شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد

محمد حسن عبد الغفار

الاستغاثة

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - الاستغاثة بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بعقيدة صافية نقية واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وأمره أن يدعو الناس إلى توحيده جل وعلا، وصرف العبادة له تبارك وتعالى، ومن أعظم العبادات والطاعات: الاستغاثة به عز وجل، فهي تعني تمام الذل والخضوع لله عز وجل، وطلب العون من الله تعالى في تفريج الكرب والشدائد، والاستغاثة لها منزلة عظيمة في الدين، لذا فقد سارع إليها أخيار الناس وأفضلهم على الإطلاق، ألا وهم الأنبياء والصالحون ومن جاء بعدهم.

طلبة العلم هم صفوة الناس

طلبة العلم هم صفوة الناس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: إخوتي الكرام: مرحباً بصفوة الناس، مرحباً بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذهب أهل العلم بشرف الدنيا والآخرة، فقد أعتق عبد أسود لم تكن له قيمة عند السادة، ولا قيمة عند البشر، فلما أعتق وليست بيده صنعة يعمل بها نظر فقال: ماذا أفعل؟ كيف أعمل في هذه الدنيا وقد أعتقت؟ أي: أنه لا بد أن يكون لي من الأهداف والأعمال ما أرتفع بها مكانة بين الناس، فقال: ليس لي إلا أن أنتحل العلم، فقد وجدت الأشراف يتعلمون العلم، فذهب فتعلم العلم، وأتقن هذا الباب الشريف العظيم. ويتذكر أحدنا قول أحمد مع هذا العبد عندما سجن، فقيل له: لم أوديت بنفسك إلى الردى؟ قال: إن هذا العلم شريف، إن أردت به الدنيا أخذتها، وإن أردت به الآخرة أخذتها. فكأنه كان يتدبر هذه المقولة، فأتقن العلم، ثم جلس يعلم الناس، وكان الناس يأتونه من مشارق الأرض ومغاربها، حتى إن الخليفة أرسل إليه فقال: ائتنا ننهل من بحر علمك، فرد العبد الأسود للخليفة بقوله: مجالسنا مشهورة أو معلومة، فمن أرادنا فليأتنا. فانظروا إلى شرف هذا العلم، وقد صدرت الباب: بصفوة الناس هم طلبة العلم، وقلت: إن أفضل الناس على الإطلاق بعد الأنبياء هم العلماء، فعضوا بالنواجذ على هذا الشرف؛ لعل الله جل في علاه أن يجعلنا جميعاً نسير على درب العلماء، ونصل كما وصلوا، ونرى أن الرجال يشتركون مع النساء في هذا الشرف العظيم، كما يشتركون مع النساء في معظم الأحكام، والأصل عندنا مستقى من حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في سنن أبي داود بسند صحيح قال: (النساء شقائق الرجال) أي: في الأحكام. فالأصل في كل حكم أنه يجري على المرأة كما يجري على الرجل إلا ما فرق الدليل بينهما، وذلك في أمور تعد وتحسب، لكن بقية الأحكام بأسرها يشترك فيها الرجال والنساء معاً.

بيان كيف يعرف توحيد الله

بيان كيف يعرف توحيد الله اعلم أن التوحيد لا يعرف إلا من الكتاب، ولا يعرف مراد الله جل في علاه في الكتاب إلا بالسنة، ورحم الله عمران بن حصين عندما قال: الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن. وهناك قاعدة مهمة جداً وهي: تقديم الأهم على المهم، وقد تستمد من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) فبدأ بالعقيدة مبيناً قدر أهميتها للمسلم، وطالب العلم على وجه الخصوص.

أقسام التوحيد

أقسام التوحيد وقد قسم المتأخرون كـ شيخ الإسلام وغيره التوحيد إلى: توحيد معرفة وإثبات، وتوحيد قصد وطلب، وهذا التقسيم جاء من المتأخرين حقاً وليس من المتقدمين، لكن هذا التقسيم تبسيط وتيسير وتسهيل لطالب العلوم، وقد أنكروا عليه كثيراً مسألة هذا التقسيم. والقسم الثاني من أقسام التوحيد هو أهم ما يكون في علم التوحيد، فهو الذي من أجله أرسل الله الرسل، ومن أجله شرع الله القتال وأنزل الله السيف؛ ليفرق بين الصفين، فهذا العلم: علم القصد والطلب، أو توحيد الله جل وعلا بأفعال العباد، أو فعل العبد تجاه الرب، وهو توحيد الإلهية، وهو معنى: لا إله إلا الله، أي: لا معبود بحق إلا الله، فمن أتقن القسم الأول وأتقن القسم الثاني من هذا الكتاب، وأتقن القسم الثاني بهذا الكتاب يصبح بارعاً في العقيدة، ولا أقول: مفتياً ولا رجلاً قوياً في العقيدة، لكن على الأقل سيكون طالباً للعلم، متقناً لمسائل كثيرة من مسائل العقيدة.

ترجمة الإمام الشوكاني

ترجمة الإمام الشوكاني وفي هذا الدرس إن شاء الله سنشرح هذا القسم من كتاب نافع جداً، ألا وهو: (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) للعلامة الفقيه المجتهد المحدث الأصولي محمد بن علي الشوكاني، وأنا أركز هذا على الوصف لأبين أن رفعة القوم هي كما بين ابن رجب في القواعد وغيره، حيث قال: أشرف الناس على الإطلاق هم أهل العلم، وأهل العلم طبقات، وأول هذه الطبقات وأرفعها هم الفقهاء المحدثون الذين انشغلوا بعلم الفقه وعلم الحديث، ولذلك ترى أن أرفعهم وأقواهم ورأسهم هو الإمام الشافعي، فقد كان يقول الإمام أحمد عنه: رأس السنة أو ناصر السنة هو الإمام الشافعي. فكان الشافعي وأحمد ومالك ممن انشغلوا بالفقه والحديث، فكانوا أرفع الناس، وكان خاتمة هؤلاء هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد سبقه ابن دقيق العيد؛ لأن ابن دقيق العيد أيضاً كان محدثاً فقيهاً أصولياً، فأقول: وعلى الدرب والركب كان إمامنا ومصنف هذا الكتاب الذي نتحدث عنه وهو كتاب الإمام العلامة الفقيه المجتهد المفسر المحدث الأصولي البارع محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني، ثم الصنعاني، وقد ولد في ذي القعدة سنة (1172هـ) باليمن، فحفظ القرآن الكريم وجوده، ثم حفظ عدداً كبيراً من المتون والمختصرات في فنون متعددة، وهنا أقول: لابد لطالب العلم أن يبدأ بالقرآن، فهذا هو دأب الصالحين ودأب علماء السلف، فقد كان الأعمش وغيره في مجالس العلم إذا جلسوا في مجلس التحديث وجاء الذي يكتتب -أي: أنه حضر وحمل عن هذا العالم- يسأل أولاً: هل حفظت القرآن؟ فإذا قال: لا. قال: ارجع فاحفظ القرآن ثم ائت مجالس الحديث، فإذا حقق القرآن جاء فقيل له: هل تعلمت المواريث؟ والاهتمام بهذا العلم نادر، ولهذا كان أول العلوم اندراساً هو علم المواريث، فإذا قال: لا، قال: وتجلس مجلس التحديث؟! ارجع فتعلم علم المواريث ثم ائتنا، فيرجع فيتعلم علم المواريث، ثم يجلس في مجلس التحديث، ولذلك ترى أنه ما من فقيه أو محدث أو عالم تقرأ في ترجمته في سير أعلام النبلاء أو غيره إلا ويقول: حفظ القرآن صغيراً، حفظ القرآن حدثاً، فكانوا يهتمون أولاً بالقرآن، وقد كانت مصر عامرة بالخير في الكتاتيب، فكان أهم شيء للولد الصغير أن يذهب ليحفظ القرآن ويختمه، ثم بعد ذلك يظهر نبوغه بعد حفظ القرآن، وإمامنا أيضاً من الصغر ومن حداثة السن كان يحفظ القرآن، ثم كان يحفظ المختصرات في فنون متعددة. هذا الإمام العلم -بإيجاز- كان إماماً بارعاً في علم الحديث، وكان هو الغالب عليه، ولذلك له شروحات كثيرة في علم الحديث، أقواها وأرفعها هو: (نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار)، وهو كتاب بديع جداً؛ ترى فيه قوة عارضة هذا العالم الرباني، وهذا الفقيه المحدث الأصولي، فتراه يأتي بالأقوال ويبين لك، لكنه كثيراً ما يتبع الحافظ ابن حجر، وكثيراً ما ينقل عن الحافظ ابن حجر؛ لأن بعضهم اتهم الشوكاني أن كل كتبه حجم مصغر من كتب الحافظ ابن حجر، وهذا سوء أدب مع الشوكاني، فإن الشوكاني كان مجتهداً بارعاً، بل كان اجتهاده اجتهاداً مطلقاً لا اجتهاد مذهب، لكنه كان كثيراً ما يعول في التصحيح والتضعيف على الحافظ ابن حجر وينقل كثيراً من أقواله. المقصود: أن من أروع ما كتبه في فقه الحديث هو كتاب (نيل الأوطار)، وهو من أوسع الكتب، حتى إنه بعدما صنف هذا الكتاب اشتدت همته على أن يشرح كتاب صحيح البخاري، فلما فتح (فتح الباري) ووجد البحر الذي لا ساحل له للحافظ ابن حجر قال الكلمة المشهورة: لا هجرة بعد الفتح. أي: لا أحد يستطيع أن يتقدم بين يدي الحافظ ابن حجر. وله أيضاً كتاب ماتع في أصول الفقه، وهذا الكتاب وإن كان يعتبر كتاباً مقارناً في الأصول وليس أصول مذهب، لكنه من أمتع الكتب التي يمكن أن يطلع عليها طالب العلم في أصول الفقه، واسم هذا الكتاب: (إرشاد الفحول)، وقد سماه بذلك من أجل أن يبين أن هذا الكتاب من عظم تصنيفه أنه للفحول فقط. وله كتب أخرى في الفقه منها كتاب: (السيل الجرار) وهذا الكتاب يتكون من أربعة أجزاء، وهو كتاب ماتع جداً، لكن أخذ على الشوكاني أنه كان فيه شيء من الميول لـ علي بن أبي طالب، فكان يرجح ما رجحه أبو حنيفة وغيره، وكان يرى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه أفضل من عثمان، وهذا مخالف لما أجمعت عليه كلمة المهاجرين والأنصار، وهو ترتيب الأربعة في الفضل بنفس ترتيب الخلافة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.

شرح البسملة

شرح البسملة وقد استفتح الكتاب أولاً بالبسملة، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين، ثم قال: أحمدك لا أحصي ثناءً عليك. قوله: (باسم الله الرحمن الرحيم) بينا كثيراً في كل الكتب أنها من روائع البيان، فما من مصنف إلا ويقتدي بكتاب الله ويقتدي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويتأدب بين يدي الله، بأن يتقدم بين يدي أي مصنف بالبسملة. وقوله: (باسم الله)، التقدير أستعين أو أصنف باسم الله، والاسم: إما مشتق من السمو وهو العلو، وهو في حق الله حق، أو مشتق من السمة وهي العلامة، وأيضاً أسماء الله جل في علاه أعلام على ذات الله وأوصاف لها كمالات. (الله)، هو الاسم الأعظم لله جل في علاه، وقد بينا ذلك مراراً فلا عودة له. قوله: (الرحمن الرحيم) هذه أسماء من أسماء الله جل في علاه، وكل اسم من أسماء الله يتضمن صفة كمال، فهما اسمان من أسمائه الحسنى؛ لأنهما علامة على ذات الله جل في علاه، فيدل على ذات الله ويتضمن صفة كمال وجلال، فالرحمن: يتضمن صفة الرحمة، والرحيم يتضمن صفة الرحمة، والله يتضمن: صفة الإلهية، والإله: هو الذي تألهه القلوب، فهو المألوه، أي: المعبود بحق. والفرق بين: (الرحمن والرحيم) أنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، والرحمن هو رحمان الدنيا، والرحيم هو رحيم الآخرة، فاسم (الرحمن) عام للمؤمنين والكافرين، وأما (الرحيم) فهو خاص بالمؤمنين، والدليل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب:43] ولم يقل: رحمان، وإنما قال: ((رَحِيمًا)) فخصها بالمؤمنين.

معنى الحمد

معنى الحمد ثم حمد الله جل في علاه، وأحق من يحمد هو الله جل في علاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أحد أحب إليه الحمد من الله). والحمد هو: الثناء الحسن على ذات الله جل في علاه.

معنى الاستغاثة والاستعانة

معنى الاستغاثة والاستعانة ثم ابتدأ المصنف بالكلام على أحكام الاستعانة والاستغاثة، وهذه معان من معاني توحيد الإلهية. والاستغاثة في اللغة: مشتقة من الغوث، والغوث هو: الطلب من الله جل في علاه، أو نقول: طلب إزالة الضر ورفع الحرج، أو نقول: الاستغاثة: مصدر استغاث، والسين والتاء دائماً في اللغة تكون للطلب، فالاستعانة هي: طلب تفريج الكربات. والاستغاثة شرعاً كما قال شيخ الإسلام: هي الطلب من الله لتفريج الكرب وإزالة الشدة، أو تفريج الكربة وإزالة الشدة. قال الحليمي - وهو شيخ البيهقي -: إن المغيث من أسماء الله الحسنى، والمغيث معناه المجيب للملهوف. وفي هذا نظر؛ لأن أسماء الله تعالى توقيفية، لابد لها من دليل من الكتاب أو السنة، ولم نجد دليلاً في الكتاب ولا في السنة بأن المغيث اسم من أسماء الله جل في علاه، وأما إذا احتج أحد بقول العامة: يا غياث المستغيثين! فنقول: هذا إما خبر عن الله، وإما صفة من صفات الله جل في علاه بتفريج الكربات ورفع الزلات، ونقول: إن المغيث ليس من أسماء الله جل في علاه.

العلاقة بين الاستغاثة والدعاء

العلاقة بين الاستغاثة والدعاء والعلاقة بين الاستغاثة وبين الدعاء علاقة عموم وخصوص، فالاستغاثة تندرج تحت الدعاء، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ إذ أن الدعاء: طلب من الله لجلب منفعة ودفع مضرة، أما الاستغاثة فهي: طلب من الله لدفع مضرة. إذاً: لو رسمت دائرة في الدعاء، فستجد أنه إما دفع مضرة أو جلب منفعة، ولا بد للدائرة الصغيرة أن تحتويها الدائرة الكبرى، فالاستغاثة جزء من الدعاء، فلك أن تقول: العلاقة بينهما علاقة عموم وخصوص، أو قل: الدعاء أعم من الاستغاثة؛ فكل مستغيث داع ولا عكس؛ لأن المستغيث يدعو بدفع الضر، لكن الداعي قد يدعو بجلب النفع ولا يدعو بدفع الضر.

منزلة الاستغاثة من العبادة

منزلة الاستغاثة من العبادة والاستغاثة لها منزلة عظيمة من العبادة، والله جل في علاه خلق الخلق لحكمة عظيمة ولمهمة جسيمة، ألا وهي: العبادة، كما قال جل في علاه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]. وقال الله جل في علاه في بعض الأحاديث وبعض الآثار -وهذه الآثار ينظر في أسانيدها-: (عبدي خلقتك للعبادة فلا تلعب). وهذه الآثار قد يتسامح في أسانيدها، ويشهد لها كثير من الآثار والأحاديث الصحيحة، فالمهمة الجسيمة التي خلق الله الخلق من أجلها هي العبادة. وللعبادة ركنان: الركن الأول: غاية الذل، والركن الثاني: غاية الحب، فإن انفك ركن من هذه الأركان، كأن يأتي أحد بالعبادة ولم يكن عابداً لله جل في علاه، فإنها لا تقبل منه، بل لا بد أن يأتي بالركنين تامين. والاستغاثة من الركن الأول، بل هي قلب الركن الأول، بل هي أساس وأصل الركن الأول، فالاستغاثة هي الذل التام لله جل في علاه، فلما كانت هذه منزلة الاستغاثة من العبادة سارع إليها أخيار الناس وأفضل البشر على الإطلاق وهم الأنبياء، قال الله تعالى مبيناً تضرع وتذلل واستغاثة أنبيائه وأصفيائه من خلقه: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [الأنبياء:83 - 84]. وقال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنبياء:87] متمسكناً متضرعاً مستغيثاً بالله جل في علاه: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. وإبراهيم عندما أضرموا النار وألقوه فيها استغاث بربه جل في علاه وقال: (حسبنا الله ونعم الوكيل). فهذه من أجل العبادات، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم له الحظ الوافر والنصيب الأكبر في هذه العبادة، ففي كل المواقف ترى النبي صلى الله عليه وسلم يتذلل لربه جل في علاه، ففي غزوة بدر سقط الرداء من على كتف رسول الله وهو يتذلل ويستغيث بربه جل في علاه، ويقول: (اللهم وعدك الذي وعدتني، اللهم أنجز لي وعدك الذي وعدت). ولما اشتد الجدب على الناس، ودخل الأعرابي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بالناس، فقال له: (هلك العيال، أو قال: هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم مستغيثاً بربه: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا). فالعبد الكامل في العبودية هو الذي يضع خده على التراب متذللاً لربه جل في علاه، متضرعاً عندما تنزل به الملمات وتلتئم عليه الكربات، فيتذلل لربه جل في علاه مستغيثاً به لا مستغيثاً بغيره، وهذه هي منزلة الاستغاثة من العبادة، وأصل ركن العبادة التذلل، والاستغاثة هي أم التذلل، فهذه هي منزلة الاستغاثة من العبادة.

الأدلة التي تبين أن الاستغاثة عبادة لله تعالى

الأدلة التي تبين أن الاستغاثة عبادة لله تعالى وإذا قلنا بأن الاستغاثة هي عبادة فما الدليل من الكتاب والسنة على أنها عبادة؟ لأن الأصل في العبادات التوقيف، ولا بد لها من دليل من الكتاب أو من السنة، فكل عبادة ثبتت بالشرع أنها عبادة فصرفها لغير الله شرك. أما الدليل على أن الاستغاثة عبادة لله جل في علاه: فقد قال الله تعالى مادحاً عباده بأنهم يتقربون إليه بالوسيلة، وأيضاً قال ماناً عليهم بكرمه وبحوله سبحانه جل في علاه: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال:9] لأنكم تضرعتم وتذللتم واستغثتم بربكم، فقد أتيتم بما عليكم من التذلل، {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} منة وكرماً منه جل في علاه. أما من السنة: ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال -وهو يخطب بالناس-: (اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا). وهذه سنة فعلية تبين أن الاستغاثة عبادة قولية وفعلية، فهي فعل من النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً. فإذا ثبت أن الاستغاثة عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك.

أقسام الاستغاثة

أقسام الاستغاثة والاستغاثة تنقسم إلى أقسام ثلاثة: استغاثة توحيد أو محض توحيد، واستغاثة محض شرك، واستغاثة وسط، وهي استغاثة مباحة حتى تميز بين ما يكون توحيداً وبين ما يكون شركاً، وبين ما يكون فيه الإباحة. فالقسم الأول: استغاثة توحيدية، وهي أن تستغيث بالله جل في علاه إذا نزل بك الكرب، ونزلت بك الملمات، وتتذلل لربك جل في علاه، فهذه استغاثة توحيدية تصرفها لله جل في علاه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل إبراهيم وفعل داود وفعل أيوب وفعل أنبياء الله جل في علاه، فقد صرفوا الاستغاثة هذه لله وحده لا شريك له. إذاً: فالاستغاثة الأولى هي: استغاثة توحيدية، وهي التي يصرفها العبد لله جل في علاه، فيتذلل لربه، ويطلب الحاجات من ربه جل في علاه فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا قيد مهم. القسم الثاني: استغاثة شركية، وهي أن يطلب العبد من غير الله رفع الحرج، وإزالة الضر فيما لا يقدر عليه إلا الله، فهذه استغاثة شركية، وهذه تنبثق من قاعدة قعدها شيخ الإسلام ابن تيمية وهي: كل من أنزل مخلوقاً منزلة الله جل في علاه فقد كفر، أو من أنزل الخالق منزلة المخلوق فقد كفر. وعندما ننظر في هذه القاعدة وننظر في القسم الثاني من الاستغاثة الشركية نرى أنها طلب الغوث وطلب النصر وطلب العون من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله جل في علاه، فإذا قام عبد وقال: الغوث يا بدوي! أو قال: الغوث يا عبد القادر الجيلاني! أو أنقذني أو أغثنا أو أنزل المطر يا بدوي فهذا قد استغاث استغاثة شركية؛ لأن إنزال المطر لا يقدر عليه إلا الله، فإذا طلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله فقد وقع في الشرك؛ لأنه صرف عبادة لا تكون إلا لله جل وعلا، فهذا نوع من أنواع الشرك، وهو شرك محض وحده، فإذا صرف الاستغاثة لغير الله بأن طلب من الميت أو طلب من الحي ما لا يقدر عليه إلا الله فقد صرف العبادة إلى غير الله، فوقع في الشرك. وينضم إلى ذلك أنه إذا طلب الاستغاثة من غير الله جل في علاه فيما لا يقدر عليه إلا الله فقد اعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله، فإذا قال للبدوي: اشف مريضي! فقد صرف العبادة لغير الله، وأيضاً لا يمكن أن يذهب إلى القبر ويقول للبدوي: اشف مريضي! إلا وهو يعتقد أن البدوي له القدرة على شفاء هذا المريض، وهذا شرك أيضاً في الربوبية، فيصير هذا الذي طلب أو صرف الاستغاثة لغير الله واقع في الشرك من وجهين: الوجه الأول: الشرك في الإلهية؛ لأنه صرف العبادة التي ثبتت بالشرع أنها عبادة لغير الله؛ فاستغاث بغير الله أو طلب أو دعا غير الله. الوجه الثاني: الشرك في الربوبية؛ لأنه اعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله. القسم الثالث: الاستغاثة المباحة، وقد جاء الشرع ليبين إباحتها، وهي الاستغاثة من البشر أو من الحي القادر الحاضر فيما يقدر عليه، فنجمعها في القاعدة الوجيزة (حي حاضر قادر)، فهذه جاءت جوازها من الكتاب ومن السنة: أما من الكتاب: فقد قص الله علينا قصة موسى عليه السلام عندما دخل المدينة على حين غفلة من أهلها: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15]، فهذا دليل على الاستغاثة المباحة، فقد استغاث الرجل الذي من شيعة موسى بموسى، وأغاثه موسى، وهذا دليل يستدل به العلماء على جواز الاستغاثة بالحي الحاضر القادر، ووجه ذلك من قوله: (فوكزه). وعلى هذا فيباح للعبد أن يستغيث بغيره لينفعه، وهناك أدلة عامة وأدلة خاصة، فالأدلة العامة كقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه). فإذا استغاث أحد بأخيه فأغاثه فله ذلك، وليس من الشرك بحال من الأحوال، بل يمكن أن يكون من التوحيد. والاستدلال الخاص هو بقول الله تعالى: {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى} [القصص:15]، فكيف استقى العلماء من هذا الدليل إباحة الاستغاثة بالحي الحاضر القادر؟ A وجه الدلالة من هذه الآية قوله: ((فَقَضَى عَلَيْهِ)) فقد استجاب موسى عليه السلام له، ولأن موسى عليه السلام أبو الموحدين، وهو الموحد الأكبر في عصره، ويدل على ذلك أن قومه قالوا له: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] فأنكر عليهم، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع ذلك قال: (الله أكبر قلتم مثلما قال قوم موسى). فكل نبي هو أبو الموحدين في عصره، فلو كانت الاستغاثة هذه من الشرك لأنكرها موسى، لكن موسى أقرها، بل من دواعي الإقرار أنه قضى على الآخر فأغاث المستغيث. والله جل وعلا لا يقص قصة فيها إنكار إلا وينكرها، ولا يقص قصة وفيها إقرار إلا ويقر ذلك. مثال ذلك: الإقرار بملكة سبأ، كما قال تعالى حاكياً عنها: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} [النمل:34] فمن الذي قال: ((وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ))؟ قاله الله، فأقرها على ذلك. وكقوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] فهذا إنكار على النبي صلى الله عليه وسلم، وكقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2] والإنكار على نوح واضح جداً في قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود:46]. إذاً: فالله جل وعلا لا يقر على باطل بحال من الأحوال، بل لابد أن ينكر، وإذا كان حقاً أقره الله، وهنا قص الله علينا قصة موسى وقصة المستغيث بموسى وأقره، فهذه الآية دلالة واضحة جداً على أن الاستغاثة بالحي الحاضر فيما يقدر عليه مباحة، والله جل وعلا أقرها. أما من السنة: ففي السنن: أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه كان قد تعب كثيراً من منافق فقال للناس: (قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم). وهذا الحديث فيه ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث، فالسند فيه ضعف لكنه مما يستأنس به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا يستغاث بي، بل يستغاث بالله جل في علاه). وهذا الحديث عجيب! لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أبي بكر فقال: (إنه لا يستغاث بي، بل يستغاث بالله جل في علاه). ومع ذلك يحتج المصنف بهذا الحديث على أنه يجوز أن يستغيث المرء بالحي الحاضر القادر، فما وجه ذلك؟ وجه ذلك: أنه علم أولاً من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستغاثة بالحي الحاضر القادر فيما يقدر عليه أنها مباحة، لكن توجيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لا يستغاث بي)، أن هذا فيه سد الذريعة، فهو يعلم الناس ألا يقولوا ذلك، كما أنكر على من قال: ما شاء الله وشئت، نعم فالمرء له مشيئة، والله جل وعلا جعل له مشيئة، لكن سداً للذريعة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقل ذلك، أجعلتني لله نداً؟ قل: ما شاء الله ثم شئت). فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يعلمهم أن الأصل في الاستغاثة أن تكون بالله جل في علاه. أما بالنسبة للتي يقدر عليها الإنسان الحي الحاضر فله أن يستغيث به، فمثلاً: رجل كاد أن يغرق في وسط البحر فوجد سفينة وعليها الركبان، فقال لأحدهم: أغثني أغثني أغثني، فقوله جائز ولا شيء عليه. كذلك رجل كان من القراء يعالج بالقرآن، ويأخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما أدراك أن الفاتحة رقية؟ اضربوا لي معكم بسهم). فكان ينفع الناس بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل). فيقرأ على المصروع، وعنده جيوش جرارة من الجن المسلمين الفقهاء والمحدثين والمجاهدين، وفي ذات مرة وقع في ضائقة فنادى على جني منهم يعرفه باسمه، وكان يستعين به؛ استدلالاً بقول شيخ الإسلام ابن تيمية، فنادى عليه فقال: أنقذني مما أنا فيه، فما هو حكمه مع قول الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6]؟ وكيف ترد عليه وهو يستغيث بغير الحي الحاضر. فالجواب: أنه استغاث بغائب، فلا يمكن أن نقول: إن هذه استغاثة مباحة، بل هي استغاثة شركية، وهذا هو الراجح والصحيح. أما كلام شيخ الإسلام بجواز الاستعانة بالجن بدليل قصة عمر بن الخطاب فنقول: أولاً: القصة ليست صحيحة. ثانياً: نقول: هذا غائب، فكيف يستعين بالغائب؟ فلا يجوز بحال من الأحوال، فهذه استغاثة لا تصح. كذلك رجل كان في بلد وأخوه في بلد آخر فاتصل به بالهاتف، وقال: إني في ضائقة فأغثني، فهذه استغاثة مباحة جائزة؛ لأنه في أمر قادر عليه، وهو حي قادر حاضر، ولو كان غائباً، لكنه في حكم الحاضر. كذلك رجل قام في السحر فصلى، فتذكر أن الله جل في علاه يبعث ملائكة سياحين في الأرض ينظرون لمن يقومون الليل، وهم يستغفرون للمؤمنين، فبعدما قام في السحر وبكى في الدعاء، نظر يمينه ويساره وقال: تحوطني الآن الملائكة، فتكلم مع الملائكة فقال: إني في ضر فأغيثوني، يعني بذلك الملائكة فما حكمه؟ فالجواب: أن هذه استغاثة شركية؛ لأن الملائكة غائبون عن الرؤية كالجن تماماً. ولذلك قال العلماء: من طلب من ملك مقرب أو نبي مرسل أو من مقبور أو ولي صالح شيئاً مما لا يقدر عليه إلا الله جل في علاه فقد وقع في الشرك، ولو طلب ما يقدرون عليه فقد وقع في الشرك؛ لأنه طلب من غائب ولي

الاستعانة

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - الاستعانة بعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بشريعة تُعَبِّد العبد لربه عز وجل، فدعا إلى التوحيد ونبذ الشرك، ومن التوحيد: استعانة العبد بربه عز وجل في كل أموره، وهذا هو دأب الأنبياء والصالحين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والاستعانة عبادة لا يجوز صرفها إلا لله عز وجل، وصرفها لغير الله عز وجل يوقع العبد في الشرك والعياذ بالله.

الأمن التام في الدنيا والآخرة لمن آمن ولم يلبس إيمانه بظلم

الأمن التام في الدنيا والآخرة لمن آمن ولم يلبس إيمانه بظلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد بوب البخاري في صحيحه، باب: العلم قبل العمل، واستقى هذا التبويب من قول الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]. فأول العلوم وأشرفها هو علم التوحيد، وشرف العلم مستقى من شرف المعلوم، وليس أحد أشرف من الله جل في علاه، وقد بينا بأنها من فروض الأعيان على كل إنسان أن يعبد الله بالتوحيد الذي لا يشوبه أي شرك، وأن الله جل في علاه أناط الفلاح التام والهداية التامة والأمان التام بالتوحيد الكامل التام الذي لا يشوبه أي شرك. قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] أي: بشرك. ((أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)). فإذا أتى العبد بالتوحيد التام كان له الأمن التام والهداية التامة، وكلما نقص من هذا التوحيد نقص الأمن والأمان، والهدى والاهتداء، والأمن يكون في الدنيا وفي الآخرة، وكذلك الاهتداء يكون في الدنيا وفي الآخرة، أما الأمن في الآخرة فهو معلوم، إذ أن الله جل وعلا لا يجمع لعبده بين خوفين ولا أمنين، فمن خافه في الدنيا وأتى بالتوحيد التام فله الأمن التام في الآخرة، لكن كيف يكون له الأمن في الدنيا، والدنيا بأسرها تجتمع على من قال لا إله إلا الله، ويعاديه كل من لم يعرف حقيقة الإسلام، فأين هو الأمن في الدنيا، ونحن نقول: قال الله تعالى: ((أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ))؟! وكلمة: (الأمن) معرفة بالألف واللام تفيد العموم، أي: الأمن في الدنيا والأمن في الآخرة، بل كثير من الذين التزموا دين الله جل في علاه ابتلوا بتسليط الكفرة والفجرة والفسقة، فأين الأمن التام؟ فلا بد من توجيه لحل هذا الإشكال. فنقول: إن الأمن أمنان: أمن معنوي، وأمن حسي، أو أمن قلوب، وأمن أبدان. فأما في الآخرة فأمن القلوب وأمن الأبدان يتحصل عليه الذي أتى بالتوحيد الكامل الذي لا يشوبه أي شرك، وأما في الدنيا فيتحصل له أمن القلوب دون أمن الأبدان، أو دون الأمن الكامل للأبدان، ويجلى لنا ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية عندما قال: ماذا يريد أعدائي بي؟ إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني فنفيي سياحة، وإن سجنوني فسجني خلوة. ثم قال: جنتي في قلبي. وهنا الأمن التام، فأنت عندما يتسلط العدو على رقبتك فإنه لا يستطيع أن يدخل الكفر في قلبك، ولا أن يزعزع الإيمان في قلبك، فمن أتى بالتوحيد دون أن يشوبه الشرك، فليعلم أن الله جل وعلا قد ضمن له التثبيت في قلبه، أو تثبيت الإيمان والإسلام في قلبه، نسأل الله جل وعلا أن يثبت الإيمان في قلوبنا حتى نلقاه.

تعريف الاستعانة

تعريف الاستعانة تكلمنا فيما سبق عن قسم التوحيد الذي من أجله أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وجعل السيف القاطع البتار بين الصفين، وجعل الجنة والنار، ألا وهو: توحيد الإلهية، وتكلمنا أيضاً عن الاستغاثة، وقلنا: إن الاستغاثة بغير الله شرك، وصرفها لله جل في علاه من التوحيد الكامل. وسنتكلم بمشيئة الله تعالى عن الشق الثاني الذي ابتدأ به المصنف وهو: الاستعانة، والاستعانة في اللغة: من العون، وهي المظاهرة على الشيء أو طلب العون من الغير، تقول: استعنته، أي: طلب إعانته، ونقول: يقول محمد لزيد: أستعين بك في قضاء حوائجي عند نكاحي، أي: يطلب عونه عند النكاح، سواء العون المادي أو العون المعنوي، فيدفعه دفعاً إلى أن يعينه في أمور النكاح، سواء بالمال، أو بالجهد، أو بغيرهما من الأمور الحسية والمعنوية. وفي الاصطلاح كما قال شيخ الإسلام: الاستعانة: طلب العون. وهناك قاعدة في اللغة وهي: أن زيادة السين والتاء في الاسم تكون للطلب، فنقول: الاستعانة: طلب العون من الرب الجليل، لدفع الضر أو جلب المنفعة أو تثبيت الدين، فالكل ينزل تحته. والفرق بين التعريف اللغوي والتعريف الشرعي: أن التعريف في الشرع أخص من التعريف في اللغة، إذ التعريف في الشرع طلب العون فقط من الله، وهذه فيها إشعار بأن الطلب من غير الله شرك.

استعانة الأنبياء والصالحين

استعانة الأنبياء والصالحين إن الاستعانة لب العبادة، لذا قال فيها شيخ الإسلام ابن تيمية: هي نصف الدين؛ لأن الدين نصفان: نصفه عبادة، ونصفه استعانة على العبادة، وقد استقى شيخ الإسلام هذا الكلام البارع من قول الله تعالى في فاتحة الكتاب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] بهذا الشطر الأول. ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) أي: أننا لا نستطيع عبادتك إلا بالاستعانة بك، ولذلك قال: الاستعانة نصف الدين، أو هي شطر الدين. والاستعانة لها منزلة عظيمة جداً، لأنها والتوكل شيء واحد أو صنوان، والخلاف بينهما طفيف، والعبد بالاستعانة يدخل في غمار التوحيد، فتفتح له أنوار المعارف في آثار أسماء الله الحسنى وصفاته العلى؛ لأن العبد الذي يستعين بربه أولاً لا بد أن يكون قد استيقن في قلبه أن الرب الذي هو فوق العرش ويعلم ما نحن عليه هو القادر المقتدر القدير، الرب الجليل الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فبيده قلوب العباد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء) فهو دائماً كان يدعو: (اللهم يا مقلب القلوب) ويستعن بالله بالدعاء: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). ويعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا شيء يتحرك في الكون إلا بإرادة الله جل في علاه، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، فلما استيقن هذا اليقين في ربه، دعاه هذا اليقين إلى أن يحسن الظن بالله، ويستعين بالله جل في علاه، وهذا هو دأب الصالحين، ودأب خيار الناس، ودأب الصلحاء من البشر الذين استعانوا بربهم على إقامة الدين، وهؤلاء البشر هم الأنبياء والمرسلون الذين استعانوا بربهم، وأجلوا لنا هذه العبادة الجليلة. فهذا خطيب الأنبياء شعيب عليه السلام كان يقول: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88]، وأيضاً قال شعيب أو صالح: {فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ} [يونس:71]، وأيضاً قال نوح: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71] فهو عليه السلام قد صدر كلامه بأنه توكل على الله جل في علاه، واستعان بربه جل في علاه. وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان أكثر ما يكون في حياته اليومية أنه يستعين بالله في نشر دين الله جل في علاه، وكان دائماً يقول كما في الترمذي بسند صحيح: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي جاءه فقال: (لا تقصر علي، أعطني نصيحة لا أسأل عنها أحداً بعدك. قال: اجعل لسانك رطباً بذكر الله)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا تراه إلا وهو يحرك لسانه ذكراً لله جل في علاه، حتى أنه إذا دخل الخلاء حرك لسان قلبه وليس العضو المعروف، وعند خروجه كان دائماً يقول: (غفرانك). وقد أولها بعض العلماء فقال: إنه كان يقول: إنه ليغان على قلبي. أي: يجد مشقة، لأنه لم يذكر اسم الله جل في علاه عند قضاء الحاجة، مع أن قلبه يستحضر ذكر الله جل في علاه. (اللهم أعني على ذكرك وشكرك) إذ الشكر من أهم العبادات التي يتقدم بها العبد لله جل في علاه، وإن ربك يحب من العبد أن يشكره كما صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل الأكلة أو شرب الشربة أن يحمد الله عليها). وإن الله قد امتن بالمدح على نوح عندما قال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء:3]، فما من نبي إلا وهو يتذلل لله خضوعاً وشكراً لعبادته، (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وهذه فيها لفتة جميلة وهي: أنه لم يقل: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وعبادتك. وإنما قال: (اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، ولذلك قال الله تعالى: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]؛ لأن حسن العبادة أن يؤدي العبد الإخلاص التام لله جل في علاه قدر استطاعته، وبعد هذا الإخلاص والعبادة التامة يستغفر الله عليها، لذلك فما من نبي وما من صالح إلا قد استعان بالله على طاعة الله، وترى أن العبد المتيقن بربه، الفقيه الأريب المسدد الموفق يعلم أنه ما من نعمة وما من عبادة وفق فيها وسدد إلا بالله، قال الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] وأجل هذه النعم الذل لله جل في علاه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (قال الله تعالى: يا عبادي! من وجد خيراً فليحمد الله، ومن جد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه). فكل صالح وكل عبد بر لله جل في علاه يستعين بالله على عبادة الله جل في علاه، ولا يمكن لعبد أن يتقرب إلى ربه إلا بالله جل في علاه, ولا يمكن لطالب علم أن يطلب العلم إلا بالله، ولا يمكن لمستغفر أن يستغفر إلا بالله، ولا يمكن لمجاهد أن يجاهد إلا بالله جل في علاه، فإذا أقفل الله الباب عن العبد، ولم يوفقه، فلا يمكن له أن يتعبد لله جل في علاه، وإذا فتح الله جل وعلا الأبواب على مصراعيها لعباده، فاستعانوا به وصلوا إلى ربهم جل في علاه، {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} [الليل:5 - 9].

الإستعانة عبادة بالكتاب والسنة

الإستعانة عبادة بالكتاب والسنة إن الاستعانة عبادة، وهي نصف الدين، ووجب علينا تأصيلاً أن نبين من الأدلة الشرعية كيف تكون الاستعانة عبادة، وهل هي بالأهواء؟ وهل هي بالبدع والضلالات، أم هي بالآثار؟ فنقول: إن الأصل في العبادة أنها توقيفية، ومعنى توقيفية: أننا لا نعبد الله إلا بالسماع، والسماع لا يكون إلا من الكتاب أو السنة، ولا نقول: زيادة الخير خير، كما قال الرجل للإمام مالك عندما أراد أن يحرم من قبل الميقات، فقال له مالك: لا تفعل. قال: ولم لا أفعل، فزيادة الخير خير. فقال له الإمام: أخشى عليك من قول الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63]. فأنت قد تقدمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بِفعْلَه قصر عنها عليه الصلاة والسلام. إذاً: التوقيف في العبادة: أن تقف عند ما أمر الله، إذ المشرع هو الله. وهنا Q هل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرع أو ناقل للشرع؟ و A أن المسألة على خلاف بين أهل الأصول، فبعضهم يقول: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون مشرعاً، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] و (الأمر) هنا بمعنى: التشريع، فكما حصر الخلق له فقد حصر التشريع له جل في علاه، وقوله تعالى مبيناً وظيفة النبي صلى الله عليه وسلم: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40]، وقوله: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [النور:54]، وقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67]. فهذه الأدلة كلها تتظافر وتبين لنا بأن النبي صلى الله عليه وسلم ناقل للشرع مبلغ فقط عن الله جل وعلا. وبعض الأصوليين قالوا: لا، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه الله حق التشريع، وعندنا أدلة على ذلك، منها: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مع ابن أم مكتوم، وذلك عندما تجنبه وذهب يدعو كبراء قريش، لعل الله أن يهديهم للإسلام، أيضاً: عندما مال النبي صلى الله عليه وسلم إلى كلام أبي بكر رضي الله عنه في شأن أسرى بدر، كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما حرم رسول الله كما حرم الله) أي: أنه تحريم جاء من الله جل في علاه. فهذه أقوال أهل الأصول في المسألة، والصحيح والراجح أنه صلى الله عليه وسلم ناقل للشرع وليس له أن يشرع، لكن له أن يجتهد في الأحكام، ولا يوافق على الاجتهاد الذي أخطأ فيه كما بينا في هذه الوقائع، فهذه اجتهادات من النبي صلى الله عليه وسلم وما أقره الله جل وعلا عليها، قال تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى} [عبس:1 - 2] وعاتبه بقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} [التوبة:43] وغيرها من الاجتهادات التي اجتهدها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقره الله عليها. وعلى هذا فالأصل في العبادات التوقيف، أي: نسمعها من النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي الذي أنزل عليه من عند ربه جل في علاه، وإذا كانت العبادات الأصل فيها التوقيف، إذاً لابد من أدلة على أن الاستعانة عبادة، والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة: قال الله تعالى في افتتاح السورة التي لا يتركها أحد في صلواته: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] إلى أن قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فهذه دلالة على أن الاستعانة عبادة، فإذا قلت: عبادة فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك، أيضاً قال الله تعالى في سورة يوسف عن يعقوب أنه قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] فاستدل أهل العلم أيضاً بهذه الآية على أن فيها دلالة على أن الاستعانة عبادة. وأما من السنة النبوية فقد جاء في صحيح مسلم عن صهيب بن سنان رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز). جاء عند الترمذي وأحمد عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا استعنت فاستعن بالله). فهذه أدلة متوافرة متظافرة تبين لنا أن الاستعانة عبادة. فوجه الدلالة من الآية الأولى: أن الله جل وعلا عطف الاستعانة على العبادة، فدل ذلك على أنهما يشتركان في الحكم، وهو العبادة والتعبد لله بذلك، أيضاً: هذه الآية خبر يراد بها الإنشاء، وكأن الله جل وعلا يقول: استعن بي إن أردت عبادتي، قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فكيف يعبد المرء ربه جل في علاه؟ فقال الله جل وعلا آمراً إياه: استعن بي على عبادتي أعينك كيف تعبدني. أما بالنسبة للآية الثانية: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] فهو قد طلب العون من الله، أيضاً: أن الله أقره على ذلك، كذلك: أن سياق الآية سياق مدح ليعقوب؛ لأنه كان يتعبد لله ويصرف لله هذه العبادة ويقول: أنا أستعين بالله على ما أنا فيه من البلاء، إذ البلاء يستلزم صبر ورضا، والصبر والرضا عبادة، فلا تكون إلا بالاستعانة، فقال: هذا البلاء الذي نزل علي بسببكم الله المستعان عليه، فأنا أستعين بالله لأصبر على هذه البلية ولأرضى بها، فاستعان بالله على هذه العبادة الجليلة. وأما بالنسبة للأحاديث فظاهرة جداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز). فقوله: (استعن) أمر، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم ظاهره الوجوب، والله لا يأمر إلا بما يحب، وما أحبه الله تعالى ينزل تحت مسمى العبادة، والعبادة في الشرع: كل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فإذا أمرك الله بأمر فقد أحب ذلك، وما أحبه الله فهو عبادة. ومثله قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] فقوله: (وأقيموا) أمر، والله لا يأمر إلا بما يحب، وما أحبه الله ينزل تحت مسمى العبادة؛ لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، إذاً: فالصلاة عبادة. ومثله أيضاً قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] فاجتناب الخمر عبادة، وذلك أن اجتناب الخمر يحبه الله تعالى، فترك المنهي عنه يحبه الله جل في علاه، وإذا أحب الله ترك شيء فإن هذا الترك محبوب لله، إذاً: ينزل تحت مسمى العبادة، إذ العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه. ومثله أيضاً: قوله الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6]. فالوضوء عبادة؛ لأن الله قد أمر به، والله لا يأمر إلا بما يحب، وما أحبه الله ينزل تحت مسمى العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (وإذا استعنت فاستعن بالله) فوجه الدلالة من الحديث على أن الاستعانة عبادة من وجهين: الوجه الأولى: أن قوله: (فاستعن) أمر، وهذا أمر من رسول الله، والرسول لا يأمر إلا بما يحب وما يحبه الله، فينزل تحت مسمى العبادة، والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. الوجه الثاني: أن التوحيد هو أن تستعين بالله وحده لا شريك له، فهذا وجه يبين لنا أن الاستعانة عبادة؛ لأنها لا تصرف إلا للمليك المقتدر جل في علاه. إذاً: الاستعانة عبادة ثابتة بالشرع، ونأتي إلى القاعدة التأصيلية في مسائل التوحيد (توحيد الإلهية) وهي: أن كل عبادة ثبتت بالشرع فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك.

أنواع الاستعانة

أنواع الاستعانة النوع الأول: استعانة توحيدية، وهي الاستعانة بالله جل في علاه، ولأنها عبادة كما قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فإن العبد المتقي البار الذي يتعبد لله جل في علاه يسارع بالاستعانة بالله جل في علاه، فالعبد الذي يريد أن يصل إلى العلم أو إلى مبلغ العلم لن يصل إليه إلا بالله جل في علاه، فعليه أن يستحضر {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فالعلم من أجل العبادات، ولن يصل إليه إلا بالاستعانة، فيصرف هذه الاستعانة تذللاً لله جل في علاه، فيستعين بالله في حركاته، في سكناته، في نومه، في قيامه، في ذهابه إلى المسجد، في جلساته، في محضر دروس العلم، في مدارسته مع إخوانه، فهو دائماً يستحضر استعانته بالله جل في علاه، استعانته بالله وهو يقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليفهم ويتدبر ويعقل عن الله مراده، ويعقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مراده، يستعين بالله على نصرة دين الله جل في علاه، فلطالما استعان النبي صلى الله عليه وسلم بالله على نشر دعوة الله جل في علاه. النوع الثاني: استعانة شركية، وذلك إذا صرفت الاستعانة لغير الله، كطلب العون من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، وهذا التقييد لا بد أن تضبطه؛ لأن شيخ الإسلام قد قعد لنا قاعدة فقال: من طلب من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله فقد كفر بالله جل في علاه، لأنه أنزل المخلوق منزلة الخالق. ومن صور شرك الاستعانة كأن يذهب إلى البدوي ويقول: مدد يا بدوي! وهذه مشهورة جداً عند الناس، أو مدد يا عبد القادر الجيلاني! أو مدد يا أم هشام! أو مدد شدي حيلك يا بلد! وهذه المقولة الأخيرة على التفصيل، فإن أخمر فيكون كلامه: مدد يا الله! وشدي همتك يا بلد! وهنا يكون قد أتى بالتوحيد، لأن الأمور بمقاصدها، لكن إن لم يقصد الإضمار فقد وقع في الشرك؛ لأنه طلب العون من غير الله جل في علاه فيما لا يقدر عليه إلا الله، ولأن البلد لا يمكن أن تستعين ببلد أخرى. وأما إطلاقي في الأمثلة الثلاثة الأولى، فلأنهم أموات غير أحياء، فالأموات لا يستطيعون إحياء الجنين في بطن الأم كما زعم بعضهم فقال: إن الأولياء حباهم الله قوة لإحياء الجنين في بطن الأمهات. وهذا القول صاحبه موغل في الكفر والشرك، فالأموات لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، قال الله تعالى على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا} [الأعراف:188] فإذا كان النبي خاصة خلق الله جل في علاه لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وهو في عداد الأحياء، فمن باب أولى الأموات لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية). فإذا انقطع عمله فلا يستطيع لنفسه نفعاً ولا ضراً؛ لأن العمل يزيد في حسناته فلا يستطيع. ومن الأدلة الظاهرة الواضحة على أن الأموات لا يملكون نفعاً ولا ضراً: قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لل للعباس عندما وقع الجدب: كنا إذا أجدبنا توسلنا بدعاء نبينا، فقم يا عباس! وادع الله لنا، فقام العباس ودعا، ولم يذهب هو أو عمر إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أجدبنا فاستسق لنا؛ لأنهم يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك ضراً ولا نفعاً، فهذه دلالة على أن الأموات لا يملكون شيئاً. أيضاً: حديث ظاهر جداً في هذه المسألة أن النبي صلى الله عليه وسلم: (دخل على عائشة فقالت: وارأساه! فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا وارأساه، إن أنتِ متِ صليت عليكِ). أي: غسلتكِ وصليتِ عليكِ ودعوت لكِ، يريد النفع الذي سيصل إلى عائشة من النبي صلى الله عليه وسلم حينما يكون حياً، لكن لو مات فالنبي صلى الله عليه وسلم يبين لها أنه لا ينفعها، لكن لو كان حياً وهي ماتت قبله فأنه سيغسلها ويصلي عليها ويدعو لها. إذاً: الميت لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فإذا ذهب إلى الميت وقال: مدد، أو طلب العون منه فقد وقع في الشرك؛ لأنه طلب يقيناً من غير الله ما لا يقدر عليه إلا الله جل في علاه. النوع الثالث: الاستعانة المباحة، وهذه الاستعانة تجوز، ويمكن للإنسان بنيته الصالحة أن يصل بها إلى مرتقى التوحيد، أو ينزل بها إلى مهبط الشرك والعياذ بالله. وهي: أن يستعين المرء بأخيه أو بأبيه أو بابنه، سواء استعانة دينية أو دنيوية. فالاستعانة الدينية كأن يستعين بمن تقدمه في طلب العلم أن يتعلم منه، أو يستعين بالقارئ المتقن أن يضبط له الحروف ويضبط له القراءات، أو يستعين بمن يأخذ المخطوطات ينسخها فينسخ له ثم يخرج هو الأحاديث، أو يستعين بالمفتي أن يفتي له، أو يستعين بالحاج العالم في مناسك الحج أن يبين له مناسك الحج. وأما الاستعانة في الأمور الدنيوية كأن يقترض قرضاً، أو يأخذ مالاً، أو هبة من أخيه، فهذه الاستعانة تجوز، وليس فيها ثمة شيء. والدليل على ذلك عموم قول الله تعالى: ((وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)) [المائدة:2]، فهذه استعانة أباحها الله جل في علاه في كتابه، وأيضاً عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل). وهذه كأنها أمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء). فهذه أيضاً من باب التعاون على البر والتقوى. إذاً: الاستعانة المباحة هي: استعانة بالآخرين فيما يقدرون عليه، ولا بد من ثلاثة شروط فيمن يستعان بهم: أن يكون حياً حاضراً قادراً، فلو تخلف واحد من الثلاثة فهي استعانة شركية، كأن يستعين العبد بأخيه الميت على أن يقضي له حاجته عند ابن عمه! فهو قد استعان بميت ليس بحي، ولو استعان بالغائب عنه في بلد أخرى لأمر يستطيع أن يعينه عليه في هذه الدنيا، أو في المكان الذي هو فيه، فهذا على التفصيل: إن كان لا يقدر عليه فقد وقع في الشرك، لأنه استعان بغائب، وإن كان يقدر عليه فليس بواقع في الشرك. وهنا مسألة مشهورة وهي: هل يصح الاستعانة بالجن أم لا؟ و A أنه لا يصح؛ لأنه استعانة بغائب، وهذا هو الراجح والصحيح، ولا التفات لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، ولا التفات لما احتج به من حديث المرأة التي سألت أبا موسى الأشعري؛ لأنهم لا يصححون سنده، ولا يأتون أيضاً بسنده، ولا يمكن أن نقبل هذا، ولو كان فعلاً لـ أبي موسى الأشعري فقد خالف في ذلك النصوص الصريحة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الاستعانة بدعاء الصالحين

الاستعانة بدعاء الصالحين الاستعانة بدعاء الصالحين، كأن يطلب الدعاء من رجل صالح، أو ولي من أولياء الله تعالى، فهذه تدخل تحت الاستعانة المباحة. وقد خالف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: إنها على الكراهة. والصحيح والراجح: أن طلب الدعاء من الصالحين الذين لا يفتنون -هذان قيدان مهمان- لا شيء فيه، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سبعون ألفاً من أمتي يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. فقال عكاشة رضي الله عنه وأرضاه: يا رسول الله!) -استعان بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم- (ادع الله أن أكون منهم. فقال: أنت منهم). وأيضاً في حديث آخر: أن عمر استعان بدعاء العباس كما ذكرنا ذلك فيما سبق. كذلك: أن عمر طلب الدعاء من أويس القرني، وهو من التابعين، حتى قال العلماء: خير التابعين على الإطلاق هو أويس القرني. والتابعون هم من الصلحاء، وفيهم فساق، فإذا قلت لي: الحكم للغالب، فنقول: ونحن الآن نقول: الحكم للغالب، فالمسألة مسألة الظاهر؛ فإذا كان ظاهره الصلاح فلك أن تسأله هذا السؤال، وإلا نقول: الأمر فيه تخصيص كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن أن يطلب منه الدعاء؛ وأقر الصحابة عمر بن الخطاب أن يطلب الدعاء من العباس رضي الله عنه وأرضاه، فأنت إما أن تقول: كل من نعيش معه من الفساق، أو ليسوا من الصلحاء، أو لا نعرف صلاحهم، فنقول لك: أبعدت النجعة وهدمت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن عندك دليل صريح عن رسول الله أنه قال: (أمتي كالمطر لا يدري الخير في أولها أو في آخرها) والمطر فيه خير، وقال: (ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم). فأنت تهدم من هذا هدماً قاطعاً، وهذا كلام باطل وفاحش، فالصحيح الراجح أنك تقول: عندنا الأدلة على الاستعانة بدعاء الصالحين، وتنزل منزلة الاستعانة المباحة.

أقسام الناس في الاستعانة

أقسام الناس في الاستعانة الناس في الاستعانة على ثلاثة أصناف: الصنف الأول: أخيار خلص؛ وهؤلاء هم الأنبياء والمرسلون ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، الذين يستعينون بالله على نصرة دينه ونشر دعوته وتعلم العلم ونشره بين الناس، كما كان يفعل الصحابة الكرام: (بلغوا عني ولو آية)، وكما فعل من بعدهم من المحدثين والفقهاء، الدين كانوا يستعينون بالله على تعلم العلم ونصرة الدين. وأذكر قصة طريفة للإمام ابن خزيمة نتبين من خلالها كيف كان السلف يستعينون بالله في قضاء حوائجهم، تقول القصة: إن أربعة نفر من بينهم ابن خزيمة جلسوا في مكان يطلبون العلم ويكتبون الحديث، فإذا جاء الليل ذهب أحدهم لينظر هل هناك طعام وشراب أم لا؟ وبقوا على هذه الحالة ثلاثة أيام لا يجدون طعاماً ولا شراباً، وفي الليلة الرابعة قالوا: لا بد أن أحدنا يسأل الناس حتى يعطوه طعاماً وشراباً لنا، حتى لا نموت جوعاً، فارتجف قلب ابن خزيمة؛ لأنه اعتاد أن يكون طالباً للعلم لا طالباً للمال من الناس، ورفض أن يفعل ذلك، فقالوا: نعمل قرعة، ومن وقعت عليه فيلزمه الذهاب لذلك، فعملوا القرعة فخرجت على ابن خزيمة، فقال: سأذهب، لكن دعوني أصلي لله تعالى، وانظروا إلى الاستعانة الحقة، وإلى اليقين الحق في ربه جل في علاه، فقام يصلي لله جل في علاه فبكى فقال: اللهم لا تعوزني أن أسأل غيرك في هذا الأمر. ثم ما إن سلم وقال: السلام عليكم ورحمة الله إلا ووجدوا الباب يطرق طرقاً شديداً، فلما فتحوا الباب وجدوا الجائزة من السلطان، دنانير ودراهم وأطعمة، وهذا بسبب الاستعانة بربهم جل في علاه، فالأخيار الخلص الذين اصطفاهم الله جل في علاه يستعينون بالله على دين الله جل في علاه، على نشر دين الله جل في علاه، على نصرة دين الله جل في علاه. والفقيه الأريب اللبيب الذي يقول: استعانتي بربي على حفظ القرآن تجعلني أحفظ القرآن لا الإتقان على المشايخ، استعانتي بربي على تحصيل العلم تجعلني أحصل العلم؛ لأن الله جل وعلا ذو فضل عظيم سبحانه جل في علاه. الصنف الثاني: شرار خلص، وهؤلاء الذين لا يعبدون الله ولا يستعينون به، فهم كما وصفهم الله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44] يأكلون ويشربون ويتمتعون وهم أقل من الأنعام، لا يذكرون الله ولا يتعبدون لله ولا يستعينون بالله جل في علاه. الصنف الثالث: قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً: وهؤلاء يخرج منهم فرعان: الفرع الأول: مبتدعة ضالة -وهم أهل عبادة- وهم: القدرية والمعتزلة، فهؤلاء يجتهدون في العبادة لله لكنهم لا يستعينون بالله على أداء هذه العبادة؛ لأنهم يعتقدون أن الله لا يخلق أفعال العباد -والعبادة أفعال تخرج منهم، وهذه الأفعال هم يخلقونها لكنهم لا يمحون فضل الله عليهم كاملاً، فهم يقولون: إن الله خلق لنا آلات نستعين بها على العبادات، كالسمع فنسمع القرآن، ونسمع الأذان فنذهب نصلي، وكالبصر فنقرأ القرآن ونعقل عن الله أوامره، ونقرأ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكالماء خلقه الله لنتوضأ، وكالطعام نستعين به على الطعام، فهم يردون الاستعانة بأنفسهم، وجعلوا أنفسهم خالقين مع الله تعالى، ولذلك قال بعض علمائنا: إن المعتزلة أصحاب أجرة، يقولون: الجنة لنا بأعمالنا وليست برحمة الله جل في علاه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته). فهؤلاء قد ضلوا في باب الاستعانة، فما سددوا وما وفقوا، بل خسروا كثيراً، ونسأل الله جل وعلا أن يهدينا وإياهم سواء السبيل. الفرع الثاني: الذين استعانوا بربهم، لكن ما استعانوا على العبادة، وإنما استعانوا على رغيف العيش، واستعانوا على الدرهم والدينار، واستعانوا على الدنيا، فهؤلاء ما استعانوا الاستعانة الحقة، فالاستعانة الحقة: أن يستعين بقدرة الله على عبادة الله جل في علاه، والله قد تكفل لهم بهذا الرزق، لكنهم لما جهلوا جهلاً مركباً قالوا: الاستعانة نأخذ بها على أمر الدنيا لا على أمر الآخرة، وفي مسند أحمد بسند صحيح عن علي بن أبي طالب أنه قال: من انشغل بالله كفاه الله كل الهموم وكل الأمور، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نفث في روعي الروح الأمين أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها). فأنت قد تكفل الله لك بالرزق الذي خلقه لك، فانشغل أنت بما خلقت له وهي العبادة، ولذلك استقى ابن القيم كلاماً بديعاً من هذا الحديث فقال: خلق الله الكون لك وخلقك أنت له، فانشغل بما خلقت له ولا تنشغل بما خلق لك، فما خلق لك سيأتيك، فالرزق يكون خلفك كما أن الموت خلفك، وأنت مطلوب مأمور بعبادة الله، فاخلص العبادة لله جل في علاه.

الأسئلة

الأسئلة

الفرق بين الاستعانة والاستغاثة

الفرق بين الاستعانة والاستغاثة Q ما الفرق بين الاستعانة والاستغاثة؟ A الاستغاثة من باب: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] والاستعانة من باب: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فتقول: الاستغاثة عبادة أصلية، أي: عبادة محضة، وهي فعل العبد تجاه الرب جل في علاه، والاستعانة: الطلب من الرب، فالاستعانة تدخل في النصف الثاني من الآية، والاستغاثة تدخل في النصف الأول، فالاستغاثة تدخل في محل العبادة، والاستعانة تدخل في محل الطلب، وهذا هو الظاهر في التفريق بينهما.

بيان العلة في تقديم (إياك نعبد) على (إياك نستعين)

بيان العلة في تقديم (إياك نعبد) على (إياك نستعين) Q لماذا قدم الله جل في علاه إياك نعبد على إياك نستعين؟ الجواب من عدة وجوه: الوجه الأول: أن (إياك نعبد) حق الله، و (إياك نستعين) حق العبد، فإذا تعارض حق الله وحق العبد قدم حق الله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت إن كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. فقال: فدين الله أحق أن يقضى). الوجه الثاني: (إياك نعبد) من باب فعل العبد للرب، و (إياك نستعين) من باب فعل الرب للعبد، فكان أحق أننا نقدمه؛ لأن فيه التأليه لله جل في علاه، والله ما خلق الخلق إلا لهذه العبادة الجسيمة. الوجه الثالث: أن العبادة فيها الثناء على الله، وأما الاستعانة ففيها حض العبد، أي: طلب حض للعبد، فـ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] فيها الثناء على الله، فيقدم على: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} التي فيها حض العبد. الوجه الرابع: أن العبادة لا تكون إلا من المخلصين فقط، والاستعانة تكون من المخلصين وغير المخلصين، وذلك أن هناك من الأغبياء الذين لا يخلصون لله جل في علاه يستعينون بالله -وهذا سفه عظيم- على معصية الله. فمثلاً: يحصل من رجل يقول لإخوانه في السرقة: سنضرب ضربة لو أعاننا الله على هذه الضربة لتبنا بعدها، أو أن رجلاً يريد أن يزني بإمرأة فيقول: يعيننا الله جل وعلا على هذا الشقاء الذي نحن فيه. فممكن أن يكفر بذلك لو استهزأ، لكن هذا من الغباء والسفه بمكان، فهذه الاستعانة تكون من المخلص وغير المخلص، أما العبادة فلا تكون إلا من المخلصين، لذلك قدم الله (إياك نعبد) على (إياك نستعين).

حكم طلب الاستعانة بالطبيب

حكم طلب الاستعانة بالطبيب Q رجل لا تلد امرأته إلا بعملية قيصرية، فشارفت زوجته على الولادة، فقال: ماذا أفعل؟ علي أن أستعين بالطبيبة الفلانية لتولد زوجتي ولادة غير قيصرية، فما رأيكم في هذه الاستعانة؟ وهل هناك تعارض بين ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء)؟ وهل هناك تعارض بينه وبين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الطبيب هو الله)؟ A ليس هناك تعارض، والطبيب إنما هو سبب، فلا يملك أبداً أن يشفي أحداً، وإنما الشافي هو الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك) فهو جل وعلا الذي يملك الشفاء، ويملك المرض سبحانه جل في علاه، وهذه الاستعانة مباحة، لأن الرجل استعان بحي حاضر قادر.

حكم طلب الاستعانة من شخص غني

حكم طلب الاستعانة من شخص غني Q رجل اشتد به الكرب، واشتد به الإعواز للمال، فقال: أذهب إلى ابن عمي الغني، فأستعين بماله على قضاء حاجتي، فما رأيكم في هذه الاستعانة؟ A مباحة.

حكم الغش في الامتحانات

حكم الغش في الامتحانات Q ما رأيكم في الغش في الامتحانات؟ وهل هذا من باب التعاون على البر والتقوى؟! A لا يجوز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا)، ووجه الغش باللازم والأثر، وعند ذلك سيخرج لنا المهندس الغاش، وسيخرج لنا الطبيب الغاش الذي لا يعرف ولا يتقن مهنة الطب، وإن كان عنده شهادة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تطبب بغير طب فهو ضامن) فهذا نضمنه إذا قام بعملية فأخطأ، وحتى لو معه شهادة البكالوريوس، وأيضاً لو جرح فعليه الدية، لأنه ما سلك المسلك الصحيح لإتقان مهنته.

الشفاعة

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - الشفاعة الشفاعة من مسائل العقيدة التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة، وهي ثابتة بالكتاب والسنة، ولها شروط وضوابط، وهناك شفاعات خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وشفاعات يشترك فيها الملائكة والمرسلون والمؤمنون مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يخالف فيها إلا الخوارج والمعتزلة ومن سار في ركبهم من أهل زمننا، وقد تصدى العلماء رحمهم الله تعالى لرد شبهاتهم وأباطيلهم.

بيان مفهوم الشفاعة

بيان مفهوم الشفاعة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار. قال صاحب كتاب (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) الشيخ الإمام العلامة الشوكاني المحدث الفقيه الأصولي: [وأما التشفع بالمخلوق فلا خلاف بين المسلمين أنه يجوز طلب الشفاعة من المخلوقين فيما يقدرون عليه من أمور الدنيا] ثم ذكر الأدلة على ذلك. أقول: مسألة الشفاعة مسألة شائكة لابد أن نتكلم عليها من عدة وجوه: الوجه الأول: معنى الشفاعة. الوجه الثاني: تقسيم الشفاعة. الوجه الثالث: منكروا الشفاعة والرد عليهم. أولاً: الشفاعة لغة: اسم مأخوذ من شفع أو يشفع شفاعة، وهو جعل الشيء أو جعل الوتر شفعاً. في الاصطلاح: التوسط عند الغير لجلب منفعة أو دفع مضرة. والشفاعة شفاعتان: شفاعة عند الخالق، وشفاعة عند المخلوق. أما الشفاعة عند المخلوق فهي من القربات وهي مستحبة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحجز الأمر عن الآخرين حتى يأتي الذين عندهم الوجاهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشفعوا عنده؛ فيؤجروا بسبب هذه الشفاعة, فهي من القربات ومن المستحبات، فإذا كانت من القربات ومن المستحبات فلا يجوز أخذ الأجرة على الشفاعات، أو يأخذ على ذلك هدية, فهذا ممنوع شرعاً ولا يجوز؛ لأنه قد ورد النهي عن ذلك، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أخذ على شفاعته هدية فقد فتح باباً من أبواب الربا، أو قال: أتى باباً من أبواب الربا)، وهذا الحديث متكلم فيه، لكن صححه الألباني؛ لأن المعاني العامة تعضد هذا المعنى وتشد من أزره وتصحح هذا المعنى؛ ولأن الأصل في القربات من صلاة وحج وصيام وشفاعة أو أي قربة من القربات التقرب بها إلى الله جل في علاه، ولا يجوز أخذ الأجرة أو الهدية عليها. فمن شفع شفاعة وأخذ هدية أو أجرة فقد فتح باباً من أبواب الربا, أو وقع في الإثم، وعليه أن يرد هذه الهدية أو هذه الأجرة. وشفاعة البشر قد يعتريها من الأمور التي تدل على عجز الشافع والمشفوع عنده، ومنها: أولاً: أن المشفوع عنده قد يجهل بأقدار الناس؛ لأن الذي يشفع عند أمير أو عند سلطان يبين له ما جهله، فيقول: أنت ما أعطيت فلاناً وهو مستحق للعطاء، وأعطيت فلاناً وهو غير مستحق للعطاء، بل يستحق المنع, فهذا فيه دلالة على أن البشر يجهلون. ثانياً: أن الشافع يدخل على السلطان لوجاهته عنده دون استئذان، بل ويشفع دون استئذان، أما الله جل في علاه فإن الله لا يشفع عنده أحد إلا أن يأذن ويرضى للشافع والمشفوع؛ لأن الشفاعة كلها بيد الله وملك لله، والله هو العليم، وهو الخبير، وهو الذي ينزل الناس منازلهم، وهو الذي يعطي ويمنع لحكمة عنده.

ضوابط وشروط الشفاعة

ضوابط وشروط الشفاعة ضبطت الشفاعة بضوابط واشترط لها شروطاً حتى تتم عند الله عز وجل، ومن هذه الشروط: الشرط الأول: الإذن للشافع، قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] أي: لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه، وهذا عند أهل البلاغة يسمى أسلوب حصر: (من) و (إلا)، أي: لا يشفع أبداً (نفي)، إلا من أذن له الرحمن سبحانه جل في علاه (إثبات). الشرط الثاني: الرضا، أي: لابد أن يرضى عن الشافع والمشفوع له, فرضاه سبحانه عن الشافع تأتي ضمناً للإذن. والرضا عن المشفوع له؛ لقول الله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] أي: ارتضى عن المشفوع له وعن الشافع. فهذه هي شروط وقيود وضوابط للشفاعة التي أباحها الله جل في علاه؛ لأن الله نفى نفياً تاماً أن تكون هناك شفاعة، قال الله تعالى: {وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:123] وأيضاً قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]، فنفى الشفاعة، ثم استثنى من هذا النفي العام شفاعة يرضاها الله جل في علاه، ويأذن للشافع أن يشفع فيها.

أقسام الشفاعة

أقسام الشفاعة تنقسم الشفاعة إلى قسمين: شفاعة خاصة، وشفاعة عامة. فالشفاعة الخاصة عند الله جل في علاه: هي التي أكرم الله بها أفضل الخلق عليه، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

الشفاعات الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم

الشفاعات الخاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم لقد اختص الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بشفاعات لا يشاركه فيها أحد قط، وهي ثلاث شفاعات في الآخرة.

الشفاعة العظمى الشفاعة لفصل القضاء بين الخلائق

الشفاعة العظمى الشفاعة لفصل القضاء بين الخلائق الأول: الشفاعة العظمى، وهذه الشفاعة تبين كرامته وعظمة مكانته عند الله عز وجل، فالله رفع هذا النبي الكريم، وهذا الرسول العظيم في موقف ويوم عظيم، يوم تدنو الشمس من الرءوس ويشتد الكرب ويدلهمُّ الخطب، ويكاد الناس يموتون عطاشاً، فمنهم من يأتي العرق إلى كعبيه, ومنهم من يصل العرق إلى ركبتيه, ومنهم من يصل العرق إلى صدره, ومنهم من يصل العرق إلى أذنيه, ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً، كما في الصحيحين والروايات متعددة، (فيذهبون إلى آدم عليه السلام فيقولون: يا آدم! أنت أبو البشر أما ترى ما نحن فيه؟ أما تشفع لنا؟ أما تتوسل لنا عند ربك جل في علاه؟ فيقول آدم: نفسي نفسي، إن الله جل في علاه قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولم يغضب بعده مثله) , فهذا الحديث فيه بيان لصفة عظيمة من صفات الله جل في علاه، ألا وهي: صفة الغضب، وهذه الصفة صفة ثبوتية فعلية تتعلق بالمشيئة؛ لأن الله تعالى يتصف بها في بعض الأحيان ولا يتصف بها في أحيان أخرى، والدليل على ذلك التصريح من قول النبي صلى الله عليه وسلم في كلام آدم أنه قال: (غضب اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله ولن يغضب مثله بعده)، أي أنه ممكن تنفك هذه الصفة عن الله في بعض الأحيان. إذاً: الغضب الذي غضبه الله جل وعلا يوم القيامة هو غضب قد اتصف به في هذا الوقت، وسينفك عنه بعد عرصات يوم القيامة، بعدما يدخل أهل الجنة الجنة ويدخل أهل النار النار. ثم يقول: (يقول آدم: نفسي نفسي، ويذكر ذنباً فيقول: قد أكلت من الشجرة، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى أول رسول أرسل إلى البشر، فيذهبون إلى نوح، فيقول: لست لها لست لها، نفسي نفسي، ثم يذكر ذنباً، ثم يقول: إن الله قد غضب غضباً لم يغضب مثله قبله ولا بعده، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام, فيذهبون إلى إبراهيم فيقول: نفسي نفسي، ويذكر الكذبات الثلاث، ثم يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى موسى كليم الرحمن، فيذهبون إلى موسى فيقول: نفسي نفسي، إن الله غضب غضباً لم يغضب مثله قبله ولا بعده، ويذكر ذنباً وهو القتل، فيقول: اذهبوا إلى عيسى عليه السلام، فيذهبون إلى عيسى، فلا يذكر عيسى ذنباً، ويقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهو عبد قد غفر له تقدم من ذنبه وما تأخر، فيذهبون إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم فيسألونه أن يشفع لهم في فصل القضاء، فيقول: أنا لها أنا لها، فيذهب إلى تحت العرش فيسجد تحت العرش، يقول: فأحمد الله بمحامد علمنيها في تلك اللحظة، فيقال: يا محمد! ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع، فيشفع حتى يقضي الله بين العباد) , هذه الشفاعة العظمى خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يشاركه فيها أحد أبداً، وهذا فيه بيان لفضل وعظمة ومكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه جل في علاه، ويتجلى معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الوقت بالذات، قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) وذكر يوم القيامة مع أنه سيدهم في الدنيا؛ لأن السيادة يوم القيامة لا منازعة فيها، والكل سيقر بسيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتكشف الكربات برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم.

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب هذه شفاعة أخرى خاصة برسولنا لا ينازعه ولا يشاركه فيها أحد، هذه الشفاعة هي الشفاعة للكافرين، كيف تكون الشفاعة للكافرين مع أن الأصل الأصيل والركن الركين عند أهل السنة والجماعة: أن الشفاعة للكافرين منفية، والدليل على ذلك قوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]، وقوله تعالى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101] ووجه الدلالة من الآية: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}: أن قوله: (شافعين) نكرة في سياق النفي تفيد العموم، فهذه عامة في كل أحد حتى الرسول صلى الله عليه وسلم تقبل شفاعته للكافرين، إلا في حالة واحدة مع عمه أبي طالب، عندما قال له العباس رضي الله عنه وأرضاه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (ماذا فعلت لعمك وكان يحوطك وكان يناصرك وكان يفعل ويفعل؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار، يلبس نعلين تغلي بهما دماغه)، فهذه الشفاعة خاصة به صلى الله عليه وسلم، وهي شفاعة ناقصة؛ لأن الشفاعة الكاملة أن يخرجه من النار ويدخله الجنة، لكنه فقط خفف عنه العذاب، فهو يقف يلبس نعلين يغلي بهما دماغه, وهذه هي الشفاعة الثانية الخاصة به صلى الله عليه وسلم.

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في دخول أهل الجنة الجنة

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في دخول أهل الجنة الجنة الشفاعة الثالثة الخاصة برسول الله هي: دخول أهل الجنة الجنة من لدن آدم إلى آخر الخليقة، وذلك عندما يحاسب الله العباد، فيقضي على أهل النار بأنهم من أهل النار، ويقضي على أهل الجنة بأنهم من أهل الجنة، فيتساقط أهل النار؛ لأن الله جل وعلا قال: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:71] فلا يحتاجون إلى الاستئذان، وإنما يتساقطون فيها من غير استئذان، أما بالنسبة للجنة فقال: {وَفُتِحَتْ} [الزمر:73] فزاد الواو، إلماحاً وإشعاراً بأنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد الاستئذان، فقد قد منع الله جل في علاه أحداً -يستحق الجنة- أن يدخلها إلا برسول الله, ولذلك قال بعض علمائنا: كل الأبواب مغلقة إلا باباً يفتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: لابد أن تأتي من خلف النبي صلى الله عليه وسلم (فيأتون خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستأذن، فيقول الملك: من؟ فيقول رسول الله محمد بن عبد الله، فيقول: لِك أمرت، فيفتح لأهل الجنة فيدخلون الجنة). فهذه الشفاعات الثلاث خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد بحال من الأحوال، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل.

الشفاعات العامة التي يشترك فيها الملائكة والمرسلون والمؤمنون

الشفاعات العامة التي يشترك فيها الملائكة والمرسلون والمؤمنون هناك ثلاث شفاعات أيضاً، لكنها عامة يشترك فيها الملائكة والنبيون والمرسلون والمؤمنون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الشفاعة لمن يستحق دخول النار ألا يدخلها

الشفاعة لمن يستحق دخول النار ألا يدخلها أولاً: الشفاعة فيمن استحق النار ألا يدخل النار ويدخل الجنة من أول وهلة, أي: هم قوم بعدما ناقشهم الله الحساب، وبين الموازين، وثقلت موازين السيئات على موازين الحسنات فاستحقوا النار، فيؤمر بهم إلى نار جهنم، فيقف رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقف المؤمنون: ربنا إن إخواننا يصلون معنا ويسجدون معنا ويحجون معنا، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم فيدخلون الجنة من أول وهلة، وإن كانت النار هي أحق بهم من الجنة, وهناك أدلة كثيرة على ذلك، منها: أولاً: صلاة الجنازة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الميت: (ما صلى عليه من أهل التوحيد إلا شفعهم الله فيه). وهذا الحديث يدل على الشفاعة الأخروية التي تكون لمن يستحق النار، فيشفع له النبي والمؤمنون ألا يدخل النار، بل يدخل الجنة من أول وهلة. ووجه الدلالة من هذا الحديث عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فيشفعهم) أي: إذا كان من أهل الجنة فسيشفعهم فيه، بأن يرتفع بالدرجات، وإن كان من أهل النار واستحق النار فسيقبل شفاعتهم ألا يدخل النار ويدخل الجنة. إذاً وجه الدلالة: أنهم يشفعون فيه، وقد يكون من الفسق بمكان، من ارتكاب الزنا وشرب الخمر، لكن قدر الله أنه قبل أن يموت قال: لا إله إلا الله، وقال: اللهم إنك تعلم أن هؤلاء الذين يحجرون رحمتك يقولون: إنك لا تغفر لي، اللهم خالفهم واغفر لي، فمات على التوحيد، فيقدر الله له أن يصلي عليه أربعون من أهل التوحيد الخلص، فإذا صلوا عليه ودعوا له وشفعوا له يقبل الله شفاعتهم فيه، سواء كان فاسقاً أو فاجراً؛ وسواء استحق النار من أول وهلة، أو كان مؤمناً تقياً, فالعموم يدل على أن هذه الشفاعة مقررة؛ لأنه يمكن أن يكون من أهل النيران فيشفع فيه الأربعون فيشفعهم الله ويجعله من أهل الجنان.

الشفاعة لقوم دخلوا النار أن يخرجوا منها

الشفاعة لقوم دخلوا النار أن يخرجوا منها من أنواع الشفاعة التي يشترك فيها الملائكة والمرسلون والمؤمنون: الشفاعة لأهل التوحيد الذين دخلوا النار؛ لأنهم مستحقون العذاب، وهم قوم قد امتحشوا من النار وصاروا حمماً، فيأتي النبي ويأتي الرسل ويأتي المؤمنون ويقولون: يا ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويزكون معنا ويحجون معنا، فيقول الله جل في علاه: اذهبوا فأخرجوا منها من تعرفون، فيعرفون إخوانهم الذين كانوا يصلون، فهم يقولون: يصلون معنا ويحجون معنا ويزكون معنا، أي: أدوا أركان الإسلام، ومع ذلك هم من أهل النيران؛ لأن سيئاتهم غلبت على حسناتهم، لكن كلمة التوحيد مانعة من الخلود في لنار، فيعرفونهم بمواضع السجود، فيخرجونهم، ثم يقبض الرحمن قبضة يخرج فيها من لم يعمل خيراً غير الصلاة، فيلقيهم في نهر الحياة، فيحيون ثم يدخلون الجنة.

الشفاعة لأهل الجنة في زيادة درجاتهم

الشفاعة لأهل الجنة في زيادة درجاتهم آخر نوع من أنواع الشفاعة التي يشترك فيها الملائكة والمرسلون والمؤمنون: الشفاعة لأهل الجنة بأن يرتفعوا درجات في الجنة، فهناك أناس يحبون رسول الله، وصحبوا رسول الله، ولكن نزلوا عنه درجة، فهؤلاء يشفع لهم النبي صلى الله عليه وسلم ليرتقوا هذه الدرجة. ومن الأدلة على ذلك: حديث مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قدم له الوضوء، فقال له: (تمن، قال: أتمنى مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: فأعني على نفسك بكثرة السجود) , وأيضاً في حديث أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه فقال: (اللهم اغفر لـ أبي سلمة وارفع درجته في عليين) ووجه الدلالة من الحديث قوله: (وارفع درجته في عليين)، فهذا فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الجنان أن يرتقوا درجات في الجنة، وهذه الشفاعة أيضاًَ يمكن أن يشترك فيها مع النبي صلى الله عليه وسلم غيره.

منكرو الشفاعة والرد عليهم

منكرو الشفاعة والرد عليهم من الذين أنكروا الشفاعة مصطفى محمود، ومصطفى محمود من المعتزلة, لأن المعتزلة هم الذين أنكروا الشفاعة، وقالوا: لا شفاعة، لكن مع ذلك أثبتوا الشفاعة العظمى ولم ينكروها، وإنما أنكروا الشفاعة لأهل الكبائر, فصاحب الكبيرة عند المعتزلة في منزلة بين المنزلتين، أي: أنه في الدنيا لا كافر ولا مؤمن، أما في الآخرة فهو مخلد في النار. أما الخوارج فقالوا: صاحب الكبيرة كافر في الدنيا والآخرة، وهو مخلد في النار، ولما ناظرهم ابن عباس رجع بثلثي الخوارج. إذاً: فالمعتزلة كانوا أجبن عند اللقاء من الخوارج، قالوا: لا نقول كافراً؛ لأنه يقول: لا إله إلا الله، لكن هو في منزلة بين المنزلتين، ويسمى فاسقاً في الدنيا، لكن حكمه في الآخرة حكم الكفرة، ولا يمكن أن يكون من أهل الجنان، ولا يمكن أن يشفع له أحد؛ لأن الله نفى الشفاعة عن الكافرين، وهم قد استحقوا الخلود في النار. فإذاً قول المعتزلة وقول الخوارج ينبثق عن قولهم واعتقادهم بأن أهل الكبائر من الكفار وليسوا من المسلمين، وهذا منهج فيه العطب، فقد ضيع كثيراً من الشباب في مصر والجزائر والسعودية؛ لعدم انضباطهم الفكري، وعدم تعلمهم علم الدين الصحيح على أصله وأسسه. إذاً: نقول: إن الشفاعة التي أنكرها المعتزلة ثابتة بالسنة الناصعة، وقد أجمع عليها أهل السنة والجماعة، وأهل الاعتزال وأهل الخوارج من المبتدعة لا يخرمون ولا يخرقون هذا الإجماع بحال من الأحوال. ويبقى لنا فقط ما قاله المؤلف حيث أتى بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يختم به جواز شفاعة المخلوق للمخلوق بما رواه أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له: (إنا نستشفع بك على الله، وإنا نستشفع بالله عليك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ويحكم! شأن الله أعظم من ذلك، أو قال: إنه لا يستشفع بالله على أحد) أي: لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، فهم عندما قالوا: (يا رسول الله! إنا نستشفع بك على الله) أقرهم، ولما قالوا: (إنا نستشفع بالله عليك، قال: شأن الله أعظم، إنه لا يستشفع بالله على أحد) فوجه الدلالة كأنهم يقولون: إنا نستشفع بدعائك في حياتك، وبشفاعتك في عرصات يوم القيامة عند البعث، وهذا فيه رد على الذين يستشفعون بالنبي وهو ميت. إذاً: وجه الدلالة أنهم يستشفعون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك آية تثبت ذلك، وهي قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ} [النساء:64] أي: يستشفعون بدعائك؛ {فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيماً} [النساء:64]، فاستشفعوا باستغفار ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم. أما إنكار النبي صلى الله عليه وسلم قولهم: (وإنا نستشفع بالله عليك) فلعظم حق الله جل في علاه؛ لأنهم بذلك كأنهم أنزلوا الخالق منزلة المخلوق، وأما المخلوق فممكن أن يذهب زيد ليشفع لمحمد عند عمرو، وقد يقبل عمرو شفاعة زيد أو يردها، لكن لا يمكن أن يشفع الله عند أحد، ثم هذا المشفوع عنده يقبل كلام الله أو يرده، هذا لا يمكن؛ لأن هذا سوء أدب مع الله؛ ولأن الله هو الحاكم والكل محكوم، والله هو الرب والكل مربوب، والله هو الخالق والكل مخلوق، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. إذاً: الشفاعة كلها يملكها الله جل في علاه، وعباد الله ملك لله جل في علاه، وإذا قضى أمراً فلا أحد يستطيع أن يرد قضاء الله جل في علاه.

التوسل

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - التوسل من أعظم القربات والطاعات لله عز وجل: التوسل، فهو عبادة لا تنبغي ولا تصرف إلا له تبارك وتعالى، والتوسل منه ما هو مشروع، كالتوسل بالله عز وجل، وبأسمائه وصفاته وأفعاله، والتوسل بالأعمال الصالحة، وبدعاء الصالحين، ومنه ما هو غير مشروع، كالتوسل بقبر من القبور، أو بذاوت الصالحين، أو بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أو بدعاء الأموات، ونحو ذلك.

معنى التوسل

معنى التوسل إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فإن العلماء قد تحدثوا عن حكم التوسل بالمخلوق، وقبل أن نذكر ذلك لابد من معرفة معنى التوسل وأنواعه. فالتوسل لغة: هو الطريقة التي يتوصل بها الإنسان المكلف إلى مراد الله جل في علاه، أو هو الأقوال والأفعال التي يتوصل بها المكلف إلى مراد الله جل في علاه، قال الله في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} [المائدة:35]. والوسيلة بالمعنى العام: هي الطريقة من القول والفعل التي توصل الإنسان إلى مراد الله جل في علاه. أما التوسل بالمعنى الخاص: فهو الطرق التي يتخذها العبد من الأقوال والأفعال التي يقدمها بين يدي دعائه؛ ليستجاب. والتوسل عند علمائنا ينقسم إلى قسمين: توسل مشروع، وتوسل ممنوع. وإذا قسم العلماء التوسل إلى مشروع وممنوع، فإن المنع لا يمكن أن يأتي من هوى، ولا من كيس إنسان، ولا من عند نفسه، إنما يكون من الشرع؛ لأن التوسل قربة من القربات، وعبادة من العبادات، والدليل على أن التوسل عبادة قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة:35]. وإذا قلنا: إن التوسل عبادة، فلنا أن نقول: هناك توسل ممنوع، وتوسل مشروع، ومن صرف التوسل لله فهو على التوحيد، ومن صرفه لغير الله فهو على الشرك. وهذه الآية فيها دلالة واضحة على أن التوسل عبادة من العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه، وإذا كانت عبادة فإن الأصل في العبادات التوقيف، والله عز وجل لا يأمر إلا بما يحب، وما يحبه ينزل تحت مسمى العبادة؛ لأن العبادة هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وقد أمر الله في هذه الآية بأن نبتغي إليه الوسيلة، فأمر بما يحب، وما أحبه ينزل تحت مسمى العبادة، سواء كانت نافلة أو كانت فريضة واجبة، وهذا هو وجه الدلالة من الآية. إذاً التوسل عبادة، فصرفه لله توحيد، وصرفه لغير الله شرك.

أنواع التوسل

أنواع التوسل قال العلماء: التوسل توسلان: توسل مشروع، وتوسل ممنوع.

التوسل المشروع

التوسل المشروع التوسل المشروع: هو ما كان بالله، والتوسل بالله يتفرع عليه توسل بذات الله، وتوسل بأسمائه الحسنى، وتوسل بصفات الله الكاملة، وتوسل بأفعال الله.

التوسل بالله

التوسل بالله القسم الأول: التوسل بالله جل في علاه، ويندرج تحته التوسل بذات الله وبأسمائه وصفاته وأفعاله، قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، وقال جل في علاه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110]. وقد بينت السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوسل بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله، قولاً وفعلاً وتقريراً. أما بالقول: فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوسل إلى ربه ويقول (اللهم أني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتبك، أو استأثرت به في علم الغيب عند) ثم يأتي بالدعاء، وهذا من الأدب الجم مع الله، فالإنسان قبل أن يدعو الله يقدم بين يدي دعائه ثناءً على الله، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رجلاً يطلب من ربه دون أن يتأدب، ويتقدم بين يدي دعائه بالثناء على الله والتوسل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عجل هذا) فحري ألا تجاب دعوته؛ لأنه تعجل ولم يأت بالآداب التي لا بد أن يتأدب بها بين يدي دعائه. وأما من تقريره صلى الله عليه وسلم: ففي الحديث: (أنه مر على رجل فرآه يقول: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الواحد الأحد) فأقره على ذلك، وقال توضيحاً: (لقد سأل الله باسمه الأعظم -أي: توسل إلى ربه باسمه الأعظم- الذي إذ سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب)، وقد علم المكروب إذا توسل إلى ربه لكشف كربته أن يقول: (الله ربي لا أشرك به شيئاً)، وعلم أصحابه الأفاضل الأماجد الأكارم ذلك، فعلم أبا بكر أن يدعو الله في آخر صلاته ويقول: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) فهذا أيضاً توسل بأسماء الله جل في علاه. فهذه كلها أدلة على التوسل بأسماء الله، فالأول: خاص، وهو قوله: (بكل اسم هو لك)، فالتوسل أولاً بالله ثم بمجموع أسمائه. والثاني: توسل باسم من أسماء الله، تقريره صلى الله عليه وسلم لمن قال: (اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت). أما التوسل بصفات الله سبحانه: ففي الصحيح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: -متوسلاً بصفات الله-: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، وأيضاً ورد بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم عندما طلب من ربه طلباً وأبى عليه قال: (أعوذ بوجهك)، وفي بعض الروايات: (أعوذ بوجهك الذي أشرقت له السماوات والأرض)، وكان كثيراً ما يقول: (برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) وهذه الأدلة فيها توسل بصفات الله جل في علاه، فقوله: (أعوذ بكلمات الله) فيه توسل بكلمات الله، وكلمات الله صفة من صفاته. والدليل على أن الكلمات صفة من صفاته: هو أنه أضافها إليه، والمضاف لله نوعان: إضافة معاني، وإضافة أعيان، فإضافة الأعيان تكون إضافة تشريف: كبيت الله، وناقة الله، وعيسى روح الله، فهذه إضافة أعيان، فعيسى ليس صفة من صفات الله، وكذلك الكعبة والناقة ليستا من صفات الله، وإنما أضيفت لله إضافة تشريف. والنوع الثاني: إضافة معاني: ككلام الله، وعزة الله، ورحمة الله، فالرحمة والعزة والكلام ليست أعياناً قائمة بذاتها، والرسول صلى الله عليه وسلم استعاذ بكلمات الله، فأضافها إلى الله، وهذا يدل على أنها صفة من صفاته جل في علاه، وهي من صفات الكمال. وقوله: (أعوذ بوجهك) فيه استعاذة بوجه الله الذي هو صفة من صفاته. ومن توسله صلى الله عليه وسلم بصفات الله قوله: (يا حي يا قيوم برحمتك استغيث) فيتوسل بصفة من صفات الله، وهي الرحمة، واستغاث بصفة من صفات الله جل وعلا، وعلم أصحابه ذلك أيضاً. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعوذ بوجهك الكريم) فأضاف الوجه إلى الله، وهذه إضافة صفة للموصوف، فقد توسل بصفة من صفات الله. ومن التوسل المشروع بالله جل في علاه: التوسل بأفعال الله: فإذا رأى العبد فعلاً من أفعال الله فله أن يتوسل به؛ ليستجاب دعاؤه، فيقول مثلاً: اللهم بنجاتك لنوح، نجني من المهلكات، فقد نادى نوح ربه جل في علاه فاستجاب له. ومن التوسل بأفعال الله أن يقول العبد بين يدي دعائه -كما في الحديث-: (اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم) أي: كما رحمت إبراهيم وآل إبراهيم فارحم محمداً وآل محمد، والصلاة هنا: الثناء، كأننا نقول في دعائنا وصلاتنا: اللهم كما أثنيت على إبراهيم في الملأ الأعلى، وأثنيت على آل إبراهيم في الملأ الأعلى، فأثن على محمد صلى الله عليه وسلم في الملأ الأعلى، وهذا توسل بأفعال الله جل في علاه، وهو توسل مشروع.

توسل العبد بأعماله الصالحة وأقواله وأحواله

توسل العبد بأعماله الصالحة وأقواله وأحواله القسم الثاني: توسل العبد بأقواله وأفعاله وأحواله، فهذه ثلاثة أمور، مثال ذلك: أن يتوسل المرء بإيمانه بربه جل في علاه، كما قال الله تعالى مخبراً عن الحواريين أنهم توسلوا بأفعالهم الصالحة، ومنها الإيمان فقالوا: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:53]، فتوسلوا بالإيمان بما أنزل الله جل في علاه، وتوسلوا بفعل آخر، وهو اتباع الرسول، وليس بالإيمان فقط، وفي هذا دلالة على أن اتباع أي نبي هو من الأعمال الصالحة، بل من القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه، ومن الواجبات المفروضة، فقدم الحواريون بين يدي دعائهم توسلاً بأقوال وأفعال، كالإيمان بما أنزل الله واتباع الرسول. وقال الله تعالى عن المؤمنين مبيناً ما فعلوه: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]، فتوسلوا إلى ربهم بإيمانهم، وهذا من آداب الدعاء، وتوسلوا بالسمع والطاعة، كما في قوله تعالى: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة:285]. ومن التوسل بالأفعال: ما قصه علينا النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن الثلاثة الذين احتجزوا في الغار، وسدت الصخرة عليهم باب الغار، فقام أحدهم وقال: لا نجاة لكم من هذا المأزق إلا أن تتوسلوا إلى الله جل في علاه بأعمالكم الصالحة، فقام الأول يبين لربه جل في علاه، أنه كان باراً بوالديه، فإن كان هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، -أي: بر الوالدين- ففرج عنا، ففتحت فتحة، فهذا دلالة على أنه توسل وتقدم بين يدي دعائه بالأعمال الصالحة، والثاني توسل بالبذل بإخلاص، وبالكف عن حرمات الله جل في علاه، خوفاً وفرقاً من الله جلا في علاه، وذلك عندما قعد من المرأة مقعد الزوج من زوجه، فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فارتاع وفزع فرقاً من الله جلا في علاه، ثم قام عنها وأعطاها المال، فتوسل بهذا العمل الصالح، وقال: إن كان ذلك العمل خالصاً لوجهك ففرج عنا، ففرج الله عنهم، والثالث كان أميناً، وكان عنده أجرة لأجير، فبناها له وكثرها، وأعطاها إياه، ففرج الله عنهم بتوسلهم الصحيح، وهذا أيضاً توسل بالأعمال الصالحة. وأما التوسل بالأحوال: فكأن تكون في مأزق شديد أو في كربة، فتقول اللهم أنت أعلم بحالي وما أنا فيه من مأزق، اللهم فرج عني، وقد فعل أبوا الأنبياء ذلك عندما أضرموا النار وألقوه فيها، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، وكأنه يقول: الله جل وعلا أعلم بحالي وهو حسبي وكفيلي، فتوسل بحاله، وهذا ما جاء في صحيح البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، قال (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم حينما ألقوه في النار، وقالها أصحاب محمد حين {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]، فهؤلاء توسلوا بأحوالهم، وأيوب وزكريا وغير هؤلاء توسلوا بأحوالهم كذلك، قال الله تعالى واصفاً كيف كان يتوسل أيوب بحاله لربه فيقول: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، فاستجاب الله له وقال: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:84]. وتوسل ذي النون فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. وتوسل زكريا فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران:38]، ويقول: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم:4]. فتوسل لله جل وعلا بأحواله.

التوسل بدعاء الصالحين

التوسل بدعاء الصالحين القسم الثالث: التوسل بدعاء الصالحين، وهذا الذي يصح فقط، وهو أن يأتي إلى رجل من الصالحين، فيتوسل إلى الله بدعائه، لعل الله يقبل من هذا الصالح الدعاء الذي يتوسل به، والأدلة على ذلك كثيرة منها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، قيل: من هم يا رسول الله؟! فقال: هم الذين لا يتطيرون، ولا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة بن محصن، -يتوسل بدعاء النبي؛ ليصل إلى هذه الدرجة- فقال: يا رسول الله! ادعو الله أن أكون منهم، فقال: أنت منهم) فهذا توسل بدعاء الصالحين، والشاهد هو قول عكاشة بن محصن: (يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أنت منهم) وهذا يستدل به علماؤنا على أنه يصح للإنسان أن يتوسل بدعاء الصالحين، وهذا ما يفعله بعض الناس الآن، فإذا سلم أحدهم على الآخر أو ودعه يقول: لا تنسنا من فضل دعائك، وهذا من التوسل بدعاء الصالحين، وإن كان البعض قد يفعل ذلك ولا يعلم ما الدليل على فعله، وهل هو صواب أو خطأ؟ ووجه الدلالة من هذه القصة على جواز التوسل بدعاء الصالحين هو إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لـ عكاشة، ولو كان التوسل بدعاء الصالحين ممنوعاً لما أقر النبي صلى الله عليه وسلم عكاشة، ولكنه أقره، بل قال له: (أنت منهم). ففي هذه القصة دليل على أنه يصح للإنسان أن يتوسل بدعاء الصالحين. ومن الأدلة على جواز التوسل بدعاء الصالحين: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر بن الخطاب عندما ذهب للعمرة: (يا أخي! لا تنسانا من دعائك) وهذا حديث ضعيف، لكن يستأنس به مع هذا الدليل الصحيح، وقد احتج به شيخ الإسلام رحمه الله. ومن الأدلة على ذلك: قول الله تعالى عن إخوة يوسف عندما ظهر كيدهم لأخيهم، وعلموا أن الله قد رفع يوسف عليهم: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف:97 - 98]، قال العلماء: أخرها إلى السحر لأنه أرجى في القبول. وفي هذه الآية دلالة على صحة التوسل بدعاء الصالحين، ووجه الدلالة هو أن الله أقر إخوة يوسف على طلبهم، وأقر يعقوب أيضاً على إقراره لهم بالسؤال أن يستغفر لهم.

أمثلة على التوسل المشروع من الكتاب والسنة

أمثلة على التوسل المشروع من الكتاب والسنة قال الله تعالى حاكياً عن امرأة عمران أنها قالت: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]، وذكر عن زكريا أنه دخل على مريم وقال {أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:37 - 38]، وأيضاً ذكر الله لنا عن قصة يونس ذا النون أنه لما {ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]. وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن المرء عندما يحس بوجع في رأسه أو في صدره، أو في أي مكان من جسده أن يضع يده عليه ويقول: (أعوذ بعزة الله وقدرته وسلطانه من شر ما أجد وأحاذر) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إذا دخل العبد مكاناً فقال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، لا يضره شيء) ولذلك كان القرطبي يقول: كنت أعض بالنواجذ على هذا الذكر، فطلبني الجن فقلت: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، فمروا من أمامي ولم يروني، وهذه المسألة تحتاج إلى يقين بالله جل في علاه. فهذه الآيات والأحاديث فيها أنواع من التوسل المشروع، فقوله تعالى عن امرأة عمران: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35] فيه أنها توسلت بين يدي دعائها بالنذر، فقالت {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا} [آل عمران:35]. والصحيح إن النذر عبادة، وهل هو محمود أو مكروه؟ الصحيح أن أقل درجاته أنه مكروه، وإذا وفى به المسلم فهو محمود. وهذا النذر كان فيه أدب مع الله، فلم يكن معلقاً، حيث نذرت أن الله إن أعطاها ذكر أو أنثى فإنه لله، فقالت: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران:35]. وكان دعاؤها هو: فتقبل مني، وتوسلها كان بإسمين من أسماء الله: السميع العليم، قالت {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35]. والسميع يتضمن صفة السمع، والعليم يتضمن صفة العلم، وهما من صفات الكمال. ثم توسلت أيضاً بحالها، وكأنها تقول: بما أنك تسمعني وتعلم بحالي فتقبل مني. وقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ * هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:37 - 38]. في هذه الآية توسل بصفة السمع في قوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]، وفيها أيضاً أن زكريا نظر فوجد عند مريم عليها السلام ثمر الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء، وهذا فعل من أفعال الله، فلا يستطيع أن يفعل ذلك إلا هو، وما دام الله يفعل ذلك وهو في حيز البشر مستحيل، فإن زكريا عليه السلام دعا الله وتوسل إليه بفعله المستحيل -وهو الرزق الذي أنزله على مريم- أن يرزقه الولد، وهو كبير السن وامرأته يائسة، كما رزق مريم من ثمر الشتاء في الصيف وثمر الصيف في الشتاء، وهذا توسل بأفعال الله جل في علاه. وقوله تعالى: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فيه أن يونس عليه السلام توسل إلى الله بخمسة أنواع من التوسل المشروع: النوع الأول: توسل إلى الله بحاله ضمناً فهو في الظلمات الثلاث، فكأنه يتضرع بحاله إلى ربه أن ينقذه مما هو فيه. الثاني: توسل بأعماله الصالحة، وهو أنه قال: لا إله إلا أنت، فأقر بتوحيد الله، والإقرار بالتوحيد من أفضل الأعمال الصالحة التي يتوسل بها العبد إلى ربه، ولذلك قال العلماء: أفضل ثناء على الله بما هو أهل له: توحيده، بأن يقول العبد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. الثالث: توسل بحاله، وهو الإقرار بالظلم. الرابع: توسل بقوله: (سبحانك)، وهذا أيضاً من الأعمال الصالحة؛ لأن التسبيح تنزيه الله عن كل نقص. الخامس: توسل بذات الله جل في علاه بأسماء الله الحسنى، فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وإن كان توسله بالأسماء الحسنى ليس ظاهراً، إلا أنه عندما قال: (لا إله) أثبت اسم الإله، والإله إذا انفرد يدخل معه الرب، فكأنه توسل بربوبية الله جل في علاه. ومن التوسل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل -وهذا دأب الصالحين- استفتح صلاته فقال: (اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، اهدني لما اختلف فيه من الحق، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) ففي قوله: (اللهم رب) توسل بذات الله أو بربوبيته جلا في علاه، وكأنه يقول: اللهم إني أقررت بأنك رب، أو بأنك الرب الخالق الرازق المدبر، وتقدر على كل شيء بقولك كن فيكون. وقوله: (إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) توسل بفعل الله، وهو هدايته جل وعلا لأوليائه إلى الصراط المستقيم، فكأنه يقول: كما فعلت بأوليائك كذلك فافعل بي، (وهدني لما اختلفوا فيه من الحق بإذنك). ومن التوسل: التوسل باسم الله الأعظم، وهو الله.

التوسل الممنوع

التوسل الممنوع

التوسل الشركي

التوسل الشركي التوسل الممنوع هو: ما منعه الشرع؛ لأن التوسل عبادة، فصرفها لغير الله شرك، ولم يبحه الشرع، وإنما بين حرمته، وهو على قسمين: الأول: شرك محض، وإنما سمي توسلاً من باب التجور، وهذا التوسل أو الشرك هو الذي يذهب فيه المكلف إلى ميت أو قبر من قبور الصالحين، أو قبور الأنبياء، كقبر النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو قبر موسى أو قبر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسألهم تفريج الكربات وسد الخلات وإعطاء الحاجات، ويسألهم نزول المطر وشفاء المريض وغير ذلك، وهذا نوع من أنواع الشرك المحض، وهو واقع مشاهد نشاهده دائماً فيمن يذهبون إلى إبراهيم عبد الباعث، ويقفون عند قبره، ويسألونه إنزال المطر أو تفريج الكربات، وبعضهم يحجون للـ بدوي، ويتركون الحج إلى بيت الله الحرام، فينفقون أموالاً طائلة، ويذهبون بالملايين إلى البدوي يسألونه تفريج الكربات وسد الحاجات، أو إنزال الخيرات، وهذا من الشرك، وإذا سألتهم أو خاصمتهم ونازلتهم على ما يفعلون، يقولون بما قال مشركوا العرب: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. فمن هنا سمي هذا الفعل توسلاً؛ لأنهم قالوا: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله، وليست هذه العبادة قصداً لهم، بل هي لله، لكن لا بد لنا من حاجب يدخلنا عليه، فهذا الحاجب يصرفون له هذه العبادة ليدخلهم على الله، وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3]. وهذا التوسل المحض شرك أكبر يخرج من الملة، فهو شرك من وجهين: الوجه الأول: شرك في الإلهية. الوجه الثاني: شرك في الربوبية أي: أنهم كفروا من وجهين: أما الشرك في الإلهية: فلأنه صرف عبادة لا تكون إلا لله لغير الله، وهذه العبادة هي الدعاء. والدليل على أن الدعاء عبادة: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، وقول الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} [غافر:60]، فوجه الدلالة: أنه سبحانه سمى الدعاء عبادة وأمر به، ولا يأمر إلا بما يحب، وما يحبه سبحانه عبادة، والقاعدة: أن كل عبادة ثبتت بالشرع فصرفها لله توحيد خالص، وصرفها لغير الله شرك، فمن دعا البدوي أو الجيلاني أو إبراهيم عبد الباعث أو أبي الدرداء أو المرسي أبي العباس فقد صرف الدعاء لغير الله فأشرك في الإلهية. وأما الشرك في الربوبية: فإن ذهب وسأله تفريج الكربات، وقال: مدد يا بدوي! والمدد طلب العون من غير الله، فهذا شرك في الربوبية؛ لأنه اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، والذين كسروا ما يتعلق بذلك القبر فقد أخطؤا؛ لأن هذا العمل ينزل تحت المصالح والمفاسد، فعندما قام البعض بالتكسير جاء المنتصرون للقبر وجددوا البناء بالحديد، وكتبوا عليها: مدد يا بدوي! وقد قعد شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك قاعدة وهي: أنه من أنزل المخلوق منزلة الخالق، أو الخالق منزلة المخلوق فقد كفر، فالمكلف إذا فعل ذلك فقد أنزل المخلوق منزلة الخالق من وجهين: الوجه الأول: أنزله منزلة الخالق؛ لأنه صرف له عبادة لا تكون إلا للخالق. الوجه الثاني: أنزله منزلة الخالق؛ لأنه اعتقد فيه أنه يحرك الكون من دون الله جل في علاه، أو يستطيع أن يفرج الكربات من دون الله جل في علاه، فهذا اعتقاد شركي. إذاً: القسم الأول من التوسل الممنوع هو الشرك، أو التوسل الشركي الذي يخرج به صاحبه من الملة، وإطلاق التوسل عليه تجوزاً.

التوسل البدعي

التوسل البدعي الثاني: التوسل البدعي: وهو التوسل بذوات الصالحين، أو بجاه الصالحين، ويستدل أصحابه بقول الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]، فلهم المكانة الراقية والعالية عند ربهم بقول الله: {لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]. ومن ذلك التوسل بجاه النبي على أنه هو أكرم خلق الله على الله، قال الله تعالى يقسم بحياة النبي: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]. وقالوا أيضاً: إن مكانة النبي عند ربه لعظيمة، وله جاه عظيم، فعندما يكون الناس في كرب شديد يذهبون يتوسلون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وبجاهه، فترى الداعي منهم يقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك عندك أن ترزقني، أو تشفي مريضي، وهذا له وجه، فقد قال بهذا القول العز بن عبد السلام، بل نقل عنه الشوكاني أنه قال: لا توسل يجوز إلا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أنه لغى حتى التوسل المشروع، ثم قال: هذا إن صح الخبر، وهذا ينم عن فحولة العالم الرباني سلطان العلماء، فلا يستنير إلا بضوء الآثار، ويعلق كلامه على تصحيح الخبر، والخبر هو ما جاء عن عثمان بن حنيف أن النبي صلى الله عليه وسلم (جاءه رجل ضرير وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله لي أن يشفيني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت صبرت ولك الجنة -كما في حديث المرأة المصروعة- وإن شئت دعوت الله لك، قال: ادع الله لي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب فتوضأ، ثم صل، ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبيك، وأسألك بنبيك يا محمد يا نبي الرحمة! إني أتوجه بك إلى الله جل في علاه، ثم قال: اللهم شفعه في وشفعني فيه) وكل هذا محتمل، لكنهم استدلوا بأنه صلى الله عليه وسلم صرح بذلك في لفظ آخر للحديث فقال: (فإن كانت لك حاجة فأت مثل ذلك) قالوا: وهذه دلالة واضحة، وفيها تصريح بجواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم حياً أو ميتاً. ووجه الدلالة هو عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن كانت لك حاجة فأت بمثل ذلك) بمعنى: إذا عرضت لك الحاجة سواء كنت حياً أو ميتاً فافعل ما أمرتك به، واستدلوا على ذلك أيضاً بزيادة في بعض الأحاديث: أن الراوي نفسه الذي قال هذا الحديث استدل به على التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في خلافة عثمان، قالوا: فهذا دليلنا على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم التوسل بجاه النبي

حكم التوسل بجاه النبي ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم توسل بدعي؛ وذلك لما يأتي: أولاً: من جهة الأثر، فنحن نتعبد الله بقال الله وقال الرسول، فأتونا بأثر عن الله ورسوله بأنه يجوز للإنسان أن يقول: اللهم بجاه النبي أعطني كذا، فإذا لم يجدوا فالأصل في العبادات التوقيف، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) أي: باطل، وإذا كان التوسل عبادة فلا يمكن أن يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه إلا بأثر، ولا أثر عندكم، فإن قلتم: هذا زعم باطل، فهذا الأثر عن عثمان بن حنيف: (أن رجلاً ضريراً الحديث) قلنا: هذا دليل محتمل، قالوا: إن هناك زيادة في الحديث قد نصح الراوي بها رجلاً أعمى في خلافة عثمان أن يدعو بمثل ذلك، قلنا: الحديث إن صح فسمعاً وطاعة، وأول من يتوسل بجاه النبي نحن؛ لأننا تعبدنا الله بالآثار، وندور مع شرعنا حيث دار، لكن لنا معكم وقفات في هذا الحديث: الأولى: أن هذه الزيادة في الحديث التي ذكرتموها ضعيفة، وإن كان أصل الحديث صحيحاً، ولكن قوله: (فإن كانت لك حاجة فأت بمثل ذلك) فقد أجمع المحدثون على أنه ضعيف، ولم يصححه أحد من أهل العلم، والأحكام والتعبدات فرع عن التصحيح، فلا حجة لكم فيه. ثم نقول من باب التسليم جدلاً: إن صح الحديث فله توجيه آخر، وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن كانت لك حاجة فأت بمثل ذلك)، المقصود منه: إن كانت لك حاجة فتعال إلي ادعو لك، وخذ هذا الدعاء وسيلة؛ ليقضي الله حاجتك، فإن قالوا: من أين أتيتم بهذا الفهم؟ قلنا: أتينا به من الأثر ومن فعل الأصحاب، أما من الأثر: فإن الراوي وهو يروي الحديث قال: إن الرجل قال: يا رسول الله! ادع الله لي، وهذا ليس توسلاً محضاً بذات النبي، بل هو صريح في طلب الدعاء منه صلى الله عليه وسلم، فقوله في صدر الحديث: يا محمد صلى الله عليه وسلم! يا نبي الرحمة! أتوسل بدعائك، وقوله: ادع الله لي، يبين لنا أنه توسل بدعاء النبي، ثم قال الرجل بعدما انتهى من الصلاة: (اللهم شفعه في وشفعني فيه) وهذه الزيادة ثابتة، ومعناها: تقبل دعائه في، واقبل توسلي بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لي، وهذا توسل ظاهر بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فرد الله عليه بصره. الثانية: من فعل الأصحاب، فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما جاءه قومه وقالوا: هلك المال وجاع العيال، فتذكر عمر الأيام الخوالي وبكى، وكأنه يقول: أين أنا من رسول الله عندما دخل عليه رجل وهو على المنبر فقال: يا رسول الله! هلكت الأموال، وجاع العيال؟ وقال -وكأنه يتوسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم-: ادع الله أن أن يغيثنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أغثنا، فما نزل النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر، إلا والمطر يتحادر من على لحيته) فذهب عمر إلى العباس، وقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبيك، واليوم نتوسل إليك بعم نبينا، أو بعم نبيك فاسقنا، -فتوسل بدعاء العباس، وهذا ظاهر وجلي بفضل الله سبحانه وتعالى- فقام عمر على مجمع ومحفل من الصحابة وقال: يا عباس! قم فادع الله أن يسقينا، والمعنى: نتوسل بدعائك لقرابتك من النبي صلى الله عليه وسلم، فسقاهم الله جل في علاه، وكان عمر فقيهاً عالماً محدثاً، وكان الصحابة أعلم بكل صغير وكبير، ودقيق وجليل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فعلمهم وتربوا على مائدته، فلو كان من الجواز بمكان أن يذهبوا إلى قبر النبي فيتوسلوا بجاهه لفعلوا، فلما امتنعوا من ذلك مع وجود الحاجة إليه دل على أنه لا يجوز التوسل به صلى الله عليه وسلم، وهناك قاعدة قعدها العلماء، فقالوا: إذا وجد المقتضي وانتفى المانع، ولم تحدث العبادة فهي حرام باطلة، فالمقتضي هنا موجود وهو الجدب وهلاك المال وجوع العيال، والمانع منتفي، فليس هناك ما يمنعهم أن يذهبوا إلى الحجرة الكريمة، ويقولوا: اللهم إنا نتوسل إليك بجاه النبي أن تسقنا، ولم يفعل عمر ولا الصحابة ذلك، وأجمعوا إجماعاً سكوتياً على فعل عمر وذهابه إلى العباس يستسق بدعائه، فدل ذلك على أن هذا إجماع من الصحابة، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قول العز بن عبد السلام بجواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه قد علق الجواز على صحة الخبر، وإذا كان الخبر فيه هذه الزيادة التي لم تصح فلا حجة فيه. إذاً: التوسل البدعي هو أن يتوسل بشيء أجنبي عن الدعاء، كجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا التوسل لا يجوز، ولا ينفع صاحبه بشيء.

التوسل بدعاء الأموات

التوسل بدعاء الأموات النوع الأخير: وهو التوسل الشركي المتوسط، فالشرك طرفان ووسط: فالطرف الأول: شرك أكبر مخرج من الملة، والطرف الثاني: مختلف فيه، والخلاف فيه غير سائغ؛ لأنه لا دليل عليه، وهو التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، والوسط هو: التوسل بدعاء الأموات، وهو شرك أصغر، وأما أن يذهب الإنسان إلى الميت فيقول: يا بدوي! فرج كربتي وسد خلتي، أو مدد يا بدوي! فهذا حرام، من النوع الأول، أي: التوسل الشركي. لكنه في هذا النوع المتوسط من أنواع التوسل أصبح يقول: يا بدوي إن روحك طيبة، وأنت الآن عند ربك، وولي من أولياء الله الصالحين، فادع الله أن يغفر لي زلاتي، وأن يرزقني الولد، وأن يشفي مرضاي، فهذا لم يصرف العبادة لغير الله، ولم يقع في الشرك الأكبر، ولا اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، ففر من الأمرين: من صرف العبادة لغير الله فلم يقع في الشرك الأكبر، وفر أيضاً: من الاعتقاد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله؛ لأنه لا يعتقد أن البدوي يستطيع أنه يشفي مريضه أو يغفر زلاته، ولكن يقول: إن البدوي يسمعني، فأنا أقول له -وهو رجل صالح- ادع الله لي. ودليلهم على جواز مثل ذلك ما يأتي: أولاً: أن الأولياء الذي قد ماتوا لهم مكانة عند الله تعالى، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الله في الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت لنا أن الأموات يسمعون، فالميت يسمعنا ويرد علينا السلام، فيذهب إلى الله بروحه فيدعو الله لنا، والدليل على أن الأموات يسمعون قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جهل! هل وجدت ما وعد الله حقاً؟ يا فلان هل وجدت ما وعد الله حقاً؟ فقال له عمر: يا رسول الله! هم أموات أيسمعون؟ قال: هم أسمع منكم اليوم). ومن الأدلة على أن الأموات يسمعون كذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من سلم أو صلى علي رد الله علي روحي فأسلم، أو أرد عليه السلام) فهذه دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم يسمع وهو ميت. ومن الأدلة أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم (وإن الميت ليسمع قرع نعالهم) وقد قال: عمرو بن العاص عند موته: فقفوا عند قبري مقدار ذبح جزور حتى استأنس بكم. فقالوا: هذه أدلة على أن الأموات الصالحين يسمعوننا، فنحن طلبنا منهم أن يدعوا لنا قياساً على طلب الدعاء من الأحياء، فـ عكاشة بن محصن قال: للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي يسمع ويدعو فيجوز أن نسأله هو وغيره من الأموات أن يدعو لنا، ونقول: ادع الله لنا يا رسول الله! قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]، أي: قالوا: يا رسول الله! استغفر لنا، فاستدلوا بالأثر والنظر، وقالوا: هذه أدلة على جواز سؤال الدعاء من الأموات.

مذهب أهل السنة في التوسل بدعاء الأموات ومناقشة رأي المجيزين

مذهب أهل السنة في التوسل بدعاء الأموات ومناقشة رأي المجيزين ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن التوسل بدعاء الأموات شرك، والدليل على ذلك أن عمر استسقى بدعاء العباس ولم يستسق بالميت، وهذا فيه دلالة على عدم الجواز، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. إذاً: فالتوسل بدعاء الأموات لا يصح لأدلة منها: أنه لو كان جائزاً لعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه؛ لأن أبا ذر نظر إلى طائر يطير في السماء فقال: هذا الطائر يقلب جناحيه، ولنا في تقليب الجناح علم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ترك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا علمنا إياه، فلو كان التوسل بدعاء الأموات جائزاً لعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه، فلما لم يعلمنا ذلك ولم يرد أثر ولا نظر ولا قياس ولا فعل من النبي صلى الله عليه وسلم دل ذلك على أنه لا يصح، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم بديلاً عن التوسل بدعاء الأموات وهو التوسل بالأعمال الصالحة، وبدعاء الأحياء، ولم يرد عنه التوسل بدعاء الأموات، ولما بين لنا جواز التوسل بدعاء الأحياء، وسكت عن دعاء الأموات دل على أنه غير مشروع. وهذا هو الدليل على عدم جواز طلب الدعاء من الأموات، فإن لم يستطيعوا الجواب عليه فلابد من الرد على أدلتهم التي استدلوا بها على جواز ذلك، فقد قالوا بجواز دعاء الأموات لأمرين: الأمر الأول: أن لهم جاهاً عند الله جل في علاه. الأمر الثاني: أنهم يسمعون من يسألهم. والجواب على الأمر الأول هو: أننا نقر على أن للأموات الصالحين وجاهة عند الله، وهذه الوجاهة لا تنفعكم وإنما تنفعهم هم، فتوسلكم بوجاهتهم عند الله توسل بأجنبي. وأما الجواب على الأمر الثاني فهو: أن الأموات لا يسمعون، قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، فنفى الله جل وعلا أن أهل القبور يسمعون، وقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} [النمل:80]، فنفى سبحانه سماع الموتى، فإن قالوا: أنتم نفيتم ونحن اثبتنا النفي، والقاعدة تقول: إن المثبت يقدم على النافي، فنحن أثبتنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يسمعون قرع النعال) قلنا: اتفقنا معكم على هذا السماع، لكن هذا السماع سماع خاص وليس بعام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: يسمعون أحوالكم وكلامكم، وإنما قال: (يسمعون قرع نعالكم)، وقال: يسمعون السلام فقط، فهذا دليل خاص، ودليلنا عام، فلا نحمل العام على الخاص، وإنما يبقى العام على عمومه ويعمل به في عمومه، إلا في حالة واحدة خاصة، والأصل: أن الموتى لا يسمعون بدليل قول الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22]، وقول الله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل:80]. فالموتى لا يسمعون إلا في حالة واحدة، بينها وأظهرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي: قرع النعال عند الدفن، أو سماع السلام، لكنكم تذهبون وتسألونهم أن يدعوا لكم، وهم لا يسمعون. وإن سلمنا جدلاً أن الموتى يسمعون كلامكم، فأنتم تذهبون إليهم وتقولون: ادعوا الله لنا، وتذهبون للبدوي وتقولون: ادع الله أن يغفر لنا، فإن ما يقوم به الموتى بزعمكم هو عمل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)، فبطلت مع ذلك حجتكم. بقي أمر واحد وهو: قياسهم دعاء الأموات على دعاء الأحياء، واستدلالهم بقول: عكاشة: ادع الله لي يا رسول الله! أن يجعلني منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت منهم) وقياسهم دعاء النبي بعد مماته على دعائه بعد حياته؛ لقول الله {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} [النساء:64]. فيجاب عليه بالآتي: أولاً: هذا القياس قياس فاسد الإعتبار؛ لأنه صادم النصوص. ثانياً: هذا القياس قياس مع الفارق، والفارق هو: أن الحياة البرزخية لا تقاس على الحياة الدنيوية، والله جل وعلا يبين أنه لا يستوي الأحياء والأموات عموماً، وهذه الحياة البرزخية حياة غيبية لا نعلمها، وأنتم قستم ما علمتم على ما لم تعلموا، فالحياة البرزخية تخالف الحياة الدنيوية، فأصبح قياسكم قياساً مع الفارق، وهو فاسد الاعتبار لا يصح. فينبغي على من سمع هذه الأدلة ألا يقول: بالتوسل بدعاء الأموات، ولا بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، بل التوسل بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وبذاته تعالى وأفعاله.

شبهة والرد عليها

شبهة والرد عليها حكى الإمام الشوكاني عن بعض العلماء أنهم قالوا: لا توسل لا بالذوات ولا بالأرواح ولا بالأفعال ولا بالإيمان ولا بالأعمال الصالحة، واستدلوا على ذلك بأدلة: الدليل الأول: قول الله تعالى أمراً نبيه أن يقول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا} [الأعراف:188]، فإذا توسلوا بدعائه فهذا نفع، وهو لا يملك لنفسه نفساً ولا ضراً، فمن باب أولى لا يملك لغيره. الدليل الثاني: قول الله تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19]. فهذه أدلة على أن التوسل بدعاء الأنبياء في حياتهم، وبدعاء الصالحين لا يصح. والجواب على ذلك بالأدلة التي أثبتت جواز التوسل بدعاء الصالحين، منها قول عكاشة: ادع الله لي يا رسول الله. ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمر في الحديث: (ادع الله لنا يا عمر) وهو حديث ضعيف، ولكن يستأنس به، وفيه إثبات من النبي صلى الله عليه وسلم لطلب الدعاء من الأحياء، وما أتوا به من الأدلة نافية، والمثبت يقدم على النافي، وهذا هو الأمر الأول. والأمر الثاني: أن دليلنا قطعي، وهو قول عكاشة: ادع الله لي، وقوله صلى الله عليه وسلم: (أنت منهم، أو قال: قد دعوت فأنت منهم)، ودليلكم محتمل، وهو قول الله جل وعلا: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار:19] ووجه الاحتمال: أن هذا في يوم القيامة، ولا ملك يومئذ إلا لله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ} [غافر:16]، فالاستدلال بهذه الآية في غير محل النزاع، والنزاع كله في أمر الدنيا، وهو التوسل بدعاء الصالحين، وهو في الآخرة، والآخرة كلها لله جل في علاه. أما قول الله تعالى أمراً نبيه أن يقول: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا} [الأعراف:188]، فهو بيان لحال النبي صلى الله عليه وسلم على العموم، فهو لا يملك نفعاً ولا ضراً إلا بإذن الله، وقد أذن الله له بالشفاعة في الآخرة، وأذن له بالدعاء لإخوانه في الدنيا، فالدليل لنا وليس علينا، فنحن نوافق على أن النبي لا يملك نفعاً ولا ضراً، لا لنفسه ولا لأحد من الناس، إلا إذا مكنه الله، وقد مكنه بالدعاء للصالحين من أصحابه، ومكنه من الشفاعة في الآخرة. فالخلاصة أن التوسل الصحيح: هو أن يتأدب العبد مع الله؛ حتى يستجيب دعاءه، ويتقدم بين يدي دعائه بأقوال وأفعال كلها عبادات، ويتوسل بذات الله وأفعاله وصفاته وأسمائه، فيقول: يا رحمان! ارحمني، يا رزاق! ارزقني، وأما يا جبار! اغفر لي، فهو خطأ وسوء أدب مع الله؛ لأنه لابد من الإتيان بما يناسب الحال، كأن تقول: يا جبار! انتقم من الظالمين، ولا تقل: يا جبار! ارحمني، بل: يا رحمان! ارحمني، وهذا من الأدب في التوسل بأسماء الله وصفاته. وأيضاً: التوسل بالأعمال الصالحة، كما فعل أصحاب الغار وغيرهم، وهذا أخر ما تكلم عنه الشوكاني رحمه الله في التوسل.

التبرك [1]

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - التبرك [1] وصف الله سبحانه وتعالى نفسه في غير موضع من القرآن الكريم بـ (تبارك)، فمنه وحده تستمد البركة وتلتمس، ولا يمكن أن يلتمسها العبد من غيره؛ لأنه قد يقع في الشرك المنافي للتوحيد الخالص، وقد استمدت بعض الأماكن والأزمنة بعض البركة المشروعة، والتي يجوز أن يلتمس المسلم منها شيئاً.

معنى التبرك

معنى التبرك إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فسنتكلم بمشيئة الله تعالى على مسألة مهمة جداً، ألا وهي: مسألة التبرك، وهي مسألة شائكة في توحيد الألوهية، لا سيما وأن فيها خلافات لبعض أهل العلم، فلا بد من إتقان مثل هذه المسألة. فالتبرك: من البركة، والبركة لغة: ثبوت الخير أو زيادته ونمائه؛ والبركة ما سميت برْكة إلا لثبوت الماء فيها، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، وأيضاً قال الله تعالى: {نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل:8]، فهو يدل على ثبوت الخير، أو طلب ثبوته وزيادته ونمائه. ومعنى التبرك: طلب البركة، أي: أن من تبرك فقد طلب ثبوت الخير وزيادته ونمائه، فأما أن نقول: عنده خير فتتبرك بأمر معين لثبوت هذا الخير له، وأيضاً تبرك لزيادته ونمائه. والتبرك عبادة؛ لأن الطلب سؤال ودعاء، والدعاء عبادة، وقد بينا سابقاً أن الأدلة على أن الطلب والسؤال عبادة، قول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس ناصحاً إياه: (وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله). والتبرك منه ما هو مشروع، ومنه ما هو ممنوع، ومنه ما هو مختلف فيه؛ لأن القاعدة تقول: الأصل في العبادات أنها توقيفية، وإذا ثبت الأمر أنه عبادة، فصرفه لا يكون إلا لله، وصرفه لغير الله شرك.

اتصاف الله بصفة البركة

اتصاف الله بصفة البركة يتصف الله جل وعلا بـ (تبارك)، ولا يصح أن يصف المسلم ربه إلا بتبارك؛ لأنه لم يرد صفة من صفاته انفرد الله بها جل في علاه في مسألة البركة إلا بتبارك، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1]، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان:61]، فتبارك صفة يختص بها الله، فلا يشاركه فيها أحد، ولا يصح لك أن تقول: إن الله مبارك حاشا لله؛ لأن المبارك اسم مفعول، معناه: أن هناك من أتاه بالبركة، نعوذ بالله من ذلك. وتبارك تمجيد وتعظيم لله سبحانه جل في علاه، كما قال ابن القيم: البركة كل البركة من عند الله جل في علاه، فمن طلب البركة فلا يطلبها إلا من الله جل في علاه. والله جل في علاه أباح لنا أن نصف صفة من صفاته بالبركة، فإذا قلنا: رحمة الله مباركة يصح ذلك، وإذا قلت أيضاً: عزة الله مباركة، قوة الله مباركة، قدرة الله مباركة يصح، والدليل على ذلك: أن الله وصف صفة من صفاته بالبركة فقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، فقال: مبارك، والكتاب هو كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته جل في علاه، فيصح أن تقول: كلام الله مبارك. ومعلوم أن كلام الله مبارك؛ لأن فيه شفاء للناس، وقراءته بركة، وتلاوته بركة، واستماعه بركة، وتدبره بركة.

جواز إطلاق البركة على بعض الأماكن

جواز إطلاق البركة على بعض الأماكن وبعض الأماكن قد بين الله أنها فيها زيادة بركة، فتطلب البركة فيها. ومن هذه الأماكن ما ذكره الله في قوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1]، وقال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران:96].

جواز إطلاق البركة على بعض الأشخاص

جواز إطلاق البركة على بعض الأشخاص وهناك أيضاً أشخاص فيها البركة، وأعظم الناس بركة على الإطلاق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أشرقت شمسه على البشرية، فأتاه الخير من كل جوانب الدنيا بأسرها، وفي عشرين عاماً كان قد ملك أصحابه الدنيا بأسرها، وجابوا مشارق الأرض ومغاربها، وعبدوا الناس لله جل في علاه، وأروع ما ضرب في ذلك حديث ربعي عندما دخل على رستم، وقال: من أنتم؟ وماذا تريدون؟ قال: نحن عباد لله. فالشاهد أنه قال: عباد لله، ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة الدنيا أو من عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد القهار. فعبدوا الدنيا كلها لله، وهذه كلها بركة، إذ أن البركة تحل بتوحيد الله الخالص دون أدنى شك.

أنواع التبرك

أنواع التبرك

التبرك الممنوع وبيان رده

التبرك الممنوع وبيان رده نجد بعض الناس من يتبرك عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلي في الغرفة التي هو مدفون فيها، وهذا لا يجوز؛ لأن التبرك المشروع يكون بالصلاة في المسجد النبوي، وهذا كثيراً ما يحدث من النساء، وذلك عندما يدخلن فيتبركن بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو بالدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا تبرك ممنوع، ولو كان خيراً لسبقونا إليه. ومن التبرك الممنوع: التبرك بالأوقات والأزمنة، وأصحاب هذا التبرك يكونون خاملين في ذكر الله، وفي عبادة الله جل في علاه، إلا في أوقات معينة، وهذه الأوقات والأزمنة يلتمسون فيها البركة، مثل: زمن المولد النبوي، فتراهم يجتمعون ويحتفلون ويتكلمون عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بالمدائح والقصائد والأشعار، وإذا سألتهم قالوا: هذا مولد النبي صلى الله عليه وسلم، وأعظم بركة على الدنيا هي بركة يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فيجتهدون بالتصدق والزكوات وإظهار الفرحة والسرور والعبادات في هذه الأوقات. ومن تلك الأزمنة أيضاً: يوم الإسراء والمعراج، فترى الفضائيات تأتيك بالاحتفالات الباهظة الثمن التي ينفق عليها نفقات عالية جداً، ويتبركون بهذه الأوقات ويتعبدون بها لله جل في علاه. ومن ذلك: ليلة النصف من شعبان، وإن كان الحديث الذي ورد في فضلها ضعيفاً، لكن عضد بروايات أخرى، وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن الله يطلع على عباده فيغفر لكل العباد ما عدا المشاحن والمشرك، ويقولون: هذا يوم مغفرة، ويوم بركة -وحقاً أنه يوم بركة- فيتقصدون فيه عبادة معينة. ومن أنواع التبرك الممنوع: التبرك بالتراب أو بتراب القبور، أو الاستشفاء بالقبور، أو التبرك بالصلاة عند المقبور، وذلك مثل ذهاب بعض الأشخاص إلى قبر أبي العباس، أو البدوي، أو قبر أبي الدرداء وغيرها من القبور. ومن قال: إن التبركات هذه زيادة خير، فعليهم أن يأتونا بالدليل، ولا دليل لهم، بل قد جاء حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في ديننا هذا ما ليس منه، فهو باطل). فقام قائمهم وقال: نرد عليكم هذا الدليل، وذلك أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد فعلوا ذلك، ومنهم: أبو بسرة الفغاري رضي الله عنه وأرضاه، فقد ذهب إلى جبل الطور ليصلي هناك؛ تبركاً بالمكان، وكثير من التابعين كانوا يذهبون إلى مسجد بين مكة والمدينة يصلون فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فيه. لكن نقول: إن الرد عليكم من وجهين: الوجه الأول: أن أكابر الصحابة قد أنكروا على من فعل ذلك، فـ أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه قابل أبا بسرة الغفاري وهو راجع من الطور، فقال له: إلى أين ذهبت؟ فقال: ذهبت إلى جبل الطور أصلي هناك، قال: أما إني لو أدركتك ما فعلت ذلك، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وكأنه يقول: شددت الرحل طلباً للبركة بالصلاة في جبل الطور! والنبي صلى الله عليه وسلم قد منع من ذلك، وحرمه تصريحاً بقوله: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الأقصى، والمسجد النبوي، والمسجد الحرام). وعمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه عندما خاطب الحجر قائلاً: لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك؛ إنك حجر لا تنفع ولا تضر، قال ذلك حفاظاً على التوحيد، وسداً للذريعة. كذلك لما أخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه بالذين يصلون تحت شجرة الرضوان ويتقصدون هذا المكان، فذهب وقطع الشجرة سداً للذريعة، وهذا فيه دلالة واضحة جداً على تحريم التبرك عند شجرة الرضوان. وهناك دليل آخر وهو: حديث أبي واقد الليثي في مسند أحمد بسند صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مروا على أقوام يعلقون سيوفهم على شجرة ويتبركون بذلك، أو يتعبدون للشجرة، فقالوا: (يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر! لقد قلتم مثلما قال أصحاب موسى لموسى، قالوا: {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138])، إنها السنن، لتركبن سنن الذين من قبلكم. والنبي صلى الله عليه وسلم عذرهم بجهلهم ولم يكفرهم، وهذه الفائدة الكبرى التي نستنبطها من هذا الحديث: وهو أنه من أتى بكفر سواء كفراً أكبر أو كفراً أصغر لا يكفر، أي: لا ينزل عليه الحكم عيناً، إلا إذا أقيمت الحجة وأزيلت الشبهة. وأيضاً من التبرك الممنوع: التبرك والتمسح بالكعبة. وكذلك التبرك: بمقام إبراهيم. وكذلك التبرك: بالركن اليماني، أو بأي ركن من أركان الكعبة. كله من التبرك الممنوع. وكذلك التبرك: بالتمسح بالحجر الأسود، والجائز هو تقبيله فقط، وهذا التقبيل ليس طلباً للبركة، وإنما استناناً بسنة النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. فقد جاء أمير المؤمنين وكاتب الوحي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه، جاء حاجاً، فتلمس البركة بالتمسح في كل جوانب الكعبة، ومسح على الحجر الأسود والركن اليماني والشمالي والعراقي وغيره، وقال: ليس من الكعبة شيئاً مهجوراً. فخالفه ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه فقال له: يا معاوية! لا تفعل، والله ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل فعلك. فقال: صدقت يا أبا العباس! أو قال صدقت يا عبد الله بن عباس! وكف عن ذلك.

التبرك المشروع

التبرك المشروع القسم الثاني التبرك المشروع، فمن سماحة الشرع الحنيف أنه إذا سد باباً على الناس فتح عليهم أبواباً. فالبركة تأتي بأقوال وأفعال وأزمنة وأماكن، ومن هذه الأقوال: تلاوة كتاب الله جل في علاه، فالبركة كل البركة في ذكر الله جل في علاه، وفي تلاوة قرآن الله جل في علاه، قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص:29]. ومن هذه البركة: ما قاله ابن مسعود في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اقرءوا القرآن، فإن لكم بكل حرف -هنا البركة- حسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، لا أقول: ألم حرف، ولكن: ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف). فإذاً: التماس البركة في تلاوة القرآن، وأخص بذلك سورة البقرة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في سورة البقرة: (اقرءوا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة)، أي: السحرة، فالبركة كل البركة في سورة البقرة. وأيضاً من التماس البركة في الأقوال: ذكر الله جل في علاه، والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في مجالس العلم، فالبركة كل البركة عند ذكر الله والتذاكر لكلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم. والدليل على ذلك: حديث ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي -بركة الذكر في النفس- ومن ذكرني في ملأ - هنا البركة - ذكرته في ملأ خير منه) وهو ملأ الملائكة. ومن بركة مجالس الذكر: حديث: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم). فإذاً: بذكر الله جل في علاه، وبالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تحصل البركة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً)، فهذه بركة ليس بعدها بركة، وأشد من ذلك بركة أن تستقبل دعاءك بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتؤخر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الدعاء، فحري أن يجاب لك. بل إذا جعلت كل دعاءك صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم -كما بينه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي- فإنه يغفر ذنبك ويفرج همك، ويأتيك الله بما تحب وبما تشتهي. أيضاً: التبرك بالأفعال، ومن أهم هذه الأفعال التي يمكن أن يتبرك بها المرء: الصلاة، وكثرة السجود، والتذلل لله جل في علاه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: (تمن، قال: أتمنى مرافقتك في الجنة، فقال له رسول الله: فأعني على نفسك بكثرة السجود)، فأي بركة توازي هذه البركة، وأنت تكثر من السجود فترتفع درجة في الجنات حتى توازي درجة النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى. وأيضاً من هذه البركة: ما ورد في السنن أن أبا ذر دخل على بعض التابعين، فصلى كثيراً ولم يَعُدْ ثم سلم، فقال بعضهم: ما بال هذا الرجل صلى كثيراً ولا يعرف خرج من صلاته على وتر أم على شفع؟! فلما سمع ذلك قال: ألا تعرفوني؟ قال: أنا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما سجد عبد لله سجدة، إلا رفعه الله بها درجة، وحط بها عنه خطيئة)، وهذه بركة ليست بعدها بركة. وكذلك الصوم: فمن أكثر من الصوم فتحت له أبواب الخير الكثيرة. والأزمنة كذلك: فهناك أزمنة منها: يوم عاشوراء، وفيه بركة ليست بعدها بركة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحتسب على الله أن يكفر سنة ماضية)، فصوم عاشوراء فيه بركة أيما بركة، وهي: تكفير كل المعاصي التي في السنة الماضية، وعلى خلاف بين العلماء، هل هذا يشمل الكبائر أم الصغائر؟ لسنا بصدد التفصيل في ذلك، لكن الراجح أنه يشمل الصغائر فقط. وكذلك يوم عرفة الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أحتسب على الله أن يكفر سنة ماضية وسنة مستقبلية). ومن هذه الأوقات: وقت السحر، فخاب وخسر من ضيع وقت السحر، وقت السحر وما أدراك ما وقت السحر؟! وقت السحر عندما يخيم السكون، والليل قد أقبل وغارت نجومه، والله نازل في السماء يستقبل عباده، نزولاً يليق بجلاله وكماله، فيقول: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستشف فأشفيه؟ وقد قال الله مادحاً عباده المؤمنين بقوله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]. فأي بركة في هذه الأوقات، فهذه أوقات مباركة لا بد للإنسان أن يستغل فيها هذه البركة، ويدعو الله جل وعلا فيها. أيضاً من هذه الأوقات: يوم الجمعة وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس) -وهو خير يوم على الإطلاق- فيه خلق آدم، وفيه أخرج من الجنة، وفيه تقوم الساعة، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا من بركة يوم الجمعة- (فيه ساعة لا يسأل عبد فيها الله جل في علاه إلا أجابه). ومن بركة الجمعة: أن من مات فيها كانت علامة على حسن الخاتمة. ومن الأزمنة: البكور، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) فمن أراد العمل بعد الفجر، فالبركة كل البركة بعد الفجر، ولذلك كان الصحابة لا ينامون بعد الفجر إلا من شيء. ومن الأماكن التي يتبرك فيها أو تتخذ وسيلة لالتماس البركة بالاجتهاد بالعبادة فيها: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى والمسجد الحرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في مسجدي هذا بألف صلاة في أي مسجد آخر إلا المسجد الحرام، وصلاة المسجد الحرام بمائة ألف صلاة)، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن). ومن أنواع التبرك المشروع: التبرك بالأطعمة وبالمأكولات، والهيئات في المأكولات، ومن هذا العسل ففيه بركة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيه شفاء للناس) وكذلك حبة البركة هي بركة، فهي شفاء من كل داء. وأيضاً: ماء زمزم، ويا للخسارة لمن شرب ماء زمزم ولم يضمر في قلبه يقيناً في أمر معين! سواء مرافقة النبي، أو نصرة الدين، تستيقن في ربك أنك كلما شربت ماء زمزم كلما علوت. فـ ابن حجر علم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له) وهذا عموم منه صلى الله عليه وسلم، قال: فشربت ماء زمزم لأصل إلى حفظ الذهبي، فما زلت أشرب في هذه النية حتى ارتقيت على حفظ الذهبي، فوجد نفسه أحفظ من الذهبي. يا للروعة! ويا لليقين في التعامل مع الله جل في علاه! أيضاً: يقول أبو بكر بن العربي في ماء زمزم: شربت ماء زمزم للعلم وللإيمان، فملأني الله علماً وإيماناً، ويا ليتني شربته للعمل مع العلم. فماء زمزم ماء مبارك طعامه، وهو شفاء للسقم، وأيضاً فيه بركة في العلم وفي غيره. ومن الأطعمة التي فيها البركة: اللبن، فقد أتي النبي صلى الله عليه وسلم بكوب من اللبن، فقال: (هذا البيت فيه بركة، أو بركتين)، فدل على أن اللبن من بركات البيت. وأيضاً: علمنا دعاء عند شرب اللبن، فنقول: (اللهم بارك لنا فيه، وزدنا منه بركة) فهذه بركة في اللبن. وأيضاً: البركة في زيت الزيتون؛ لأنها شجرة مباركة، وكان النبي صلى الله عليه سلم يبين أن نعم الإدام هذا الزيت، والبركة فيه بأن تأكل منه وتدهن، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدهن كعب رجليه، أو أمر بالدهان في كعوب الأرجل إن كانت فيها مرض معين أو تشققات، فالتمس البركة بالشفاء بزيت الزيتون، أو بزيت البركة، فإن فيه البركة.

التبرك [2]

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - التبرك [2] مسألة التبرك من أهم المسائل التي ينبغي الحديث عنها، وذلك لأن كثيراً من الناس يتبركون ببعض الصالحين ويلتمسون البركة منهم، وهذا فيه من الخطر والبلاء ما الله به عليم، وذلك من جهتين: من جهة الشخص الصالح، فإنه قد يغتر بذلك ويؤدي إلى هلاكه، ومن جهة العامة، فإنهم قد يغلون فيه ويوصلونه إلى منزله الإلهية والعياذ بالله، كما فعل غلاة الشيعة عندما غلوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فالتبرك لا يجوز إلا بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، وهذا قد انتهى بموته صلى الله عليه وسلم وذهاب آثاره، فلا نقيس أحداً من الصالحين أياً كان برسول الله صلى الله عليه وسلم.

التبرك بذوات الصالحين

التبرك بذوات الصالحين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فلقد سبق أن بينا أن التبرك على ثلاثة أنواع: التبرك المشروع، والتبرك الممنوع، والتبرك المختلف فيه. فأما التبرك المختلف فيه، فهو: التبرك بذوات الصالحين، فكثير ما تسمع من الناس يقولون: فلان هذا بركة، أو زارني اليوم بركة، أو لقد حلت علينا البركة، فهل هذا التبرك هو تبرك بذوات الصالحين، أم تبرك بأثر الصالحين؟ وهل هذا التبرك جائز أم لا؟ وما الأدلة على ذلك؟ وهذا ما سنتكلم عنه بمشيئة الله تعالى.

حكم التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره

حكم التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره لا يختلف اثنان في أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الرجل المبارك، وأنه أكثر الناس وأعظم الناس بركةً في هذه الدنيا، فهو صلى الله عليه وسلم أعظم الخلق أجمعين، وهو سيد البشر وسيد ولد آدم أجمعين، وهو الذي له المكانة العليا عند ربه جل في علاه، فهو أعظم الناس بركة، لأن ببركة وجوده صلى الله عليه وسلم أشرقت شمس الإسلام على الدنيا بأسرها، وعبدت الناس لله جل في علاه، فأخرج أصحابه الناس من عبادة الناس، إلى عبادة رب الناس، وهذه بركة لا تدانيها أية بركة؛ والنبي صلى الله عليه وسلم رجل مبارك في ذاته وفي أثره وفي علمه وفي رسالته وفي نبوته، فهو صلى الله عليه وسلم كله بركة، ويلتمس منه البركة في ذاته وفي آثاره.

الأدلة على جواز التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم

الأدلة على جواز التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم من الأدلة على جواز التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره: أنه جاء في الصحيحين عن أنس ابن مالك رضي الله عنه وأرضاه قال: ولد لـ أبي موسى غلام، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه النبي صلى الله عليه وسلم، أي: أخذ تمرةً فلاكها في فمه، ثم وضعها في فم الطفل لينزل في بطنه شيء حلو، ثم دعا له بالبركة، وبعد ذلك سماه إبراهيم، فكان مجيء أبي موسى بطفله إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس البركة منه، كما ذكر ذلك أنس رضي الله عنه. وكذلك عائشة رضي الله عنها وأرضاها قالت: (ما ولد مولود إلا جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتبركون بريقه صلى الله عليه وسلم، فكان يحنكهم ويدعو لهم بالبركة). ومن الأدلة على جواز التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى الله عليه وسلم دخل على أم سليم، وكان ينام عندها، لأنه محرم لها، قيل: إنها من خالاته من الرضاعة، والله تعالى أعلى وأعلم، فنام ذات يوم عندها فعرق النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عرقه صلى الله عليه وسلم أطيب من المسك، فأخذت أم سليم تجمع عرق النبي صلى الله عليه وسلم وتضعه في قارورة، كما ورد ذلك في الصحيح، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم من فعلها، فسألها عن ذلك، فقالت: إني أتبرك به لي ولأولادي. فقال لها مقراً: (أصبت)، أي: أصبت في تبركك بهذا. وأيضاً في الصحيح عن عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه الله عنه أنه ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية قبل أن يسلم، ثم رجع إلى أهل قريش يحدثهم بمكانة النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، فقال: ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنخم نخامة فتقع على يد أحدهم إلا دلك بها جلده، ثم قال: وما توضأ وضوءاً إلا كادوا يقتتلون على وضوئه؛ تبركاً بهذا الماء. وأيضاً: فعله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية، وذلك حين ردوه عن البيت، وكان الموقف موقف إحصار، فإنه دعا الحلاق، فحلق الجانب الأيمن ثم الجانب الأيسر، ثم فرق هذا الشعر على أصحابه أبي طلحة وغيره من أصحابه يتبركون به، وقد بقيت شعرة واحدة مع الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وكان دائماً يتبرك بها، ويجعلها تحت عينيه، ويجعلها على لسانه، ويجعلها على بطنه؛ لأنه يعلم أنها شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم؛ تبركاً بأثر من آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيضاً: أبو موسى الأشعري وبلال رضي الله عنه الله عنهما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبان البشرى، فبشرهما النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا بقدح فيه ماء، فغسل يديه ووجهه، ثم مج في الماء ودعا، ثم قال لهما: اشربا منه واغسلا وجهيكما به، تبركا به صلى الله عليه وسلم. وفوق ذلك، كانوا يتبركون ببول النبي صلى الله عليه وسلم، بل ويتبركون بدم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي جعل بعض الفقهاء يقولون: إن بول النبي صلى الله عليه وسلم طاهر، واستدلوا بحديث المرأة التي شربت بول النبي الله عليه وسلم، فأقرها صلى الله عليه وسلم على ذلك، وهذا الإسناد فيه ضعف، لكن يستأنس به هنا. وأيضاً: عبد الله بن الزبير رضي الله عنه عندما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم فأعطاه دم الحجامة، فقال له: (ضعه في مكان لا يراه أحد، فأخذه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبأته؟ قال: نعم، وضعته في مكان لا يمكن لأحد أن يراه، فقال: أين وضعته؟ قال: وضعته في بطني)، أي: شربه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويل للناس منك، وويل منك من الناس)، فإن صح الحديث فهذا أيضاً تبرك بأثر من آثار النبي صلى الله عليه وسلم. فالإجماع حاصل على أن التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وسلم جائز، ونقول: إن كان التبرك جائزاً بأثر من آثار النبي صلى الله عليه وسلم فمن باب أولى جواز التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم، وبالجلوس معه، وببركة علمه صلى الله عليه وسلم. ويجب أن نعلم أن العلم أصبح الآن علماً نظرياً فقط، وليس علماً عملياً، لأن رسول الله صلى الله عيله وسلم قد مات، وآثاره قد انتهت ولم يبق منها شيء، فلا نصدق من جاء ببعض الأشياء وقال: هذه من آثار النبي صلى الله عليه وسلم، كالذي يقول إن معه نعال النبي صلى الله عليه وسلم، أو الذي أتى بعصا وعمامة وقال: هذه عصا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنى لهم ذلك! فآثاره صلى الله عليه وسلم كما قلنا قد انتهت، ولكن هذا من باب بيان جواز التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم عندما كانت موجودة، وقد سبق الكثير من الأدلة على ذلك، ومنها كذلك: ما ورد عن الرجل الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه إزار ورداء، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: اكسونيها يا رسول الله! وكان النبي صلى الله عليه وسلم أحوج ما يكون لهذا الرداء، وكانت إحدى النساء قد صنعته خصيصاً له صلى الله عليه وسلم، ولما علمت من حاله صلى الله عليه وسلم أنه ما عنده أكثر من رداء وإزار، والصحابة رضي الله عنه الله عنهم لاموا هذا الرجل على صنيعه هذا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما علم من أخلاقه وكرمه وبركته لم يكن ليرفض هذا الطلب، ولو كان حاله ما كان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد سائلاً بحال من الأحوال، فخلع رداءه وأعطاه للرجل، ثم بعد ذلك اعتذر هذا الرجل أمام الصحابة رضي الله عنه الله عنهم وقال: أردت أن أكفن فيه، تبركاً بما مس جلد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الأدلة كذلك على جواز التبرك بذاته صلى الله عليه وسلم وآثاره: ما ورد في إحدى الغزوات عندما سوى النبي صلى الله عليه وسلم الصفوف، فإذا أحدهم خارج عن الصف فضربه بيده صلى الله عليه وسلم على خاصرته أو على بطنه، فقال (يا رسول الله! أوجعنتي وأريد القصاص، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بطنه ليقتص الصحابي منه)، ما أعظم هذا الموقف وما أروعه! عندما يتعامل القائد مع الرعية بهذا التعامل؛ فإن البركة تنزل من السماء، والنصر يأتي لا محالة، (فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بطنه، فقام الرجل فقبل بطن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ذلك، قال: قد رأيت ما نحن فيه يا رسول الله نحن في الصف، فأردت أن يكون آخر ما أمسه في حياتي هو بطن النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: أنه فعل ذلك تبركاً بالنبي صلى الله عليه وسلم. فالصحابة كانوا من أفقه الناس، وكانوا يتبركون بأثر النبي وبذات النبي صلى الله عليه وسلم.

القائلون بجواز التبرك بآثار الصالحين وأدلتهم الأثرية والنظرية

القائلون بجواز التبرك بآثار الصالحين وأدلتهم الأثرية والنظرية نظر جمهور أهل العلم إلى الأدلة السابقة التي فيها تبرك الصحابة بآثار النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: هذه الأدلة أيضاً تدل على جواز التبرك بآثار الصالحين. والذي أعلنها صراحة النووي في شرح صحيح مسلم، ثم تعبه الحافظ ابن حجر في الفتح، ثم الإمام الشوكاني، فقالوا جميعهم: بجواز التبرك بآثار الصالحين، واستدلوا بما سبق من الأدلة التي تدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتبركون بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، وكادوا يقتتلون على وضوءه، وتبركوا بثياب النبي صلى الله عليه وسلم، وتبركوا بكل شيء من رسول الله، بشعر النبي، بالماء الذي نبع من أصابع النبي صلى الله عليه وسلم. بل قالوا: إن هناك أدلة أخرى كثيرة، منها: قول الله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ} [البقرة:248]، فهؤلاء كانت الآية لهم أن يأخذوا آثار الأنبياء ويتبركوا بها، ولذلك قال النووي: فهذه الآية فيها دلالة واضحة على جواز التبرك بآثار الصالحين، فإذا أخذت عمامة شيخك أو عصاه أو قميصه لتتبرك بها، جاز لك ذلك. واستدلوا أيضاً بدليل آخر: وهو حديث في الصحيحين، أن عتبان بن مالك رضي الله عنه بعدما عمي لم يستطع أن يذهب إلى المسجد، وكان يؤم الناس، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بيني وبين قومي هذا النهر، وإن الأمطار تأتي فتعوقني عن الذهاب إليهم لأؤمهم، فصل عندي يا رسول الله! في مكان اتخذه مصلى، فهو أراد أن يتبرك بالمكان الذي سيصلي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم إليه وكان قد صنع له طعاماً، فأراد أن يطعم أولاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، أين تريد أن أصلي؟ فأشار إلى مكان في ناحية الدار، فتقدم صلى الله عليه وسلم إلى المكان فصلى فيه، فاتخذ عتبان بن مالك ذلك المكان مصلى؛ تبركاً بفعل النبي صلى الله عليه وسلم. وقد عقب الحافظ على هذا الحديث فقال: هذا فيه دلالة على جواز التبرك بآثار الصالحين. كذلك من الأدلة التي استدل بها الجمهور على جواز التبرك بآثار الصالحين: حديث عائشة وأنس رضي الله عنه عنهما، أن كثيراً من الصحابة كانوا يأتون بالأطفال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحنكهم، ويدعوا لهم بالبركة. قالوا: وهذه دلالة على أن المولود لا بد لمن يحنكه أن يكون صالحاً، وحتى ينزل في بطن المولود أو الطفل ريق الصالح. واستدلوا أيضاً بما ورد عن الشافعي رحمه الله أنه رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه في المنام وقال له: بشر أحمد بن حنبل بالرفعة، وليصبر على بلوى ستأتيه، والبلوى كانت محنة القول بخلق القرآن، فبعث بهذه البشرى لـ أحمد مع الساعي، وقال لساعيه: وائتني بغسول ثيابه، فجاءه الساعي بهذا الغسول، فأخذه الشافعي واغتسل به تبركاً بـ أحمد بن حنبل لتقواه وورعه. فهذا الدليل الذي ورد عن الشافعي ظاهر في جواز بالتبرك بآثار الصالحين، أما الأدلة الأولى فكلها وردت في التبرك بآثار النبيين، كموسى وهارون عليهما السلام، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. قال المجيزون للتبرك: ونحن نقيس الصالحين عليهم، فهم ما تبركوا بهم إلا لصلاحهم وتقواهم وقربهم من الله جل في علاه، فهذا تبرك بالصالحين. هذا قول الجمهور وأدلتهم من الأثر ومن النظر، وكما قلنا التماس البركة يكون في الصلاح وأهل التقى والورع، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، وأيضاً ما من مترجم يترجم لعلمائنا، إلا ويقول: فلان بركة، فـ السخاوي في ترجمته للنووي قال: إنه بركة. وهذا صحيح، فإن النووي بركة، لكن سنبين ماذا يعني هذا القول. وقالوا أيضاً: إن من الأدلة كذلك: أن الصلاح إذا وجد في مكان وجدت معه البركة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سعادة المرء أربع، وذكر منها: المرأة الصالحة)، فالمرأة الصالحة بصلاحها في بيت زوجها تأتي له بالبركات، وقول الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132]، فإن البركة موجودة في هذا البيت بسبب الصلاة. إذاً: أهل الصلاح يكون معهم البركة، لكننا نقول: هذا الكلام فيه نظر وإن كان قول الجماهير، وقول الفحول من الشافعية كـ النووي وابن حجر وإمام الحرمين بل هو قول كثير من الشافعية قد توسعوا كثيراً في مسألة التبرك، فهم حين يصنفون في مسائل الحج يقولون: ومن آداب الحج أن يسافر من مكة إلى المدينة ليتبرك بتراب قبر النبي صلى الله عليه وسلم، والخطيب الشربيني صاحب كتاب (الإقناع) و (معنى المحتاج) من الأئمة في هذه المسألة.

القائلون بعدم جواز التبرك بآثار الصالحين غير النبي وأدلتهم

القائلون بعدم جواز التبرك بآثار الصالحين غير النبي وأدلتهم وقد خالف بعض المحققين من جماهير أهل العلم في التبرك، وقالوا: لا يجوز التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، ولا يجوز بحال من الأحوال قياس غير النبي صلى الله عليه وسلم عليه، واستدلوا على ذلك بعدة أدلة منها: الدليل الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، فالصحابة تبركوا بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، بالجلوس معه وغير ذلك، ولكن بعدما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأينا عمر يأتي ويتبرك بـ أبي بكر، مع أن أبا بكر هو أفضل الصحابة، بل هو أفضل الناس بعد النبيين والمرسلين على الإطلاق، ومع هذا لم يؤثر عن عمر ولا عثمان ولا علي أنهم تبركوا بـ أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، مع أنهم كانوا يعلمون ما لـ أبي بكر من البركة، فقد كانوا يجلسون معه فيأكلون الطعام، فكان الطعام يكثر في أيديهم ولا ينقص من بركة أبي بكر، بل أسيد بن حضير رضي الله عنه يقرر بركة أبي بكر وبركة آل أبي بكر، وذلك عندما ذهبت عائشة رضي الله عنها وأرضاها في سفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانفرط العقد عليها، وكانت قد استعارت هذا العقد من أسماء لأجل أن تتزين به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس ليس معهم ماء، وليسوا على ماء، ففي الليل قالت: يا رسول الله! انفرط العقد، أي: ضاع، والنبي صلى الله عليه وسلم كان خير الناس مع أزواجه، فهو القائل: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)، فأمر الناس بالمكوث، فذهب الناس يكلمون أبا بكر في عائشة، وقالوا: أما رأيت ما فعلت عائشة؟ قال: وما فعلت؟ قالوا: أجلست رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلست الناس وليسوا على ماء ومن المعلوم أن آية التيمم لم تنزل بعد، فماذا يفعلون وكيف يصلون؟ فذهب أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه إلى عائشة رضي الله عنها، تقول وهي تقص هذه القصة: (دخل أبو بكر - ولم تقل: دخل أبي، وكانت معذورة- ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم على فخذي، فقال لها: يا لكع! -أي: يا لئيمة- أجلست رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلست الناس وليسوا على ماء، قالت: فغمزني، أو قالت: وكزني في خاصرتي وما تحركت؛ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، ثم خرج أبو بكر بعدما عنفها وشد عليها، وفي الفجر أنزل الله وحياً يتلى إلى يوم القيامة؛ آية التيمم في سورة المائدة، فقال أسيد بن حضير لـ أبي بكر: ليست هذه بأول بركاتكم يا آل أبي بكر). فآل أبي بكر كلهم بركة، فـ أبو بكر بركة، وعائشة وأسماء بركة، وعبد الله، وكل أبناء أبي بكر بركة، ومع هذا لم نجد أحدا ًمن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب يتبرك بأثر من آثار أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. فهذا عمر، وهو أفضل الصحابة أجمعين بعد أبي بكر، لم نر أحداً فعل ذلك معه بعد موت أبي بكر، ولم نر أحداً فعل ذلك مع عثمان ولا مع علي رضي الله عنه. إذاً: من هنا تأتي القاعدة المهمة ((لو كان خيراً لسبقونا إليه)). الدليل الثاني: قالوا: من مقاصد الشريعة: سد الذرائع، والقاعدة الفقهية المتفق عليها تقول: الوسائل لها أحكام المقاصد، فقالوا: والتبرك بذوات الصالحين وسيلة للغلو فيهم، ومعلوم بينا أن أول شرك حدث في البشرية كان بسبب الغلو في الصالحين، وذلك عندما غلا قوم نوح عليه السلام في ودٍ وسواع ويغوث ويعوق ونسراً، وقالوا: هؤلاء رجال صالحون، فلا بد أن نجعل لهم تماثيل حتى نتذكرهم ونقتدي بأفعالهم وعبادتهم وصلاحهم وورعهم، ثم تدرج الغلو حتى اعتقدوا فيهم ما لا يعتقد إلا في الله، ثم عبدوهم من دون الله جل وعلا، وهذا الذي قرره ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه. فإذاً: الغلو في الصالحين ذريعة كبيرة لاعتقاد الشرك فيهم، وللاعتقاد فيهم ما لا يُعتقد إلا في الله جل في علاه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم حذر الأمة من الوقوع في مثل هذا أيما تحذير، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله). وأيضاً لما دخل عليه القوم، فقالوا له: (أنت سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان) أي: لا يجري بكم الشيطان، فيجعلكم تغلون فيَّ وترفعوني فوق درجتي. أو كما قال قائلهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم: ومن جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم. فهذا غلو في أعظم الخلق صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، ولذلك عقب المحققون وقالوا: هذا الرجل من الجنون بمكان؛ فلانه ما ترك لله سبحانه وتعالى شيئاً، بل أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل شيء. إذاً: التبرك بذوات الصالحين هو وسيلة للغلو فيهم، وقد غلا بعضهم في الإمام أبي حنيفة، حتى أصبح بعض أصحابه يسبون أبا هريرة رضي الله عنه، لينافح عن مذهبه، وعن أقواله التي فيها من الخطأ الكثير، والمصادمة لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتون إلى الحديث ويقولون: هذا من رواية أبي هريرة، وقد كان يروي ما لا يعقل، فهذا سب في أبي هريرة رضي الله عنه بسبب الغلو في بعض الصالحين. والغلو هذا قد يكون سبباً في هدم الإسلام، وذلك كما حدث لغلاة الشيعة، فإنهم غلوا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى أوصلوه إلى مرتبة الإلهية، وحتى أنه بعدما حرقهم بالنار قالوا له: لا يحرق بالنار إلا رب النار، أي: أنت إلهنا، والعياذ بالله، ووضعوا الأحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم بسبب الغلو في آل البيت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما أوليائي المتقون)، أي: لو كان الواحد من آل البيت من الفسقة، فإنه ليس من أولياء النبي صلى الله عليه وسلم، وليس له التوقير ولا التعظيم ولا الاحترام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أغني عنكم من الله شيئاً).

ردود المانعين من التبرك بالصالحين على المجيزين له

ردود المانعين من التبرك بالصالحين على المجيزين له لقد رد المحققون على أدلة القائلين بجواز التبرك بذوات الصالحين، فقالوا: إن الأدلة واردة في جواز التبرك بذات النبي صلى الله عليه وسلم وآثاره، ونحن لا نخالفكم في هذا، وإنما نقول: أنتم جعلتم الصالحين أو آحاد الناس من هذه الأمة في منزلة سيد الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقستم الناس عليه. قال المجيزون: نعم، لأن الصالحين يقتدون ويقتفون أثر النبي صلى الله عليه وسلم، وهم ورثة علمه صلى الله عليه وسلم كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما العلماء ورثة الأنبياء)، فلم لا نفعل بهم ذلك وهم على خطى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصل عندنا عدم التخصيص؛ لأن الله جل وعلا إذا شرع شرعاً ووضع أحكاماً كانت على العموم لا على الخصوص، كما قال تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [البقرة:231]، للناس عموماً، فقد قال الرجل: (يا رسول الله! ألي خاصة؟ قال: بل للأمة عامة)، فالأصل في الأحكام أنها على العموم، فكذلك لا نخصص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة. ثم قالوا: إن قلتم: إن الأدلة وردت في الأنبياء، فعندنا قصة الشافعي، ولا مدخل للأنبياء فيها. قال المانعون: أما الكلام على الأنبياء فنحن نقول بالخصوصية، وبعد الاتفاق معكم على أن الأصل في الأحكام العموم، لكن التبرك بآثار الأنبياء خاص بالأنبياء فقط لا بالصالحين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أفضل البشر أجمعين، وموسى عليه السلام في عصره هو أفضل البشر أجمعين، وعيسى عليه السلام في عصره هو أفضل البشر أجمعين، وإبراهيم عليه السلام في عصره هو أفضل البشر أجمعين، وهذا لا سبيل إلى إنكاره. من الأدلة على أن الأنبياء والرسل هم أفضل الناس أجمعين: قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] ووجه الدلالة: أنه قدم ذكر النبيين على غيرهم في قوله {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69]، فدل هذا التقديم على أفضليتهم، ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى إذا ذكر النبيين ولم يذكر الرسل فإنهم يدخلون في هذا الذكر. ومن الأدلة كذلك: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين، فهذا يدل على أنه أفضل الخلق أجمعين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر). وأيضاً من الأدلة: قول الله تعالى عن الأنبياء: {الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} [ص:47]، وقوله تعالى: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] و (من) هنا تبعيضية. فهذه الأدلة على أن الأنبياء هم أفضل البشر على الإطلاق، فإذا كانوا كذلك فهذه دلالة على الخصوصية التي كانت لهم؛ لأن البركة كل البركة مع هؤلاء الذين هم أفضل البشر. فإذاً: لا يقاس غيرهم عليهم. قال المجيزون: إن الشافعي تبرك بغسول ثياب أحمد بن حنبل، وأحمد ليس بنبي. قال المانعون: هذه القصة لا تثبت عن الشافعي بحال من الأحوال؛ لأن إسنادها مظلم. ثم إذا سلمنا ذلك جدلاً، وقلنا: إنها حدثت من الشافعي -مع أنها لم تثبت عنه ولله الحمد والمنة- فإننا والله لا نقبل منه هذا الفعل، ولا نقبل منه هذا القول، فهو القائل: إن صح الحديث فهو مذهبي، وهو القائل: إذا خالف فعلي فعل النبي صلى الله عليه وسلم، أو قولي قول النبي صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي أو فعلي عرض الحائط، وهو الذي قال: قول الصحابي حجة ما لم يخالفه أحداً من الصحابة، ودائماً يحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر)، فنقول: هذا فعل الشافعي، ولكن فعل عمر يخالفه، وفعل أبي بكر يخالفه، وفعل عثمان يخالفه، وفعل علي يخالفه، وفعل ابن عباس -البحر- يخالفه، وفعل ابن عمر التقي الورع الأثري يخالفه، فبمن نقتدي؟ نقتدي بـ الشافعي، أم نقتدي بهؤلاء الأكارم الأماجد الأخيار؟ نقتدي بالصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ لأنهم أفضل الخلق بعد الأنبياء، والعلم إنما جاء عنهم. العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه فإذاً: ليس لهم حجة في ذلك بحال من الأحوال. فنقول: التبرك خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما دليلهم الأول فهو خاص بأنبياء بني إسرائيل: موسى وهارون وآثارهما، فإن سلمنا ذلك جدلاً وقلنا: قد جاءت آثار موسى وهارون وتبركوا بها، فنقول: هذا شرع من قبلنا، وشرع من قبلنا على الصحيح الراجح أصولياً أنه شرع لنا ما لم يأت من شرعنا ما يكون ناسخاً له؛ وقد جاء من شرعنا النسخ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الغلو في الصالحين؛ لأن الغلو يوصل الإنسان إلى أن يعتقد في الشخص ما لا يعتقد إلا في الله جل في علاه. وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان بن مالك رضي الله عنه، وأنه رضي الله عنه أراد أن يتبرك بهذا المكان الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقول: أولاً: لم يرد عنه رضي الله عنه الله عنه أنه أراد التبرك، وإنما أراد أن يأخذ إقراراً من النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصلي في بيته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعمى: (تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب). ثانياً: أن التبرك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبالمكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم جائز، وحق له أن يتبرك بذلك؛ لأنه تبرك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبمكان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وليس لأحد أن يصل إلى منزلة النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث نقول له: صل في المكان الفلاني حتى تحل فيه البركة، بل إن هذا العمل يؤدي إلى هلاك الشخص والعياذ بالله، لأنه قد يرى في نفسه أنه من أتقى الناس وأورع الناس، فيدخله العجب والكبر، فيؤدي هذا إلى هلاكه، فليس لأحد أن يداني النبي صلى الله عليه وسلم في منزلته، فلذلك لا يجوز التبرك بآثار الصالحين. أما استدلالهم بحديث تحنيك المولود، فنقول: إن كان المقصود من التحنيك هو التبرك بريق النبي صلى الله عليه وسلم فهي خاصة به، ولا يجوز التحنيك بعد ذلك؛ لأن هذه السنة قد انقطعت بموته صلى الله عليه وسلم، وإن كان المقصود من التحنيك غير التبرك فلا حجة لهم فيه، وهذا هو الصحيح الراجح، وهو الظاهر من الحديث؛ لأن أنساً قال: (وبرك)، أي: دعا له بالبركة. إذاً: الصحيح الراجح كما بين ابن القيم: أن الإنسان عند خلو معدته من الطعام فإن أفضل ما ينزل إلى معدته حتى يرطبها هو الشيء الحلو، ولذلك نجد النبي صلى الله عليه وسلم إن لم يحنك بتمر فعلى حسوات من الماء. فهذه دلالة واضحة في أن المقصود من التحنيك هو: أن يدخل الشيء الحلو في معدة الطفل، ولذلك نحن لا نشترط أن يكون بالتمر فقط، بل ممكن أن يكون بعسل أو سكر أو أي شيء حلو، وإنما التمر أولى من غيره. فالخلاصة أننا نقول: إن كان المقصود من التحنيك التبرك، فهذه سنة قد انقطعت وانتهت بموته صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز لأحد أن يعملها مرة أخرى، لأنها خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان المقصود بالتحنيك هو دخول الشيء الحلو إلى معدة الطفل حتى يرطب معدته، فنقول: هذه سنة إلى يوم القيامة، وهذا هو الصحيح، وليس في ذلك دليل على جواز التبرك بآثار الصالحين ولا بذواتهم.

حكم التبرك بدعاء الصالحين وعلمهم وعبادتهم

حكم التبرك بدعاء الصالحين وعلمهم وعبادتهم لا يجوز بحال من الأحوال التبرك بذوات الصالحين، وإنما يجوز التبرك بدعائهم وعلمهم وعبادتهم وهذا ليس فيه تناقض؛ لأن التبرك بدعاء الصالحين وعلمهم وعبادتهم يعتبر من التوسل المشروع، وإليك بعض الأدلة: فمما يدل على جواز التبرك والتوسل بدعاء العبد الصالح، ما ورد في الحديث عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فقال له عكاشة بن محصن: يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم، فقال: أنت منهم)، فإنه توسل وتبرك بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً: تبرك الرجل الأعمى بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له، فرد الله عليه بصره، فهذا تبرك بدعاء الصالحين، ولا نقول: إن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك الكثير من الأدلة التي تدل على أن الصحابة كان بعضهم يسأل بعضاً أن يدعو له، بل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي رجل مع إمداد أهل اليمن يقال له: أويس القرني من مراد ثم من قرن، له والدة هو بها بر، فمن رآه منكم فليستغفر له)، أي: يسأله أن يدعو له بالمغفرة، فقال عمر: (أنت أويس؟ قال نعم، قال: استغفر لي، قال: أنا يا أمير المؤمنين! قال: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عنك: كذا وكذا). فهذه الأدلة تدل على جواز التبرك بدعاء الصالحين، وما من عالم من العلماء إلا كان يتبرك بدعاء الصالحين من العلماء في عصره. أيضاً: نتبرك بعلم الصالحين، فإن العلم بركة، فنتبرك بمجالسه أهل العلم لما فيها من الخير، ففيها تحفنا الملائكة، ونُذكر بأسمائنا وأسماء أبائنا وأمهاتنا عند ربنا جل في علاه، ويثني الله على أهل المجلس خيراً، ويقول الله جل وعلا: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فالبركة كل البركة أن تسمع حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم فتنتفع به وتعمل، فيكون سبب نجاتك في هذا الحديث، فهذا تبرك بعلم الصالحين. ويكون التبرك كذلك بعبادة الصالحين، ويكون ذلك بأمرين: الأمر الأول: أننا نتأسى بهم في هذه العبادة، ونحاول أن نعمل مثل عملهم. الأمر الثاني: أن المكان الذي تكون فيه العبادة تحفة الملائكة، وتنزل منه الخيرات والبركات، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96]، ولذلك نحن نقول للمرأة: لا تشددي على زوجك وتكثري عليه من الطلبات، بل أكثري من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الاستغفار، ومن العبادات في بيتك، وعندها تجدين الخير يأتي مع زوجك؛ لأن البركة كل البركة في الصلاح، وفي عبادة المرأة في بيتها، فهذا أيضاً من التبرك بعبادات الصالحين. فإذاً نقول: لا يجوز التبرك بذوات الصالحين وآثارهم، ويجوز التبرك بما يكون متعدياً من الصالحين، كدعاء وعلم وعبادة وذكر واستغفار وقراءة قرآن، وكل فعلٍ متعدٍ منهم، ولنا في ذلك أسوة بالصالحين الذين كانوا سلفاً لنا. ومن التبرك المشروع: التبرك بسير العلماء الصالحين، وهذا ليس تبركاً بذات العلم، وإنما تبرك بسيرته لنتأسى به؛ كيف عَبَدَ الله جل في علاه، وكيف جاب الأرض شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً، فنتبرك بالتأسي بفعل هؤلاء الصالحين، لا بذواتهم.

حكم التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم

حكم التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم إن التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم مسألة من المسائل المشكلة على العلماء وطلبة العلم؛ لأن كثيراً من كتب الفقه عند الحنابلة والشافعية تعج بهذا الكلام، لكن الحمد لله أن القاضي حسين وإمام الحرمين أنكروا ذلك إنكاراً شديداً، فالذين يرون جواز ذلك يقولون: إن القبر يُعتبر أثراً من آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وأثر النبي صلى الله عليه وسلم موجود فيه، فلهذا يجوز التبرك بقبره صلى الله عليه وسلم. نرد عليهم ونقول: هل كان القبر ثوباً لبسه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت؟ A لا، هل كان القبر شراباً يشربه النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت؟ الجواب: لا، هل مج النبي صلى الله عليه وسلم في قبره وبقي الماء على فوهة القبر حتى نتبرك به؟ الجواب: لا. إذاً: القبر ليس أثراً من آثار النبي صلى الله عليه وسلم حتى نتبرك به، فلا يجوز بحال من الأحوال التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، بل هذا من الشرك بمكان.

التمائم

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - التمائم جاء الإسلام يبين للناس أن الله هو النافع الضار، المعطي المانع، ونهى عن كل فعل يتنافى مع ذلك، ومن الأفعال والاعتقادات التي تنافي ذلك وتعد من أفعال الجاهلية: تعليق التمائم، فبين الإسلام أنها شرك مع الله تعالى، ومن يكون شركاً أكبر أو أصغر، لذا فليحذر المسلم من هذه الاعتقادات الباطلة.

التمائم والمعوذات

التمائم والمعوذات إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب العظيم كتاب (الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد) للإمام الشوكاني رحمه الله تعالى.

تعريف التميمة

تعريف التميمة التميمة لغة هي: التعويذة أو التحويطة كما يقول العوام، وتعلق في الرقبة أو في العضد أو في الكعب أو في المعصم، وهم يستخدمونها -سواء اعتقدوا أو لم يعتقدوا- لدفع الضر أو العين، أو لاستجلاب الخير.

حكم التميمة

حكم التميمة التميمة من أفعال الجاهلية، وهي شرك، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فقد أشرك). وأيضاً: قال صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) فالحديث الأول متكلم في إسناده، والحديث الثاني صحيح. وأيضاً: حديث عمران بن حصين كما في مسند أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً عليه حلقة من صفر في يديه، فقال: (ما هذه؟ قال: من الواهنة). أي: أنني أستشفي بها، (فقال: انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهناً، وقال: لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً). و (أبداً) تدل على التأبيد، ويدل على أنها شرك أكبر ليس شركاً أصغر. وأيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رويفع: (يا رويفع! ستطول بك الحياة)، والشاهد من الحديث أنه قال له: (فمن تقلد وتراً فأنبئه -قال: أو أبلغه- أني منه بريء) فقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم منه، ولا يتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم إلا من صاحب الشرك الأصغر أو الشرك الأكبر. وأيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن تعلق ودعة فلا أودع الله له، أو فلا ودع الله له)، أي: ما ودعه الله جل وعلا وما جعله في سرور (ومن تعلق تميمة فلا أتم الله له) أي: من تعلق هذه التميمة لا أتم الله له خيراً لا دنيا ولا آخرة. فهذه الأدلة كلها تبين لنا حكم التمائم، وأن التميمة لا تجوز، وأنها من الشرك بمكان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك). فسماها شركاً ونحن سنسميها كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم.

حكم من تعلق تميمة

حكم من تعلق تميمة القول في حكمه على التفصيل: القسم الأول: من تعلق تميمة واعتقد أن لها التأثير المطلق، وأنها تنفع وتضر من دون الله جل في علاه، فقد كفر كفراً أكبر، وهو الشرك المراد به في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك). أي: شرك أكبر، ويدل على ذلك أدلة كثيرة منها: القاعدة: من اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله فقد كفر وأشرك؛ لأنه أنزل المخلوق منزلة الخالق؛ فهو مكذب لله عز وجل القائل: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]. وهو بلسان حاله يقول: كأن الله له سمي يؤثر في الكون بدون الله جل في علاة. وقول الله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. وهو قد جعل كفؤاً لله يؤثر تأثيره، أو يفعل كفعل الله جل في علاه. وهو مكذب لله جل في علاه القائل: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]. وهم ينفون ذلك ويرون أن هذه التمائم تؤثر من دون الله جل في علاه، وكأنها تشارك الله في الكون، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عند الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس قال: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله -جل في علاه- لك)، وهو كذب بذلك، وضرب بكلام الله ورسوله عرض الحائط. القسم الثاني: شرك أصغر: وهو الذي يعتقد اعتقاداً صحيحاً سديداً في أن الله هو الخالق للكون، وأن الله هو القادر على كل شيء، ولا أحد يشاركه في هذه القدرة، فهذا اعتقاد سديد، لكنه قد اتخذ التميمة سبباً لدفع العين والحسد، وذلك كما يفعل بعض الناس في ذبح الذبائح لدفع العين ودفع الحسد، وهذا النوع من الذبح ممنوع لا يجوز. فصاحب التميمة اتخذ سبباً لم يشرعه الله جل في علاه، فنزل تحت قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] وقال الله تعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} [الأعراف:54] فالتشريع والأسباب والمسببات كلها في يد الله جل في علاه، فإذا شرع الإنسان سبباً لم يشرعه الله فكأنه أشرك بقول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فهذا من الأثر. وأما من النظر: فلأن الشرك الأصغر ذريعة إلى الشرك الأكبر، وهذه قاعدة قعدها علماؤنا فقالوا: إن كل عمل يصل بالإنسان إلى الشرك الأكبر فهو شرك أصغر. فلو وضع المرء الحظاظة أو الحذوة لدفع العين، وقدر الله أنه دفع العين، ففي المرة الأولى سيقول: هي سبب، لكن في المرات الأخرى إذا أراد الله أن يختبره، بحيث أنه كلما وضع الحذوة دفع العين، وكلما أنزلها أصيب بالعين، فإنه سيعتقد في الحذوة ويقول: هي التي تؤثر، وهي التي تدفع العين، فصارت عند ذلك ذريعة للشرك الأكبر. فالتمائم كثيرة جداً، وهي من أفعال الجاهلية، وقد استقاها أهل الحضر الآن، وأخذوا نفس أفعال الجاهلية؛ لكن سموها بغير اسمها، ومن هذه التعويذات أو التمائم التي تعد من أفعال الجاهلية: العقر، وهو: خيط ملون تربطه المرأة في وسطها. وسبب ذلك نقول: إن المرأة لا ترضى أن تكون امرأة أخرى زوجة لزوجها، فهذه من الأنانية، بحيث أنها ترى أختها تزني فتتركها تزني، ولا تريد أن زوجها يعفها إن كان قادراً، فهذه امرأة كانت مدرسة للقرآن ومتقنة للأسانيد والقراءات، فجاء زوجها فقال: التعدد سنة، والأصل في النكاح التعدد، وقد رزقني الله القوة البدنية والقوة المادية، ولن أترك امرأة أرملة تنظر للغير أو للحرام، فأريد أن أعفها، فلما تزوجها ماذا حدث من الداعية القرآنية صاحبة الأسانيد؟! ذهبت إلى العمارة التي يسكن فيها زوجها مع الزوجة الثانية، فجاءت بأوراق صغيرة، وكتبت فلانة بنت فلان الغشاشة الخداعة على كل بيت في هذه العمارة؛ لتفضح المرأة الثانية، فامرأة مثل هذه انظروا ماذا فعلت؟! أما غيرها ماذا ستفعل؟ ستذهب إلى أهل الجاهلية وتقول: لا بد أن يطلقها، وربما قد تذهب إلى الساحرة فتقول لها عليها من الله ما تستحق: نجعلها لا تنجب. قالت: قد أنجبت له الولد والذكر والأنثى. قالت: فماذا نفعل؟ فالمرأة قد نظرنا في عائلتها فرأيناها خصبة، وممكن أن تنجب، قالت: خذي هذه العقيرة حتى لا تنجب، فأخذتها، وهذا كثير في العوام، وأنا لا أتكلم عن الخيالات في غرار الوسط الملتزم، ولذا كانوا في الجاهلية يعتقدون أنه إذا ربطتها في وسطها دون أن تشعر المرأة الثانية -أي: الضرة- على أنه يمنع الحبل، وتسمى عند أهل الجاهلية بالعقر أي: تجعلها عاقراً، فهذه حالة من الحالات التي يستخدمها أهل الجاهلية ويعتقدون فيها اعتقاداً تاماً. أيضاً: كعب الأرنب، فإنهم كانوا في الجاهلية يعتقدون فيه، فإذا وضع على صدر الولد أو وضع على البيت فإنه يدفع العين والحسد، ولا يمكن أن يكون معيوناً ولا يحسد هذا المرء الذي علق كعب الأرنب. كذلك: ناب الضبع، فكانوا يرون أن نابه أيضاً يدفع العين. أيضاً: يعتقدون في الصدف الذي يسمى الودع، فيرون أن الودع يستجلب الحظ، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له) وسياق الحديث لغة يصح خبراً ويصح إنشاء، فيصح خبراً، أي: يخبر الله أن من تعلق ودعة فإن الله لا يجعله يعيش في سرور ولا دعة، ويصح أيضاً، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو عليه ويقول: من تعلق ودعة اللهم لا تجعله يعيش في دعة ولا في سرور، والاثنان سواء، لأنه لو كان خبراً فقد أوقعه الله كوناً، ولو كان شرعاً فإن دعاء النبي مستجاب لا يرد. فهم يعتقدون في الودع أنه يدفع العين ويستجلب الحظ، وأهل الجاهلية المعاصرة اليوم يعتقدون ذلك في المعصم، وكان في الجاهلية اسمه: الواهمة، لكن الآن غيروا المسميات وسموها حظاظة، وهي التي تأتي لهم بالحظ. وأيضاً: انتشر كثيراً جداً تعليق حذاء الحصان في البيوت، وكذلك: (أبو كف) كما يقولون: (خمسة وخميسة)، فتراها معلقة على رأس الطفل، وفي رقبة الطفلة، وفي السيارة، وبجانبها عين، وكأنه يعتقد أن (الخمسة والخميسة) سترد العين الحسود. وأيضاً: الخرز الزرقاء، وهي مشهورة جداً بين العوام. وأيضاً: حذاء الطفل الصغير، وهذه أيضاً من التمائم أو التعاليق التي تستعمل في حاضرنا. والخلاصة: أن هذه التمائم والتعاليق بأنواعها كلها شرك أكبر أو شرك أصغر، وبقي نوع واحد من أنواع التمائم والتعاليق، ألا وهو: التعاليق أو التمائم بكتاب الله جل في علاه، أو بالقرآن، وهذه مسألة مهمة جداً، فبعض الناس بعدما تحذره من التمائم الشركية يقول: أنا سأعمل بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: (من تعلق شيئاً وكل إليه)، وأنا تعلقت بكتاب الله، وكتاب الله هو كلام الله، فإذاً الله لا يضيعني، فلما نظر بعض الفقهاء هذه النظرة جعل المسألة فيها نوع من الجواز ونوع من المنع.

حكم تعليق التمائم المكتوب فيها آيات وأذكار

حكم تعليق التمائم المكتوب فيها آيات وأذكار النوع الأخير من التمائم وهي: التعاليق من كلام الله جل في علاه، من القرآن أو من الأحاديث النبوية أو من الأذكار التي علمها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه الكرام. اختلف العلماء في هذا النوع من التعاليق على قولين: قال بعضهم: يجوز للإنسان أن يعلق المصحف حفظاً للسيارة، أو يأتي بتعليقة لأولاده فيها الأذكار، فيجعلها في الرقبة، أو يأتي للمرأة أو للطفلة الصغيرة فتعلق أوراق مكتوب فيها آيات قرآنية مثل آية الكرسي، أو تُعلق التعاليق في البيت، فتدخل البيت وتجد آية الكرسي معلقة على الحائط. وهذه التعاليق قال بجوازها بعض العلماء، منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، والذي يستدل بأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه كلمات: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر عباده وغضبه وعقابه)، فكان يتعلم هذه الكلمات ويقولها صباحاً ومساءً. ويعلم أطفاله الصغار أن يذكروها، فإن كانوا من الصغر بمكان، ولم يستطيعوا أن يذكروها كتبها لهم في ورقة وعلقها على صدورهم حفظاً لهم. قالوا: وهذا فعل لـ عبد الله بن عمرو بن العاص ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فأصبح إجماعاً سكوتياً. أيضاً قالوا: إن عائشة الصديقة بنت الصديق فقيهة النساء، هذه المرأة التي عندها ثلث العلم قالت: يجوز للمرء أن يعلق ذلك ما دام البلاء قد نزل؛ لأن التعليق فيمن لم ينزل. أيضاً ممن قال بالجواز أحمد بن حنبل، وقوله هذا ينفع كثيراً أصحاب المحلات الذين يعلقون التعاليق التي فيها آيات القرآن. ودليل أحمد: حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي في المسند: (من تعلق شيئاً وكل إليه) أي: تركه الله جل وعلا له، فيقول: أنا وكلت لكلام الله فقد وكلت إلى ذات الله جل في علاه، والحافظ هو الله جل في علاه، والنافع الضار هو الله جل في علاه. ورجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وهما من فحول أهل العلم. القول الثاني: قول جماهير الصحابة وجماهير أهل السنة والجماعة، وهي رواية أيضاً عن أحمد قالوا: لا يجوز تعليق آيات القرآن، لا على الحائط، ولا على الصدور، ولا لدفع الحسد. ودليلهم على ذلك عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، فجعل التمائم كلها شرك، وذلك بوجه العموم في الحديث، وهو دلالة على تحريم عموم التمائم، سواء من القرآن، أو من غير القرآن، فقد وصفها ووسمها الله بأنها من الشرك بمكان. واستدلوا أيضاً بالنظر فقالوا: إباحة تعليق الآيات القرآنية من باب الوسائل التي تؤدي إلى الاعتقاد في القرآن أنه ينفع ويضر، وهو سبب شرعي. والقرآن صفة من صفات الله، ولا يصح أن يقول الإنسان: أنها تنفع وتضر، ولا يصح للمرء أن يقول: يا رحمة الله! ارحميني، ولا أن يقول: يا كرم الله! أكرمني، يا رزق الله! ارزقني؛ لأن الرحمة والكرم والقدرة والعزة كل هذه صفات من صفات الله، وصفات الله لا تنفع ولا تضر، والذي ينفع ويضر هي ذات الله جل في علاه، الذات المقدسة، فمن اعتقد في القرآن أنه ينفع ويضر فقد اعتقد اعتقاداً شركياً. والقاعدة تنص على أنه لا يصح أن يعتقد في صفة من الصفات ما لا يعتقد إلا في ذات الله جل في علاه. فإذاً: نقول: تعليق القرآن مع اختبار الله في وجود الشفاء هذه وسيلة إلى أن يعتقد في القرآن أنه ينفع ويضر بذاته، وهذا اعتقاد شركي، وهو وسيلة للشرك الأكبر. والراجح من القولين هو قول الجمهور، ولا يصح البتة ما رجحه شيخ الإسلام، وابن القيم، ولا يصح تعليق الآيات القرآنية، لا على الحائط، ولا على السيارة، ولا على رقبة الطفل، ولا على رقبة المرأة، ولا على باب البيت. ولذا فلا يجوز بحال من الأحوال تعليق آيات القرآن، والأدلة على ذلك كثيرة منها -كما قلت سابقاً- عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن التمائم شرك)، أي: كل التمائم شرك. أيضاً: أن تعليق القرآن تؤدي إلى مفاسد تأباها الشريعة، منها: أنك لو علقت آيات قرآنية، أو أحاديث نبوية على رقبة الطفل، ثم دخل الخلاء أو دخل الحمام، فإنه سيمتهن كلام الله جل في علاه، ويدخل تحت ذلك الخاتم أو السلسلة المكتوب عليها آيات الله، وهذا بالإجماع ممنوع شرعاً. ومن المفاسد أيضاً: أنك لو علقت هذه التمائم، أو علقت المصحف على السيارة كما يفعل كثير من الإخوة، فيأخذ المصحف الصغير ويعلقه ويقول: أنا أتبرك بكلام الله، والتبرك بكلام الله صحيح، فيصبح المصحف بعد ذلك لا للتلاوة، ولكن لدفع العين وللزينة، ودور القرآن في الحياة الذي هو التلاوة والتدبر قد مُنع بسبب هذه التعاليق، فهذه مفاسد ترجح القول الثاني. ونرد على المخالف وهم أصحاب القول الأول، فنقول: بالنسبة لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص فإن سنده مختلف فيه، وعلى هذا فلا حجة لـ شيخ الإسلام بهذا الحديث. وأما قول عائشة فهو اجتهاد منها، وهو اجتهاد مصادم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن التمائم شرك). ونقول لـ عائشة: ما قلنا للشافعي وما قلنا لـ أبى حنيفة، وما قلنا لـ مالك، وما قال بعضهم لبعض، من أنه لا اجتهاد مع النص. فالاجتهاد هذا اجتهاد فاسد لا يصح العمل به؛ لورود النص بالمنع، قال ابن عبد البر: لا حجة لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك: تعارض حظر مع المبيح، والقاعدة عند المحدثين أن يقدم الحظر على المبيح للاحتياط في العبادات؛ لأن الأصل في العبادات التوقيف. ونخلص من ذلك: أن التمائم كلها حرام وكلها شرك، منها ما هو من الشرك الأكبر، ومنها ما هو من الشرك الأصغر. لكن لزم علينا كطلبة علم إذا أغلقنا على الناس باباً أن نفتح لهم باباً آخر تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو عندما أغلق الباب على بلال لما جاءه بالتمر الجنيب قال: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، فقال: أوه عين الربا، لا تفعل، فأغلق عليه الباب، ثم بعد أن أغلق عليه الباب أسقط في يد بلال. ثم قال له: (بع الجمع الرديء بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً) فنقول: أغلقنا هذا الباب من دفع الضر والعين والحسد، إذاً: فما الباب الذي سنفتحه لهؤلاء؟ نقول: هذه الأبواب هي الأسباب الشرعية التي شرعها الله، فلك أن تدفع العين بأسباب شرعية، وللإجمال دون التفصيل أقول: الأسباب للاستشفاء ودفع العين، وطلب النفع، ودفع الضر سببان: سبب شرعي، وسبب قدري، إذ أننا دائماً ندور مع شرعنا حول القدر وحول الشرع. فأما السبب القدري: فهو السبب المجرب، وذلك كالعملية الجراحية، وهو الذي خلقه الله فجربته أنت فعلمت أنه دواء ناجعاً لهذا المرض، فلك أن تقول: استشف لهذا المرض، أي: خذ سبباً للشفاء. وأما السبب الشرعي في الاستشفاء، كدفع الضر وجلب النفع فهو نوعان: سبب شرعي حسي، وسبب شرعي معنوي. فأما المعنوي: فهو طلب الرقية بالاستشفاء بالقرآن، كأن يقرأ عليك، أو تقول الأذكار التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء:82]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص: (ضع يدك على الذي تتألم من جسدك وقل: باسم الله ثلاثاً، أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) سبع مرات. أيضاً: أن تأخذ بريقك وتضرب على الأرض وتقول: (باسم الله تربة أرضنا وبريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا). وأيضاً: تضع يدك على فمك وتقرأ المعوذات وتنفث ثم تمسح على كل جسدك، فهذا هو السبب الشرعي المعنوي. وأما السبب الشرعي الحسي فهو: ما أنزله الله جل في علاه، وبين شرعاً أنه من الشفاء بمكان، كحبة البركة. ومن الأسباب الشرعية كذلك: العسل، فقد جاء في الصحيح أو صح عن نبينا أن رجلاً جاء يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخاه يشتكي بطنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اسقه عسلاً) فجاء في المرة الثانية فقال: ازداد الوجع عليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اسقه عسلاً) فازداد الوجع مضاعفاً على الرجل، فقال: يا رسول الله! قلت: اسقيه عسلاً واشتد الوجع بأخي، قال: (اسقه عسلاً) انظروا إلى اليقين بالله، اللهم ارزقنا هذا اليقين فيك يا رب العالمين! وكذلك من الأسباب الشرعية الحسية: الحجامة. أيضاً: ماء زمزم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم لما شرب له). فهذا على العموم، وعندنا دليل خاص بالاستشفاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماء زمزم طعام طعم، وشفاء سقم). فإذا أغلقنا هذه الأبواب فلا بد أن نفتح لهم أبواباً أخرى، فإذا أراد أن يستشفي بالذات من العين فلا يعلق الآيات القرآنية، ولكن يقرأ القرآن، فيقرأ المعوذتين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أنزل الله عليه: {لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51]-أي: يقتلونك حسداً- حرسه الله وحفظه بالمعوذبتين، وكان دائماً ما يتعوذ بهما. وقد ذكر ابن القيم أن رجلاً كان مشهوراً بالعين، وكان إذا نظر إلى الجمل أنزله القدر، وإذا نظر إلى الرجل أنزله القبر، واشتهرت عينه بذلك، فكان يستأجر، فجاء رجل حاسد لرجل آخر غنياً فقال له: لك أجرة كذا على أن تفعل، قال: ما أفعل؟ قال: أن تحسد أبقار هذا الرجل، قال: ائتني بهذه الأبقار، قال: ستمر الآن، فأخذه على مشرفة عالية، فقال: اجلس حتى تمر، فمروا بأبقارهم، فقال له: الآن، قال: وما ذاك؟ قال: الآن تنظر تعين البقر، فالبقر يمر، قال: لا أرى بقراً، قال: هناك، قال: أين؟ فالرجل اجتهد حتى بين له المكان

الرقية الشرعية

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - الرقية الشرعية أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء، عرفه من عرفه وجهله من جهله، ومن هذه الأدوية: الرقية الشرعية، فإنه يستشفى بها من كثير من الأمراض، وقد تناول العلماء موضوع الرقية بالبحث والاهتمام، وأولوه كل عناية، فأوضحوا مفهوم الرقية المباحة من المحرمة، وبينوا شروط الرقية المباحة، من المسائل المتعلقة بهذا الباب.

تعريف الرقية

تعريف الرقية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: الرقية لغة: استرقى، أي: طلب الرقية إذا استشفى، أي: طلب الشفاء، وهي تعويذة أو عوذة يستشفي بها صاحبها من الآفات، كلدغ العقرب والحية مثلاً، أو كالحمى أو كالعين. وشرعاً: العوذة أو ما يتعوذ به المرء طلباً للشفاء من الآفات بما شرع من آيات الله، أو أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو أسماء الله الحسنى وصفاته العلى.

التداوي بالرقية

التداوي بالرقية والرقية دواء أنزله الله للأدواء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام؛ فإن الله ما أنزل داءً إلا أنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله) ومن الدواء الذي يكون شفاءً من كل داء أو من كثير من الأدواء: الرقية الشرعية، وأكثر ما تكون من العين، كما قال الله تعالى: {لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51]، أي: يحسدونك، وأنزل الله لنبيه الرقية من الحسد فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1 - 5] وأيضاً قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، نزلت في الرقية من العين. والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى امرأة في وجهها سعفة قال: (استرقوا لها)، أي: اطلبوا لها الرقية، فأمر أن ترقى أو يسترقى لها. وعن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته كان يرقي نفسه، فكان يأخذ بيديه وينفث -والنفث له حالات: نفث قبل أو وسط أو بعد- ويقرأ: بقل هو الله أحد والمعوذات، ويمسح على جسده. والرقية تكون من العين أو الحمى أو من اللدغ، كلدع العقرب أو الحية، وقد جاء في السنن عن أبي سعيد الخدري أنه كان مع بعض الصحابة فأتوا على قوم فطلبوا القرى -والقرى هي: الضيافة، أو كرم الضيافة- فلم يقروهم، فلدغ سيدهم، فقالوا: هل عندكم من راق، أو عندكم رقية؟ فقال الرجل: والله أنا أرقي، ولا أرقي حتى تضربوا لنا بسهم. فضربوا لهم بسهم، أي: بقطيع من الغنم، فقرأ الفاتحة ورقاه. وجاء في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عقاب، وذلك من حديث عمران بن حصين أنه لا رقية إلا من عين أو من حمى. إذاً: فالرقية هذه مشروعة، وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أهل الجاهلية أيضاً يرقون، وكانوا يرقون بما هو غث وسمين، ويرقون بما هو شرك وتوحيد.

الرقية من العين

الرقية من العين جاء في العين حديث: سهيل بن حنيف وعمرو بن ربيعة، وذلك أن سهيل بن حنيف كان رجلاً أبيض الجلد، فخلع ثيابه ليغتسل، فنظر إليه عمرو -يمكن لكل صالح أن يحسد، فإن علم من نفسه أنه سينظر بالحسد فلا بد أن يكبر أو يبرك، فيقول: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله- فقال: ما رأيت مثل هذا الجلد، وكأنه جلد مخبئة، -والمخبئة هي: العذراء في خدرها- فخر صريعاً في وقتها، أي: وقع وما كانت له قائمة، وأصبح نحيفاً نحيلاً، وكاد أن يموت، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (علام يقتل أحدكم صاحبه؟ هلا إذا رأيت ذلك قلت: كذا وكذ)، وعلمه أن يقول: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، ثم بين له الرقية الشرعية في ذلك. فالرقية كانت معلومة في أهل الجاهلية، وهي أيضا معلومة في أهل الإسلام، وقد جاء الإسلام بتهذيبها، فأقر بعضها وأنكر بعضها.

حكم الرقية

حكم الرقية وقد اختلف العلماء في حكمها على قولين: القول الأول: إن الأصل فيها المنع والحرمة، واستدلوا بحديث جابر بن عبد الله في الصحيح: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الرقى) وأصل النهي للتحريم. واستدلوا أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها إنها قالت: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقى. قالوا: والترخيص لا يكون إلا بعد المنع. فهذه دلالة واضحة على أن الأصل في الرقى المنع. القول الثاني: الأصل في الرقى الإباحة، إلا ما دل الدليل على منعه، واستدلوا على ذلك بحديث عمرو بن حزم، قال: إن أناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! أنهيت عن الرقى؟ فقال: (اعرضوا علي رقاكم، فلا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً)، فإذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده، وفهم متنه -ووجه الشاهد هو: قوله صلى الله عليه وسلم: (ما لم تكن شركاً) ووجه الدلالة: كأنه يقول: الأصل في الرقى أنها صحيحة، ولكن إعرض علي حتى أنقي لك ما لم يكن شركاً. إذاً: ففي المسألة قولان، أرجحهما القول الأول، وهو: أن الأصل في الرقى المنع لا الإباحة، والحديث الأول ظاهر في أنه رخص، والحديث الثاني: نهى النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الرقي. فلو كانت على الإباحة لما أشترط فيها شروطاً؛ لأن العلماء أجمعوا على أنه لابد أن تجتمع شروط في الرقى حتى تكون مباحة، ولو كانت مباحة فإنها لا تقيد بقيود فالصحيح: أنها على المنع؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عنها، وأيضا لقوله: رخص في الرقى، والترخص يأتي بعد المنع؛ وهناك المستثنيات من المنع، وهي: الرقى بكلام الله، أو الرقى بأسماء الله وصفاته وأفعاله، أو الرقى بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، فكل هذه مستثناه.

أنواع الرقية

أنواع الرقية

الرقية المباحة وصورها

الرقية المباحة وصورها الرقية لها أشكال وصور وأنواع كثيرة جداً، ومنها: أن تكون بتلاوة القرآن، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، والنبي صلى الله عليه وسلم حين رقاه جبريل رقاه بآيات الله، والنبي صلى الله عليه وسلم رقى وأمر بالرقية، وكانت عائشة تفعل ذلك، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته كان ينفث ويقرأ؛ والنفث يكون في الأول أو في الوسط أو في النهاية، والدليل على ذلك جاءتنا حديث عائشة أنها قالت: نفث رسول الله فقرأ -والفاء للتعقيب، أي: أنه نفث أولا ثم قرأ، والتعقيب يدل على التلازم-: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1]، وكان يمسح على جسده، فلما ثقل عليه المرض كنت أنفث في يده وأقرأ، وآخذ بيده فأمسح بها على جسده، ابتغاء بركة يد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرقية صباحا ومساء. ومن ذلك: الرقية بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرقي بالريق، فيأخذ ريقه على أصبعه ويضعه في التراب، ويقول: بسم الله تربت أرضنا، بريق بعضنا يشفى سقيمنا، بإذن ربنا بإذن ربنا، فالأصل فيها بإذن ربنا. وأيضاً بين الرسول صلى الله عليه وسلم بأن تضع يدك على مكان الألم والوجع وتقول: (بسم الله بسم الله بسم الله، أعوذ بعزة الله وقدرته وسلطانه من شر ما أجد وأحاذر)، فتقول: بسم الله ثلاث مرات، والاستعاذة سبع مرات. وأيضاً من هذه الرقى: أن تدخل على المريض وتقرأ عليه الفاتحة، وتتفث في يدك وتمسح في كل جسده، أو في موضع الألم، وذلك كما فعل أبو سعيد وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم عندما رقوا اللديغ، قال الراوي: فبصق وقرأ الفاتحة، ووضع يده على موضع السم، فكأن الرجل قد نشط من عقال. أي: برئ في وقتها بعدما رقاه بالفاتحة. وأيضا من الرقى التي علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم: أن تدخل على المريض فتقول: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، سبع مرات، كما ورد ذلك في الصحيح: (أنه ما دخل أحد على مريض لم يحتضر، -أي: لم يحضره الموت وتحضره الملائكة- فقال: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك، سبع مرات، إلا شفاه الله جل في علاه) وأيضاً من الرقى المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يضع يده على المريض ويدعو له فيقول: (اللهم رب الناس أذهب البأس، إشفي أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً).

شروط الرقية الشرعية المباحة

شروط الرقية الشرعية المباحة فهذه دلالة على أن كل هذه الآثار تدل على الترخيص في الرقى بقيد أو بشرط: أن تكون من الكتاب أو السنة، ولذلك قال ابن حجر: أجمع أهل العلم - وهذا الإجماع نقله النووي أيضاً - أن الرقى تصح بشروط وقيود ثلاثة: أولاً: ألا تكون شركاً. أي: لا يكون فيها الشرك، فلا تكون بأسماء الجن ولا الشياطين. ثانياً: أن تكون بأسماء الله الحسنى أوصفاته العلى، أو بأفعال الله جل في علاه، بأثار النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: وهي مهمة جداً: أن تكون بلسان عربي مبين. فهذه صور الرقى المباحة؛ لأن الرقى قسمان: قسم مباح، وقسم محرم. فأما القسم المباح فقد ذكرنا صوره، وقد قيده العلماء بثلاثة، وهذه القيود تدل على الرخصة. ولا يصح التوسل بالأخبار؛ لأن الرقى توسل ودعاء وطلب للاستشفاء، وطلب الشفاء من الله جل في علاه يكون بصفات الله وأسمائه وأفعاله، ولا يكون بالأخبار.

الرقية المحرمة

الرقية المحرمة الرقى المحرمة على نوعين: شرك أكبر، وشرك أصغر. النوع الأول: شرك أكبر، وصورها: الرقى بأسماء الملائكة والأنبياء والمرسلين، والرقى بأسماء المقبورين، وهذا كثير في الصوفية، فإنهم يرقون باسم الولي فلان، مثل: عبد القادر الجيلاني أو بـ العباس أو زينب أو الحسين، أو باسم الجن، أو باسم الشياطين، أو باسم الأصنام، مثل: اللات والعزى، أو الرقى بكل ملك مقرب أو نبي مرسل، أو بكل صنم أو حجر أو شجر، فهذه رقى شركية، تخرج صاحبها من الملة. النوع الثاني: شرك أصغر: وذلك عندما تفقد الرقى المباحة شرطاً من شروطها الثلاثة فتصبح شركاً أصغر، كما لو رقى بلسان غير عربي مبين، كالفارسية أو الإنجليزية أو الفرنسية، أو بأي لغة غير العربية، أو بالعربية ومعها لغة أخرى، فإن هذا يكون شركاً أصغر كما قال الخطابي: هذا النوع من الرقى شرك أصغر؛ لأنه وسيلة للشرك الأكبر؛ ولأنه لا توجد رقية بلغة غير اللغة العربية إلا ويمكن أن يقع فيها من الشرك ما لم يعلمه أحد؛ لأننا غير متيقنين أنه لا يستعين بالملائكة أو بالجن أو بغير ذلك، ولذا فما دامت الرقى فيها كلام غير معلوم عربيا فنحن نقول: إنها وسيلة لأن يقع صاحبها في الشرك، فمنعناها لأجل ذلك، وهذا من باب: أن الوسائل لها أحكام المقاصد.

مسألة: الاسترقاء ينافي التوكل أو لا ينافيه، وأدلة الفقهاء في ذلك

مسألة: الاسترقاء ينافي التوكل أو لا ينافيه، وأدلة الفقهاء في ذلك اختلف العلماء في ذلك على قولين: القول الأول: قول جمهور الحنابلة، وهو ترجيح النووي وشيخ الإسلام ابن تيمية والقاضي عياض من المالكية، قالوا: هو قادح في كمال التوكل. واستدلوا على ذلك من الأثر والنظر: فأما من الأثر: فاستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)، ثم تركهم ودخل، فخاضوا في صفة هؤلاء، فقال بعضهم: هم الذين ولدوا في الإسلام، وأدلى كل منهم بدلوه، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (هم الذين لا يسترقون، وفي رواية: لا يرقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون) والحديث له روايتان: الرواية الأولى: لا يسترقون. الرواية الثانية: لا يرقون. ورواية: (لا يرقون) رواية شاذة لا تصح، ومن أولها قال: لا تكون برقى شركية، وهذا كلام مخالف للظاهر لا يصح، فإن قال: لا يصح لنا أن نوهم الراوي، نقول: بل وهم الراوي؛ لأنه أتى بلفظة غير متفق عليها، والرواية المتفق عليها: (لا يسترقون) فرواية: (لا يرقون) شاذة ضعيفة لا يؤخذ بها، والصحيح الراجح: هي رواية: (لا يسترقون) لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد رقاه جبريل، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بالرقية، وذلك بقوله: (استرقوا لها، فإن بها سفعة في وجهها، فقال أصحاب هذا القول: إن الصفة التي جعلتهم من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة: أنهم على ربهم يتوكلون، وهذا التوكل تمامه بخصال ثلاثة: أنهم لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون، فقال: لا يسترقون) فمن استرقى فقد نافى التوكل، وتكون الرقى قادحة في كمال التوكل. واستدلوا على ذلك أيضاً بدليل أصرح من هذا الدليل، ألا وهو: جاء في مسند أحمد بسند صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اكتوى - لأن الكي مكروه في شرعنا - أو استرقى فقد برئ من التوكل) وهذا صريح بأن من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل. وأما دليلهم من النظر فقالوا: إن المرء إذا استرقى فرقاه الراقي فقدر الله له الشفاء، فإن قلبه سيميل للراقي، فيكون في قلبه نوع ميل لغير الله جل في علاه، وهذا يقدح في كمال التوكل، لا سيما إذا تكرر هذا الأمر، وتكررت الرقية وتكرر الشفاء. القول الثاني: قول كثير من المالكية، ورجحه القرطبي وابن جرير الطبري فقالوا: الرقى ليست قادحة في التوكل. واستدلوا على ذلك بأدلة: الدليل الأول: حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها: رخص النبي صلى الله عليه وسلم في الرقى، وهذا على العموم. الدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعرضوا علي رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا) ولو كانت قادحة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً قالوا: هي بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، وهذه يكون فيها تمام التوكل؛ لأنها بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى. واستدلوا أيضاً بدليل آخر وهو: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاضربوا لي معكم بسهم) فأقر الرقية بالفاتحة، وهذا الحديث ليس فيه نزاع بحال من الأحوال. واستدلوا بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام) فقالوا: هذا نوع من التداوي المعنوي، لأن الأسباب: أسباب شرعية، وأسباب قدرية مجربة، والأسباب الشرعية: معنوية، وحسية، فقالوا: إن الرقى نوع من أنواع التداوي، وقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم، واسترقى للمرأة التي في وجهها سفعة، أي: سواد، فقالوا: هذه أدلة على أن الرقى لا تقدح في كمال التوكل. وأما من النظر فقالوا: إن الذي يسترقي لا في الراقي ولا يعتقد في الرقية، وإنما يعتقد في الرب الذي هو مسبب الأسباب، فإن كان اعتقاده صحيحا فلا قدح في كمال التوكل.

الترجيح بين القولين والرد على أدلة القول المرجوح

الترجيح بين القولين والرد على أدلة القول المرجوح والصحيح الراجح من ذلك: هو القول الأول، وهو: أن طلب الرقية من الغير قادح في التوكل، أو قادح في كمال التوكل، لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يسترقون)، أي: لا يطلبون الرقية. ولصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استرقى فقد برئ من التوكل)، أي: برئ من كمال التوكل وليس من كل التوكل، وذلك للأدلة الأخرى الظاهرة على ذلك. وأما الرد على المخالف فنقول: إن الأدلة ليست في محل النزاع، والدليل الوحيد الذي هو في محل النزاع: حديث: (تداووا عباد الله، ولا تتداووا بحرام)، فنقول لهم: نحن معكم في أن هذا من الدواء، ولكن من الدواء ما هو مكروه طلبه، مع أنه يجوز أن يتداوى به، ومن ذلك الرقية، فيكره للمرء أن يطلبها، لأن هذا قادح في كمال التوكل. إذاً: فالحديث ليس في محل النزاع، فليس نزاعنا هل هو دواء أم لا؟ وإنما نزاعنا هل هو قادح في التوكل أم لا؟ فإن قالوا: أنتم لم تفهموا دليلنا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فقال: (تداووا)، أي: اطلبوا الدواء، واطلبوا الرقية، قلنا: نعم، كلامكم صحيح، وهو وجه قوي جداً، ولكنه لا يقوى على أن يجابهنا. فإن قالوا: كيف ذلك؟ قلنا: (تداووا) عموم مطلق، أي: تداووا عباد الله لكل شيء، واطلبوا الدواء، ولا تتداووا بحرام، وهذا العام قد خصص بحديث: (لا يسترقون) فمن طلب الرقية فقد برئ من التوكل، فيبقى معنى تداووا: اطلبوا الدواء المجرب، والدواء الحسي والمعنوي، وذلك دون أن تسترقوا، أي: أنكم لو طلبتم الرقية فقد قدح ذلك في كمال توكلكم. إذاً: هذا عام مخصوص بالاسترقاء؛ لأن الإسترقاء قادح في كمال التوكل، وهذا الراجح والصحيح. فإن استدل أحد بأنها من باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، فتبرع ورقى غيره فنقول: الرقية تأتي ثمارها بشرطين اثنين: الأول: أن يكون الراقي تقياً ورعاً. الثاني: أن يكون المسترقي متيقناً. فإن تخلف شرط من الشرطين فلا تثمر النتيجة؛ لأن كل حكم مرتبط بشروط أو بأسباب لا يوجد إلا بوجود هذه الأسباب.

حكم أخذ الأجرة على الرقية

حكم أخذ الأجرة على الرقية وهل أخذ الأجرة على الرقى حلال أم لا؟ هذا أيضاً مختلف فيه بين العلماء على قولين: القول الأول: يجوز أخذ الأجرة على الرقية، وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة جداً، منها: أولا: حديث أبي سعيد الخدري عندما قال: والله لا أرقي حتى تأتوني بقطيع من الغنم، أو تضربوا لنا بسهم، فلما رقاه وشفاه الله، أخذوا قطيع الغنم فقالوا: والله لا نأكل منها حتى نأتي إلى رسول الله، فلما ذهبوا إلى رسول الله وقصوا عليه القصة، قال لهم مقرا بما فعلوا: (وما أدراك أن الفاتحة رقية) وهذا أول إقرار، والإقرار الثاني قال: (اضربوا لي معكم بسهم)؛ لأنه هو الذي علمه هذه الرقية، وهذه مبالغة في الحِليَّة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سيأكل. ثانياً: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعمري كل -أي: كل من أجرة الرقية- فإن من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق) فسماه أكلاً، وقال: (لعمري كل) وقد سأله: (أنأكل من أجرة الرقية؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كل)، أي: أنها حلال لك، فهنيئا مريئا أن تأكل، والرقية الحق تكون بأسماء الله الحسنى أو بالقرآن أو بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هذا فيه دلالة واضحة جداً على أنه يجوز أن يأخذ الأجرة على الرقية. القول الثاني: لا يجوز أخذ الأجرة على الرقية، واستدلوا على ذلك بأدلة من الأثر ومن النظر. فأما من الأثر: فقول النبي صلى الله عليه وسلم (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) وهذا أمر منه صلى الله عليه وسلم، والأمر للوجوب، فيكون عبادة، والعبادة لا أجر فيها، فلا يأخذ عليها أجراً. وأما من النظر فقالوا: الرقية عبادة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء) والرقية هي: وصول النفع للغير، فهي كالشفاعة، فقالوا: هي عبادة، والأصل في العبادات عدم أخذ الأجرة؛ لأن الأصل أن كل عبادة يطلب فيها الأجر من الله. وأيضاً استأنسوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)، فقالوا: هذا من النفع الذي يصل إلى الأخ.

الترجيح بين القولين والرد على أدلة القول المرجوح

الترجيح بين القولين والرد على أدلة القول المرجوح الصحيح والراجح هو: القول الأول، وهو: أنه يجوز أخذ الأجرة على الرقية؛ لصريح الدلالة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعمري فإن من أكل برقية باطل فقد أكلت برقية حق) فمن رقى رقية حق: بشرع الله، أو بآثار النبي صلى الله عليه وسلم، أو بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فهذا له الحق في أن يأخذ الأجرة، حتى وإن قيدها أو حددها ظاهر هذا الحديث وظاهر فعل أبي سعيد مع إقرار النبي صلى الله عليه وسلم له. وأما الذين خالفوا في ذلك فقالوا: لا يجوز أخذ الأجرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل) فنقول: نعم، هذا عام مخصوص بالرقية، فهذا نفع يجوز فيه أخذ الأجرة؛ لأن الأجير يمكن أن ينفع المستأجر ويأخذ أجرته، والوكيل ينفع الذي وكله بقضاء حوائجه ويأخذ أجرته وهذا من نفع الآخرين أيضاً، أي: أنه ينزل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل). فهو عام مخصوص بهذه الأدلة، فالرقية يجوز أخذ الأجرة عليها. وأما استدلالهم بالنظر فالرد عليه هو نفس الرد على الأثر. وأما استدلالهم بالقاعدة الكلية: أن العبادات لا يجوز أخذ الأجر عليها. فنقول: إلا في حالة واحدة، أو إلا ما دل عليه الدليل، وقد دل الدليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية، وهذه المسألة تحذو حذو مسألة أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن، ولكن هذه أوسع من أخذ الأجرة على تحفيظ القرآن؛ لأن تحفيظ القرآن الأدلة فيه على المنع أقوى من هذه بكثير. إذاً: يجوز أخذ الأجرة على الرقية، وأما التأصيل العام بأنها عبادة، والعبادة لا يؤخذ عليها الأجرة، فنقول: إلا ما دل عليه الدليل، وقد دل الدليل على جواز أخذ الأجرة على الرقية.

الذبح لغير الله

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - الذبح لغير الله الذبح عبادة ثبتت بالشرع الحنيف، فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك، والذبح لله على أنواع، فمنه ما يكون في الكفارات أو الواجبات، أو العقيقة أو غيرها، والذبح الشركي قد يكون شركاً أكبر وقد يكون شركاً أصغر، ومن الذبح ما يكون مباحاً، وقد يرتقي به المرء إلى التوحيد والعبادة لله إذا ابتغى به وجه الله.

حكم الذبح لغير الله

حكم الذبح لغير الله إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن من الأدلة التي استدل بها، المصنف قوله: ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكلمات أربع: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً لعن الله من غير منار الأرض)، وأيضاً احتج بالحديث الذي فيه ضعف، في قصص من قبلنا: (دخل رجل الجنة في ذباب ودخل رجل النار في ذباب)، قالوا: كيف ذلك يا رسول الله! ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب إليهم شيئاً، فقالوا لأحدهم: قرب ولو ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت أقرب لأحد غير الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة)، فيستدل به أيضاً على أن التقرب إلى أي مخلوق كان وتسويته بالخالق يكون كفراً يخرج من الملة.

تعريف الذبح

تعريف الذبح الذبح لغة: هو إراقة الدماء مطلقاً، سواء كانت لله أو لغير الله، كأن تكون لصنم أو مخلوق أو شجر أو قمر. وشرعاً: هو إراقة الدماء ابتغاء وجه الله جل في علاه. وإراقة الدماء أو الذبح نسك، والله جل في علاه قد أمر نبيه أن يقول بلسان حاله، ثم يعلم الأمة أن يتأسوا به: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]. والعبادات ثلاثة أقسام: عبادة بدنية، وعبادة مادية، وعبادة بدنية مالية، وأفضل العبادات على الإطلاق: العبادة التي جمعت بين العبادة البدنية والمالية، وبعدها العبادات المالية؛ لأن العبادات المالية فيها نفع ذاتي دون الجهاد، لأن الجهاد يكون بالمال وبالسنان أيضاً، قال صلى الله عليه وسلم: (وذروة سنامه: الجهاد في سبيل الله)، والجهاد يعتبر عبادة بدنية مالية، وأيضاً: الحج من أفضل أركان الإسلام، فهو عبادة بدنية مالية، يتلو ذلك في الدرجة والمرتبة: العبادة المالية، فالعبادة المالية نفعها ذاتي.

أهمية الذبح لله تعالى

أهمية الذبح لله تعالى ولأهمية هذه العبادة فقد قرنها الله -كما قال شيخ الإسلام- بأفضل العبادات على الإطلاق، ألا وهي: الصلاة، والصلاة صلة بين الرب وعبده، وكذلك فالذبح يكون صلة بين الرب وعبده، فالصلاة صلة بالبدن، والذبح لله صلة بالنفقة والمال، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، فالذبح عبادة من أجل العبادات التي يتقرب بها العبد لربه جل في علاه، لاسيما وأن النفع فيها نفع متعد.

الذبح لله تعالى من أجل العبادات وأدلة ذلك

الذبح لله تعالى من أجل العبادات وأدلة ذلك الذبح عبادة، بل هو من أجل العبادات، قال الله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1]، فإذا أردت أن تشكر الله فلا بد أن تخضع، ولا بد أن تذل لربك جل في علاه، وتشكر نعماءه، فقوله: ((فَصَلِّ)) [الكوثر:2] أمر، وظاهر الأمر الوجوب، حيث قرن الذبح له سبحانه بالصلاة فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، فهذه دلالة على وجوب النحر لله جل في علاه، فالله إذا أمر بالنحر في سبيله، فإنه لا يأمر إلا بما يحب، وما أحبه الله لا بد أن ينزل تحت عموم مسمى العبادة، إذ أن العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه. ومن الأدلة التي تدل على أن الذبح عبادة، وصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك: قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163]، فقول الله تعالى: ((قُلْ إِنَّ صَلاتِي))، هذه عبادة خاصة، ((وَنُسُكِي)) عبادة عامة، وبدلالة الاقتران مع العبادة البدنية أصبحت دالة على العبادة المالية، وهي: إراقة الدماء، فالنسك هنا لو جاء منفرداً لدخل تحته كل العبادات؛ لأن كل عبادة نسك، والله تعالى يقول في سورة الحج فـ {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج:67]، فالنسك إذا أطلق تدخل تحته العبادات جميعاً، وإذا اقترن بالعبادة كان النسك لإراقة الدماء فقط، فقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، فوجه الدلالة من هذه الآية عند العلماء: أن النسك أو الذبح من أجل العبادات.

وجوه الدلالة في قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)

وجوه الدلالة في قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) فأوجه الدلالة من قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] أربعة وجوه: الوجه الأول: الصلاة عبادة، فقد أمر الله بالصلاة، قال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43]، وقوله تعالى: ((قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي))، عطف، والأصل في العطف الاشتراك في الحكم، والأصل فيه المغايرة، لكن الأصل في العطف هنا: الاشتراك في الحكم، فكما أن هذه الصلاة مأمور بها فهي عبادة، وكذلك الذبح. الوجه الثاني: الاقتران والاشتراك في الحكم بأنهما عبادة، فإن الله يقول: {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:163]، أي: أمر بالصلاة وأمر بالنسك، والأمر ظاهره الوجوب، والله لا يأمر إلا بما يحب، وما أحبه الله ينزل تحت مسمى العبادة. الوجه الثالث: قول الله تعالى: ((لا شَرِيكَ لَهُ))، أي: أنه لو جعل النسك لغير الله فقد أشرك، ولو صرفه لله يكون توحيداً، فهذا دلالة على أنها عبادة. الوجه الرابع: أن هذه الآية تدل على أن الصلاة خاصة بالله لا لغيره، وكذلك النسك خاص بالله لا لغيره، والتخصيص يدل على أن النسك لله عبادة. إذاً: فكل هذه الوجوه فيها استدلال على أن الذبح عبادة، فصرفها لله توحيد، وصرفها لغير الله شرك. أيضاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: (لعن الله من ذبح لغير الله)، ووجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم توعد من ذبح لغير الله جل في علاه أن يكون ملعوناً، والملعون: هو المطرود من رحمة الله، ومن طرد من رحمة الله فلن يرجع إليها، فهذا دليل على أنه قد وقع في الكفر، أو وقع في الشرك؛ ولذلك لعنه الله، فبالمفهوم: من ذبح لله مثاب وليس ملعوناً. أيضاً: من الدلالة على أنها عبادة: أن الله سد كل باب يمكن أن يوقع المرء في أن يصرفها لغير الله جل في علاه، كما في الحديث: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنه نذر أن يذبح إبلاً ببوانة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أكان فيها صنم يعبد؟ قال: لا. قال: أكان فيها عيد من أعياد المشركين؟ قال: لا. قال: إذاً أوف بنذرك)، فلما كان الذبح عبادة نأى به النبي صلى الله عليه وسلم عن أي وسيلة تؤدي إلى الشرك بالله في هذه العبادة، فقال: (أفيها صنم يعبد؟)، فإن كان فيها صنم يعبد فإنه سيتشبه بالمشركين؛ فقد كانوا يذبحون لأصنامهم ويتقربون لرهبانهم من دون الله جل في علاه، ثمَّ قال: (أكان فيه عيد من أعياد المشركين؟ قال: لا. قال: إذاً أوف بنذرك) فهذا الحديث فيه دلالة -من باب حسم المادة وحفظ جناب التوحيد- على أن الذبح لله توحيد، والذبح لغير الله شرك، وأن من تشبه بمن ذبحوا لغير الله جل في علاه فهو نوع من أنواع الشرك، ووسيلة من وسائله، فحسم النبي صلى الله عليه وسلم المادة وقطع هذه الوسيلة وقال: لا، إن كان فيها صنم يذبح له من دون الله جل في علاه فلا تذهب، وإن كنت تذبح بنية التقرب لله فلا تفعل؛ لأنك ستتشبه بالمشركين. إذاً: نهى عن التشبه بالمشركين في هذه، وإن لم يكن هذا من الشرك الأكبر فهو من الشرك الأصغر؛ لأنه وسيلة للشرك الأكبر، فحسم النبي صلى الله عليه وسلم الأمر ومنعه من ذلك، إلا أن يكون هذا المكان لا يذبح فيه لغير الله، ولا يكون فيه عيد من أعياد المشركين.

أنواع الذبح لله سبحانه

أنواع الذبح لله سبحانه إنَّ أنواع الذبح كثيرة: أولاً: إراقة الدماء للواجبات، وهذه وإن كانت من أجل العبادات فلا بد أن يعرف المرء تقسيم هذه العبادات، ليتقرب بها إلى الله جل في علاه. ومنها: إراقة الدماء في التمتع، والتمتع هذا يكون في الحج، وهو: أن يعتمر المرء ثم يتحلل ثم يهل بالحج، والمتمتع عليه أن يقرب الدماء لله جل في علاه؛ وذلك كما قرب النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة في التمتع، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، وهذا الهدي يدخل أيضاً في قول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، فالنحر من إراقة الدماء التي يتقرب بها المرء إلى الله جل في علاه. أيضاً: من أنواع التقرب إلى الله جل في علاه بإراقة الدماء: الأضاحي، والأضاحي فيها معترك شديد بين العلماء، هل هي سنة أم واجب؟ والراجح والصحيح: أنها سنة مؤكدة؛ لأنه قد ورد حديث عند البيهقي بسند صحيح: أن أبا بكر ما كان يضحي وأن عمر ما كان يضحي وغير هؤلاء ما كانوا يضحون، والصحابة متوافرون ليبينوا للناس أنها ليست من الوجوب بمكان، بل هي من السنة، فهي سنة مؤكدة، فالأضاحي من إراقة الدماء التي يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه، توحيداً لله. أيضاً من ذلك: الكفارات، ففي الكفارات إراقة الدماء تقرباً إلى لله جل في علاه، وذلك إذا وقع المرء في محظور من محظورات الإحرام فعليه كفارة، كما قال ابن عباس وغيره، والآية ظاهرة في ذلك، قول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، وأيضاً قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196]، وهذا والنسك يبين لنا أن الذبح أيضاً يدخل في ذلك. من هذا أيضاً: التقرب إلى الله جل وعلا بالذبح في العقيقة، والعقيقة مختلف في وجوبها وسنيتها، والعقيقة: إراقة الدماء تقرباً إلى الله جل في علاه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المولود مرهون بعقيقته)، أي: لابد أن يراق له الدم، تقرباً إلى لله جل في علاه، وهذا من الذبح المأمور به، والعلماء قد اختلفوا فيه إلى ثلاثة أقوال: فمن العلماء من قال: واجب، ومنهم من قال: سنة، وقول وسط: واجبة على ولي المولود فقط، أي: المولود لو كبر سنه ولم يعق عنه فلا يأثم، وإن أراد أن يعق عن نفسه فهذا له، والغرض المقصود أنه واجب على ولي المولود، فالعقيقة من إراقة الدماء التي يتقرب بها المرء إلى الله جل في علاه.

تقسيم الذبح إلى ذبح توحيد وذبح شركي

تقسيم الذبح إلى ذبح توحيد وذبح شركي الذبح ثبت بالشرع أنه عبادة، فصرفه لله توحيد، وصرفه لغير الله شرك، وبهذا يكون الذبح على أقسام: ذبح توحيدي، وذبح يقع شركاً، والقسم الوسط: ذبح يكون مباحاً. فأما الذبح الذي يقع توحيداً: فهو الذبح الذي يهل به صاحبه لله جل في علاه، كأن يتقرب بالبدنة في التمتع، أو يتقرب بالبدنة في وليمة العرس، وهذه الأخيرة من الممكن أن تتقرب بها لله جل وعلا، فما دام المرء يهل بها لله جل في علاه، ويبتغي بها وجه الله، فقد صرفها لله، ومن صرفها لله، فقد تقرب إلى الله بالتوحيد عملاً بأمر الله جل في علاه، قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]. وأما الذي يقع شركاً فهو نوعان: شرك أكبر، وشرك أصغر، أي: أن الذبح يمكن أن يكون شركاً أكبر، ويمكن أن يكون شركاً أصغر، فيكون شركاً أكبر إذا أهل به لغير الله، كأن يذبح للبدوي، لصنم: كود وسواع ويغوث ونسر ويعوق، أو يذبح للقمر، أو يذبح للكواكب، أو يذبح للجن، وهذا متواتر موجود، فلا يحسبن أحد أن هذا الشرك ذهب بذهاب قوم نوح عليه السلام، بل هو واقع نعيشه الآن، فأنت ترى المصروعة يقرأ عليها دجال من الدجالين ثم يقول: لا بد أن تأتي بالديك الأحمر الذي ريشه فيه بياض أو فيه كذا وتذبحينه، وهذا الديك الذي سيذبح يذبح تقرباً للجن وهذا واقع مؤلم نعيشه، وهذا الذبح يكون شركاً أكبر، وإذا قلت: إنه يعذر بجهله، قلنا: نعم، يعذر بجهله، لكن هذا من الشرك الأكبر، فالفعل شرك، والفاعل ليس بمشرك حتى تقام عليه الحجة وتزال عنه الشبهة، فإن أصر على ذلك وتقرب إلى الجن بهذه القرابين، فهو كافر قد خرج من الملة، ومآله النار خالداً مخلداً فيها، فالذبح الشركي هو الذي يهل به صاحبه لغير الله، كمن يذبحون عند البدوي، وإذا سألتهم عن ذلك قالوا: البدوي يقبل هذه الذبائح، وهذه كثيرة في طنطة وغيرها، بل وتراها الآن موجودة عند قبر أبي العباس، وأخفهم ضرراً من يقول: أنا أذبح لله، لكن أذبح هنا عند القبر؛ لأنني أطعم المساكين، وأيضاً هذه قربة؛ ولعل الله جل وعلا أن يتقبل منا هذا العمل ونحن بقرب هذا الولي؛ لأن القرب من الأولياء صلاح وبركة، والأعمال يتقبلها الله بالقرب من الأولياء، فأخفهم ضرراً الذي يقع في الشرك الأصغر كما سنبينه. فالشرك الأكبر: هو أن يهل به لغير الله جل في علاه، فيتقرب تقرباً محضاً لغير الله، لجن أو لولي أو لنبي أو لملك مقرب، فهذا هو الشرك الأكبر الذي يخرج به صاحبه من الملة. وأما الشرك الأصغر فله صور كثيرة، ومن هذه الصور: أن يذبح لله طعمة للمساكين، وقربة لله عند قبور الأولياء، فهذه صورة من صور الشرك الأصغر؛ لأنه من باب الوسائل، والوسائل لها أحكام المقاصد، وهو وسيلة للشرك الأكبر؛ لأنه عندما يذبح عند القبر يعتقد في قلبه أنه يعظم المقبور، لكن لم يذبح تعظيماً له، ولكنه يقول: هذه القربة سريعة التقبل عند الله بالذبح عند الولي، فهو يعتقد بأن الله يقبل منه هذه القربات ولا يردها عليه إن كانت بقرب الولي، فهذا فيه نوع من التعظيم في القلب للولي، ومن الممكن أن يستدرجه الشيطان بعد ذلك إلى أن يعظم الولي، فيذبح له من دون الله جل في علاه، فصارت وسيلة لأن يذبح له من دون الله جل في علاه، فهو لم يذبح له، لكنه عندما عظمه في قبره، وعلم أن له مكانة عند ربه، وأن الله لا يرد عمله الصالح، فإنه بعد ذلك يكون هذا العمل وسيلة لأن يذبحه للمقبور لا لله جل في علاه، وذلك عندما يطمس العلم، ويبعد الناس عن أهل العلم، فيتوافدون إلى القبور ويقولون: نذبح لهم، لأنهم يتحكمون في هذه الدنيا، وهذا الذي حدث مع أهل الصوفية، وذلك أن أهل الصوفية عظموا الأولياء، فارتقوا بهم إلى منزلة فوق منزلة العباد، وبعدما ارتقوا بهم إلى هذه المنزلة اعتقدوا فيهم ما يعتقد إلا في الله جل في علاه، فقال قائلهم: إن الولي له قوة أعطاه الله إياها -حتى يكون شركاً صريحاً- فقد أعطاه الله قوة لإحياء الجنين في بطن الأم، وأعطاه الله قوة لمغفرة الذنوب، أو لإعانة أو لإغاثة الملهوف، فهذه تعتبر وسيلة للاعتقاد فيه ما لا يعتقد في الله جل في علاه، وقد قعد شيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة تقول: من اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله فهو منهم، أي: فهو مشرك؛ لأنه أنزل المخلوق منزلة الخالق، وكل وسيلة يمكن أن تجر الإنسان إلى أن يعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله فهي وسيلة محرمة؛ لأنها وسيلة إلى الشرك الأكبر، فتمنع لأنها وسيلة إلى الشرك الأكبر. ومن الصور أيضاً التي يكون فيها الذبح شركاً أصغر: الذبح عند بناء البيوت، والذبح عند استجلاب التجارات الرابحة. ومن الأدلة الواضحة الجلية على تحريم الذبح عند الولي أيضاً: ذاك الرجل الذي نذر أن يذبح إبلاً ببوانة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: (أكان فيه صنم يعبد؟) أي: يذبح له من دون الله، ثم سأله سؤالاً آخر فقال: (أكان فيه عيد من أعياد المشركين؟)، فحسم النبي صلى الله عليه وسلم المادة؛ لأن هذه وسيلة لأن يتشبه بفعل المشركين. أيضاً من هذه الصور الشركية: الذبح عند استجلاب سيارة جديدة، أو عند بناء البيت، أو عند الربح في التجارة فرحاً وسروراً، ظناً من الذابح أنَّ هذا الذبح سيمنع عنه الحسد، فترى كثيراً من الناس أو من العوام إذا بنى بناية، أو إذا اشترى سيارة جديدة فخمة، أو اشترى بيتاً يذبح على باب البيت، أو يذبح على باب البناية، أو يذبح أمام السيارة ويقول: ائتوني بالفقراء والمساكين، ولا بد أن يكونوا من الصالحين، لأنه لا بد أن يأكل طعامي التقي المؤمن الصالح، فهي قربة لله، فقال: باسم الله، فذبح لله، وجعلها طعمة للمساكين وقربة لله، ومع ذلك فهو من الشرك الأصغر؛ إذا ذبح من أجل دفع العين، وهذا الشرك ليس بشرك أكبر بل هو شرك أصغر؛ لأنه اتخذ سبباً لم يشأه الله سبباً، والدليل على ذلك: قول الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فنقول: هو ذبح، وذبحه لله ليفر من الشرك الأصغر، واعتقد أنه قربة لله، ففر من الشرك الأكبر لكنه اتخذه سبباً من الأسباب التي يدفع بها العين. إذاً: الشرك هنا شركان: شرك أكبر، وشرك أصغر. فأما الشرك الأكبر إذا أهل به لغير الله جل في علاه، كأن يكون قربها إلى ولي، قربها إلى نبي، قربها إلى ملك، قربها لقمر، لشمس لنجوم لجبال لأشجار لأحجار، فكل ذلك ذبح لغير الله، وإذا كانوا يذبحون لله ولغير الله، فهذا شرك أكبر أيضاً، أي: أن الله جل وعلا لا يقبل الشريك، قال الله تعالى في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك)، وهذا هو فعل الجاهلية، يذبحون ويقولون كما قال تعالى: {هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] فهؤلاء أفضل من مشركي هذا الزمن، فمشركو العرب كانوا يذبحون لله، ويشركون معه غيره، أما مشركو اليوم فهم يذبحون للبدوي محضاً، يذبحون للجيلاني محضاً، ليس لله فيه ثمة ناقة ولا جمل ولا جزء واحد، فنحن نقول: بهذا الفعل صار شركاً أكبر، ولو أشرك مع الله حل في علاه. وأما الشرك الأصغر أن يتخذه وسيلة للشرك الأكبر؛ فالذي يكون متعلقاً بالذبح عند قبر الولي، قربة لله، فهذا شرك أكبر؛ لأنه يصير بذلك معتقداً في الولي ما لا يعتقد إلا في الله جل في علاه، فبعد أن ينطمس العلم فيذبح للولي دون أن يذبح لله جل في علاه، فإن كانت وسيلة فالوسائل لها أحكام المقاصد. أيضاً صورة أخرى من الشرك الأصغر: أن يذبح دفعاً للعين أو شكراً لله جل في علاه، ومع الشكر لله يقول هذا سبب لدفع العين فهذا أيضاً من الشرك الأصغر. أما القسم الثالث: فهو الذبح المباح، أي: يجوز للإنسان أن يذبح فيه، كإكرام الضيف، وهذا يؤجر عليه إذا نوى به لله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)، ولذلك قال الله مادحاً إبراهيم عندما جاءه الأضياف: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الحجر:62]، {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26]، وفي الآية الأخرى: {حَنِيذٍ} [هود:69]، فأتى به ليقربه إليهم ليأكلوا، فهذا من باب إكرام الضيف، ومن الذبح أو إراقة الدماء المباحة التي يرتقي بها المرء إلى درجات في التوحيد، إن تقرب بها أو نوى بها ابتغاء وجه الله، وإن فعلها مكرمة أو تكرمة، أو لأنها من الشهامات، أو لأنها من المروءات، فهذه مباحة ولا شيء عليه، ولعل الله يخلف عليه هذه النفقة، لأن الله وكل ملكاً بأن يقول ليل نهار: (اللهم أعط كل منفق خلفاً وأعط كل ممسك تلفاً)، فهذا الذبح المباح قد يرتقي به المرء إلى رضا الله جل في علاه، ومن الممكن أن ينقلب المباح إلى الشرك، بل إلى الشرك الأكبر لا الشرك الأصغر، كأن يأتي رئيساً أو أميراً، فيريد أن يكرمه، فيذبح عنده الذبائح ليكرمه بها، وهذه الذبائح تكون مباحة إن دعاه إليها فأكل منها وأكل الحاضرون، أما إن ذبح هذه الذبائح عند قدومه، ثم سافر هذا الأمير بعد ساعة، أو بعد وقت معين ولم يأكل من هذه الذبائح، فأخذ هذا الرجل الذبائح فألقاها في النفايات فهذا شرك أكبر؛ لأنه انقلب من المباح إلى الشرك الأكبر؛ لأنه ذبح تعظيماً لهذا الأمير وتعظيماً لهذا الوزير، فهو ما يريد الإكرام، بل يريد التعظيم بالذبح لهذا الوزير، فيكون ذلك شركاً أكبر، إذ الذبح تعظيماً لا يكون إلا لله، قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، أي: وانحر تعظيماً وتوقيراً لربك جل في علاه. فهذه هي الأقسام الثلاثة في الذبح، ومفادها كلها: أن الذبح عبادة ثبت ذلك بالشرع، فصرفها لله توحيد وصرفها لغير الله شرك، وهي أقسام ثلاثة: توحيد محض، وشرك محض، والشرك الم

الحلف بغير الله

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - الحلف بغير الله عظمة الله سبحانه وتعالى راسخة في قلب كل مؤمن، بل هي ركن العبادة الركين، ولتعظيم الله آثار بينها الشرع الحنيف، منها: ألا يحلف إلا بالله جل في علاه؛ لأن الحلف لا يكون إلا بمعظم، ولا أعظم من الله سبحانه في قلب المؤمن الموحد، فلا يعدل عنه إلى غيره في حلفه وفي سائر شئون حياته، وإن عدل عنه إلى غيره -في الحلف ونحوه- فقد أشرك.

حكم الحلف بغير الله

حكم الحلف بغير الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فما زلنا مع هذا الكتاب الجليل أي: كتاب: (الدر النضيد) للإمام الشوكاني رحمه الله تعالى. وسنتكلم -إن شاء الله- على مسألة مهمة، وهي: حكم الحلف بغير الله، والمصنف هنا أتى بأمر عجب، وهو أنه يرى ويستدل بأن الحلف بغير الله لا يجوز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف بملة غير الإسلام لم يرجع إلى الإسلام سالماً)، والعجيب في ذلك: أن الإمام الشوكاني رحمة الله عليه يرى أن الحلف بغير الله من الشرك الأكبر، أي: يخرج به صاحبه من الملة، فمن أقسم عنده باللات أو بالعزى أو بحياته أو برحمة والده أو بشرفه، فهو يرى أنه يخرج من الملة، ولذلك يقول: وفيها: أن الحلف بغير الله يخرج به الحالف عن الإسلام، فجعله من الشرك الأكبر، قال: وذلك لكون الحلف بشيء مظنة تعظيمه، فعلل بهذا التعليل، أي: أنه تعظيم، والتعظيم المطلق لا يكون إلا لله، وأقول: الكلام عن القسم سيكون من أكثر وجه.

تعريف القسم لغة وشرعا

تعريف القسم لغة وشرعاً القسم أو اليمين لغة: مأخوذ من اليد؛ لأن الواحد يأخذ بيد صاحبه أو بيمين صاحبه لتعقد اليمين. وشرعاً: ذكر معظم لتوكيد حكم مذكور على وجه مخصوص. فقولنا: (ذكر معظم)، أي: لا يوجد أحد أعظم من الله جل في علاه، وقولنا: (لتوكيد حكم)، أي: كأن يقول: والله ما أخذت هذا المال، وقولنا: (على وجه مخصوص)، أي: يسبقه بواو أو باء أو تاء، فيقول الحالف مثلاً: والله ما أخذت الدرر، أو يقول: تالله ما فعلت كذا، وبالله لأفعلن كذا، فهو ذكر معظم ولا أحد أعظم من الله جل في علاه كما بينا، وقلنا: (ذكر معظم) فأطلقنا هذه العبارة؛ لنفرق بين من عظم الله وعظم مخلوقاً فأنزله منزلة الله، ولذلك أطلقناه، فما قلنا: (ذكر الله)، بل قلنا: ذكر معظم؛ لأن المعظم عند المؤمنين هو الله جل في علاه، والنصارى يعظمون المسيح على أنه الله أو ابن الله والعياذ بالله، واليهود يعظمون عزيراً، وعند أهل التصوف الذين غمسوا في الشركيات يعظمون الأولياء عن الله جل في علاه كما سنبين. وقولنا في القسم شرعاً: هو ذكر معظم، هذا فيه إطلاق حتى نبين أنها تقع على ناحيتين، أي: على الله وعلى غيره، ولا أعظم من الله جل في علاه، وقولنا: لتوكيد حكم مذكور على وجه مخصوص، أي: نحو بالله وتالله ووالله، وإن كان القسم تعظيماً فهو عبادة، أي: إن كان القسم إشعاره وركنه وأسه وأساسه هو التعظيم، فهو إذاً عبادة، وفي الحديث: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) فهذا أمر، والله لا يأمر إلا بما يحب، وما أحبه الله كان عبادة. وأيضاً: تعريفنا سابقاً للعبادة، وذلك أننا قلنا: للعبادة ركنان هما: غاية الحب والذل، وغاية التعظيم، إذاً: فالتعظيم ركن العبادة الركين، والقسم لا يكون إلا بمعظم، وكذا الشق الثاني وهو: غاية الذل لله جل في علاه يظهر في امتثال أوامره بأن لا يقسم إلا به. فالغرض المقصود يبقى إذاً هو التعظيم لله جل في علاه، فلا بد من ذكر معظم أو السكوت في القسم، وسنبين أن له قيود وشروط.

أقسام القسم

أقسام القسم ثم القسم قسمان: قسم من الخالق، وقسم من المخلوق. القسم الأول: القسم من الخالق، وهذا لا قيود له؛ لأنه الخالق سبحانه جل في علاه، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، فيقسم سبحانه بما شاء، يقسم بنفسه، وبذاته، وبصفاته، وبأفعاله، وبخلقه، وبآثار أفعاله، وبما شاء سبحانه، قال الله تعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، وقد أقسم سبحانه بذاته فقال: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]. وأقسم بصفاته كما قال في الحديث القدسي: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين). وأقسم الله بأسرار أفعاله وبمخلوقاته فقال تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] والسماء مخلوقة، فهي أثر فعل لله جل في علاه؛ لأن من لوازم الربوبية الخلق، فأقسم الله بالسماء وبالليل وبالنهار وبالفجر وبالضحى وبالطور وبالبحار وبالأنهار، وغيرها من مخلوقاته.

الحكمة من قسم الله بالمخلوق

الحكمة من قسم الله بالمخلوق والحكمة من قسم الخالق بالمخلوق مع أنه حرم الإقسام به كما سنبينه: أن قسم الله بالمخلوق فيه الدلالة على عظمة المخلوق، وعظمته تدل على عظمة الخالق، فكل كمال في المخلوق فالله أحق به، وكل عظمة في المخلوق فقد دلت على عظمة الذي خلق. فإذاً: الحكمة من أن يقسم الله بمخلوقاته: أن في هذه المخلوقات دلائل باهرة على ربوبية الله وعظمته سبحانه جل في علاه، قال الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ * النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق:1 - 3]. وقال الله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج:1 - 2]. وقال جل في علاه: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7]، وقال جل في علاه: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:1 - 3]. و (ما) في الآية الأخيرة اسم موصول بمعنى الذي، أي: والذي خلق الذكر والأنثى، وقد تكون مصدرية، فيكون المعنى: وخلق الذكر والأنثى، أي: يبين الله أن خلق الإنسان خلق عظيم، ومن عظمة خلقه يقسم الله به. فيكون القسم إن قلنا: إنها (موصولة) بالذات المقدسة، وإن قلنا: إنها (مصدرية) فيكون القسم بخلق الإنسان البديع، فالآية: والذي خلق الذكر والأنثى، فيها نوعين من القسم: نوع بالمخلوق، ونوع بالخالق. ومما أقسم الله تعالى به: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] وقوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:1 - 3]. وقوله تعالى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2]، وقوله جل في علاه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7]. والقسم في هذه الآية الأخيرة إما أن تكون (ما) فيه (موصولة)، فيكون المعنى: والذي سواها، وهو الله جل وعلا ويكن هنا أن الله أقسم بذاته جل في علاه، وقد تكون (مصدرية) ويكون المعنى: وتسويتها، وفيه إشارة إلى عظمة تسوية النفس، ويكون قسم الله هنا بالمخلوق. إذاً: يقسم الخالق بما شاء، بالمخلوقات، بذاته، بصفاته، وكذا أقسم الله بحياة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما قال: ((لَعَمْرُكَ))، أي: وحياتك يا رسول الله! وحياتك يا محمد! {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72]. فهذا القسم من الخالق جل في علاه يكون بما يشاء.

أنواع القسم من المخلوق

أنواع القسم من المخلوق القسم الثاني: القسم من المخلوق، وهو على ثلاثة أنواع: قسم مباح، وقسم محرم، وقسم شرك.

القسم المباح

القسم المباح القسم المباح هو: الذي أباحه الشرع تعبداً لله جل في علاه، بأن تقسم وتذكر المعظم لأمر عظيم، وتريد منه: أن ينتبه الناس لك، وأن يستقر في قلوبهم أنك صادق، وتؤكد بالقسم ليقتنعوا به، كما أقسم النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحيان دون أن يستقسم، فقال: (والذي نفسي بيده إن في الجنة) كذا وكذا، فأقسم دون أن يستقسم؛ ليؤكد قوله، فهذا القسم مباح. ولا يكون القسم إلا بالله جل في علاه، أو بصفاته سبحانه وتعالى وأسمائه، أو بأفعاله وآثاره جل في علاه. وكل هذه أنواع للقسم المباح. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم كثيراً بربه جل في علاه، إما بذاته وإما بأسمائه وصفاته وإما بأفعاله، فكان يقول: (والذي نفسي بيده) وهذا قسم بالذات. وكان صلى الله عليه وسلم يقسم ويقول: (لا ومقلب القلوب) وهذا قسم بأفعال الله. وكان يقسم أيضاً بقوله: لا والله وبالله وتالله، وأيضاً صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينتهجون هذا النهج بعدما تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم أن القسم المباح هو القسم بالله أو بأسمائه وصفاته جل في علاه، فكانوا يفعلون ذلك، وذلك كحال الأعرابي الذي دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وله دوي بعدما أسلم، فقال: (آلله أرسلك؟)؟ كأنه يستحلفه بالله. وأيضاً: أبو موسى الأشعري عندما دخل عليه امرؤ وقال له: (إني أحبك في الله، قال: آلله؟ أو قال: والله تحبني في الله؟ -أي: يقسم بذات الله جل في علاه- قال: نعم. قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كذا وكذا). وأيضاً: عائشة رضي الله عنها وأرضاها كانت تقسم بذات الله أو بأسمائه وصفاته، وكانت تحب محمداً صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي حباً جماً، لكنها امرأة، وتعرفون النساء، فتغضب تارة وتسعد وتسر تارة، فإذا غضبت من النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما تغار عليه غيرة شديدة، فتغضب إن أشار إلى زوجة من زوجاته، أو إن أكل المغافير عند زوجة من زوجاته، وكانت في أوقات اليسر والسعادة والسرور مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تقسم وتقول: لا ورب محمد، فتذكر محمداً صلى الله عليه وسلم على أنه من أعظم المخلوقات، فتقسم بالرب سبحانه، لكن ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أعظم مخلوق عند الله جل في علاه. وكان إذا أكل المغافير عند زينب أو ذهب إلى أم سلمة قالت: لا ورب إبراهيم، وتركت اسم محمد، ولذلك قال لها النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (إني لأعلم متى تكونين عني راضية ومتى تكونين غاضبة؟ عندما تكونين راضية عني تقولين: لا ورب محمد، -أفرس الناس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعندما تكونين غاضبة عني تقولين: لا ورب إبراهيم. قالت: نعم يا رسول الله! والله ما أهجر إلا اسمك فقط، لكن المحبة كلها تنعقد في القلب). فالغرض: أنها كانت تقسم بذات الله وبصفاته وأفعاله. وأيضاً: كان ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه يطوف حول الكعبة فسمع رجلاً يقول: والكعبة. فأوقفه ابن عمر وقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: لا ورب الكعبة. قال له ذلك لأنه لو أقسم بالكعبة فقد أقسم قسماً شركياً كما سنبين، لكن إن كان لا بد من القسم فليقل: لا ورب الكعبة، فانظروا إلى الصحابة رضوان الله عليهم بعدما أتقنوا العقيدة الصحيحة كيف ابتدءوا يعلمونها للناس تطبيقاً واقعياً بعد العلم والعمل، ولذلك قال لي بعض الأفاضل: نريد من الإخوة أن يتعايشوا العقيدة ويتعبدوا بها، ولا نسرد لهم الأصول والفروع وغيرها، قلت: نعم، هذا جيد جداً، لكن هو جيد للعوام لا لطلبة العلم، العوام يريدون العقيدة للتطبيق فقط، فيتعلمونها لاعتقادها والتعبد بها، أما طالب العلم فيتعلمها ليتعبد بها وليعلمها وليناظر من أجلها، وهذا الذي كان يفعله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. صلى ابن عباس على جنازة فسمع رجلاً يقول: اللهم رب القرآن ارحم هذا الميت، أفسح له في قبره، فلما انتهى ابن عباس من الصلاة وسلم أخذه فقال: ماذا تقول: قال قلت: ورب القرآن، قال: ما معنى ورب القرآن؟ أي: ليس لك أن تقول: ورب القرآن، فكانت الإجابة من الرجل إجابة معينة والإجابة من ابن عباس إجابة معينة. وللتوضيح نقول: المضاف إلى الله نوعان: أعيان، ومعان، فـ ابن عباس أوقف الرجل؛ لأنه أضاف الربوبية للقرآن، بقوله: ورب القرآن، فإن كان الرجل يقصد أن القرآن كالشجرة، وهذا هو الذي أخذ على الشيخ سيد قطب عندما قال: والقرآن كالسماء والأرض والأنهار، والمأخذ في هذه الجملة: إذا قال: القرآن كالسماء، فكأنه قال: القرآن مخلوق، كما تقول المعتزلة. إذاً: فـ ابن عباس استوقفه وكأنه يقول له: أنت الآن أضفت، وهذه الإضافة أتقصد بها إضافة معنى أم إضافة عين؟ فإن قصدت إضافة العين فهو قسم بمخلوق، وكأنك قلت: إن القرآن مخلوق، وهذا لا يصح، وإن قصدت أنها إضافة معنى، فقد أضفت القرآن الذي هو كلام الله لله، إضافة صفة للموصوف. إذاً: فـ ابن عباس استوقفه لا للقسم ولكن للإضافة، أي: هل هذه الإضافة إضافة معنى أم إضافة عين، وهذا النوع من القسم في القرآن كثير، أي: إضافة المعاني للرب الجليل، نحو قوله تعالى: {رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73]. ومنه أيضاً قول الله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون َ} [الصافات:180] فهنا أضيف الموصوف لصفته وهي العزة، رب العزة، في قوله ((رَبِّ الْعِزَّةِ))، وقد سمع ابن عباس من يحلف بذلك فقال: إن أقسمت فاقسم بالله جل في علاه، أو إن حلفت فاحلف بالله جل في علاه، ثم سأله عن مسألة الكلام، وسمع أحداً يحلف بحياة أهله أو أقربائه فقال: الشرك بالله أن يقول: وحياتي وحياتك. إذاً: فالقسم المباح قسم من المخلوق، وهو القسم باسم الله، أو بصفة من صفاته، أو بفعل من أفعاله جل في علاه.

القسم المحرم

القسم المحرم القسم المحرم وهو: القسم بالله على أمر دنيوي كاذباً، وهذا القسم الممنوع لا يدخل فيه الشرك، وإنما هو قسم محرم. ودليل هذا القسم وأساسه قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران:77]، وأيضاً ورو في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اليمين الفاجرة)، واليمين الفاجرة هذه غير الغموس، فالفاجرة: هي المنفقة للسلعة الممحقة للبركة، وهي كأن يقول: أقسم بالله أني اشتريتها بكذا، وهي نوع من أنوع الغموس، لكن على خلاف، اشتريتها بكذا ليبيع سلعته، أو هو يجعل الله عرضة ليمينه، كما في الطبراني بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم) وذكر منهم: من اتخذ الله جل وعلا سلعة أو اتخذ يمينه سلعة، فلا يبيع إلا بقسم ولا يشتري إلا بها، ولا يجلس إلا بقسم ولا يقوم إلا بها، فأصبح القسم سلعة في لسانه، فهذه أيضاً من اليمين الفاجرة. أما اليمين الغموس: فهي اليمين الكاذب فيها صاحبها على شيء مضى، وهذا تعريفها عند الجماهير. وسميت غموساً؛ لأن صاحبها لا كفارة له، وإنما يغمس في جهنم، وهذا خلافاً للشافعية، وذلك أنهم قالوا: لها كفارة، والجماهير قالوا: اليمين الغموس ليس لها كفارة، لكن الشافعية يرون أن لها كفارة بقياس الأولى. فالمقصود: أن اليمين الغموس يراه الجمهور يميناً مطلقاً، أي: أن يقسم بالله كذباً على شيء مضى، مثلاً: سرق رجل مالاً، فلما عاودوه وقالوا: أنت أخذت هذا المال، فأقسم بالله -وهو مستيقن أنه كاذب- أنه لم يأخذ هذا المال، فهذا اليمين عند جماهير أهل العلم يمين غموس ليس له كفارة، بل لا بد أن يغمس صاحبه في نار جهنم. وقال بعض العلماء -وهذا أدق-: اليمين الغموس ليس مطلقاً الذي يقسم صاحبه به كاذباً ليستقطع مال امرئ مسلم، واستدلوا على ذلك بحديث صحيح، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بين اليمين الغموس بالذي يقسم به صاحبه ليقتطع مال امرئ مسلم زوراً، فيبقى اليمين الغموس هو أن يكون بينه وبين الآخر حق، فيقول صاحبه: هذا حقي، وهو يقول: لا، هو حقي، فيقول: تقسم بالله، فيقسم بالله متجرئاً ليأخذ منه هذا المال، فيأخذه منه ظلماً، فهذه هي اليمين الغموس. أما لو فعل شيئاً في الماضي وأقسم أنه لم يفعله -وهو يعلم أنه كاذب- فلا تدخل في اليمين الغموس، وهذا هو الراجح الصحيح، أي: أن الراجح هو: أن المطلق يحمل على المقيد، والجمهور يرون أن هذا فرد من أفراد العموم لا يخصصه. وعلى كل فالمسألة خلافية، إما على الإطلاق أو التقييد، ونحن لا نقول هذا التفصيل للعوام، وإنما نقول لهم: من أقسم كاذباً في شيء مضى -وهو يعلم أنه كاذب- فهذا يمين غموس لا كفارة له. والحاصل: أنه يمين محرم، وهو اليمين الذي يتخذ الله فيه سلعة حتى يبيع ويشتري به، أو اليمين التي هي منفقة للسلعة ممحقة للبركة، أو التي يكون فيها صاحبها كاذباً على شيء مضى، وهو متأكد أنه كاذب فيه.

القسم الشركي

القسم الشركي القسم شركي وهو: القسم بغير الله جل في علاه، كأن يقسم ببشر أو بصنم أو بحجر أو بشجر أو بملك أو بنبي، فهذا القسم قسم شركي، وهذه هي التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم وحث الأمة أن يبتعدوا عنها بقوله عليه الصلاة والسلام: (من كان حالفاً فليحف بالله)، وهذا أمر يدل على الوجوب، أي: من أقسم بغير الله فقد وقع في الإثم؛ لأنه خالف النبي صلى الله عليه وسلم، بل يقع في الشرك لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، وأيضاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله). فالمراد: أن هذا قسم شركي، ثم هل هو شرك أكبر أم أصغر؟ على تفصيل والأصح: أن الأصل في القسم بغير الله أنه شرك أصغر؛ لأمور: أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، ودلت القرائن بأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بقوله: (فقد أشرك) أي: الشرك الأصغر؛ لأنه جعل له كفارة، والشرك الأكبر لا كفارة له، أما الشرك الأصغر فله كفارة، وهي ما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف باللات فليقل: لا إله إلا لله)، فجعل له كفارة، فهذه دلالة أولى. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحلف فقال: (لا تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، ولم يبين ويفصل أن هذا شرك يخرج من الملة. أما إذا جاءنا الإيراد على أنه ذكر في حديث آخر الشرك، قلنا: قد فسره بذكر الكفارة أنه شرك أصغر. فالحاصل إذاًَ: أن الأصل في القسم بغير الله أنه شرك أصغر، وهذا يعد اتفاقاً لأهل العلم من المتقدمين، لكن خالف الشوكاني كل أهل العلم وقال: إن الأصل فيه أنه شرك أكبر. ولو قلنا بقوله لكفر وخرج من الملة ثلاثة أرباع أهل الاسكندرية أو أكثر؛ لأن كل واحد منهم يقول في قسمه: بشرفي، بشرف امرأتي، بشرف أمي، بشرف كذا، أي: أن الشرف عندهم أغلى ما يقسمون به، فلو قلنا بقول الشوكاني فجل أهل مصر كفروا. والصحيح الراجح: أن القسم بغير الله شرك أصغر لا شركاً أكبر، لكنه يرتقي إلى الشرك الأكبر بفعل القلب؛ لأن القاعدة عند العلماء تقول: كل معصية أو كل شرك أصغر يمكن أن يرتقي إلى الشرك الأكبر بفعل القلب، وذلك أننا قلنا: القسم أصله وركنه التعظيم، فمن عظم غير الله تعظيمه لله فقد أشرك شركاً أكبر. إذاً: فيكون القسم شركاً أكبر إذا أقسم المرء بغير الله معظماً له كتعظيمه لله، أو معتقداً تعظيمه كتعظيم الله جل في علاه، وإن قال قائل: وكيف تعرف هذا؟ فأمر التعظم مضمر، فهلا شققت عن قلوبهم لتعرف وجود التعظيم من عدمه، فنقول: يمكن بالقرائن المحتفة أن يظهر الشرك الأكبر، وأن يظهر ما كان مستوراً بالقلب، فإن قال: كيف ذلك؟ قلنا: يأتي الرجل فيقف أمام القاضي فيقول له: أقسم بالله، فيقسم بالله كيفما شاء، مرة ومرتين وثلاثاً وأربعاً، ثم يقول له القاضي: أقسم بالبدوي أنك لم تفعل ذلك، فماذا يحدث؟ يقول: لا، ويرتجف أمامه ولا يقسم بالبدوي، فهذه الحالة فيها دلالة وقرينة على أنه يخشى البدوي أشد من خشيته لله، ويلزم منه أنه يعظم البدوي أكثر وأعظم من تعظيمه لله جل في علاه. إذاً: فإذا عظم غير الله فقد أنزل غيره منزلته فيكون مشركاً شركاً أكبر.

أنواع القسم الشركي

أنواع القسم الشركي القسم الشركي نوعان: شركٌ أصغر، وهذا هو الأصل في القسم بغير الله، وقد يرتقي للشرك الأكبر بالتعظيم، أي: بفعل القلوب، وذلك إذا عظم مخلوقاً تعظيمه لله، فيكون حينها قد جعل لله نداً، فخرج من الملة ووقع في الشرك الأكبر.

حكم الكفارة على القسم الشركي

حكم الكفارة على القسم الشركي بعد أن عرفنا أن الحلف بغير الله شرك أصغر، فهناك سؤال يسأله البعض وهو: من أقسم بغير الله، كأن يقسم بحياته، أو بشرفه، أو بمحمد صلى الله عليه وسلم، أو بجبريل، أو بملك، فهل له كفارة أم لا؟ نقول: أولاً: قسمه لا ينعقد، أي: إذا أقسم بغير الله فلا ينعقد يمينه ابتداءً، فإذا لم ينعقد يمينه فلا نلزمه بما أقسم به. ثانياً: إذا لم ينعقد يمينه فعليه كفارة، وهي أن يقول: لا إله إلا الله، وليست كفارة مادية، بل كفارة قولية، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله)، وقد سمع معاذاً يقسم بغير الله، يقسم باللات، فقال: (لا تقل ذلك، قل: لا إله إلا الله)، فهذه كفارة جعلها النبي صلى الله عليه وسلم لمن أقسم بغير الله.

حكم الحلف بالطلاق

حكم الحلف بالطلاق لو قال قائل: علي الطلاق، فهل هذا قسم أم لا؟ A كأنه قال: يلزمني الطلاق، فهذه صورة نذر، وأنزلوها منزلة اليمين؛ لأنه أتى بنتيجة اليمين، وذلك أن المقصود الأسمى من اليمين هو: الحض على الفعل أو الامتناع عنه، فلو قلت: والله لتأت، أو والله لأفعلن، أو والله لا أفعل، فالمفاد والمقصود الأعظم من اليمين هو: الحض على الفعل أو المنع، فلو فعل ما أقسمت على المنع منه فعليك أن تكفر عن يمينك، وإن كان قصده من قوله: يلزمني الطلاق، إن ذهبت لأمك مثلاً، أن يمنعها من أن تذهب إلى أمها، فإن كان المقصود الأسمى عنده هو المنع أو التهديد فينزل منزلة اليمين في هذه الصورة. أما إذا كان مقصوده: تهديدها لمنعها عن الذهاب، فالقسم إذاً يفيد ما أفاده النذر، كيف ذلك؟ مثلاً: لو قال لها: والله لن تذهبي إلى أمك، ولو ذهبت فأنت طالق، فنقول له: ما نيتك؟ إذا قال: نيتي في ذلك أن أمنعها أو أحضها على عدم الذهاب لا غير، فنقول: مقصودك إذاً اليمين، فحكمه حكم اليمين، وقلنا: إن التهديد مفاده أو نتيجته من اليمين لما في الآية، وهي قول الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] وهذه الآية متعلقة بقصة زينب لما كان يأكل عندها العسل أو المغافير، فقالت: عائشة: أكلت مغافير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا آكل، أو قال: حرام علي، أو قال: يلزمني أن لا آكل، هذا يعتبر ماذا؟ يعتبر نذراً، وسماه الله في الآيات يميناً بالنية، أي: أن نية النبي صلى الله عليه وسلم الحض على عدم الأكل لا تحريمه حقيقة، فنزل هذا منزلة اليمين، قال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فنزله منزلة اليمين. فالحاصل: أن قوله (علي الطلاق)، الأصل فيها النذر، وتنزل منزلة اليمين بالنية، أي: بنية الحالف بها.

الاستثناء في اليمين

الاستثناء في اليمين عند وجود الاستثناء في اليمين لا تكون على المرء كفارة إن حنث، والاستثناء في اليمين أن يقول المقسم: إن شاء الله، بعد أن يقسم على شيء يفعله أو يمتنع عنه، فهذا معنى الاستثناء في اليمين؛ لقول الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]، فمن قال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله، وحنث فلا كفارة عليه، وهذا لما جاء في الطبراني بسند صحيح عن ابن عمر مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم: (من حلف على شيء فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه)، ومعنى: لا حنث عليه، أي: لا كفارة عليه، ولذلك قال ابن عباس: من قال: إن شاء الله فقد استثنى في اليمين، ومن استثنى في اليمين فلا كفارة عليه. وقال ابن مسعود بسند صحيح: من حلف على شيء فاستثنى فلا كفارة عليه، فمثلاً: لو قال محمد لزيد: يا زيد! تتغدى عندي غداً، فقال زيد: والله لأتغدين عندك غداً إن شاء الله، فجاء الغد فعرضت له مسألة عويصة ومهمة جداً فلم يذهب، فقال له محمد: عليك كفارة يمين، فقد أقسمت بالله أنك تتغدى عندي ولم تأت، فقال زيد: لا، أنا أفقه منك، فإني أعلم من ابن مسعود، بل وأرقى من ابن مسعود من الصادق المصدوق أن من قال: إن شاء الله على شيء وكان عازماً على الوفاء، وهذه هي التي تخرج صاحبها من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق ثلاث، ومنها: وإذا وعد أخلف)؛ لأنه وعد وهو عازم على أن يفي -وقال: إن شاء الله، فلم يف لمانع حقيقي فليس بمنافق ولا كفارة عليه. لكن إذا قلنا بهذا التأصيل -أي: بأن الاستثناء يمنع الكفارة وأن المرء لا يأثم بذلك إلا أن يبيت النية بالخلف- فـ ابن عباس قال: عندي تفصيل في هذه المسألة: وهو أنه يجب على من أراد الاستثناء أن يصله بالكلام. فلو قال: والله لأتزوجن هنداً إن شاء الله، فهذا يصح فيه الاستثناء، أما لو قال: والله لأتزوجن هنداً، وسآتي بالمهر آلافاً مؤلفة، وسآتي بأثاث البيت من كذا وكذا، وسآتي بالبناء ليبني كذا وكذا، ثم قال: إن شاء الله، فنقول له: قطعت الكلام، وإذا قطعت الكلام فلا يصح هذا الاستثناء كما قال ابن عباس: شرط أن يعمل الاستثناء عمله أن يكون متصلاً. والجمهور على أنه لا يشترط ذلك، وهذا هو الراجح والصحيح، أي: أنه حتى لو انقطع في الكلام ثم قال: إن شاء الله، بل لو تذكر وقال: إن شاء الله، فإن هذا يعمل عمل الاستثناء ولا كفارة عليه، بل ورد هذا عن ابن عباس عندما فسر قول الله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]، قال هو في الاستثناء، أي: إذا نسي في الكلام وتذكر الاستثناء فقال: إن شاء الله، إذاً: فمن أقسم على شيء فلم يفعله وقد استثنى بقوله: إن شاء الله، فلا كفارة عليه ولا حنث.

حكم الحلف بـ: (لعمري)

حكم الحلف بـ: (لعمري) إذا قلنا بأن القسم بغير الله لا يجوز، وأنه من الشرك بمكان، فكيف نجيب عن إشكال مشكل جداً، وهو: أنه قد أقسم الذي رفع راية التوحيد بهذا القسم، فقد قال صلى الله عليه وسلم لرجل يسأله: (أكلت برقية رقيت أحدهم وأخذت قطيعاً من الغنم، آكل من هذا الغنم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كل فلعمري)، فما معنى لعمري؟ أي: حياتي، قال له: (لعمري لمن أكل برقية باطل فلقد أكلت برقية حق)، فهذا حلف بغير الله، فما الجواب؟ و A أنه قد اختلف أهل العلم في ذلك، فبعض العلماء كإسحاق وغيره قالوا: لا يجوز أن تقسم وتقول: لعمر الله، وذلك تأدباً مع الله، فالله ليس له عمر، فحياته أبدية أزلية سبحانه وتعالى، فقالوا: إن من سوء الأدب أن تقول: لعمر الله، قالوا: والأفحش منه أن يقول: لعمري؛ لأن هذا شرك. والصحيح الراجح -كما رجحه النووي وغيره-: أن هذا من كلام العرب ولا يدخل في القسم، فليس (لعمري) من القسم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها في أكثر من حالة، وقالتها عائشة وقالها غير واحد من الفقهاء، على أنها قد درج العرب عليها فأصبحت كاليمين اللغو، فلا تعتبر يميناً كقول القائل: والله لتأكل، والله لتجلس، والله لتشرب، فإن لم يجلس، ولم يأكل، ولم يشرب، فلا كفارة؛ لأن هذا لغو، كما قالت عائشة في تفسير اللغو: هو كقول الرجل: لا والله، نحو: لا والله لتأخذ، لا والله لتأكل، لا والله لتشرب، فالقسم بـ (لعمري) ينزل منزلة اللغو. إذاً فالراجح أن (لعمري) لغو، درج العرب على قولها فلم تنزل منزلة اليمين.

تحريم اتخاذ القبور مساجد

شرح الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد - تحريم اتخاذ القبور مساجد لقد جاء الدين الإسلامي بتوحيد الله عز وجل والبراءة من الشرك بكل صوره ومظاهره، فحرم كل ما هو موصل إلى الشرك، ومن ذلك اتخاذ القبور مساجد، والصلاة عندها، واتخاذ السرج عليها، والعكوف عندها، فحرم كل ذلك، لأنه داعية إلى الشرك، وهو أيضاً من سنة اليهود والنصارى الذين أمرنا بمخالفتهم.

النهي عن اتخاذ القبور مساجد

النهي عن اتخاذ القبور مساجد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ثم أما بعد: فقد وصل المؤلف رحمه الله في كتابه: (الدر النضيد) إلى القول: بتحريم اتخاذ القبور مساجد. قال رحمه الله: [ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد)]. فـ (مساجد): مفعول به، وهو ممنوع من الصرف؛ لأنه جمع على صيغة مفاعل. وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبياءهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك). وأيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم كما عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد) وأيضاً احتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد) وقوله: (واشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد). وأيضاً ذكر قصة الكنيسة من حديث عائشة أن أم سلمة ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم الكنيسة التي رأتها في الحبشة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولئك إذا مات فيهم الرجل، أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله جل وعلا يوم القيامة).

سد الذرائع قاعدة من قواعد الشرع

سد الذرائع قاعدة من قواعد الشرع إن الشرع الحنيف فيه أصول وثوابت وقواعد كلية، والشرع الحنيف عندما يحرم شيئاً فإنه يحرم كل سبيل يصل إلى هذا الشيء، وإذا سد الشرع باباً سد كل وسيلة يصل بها المرء إلى هذا المحرم، ولذلك لما حرم الله جل في علاه الزنا حرم سبل، فحرم الكلام مع المرأة الأجنبية، وحرم لمسها، وحرم النظر إليها، فما حرم الله شيئاً إلا حرم كل الأسباب التي توصل إليه.

النهي عن الغلو

النهي عن الغلو ومن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء يحذر الأمم بأسرها من الشرك، ويسد باب الشرك ويحفظ جناب التوحيد، ويسد كل طريق يصل بالإنسان إلى الشرك، فإنه عندما سمع خطيباً يقول: ما شاء الله وشئت. قال له النبي صلى الله عليه وسلم (بئس خطيب الأمة أنت، أجعلتني لله نداً؟ قل ما شاء الله ثم شئت) أي: ولا تقول: ما شاء الله وشئت، مع أن الله قد بين أن مشيئة العباد تبعاً لمشيئة الله، فقال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30]. ولكن لما كانت اللفظة موهمة للتساوي قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بئس خطيب الأمة أنت، أجعلتني لله نداً؟)، حسماً لمادة الشرك، وسداً لكل طريق يصل بالإنسان إلى تعظيم مخلوق، ورفعه إلى مكانة تعظيم الله جل في علاه، ولو كان المخلوق هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما دخل صلى الله عليه وسلم على القوم فقالوا: أنت خيرنا وابن خيرنا، أو أنت سيدنا وابن سيدنا. فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم (قولوا بقولكم أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان)، أي: حتى لا تغلو. وكان يقول: (لا تطروني)، وهذا نهى عن الغلو في الدين فقال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) وذلك سداً لباب الشرك، وسداً للذريعة. وأيضاً: سداً للذريعة فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمنع من اتخاذ القبور مساجد.

النهي عن التشبه بالكفار

النهي عن التشبه بالكفار ولقد منع أيضاً من التشبه بالأمم التي اتخذت القبور مساجد، وعبدت الأولياء من دون الله جل في علاه، وهم اليهود والنصارى، ولذلك كثيراً ما كان يخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال قائلهم: ما بال هذا الرجل لا يرانا على شيء إلا خالفنا فيه. وقد كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم واضحة جداً في أنه كان يتعمد ويقصد مخالفة اليهود والنصارى، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (أسبغوا، فإن اليهود لا تسبغ) ويقول: (أسبغوا وخالفوا اليهود والنصارى). ويقول: (أوفوا اللحى، أو وفروا اللحى، وحفوا الشارب، وخالفوا اليهود والنصارى). وكان أيضاً يقول: (تسرولوا واتزروا، فإن اليهود تتزر ولا تتسرول). وهذا كله مخالفة لليهود والنصارى، وقال منكراً على الأمم المتأخرة التي تتشبه باليهود والنصارى، وتحذوا حذوهم: (والذي نفسي بيده لتتبعن سنن الذين من قبلكم حذو القذة بالقذة)، وفي رواية قال: (شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضباً لدخلتموه). وهذا إنكار منه عليهم هذا السير على نهج السابقين. وأيضاً لما مر النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين على أقوام ينيطون أسيافهم على أشجار، -أي: يعلقونها بها ويتبركون بذلك- فقالوا: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قاطعاً لدابر التشبه بهؤلاء: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم مثل ما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة). وذلك حسماً لهذه المادة، ومنعاً للتشبه بهؤلاء، الذين كان فيهم أول الكفر والشرك أنهم عظموا أولياءهم وصالحيهم، وبنو على قبورهم المساجد، وجعلوا عليها السرج، وجعلوا الورود والزهور على هذه القبور، فعبدوهم من دون الله جل وعلا بعدما انطمس العلم.

براعة الاستهلال عند المؤلف

براعة الاستهلال عند المؤلف وقد جاء المصنف ببراعة الاستهلال في الترتيب، فحسم المادة أولاً، وبين حكمها، ثم بين سد ذرائعها؛ لأن المرء إذا عظم القبر فإنه يعظم من في القبر، وإذا عظم من في القبر ارتقى به تعظيمه إلى أن يتجاوز به فوق منزلته البشرية، إلى أن يجعله في منزلة الخالق سبحانه جل في علاه. ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ القبور مساجد، فقال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا على قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن هذا). ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة في المسجد الذي فيه قبر.

حكم زيارة القبور

حكم زيارة القبور والكلام على هذه المسألة بإيجاز من وجهين: الوجه الأول: الزيارة، وكان الأصل في الزيارة الحرمة، ثم نسخ هذا الحكم، وأصبح الأصل في الزيارة الحل والإباحة، بل الاستحباب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فزوروها، فإنها تذكركم بالموت).

أنواع زيارة القبور

أنواع زيارة القبور والزيارة ثلاثة أنواع: زيارة مستحبة، وزيارة بدعية، وزيارة شركية.

الزيارة المستحبة

الزيارة المستحبة فأما الزيارة المستحبة: فهي الزيارة المطلقة التي تذكرنا بالموت، وهي التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا فزورها، فإنها تذكر الموت). ففيها تدمع العين، ويرق القلب، ويتذكر الإنسان الآخرة، ويعلم أنه سينزل في هذا المحل، وأنه سيسأل عند ربه جل في علاه، فيجتهد في عبادة الله.

الزيارة البدعية

الزيارة البدعية وأما الزيارة البدعية فهي: التعبد لله إخلاصاً عند قبور الأولياء. أي: أن يزور القبر للدعاء أو للصلاة أو للصدقة هناك، فهذه الزيارة بدعية، وتعتبر وسيلة للشرك، أما كونها بدعية: فلأن العبادات توقيفية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). وأما كونها شركاً أصغر فلأنها وسيلة للشرك الأكبر، ونوع من المحادة لله ولرسوله.

الزيارة الشركية

الزيارة الشركية وأما الزيارة الشركية: فهي: زيارة القبور من أجل الاستغاثة بأصحابها ودعائهم، وذلك كما يحدث في زيارة البدوي الآن، فإنهم يحجون للبدوي، ويزورون قبره للطواف حوله، وسؤاله تفريج الحاجات والكربات، وإنزال الحاجات، وإغاثه المستغيثين. وأيضاً من الزيارة الشركية: زيارة الأولياء للذبح لهم، وهي من الشرك الأكبر. فلما منع النبي صلى الله عليه وسلم البناء على القبور، أو بناء المساجد على القبور، منع أيضاً الوسيلة إلى هذا، فمنع الزيارة للقبور، ومنع الزيارة للمساجد التي فيها قبور، وذلك إن كانت من هذه الأنواع.

حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور

حكم الصلاة في المساجد التي فيها قبور المساجد التي فيها قبور لها حالتان: الحالة الأولى: أن يكون القبر خلف القبلة، أي: في خلف المسجد. الحالة الثانية: أن يكون القبر أمام القبلة.

حكم الصلاة في المسجد الذي في مؤخرته قبر

حكم الصلاة في المسجد الذي في مؤخرته قبر الحالة الأولى: وهي: التي يكون فيها القبر خلف المصلين، حتى لو كان هناك جدار حاجز له، فاختلف العلماء فيها اختلافاً ضعيفاً. والصحيح الراجح في ذلك: أنه لا يجوز الصلاة في هذا المسجد؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ألا إني أنهاكم عن ذلك). ولو كان هناك تفصيل لفصله النبي صلى الله عليه وسلم، وترك التفصيل في مقام يحتاج إليه الناس دلالة على أن العموم هو المراد.

حكم الصلاة في المسجد الذي في قبلته قبر

حكم الصلاة في المسجد الذي في قبلته قبر الحالة الثانية: وهي: أن يكون القبر أمام القبلة. فبالإجماع لا يجوز الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تتخذ القبر سترة، ونهى عن اتخاذ القبور في المساجد، ونهى عن الصلاة إليها، فإن كان القبر أمام القبلة فهو يصلي إليه، فيحرم بالإجماع، ولا يجوز الصلاة في المسجد الذي فيه قبر في قبلته، ولا يجوز دخول هذا المسجد إلا لحاجة أو ضرورة.

حكم إدخال القبور في المساجد

حكم إدخال القبور في المساجد فإن قال قائل: فماذا نفعل؟ أنهجر هذا المسجد وهو بيت الله؟ ونمنع الناس من الصلاة فيه؟ أم كيف نستفيد منه؟ فنقول: إن الاستفادة من هذا المسجد تتفرع عن أصل، وهو: معرفة الذي بني أولاً، المسجد أو القبر؟ فإن كان المسجد بني أولاً، ثم أدخل فيه القبر كما يحدث الآن في كثير من الأمصار، من أن باني المسجد إذا كان رجلاً طيباً صالحاً تقياً خيراً متصدقاً، فإن مات فإنه يدفن في المسجد الذي بناه. فالصحيح الراجح في هذه الحالة: أن ينبش القبر ويهدم وجوباً. ولكن بشرط إذن ولي الأمر، فإن لم يفعل بعد ما علم فحسابه على الله، وتبرأ ساحتنا بالتبيين فقط. إذاً: إذا ادخل القبر إلى المسجد وجب هدمه، ونبش القبر، وإخراج العظام، ووضعها في مقابر المسلمين، وتصح بعد ذلك الصلاة في هذا المسجد؛ لأن الأصل صحة الصلاة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا).

حكم بناء المساجد على القبور

حكم بناء المساجد على القبور وإن بني المسجد على القبر، فيجب هدم المسجد، وإتلاف ماله، وإبقاء القبر. ومن الأدلة على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة واشترى أرضاً؛ ليبني عليها المسجد، فلما علم أن فيها قبوراً نبشها، ثم بنى المسجد؛ لأنه لو بناه على القبور لكان يجب عليه أن يهدم المسجد. وأيضاً من الأدلة على هدم المسجد إذا بني على القبر: أن بناء المسجد على القبر ليس من عمل المسلمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)، أي: فهو باطل. فلا بد أن يهدم لأنه ليس من عمل المسلمين بحال من الأحوال. والدليل على أنه ليس من عمل المسلمين قوله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم وصالحيهم مساجد، ألا إني أنهاكم). وأما الدليل العملي على ذلك: فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما دخل المدينة فوجد قبوراً، فنبشها أولاً؛ حتى يبني المسجد. فإذاً: إذا بني المسجد أولاً نبش القبر، وإذا بني المسجد على القبر هدم المسجد، وإن كان فيه إتلاف مال المسجد، ولا نقول: إنه تعارضت مفسدتان، نرتكب الصغرى من أجل دفع الكبرى؛ لأن الهدم ليس فيه إلا إتلاف المال، وأما البناء فيكون فيه ضياع الدين، وفيه وسيلة للشرك بالله جل وعلا، وعبادة غير الله جل في علاه، وتعظيم غير الله جل في علاه، وتعظيم الأولياء، ودعائهم وعبادتهم من دون الله جل في علاه، وحفظ الدين مقدم على حفظ المال.

§1/1