وقد ثبت هذا الدعاء المبارك في حالتين: في دعاء قنوت الوتر الذي علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - للحسن بن علي - رضي الله عنه - , وثبت عن أنس - رضي الله عنه - في قوله: ((كان يعلمنا هذا الدعاء)) كما في تخريج المؤلف حفظه اللَّه في الحاشية, فدلّ على أهمية هذا الدعاء المبارك من أمرين: تعليمه لابن ابنته الحسن كما سبق, وكذلك للصحابة، كما قال أنس ((وكان يعلمنا .. )) فقد ذكرنا في عدة مواضع أن فعل المضارع بعد كان, يدل على ¬

(¬1) أحمد في المسند، 3/ 249، برقم 1723، والبزار، 4/ 175، وابن حبان، 3/ 225، وقال محققو المسند، 3/ 249: ((إسناده صحيح))، وهذه رواية مطلقة غير مقيدة بالوتر كما جاء في الرواية الأخرى، ففي هذه الرواية قال أنس - رضي الله عنه -: ((وكان يعلمنا هذا الدعاء ... ))، ومقيدة بالوتر عند أبي داود، أبواب الوتر، باب القنوت في الوتر، برقم 1427، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر، برقم 1745، وله في الكبرى، كتاب الطهارة، صفة الغسل من الجنابة، برقم 1446، والحاكم، 3/ 172، وابن خزيمة، 2/ 151، وأبو يعلى، 12/ 132، وابن أبي شيبة، 2/ 300، وعبد الرزاق، 3/ 108، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، برقم 1281.

قوله: فيمن هديت: فيه فوائد:

المداومة على الفعل، والاستمرارية عليه. فبدأ بأولى المطالب وأجلّها, الذي عليها الفلاح في الدارين الهداية: ((اللَّهم اهدني)): سأل اللَّه تبارك وتعالى الهداية التامة النافعة, الجامعة لعلم العبد بالحق, والسير عليه, فإن أصل الهداية كما سبق: الدلالة, وهي نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهي معرفة الحق، والعلم به, وهداية توفيق وسداد وثبات, وهذه الهداية لا يملكها إلا هو - عز وجل - , فينبغي للعبد حين يسأل اللَّه - جل جلاله - الهداية أن يستحضر هاتين الدلالتين التي تجمع بين: العلم, والعمل. قوله: ((فيمن هديت)): فيه فوائد: أولاً: أن يدخله في جملة المهديين وزمرتهم، وهم كما قال اللَّه تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬1). ثانياً: أن فيه توسلاً إليه بإحسانه وإنعامه, وهو من التوسّلات الجليلة المقتضية للإجابة كما سبق في توسّل زكريا - عليه السلام -: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} (¬2) أي: يا رب قد هديت من عبادك بشراً كثيراً فضلاً منك وإحساناً, فأنعم عليَّ بالهداية كما أنعمت عليهم. ثالثاً: أن ما حصل لأولئك من الهدى لم يكن منهم، ولا بأنفسهم, وإنما كان منك، فأنت الذي هديتهم. ¬

(¬1) سورة النساء، الآية: 69. (¬2) سورة مريم، الآية: 4.

رابعا: أن الهداية التي نطلبها لا تحصل هكذا غالبا

رابعاً: أن الهداية التي نطلبها لا تحصل هكذا غالباً, بل لابد لها من أسباب نبذلها, وأهم هذه الأسباب، وأجلها الدعاء, وصدق التوجه إليك، والمجاهدة في تحصيلها (¬1). قوله: ((وعافني فيمن عافيت)): فيه سؤال اللَّه تبارك وتعالى العافية المطلقة الظاهرة, والباطنة, في الدين, والدنيا, والآخرة؛ لأن مفرد المضاف يفيد العموم, فلم يخص نوعاً معيناً من أنواع العافية, والعافية كما تقدم مراراً هي السلامة, والوقاية من أمراض القلوب, وأمراض الأبدان, فيدخل في ذلك العافية عن الكفر, والشرك, والفسوق, والغفلة, والأسقام, وكل الخزايا, والبلايا, وفعل ما لا يحبه, وترك ما يحبه, فهذه هي حقيقة العافية؛ ولهذا ما سُئل الربّ - عز وجل - شيئاً أحب إليه من العافية؛ لأنها كلمةٌ جامعة للتخلص من الشر كله, وأسبابه, ونتائجه, وتبعاته, ولقد شرحنا معاني هذه الكلمة الجامعة في الدعاء رقم (71) , ورقم (138). قوله: ((وتولّني فيمن توليت)): فيه توسل إلى اللَّه تبارك وتعالى بفعل الولاية, وهو مشتق من اسمين للَّه تعالى من الأسماء الحسنى: (الولي، والمولى): اللذين يدلان على معنى الولاية العامة: وهي لكل الخلائق, قال اللَّه تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَق} (¬2) ,وولاية خاصة: وهي ولاية اللَّه تعالى للمؤمنين، كما قال ¬

(¬1) انظر: الفتوحات الربانية، 1/ 544، دروس وفتاوى الحرم المكي للعلامة ابن عثيمين: 1/ 384 - 391، و ((شرح دعاء القنوت له)) , فقه الأدعية والأذكار، بتصرف يسير، 3/ 175 - 176. (¬2) سورة الأنعام، الآية: 62.

تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} (¬1) , وهذه هي الولاية المقصودة في هذا الدعاء المبارك التي تقتضي: التوفيق, والنصرة, والعناية, والصبر عن كل ما يغضب اللَّه تبارك وتعالى , وفي هذا تنبيه على أن من حصل له ذلّ في الناس، فهو بنقصان ما فاته من تولى اللَّه تعالى, وإلا فمع الولاية الكاملة ينتفي الذل كله، ولو سلّط عليه من في أقطار الأرض. قوله: ((فيمن توليت)) كسابقه توسّلُ اللَّه من أنعم عليهم بالولاية الخاصة. قوله: ((وبارك لي فيما أعطيت)): البركة هي النماء والخير الكثير الثابت, وتكون حسية أو معنوية, ففي هذا سؤال اللَّه - عز وجل - البركة في كل ما أعطاه الرب - جل جلاله -: من علم أو مال, وفي العمر، والأهل, والذرية, والمسكن، وغير ذلك, بأن ينميه, ويثبته, ويحفظه ويسلمه من كل الآفات. قوله: ((وقني شر ما قضيت)): أي شر الذي قضيته, فإن اللَّه - جل جلاله - يقضي بالخير, ويقضي بالشر لحكمته البالغة, التي لا تحيط بها كل الخلائق, أما قضاؤه بالخير, فهو خير محض في القضاء والمقضي, أي في الفعل, والمفعول, مثل القضاء للناس بالرزق الواسع, والآمن والهداية والنصر ونحو ذلك, أما قضاؤه بالشر فهو خير في القضاء؛ لأنه فعله فهو خير محض من كل الوجوه, وشر في المقضي وهو المفعول أي: المخلوق, مثل ((القحط)) فهو خير من ¬

(¬1) سورة البقرة, الآية: 257.

ناحية تذكير الناس بربهم، ولجوئهم إليه, كما قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (¬1) , (¬2)، فظاهر هذه الأمور, من المصائب شر, ولكنها في حقيقة الأمر خير من وجه آخر, وينبغي أن يعلم أن اللَّه تبارك وتعالى لا يخلق شراً محضاً لا خير فيه البتة, فكل شر مهما عظم وكبر، فلابد فيه من الخير، فالشر واقع في بعض مخلوقاته, لا في خلقه, ولا في فعله, ولا في صفاته, وهذا من كمال الرب عز شأنه, ((وهذا الدعاء يتضمّن سؤال اللَّه تعالى الوقاية، من الشرور, والسلامة من الآفات, والحفظ من البلايا والفتن)) (¬3). قوله: ((قني)): توسّل بصفة من صفاته الفعلية التي تتعلق بمشيئته وحكمته. قوله: ((إنك تقضي)): فيه التوسل إلى اللَّه - عز وجل - بأنه يقضي على شيء؛ لأن له الحكم التام، والمشيئة النافذة، والقدرة الشاملة، فهو - سبحانه وتعالى - يقضي في عباده بما يشاء، ويحكم فيهم بما يريد، لا رادَّ لحكمه، ولا معقِّب لقضائه، والقضاء هنا يعمُّ القضاء الشرعي، وهي أحكامه الشرعية، وقضاؤه الكوني: وهي أقداره التي قدرها لمن في السموات والأرض من مخلوقاته. قوله: ((إنك تقضي)): وقع كالتعليل لسؤال ما قبله، أي: لا يعطي تلك الأمور المهمة إلا من كملت فيه حقائق القدرة، ولم يوجد منها ¬

(¬1) سورة الروم، الآية: 41. (¬2) انظر: المصادر السابقة مع التصرف. (¬3) فقه الأدعية، 3/ 177 - 178.

شيء في غيره (¬1). قوله: ((ولا يقضى عليك)): أي: لا يقضي عليك أحد كائناً من كان، فالعباد لا يحكمون على اللَّه - عز وجل - بشيء، بل هو الذي يحكم عليهم بما شاء، ويقضي فيهم فيما يريد، ((ويدخل في هذا حكمه الشرعي، والقدري والجزائي)) (¬2). فقوله: ((ولا يقضى عليك)) من الصفات المنفيه عن اللَّه تعالى، فأي صفة تنفي عن اللَّه تعالى تقتضي نقصاً، فلا بد أن تتضمن كمالاً، كما في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (¬3)، فنفى اللَّه تعالى أن يقتضي عليه أحد، أو يعقّب في حكمه ((وذلك لكمال ملكه، وعزته، وعظمته، وسلطانه، وحكمته، وعدله تبارك وتعالى)) (¬4). قوله: ((إنه لا يذل من واليت)): هذا كالتعليل لما سبق في قوله: ((وتولني فيمن توليت))، يذلّ: بفتح فكسر، وكذا يعزّ (¬5) أي: لا يصير ذليلاً حقيقة من واليته، فإن اللَّه - سبحانه وتعالى - إذا تولّى العبد، فلا يذلّ، ولا يلحقه هوان في الدنيا، ولا في الآخرة. قوله: ((لا يعز من عاديت)) يعني: إذا عادى اللَّه تبارك وتعالى ¬

(¬1) انظر: الفتوحات الربانية، 1/ 545 شرح دعاء القنوت، ودروس وفتاوى في الحرم المكي 1/ 391، فقه الأدعية، 3/ 178. (¬2) تيسير الكريم المنان، 374. (¬3) سورة الرعد، الآية: 41. (¬4) النفي في صفات الله - عز وجل -، 356 - 756 بتصرف يسير جداً. (¬5) الفتوحات الربانية، 1/ 545.

1 - أما علو الذات: فهو - سبحانه وتعالى - علي بذاته، فوق كل خلقه

العبد، فإنه لا يعزّ، ولو اجتمع أهل الأرض والسموات معه، بل حاله الذل والخسران، فمن أراد العز فليطلبه من اللَّه - عز وجل -، ومن أراد أن يتّقي الذلّ فليكن مع اللَّه جل وعلا، قال اللَّه جلَّ ثناؤه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (¬1)، ودلّ قوله: (عاديت) على صفة العداوة الفعلية للَّه تعالى، تقتضي العقاب، والعذاب، والذلّ، والخسران. قوله: ((تباركت ربنا وتعاليت)): قوله: تباركت أي: تعاظمت يا اللَّه، فلك العظمة الكاملة من كل الوجوه والاعتبارات، ومن ذلك كثرة بركاتك، وعمّت خيراتك التي يتقلّب بها أهل السموات والأرض (¬2). قوله: ((وتعاليت)): أي أن لك العلو المطلق من كل الوجوه من الكمال: علوّ الذات، وعلوّ الغلبة والقهر، وعلوّ النزاهة عن كل العيوب والنقائص والآفات. 1 - أمّا علوّ الذات: فهو - سبحانه وتعالى - عليَّ بذاته، فوق كل خلقه، مستوٍ على عرشه، كما يليق بجلاله. 2 - وعلوّ الصفات: فله علوّ الكمال في صفاته التي لا أكمل منها، ولا أعلى منها، التي لا تحيط كل الخلائق ببعض معاني صفة واحدة من صفاته. 3 - وعلوّ الغلبة والقهر: هو الغالب والقاهر لكل شيء، فلا ينازعه ¬

(¬1) سورة فاطر، الآية: 10. (¬2) المصدر السابق، 1/ 546.

4 - وعلو النزاهة عن كل العيوب، والنقائص، لكماله من كل الوجوه.

منازع، ولا يغالبه مغالب، فدانت له كل الكائنات، وخضعت تحت سلطانه كل المخلوقات. 4 - وعلوّ النزاهة عن كل العيوب، والنقائص، لكماله من كل الوجوه (¬1). 5 - وهو المتعالي عن الشريك، والنظير، والمثيل. فقد تضمّن هذا الدعاء العظيم أعظم مسائل الإيمان، وأصول السعادة والأمان في الدارين، فمن أعظم مسائل الإيمان تضمنه في إثبات صفات وأفعال الكمال والجلال للَّه تعالى التي منها: صفة (الهداية)، المشتقة من اسم (الهادي)، وصفة (الولاية) المشتقة من اسم (الولي، والمولى)، وصفة (البركة والتبارك) للَّه - عز وجل -، وصفة (الوقاية)، وصفة (القاضي)، وصفة (العداوة)، وصفة (التعالي) المشتقة من أسماء (العلي، الأعلى، المتعال)، وصفة من صفاته المنفيه: (ولا يقضى عليك)، والإقرار بالمشيئة الكاملة، والإرادة النافذة لكل المخلوقات، وتضمّن أصول السعادة في سؤال: الهداية، والعافية، والتولي، والبركة، والوقاية، فإن هذه المطالب الجليلة عليها السعادة، والهناء في الدنيا، والآخرة. 145 - ((رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)) (¬2). ¬

(¬1) انظر: التفسير الكبير لشيخ الإسلام ابن تيمية، 6/ 135، شرح النونيه للهراس، 2/ 213، تفسير السعدي، 5/ 487، الحق الواضح، ص 25. (¬2) مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل، برقم 214، قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: ((لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)).

الشرح

[الشرح]: هذه الدعوة جاءت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ابن جدعان، كما في التخريج في الحاشية: أنه لم يقل: ((رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)): ((أي لم يكن مصدّقاً بالبعث، ومن لم يصدّق به فهو كافر، ولا ينفعه عمل، قال القاضي عياض رحمه اللَّه تعالى: ((وقد انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم، ولا يثابون عليها بنعيم، ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشد عذاباً من بعض، بحسب جرائمهم)) (¬1). ومما لا يخفى في تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه الدعوة في الذكر دلالة جليلة على أهميتها، وكذلك أنها جاء عن خليل الرحمن في قوله: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} (¬2). فإذا كان خليل الرحمن يطمع أن يغفر له خطيئته يوم القيامة، فمن باب أولى نحن أن نسأل اللَّه تعالى، ونلحَّ عليه في ذلك، فدلّت هذه الدعوة على أنها مطلب [إبراهيم أحد] أولي العزم من الرسل، وذلك: أن من غفر اللَّه تعالى له ذنوبه، قد نجى من كل مرهوب، وتحصَّل له كل مرغوب في ذلك اليوم العظيم، وقوله: ((يوم الدين)) دون ذكر غيره من أسماء يوم القيامة، لا ستحضار أهمية هذا المطلب في ذلك اليوم الذي يكون فيه العبد أحوج ما يكون إلى ¬

(¬1) شرح النووي، 2/ 89. (¬2) سورة الشعراء، الآية: 82.

146 - أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو، الحي القيوم.

مغفرة الرب العظيم؛ فإن يوم الدين يوم الجزاء والحساب على الأعمال؛ لأن الرب عز شأنه من أسمائه ((الدَّيان)) (¬1). ومعناه: الذي يحاسب ويجازي العباد أجمعين. فيفصل بينهم بالحق المبين، بميزان العدل، والحق، والفصل يوم الدين، فينبغي للعبد أن يعتني بهذه الدعوة المباركة اقتداءً واتباعاً. 146 - ((أسْتَغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، الحَيُّ القَيُّومُ، وَأتُوبُ إلَيهِ)) (¬2). [الشرح]: هذا الدعاء فيه استغفار عظيم، وتوسّلات جليلة، ومعانٍ عظيمة في طلب المغفرة من رب العالمين، بأجمل العبارات، وأسمى الكلمات، فإن في مضامينه: 1 - طلب المغفرة بأجمل العبارات وأجلّها في اقتران الطلب بأجمل الأسماء وأجلها (اللَّه). ¬

(¬1) كما جاء في الحديث الصحيح: (( ... أنا الملك أنا الديَّان))، أخرجه البخاري معلقاً في كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: (ولا تنفع الشفاعة عنده)، قبل الحديث رقم 7841، وأحمد، برقم 16042، والحاكم، 2/ 432، وحسنه لغيره الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 3608. (¬2) الترمذي، كتاب الدعوات، باب حدثنا أبو موسى، برقم 3577، وابن سعد، 7/ 66، والطبراني، 5/ 89، برقم 4670، وأبو داود، أبواب الوتر، باب في الاستغفار، برقم 1519 وابن أبي شيبة، 10/ 299،، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، برقم 2831: ((مَنْ قَالَهُ غَفَرَ اللهُ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ))، وصحيح أبي داود، برقم 2831.

2 - وفيه توسل بأسماء الله الحسنى

2 - وفيه توسّل بأسماء اللَّه الحسنى: (اللَّه، العظيم، الحي، القيوم). 3 - وإقرار بألوهية اللَّه تبارك وتعالى (لا إله إلا هو) المتضمّن لتوحيد الربوبية. 4 - وعزم على التوبة في الحال والاستقبال. قوله: ((من قال استغفر اللَّه)): أي من سأل اللَّه تبارك وتعالى المغفرة للذنوب كما دل حرف الـ ((سين)) الطلب، أي من طلب التجاوز عن الذنوب وسترها وترك العقاب عليها. وفي قرنه بـ (اللَّه العظيم) الذي يدل على الإقران على كمال آخر زائد في كمال كل اسم على انفراده: على عظم وجلالة ألوهيته تبارك وتعالى، التي تدل على عظم الذات، والصفات، والأفعال، والسلطان، المستحق للتعظيم من جميع العالمين، وفي تخصيص اسم (العظيم): مناسب في طلب المغفرة من الذنوب العظام، فإن العظيم لا يتعاظم عليه شيء مهما كبر، وإن كانت من أكبر الكبائر كالفرار من الزحف. قوله: ((لا إله إلا هو)): إقرار وإذعان من العبد باستحقاق العبودية الحقة للَّه تبارك وتعالى. قوله: ((الحي القيوم)): ذكر هذين الاسمين الجليلين يدل في غاية المناسبة في طلب المغفرة كذلك؛ لأن جميع الأسماء الحسنى والصفات العُلا الذاتية والفعلية ترجع إليهما، فالصفات الذاتية: ترجع كلها إلى اسم (الحي)، والفعلية إلى اسم (القيوم).

فائدة: فوائد الاستغفار محو الذنوب، وستر العيوب، وإدرار الرزق

قوله: ((وأتوب إليه)): فيه إقرار وتأكيدٌ وعزمٌ على التوبة إلى اللَّه تبارك وتعالى ((فينبغي ألا يتلفظ بهذا إلا إذا كان صادقاً فيه في باطن الأمر كظاهره، وإلا كان كاذباً بين يدي اللَّه - عز وجل -، فيخشى عليه مقته)) (¬1). قوله: ((وإن كان فر من الزحف)): هذه بشارة عظيمة، وكريمة من رب العالمين، وهذا من ((فضل اللَّه - سبحانه وتعالى - على عباده، إن من ارتكب كبيره، بل وإن كانت من أعظم الكبائر، كالفرار من الزحف، الذي أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها من الموبقات المهلكة، قال عليه الصلاة والسلام: ((اجتنبوا السبع الموبقات ... (فذكر منها) التولي يوم الزحف)) (¬2) أنه يغفر له. والفرار من الزحف: الفرار من الجهاد في سبيل اللَّه، حال قتال الكفار في الحرب، فدلّ هذا الاستغفار العظيم على أنه تعالى يغفر الذنوب العظام التي لا توجب على مرتكبها حكماً في النفس، أو المال، كالفرار من الزحف، أو مثله من الذنوب)) (¬3) إذا قال العبد مخلصاً، صادقاً، مستحضراً معانيه، ينال هذه البشارة العظيمة، من المغفرة. فائدة: فوائد الاستغفار محو الذنوب، وستر العيوب، وإدرار الرزق، وسلامة الخلق، والعصمة في المال، وحصول الآمال، ¬

(¬1) الفتوحات الربانية، 3/ 701. (¬2) البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً ... )، برقم 2766، مسلم، كتاب الإيمان، باب الكبائر وأكبرها، برقم 89. (¬3) الفتوحات الربانية، 3/ 701، بداية المبتدئ وهداية السالك، 96، بتصرف يسير.

147 - اللهم اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأعذني من.

وجريان البركة في الأموال، وقرب المنزلة من الديان، ورضى الغفور الرحمن (¬1)، وكثرة [الأموال، والبنين، ونزول الأمطار]، وقوة في الأبدان، والعيش بأمان في الدنيا وإلى دخول الجنان. 147 - ((اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي، وَأَذْهِبْ غَيْظَ قَلْبِي، وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلاتِ الْفِتَنِ)) (¬2). المفردات: الغيظ: أشد الغضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه (¬3). جاء هذا الدعاء المبارك من النبي - صلى الله عليه وسلم - لأم المؤمنين عائشة ¬

(¬1) المفردات، ص 619. (¬2) مأخوذ من دعاء النبي (لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: ((اللهمَّ اغفرْ لهَا ذنبَهَا، وأذْهبْ غَيْظَ قَلْبِهَا، وأعذْهَا منْ مُضِلاّت الفِتَنْ)) أخرجه ابن عساكر بإسناده في ((الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين))، ص 85 عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وقال: ((هذا حديث صحيح حسن، من حديث بقية بن الوليد))، وأخرجه ابن السني بنحوه في عمل اليوم والليلة، برقم 457، وفي نسخة أخرى لابن السني قال: ((وأجرني من الشيطان)) بدل: ((من مضلات الفتن))، وانظر تخريجه عند الألباني في الضعيفة، برقم 4207. وله شاهد عن أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عند أحمد، برقم 26576، 44/ 2 بنحوه، ولفظه: ((قُولي اللَّهُمَّ رَبَّ مُحَمَّد النَّبِيِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، وَأذْهِبْ غَيْظَ، وَأجِرْنِي منْ مُضِلَّات الْفِتَنِ مَا أحَيْيَتْنَا))، وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد، 10/ 27، وهو عند عبد بن حميد، ص 443، برقم 1534، والطبراني في المعجم الكبير، 23/ 338، برقم 785، والدعوات الكبير للبيهقي، 1/ 485، بدون لفظة: ((ما أحييتنا)). وله شاهد عن أم هانئ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالت: يَا رَسُولَ الله عَلِّمْنِي دُعاءَ أدْعُو به، قَالَ: ((قُولي: اللَّهُمَّ اغْفرْ لي ذَنْبِي ... )) الحديث، أخرجه الخرائطي في اعتلال القلوب، برقم 52، ومساوئ الأخلاق، برقم، 323. (¬3) الفتوحات الربانية، 3/ 702.

رضي اللَّه عنها، فعن محمد بن أبي بكر قال: ((كانت عائشة رضي اللَّه عنها، إذا غضبت عرَّك النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنفها ثم يقول: ((يا عويش! قولي: اللَّهم ربَّ محمد اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من مضلات الفتن)) (¬1). قوله: ((اللَّهم ربَّ محمد)): فيه توسل بربوبيته تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -، وهو تعالى ربّ كل شيء ومليكه؛ لعظم شأنه - صلى الله عليه وسلم -، وأن التوسل بربوبيته له، أقرب للإجابة في حصول المطلوب، هذا الدعاء فيه طلب السلامة من أشد الشرور الظاهرة، والباطنة، في الدين والدنيا، والآخرة، فبدأ في سؤال اللَّه تعالى السلامة من أشدها فقال: ((اللَّهم اغفر لي)): سأل اللَّه تعالى المجاوزة عن الذنوب، وترك العقاب عليها، وهذا المطلب الجليل غالب في أدعية الكتاب والسنة؛ لأن الذنوب تورد العبد شر الموارد في الدنيا والآخرة، فكان في تقديم هذا المطلب أولى من غيره من المطالب، ثم شرع في سؤال اللَّه تعالى السلامة من أشد الشرور الباطنة. فقال: ((وأذهب غيظ قلبي)): ((أي شدة الغضب الذي يكون منشأه غليان دم القلب وفورانه لأمر يعرض على خلاف المراد)) (¬2). سأل اللَّه تعالى أن يذهب الغيظ في القلب؛ لأنه منهك للنفس، متعب للقلب والبدن، فقد يتولّد منه الحقد، والكراهية، والبغضاء، والتعدي، والانتقام، وسوء المآل والحال، لهذا دعا اللَّه تبارك وتعالى العباد إلى إمساك النفس عند اعتراء الغيظ، قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ ¬

(¬1) أخرجه ابن السني، 456، قال محققه: ((إسناده حسن)). (¬2) الفتوحات الربانية 3/ 278.

148 - اللهم أحيني على سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم - وتوفني على ملته

الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس} (¬1). وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه اللَّه - عز وجل - على رؤوس الخلائق يوم القيامة، حتى يخيره من الحور العين ما شاء)) (¬2). قوله: ((وأعذني من مضلات الفتن)): فيه استعاذة من مهلكات، ومعضلات الفتن الشديدة، الموقعة في الحيرة، والمفضية إلى الهلاك، التي تضيع من شدتها الدين، والدنيا والآخرة، فتضمّنت هذه الاستعاذة النجاة والسلامة من الوقوع بها. دلّ هذا الدعاء المبارك على أهميته؛ حيث علّمه - صلى الله عليه وسلم - إلى أحب زوجاته، التي أبوها هو أحب أصحابه، فاعتنِ به في دعائك؛ فإن السلامة من الشرور فيها الهناء، والسعادة، والمنى. 148 - ((اللَّهُمَّ أَحْيِنِي عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّكَ - صلى الله عليه وسلم - وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ، وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلاَّتِ الْفِتَنِ)) (¬3). ¬

(¬1) سورة آل عمران، الآية: 134. (¬2) أخرجه أبو داود، أول كتاب الأدب، باب من كظم غيظاَ، برقم 4777، والترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق، باب حدثنا عبد بن حميد، برقم 2493، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب الحلم، برقم 4186، وأحمد، 24/ 398، برقم 15637، والطبراني في الكبير، 20/ 189، برقم 417، وفي الصغير، 2/ 250، برقم 1112، والبيهقي، 8/ 161، برقم 16422، وأبو يعلى، برقم 1497، وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه، برقم 4176، وصحيح الترغيب والترهيب، برقم 2753. (¬3) أخرجه البيهقي في الكبرى، 5/ 95 من دعاء ابن عمر موقوفاً عليه، والصغرى، 4/ 192، وقد نقل ذلك ابن الملقن في البدر المنير، 6/ 309، وقال نقلاً عن الضياء: ((إسنادها جيد)). وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((لا يقل أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من الفتنة، فليس أحد إلا وهو مشتمل على فتنة؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن))، أخرجه ابن جرير، في تفسيره، 13/ 475، برقم 15912، وذكره ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري، 4/ 13.

149 - اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت.

149 - ((اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، [فِي الْعَالَمِينَ] إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (¬1). المفردات: الصلاة: أصل الصلاة الدعاء, والتبرك والتمجيد, يقال صليت عليه, أي: دعوت له وزكيت, ومنه قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} (¬2)، (¬3). أخبر ربنا تبارك وتعالى أنه هو, وملائكته يصلون على النبي - صلى الله عليه وسلم - , قال جلّ شأنه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ} (¬4). فدلّت هذه الآية الكريمة على علوّ منزلة، ورفعة درجته - صلى الله عليه وسلم - , ¬

(¬1) البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حدثنا موسى بن إسماعيل، برقم 3370، وما بين المعقوفين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - عند مسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد، برقم 405. (¬2) سورة التوبة, الآية: 103. (¬3) المفردات، ص 490. (¬4) سورة الأحزاب, الآية: 56.

وذلك بأن الرب - عز وجل - يُصلّي عليه, وملائكته الذين لا يُحصي عددَهم إلا الربُّ - جل جلاله -. وقد اختلف أهل العلم على معنى الصلاة من اللَّه تعالى، بعد إجماعهم بأن أصل الصلاة في اللغة كما سبق هي الدعاء, وشواهد ذلك كثيرة، فأصح ما قيل في معنى صلاة اللَّه تعالى، ما ذكره البخاري رحمه اللَّه تعالى في صحيحه عن كبير التابعين, أبي العالية رحمه اللَّه تعالى أنه قال: ((صلاة اللَّه على رسوله ثناؤه عليه عند الملأ الأعلى)) (¬1). وذكر العلامة ابن القيم رحمه اللَّه: ((أن صلاة اللَّه تبارك وتعالى على عبده نوعان: عامة، وخاصة, أما العامة: فهي صلاته على عباده المؤمنين, قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور} (¬2). ومنه دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة على آحاد المؤمنين, كقوله: ((اللَّهم صل على آل أبي أوفى)) (¬3). النوع الثاني: صلاته الخاصة على أنبيائه ورسله, خصوصاً على خاتمهم، وخيرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - (¬4). ¬

(¬1) رواه البخاري تعليقاً, كتاب التفسير، باب قوله: (إن الله وملائكته يصلون على النبي ... )، قبل الحديث رقم 4797، وحسنه الألباني رحمه الله في فضل الصلاة على النبي، ص95. (¬2) سورة الأحزاب, الآية: 43. (¬3) البخاري، كتاب الزكاة، باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصدقة، برقك 1497، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الدعاء لمن أتى بالصدقة، برقم 1078. (¬4) جلاء الأفهام لابن القيم , ص 121.

وقد أمر نبينا - صلى الله عليه وسلم - بعد أمر اللَّه تعالى لنا أن نصلي عليه, وأن نجتهد في الإكثار منها, قال - صلى الله عليه وسلم -: ((صلوا عليَّ، واجتهدوا في الدعاء، وقولوا: اللَّهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد)) (¬1). فهذا الأمر من الشارع الحكيم بالصلاة عليه فيه أولاً: ((اقتداء باللَّه تعالى وملائكته)). وثانياً: ((جزاءً له بعض حقوقه علينا)). وثالثاً: ((تكميلاً لإيماننا)) (¬2). وقد بشر - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ من صلَّى عليه, نال الأجر المضاعف من خيري الدنيا والآخرة, فقال: ((من صلى عليَّ صلاة واحدة, صلى اللَّه عليه بها عشراً)) (¬3). وفي رواية: ((من صلى عليَّ من أمتي صلاةً مخلصاً من قلبه، صلى اللَّه عليه بها عشر صلوات, ورفعه بها عشر درجات, وكتب له بها عشر حسنات, ومحا عنه عشر سيئات)) (¬4). ¬

(¬1) أخرجه النسائي، كتاب السهو، نوع آخر، برقم 1292، وفي الكبرى له أيضاً، كتاب الطهارة، وجوب الغسل إذا التقى الختانان، برقم 1216، والطبراني في الكبير، 5/ 218، برقم 5143، وصححه الألباني في صحيح النسائي، 1292، وصحيح الجامع الصغير، برقم 3783. (¬2) انظر تفسير ابن السعدي, ص788. (¬3) مسلم، كتاب الإيمان، باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه، ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يسأل الله له الوسيلة، برقم 384. (¬4) النسائي، كتاب السهو، باب الفضل في الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 1299، وله في الكبرى، كتاب الأذان، الدعاء عند الأذان، برقم 9809، والبزار، برقم 3160، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 1659، وصحيح النسائي، برقم 1297.

وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن أولى الناس به يوم القيامة, وأقربهم منه أكثرهم عليه صلاة عن إيمان, وعن محبة له واتباع لشريعته)) (¬1): ((إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليَّ صلاة)) (¬2). وقوله تعالى {وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬3): ((أي ادعوا اللَّه أن يسلمه تسليماً تاماً, أي اسألوا اللَّه له السلامة من كل آفة في حياته, ومن كل بلاء في حشره عليه الصلاة والسلام؛ ((وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ)) (¬4)، فقول المسلم: اللَّهم صل على محمد، يعني سلّمه من الآفات الجسدية حياً وميتاً، وكذلك يتضمّن الدعاء بالسلامة لدينه وشريعته أن يسلمها اللَّه تعالى من الأعداء، فلا يسطو عليها بتحريف أو تغيير، إلا سلَّط اللَّه عليه من يُبَيِّن ذلك, وهذا هو الواقع وللَّه الحمد والمنة)) (¬5). ((فصلاة العبد على الرسول هي ثناء على الرسول, وإرادة من اللَّه أن يُعليَ ذكره، ويزيده تعظيماً وتشريفاً, والجزاء من جنس العمل, فمن أثنى على رسوله جزاه اللَّه من جنس عمله بأن يثني عليه، ويزيد ¬

(¬1) شرح رياض الصالحين للعلامة ابن باز رحمه الله، 4/ 507. (¬2) الترمذي، كتاب الوتر، باب ما جاء في فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، برقم 484، وابن أبي شيبة، 11/ 505، برقم 32474، وابن حبان، 3/ 192، والبيهقي في الكبرى، 3/ 249، وحسّنه الألباني لغيره في صحيح الترغيب والترهيب، برقم 1668. (¬3) سورة الأحزاب, الآية: 56. (¬4) البخاري، كتاب الأذان، باب فضل السجود، برقم 806، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم 182. (¬5) شرح رياض الصالحين للعلامة ابن عثيمين: 4/ 503 - 505.

فالصحيح أن معنى الآل

تشريفه وتكريمه)) (¬1). وقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((وعلى آل محمد)): فالصحيح أن معنى الآل: 1 - من تحرم عليهم الصدقة. 2 - أنهم ذريته وأزواجه خاصة (¬2). وقوله: ((وبارك على محمد)) البركة هي: 1 - الثبوت واللزوم, ومنه قول: برك البعير يبرك بروكاً. 2 - النماء والزيادة (¬3). ((والتبريك: الدعاء بذلك، فهذا الدعاء يتضمّن إعطاء من الخير ما أعطاه لآل إبراهيم, وإدامته وثبوته له, ومضاعفته له وزيادته, هذا حقيقة البركة)) (¬4). وقوله: ((إنك حميد مجيد)): ختم الدعاء بأحسن الختام, باسمين من أسماء اللَّه تبارك وتعالى الحسنى, وأكده بـ ((إنَّ)) زيادة في التأكيد و ((الحميد)): صيغة مبالغة على وزن (فعيل) , والحمد نقيض الذم, وهو أعمُّ وأصدق في الثناء على المحمود من المدح والشكر (¬5)، فاللَّه تبارك وتعالى هو المحمود في ذاته, وأسمائه, وصفاته, وأفعاله, فله من الأسماء أحسنها، ومن الصفات أكملها, ومن الأفعال أتمَّها ¬

(¬1) جلاء الأفهام، ص 127. (¬2) انظر جلاء الأفهام للعلامة ابن القيم، 166 - 173. (¬3) معجم مقاييس اللغة، 4/ 352. (¬4) جلاء الأفهام، ص 237. (¬5) لسان العرب، 3/ 156, تفسير الطبري، 13/ 179.

وأحسنها, فإنها دائرة بين الفضل والحكمة والعدل (¬1). و ((المجيد)): من صيغ المبالغة على وزن ((فعيل)): وأصل المجد: السعة, والكثرة, يقال: رجل ماجدٌ إذا كان سخياً، واسع العطاء، ويدلّ كذلك على الشرف, والرفعة, وعظم القدر, والشأن, والجلال (¬2). وفي اقتران هذين الاسمين الكريمين يدل على معنى زائد في الكمال: ((لأن الواحد قد يكون منيعاً غير محمود، كاللص المتحصن وقد يكون محموداً غير منيع, أما المجيد, فهو من جمع بينهما, وكان منيعاً لا يرام، وكان في منعته حميد الخصال, جميل الأفعال)) (¬3)، فاستحق تعالى الحمد على مجده, لكماله، وسعة جلالة صفاته التي لا منتهى لها من الكمال والمجد. ولما كانت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي ثناء اللَّه تعالى، وتكريمه، والتنويه به، ورفع ذكره, وزيادة حُبِّه وتقريبه كما تقدم, كانت مشتملة على الحمد والمجد, فكأن المصلي طلب من اللَّه تعالى أن يزيد في حمده ومجده, فإن الصلاة عليه هي نوع حمد له وتمجيد, هذا حقيقتها, فذكر في هذا المطلوب الاسمين المناسبين له, وهذا كما تقدم أن الداعي يُشرع له أن يختم دعاءه باسم من الأسماء الحسنى مناسب لمطلوبه، أو يفتتح دعاءه به، وتقدم أن هذا من قوله تعالى: ¬

(¬1) تفسير ابن السعدي، 5/ 624. (¬2) المفردات، ص 463, لسان العرب، 5/ 4138, والمقصد الأسنى، ص 123. (¬3) الأسماء والصفات للبيهقي، 1/ 111.

{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (¬1)، (¬2). [وقد ذكر المؤلف وفقه اللَّه الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم - في ختام الأدعية؛ لأن هذا من الآداب التي يحتاجها المسلم في دعائه: يبدأ بحمد اللَّه، والثناء عليه بما هو أهله، ثم يصلِّي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يختم دعاءه بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في آداب الدعاء]. والحمد للَّه رب العالمين، كما يليق بجلاله، وعظيم سلطانه، اللَّهم صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. ¬

(¬1) سورة الأعراف, الآية: 180. (¬2) جلاء الأفهام، 245 - 246.

المصادر والمراجع

المصادر والمراجع 1 - اتحاد السادة المتقين شرح إحياء علوم الدين لمحمد الحسيني الزبيدي، دار إحياء التراث العربي، بيروت (1414هـ/1994م). 2 - إثبات عذاب القبر، لأحمد بن الحسين البيهقي أبي بكر، تحقيق: د. شرف محمود القضاة، دار الفرقان - عمان الأردن، الطبعة الثانية، 1405. 3 - الأحاديث المختارة لضياء الدين الحنبلي المقدسي، دراسة وتحقيق: عبدالملك بن عبد اللَّه بن دهيش، عجمان مكتبة مكة الثقافية، رأس الخيمة، الطبعة الثانية (1320هـ/1999م). 4 - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان لعلاء الدين علي بن لبان الفارسي، حققه وخرّج أحاديثه: شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى (1412هـ/1991م). 5 - إحياء علوم الدين مع إتحاف السادة المتقين، تأليف: الإمام أبي حامد الغزالي، دار إحياء التراث العربي، بيروت (1414هـ/1994م). 6 - اختيار الأولى في شرح اختصام الملأ الأعلى، لابن رجب الحنبلي، تحقيق جاسم الدوسري، مكتبة دار الأقصى، الكويت، الطبعة الأولى، (1406هـ/19985م). 7 - آداب الدعاء تأليف: يوسف بن المقدسي الحنبلي، حققه: محمد خلوف آل عبد اللَّه، دار النوادر، دمشق، الطبعة الأولى (1428هـ/2007م). 8 - الأدب المفرد، لمحمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي، تحقيق:

محمد فؤاد عبدالباقي، دار البشائر، الإسلامية - بيروت، الطبعة الثالثة، 1409 - 1989، 9 - الأدعية القرآنية، أ. د. سيد محمد ساداتي الشنقيطي، دار الحضارة، الطبعة الأولى، 1428هـ- 2007م. 10 - الأذكار النووية، للإمام شرف الدين يحيى بن شرف النووي، دار ابن حزم، الطبعة الثانية، 1420هـ- 2004م،. ودار الحديث، القاهرة، الطبعة الثانية، 1418هـ- 1998م. 11 - إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل، محمد ناصر الدين الألباني المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية (1405هـ/1985م). 12 - الأزهية في أحكام الأدعية، تأليف: محمد الزركشي، تحقيق: أم عبد اللَّه محروس العسلي، إشراف: محمود بن محمد الحداد، دار الفرقان، مصر والسودان، الطبعة الأولى (1408هـ/1988م). 13 - الاستغاثة في الرد على البكري، لشيخ الإسلام ابن تيمية، دار الوطن، الطبعة الأولى، 1417هـ. 14 - اسم ((اللَّه)) الأعظم، جمع ودراسة الدكتور عبد اللَّه الدميجي، دار الوطن، الطبعة الأولى (1419هـ/1998م). 15 - أسماء اللَّه الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة، للدكتور محمود الرضواني، مكتبة السبيل، الطبعة الأولى (1426هـ/2005م). 16 - أسماء اللَّه الحسنى، تأليف: عبد اللَّه الغصن، دار الوطن، الطبعة الأولى (1317هـ).

17 - أسماء اللَّه الحسنى، للدكتور عمر الأشقر، دار النفائس، الأردن (الطبعة الثانية)، (1427هـ/2007م). 18 - الأسماء والصفات، لأحمد بن الحسين أبي بكر البيهقي، تحقيق عبد الله بن محمد الحاشدي، مكتبة السوادي، ط 1، جدة. 19 - الأسنى في شرح أسماء اللَّه الحسنى، للإمام شمس الدين القرطبي، تحقيق الشحات الطحان، مكتبة فياض، الطبعة الأولى (1327هـ/2006م). 20 - اشتقاق أسماء الله، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1406هـ- 1986م. 21 - الإصابة في تمييز الصحابة، لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني، تحقيق محمد علي البجاوي، دار الجيل، بيروت، ط 1، 1412هـ- 1992م. 22 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، محمد الأمين الشنقيطي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى (1417هـ/1996م). 23 - الأعلام العلية في مناقب ابن تيمية، للحافظ عمر بن علي البزاز، المكتب الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1400هـ. 24 - الإعلام بأوجز أحكام الألباني الإمام، جمع وإعداد محمد بن كمال السيوطي، دار ابن رجب، مصر الطبعة الأولى (1414هـ). 25 - إغاثة اللَّهفان من مصائد الشيطان، ابن قيم الجوزية، دراسة وتحقيق: محمد عثمان الخشت، مكتبة القرآن-القاهرة. 26 - إكمال المعلم بفوائد مسلم، (شرح صحيح مسلم)، الفصيل بن عياض بن موسى بن عياض، دار الوفاء، الطبعة الأولى، 1417هـ. 27 - الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت،

ط2، 1403، 1983م. 28 - بدائع الفوائد، لابن القيم الجوزية، تحقيق جماعة من الباحثين، دار الخير، الرياض، ط (1414هـ). 29 - بداية المبتدئ وهداية السالك في أوراد الذاكرين الله كثيراً والذاكرات، للدكتور محمد سعيد البخاري، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى (1426هـ-2005م). 30 - البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي أبو الفداء، مكتبة المعارف، بيروت. 31 - البعث والنشور، للحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق الشيخ عامر أحمد حيدر، مركز الخدمات والأبحاث الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1406هـ- 1986م. 32 - بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار. عبد الرحمن بن ناصر السعدي، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1431هـ- 2010م. 33 - تاريخ مدينة دمشق، لأبي القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر، دار الفكر، 1995م. 34 - التبيان في أقسام القرآن، لمحمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله بن قيم الجوزية، دار الكتب العلمية، ط2، 1402هـ.، ودار إحياء العلوم، ط1، 1409هـ- 1988م. 35 - التحرير والتنوير، لسماحة الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور، دار سحنون، تونس. 36 - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي، لمحمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم المباركفوري، مطبعة المعرفة، الطبعة الثانية، 1384هـ.

37 - تحفة الأخيار، للعلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار القاسم، ودار الحديث، الطبعة الأولى، 2003م .. 38 - تحفة الذاكرين بعدة الحصن الحصين، الإمام محمد بن علي الشوكاني، تخريج وتحقيق سيد إبراهيم، علي حسن،، دار الحديث القاهرة، الطبعة الأولى (1419هـ-1998م). 39 - تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، للحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الثانية، 1399هـ- 1979م. 40 - تذكرة الحفاظ، للحافظ شمس الدين الذهبي، طبعة دار الفكر العربي، 1374هـ. 41 - التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة، لأبي عبد الله بن محمد القرطبي، دار العفان، الطبعة الأولى، 1422هـ- 2001م، وطبعة دار المعرفة، الطبعة الرابعة، 1421هـ. 42 - تراجع العلامة الألباني فيما نص عليه تصحيحاً وتضعيفاً، جمع وإعداد: أبو الحسن محمد الشيخ، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى (1424هـ-2003م). 43 - التسبيح في الكتاب والسنة، للدكتور محمد بن إسحاق كندو، مكتبة دار المنهاج، الرياض، الطبعة الأولى (1426هـ). 44 - تسهيل الإلمام بفقه الأحاديث من بلوغ المرام، للعلامة صالح بن عبد الله الفوزان، الطبعة الأولى، 1427هـ- 2006م، بدون ناشر. 45 - تصحيح الدعاء، د. بكر بن عبد اللَّه أبو زيد، دار العاصمة، الرياض،

الطبعة الأولى (1419هـ-1999م). 46 - التعليقات الحسان، على صحيح ابن حبان وتمييز سقيمه من صحيحه، وشاذه من محفوظه، للعلامة المحدث الإمام الشيخ محمد ناصر الدين الألباني. 47 - تفسير ابن أبي حاتم (تفسير القرآن العظيم مسنداً عن رسول الله والصحابة والتابعين)، لابن أبي حاتم الرازي، مكتبة الدار، ودار طيبة، الطبعة الأولى، 1408هـ. ومكتبة نزار مصطفى الباز، 1417هـ. 48 - تفسير أبي السعود، للقاضي: أبي السعود مصطفى العمادي، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى (1419هـ-1999م). 49 - تفسير أبي المظفر منصور السمعاني، دار الوطن، الطبعة الأولى، 1418هـ. 50 - تفسير أسماء اللَّه الحسنى، لأبي إسحاق الزجاج، تحقيق أحمد الدقاق، دار المأمون للتراث، دمشق، الطبعة الرابعة (1403هـ). 51 - تفسير البغوي، لأبي القاسم البغوي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1415هـ، ودار طيبة، الطبعة الأولى، 1411هـ. 52 - تفسير الدعوات المباركات من القرآن العظيم، للشيخ محمد بن عالم الإيديني، دار القلم، الطبعة الأولى، 1405هـ- 1985م. 53 - التفسير الصحيح، موسوعة الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور، إعداد الأستاذ الدكتور حكمت بن بشير بن ياسين، دار المأثر، المدينة المنورة، الطبعة الأولى (1420هـ-1999م). 54 - تفسير القرآن، للإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1410هـ. 55 - تفسير الفخر الرازي، لمحمد بن عمر بن الحسين الرازي، دار الفكر

للطباعة والنشر - الطبعة الثالثة - بيروت. 56 - تفسير القرآن العظيم، للإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي، دار زمزم، الرياض، طبع: دار الحديث القاهر، الطبعة السابعة (1414هـ-1993م)، دار الصديق، الجبيل، مؤسسة الريان، بيروت، الطبعة الأولى (1425هـ-2004م). 57 - تفسير القرآن الكريم للعلامة محمد بن صالح بن عثيمين رحمه اللَّه: تفسير سورة البقرة، وآل عمران، والكهف، والصافات، وص، والحجرات، وعم. 58 - التفسير الكبير لشيخ الإسلام أحمد بن تيمية، تحقيق الدكتور: عبد الرحمن عميرة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، (1408هـ-1988م). 59 - تفسير الماوردي (النكت والعيون)، أبو الحسن علي بن محمد الماوردي، دار الكتب العلمية، بيروت. 60 - تفسير مجاهد، لمجاهد بن جبر المخزومي التابعي أبو الحجاج، المنشورات العلمية. 61 - تلبيس إبليس لأبي الفرج بن الجوزي، دار الخير - بيروت - دمشق - الطبعة الأولى (1419هـ-1998م). 62 - التلخيص الحبير، لابن الحجر العسقلاني، إعداد: مركز الدراسات والبحوث بمكة المكرمة، نزار الباز، الطبعة الأولى (417هـ-1997م). 63 - تنوير الأذهان من تفسير روح البيان، تأليف: إسماعيل البروسوي، اختصار

محمد الصابوني، دار القلم-دمشق-الطبعة الأولى (1408هـ). 64 - التواضع والخمول، أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبيد ابن أبي الدنيا القرشي البغدادي، تحقيق محمد عبد القادر أحمد عطا، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1409هـ - 1989م. 65 - تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد، تأليف الشيخ سليمان بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد الوهاب، نشر وتوزيع رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة. 66 - تيسير الكريم المنان، للعلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - المؤسسة السعيدية بالرياض - طبعة أخرى دار ابن الجوزي - الطبعة الثانية. 67 - تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن، لعبد الرحمن بن ناصر السعدي، مكتبة المعارف، الرياض، 1400هـ- 1980م. 68 - جامع الأصول في أحاديث الرسول، تأليف: مجد الدين ابن الأثير الجزري، تحقيق عبد القادر الأرناؤوط دار الفكر (1390هـ-1970م). 69 - جامع البيان في تأويل القرآن لابن جرير الطبري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى (1421هت1992م)، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى (1415هـ-1994م). 70 - جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، تقديم مروان كجك، دار المؤتمن، المؤسسة السعودية بمصر، الطبعة الثانية (1315هـ-1994م)، مؤسسة الرسالة، تحقيق شعيب الرناؤوط، إبراهيم باحبس، الطبعة العاشرة (1424هـ-2004م). 71 - الجامع الكبير في الحديث، جلال الدين السيوطي، دار الكتب العلمية،

بيروت، الطبعة الأولى، 2000م. 72 - الجامع لأحكام القرآن، للإمام أبي عبد اللَّه محمد القرطبي .. دار الكتب العلمية بيروت (1413هـ-1993م)، ودار الحديث، القاهرة، مراجعة وتعليق الدكتور محمد الحفناوي، وتخريج محمود عثمان (1423هـ-2002م). 73 - جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد خير الأنام، الإمام ابن القيم الجوزية، تحقيق محيي الدين مستو، دار ابن كثير، بيروت، الطبعة الأولى (1408هـ-1988م). 74 - الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي. ابن القيم الجوزية، دار النهار، وطبعة أخرى: جمعية إحياء التراث الإسلامي، الطبعة الثانية (1424هـ-2003م). 75 - الجواهر الحسان في تفسير القرآن، عبد الرحمن محمد الثعالبي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت. 76 - حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لمحمد بن أبي بكر بن قيم الجوزية، دار الكتاب العربي، الطبعة الرابعة، 141هـ، ومؤسسة الرسالة، 1412هـ. 77 - حاشية السندي على سنن ابن ماجه، للإمام أبي الحسن الحنفي- دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى (1416هـ-1996م). 78 - الحق الواضح المبين، تأليف العلامة ابن سعدي، دار ابن القيم، الدمام، الطبعة الأولى (1406هـ-1986م). 79 - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم أحمد بن عبد الله

الأصفهاني، دار الكتب العلمية، الطبعة الرابعة، 1405هـ. 80 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، دارالكتب العليمة، الطبعة الأولى، 1411هـ. 81 - الدرر السنية في الأجوبة النجدية، جمع عبد الرحمن بن القاسم النجدي، مطابع المكتب الإسلامي، الطبعة الثانية 1385هـ. 82 - دروس وفتاوى الحرم المكي، للعلامة ابن عثيمين، دار ابن الجوزي، القاهرة. 83 - الدعاء المأثور، وآدابه، لأبي بكر الطرطوشي، تحقيق الدكتور محمد رضوان، دار الفكر، بيروت، الطبعة الأولى (1409هـ). 84 - الدعاء في القرآن الكريم، تأليف: الدكتور محمد محمود عبود زوين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، (1422هـ-2002م). 85 - الدعاء للحافظ أبي القاسم الطبراني، دراسة تحقيق الدكتور محمد البخاري، دار البشائر الإسلامية، بيروت، الطبعة الأولى (1407هـ-1984م). 86 - الدعاء وأحكامه الفقهية، تأليف: خلود بن عبد الرحمن المهيزع، دار الصميعي، الطبعة الأولى (1429هـ-2008م). 87 - الدعاء ومنزلته في العقيدة، لأبي عبد الرحمن جيلان العروسي، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى (1417هـ-1996م). 88 - الدعاء: مفهومه- وأحكامه، إعداد: محمد الحمد، دار ابن خزيمة، الطبعة الثانية (1418هـ-1998م).

89 - الدعاء، تأليف: أبي عبد الرحمن عطية، مكتبة البلد الأمين، القاهرة (1420هـ-1999م). 90 - الدعوات الكبير، لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ)، تحقيق بدر بن عبد الله البدر، غراس للنشر والتوزيع، الكويت، الطبعة الأولى. 91 - دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، للعلامة محمد بن علان الصديقي الشافعي، دار الكتاب العربي. 92 - رش البرد شرح الأدب المفرد، تأليف د. محمد السلفي، دار الداعي، الرياض، الطبعة الثانية (1427هـ). 93 - روح المعاني، للعلامة أبي الفضل الألولسي، دار الفكر، بيروت (1417هـ-1997م). 94 - روضة الناظر وجنة المناظر، موفق الدين ابن قدامة المقدسي، مكتبة المعارف، ومكتبة الرشد، الرياض، الطبعة الأولى، 1413هـ- 1993م. 95 - الرياض الناضرة والحدائق الزاهرة، للعلامة ابن سعدي، ضمن: المجموعة الكاملة للشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه اللَّه. 96 - زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم الجوزية، حققه: شعب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة الطبعة السادسة والعشرون، (1412هـ-1992م). 97 - الزهد، للإمام أحمد بن حنبل، دار الكتب العلمية، 1396هـ. 98 - الزهد، لهناد بن السري الكوفي، دار الخلفاء للكتاب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1406هـ.

99 - سلسلة الآثار الصحيحة، تأليف أبو عبد اللَّه الداني بن منير، دار الفاروق، الطبعة الأولى (1424هـ-2003م). 100 - سلسلة الأحاديث الصحيحة، للعلامة محمد بن ناصر الدين اللباني، مكتبة المعارف، الطبعة الثانية (1415هـ-1995م). 101 - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض، الطبعة الأولى، 1422هـ. 102 - سنن النسائي (المجتبى من السنن)، أحمد بن شعيب أبو عبد الرحمن النسائي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، مكتب المطبوعات الإسلامية - حلب، الطبعة الثانية، 1406 - 1986. 103 - سنن ابن ماجه، محمد بن يزيد أبو عبد الله القزويني ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد، الباقي دار الفكر - بيروت. 104 - سنن ابن ماجه، تحقيق العلامة الألباني، مكتبة المعارف. 105 - سنن أبي داود، الطبعة الأولى عام 1420هـ، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض، المملكة العربية السعودية. 106 - سنن أبي داود، تحقيق العلامة الألباني، مكتبة المعارف. 107 - سنن الترمذي، لأبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة، ت 279 هـ، تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الثانية، 1398 هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، مصر. 108 - سنن الترمذي، تحقيق العلامة الألباني، مكتبة المعارف. 109 - سنن الدارقطني، للإمام علي بن عمر الدارقطني، ت 385هـ، دار المحاسن للطباعة، القاهرة.

110 - سنن الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ت 255 هـ، طبعة 1404 هـ، تحقيق عبد الله بن هاشم اليماني، توزيع الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الرياض، المملكة العربية السعودية. 111 - السنن الصغرى لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي, الطبعة الأولى، دار الجيل, بيروت، 1995م - 1415هـ. 1 - السنن الكبرى، لأحمد بن شعيب النسائي، تحقيق: د. عبد الغفار سليمان البنداري، وسيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1411هـ. 112 - السنن الكبرى، للإمام الحافظ أبي بكر أحمد بن الحسين بن على البيهقي، ت 458 هـ، الطبعة الأولى، 1406هـ، دار المعرفة، بيروت، لبنان. 113 - السيرة الحلبية، نور الدين بن إبراهيم الحلبي الشافعي، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2002م. 114 - شأن الدعاء لأبي سليمان الخطابي، تحقيق أحمد الدقاق، دار المليون للتراث، دمشق، الطبعة الأولى (1404هـ-1984م). 115 - شرح أسماء اللَّه الحسنى في ضوء الكتاب والسنة، للدكتور الفاضل سعيد بن علي بن وهف القحطاني، مؤسسة الجريسي، الطبعة الحادية عشر، ربيع الثاني (1427هـ). 116 - شرح أسماء اللَّه الحسنى، الفخر الدين الرازي، تحقيق: طه عبد الرؤوف سعد، دار الكتاب العربي، ط2، (1410هـ). 117 - شرح أسماء اللَّه الحسنى، وصفاته، إعداد الدكتورة حصة الصغير، دار القاسم، الرياض، الطبعة الأولى (1420هـ).

118 - شرح السنة، للإمام البغوي، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، تحقيق شعيب الأرناؤوط، وزهير الشاويش. 119 - شرح العقيدة الطحاوية، تخريج العلامة الألباني رحمه اللَّه، المكتب الإسلامي الطبعة السابعة (1403هـ-1983م). 120 - شرح العقيدة الواسطية، للعلامة محمد بي عثيمين، تحقيق سعد الجميل، دار ابن الجوزي، ط (4) (1417هـ). 121 - شرح القواعد المثلى للعلامة ابن عثيمين، دار الآثار، الطبعة الأولى (1423هـ-2002م). 122 - شرح الكوكب المنير، لمحم بن أحمد النجار، مكتبة العبيكان، 1413هـ- 1993م. 123 - شرح القصيدة النونية، لمحمد خليل الهراس، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1415هـ- 1995م، ومكتبة ابن تيمية، 1407هـ. 124 - شرح رياض الصالحين، للعلامة ابن عثيمين رحمه اللَّه، دار ابن الجوزي القاهر، الطبعة الأولى (1427هـ-2006م). 125 - شرح صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، بقلم حسين بن عودة العوايشة، المكتبة الإسلامية، عمان، الردن، الطبعة الأولى (1423هـ-2003م). 126 - شرح عقيدة أهل السنة والجماعة للعلامة ابن عثيمين رحمه الله،. 127 - شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري، الشيخ عبد اللَّه الغنيمان، دار العاصمة، الطبعة الثالثة (1428هـ-2007م). 128 - شرح مشكل الآثار، لأبي جعفر الطحاوي، مؤسسة الرسالة، الطبعة

الأولى، 1415هـ. 129 - شروط الدعاء للمؤلف، حفظه الله، توزيع مؤسسة الجريسي، الرياض. 130 - شعب الإيمان، للإمام أبي بكر البيهقي، تحقيق: أبي هاجر زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، (1410هـ-1990م)، والدار السلفية، الطبعة الأولى 1408هـ- 1988م. 131 - شفاء العليل، للإمام ابن القيم، خرج نصوصه وعلق عليه: مصطفى الشلبي، مكتبة السوادي، جدة، الطبعة الثانية، (1415هـ-1995م). 132 - الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل الجوهري، دار العلم، بيروت، ط (2) (1399هـ). 133 - صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان، للإمام أبي حاتم محمدبن أحمد بن حبان البستي، ت354 هـ، رتبه الأمير علاء الدين علي بن سليمان بن بلبان الفارسي، ت 739 هـ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، الطبعة الثانية، 1414 هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت، لبنان. 134 - صحيح ابن خزيمة، للإمام أبي بكر محمد بن إسحق بن خزيمة السلمي النيسابوري، ت 311 هـ، تحقيق محمد مصطفى الأعظمى، طبعة 1390 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 135 - صحيح ابن ماجه، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع. الرياض، المملكة العربية السعودية. 136 - صحيح الأدب المفرد للإمام البخاري، بقلم محمد بن ناصر الدين الألباني، الطبعة الثانية 1415هـ، دار الصديق، الجبيل، المملكة العربية السعودية. 137 - صحيح البخاري، للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ت:

256هـ، الطبعة الثانية 1419هـ، مكتبة دار السلام، الرياض، المملكة العربية السعودية. 138 - صحيح سنن ابن ماجه باختصار السند، لمحمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الأولى، 1407 هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 139 - صحيح سنن أبي داود، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع. الرياض، المملكة العربية السعودية. 140 - صحيح سنن الترمذي، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع. الرياض، المملكة العربية السعودية. 141 - صحيح سنن النسائي، للعلامة محمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع. الرياض، المملكة العربية السعودية. 142 - صحيح مسلم، لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، ت 261 هـ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، بدون تاريخ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان. 143 - صحيح الترغيب والترهيب، للعلامة الألباني، مكتبة المعارف الطبعة الأولى (1421هـ-2000م). 144 - صحيح الجامع الصغير وزيادته، للعلامة الألباني رحمه اللَّه، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى (1408هـ-1988م). 145 - الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين، لأبي عبد الرحمن بن مقبل الوادعي رحمه اللَّه، دار الآثار، صنعاء، الطبعة الرابعة (1428هـ-2007م). 146 - شرح صحيح مسلم للنووي، دار أبي حيان، الطبعة الأولى (1415هـ-

1995م). 147 - صحيح موارد الظمآن، للعلامة الألباني، دار الصميعي، الرياض، الطبعة الأولى (1422هـ-2002م). 148 - صفة صلاة النبي، للعلامة الألباني، مكتبة المعارف، الطبعة الثانية (1417هـ-1996م). 149 - صيد الخاطر، للإمام ابن الجوزي، علي الطنطاوي، دار المنارة، جدة، الطبعة الخامسة (1412هـ-1991م). 150 - ضعيف الجامع الصغير وزيادته، للعلامة الألباني ناصر الدين، الطبعة الأولى 1388هـ، المكتب الإسلامي، بيروت. 151 - ضعيف سنن النسائي، لمحمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، بيروت .. 152 - الضوء المنير على التفسير، لابن قيم الجوزية، جمع على الحمد الصالحي، مكتبة دار السلام. 153 - طريق الهجرتين، للعلامة الإمام ابن القيم، تحقيق عمر بن محمود، دار البنا لقيم، الدمام، ط (2) (1414هـ). 154 - العبودية، لشيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، المكتب الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1391هـ، ودار المدني للطباعة والنشر، 1406هـ- 1986م. 155 - عدة الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين، لابن الجزري، مع تحفة الذاكرين، دار الكتاب العربي. 156 - العظمة، لأبي الشيخ عبد الله الأصفهاني، دار العاصمة، الرياض،

الطبعة الأولى، 1408هـ. 157 - علل الحديث، لعبد الرحمن بن محمد بن أبي حاتم الرازي، دار المعرفة، بيروت، 1405هـ، والسلفية، الطبعة الأولى. 158 - العلم الهيب في شرح الكلم الطيب، تأليف الإمام أبي محمد العيني، مكتبة الرشد، الطبعة الأولى (1419هـ-1998م). 159 - العلم لأبي خيثمة، زهير بن حرب النسائي، المعارف الأولى، 2000م. 160 - العلو للعلي العظيم، للإمام الذهبي، دارسة عبد اللَّه البراك، دار الوطن، الطبعة الأولى (1420هـ-1999م)، وتحقيق الألباني المسمى مختصر العلو، المكتب الإسلامي. 161 - عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، لأحمد بن يوسف بن عبد الدائم السمين الحلبي، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى (1417هـ-1996م). 162 - عمل اليوم والليلة، تأليف: الحافظ أبي بكر المعروف بـ ((ابن السني))، بقلم: أبي أسامة الهلالي، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى (1422هـ-2001م)، وطبعة أخرى، تخريج حلمي الرشيدي، دار البصيرة، الإسكندرية، الطبعة الأولى (1427هـ-2006م). 163 - عمل اليوم والليلة، للإمام أحمد النسائي، تحقيق ودراسة د. فاروق حمادة، دار الكلم الأولى، دمشق، الطبعة الرابعة (1421هـ-2001م). 164 - عون المعبود شرح سنن أبي داود، للعلامة أبي الطيب آبادي، دار الكتب العلمية، بيروت.

165 - غرائب القرآن ورغائب الفرقان، لنظام الدين النيسابوري، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1416هـ. 166 - الفتاوى البزازية، للإمام فخر الدين بن منصور الفرغاني، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الرابعة، 1406هـ- 1986م. 167 - فتح الباري شرح صحيح البخاري، للإمام أحمد بن حجر العسقلاني، دار السلام، الرياض، الطبعة الأولى، (1418هـ-1997م)، وطبعة أخرى، دار الريان للتراث، القاهرة، تحقيق: محيي الدين الخطيب، ط (1) (1407هـ-1986م). 168 - فتح البيان في مقاصد القرآن، للعلامة: أبي الطيب القنوجي البخاري، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى (1420هـ-1999م). 169 - الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، تأليف أحمد بن عبد الرحمن البنا الشهير بالساعاتي، دار إحياء التراث العربي، بيروت. 170 - فتح الرحيم الملك العلام، للعلامة ابن سعدي، دار المنهاج، الطبعة الأولى (1424هـ-2003م). 171 - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية، لمحمد بن علي الشوكاني، دار الفكر، الطبعة الثانية 1414هـ، ومكتبة الرشد، الطبعة الثانية، 1428هـ- 2007م، الرياض. 172 - الفتوحات الربانية على الأذكار النووية، للعلامة محمد الصديقي، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى (1426هـ-2005م)، ودار العثمانية. 173 - مسند الفردوس، لأبي شجاع شيرويه بن شهردار بن شيرويه الديلمي

الهمذاني الملقب إلكيا، تحقيق السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، 1406 هـ - 1986م، بيروت. 174 - فضائل الصحابة، لأبي عبد الله أحمد بن حنبل، مركز البحث العلمي، جامعة أم القرى. 175 - فضل اللَّه الصمد في توضيح الأدب المفرد، لفضل اللَّه الجيلاني، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة الأولى (1422هـ-2002م). 176 - فقه الأدعية والأذكار، تأليف: الدكتور عبد الرزاق البدر، كنوز أشبيليا، الطبعة الأولى، (1426هـ). 177 - فقه الدعاء، تأليف: مصطفى العدوي، مكتبة مكة، طنطا، الطبعة الأولى، (1422هـ-2001م). 178 - الفوائد، تأليف: الإمام ابن القيم الجوزية، ترتيب وتعليق علي بن عبد الحميد، ابن حزم، جدة، (1417هـ-1996م). 179 - في ظلال القرآن، لسيد قطب، دار الشروق، الطبعة الحادية والعشرون، 1414هـ. 180 - فيض القدير شرح الجامع الصغير، للعلامة: محمد المناوي، مطبعة مصطفى محمد، الطبعة الأولى 1356هـ-1938م. 181 - القاموس المحيط، محمد الفيروزآبادي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط (5)، (1416هـ). 182 - قنوت الوتر رواية ودراية، تأليف الدكتور: محمد بن عمر بازمول مكتبة الإمام أحمد، القاهر، الطبعة الأولى (1428هـ-2007م). 183 - قواعد الترجيح عند المفسرين، حسين الحربي، دار القاسم، الرياض،

الطبعة الأولى (1417هـ-1996م). 184 - قواعد التفسير، لخالد بن عثمان السبت، دار ابن عفان، الخبر، الطبعة الأولى (1417هـ-1997م). 185 - القواعد الحسان لتفسير القرآن، للعلامة ابن سعدي، دار الصميعي، الطبعة الأولى (1420هـ-1999م). 186 - القواعد الكلية للأسماء والصفات، للدكتور إبراهيم البريكان، دار الهجرة، الرياض ط (2) (1414هـ-1994م). 187 - القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، للعلامة ابن عثيمين رحمه الله، أضواء السلف، الطبعة الأولى، 1417هـ. 188 - القياس في القرآن الكريم، والسنة النبوية، دارسة نظرية، تأليف: د. وليد بن علي الحسين. مكتبة الرشد، الطبعة الأولى (1426هـ-2005م). 189 - الكامل في ضعفاء الرجال، لعبد الله بن عدي الجرجاني، دار الفكر، الطيعة الثالثة، 1409هـ. 190 - كتاب الأسماء والصفات للبيهقي، تحقيق: الشيخ عماد الدين أحمد، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى (1405هـ-1985م). 191 - كتاب الدعوات الكبير، للإمام أحمد بن الحسين البيهقي، تحقيق: بدر البدر، منشورات مركز المخطوطات، الكويت، الطبعة الأولى (1409هـ-1989م). 192 - الكتاب المصنف في الأحاديث والآثار، للإمام الحافظ عبد اللَّه بن أبي شيبة، حققه: عبد الخالق الأفغاني، الدار السلفية، الهند، الطبعة الثانية

(1399هـ-1979م). 193 - كشف الأستار عن زوائد البزار، لأبي بكرالهيثمي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1404هـ. 194 - كيف تحظى بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، للدكتور: محمد النعيم، دار المجتمع، الخبر، الطبعة الأولى (1426هـ-2007م). 195 - اللآلئ الزكية في شرح الأدعية النبوية، إعداد اللجنة العلمية بمكتبة الإمام الذهبي - الكويت، الطبعة الأولى، 1429هـ. 196 - اللباب في علوم الكتاب، ابن عادل الدمشقي الحلبي، دار الكتب العلمية، 1998م. 197 - لسان العرب، للإمام العلامة جمال الدين بن منظور، دار صادر، بيروت، الطبعة الثالثة (1414هـ-1994م). 198 - لطائف المعارف، للإمام زين الدين ابن رجب الحنبلي، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الثانية (1417هـ-1996م). 199 - مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدين الهيثمي، دار الكتاب العربي، بيروت. 200 - مجموع رسائل ابن رجب الحنبلي، تحقيق ناصر النجار، الناشر مكتبة أولاد الشيخ للتراث (2005م). 201 - مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية، جمع وترتيب: عبد الرحمن بن قاسم، وساعده ابنه محمد، طُبع بأمر الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، الطبعة الأولى (1389م).

202 - المجموع شرح المهذب، للإمام الحافظ أبي زكريا محيي الدين النووي، المطبعة المنيرية. 203 - مدارج السالكين، للإمام ابن القيم الجوزية، تحقيق محمد حامد الفقي، توزيع دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، المغرب. 204 - المستدرك على الصحيحين للإمام أبي عبد اللَّه الحاكم، ومعه تلخيص الذهبي، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الأولى (1418هـ-1998م). 205 - مسند أبي يعلى الموصلي، للإمام الحافظ أحمد بن علي بن المثني التميمي، ت 307 هـ، تحقيق حسين سليم أسد، الطبعة الأولى، 1412هـ، دار الثقافة العربية، دمشق، بيروت. 206 - مسند الإمام أحمد بشرح أحمد شاكر، للإمام أحمد بن محمد بن حنبل، شرحه وضع فهارسه أحمد محمد شاكر، بدون تاريخ، دار المعارف، مصر .. 207 - مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: جمع من العلماء، بإشراف: د. عبد اللَّه التركي، وشعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الأولى (1419هـ-1999م). 208 - مسند الشاميين، الإمام أحمد بن حنبل، ضبط أحاديثه وخرجها وبيّن درجتها وعلق عليها علي محمد جماز، مطابع الدوحة الحديثة، ط1، 1401هـ. 209 - مسند عبد بن حميد (المنتخب من مسند عبد بن حميد) لعبد بن حميد بن نصر أبي محمد الكشي، تحقيق: صبحي البدري السامرائي , ومحمود محمد خليل الصعيدي، مكتبة السنة - القاهرة، الطبعة الأولى، 1408هـ - 1988م.

210 - مسند البزار (البحر الزخار)، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة. 211 - مسند الحميدي، عبد الله بن الزبير أبو بكر الحميدي، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية , مكتبة المتنبي - بيروت, القاهرة. 212 - مسند الشهاب، محمد بن سلامة بن جعفر أبو عبد الله القضاعي، تحقيق: حمدي بن عبد المجيد السلفيمؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ - 1986م. 213 - مسند الطيالسي، سليمان بن داود بن الجارود، تحقيق الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، هجر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1999 م. 214 - مشكاة المصابيح، لمحمد عبد الله الخطيب التبريزي، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، الطبعة الثالثة 1405هـ، المكتب الإسلامي، بيروت، لبنان. 215 - المصباح المنير، لأحمد بن علي الفيومي، مكتبة لبنان، 1987م، ودار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1414هـ. 216 - مصنف عبد الرزاق الصنعاني، حققه حبيب الرحمن الأعظمي، المكتب الإسلامي، الطبعة الأولى، بيروت، (1391هـ-1972م). 217 - معالم السنن، لحمد بن حمد الخطابي، المكتبة العلمية، الطبعة الأولى، 1401هـ. 218 - معتصر المختصر، لأبي المحاسن يوسف بن موسى الحنفي، عالم الكتب. 219 - المعجم الأوسط، أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، تحقيق طارق بن

عوض الله بن محمد , عبد المحسن بن إبراهيم الحسيني، دار الحرمين - القاهرة، 1415هـ. 220 - المعجم الصغير (الروض الداني)، سليمان بن أحمد بن أيوب أبو القاسم الطبراني، تحقيق محمد شكور محمود الحاج أمرير، المكتب الإسلامي, دار عمار، بيروت, عمان، الطبعة الأولى، 1405هـ- 1985م. 221 - المعجم الكبير للحافظ أبي القاسم الطبراني، حققه: حمدي السلفي، مطبعة الوطن العربي، الطبعة الأولى (1400هـ-1980م). 222 - معجم مقاييس اللغة، لأبي الحسيني بن فارس، تحقيق وضبط: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة الثالثة (1402هـ). 223 - معرفة الصحابة، لأبي نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني، تحقيق: عادل بن يوسف العزازي، دار الوطن للنشر - الرياض، الطبعة الأولى، 1419 هـ - 1998 م. 224 - مفتاح دار السعادة، للإمام ابن القيم الجوزية، تحقيق: علي بن حسن بن عبد الحميد الحلبي الأثري، دار ابن عفان، الخبر، الطبعة الأولى، (1416هـ-1991م). 225 - المفردات، للراغب الأصفهاني، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، الطبعة الثانية (1418هـ-1997م). 226 - المفهم شرح صحيح مسلم، لأبي العباس القرطبي، حققه: جماعة من العلماء، دار الكتاب المصري، القاهرة، ودار الكتاب اللبناني-بيروت. 227 - المقصد الأسنى في شرح معاني أسماء الله الحسنى، لأبي حامد محمد الغزالي، مكتبة الفرقان.

228 - مكارم الأخلاق، لأبي بكر محمد بن جعفر 327هـ، تحقيق ودراسة د. سعاد سليمان الخندقاوي، تقديم مراجعة وتقديم، أ. د موسى شاهين لاشين أ. د محمد رشاد خليفة، مطبعة المدني، الطبعة الأولى 1411هـ -1991، مصر القاهرة. 229 - مناسك الحج والعمرة، للعلامة الألباني، مكتبة المعارض، الرياض، الطبعة الولى (1420هـ-1999م). 230 - المنتقى من صفة الفردوس، للإمام العلامة عبد الملك بن حبيب المالكي السلمي القرطبي، دار القمة، ودار الإيمان، 2005م. 231 - المنهاج في شعب الإيمان، الحسين بن الحسن الحليمي، دار الفكر، الطبعة الأولى، 1399هـ. 232 - منهج الإمام ابن القيم في شرح أسماء اللَّه الحسنى، تأليف: مشرف بن علي الغامدي، دار ابن الجوزي، ط (1) (1426هـ-2005م). 233 - منهج جديد لدراسة التوحيد، عبد الرحمن عبد الخالق، الدار السلفية. 234 - موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان، لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، ت 708هـ، تحقيق محمد بن عبد الرزاق حمزة، بدون تاريخ، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان .. 235 - المواهب الربانية، للعلامة ابن السعدي، اعتناء: أبو عبد الرحمن الماضي، دار الرمادي، الدمام، الطبعة الثانية (1417هـ-1996م). 236 - موسوعة له الأسماء الحسنى للشرباصي، دار الجيل بيروت، الطبعة الأولى (1402هـ-1982م). 237 - نزل الأبرار بالعلم المأثور، من الأدعية والأذكار، للعلامة محمد صديق

خان، دار المعرفة، بيروت. 238 - النهاية في غريب الحديث، لمجد الدين أبي السعادات ابن الأشر، أشرف عليه: علي بن عبد الحميد، دار ابن الجوزي، الرياض، الطبعة الثالثة (1425هـ)، وطبعة أخرى، تحقيق: طاهر الزاري الطناجي، دار إحياء الكتب العربية - القاهرة. 239 - النهج الأسمى لمحمد الحمود، مكتبة الذهبي، الكويت، الطبعة الثامنة، 1428هـ. 240 - نوادر الأصول في أحاديث الرسول، محمد بن علي بن الحسن أبو عبد الله الحكيم الترمذي، تحقيق عبد الرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت،1992م. 241 - نيل الأوطار بتخريج أحاديث كتاب الأذكار، للعلامة: أبي زكريا النووي، حقق نصوصه وخرّج أحاديثه: أبو أسامة سليم الهلالي، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الثانية (1425هـ-2004م). 242 - هؤلاء دعا لهم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، جمع وتحقيق: د. محمد عاشور، م. جمال عبد المنعم، دار الاعتصام، القاهرة. 243 - الوابل الصيب، للعلامة ابن القيم، طبع مطابع النصر الحديثة، الرياض، توزيع رئاسة البحوث العلمية والإفتاء. 244 - وللَّه الأسماء الحسنى فادعوه بها، لعبد العزيز بن ناصر الجليل، دار طيبة، الرياض، الطبعة الأولى (1329هـ-2008م).

§1/1