شرح الحموية - يوسف الغفيص

يوسف الغفيص

شرح الحموية [1]

شرح الحموية [1] الرسالة الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من الرسائل المهمة في باب الاعتقاد، وهي رسالة مشهورة عند أهل العلم، قد كتبها جواباً لمن سأله من أهل حماة عن صفات الله تعالى، وقد تكلم فيها عن باب الصفات وذكر معتقد أهل السنة والجماعة فيه، ونقل أقوالاً كثيرة عن السلف والأئمة في ذلك، ورد على المخالفين في هذا الباب من متأخري الأشاعرة، ثم ختم الرسالة ببيان أصناف أهل القبلة في باب الصفات.

مقدمة شرح الحموية

مقدمة شرح الحموية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه الرسالة -الرسالة الحموية لـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- من الرسائل المشهورة عند طلبة العلم، وقد تكلم فيها المصنف رحمه الله عن القول في باب الأسماء والصفات، وإن كان قد أشار إلى مسائل أخرى كثيرة في هذه الرسالة، وضمنها بعض الإشارات إلى مسائل تعد من معاقد النزاع بين أهل القبلة؛ ولهذا أحببت أن أقدم ببعض المسائل كمقدمة بين يدي شرح هذه الرسالة؛ لأهميتها ولبيان غرض المصنف فيها؛ فإن هذا مما ينبغي أن يتفطن له، ولا سيما إذا كان النظر في كتب المتقدمين من الأئمة المصنفة في مسائل أصول الدين كالسنة لـ عبد الله بن أحمد وأبي بكر الخلال، وشرح أصول أهل السنة للالكائي، والشريعة للآجري، وقبل ذلك خلق أفعال العباد للبخاري إلى غير ذلك من الكتب المصنفة على طريقة الإسناد والرواية. وكذا ما ذكره الأئمة رحمهم الله في مصنفاتهم التي صنفوها في أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالصحيحين والسنن وغيرها، فإننا نجد أن البخاري رحمه الله قد وضع في أوائل كتابه الصحيح كتاب الإيمان وأشار فيه إلى مسائل كثيرة تتعلق بمسألة مسمى الإيمان وما يلتحق به من القول في الأسماء والأحكام، والرد على المرجئة ومن قابلهم ممن خالف مذهب السلف من الخوارج والمعتزلة. وهذه الإشارة يقصد بها: ضبط أغراض المصنفين في هذا الباب.

مسألة تقسيم الدين إلى أصول وفروع

مسألة تقسيم الدين إلى أصول وفروع القول في باب الأسماء والصفات من القول في مسائل أصول الدين، أي: أن القول في أوصاف الرب سبحانه وتعالى وأسمائه هو من القول في باب أصول الدين. ويشار هنا إلى مسألة، وهي: أن المصنف رحمه الله قد ذكر في غير محل من كتبه أن تقسيم الدين إلى أصول وفروع على ما حده كثير من المتكلمين وأهل الأصول والفقهاء إنما هو بدعة لم يتكلم بها السلف، وهذا المعنى الذي ذكره المصنف في بعض الموارد من كتبه لا يشكل مع ما يوجد كثيراً في كلام شيخ الإسلام من تعيينه لبعض المسائل والأبواب بأنها من مسائل أصول الدين؛ وذلك لأن جميع المسلمين -بما في ذلك السلف رحمهم الله- قد أجمعوا على أن في دين الإسلام ما هو من أصول الدين، وما هو دونها؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم -كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما-: (بني الإسلام على خمس) وفي حديث أبي هريرة وعمر بن الخطاب لما جاء جبريل يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الإيمان والإسلام أجابه بخمس في الإسلام وبست في الإيمان، مع أن الإيمان لا يختص بهذا التعيين، وإن كانت سائر المسائل والشرائع تعود إلى هذا التعيين إما بطريق التضمن أو بطريق اللزوم، وكذلك ما قيل في الإسلام. إذاً: تعيين مسائل بأنها من مسائل أصول الدين هذا لا إشكال فيه ألبتة، وليس هو من محال النزاع لا بين السلف ولا غيرهم، وإنما الذي عني شيخ الإسلام رحمه الله برده هو ما استعمله كثير من المتكلمين ومن قلدهم في هذا من أهل الأصول من جهة اعتبار الحد فيه، فإن المتكلمين ومن وافقهم إذا ذكروا التقسيم إلى أصول وفروع اعتبروا الأصول باعتبارات، وقد يختلف حدهم في هذا، فمنهم من يقول: إن أصول الدين هي المسائل المعلومة بالعقل والسمع، والفروع هي المسائل المعلومة بالسمع وحده -أي: بالدلائل السمعية القرآنية والنبوية-. ولا شك أن هذا الحد حد فاسد؛ لأن ثمة مسائل بإجماع السلف أنها من مسائل أصول الدين، ومع ذلك هي ليست مما يقال فيه بالدليل العقلي، وإن كان الدليل العقلي لا يدل على مخالفة شيء جاءت به الشريعة سواء كان ذلك في العلميات أو في العمليات. فمن أمثلة المسائل العلمية التي لم يدل عليها العقل: القول في كتابة الرب سبحانه وتعالى لأفعال العباد، فإن من أخص أصول القدر عند أهل السنة والجماعة أن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم، وهذه الكتابة ليست هي أصل العلم؛ فإن الله علم ما كان وما سيكون، وقد كان السلف رحمهم الله يرون أن من غلط في هذا الأصل -أعني: أصل العلم- يكون كافراً كما نص على ذلك الإمام مالك وعبد الرحمن بن مهدي والشافعي وأحمد وغيرهم؛ لأنه أصل يعلم بالضرورة الشرعية والعقلية والفطرية. وأما أصل الكتابة فهذا ليس لازماً للعلم، ولكن لما جاء في خبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن الله كتب وجب الإيمان بما أخبر به. فهذا الأصل لا يدل عليه العقل ابتداءً قبل ورود الشرع؛ مما يدل على أن قول طائفة من المتكلمين بأن أصول الدين: هي ما دل عليه السمع والعقل، والفروع ما دل عليه السمع وحده غلط من هذا الوجه وغيره. ومن المتكلمين -ومن يوافقهم من الفقهاء والأصوليين- من قال بأن أصول الدين: هي المسائل العلمية، وأن الفروع: هي المسائل العملية. وهذا الحد قد اشتهر عند كثير من أصحاب الأئمة الأربعة. وهذا الحد وإن كان اشتغال الفقهاء به أكثر من الحد السابق إلا أنه ليس صواباً؛ فإن ثمة مسائل هي مسائل علمية أي: محلها العلم القلبي وليست من مسائل أعمال الجوارح والأعمال الظاهرة، ومع ذلك لا يقال بأنها من أصول الدين. قال شيخ الإسلام رحمه الله: وذلك كالقول في رؤية الكفار لربهم في عرصات القيامة؛ فإن هذه مسألة علمية، ومع ذلك لم يُحفظ عن الصحابة فيها قول، وظواهر النصوص فيها بعض التردد أي: من جهة نظر المجتهد فيها؛ ولهذا اختلف أهل السنة في رؤية الكفار لربهم في عرصات القيامة على ثلاثة أقوال، وربما ذكر بعض المتأخرين قولاً رابعاً. وهذا بخلاف مسألة رؤية المؤمنين لربهم في عرصات القيامة وفي الجنة؛ فهي وإن كانت رؤية كما أن مسألة الكفار رؤية إلا أن القول في رؤية المؤمنين يعد من القول في أصول الدين؛ لأن الدلائل الشرعية من الكتاب والسنة متواترة في أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات القيامة وفي الجنة، وقد جاء في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متواترة بلغ رواتها من الصحابة نحواً من ثمانية وعشرين صحابياً. ومما يبين أن المخالفين للسلف من أئمة الكلام وغيرهم هم من أجهل الناس بالسنن والآثار، كلام بعض أئمة الاعتزال، حيث نرى القاضي عبد الجبار بن أحمد، وهو عمدة المتأخرين من المعتزلة، لما تكلم عن مسألة الرؤية قال: وأما الأحاديث المروية في السنة فهي آحاد، فإنه لم يروها عن النبي إلا جرير بن عبد الله البجلي. وهذا جهل علمي محض، فإن هذه الأحاديث قد رواها -كما تقدم- ما يقارب الثلاثين من الصحابة، فكيف يقع له -وهو عمدة من كبار أئمتهم- أن يقول: إنه لم ترد إلا من طريق جرير بن عبد الله؟! ثم طعن في الطريق الذي رواه جرير بن عبد الله مع أنه في البخاري، فهو يبطلها من أوجه يعلم بالضرورة أنها من محال الغلط. وكذلك ثمة مسائل علمية هي من الأصول: فإن الصلاة من المسائل العملية، ومع ذلك قد أجمع المسلمون على أن الصلاة ركن من أركان الإسلام، فكيف يقال: إن الفروع هي المسائل العملية؟ إذاً: هذه الحدود التي يستعملها من يستعملها من المتكلمين ومن يوافقهم للتفريق بين أصول الدين وفروعه، هي ما أراد شيخ الإسلام رده وإبطاله. أما القول في مسائل الصفات، ومسائل القدر، ومسائل الإيمان، ومسائل الصلاة -أي: من جهة وجوبها وركنيتها- وأمثال ذلك فإن هذا لا شك أنه من القول في أصول الدين، وهذا ليس محل نزاع بين السلف، بل ولا محل نزاع بين سائر طوائف المسلمين. هذه هي المسألة الأولى التي قصد التنبيه إليها؛ لأنه يقع في كلام شيخ الإسلام رحمه الله ما هو تارةً من الذم لهذا التقسيم، فينبغي أن يفهم على وجهه.

الاختلاف في الفروع يسع فيه الاجتهاد

الاختلاف في الفروع يسع فيه الاجتهاد أن النزاع فيما هو دون الأصول هو من جنس النزاع بين الأئمة، وقد تنازع أئمة الصحابة رضي الله عنهم في مسائل كثيرة من مسائل الفقه وغيره، وهذه المسائل هي مما يقال فيه بالاجتهاد، بمعنى أنه يسع فيها الاجتهاد، وإن كان في كثير من هذه المسائل المتنازع فيها نصوص حاسمة، لكن يبقى أنه يقع في تعيين هذه النصوص والتحقق من دلالتها نزاع، كاختلاف الصحابة رضي الله عنهم في كثير من المسائل، ثم من بعدهم اختلاف التابعين، واختلاف الأئمة كالأئمة الأربعة وغيرهم. وهذا الاختلاف ليس فيه إشكال؛ لأنه من باب الاجتهاد؛ ولهذا الواجب فيه على طالب العلم: أن يجتهد في اتباع ما يراه مقارباً للدليل من الكتاب والسنة، ولا يلزمه في ذلك أن يلتزم مذهباً واحداً أو قولاً واحداً، وإن كانت هذه المسألة -أيضاً- لابد فيها من اعتدال، فإن من التزم مذهباً واحداً لكونه ليس من أهل النظر والترجيح فقد جرى على عمل كثير من المسلمين، وإن كان ليس هو الفاضل في هذا المقام، لكن لا ينبغي أن يبالغ في إنكاره إذا كان الذي يسلكه من أهل مصر قد أقاموا عليه، وقد سلموا من البدع، وإنما قلدوا إماماً معتبراً كـ أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد أو أمثال هؤلاء.

الاختلاف في الأصول لا يسع فيه الاجتهاد

الاختلاف في الأصول لا يسع فيه الاجتهاد القول في مسائل أصول الديانة فهذا باب لا يسع فيه التوسع -بمعنى: التوسع في قبول الأقوال- فإنه لا يصح في هذا الباب سواء كان القول في مسائل الصفات، أو كان القول في مسائل القدر، أو في مسائل الإيمان والأسماء والأحكام التي يلتحق بها القول في التكفير وأمثال ذلك، فهذه المسائل -مسائل أصول الديانة- لا يسع فيها التخير بين الأقوال ولا يسع فيها الاجتهاد، بل يجب التزام ما دل عليه الكتاب والسنة وأجمع عليه سلف هذه الأمة. فقد كان الصحابة رضي الله عنهم متفقين على جميع مسائل أصول الدين؛ ولم يقع بينهم في ذلك نزاع ألبتة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد بينها وأحكمها إحكاماً تاماً.

ظهور الخوارج

ظهور الخوارج لما كان في آخر عصر الخلفاء الأربعة الراشدين ظهرت الخوارج، ونازعوا في مسألة الإيمان؛ لذا كان القول في مسمى الإيمان وما يلتحق به من القول في الأسماء والأحكام هو أول نزاع حصل بين المسلمين في مسائل أصول الدين. وقد نبغ مقدم هؤلاء الخوارج في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تواتر ذلك في الصحيحين وغيرهما، فقد رواه الإمام مسلم من عشرة أوجه، روى البخاري طائفة منها، وهي مخرجة في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها، وقد ورد من رواية أبي سعيد الخدري وعلي بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي أمامة الباهلي، وغير هؤلاء، وقد تلقاه أئمة الحديث بالقبول. وفيه قصة بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن بذهب في أديم مقروض لم يحصل من ترابه، فقسمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين أربعة نفر وفي آخر الرواية: أنه قام رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناشز الجبهة، كث اللحية، محلوق الرأس، مشمر الإزار فقال: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل -وفي رواية: إن هذا قسمة لم يرد بها وجه الله- فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله، فقام خالد بن الوليد -وفي رواية البخاري: قام عمر بن الخطاب - وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: (لعله أن يكون يصلي. قال: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قال: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم ثم نظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقف فقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وقراءتكم مع قراءتهم، وصيامكم مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي رواية: (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود) وفي رواية: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية قد سبق الفرث والدم) وفي رواية: (فاقتلوهم؛ فإن في قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة) وفي رواية: (لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضي لهم على لسان نبيهم صلى الله عليه وسلم لاتَّكَلوا عن العمل). وقد ظهر هؤلاء في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقاتلهم الصحابة رضي الله عنهم في معركة نهاوند بإمارة علي.

أنواع القتال الذي وقع في زمن الصحابة

أنواع القتال الذي وقع في زمن الصحابة يمكن تقسيم القتال الذي وقع في زمن الصحابة إلى ثلاثة أنواع:

قتال الصحابة للمرتدين

قتال الصحابة للمرتدين الأول: القتال الذي وقع في زمن أبي بكر، حيث ارتد أقوام عن أصل الإسلام، وجحد آخرون وجوب الزكاة، وهذان الصنفان لا نزاع بين أهل العلم ألبتة في كونهما من أهل الردة، وإنما وقع الخلاف في الصنف الثالث، وهم الذين منعوا دفع الزكاة ولم يجحدوا وجوبها. فهذا الصنف قد ثبت بالسنة أن أبا بكر رضي الله عنه قد قاتلهم، فهل كانوا مرتدين أم كانوا من أهل البغي؟ اختلف في هذا المتأخرون من أصحاب الأئمة الأربعة، وجمهور الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وطائفة من الحنابلة -كما يذكره الخطابي والنووي وغيرهم- أنهم من أهل البغي وليسوا من أهل الردة. لكن الذي عليه جمهور السلف كأئمة المدينة النبوية مالك وغيره، وكالإمام أحمد رحمه الله، وجمهور العراقيين، والشاميين من الأئمة الكبار أن هؤلاء مرتدون عن أصل الإسلام، ووجه الردة التي لحقتهم: من جهة أنهم منعوا الزكاة وقاتلوا عليها. إذاً: مذهب الجمهور من السلف: أن من قاتل على منع الزكاة فإنه يكون كافراً، وهذا بخلاف من ترك الزكاة ولم يقاتل عليها؛ فقد كان الإمام مالك بل والإمام أحمد في الراجح من مذهبه يرون أن تارك الزكاة ليس كافراً؛ ولكنه لم تختلف الرواية عن مالك، وكذلك هو الصواب في مذهب أحمد، وهو الذي رجحه كثير من محققي الحنابلة: أنه إن قاتل على ترك الزكاة فإنه يكون كافراً عملاً بسنة الصحابة. وقد حكى أبو عبيد -وهو من الأئمة الكبار- أن مذهب الصحابة قاطبةً أن هؤلاء مرتدون، وكذلك شيخ الإسلام رحمه الله يميل إلى أن هذا القول يقارب أن يكون إجماعاً، وإن كان لا يجزم به على التمام. إذاً: في مسألة ترك المباني الأربعة نزاع بين الأئمة، من جهة كونه كفراً أو لا، لكن الجماهير من السلف على أن ترك الصلاة كفر، وإن كان في هذا نزاع يذكر عن مالك والشافعي وأبي ثور ومحمد بن شهاب الزهري ومكحول الشامي، لكن حكى إسحاق بن إبراهيم الحنظلي -المشهور بـ ابن راهويه - وأيوب السختياني الإجماع على أن ترك الصلاة كفر، وهو ظاهر كلام عبد الله بن شقيق الذي رواه الترمذي وغيره. أما الزكاة ففي كفر تاركها نزاع إذا لم يقاتل عليها، أما إن قاتل عليها فلم يحفظ عن إمام من أئمة السلف التصريح بأنه لا يكون كافراً. وأما القول في الصوم والحج فهو محل نزاع، وفيه روايتان عن الإمام أحمد رحمه الله.

قتال الصحابة للخوارج

قتال الصحابة للخوارج الثاني: قتال الصحابة للخوارج، وهذا القتال يختلف عن القتال الذي وقع في زمن أبي بكر، حيث إن قتال الخوارج درجة بين قتال المرتدين الذين قاتلهم الصحابة في زمن أبي بكر رضي الله عنه وبين النوع الثالث من القتال، وهو الذي وقع بين الصحابة أنفسهم في صفين والجمل.

القتال بين الصحابة أنفسهم

القتال بين الصحابة أنفسهم القتال في صفين والجمل لم يكن من باب قتال البغي المتعين، وإن كان الذين لم يتبعوا علياً رضي الله عنه ويسلموا له قد وصف النبي صلى الله عليه وسلم طائفتهم في الجملة بأنها باغية كما ثبت في الصحيح: (تقتل عماراً الفئة الباغية) ولكن مع ذلك معها شيء من الحق، فقد ثبت في الصحيح: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلهم أَولى الطائفتين بالحق). فهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم مجتهدون، والمخطئ منهم له أجر، والمصيب له أجران كما في الصحيحين عن عمرو بن العاص مرفوعاً: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) لذلك كان مذهب السلف رحمهم الله في القتال الذي جرى بين الصحابة، أنه يكف عن ذلك، وأنهم مجتهدون في هذا، فمن أصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في القتال في صفين على ثلاث طوائف: 1 - طائفة مع علي. 2 - طائفة مع معاوية. 3 - طائفة اعتزلوا القتال كـ محمد بن مسلمة وأبي بكرة وسعد بن أبي وقاص، وقد كان أفضل الناس إذ ذاك بعد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل إنه بالغ في الاعتزال حتى خرج إلى إبله وترك المدينة. وظاهر مذهب أحمد تصويب الموقف الذي اتخذه سعد رضي الله عنه وأمثاله، قالوا: لأن علياً مال إليه في آخر الأمر. لكن تبقى المسألة مسألة نزاع بين السلف: هل كان الصواب ترك القتال أم كان الصواب مع علي في قتاله؟ وهذا بخلاف مسألة أن علياً أولى بالحق، فإن فيها إجماعاً للسلف، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله: من لم يربع بـ علي في الخلافة فهو أضل من حمار أهله. لكن مسألة السيف هذه مسألة مختصة في هذا الباب؛ ولهذا كان أحمد يرى بل يحكي الإجماع على أن علياً أولى بالحق، وأن من لم يربع بخلافته فهو أضل من حمار أهله لما ثبت في السنة -في المسند وغيره- من حديث سفينة وغيره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الخلافة بعدي ثلاثون) فخلافة علي خلافة راشدة بإجماع السلف، وإن كان معاوية قد اجتهد فأخطأ، ولكن مسألة السيف فيها تردد بين الأئمة: هل الصواب تركه أم الوقوف مع علي، ولم يرجح سيف معاوية أحد من الأئمة المتقدمين، وإن كان هذا مسلك طائفة من الفقهاء المتأخرين. فهذا القتال طرف، والقتال الذي وقع في زمن أبي بكر طرف آخر، وقتال الخوارج وسط بين هذين القتالين، فإنهم ليسوا كالصحابة في صفين والجمل -هذا بالإجماع عند السلف- وليسوا كذلك كالمرتدين، فإن الراجح في الخوارج أنهم ليسوا كفاراً وإن كانوا بغاةً بغياً شديداً، لكن الصحابة رضي الله عنهم الذين قاتلوهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتبروهم كفاراً، حيث لم يأخذوا فيهم سنة الكفار في القتال كالإجهاز على الجريح، واتباع المدبر، واستباحة النساء والذراري والغنائم وأمثال ذلك، وقد حكى شيخ الإسلام أن مذهب الصحابة رضي الله عنهم أن الخوارج ليسوا كفاراً وإن كانوا بغاةً بغياً شديداً، وإنما موجب القتال الذي شرع فيهم دفعاً لصولهم عن المسلمين لا من باب أنهم كفار. وهذه المسألة لا بد من ضبطها؛ فإن الشريعة قد تأمر بقتل من ليس كافراً أو بقتاله، وقد تمنع قتل من هو كافر أو تمنع قتاله. فإن اليهود والنصارى إذا دفعوا الجزية لا يجوز قتالهم ونقض العهد معهم بالإجماع، وقد اختلف الفقهاء رحمهم الله في أخذ الجزية من غير اليهود والنصارى، وكذلك المُعاهَد لا يجوز الاعتداء عليه ولو لم يكن من أهل الجزية ما دام أنه في مدة العهد الذي فرضها المسلمون له. وبالمقابل فإن القاتل عمداً يُقتل مع أنه مسلم، والزاني المحصن يرجم مع أنه مسلم، والمحارِب إذا ثبت فيه حكم الحرابة فإنه يقتل على الصفة التي ذكرت في سورة المائدة، مع أنه بالمحاربة لا يخرج من الملة. وكذلك إذا اجتمعت طائفة على بغي شديد ولم يندفع صولها وشرها عن المسلمين إلا بالمقاتلة فإنها تقاتل، وإن كان حكمها أنها مسلمة. إذاً: اختلف الصحابة في حكم القتال الذي وقع بينهم، لكنهم لم يختلفوا في قتال الخوارج؛ حيث إن قتال الخوارج مشروع بالنص والإجماع، أما النص فهو النص النبوي، وإما الإجماع فهو إجماع الصحابة على قتالهم. أما القتال الذي بين الصحابة فهو ليس مشروعاً لا بالنص الصريح ولا بالإجماع، أما الإجماع فالصحابة لم يجمعوا، وأما النص فإن النص المستدل به في هذا هو محل نزاع بين الأئمة، وقد كان شيخ الإسلام رحمه الله يميل إلى أن الكتاب والسنة ليس فيهما دليل على هذا القتال الذي وقع بين الصحابة، ويقول: إن هذا مذهب أحمد والجمهور من السلف.

ظهور القدرية

ظهور القدرية في آخر عصر الصحابة بعد عصر الخلفاء الراشدين ظهرت بدعة أخرى في أصول الدين، وهي: بدعة القدرية الذين قالوا: لا قدر، إنما الأمر أُنُف. وقد أدركت بدعتهم طائفة من الصحابة كـ ابن عمر وواثلة وجابر بن عبد الله وابن عباس فتبرأوا منهم. والقدرية صنفان: الصنف الأول: منكرة لعلم الرب، ومن باب أولى ينكرون ما بعده، فهؤلاء كفار عند السلف. الصنف الثاني: وهم جمهورهم، وقد تقلد قولهم المعتزلة، بل ودخل على طائفة من رجال الإسناد، وهم القائلون بأن الله لم يخلق أفعال العباد. إذاً: القول بإنكار علم الرب بأفعال العباد هو قول غلاتهم، وقد انتهى أمره في الجملة، ولا إشكال في كفرهم لتظافر الدلائل الشرعية القاطعة بكفر من قال ذلك؛ لأنه وصف لله بالجهل. ولكن الجمهور من القدرية أقروا بأن الله علم ما كان وما سيكون، ومن ذلك أفعال العباد، ولكنهم قالوا: إن الله لم يخلقها ولم يردها ولم يشأها. وهذا المذهب هو الذي شاع في جمهور القدرية، وقد تقلدته المعتزلة بأسرها، وقد دخل جمهور هذا المذهب في آخر المائة الثالثة على طوائف الشيعة من الإمامية والزيدية وغيرها، وكذلك دخل على بعض رجال الحديث؛ حتى قال الإمام أحمد: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركناها عن أكثر أهل البصرة. لكن ينبه هنا إلى مسألة لطيفة، وهي: أن القول بالقدر الذي كان يقول به بعض رجال الإسناد لم يعتبروه على طريقة المتكلمين من المعتزلة، أي: أن تقرير المعتزلة أصحاب العلم الكلامي لهذه المسألة يختلف عن القول الذي شاع عند بعض رجال الحديث في البصرة وفي الشام، ولهذا كان قول هؤلاء أخف من قول المعتزلة، مع أن النتيجة تكاد تكون متقاربة؛ فقد أثبتت المعتزلة قولها في هذا الباب على الأصول الكلامية، لذلك رتبت مسائل كثيرة بعد مسألة أفعال العباد كالقول في الهدى والإضلال، والقول في مسائل التكليف ومسائل الظلم والأصلح، والقول في التحسين والتقبيح العقلي إلى غير ذلك من المسائل التي رتبها المعتزلة ترتيباً كلامياً، ولم يكن رجال الحديث الذين وقعوا في بدعة القدر يتكلمون في هذا على هذا التنظيم والترتيب الذي ذكره المعتزلة. وقد قال المعتزلة في مرتكب الكبيرة قولاً مقارباً لقول الخوارج، لكنهم لم يحكموا عليه بالكفر في الدنيا، وإنما قالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، وهي: منزلة الفسق المطلق، أي: ليس معه من الإيمان شيء وليس كافراً.

ظهور المرجئة

ظهور المرجئة قابل قول الخوارج والمعتزلة أقوال المرجئة، أي: أن أقوال الوعيدية كما يسميها السلف -وهم: الخوارج والمعتزلة- قابلها في باب الأسماء والأحكام ومسمى الإيمان أقوال المرجئة. والمرجئة طوائف، حتى ذكر الأشعري في مقالاته أنهم ثنتا عشرة طائفة، وإن كانوا قد يرتبون على أكثر من هذا. وهؤلاء المرجئة فيهم غلاة كـ الجهم بن صفوان الذي يقول: إن الإيمان المعرفة. وكـ أبي الحسين الصالحي وبشر بن غياث وأمثالهم، وفيهم المتوسطون، وفيهم المقاربون للسلف من الفقهاء، وهم الذي عرفوا بمرجئة الفقهاء، وهؤلاء قوم من فقهاء الكوفة كانوا على مذهب أهل السنة والجماعة في الأصول والتلقي، ولكنهم انحرفوا في مسألة الإيمان. ومما ينبه إليه هنا: أن الناظر في مسائل أصول الدين التي تنازع فيها المسلمون يجد أن مسألة الصفات لم يشتبه القول فيها على أحد من المعروفين بالسنة والجماعة، وكذلك مسألة القدر في الجملة، إلا ما وقع من بعض رجال الحديث، ثم انتهى أمره في الغالب. ولكن المسألة التي حصل فيها اضطراب عند قوم ممن عرفوا بالسنة والجماعة، ثم شاع ذلك في الفقهاء الذين ينتحلون مذهب السلف في أصول الدين، هي: مسألة الأسماء والأحكام ومسمى الإيمان؛ فإن حماد بن أبي سليمان لم يقع له غلط في مسائل الصفات، بل ولا في مسائل القدر، وإنما توهم في مسألة الإيمان، فأخرج العمل عن مسمى الإيمان لظواهر بعض الآيات، كقوله تعالى كثيراً في القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277]. فجعل هذا التفريق دليلاً على أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان؛ فهذا الإشكال وأمثاله أوجب عند كثير من الفقهاء في تقرير مسائل التكفير والردة اضطراباً شديداً. حتى إننا نجد أن من أصحاب المذهب الواحد من الفقهاء من يحكون عن إمامهم القولين المتناقضين، فنجد بعض الحنابلة -مثلاً- يحكى عن أحمد من التكفير ما يحكي بعض الحنابلة عن أحمد نقيضه، فقد قال بعض الحنابلة: إن الإمام أحمد يذهب إلى تكفير أهل البدع. وقالت طائفة من الحنابلة: إن الإمام أحمد لا يرى تكفير أهل البدع، بل يراهم من أهل الفسق. مع أن هذا الإطلاق وهذا الإطلاق لم يتكلم به لا الإمام أحمد ولا غيره من أئمة السلف، بل كانت طريقتهم في هذا طريقة التفصيل، فقد أجمع السلف على كفر طوائف كغلاة الشيعة المؤلهة لـ علي وأمثال ذلك، وغلاة الجهمية المنكرة لأسماء الرب وصفاته، وكغلاة القدرية المنكرة للعلم، وترددوا في طوائف واختلفوا، وأجمعوا على عدم كفر بعض الطوائف، مع أنها تعد عندهم من طوائف أهل البدع. وظهر ما يقابل القول في القدر، وهو القول بالجبر، وقد ظهرت مقالة الجبرية على يد الجهم بن صفوان، فتكلم بأن العباد مجبورون على أفعالهم، فكان هذا نقيضاً لمذهب القدرية، فصارت كل بدعة تظهر يقابلها بدعة أخرى. والمحصل من هذا الخلاف التاريخي: أنه قد انقرض عصر الصحابة وانتهى ولم تظهر بدعة في أسماء الرب وصفاته.

ظهور البدع في مسألة الأسماء والصفات

ظهور البدع في مسألة الأسماء والصفات ظهر في المائة الثانية بعد انتهاء عصر الصحابة الغلط في مسألة الصفات، وقد ظهر هذا لما تكلم الجعد بن درهم في هذا الباب بإنكار صفات الرب سبحانه، ثم ظهر ذلك على يد الجهم بن صفوان، ونسبت المقالة إليه، وشاعت هذه المقالة في المائة الثالثة كثيراً لما عرِّبت الكتب الفلسفية التي كانت هي مادة نفاة الصفات في هذا الباب. وقد ظهر بعد ذلك المتفلسفة كـ يعقوب بن إسحاق الكندي وأبي نصر الفارابي والحسين بن عبد الله بن سينا، ثم ظهرت الفلسفة في بلاد المغرب عند أبي الوليد بن رشد، وأمثال هؤلاء. والذي أحب أن أشير إليه هو أنه إذا وقعت البدعة على درجة من الغلو والانحراف عن مذهب السلف -ولا سيما في مسألة الانتحال والانتساب- فإن هذه وإن كانت أشد من جهة الضلال إلا أنها لا تكون من محال الالتباس، ولهذا لم تلتبس البدع المغلظة على أحد في زمن السلف رحمهم الله، لكن الإشكال وقع بعد عصر الأئمة -بعد القرون الثلاثة الفاضلة- لما جاء قوم انتسبوا للأئمة، وطائفة منهم انتسبوا للسنة والجماعة، وخلطوا قول أهل السنة بقول المتكلمين المتقدمين الذين كانوا على درجة من الغلو في بدعتهم. وهذه المسألة -مسألة الصفات وما يتعلق بها- هي المسألة التي عني المصنف رحمه الله ببسطها هنا، فقد قصد في هذا الكتاب إلى ربط المذهب الذي نشأ عند المتأخرين من المتكلمين بالمذهب الذي كان عليه قدماؤهم، مع أن الناظر في كتب المتأخرين من المتكلمين، ومن تأثر بهم من شراح الحديث -وهم فضلاء من كبار أهل العلم وحفاظ الحديث والفقهاء وأهل الأصول- يجد أنهم يطعنون على المتقدمين من المتكلمين كثيراً، ويثنون على متأخريهم، ويرونهم من أهل السنة والجماعة. وقد كان الناس في زمن الأئمة بعد ظهور هذه البدعة على أحد مذهبين: الأول: مذهب السلف، وهو الذي عليه الجمهور من المسلمين. الثاني: مذهب طائفة انحرفوا ببدعتهم، وهم الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات. وكان هناك مذهب التشبيه عند قدماء الرافضة كـ هشام بن الحكم، وهشام بن سالم وأمثال هؤلاء، ثم انحرفت الشيعة الإمامية بعد ذلك إلى مذهب المعتزلة؛ حتى أصبح الشيعة فيما بعد المائة الثالثة -في الجملة- على طريقة المعتزلة، وإن كان قدماؤهم مشبهة، وهذا يدل على التناقض المحض في هذا المذهب. لكن في آخر عصر الأئمة رحمهم الله ظهر قوم من المتكلمين اشتغلوا بالرد على المعتزلة، وانتسبوا للسنة والجماعة، ولكنهم كانوا من جهة الأصول والتقعيد -في الجملة- يستعملون الأدلة الكلامية الحادثة التي أسسها أئمة الجهمية وأئمة المعتزلة، ومن أخص من تكلم بهذا عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكان هذا في زمن الإمام أحمد، ولما ظهر بطلان قول المعتزلة في مسألة القرآن، وظهر انتصار مذهب أهل السنة في زمن المتوكل، وكثر رد علماء السنة والحديث على المعتزلة القائلين بخلق القرآن كان عبد الله بن سعيد بن كلاب هذا -وهو من علماء الكلام- ممن اشتغل بالرد على المعتزلة، وقد أطلق عبارات فيها اشتباه، فقال: القرآن حكاية عن كلام الله، والله يتكلم ولكن الكلام معنىً واحد يقوم في النفس ليس بحرف وصوت. فصار عنده جملة من قول أهل السنة وهي قوله: إن القرآن ليس مخلوقاً، وأن الله موصوف بالكلام. ولكنه أتى بقول محدث وهو قوله: إن القرآن ليس كلام الله حقيقة ولكنه حكاية، وأنه كلام نفسي ليس بحرف وصوت. فهذا القول أسس بدعة فيما بعد، وهي بدعة نفي الصفات الفعلية، وهذه البدعة صارت مزلة أقدام لكثير من فضلاء أهل العلم. وقد كانت المعتزلة تنفي الصفات اللازمة والفعلية -كالنزول والاستواء- وكان السلف يثبتون الصفات اللازمة والفعلية، فجاء ابن كلاب وأثبت أصول الصفات اللازمة في الجملة ونفى الصفات الفعلية، واستعمل في نفيها دليل الأعراض الذي استعملته المعتزلة، لكنه اختصره بعض الاختصار، حيث قال: إن العرَض ليس هو ما يقابل الجوهر مطلقاً ولكنه ما يعرض ويزول ولا يبقى زمنين؛ فمن هنا تحصل له إثبات أصول الصفات ونفي الصفات الفعلية. ثم انتسب أبو الحسن الأشعري بعد ترك المعتزلة إلى أهل السنة والجماعة، ولكنه نصر طريقة ابن كلاب، ولم يكن يعرف مذهب أهل السنة والحديث بالتفصيل، وإنما كان يعرفه مجملاً، وهذا ليس تقولاً على الأشعري، فإننا نجد هذا ظاهراً في كتابه مقالات الإسلاميين، فإن الناظر في حكايته لمقالات المعتزلة يجد أنه يفصل مقالات المعتزلة على التمام، حتى يذكر قول أبي علي الجبائي وحده، وقول أبي الهذيل العلاف وحده، وقول أبي إسحاق النظام وحده، وكذلك عند ذكره لمقالات المرجئة، والشيعة، لكن عندما أتى لقول أهل السنة والحديث قال: جملة قول أهل السنة والحديث ثم ذكر كلامهم كجمل مجملة، لا تتجاوز قدراً يسيراً مما ذكره عن المعتزلة، ثم ختم قول أهل السنة بقوله: وبكل ما قالوا نقول. فـ الأشعري التزم جمل أهل السنة، ولكنه لم يعرف تفاصيل المذهب؛ ولهذا صار يطلق جملاً عند الكلام عن مذهب أهل السنة، ثم إذا جاء لشرح هذه الجمل في كتبه المفصلة اختلف معهم، فقد التزم قول أهل السنة في كتابه المقالات، وهو أن الإيمان قول وعمل، لكنه في كتابيه الموجز واللمع قال: الإيمان هو التصديق وحده، والعمل ليس من الإيمان. وقال في القدر بنظرية الكسب، والأشاعرة من بعده يقولون: إن الكسب جبر متوسط كما يعبر الشهرستاني، أو إن العبد مجبور في صورة مختار كما يعبر الرازي، فهو نوع من الجبر ولكنه ليس جبراً محضاً .. فهذا اختلاط مذهبي كبير في مذهب أبي الحسن الأشعري. ومثل هذا وقع عند أبي منصور الماتريدي الحنفي، فإن مذهب الماتريدية من جنس مذهب الأشاعرة، وإن كان الأشاعرة خيراً منهم في المذهب، بل -لا شك- أن الإمام الأشعري -وقد كان معاصراً للماتريدي - أقرب إلى السنة والجماعة وأكثر عناية بمذهبهم وأكثر تعظيماً للسنن والآثار، فهو ينتسب لقول السلف بالتصريح، بل قال في مقدمة كتاب الإبانة عن أصول الديانة: فإن قيل: قد أبطلتم قول الخوارج والمعتزلة والروافض فخبرونا قولكم الذي تقولون به، ودينكم الذين تدينون الله به. قال: فنقول ديننا الذي ندين الله به هو ما جاء في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وما درج عليه الصحابة رضي الله عنهم والأئمة، ثم قال: ونحن بكل ما يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل قائلون، ولما يعتقده معتقدون، فإنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل إذاً: كان الأشعري مجتهداً في إصابة مذهب السلف، لكن لأنه مضى عليه ما يقارب الأربعين سنة في الاعتزال لم يدرك مذهب السلف على التفصيل، فهو انتسب إلى أهل السنة لكنه لم يحقق مذهبهم، فقد أتى بمذهب ملفق من مذهب أهل السنة وبعض كلام المعتزلة -الذي خفي عليه الترتيب فيه، وإن لم يخف عليه أصل المذهب- وشيء من مقالات المرجئة، وشيء من مقالات الجهمية بنوع من التخفيف، فليس هو جهمياً محضاً في مسألة واحدة، لكنه قارب الجهمية في بعض المسائل، وبخاصة في مسألة القدر، في نظرية الكسب التي هي نوع من الجبر. وهذا التحقيق ليس بالضرورة أن يقال: إن الذي حققه وقرره هو شيخ الإسلام أو غيره من أهل السنة والجماعة -وإن كان يقرره شيخ الإسلام - لكن أيضاً نقوله لأنه حتى الأشاعرة في كتبهم يقررون هذا، فقد قال أبو جعفر السمناني: إن القول بإيجاب النظر بقية بقيت في مذهبنا من مذهب المعتزلة. وكذلك الرازي، فقد ذكر أن المذهب شارك الجبرية في مسائل كثيرة، وغيرهما من الأشاعرة أيضاً ذكره في كتب الأشاعرة. وكتاب الأشعري الإبانة كتاب فاضل في الجملة، وإن كان لم يفصح فيه بالتفصيل كثيراً، لكن شيخ الإسلام رحمه الله يقول: ومن قال منهم -يعني الأشعرية- بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره، ولم يظهر مقالة تناقض ذلك، فهذا يعد من أهل السنة. لكن صار مجرد الانتساب للأشعري بدعة؛ لأنه عرف بالانحراف عن كثير من أصول السلف وإن كان من جهة الانتماء والانتساب عني كثيراً باتباع مذهب السلف، لكن فرق بين مسألة الانتماء وبين مسألة تحقيق المذهب في نفس الأمر؛ فإن الأشعري من جهة الانتماء انتماؤه سني سلفي بعد الاعتزال، لكن من جهة تحقيق المذهب هو لم يحقق مذهب السلف في كثير من الموارد، بل أصابه في مسائل وأخطأه في مسائل، ولهذا قوله في أكثر أصوله مركب من كلام أهل السنة وكلام غيرهم، أما في الانتساب فهو لا ينتسب بعد الاعتزال إلا للسلف، وهذا شأن ثابت له. أما الماتريدي فهو ليس بدرجته، وإن كان يقارب طريقة المتأخرين من الأشاعرة، كـ أبي المعالي الجويني؛ فإن أبا المعالي الجويني قد نزل بالمذهب الأشعري عن طريقة الأشعري كثيراً، وهذه المسألة من المهم أن ينتبه لها في المذهب الأشعري على وجه الخصوص، وهي أن المذهب كلما تقدم التاريخ كان أفضل، بمعنى أن كلام الأشعري خير من كلام القاضي أبي بكر الباقلاني، وكلام الباقلاني أقرب إلى السنة والجماعة والنصوص من كلام أبي المعالي الجويني وعبد القاهر البغدادي، وكلام الجويني في الجملة أقرب من كلام محمد بن عمر الرازي. والمعتزلة في الغالب على العكس، فإن المتأخرين من المعتزلة في الجملة خير من المتقدمين؛ لأن المتأخرين من المعتزلة عنوا بالانتساب الفقهي لـ أبي حنيفة على وجه الخصوص، ولهذا تأثروا بأصحابهم من أهل السنة من الحنفية. حيث إننا

التفريق بين حكم القول وحكم قائله

التفريق بين حكم القول وحكم قائله لابد للناظر في كلام الطوائف، وما قررته في مسائل أصول الدين، أن ينتبه عند القول في هذه الطوائف للفرق بين القائل ومقالته. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ما من إمام من أئمة المتكلمين إلا وفي كلامه ما هو كفر. وهذا من جهة المقالات، بمعنى أنه قد وقعت مقالات لهؤلاء -وفي الجملة أن الطوائف الكلامية المحضة لم تنفك عن هذه المقالات- هي من جهة الحكم الشرعي كفر، ومع ذلك لا يعني هذا أن القائل بها يلزم أن يكون كافراً، فإن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه استوى على العرش في سبعة مواضع من القرآن، فإذا جاءت طائفة ولم تثبت هذا الاستواء فإن حقيقة هذا -أعني: من جهة الحقيقة في نفس الأمر- نفي للخبر الذي أخبر به في القرآن، فمن هذا الوجه كان هذا النفي كفراً، لكن القائل به إن كان قاله تكذيباً للقرآن وقال: القرآن لا يصدق في هذا. فلا شك أن هذا يكون كافراً بعينه، وهذا لم يقع في أحد من أهل القبلة، لكن من تأول هذا تأولاً فهذا هو الذي يفصل السلف في شأنه، فلا نقول: إن السلف لا يكفرون، ولا نقول: إن السلف يكفرون، وإنما نقول: هذا هو الذي فصل السلف في شأنه. ولهذا مع أن شيخ الإسلام رحمه الله قال المقالة المتقدمة، إلا أنه يقول في موضع آخر: ويعلم أن الواحد من أهل الصلاة والشعائر الظاهرة -أي: من يظهر الصلاة والشعائر الظاهرة- لا يكون كافراً في نفس الأمر -أي: عند الله- إلا إن كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق. وهذا الكلام من المهم أن ينظر فيه، لأنه يتعلق بموضوع مهم في هذا العصر، وهو موضوع التكفير الذي يقع فيه إفراط أو تفريط. ولـ شيخ الإسلام كلام كثير في هذا، منه رسالة لطيفة في المجلد الثالث من الفتاوى شرح فيها حديث الافتراق الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رواية أبي هريرة وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر وغيرهم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة). وهذا الحديث قد تكلم فيه الأئمة، فمنهم من ضعفه، كـ أبي محمد بن حزم، ومنهم من صححه.

حقيقة الخلاف في مسائل أصول الدين بين أهل القبلة

حقيقة الخلاف في مسائل أصول الدين بين أهل القبلة بعض من يتكلم في مسألة الافتراق يفرض أن مسائل أصول الدين ليس فيها اختلاف بين المسلمين، وأن النزاع نزاع اجتهادي كالنزاع الفقهي .. وهذا غلط، فإن مسائل الاجتهاديات والفقهيات -كما تقدم- يقال فيها بالتوسعة، ويسع فيها الاجتهاد، أما مسائل أصول الدين كالصفات والقدر والإيمان وأمثال ذلك فهذه لا يسع فيها الاجتهاد، بل يجب أن يلتزم فيها ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، وإن كنا نقول: أنه يجب التزام ما دل عليه الكتاب والسنة حتى في الفقهيات، لكن من المعلوم أن الفقهيات المختلف فيها ليس فيها إجماع، وقد لا يكون فيها نصوص صريحة حاسمة قاطعة لا تحتمل الاختلاف؛ ولهذا اختلف فيها السلف ولم يختلفوا في الأصول. فمن يحاول التقريب بين مسائل أصول الدين ومسائل الاجتهاد الفقهية ويقول: إن الخلاف هنا كالخلاف هنا، مستدلاً بأن هذا التفريق مبني على حديث ضعيف، وهو حديث: (افترقت اليهود) فإن هذا الكلام في حقيقته ليس بشيء: لا من جهة الواقع التاريخي، ولا من جهة النصوص النبوية؛ لأن الحديث وإن كان ضعيفاً فإن اختلاف أهل القبلة في أصول الدين يعد واقعاً تاريخياً لا يمكن النزاع فيه، ولا يمكن لأحد أن يجادل فيه، فإننا نجد أن المعتزلة متحيزة بنفسها، وأن الخوارج قد سلت السيف على الصحابة، وطوائف الشيعة أيضاً لهم شأن يطول، وكذلك المرجئة، والقدرية إلخ، فهذا شأن يعد واقعاً تاريخياً أقرت به سائر الطوائف، فمحاولة القول بأنه ليس بشيء أو مبالغة أو تكلف ليس من باب المنطق العلمي الصحيح. ثم أيضاً من جهة السنة النبوية؛ فإنه وإن تكلم بعض الحفاظ في ضعف حديث أبي هريرة وأنس وأمثالهم: (افترقت اليهود) ولو فرض أنه ضعيف فإنه قد تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم -وقد جاء هذا في الصحيحين من طرق كثيرة- قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله) وفي رواية: (حتى تقوم الساعة) أعني: حديث الفرقة الناجية المنصورة، فهومما ثبت في السنة ثبوتاً قطعياً متواتراً، وقد أجمع عليه أئمة الحديث، ولم يطعن أحد منهم فيه؛ وهو دليل على أن هناك طائفة مختصة بالحق. ثم يبقى المخالفون لهم: هل عدتهم كما ذكر في حديث الافتراق فيكون عدد الطوائف غير هذه الطائفة ثنتين وسبعين فرقة أم أنهم أقل من ذلك أو أكثر؟ نقول: إذا كان حديث افترقت اليهود ضعيفاً فإن الجزم بهذا العدد يضعف، أما أن هناك طائفة مختصة باتباع الكتاب والسنة وموافقة هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هناك طوائف خالفتهم في أصول الديانة فهذا متحقق بهذه النصوص التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة. ولهذا من فقه السلف أنهم لم يشتغلوا بتعيين الفرق المخالفة الثنتين والسبعين، وإنما اشتغل بتعيينها بعض المتأخرين من الفقهاء، وبعض المتكلمين الذين جعلوا طائفتهم هي الفرقة الناجية المنصورة المصيبة للحق، وجعلوا غيرهم من أهل الاختلاف والضلال. إذاً: لا يجوز التساهل في الاختلاف في أصول الديانة، وهذا لا يعني الاستطالة على أحد من الخلق، فإن الرسل بعثوا بالرحمة والعلم، ولهذا وصف الله نبيه بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فهذا باب لابد فيه من الاعتدال والضبط.

أهم المقاصد التي اشتملت عليها رسالة العقيدة الحموية

أهم المقاصد التي اشتملت عليها رسالة العقيدة الحموية قبل البدء بتوضيح عبارات المصنف والتعليق عليها نبين أهم المقاصد التي اشتملت عليها الرسالة، فنقول:

الرد على متأخري الأشاعرة

الرد على متأخري الأشاعرة قصد المؤلف -في الغالب- الرد على المتأخرين من الأشاعرة، وإن كانت الرسالة تضمنت مقاصد أخرى، لكن المقصود الأخص هو: أن المصنف قصد الرد على ما قرره المتأخرون من الأشعرية، وبخاصة ما جاء في كتب محمد بن عمر الرازي -وهو أوسع الأشعرية المتأخرين تصنيفاً- وأمثاله. وإنما كان الأمر كذلك لأن المصنف لما قرر في رسائل وفي مجالس له كثيرة معتقد السلف كان يقع في كثير من المناظرات، فكان مما عورض به في بعض المناظرات: أن ما قرره هو معتقد الحنبلية، وليس معتقداً لسائر الأئمة الأربعة، فضلاً عن كونه معتقداً لجميع أئمة السنة والحديث؛ وأن هذا المعنى الذي كان يقوله بعض علماء الأشعرية إذ ذاك هو الذي وقع في كتب، حيث إن الرازي لما عرض لمسألة العلو قال: واتفق المسلمون على عدم إثبات الجهة للباري، وأنه منزه عنها إلا الحنبلية والكرامية. إذاً: هذا هو المقصود الغالب للمصنف، لكنه كذلك -في هذه الرسالة- قصد إلى مقدمات أجملها في الآتي:

بيان إسناد مقالة السلف

بيان إسناد مقالة السلف قصد بيان إسناد مذهب السلف، وأنه إسناد متصل بالتصريح إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ذكر تحت هذه المقدمة أوجهاً من النظر اللازم -أي: من النظر اللازم للاعتبار سواء كان نظراً عقلياً أو نظراً شرعياً- ثم لما بين بالضرورة العقلية والشرعية بأوجه ذكرها أن مذهب السلف مذهب يتصل سنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رتب بعد ذلك بيان إسناد مقالة المخالفين في باب الصفات، وذكر أنها مقالة متلقاة من المتفلسفة، سواء من المتفلسفة اليونان أو غيرهم، على ما يأتي تقريره إن شاء الله. ثم بين أن قدماء المنحرفين في باب الأسماء والصفات -وهم أئمة الجهمية والمعتزلة- كان أخذهم عن المتفلسفة ظاهراً، وقد نص عليه بعض الكبار من متأخري المتكلمين، فقد قرر أبو الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال في بعض كتبه: أن دليل المعتزلة الذي اعتبروه في نفي صفات الله متلقى عن الفلاسفة. وكذلك ذكر جماعة من الأشاعرة أن مذهب المعتزلة ينتهي إلى المذهب الفلسفي الذي كان عليه أرسطو وأمثاله.

بيان اتصال مقالات التأويل المتأخرة بمقالات التأويل المتقدمة

بيان اتصال مقالات التأويل المتأخرة بمقالات التأويل المتقدمة لما انتهى المصنف رحمه الله من بيان المقدمة الثانية قصد الوصول إلى مقدمة هي محتدم النزاع مع الأشاعرة، فإن المقدمة الأولى وهي: أن إسناد السلف ينتهي إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام -في الجملة- هي مقدمة مسلمة عند الأشعرية، وكذلك المقدمة الثانية؛ فإن الأشعرية يختلفون كثيراً مع المعتزلة فضلاً عن الجهمية؛ ولهذا نجد أن جمهور الرد المفصل في كتب الأشاعرة يقع على طائفة المعتزلة. لذلك قصد المصنف في المقدمة الثالثة بيان اتصال مذهب المتأخرين من المتكلمين سواء كانوا من الكلابية أو الأشعرية أو الماتريدية أو بعض متأخري المعتزلة المعتبرين في الحنفية كفقهاء، ومن تأثر بهذه المذاهب الكلامية المتأخرة من فقهاء المذاهب الأربعة بلا استثناء حتى الحنابلة؛ فإن طائفةً منهم تأثروا ببعض مقالات الكلابية والأشعرية -بيان الاتصال بين مقالات التأويل المتقدمة التي أجمع السلف، بل وحتى الأشاعرة، على ذم أصحابها، وهي: مقالات المعتزلة الأولى ومقالات الجهمية الأولى، وبين ما استعمله الأشعرية من التأويل؛ وأنه متلقى عن هؤلاء الذين اشتغل الأشعرية موافقةً للسلف في ذمهم، فقال مبيناً ذلك رحمه الله: وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس -مثل أكثر التأويلات التي يذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات ... - هي بعينها التأويلات التي ذكرها بشر المريسي. فهذا المحل من كلام المصنف هو وصل للمذهب المتأخر عند المتكلمين سواء كان أشعرياً أو كلابياً أو ماتريدياً، أو كان ينتسب إلى أحد المدارس الفقهية الأربعة، وحينما نقول: أو كان ينتسب إلى أحد المدارس الفقهية الأربعة فإننا نبين هنا حقائق علمية، وأما هؤلاء الذين غلطوا في هذا الباب من الفقهاء فهؤلاء اجتهدوا، وهذا هو محصل الاجتهاد، ويبقى أن هذا الاجتهاد ما قدره من جهة المخالفة؟ هذه مسألة فيها تفصيل، وإن كنا نعتبر أن هذا الاجتهاد ليست درجته بالقطع كالاجتهاد في المسائل الفقهية، لكن يبقى المقصود المجمل: أن حكم المقالة ليس بالضرورة أنه يطرد إلى قائلها. فيقال: إن المتأخرين من المتكلمين بل وبعض الفقهاء نسبوا إلى بعض أئمة السلف أقوالاً ليست على مذهبهم، كـ أبي الفرج ابن الجوزي الحنبلي -مثلاً-، فإنه حنبلي لم يشتغل بعلم الكلام، وليس له صنعة كلامية فضلاً عن كونه ينتسب إلى مذهب كلامي كالأشعرية أو الاعتزال أو الماتريدية أو غيرها، ولكن ابن الجوزي الحنبلي قصد في كتبه -سواء في التفسير أو فيما صنفه في الاعتقاد- مذهباً يقارب مذهب كثير من المعتزلة، ومال إلى تعطيل كثير من الصفات، وإن كان في قوله بعض التردد والاضطراب كغيره من الفقهاء الذين كانوا يظنون أن هذا المذهب هو مذهب الأئمة؛ ولهذا لما رد ابن الجوزي على بعض الحنابلة لم يقصد كبار الحنابلة، فضلاً عن الإمام أحمد، بل قصد طائفةً من الحنابلة الذين قد يقع لهم بعض الزيادة في الإثبات. وهذا معنىً يلاحظ بالمقابل: وهو أن المتأخرين لما خلط كثير منهم مذهب السلف بمذاهب متلقاة عن بعض قدماء المتكلمين -الذين عرف انحرافهم عن مذهب السلف- قابلهم طائفة أخرى من الفقهاء، وهذا إذا اعتبرنا المقارنة بالمذاهب الأربعة تجده أكثر ما يكون في فقهاء الحنابلة، بمعنى أكثر من غيرهم من المذاهب الثلاثة؛ فصار طائفة من الحنابلة كـ أبي عبد الله بن حامد وغيره يزيدون في الإثبات أكثر مما أثر عن أئمة السلف، ويقصدون بهذا مقابلة من غلط من أصحابهم الحنابلة الذين مالوا إلى مذهب التعطيل، وشاركوا بعض نفاة الصفات في بعض المسائل. وبهذا يتبين أن الفقهاء رحمهم الله لم يكونوا على درجة واحدة في هذا الباب، فمنهم من قد زاد في الإثبات، وهذا يسير في الجملة، ويقع كثيراً في الحنابلة، ومنهم من قارب مذهب الكلابية أو الأشعرية، ومنهم من حقق مذهب الأئمة المعتبر الذي هو مذهب السلف، وهذا ليس مختصاً بطائفة، بل يقع في سائر الطوائف الأربع؛ فإن طوائف من فقهاء الحنبلية والشافعية والمالكية والحنفية محققون لمذهب السلف في باب الأسماء والصفات وغيره مما تحصل تحقيقه وتقريره.

بيان أصناف المخالفين للسلف

بيان أصناف المخالفين للسلف بعد ذلك قصد المصنف مقصداً رابعاً فبين أصناف المخالفين للسلف، وذلك عند قوله: وأما المنحرفون عن طريقهم فهم ثلاث طوائف: أهل التخييل، وأهل التأويل، وأهل التجهيل. يقصد بأهل التخييل: المتفلسفة، وأهل التأويل: المتكلمة، وأهل التجهيل: المفوضة .. فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف المخالفين للسلف.

حكم الدليل العقلي في مورد الأسماء والصفات

حكم الدليل العقلي في مورد الأسماء والصفات بعد هذا التقرير ذكر المصنف مقصداً خامساً وهو: الإشارة إلى مسألة حكم الدليل العقلي في مورد الأسماء والصفات. وهذه مسألة من أوائل المسائل التي أشكلت على كثير من المتكلمين، وتأثر بها خلق من الفقهاء؛ ولهذا قسم المصنف في كتابه درء تعارض العقل والنقل الفقهاء في موقفهم من العلم الكلامي إلى أقسام: الأول: من انتحلوا هذا العلم. الثاني: من اشتغلوا به على غير طريقة الانتحال المحضة. الثالث: من صححوا النتائج الكلامية وإن لم يشتغلوا بالعلم الكلامي.

بيان أن إثبات الصفات هو مذهب أئمة السلف وغيرهم

بيان أن إثبات الصفات هو مذهب أئمة السلف وغيرهم بعد هذا التقرير في هذا المقصد الخامس يدخل المصنف في المقصد السادس في رسالته، ويكاد أن يأخذ هذا المقصد ما يقارب نصف الكتاب، وهو عبارة عن نقولات ينقلها المصنف ليبين بها أن الإثبات ولا سيما لغير الصفات السبع التي استقر عليها المذهب الأشعري في آخر أمره مذهب شائع في كلام أئمة السلف، سواء الأئمة الأربعة أو غيرهم، وفي كلام المحققين من الأشعرية كـ أبي الحسن الأشعري وأئمة أصحابه المتقدمين، وفي كلام طوائف من المتصوفة، وفي كلام كبار الفقهاء من أصحاب المذاهب الأربعة، فتكون النتيجة أن هذا المذهب ليس مذهباً مختصاً بالحنابلة، وإنما هو مذهب شائع عند السلف، وقد قرره وأشار إليه خلق من المتكلمين. وحينما نقول: قرره خلق من المتكلمين. لا يعني أنهم قرروه على نفس التفصيل الذي كان عليه السلف، وإنما مقصود شيخ الإسلام هنا: أن هؤلاء المتكلمين، ومن نقل عنهم من بعض المتصوفة، وحتى بعض الفقهاء يحصلون نتيجة: أن هذا المذهب ليس مختصاً بالحنبلية، وإن كان تقريرهم قد يكون فيه بعض النقص أو الغلط. ولهذا لما انتهى رحمه الله من هذه النقولات قال: وإن كان ليس كل من نقلنا عنه فإنا نعتبر قوله على التمام. ولهذا تجده نقل عن القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، ونقل عن أبي المعالي الجويني كشهادة، بل تجد أن نقله عن الجويني يكاد يكون آخر نقل؛ وذلك لأن أبا المعالي الجويني يعد من أحذق الأشعرية في تقرير المذهب، وقد مال بالمذهب الأشعري عن طريقة متقدمي أصحابه، وهذا له أسباب علمية كثيرة، لكن كان من أخص الأسباب: حصول الخلاف بين الأشعرية والحنابلة على وجه الخصوص بطريقة -إن صح التعبير- الاصطدام الصريحة. وهذا يولد سؤالاً: هل كان قبل ذلك هناك توالف بين الأشعرية والحنبلية؟ الجواب: كان يقع شيء من ذلك، ولا سيما في زمن القاضي أبي بكر الباقلاني مع التميميين من الحنابلة، فإن التميميين أبا الفضل التميمي وأبا الحسن التميمي كانوا مائلين إلى مذهب فضلاء الأشعرية كما يعبر عنه شيخ الإسلام فيقول: كان التميميون من الحنابلة يميلون إلى مذهب فضلاء الأشعرية كـ القاضي أبي بكر وأمثاله. وكان الباقلاني نفسه متوالفاً مع حنبلية عصره من التميميين، حتى إن القاضي أبا بكر وقد كان في نهاية أمره مالكي المذهب في الفقه إلا أنه كان يوقع بعض أجوبته إلى الأمصار بـ محمد بن الطيب الحنبلي، ولهذا كان بعض الحنبلية كـ أبي بكر عبد العزيز ينسبون أبا الحسن الأشعري إلى متكلمة الحنبلية؛ لأن الأشعري كان يظهر الانتحال لعقيدة الإمام أحمد. هذا التلخيص في هذه النقولات ينتهي منه شيخ الإسلام إلى هذه النتيجة.

بيان عدم التعارض بين النصوص القرآنية في باب الأسماء والصفات

بيان عدم التعارض بين النصوص القرآنية في باب الأسماء والصفات وبعد هذه النقولات يأتي المصنف رحمه الله إلى المقصد السابع في رسالته، ليبين به عدم التعارض بين النصوص القرآنية في باب الأسماء والصفات، ويمثل لهذا بمثالين هما أخص المسائل التي ادعي فيها التعارض: وهو الجمع بين مسألة العلو ومسألة المعية. فيبين أن إثبات العلو لله سبحانه وتعالى لا يعارض إثبات المعية، سواء كانت المعية العامة أو كانت المعية الخاصة. ثم بعد ذلك يختم المصنف رسالته بالمقصد السابع الذي يبين به خلاصة أصناف أهل القبلة في الصفات.

شرح الحموية [2]

شرح الحموية [2] سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن آيات الصفات، وعن عقيدة أهل السنة في صفات الله عز وجل، فبدأ إجابته بأن القول في الصفات هو ما قاله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وما قاله السلف الصالح وأئمة الهدى في هذا الباب، ثم بين أن الله تعالى بعث نبيه بالهدى ودين الحق، وإذا كان كذلك فمن المحال أن يترك هذا الباب من دون بيان لما يجب أن يعتقد فيه.

مسائل أصول الدين معتبرة بالكتاب والسنة والإجماع

مسائل أصول الدين معتبرة بالكتاب والسنة والإجماع قال المصنف رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. سئل شيخ الإسلام العالم الرباني تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت:11] إلى غير ذلك من آيات الصفات، وأحاديث الصفات كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن) وقوله: (يضع الجبار قدمه في النار) إلى غير ذلك؟ وما قالت العلماء فيه؟ وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى]. الملاحظ في السؤال أنه وقع على ما يتعلق بالصفات الفعلية كمسألة الاستواء على العرش، وكذلك ما جاء في حديث عبد الله بن عمرو في الصحيح: (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن) لأن الصفات اللازمة -في الجملة- ليست محل إشكال عند الأشعرية. [فأجاب رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره]. هذه المقدمة هي مقدمة يحصل بها أن التدين في أصول الدين، بل وفي غيرها لا يصح إلا بما كان في كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وما أجمع عليه السلف، فهذه الأصول الثلاثة مجمع عليها. أما في الفقه فإن ثمة بعض محال الاستدلال التي هي محال نزاع عند الفقهاء، كالقول في القياس؛ فإن جمهور الأئمة يعتبرونه وإن كانوا يختلفون في درجة اعتباره، وكالقول في حجية قول الصحابي والمصالح المرسلة والاستحسان وأمثال ذلك. أما في مسائل أصول الدين فإن الاعتبار يكون بالكتاب والسنة والإجماع. فإن جميع أصول الدين متحققة من جهة الاستدلال بالقرآن والسنة والإجماع، فلا يوجد أصل من أصول الدين لا يقع الاستدلال عليه إلا بالقرآن وحده، ولا يوجد أصل من أصول الدين لا يقع الاستدلال عليه إلا بالسنة وحدها، ولا يوجد أصل لا يقع الاستدلال عليه إلا بالإجماع وحده، بل كل أصل من أصول الدين عليه دلائل من الكتاب والسنة والإجماع.

على ماذا يترتب الإجماع

على ماذا يترتب الإجماع من المعلوم أن الإجماع لا ينعقد إلا مع نص، وهذا يقرره الأصوليون، وإن كان بعض المتكلمين من الأصوليين ومن وافقهم من الفقهاء الذين تكلموا في الأصول يعارضون في هذا، إلا أنه لا شك أن هذه المعارضة غلط محض، وبإجماع السلف؛ فإن الإجماع يدل على ثبوت النص في المجمع عليه. لكن يبقى أنه إذا انعقد إجماع العلماء فهل يلزم بالضرورة أن هذا الإجماع يترتب على دليل واحد أم قد يختلف دليله؟ أي: إذا تحقق الإجماع سواء في مسائل أصول الدين أو في الفقهيات فهل يعني هذا أن الإجماع ترتب على دليل معين، بمعنى أن هؤلاء المجتهدين جميعهم نظر في هذا الدليل المعين -كآية معينة من القرآن أو حديث معين من السنة- فصار اتفاقهم على فهم دلالته هو المحصل للإجماع؟ يقال: أما إذا كان القول في أصول الدين فإن علماء السلف إذا أجمعوا على مسألة من المسائل المعتبرة في أصول الدين فهذا يدل على تحقق الإجماع في الدليل المعين فيه، وإن كانت المسألة قد يستدل عليها بدليل قد يدخله النزاع. مثال هذا: أجمع السلف رحمهم الله على أن المؤمنين يرون ربهم في عرصات القيامة وفي الجنة، وعلى هذا دلائل من القرآن والسنة أجمع السلف على دلالتها على هذه المسألة، لكن هناك دلائل من القرآن استدل بها بعض الأئمة على هذه المسألة وإن كان غيرهم ينازعهم في الاستدلال كقوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] فكلمة مزيد استدل بها بعض الأئمة على أن المؤمنين يرون ربهم في الجنة، مع أن هذه الكلمة ليست نصاً في الرؤية، ولكنهم لما وجدوا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسر الزيادة في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] بأنها النظر إلى وجه الله كما في حديث صهيب عند مسلم، افترضوا هذا الحرف في المحل الآخر من القرآن لتقارب السياق. ورأى بعض العلماء أن هذا ليس بالضرورة يدل على ثبوت الرؤية. فهنا كان الاختلاف في دليل معين، والاتفاق في دليل معين آخر. وبهذا يظهر أنه ليس هناك خلاف بين السلف في الرؤية، ومن ادعى أن أهل السنة اختلفوا في رؤية الله لاختلافهم في مثل قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] قيل له: هذا اختلاف في دليل معين، والاختلاف في الدليل المعين لا يستلزم الاختلاف في المدلول، إلا إن كان هذا المدلول لا يثبت إلا بهذا الدليل، أما في الرؤية فهناك أحاديث متواترة، وصريح من القرآن في غير ما آية هي معقد الإجماع. أما إذا انعقد الإجماع في مسألة فقهية فهنا لا يلزم أن يكون موجب الإجماع نصاً معيناً، بمعنى أنه يحصل الإجماع في مسألة فقهية، ولكن استدلال مالك رحمه الله بظاهر من القرآن، واستدلال الشافعي بظاهر آخر من القرآن، واستدلال أبي حنيفة بحديث من السنة، فتكون النتيجة واحدة، ولكن مأخذها من النصوص متنوع، فيكون الإجماع لم ينعقد من جهة دليل معين واحد .. هذا الذي يقع غالباً في المسائل الفقهية، وإن كان قد يقع في المسائل الفقهية دلائل نبوية يطبق الأئمة على الاستدلال به. والنتيجة من هذا: أن الإجماع لا يحصل إلا بنص، سواء كان نصاً معيناً أو نصاً متنوعاً. وهذه الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع هي المعتبرة في مسألة أصول الدين.

مواقف فرق أهل القبلة من الأصول الثلاثة

مواقف فرق أهل القبلة من الأصول الثلاثة ما مواقف الطوائف من هذه الأصول الثلاثة؟ أما السلف رحمهم الله فقد اعتبروا أن مسائل أصول الدين معتبرة بهذه الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع، ولهذا لا يوجد أصل من أصول الدين عند السلف إلا وهو محقق بدلائل من القرآن والسنة والإجماع. أما المخالفون من أصناف المتكلمين وغيرهم فهم -في الجملة- يقولون بأن الدلائل القرآنية دلائل على مسائل أصول الدين، وهذا حكم كلي يطلقونه، لكنهم يدخلون المعارضة عليه بما استعملوه من الدلائل العقلية، فيكون المحصل أن الدليل العقلي عندهم مقدم على الدليل النقلي؛ وذلك لأنهم اعتبروا أن القول في المسائل الإلهية، وبخاصة في مسألة الصفات والأفعال لابد من اعتباره بدلائل العقل مع دلائل الشرع، فنظروا في دلائل عقلية أوجبت عندهم معارضة الدلائل النقلية الشرعية، فلما حصل هذا التعارض قرر المتكلمون من المعتزلة وغيرهم ما سموه قانوناً في كتبهم، وهو قانون تعارض العقل والنقل وقد رد عليه المصنف -أعني: شيخ الإسلام - في كلام كثير، لكن أخص ذلك في كتابه الكبير درء تعارض العقل والنقل. القصد: أن هؤلاء اعتبروا الدلائل القرآنية ولكنهم تأولوها. أما الدلائل النبوية ففي الجملة منع المتكلمون الاستدلال بالآحاد، وإن كان تقريرهم للآحاد يقع الغلط فيه من جهتين: الأولى: أنهم وصفوا كثيراً من نصوص السنة بأنها آحاد، وهي في نفس الأمر متواترة. الثانية: من جهة اعتبار حد الآحاد والمتواتر. وهذه مسألة تحتاج إلى بسط لكن أشير إليها على عجل.

الإشكال في حد المتواتر والآحاد

الإشكال في حد المتواتر والآحاد المشهور في كلام المتأخرين من أهل الحديث وأهل أصول الفقه والمتكلمين أن المتواتر: هو ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس. ولما تكلموا في هؤلاء الجماعة منهم من قال: عشرة، ومنهم من زاد على ذلك. وبهذا يكون المتواتر هو ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم عشرة، وعن هؤلاء العشر مائة، وعن هؤلاء المائة ألف على هذا الترتيب. ولهذا قال بعض متأخري الحفاظ كابن الصلاح بأنه لم يقف على مثال معين لهذا من السنة. فهذا الحد للمتواتر لا شك أنه غلط على سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإن أئمة الحديث لم يكونوا على مثل هذا، وإن كان متقدمو أئمة الجرح والتعديل كـ البخاري وابن المديني وأحمد بن حنبل، وأمثال هؤلاء قد تكلموا في الأحاديث المفردة، حتى إنهم ردوا كثيراً من الأحاديث باعتبار التفرد، وإن لم يكن التفرد دائماً عندهم مردوداً. لكن هذا التقسيم معناه أن يكون عامة السنة النبوية حتى المخرجة في الصحيحين، وحتى الأحاديث المتلقاة بالقبول عند الأمة آحاداً وليست من المتواتر .. وهذا تكلف؛ فإن هذا الحد لا يدل عليه الشرع ولا تدل عليه اللغة، ولا يدل عليه المقصد الذي بعث به النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يبعث الواحد من أصحابه بتقرير مسائل أصول الدين من التوحيد وغيره إلى قوم من الكفار، وربما كانوا قوماً تختلف عقائدهم كالمشركين وعبدة الأوثان مع أهل الكتاب، كما بعث معاذاً إلى اليمن وفيها اليهود والنصارى وعبدة الأوثان. فهذا الحد ينبه إلى خطئه وإن كان شائعاً في كتب المصطلح المتأخرة.

كيفية ضبط مذهب السلف

كيفية ضبط مذهب السلف وهنا سؤال: بم يضبط مذهب السلف؟ من المعلوم أنه إذا قيل: إن هذا القول مذهب للسلف لزم من ذلك أن ما يخالفه يكون بدعة، ولهذا ينبغي أن لا يقال عن شيء ما بأنه مذهب للسلف إلا إذا كان إجماعاً لهم، أما إذا اختلفوا فيقال: اختلف الأئمة أو اختلف السلف، وإن كان الخلاف الفقهي ينبغي أن يعبر عنه بالقول: اختلف الأئمة أكثر من أن يقال: اختلف السلف؛ فإن هذا الحرف إنما يستعمل في مسائل الإجماع كما يظهر في كتب أهل العلم المحققين. وقد أشار شيخ الإسلام إلى كيفية ضبط مذهب السلف، فقال: واعتبار مذهب السلف الذي هو مذهب لازم يجب اتباعه بدلالة القرآن والحديث هو ما علم إجماعهم فيه، قال: ومعرفة الإجماع تقع بنقل علماء الإسلام الكبار بأن هذا إجماع للسلف، أو بتواتر مقالاتهم في هذه المسألة ولا يحفظ لأحد منهم مخالفة. فهذان طريقان يعرف بهما إجماع السلف: الأول: التنصيص من كبار العلماء المتقدمين أو المحققين من المتأخرين على أن هذا إجماع للسلف. الثاني: تواتر المقالة عن السلف، ولم يحفظ لأحد منهم فيها مخالفة. وقد أراد شيخ الإسلام بهذا درء مسألة تحصيل مذهب السلف بطريق الفهم؛ ولهذا قال رحمه الله: وأما من تحصل له فهم في الكتاب والسنة فقال: إن هذا مذهب السلف؛ لأن السلف عنده لا يخرجون عن دلالة القرآن والسنة، فهذه طريقة يستعملها من يستعملها ممن انتحل مذهب السنة والجماعة من متأخري المتكلمين، ومن قلدهم من الفقهاء وغيرهم .. وهذا التنبيه غاية في الأهمية، وهو أن مذهب السلف لا يصح تحصيله بالفهم. وهذا قد وقع في كلام كثير من الفقهاء وفي كلام كثير من المتكلمين، ويقع اليوم قدر كثير منه بين بعض طلبة العلم، حيث نجد أنهم يعينون مسائل ويقولون: هذا مذهب للسلف. مع أن المسألة فيها نزاع بين كبار أئمة السلف؛ لكونها مسألة فقهية. إذاً: لابد أن يعتبر مذهب السلف بالأصول الثلاثة، فكل ما أضيف إلى مذهب السلف، ولا يوجد عليه دليل من الكتاب والسنة والإجماع فإنه لا يعد من مذهب السلف الذي هو إجماع لهم، وإنما قد يكون محل خلاف بين أهل السنة والسلف أنفسهم؛ لأنه إذا انضبط أن هذا مذهب للسلف لزم أن يكون صواباً محضاً، وما يقابله يكون بدعةً وضلالاً محضاً على حد قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة). فكل ما قابل مذهب السلف فهو بدعة وضلالة؛ ولهذا لا تُعين مسألة أنها مذهب للسلف إلا إذا عُلم أنها إجماع لهم، أما إذا كانت اختياراً لبعض كبار أئمتهم ويخالفهم أئمة آخرون من أئمة السلف أنفسهم فإنه مهما كان ظهور الدليل فيها من الكتاب والسنة ينبغي أن يتوقف عن نقل الإجماع فيها، بمعنى أنه إذا قيل: إن هذا مذهب للسلف فإن هذا بمنزلة القول: بأن هذا إجماع. وينبه هنا إلى أنه إذا ظهر دليل المسائل التي ليست إجماعاً من الكتاب والسنة -ولو خالف من خالف فيها من بعض علماء السنة الكبار- فإنه يجب الاتباع لدلالة الكتاب والسنة، وربما صح في بعض المقامات الإنكار حتى في المسائل التي هي محل خلاف، وإن كان هذا لا يطرد، فإن بعض الأئمة قد يجزم في مسألة بحكم يعلم أنه غلط؛ لكون الدليل لم يبلغه مثلاً، أو لسبب آخر كما يذكره شيخ الإسلام في رسالته رفع الملام. إذاً: الإنكار ليس محصوراً بالضرورة في مسائل الإجماع، بل حتى مسائل الخلاف قد يقع أحياناً وجه لإنكار بعض الأقوال، ولو قال بها بعض الكبار من أهل العلم، وإن كان هذا لا يطرد. القصد: أن تحقيق مذهب السلف معتبر بثبوت إجماع صريح لهم، أما المسألة التي ليس فيها إجماع فلا يصح أن يقال فيها: إن هذا مذهب للسلف؛ ولذلك لا يصح وصف القول المخالف في مسألة فيها شيء من النزاع، ولو كان المرجح يرجح أن قوله هو الراجح بدلالة القرآن والسنة مثلاً أو بدلالة أحدهما بأنه بدعة، كذلك لا يوصف القول المخالف بأنه بدعة إذا كان القائل به من أعيان الأئمة كأئمة الصحابة وأئمة التابعين وأمثالهم؛ ولهذا نجد أن الصحابة لم يكن بعضهم يبدع بعضاً في مسائل الاختلاف، وكذلك الأئمة الكبار.

بيان إسناد مقالة السلف

بيان إسناد مقالة السلف [فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه وسراجاً منيراً، وأمره أن يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس في ما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته، محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبساً مشتبهاً، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه]. هنا بدأ المصنف بذكر أوجه نظرية مبنية على مقدمات من الشرع ومقدمات من العقل ضرورية الحكم. ويستفاد من هذا أن من أراد مناظرة المخالف في أصل من أصول الدين فإن الفاضل له أن يستعمل الأدلة التي هي لازمة الحكم عند المخالف. فهذه طريقة أقوى في التحقيق، وإن كان قد تستعمل أدلة ليس بالضرورة أنها مسلمة عند المخالف؛ لأن المقصود إقامة الحجة عليه. لكن المصنف في هذه المقدمات يستعمل مقدمات لازمة.

تضمن القرآن تفصيل مسائل أصول الدين

تضمن القرآن تفصيل مسائل أصول الدين فهو يقرر أن الله سبحانه وتعالى بعث محمداً بالهدى ودين الحق، فمن المحال أن يكون هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم لم يتضمن تفصيل مسائل أصول الدين سواء من جهة كونها مسائل أو من جهة كونها دلائل، ولهذا يقول المصنف رحمه الله في درء التعارض: ولو كان الناس محتاجين في أصول دينهم في دلائله أو مسائله إلى شيء لم يقع في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لما تحقق أن الله أكمل لهذه الأمة دينها .. وهذه مقدمة ضرورية الثبوت؛ ولهذا تكون نتيجتها ضرورية، والنتيجة هنا هي: أنه يجب في أصول الدين التزام النصوص القرآنية والنبوية، وأنه لا يصح استعمال أي دليل خارج عن الكتاب والسنة يعتبر تحصيل أصول الدين به. وليس معنى قولنا: يعتبر تحصيل أصول الدين به. المنع من الاستدلال بدليل عقلي لإقامة حكم شرعي إذا كان هذا الدليل دليلاً صحيحاً، وإن كان هذا الدليل العقلي لم ينص عليه في النصوص بالتصريح، فقد أمر الله سبحانه وتعالى بالنظر في آياته فقال تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:185] إلى غير ذلك من الآيات، وإن لم يأمر به جميع المكلفين. لكن الذي يقصد المصنف إلى رده: أنه يمتنع أن يكون تحصيل مسألة الأسماء والصفات مبني على دليل عقلي ليس له إشارة في القرآن. وحينما نقول: دليل عقلي لم يذكر في القرآن. فإن هذا ليس تناقضاً في الحرف، بمعنى: أن القرآن تضمن دلائل خبرية محضة في مسألة الأسماء والصفات، وتضمن دلائل شرعية باعتبار كونها قرآناً، ولكن من جهة ترتيبها هي مخاطبة للعقول، أي: أنها ليست قضايا مبنية على لزوم التسليم. مثلاً: قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] هذا دليل من القرآن، وهو خبري محض مقول بالتسليم، لكن قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] وإن كان دليلاً قرآنياً، إلا أنه ظاهر فيه أن الترتيب فيه ترتيب عقلي؛ ولهذا خاطب به كفاراً لم يؤمنوا بمسألة التسليم؛ فإن التسليم من صفات المؤمنين. ويقول شيخ الإسلام رحمه الله: وغلاة المتكلمين والمتفلسفة يقولون: إن الدلائل القرآنية دلائل خبرية محضة. وهذا قول من لم يقدر القرآن حق قدره، فإن الدلائل القرآنية منها ما هو خبري محض مبني على التسليم، ومنها ما هو دلائل عقلية يثبت بها لزوم الإسلام. ومعنى قوله: يثبت بها لزوم الإسلام أي: أنه يتحصل لمن بلغته وسمعها الدخول في دين الإسلام، والتسليم بخبر الله وخبر رسوله؛ ولهذا ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحياً أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة). فـ شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الموضع يورد مقدمات قطعية، وهي: أن الله أخبر بالتصريح أنه أكمل لهذه الأمة دينها، وأخبر أن نبيه صلى الله عليه وسلم بعث بالهدى ودين الحق، وأخبر أنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم البينات والهدى هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، وأخبر أن الناس قبل بعث محمد صلى الله عليه وسلم ليسوا على شيء في العلم؛ ولهذا أياً كان قدر العقل من الكمال، وأياً كان قدر النفس من الفضيلة فإنه لا يمكن أن تصل إلى تمام المعرفة الإيمانية بدون هدى من الله. وحينما نقول: العقل والنفس؛ لأن المناهج التي خرجت عن منهج السلف إما مناهج عقلية في الغالب كالمناهج الكلامية، أو مناهج تنبني على المقدمات والترتيبات النفسية الرياضية، وهي مناهج الصوفية؛ ولهذا كانت الفلسفة قبل الإسلام -سواء كانت فسلفة اليونان، أو فلسفة الفرس أو الهند أو غيرهم- إما فلسفة غنوصية إشراقية فيضية كالفلسفة الأفلاطونية الجديدة كما تسمى، أو فلسفة عقلية نظرية. ومن هنا انقسم الفلاسفة إلى: فلاسفة عرفانيين غنوصيين، وفلاسفة عقلانيين نظريين. وبعض الفلاسفة الذين انتسبوا للإسلام مذهبهم يركب من هذا وهذا، وسيأتي إن شاء الله التنبيه إلى هذا بمثاله. إذاً: أياً كان قدر العقول من الكمال وأياً كانت فضيلة النفوس لا يمكن أن تصل إلى تمام المعرفة الإيمانية؛ وقد خاطب الله سبحانه وتعالى من هو أكمل الناس عقلاً ونفساً وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3] وقال: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى:7] وليس المقصود ضلاله صلى الله عليه وسلم بالموبقات أو بالشرك؛ فإنه منزه عن هذا، فقد كان عليه الصلاة والسلام حتى قبل بعثته موحداً لله على الفطرة وعلى الملة العامة، ولكن المقصود: أنه لم يعرف تفاصيل العلم؛ ولهذا قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] أما الكتاب فلم ينزل عليه شيء قبل النبوة، وأما الإيمان فكان على إيمان مجمل، أي: ولم تعرف تفاصيل الإيمان، كما ذكره المفسرون من السلف. فإذا كان متحققاً عند جميع المسلمين أنه صلى الله عليه وسلم هو رسول الإسلام، وهو المعلم؛ فإنه يجب اعتبار الإسلام بما بعث به، وإذا قيل الإسلام فإن أخص هذا الإسلام -الذي هو دين الله، وهو خاتم الأديان- القول في أصول الديانة؛ فيلزم من هذا القطع الضروري أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حقق من جهة علمه هو، ومن جهة بيانه باب أصول الدين، ومن ذلك باب الأسماء والصفات. فهذه نتيجة مبنية على مقدمات ضرورية العلم والثبوت، وهي: أنه صلى الله عليه وسلم علم الحق في باب الأسماء والصفات، وأنه بين ذلك للأمة.

تلقي الصحابة تفصيل مسائل أصول الدين عن الرسول صلى الله عليه وسلم

تلقي الصحابة تفصيل مسائل أصول الدين عن الرسول صلى الله عليه وسلم ينتقل المصنف بعد ذلك إلى استمام هذا، فيبين أن الصحابة تلقوا ذلك عن نبيهم وبينوه للتابعين، ثم في زمن التابعين حدث الخلاف، وقد تميز مذهب التابعين -والذي اطرد فيما بعد عند جميع أهل السنة- عن مذهب المخالفين.

العلم الإلهي هو أشرف العلوم

العلم الإلهي هو أشرف العلوم [فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب، وحصلته النفوس، وأدركته العقول]. المصنف -كما تقدم- يستعمل مقدمات مسلمة عند سائر الطوائف، فإن جميع الطوائف من المعتزلة والأشعرية والماتريدية حتى المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام يرون أن هذا العلم الإلهي هو أشرف العلوم؛ فهذا ابن سينا لما ذكر أقسام الفلسفة قال في الفلسفة العليا والحكمة الأولى: هي القول في العلم الإلهي. فهم يسلمون أن المعرفة الإلهية هي أفضل المعارف، لكن يبقى الخلاف في طريقة اعتبار المعرفة الإلهية. فهؤلاء المتفلسفة اعتبروها بالطرق الفلسفية، والمتكلمون اعتبروها بالطرق الكلامية، وأهل السنة اعتبروها بالقرآن والحديث وإجماع الصحابة رضي الله عنهم. فإذا كانت المعرفة الإلهية هي أخص المعارف -وهذه هي المقدمة- لزم أن يكون رسول الإسلام، ومن بعثه الله ليبين للناس الديانة مبعوثاً بتفصيلها وتحقيقها وبيانها. وهذه المقدمة بدهية لا يعاضل فيها إلا من في قلبه نفاق أو خروج عن أصل الإسلام.

تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه مسائل أصول الدين

تبيين الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه مسائل أصول الدين [فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول هو أفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقاداً وقولاً؟! ومن المحال أيضاً أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك). فبما أنه صلى الله عليه وسلم قد علم أمته حتى الأشياء التي هي ليست من أصول الديانة فيمتنع في العقل والشرع أنه صلى الله عليه وسلم يقصد إلى تعليم المسائل اليسيرة التي الجهل بها لا يضر -حيث إن بعض المسلمين يجهلون مثل هذه المسائل ومع ذلك يستقيم دينهم في الجملة، وإن كان فيه شيء من التقصير والنقص- ويدع صلى الله عليه وسلم بيان أصول الدين أو أنه لم يحكم بيانها! هذا يعلم امتناعه ضرورةً. [وقال فيما صح عنه أيضاً: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم). المعتبر عند كثير من متأخري الحفاظ: أن الحديث إذا كان في الصحيحين أو أحدهما قالوا: وفي صحيح البخاري أو في صحيح مسلم. أو يعبرون بعبارة: وفي الصحيح. وإذا كان الحديث صحيحاً وليس في البخاري أو في مسلم قالوا: وقد صح عن النبي، وثبت عن النبي إلخ. لكن المصنف -أحياناً- لا يلتزم هذا الاعتبار، وإن كان كثيراً في كتبه عليه، بمعنى أنه تارةً يقول: وقد صح عن النبي، وفيما صح عن النبي، وثبت عن النبي، ومع ذلك يكون الحديث في الصحيحين أو في أحدهما، وتارةً يقول: وفي الصحيح. ومع ذلك لا يكون الحديث لا في البخاري ولا في مسلم. ومن الأمثلة على هذا ما قاله هنا، حيث قال: وقال فيما صح عنه، ولم يقل: وقال كما في الصحيح أو في صحيح مسلم، مع أن الحديث في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في سياق طويل، قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سفر فنزلنا منزلاً، فمنا من يصلح خباءه، ومنا من ينتصل، ومنا من هو في جشره، إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصلاة جامعة. قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها) إلى آخر ما ذكره صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. الشاهد منه: هذا الحرف الذي أشار إليه المصنف: (أنه لم يكن نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم) فهذا يدل ضرورةً على أن جميع الأنبياء وأخصهم نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قد بينوا مسألة أصول الدين. [وقال أبو ذر: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً). وقال عمر بن الخطاب: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه) رواه البخاري. ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين -وإن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية، وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام؟!]. قوله هنا على غاية التمام ليبين به غلط من زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هذا للأمة كما يقرر ذلك المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام، وليبين به غلط من زعم بأنه لم يقع ذلك منه على جهة التمام، وإنما في القرآن أحرف مجملة والتفصيل يتلقى من الدلائل العقلية كما هو حال جمهور متقدمي المتكلمين من الجهمية والمعتزلة. وكذلك غلط من يسلم بأن القرآن تضمن هذا الباب على جهة التمام، لكنه لا يلتزم هذا القول الذي قاله، فتجده يستعمل التأويل أو يستعمل الدلائل الكلامية في ذلك، كما هو شأن الأشعرية وأمثالهم الذين سلموا أن القرآن -في الجملة- بين هذا الباب، لكنهم عند التطبيق والتحقيق يخرجون عن هذا، ولا سيما المتأخرون منهم. وبهذا ينتهي المصنف من المقدمة الأولى، وهي مقدمة ضرورية ظاهرة: وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم علم هذا الباب على التفصيل وأنه بينه لأصحابه.

تبليغ الصحابة مسائل أصول الدين للتابعين

تبليغ الصحابة مسائل أصول الدين للتابعين [ثم إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن يكون خيرُ أمته وأفضل قرونها قصَّروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين عنه]. ينتقل المصنف الآن إلى بيان أن البيان النبوي تلقاه أصحابه رضي الله عنهم، والصحابة رضي الله عنهم بلغوه للتابعين، ويمتنع أن يكون الصحابة لم يبلغوه للتابعين؛ لأن عدم بلاغ الصحابة للتابعين إما أن يكون سببه أن الصحابة لم يفقهوا بيان النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ممتنع؛ فإنهم إذا لم يفقهوا أصول الديانة فمن باب أولى أن يقع غلطهم في غير ذلك. وإما أن يكون سبب عدم بلاغ الصحابة للتابعين: أنهم قصدوا كتم الحق عنهم، وبما أن النظر العقلي لا يخرج عن هذين الاحتمالين، وكلاهما يعلم بطلانه وامتناعه، فتتحقق النتيجة: أن الصحابة بلغوا القول الحق والفصل والصواب في الأسماء والصفات إلى التابعين. وعند مرحلة التابعين يقف الإسناد، أي: يقف المقصود من التقرير؛ لأنه في زمن التابعين ظهر الجعد بن درهم وظهرت مقالة نفي الصفات، وعلم بإجماع الناس -لم يخالف في هذا أحد- أن أئمة التابعين ردوا على هؤلاء المخالفين، فهنا تظهر النتيجة، وهي أن الحق مع التابعين؛ لأنهم تلقوا عن الصحابة والصحابة تلقوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويعلم أن هذا المذهب الطارئ - الذي هو مذهب الجعد بن درهم - باعتبار مخالفته لمذهب التابعين غلط محض، وإن كان يعلم غلطه من هذا الوجه وغيره. ولهذا من أوجه الاستدلال الفاضلة عند السلف: أن كل بدعة يعلم غلطها بدلالة الإجماع المتقدم. وقد كان الإمام مالك رحمه الله من أكثر الأئمة سلوكاً لهذا المسلك. وبهذا يعلم أن معرفة الحق شيء وطريقة رد البدعة المخالفة للحق في أصول الديانة شيء آخر. فهنا طريق مطرد، يعني يمكن أن يستعمل في جميع الموارد والمسائل: وهو أن كل ما خالف مذهب السلف المجمع عليه يعلم غلطه لكونه مخالفاً للإجماع المتقدم.

استخدام السلف للدلائل العقلية

استخدام السلف للدلائل العقلية وهنا مسألة يحسن التنبيه إليها: وهي أن المصنف يستعمل طريقة الترتيب والمناظرة في عرضه، وقد كان بعض أئمة السلف تارةً يستعملون هذا، وهذا رد على من قال: إن مذهب السلف لا يستعمل الدلائل العقلية. فإن السلف لم يذموا الدلائل العقلية إنما ذموا علم الكلام، وهذا لا يعني أن علومهم مبنية على العقل، لكن لأن العقل لا يعارض الشرع، فإنه لا يذم، ولهذا لا نجد أن السلف ذموا الدلائل العقلية بإطلاق، إنما قد يذمون دليلاً معيناً عقلياً، لكن العبارة المتواترة عن السلف هي ذم علم الكلام، وعلم الكلام هو عبارة عن أدلة مفروضة من العقل لكنها ليست كل الدلائل العقلية، مثلما قد يقال: إن بعض الأحاديث أحاديث موضوعة، فتضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في حقيقتها ليست من كلامه، فكذلك الأدلة الكلامية حقيقتها أنها ليست دلائل عقلية؛ فإن العقل الصحيح لا يدل عليها ولا يصححها. وسنرى فيما بعد أن أخص الدلائل الكلامية المستعملة عند جميع الطوائف بلا استثناء لا تخرج عن ثلاثة أدلة من الترتيب العقلي الكلامي: دليل التركيب، والأعراض، والاختصاص. ومن الأمثلة على استخدام السلف للدلائل العقلية: أن الإمام أحمد قال لـ ابن أبي دؤاد: يا أحمد! القرآن مخلوق .. أهذا من الدين أم ليس من الدين؟ فقال ابن أبي دؤاد: هو من الدين. قال: هذا الدين أعرفه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟ فقال ابن أبي دؤاد: بل قد عرفوه -طبعاً لا يستطيع أن يقول: لم يعرفوه- فقال له الإمام أحمد: أين هو من كلامهم؟ يعني: أين في كلام النبي صلى الله عليه وسلم أو أصحابه وخاصة الخلفاء أن القرآن مخلوق؟ فانقطع ابن أبي دؤاد وانتهى المجلس. فلما كان من الغد قال ابن أبي دؤاد: يا أبا عبد الله! أقلني -يعني: أقلني عن الجواب الأول- فقال الإمام أحمد: أقلتك. قال: لم يعرفوه. قال: دين لم يعرفه النبي صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي جئت لتعرفه أنت؟! فانقطع ثانيةً. فلما كان المجلس الثالث قال ابن أبي دؤاد: يا أحمد! -يعني الإمام أحمد - القرآن غير مخلوق .. أهذا من الدين؟ أراد أن يستعمل نفس المناظرة .. فقال الإمام أحمد: من الدين. قال: عرفه النبي وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعرفوه؟ قال: عرفوه. قال: أين هو في كلامهم؟ قال الإمام أحمد: اسكت ونسكت. ما معنى هذا الجواب؟ معناه أن كلمة: القرآن غير مخلوق هي نفي لإثبات؛ فقصد الإمام أحمد وأئمة السنة نفي بدعة طرأت، حيث إن هذه البدعة تقول: القرآن مخلوق. فنفاها الأئمة بقولهم: القرآن غير مخلوق. فقوله: اسكت ونسكت أي: لا تقولوا القرآن مخلوق حتى لا ننفي ما قلتم؛ فإنه إذا لم يقع هذا الإثبات المعتزلي الجهمي لم يحتج أئمة السنة إلى نفي شيء لم يقع، فيبقى الناس على معتقد القرآن، أي: على ما صرح به في القرآن وهو: أن القرآن كلام الله كما في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143].

شرح الحموية [3]

شرح الحموية [3] طريقة السلف الصالح رحمهم الله أسلم وأعلم وأحكم من طريقة الخلف في باب الصفات، وفي غيره من الأبواب؛ فإنه يستحيل أن يكون السلف غير عالمين وغير قائلين بالحق في باب الصفات، بل إنهم قالوا بالحق ونطقوا به وبينوه فلا يجوز اعتقاد غير ما اعتقدوه وبينوه للأمة.

القرون الثلاثة المفضلة كانوا عالمين بالحق قائلين به

القرون الثلاثة المفضلة كانوا عالمين بالحق قائلين به قال المصنف رحمه الله: [ثم من المحال أيضاً أن تكون القرون الفاضلة]. بعد أن انتهى المصنف رحمه الله من الصحابة أراد جمع القرون الثلاثة الفاضلة: الذين هم الصحابة والتابعون وتابعو التابعين، هذه هي القرون الثلاثة الفاضلة التي شهد لها النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية كما في حديث عمران بن حصين في الصحيحين. [القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع]. أي: يمتنع ضرورةً أن يكون الصحابة أو حتى التابعون قد قالوا بالباطل أو كتموا الحق في هذا الباب، خاصة أن التابعين عرف تصريحهم كثيراً في هذا الباب؛ لظهور البدعة المعارضة لمذهب الصحابة رضي الله عنهم المتلقى عن نبيهم صلى الله عليه وسلم.

السلف يفرقون بين العلم بثبوت الصفة وبين معرفة كيفيتها

السلف يفرقون بين العلم بثبوت الصفة وبين معرفة كيفيتها [أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه، ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه؛ أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته]. قوله: لا معرفة كيفية الرب وصفاته بمعنى: أن ثمة فرقاً بين القول في ثبوت أسماء الله وصفاته وتقرير القول في ذلك، وبين القول في كيفية صفات الباري وكيفية أفعاله، فإن القاعدة التي ذكرها مالك وغيره مطردة في هذا الباب: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقد كان السلف رحمهم الله يفرقون بين العلم بثبوت الصفة وقيامها بذات الله ومعرفة معناها، وبين معرفة كيفيتها، فالكيف مجهول؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحاط به علماً، ولا يعرف كيفية صفاته ولا كيفية أفعاله، وإنما تثبت صفاته وأفعاله، وإذا قيل: إنها تثبت. فمعناه من جهة ما يليق بذات الباري، وليست كما يليق بالمخلوقين. وهذا بدهي في عقيدة المسلمين، وإن كان المخالفون كثيراً ما يعارضون هذا البدهي.

الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص

الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص ومحل الإشكال عند الطوائف: أنهم وجدوا أن الصفات التي وصف الله بها نفسه في القرآن، أو وصفه بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كثير من الموارد -وليس دائماً- تضاف إلى المخلوقين، قال الله تعالى عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] وقال عن عبده: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] وقال تعالى عن نفسه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] وقال عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] بل قال في آية واحدة: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] فهذا الاشتراك الذي حصل هو مثار الغلط. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ومحل الإشكال الذي عرض لعامة النظار من المتكلمين وغيرهم أن الاشتراك في الاسم المطلق يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص. قال: وهذا مما يعلم بالعقل والشرع بطلانه. فالمتكلمون ظنوا أن الاشتراك في الاسم المطلق يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص. وهذا الظن وهم محض؛ لأن الاسم المطلق الذي وقع به الاشتراك هو كلي لا وجود له في الخارج، ولا يوجد في الخارج إلا المتعينات المضافات المخصصات، بمعنى أنه إذا قيل: يد. فإن هذه الكلمة كلمة مطلقة لم تضف إلى أحد بعينه، فهذا هو الاسم المطلق، وهذا الكلي في الذهن لا يقع في الخارج إلا مضافاً مخصصاً. ولهذا نجد أن المخلوقات -ولله المثل الأعلى- لا يستلزم اشتراكها في الاسم المطلق تماثلها عند الإضافة والتخصيص، بمعنى أنك تقول: رأس الجمل ورأس البعوض، فترى أن الماهية بعد الإضافة مختلفة، فماهية هذا غير ماهية هذا، وشكل هذا غير شكل هذا، فإذا كان الاختلاف بعد الإضافة والتخصيص يطَّرد في المخلوقات فمن باب أولى أن يكون الاختلاف بين الخالق والمخلوق، فلا يكون سمعه سبحانه كسمع المخلوق، ولا بصره كبصرهم، ولا رحمته كرحمتهم، ولا غضبه كغضبهم، ولا رضاه كرضاهم وهلم جرا؛ ولهذا كان سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء مع أنه موصوف بهذه الصفات؛ لأنها لا تماثل صفات المخلوقين.

الحق في باب الأسماء والصفات محصور فيما أجمع عليه السلف

الحق في باب الأسماء والصفات محصور فيما أجمع عليه السلف [وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجودية فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم؟! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضاً عن الله، وأعظمهم إكباباً على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟ وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ولا عاقل عرف حال القوم]. أي: أنه يمتنع أن يكون الحق في الأسماء والصفات لم يعرف تقريره إلا من واقع كلام المتكلمين، سواء قصد بالمتكلمين هنا القدماء منهم كالجهمية والمعتزلة المتقدمة، وهذا يكاد يكون يعلم تأخره وتعذره، لكن بالمقابل فإن كثيراً من الفقهاء يرون أن تقرير مسألة الصفات والأفعال المتعلقة بذات الباري سبحانه وتعالى وتحقيقها وقع في كلام المتأخرين من المتكلمين، ولهذا قال من قال بأن الأشعرية هم أنصار أصول الدين، وهم الذين قرروا المعرفة في مسألة أصول الديانة. وهذا لا شك أنه غلط محض، وإن كان يقع في مذهب الأشعرية ما هو من الصواب إلا أنه ليس لهم اختصاص فيه، بمعنى أن الصواب الذي قالوه موجود في كلام السلف وليس لطائفة متأخرة لا الأشعرية ولا الحنبلية ولا الشافعية ولا المالكية ولا الحنفية ولا غير هذه الطوائف اختصاص بشيء من الحق، فإن الحق في هذا الباب محصور فيما قرره أئمة السلف رحمهم الله وأجمعوا عليه. ولشيوع مثل هذه التوهمات صار بعض الفضلاء من أهل العلم الكبار يضطرب قولهم في هذا، فتجد أن النووي رحمه الله قد يقع له بعض هذا الوهم في مثل هذه المسائل، فتجده يقول: وللعلماء مسلكان في هذه النصوص -يعني نصوص الصفات-: التفويض -أو تارة يقول: التوقف- وهو مسلك السلف، والتأويل وهو مسلك أصحابنا المتكلمين. ولا شك أن هذا التقرير غلط، فإن السلف ليسوا مفوضة، والحق ليس في هذا المسلك ولا هذا المسلك، بل في مسلك السلف الذي هو: إثبات المعنى وتفويض الكيفية، فالكيف مجهول والمعنى معلوم كما قرره مالك وغيره. [ثم الكلام في هذا الباب عنهم أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى وأضعافها يعرف ذلك من طلبه وتتبعه]. أي: هو مبسوط في كتب السنة المسندة، وهي التي نقلت ألفاظ السلف بأعيانهم وتصريحهم في مسائل الأسماء والصفات كالسنة للخلال وعبد الله بن أحمد، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، والإبانة لـ ابن بطة، والشريعة للآجري، وكتاب التوحيد لـ ابن خزيمة.

امتناع أن يكون الخالفون أعلم من السالفين

امتناع أن يكون الخالفون أعلم من السالفين [ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين]. لا يجوز أن يكون الخالفون -أياً كان هذا الخالف، سواء كان من الجهمية أو المعتزلة أو غيرهم- أعلم من السالفين؛ فإن هذا ممتنع بالعقل والشرع؛ لأن هذا الخالف -أو الخلفي- إن كان أخذ الحق من القرآن والحديث لزم أن يكون الصحابة قد أطبقوا على عدم فهم القرآن والحديث في مسائل أصول الدين، وهذا ممتنع؛ لأن الله وصفهم بالعلم ووصفهم بالإيمان، ورضي عنهم ورضوا عنه، فهذا يدل على أنهم محققون لدينهم. أو أن هذا الخلفي حقق هذا العلم بدلائل عقلية أو دلائل فلسفية أو كلامية أو أياً كانت صبغتها فهذا يعلم أنه افتيات على كتاب الله وسنة نبيه، وأنه يعلم بالضرورة هنا أنه يمتنع أن يكون الحق في غير ما قاله الله ورسوله.

ظهور علم الكلام والعلوم الفلسفية سبب الخلاف في باب الأسماء والصفات

ظهور علم الكلام والعلوم الفلسفية سبب الخلاف في باب الأسماء والصفات الناظر في التاريخ العلمي عند المسلمين في المعرفة الإلهية، وبخاصة في مسألة الأسماء والصفات يجد أن فيها إشكالاً عريضاً، مع أن الحق فيها من جهة القرآن والحديث ومذهب السلف واضح تماماً؛ لكن لأنه دخل على المسلمين أسباب، فقد كانت أسباب البدعة التي نشأ عنها مذهب الخوارج في الغالب فتناً طرأت وتكاد تنتهي، بخلاف الفتنة التي ركِّبت عليها هذه المسائل عند المخالفين للسلف؛ فإنها أسباب علمية. فقد ظهر عند المسلمين علم الكلام والعلوم الفلسفية، أما الفلسفة فكانت قبل الإسلام، ونقلت نقلاً إلى المسلمين، وأما العلم الكلامي فليس هناك علم اسمه علم الكلام قبل الإسلام، فهو علم وُلِّد عند طائفة من المسلمين وهو المشكِل، ولهذا تجدهم يحدون هذا العلم ويضبطونه بأنه الاستدلال على العقائد الإيمانية بالدلائل العقلية .. وهذا حد باطل؛ لأن العقائد التي قررها المتكلمون مخالفة للعقائد المنصوص عليها في القرآن والحديث، وإن كانوا أحياناً -كما تقدم- قد يصيبون شيئاً من الحق، لكن لا يختصون بإصابته. ولهذا كان هذا العلم من أسوأ العلوم التي انتشرت عند المسلمين بسبب الاشتغال بالفلسفة، وقد أدى هذا إلى ظهور المتكلمين المتفلسفة الذين وصلوا إلى منحى خطير في تقريرهم لمسائل الإسلام، وظهور التصور الفلسفي على يد ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني والصدر القونوي وأمثال هؤلاء من غلاة المتصوفة الذين قرروا التصوف الفلسفي، والذي قابله التصوف النظري العقلي الذي ذكره ابن رشد وأمثاله. [كما قد يقوله بعض الأغبياء]. هذا الوصف من المصنف لقائل هذه المقالة ليس من باب التهكم؛ بل لأن المقالة التي نقلها عنه مقالة متناقضة في العقل، أي: فيها تأخر عقلي، وإذا كان في المقالة تأخر عقلي فإن المعنى يناسب هذا الوصف.

تناقض مقالة: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم

تناقض مقالة: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم [ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها من أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم]. هذه مقالة متناقضة؛ لأن السلامة نتيجة والعلم مقدمة، بمعنى أن العلم يورث السلامة، فإذا قيل: إن مذهب السلف أسلم -أسلم عند الله وأسلم اعتقاداً- لزم أن يكون مبنياً على علم صحيح، وإذا قيل: إن مذهب الخلف أعلم. لزم أن يكون أسلم؛ لأن من حقق العلم فقد أصاب السلامة في دينه وأصاب مقصود الله ومراده سبحانه وتعالى، أما القول بأن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم فإن هذا تناقض. وبهذا يتبين أن هذه المقالة متناقضة تماماً، فهو أعطى النتيجة للسلف وأعطى المقدمة للخلف، وإلا فإن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم، وما خالفه يمتنع أن يكون أسلم ويمتنع أن يكون أعلم وأحكم؛ فمن هنا وصف المصنف هذه المقالة بأنها مقالة بعض الأغبياء. وقد شاع ذكر هذه الجملة في كلام كثير من متأخري المتكلمين ومن وافقهم من أصحاب الأئمة. وسبب قولنا: ومن وافقهم من أصحاب الأئمة؛ هو أن المتأخرين من المتكلمين كالأشعرية -مثلاً- هم باعتبار إمامهم -أعني: أبا الحسن الأشعري - أو حتى أتباعه ينتسبون لأحد المذاهب الأربعة، فجمهور الأشعرية إما شافعية من جهة النسبة الفقهية أو مالكية، وفيهم طائفة من الحنفية، فهؤلاء صاروا يطلقون هذه العبارة أو ما هو بمعناها من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم.

مواقف المخالفين من مذهب السلف

مواقف المخالفين من مذهب السلف وبهذا يتحصل أن طوائف المخالفين على صنفين في موقفهم من مذهب السلف: الأول: وهو صنف الغلاة منهم، وهؤلاء لا ينتحلون مذهب السلف ولا يصوبونه ولا يجوزونه، وهذا هو شأن غلاة أهل البدع كالجهمية وأئمة المعتزلة، ومن تكلم في هذا الباب على طريق التبع من الشيعة وغيرهم، وإنما يخص ذكر الجهمية والمعتزلة لأنهم أخص من تكلم في هذا الباب .. فهذا الصنف: ليس من شعارهم انتحال مذهب السلف، ولا تصويبه ولا تجويزه. الثاني: وهم جمهور المتأخرين من المتكلمين الذين انتسبوا للأئمة في الفقه، وهؤلاء يعلمون أن مذهبهم مخالف لمذهب السلف، ولكنهم يجوزون في هذا الباب -أعني: في باب الأسماء والصفات- طريقتهم التي اتخذها أصحابهم المتكلمون، واتخذها من وافقهم من الفقهاء، ويجوزون في نفس الأمر الطريقة التي ظنوا أنها هي طريقة السلف، فترى أن الأشعري يثبت جملةً من الصفات ويتأول جملةً منها، وأصحابه في الجملة على هذا المنهج، وإن كانوا يختلفون معه في قدر ما يثبت وقدر ما يتأول، ولكنهم يرون أن السلف كانوا مفوضين في هذا الباب، وبخاصة ما يتعلق بمحل التأويل عندهم، أي: أن الصفات التي يصحح الأشعرية أنها ثابتة لله حقيقة يرون أن السلف كذلك كانوا يثبتونها حقيقة كالعلم والسمع والبصر. وإذا جاء القول فيما تتأوله الأشعرية كالصفات الفعلية عند جميع الأشعرية، أو كالصفات الخبرية عند متأخريهم قالوا: إن السلف في هذا الباب كانوا يفوضون ويرون أنه يصح في هذا النوع إما التفويض -ويقولون: إنه مذهب للسلف- وإما التأويل. وموجب هذا التجويز عند الأشاعرة أنهم اعتقدوا عدم ثبوت الصفات الفعلية في نفس الأمر، أو الصفات الخبرية عند متأخريهم بعد طبقة أبي المعالي الجويني، فلما اعتقدوا انتفاء الصفة في نفس الأمر أصبحوا بين حالين: إما أن السياق القرآني فيها يثبت على ظاهره أي: بلا إثبات معنى؛ ولهذا يقولون: وقد كان السلف يجرونها على ظاهرها. ولكن لفظ الظاهر -كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله في كتبه- صار لفظاً فيه إجمال. فالقصد: أنهم يصفون مذهب السلف فيما يدخلون فيه التأويل بأنه مذهب تفويض في هذا النوع. ثم هم يرون أن هذا التفويض ليس واجباً وإنما هو جائز، وإذا كان جائزاً فمعناه أنه يجوز في هذا النوع من الصفات التأويل والتفويض؛ ولهذا انتهى المذهب الأشعري إلى صيغة فيها توفيق -باعتبار رأيهم- بين مذهبهم ومذهب السلف؛ لأنه لم يكن من شعارهم في الأصل عدم تجويز مذهب السلف كما كان شأن الجهمية والمعتزلة؛ لأن إمامهم كان ينتسب لأهل السنة. وهذا من باب التناقض الذي وقع فيه الأشاعرة، حيث إنهم جوزوا طريقتهم، وجوزوا التفويض الذي نسبوه للسلف، وقد كان مبنى الطريقة التي انتحلوها في الصفات الفعلية التي أطبق عليها جميع الأشعرية مبني على مسألة تعارض العقل والنقل. وغلطهم من جهة أخرى: أن علماء الأشاعرة إذا تكلموا في مذهب السلف قرروا أن مذهب السلف كان هو التفويض، وعن هذا التقرير الذي ذكره متكلمة الأشعرية ذهبت طائفة من فقهاء المذاهب الأربعة إلى أن مذهب السلف في الصفات الفعلية على وجه الخصوص -وربما وقع في غيرها- هو التفويض. وهذه النسبة -أي: نسبة التفويض إلى السلف- نسبة حادثة، وقد كان المعتزلة الأوائل يعلمون أن مذهب الأئمة الذي عارضهم، وحصلت بسببه المناظرة بينهم وبين السلف كما في زمن الإمام أحمد وغيره أنه لم يكن تفويضاً، وإنما كان النزاع في ثبوت صفات الله أو عدم ثبوتها، أي: هل أن الرب متصف بالصفات أو ليس متصفاً بالصفات. فهذا الوهم الأشعري الذي فيه نوع تلطف مع مذهب السلف هو الذي أوجب -كما يقرر شيخ الإسلام رحمه الله - خطأ كثير من فضلاء الفقهاء؛ لأنهم رأوا أن كثيراً من الأشعرية في كتبهم لا يطعنون على السلف، وإن كانوا يقررون مخالفتهم، ولكنهم يفرضون في هذا الباب صحة هذا القول أو هذا القول، وهذا نقيده في مسألة الصفات. وإذا قيل هذا فهذا ليس حكماً على جميع أعيان الأشعرية، بل هو حكم مجمل، أي: هذا هو محصل المذهب في الجملة، وإلا فإن بعض علماء الأشاعرة كـ أبي الفتح الشهرستاني في بعض كتبه، ومحمد بن عمر الرازي في بعض كتبه، وأبي المعالي الجويني في بعض كتبه يبينون أن طريقتهم تختلف مع طريقة السلف في نفس الأمر، وأنه يتعذر الجمع بين الطريقتين، ولكن هؤلاء لا يلتزمون هذا القول، بمعنى أنهم يقررونه تارة ويقررون نقيضه تارة أخرى. إذاً: المخالفون للسلف في باب الصفات في موقفهم من مذهب السلف على صنفين: الأول: لا ينتحلون مذهب السلف ولا يصوبونه ولا يجوزونه، بل يرونه باطلاً وتشبيهاً وضلالاً، وهذا هو شأن الجهمية والمعتزلة. الثاني: وهو الغالب على الأشعرية، وإن كان بعض أعيان الأشعرية -كما سلف- تارةً ينزعون إلى طريقة الجهمية والمعتزلة، وكذلك الماتريدية؛ فإن طريقتهم مركبة من الصنف الأول والصنف الثاني، فبعض علماء الماتريدية ينزع إلى الصنف الأول فيحاكي طريقة الجهمية والمعتزلة في ذم مذهب السلف، وبعض فضلاء -وإذا قلنا فضلاء فباعتبار الغلاة في المذهب - ومقتصدة هؤلاء الماتريدية ينزعون إلى الصنف الثاني. إذاً الصنف الثاني -وهم الذين يجوزون مذهب السلف- هم أئمة الأشعرية كـ أبي الحسن والقاضي أبي بكر بن الطيب، وأئمة الكلابية وأمثال هؤلاء. أما متأخرة الأشعرية والماتريدية فإن طريقتهم تنزع إلى الصنف الأول تارة والصنف الآخر تارة. فهذا موجب هذه المقالة، وهي محصلة على الصنف الثاني، فهم يقولون: أسلم؛ لأنهم ظنوا أن مذهب السلف التفويض، وطريقة الخلف أعلم وأحكم؛ لأن هذه الآيات التي اعتقدوا عدم دلالتها على الصفات اشتغلوا هم -يعنون الخلف من أصحابهم- بتأويلها إلى معان يرونها ويظنونها مناسبةً لله سبحانه وتعالى، أي: مناسبة في التأويل لكلام الله سبحانه وتعالى، كقولهم في الاستواء مثلاً: الاستواء فعل فعله بالعرش صار به مستوياً. وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا) قالوا: ينزل أمره أو تنزل رحمته أو ينزل ملك من ملائكته. فمثل هذا التأويل هو الذي قصدوا فيه أن الخلف الذين تكلموا به أعلم وأحكم؛ من جهة أنهم صرفوا اللفظ إلى معنىً مناسب، في حين أن السلف سكتوا عن تعيين هذا المعنى المناسب، ويرون أن السلف والخلف من أصحابهم يتفقون على عدم ثبوت الصفات في نفس الأمر. وهذا غلط شديد من علماء الأشاعرة على السلف، فإن السلف رحمهم الله لم يكونوا من أهل التفويض، بل طريقة التفويض طريقة حادثة بعد انقراض عصر القرون الثلاثة الفاضلة، وهي طريقة متناقضة في العقل كما سيأتي التنبيه إليه، ولكونها متناقضة -أعني: طريقة التفويض- في العقل فضلاً عن بطلانها في الشرع لم يستعملها أئمة المعتزلة فضلاً عن أئمة السلف.

ذم شيخ الإسلام لقائل هذه المقالة

ذم شيخ الإسلام لقائل هذه المقالة [وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعني بها معنىً صحيحاً] هذه الجملة الصواب فيها أنها زيادة من أحد النساخ في كلام شيخ الإسلام، وموجب هذه الإضافة أن المصنف قال: كما يقوله بعض الأغبياء. وقد تقدم سبب هذا الوصف، لكن لكون هذه العبارة أو ما هو في معناها يطلقها كثير من فضلاء الفقهاء، وفضلاء أصحاب الحديث المتأخرين، وطائفة من المتكلمة الذين يعنون بامتداح مذهب السلف أحياناً كـ أبي حامد الغزالي؛ فإنه كثيراً ما يمتدح مذهب السلف في كتبه، وإن كان يخرج عنه كثيراً، سواء في مسائل الصفات أو في مسائل الأحوال والإرادات والتصوف. فلما كان لهؤلاء مقام في العلم وفي الفقه معروف، أضاف بعض النساخ هذا الحرف فقال: وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعني بها معنىً صحيحاً. فهم كتبوها كاعتذار، والحق أنها ليست لـ شيخ الإسلام، وهي ليست في محلها، فإن معنى هذا الاعتذار أن شيخ الإسلام إنما ذم قائل هذه المقالة إذا لم يكن من العلماء، وهذا لا يلتزمه المصنف، فهو يقول: وقد صارت مقالة أبي الحسن الأشعري وأمثاله مزلة أقدام لكثير من فضلاء أهل العلم. وثناؤه رحمه الله على كثير ممن وقعوا في هذه الأغلاط معروف، حتى إنه أثنى على أبي محمد بن حزم ثناءً شديداً في كثير من كتبه مع أنه في شرح الأصبهانية قال: وأبو محمد بن حزم وأمثاله قد قالوا مقالات في مسائل الصفات مقالاتُ كثير من المعتزلة خير منها، ومقالته في كثير من الموارد تقارب مقالة المتفلسفة. إذاً: كون هذا القائل من العلماء هذا لا يعني شيئاً كثيراً؛ لأن المصنف -أعني: شيخ الإسلام - لا يصف من قال هذه المقالة بأنه خارج عن صفة العلماء، فقد يكون عالماً فقيهاً أصولياً له اشتغال بعلم الحديث .. إلخ، لكن يبقى أن قوله غلط. ومن المعلوم أن كثيراً من فقهاء الشافعية، وفقهاء المالكية، وفقهاء الحنفية، بل وطائفة من الحنابلة وقعوا في مثل هذه الأغلاط والمقالات مع أن مقامهم في العلم مجمع عليه، ولا أحد من أهل العلم والمحققين ينازع في أن لهم مقاماً معروفاً في العلم، لكن يبقى أن قولهم غلط وافتيات على مذهب السلف. فلهذا هذه العبارة ليست بشيء، وواضح من نظمها وتركيبها أنه ليس عليها طابع شيخ الإسلام رحمه الله، خاصةً أن شيخ الإسلام ذكر هذا المعنى في كتبه كثيراً ولم يعتذر هذا الاعتذار.

علاقة مذهب الخلف بمذهب المتفلسفة

علاقة مذهب الخلف بمذهب المتفلسفة [فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف]. تقدم أن شيخ الإسلام ابن تيمية ضمن هذا الكتاب إشارات دقيقة جداً، فهو يقول: الخلف من المتفلسفة. مع أن المتفلسفة أظهر في الضلال من المعتزلة، والذين قالوا هذه المقالة لا يقصدون بالخلف المعتزلة، إذاً هم من باب أولى لا يقصدون المتفلسفة، وإنما يقصدون أصحابهم من متكلمة الأشعرية وأمثالهم الذين انتسبوا للسنة والأئمة، وعظموا مذهب السلف في الجملة. فكيف يقول شيخ الإسلام هنا: فإن هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة؟ نقول: لم يفضل طريقة المتفلسفة في مسألة الإلهيات بالتمام أحد من علماء الأشاعرة حتى الغلاة منهم، بل طعنهم وتصنيفهم في الرد على طوائف المتفلسفة مشهور، من ذلك ما صنفه وكتبه القاضي أبو بكر بن الطيب الباقلاني، وكذلك الشهرستاني في مصارعة الفلاسفة، وأبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة، ومحمد بن عمر الرازي له تصنيف، وإن كان الرازي هو أخص الأشعرية تعلقاً ببعض مقالات المتفلسفة، ولا سيما مقالات الحسين بن عبد الله بن سينا، فإنه ينقل عنه كثيراً، وإن كان يعترض عليه، لكنه تارةً يصوب بعض مقالاته؛ وهو مشغوف به. لكن لأن الغلط في باب الإلهيات، وبخاصة في باب الأسماء والصفات الذي محصله نفي صفات الله بالجملة عموماً كما هو مذهب الجهمية والمعتزلة، أو نفي ما هو من الصفات ولو الصفات الفعلية وحدها -مركب على الدلائل الفلسفية؛ فباعتبار أن هذه المذاهب نتيجة من نتائج الفلسفة وصف المصنف مذهب الخلف بأنه مذهب المتفلسفة، ولهذا قال: من المتفلسفة ومن حذا حذوهم. لأن الجهمية أخذوا دليلهم من المتفلسفة، وكذلك المعتزلة، بل حتى الأشعرية؛ فإنهم أطبقوا على نفي ما يسمونه حلول الحوادث وهي الصفات الفعلية، وهذا الدليل نفسه دليل فلسفي، بل هو عند التحقيق نفس المذهب، ولكنه مقرب للشريعة كثيراً، وفيه أحرف من الإسلام كثيرة، لكن أصل المادة فيه مادة أرسطية، وقد كان لـ أرسطو طاليس كلام في مسألة الوجود الإلهي، فقد كان يثبت العلة والمعلول، والمحرك الذي لا يتحرك، وإنما تتحرك المعلولات على طريقة الترقي والصدور حركة شوقية .. وهذا المذهب هو الذي استعمله ابن سينا وأمثاله. فمذهب الأشاعرة الذي انتهى إلى امتناع اتصاف الله سبحانه وتعالى بصفة فعلية -أي: صفة تتعلق بالقدرة والمشيئة- هو نفس مفهوم نفي الحركة الذي كانوا أرسطو ينفيه ويقول: المحرك الذي لا يتحرك؛ فإن مقصود أرسطو بقوله: لا يتحرك ليس نفي الحركة الجسمانية بالضبط، فإن الحركة بالمفهوم الفلسفي العام هي: كل ما يتعلق بالقدرة والمشيئة. فقول أرسطو: لا يتحرك. هو نفس المحصل الذي دخل على الأشعرية في نفيهم لكل الصفات الموجبة لتعلق الشيء بفعل الرب ومشيئته وقيام الأفعال به؛ ولهذا لم يثبتوا إلا الصفات اللازمة، أما الصفات الفعلية فقد اتفقوا على نفيها سواءً فوضوها أو تأولوها. فحتى المذهب الأشعري عند التحقيق مولد -لا نقول: منقول؛ حتى يكون العرض دقيقاً- من أحد المذاهب الفلسفية.

أصناف المذاهب التي دخلت على المسلمين في مسائل الإلهيات

أصناف المذاهب التي دخلت على المسلمين في مسائل الإلهيات والمذاهب التي دخلت على المسلمين في مسائل الإلهيات صنفان: الأول: صنف مولد، أي: أنه مركب من دلائل فلسلفية ومقدمات عقلية ومقاصد شرعية، بمعنى: أنه ليس منقولاً نقلاً محضاً صريحاً، لكنه مركب في تكوينه وترتيبه من مقدمات فلسفية هي أساس فيه، ومقاصد شرعية عامة، ومقدمات عقلية؛ من المقاصد الشرعية العامة، مثلاً: أن الله منزه عن التشبيه والتمثيل. وهذه هي مقالات المعتزلة، ويشاركهم فيها الأشاعرة والماتريدية، وإن كان قرب المعتزلة إلى الفلسفة أكثر بكثير من قرب الأشاعرة. الثاني: وهي المقالات المنقولة من الفلسفة نقلاً صريحاً، فهي ليست مولدة إنما منقولة بالتمام، وهي المقالات التي تبناها من يسمون بالفلاسفة الإسلاميين أو فلاسفة الإسلام كـ ابن سينا، وأبي نصر الفارابي، وأبي الوليد بن رشد، وباطنيتهم الغلاة كـ المبشر بن فاتك، وأبي يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية وأمثال هؤلاء، فإن مقالات هؤلاء مقالات منقولة، بمعنى: أنها أحرف فلسفية منقولة على التمام، وفي الغالب أنها تنقل عن أرسطو. إذاً: قال شيخ الإسلام: من المتفلسفة ومن حذا حذوهم لأنه يعتبر أن كل المذاهب الكلامية -معتزلة أو أشعرية أو ماتريدية- مركبة في نتائجها على مقدمات متلقاة من الفلسفة، وأنه لولا هذه المقدمات الفلسفية لما انتهوا إلى هذه المذاهب، وهذه الشهادة التي قالها شيخ الإسلام في هؤلاء لا تختص به رحمه الله، فإن أبا الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال صرح في بعض كتبه أن دليل المعتزلة في الصفات منقول عن الفلاسفة. وإذا كان الأشعري صرح في كتبه أن دليل المعتزلة -وهو دليل الأعراض- دليل فلسفي، وصرح الشهرستاني وغيره أن مذهب المعتزلة في الصفات مذهب فلسفي؛ وإذا كانت حقيقة مذهب الأشاعرة أنه جزء من مذهب المعتزلة؛ لأنهم نفوا طائفة من الصفات وأثبتوا طائفة، إذاً: يصح أن نقول: إن المذهب الأشعري أيضاً جزء من المذهب الفلسفي. ومن العجب أن أبا الحسن الأشعري وصف دليل الأعراض بأنه دليل فلسفي، حتى إنه منعه في بعض كتبه، ثم هو نفسه يستعمله في بعض كتبه التي بنى عليها المذهب! حيث إن كتب الأشعري على صنفين: الأول: كتب انتمائية يقصد بها بيان انتمائه واتجاهه، كالرسالة إلى أهل الثغر، والإبانة. الثاني: كتب قصد بها تقرير المذهب على التفصيل كاللمع والموجز .. وهذه الكتب استعمل فيها دليل الأعراض. فهو يمنع هذا الدليل في بعض كتبه، لكي لا يلتزمه العامة، لكنه يعتقد أنه في نفس الأمر دليل صحيح، ومثله كذلك أبو حامد الغزالي، حيث منعه في بعض كتبه، واستعمله عند الترتيب العقدي للمذهب. وجمهور الأشاعرة يصرحون بصحة الدليل، مع قولهم أنه دليل فلسفي عند المعتزلة، وهذا بسبب إدخالهم بعض التغييرات في مقدماته.

شرح الحموية [4]

شرح الحموية [4] اعتمد النفاة للصفات على أدلة عقلية محضة تخالف الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة، ونسبوا إلى السلف عقائد لم تكن من عقيدتهم ومنهجهم، ولأجل اعتماد النفاة على أدلة عقلية نجد أنهم متناقضون فيما يقررونه في عقيدتهم في الصفات، وهذا التناقض هو الذي قادهم إلى الحيرة والاضطراب في آخر الأمر، ورد كل طائفة منهم على الأخرى، وبهذا يعلم بطلان مذاهب المتكلمين، وأن المذهب الحق هو مذهب أهل السنة والجماعة المأخوذ من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة.

سبب مقالة: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم

سبب مقالة: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم قال المصنف رحمه الله: [إنما أُتُوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف: هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة:78] وأن طريقة الخلف: هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات]. موجب هذه المقالة التي تقول: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم أن أصحابها كانوا يعتقدون انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكانوا يعظمون السلف في الجملة، ويرون ظاهر القرآن على إثباتها، فقالوا: إن السلف كانوا ينفونها في نفس الأمر -أي: يعتقدون عدم ثبوت الصفات الفعلية- لكن موقفهم من آيات القرآن التفويض -أي: لا يتكلمون في معانيها لا إثباتاً ولا نفياً، ويعتقدون انتفاء المعنى الظاهر- والخلف تأولوها كما سلف، فهذا الظن الفاسد -الذي هو جهل وغلط على السلف- هو الذي أوجب هذه المقالة. وبهذه الطريقة -طريقة الأشعرية- يكون الفرق بين السلف وعلماء الأشاعرة هو أن علماء الأشاعرة ذكروا التأويل والسلف لم يذكروا التأويل، ويبقى أن الطائفتين في فهم الأشعرية اتفقوا على نفي الصفات الفعلية، وهذا غلط شديد على السلف، فإن السلف كانوا يثبتون الصفات الواردة في كتاب الله سواء كانت صفات لازمة أو صفات فعلية.

نظرية المجاز في اللغة والخلاف فيها

نظرية المجاز في اللغة والخلاف فيها أما مسألة المجاز فقد تكلم فيها أصناف: الأصوليون، وأهل اللغة العربية -وهم الأصل في هذا- والمتكلمون في كتبهم، أما جمهور الأصوليين فإنهم يحكون أن الجمهور على إثبات المجاز في القرآن، وكذلك بعض المفسرين الذين يميلون إلى هذه الطرق يقولون كذلك، وبعض المتكلمين في كتبهم أيضاً يحكون هذا، وإن كانوا يحكون عن طائفة من المتكلمين عدم ثبوت المجاز.

حقيقة موقف شيخ الإسلام من نظرية المجاز

حقيقة موقف شيخ الإسلام من نظرية المجاز من المعلوم أن شيخ الإسلام رحمه الله من أشد من تكلم وطعن في مسألة المجاز، وقال: إن القرآن ليس فيه مجاز. وقد تكلم بعض المعاصرين في هذه المسألة، وقال: إن شيخ الإسلام يتناقض؛ فإنه تارةً يطلق في كتبه عبارة المجاز فيقول: وهذا من المجاز اللغوي، وهذا من مجاز اللغة. مع أن له رسائل ومواضع من كلامه يصرح فيها بإبطال المجاز؛ وبعضهم فرض هذا حتى في ابن القيم، مع أن ابن القيم رحمه الله -في الجملة- تبعٌ لـ شيخ الإسلام. والصحيح أن القول في المجاز يقع على جهتين: الأولى: المجاز باعتباره من عوارض الألفاظ. الثانية: المجاز باعتباره من عوارض المعاني. والذي أنكره شيخ الإسلام، واشتد في دفعه وإبطاله هو المجاز باعتباره من عوارض المعاني، أما إذا كان من عوارض الألفاظ فهذا يقال: إنه مجرد اصطلاح، وهذا هو الذي جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أحياناً يستعمل هذا الحرف، فيقول: وهذا من مجاز اللغة، وفُسر هذا بالمجاز. وجعل ابن القيم يقول هذا كثيراً أحياناً. مثلاً: القول بأن عبارة: رأيت أسداً يخطب. من باب مجاز اللغة .. هذا كاصطلاح لا بأس به، كما أنك تقول: جاء زيد. جاء: فعل ماض، وزيد: فاعل. فإنه لا أحد يستطيع أن يقول لك: هات دليلاً على أن امرؤ القيس سمى زيداً فاعلاً، وأن هذا حال، أو تمييز، أو مفعول به؛ فإن هذه اصطلاحات، وقطعاً أنه لا مشاحة في الاصطلاح، ولا يمكن أن شيخ الإسلام يعارض في اصطلاح لغوي؛ لأن عندنا اصطلاحات شرعية ما عارض فيها لا شيخ الإسلام ولا غيره. كذلك الصيغ المستعملة في علم الحديث، مثلاً: هذا مقطوع، وهذا منقطع، وهذا مرسل، وهذا موقوف، وهذا إسناد صحيح، وهذا إسناد حسن .. هذه اصطلاحات ما تكلم بها الصحابة، لكن لا يمكن لأحد أن يقول: أين تصريح الصحابة بها؟ إذاً: لم يكن شيخ الإسلام رحمه الله ينكر المجاز كاصطلاح من عوارض الألفاظ، وإنما وقع نقده واعتراضه عليه باعتباره من عوارض المعاني. وقد يقول قائل: إننا نرى شيخ الإسلام رحمه الله في رده لنظرية المجاز ينكرها أحياناً حتى من جهة اللغة الاصطلاحية اللفظية المحضة، فهو يقول مثلاً: ولم يذكر هذا التقسيم أئمة اللغة الكبار كـ الخليل بن أحمد والأصمعي وأمثالهم ويقول: وهذا التقسيم لألفاظ العربية إلى حقيقة ومجاز لم يتكلم به أحد من السلف، ولا أحد من أئمة العربية المتقدمين ويقول: وأصحاب هذا التقسيم لم يذكروا له حداً صحيحاً، فإن المشهور عندهم أن الحقيقة: هو اللفظ الذي وضع في معنىً واستعمل له، والمجاز: هو اللفظ الذي استعمل في غير ما وضع له، وهذا يستلزم العلم بالوضع والاستعمال، قال: أما الاستعمال فهو استعمال أهل اللسان، وهم العرب، قال: فهذا يحفظ، ولكن أين العلم بالوضع؟ وهذا نقد قوي في كلام شيخ الإسلام للمجاز، حيث إنهم يقولون: إن الحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له. فلابد إذاً أن نعرف الوضع ونعرف الاستعمال. ومن المعلوم أن الاستعمال هو استعمال العرب، لكن الوضع وضع من؟ ولهذا اعتنى علماء المعتزلة الذين دافعوا عن مسألة المجاز ببيان أصل اللغة .. هل هي قياسية، أو سماعية، أو أنها علِّمت لآدم، وكيف اختلف لسان البشر .. إلخ. فـ شيخ الإسلام رحمه الله -أحياناً- يعترض على مسألة المجاز حتى من الوجه الاصطلاحي اللفظي، وهذا من باب النقد الاستتباعي؛ بمعنى أنه إذا أراد أن يبطل المجاز باعتباره من عوارض المعاني فإنه يقول: لو أن شخصاً قصد إلى إبطال المجاز جملة وتفصيلاً حتى كاصطلاح، فإن هذا ممكن، فهو يريد أن يصل إلى أن المجاز كما أنه غلط من جهة كونه من عوارض المعاني كذلك يمكن إبطاله من جهة كونه من عوارض الألفاظ والاصطلاح، ومن المعلوم أنه إذا استطيع دفع المجاز باعتباره اصطلاحاً لفظياً فمن باب أولى أنه يمكن دفعه باعتباره من عوارض المعاني. فهو أراد أن يجوز إبطال المجاز حتى كاصطلاح لفظي ليتحقق بطريقة الأولى إبطاله باعتباره من عوارض المعاني. والنتيجة أن شيخ الإسلام ليس لديه موقف حاسم من المجاز كاصطلاح لفظي، وإن كان أحياناً ينقده استتباعاً، إنما موقفه الخاص من المجاز باعتباره من عوارض المعاني.

علاقة المعتزلة بنظرية المجاز في اللغة

علاقة المعتزلة بنظرية المجاز في اللغة فإن المعتزلة -وهم أخص من نظم نظرية المجاز في اللغة، وكثير منهم أساطين في العربية- نفوا الصفات بدلائل كلامية مولدة من الفلسفة، فلما انتهوا من النفي وانتهى مذهب المعتزلة إلى أن الرب سبحانه يمتنع قيام الصفات به، رأوا أن نصوص القرآن تعارض النتيجة التي قرروها، فلما وصلوا إلى هذا وهم قوم يسلمون بالقرآن وأنه حق؛ تأولوه حتى لا يعارض النتيجة التي انتهوا إليها.

نقد أدلة مذهب المعتزلة

نقد أدلة مذهب المعتزلة

اعتماد المعتزلة على أدلة مجملة في الكتاب

اعتماد المعتزلة على أدلة مجملة في الكتاب ولهذا نستطيع أن نقول: إن المعتزلة لم يستدلوا على نفي صفة واحدة -وهم ينفون سائر الصفات- بدليل مفصل من الكتاب أو السنة، بل دلائلهم المفصلة دلائل كلامية متلقاة عن الفلاسفة، وغاية ما يستدلون به من القرآن على مذهبهم آيات مجملة كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ففي الآية نفي التشبيه، وهذا صحيح، أن الله منزه عن الشبيه والمثيل. لكن يبقى ما هو حد التشبيه .. ؟ هذا هو محل النزاع.

حقيقة أدلة المعتزلة في نفي الرؤية

حقيقة أدلة المعتزلة في نفي الرؤية قد يقول قائل: إننا نرى أن المعتزلة نفوا الرؤية، واستدلوا لنفيها بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] واستدلوا بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] وهذان الدليلان دليلان تفصيليان فكيف نقول: إن المعتزلة لم يستدلوا بدليل تفصيلي في أي صفة مع أن هذين الدليلين مبسوطان في كتبهم؟ نقول: بغض النظر عن كون الاستدلال بهذين الدليلين من القرآن غلطاً، ولكن هب جدلاً أن الآيتين تدلان على نفي الرؤية؛ فإن غاية ما يمكن أن يقال: إن في الآيتين نفياً للرؤية؛ لا تدركه هذا نفي، لن تراني هذا نفي. فلو فرضنا جدلاً أن في الآيتين نفياً للرؤية فهل المعتزلة تنفي الرؤية؟ الجواب: المعتزلة تنفي الرؤية نفي امتناع، بمعنى أنها تقول: إن الرؤية ممتنعة على الله. والذي في القرآن أقصى ما يمكن أن يدل عليه هو النفي فقط، ومن المعلوم أن المنفي لا يلزم أن يكون ممتنعاً؛ فإن الشيء قد ينفى وهو ليس ممتنعاً، لكن لعدم ثبوت سنده، وإذا كان يتعلق بالله سبحانه لعدم مشيئته. إذاً: الشيء ينفى إما لكونه ممتنعاً في ذاته أو لكونه لم يشأه الله، والقرآن إنما نفى فقط، فلو كان المعتزلة يقفون عند القرآن المفصل لقالوا: الرؤيا منفية، والله أعلم هل تصح أو لا تصح؟ لكنهم لم يقفوا عند هذا، بل قالوا: الرؤية ممتنعة؛ مع أن الامتناع درجة أقوى من النفي المطلق، فهم قالوا قولاً أخص مما دل عليه ظاهر القرآن الذي لو فرض جدلاً أنه يدل على قولهم؛ وهذا يدل على أن المذهب زاد على الدلالة القرآنية. ومن هنا نقول: إن المعتزلة لا دليل لهم تفصيلي من القرآن في كل مسائل الصفات. إذاً: لما رأى القوم معارضة القرآن لنتيجتهم -التي هي نفي الصفات- أرادوا تأويل القرآن إلى قولهم، فجاءوا بنظرية المجاز هذه، وهذا هو الذي جعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يهاجم مسألة المجاز بقوة، فهم قالوا: إن جميع ما ورد في صفات الباري هو من باب المجاز، ومن قواعدهم التي قرروها في المجاز: إن المجاز يصح نفيه. وبهذا قرروا أنه ليس في القرآن دليل واحد على إثبات صفة واحدة؛ لأن كل الآيات من باب المجاز، والمجاز يصح نفيه .. ولا شك أن هذا من الطعن في القرآن. ولو فرض جدلاً صحة نظرية المجاز كنظرية لغوية فإن تطبيقها في مسائل الصفات ممتنع، وهذا له تفصيل آخر ليس هذا مقامه. لكن المهم فهمه هو سبب قصد شيخ الإسلام رحمه الله قصداً شديداً إلى رد مسألة المجاز.

الأصول التي اعتمد عليها مذهب المعتزلة

الأصول التي اعتمد عليها مذهب المعتزلة المحصل من هذا: هو أن المعتزلة ركبوا مذهبهم من أصلين: الأصل الأول: وهو الذي حصلوا به المذهب، وهو الدلائل الكلامية. الأصل الثاني: وهو الذي تأولوا به القرآن، وهو النظرية المجازية. ولهذا لو قال قائل: إن مذهب المعتزلة وكذا الأشاعرة -فيما يوافقون فيه المعتزلة كباب الصفات الفعلية- محصل بفهم لغوي، وقد عرف كثير من المعتزلة بالحذق في اللسان العربي، فهم فهموا القرآن بحسب كلام العرب؛ ولهذا لا يؤاخذون في قولهم؛ فإننا نقول: هذا الترتيب من جهة النظام العلمي غير صحيح؛ لأن المعتزلة أولاً رتبوا المذهب وحصلوه وانتهت نتيجته عندهم قبل النظر في المسألة اللغوية، فهم رتبوه ترتيباً عقلياً، حيث بنوه على دليل الأعراض، أما القضية اللغوية فقد استدعوها بعد انتهاء المذهب إلى نفي الصفات، لدرء التناقض بين المذهب والقرآن، فتأولوا القرآن بالمجاز. إذاً: لم يتكون مذهب المعتزلة بدلالة اللغة، إنما بدليل عقلي، وأخص الدلائل التي اعتبرتها المعتزلة دليل الأعراض وهو دليل عقلي فلسفي يقوم على مقدمات فلسفية، بل ألفاظه -أصلاً- لم تعرف عند العرب بنفس المقاصد التي قصدها المعتزلة، وسيأتي إن شاء الله ذكره. المهم: أن ما يشيعه الكثير من أن مذهب المعتزلة مذهب بني على فهم لغوي في القرآن لمسألة الصفات .. هذا غلط محض، فإن المعتزلة إذا أرادوا تقرير المذهب في كتبهم فإنهم يدخلون من جهة الدلائل الكلامية، وإذا انتهى تقرير المذهب يبقى المعارضة القرآنية للنتيجة، فيستدعون هنا مسألة اللغة عبر نظرية المجاز. وهذا حتى لا يقول قائل -كما يقول البعض ممن يتكلم في هذا أو يصنف في هذا، ولا سيما بعض الباحثين من المعاصرين-: أن السلف فهموا آيات الصفات من خلال لسان العرب، والمعتزلة فهموا آيات الصفات من خلال لسان العرب؛ فإن هذا غلط محض، فإن المعتزلة لم تستخدم اللسان العربي إلا كجواب عن معارضة القرآن لنتيجتهم التي حصلوها تحصيلاً كلامياً فلسفياً.

كذب المعتزلة والأشاعرة على طريقة السلف

كذب المعتزلة والأشاعرة على طريقة السلف [فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها: نبذ الإسلام وراء الظهر. وقد كذبوا على طريقة السلف]. قد كذبوا على طريقة السلف لما قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض، هكذا قال الأشاعرة، وقد كان المعتزلة يقولون: السلف مجسمة. وكلمة مجسمة تدل على أن السلف في فهم المعتزلة كانوا يثبتون إثباتاً حقيقياً، ولو كان السلف في فهم المعتزلة مفوضة لما قالوا عنهم مجسمة.

سبب خطأ الأشاعرة في فهم طريقة السلف

سبب خطأ الأشاعرة في فهم طريقة السلف [وسبب ذلك: اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة]. قوله: اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر، أي: اعتقادهم أن الله لا يتصف بالصفات الفعلية، فلما اعتقدوا بالشبهات التي تلقوها عن المعتزلة وأمثالهم أن الله لا يتصف بالصفات الفعلية قرروا أن مذهب السلف فيها هو التفويض، ومذهب الخلف فيها هو التأويل.

فساد الأدلة العقلية التي اعتمد عليها أهل البدع

فساد الأدلة العقلية التي اعتمد عليها أهل البدع [التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر -وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى- بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف، وهي التي يسمونها طريقة الخلف، فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع]. أما فساد العقل فلأن الدلائل التي استعملها هؤلاء لنفي الصفات دلائل فاسدة بالعقل كما أنها فاسدة بالشرع؛ ولهذا من قواعد شيخ الإسلام: أن كل دليل عقلي يستدل به مبتدع على قول؛ فإن الدلائل العقلية نفسها تدل على بطلان هذا الدليل فضلاً عن الدلائل الشرعية. ولهذا من الخطأ القول بأن الدليل العقلي يرد بالدليل السمعي وحده، بل يرد بالدليل العقلي الصحيح والدليل السمعي؛ لأن العقل لا يعارض السمع.

كل من استدل بدليل سمعي على بدعة فإن ذلك الدليل يدل على رد بدعته

كل من استدل بدليل سمعي على بدعة فإن ذلك الدليل يدل على رد بدعته من المعلوم أن من استدل بدليل سمعي على بدعة فإن الدليل السمعي -وهذه حقيقة بدهية- لا يدل على بدعته؛ لكن شيخ الإسلام يقول: وقد تأملت عند التحقيق واطرد الأمر عندنا في ذلك أن كل من استدل بدليل سمعي على بدعة؛ فإن هذا الدليل السمعي نفسه يدل على نقيض بدعته .. وهذا ما يسمى بقلب الدليل. مثال ذلك: أن من أخص أدلة المعتزلة على نفي الرؤية: قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] فهنا طريقتان للرد عليهم: إما أن يقال: إن الدليل لا يدل على نفي الرؤية .. وهذا بدهي وواضح. وإما أن يقال -وهذا الذي يستعمله شيخ الإسلام وبعض المحققين من أهل العلم-: إن الدليل نفسه يدل على إثبات الرؤية؛ لأن الله نفى الإدراك ولم ينف الرؤية، والإدراك قدر زائد على الرؤية، فإن من يرى الشيء لا يلزم أن يدركه. فلما نفى القدر الزائد دل على ثبوت ما دونه؛ لأنه لو كان المعنى من أصله منتفياً لما احتيج إلى نفي القدر الزائد. وقد قال رجل لـ ابن عباس: إن الله يقول: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23] ويقول: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] قال له ابن عباس: يا هذا! ألست ترى السماء؟ قال: بلى. قال: أتدركها كلها؟ قال: لا. قال: فالله أعظم. فكل من يبصر من بني آدم اليوم يرون السماء حقيقةً، لكن لا أحد من بني آدم يقول: إنه يدرك كل السماء على ماهيتها. وكذلك يرون الشمس لكن لا يدركونها إدراكاً حقيقياً، ففي هذه الآية قال الله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] لأن الله يرى ولا يدرك، وهذا من كماله، بخلاف المخلوقات؛ فإنها ترى وتدرك. وقد يقال: الشمس لا ندركها. فنقول: لكنها تقبل الإدراك، فأنت ترى البعيد فلا تدرك أهو امرأة أو رجل، لكن هذا البعيد الذي تراه الآن ولا تدركه يقبل الإدراك، بخلاف الباري سبحانه فإنه يرى ولا يدرك، كما أنه يُعلم ولا يحاط به علماً.

أنواع الأدلة العقلية التي اعتمد عليها مخالفو السلف

أنواع الأدلة العقلية التي اعتمد عليها مخالفو السلف [فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات]. هنا قاعدة: وهي أن المذاهب المخالفة للسلف رتبت مذاهبها ترتيباً قبلياً من النصوص، بمعنى: أن المذهب بني على دلائل كلامية خاصة، ثم بعد ذلك نظروا في النصوص فربما وفقوا بين بعض النصوص، أو تأولوا بعض النصوص، أو فوضوا بعض النصوص؛ حسب اختلاف المذاهب في هذا، ولكن يبقى أن المذهب -الذي نقول أنه مخالف للسلف- كأساس بني على أدلة يسمونها الدلائل العقلية، وهي دلائل على صنفين:

أدلة عقلية تفصيلية

أدلة عقلية تفصيلية الأول: تفصيلي، بمعنى: أنه يستدل به بعض أعيان المذاهب، ولا يستدل به البعض الآخر، فمن يرى أنه يؤيد المذهب يستعمله، ومن لا يراه كذلك لا يستعمله وهذا يختلف اجتهادهم فيه. مثلاً: في مسألة الصفات الفعلية عند الأشاعرة نجد أن الرازي يستدل بأدلة كثيرة فيها غير الأدلة التي أحياناً يستعملها الجويني، والأدلة التي يستعملها الجويني قد تختلف عن الأدلة التي يستعملها القاضي أبي بكر بن الطيب وأمثاله. فهذه الأدلة التفصيلية ليس لها ذاك الاهتمام في المذهب عند أصحابها، بمعنى أن بطلان هذا الدليل لا يوجب عندهم بطلان المذهب؛ فكل مذهب بل كل كتاب من كتب المتكلمين فيه أدلة تفصيلية، هذه الأدلة ليس لها ذاك الاعتبار عندهم؛ ولهذا نجد أنه يستدل بها بعض أعيانهم وبعض أعيانهم يردون عليه، فـ الرازي مثلاً يبطل أدلة الجويني ويأتي هو بأدلة جديدة. وهذه المسألة ليس لها ذاك الاهتمام، لأن هذا الدليل التفصيلي ضمن أدلة، فإذا صح الدليل أو لم يصح يبقى المذهب موجوداً، فإنه إذا أبطل الدليل رقم تسعة من أدلة الرازي في فهم الأشاعرة فإن هذا لا يعني إبطال المذهب؛ فإن عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول.

أدلة عقلية رئيسية

أدلة عقلية رئيسية الثاني: وهو الأدلة التي تعتبر معاقد المذاهب، بمعنى أنه إذا أبطل هذا الدليل بطل المذهب حتى عند أصحابه. وهذا النوع من الأدلة عند من خالف السلف في الأسماء والصفات ممن انتسب إلى القبلة، هي في الجملة ترجع إلى ثلاثة أدلة أصول، وغيرها أدلة تفصيلية مرتبة عليها، ليس لها ذاك الاعتبار الكبير عند أصحابها، فضلاً عن غيرهم.

الأدلة العقلية الرئيسية التي اعتمد عليها مخالفو السلف

الأدلة العقلية الرئيسية التي اعتمد عليها مخالفو السلف

دليل الأعراض

دليل الأعراض أخص هذه الأدلة: دليل الأعراض. وهذا الدليل استدل به المعتزلة، وكذلك الأشاعرة، والماتريدية، واستدل به كذلك المشبهة كـ هشام بن الحكم ومحمد بن كرام السجستاني. وقد يقول قائل: كيف يستدل بدليل واحد أقوام يختلفون في المذهب كالأشاعرة والمعتزلة، بل يتناقضون؛ فإن المعتزلة خلاف المشبهة، فكيف نقول: إن المشبهة كـ هشام بن الحكم يستدل بدليل الأعراض، والمعتزلة النفاة يستدلون بدليل الأعراض مع أن هذا مذهبه هو التشبيه وهذا مذهبه التعطيل، وبينهما نسبة تضاد. نقول: إن الخلاف يرجع إلى طريقة ترتيب المقدمات في الدليل، يعني كل مذهب يرتب مقدمات تختلف عن المذهب الآخر، فيلتزم نتائج تختلف عن نتائج الآخر، فيبقى أن الدليل بوجه عام يقال: هو دليل الأعراض، ولكن يختلف الترتيب في المقدمات والنتائج. مثلاً: المعتزلة يقولون: إن الصفات أعراض، وأن الأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام متماثلة ولا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث؛ لامتناع حوادث لا أول لها. والنتيجة من هذا أنهم قالوا بنفي الصفات. فهم جعلوا كل ما يقوم بالذات صفة سواء كان لازماً أو متعلقاً بالقدرة والمشيئة. فلما جاء أبو الحسن الأشعري قال: هذا دليل فلسفي. ثم التزمه بعد أن غير في مقدمته، فقال: العرض عندنا ليس الشيء اللازم، إنما الذي يعرض ويزول، أما اللازم فلا إشكال فيه. ومن هنا أثبت أبو الحسن الأشعري الصفات اللازمة؛ لأنها عنده لا تسمى أعراضاً، فهو قد حصر العرض فيما يعرض ويزول. وهو الشيء الذي يتعلق بالقدرة والمشيئة، ومن هنا نفى الأشعري وجميع أصحابه الصفات الفعلية. أما محمد بن كرام فهو يقول: إن دليل الأعراض يقود إلى إثبات الجسم، وبذلك أثبت الجسم لله وهلم جرا. إذاً: دليل الأعراض هو أكثر الأدلة شيوعاً في المخالفين. وقد ذم كثير من فضلاء أهل العلم والفقهاء وبعض فضلاء المتكلمين هذا الدليل، ولكن الذين ذموه -في الغالب- لم يسلموا من تأثيره، وهذا إذا تكلمنا في غير من حقق في مذهب أهل السنة، وإلا فإن السلف قد ذموا هذا الدليل، وكذلك أتباعهم ذموا هذا الدليل ولم يتأثروا به، لكن من كان من الفقهاء له تأثر بأقوال المتكلمين فإنه قد يذم هذا الدليل مع أن نتيجة المذهب الذي يلتزمه مبنية على نفس هذا الدليل. وبعبارة ممكن أن نلخصها: إن هناك تناقضاً أو عدم توافق بين الموقف النظري والموقف التطبيقي عند أكثر المتأخرين من المتكلمين، فهم يذمون شيئاً ومع ذلك يقعون في نفس ما ذموه أو في تأثير من تأثيره. إذاً: دليل الأعراض: هو أنهم جعلوا الصفات أعراضاً، ورتبوا هذا على أن الأعراض ما يقابل الجوهر، وهذا عند المعتزلة، أو العرض ما يعرض ويزول ولا يبقى زمنين عند الأشاعرة .. وهذا الكلام ليس قضية لغوية من لغة العرب، ولا قضية شرعية منصوص عليها في القرآن. وهذا يدلنا على أن هذه المذاهب كونت تكويناً في الأصل فلسفياً، لكن بحكم إسلامية أصحابها، وانتسابهم للقبلة -ولا شك أن الأشعرية من أهل الإسلام- استدلوا بمقاصد شرعية عامة، كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65]. وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] حيث قالوا: إن الأحد هو المنزه عن حلول الحوادث وهلم جرا. هذا الدليل هو أشهر الأدلة، وهذا الدليل -كما تقدم- إذا أبطل عند المعتزلة بطل مذهبهم، وإذا أبطل عند الأشاعرة بطل مذهبهم، حيث إن المذهب في حقيقته مرتب على هذا الدليل.

دليل التخصيص

دليل التخصيص الدليل الثاني: وهو دليل التخصيص. وهو دليل أشار إلى أصله ابن سينا في كثير من كلامه، واستعمله بعض الأشعرية الذين لهم اضطراب أو تطور كثير في المذهب، وأخص من استعمله أبو المعالي الجويني. وهو مقارب لدليل الأعراض، ونتيجته المحصلة: أن الصفات الفعلية تنتفي عن الله؛ لأن التخصيص هو -أي: التخصيص بالقصد المعين- المميز للحوادث، والرب سبحانه وتعالى منزه عن حلول الحوادث .. وعلى هذا الترتيب. وهذا الدليل ضيق في الغالب ليس له انتشار واسع.

دليل التركيب

دليل التركيب الدليل الثالث: وهو الدليل الذي استعمله من يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، وهو دليل التركيب، وهذا هو الذي بسطه ابن سينا في كتبه: كالإشارات والتنبيهات، وإن كان ابن سينا رجلاً له انتظامان في الفلسفة: الأول: انتظام عقلي نظري. الثاني: انتظام صوفي إشراقي، أي: أنه تارةً يكون كذا وتارةً يكون كذا. وهو في كتبه مرة على هذا التصنيف ومرة على هذا التصنيف. ومثال هذا: أن من أشهر كتب ابن سينا الإشارات والتنبيهات، هذا الكتاب مركب من الفلسفة النظرية والفلسفة الإشراقية، ولهذا يتكلم في مقامات العارفين كلاماً صوفياً إشراقياً، ويتكلم في مسائل التجريد كلاماً نظرياً عقلياً أحياناً. وفي كتابه الشفاء يستعمل -في الغالب- الطريقة الأرسطية، وإن كان أحياناً يدخل عليه الكلام في مسائل الإشراق والتصوف؛ ولهذا لما صنف كتاب الشفاء -وهو أكبر كتبه الفلسفية- قال: وما أودعناه في هذا الكتاب فهو جرياً على عادة المشائين وأما الحق الذي لا جمجمة فيه فهو ما أودعناه في الحكمة المشرقية يقصد الطريقة الصوفية. المهم: أن دليل التركيب هو المستعمل عند ابن سينا، وأبي نصر الفارابي، وأبي الوليد بن رشد .. إلخ. فهؤلاء المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام هم الذين استعملوا دليل التركيب. وهو دليل يقارب دليل الأعراض في النتيجة لكنه أغلى، أي: دليل غال في النتيجة؛ ولهذا أصحابه يبالغون في تعطيل الباري سبحانه وتعالى عن الصفات والأفعال. ولهذا كان مذهب ابن سينا -صاحب هذا الدليل- أن وجود الله وجود مطلق مجرد عن الصفات الثبوتية، وإنما يوصف بالسلوب والإضافات والمركبات، وهذا تعطيل لصفات الباري سبحانه وتعالى. وابن سينا هذا ليس له مقام يعرف، فقد كان إسماعيلي المذهب، باطني النشأة، ثم دخل في الفلسفة، واشتد قوله فيها، حتى أتى بمقالات الملاحدة الأرسطية وغيرها على طريقة معروفة في كتبه. المهم: أن هذه الأدلة الثلاثة هي معاقد الاستدلال عند المخالفين للسلف في بناء مذاهبهم التي عطلوا بها صفات الله أو عطلوا بعضها، وهذه هي التي قصدها المصنف في قوله: على أمور عقلية. إذاً: الأمور العقلية صنفان: 1 - صنف تفصيلي: وهذا لا عبرة به كثيراً؛ لأن أصحابه أنفسهم يتعارضون فيه. 2 - صنف هو معقد المذاهب، وهو ثلاثة أدلة: التخصيص، الأعراض، التركيب.

ما يلزم من يقول: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم

ما يلزم من يقول: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم [والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه]. حرفوا فيه الكلم عن مواضعه بما سموه تأويلاً. [فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين]. المقدمة الأولى: اعتقادهم انتفاء الصفات في نفس الأمر أو انتفاء بعض الصفات. المقدمة الثانية: اعتقادهم أن الدلائل العقلية التي تأولوا بها النصوص هي المحققة للحق في هذا الباب،. وإذا كان هذا القول في أصحاب المقالة الأولى - طريقة السلف أسلم .. إلخ - التي قالها من قالها من الأشعرية ومن وافقهم فالمقدمتان: الأولى: انتفاء الصفات في نفس الأمر. الثانية: أنهم اعتقدوا أن السلف كانوا مفوضة وأن الخلف تأولوا هذه النصوص. [كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم]. وذلك لأنهم جعلوا مذهبهم مذهب تفويض، فهم يقرءون القرآن ولا يعرفون معناه كما وصف الله بذلك قوماً: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ} [البقرة:78] أي: إلا قراءة. [فاعتقاد أنهم كانوا قوماً أميين بمنزلة الصالحين من العامة لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصد السبق في هذا كله. ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلال]. قوله: ثم هذا القول أي: قوله بأن مذهب السلف أسلم لكونه تفويضاً، ومذهب الخلف أعلم وأحكم لكونه تأويلاً. وإذا كان المصنف سيصل إلى نتيجة هي أن هذا القول واضح الفساد والامتناع -وهو قول فضلاء الأشاعرة- فمن باب أولى قول غلاة الأشاعرة، فمن باب أولى قول المعتزلة، فمن باب أولى قول المتفلسفة. فمن دقة عرض شيخ الإسلام أنه إذا أراد النقد أو المعارضة لمذاهب متسلسلة قصد أقربها إلى الحق فأبطله بالعقل والسمع؛ لأنه إذا تبين أن أقربها إلى الحق وأفضلها باطل سمعاً وعقلاً فمن باب أولى ما فوقه. فهو رحمه الله كثيراً ما يقصد إبطال طريقة من يسميهم بفضلاء الأشاعرة؛ ليتحقق بطريقة الأولى بطلان طريقة غلاة الأشاعرة، ليتحقق بطريقة الأولى الثانية بطلان مذهب المعتزلة، وبطريقة الأولى كذلك بطلان طريقة الجهمية الغالية، ثم بطلان مذهب المتفلسفة.

تناقض مقالة: طريقة السلف ... مع حال الخلف

تناقض مقالة: طريقة السلف ... مع حال الخلف [كيف يكون هؤلاء المتأخرون لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه أمرهم حيث يقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم]. يقول المصنف: كيف يقال هذا القول مع أننا نجد أن أئمة الخلف هؤلاء -يعني: أئمة الأشاعرة- صرحوا في كتبهم بأن طريقتهم لم توصلهم إلى حق؟

اضطراب الشهرستاني وحيرته

اضطراب الشهرستاني وحيرته فـ الشهرستاني قال في مقدمة كتابه: نهاية الإقدام: وقد طلب مني من طاعته غنم وإجابته حتم أن أكتب له ما تحصل عندنا في هذا الباب، ولعمري لقد استسمن ذا ورم. ثم قال كلاماً وأنشأ بعده أو تقلد هذين البيتين في مقدمة كتاب نهاية الإقدام، فقال: لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم وقد رد عليه من رد من أصحاب السنة، فقال: لعلك يا أستاذ ما زرت أحمداً ... رسول الهدى المبعوث من آل هاشم أي: لو أنه أتى لمعين مذهب السلف لأصابه. فإن الشهرستاني قطعاً لم يفهم مذهب السلف؛ لأنه شرح مذهب السلف في كتابه الملل والنحل شرحاً غلطاً، بل من العجب أنه خالف جمهور أصحابه وقال: إن السلف كان منهم مشبهة! وهذا القول لا يقوله جمهور الأشاعرة، ولهذا وإن كان كتابه الملل والنحل من أكبر كتب المقالات وأوسعها، لكنه من أجهل الكتب بتحصيل مذهب السلف.

اضطراب الرازي وحيرته

اضطراب الرازي وحيرته [وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشدين له فيما صنفوه من كتبهم كقول بعض رؤسائهم: نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذىً ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]. {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] واقرأ في النفي: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي]. هذا الكلام لـ محمد بن عمر الرازي، وهو عمدة المتأخرين من الأشاعرة. وهو في كتابه أقسام اللذات وهو مخطوط لم يطبع. وهذه النتيجة وقعت لخلق من الأشعرية وغيرهم -وبخاصة الأشاعرة- حيث يتبين لهم أن المسلك الكلامي الذي سلكوه ليس صواباً، فيميلون إلى تعظيم الطريقة المأثورة عن سلف الأمة، وإن كانوا في الجملة لا يهتدون إليها -أي: إلى تفاصيلها- عند التحقيق، وهذا الذي وقع فيه أبو المعالي الجويني في رسالته النظامية، ويقع في كلام محمد بن عمر الرازي في مثل هذا السياق، وكذلك في كلام أبي حامد الغزالي؛ فإنه رجع إلى مذهب أهل السنة باعتبار أنه تبين له أن الحق في طريقة السلف، وإن كان لم يصب التعريف، وربما قصد مقاصد في مسائل الأحوال والتصوف وأضافها إلى مقامات الأئمة، ولا سيما من عرفوا بالعبادة من متقدمي أئمة السلف واشتهروا بها. فهذا لا يحصل به أن هؤلاء رجعوا إلى مذهب أهل السنة رجوعاً متحققاً من جهة تقرير المسائل، وإن كانوا يذكرون رجوعهم ويتبين لهم أن ما سلكوه غلطاً، لأنهم لا يهتدون إلى مذهب السلف على التفصيل، بل يهتدون إليه مجملاً، وربما اهتدوا إلى مذهب يفارق المذهب الذي كانوا عليه يظنون أنه مذهب السلف، مثل ما وقع لـ أبي المعالي الجويني في الرسالة النظامية؛ فإنه ذكر أن التأويل محرم وأن الصواب ما عليه سلف الأمة، والتزم مذهب السلف لكن ظن أن مذهب السلف هو التفويض.

اضطراب الجويني وحيرته

اضطراب الجويني وحيرته [ويقول الآخر منهم: لقد خضت البحر الخضم، وتركت أهل الإسلام وعلومهم، وخضت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لفلان، وها أنا أموت على عقيدة أمي]. هذا النقل لإمام الحرمين أبي المعالي الجويني، وهو من كبار أئمة الأشعرية، وقد تقدم أنه ممن مال بالمذهب الأشعري عن طريقة المتقدمين لكثرة عناية الأشاعرة في زمنه بمسألة الرد على أصناف المخالفين، بما في ذلك بعض الطوائف الفقهية وبخاصة الحنابلة، وقد صنف كتباً من أخصها كتاب الشامل، وكتاب اللمع، وكتاب: الإرشاد إلى قواطع الأدلة وكما يظهر من وسم هذا الكتاب أن الجويني يقرر في هذا الكتاب قواطع من الأدلة، ولهذا استعمل الجزم الصريح في هذا الكتاب. ثم في الرسالة النظامية رجع عن أكثر ما قرره في هذا. ففي الرسالة النظامية رجع في مسألة الصفات عن التأويل إلى التفويض، وفي مسألة القدر رجع عن مسلك الأشعرية في مسألة الكسب، وأن العبد له إرادة مسلوبة التأثير، إلى قول مركب من قول أهل السنة وقول المعتزلة ونزعة فلسفية، فصار قوله في الجملة قولاً مركباً، ليس سلفياً محضاً وليس معتزلياً محضاً وليس فلسفياً محضاً، إنما فيه تركيب من أوجه كثيرة، مع بقية بقيت عليه من قول أصحابه.

اضطراب الغزالي وحيرته

اضطراب الغزالي وحيرته [ويقول الآخر منهم: أكثر الناس شكاً عند الموت أصحاب الكلام]. هذه الجملة نسبت لـ أبي حامد الغزالي صاحب الإحياء، وهو من تلاميذ أبي المعالي الجويني. وغرض المصنف من هذه النقولات أن يبين أن هذه المذاهب الكلامية قد شهد أصحابها على فسادها. والملاحظ أن هذه النقولات هي عن متأخري الأشعرية، والموجب لهذا أن مقصود المصنف بالرد كان هذا الصنف من المتكلمين، ولكن هذا لا يعني أنه لا يوجد في كلام غيرهم ممن هم أشد منهم غلطاً في هذا الباب كالمعتزلة وغيرهم ما هو من جنس هذا.

من دلائل بطلان مذاهب المتكلمين رد كل طائفة منهم لمقالة الأخرى

من دلائل بطلان مذاهب المتكلمين رد كل طائفة منهم لمقالة الأخرى من الدلائل على بطلان مذاهب المخالفين: أن الطائفة الواحدة من المتكلمين تقع في إبطال مقالة الطائفة ودلائلها المقابلة لها، مع أن مذهبهم مبني على قاعدة واحدة، هي القاعدة الكلامية. بمعنى أن الأشاعرة يحكمون على مذهب المعتزلة بالفساد، والمعتزلة يحكمون على مذهب الأشاعرة بالفساد، مع أن المادة الكلامية واحدة! بل أخص من هذا أن البغداديين من المعتزلة يفارقون البصريين من المعتزلة في تقرير كثير من الدلائل والمسائل، وبين هذين الطائفتين تنازع كثير، ومن ذلك ما صنفه أبو رشيد النيسابوري في مسائل الخلاف بين البصريين والبغداديين من المعتزلة. وكذلك نجد ما هو أخص من هذا: وهو أن أعيان أئمة البصريين من المعتزلة أو أعيان أئمة البغداديين من المعتزلة يقع التعارض بين الشيخ وتلميذه، فمثلاً: أبو الهذيل العلاف منظر مدرسة المعتزلة، كان من أصحابه أبو إسحاق النظام - إبراهيم بن سيار النظام - ومع ذلك وقع بين أبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام نزاع شديد في طريقة تحصيل المذهب على طريقتين متناقضتين. بل ما هو أخص من هذا، وهو: أنه في كلام الواحد من أعيان أئمة المتكلمين الكبار اضطراب كبير في كثير من المسائل، كما تقدم في حال أبي المعالي الجويني، فإنه يقرر في كتب مقامات ويقرر في بعض الكتب الأخرى ما يناقض هذه المقامات، وكما تقدم معنا في كلام أبي الحسن الأشعري أيضاً مع قربه من أهل السنة والجماعة، وكذلك ما يقع في كلام بعض أعيان المعتزلة .. وهلم جرا. وفي المتفلسفة الأمر أشد؛ ولهذا نجد أن أبا الوليد بن رشد يتناقض كثيراً، وكذلك ابن سينا في كتبه يتناقض كثيراً، فهو مرة يمتدح الطريقة العقلية ويصححها، ومرة يشير إلى الطعن عليها ويصحح طريقة التصوف والعرفان .. وهلم جرا. إذاً: الناظر في مقالات هؤلاء باعتبار طوائفهم أو باعتبار الطائفة الواحدة بين أصحابها، أو باعتبار الواحد منهم، يجد أن في كلامهم تناقضاً كثيراً، ولا شك أن التناقض دليل على الفساد، ولهذا كان من الدلائل على أن القرآن من عند الله أنه ليس فيه اختلاف: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ولا يرى شيء من ذلك فيما يتعلق بمذهب السلف. وهنا تظهر النتيجة من هذا، وهو أنه ليس هناك طائفة من طوائف المخالفين للسلف إلا وبين أصحابها نزاع كثير في تقرير الدلائل والمسائل. وهذا قدر واسع جداً، ولا يرى شيء من ذلك يقع في كلام أئمة السلف، فإنهم متفقون في الدلائل ومتفقون في المسائل، وإذا قيل: إنهم متفقون في الدلائل فهذا لا يعني أن كل دليل يستدل به إمام يلزم أن يكون هذا الدليل مستعملاً عند سائر الأئمة، ولكن الذي يلزم أنه ما من مسألة من مسائل أصول الدين إلا وفيها أدلة أجمع السلف على الاستدلال بها، ويكون ثبوت المسألة وتحققها بهذه الأدلة المجمع عليها. وبعض الأئمة يجمعون مع الاستدلال بالنصوص الصريحة الاستدلال بشيء من الظواهر التي قد لا يسلم بها بعض الأئمة، فهذا الاختلاف ليس من باب الاختلاف في الدلائل عند السلف؛ لأن هذا الاختلاف إنما يكون اختلافاً من جنس اختلاف المتكلمين لو كانت المسائل لا تثبت إلا بهذه الأدلة التي يقع فيها شيء -أحياناً- من النزاع. إذاً السلف مذهبهم مذهب متفق من جهة دلائله ومسائله، أما المخالفون فمذهبهم ليس متفقاً لا من جهة دلائله ولا من جهة مسائله؛ وبهذا يعلم أن دلائل المعتزلة التي يذكرها بعض أعيانهم يمكن أن يذكر الرد عليها من كلام بعض أعيان المعتزلة الآخرين، فضلاً عن كلام الأشاعرة على المعتزلة، فضلاً عن كلام السلف على المعتزلة. وكذلك بعض كلام الأشاعرة يمكن رده بكلام بعض أعيانهم، وإن كان هذا المقام إذا ذكر لا يلزم بالضرورة أن يكون مطرداً، فإنك قد ترى بعض الأدلة التي تتفق عليها طائفة من الطوائف فتحصل بها مذهباً، وترى بعض المسائل تتفق عليها الطائفة وتحصل بهذه النتيجة اتفاقاً يضافون وينتسبون إليه، كالأصول الخمسة التي التزمها المعتزلة في الجملة، ولكن لهم في طرق تقريرها طرق مختلفة. فالقصد: أن هذه الدلائل يدخلها التعارض كثيراً، وهذا هو مقصود المصنف رحمه الله من ذكر هذا المقام، وهو: تقرير أن المخالفين للسلف هم في قول مختلف يؤفك عنه من أفك، أي: أنهم مختلفون فيما بينهم متناقضون في تقرير أقوالهم، وإن كانوا أحياناً يطلقون في كتبهم كثيراً من الإجماع، بل تجد بعضهم يقول: أجمع المسلمون على كذا. ولا يكون هذا صحيحاً في نفس الأمر. ومن الأمثلة على ذلك: أن الجويني كثيراً ما يقول في كتبه: والدليل على ذلك إجماع المسلمين. مع أن القول الذي حكى فيه الإجماع ليس إجماعاً للمسلمين، بل ولا إجماعاً لأهل السنة والمنتسبين إليها، بل ولا إجماعاً للأشعرية وحدها. ومن أمثلة نقله للإجماع قوله: أن وجوب النظر على المكلفين إجماع عند المسلمين. مع أن هذا لم توجبه طائفة بعينها بإجماعها، حتى مَنْ هم أخص من تكلم بمسألة النظر وهم المعتزلة، وعن المعتزلة دخل القول بمسألة وجوب النظر على الأشاعرة، حتى قال أبو جعفر السمناني: القول في إيجاب النظر في مذهبنا -يعني مذهب الأشعرية- بقية بقيت فيه من مذهب المعتزلة. فأصلاً القول بإيجاب النظر هو مبني على أصول القدرية نفاة القدر، ولهذا لا يمكن إثباته على أصول الكسبية الأشعرية مثبتة القدر الغالية في إثباته، ولكن حتى المعتزلة أصحاب النظر طائفة من أئمتهم لا يوجبونه، ويرون أن المعرفة تقع ضرورية، ومن هؤلاء الجاحظ الكاتب المعتزلي المعروف، وثمامة بن الأشرس، وأبو إسحاق البلخي وجماعة من أكابر علماء المعتزلة؛ والخلاف بين الأشعرية في عدم إيجاب النظر مشهور. فالقصد: أن ما يقع في بعض كتب المتكلمين من دعوى الإجماع هذا لا يلتفت إليه، فإنهم من أجهل الناس بالإجماع.

من أوجه فساد مقولة: طريقة السلف ...

من أوجه فساد مقولة: طريقة السلف ... [ثم هؤلاء المتكلمون المخالفون للسلف إذا حقق عليهم الأمر لم يوجد عندهم من حقيقة العلم بالله وخالص المعرفة به خبر، ولم يقعوا من ذلك على عين أو أثر، كيف يكون هؤلاء المحجوبون، المفضولون، المنقوصون، المسبوقون، الحيارى، المتهوكون أعلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكم في باب ذاته وآياته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، من ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل، وأعلام الهدى، ومصابيح الدجى]. هذا التقرير تقرير نظري، أي: أنه يمتنع بالعقل أن يكون المحجوبون، المفضولون، المسبوقون، الحيارى، المتهوكون أعلم في باب أسماء الله وصفاته من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان .. وهذا قاطع من قواطع النظر العقلي الشرعي. [الذين بهم قام الكتاب وبه قاموا، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء فضلاً عن سائر الأمم]. ولهذا لم يمتدح الله في القرآن من بعدهم إلا من اتبع هداهم: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100] عام في سائر من اتبعهم ولو تأخر زمنه. [فضلاً عن سائر الأمم الذين لا كتاب لهم]. يشير المصنف بقوله هذا إلى المتفلسفة الذين دخل قولهم على المسلمين. [وأحاطوا من حقائق المعارف وبواطن الحقائق بما لو جمعت حكمة غيرهم إليها لاستحيا من يطلب المقابلة! ثم كيف يكون خير قرون الأمة أنقص في العلم والحكمة -لا سيما العلم بالله وأحكام أسمائه وآياته- من هؤلاء الأصاغر بالنسبة إليهم؟! أم كيف يكون أفراخ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان وورثة المجوس والمشركين وضلال اليهود والنصارى والصابئين، وأشكالهم وأشباههم، أعلم بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان؟! وإنما قدمت هذه المقدمة لأن من استقرت هذه المقدمة عنده عرف طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره وعلم أن الضلال والتهوك إنما استولى على كثير من المتأخرين بنبذهم كتاب الله وراء ظهورهم، وإعراضهم عن ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من البينات والهدى، وتركهم البحث عن طريقة السابقين والتابعين، والتماسهم علم معرفة الله ممن لم يعرف الله بإقراره على نفسه، وبشهادة الأمة على ذلك، وبدلالات كثيرة. وليس غرضي واحداً معيناً وإنما أصف نوع هؤلاء ونوع هؤلاء]. يستخدم المصنف هذه الإضافات أتباع الهند واليونان وورثة المجوس .. إلخ لأن لديه جزماً قاطعاً أن العلم الكلامي علم مولد من الفلسفة، وإن كان ضُمِّن بعض المقدمات العقلية المجردة عن الفسلفة، وكذلك بعض المقدمات الشرعية المجملة كمقدمة تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل المذكورة في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وبعض المقاصد الشرعية الفاضلة كأن الله مستحق للكمال منزه عن النقص، فإن هذه يشترك فيها حتى المتكلمون مع أهل السنة؛ ولهذا المصنف يقول: إن أهل القبلة اتفقوا على أن الله مستحق للكمال منزه عن النقص، ثم اختلفوا في تحقيق المناط.

قاعدة: الإسناد من الدين وعلاقتها بهذا الباب

قاعدة: الإسناد من الدين وعلاقتها بهذا الباب هذا هو نهاية المقصد الأول في رسالة المصنف، وهي هذه المقدمة التي قال فيها: وإنما قدمت هذه المقدمة لأن من استقرت هذه المقدمة عنده عرف طريق الهدى أين هو في هذا الباب وغيره. وهذه المقدمة -كما قال المصنف- تصح في هذا الباب وتصح في غيره؛ ولهذا قال من قال من السلف: إن الإسناد من الدين. فهذا وإن كانوا ذكروه في أعيان الأحاديث النبوية المروية بالإسناد المسلسل، إلا أن الأمر يقع كذلك هنا، فإن الدين لابد أن يتلقى بالإسناد، بمعنى أنه: ما كان من الدين ليس مأثوراً عن الصحابة رضي الله عنهم فإنه لا يكون من الدين الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنه إذا لم يتخذ مذهب الصحابة رضي الله عنهم فيصلاً في هذا المقام فإن الدعوة من جهة الاستدلال بالشرع -أعني: الكتاب والسنة- تكثر عند الطوائف؛ ولهذا كان السلف رحمهم الله يلتزمون القول بأن الدلالة هي دلالة الكتاب والسنة والإجماع؛ ولهذا كان من أخص مسائل الفرق بينهم وبين مخالفيهم من قدماء أهل البدع أن مخالفيهم لم يعتبروا إجماع الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب، وأول من خرج عن إجماع الصحابة من أهل البدع الخوارج، ثم جاءت المعتزلة فالمرجئة فالمتكلمة والقدرية .. إلخ، فهذا الاعتبار بهذه القاعدة.

ملخص المقصد الأول من مقاصد الرسالة الحموية

ملخص المقصد الأول من مقاصد الرسالة الحموية إذاً: هذا هو محصل المقصد الأول في كلام المصنف، يمكن أن نلخصه بالآتي:

اعتبار أصول الدين بالكتاب والسنة والإجماع

اعتبار أصول الدين بالكتاب والسنة والإجماع أن القول في باب الأسماء والصفات باتفاق أهل القبلة من القول في أصول الدين، وإذا كان كذلك فإن أصول الدين تعتبر -أي: يعتبر القول فيها- بالكتاب والسنة والإجماع؛ فإنه من المعلوم بالضرورة الشرعية والعقلية أن الله سبحانه وتعالى أكمل لهذه الأمة دينها، وأخص ذلك ما يتعلق بأصول الدين وهو التوحيد -توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات-.

تلقي الصحابة لأصول الدين وفقههم لها وتبليغهم إياها

تلقي الصحابة لأصول الدين وفقههم لها وتبليغهم إياها فإذا علم بالضرورة أن باب الأسماء والصفات مقرر في القرآن والسنة النبوية فإن هذا البيان القرآني النبوي تلقاه الصحابة رضي الله عنهم وفقهوه، والدليل على أنهم تلقوه وفقهوه على التحقيق -أي: كما أراد الله سبحانه وتعالى - أن الله أثنى عليهم بالعلم والإيمان في كتابه، وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه، ويمتنع أنه سبحانه يثني بهذه المقامات على من لم يفقه ما يتعلق بمسائل أصول الديانة، وبأخص ما يتعلق بمعرفة الباري سبحانه وتعالى، وإذا تحقق فقه الصحابة لهذا الباب فإن الصحابة بلغوه التابعين، ويمتنع عدم ذلك بأنه لا يقع إلا من جاهل أو قاصد كتمان الحق، والصحابة منزهون عن الجهل في هذا الباب، منزهون عن قصد كتمان الحق. وفي زمن التابعين ظهرت مقالة تعطيل الصفات فأبطلها أئمة التابعين بما هو معروف في كتب السنة المسندة، وهذا متواتر في كلام الأئمة، وهذا يدل على أن القول الذي اتخذه هؤلاء الأئمة في مقابل قول الجهمية هو الحق الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. فهذا هو إسناد مذهب أهل السنة: أنه ينتهي إلى هؤلاء الأئمة الذين تلقوا عن الصحابة، المتلقين عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم.

اضطراب أقوال المخالفين وتناقضها واختلافها

اضطراب أقوال المخالفين وتناقضها واختلافها ثم إن في أقوال أصناف المخالفين قدراً معروفاً من التناقض والاختلاف والاضطراب في هذا الباب، وإذا نظرت في أقرب هؤلاء الطوائف إلى قول أهل السنة والحديث -وهم أئمة الأشعرية كـ أبي الحسن الأشعري - وجدت في كلامهم من مخالفة الكتاب والسنة في كثير من الموارد ما هو متحقق بالجزم، فإذا كان ذلك كذلك فمن باب أولى ما يقع في كلام متأخريهم، فضلاً عن المعتزلة، فضلاً عن المتفلسفة. هذا محصل هذا المقصد، وقد حصل المصنف به هذه المقدمة الضرورية التي دائماً تحقَّق: أن الأقوال معتبرة بهذه الأصول الثلاثة، وأن المخالفين في موقع المخالفة لا يكون قولهم مبنياً على الكتاب والسنة ولا الإجماع. وعِلْم سائر الطوائف بأنها مفارقة للسلف أمر مستقر في الجملة، حتى إن المتأخرين من الأشاعرة صرحوا أن مذهب السلف ليس هو مذهب التأويل، وهذا التفصيل من حيث هو يدل على أن ثمة فرقاً بين ما كان عليه السلف وما كانوا عليه، وإن لم يصيبوا في تعيين مذهب السلف حيث قالوا: إنه التفويض.

علم الكلام علم مولد ليس من علوم الإسلام

علم الكلام علم مولد ليس من علوم الإسلام مقصود المصنف رحمه الله من هذا أنه ليس له غرض في تعيين أحد بعينه، وإنما يصف نوع هؤلاء -أي: السلف- من جهة ما حصلوه من الحق وما التزموه من الوحي، وما وقع فيه المخالفون لهم من أصناف الطوائف، وخاصة أن إسناد الطوائف الكلامية يترقى في الضلال، بمعنى أنه يترقى من الأقرب إلى الحق إلى الأبعد عن الحق، ولهذا في الغالب أن الإسناد كلما يترقى يقع الغلط فيه أكثر، وإن كان هذا ليس بالضرورة أن يكون مطرداً، لكن أصول هذه المقالات -وهذه المسألة يعنى شيخ الإسلام بتقريرها، وهو أخص من قررها في المتأخرين؛ ولابد لطالب العلم أن يفقهها: وهي أن المذاهب الكلامية بأسرها معتزلةً أو أشعريةً أو ماتريدية- مذاهب مولدة من مقدمات فلسفية، وهذا لا يقع فقهه إلا لمن نظر في هذه الكتب بالتأمل، فترى أن القواعد الفلسفية التي كانت تُنقل عن أرسطو طاليس أو غيره هي أصول في هذه المذاهب، وإن كانت هذه المذاهب حتى المعتزلة مذاهب مولدة وليست مذاهب فلسلفية منقولة -أي: صريحة-. ومن هنا كان علم الكلام ليس علماً له سابقة قبل الإسلام، فلو بحث باحث في التاريخ قبل الإسلام فإنه لا يجد علماً يسمى علم الكلام، فهو علم نشأ في المسلمين، لكنه مولد من الفلسفة مع مقاصد من العقل بل ومقاصد من الشرع المجمل؛ ولهذا لا تعجب أن ترى في كتب المتكلمين بعض الاستدلال ببعض الآيات، ولكن كما تقدم أنه في المعتزلة خاصة لا يتحصل استدلال مفصل بالقرآن، وإن كانوا قد يستدلون، لكن لا تجد التطابق بين الاستدلال والمذهب، وهذا بخلاف الأشاعرة، فإنهم قد يستدلون بآيات من القرآن ويكون الغلط من جهة استدلالهم. المحصل: أن العلم الكلامي علم مولد، وقد شهد بعض أعيان المتكلمين الكبار على علم المعتزلة -وهو علم كلامي- أنه علم فلسفي، ونقول: هذه الشهادة تنقلب حتى على المذهب الأشعري؛ لأنه أخذ جزءاً من مذهب المعتزلة سواء كان ذلك في الدلائل أو في المسائل، فهم في هذا القدر وافقوا المعتزلة، وبهذا القدر وافقوا أهل السنة، والدليل على ذلك: أنه قبل عبد الله بن سعيد بن كلاب كان الناس أحد صنفين: الأول: مثبتة للصفات على طريقة السلف. الثاني: نفاة للصفات على طريقة المعتزلة والجهمية. وإن كان هناك مشبهة الصفات، إلا أن هؤلاء شأنهم ظاهر، لكن أخص الأصناف ما يتعلق بمثبتة الصفات وهم السلف، أو نفاة الصفات وهم الجهمية والمعتزلة، ثم جاء الكلابية والأشعرية والماتريدية فأثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضاً؛ ولهذا تجد دلائل الأشاعرة في محل الإثبات تقارب كثيراً دلائل السلف، وتجدهم في موضع النفي ينسجون على نفس دلائل المعتزلة.

شرح الحموية [5]

شرح الحموية [5] من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى مستو على عرشه، عال على خلقه بائن عنهم، كما دلت على ذلك الأدلة الكثيرة في الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة، بل إن فطرة بني آدم على اختلاف مشاربهم واتجاهاتهم تقر بأن الله تعالى عال على خلقه بائن عنهم، ولم يخالف في ذلك إلا أتباع فلاسفة اليونان، الذين أنكروا هذا، معتمدين في ذلك على سخافات عقولهم، بعد أن تركوا كتاب ربهم وسنة نبيهم.

تقرير مسألة العلو

تقرير مسألة العلو قال المصنف رحمه الله: [وإذا كان كذلك فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها، ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء]. قوله: إما نص أي أنه قاطع في الدلالة. وإما ظاهر أي أنه ظاهر في الدلالة وإن لم يكن قاطعاً بمنزلة النص. ينتقل المصنف هنا إلى المقصد الثاني، فبعد بيانه لإسناد مقالة السلف يعني بتقرير مسألة العلو: أي أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه.

سبب اعتناء السلف بمسألة العلو

سبب اعتناء السلف بمسألة العلو وهي مسألة للسلف فيها عناية كثيرة، فإن فيها -مسألة العلو- ومسألة الكلام، والرؤية .. كلاماً للسلف من جهة التفصيل والتقرير أظهر من كلامهم في غيرها من الصفات وأشهر، وخاصة مسألة العلو .. وذلك لأن من أثبت علو الله سبحانه وتعالى لابد أن يقع له إثبات جملة من الصفات، وبطريقة أدق: كل من نفى علو الله سبحانه وتعالى فإنه رتب نفي كثير من الصفات على انتفاء العلو. مثلاً: من المسائل التي أنكرها المعتزلة: الرؤية. فما هو دليل المعتزلة الذي ظنوه قاطعاً على نفي الرؤية؟ هو دليل مبني على نفي العلو، وهو ما يسميه المعتزلة في كتبهم دليل المقابلة، وهذا الدليل هو أخص دليل للمعتزلة نفوا به الرؤية، بمعنى أنه إذا بطل هذا الدليل بطل المذهب، وإن كانوا يستدلون بدليل الاضطباع، وبظاهر قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] وقوله: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] لكن كما تقدم أن استدلالهم بالقرآن ليس محققاً لا من جهة الصواب ولا من جهة موافقة المذهب. إذاً: بنى كثير من النفاة -من الجهمية والمعتزلة- نفي كثير من الصفات على ما ظنوه من تحقق انتفاء العلو بالعقل، والحق أن مسألة العلو -أعني: علو الباري سبحانه وتعالى - هي من أظهر المسائل ثبوتاً، بل إنها أظهر ثبوتاً من كثير من الصفات التي نفوها بنفيهم لمسألة العلو؛ لأنه ليس كل الصفات يدل على ثبوتها العقل مع الشرع، فبعض الصفات صفات تعلم بالشرع وحده، وإذا قلنا: إنها تعلم بالشرع وحده، فهذا لا يعني أن العقل يمكن أن يعارض هذا المثبت بالشرع، ولكن العقل لا يدل عليه قبل ورود الشرع، ولكن عند ورود الشرع فإن العقل يقبله ولا ينافيه.

أنواع الصفات من جهة أدلتها

أنواع الصفات من جهة أدلتها ولهذا يمكن أن نقول كقاعدة من جهة دلائل الصفات: إن الصفات على نوعين: الأول: صفات تثبت بدلالة العقل والسمع. الثاني: صفات تثبت بدلالة السمع والعقل لا ينافيها. ومن ذلك الذي يثبت بالسمع وحده ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر) فهذا النزول لولا خبر النبي صلى الله عليه وسلم به ما كان لأحد أن يهتدي إليه عقله، وهذا الخبر النبوي لا ينافيه العقل، فهذه صفة تثبت بالسمع. والله سبحانه وتعالى موصوف بأنه الخالق، وموصوف بالقدرة .. فهذه الصفات معلومة بضرورة الفطرة وضرورة العقل مع أن الشرع صرح بها. وكذلك صفة العلو صفة دلت عليها الفطرة، فإن الخلق مفطورون على أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وكذلك دل عليها العقل، ودل عليها الشرع في آيات متواترة وأحاديث متواترة. وقد اتفق نفاة العلو من المتفلسفة والجهمية والمعتزلة والمتأخرة من الأشاعرة على أن الله لا يسأل عنه بأين، وهذا مخالف لما ثبت في الصحيح من حديث معاوية بن الحكم في قصة الجارية، لما قال معاوية: (وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قبل أحد والجوانية، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون لكنني صككتها صكةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظم ذلك علي، فقلت: يا رسول الله أعتقها؟ قال: ائتني بها. قال: فأتيته بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: أعتقها؛ فإنها مؤمنة). فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو أعلم الخلق بالله سأل هذه الجارية -مع أنها ليست من أهل العلم المختصين-: أين الله؟ مما يدل على أن هذا لا ينافي كمال الرب سبحانه. والإمام أحمد رحمه الله -كما يذكر هذا شيخ الإسلام كثيراً- كان ممن يستدل على ثبوت العلو في رده على المخالفين بمسألة العقل، قال: فإن الله خلق الخلق -أي: خلق العالم- وهو سبحانه وتعالى منزه عن الحلول في هذا الخلق، فيجب بضرورة العقل أن يكون بائناً عنه، وإذا كان بائناً عنه سبحانه وتعالى فإما أن يكون أعلى وهو العلي الأعلى، وإما أن يكون محايفاً، وإما أن يكون أسفل، والمحايفة والسفل نقص ينزه عنه الباري، فتعين أنه سبحانه بائن من خلقه فوقهم ومقصود السلف بالعلو ليس هو أن الله سبحانه وتعالى في السماوات المخلوقة، كما يقال: إن الملائكة في السماء. فإن الله منزه عن المخلوقات كلها، فهو الأول ليس قبله شيء، والآخر ليس بعده شيء، والظاهر ليس فوقه شيء، والباطن ليس دونه شيء -أي: لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء-.

سبب آخر لاعتناء المصنف بمسألة العلو

سبب آخر لاعتناء المصنف بمسألة العلو وهناك غرض آخر جعل المصنف يقرر مسألة العلو، وهو أن قدماء الأشاعرة كـ أبي الحسن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا يثبتون علو الله سبحانه، وإن كانوا يتأولون مسألة الاستواء على العرش، وهذا قول أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني، وقبل هؤلاء هو قول أئمة الكلابية الأولى، وأخصهم عبد الله بن سعيد بن كلاب. لكن لما جاء المتأخرون من الأشاعرة كـ أبي المعالي ومن بعده نفوا مسألة العلو واستعملوا فيها نفس منهج المعتزلة؛ ولما جاء المتأخرون بعد هذا كـ محمد بن عمر الرازي زاد الأمر سوءاً فقال: إن الذين يثبتون الجهة -يقصد: العلو- هم من طوائف الأمة الحنابلة والكرامية، وإلا فإن سائر الأمة اتفقت على تنزيه الله عن الجهة وقد شاع هذا عند متأخري الأشاعرة؛ ولهذا بدأ يوصف الحنابلة -قبل زمن شيخ الإسلام، وأدرك رحمه الله هذا- أنهم مثبتة للجهة، بل أصبح هذا الوصف مختصاً بهم؛ لأنه لم يكن للكرامية ظهور يذكر خاصة في بلاد العراق وبلاد الشام، وإن كان لهم بعض الظهور في بلاد العجم. فعني شيخ الإسلام في كتبه ببيان أن أبا الحسن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا مثبتةً للعلو، فضلاً عن إثبات سائر أئمة السنة والجماعة، أي: يقصد أنه حتى أئمة الأشاعرة كانوا مثبتةً لمسألة العلو، ولهذا المصنف عني ببيان هذه المسألة، وأنها مسألة فطرية عقلية شرعية؛ ولهذا استدل بعد ذلك بشعر أمية بن أبي الصلت مع أنه رجل لم يسلم، وإن كان أدرك النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يؤمن به، وقد كان متحنفاً، وله إصابة في التوحيد مجملة لكنه لم يدخل في دين الإسلام .. فلهذين الغرضين عني المصنف بهم. إذاً المقصد الثاني، وهو ذكر مسألة العلو لغرضين: الأول: لأنها مسألة أصل عند السلف وعند الطوائف، فالتحقيق فيها يتحصل به تحقيق في جمهور الصفات. الثاني: لأن متأخري الأشاعرة نفوها وقدماءهم كانوا يثبتونها، وزعم بعض متأخريهم -أعني الأشعرية- أن إثباتها مختص بالحنبلية والكرامية.

أدلة العلو

أدلة العلو

الأدلة من الكتاب

الأدلة من الكتاب [وهو فوق كل شيء، وهو على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء مثل قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك:16 - 17] {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] ((ثم استوى على العرش)) في ستة مواضع، {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:36 - 37]]. ذكر طائفة من السلف أن أول من صرح بإنكار العلو هو فرعون، والآية صريحة أن موسى كان يخاطب فرعون وقومه أن الله في السماء، ولهذا قال فرعون: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:37] ولو لم يكن موسى عليه الصلاة والسلام يخاطبه بأن الله في السماء لما تقصد هذا المقصد. وهذه الآيات التي يستدل بها المصنف صريحة في الدلالة على أن الله موصوف بالعلو، ولكن هنا ينبه في طريقة الاستدلال عند أهل السنة أنهم يسلكون أنواعاً من الأدلة، تحت كل نوع أفراد: الآيات أو الأحاديث التي ذكرت الفوق .. الآيات التي ذكرت أن الله في السماء .. الآيات التي ذكرت الصعود أو العروج .. وهلم جرا. ومثل هذا في مسألة كلام الله، فكل آية في القرآن فيها نداء: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) .. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) هي دليل على إثبات كلام الله؛ لأن النداء يكون من المتكلم، والقرآن كلام الله. كذلك كل آية أضيف فيها القول إليه سبحانه هي دليل على إثبات الكلام. كذلك كل آية فيها إنباء من الله هي دليل على إثبات صفة الكلام. كل آية فيها أمر من الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. كل آية فيها نهي .. وهلم جرا. ولهذا نرى بعض أهل السنة يقول -مثلاً- إن دلائل الكلام في الكتاب والسنة -أي: إثبات كلام الله- تقارب الألف دليل فهم يحصلونها بهذه الطريقة: أنه أنواع، وتحت كل نوع أفراد. وعن هذا قال بعض أصحاب الشافعي من المحققين: إن دلائل العلو في الكتاب والسنة تبلغ نحو الثلاثمائة دليل أي: على هذه الطريقة، وهي طريقة الاستدلال بمسألة النوع وتحت كل نوع أفراد. وهذا مثله مثل مسألة الإيمان؛ فإن أصناف الأدلة الدالة على أن الإيمان قول وعمل متنوعة في الكتاب والسنة؛ ولهذا أوصل بعض الأئمة دلائل مسألة الإيمان إلى نحو الألف دليل على هذه الطريقة؛ ومثله ما يتعلق بالصفات الفعلية، فقد ذكر شيخ الإسلام أن في القرآن مائة وبضع عشرة آية دالة على إثبات الصفات الفعلية. [{تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام:114] إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بكلفة]. (مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ) وهذا دليل على علو الله؛ لأن النزول يكون من أعلى .. وهكذا.

الأدلة من السنة

الأدلة من السنة [وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة]. هنا ينبه في طريقة شيخ الإسلام رحمه الله أنه قد يستدل ببعض الأحاديث التي اشتهر تضعيفها عند الحفاظ المتأخرين، ولكن لا يقع لـ شيخ الإسلام رحمه الله أنه يستدل بحديث انضبط تركه عند أئمة السلف؛ وهذا لأنه يعتبر استدلال بعض أئمة السلف بمثل هذه النصوص مسوغاً لهذا الاستدلال؛ ولهذا ليس بالضرورة أنه يلتزم الصحة هنا، ولكنه إذا رأى أن الأئمة استعملوه في استدلالهم فإنه قد يسلك ما يستعمله الأئمة. ولهذا تجد أنه استدل ببعض الأدلة أحياناً، لكنه لما سئل عنها على وجه التخصيص مال إلى تضعيفها. فالقصد: أنه لا يستدل بحديث انضبط ضعفه تماماً، وإنما قد يستدل ببعض الأحاديث التي فيها بعض الكلام؛ ومع ذلك هذا النوع من الأحاديث المسألة لا تنبني عليه من كل وجه، فيكون ضعفه دليلاً على ضعف المسألة؛ لأن المسألة ثابتة بنصوص متواترة. وشيخ الإسلام رحمه الله إذا استدل بمثل هذا النوع من الأحاديث، وإن كان قد يتردد فيها من جهة السند أحياناً لكنه يجزم بأن معناها حق، فيستدل بها موافقةً لمن استدل بها من المتقدمين. وقد يطعن في بعض الأحرف من الأحاديث حتى مما في الصحيح -في صحيح مسلم بخاصة- أو في بعض الأحاديث المشتهرة الصحة، وله سلف في هذا من متقدمي الأئمة، وهذا ككلامه في حديث التربة، وكلامه فيما جاء في حديث ابن عباس المتفق عليه، وإن كانت هذه الرواية تفرد بها مسلم، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يرقون ولا يسترقون) فقوله: لا يرقون هي من أفراد مسلم، وقد ذكر شيخ الإسلام أن هذا الحرف غلط، واستدل لتغليطه بطرق. القصد: أنه يستعمل أحياناً مثل هذا النوع، فهو يعتبر مسألة الاعتبار في الاستدلال بمسائل الموافقة لأصول الشريعة وعموم النصوص، أو يعتبر التضعيف أحياناً بهذا الاعتبار إذا لم يكن الحديث أو حرف منه موافقاً للأصول العامة؛ فإنه ينتهي إلى ضعفه وإن لم يشتغل بسنده كثيراً. [مثل قصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار: (فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم) وفي الصحيح في حديث الخوارج: (ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء صباحاً ومساءً). حديث الخوارج متواتر، فقد رواه مسلم من عشرة أوجه، روى البخاري طائفةً منها، وقال الإمام أحمد: صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه. [وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره: (ربَنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمةً من رحمتك وشفاءً من شفائك على هذا الوجع). هذا الحديث متكلم فيه، لكن كما تقدم لم ينضبط ضعفه ورده. [قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء ..) وذكره، وقوله في حديث الأوعال: (والعرش فوق ذلك، والله فوق عرشه وهو يعلم ما أنتم عليه) رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وقوله في الحديث الصحيح للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: اعتقها فإنها مؤمنة)]. قوله: في الحديث الصحيح للجارية مع أن الحديث في مسلم، وقد تقدم أن المصنف لا يلتزم الاصطلاح المشهور عند متأخري الحفاظ دائماً. [وقوله في الحديث الصحيح: (إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي) وقوله في حديث قبض الروح: (حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله تعالى) وقول عبد الله بن رواحة الذي أنشده للنبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه: شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره من شعره فاستحسنه وقال: (آمن شعره وكفر قلبه) حيث قال: مجدوا الله فهو للمجد أهل ... ربنا في السماء أمسى كبيرا بالنباء الأعلى الذي سبق الناس ... وسوى فوق السماء سريرا شرجعاً ما يناله بصر العين ... ترى دونه الملائكة صُورا] استدلاله بقول أمية بن أبي الصلت يبين به أن هذا كان متقرراً حتى عند العرب في جاهليتها؛ لأنه من مسائل الربوبية. وقد قصد العرب الذين كفروا بالقرآن إلى منازعة النبي صلى الله عليه وسلم فيما أوتي وفي نبوته بطرق يعلم جمهورهم أنها باطلة، كقولهم: إنه ساحر، ومجنون، وهذا القرآن إنما يعلمه بشر إلى غير ذلك، ومع ذلك لا نرى أحداً من الجاهليين -مع أنهم من أجمد الناس عقلاً- قصد إلى دعوى أن هذه الصفات التي ذكرها القرآن في حق الله تتعارض مع العقل، وهذا يدل على أن العقل الذي عناه المتكلمون في قولهم: إنها معارضة للعقل. ليس هو العقل الاعتيادي البشري الذي هو عقل غريزي في الناس، إنما مقصودهم بالعقل: معلومات عقلية فلسفية. فإن أحداً من الجاهليين الذين قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر أو مجنون مع أنهم يعلمون فساد ذلك، لكن لأنهم لم يجدوا عليه مدخلاً، ولو كان عقل أحدهم يهتدي إلى أن شيئاً من الصفات -مع أنهم يسمعون القرآن فيه وصف الله بالرحمة والغضب والسمع والبصر والعلو والقدرة إلى غيرها- الفعلية واللازمة، ولم يتكلم أحد من المشركين، بل ولا حتى اليهود الذين كانوا بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو كانوا عنده في المدينة أو بجواره في المدينة في الطعن في شيء من الصفات المذكورة في القرآن، بحجة أنها تنافي كمال الله أو تخالف العقل. وهذا استدلال فاضل، وهو من طرق أهل السنة للاستدلال على الصفات. وقد تقدم أن الجاهليين كانوا يذكرون هذه المقاصد العامة؛ لأنها مقاصد ربوبية؛ ولهذا ترى أن بعض علماء السنة كـ شيخ الإسلام لما قسم التوحيد قال: إنه توحيد خبري وتوحيد طلبي إرادي. والتوحيد الخبري يدخل فيه توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، فأصله باب محكم حتى في العقول والفطر -أعني باب الأسماء والصفات- وإنما كان الجاهليون ينازعون في مسألة توحيد العبادة والطلب. وبهذا يتبين أن ما وقع فيه المتكلمون إنما هو من أحكام الفلسفة وليس من أحكام العقل، ولو كان العقل يدل على شيء من هذا التردد أو الاعتراض لكان من أسبق الناس إليه الجاهليون أو اليهود أو الذين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إليهم وكتب إليهم، فإنه صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أنس في الصحيح- كتب إلى كل جبار يدعوه إلى الله، ولم يُنقل أن أحداً ممن كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغه وفده أو بلغته دعوته من المشركين واليهود والنصارى والمجوس وغيرهم اعترض على ما يتعلق بمسألة المعرفة الإلهية في صفات الله سبحانه وتعالى؛ ولو كان في شيء من العقل ما يقتضي ذلك لذكروه. ومن ذلك أن طرفة بن العبد كان يثبت مسألة المشيئة لله في أفعاله، مع أن المعتزلة لما جاءت قالت: إن الله لم يشأ أفعال العباد. مع أن قضية أن الله شاء أفعال العباد قضية فطرية، حتى الجاهليون كانوا يقرون بها، ولهذا يقول طرفة: فلو شاء ربي كنت قيس بن عامر ... ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد فأصبحت ذا مال كثير وزارني ... بنون كرام سادة لمسود إذاً: كان يثبت أن ما تحصل له من الأحوال هو على مشيئة الله سبحانه وتعالى. وبهذا يتبين أن هذه المسائل -خاصة مسائل الصفات ومسائل القدر- هي مسائل -في الجملة- فطرية عقلية. [وقوله في الحديث الذي في المسند: (إن الله حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفراً) وقوله في الحديث: (يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب!). وهذا الحديث في الصحيح من حديث أبي هريرة.

دليل الفطرة

دليل الفطرة [إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علماً يقينياً من أبلغ العلوم الضرورية أن الرسول صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش، وأنه فوق السماء كما فطر الله على ذلك جميع الأمم، عربهم وعجمهم، في الجاهلية والإسلام، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته]. إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته لأن الأصل في هذا الباب أنه على الفطرة وعلى مدركات العقل بما يشاهد في آيات الله الكونية التي يشترك فيها جملة الناس، أو الآيات الشرعية التي هي من الفقه والعلم الذي يختص به أهل الإيمان. فقوله: إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته لأن الانحراف عن الفطرة هو من اجتيال الشياطين، لهذا جاء في الصحيح من حديث عياض بن حمار المجاشعي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قال الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم، فأتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا به ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ...) إلى آخر الحديث، وكان هذا قبيل بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فالمقصود: أن هذه الدلائل المتواترة من الكتاب والسنة والعقل والفطرة قاطعة بأن الله موصوف بالعلو.

اعتماد نفاة العلو على طريقة السبر والتقسيم في نفي العلو

اعتماد نفاة العلو على طريقة السبر والتقسيم في نفي العلو هنا قد يقول قائل: كيف انتهى مذهب المعتزلة والمتأخرين من الأشاعرة إلى نفي هذه المسألة؟ نقول: إذا عُرفت قاعدة هؤلاء في طرق تحصيلهم لصواب قولهم وغلط المقابل له يزول هذا الإشكال: هذه الطوائف يستعملون طريقةً منطقية مأخوذة من المنطق الأرسطي، وهي ما تسمى في المنطق المترجم بطريقة السبر والتقسيم، وهي: أن يفرض في هذه المسألة جملة من الأقوال العقلية بحيث لا تخرج الفرضية العقلية عن هذه الأقوال، فإذا فرضوا القسمة -مثلاً- بأربعة فإنهم يقصدون إلى إبطال ثلاثة، والباقي يكون هو الحق دون أن يحتاج إلى استدلال آخر، وإذا فرضوا القسمة باثنين فإنهم يبطلون واحداً فيكون الباقي هو الحق؛ لأنه إن فرض بطلانه لزم رفع النقيضين -كما يقولون- ورفع النقيضين ممتنع. وهذه الطريقة يقول عنها شيخ الإسلام رحمه الله: إنها من أضعف الطرق في العقل. فهؤلاء المعتزل قالوا: إما أن يكون الله في السماء. ولم يفهموا من أنه في السماء إلا كما يكون الملائكة في السماء، وكما تكون الجنة في السماء، أي أنه شيء مخلوق يحوي الباري سبحانه وتعالى ويحيط به .. ! أو يُنفى عن الله سبحانه وتعالى هذا الوصف مطلقاً، ويقال كما يقول المتفلسفة: لا داخل العالم ولا خارجه. أو يقولون: ليس له مكان، أو لا يقبل العلو، أو لا يقبل الجهة .. إلى غير ذلك. فهم يحصلون بالعقل وحتى بالشرع أن الله لا يليق به أن يكون في السماء، بمعنى أنه في سماء تحويه كما أن الملائكة في السماء والجنة في السماء .. أليس هذا منتفياً بالعقل والشرع؟ فلما نزهوا الله عن هذا -وهذا حق- ظنوا أنه لا يبقى إلا ما يقابله، وهو شيء واحد، وهو: أنه ينفى العلو عن الله مطلقاً، ويقال: ليس له مكان، أو يقال -كما تقول المتفلسفة ومن شاركهم من المعتزلة-: لا داخل العالم ولا خارجه، أو يقال: لا يوصف بأنه داخل العالم ولا خارجه، أو لا يقبل الأين أو لا يقبل الزمان والمكان .. وهلم جرا من الإطلاقات التي يستعملونها في هذا الباب. فطريقة السبر والتقسيم هي معتبرهم، ولهذا إذا نظرت في استدلال المعتزلة على مسألة العلو تجد أن كل الأدلة التي نفوا بها العلو تتجه إلى أن إثبات العلو يستلزم إثبات قديم مع الله؛ لأنهم فهموا أن الله في السماء، أي: أنه في سماء تحويه، وبالطبع ليس هذا هو فهم السلف، بل قال أبو حنيفة رحمه الله: من زعم أن الله في سماء كما أن الملائكة في السماء فقد كفر بالله العظيم. ولهذا تجد المعتزلة يقولون: لو كان في سماء للزم تعدد القدماء لأنهم لم يفهموا من كونه في السماء إلا كما تكون الملائكة في السماء، من أن هذا ليس هو مذهب السلف رحمهم الله. إذاً: طريقة السبر والتقسيم هي التي استعملها المخالفون في تقرير مذهبهم، كذلك لما جاءوا لمسألة تعارض العقل والنقل نظموها على طريقة السبر والتقسيم كما سيأتي إن شاء الله في كلام المصنف وهذه الطريقة طريقة غلط.

غلط نفاة العلو في طريقة السبر والتقسيم

غلط نفاة العلو في طريقة السبر والتقسيم كيف نقول: إنها غلط؟ من جهة أن الحق ليس فيما سبروه وقسموه، فإنهم سبروا في مسألة العلو باثنين: الأول: نفي العلو مطلقاً. الثاني: إثبات الحلول. فيقال: الحق ليس في هذا ولا في هذا، بل الحق أن الله فوق سماواته بائن من خلقه، وهو غني عن الخلق. وكيف يكون سبحانه وتعالى محتاجاً إلى شيء من الخلق وقد وسع كرسيه السموات والأرض؟! وكيف يكون محتاجاً إليهم وهو الذي خلقهم؟! فكل هذا مما يخالف ضرورة العقل فضلاً عن دلائل الشرع. إذاً المحصل: أن طريقة السبر والتقسيم هي الطريقة التي يستعملها المخالفون للسلف في تحقيق مذهبهم. ومعنى السبر أنهم يسبرون الفروضات العقلية في المسألة المعينة. والتقسيم هو: إيراد الابتلاء للمسألة حتى يتحقق الحق منها ويتبين الغلط، فيقولون: الأول يمتنع، وهو أنه سبحانه وتعالى يوصف بالحلول، فلما امتنع هذا علم بالضرورة أن الحق في الثاني؛ لأنه لم يبق إلا هو. نقول: (لم يبق إلا هو) هذه دعوى؛ لأن الحق ليس في هذا القول ولا وفي هذا القول. وهذا مثل مسألة: أن طريقة السلف التفويض وطريقة الخلف التأويل، يظنون أنه لا يصح في هذا الباب إلا أحد مسلكين؛ ولهذا لما رجع الجويني عن التأويل رجع للتفويض؛ لأنهم يظنون أنه لا يمكن في العقل إلا تفويض أو تأويل، والحق ليس في هذا ولا هذا. ومثله في القدر، فهم يسبرون بطريقتين، يقولون: إما أن يقال بالجبر وإما أن يقال بالقدر، إما العبد مجبور أو العبد مستقل يخلق فعل نفسه. فالمذاهب المخالفة تدور على هذين المذهبين، والصواب أن السبر من أصله غلط؛ فإن الحق ليس في الجبر ولا في الاستقلال، والحق ليس في التفويض ولا في التأويل، والحق ليس في الحلول ولا في نفي العلو .. وهلم جرا. فهذه الطريقة -أعني: طريقة السبر والتقسيم- هي طريقة شائعة في كلام المخالفين، مع أنهم بهذه الطريقة إنما يحصلون نفي الأول -إذا كان السبر والتقسيم باثنين- ولا يحصلون إثبات الثاني.

أثر عقيدة نفي العلو على الأمة

أثر عقيدة نفي العلو على الأمة [ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفاً]. وهذا متواتر في كتب السنة. [ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من سلف الأمة -لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان، ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف- حرف واحد يخالف ذلك لا نصاً ولا ظاهراً، ولم يقل أحد منهم قط: إن الله ليس في السماء، ولا إنه ليس على العرش، ولا إنه بذاته في كل مكان، ولا إن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا إنه لا داخل العالم ولا خارجه، ولا إنه لا متصل ولا منفصل، ولا إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها. بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يقول: (ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم. فيرفع إصبعه إلى السماء ثم ينكبها إليهم ويقول: اللهم اشهد) غير مرة، وأمثال ذلك كثيرة]. وهذا كان في حجة الوداع، وقد ذكر الحاكم رحمه الله أن عدة من حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أو وافوه في حجه في عرفة مائة ألف وبضعة عشر ألفا. فكيف يسع أحد أن يقول بأن الله سبحانه وتعالى لا يصح السؤال عنه بأين مع أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن ربه بأين؟ كيف يسعه أن يقول: إن الله ليس في السماء، ثم يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه؟ فإن من يقول: إنه لا داخل العالم ولا خارجه .. هذا رفع للنقيضين حقيقة وإثبات للعدم؛ ولهذا لم تنقل هذه الجملة إلا عن أئمة المتفلسفة كـ ابن سينا وأمثاله الذين لم يكن من تلقوا عنه -وهو أرسطو طاليس - يثبت رباً خالقاً لهذا العالم، بل كان يثبت علةً غائية، وهو - أرسطو طاليس - أصلاً لم يتكلم في مسألة واجب الوجود فضلاً عن الخالق .. الخ، إنما كان يتكلم في مسألة العلة والمعلول، ومقصوده بالعلة: ليس العلة الفاعلية إنما العلة الغائية، ولهذا كان يثبت قدم المعلول ويرى أن العلة تتقدم على معلولها بالشرف والعلية وليس بالسبق الزماني. هذه المذاهب هي التي شاعت -مع الأسف- في كثير من متكلمة المسلمين، وبسببها -أي: بسبب القول: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه- شاع الحلول عند غلاة الصوفية كـ ابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وابن الفارض وأمثال هؤلاء الذين مالوا إلى نقيض مذهب نفي العلو، وهو القول بوحدة الوجود التي قررها ابن عربي في الفصوص والحكم، وزعم أنها مأخوذة من مشكاة خاتم الأولياء، وأنها لم يشر إليها في القرآن إشارة صريحة. وقد ذكرها ابن سبعين في رسائله كرسالة بد العارف، وذكرها ابن الفارض في نظمه السلوك، وهو يذكر مسألة التوحد، مع أنه حاول أن يبين أن طريقته طريقة شرعية، لذلك حاول الاستدلال ببعض الصور التي وقعت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كمجيء جبريل في صورة دحية بن خليفة الكلبي، أو طريقة تنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهو يقول بمسألة وحدة الوجود، ولكنه يحاول دعوى أن طريقته مبنية على الكتاب والسنة، والكتاب والسنة براء من طريقته. فهو يقول بعد أن ذكر نظماً طويلاً حكى فيه قصة مجيء جبريل على صورة دحية، قال: ولي من أتم الرؤيتين إشارة ... تنزّه عن رأي الحلول عقيدتي وفي الذكر ذكر اللبس ليس بمنكر ... ولم أعْدُ عن حُكْمَي كتاب وسنةِ ولا شك أنه لم يقع على حكم الكتاب ولا على حكم السنة.

من لوازم القول بنفي العلو أن الله ورسوله لم يبينوا للأمة هذه المسألة

من لوازم القول بنفي العلو أن الله ورسوله لم يبينوا للأمة هذه المسألة [فلئن كان الحق ما يقولوه هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة من هذه العبارات ونحوها، دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصاً وإما ظاهراً، فكيف يجوز على الله تعالى؟! ثم على رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم على خير الأمة: أنهم يتكلمون دائماً بما هو إما نص وإما ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصاً ولا ظاهراً حتى يجيء أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل فاضل أن يعتقدها]. أي: كيف وسع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو كان الحق أن الله ليس في السماء، أو أنه ليس له مكان، أو أنه في كل مكان، أو لا داخل العالم ولا خارجه، لو كان الحق مثل هذه العبارات كيف وسع النبي أنه لم يصرح بها يوماً واحداً لأحد من الصحابة، بل كان يصرح بنقيضها، فيقول: (أين الله؟ فتقول الجارية: في السماء). ويرفع إصبعه إلى السماء في أعظم مجمع حضره النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (اللهم اشهد) وينزل عليه القرآن صريحاً في إثبات العلو ولا يبين لأصحابه أنه على خلاف ظاهره كما تقول المعتزلة .. ؟؟ فلو كان القرآن ليس على ظاهره -كما يقول النفاة- للزم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين للأمة أن القرآن ليس على ظاهره؛ لأن هذا القرآن يسمعه الخاصة والعامة، ويسمعه العرب والعجم، ويسمعه حديث عهد بالإسلام ويسمعه المتفقه .. وهلم جرا. وقد تقدم أن المصنف يصر على هذه الإضافة - أنباط الفرس والروم وفروخ اليهود والنصارى والفلاسفة - لأن لديه جزماً أن العلم الكلامي مأخوذ عن الفلسفة. " على كل مكلف أو كل فاضل" مقصوده بهذا التنويع الرد على بعض المخالفين الذي إذا أورد عليه: كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين الحق في مسألة العلو؟ وكيف خاطب الناس بخلاف الظاهر؟ وكيف نزل القرآن بخلاف الحق؟ قال: إن هذا ليس اعتقاداً لسائر المكلفين، بل هو لفاضلهم من أصحاب العلم والاختصاص، فيقول المصنف هنا: كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين هذا مع أنه إما أن يكون واجباً على سائر المكلفين أو هو الحق في حق الفاضلين من المكلفين؟؟ وهذا بحسب اختلاف الطوائف التي ترى أن هذا هو حق على سائر المكلفين أو حق على فاضلهم. [لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب، وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم]. على مجرد عقولهم لأنه يقول: إننا إذا سألناهم: من أين تحصل نفي العلو؟ قالوا: بدلالة العقل، فهم لا يقولون بدلالة النقل، بل يقولون: بدلالة العقل، والنقل يعارضه ويحتاج إلى تأويل. وعلى هذه الطريقة يلزم أن يكون النقل الذي هو الكتاب والسنة زاد الخلق ضلالاً؛ لأن العقل الصحيح -على ظنهم وزعمهم- يقود إلى نفي العلو والقرآن جاء بإثبات العلو، ولهذا احتاج -حتى عندهم- النقل عند المعتزلة وأمثالهم إلى التأويل؛ ولهذا يبين المصنف أن لازم هذا أن يكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم في باب الصفات؛ وهذا لأن النصوص هنا عارضت المحصلات العقلية -على زعمهم- والتي يزعم المخالفون للسلف أنها هي الحق، فيكون ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم. [وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصاً أو ظاهراً، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير]. لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير؛ لأن النفي حُصل بدلائل العقل، والنقل عارض العقل، واحتاج النقل إلى التأويل؛ إذاً لو كان العقل وحده هو الحاكم لكان أسلم؛ مما يدل على بطلان هذا وامتناعه، فإن الله سبحانه وتعالى جعل الكتاب هدىً للناس، ووصف نبيه وهو أفضل الناس عقلاً وفطرةً بقوله: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:52] وقال سبحانه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ} [يوسف:3].

كيفية تقرير المصنف لمذاهب المخالفين

كيفية تقرير المصنف لمذاهب المخالفين [بل كان وجود الكتاب والسنة ضرراً محضاً في أصل الدين، فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفياً وإثباتاً، لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقاً له من الصفات فصفوه به، سواءً كان موجوداً في الكتاب والسنة أم لم يكن، وما لم تجدوه مستحقاً له في عقولكم فلا تصفوه به]. هذا هو محصل وحقيقة مذهب المخالفين للسلف: أن معرفة الصفات تنبني على العقل وليس على الشرع. وهنا ينبه إلى أن ما يحصله المصنف في تقرير مذهب المخالفين هو على نوعين: الأول: يكون من مقالاتهم وحقيقة مذهبهم الذي يقررونه .. فهذا يعطون أحكامه المتعلقة به المناسبة له من جهة الشرع في باب الأسماء والأحكام. الثاني: وهو من باب اللوازم، ولازم المذهب ليس مذهباً لصاحبه، وإن كان يذكر ليتبين بهذا اللازم فساد المذهب، فإن اللازم إذا كان فاسداً دل على أن المذهب نفسه فاسد، فـ شيخ الإسلام يعتبره لنقض المذاهب لا من باب أخذ هؤلاء بمذهبهم، فمثلاً: أن مذهب المعتزلة نفي الصفات .. هذا مذهب، أما أن مذهب المعتزلة أن الله موصوف بالنقص لنفيهم الصفات .. فهذا لازم، ولهذا المعتزلة لا تصرح باللوازم؛ لأنهم لو صرحوا باللوازم كفروا كفراً صريحاً؛ ولهذا وإن كان مذهبهم من جهة الحقيقة واللازم هو النقص، إلا أنهم يظنون أنه الكمال، وهذا من أسباب درء التكفير عنهم -أي: عن أعيانهم- وإن كان قولهم قولاً كفرياً لا شك في ذلك.

ملخص المقصد الثاني من مقاصد الرسالة الحموية

ملخص المقصد الثاني من مقاصد الرسالة الحموية هنا ينتهي المقصد الثاني وهو: ذكر المصنف لمسألة العلو. لذلك نعطي تلخيصاً يسيراً له:

غرض المصنف من ذكر مسألة العلو

غرض المصنف من ذكر مسألة العلو المقصد الثاني ذكر المصنف فيه مسألة العلو لغرضين:- الغرض الأول: أنها مسألة مختصة في هذا الباب ينبني على ثبوتها ثبوت جملة من الصفات، وقد بنى المخالفون فيها نفي كثير من الصفات على نفيها، كنفي المعتزلة للرؤية بدليل المقابلة الذي حقيقته نفي العلو، فإن الرؤية إنما انتفت عند المعتزلة لأنها تستلزم ثبوت العلو الذي يسمونه الجهة؛ ولهذا صار في هذه المسألة اختصاص عند سائر الطوائف. الغرض الثاني: أن مقصود المصنف في هذه الرسالة الحموية هو نقض مذهب متأخري الأشاعرة -كطبقة أبي المعالي ومن بعده، ومحمد بن عمر الرازي وأمثاله- الذين من أخص مسائلهم نفي العلو. وقد زعم بعض أئمتهم -كـ الرازي - أن إثبات الجهة -الذي هو إثبات العلو وإن كان لفظ الجهة لفظاًَ لم يرد في الكتاب والسنة- مختص بالحنابلة والكرامية، مع أن الحق في نفس الأمر: أن أئمة الأشاعرة كـ أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني وأمثالهما، فضلاً عن أئمة الكلابية كـ عبد الله بن كلاب وأبي العباس القلانسي وأبي علي الثقفي وأبي عبد الله بن مجاهد، فضلاً عن سائر أئمة السنة والحديث يثبتون علو الله سبحانه وتعالى على ما هو مقرر في كتب السنة والجماعة، وقد صرح الأشعري في الإبانة والرسالة إلى أهل الثغر بمسألة العلو، وكذلك ابن كلاب -والأشاعرة يعدونه من شيوخهم، وإن كان متقدماً على أبي الحسن الأشعري - صرح في كتاب الصفات بإثبات العلو والفوقية، واستدل لذلك بالكتاب والسنة والعقل، وهو معتبر في مذهب الأشاعرة -أعني ابن كلاب - ولهذا يقول عنه البغدادي كثيراً: وقال شيخنا عبد الله بن سعيد بن قطان -وأحياناً يقول: ابن كلاب - كما يقول عن أبي الحسن الأشعري: وقال شيخنا. وقال أبو محمد بن حزم عن ابن كلاب: وهو شيخ قديم للأشعرية.

شرح الحموية [6]

شرح الحموية [6] انقسم المخالفون للسلف في باب الأسماء والصفات إلى قسمين: منهم من يرى نفي ما لم يثبته العقل، ومنهم من يرى التوقف فيما لم يثبته العقل، وذلك لأنهم قرروا وجود تعارض بين العقل والنقل، ومن ثم قالوا: إذا تعارض العقل والنقل فإنه يقدم العقل على النقل، وهذه المقالة مقالة فاسدة باطلة من وجوه كثيرة.

أصناف المخالفين في باب الأسماء والصفات

أصناف المخالفين في باب الأسماء والصفات قال المصنف رحمه الله: [ثم هم هاهنا فريقان: أكثرهم يقولون: ما لم تثبته عقولكم فانفوه. ومنهم من يقول: بل توقفوا فيه، وما نفاه قياس عقولكم - الذي أنتم فيه مختلفون ومضطربون اختلافاً أكثر من جميع من على وجه الأرض - فانفوه، وإليه عند التنازع فارجعوا]. يبين المصنف رحمه الله في هذا المقام أصناف المخالفين في تقريرهم لباب الأسماء والصفات، فيقول: إنهم فريقان: الأول: وهم الذين يرون نفي ما لم يثبته العقل .. وهذا مذهب أكثرهم. الثاني: وهم الذين يرون التوقف فيما لم يثبته العقل. إذاً: وقع الاختلاف فيما لم ينفه العقل، أما ما نفاه العقل فإن المتكلمين - سواء كان المتكلم من المعتزلة أو من الأشعرية والماتريدية وغيرهم- متفقون على أن ما تحصل نفيه بالدليل العقلي فإنه يصار إلى نفيه؛ ولهذا نفت الأشاعرة الصفات الفعلية على هذا الوجه، وأما ما لم يدل الدليل على نفيه - أي: الدليل العقلي- فمنهم من يرى التوقف فيه، ومنهم من يرى نفيه، وهذا هو الذي عليه أكثر المتكلمين من المعتزلة ومن وافقهم من متكلمة الصفاتية. فهذا هو الصنف الأول والصنف الثاني من المتكلمين في هذا الباب.

أجوبة المتكلمين عن سبب ورود آيات الصفات على خلاف قولهم

أجوبة المتكلمين عن سبب ورود آيات الصفات على خلاف قولهم [فإنه الحق الذي تعبدتكم به، وما كان مذكوراً في الكتاب والسنة مما يخالف قياسكم هذا، أو يثبت ما لم تدركه عقولكم على طريقة أكثرهم، فاعلموا أني امتحنتكم بتنزيله لا لتأخذوا الهدى منه لكن لتجتهدوا في تخريجه على شواذ اللغة، ووحشي الألفاظ، وغرائب الكلام]. هذا هو جواب أكثر المتكلمين عن سبب ورود آيات الصفات على خلاف ما هو الحقيقة في نفس الأمر عندهم، فإنهم إذا نفوا الصفات وظاهر القرآن إثبات الصفات أجابوا عن هذا الظاهر القرآني بأنه قصد امتحان المكلفين به حتى يثابون على هذا الامتحان الذي يحصلونه بطريقة التأويل. [أو أن تسكتوا عنه مفوضين علمه إلى الله]. كما هي طريقة متأخري الأشاعرة الذين يجوزون التفويض والتأويل، أو كمن يلتزم التفويض فيما لم يدل الدليل العقلي على نفيه، أو من يلتزم التأويل مطلقاً .. فهذه ثلاث طرق للقوم في هذا الباب.

الكلام عن تعارض العقل والنقل

الكلام عن تعارض العقل والنقل [مع نفي دلالته على شيء من الصفات .. هذا حقيقة الأمر على رأي هؤلاء المتكلمين، وهذا الكلام قد رأيته صرح بمعناه طائفة منهم، وهو لازم لجماعتهم لزوماً لا محيد عنه]. وهذا التصريح يقررونه بطرق، ومن أخص هذه الطرق ما شاع في كتب المتكلمين من قانون تعارض العقل والنقل، وقد ذكر هذا القانون أئمة المعتزلة، وتحقيقه عند المعتزلة بين لا إشكال فيه، بل وكذلك ذكره كثير من أئمة الأشاعرة كـ أبي حامد الغزالي وأبي المعالي الجويني، ومحمد بن عمر الرازي وغيرهم، ومحصل هذا القانون -الذي عليه عامة المتكلمين كما يذكره الرازي في كتبه، وبخاصة في أساس التقديس الذي أجاب عنه شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه نقض التأسيس - محصل هذا القانون كما يقول الرازي: إن الظواهر النقلية إذا عارضت القواطع العقلية فإما أن تقدم الظواهر النقلية، قال: وهذا ممتنع؛ لأن أصل قبول النقل هو العقل. وإما أن تقبل الظواهر النقلية مع القواطع العقلية، قال: وهذا ممتنع لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن ترفع الظواهر النقلية والقواطع العقلية؛ وهذا ممتنع لأنه رفع للنقيضين. بهذا يتبين أن تقديم النقل على العقل - بحسب زعم الرازي وأصحابه والمتكلمون بعامة - ممتنع؛ لأن أصل قبول النقل هو الدليل العقلي؛ وبما أن جمع النقيضين ممتنع ورفعهما ممتنع لم يبق عنده إلا الرابع: وهو تقديم العقل على النقل. قال: وإذا قدم الدليل العقلي القاطع على الظواهر النقلية فهذه الظواهر فيها مسلكان: التأويل والتفويض. إذاً: رتب المتكلمون من الأشاعرة مسألة التأويل ومسألة التفويض على مسألة تعارض العقل والنقل. وهذا القانون هو من أخص القوانين التي شاعت في طوائف المتكلمين نفاة الصفاة أو ما هو منها، وقد أجاب عنه أئمة السنة كثيراً وبخاصة ما كتبه شيخ الإسلام رحمه الله في درء تعارض العقل والنقل.

أوجه تناقض قانون تعارض العقل والنقل

أوجه تناقض قانون تعارض العقل والنقل

الوجه الأول

الوجه الأول هذا القانون متناقض من أوجه كثيرة؛ ولكن من أخص هذه الأوجه أن يقال: إن الدليلين إذا تعارضا فإن التقديم يقع باعتبار ظهور الدلالة، وهو ما يسمى بالدلالة القطعية والدلالة الظنية، والدليل فيه جهتان: جهة الثبوت وجهة الدلالة. فإذا صار في المقام دليلان بينهما تعارض نظر في جهتي الدليل: 1 - جهة الثبوت. 2 - جهة الدلالة. فأيهما كان قطعي الثبوت قطعي الدلالة فإنه يقدم على ما يقابله؛ لأنه إذا تحقق في دليل من هذين الدليلين المتعارضين أنه قطعي الثبوت قطعي الدلالة لزم أن يكون الدليل الآخر ليس كذلك، لأنه لا يمكن أن يكون الدليل الآخر قطعي الدلالة قطعي الثبوت؛ حيث إنه لو أمكن هذا للزم التعارض بين القطعيين، وهذا ممتنع باتفاق العقلاء .. فإذا جئنا إلى الدليل النقلي وهو: القرآن والسنة، وأخذنا القول في القرآن؛ فإن القرآن قطعي الثبوت بإجماع المسلمين، أما من جهة الدلالة فإن آيات الصفات قطعية الدلالة حسب سياق كلام العرب، فإن في قوله تعالى مثلاً: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] أضاف سبحانه الرضا إلى نفسه، أو في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] أضاف السمع إلى نفسه، وهذا الإسناد الصريح -كما يسميه أهل اللغة- هو أصرح سياق في العربية، ومن قال: إن الدلالة في آيات الصفات ليست قطعية من جهة اللغة العربية. يقال له: ليس هناك سياق قطعي في لسان العرب أكثر ظهوراً من سياق الإسناد الصريح. إذاً: القرآن قطعي الثبوت قطعي الدلالة على آيات الصفات. وبهذا يعلم أن كل دليل يعارض القرآن -سواء سمي دليلاً فلسفياً أو عقلياً أو كلامياً أو ما شابه ذلك- يمتنع أن يكون قطعي الثبوت قطعي الدلالة؛ لأن هذا الفرض يوجب التعارض بين القطعيين، وهو ممتنع باتفاق العقلاء. هذا الطريق من أقوى طرق الرد التي اعتمدها شيخ الإسلام، وهو: تحقيق أن القرآن قطعي الثبوت -وهذا بدهي- وأنه قطعي الدلالة في آيات الصفات؛ لأن سياق آيات الصفات أصرح سياق عربي في لسان العرب، فإذا كان كذلك علم أن المقابل له على جهة المعارضة يمتنع أن يكون قطعي الثبوت قطعي الدلالة؛ لأنه يوجب التعارض بين القطعيين، وهذا ممتنع باتفاق عقلاء بني آدم.

الوجه الثاني

الوجه الثاني أن يقال: إنه يعلم كون الدليل قطعياً من جهة الثبوت بطرق بحسب حال هذا الدليل، فإذا نظرنا في الدليل الذي يزعمون أنه عارض النقل -وهو الدليل العقلي على زعمهم- فمتى يصح أن نقول عن الدليل العقلي: إنه قطعي الثبوت؟ إذا اتفق عليه العقلاء، وإن شئت قل: إذا اتفق عليه أصحاب النظر العقلي، حتى لا ندخل فيما يتكلف له بعض المتكلمين ويقول: العامة ليسوا من أصحابه. إذاً: إذا اتفق على الدليل أصحاب النظر العقلي، أو هب أن الدائرة أقصر من هذا، وهي: إذا اتفقت عليه طائفة. فإذا نظرنا إلى أي دليل عقلي يعارضون به النقل فإننا نجد أنهم لا يتفقون عليه بعامة -أعني: النظار- بل ولا تتفق عليه طائفة اتفاقاً تاماً؛ فالدليل الذي يسميه الرازي وغيره من الأشاعرة بأنه دليل قاطع نجد أن المعتزلة لا يعتبرونه دليلاً قاطعاً، ونجد أن دليل المعتزلة الذي نفوا به الصفات لا تعده الأشعرية دليلاً قاطعاً، بل يرونه دليلاً وهمياً مناقضاً للعقل؛ فالمعتزلة تنفي سائر الصفات والأشعرية تقول: إن الدليل العقلي القاطع يدل على ثبوت أصول الصفات. وبهذا نجد أن كل طائفة من طوائف المتكلمين والنظار الذين خالفوا السلف كل طائفة تختص بدليل تزعم أنه دليل عقلي قاطع، مع أننا نجد إذا رجعنا إلى البدهيات في ضبط الأدلة أن الدليل إذا كان عقلياً لا يكون قطعي الثبوت إلا إذا اتفق عليه النظار -أصحاب النظر العقلي- على أقل الأحوال، إن لم نقل اتفق عليه سائر العقلاء. إذاً: ليس هناك دليل عقلي واحد اتفق عليه النظار؛ لأن مذاهب النظار متناقضة متعارضة متضادة. وبهذا يتبين أنه ليس هناك دليل قطعي الثبوت، وإذا لم يكن الدليل قطعي الثبوت فقد انتهى الأمر فيه من كل جهة. ومع ذلك إذا افترضنا -جدلاً- أن لديهم دليلاً قطعي الثبوت، فيبقى الشأن في الجهة الثانية وهي جهة الدلالة. فإننا إذا نظرنا إلى جهة الدلالة فإننا نجد أنهم متناقضون فيها، فضلاً عن مناقضة أئمة السنة لهم، فإن المعتزلة تناقض في جهة الدلالة التي تستعملها الأشاعرة والعكس، ومع المشبهة ومع أصناف المجسمة ومع المتفلسفة وهلم جرا. إذاً هذا التناقض والتعارض في مذاهب المخالفين للسلف في ثبوت الأدلة وفي دلالتها -الذي هم يصرحون به في كتبهم- دليل على أن النقل لا يعارضه دليل عقلي قاطع لا ثبوتاً ولا دلالة.

الوجه الثالث

الوجه الثالث أن يقال: إضافة الأدلة إلى هذين القسمين ليس سديداً؛ فإن الدليل النقلي السمعي هو الدليل الشرعي، والدليل الشرعي يقابله الدليل البدعي، أما أن يقال: إن الدليل الشرعي يقابله الدليل العقلي فهذا غلط مبني على أن دلائل القرآن دلائل تسليمية محضة، وليس فيها ما هو من مخاطبة العقول؛ وهذا بسبب أن هذا القانون مبني على قول غلاة المتكلمين الذين يقولون: إن الدلائل القرآنية دلائل خبرية محضة مبنية على صدق المخبر. والحق: أن القرآن فيه دلائل خبرية محضة كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وفيه دلائل عقلية، الخطاب فيها للعقول، ولهذا يخاطب بها حتى الكفار، ومن ذلك قوله تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} [الأعراف:148] ولهذا كان من دلائل أهل السنة على أن الله متصف بالكلام أن الله أبطل ألوهية العجل وقبوله للعبودية -أي: لكونه محلاً للعبودية- بكونه لا يتكلم، ولو كان الإله الحق كما تزعم الجهمية ومن وافقها -تعالى الله عما يقولون- لا يوصف بالكلام لكان هذا نقصاً فيه، أو كان الاستدلال على بطلان ألوهية العجل بهذا ليس صحيحاً، ومثله قول إبراهيم: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] فلو كان الإله الحق لا يسمع لكان هذا دليلاً على إبراهيم وليس له. ومن هنا حكم السلف على أدلة المخالفين العقلية الكلامية بأنها دلائل بدعية، وأن أصحابها قوم مبتدعة. فهذا قانون افتتن به كثير من المتكلمين والطوائف، وإن كان يعلم بطلانه بضرورة العقل، فضلاً عن ضرورة النقل. ثم إنهم اعتذروا عن تقديم النقل على العقل بأن قالوا: إن أصل قبول النقل هو العقل. ورتبوا ذلك على مسألة النبوة، وهو أن نبوة النبي صلى الله عليه وسلم عرفت بالمعجزة والمعجزة آية عقلية. وهذا ليس بشيء؛ لأن نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن ثبتت بالمعجزة إلا أنها تثبت بغيرها أيضاً، فإنه ليس كل من أسلم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو بلغته دعوته فآمن به لم يؤمنوا إلا لما علموا ما معه من المعجزات، سواء كان ذلك من المشركين عبدة الأوثان أو كان من أهل الكتاب، فإن جمهور من أسلم لم يسلموا لكونهم رأوا آية -التي هي المعجزة- وإنما أسلموا لما سمعوا القرآن، ولا شك أن القرآن أعظم آيات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن إذا قصدنا بالآيات هنا ما تزعمها المعتزلة وأمثالها وهي الخوارق الحسية للعادات كتكثير الماء وأمثال ذلك. وهذا هرقل -كما ثبت في الصحيحين في حديث ابن عباس - لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، أرسل إلى ركب من قريش كانوا في الشام، وكان معهم أبو سفيان، وهو إذ ذاك مشرك، فلما دخلوا على هرقل وهو كتابي عالم بكتابه سأل أبا سفيان عن مسائل، هذه المسائل لم تكن عن المعجزات، فإن هرقل لم يسأله: هل لديه معجزة أم ليس لديه معجزة؟ بل سأله: من يتبعه؟ هل كان من آبائه من ملك؟ أيكذب؟ .. إلخ، ولما انتهى من هذه السؤالات قال: ماذا يؤمركم؟ قال: ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة .. فماذا قال هرقل؟ قال: إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظنه منكم، فقطع بثبوت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وجزم بها لمثل هذا. إذاً: زعمهم أن النبوة لا تثبت إلا بالمعجزة .. ليس سديداً، بل تثبت بها وبغيرها؛ فإن آيات الأنبياء لا تختص بخوارق العادات. ثم لو فرض أن هذا صحيح .. فإن الدليل الذي عارض آيات الصفات ليس هو الدليل العقلي الذي ثبتت به المعجزة، إذاً لا يلتفت إليه .. وهلم جرا من الأوجه.

الرد إلى غير الكتاب والسنة يوجب الاختلاف

الرد إلى غير الكتاب والسنة يوجب الاختلاف [ومضمونه: أن كتاب الله لا يهتدى به في معرفة الله، وأن الرسول معزول عن التعليم والإخبار بصفات من أرسله، وأن الناس عند التنازع لا يردون ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، بل إلى مثل ما كانوا عليه في الجاهلية، وإلى مثل ما يتحاكم إليه من لا يؤمن بالأنبياء كالبراهمة والفلاسفة -وهم المشركون- والمجوس وبعض الصابئين، وإن كان هذا الرد لا يزيد الأمر إلا شدة]. وإن كان هذا الرد أي: الرد إلى غير الكتاب والسنة، إما إلى العقل أو المقالات الفلسفية أو غيرها؛ الرد إلى هذه الأمور لا يزيد الأمر إلا شدة؛ لأنه يوجب كثرة الاختلاف، ولهذا لما استعمل هؤلاء هذه الدلائل كثر اختلافهم وافترقت طوائفهم افتراقاً مشهوراً. [ولا يرتفع الخلاف به، إذ لكل فريق طواغيت يريدون أن يتحاكموا إليهم، وقد أمروا أن يكفروا بهم، وما أشبه حال هؤلاء المتكلمين بقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً * فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:60 - 62] فإن هؤلاء إذا دعوا إلى ما أنزل الله من الكتاب وإلى الرسول - والدعاء إليه بعد وفاته هو الدعاء إلى سنته - أعرضوا عن ذلك وهم يقولون: إنا قصدنا الإحسان علماً وعملاً بهذه الطريق التي سلكناها، والتوفيق بين الدلائل العقلية والنقلية. ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل إنما تقلدوا أكثرها عن طاغوت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم]. قوله: إنما تقلدوا أكثرها لأنه قد يقع لهم دلائل يحصلونها بنظم عقلي مقرر ليس مولداً من مقالات فلسفية، لكن الدلائل التي هي أصول في هذه المذاهب لابد أن تكون فيها مادة فلسفية، وهذا قد تقدم الإشارة إليه. [مثل فلان وفلان، أو عمن قال كقولهم لتشابه قلوبهم، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} [البقرة:213] الآية، ولازم هذه المقالة: ألا يكون الكتاب هدى]. لازم هذه المقالة أي: مقالة التعطيل، سواء كان تعطيلاً لسائر الصفات أو لما هو منها. [ألا يكون الكتاب هدى للناس ولا بياناً ولا شفاء لما في الصدور، ولا نوراً ولا مرداً عند التنازع؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقوله هؤلاء المتكلفون أنه الحق الذي يجب اعتقاده؛ لم يدل عليه الكتاب والسنة، لا نصاً ولا ظاهراً]. وأهل الكلام يسلمون بأن القرآن لم يدل على ما فصلوه في مذهبهم في صفات الله، وإنما غاية الذي يستدل منهم بالقرآن إنما يستدل بنصوص مجملة على ما نفاه مما خالف فيه القرآن. [وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4]. {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش، ولا فوق السماوات ونحو ذلك بقوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] لقد أبعد النجعة؟]. هذا لو لم يرد دليل الإثبات في الاستواء، لما كان هذا بياناً ظاهراً، كيف ودليل الاستواء متواتر في القرآن؟! [وهو إما ملغز وإما مدلس لم يخاطبهم بلسان عربي مبين، ولازم هذه المقالة: أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد]. لأن الرد هنا اعتبر بالدليل العقلي، والعقل موجود قبل الرسالة وبعدها، بل الرسالة على هذه المذاهب الكلامية زادت الأمر إشكالاً؛ لأن الرسالة خاطبت المخاطبين في نصوصها القرآنية والنبوية بما يعارض الدليل العقلي الذي هو حق في ظن هؤلاء. [وإنما الرسالة زادتهم عمىً وضلالاً، يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول يوماً من الدهر]. أي: كيف وسع النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يقل يوماً من الدهر، ولم يفصح يوماً من الدهر بنفي صفة من هذه الصفات المثبتة في القرآن؟ كيف وسع النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يذكر يوماً واحداً أن في القرآن ما يحتاج إلى تأويل أو أن هذا القرآن ليس على ظاهره؟ هل يعقل أن كل من يسمع القرآن في زمنه صلى الله عليه وسلم كانوا يفقهون أنه مؤول؟ وإذا ورد هذا السؤال على المخالفين من المعتزلة والأشاعرة فإن الفاضل منهم يقول: إن القوم زمن النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة كانوا يعلمون أن هذه النصوص ليست على ظاهرها، وإنما احتاج التصريح بتأويلها فيما بعد لما ظن من ظن من المشبهة أنها على ظاهرها .. وهذا تكلف؛ لأنه لو كان ظاهرها يدل على التشبيه -مع أنه لا يدل عليه- هل يعقل أن كل من في زمن النبوة حتى حدثاء العهد بإسلام وحتى الأعراب، بل وحتى الكفار الذين يسمعون القرآن لا يتبادر إلى ذهن واحد منهم أن في القرآن ما هو من التشبيه؟ ثم يأتي من بعدهم من أئمة العلم الذين تحقق لهم العلم كأئمة السنة والجماعة فلا يفهمون منها إلا التشبيه ويجمعون عليه ويطبقون عليه، وهم لم يأخذوا إلا من مشكاة الصحابة رضي الله عنهم؟؟ لا شك أن هذا ممتنع بالعقل امتناعاً صريحاً. [ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، ولكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم أو اعتقدوا كذا وكذا؛ فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، أو انظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاقبلوه، وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه]. وهذا وجه آخر من استدلال المصنف رحمه الله على صحة مذهب السلف. [ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله) وروي عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية: (هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي). حديث الافتراق هذا مخرج في السنن والمساند وغيرها من حديث أنس وعبد الله بن عمر وأبي هريرة، وقد تكلم فيه بعض الحفاظ، والأكثر على تقويته، وكما تقدم أنه إن قيل بضعفه فإن هذا لا يعني شيئاً كثيراً؛ لأنه تواتر في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين، فهذا دليل على ثبوت هذا الافتراق، وأن قوماً يختصون بالحق الذي بعث به. [فهلا قال: من تمسك بالقرآن أو بدلالة القرآن أو بمفهوم القرآن أو بظاهر القرآن في باب الاعتقادات فهو ضال. وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة في هذه المقالة، وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين].

شرح الحموية [7]

شرح الحموية [7] مقالة التعطيل مقالة مأخوذة عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، وأول من قال بها هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان، وقد انقسم المعطلون لصفات الله إلى ثلاثة طبقات: من نفوا الأسماء والصفات، وهم الجهمية، ومن أثبت الأسماء في الجملة ونفى الصفات، وهم المعتزلة، ومن أثبت الأسماء وبعض الصفات، وهم الأشاعرة ومن وافقهم.

بيان إسناد مقالة التعطيل

بيان إسناد مقالة التعطيل

أول من قال بالتعطيل في الإسلام

أول من قال بالتعطيل في الإسلام قال المصنف رحمه الله: [ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام -أعني: أن الله سبحانه وتعالى ليس على العرش حقيقةً، وأن معنى استوى بمعنى: استولى، ونحو ذلك- هو الجعد بن درهم، وأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه، وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن إبان بن سمعان، وأخذها إبان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم]. بدأ المصنف رحمه الله هنا ببيان إسناد مقالة التعطيل بعد أن بين إسناد مقالة أهل السنة والجماعة. وحديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم متفق عليه من حديث عائشة، والأئمة على قبوله، وإنما طعن فيه بعض المتأخرين بما ليس من أوجه الطعن، وما وقع له صلى الله عليه وسلم من السحر لا ينافي مقام النبوة والرسالة. [وكان الجعد بن درهم هذا -فيما قيل- من أهل حران، وكان فيهم خلق كثير من الصابئة والفلاسفة بقايا أهل دين نمرود والكنعانيين الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم). قوله: الذين صنف بعض المتأخرين في سحرهم يشير به إلى محمد بن عمر الرازي الذي صنف كتاب السر المكتوم. [ونمرود هو ملك الصابئة الكلدانيين المشركين، كما أن كسرى ملك الفرس والمجوس، وفرعون ملك مصر، والنجاشي ملك الحبشة، وبطليموس ملك اليونان، وقيصر ملك الروم، فهو اسم جنس ليس اسم علم، فكانت الصابئة إلا قيلاً منهم إذ ذاك على الشرك]. اتصال الإسناد الذي بعد الجعد بن درهم من جهة اليهود أو غير ذلك وكونه أخذ هذا من طالوت إلخ محتمل، وقد ذكره بعض أهل الأخبار والسير وبعض أهل العلم، لكن المتحقق أن أول من تكلم بهذه المقالة هو الجعد بن درهم، ثم أخذها وأظهرها الجهم بن صفوان، ولو فرض جدلاً أن قبل الجعد رجلاً أو ثلاثة أو عشرة أو مائة أو أنه مع الجعد رجال .. إلخ فإن كل هذه الفروضات لا تقدم كثيراً ولا تؤخر، إنما الاعتبار بأن هذه المقالة مقالة ليس عليها صبغة الشريعة ولا عليها صبغة اللغة؛ ولهذا ترى أنها في تقريرها ومقدماتها وتنظيمها لا تستعمل الأحرف الشرعية ولا الأحرف العربية المعروفة في لسان العرب، بل يستعملون الأعراض والجوهر الفرد والجوهر المركب، والتركيب والإمكان .. وهلم جرا، وإن كان لهذه معان في اللسان في كثير من الموارد إلا أنها من جهة اصطلاحهم على غير ما هو معروف في لسان العرب، فمن ترتيبها وتنظيمها يعلم أنها مقالة محصلة منقولة. [وعلماؤهم هم الفلاسفة، وإن كان الصابئ قد لا يكون مشركاً بل مؤمناً بالله واليوم الآخر كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:62] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة:69] لكن كثيراً منهم أو أكثرهم كانوا كفاراً أو مشركين، كما أن كثيراً من اليهود والنصارى بدلوا وحرفوا وصاروا كفاراً أو مشركين، فأولئك الصابئون الذين كانوا إذ ذاك كانوا كفاراً أو مشركين، وكانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل]. عني المصنف رحمه الله بذكر الصابئين الذين أئمتهم الفلاسفة؛ لأن التحقيق -كما يذكر ذلك في كتبه الكبار- أن مقالة التعطيل هي مقالة فلسفية، أي: هذا التعطيل الذي قاله الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، ثم دخل على المعتزلة بصورة مقربة، ثم استعمل شيء كثير منه في كلام متكلمة الصفاتية أصل مقالته مقالة فلسفية؛ فإن الجعد بن درهم والجهم بن صفوان كانوا قبل ظهور المتفلسفة الذين يسمون بفلاسفة الإسلام، لكن لما ظهر فلاسفة الإسلام بعد هؤلاء وظهر الحسين بن عبد الله بن سينا قرر المذهب الذي قرره وأضافه إلى أرسطو، وهو يقارب كثيراً المذهب الذي كان عليه الجعد والجهم، بل يكاد يكون ينتهي إليه في الجملة، وإن كان هناك بعض الفرق في الترتيب والإطلاقات والاصطلاحات، لكن من حيث نفي الأسماء والصفات فإن المذهب واحد بين ابن سينا مع تأخره وبين الجعد والجهم، لكن ابن سينا صرح بأن هذه فلسفة، وأنه نقل ذلك عن الفلاسفة، وصرح بأنه من الممتنع أن يدل القرآن على هذا، وأنه ليس فيه إشارة أو تصريح بهذا، وأن القرآن لا يمكن تأويله، وأن المجاز غلط .. وهذه كلها مسالك فلسفية؛ لأنه ليس من مقصود المتفلسفة هؤلاء كـ ابن سينا وأمثاله التوفيق بين فلسفتهم والقرآن؛ لأنهم يرون أن للقرآن اختصاصاً وأن لفلسفتهم اختصاصاً، فالقرآن في الجمهور، وفلسفتهم في الخاصة والحكماء. إذاً: الناظر في كلام ابن سينا مع تأخره عن متقدمي المتكلمين يجد أن مذهبه في الصفات هو بعينه المذهب الذي قرره الجهم بن صفوان والجعد بن درهم، مما يدل على أنه مذهب منقول، لكن المتكلمين لم يصرحوا بأنه مذهب فلسفي، بل ظهر لهم في كثير من الأحوال -كما هو شأن أئمة المعتزلة- رد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم، في حين أن ابن سينا صرح بأنه فلسفة؛ ولهذا هذا مذهب منقول بالقطع. [ومذهب النفاة من هؤلاء في الرب: أنه ليس له إلا صفات سلبية أو إضافية أو مركبة منهما]. أي: مذهب النفاة من الفلاسفة، وهذا هو الأسلوب الذي يستعمله ابن سينا، وهو أن الرب ليس له إلا صفات سلبية. والسلب: هو النفي. أو إضافية: كقولهم: إنه مبدأ الأشياء، وكقولهم: إنه علة الأشياء. وقد كان أرسطو أصلاً لا يتكلم إلا في مسألة العلة والمعلول، فجاء ابن سينا وتكلم في مسألة الواجب والممكن وقرب فلسفة أرسطو، وقرب المتكلمون هذا وتكلموا في المحدَث والمحدِث، ولا شك أن الله محدث للعالم، لكنهم قصدوا بأن المحدَث -الذي هو العالم- يفارق المحدِث -الذي هو الخالق سبحانه وتعالى - بأن هذا المحدَث يتصف بالصفات كما تقول المعتزلة، أو أنه يتصف بالحوادث ولا يخلو منها كما تقول الأشاعرة. قوله: (أو مركبة منهما) أي: كقولهم: إنه عاقل ومعقول وعقل، وعاشق ومعشوق .. وهلم جرا. فهذه هي المركبات في اصطلاح المتفلسفة، ولهذا كقاعدة: لا تفسر اصطلاحات المتفلسفة أو حتى المتكلمين بحسب ما يتبادر من اللفظ أو السياق من جهة اللسان العربي، فإن كلمة مركبة لا يدل عليها بالضرورة مثل هذا الإطلاق فيها كقولهم: إنه عاقل ومعقول. ومثله الإضافية كقولهم: إنه مبدأ على معنى المتضايفين الذي يذكرونه في منطقهم.

أصل مقالة التعطيل مأخوذ عن الصابئة والفلاسفة

أصل مقالة التعطيل مأخوذ عن الصابئة والفلاسفة [وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، فيكون الجعد قد أخذها عن الصابئة والفلاسفة]. وهذا من قوة ربط المصنف، وبهذا يتبين أن هؤلاء المتفلسفة الذين بعث إبراهيم في قومهم كانوا منحرفين في شيء من توحيد الربوبية، وهذا الانحراف ليس واقعاً في المشركين عبدة الأوثان الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا لم يخاصم محمد صلى الله عليه وسلم قومه كثيراً في مسألة الربوبية إلا أنه يقع ذكرها في القرآن؛ لأن القوم -أعني: مشركي العرب- يسلمون بها، ومن يسلم بالربوبية يلزم أن يسلم بالألوهية، أما في قوم إبراهيم فالأمر ليس كذلك، ولهذا قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:75 - 78] فكان قوم إبراهيم -والذين كان الفلاسفة أئمتهم- منحرفين في توحيد الربوبية، كما أنهم منحرفون في توحيد الإلهية. [وكذلك أبو نصر الفارابي دخل حران، وأخذ عن فلاسفة الصابئين تمام فلسفته]. أبو نصر الفارابي ليس من المتكلمين، بل هو من المتفلسفة الذين يضافون للإسلاميين، وهو قبل الحسين بن عبد الله بن سينا، وهو يعد أشهر المتفلسفة؛ وهم يلقبونه بالمعلم الثاني؛ لكونه رتب المنطق وقربه إلى أهل الإسلام، ويعنون بالمعلم الأول أرسطو طاليس، وقد جاء ابن سينا بعده، لكنه غلبه في الشهرة وكثرة التصنيف. [وأخذها الجهم أيضاً -فيما ذكره الإمام أحمد وغيره-]. ذكر هذا الإمام أحمد في رسالته الرد على الزنادقة، وهي رسالة مشهورة لطيفة ليست بالطويلة، وقد تكلم بعض أهل العلم في صحتها، وذكر الذهبي شيئاً من ذلك عن طائفة، لكن شيخ الإسلام رحمه الله يعتبرها ويعتمدها ويجزم بصحتها إليه، ولهذا نشرها في كتبه وعلق عليها كثيراً، وخاصة في كتبه الكبار. [لما ناظر السمنية بعض فلاسفة الهند -وهم الذين يجحدون من العلوم ما سوى الحسيات- فهذه أسانيد جهم ترجع إلى اليهود والصابئين والمشركين والفلاسفة، والضالون هم إما من الصابئين وإما من المشركين. ثم لما عربت الكتب الرومية واليونانية في حدود المائة الثانية زاد البلاء مع ما ألقى الشيطان في قلوب الضلال ابتداء من جنس ما ألقوه في قلوب أشباههم]. شاعت هذه المقالة خاصة لما تقلدها المعتزلة؛ لأن الجهم بن صفوان لم يتحصل له أتباع، أي: أنه لم يشكل مدرسة متكاملة لها تنظيمها وترتيبها وأتباعها باطراد، بل كان -إن صح التعبير- صاحب نظرية، لم يكن لها حظها إذ ذاك حتى عند السلاطين في بني أمية، وهو كذلك كان معارضاً لهم مارقاً على خلافتهم، لكن لما تقلد هذه المقالة المعتزلة؛ وخاصة أن المعتزلة مع أنهم أخذوا مقالة الجهم بن صفوان إلا أنهم ذموه في كتبهم؛ لأنهم يختلفون معه في مسألة الإيمان، ومسألة القدر، حتى في الصفات لهم بعض الاختلاف الصوري معه، وإن كانت حقيقة المذهب واحدة. ولهذا كان من فقه السلف رحمهم الله أنهم سموا كل من نفى الصفات جهمياً وإن كان معتزلياً، ولهذا قالوا: فتنة الجهمية مع الإمام أحمد. مع أن أئمة المناظرة كانوا من المعتزلة، وإن كان ينبه إلى -كما قرر ذلك شيخ الإسلام - أن الذين اشتركوا في فتنة خلق القرآن ليسوا معتزلة محضة في سائر الأحوال، بل منهم معتزلة ومنهم من هو جهمي يميل إلى الإرجاء في مسائل الإيمان وغير ذلك.

طبقات مقالة التعطيل ومواقفها من بعضها البعض

طبقات مقالة التعطيل ومواقفها من بعضها البعض [ولما كان في حدود المائة الثالثة انتشرت هذه المقالة التي كان السلف يسمونها مقالة الجهمية؛ بسبب بشر بن غياث المريسي وطبقته، وكلام الأئمة مثل مالك وسفيان بن عيينة وابن المبارك وأبي يوسف والشافعي وأحمد وإسحاق والفضيل بن عياض وبشر الحافي وغيرهم كثير في ذمهم وتضليلهم]. إذاً: عندنا ثلاث طبقات:

طبقة الجهمية الغلاة

طبقة الجهمية الغلاة الطبقة الأولى: طبقة الجهمية الأولى الغلاة، نفاة الأسماء والصفات .. ومذهب هؤلاء ليس مشتبهاً، فإن بطلانه معلوم عند أهل السنة، بل وحتى المعتزلة يصرحون ببطلان طريقة جهم بن صفوان المحضة، وكذلك متكلمة الصفاتية كالكلابية والأشعرية والماتريدية. فالطبقة الأولى -إذاً- هي التي أسست مقالة التعطيل، وهؤلاء مقالتهم من جنس مقالة ابن سينا وأمثاله المتفلسفة.

طبقة المعتزلة

طبقة المعتزلة الطبقة الثانية: وهي طبقة المعتزلة، وهم الذين يطلقون إثبات الأسماء في الجملة وينفون قيام الصفات بالذات، ولا يعني قولنا: يثبتون الأسماء في الجملة؛ أنهم يثبتون أسماء الرب سبحانه كما يثبتها أهل السنة، ولكنهم يثبتون منها ما يرون قبول الرب سبحانه وتعالى له، فقد اتفقوا على أنه حي عليم قدير، وقال البصريون منهم: إنه سميع بصير. لكنهم لا يثبتون صفةً هي السمع والعلم .. إلخ. وقد حصل في هذه الطبقة بعض الاشتباه، ومن أخص أسباب اشتباهها: تبني سلطان في دولة بني العباس لها، فقد تبناها المأمون بن هارون الرشيد، ودافع عنها واستعمل السيف فيها، ثم جاء المعتصم والواثق على ذلك؛ فكان هذا من أسباب دخولها. ومن أسباب اشتباهها: انتساب كثير من المعتزلة لـ أبي حنيفة في الفقه وخاصة متأخريهم، فتأثر كثير من الأحناف بمثل هذه المقالة. ولكن -أيضاً- هذه المقالة عند أهل السنة والمنتسبين إليها ليست محل اشتباه، فإن السلف أجمعوا على ذم مقالة المعتزلة، وكلام الأئمة -كما أشار المصنف رحمه الله - في ذمهم كثير، والسلف إذ ذاك كانوا يسمونهم جهمية، وهو الغالب، وإن كانوا أحياناً يصرحون باسم المعتزلة. وكذلك المنتسبون إلى السنة كالأشعرية والكلابية والماتريدية وجماهير الفقهاء أيضاً يتفقون على بطلان مذهب المعتزلة. إذاً: هاتان الطبقتان ليس فيهما اشتباه عند أهل السنة، والمنتسبين إليها من الفقهاء والمتكلمة الذين ينتسبون للسنة، وهم ثلاث طوائف على وجه الاشتهار: الكلابية والأشعرية والماتريدية، ويوجد طوائف أخرى، لكن هذه الثلاث أشهرها، وكذلك المتصوفة الذين مالوا عن طريقة السلف وانتسبوا للسنة.

طبقة متكلمة الصفاتية

طبقة متكلمة الصفاتية الطبقة الثالثة: وهم من انتسب إلى أهل السنة من بعد القرون الثلاثة الفاضلة، لكنه غلط في ضبط مذهب السلف، ويدخل في هؤلاء المتكلمة والمتصوفة والمتفقهة .. فقد حصل الاشتباه في الطريقة الحادثة التي أحدثها المتأخرون من المتكلمين ووافقهم عليها من وافقهم من المتصوفة والفقهاء ولهذا بعد أن بين المصنف أن السلف الذين تسلِّم الأشاعرة في الجملة بإمامتهم أجمعوا على ذم الجهمية، وحتى المعتزلة الذين ناظروا أئمة السلف وحصل بينهم طعن ورد. يبين المصنف أن هذه المذاهب الكلامية التالية -التي تسمى مذاهب متكلمة الصفاتية- تركب من مادتين: الأولى: حق أخذوه من السلف، وهذا يتفاضلون فيه. الثانية: نفي أخذوه من المعتزلة والجهمية. ولهذا يقول بعد ذلك في مقام الربط بين مذهب الأشعرية والمتأخرين بعامة، وبين مذهب الجهمية والمعتزلة والمتقدمين من المتكلمين بعامة، قوله: وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس .. وهذا هو أخص مقصود للمصنف يريد أن يصل إليه، وهو أن الأشاعرة كما أنهم يذمون المعتزلة فإنهم هم قد وقعوا في شيء من هذا الذي ذم لأجله السلف المعتزلة.

ارتباط الطبقة الثالثة بالطبقة الأولى

ارتباط الطبقة الثالثة بالطبقة الأولى [وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي ذكرها أبو بكر بن فورك في كتاب التأويلات]. أبو بكر بن فورك متكلم أشعري، وهو يعتبر من متقدمي الأشاعرة، وهو في الجملة من فضلائهم، أي: ليس هو بمنزلة الجويني والرازي وأمثالهما، وإن كان الباقلاني خيراً منه في هذا، والأشعري خيراً من الباقلاني، فـ ابن فورك يقارب طريقة الباقلاني وإن كان ليس عليها؛ لأن الباقلاني أقرب إلى الإثبات من أبي بكر بن فورك، وإن كان لـ ابن فورك اشتغال بالآثار مشهور أكثر من اشتغال القاضي الباقلاني. وله كتاب التأويلات، وقد رد عليه القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه إبطال التأويلات، وكتاب أبي يعلى مطبوع. [وذكرها أبو عبد الله بن عمر الرازي في كتابه الذي سماه تأسيس التقديس]. هذا من أخص كتب الرازي، وهو ليس طويلاً، وقد رد عليه شيخ الإسلام في كتابه نقض التأسيس الذي طبع جزء منه، وحقق الآن كاملاً، ويكاد يطبع إن شاء الله قريباً. [ويوجد كثير منها في كلام خلق كثير غير هؤلاء، مثل أبي علي الجبائي]. أبو علي الجبائي معتزلي، والمصنف رحمه الله يريد أن يربط هذه المذاهب المتأخرة حتى ولو لم يكونوا أشاعرة. [وعبد الجبار بن أحمد الهمداني]. هو عمدة المتأخرين المصنفين في مذهب الاعتزال، له كتاب المغني -مطول- وشرح الأصول الخمسة، والمحيط بالتكليف، والمختصر في أصول الدين، وكتب في أصول الفقه، وهو متكلم معتزلي من كبار متأخريهم. وفي الجملة أن من يدافعون عن مذهب المعتزلة في هذا العصر، أو يمتدحون بعض طرقهم ومقاماتهم ومقدماتهم إنما هم عيال على كتب عبد الجبار بن أحمد، وخاصة المغني وشرح الأصول. [وأبي الحسين البصري]. أبو الحسين البصري من المعتزلة الحنفية، لكنه أقرب من عبد الجبار بن أحمد، وهو صاحب المعتمد في أصول الفقه، وقد خلط في هذا الكتاب الأصول الفقهية بكثير من الأصول الكلامية العقدية. [وأبي الوفاء بن عقيل]. أبو الوفاء بن عقيل حنبلي، وليس له انتماء كلامي؛ فإن الحنابلة -في الجملة- حتى إذا غلطوا لا ينتمون للمذاهب الكلامية، وإن كان ابن عقيل رحمه الله قد درس في أول أمره على أبي علي بن الوليد وأبي القاسم بن التباني المعتزليين، وكان من أصحاب أبي الحسين البصري المعتزلي، حتى إنه مال إلى شيء من كلام المعتزلة، وتأثر بكثير من كلام الكلابية وبخاصة في الصفات الفعلية، وصنف في هذا كتباً، وامتدح التأويل في بعضها، لكنه في آخر أمره رجع في الجملة إلى طريقة مقاربة لطريقة أهل السنة المحضة. [وأبي حامد الغزالي وغيرهم]. أبو حامد الغزالي من فقهاء الشافعية، ومن أهل أصول الفقه الكبار، له المستصفى في أصول الفقه، وهو أشعري متكلم متصوف، وهو حسن الكلام في السلوك لولا ما خلط في سلوكه من المواد الثلاث: الأحاديث الموضوعة، وترهات الصوفية، والمادة الفلسفية التي تكلم فيها في التصوف. وهذا لا يستغرب؛ فإن كثيراً من الفلسفة على طريقة التصوف العرفاني والإشراقي؛ ولهذا لما تكلم أبو حامد عن مقامات العارفين في كتبه -هذه المقامات التي ذكرها وامتدحها- نقلها من كلام الحسين بن عبد الله بن سينا في كتابه الإشارات والتنبيهات، بل يلخص نفس الكلام الذي قال ابن سينا، وهو يذكره في إحيائه وغيره، ولكن مع ذلك فالإحياء غالبه -كما قال شيخ الإسلام - جيد، أي أن فيه كلاماً حسناً في تقرير مسائل القلوب وغيرها، ولكن فيه أغلاط شديدة. [وهي بعينها تأويلات بشر المريسي التي ذكرها في كتابه، وإن كان قد يوجد في كلام بعض هؤلاء رد التأويل وإبطاله أيضاً]. أي: أنهم ليسوا على طريقة الجهمية المحضة، ولا على طريقة غلاة المعتزلة المحضة، بل لهم كلام حسن في أشياء، وإنما محل ذمهم ليس فيما وافقوا فيه السنة؛ فإن هذا مما يمتدحون به ولكن في مواضع التأويل؛ فإن التأويل مادته واحدة، وهي المادة الجهمية. [ولهم كلام حسن في أشياء، فإنما بينت أن عين تأويلاتهم هي عين تأويلات بشر المريسي، ويدل على ذلك كتاب الرد الذي صنفه عثمان بن سعيد الدارمي أحد الأئمة المشاهير في زمان البخاري. صنف كتاباً سماه رد عثمان بن سعيد على الكاذب العنيد في ما افترى على الله في التوحيد حكى فيه هذه التأويلات بأعيانها عن بشر المريسي بكلام يقتضي أن المريسي أقعد بها]. أقعد بها أي: أعلم بقواعدها. [وأعلم بالمنقول والمعقول من هؤلاء المتأخرين الذين اتصلت إليهم من جهته ومن جهة غيره]. من جهته وجهة غيره، ومن الجهات التي دخلت على بعض هؤلاء -كـ الرازي مثلاً- الجهة الفلسفية التي نقلها عن ابن سينا. [ثم رد ذلك عثمان بن سعيد بكلام إذا طالعه العاقل الذكي علم حقيقة ما كان عليه السلف، وتبين له ظهور الحجة لطريقهم وضعف حجة من خالفه ثم إذا رأى الأئمة -أئمة الهدى- قد أجمعوا على ذم المريسية، وأكثرهم كفروهم أو ضللوهم]. هذا هو الربط. إذاً: المصنف في هذا المقام يبين أن أصل مقالة التعطيل ظهرت في أواخر عصر التابعين على يد الجعد بن درهم، ثم أظهرها الجهم بن صفوان، وأن هذه الطبقة لا إشكال فيها؛ فإنه حتى المعتزلة عند التحقيق يذمونها، وإن كانوا يتفقون معهم في حقيقة المذهب، لكن الموقف النظري عند المعتزلة هو التصريح ببطلان مذهب الجهم. والطبقة الثانية: وهي طبقة المعتزلة الأولى، وهذه أيضاً اتفق السلف على ذمها، وليست محل اشتباه. فأراد المصنف ذكر الربط في الطبقة الثالثة، وهم المتأخرون وبخاصة متكلمة الصفاتية أو حتى المعتزلة المتأخرة الذين انتسبوا لبعض الفقهاء الكبار كـ أبي حنيفة. فيقول: أن العاقل وطالب الحق إذا رأى أئمة الهدى قد ذموا المريسية أو ذموا الجهمية أو ذموا المعتزلة الأولى علم أن هذا الذم يطرد في هذا التأويل الذي استعمله المتأخرون ولو كان أكثرهم ينتسبون للسنة والجماعة، وأن محض الانتساب لا يكفي إذا لم يكن المذهب موافقاً لهذا الانتساب. [وعلم أن هذا القول الساري في هؤلاء المتأخرين هو مذهب المريسي تبين الهدى لمن يريد الله هدايته، ولا حولا ولا قوة إلا بالله]. قوله: وعلم أن هذا القول الساري أي: إذا علم أن القول الذي انتشر وشاع في هؤلاء المتأخرين هو مذهب بشر بن غياث وأمثاله من أئمة الجهمية الأولى أو المعتزلة الذين كانوا معطلةً للصفات، علم أن الحق يختص بما ذكره السلف، وأن المادة في التأويل واحدة. [والفتوى لا تحتمل البسط في هذا الباب، وإنما أشير إشارةً إلى مبادئ الأمور، والعاقل يسير وينظر، وكلام السلف في هذا الباب موجود في كتب كثيرة، لا يمكن أن نذكر هاهنا إلا قليلاً منه: مثل كتاب السنن للالكائي، والإبانة لـ ابن بطة، والسنة لـ أبي ذر الهروي، والأصول لـ أبي عمر الطلمنكي، وكلام أبي عمر بن عبد البر، والأسماء والصفات للبيهقي، وقبل ذلك السنة للطبراني، ولـ أبي الشيخ الأصبهاني، ولـ أبي عبد الله بن مندة، ولـ أبي أحمد العسال الأصبهانيين، وقبل ذلك السنة للخلال، والتوحيد لـ ابن خزيمة، وكلام أبي العباس بن سريج، والرد على الجهمية لجماعة مثل البخاري، وشيخه عبد الله بن محمد بن عبد الله الجعفي، وقبل ذلك السنة لـ عبد الله بن أحمد، والسنة لـ أبي بكر الأثرم، والسنة لـ حنبل، وللمروزي ولـ أبي داود السجستاني، ولـ ابن أبي شيبة، والسنة لـ أبي بكر بن أبي عاصم، وكتاب خلق أفعال العباد للبخاري، وكتاب الرد على الجهمية لـ عثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم في الرد على الجهمية، وكلام نعيم بن محمد الخزاعي، وكلام غيرهم، وكلام الإمام أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن سعيد، ويحيى بن يحيى النيسابوري وأمثالهم، وقبل: لـ عبد الله بن المبارك وأمثاله، وأشياء كثيرة]. ومن طالع هذه الكتب التي أشار إليها المصنف وما ماثلها من كتب السلف علم أن هذا القول الذي وقع في المتأخرين من المتكلمين فضلاً عن قول المعتزلة والجهمية مناقض لمذهب السلف رحمهم الله.

مذهب السلف مبني على الدلائل السمعية والعقلية

مذهب السلف مبني على الدلائل السمعية والعقلية [وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية ما لا يتسع هذا الموضع لذكرها]. قوله: وعندنا من الدلائل السمعية والعقلية يتبين به أن مذهب السلف مذهب مبني على الدلائل السمعية وكذلك على الدلائل العقلية، وإن كان العقل عند السلف ليس مصدراً للتلقي، فهو وإن صح دليلاً في بعض الموارد إلا أنه ليس مصدراً للتلقي؛ ولهذا لا ترى أن مسألةً واحدة لا في الشريعة فضلاً عن أصول الدين يكون معتبر القول فيها عند السلف هو الدليل العقلي، وإن كان الدليل العقلي يقارن كثيراً من الدلائل الشرعية السمعية، وهذا مقام آخر. ولهذا لو قيل: هل يُستدل بالعقل عند السلف؟ قيل: إما باعتبار كونه مصدراً للتلقي، أي أن المسألة المعينة سواء كانت في مسائل أصول الدين أو الشريعة تثبت بهذا الدليل من جهته مع عدم دلالة السمع فإن هذا لا يكون، ولكن العقل يقارن كثيراً من الدلائل السمعية، ولهذا يكون مصححاً، هذا إذا قصد بالدليل العقلي الذي يحصله أعيان الناظرين، أما إذا قصد بالدليل العقلي الدليل القرآني الذي مقدماته عقلية فهذا مقام آخر.

مدى ارتباط الطبقة الثالثة بالطبقة الأولى

مدى ارتباط الطبقة الثالثة بالطبقة الأولى [وأنا أعلم أن المتكلمين النفاة لهم شبهات موجودة، ولكن لا يمكن ذكرها في الفتوى، فمن نظر فيها وأراد إبانة ما ذكروه من الشبه فإنه يسير. فإذا كان أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل والتأويل- مأخوذاً عن تلامذة المشركين والصابئين واليهود]. لأن أول من تكلما بها وهما الجعد والجهم ليس لهم مقام صدق وفضل في الأمة، حتى عند جمهور مبتدعة الأمة كالمعتزلة؛ فإنهم لا يمتدحون الجعد والجهم، فإذا كان جمهور الأمة حتى من وقع منهم في البدع بل من طوائف أهل البدع الكبار كالمعتزلة يذمون الجعد والجهم علم أن أصل هذه المقالة التي أسسوها ونشروها مقالة باطلة. [فكيف تطيب نفس مؤمن بل نفس عاقل أن يأخذ سبيل هؤلاء المغضوب عليهم أو الضالين ويدع سبيل الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين؟!!]. والشأن: هو أن يفقه طالب العلم الاتصال بين الطبقة الثانية -وهي طبقة المعتزلة وأمثالها- والطبقة الثالثة -وهي طبقة المتأخرين ممن انتسب للسنة والأئمة من متكلمة الصفاتية وأمثالهم- وحينما يقال: أن يفقه الاتصال. فإن هذا الاتصال لا شك أنه ليس على جهة التطابق، فإن الأشاعرة يخالفون المعتزلة في مسائل كثيرة مخالفةً حقيقية، ولكنهم يتفقون معهم في كثير من المسائل في الصفات، وإن كان الأشعرية يظنون في كثير من الموارد أنهم برآء من مذهب المعتزلة. ففقه هذا المقام هو الذي يحصل به زوال الإشكال؛ لأن مذهب المعتزلة لم يندفع إليه في الجملة أئمة الفقه -أعني: المتأخرين منهم- ومن اشتهر بالعلم، إنما الذي شاع وأشكل وتأثر به أو انتحله خلق من فضلاء أهل العلم الكبار هو مذهب أبي الحسن الأشعري، فإن كثيراً من أصحاب مالك والشافعي ممن لهم مقام في العلم، وتحصيل معروف، وإمامة عند المسلمين -سواء في الفقه أو في أصول الفقه أو في الحديث، أو في مقامات الأحوال والتعبد- كانوا يسلكون هذا المسلك الذي يظنونه بريئاً من البدعة، وهو في نفس الأمر من مقامات ومذاهب أهل البدع، لكنهم لم يتفطنوا في الجملة لهذا.

شرح الحموية [8]

شرح الحموية [8] أهل السنة والجماعة هم الوسط بين الفرق في أسماء الله وصفاته، فإنهم يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تمثيل ولا تكييف، ويؤمنون بأن الله سبحانه ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في أفعاله ولا في صفاته.

مذهب السلف في صفات الله عز وجل

مذهب السلف في صفات الله عز وجل قال المصنف رحمه الله: [فصل: ثم القول الشامل في جميع هذا الباب: أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث. قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث. ومذهب السلف: أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويعلم أن ما وصف الله به من ذلك فهو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي، بل معناه يعرف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه، لا سيما إذا كان المتكلم أعلم الخلق بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف بما يقول، وأفصح الخلق في بيان العلم، وأفصح الخلق في البيان والتعريف والدلالة والإرشاد]. بعد أن ذكر المصنف رحمه الله المقدمة التي ذكر فيها أوجهاً يستدل بها على صحة مذهب السلف وبطلان مذاهب المخالفين، وذلك بأنه صوب مذهب السلف بالدلائل السمعية والعقلية فعُلم بذلك أن المذهب المخالف مذهب باطل، وهذا ليس من باب طريقة السبر والتقسيم التي تقدم ذمها من بعض الأوجه، فإن المصنف لما ذكر مذهب السلف وذكر المخالفين -سواءً كان المخالف يضاف إلى مذهب الكلاميين أو غيره- لم يستعمل الطريقة التي يستعملونها، بل استعمل الأدلة الشرعية والعقلية الدالة على صحة مذهب السلف، وهذا استدلال مفصل، ومعلوم أن هذه المذاهب تضاد هذا المذهب الذي دل الدليل على صوابه، فإذا كانت مضادةً له فإن الدليل العقلي القاطع يقضي بأن الضدين لا يجتمعان. وهذه الطريقة طريقة محكمة في العقل: وهي الاستدلال على القول الحق بالدلائل الشرعية والدلائل العقلية المناسبة له، فإذا تحققت الدلائل الشرعية والعقلية على صحة مذهب السلف، ومعلوم أن المذاهب المخالفة في هذا الباب هي من باب الأضداد لهذا المذهب فإنه بإجماع العقلاء لا يمكن الجمع بين الضدين. بعد هذا التقعيد، وبيان إسناد السلف وإسناد المخالفين، وبيان اتصال متأخري المتكلمين كالأشعرية وغيرهم بمتقدميهم، والاتصال بين متأخري المعتزلة كـ أبي الحسين البصري وأمثاله وبين قدماء أصحابه، وإن كان المتأخرون -كما يشير المصنف- لهم بعض الصوابات التي يفارقون بها قول الغلاة من المتكلمين. بعد ذلك دخل المصنف في هذا الفصل ليقرر جملة قول السلف رحمهم الله في باب الأسماء والصفات بشيء من التقعيد والتفصيل، فذكر القاعدة التي التزمها سائر أئمة السلف، وهي أن الله سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث. وهذا يقع في باب الإثبات، ويمكن أن نقول: أنه يقع في باب النفي باعتبار الدلائل التي أقرها الدليل الشرعي؛ ذلك أن الطريقة القرآنية النبوية التي عليها السلف رحمهم الله أنهم في ذكر صفات الله -في الغالب- يذكرون الصفات المثبتة على التفصيل، وأما باب النفي فإنه يذكر مجملاً .. هذا هو الغالب على الطريقة القرآنية النبوية: التفصيل في الإثبات والإجمال في النفي. ولكن مع ذلك فإنه يقع في الطريقة القرآنية والنبوية إجمال في الإثبات وتفصيل في النفي. أما الإجمال في الإثبات في الأسماء فهو في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] فهذا إثبات مجمل للأسماء. وأما الإجمال المثبت في الصفات فهو في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] والمثل الأعلى هو الوصف الأكمل، أي: صفات الكمال، وهذا هو الذي يسميه من يسميه من متأخري أهل السنة بقياس الأولى، وتراهم يقولون: أنه يستعمل في حق الله قياس الأولى على هذا المعنى من القرآن، ولكن التسمية الأولى الشرعية أن يقال: أنه سبحانه وتعالى له المثل الأعلى، أما تسميته قياساً فالأصل عدمها، ولكن إذا ذكرت من باب بيان قول أهل السنة في مسألة القياس أو من باب استعمال اصطلاح للمصطلحين فإن هذا -في الجملة- ليس به بأس. وأما النفي المفصل فهو المذكور في مثل قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] فهذا نفي مفصل، ولكن كل نفي مفصل في القرآن فإنه يتضمن ثبوت كمال الضد، والظلم ضده العدل، فهو لا يظلم أحداً سبحانه لكمال عدله .. وهلم جرا. ومثله: قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] فهو لا تأخذه سنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميته. والكمال المقصود يقارن النفي المفصل عند ذكره أحياناً، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] أي: لكمال حياته وقيوميته، أو لا يقارنه بالتصريح ولكن السياق والقواعد والأصول تدل عليه، كما في قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] أي: لكمال عدله. إذاً: القاعدة تقول: كل نفي مفصل في القرآن أو في السنة فإنه يتضمن أمراً ثبوتياً، وهو ما يقابله من الصفة التي هي صفة الكمال، وهي الصفة الثبوتية. فهذه القاعدة هي المستعملة من حيث الأصل في مذهب أهل السنة والجماعة، بخلاف طريقة المخالفين، فإنهم في الجملة يجملون في الإثبات ويفصلون في النفي، والنفي الذي يستعملونه لا يتضمن أمراً ثبوتياً من الصفات، بل يكون نفياً محضاً. وهنا يستعمل المصنف في تقرير مذهب السلف أنهم يصفون الله سبحانه وتعالى من غير تكييف ومن غير تمثيل، ويقصد بهذا رد مذهب المشبهة والمجسمة. وهذا المذهب -مذهب التشبيه والتجسيم- لم يكن فيه إشكال عند جماهير طوائف المسلمين لظهور فساده، ولهذا تقلده في مبدأ الأمر قوم من غلاة الشيعة الإمامية الرافضة كـ هشام بن الحكم وغيره، ثم إن الشيعة فيما بعد -في الجملة- تركوا هذا المذهب، وأصبحوا وجمهور الزيدية على مذهب المعتزلة. وقد تأثر بهذا المذهب -أعني: مذهب التشبيه- محمد بن كرام وأتباعه. لكن المذهب الذي أشكل هو مذهب النفي، ولا سيما بعد تقلد أبي الحسن الأشعري وجماعة من متكلمة الصفاتية له.

من طرق استدلال أهل السنة: الاستدلال بالمتفق على المختلف

من طرق استدلال أهل السنة: الاستدلال بالمتفق على المختلف [وهو سبحانه مع ذلك ليس كمثله شيء، لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته، ولا في أفعاله، فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة وله أفعال حقيقة، فكذلك له صفات حقيقة، وهو ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله]. يذكر المصنف أن الله سبحانه مع اتصافه بصفات الكمال المفصلة في القرآن والحديث ليس كمثله شيء لا في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله، ثم ذكر هذا الدليل، وهو من أخص القواعد التي يذكرها المصنف في كتبه، قال: فكما نتيقن أن الله سبحانه له ذات حقيقة، وله أفعال حقيقة فلذلك له صفات حقيقة. وهذا استدلال بالمسلمات، وهذه من طرق القرآن في الاستدلال، وهي: الاستدلال على المختلف بالمؤتلف، أو الاستدلال على ما كان متشابهاً بالمحكم. وقد يقول قائل: هل باب الصفات من المتشابه؟ نقول: لا، ليس هو من المتشابه، لكن لما زعم المخالفون كالمعتزلة وغيرهم أن آيات الصفات من المتشابه. قيل: هب أنها من المتشابه؛ فإنه يستدل بالمحكم في هذا الباب -باب المعرفة الإلهية- على ما زعموا أنه متشابه وهو آيات الصفات، وإلا فإن الحق أن آيات الصفات من المحكمات وليست من المتشابهات، لكن القاعدة المستعملة كثيراً في القرآن، وهي قاعدة عقلية مستعملة عند العقلاء وذكرها حتى غير الإسلاميين من الفلاسفة، هي الاستدلال بالمؤتلف على المختلف أو على المتشابه بالمحكم.

القول في الصفات كالقول في الذات

القول في الصفات كالقول في الذات يكون الاستدلال بهذه القاعدة على ثبوت الصفات بهذه الطريقة: اتفق أهل القبلة على أن الله سبحانه وتعالى له ذات حقيقة لا تشابه الذوات، وأنه موجود سبحانه وتعالى قائم بنفسه غني عن خلقه .. فكما أن له ذاتاً حقيقة فكذلك له صفات حقيقة، والقول في الصفات فرع عن القول في الذات. فمن قال: إن إثبات الصفات يستلزم أن تكون كصفات المخلوقين. قيل له: إن الصفات تابعة للذات، فكما أن الذات لا تشابه ذوات المخلوقين والمحدثات فإن الصفات كذلك؛ ولهذا اتفق المسلمون بل وجماهير بني آدم -إلا من غلا وألحد في الربوبية إلحاداً يختص به- على أن الله موجود، وهذا حكم بدهي، وببداهة العقول فإن المخلوقات موجودة؛ وقد عني شيخ الإسلام بتقرير مسألة الوجود في كتبه الكبار؛ لأنها أصل في هذا الباب في الرد على المخالف، وهي ترجع إلى قاعدة: أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص. وتطبيق هذه القاعدة -وهي قاعدة فاضلة- هو: أنه ببداهة العقول أن الباري سبحانه وتعالى موجود، وأن المخلوقات موجودة. فترى أنه صار اشتراك في الاسم المطلق بين الخالق والمخلوق، وهو اسم الوجود المجرد عن الإضافة والتخصيص، فإذا قيل وجود الله فهم منه لائق به سبحانه ليس كوجود خلقه، وإذا قيل وجود المخلوقات فهم منه وجود ناقص قاصر ليس كوجود الخالق؛ ولهذا كان وجوده سبحانه وتعالى باتفاق المسلمين -بل وعامة بني آدم- واجباً، وسائر المخلوقات ممكناً. فهل أوجب الاتفاق في الاسم المطلق في الوجود أن يكون الوجود كالوجود؟ الجواب بالبداهة العقلية: لا. فإذا كان كذلك فما الغرض هنا؟ هل المخالف يناقش في مسألة الوجود؟ الجواب: لا، ولكنا نستدل بالمؤتلف أو المتفق على ما زعموه مختلفاً أو متشابهاً، فيقال: القول في السمع والبصر مع المعتزلة كالقول في الوجود، فكما أن له وجوداً يليق به وللمخلوق وجوداً يليق به فله سمع وبصر يليق به وحياة وعلم وقدرة وكلام وهلم جراً من صفات الكمال تليق به، وللمخلوق من هذه الصفات ما يليق به، والاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص، فإن زعموه مستلزماً قيل: يلزمكم هذا في اسم الوجود. ولهم على هذا بعض الجوابات المتكلفة التي -كما قال المصنف- لا تزيد الأمر إلا سوءاً، فمنهم من قال: إن الوجود مقول بالاشتراك اللفظي .. وهذا ليس بجواب؛ لأنه لو صح هذا الجواب -والذي زعم الرازي أنه قول لـ أبي الحسن وهو غلط عليه، فإنه ليس من أقواله- للزم أن وجود الله لا يعرف؛ لأن المشترك اشتراكاً لفظياً لا يفقه معنىً بنسبة أخرى من المعنى المقابل كما تقول: المشتري -المقابل للبائع- وتقول المشتري الكوكب، وتقول سهيل بن عمرو وسهيل الكوكب .. وهلم جراً. ففي الحقيقة ليس لهم للتخلص من هذا الاستدلال إلا مقالات تزيد الأمر شدة وضلالاً عندهم.

قاعدة الاستدلال بالمتفق على المختلف

قاعدة الاستدلال بالمتفق على المختلف ومن أمثلة الاستدلال بهذه القاعدة في القرآن: الاستدلال بمسألة الربوبية على مسألة الألوهية؛ وذلك لأن المشركين كانوا يقرون بالربوبية في الجملة ويخالفون في الألوهية، والقاعدة: أن المخالف يخاطب بأصول يقر بها تستلزم التسليم بما ينازع فيه. ولهذا لو قيل: هل هذه القاعدة تطرد؟ قيل: نعم، فما من طائفة من طوائف أهل البدع سواء كان ذلك في مسائل النظر أو في مسائل الإرادات والأحوال والتصوف، بل ولا طائفة من طوائف المشركين من أهل الكتاب أو غيرهم إلا ويقرون بما هو من المقدمات التي تستلزم الإقرار بما جاء في القرآن والسنة. ولهذا لما كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل استدل في كتابته بقوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64] وهكذا كل قوم في مناظرتهم أو مخاطبتهم يخاطبون بأصل يسلمون به، وهذا الأصل تجده يستلزم التسليم بما يخالفون فيه. وهذه قاعدة فاضلة مطردة مع سائر المخالفين من أهل البدع أو حتى من طوائف الكفار، قد يقول قائل: قد يكون الخطاب مع المجوس أو مع المشركين .. وهلم جرا. فيقال: وهكذا يكون؛ فإن الإقرار بوجود الله يستلزم الإقرار بالربوبية والأفعال، والإقرار بالربوبية والأفعال يستلزم الإقرار بالألوهية، والإقرار بالألوهية يستلزم الإقرار بالشرائع والنبوات .. وهلم جرا. وهذا هو المشهور كثيراً في القرآن في مسألة الاستدلال، مثله قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:78 - 79] بمعنى أن الذي قال من الكفار: من يحيي العظام وهي رميم؟ يقر بأن الله هو الذي أنشأها أول مرة، فإذا كان يقر بأنها أنشئت من العدم على غير مثال سابق لها فكذلك من باب الأولى أن تعاد إذا كانت رميماً وقد بقي أصل مادتها. إذاً: الاستدلال بالمؤتلف على المختلف عند المخالف -وإن كان في نفس الشريعة ليس مختلفاً- يحصل هذا التحصيل، بل هو في كثير من الموارد يحصله بطريقة الأولى، أي: أن الذي خالف فيه عند التحقيق أولى في الثبوت مما وافق فيه، أي: أن الذي خالف فيه كمخالفة الكفار الذين قالوا: من يحيي العظام وهي رميم. فإن إثبات الإعادة لهذه العظام أولى في الظهور العقلي من إثبات النشأة الأولى، وهم يقرون بالنشأة الأولى. فهذا الاستدلال أحياناً يحصل الحكم بطريق الأولى وأحياناً بطريق التساوي، ولا يكون قاصراً في حال من الأحوال. هذه القاعدة الفاضلة يستعملها المصنف كثيراً، وقد استعمل في الرسالة التدمرية هذه القاعدة بأصلين، فقال: الأصل الأول أن القول في الصفات كالقول في الذات، وهو يخاطب به الجهمية والمعتزلة الذين ينفون سائر الصفات؛ لأن الجهمية والمعتزلة يثبتون لله ذاتاً تليق به لا تشابه ذوات المخلوقين. فقال: يلزم أن تثبت له صفات تليق به لا تشابه صفات المخلوقين. الأصل الثاني قوله: إن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر وهو يخاطب بهذا من يسلم ببعض الصفات كالأشاعرة الذين سلموا بالحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة، وسلم قدماؤهم وأئمتهم بغير ذلك من الصفات الخبرية وأمثالها، فهذا الذي اتفق الأشعرية فيه مع أهل السنة يدل بنفسه على ثبوت ما نازعوا فيه. فقوله: القول في بعض الصفات أي: القول فيما أثبتم كالقول فيما نفيتم. إن قلتم: أن هذه الصفات السبع التي اتفق عليها الأشاعرة وقررها المتأخرون قد ثبتت بالسمع، فقد أثبت السمع غيرها، وإن قلتم ثبتت بالعقل قيل: العقل دليل، وعدم الدليل المعين ليس دليلاً على العدم، فعندنا دليل آخر وهو السمع. إلا إن قالوا: إن القرآن ليس دليلاً. فهذا مقام آخر يدل على زيغ وزندقة. وأيضاً: فإن العقل يدل على غير هذه الصفات السبع، فقد كان الأشعري -وهو إمام المذهب- يثبت العلو بالعقل، وأثبت الرؤية بالعقل .. وهلم جرا، فالعقل لا يقتصر على هذه الصفات السبع، بل إن دلالة العقل على بعض الصفات أظهر من دلالته على بعض هذه الصفات السبع. فغالب القواعد عند شيخ الإسلام ترجع إلى هذه القاعدة، وهي قاعدة عقلية مقررة عند العقلاء: وهي الاستدلال بالمؤتلف أو المتفق على المختلف. وهي قاعدة مطردة في دين الإسلام من مسائل أصول الدين: أن كل من نازع في أصل من أصول الدين من الكفار أو غلط فيه من طوائف أهل القبلة، وإن كان الكافر يكفر بالإسلام جملة، لكن قد يكون اختصاصه بتعيين شيء ما، فإن مشركي العرب وهم كفار آمنوا بأصل الربوبية لكنهم قالوا كما قال الله عنهم: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] وقال سهيل بن عمرو: (أما الرحمن فلا أدري ما هو ..) وهلم جرا. فيقال: كل من نازع فيما جاءت به الرسل من أصول الديانة فإن في المسلمات الضرورية والفطرية والعقلية ما يدل على ثبوت هذا الذي نازع فيه، وهكذا من غلط في شيء من ذلك من طوائف أهل البدع. [وكل ما أوجب نقصاً أو حدوثاً فإن الله منزه عنه حقيقة، فإنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه، ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه]. قوله: ويمتنع عليه الحدوث لامتناع العدم هذا أخص درجات الاستدلال العقلي، وهو أنه سبحانه وتعالى منزه عن الحدوث؛ لأن الحدوث يستلزم سابقة العدم، والرب سبحانه وتعالى يمتنع عليه العدم.

ضرورة التزام الألفاظ الشرعية في مقام تقرير اعتقاد أهل السنة

ضرورة التزام الألفاظ الشرعية في مقام تقرير اعتقاد أهل السنة [واستلزام الحدوث سابقة العدم، ولافتقار المحدَث إلى محدِث، ولوجب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى]. التعبير بوجوب الوجود في الأصل ليس تعبيراً شرعياً، وإنما استعمله الفلاسفة الذين انتسبوا للإسلام كـ ابن سينا وأمثاله، فإنهم إذا قسموا الأشياء قالوا: الشيء إما أن يكون واجب الوجود، أو ممكن الوجود، أو ممتنع الوجود. والله سبحانه واجب الوجود من جهة أنه سبحانه وتعالى هو الأول؛ ولهذا لا يعبر بهذا الاصطلاح كتقرير لاعتقاد أهل السنة، وإن كان إذا عرض في باب الرد على المخالف يكون صواباً، لكن في تقرير قول أهل السنة يقال: إن الله هو الأول ليس قبله شيء كما جاء في القرآن: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دعائه: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء).

كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل جامع بين التعطيل والتمثيل

كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل جامع بين التعطيل والتمثيل [ومذهب السلف بين التعطيل والتمثيل، فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصف به رسوله؛ فيعطلوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى، ويحرفوا الكلم عن مواضعه، ويلحدوا في أسماء الله وآياته]. ويلحدوا في أسماء الله وآياته أي: يميلوا بها عن الحق الذي قصد بها. [وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل: فهو جامع بين التعطيل والتمثيل]. هذه قاعدة عند المصنف: أن كل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل جامع بين التعطيل والتمثيل؛ وذلك لأن نفاة الصفات الذين هم المعطلة سواء كانوا نفاة للصفات نفياً محضاً كالجهمية وأئمة المعتزلة أو نفوا ما هو من الصفات كالصفات الفعلية عند الأشاعرة، يقال: إنهم لم ينفوا هذا النوع من الصفات بتقريرهم هم إلا لأنهم ظنوا -بل أوجبوا- أن إثباتها يستلزم التشبيه، أي: امتنع عندهم ثبوت هذه الصفات إلا مشابهةً للمخلوقين، فهم شبهوا أولاً وعطلوا آخراً، وإلا لو فقهوا أن هذه الصفات اتصف الرب سبحانه وتعالى بها، وببداهة العقول يعلم امتناع أن يكون الباري سبحانه وتعالى مشابهاً لشيء من المحدثات، فإن من عرف الله حق معرفته، وعرف أنه ليس كمثله شيء، وأنه لا يحاط به علماً عرف أن هذه الصفات لا يمكن لأحد أن يدرك كيفيتها. ويمكن أن توضح هذه القاعدة عند المصنف بتقرير آخر، وهي أن يقال: إن المخالفين ظنوا أن العلم بالصفة من جهة معناها يستلزم العلم بها من جهة كيفيتها، أي: أنهم رأوا أن بين العلمين تلازماً في هذا الباب، وهذا التلازم الذي ظنوه هو محل الوهم عندهم، وإلا لو حققوا الفرق بين العلم بالمعنى والعلم بالكيفية -كما عليه السلف رحمهم الله- لما تحصل لهم هذا الإشكال. إذاً: دعوى أن هذا الإثبات تشبيه يدل على أن الكيفية معلومة، فمن قال: إن إثبات الصفة يدل على التشبيه أو يستلزم التشبيه، قيل: هذا الحكم فرع عن إمكان العلم بالكيفية، والعلم بالكيفية علم ممتنع، فلا بد من التفريق بين العلم بالمعنى والعلم بالكيفية، ولهذا ترى أن مالكاً رحمه الله صار قوله قاعدةً في هذا لما قال: الاستواء معلوم فهذا علم بالمعنى، قال: والكيف مجهول هذا نفي للعلم بالكيفية، فهذا التفريق هو الذي التزمه أئمة السلف وهو مما يظهر حذقهم العقلي والشرعي في هذا التقرير، أما أنه حذق شرعي فلأن الله أخبرنا بهذه الصفات ولم يخبرنا بكيفيتها، وكيفيته سبحانه وتعالى لا يحاط بها ولا يعلمها أحد من الخلق لا ملك مقرب ولا نبي مرسل. فإن قال قائل: وهل أخبرنا الله بمعانيها؟ الجواب: نعم؛ لأنه لو لم يكن ذكرها في القرآن مضافةً إلى الله يقصد به المعاني المعروفة من جهة الإشراك العام لما كان لهذا الخطاب في القرآن معنى؛ ومما يدل على هذا أن كل صفة جاءت في القرآن إنما جاءت في سياق يناسبها، فإذا ذكر الله من كفر به وقتل الأنبياء قال: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الفتح:6] وإذا ذكر توبة المؤمنين قال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:117] فيذكر سبحانه من أسمائه وصفاته ما يناسب المقام؛ مما يدل على أن هذه الصفات على معانيها الظاهرة في القرآن، وإذا قيل: على معانيها الظاهرة فلا يعنى بذلك المعاني التي تضاف إلى المخلوقين، فإن هذه المعاني تليق بالمخلوق. إذاً هذه القاعدة قاعدة شريفة: أن المعطل مثّل أولاً، أي: لم يفهم من الصفات إلا اللائق بالمخلوق فذهب ينفيه. أما الممثل فهو معطل؛ لأنه لما مثل صفات الخالق بصفات المخلوق عطلها عن معناها اللائق بها.

استلزام مقالة التعطيل للتعطيل والتمثيل

استلزام مقالة التعطيل للتعطيل والتمثيل [أما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات؛ فقد جمعوا بين التعطيل والتمثيل، مثلوا أولاً وعطلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيل لما يستحقه هو سبحانه من الأسماء والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى]. فلهذا وجدت نزعة التشبيه عند المعتزلة في باب الصفات من جهة أنهم لم يفهموا من الصفات إلا التشبيه، ولهذا كان من قواعد المعتزلة الكلامية: أن الأجسام متماثلة، وأن كل من اتصف بصفة فإنه يكون جسماً والأجسام متماثلة. وهذه قاعدة ليس لها اعتبار، والإشكال أنهم لم يعتبروا الأشياء إلا بما عرفوه في قانونهم الأرضي، ومن المعلوم أن هذا القانون الذي يشاهدونه ليس لازماً في عالم الممكنات، ومن باب أولى ألا يكون لازماً بين الخالق والمخلوق، كما ذكر شيخ الإسلام في التدمرية المثلين لما قال: نعيم الجنة ونعيم الدنيا، فقد اشتركت في الأسماء ولم يلزم من ذلك الاشتراك في الحقائق أو الماهيات في نفس الأمر. فهذا القانون الذي وعوه هو قانون انحداد ما يعرفونه من الممكنات، ومن هنا جاءوا اللوازم التي ادعوا أنها تلزم من إثبات الصفات، ومثال ذلك أنهم يقولون: إن الغضب غليان دم القلب -كما ذكر المصنف عن طائفة من الأشاعرة- فهذه اللوازم والتفسيرات للغضب أو لغيره من الصفات مبنية على مشاهدة المخلوقات، وهذا اللازم هو لازم لما يناسبه من المخلوقات، وإلا ليس هو قانوناً عقلياً. فإنه إذا قيل: العقل يستلزم أن يكون الغضب غليان دم القلب .. إلخ، وهذا لا يليق بالله، قيل: اللازم ليس عقلياً، إنما لازم حسي مشاهد. ولهذا لو أخذنا الجسم وقيل: إن هذا الجسم إذا أطلق يستقر، ولا يسقط إلى أسفل. لقال قائل: إن هذا مخالف للعقل. وهو -في حقيقته- ليس مخالفاً للعقل، لأن الضابط العقلي عند الناس الآن أن هذا الجسم إذا أطلق سقط إلى الأسفل، لكن هذا ليس لازماً عقلياً، إنما هو لازم حسي مشاهد، ولهذا إذا تجاوز هذا الجسم بعض المحيطات الأرضية التي يثبت فيها هذا النوع من الحركة ثم أطلق فإنه قد يصعد أو قد يذهب يميناً أو شمالاً أو قد يثبت في مكانه. وهذه من القواعد التي عني بها شيخ الإسلام رحمه الله، وهو: أن العقل لا يعارض النقل، وأن الشبهات التي رأوها لوازم هي لوازم حسية، ومن هنا يقول: إن المعطلة ممثلة؛ لأن اللوازم التي يدعون أنها لوازم عقلية إنما هي لوازم مثالية حسية مشاهدة. إذاً: فرق بين الضرورة العقلية والضرورة الحسية، فإن الضرورية الحسية لا قيمة لها؛ لأنها عبارة عن قانون داخل محيط الحس، وقد يكون هناك محيط حسي آخر لا يثبت فيه ما يراه الإنسان ضرورةً. ومن الأمثلة التي توضح هذا أكثر: أنه لو أخذت إنساناً وغمرته في الماء؛ فإنه يموت، وسبب موته هو انقطاع النفس، لكن لو أخرجت سمكاً من الماء وتركته ساعة لمات، وسبب موته انقطاع النفس، فالإنسان داخل الماء ينقطع نفسه والسمك العكس. وبهذا يتبين أن الإنسان قد يتصور بعض الاطرادات التي يظنها عقلية وهي -في حقيقتها- حسية. وكفائدة عامة هنا: حتى الشبهات التي يذكرها الملاحدة تجاه دين الإسلام ككون الإنسان في قبره يعذب، فيقولون: كيف يعذب وهو مطمور بالطين والتراب .. إلخ؟ كيف يكون حياً يعذب .. إلخ؟ هذا كله راجع إلى قانون حسي شاهدوه، وهو أن الإنسان لابد أن يأكل ويشرب حتى لا يموت، لكن هذا ليس لازماً عقلياً؛ بل هو قانون حسي مشاهد، ولهذا الملائكة -كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله -: صمط لا يأكلون ولا يشربون. فهذا المعنى ينبغي لطالب العلم أن ينتبه له في الرد على أصناف المخالفين حتى الكفار، وهو: أن الضرورة العقلية ليست هي الضرورة الحسية، فإن الضرورة الحسية يمكن أن تتغير في محيط حسي آخر، فضلاً عن غير ذلك. [فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم إما أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساوياً، وكل ذلك من المحال، ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم]. أي: إلا ما يعرفه مما يسميه ضرورة عقلية، وهو في نفس الأمر ضرورة حسية، فهو يقول: لو كان فوق العرش لكان مساوياً، أو لكان محتاجاً .. إلخ؛ لأنه يشاهد حال الإنسان وهو على السرير أو الدابة أو السفينة أو غير ذلك، فهو يعتبر الشواهد الحسية ويريد أن يمثل صفات الله بها، هذا هو معنى قول شيخ الإسلام أن المعطل ممثل. [كان على أي جسم كان. وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم]. وهذا اللازم -أي: هذا اللازم الحسي- الذي زعم المخالفون أنه لازم عقلي، هو لازم حسي وليس لازماً عقلياً. [أما استواء يليق بجلال الله تعالى ويختص به؛ فلا يلزمه شيء من اللوازم الباطلة التي يجب نفيها كما يلزم من سائر الأجسام، وصار هذا مثل قول الممثل: إذا كان للعالم صانع. فإما أن يكون جوهراً أو عرضاً .. وكلاهما محال، إذ لا يعقل موجود إلا هذان. أو قوله: إذا كان مستوياً على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك، إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كليهما مثَّل، وكليهما عطل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل اسم للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين]. وهذه فائدة، وهي: أن ما صح من اللوازم التي يزعمون أنها لوازم فهو لازم حسي، وهذا معنى قول شيخ الإسلام رحمه الله: إن كل معطل ممثل؛ لأنه استدعى لوازم حسية مثالية جسمانية محدثة، وأوجب أن تكون مطردة في الصفات التي أثبتها.

شرح الحموية [9]

شرح الحموية [9] من القواعد التي يذكرها العلماء في باب الصفات: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، فمن أثبت لله تعالى السمع والبصر ونحوهما فيلزمه أن يثبت باقي الصفات كالعلو والاستواء ونحوها، وإلا فإنه متناقض فيما يثبته وينفيه، وإن زعم أن العقل يدل على ما ذهب إليه، فإن العقل الصريح موافق للنقل الصحيح، وليس فيهما ما يوجب مخالفة العقيدة السلفية أصلاً، وإن نفوا الصفات بحجة التأويل فإنها حجة باطلة داحضة، معلومة الفساد من أوجه كثيرة.

القول الحق هو ما عليه الأمة الوسط

القول الحق هو ما عليه الأمة الوسط قال المصنف رحمه الله: [والقول الفاصل: هو ما عليه الأمة الوسط: من أن الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، ويختص به، فكما أنه موصوف بأنه بكل شيء عليم، وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك]. يستعمل المصنف رحمه الله هذه الصفات لأن الرسالة موجهة -في الغالب- لمتأخري الأشاعرة؛ لأن متأخري الأشاعرة يقرون بهذه الصفات: العلم والقدرة والسمع والبصر. فيقول لهم: كما أنكم أقررتم بهذه الصفات ولم يلزم من الإقرار بها أن تكون كصفات المخلوق فكذلك القول في الاستواء وبقية الصفات.

العقل قوة غريزية لها حد

العقل قوة غريزية لها حد [ولا يجوز أن يثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، وكذلك هو سبحانه فوق العرش، ولا يثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها. واعلم أنه ليس في العقل الصريح ولا في شيء من النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريق السلفية أصلاً]. هذا معنىً فاضل: أنه إذا قال قائل: الدليل العقلي يكون كذا. نقول: العقل لا يعارض النقل، والتعبد إنما هو بالنقل وليس بالعقل، ولكن إذا قلنا: التعبد بالنقل وليس بالعقل؛ فلا يعني هذا أن العقل فيه دلائل يتعذر على السالك مسلك النقل أن يجيب عنها، وإن كانت بعض ما جاءت به الشريعة يتعذر على العقل أن يدركه على التفصيل، وهذا لا إشكال فيه، ولهذا قال شيخ الإسلام: الرسل قد تخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول. ومعنى قوله: محارات العقول أي ما يتحير العقل في إدراك تفصيله، ومعنى قوله: بمحالات العقول أي: ما يستحيل في العقل أو يمنعه. وليس غريباً أن يقال: إن العقل قد يتحير أو يعجز عن إدراك التفصيل؛ لأن العقل قوة بشرية خاصة وقوة غريزية في الإنسان له حد، كما أن السمع في الإنسان له حد، والبصر في الإنسان له حد، والذوق في الإنسان له حد، والشم في الإنسان له حد، فكل قوة في الإنسان لها حد، فكذلك هذه القوة الباطنة وهي قوة الإدراك والعقل هي أيضاً قوة لها حد، لكن بحكم أنها غير مشاهدة -أي: ليست حسية- قد يصعب إدراك هذا. فأنت تعرف أن لبصرك حداً؛ لأنك تبصر به، ولهذا لا يوجد شخص عنده شبهة في أنه يبصر وهو لا يبصر، أي: لا تكون عند شخص شبهة يقول: أنا أبصر. فنقول: لا، أنت لا تبصر؛ لأن هناك أدلة متناقضة ومتعارضة على أنه يبصر أو لا يبصر؛ لأنها قضية حسية، لكن لأن العقل ليس قضية حسية يقع الوهم عند الكثيرين أنهم يدركون بعقولهم، مع أن العقل في نفس الأمر واقف عما يتكلمون في إدراكه، سواء من يدعي ذلك في مسائل الصفات وغيرها أو حتى من يدعي ذلك في مسائل التشريعات؛ حيث يدعي البعض أن الحكم الشرعي الفلاني لا يناسب العقل، أو أن الحد الفلاني لا يناسب العقل. فهذه الحدود الشرعية التي قد يراها كثير من الناظرين أنها قوة على الإنسان أو شدة على الإنسان، أو كما يصنفها الكفار بأنها غير مناسبة للإنسانية نجد أنها في القرآن تذكر على أنها هي الموافقة للطبيعة البشرية؛ لأن البشر لو لم يحدوا بهذه الحدود لحصل بينهم من الفساد والتعدي ما لا ينبغي، ولهذا كان قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:179] وكان قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] ثم قال: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] حتى بالحدود يخفف عنهم فقال: {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] فترى أن هذه الحدود -التي هي كفارات كما وصفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم - هي تخفيف على الإنسان، وضبط لميزان الإنسانية والبشرية؛ ولهذا إذا خلا منها مجتمع من المجتمعات يحصل فيه من العدوان والضلال والبغي ما لا ينبغي.

لا يمكن أن يكون العقل مصدرا للتلقي

لا يمكن أن يكون العقل مصدراً للتلقي [لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الواردة على الحق. فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير. ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة -من المتأولين لهذا الباب- في أمر مريج، فإن من أنكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها]. بدأ المصنف هنا يضرب أمثلةً، وهي أنهم يقولون: تعارض العقل والنقل. فيقول: إن العقل الذي يزعمونه معارضاً للنقل يضطربون فيه، فالمعتزلة يقولون: إن العقل يحيل الرؤية. في حين أن جمهور الأشاعرة يقولون: العقل يدل على ثبوت الرؤية .. وهلم جرا. [وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علماً وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: أن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل]. بمعنى أنه لا يمكن أن يكون العقل مصدراً للتلقي؛ لأنه لا يمكن أن ينضبط، والدليل على ذلك: أن من هؤلاء الطوائف الذين استعملوا العقل من يثبت شيئاً بالعقل ويزعم الآخر أن العقل ينفيه، فالأشاعرة -مثلاً- تقول: الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة صفات تثبت بالضرورة العقلية .. لكن المعتزلة تقول: إن هذه الصفات منتفية بالضرورة العقلية. ويقول المتكلمون: نعيم الجنة يثبت بضرورة العقل، لكن المتفلسفة تقول: هذا النعيم لا يثبت بضرورة العقل، بل العقل يدل على نفيه .. وهلم جرا. إذاً: الدليل على أن العقل ليس دليلاً ومصدراً للمعرفة الحقة أن من شرط الدليل الحق -وهذا قاعدة-: أن يكون قابلاً للاطراد إذا أُحسن النظر فيه، والعقل لا يمكن أن يكون قابلاً للاطراد مهما وقع النظر فيه على جهة من الحسن؛ لأن العقل يغلب عليه إشكالان: الأول: أنه يغلط فيه من يغلط. الثاني: أنه لا يمكن أن يطرد؛ لأن العقل قوة قاصرة. إذاً: يمتنع أن يكون دليلاً؛ لأنه لا يقبل الاطراد من جهة قصوره ومن جهة اختلاف الناظرين فيه، حتى لو افترضنا جدلاً أن الناظرين يتفقون في العقل فنقول: يمتنع أن يكون دليلاً مطرداً؛ لأنه لا يقبل الاطراد؛ وذلك لأن العقل قوة قاصرة، كما أن البصر قوة قاصرة، فلا يمكن للإنسان أن يبصر ببصره كل شيء؛ فكذلك العقل لا يمكن أن يدرك به كل شيء. [ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل. ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء: أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل]. وهذا دليل قاطع: أنه إذا تناقض المخالف تحت القاعدة الواحدة أو تحت الدليل الذي يزعمه دليلاً -وهو الدليل العقلي- وتناقضوا فيه دل على أن هذا الدليل الذي زعموه ليس دليلاً حقاً. [بل منهم من يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله .. فيا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة؟!]. أي: هب أن القرآن يحتاج إلى تأويل عقلي، فبأي عقل هذا التأويل؟ هل هو بعقل الأشاعرة أو بعقل المعتزلة أو بعقل الماتريدية أو بعقل المتفلسفة أو بعقل الكرامية أو بعقل المشبهة .. وهلم جرا من الطوائف؟ وهذا يدل على أنه يمتنع أن يرد الله سبحانه وتعالى المعرفة إلى عقول متناقضة مختلفة، أو إلى عقول تلقت معقولها من قوم هم من أعظم من ناقض الرسل عليهم الصلاة والسلام، وهم المتفلسفة الذين بعث فيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام. وقد أسلفنا أن أجوبة السلف رحمهم الله في هذا الباب هي أسد الأجوبة، ولهذا من يقول: إن علماء السلف لم يشتغلوا بالردود العقلية. نقول: هم لم يشتغلوا بالردود العقلية حسب التنظيمات العقلية الاصطلاحية، لكن أن تكون جوابات السلف ليس فيها جوابات عقلية .. فهذا غلط على السلف، فقد تقدم معنا أن في جواب الإمام أحمد في مسألة العلو ومسألة القرآن أجوبة عقلية، وإن كان قد لا يستعمل فيها الاصطلاحات العقلية. والإشكال أن بعض طلبة العلم وبعض الشباب كما أن هذا وقع فيه بعض النظار: ظنوا أن الدليل العقلي هو الدليل الذي ينظم باصطلاحات الفلسفة أو المنطق أو علم الكلام، فإذا لم يستعمل ضمن الدليل كلمة الجوهر والعرض والهيولى .. إلخ ظن أن الدليل ليس دليلاً عقلياً، مع أن الأمر ليس كذلك، ولهذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: الدلائل العقلية معتبرة بمعانيها التي يقبلها العقل، وليس بترتيبها واصطلاحها، فإن التركيب والاصطلاح يختلف فيه الناس، أما الترتيب فلأن العقول تختلف، وأما الاصطلاح فلأنه عبارة عن لسان، واللسان بين بني آدم يختلف، بخلاف المعنى المدرك؛ فإنه لا يختلف بين بني آدم.

الانشغال بمسائل الجدل والمناظرات لا ينبغي أن يكون شأنا لطالب العلم

الانشغال بمسائل الجدل والمناظرات لا ينبغي أن يكون شأناً لطالب العلم [فرضي الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء]. وهذه القاعدة التي قالها مالك رحمه الله قاعدة فاضلة لطالب العلم، وهي أن مسألة الظهور بشيء من الشبهة عند بعض الناس لا يعني في نفس الأمر أن الحق الذي معك انقلب إلى باطل، ولكن يبقى أن الشخص بحكم ضعفه قد لا يستطيع دفع هذا الباطل؛ ولهذا قال: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هؤلاء. وغالباً أن الجدل يقع إذا ترك الأثر، وقد جاء في حديث -لكن فيه ضعف - في السنن: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل) فالاشتغال دائماً بمسائل الجدل والنقاشات هذا لا ينبغي أن يكون شأناً لطالب العلم؛ لأنه ينبغي أن يكون له شأن في تقرير الاتفاق وتقرير الإجماعات إلخ. وربما ترى بعض الشباب قد يشغل نفسه أو يشغل من حوله، وربما أشغل بعض العامة في مسائل يسيرة قد اختلف فيها الأئمة الكبار، والخلاف فيها ليس شديداً، مع أنه كان الخليق والأخلق به أن يشتغل بعبادات أجمع عليها الرسل. وهذا -سبحان الله! - من قلة الفقه. وهب أن النزاع فيها له قدر وأهمية فإن كونها لها أهمية ينبغي أن يقدر ذلك بقدره، فإن غيرها من المسائل لها أهمية، وبالقطع والضرورة أنها ليست هي أهم المسائل، فإن أهم المسائل هو توحيد الله سبحانه وتعالى وهذا مستقر. فكون طالب العلم دائماً يكون اصطحابه لمثل هذه المسائل، ويشغل بها نفسه، ويحدث بها الخاصة والعامة ويؤدبهم بها .. هذا ليس من أدب الشرع، فإن الناس أحوج ما يحتاجون إلى أن يؤدبوا بالعلم البين، وهو: العلم بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، هذا هو الإيمان الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل، وقال الله تعالى لنبيه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} [محمد:19] ويؤدب بالعمل الصالح وبخاصة الأعمال التي هي أصول في الشرائع السماوية كلها، كالصلاة والصيام والإحسان إلى الخلق، وإتيان العبادات الخاصة، وحج بيت الله الحرام وأمثال ذلك.

الرد على أهل التأويل

الرد على أهل التأويل [وكل من هؤلاء مخصوم بما خصم به الآخر، وهو من وجوه:]

الوجه الأول

الوجه الأول [أحدها: بيان أن العقل لا يحيل ذلك]. قوله: أن العقل لا يحيل ذلك أي: ليس في العقل الدلالة على نفي شيء جاءت به النصوص .. وهذه قاعدة.

الوجه الثاني

الوجه الثاني [والثاني: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل]. قوله: أن النصوص الواردة لا تحتمل التأويل يمكن أن نقول بعبارة أخرى: أن النصوص الواردة يمتنع فيها التأويل. ونضرب لهذا مثالين: في قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له. فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر) والمخالفون من المعتزلة والأشاعرة لا يثبتون هذا النزول لائقاً بجلال الله سبحانه وتعالى، بل يتأولونه. فمنهم من يقول: ينزل ملك من ملائكته. نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ينزل ربنا) فمن أين جاء المؤول بقوله: ينزل ملك؟؟ إن قال: لأن الله يمتنع عليه النزول. قيل: الله سبحانه وتعالى ليس كذلك؛ لأنه نزوله ليس كنزول المخلوق. ثم لو فرض جدلاً هذا فهل يعني امتناع النزول في حق الباري تعيين أن الذي ينزل ملك أو عدمه؟ الجواب: عدم التعيين؛ لأنه قد لا يكون في نفس الأمر، فقد يكون الذي ينزل ملكان أو جمع من الملائكة، فمن الذي قال: إنه ملك؟! وكذلك نقول لمن قال: تنزل رحمته أو أمره. إذاً: التأويلات التي تفرض متعددة وهي مختلفة، ففرق بين قول من يقول: ينزل جبريل أو ينزل ملك، أو ينزل جملة من الملائكة، وبين قول من يقول: ينزل أمره، أو تنزل رحمته .. فمن الذي عين واحداً منها؟ أي: هب جدلاً أن النزول ممتنع فمن الذي عين واحداً منها؟ وبأي دليل؟ ومن قال بأنه ينزل ملك وهو لا يدري هذا كذب؛ لأن الملك لا ينزل إلا بأمر الله. إذاً: فكما أن تأويلاتهم ممتنعة هي في حقيقتها كذب -وهذا مطرد في كل التأويلات ولكن هذا مثال- لأن التأويل ليس هو الذي جاء بالنص، أي: أن المعنى الذي أول إليه النص ليس هو المعنى الذي ذكره النص، فإن النص ذكر نزول الله والتأويل ذكر نزول الملك، ونزول الله غير نزول الملك، والقرآن ذكر استواء الله والتأويل ذكر استيلاء الباري، والاستيلاء هو الملك، وليس معنى الاستواء هو معنى الاستيلاء، وهكذا بقية التأويلات. إذاً: لما كان المعنى الذي يؤول إليه النص -وهذا باتفاق حتى المعتزلة ومن يوافقهم- هو في نفسه معنى غير المعنى الذي ذكره النص مضافاً إلى الله، أصبح عندنا معنيان: المعنى الذي أضيف إلى الله والمعنى الذي أول إليه النص عند المخالف، سواء كان هذا المؤول -الذي أول إليه النص- معنىً واحداً كاستولى، أو كان متعدداً كقولهم: نزول الملك، أو نزول الرحمة. فيقال: إن المؤول كذب؛ لأن هذه النصوص نصوص خبرية تدور بين النفي والإثبات، فمن نفى المعنى الأول الظاهر في القرآن قيل له: هب أنه كذلك فمن أين أتيت بالمعنى الثاني في هذا السياق؟ ولهذا يكون المعنى الثاني كذب من حيث أن السياق القرآني أريد به، وإن كانت بعض المعاني هي من حيث هي صواب؛ فمن يقول: إن معنى قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أي: استولى، أي: ملك، أي: أن هذا بيان لملكه سبحانه للعرش فما دونه، يقال: ملكه سبحانه وتعالى للعرش وما دونه حق، لكن تفسير النص به في هذا المقام غلط على النص. كذلك نزول الملك، فإن الملائكة تنزل من عند الله، لكن تفسير النص النبوي المعين به هو الذي يقال: إنه كذب في هذا السياق، فإذا قلنا: إنه كذب فلا يعني بالضرورة أن كل المؤولات هي في نفسها باطلة؛ فإنهم إذا قالوا: تنزل رحمته. فإن الله أنزل رحمته كما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله مائة رحمة أنزل منها رحمةً واحدة في الأرض، وأبقى تسعاً وتسعين يرحم بها عباده يوم القيامة). فمثل هذه المعاني -أعني: معاني التأويل- بعضها قد يكون حقاً نطقت به النصوص، لكن تفسير سياقات معينة به هو الذي يقال: إنه كذب وغلط على النص.

الوجه الثالث

الوجه الثالث [والثالث: أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بها بالاضطرار، كما أنه جاء بالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان]. هذا هو الوجه الثالث، وهو يرجع إلى قاعدة الاستدلال بما هو متفق على ما زعموه مختلفاً، فإن المتكلمين اتفقوا على الصلوات الخمس، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بها، فيقال: من باب الأولى أنه جاء بمسائل الأسماء والصفات. [فالتأويل الذي يحيلها عن هذه بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والصلاة والصوم وسائر ما جاءت به النبوات]. فإذا كان المتكلمون يطعنون على أهل الباطنية الذين يأولون أوامر النهي أو يطعنون على جنس المتفلسفة الذين يأولون المعاد فإنه يقال في تأويلهم للصفات ما قالوه في تأويلات هؤلاء.

الوجه الرابع

الوجه الرابع [الرابع: أن يبين أن العقل الصريح يوافق ما جاءت به النصوص وإن كان في النصوص من التفصيل ما يعجز العقل عن درك تفصيله]. حينما يقول المصنف: إن العقل يوافق ما جاء في النقل .. فإن هذه قاعدة مطردة، لكن إذا قيل: إنه يوافق؛ فإن هذا لا يعني أن العقل يدرك كل ما جاء في النص، بل يوافقه أي: لا يعارضه، ثم يبقى أنه تارةً يدركه تفصيلاً وتارةً يقر به وهو لا يفقه تفصيله. [وإنما عقله مجملاً إلى غير ذلك من الوجوه]. من الوجوه أي: من أوجه الرد والتقرير.

اعتراف أساطين الكلام بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية

اعتراف أساطين الكلام بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية [على أن الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية]. على أن الأساطين أي: الكبار من أئمة هؤلاء. وممن صرح بأن هذا الباب -الباب الإلهي- ليس فيه يقين من الفلاسفة المتقدمين أفلاطون، وقد صرح شيخ الإسلام في درء التعارض وغيره بهذا، يقول: وذكر أفلاطون وغيره أن هذا الباب الإلهي ليس فيه يقين عندهم. فهذا الباب الإلهي لا شك أن فيه يقيناً، لكن هؤلاء الفلاسفة -لأن تلقيهم من العقل والنظر أو من الرياضة والتجريد- لا يمكن أن يصلوا فيه إلى يقين، وقد ذكر محمد بن عمر الرازي في أول المطالب العالية هذا القول عن أفلاطون، بعدما عقد فصلاً: هل هذا الباب مدرك بالعقل أو ليس مدركاً. وقد ذكر أرسطو ما يقارب ذلك؛ ولهذا نقل الرازي عن أرسطو أنه قال: من أراد الدخول في هذا فليشرع لنفسه مشرعةً أخرى. أي: ليشرع لعقله وتصوره تصوراً آخر؛ مما يدل على أن هذا الباب ليس مدركاً عندهم تماماً بالعقل، وإذا كان كذلك علم أن هذا الباب باب لا بد فيه من السمع، الذي هو الوحي المنزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. [وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه]. يعني: إذا شهد أئمة هؤلاء بأن العقل لا يدل على هذا الباب باليقين كما يذكره أرسطو وأفلاطون -وهم أخص من استفاد منهم هؤلاء الذين خالفوا السلف من أهل القبلة- فإن ذلك يدل على أن هذا الباب يتلقى من جهة النبوات.

الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة وأنصحهم لها

الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الأمة وأنصحهم لها [ومن المعلوم للمؤمنين أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأنه بين للناس ما أخبرهم به من أمور الإيمان بالله واليوم الآخر، والإيمان بالله واليوم الآخر يتضمن الإيمان بالمبدأ والمعاد، وهو الإيمان بالخلق والبعث، كما مع بينهما في قوله تعالى: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] وقال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28] وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [الروم:27] وقد بين الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر ما هدى الله به عباده وكشف به مراده. ومعلوم للمؤمنين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم من غيره بذلك، وأنصح للأمة من غيره، وأفصح من غيره عبارة وبياناً، بل هو أعلم الخلق بذلك وأنصح الخلق للأمة وأفصحهم، فقد اجتمع في حقه كمال العلم والقدرة والإرادة]. هذه الصفات النبوية قاطعة بأنه لا بد أن يكون مبيناً للحق على جهة التفصيل وخاصة في مسائل أصول الدين، وهذا يدل على أن هذا الباب هو كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى تأويل، وإلا لو كان قوله صلى الله عليه وسلم في باب الأسماء والصفات ليس على ظاهره ويحتاج إلى تأويل لما نُسب هذا البيان إليه، بل إلى من أوله بالعقل؛ أي: لو كان بيانه صلى الله عليه وسلم وأحاديثه التي حدث بها في صفات الله ليست على ظاهرها بل تحتاج إلى تأويل يستدعي دلائل عقلية، بل يستدعي فلسفة لكان أهل التأويل هم الذين بينوا هذا الباب للأمة، ولا شك أن هذا يستلزم الطعن في مقام النبوة! [ومعلوم أن المتكلم أو الفاعل إذا كمل علمه وقدرته وإرادته كمل كلامه وفعله] يعني أن هذا سؤال آخر: من الذي أمر بتأويل هذا الباب من كلام الله ورسوله؟ لم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم عنه بظاهر مناقض للحق؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا) والمؤول يدعي أن الله يمتنع عليه النزول؟ حتى لو قال: إنه في ظاهره، حتى في ظاهره لم تكلم بنقيض الحق؟ ما الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول: ينزل ملك من الملائكة حين يبقى ثلث الليل الآخر؟ ما الذي جعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول: تنزل رحمة الله؟ لماذا قال: (ينزل ربنا) وهو لا يقصد بذلك نزول الباري؟ ثم إنه لو لم يقصد بذلك نزول الباري فهل أفاد الأمة شيئاً معيناً؟ لم يفدها شيئاً معيناً؛ لأنه هذا المحتمل الذي تأولوا إليه مختلف متعدد. [وإنما يدخل النقص إما من نقص علمه، وإما من عجزه عن بيان علمه، وإما لعدم إرادته البيان. والرسول هو الغاية في كمال العلم، والغاية في كمال إرادة البلاغ المبين، والغاية في قدرته على البلاغ المبين، ومع وجود القدرة التامة والإرادة الجازمة يجب وجود المراد، فعلم قطعاً أن ما بينه من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر حصل به مراده من البيان، وما أراده من البيان فهو مطابق لعلمه، وعلمه بذلك أكمل العلوم، فكل من ظن أن غير الرسول أعلم بهذا منه أو أكمل بياناً منه أو أحرص على هدى الخلق منه فهو من الملحدين لا من المؤمنين]. فمن وصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف فهو من الملحدين، وهو كافر بعينه، وقد وقع في هذا الذي أشار إليه المصنف قوم من غلاة المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام كـ المبشر بن فاتك وأمثاله الذين وصفوا بأن الفلاسفة أو الحكماء أعلم بهذا من الأنبياء، أي: أن الأنبياء لم يعلموا هذا الباب على وجهه، وأن الفلاسفة أعلم منهم بهذا، فهؤلاء كفار بأعيانهم. ولهذا لما ذكر شيخ الإسلام المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام قال: وهم صنفان: منهم من يقول أن غير الرسول من أئمتهم وحكمائهم أعلم بها من النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء، كما هي طريقة المبشر بن فاتك وأمثاله، ومنهم من يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمها كما هي طريقة ابن سينا وأمثاله، ولكنه كتمها الخلق.

شرح الحموية [10]

شرح الحموية [10] أهل السنة والجماعة من السلف وأتباعهم بإحسان هم أهل العقيدة الصحيحة في أسماء الله تعالى وصفاته، وأما المخالفون فهم على ثلاث طبقات: أهل التخييل، وهم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم، وأهل التأويل، وهم المتكلمة الجهمية والمعتزلة ونحوهم، وأهل التجهيل.

أصناف المنحرفين عن مذهب السلف

أصناف المنحرفين عن مذهب السلف قال المصنف رحمه الله: [والصحابة والتابعون لهم بإحسان ومن سلك سبيل السلف هم في هذا الباب على الاستقامة. وأما المنحرفون عن طريقهم فهم ثلاث طوائف]. بدأ المصنف يذكر المنحرفين عن طريقة السلف في هذا الباب، مبيناً أنهم ثلاث طوائف، تحت كل طائفة جملة من الطوائف.

أهل التخييل

أهل التخييل [أهل التخييل]. أهل التخييل سموا بذلك لأنهم زعموا أن القرآن وخطاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم -وعموماً يرون ذلك مطرداً في الكتب السماوية والشرائع النبوية- تخييل للجمهور، وليست هي الحقائق العلمية في نفس الأمر، وهذا هو مذهب المتفلسفة، وقد انتسب إليه في الإسلام قوم من هؤلاء، وهؤلاء كان ظهورهم بعد ظهور المتكلمين وبعد انقراض القرون الثلاثة الفاضلة في الجملة، وإن كان أصلهم نبغ في آخر القرن الثالث، لكن انتشار هذا المذهب كمذهب معروف كان بعد القرون الثلاثة الفاضلة في المائة الرابعة وما بعدها. ومن أخص أئمة هؤلاء الذين ينتحلون هذا المذهب من الذين انتسبوا للإسلام أبو نصر الفارابي وابن سينا، وهم من المشارقة، وأبو الوليد بن رشد من المغاربة. [وأهل التأويل، وأهل التجهيل. فأهل التخييل: هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف]. ومن سلك سبيلهم أي: تأثر بهم، من متكلم -كما هو شأن طائفة من غلاة المتكلمين الذين نقلوا المقالات الصريحة من الفلسفة واعتبروها، أو استدلوا بصريح كلام الفلاسفة، وإن كان المتكلمون في الجملة ولدوا كلامهم من كلام المتفلسفة، لكن منهم -أي: من غفلاتهم- من ينقل بالتصريح. ومتصوف لأن نوعاً من الصوفية هم صوفية في الإطلاق، ولكنهم في نفس الأمر متفلسفة وهم الباطنية. والباطنية صنفان: إما باطنية متشيعة، كما هو شأن الإسماعيلية والقرامطة وأمثالهم، ومن أئمتهم الذين صنفوا في هذا الباب على طريقة المتفلسفة أبو يعقوب السجستاني صاحب الأقاليد الملكوتية، وهو ممن يقول برفع النقيضين -كما يقرر المصنف في كتبه الكبار-. متصوفة أو باطنية، وهم الذين شاعوا كثيراً، وهم الذين عرفوا عند العامة بأنهم متعبدة متصوفة، وهم في الحقيقة متفلسفة باطنية كـ ابن عربي وابن سبعين والتلمساني -الذين يسمونه العفيف، ويسميه كثير من علماء السنة الفاجر التلمساني - وابن الفارض وأمثال هؤلاء. ومتفقه يشير إلى أبي الوليد بن رشد، وبعض المغاربة المتفلسفة الذين عنوا بدراسة مذهب مالك؛ فإن لـ أبي الوليد بن رشد كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد، صنفه في الفقه المقارن، وهو كتاب -في الجملة- ملخص من كتاب أبي عمر بن عبد البر التمهيد، والكتاب له اختصاص يسير، وليس فيه تحقيق كثير حتى فيما اختص به، وهو سبب الخلاف؛ فإن هذه ميزة في الكتاب، لكن في الغالب أن ما سماه سبب الخلاف في المسألة المعينة لا يكون في نفس الأمر هو السبب الموجب للخلاف، وإن كان في أكثر الموارد يكون سبباً يؤثر في الخلاف. فإنه إذا ذكر المسألة قال: وسبب الخلاف أنه جاء ظاهر قوله تعالى مع قول النبي كذا، أو ورود حديثين بينهما في الظاهر تعارض، وهلم جرا .. فهذه الأسباب التي عينها ابن رشد -وهي التي جعلت كثيراً من طلبة العلم يثنون على الكتاب- ليست -في الغالب- هي الموجبة للخلاف في نفس الأمر، أي: من جهة أن أصل الخلاف انبنى عليها بين قدماء الأئمة، وإن كان لها نفسها شيء من التأثير، حيث إن السبب -في الغالب- لا يختص بمورد واحد، فهي شيء من السبب وليست هي السبب في نفس الأمر. وثمرة هذا التفريق تظهر بهذا المثال: في مسألة مس الذكر أهو ناقض للوضوء أو ليس ناقضاً للوضوء؟ إذا قيل: إن سبب الخلاف هو التعارض بين حديث بسرة بنت صفوان وحديث طلق بن علي، ثم ضعف حديث طلق بن علي وقيل: إن الصواب من جهة الصحة هو حديث بسرة، ففي الغالب في النتيجة الفقهية أن يكون الخلاف انتهى إلى الرجحان، فإذا تحقق أن هذا هو السبب فإن الترجيح هنا سيكون مناسباً. لكن إذا كان السبب عند الأئمة أخص من هذا أي: أن هذا الاستدلال الذي جعله ابن رشد سبباً إنما استدل به بعض أصحاب المذاهب، فهنا لا يكون الترجيح مناسباً، ومثال هذا: هل القصاص والقود يكون بالسيف وحده أو بما قتل به القاتل؟ قيل: إن في هذا تعارضاً بين ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (لا قود إلا بالسيف) وما جاء في القرآن: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل:126] فإن رددت وقلت: هذا الحديث ضعيف ترجح عندك مباشرةً القول الثاني، لكن إذا فرضت أن سبب الخلاف ليس هو التعارض بين هذا الذي قيل فيه: إنه حديث مرفوع، وبين ظاهر القرآن لا يبقى أن الترجيح بالضرورة يلزم أن يكون مناسباً؛ ولهذا كان الإمام أحمد يعتبر هذا المذهب -الذي هو أن القود يكون بالسيف- بدلائل أخرى غير هذا الحديث. [إن ما ذكره الرسول من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بين به الحق، ولا هدى به الخلق، ولا أوضح به الحقائق. ثم هم على قسمين: منهم من يقول: إن الرسول لم يعلم الحقائق على ما هي عليه، ويقولون: إن من الفلاسفة الإلهية من علمها]. كما هو طريقة المبشر بن فاتك، وهذا قول غلاة الملاحدة. [وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم أولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة أو الأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين .. وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية: باطنية الشيعة وباطنية الصوفية]. لأن الباطنية على هذين الصنفين في الجملة. [ومنهم من يقول: بل الرسول علمها لكن لم يبينها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فهم ما يناقضها؛ لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق]. وهذا مذهب الجمهور من المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام كـ ابن سينا وابن رشد وأمثالهما. [ويقول هؤلاء: يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل، ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون مع أن ذلك باطل. قالوا: لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريقة التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد .. فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر. وأما الأعمال فمنهم من يقر بها]. وأما الأعمال أي: الأعمال الظاهرة. منهم من يقر بها وغلاتهم من باطنية الصوفية وباطنية الشيعة يأولونها كما تأولوا نصوص المعاد ونصوص الصفات. [ومنهم من يجريها هذا المجرى، ويقول: إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض، ويؤمر به العامة دون الخاصة، فهذه طريقة الباطنية الملاحدة والإسماعيلية ونحوهم]. هذا هو الصنف الأول: أهل التخييل. وهؤلاء ليس في شأنهم اشتباه، ولا ينبغي كثرة الاشتغال بالرد عليهم؛ لأنهم زنادقة في الجملة، وأصل مقالتهم مقالة منقولة نقلاً صريحاً عن الطوائف الفلسفية المتقدمة، ولهذا اتفق المسلمون -حتى أهل الكلام وجمهور طوائف المتصوفة وغير هؤلاء- على ذم هؤلاء، وبيان أنهم مارقون عن دين الإسلام. وأما الشأن الذي وقع فيه الاشتباه: فهم أهل التأويل، وهم أهل الكلام، أو أهل التجهيل وهم طوائف من المنتسبين للسنة والسلف.

أهل التأويل

أهل التأويل [وأما أهل التأويل فيقولون: إن النصوص الواردة في الصفات لم يقصد بها الرسول أن يعتقد الناس الباطل، ولكن قصد بها معاني ولم يبين لهم تلك المعاني، ولا دلهم عليها، ولكن أراد أن ينظروا فيعرفوا الحق بعقولهم، ثم يجتهدوا في صرف تلك النصوص عن مدلولها، ومقصوده امتحانهم وتكليفهم وإتعاب أذهانهم وعقولهم في أن يصرفوا كلامه عن مدلوله ومقتضاه، ويعرفوا الحق من غير جهته. وهذا قول المتكلمة الجهمية والمعتزلة، ومن دخل معهم في شيء من ذلك]. هذا الصنف الثاني من المنحرفين عن طريق السلف في هذا الباب وما دخل فيه، والفرق بين قول أهل التخييل وأهل التأويل، أن أهل التخييل يقولون: إن هذه النصوص القرآنية والنبوية لم تتضمن الحقيقة في نفس الأمر لا من جهة ظاهرها ولا من جهة تأويلها، ولهذا لا يرون تأويل القرآن؛ لأن القرآن عندهم إنما هو خطاب للجمهور كما يذكر ذلك المتفلسفة ومن سار على طريقتهم ممن انتسبوا للتصوف أو التشيع من الباطنية. أما الصنف الثاني -وهم الذين عني المصنف بذكرهم والرد عليهم-: وهم أهل التأويل الذين قالوا: إن هذه النصوص القرآنية والنبوية تضمنت الحقيقة في نفس الأمر، لكن الحقيقة في نفس الأمر ليست هي الظاهر من هذه النصوص، وإنما هي المعاني التي يصل إليها الناظر من أهل التأويل، وهذا التأويل يتحصل عندهم بدلائل عقلية هي الدلائل الكلامية، وهذه هي التسمية الصحيحة لها: أنها دلائل كلامية وليست دلائل عقلية يشترك في صحتها أو في قبولها سائر الأقوام. وهذا قول المتكلمة والجهمية. لأنهم الأصل في هذه الطريقة. ومن دخل معهم في شيء من ذلك إشارة إلى متأخري المتكلمين الذين يضافون إلى متكلمة الصفاتية، فإن الأصل في هذه الطريقة -أعني: طريقة التأويل- هم الجهمية والمعتزلة ومن دخل معهم في شيء من ذلك من متكلمة الصفاتية، كالكلابية أتباع عبد الله بن سعيد بن كلاب، وكالأشعرية أتباع أبي الحسن الأشعري، وكالماتريدية أتباع أبي منصور الماتريدي الحنفي وأمثالهم، فهذا الصنف يختلفون عن المتفلسفة؛ ولهذا صار جنس أهل التأويل أقرب إلى الشريعة والحق من أهل التخييل؛ وإن كان يقع في هذا الصنف -أعني: صنف المتكلمين- من الغلاة فيه ما يكون قول بعض المنتسبين إلى الفلسفة في بعض الموارد أقرب إلى الشريعة من قولهم. حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله لما ذكر أبا الوليد بن رشد -وهو من المتفلسفة، ومن أهل الطريقة الأولى في الجملة- قال: ومع ذلك فإن ابن رشد وأمثاله من مقتصدة المتفلسفة خير من الجهم بن صفوان وأمثاله من غلاة المتكلمة في باب الأسماء والصفات. إذاً: قد يقرب بعض أعيان المتفلسفة في بعض الموارد إلى درجة يكون فيها خيراً من بعض غلاة المتكلمين، لكن من حيث الجملة أهل التخييل أبعد عن مقاصد الإسلام ومراداته من أهل التأويل. هذا هو الصنف الثاني، وهو الذي شاع الإشكال فيه، ولا سيما عند المتأخرين. [والذين قصدنا الرد عليهم في هذه الفتيا هم هؤلاء، إذ كان نفور الناس عن الأولين مشهوراً، بخلاف هؤلاء؛ فإنهم تظاهروا بنصر السنة في مواضع كثيرة، وهم - في الحقيقة- لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا]. ذكر المصنف قبل هذا أن أخص هذا الصنف هم الجهمية والمعتزلة، والجهمية والمعتزلة ليس لهم انتصار لطريقة السنة، وإنما مقصوده: أن اغلاة هذا الصنف انتصاراً معروفاً لبعض مسائل أصول الإسلام التي خالفوا فيها المتفلسفة، كالقول بحدوث العالم، والرد على المتفلسفة الذين قالوا بقدم العالم، وكقولهم بإثبات النبوة على التحقيق رداً على المتفلسفة الذين جعلوا النبوة مكتسبة، وجعلوها ثلاث قوى -على ما يذكره ابن سينا وأمثاله-: قوة التخييل، وقوة التعبير، وقوة التصوير. فالمعتزلة لهم ردود في هذا الباب في مثل هذا النوع من المسائل، وهي: مسائل أصول النبوات، وأصول الشرائع، وتحقيق الأمر والنهي أنه حقاً على حقيقته، وتحقيق مسألة المعاد وأنها حقاً على حقيقتها. ويستدل المعتزلة فيها على هذا الصنف من المتفلسفة بدلائل الشريعة أو الدلائل العقلية، فهم لهم نصر للإسلام أو للسنة من هذا الوجه. وإذا وقع المقصود في الصنف الثاني من هذا النوع -وهم المتأخرون من المتكلمين كالأشعرية وأمثالهم- فإن لهم بعض العناية بنصر السنة -أي: ما ظنوه قول أهل السنة والجماعة- وهذا تارةً يقعون فيه على شيء من التحقيق، وتارةً يقعون فيه على شيء من الوهم والغلط، فيكون غلطهم من جهة ما ظنوه قولاً لأهل السنة وليس قولاً لهم. أما ما وقعوا فيه من التحقيق فمن أخص مثالاته: استدلال الأشاعرة على ثبوت الصفات من حيث الأصل -أي: معارضة طريقة المعتزلة التي تقول بأن الرب لا يقوم بذاته شيء من الصفات- فصار الأصل عند الأشعرية أن الرب متصف بالصفات .. فهذا أصل كلي، وأما عند التفصيل فإنهم ينازعون في كثير من تفاصيل الصفات -أعني الأشعرية- فهذا من الحق الذي وصلوا إليه، وإن كانت طرقهم في إثبات الصفات ليست هي الطرق الفاضلة في الجملة، بمعنى: أن في طرق إثبات الصفات في كلام أئمة السلف من الطرق الشرعية والعقلية ما هو خير من الطرق التي يذكرها أئمة المتكلمين من متكلمة الصفاتية في مقابلة قول المعتزلة والجهمية. وربما قرروا -في مقابلة قول الجهمية والمعتزلة- من المقالات التي هي وهم على السلف. إذاً: ما ترد به طائفة على طائفة وقعت فيما هو من الضلال تارة يكون محققاً، وتارةً يكون قاصراً، وتارةً يكون غلطاً؛ أي: أنهم يردون البدعة ببدعة أخرى، ولكنها في الجملة تكون أخف منها. فالمعتزلة لم يتحصل لهم القول بحدوث العالم إلا بنفي الصفات، فهم يرون أن ثمة تلازماً بين إثبات قبول الرب للصفات وبين القول بقدم العالم، وهذا التلازم وهم عند المعتزلة، وهذا الذي جعل شيخ الإسلام رحمه الله يقول كثيراً عن هؤلاء المتكلمين من المعتزلة وغيرهم: وهم لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا. لأنهم بنوا القول بحدوث العالم على القول بنفي الصفات، فجعلوه لا يتحصل في العقل إثبات حدوث العالم إلا بإثبات أن الرب لا يتصف بشيء من الصفات .. ولا شك أن هذا الامتناع غلط؛ لأن العلم باتصاف الرب بالصفات أمر مستقر في العقل والشرع والفطرة، فلو فرض جدلاً أن هذا -الذي هو ثابت بالعقل والشرع والفطرة- يدل على القول بقدم العالم لكان هذا من التناقض الذي جاءت به الرسل أو فطرت عليه العقول والنفوس. المقصود: أن هؤلاء المتكلمين -في الغالب- لا يحققون بعض الحق إلا بالتزام شيء من الباطل، بل ربما صار الباطل الذي التزموه وأقروا به شراً من الخطأ في الحق الذي قصدوا تحقيقه، وهذا لا يطرد، لكنه يقع في بعض المسائل، وليس المقصود هنا القول في تفصيله. وربما صارت أدلتهم في ردهم على المتفلسفة أدلةً قاصرة يستطيع المحقق من المتفلسفة أو الحاذق منهم أن يجيب عن هذه الأسئلة، كاستدلال كثير من أئمة الكلام على القول بإثبات المعاد على حقيقته، وردهم على المتفلسفة في ذلك بأن فرض المعاد على الحقيقة لا يلزم من فرضه محال. وهذه الطريقة التي استعملها الكثير من متكلمي المعتزلة والأشاعرة ليست طريقة محققة في العقل؛ لأن مبنية على عدم العلم بالامتناع، وعدم العلم بالامتناع ليس علماً بعدم الامتناع؛ بخلاف الطرق المذكورة في القرآن والسنة وكلام السلف في إثبات المعاد؛ فإنها مبنية على العلم بلزوم ثبوت هذا من حيث قياس الأولى الذي يقر به سائر العقلاء، وتجد أن المثال الذي وقع عليه القياس مستقر في سائر عقول بني آدم حتى الكفار .. وهلم جرا. وهذا يحصل منه نتيجة أخيرة وهي: أن هؤلاء وإن كان لهم اشتغال بالرد على المتفلسفة وأمثالهم -أعني: المتكلمين- إلا أنهم في الجملة لم يحققوا، وإن كان لهم مقام حمد من حيث الجملة في هذه العناية، ولهذا لما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله المتفلسفة قال: وقد صنف نظار المسلمين في الرد عليهم والطعن عليهم. ثم ذكر بعض مصنفات المعتزلة وبعض مصنفات الأشاعرة، فهذا مما يحمدون فيه؛ من حيث أنهم قصدوا رد ما هو مخالف لدين الإسلام، لكن من حيث الحقيقة التي استعملوها في هذا الرد والطرق التي سلكوها والمعاني التي التزموها هذا هو الذي يقع لهم فيه كثير من التأخر والقصور.

إلزام الفلاسفة للمتكلمين في نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات

إلزام الفلاسفة للمتكلمين في نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات [لكن أولئك الفلاسفة ألزموهم في نصوص المعاد نظير ما ادعوه في نصوص الصفات. فقالوا لهم: نحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بمعاد الأبدان. وقد علمنا فساد الشبه المانعة منه. وأهل السنة يقولون لهم: ونحن نعلم بالاضطرار أن الرسل جاءت بإثبات الصفات، ونصوص الصفات في الكتب الإلهية أكثر وأعظم من نصوص المعاد]. وأهل السنة يقولون للمتكلمين -أي: أهل التأويل-: إنكم أقررتم بنصوص المعاد، وفي ردكم على المتفلسفة في مسألة المعاد قلتم: إنه قد علم مجيء الرسل بهذا ضرورة، فيقال أيضاً: وقد علم مجيء الرسل بمسائل الصفات ضرورةً .. فهذا من باب قياس الأولى.

الاستدلال بإنكار مشركي العرب نصوص المعاد بخلاف نصوص الصفات على قبول العقل للصفات

الاستدلال بإنكار مشركي العرب نصوص المعاد بخلاف نصوص الصفات على قبول العقل للصفات [ويقولون لهم: معلوم أن مشركي العرب وغيرهم كانوا ينكرون المعاد. وقد أنكروه على الرسول وناظروه عليه، بخلاف الصفات فإنه لم ينكر شيئاً منها أحد من العرب]. وهذا قياس فاضل؛ فإن العرب في جاهليتهم نازعوا في مسألة المعاد، وغيرهم من طوائف المشركين -الذين بعث فيهم الرسل- كانوا ينازعون في مسألة المعاد؛ لكن مسألة الصفات لم يقع فيها نزاع؛ ولهذا قال الله عنهم: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] وقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] وقال: {وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء:49] وهلم جرا، لكنه في مسائل الصفات لم يعترض أحد من المشركين على ثبوت صفة مضافة إلى الله. [فعلم أن إقرار العقول بالصفات أعظم من إقرارها بالمعاد، وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات]. هذا الحرف من كلام المصنف فيه بعض التردد، ولعل فيه إما تصحيفاً أو غلطاً من النساخ أو أنه يحمل على مقصود ما؛ وذلك لأنه قال: وأن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات. وكان الافتراض المبدئي أنه يكون العكس، أي: أن إنكار الصفات أعظم من إنكار المعاد. فإن فرضنا أن السياق من حيث اللفظ على وجهه وهذا محتمل، فإنه يفسر بمعنى يناسبه، وهو أن معنى العبارة: أن إنكار المعاد أقرب إلى الفرض العقلي من إنكار الصفات؛ ولهذا المشركون عقولهم فرضت إنكار المعاد ولم تفرض إنكار الصفات. إذاً قوله: أن إنكار المعاد أعظم من إنكار الصفات. لا يفهم منه أنه أعظم في الشرع أو في العقل .. ولكنه يحمل على -إن سلمت العبارة من التصحيف- معنى أي: أظهر في الفرض العقلي من إنكار الصفات، ولهذا المشركون فرضت عقولهم إنكار المعاد ولم تفرض إنكار الصفات. [فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما أخبر به من الصفات ليس كما أخبر به؟ وما أخبر به من المعاد هو على ما أخبر به؟!]. وهذا من باب قياس الأولى.

صفات الله عز وجل في التوراة

صفات الله عز وجل في التوراة [وأيضاً: فقد علم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد ذم أهل الكتاب على ما حرفوه وبدلوه، ومعلوم أن التوراة مملوءة من ذكر الصفات، فلو كان هذا منما حرِّف وبدل لكان إنكار ذلك عليهم أولى]. أي: أن اليهود مع انشغالهم بتحريف كتابهم لم ينكر اشتغالهم بتحريف آيات الصفات مع أنها قطعاً مذكورة في التوراة؛ ولهذا ترى أن بعض اليهود الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يسألونه في تفاصيل بعض الصفات التي هي ليست من الصفات المعلومة بمحض العقل، كالصفات السمعية المحضة، كإثبات صفة الأصابع وأمثال ذلك، ولم ينكر أن اليهود كانوا يشتغلون بتحريف ما جاء في التوراة من الصفات، مع أنهم محرفة لكتابهم بالاتفاق. [فكيف وكانوا إذا ذكروا بين يديه الصفات يضحك تعجباً منهم وتصديقاً لها؟! ولم يعبهم قط بما تعيب النفاة أهل الإثبات، مثل لفظ التجسيم والتشبيه ونحو ذلك، بل عابهم بقولهم: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] وقولهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وقولهم: إنه استراح لما خلق السماوات والأرض فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق:38] والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن، فإذا جاز أن تتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان، فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما أولى، والثاني مما يعلم بالاضطرار من دين الرسول أنه باطل، فالأول أولى بالبطلان]. هذا أيضاً يحتاج إلى تأمل؛ لأن فيه بعض التردد من حيث الظاهر فيه، فيحمل على مقصود مناسب. فإن قوله: والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث، وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن. يفيد أن المعاد مذكور في التوراة كما أنه مذكور في القرآن، فمن باب أولى أن الصفات مذكورة في التوراة كما أنها مذكورة في القرآن، ولكن تصريح التوراة بالمعاد ليس كتصريحها بالصفات. ثم بعد ذلك يقول: فإذا جاز أن تتأول الصفات التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما. وهذا الحرف مشكل من حيث هذا السياق، فإنه إن كان الانفراد من جهة أن ذكر المعاد في التوراة لم يصرح به كما صرح به في القرآن فأيضاً هذا يرد حتى على مسألة الصفات؛ فإن تفصيل الصفات في القرآن ليس كتفصيلها في أي كتاب قبله. وإن قصد أن المعاد في التوراة لم يصرح به كما صرح بالصفات فأيضاً المعاد في القرآن لم يصرح به ويفصل كما فصلت الصفات؛ فإن تفصيل الصفات في القرآن أكثر من تفصيل المعاد؛ ولهذا ما وجه هذا الانفراد؟ هذا الحرف مشكل في كلام المصنف، وإذا كان مشكلاً فإنه يحتاج إلى تأمل إن وقع على معنىً مناسب، وإلا ربما كان فيه بعض الوهم من النساخ في سياقه وترتيبه. وبعبارة أخرى نقول: إن قول المصنف: والتوراة مملوءة من الصفات المطابقة للصفات المذكورة في القرآن والحديث .. لا إشكال فيه، والمطابقة هنا التي يذكرها المصنف ليس مطابقة محضة قطعاً، بل هي مطابقة في الجملة، بمعنى أن الصفات مفصلة في التوراة كما أنها مفصلة في القرآن، فليس معناه أن كل ما ذكر في القرآن والسنة فإنه مذكور في التوراة، هذا ليس بلازم وإن تحقق العلم به يتعذر كله. ثم قال: وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن. فإن قصد أن المعاد صرح به في التوراة لكن درجة التصريح في القرآن أظهر فهذا لا إشكال فيه، وهذا هو مراد شيخ الإسلام رحمه الله من حيث الأصل، ولهذا لا يمكن أن نحمل قوله: وليس فيها تصريح بالمعاد كما في القرآن فنقول: إن مقصود المصنف أن المعاد لم يذكر في التوراة صريحاً وإنما ذكر خفياً، لأننا لو فسرنا الكلام بهذا المعنى للناسب فإن النتيجة الأخيرة وهي قوله: فإذا جاز أن تتأول الصفة التي اتفق عليها الكتابان فتأويل المعاد الذي انفرد به أحدهما. أي: انفرد أحدهما وهو القرآن بالتصريح به والتوراة لم تصرح به، وهذا غلط، لأن هذا يستلزم نتيجة، وهي أن المعاد لم يصرح به في التوراة، وهذا لا يمكن أن يقال، ولا المصنف رحمه الله يلتزمه، ومن أضافه إلى شيخ الإسلام فقد غلط عليه؛ لأن المعاد من أصول الإيمان وهو الإيمان باليوم الآخر، وهذا مذكور في سائر الكتب السماوية. وأما إن قصد أن التصريح بالمعاد ليس بدرجة التصريح الذي وقع في القرآن فهذا صحيح، لكنه يرد على مسألة الصفات، ومن هنا كان هذا الحرف يمكن أن يمضى على أن المعاد لم يصرح به في التوراة فتكون النتيجة أن المعاد انفرد به أحدهما ويصير القياس سليماً؛ لكن هذا يستلزم الإقرار بمقدمة وهي: أن المعاد لم يصرح به في التوراة، وإنما ذكر خفياً. أما إذا قيل: لم يصرح به. أي: كالتصريح القرآني، فهذا أيضاً يرد في مسألة الصفات، فلا يتحقق القياس على الوجه الصحيح، فهذا الحرف يحتاج إلى نظر.

شرح الحموية [11]

شرح الحموية [11] من المخالفين لمذهب السلف في باب الصفات: أهل التجهيل، وهم الذين يزعمون أن جبريل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان كانوا يجهلون معاني آيات الصفات، وهذا المذهب مردود ببداهة العقول، فضلاً عن نصوص الكتاب والسنة.

الصنف الثالث من أصناف المخالفين لمذهب السلف: أهل التجهيل

الصنف الثالث من أصناف المخالفين لمذهب السلف: أهل التجهيل قال المصنف رحمه الله: [وأما الصنف الثالث وهم: أهل التجهيل. فهم كثير من المنتسبين إلى السنة وأتباع السلف يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يعرف معاني ما أنزل الله إليه من آيات الصفات، ولا جبريل يعرف معاني الآيات، ولا السابقون الأولون عرفوا ذلك. وكذلك قولهم في أحاديث الصفات]. هؤلاء هم أهل التجهيل، وأهل التخييل وأهل التأويل لهم مدارس مختصة عرفت بهم كمدرسة الفلاسفة باختلاف طرقها الباطنية والنظرية وغير ذلك، وكمدرسة المعتزلة والأشاعرة والماتريدية. أما أهل التجهيل فهو -إن صح التعبير- رأي شاع في كثير من الطوائف، وليس له طائفة مختصة تعرف بأنها طائفة أهل التجهيل أو طائفة أهل التفويض أو أهل التوقف، أي: ليس هناك طائفة مختصة تلتزم هذا المذهب باطراد، كما أنك تقول: المعتزلة، الأشاعرة .. إلخ، إنما هي نظرية -أعني التجهيل أو التفويض أو التوقف- شاعت في كثير من الطوائف. والمصنف هنا يشير إلى أن أخص من اعتنى به -أي: بمسلك التجهيل أو بعبارة أشهر وهي: مسلك التفويض- هم قوم من المنتسبين إلى السنة والأئمة الذين لم يحققوا مذهب السلف، وهو في الغالب يقع عند طائفة من فقهاء المذاهب الأربعة الذين عندهم ميل إلى صحة الطرق الكلامية ولكنهم ليسوا حذاقاً في العلم الكلامي، وإنما عندهم ميل وأثر من أثر المتكلمين من أصحاب أبي الحسن أو أصحاب أبي منصور الماتريدي، بسبب الصحبة الفقهية، حيث إن هذا المتكلم شافعي وهذا الفقيه شافعي، وكما هو معلوم كثير من المتكلمين فقهاء كـ الرازي، والغزالي، والجويني، وبعض أصحابهم الفقهاء الذين يشاركونهم في الفقه وفي أصول الفقه أو يشاركونهم في التمذهب على مذهب الشافعي أو مالك أو نحو ذلك ولم يشتغلوا بالعلم الكلامي تجد في الغالب أنهم يميلون لهذه الطريقة لا سيما وأن أئمتهم المتكلمين قرروا أن هذه الطريقة هي طريقة السلف، أو بعبارة أقرب أيضاً: هي طريقة الأئمة الذين ينتحلون مذهبهم ك الشافعي ومالك وأمثالهما. إذاً: هذا صنف اشتغلوا بطريقة التفويض الذي يسميها المصنف طريقة التجهيل، وهم خلط من الفقهاء الذين تأثروا بأصحابهم من المتكلمين لما يجمعهم من الجوامع الفقهية والمذهبية في مسائل الشريعة. الصنف الثاني: وهم قوم من المتكلمين من متكلمة الصفاتية، وهؤلاء طائفتان: الأولى: تشتغل بالتأويل وتشتغل بالتفويض، أو تجوز التأويل وتجوز التفويض، وهذا هو الغالب على أصحاب أبي الحسن الأشعري. الثانية: لم تر التفويض، وكانت تذم التفويض، لكن فيما بعد لما تبين لهم قصور طريقة التأويل سلكوا مسلك التفويض؛ لأنهم قصدوا الرجوع إلى مذهب السلف ولم يكن في علمهم أن مذهب السلف ليس هو التفويض، وهذا هو الذي تراه في كلام أبي المعالي الجويني في الرسالة النظامية، فإنه لما رجع عن طريقته التي قررها في الشامل والإرشاد، وذكر تحريم التأويل ومنعه، مال إلى طريقة ظنها مسلك السلف، وهي طريقة التفويض، ولهذا لو قيل: هل رجع الجويني إلى مذهب السلف وأهل السنة؟ قيل: من حيث الانتساب قصد ذلك، فقد تبين له أن طريقته الأولى فيها أغلاط شديدة، لكنه لم يصب المذهب من حيث التحقيق، وإن كان ينتسب إليه في الجملة. ويدخل في الصنف الأول -الفقهاء- بعض المنشغلين بشروح الأحاديث ونحوه. الصنف الثالث: وهم قوم من الصوفية الذين أعرضوا عن طرق الصوفية الباطنية، وعن طرق متكلمة الصوفية، وإن كان المتكلمون في الصوفية قليلين، لكن يقع لهم بعض ذلك، كما هي طريقة القشيري صاحب الرسالة، وكما هي طريقة أبي حامد الغزالي، فإن القشيري والغزالي من أعيان المتكلمين، وهم أيضاً من أعيان المتصوفة، لكن ثمة صنف من المتكلمين عادةً من الصوفية ليسوا باطنيةً كما هي طريقة المتفلسفة منهم، وليسوا مائلين إلى الطريقة الكلامية كـ القشيري والغزالي، وإنما هم بين هذا وهذا، فلديهم تأثر بأصحابهم أصحاب هذه الطرق، ففضلوا هذه الطريقة التي انضبط عند كثير من المتأخرين أنها طريقة السلف فاشتغلوا بها، وموجب الاشتغال: ما شاع عند كثير من أصحابهم وغيرهم أنها طريقة السلف، فهذا موجب. وثمة موجب آخر: وهي أن علومهم الصوفية الأحوالية الإرادية تناسب هذه الطريقة؛ فإنهم ليسوا من أرباب النظر، وطريقة التأويل طريقة نظرية بخلاف طريقة التفويض؛ فإنها تناسب أرباب الأحوال والإرادات الذين لا يستعملون الطرق النظرية وإنما يستعملون الطرق -كما يسمى- الرياضية أو نحوه. هذا هو الصنف الثالث الذين شاعت فيهم هذه الطريقة، وهم خلق من المتصوفة. وقد شاعت هذه الطريقة -ولا سيما في هذا العصر- في نوع ممن اشتغل بالعمل للإسلام من وجه عام في بعض الطوائف والجماعات الإسلامية الذين قصدوا مذهب السلف ولكنهم ليسوا من أهل العلم، وتوهموا كما توهم من قبلهم خلق من الفقهاء وغيرهم أن طريقة السلف هي طريقة التفويض، فتقلدوا هذه الطريقة وهم ينتسبون إلى السلف ظانين أنها هي طريقة السلف مما فاتهم من العلم والاختصاص بمعرفة هذا الباب.

هل علم النبي عليه الصلاة والسلام معاني آيات الصفات؟

هل علم النبي عليه الصلاة والسلام معاني آيات الصفات؟ [وكذلك قولههم في أحاديث الصفات: إن معناها لا يعلمه إلا الله. مع أن الرسول تكلم بها ابتداءً، فعلى قولهم تكلم بكلام لا يعرف معناه، وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7]. إذاً: طريقة التفويض طريقة باطلة قطعاً؛ لأنه إذا قيل: إن المعنى مفوض، فهنا يقع السؤال: هل هو مفوض والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلمه أو لا يعلمه؟ فهنا لهم طريقان: إما أن يقولوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم المعاني. وهذا لا شك أنه نقص في مقام النبوة؛ ويكون القرآن قد جاء باحتياطات لا يعرف معناها حتى النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون القرآن على هذا جاء بظاهر لا يليق بالله ولا يستطيع أحد أن يعرف المقصود به حتى الأنبياء، وهكذا في غير القرآن والكتب السماوية. أو يقولوا: إن النبي يعرف المعنى. فهنا يقال: فإن كان هذا المعنى الذي عرفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الحق إما أن يكون بينه أو لم يبينه، فإن لم يبينه فقد كتم الحق، وإن كان بينه فإن البيان وقع في أصحابه ومن بعدهم ممن أخذ عن الصحابة.

تناقض الأشاعرة في دعواهم أن مذهب السلف هو التفويض مع دعواهم تعارض العقل والنقل

تناقض الأشاعرة في دعواهم أن مذهب السلف هو التفويض مع دعواهم تعارض العقل والنقل وبهذا يتبين أن طريقة التفويض هذه طريقة ممتنعة في العقل، والدليل على امتناعها في العقل: أن الناس قبل ظهور هذه الطريقة في زمن القرون الثلاثة الفاضلة في الجملة -حتى الذين انحرفوا عن طريقة السلف من المعتزلة والجهمية والمشبهة- لم يشتغل أحد منهم بطريقة التفويض؛ لأنها طريقة ممتنعة ببداهة العقول، وإن كان افتتن بها خلق ممن انتسب إلى السنة والأئمة ممن لم يحقق طريقتهم. ومتكلمة الأشاعرة الذين يجوزونها ويرون أنها طريقة السلف حتى لا يكون مذهبهم مناقضاً لمذهب السلف بنوها على معنىً متناقض؛ لأنهم قرروا تعارض العقل والنقل -أعني علماء الأشاعرة ولا سيما بعد طبقة أبي المعالي - والتعارض الذي قصدوه تعارض في الدلالة -أي: الدلالة النقلية المعارضة للدلالة العقلية- هكذا يقررها أبو المعالي ومن بعده ممن تكلم في الأشاعرة. فهنا السؤال: إذا كان الأشعرية ولا سيما بعد طبقة أبي المعالي يقرون بتعارض الدلالة النقلية مع الدلالة العقلية أليس العلم بالتعارض فرعاً عن العلم بمعنى الدلالتين؟ الجواب: بلى، لأنك إن فرضت أن الدلالة النقلية ليست معلومة فكيف تقول: إن الدلالة النقلية عارضت الدلالة العقلية؟ وإذا كانت الدلالة النقلية مجهولة مفوضة، ومتوقف فيها، أي: لا يعرف معناها، فكيف فرضت أنها معارضة للدلالة العقلية؟! لأنه قد يكون في نفس الأمر أنها لا تعارضه، وهذا هو الأصل حتى عند المتكلمين: أن النقل يجب أن يؤول إلى موافقة العقل. إذاً على كل حال: طريقة متكلمة الأشاعرة طريقة ساذجة، ولهذا لما قرر المعتزلة قبلهم تعارض العقل والنقل لم يفرضوا صحة مسألة التفويض؛ لأن هذا مناقض لأصل التقرير البدهي: كونك تقول أن الدلائل النقلية معارضة للدلائل العقلية. حسناً: هو التعارض بين الثبوت أو بين الدلالة؟ لا شك أنهم لا يقولون: الثبوت؛ لأن القرآن ثبوته قطعي، وإذا كان ثبوت القرآن قطعياً -وهذه بديهة عند المسلمين- ثم فرض التعارض في الثبوت وليس في الدلالة فبالضرورة أن العقل ليس قطعياً؛ لأن القول بأنه قطعي يؤدي إلى التعارض بين قطعيين في الثبوت .. وهذا لا يمكن. إذاً يرجع التعارض إلى الدلالة، وإذا رجع التعارض إلى الدلالة فمن شرط القول بأن الدلالتين بينهما تعارض العلم بمعنى الدلالتين؛ أي: أن هذه الدلالة تدل على معنى كذا وهذه الدلالة تدل على معنى كذا وبهذا العلم يقع العلم بالتعارض، أما إذا لم يعرف معنى الدلالتين أو أحدهما فإنه لا يمكن القول بأن التعارض قد وقع بينهما. ومن هنا كان هذا القول ممتنعاً عند أرباب العقل من حذاق النظار من المعتزلة وأمثالهم، أي: أن المعتزلة أرعى لهذه القواعد العقلية في هذا المورد من الأشاعرة، وإن كان الأشاعرة أقرب إلى السنة والجماعة منهم، كما أن المصنف قبل ذلك قال: وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس .. قال: هي بعينها تأويلات بشر. ثم قال: بكلام إذا طالعه العاقل والذكي الذي عرف أن بشر المريسي وأمثاله أقعد بها من هؤلاء -يعني المتأخرين-.

أثر استخدام الألفاظ المجملة

أثر استخدام الألفاظ المجملة [وهؤلاء يظنون أنهم اتبعوا قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] فإن وقف أكثر السلف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] وهو وقف صحيح، ثم فرقوا بين معنى الكلام وتفسيره، وبين التأويل الذي انفرد الله تعالى بعلمه، وظنوا أن التأويل في كلام الله تعالى هو التأويل المذكور في كلام المتأخرين، وغلطوا في ذلك]. هذه قاعدة مهمة: وهي أن كثيراً من الغلط في هذا الباب موجبه الألفاظ المجملة، سواء كانت هذه الألفاظ مجملة من حيث الأصل أم مجملة من حيث الاستعمال، أي: استعمال المستعملين لها. ومن أمثلة الإجمال من حيث الاستعمال: أن النفاة للعلو لما ذكروا العلوا نفوه بحجة تنزيه الله عن الجهة، وهذا اللفظ حادث لم يذكر لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة إثباتاً ولا نفياً، فهذا الإجمال هو الذي أوقع الوهم فيه. ولهذا الطريقة الفاضلة في هذا المقام أن يقال لمن نفى الجهة: أخبرنا عن العلو والفوقية، أو أخبرنا هل الله في السماء، أو هل هو بائن عن الخلق. فتستخدم الألفاظ: إما القرآنية أو التي ليس فيها إجمال، مثل أنه بائن عن خلقه، فمن نفى الجهة يقال: أخبرنا هل تقول أن الله بذاته فوق العالم أو فوق السموات أو أنه بذاته فوق العرش أم لا؟ فإذا أجرى هذا على لفظ الجهة -أي: نفاهما معاً- فقد تحقق ظهور الغلط فيه. المقصود: أن الألفاظ المجملة الحادثة هي من أخص موجبات الوهم والغلط. ولفظ التأويل ليس لفظاً مجملاً من حيث الأصل ولا لفظاً حادثاً، فهو ليس حادثاً لأنه مذكور في الكتاب والسنة، وأما أنه ليس مجملاً من حيث الأصل لأن معناه من حيث الأصل مفصل، ولكن لاستعمال المستعملين له من المتكلمين وأمثالهم صار فيه الإجمال، حيث أحدثوا معنىً ثالثاً أضافوه للتأويل وسموه تأويلاً هو المستعمل عندهم في مقام الصفات، فإذا رأوا قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] امتدحوا طريقة التأويل بأن الراسخين في العلم يعرفون التأويل، ويقصدون هنا بالتأويل: التأويل الذي اصطلحوا عليه. وإذا أرادوا تصحيح طريقة التفويض وقفوا عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] ولا شك أن هذا غلط من جهتين: من جهة أن التأويل المذكور في القرآن سواء وقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:7] أو وقف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] ليس هو التأويل الذي اصطلح عليه أهل الكلام. ومن وجه آخر: أن تصحيح الوقفين يستلزم أن يكون التأويل معناه متعدداً وليس واحداً؛ لأنك إن جعلت المعنى المقصود بالتأويل في السياق الواحد لزم أن تجعل الوقف على موضع واحد، ولهذا ترى أن أهل السنة صححوا الوقف في الموضعين، ولكنهم فسروا التأويل في موضع الوقف على قوله: إلا الله بغير التأويل الذي يقع عند الوقف على قوله: والراسخون في العلم. أما على طريقة المتكلمين فليس لهم في تفسيره إلا معنىً واحد، وهو صرف الكلام عن ظاهره إلى مجازه، فإن وقفت على قوله: إلا الله أفسدت طريقة التأويل، وإن وقفت على قوله: والراسخون في العلم وصمت السلف الذين وقفوا على هذا بالجهل. ولهذا هذه الآية لا تفيدهم شيئاً -أعني: أهل الكلام الذين فسروا التأويل بأنه صرف اللفظ عن ظاهره إلى المجاز .. إلخ-. وهذا دونه خرط القتاد من جهات كثيرة، وهذه الجهات معروفة، وهو مبني على ثبوت المجاز وقد تقدم الطعن فيه، ومبني على مسائل كثيرة، ولهذا هذا التأويل لا يفيدهم شيئاً.

معاني التأويل

معاني التأويل

المعنى الأول

المعنى الأول [والتأويل في اصطلاح كثير من المتأخرين هو: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح دليل يقترن بذلك]. وقد يقولون: صرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز. [فلا يكون معنى اللفظ الموافق لدلالة تأويلاً على اصطلاح هؤلاء، وظنوا أن مراد الله تعالى بلفظ التأويل ذلك، وأن للنصوص تأويلاً يخالف مدلولها لا يعلمه إلا الله أو يعلمه المتأولون. ثم كثير من هؤلاء يقولون: تجرى على ظاهرها. فظاهرها مراد مع قولهم: إن لها تأويلاً بهذا المعنى لا يعلمه إلا الله. وهذا تناقض وقع فيه كثير من هؤلاء المنتسبين إلى السنة من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم]. كذلك لفظ الظاهر لفظ فيه إجمال من جهة نصه وإن كان من حيث النوع ليس مجملاً، فقد ذكر في القرآن لفظ الظاهر، لكنه لم يذكر في موطن الصفات، إنما جاء في مثل قوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] فإذا قيل: هل ظاهر النصوص مراد أو ليس مراداً؟ قيل: هذا بحسب المراد من لفظ الظاهر، فإن قصد بالظاهر المعاني اللائقة بالله سبحانه فهو مراد، وإن قصد بالظاهر التشبيه كما هو مقصود جمهور المتكلمين فإن الله منزه عن ذلك، وتنزه نصوص القرآن أيضاً أن يكون ظاهرها التشبيه.

المعنى الثاني

المعنى الثاني [والمعنى الثاني: أن التأويل هو تفسير الكلام، سواء وافق ظاهره أو لم يوافقه، وهذا هو التأويل في اصطلاح جمهور المفسرين وغيرهم]. التأويل: بمعنى التفصيل. [وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم، وهو موافق لوقف من وقف من السلف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] كما نقل ذلك عن ابن عباس ومجاهد ومحمد بن جعفر بن الزبير ومحمد بن إسحاق وابن قتيبة وغيرهم، وكلا القولين حق باعتبار كما قد بسطناه في موضع آخر]. قوله: وكلا القولين لا يقصد به معاني التأويل التي قدمها آنفاً، وإنما يقصد الوقف على قوله: (إِلاَّ اللَّهُ) والوقف على قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) فالوقف على قوله: (إِلاَّ اللَّهُ) يتخرج على المعنى الثالث للتأويل وهو الحقيقي، والوقف على قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) يتخرج على المعنى الثاني. [كما بسطناه في موضع آخر؛ ولهذا نقل عن ابن عباس هذا وهذا، وكلاهما حق].

المعنى الثالث

المعنى الثالث [والمعنى الثالث: أن التأويل هو الحقيقة التي يؤول الكلام إليها]. على هذا المعنى يوقف على قوله: (إِلاَّ اللَّهُ)، ويكون المعنى، أي: حقائق الصفات، ويمكن إذا رجعنا إلى القواعد المشتهرة في كلام السلف نقول: المعنى والكيفية، فإن قصد الكيفية فإنه يوقف على قوله: (إِلاَّ اللَّهُ)، وإن قصد المعنى من حيث هو فإنه يوقف على قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

هل آيات الصفات من المتشابه؟

هل آيات الصفات من المتشابه؟ [وإن وافقت ظاهره فتأويل ما أخبر الله به في الجنة]. هنا مسألة: هذا التقرير مفروض على أن هيئات الصفات تدخل بوجه ما في المتشابه، فهنا طريقتان: الأولى: أن يقال: إن آيات الصفات ليست من المتشابه. الثانية: أن يقال: إنه إذا قصد التشابه هنا فإن المقصود أنها لا تعلم من حيث الكيفية، أي: أن إطلاق القول بأن آيات الصفات من المتشابه غلط؛ ولهذا لم يطلقه أحد من السلف، وإن كان السلف أجمعوا على أن كيفية الصفات لا يعلمها إلا الله. فهذا مقام، والقول بأن آيات الصفات من المتشابه مقام آخر. [فتأويل ما أخبر الله به في الجنة من الأكل والشرب واللباس والنكاح وقيام الساعة وغير ذلك هو الحقائق الموجودة أنفسها لا ما يتصور من معانيها في الأذهان، ويعبر عنه باللسان، وهذا هو التأويل في لغة القرآن كما قال تعالى عن يوسف أنه قال: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف:100] وقال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف:53] وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] وهذا التأويل هو الذي لا يعلمه إلا الله. وتأويل الصفات هو الحقيقة التي انفرد الله تعالى بعلمها، وهو الكيف المجهول الذي قال فيه السلف -كـ مالك وغيره-: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. فالاستواء معلوم يعلم معناه ويفسر ويترجم بلغة أخرى، وهو من التأويل الذي يعلمه الراسخون في العلم، وأما كيفية ذلك الاستواء فهو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. وقد روي عن ابن عباس ما ذكره عبد الرزاق وغيره في تفسيرهم عنه أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل، فمن ادعى علمه فهو كاذب. وهذا كما قال تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) وكذلك علم وقت الساعة ونحو ذلك، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى]. إذاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) مع أن المعاني في هذا الثواب معلومة، وهذا متفق عليه بين أهل السنة والمتكلمين، فالماء المذكور في الجنة والخمرة المذكورة في الجنة والنعيم المذكور في الجنة هو من حيث المعنى معروف، وإن كان من حيث الماهية والحقيقة لم يتصور؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيه هذا. أما أن يكون بعض النعيم لم يحدث به الناس؛ حيث إن من نعيم الجنة ما لم يذكر أصلاً؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه عن ربه: (ولا أذن سمعت) ومن النعيم ما حدث به، أي جاء ذكره في الكتاب أو في السنة لكنه لا يتحقق تصوره في القلب أو في العقل؛ لأن ماهيته تناسب ذاك المقام. وهذا النعيم الأخروي الذي يقر به عند أهل السنة والمتكلمين دليل على أن صفات الباري سبحانه وتعالى صفات تليق به وإن وقع الاشتراك بينها وبين صفات المخلوقين في بعض الموارد من حيث الاسم المطلق، فتقول: رحمة الله ورحمة زيد. فلفظ الرحمة لفظ مشترك مطلق، وإذا أضيف وخصص فلكل موصوف ما يناسبه، كما يقال: ماء ثم يقال: ماء الدنيا وماء الآخرة. فلكل ما يليق به، وكذلك خمر الدنيا وخمر الآخرة. فلكل ما يليق به. وترى أن خمر الآخرة يمتنع ببداهة العقول وضرورة العقول أن تكون كخمر الدنيا، مع أن هناك نسبة -في الجملة- مشتركة يفهم بها الخطاب؛ ولهذا يمتنع أن يكون نعيم الآخرة مع نعيم الدنيا أو مع المواد التي في الدنيا مقروناً بالاشتراك اللفظي.

الأمر بتدبر القرآن كله

الأمر بتدبر القرآن كله [وكذلك علم وقت الساعة ونحو ذلك، فهذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. وإن كنا نفهم معاني ما خوطبنا به، ونفهم من الكلام ما قصد إفهامنا إياه كما قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] وقال: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون:68] فأمر بتدبر القرآن كله لا بتدبر بعضه]. هذا وجه في الاستدلال لمذهب أهل السنة: أن الله أمر في غير آية بتدبر القرآن، بل ذم سبحانه من لم يتدبر القرآن، ولو كان الحق في آيات الصفات في سائر مواردها هو التفويض أو أنه لا يفقه معناها إلا باستعمال الدلائل الكلامية لكان هذا الأمر -الذي من الله بتدبر سائر القرآن- ليس في محله، ولا شك أن هذا ممتنع بضرورة العقل والشرع، فهذا الأمر الإلهي بتدبر القرآن كله دليل على أن سائر آياته تقبل التدبر، ودليل على أن سائر آياته من حيث المعنى تقبل التدبر، أي: تقبل الفهم والعقل، وإلا لو كانت لا تفهم ولا تعقل فكيف يؤمر بتدبر القرآن لا سيما أن آيات الصفات ليست يسيرةً في القرآن، بل هي كثيرة ولا تكاد تخلو سورة من سور القرآن من ذكر أو إشارة إلى هذا الباب؟! فإن قال قائل: إن هذا قد يعترض عليه؛ لأنه قد أمر بتدبر سائر القرآن مع أن في مطلع كثير من السور حم الم ص، فكيف يقال: إن الأمر بتدبر القرآن على عمومه مع وجود هذه الحروف المقطعة؟ قيل: هذا درس في التدبر، فإنك إذا قرأت هذه الآيات ولو وقف الفهم والعقل -كما هو طريقة طائفة من أهل العلم أن الله أعلم بمراده منها، وهذا وجه حسن جيد- فإن هذا لا ينافي التدبر؛ لامتناع العلم بمعنى مناسب لهذه؛ لأنه ليس لها معنى في اللغة، حيث إنك إذا بحثت في سائر كلام العرب لا تجد أن العرب تطلق حم على شيء منها؛ فهو اختصاص قرآني، والوقوف عنده بهذا التدبر والتسليم هو من تدبره المناسب له، لكن في آيات الصفات المعاني معلومة في لسان العرب، فمن جعل آيات الصفات بمنزلة قوله تعالى: (حم) وأمثالها فقد سوى بين المختلفين تماماً، فمثل هذه الآيات لا يشكل ذكرها على هذه القاعدة، لهذا يقال: إن القرآن جميعه يتدبر، حتى مطلع هذه السور كقوله: حم وأمثالها؛ فإنها تتدبر على ما يناسبها من التدبر.

تدبر السلف لكتاب الله سبحانه كاملا

تدبر السلف لكتاب الله سبحانه كاملاً [وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن: عثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم العمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً. وقال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته أقف عن كل آية وأسأله عنها]. مثل هذه الآثار كثير، وقد ذكر المصنف طرفاً يسيراً منها، وهي كثيرة في كلام السلف في المصنفات وكتب التفسير المسندة، يتحصل منها أنه كان شائعاً عند السلف أن كل القرآن يتدبر، وأن معناه في سائر موارده -سواء موارد الصفات أو غيرها- معلوم؛ مما يدل على أن طريقة التفويض طريقة باطلة، فضلاً عن بطلان كونها مضافة إلى السلف رحمهم الله. [وقال الشعبي: ما ابتدع أحد بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها. وقال مسروق: ما سأل أصحاب محمد عن شيء إلا وعلمه في القرآن، ولكن علمنا قصُر عنه. وهذا باب واسع قد بسط في موضعه. والمقصود هنا: التنبيه على أصول المقالات الفاسدة التي أوجبت الضلالة في باب العلم والإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وأن من جعل الرسول غير عالم بمعاني القرآن الذي أنزل إليه، ولا جبريل جعله غير عالم بالسمعيات ولم يجعل القرآن هدى ولا بياناً للناس]. وهذا لازم لطريقة التفويض الذي نسبه كثير من المتأخرين للسلف، فإنه إذا كان الله أعلم بالمعنى فما فائدة الخطاب بها، ولا سيما أن الذين يقرون بطريقة التفويض يلتزمون قولاً واحداً، وهو أن الظاهر ليس مراداً، بل هو على طريقتهم تشبيه لا يليق بالله، وتشبيه الباري كفر، فإذا كان كذلك فما الحكمة من مجيء هذا الظاهر الذي هو كفر ليخاطب به العقلاء ليدخلوا في دين الإسلام؟! فإن من أخص الموجبات لدخول المشركين في الإسلام آيات الصفات؛ ولهذا تأخر نزول كثير من الشرائع، لكن لم يتأخر نزول آيات الصفات والتوحيد؛ لأن الاقتضاء العقلي والفطري يناسبها ابتداءً، بخلاف كثير من الشرائع فهي وإن كانت على مقتضى العقل والفطرة إلا أن ما يتعلق بالنفس من الشهوات ونحوها قد يكون مانعاً من قبولها.

كل قول أضيف إلى جميع السلف يلزم إضافته إلى النبي عليه الصلاة والسلام

كل قول أضيف إلى جميع السلف يلزم إضافته إلى النبي عليه الصلاة والسلام [ثم هؤلاء ينكرون العقليات في هذا الباب بالكلية، فلا يجعلون عند الرسول وأمته في باب معرفة الله عز وجل لا علوماً عقلية ولا سمعية؛ وهم قد شاركوا الملاحدة من وجوه متعددة، وهم مخطئون في ما نسبوه إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإلى السلف من الجهل، كما أخطأ في ذلك أهل التحريف، والتأويلات الفاسدة وسائر أصناف الملاحدة]. إذاً: يلزم من قولهم: إن الخلف اشتغلوا بالعلوم العقلية فحصلوا التأويل والسلف لم يشتغلوا ففوضوا. أن يكون السلف لم يعرفوا المعنى لا من جهته شرعياً؛ لأنه مجهول على طريقتهم، ولا من جهته عقلياً؛ لأنهم لم يشتغلوا بالتأويل، فيجرد السلف بهذا من العلوم الشرعية والعلوم العقلية في باب الصفات، وتكون النتيجة: أن السلف في باب الصفات ليس لديهم علم عقلي ولا علم شرعي. وهنا قاعدة: أن كل قول أضيف لسائر السلف -أي: هو إجماع للسلف- فإنه يلزم أن يكون مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فنقول: إن الأشاعرة يحكون في كتبهم أن السلف أجمعوا على عدم التأويل .. وهذا صحيح، لكنهم يقولون: إنهم وقعوا في التفويض. فإذا وقعوا في التفويض والأشعرية تمتدح طريقة التأويل وتقصد أنها هي الطريقة العقلية والعلم العقلي الفاضل فإن معنى هذا أن السلف لم يكن لديهم علم عقلي وليس معهم علم شرعي؛ لأن المعاني مجهولة، لكن السلف وهم الأئمة أخذوها عمن قبلهم من الأئمة من التابعين، والتابعون أخذوها عن الصحابة .. وهلم جرا. وهنا يرد السؤال: الصحابة ماذا كان شأنهم؟ هل كالأئمة الذين أدركوا زمن الخلافة أم على خلافهم؟ هل الصحابة عندهم علم بتأويلها أو ليس لديهم علم؟ وهلم جرا. إذاً: بهذه الطريقة يتسلسل الأمر إلى الصحابة والصحابة تلقوا عن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم. ويصبح أن يقال بعبارة أخرى: هذه النصوص هل يمكن العلم بمعناها أو لا يمكن؟ فإن قالوا: لا يمكن. قيل: إذاً كيف اشتغلوا بتأويلها. وإن قالوا: يمكن. نقول: لِم لَمْ يبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا لأمته؟ إلا إن التزموا أن النبي كان محتاجاً إلى العلوم الفلسفية كاحتياجنا. إذاً لماذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يبين هذا الممكن؟ إن قالوا: إن البيان يتوقف على الدليل العقلي الكلامي للزم من هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يتحقق دينه إلا بمعرفته صلى الله عليه وآله وسلم للمقالات الفلسفية .. وهذا شطط! ولهذا ترى أن السلف رحمهم الله بموقفهم من هؤلاء الذين ضلوا طريقهم وطريقة الصحابة، وما تراه من إغلاظ السلف على الجهمية وطعنهم فيهم هو ليس كثيراً، هو واقع على التحقيق، ومقالاتهم مقالات كفرية محضة وإن كان السلف رحمهم الله عدلاً منهم لم يشتغلوا بتكفير أعيانهم؛ لأنه اختلط هذا القول في قوم من الزنادقة مع قوم ممن أرادوا الحق وقصدوه ولكنهم غلطوا فيه، وإن كان هؤلاء الذين غلطوا في معرفة الحق ممن لم يكونوا من أهل الزندقة والإلحاد -في الجملة- مقصرين في طلب الحق.

شرح الحموية [12]

شرح الحموية [12] هناك نقولات كثيرة عن السلف والأئمة رحمهم الله تدل على أن مذهبهم هو إثبات الصفات لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه، من غير تحريف ولا تأويل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وما نقل عنهم من قولهم: أمروها كما جاءت بلا كيف، مع قولهم: الاستواء معلوم .. يدل على أنهم إنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة.

أقوال الأئمة في صفات الله سبحانه

أقوال الأئمة في صفات الله سبحانه قال المصنف رحمه الله: [ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها وألفاظ من نقل مذهبهم]. المصنف يذكر من كلام السلف ومن أعيان السلف ما يبين أنهم برآء من الطرق الثلاث، أما براءتهم من طريقة التخييل الفلسفية فظاهر، ليس فيه إشكال، فإنه لم يتكلم أحد أن السلف كانوا من أهل التخييل، إلا ما وقع من أبي الوليد بن رشد الفيلسوف المتفقه على مذهب مالك؛ فإنه زعم أن بعض الصحابة كانوا يمتحلون هذه الطريقة، وتشبث ببعض الأحرف الثابتة عن بعض الصحابة كقول علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وما جاء عن ابن مسعود أيضاً: إن أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان ببعض الفتنة. وقد ذكر بعض الأفاضل أنها لا تصح، فزعم بهذا أن طريقته كانت معلومة عند بعض أئمة الصحابة. وهذا سفه من أبي الوليد بن رشد لم يتقلده أحد من أصحابه ك ابن سينا وأمثاله الذين قرروا أن طريقتهم ليست مذكورةً في كتب الأنبياء وما نزل عليهم من الوحي. والطريقة الثانية -وهي طريقة التأويل- في الجملة يعلم براءة السلف منها، إلا ما وقع عند بعض متكلمة الصفاتية ك الشهرستاني، حيث زعم أن بعض السلف كانوا يشتغلون بالتأويل، وما زعمه أبو محمد بن حزم من أن داود بن علي -الذي هو إمام الظاهرية- والشافعي كانوا يشتغلون بشيء من التأويل، وهذا غلط من ابن حزم؛ فإن الشافعي رحمه الله أظهر من أن يتكلم في براءته من هذا العلم -أعني: علم الكلام- أو في براءته من التأويل بعامة ولو بغير الطريقة الكلامية. وأما داود بن علي رحمه الله فهو أيضاً بريء من طريقة ابن حزم الذي ذكرها في الفصل وغيره، فقد كان محل الخلاف بين داود بن علي وبين جمهور علماء عصره في الطريقة الظاهرية التي التزمها في الفقه، أما في أصول الدين فإنه على طريقة سائر أئمة السلف، وإن كان أخذ عليه بعض الأحرف اليسيرة التي هي من مقامات النزاع الكبار، كاشتغاله ببعض الجدل مع المخالفين في زمن كان الأئمة يفضلون فيه ترك الاستطراد، كما ذكر ذلك أبو حاتم. وقد منعه الإمام أحمد رحمه الله من الدخول عليه بعد ذهابه إلى بلاد ما وراء النهر والرجوع منها؛ لأنه ذكر في تلك البلاد أن القرآن محدث، وقد كانت هذه اللفظة يستعملها إذ ذاك طائفة من الجهمية يقصدون بها أن القرآن مخلوق، وكان الإمام أحمد ينهى عنها، وكان داود يصححها لما جاء في قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء:2] فأجاز هذا الإطلاق، وكان الإمام أحمد يمنعه إلا بسياق القرآن على التصريح، أي: تساق الآية على وجهها، ولا تذكر مستقلة. فقد كان الإمام أحمد يدرأ شبه وتلبيس الجهمية، ولهذا عندما كُتب إليه رحمه الله وهو في بغداد أن داود بن علي أظهر هذه المقالة في تلك البلاد، ثم رجع داود وكان معه صحبة لـ صالح ابن الإمام أحمد، فقال له: تلطف على أبي عبد الله وقل: هذا داود يستأذنك ولا تسمني. فدخل على أبيه وقال له، فقال: داود ابن من؟ فقال: هو ابن علي. قال: من أصبهان؟ قال: نعم؟ قال: لا يدخل، فإنه حدثني فلان عن فلان أنه قال ذلك. وأنكر ذلك داود وتلطف، فقال الإمام أحمد: إن من حدثني أوثق عندي منه. فكان هذا من تعزير الإمام أحمد رحمه الله بمقامه في السنة وتأديبه لمن حوله حتى لا يقع الاختلاط في المعتقد، بمعنى الابتعاد عن الألفاظ التي صارت مجملةً بالاستعمال، وتركها إلى اللفظ الصريح.

قول الأوزاعي رحمه الله

قول الأوزاعي رحمه الله [إلى غير ذلك من الوجوه بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يعلم به مذهبهم. روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله -تعالى ذكره- فوق عرشه، ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته، فقد حكى الأوزاعي -وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين: الذين هم مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق- حكى شهرة القول في زمان التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش، وبصفاته السمعية. وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف كان بخلاف هذا. وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقال: أمروها كما جاءت. وروى أيضاً عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي: عن الأخبار التي جاءت في الصفات. فقالوا: أمروها كما جاءت. وفي رواية: فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. فقولهم - رضي الله عنهم -: أمروها كما جاءت. رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف. رد على الممثلة. والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقتهم حماد بن زيد، وحماد بن سلمة وأمثالهما]. إذاً: الطريقة التي اشتبه على الكثير أنها طريقة السلف هي: طريقة التفويض، أما طريقة التأويل فمتحقق أن السلف برآء منها، ومن باب أولى طريقة التخييل. وهذه الأحرف التي يذكرها المصنف تبين أن السلف مخالفون لطريقة التفويض. فإن هذه الأحرف صريحة في الطعن على طريقة التأويل وطريقة التفويض. أما استدلال من يصحح طريقة التفويض؛ بأن من أعيان السلف من قال: أمروها كما جاءت وهذا هو التفويض!! فيقال: الأمر ليس كذلك؛ لأن المفوض يقول: أن المعنى الظاهر ليس مراداً. فإذا كان الظاهر ليس مراداً فهل المفوض أمرها كما جاءت؟ الجواب: لا. وأما أن السلف رحمهم الله كانوا يقصدون بقولهم في العبارة الثانية: أمروها كما جاءت بلا كيف البراءة من هذا فهو ظاهر، أما براءتهم من التشبيه والتمثيل فهذا ليس محلاً للاشتغال به، لكن قول السلف: أمروها كما جاءت بلا كيف. إنما نفى العلم بالكيفية، وهذا دليل على العلم بأصل المعنى، وإلا لو كان أصل المعنى ليس معلوماً لما احتاجوا إلى نفي العلم بالكيفية؛ فإن العلم بالكيف قدر زائد عن العلم بأصل المعنى، ونفي القدر الزائد بالتصريح يستلزم العلم بما دونه.

قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس رحمهما الله

قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس رحمهما الله [وروى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرف بن عبد الله قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز: سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله ليس لأحد من خلق الله تعالى تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق. وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه. منها: ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله! {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء! ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ وما أراك إلا مبتدعاً. فأمر به أن يُخرَج]. هذا القاعدة التي ذكرها مالك رحمه الله وغيره مطردة، ويظهر فيها أن السلف رحمهم الله لا يتكلمون في التأويل ولا يتكلمون في التشبيه ولا يتكلمون في التفويض الذي هو التجهيل، وهذا صريح بقول مالك: الاستواء غير مجهول. فلو كان مفوضاً فإن التفويض إما أن يكون في الكيفية أو يكون في المعنى، ولو كان الجميع مفوضاً -كما يقول المفوضة- لما خص مالك الجهل بمسألة الكيفية، فإنه قال: الكيف غير معقول. فلو أن مالكاً فقط قال: الكيف غير معقول. لأخذنا من هذا الحرف أن المعنى من حيث هو معلوم؛ لأنه خص القدر الزائد بالنفي فدل على إثبات ما دونه، إذاً: كيف ومالك فصّل فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول؟ فهذا التفصيل تفصيل قاطع، ولهذا من يذكر جملة مالك رحمه الله هذه، ويستدل بها على طريقة التفويض فهذا تأخر في العقل، فأين حرف التوقف فيها؟؟ إذاً: قول مالك رحمه الله: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول يدل على أن المعنى من حيث هو معلوم، وهو معنى لائق بجلال الله سبحانه وتعالى.

السلف إنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة

السلف إنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة [فقول ربيعة ومالك: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية، ولم ينفوا حقيقة الصفة. ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه -على ما يليق بالله- لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً بمنزلة حرف المعجم. وأيضاً: فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى؛ وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات. وأيضاً: فإن من ينفي الصفات الخبرية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف. فمن قال: إن الله ليس على العرش. لا يحتاج أن يقول: بلا كيف]. أي: أن الشيء إذا كان ممتنعاً من أصله لا تحتاج في العقل والخطاب -أياً كان المخاطب- إلى التصريح بنفي القدر الزائد. ولنفرض لذلك مثالاً مناسباً قريباً، من أراد أن يقول: إن زيداً ليس في المسجد، لا يحتاج إلى أن يقول: إن زيداً ليس قائماً في المسجد؛ لأنه من الأصل ليس موجوداً، فإذا خصص النفي بنفي قدر معين زائد على أصل الوجود أو أصل المعنى أو أصل الثبوت دل على أن ما دونه ثابت. إذاً السلف لما صرحوا بنفي العلم بالكيفية دل على أن ما دون الكيفية -وهو العلم بأصل المعنى- معلوم اللفظ. [فلو كان من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف]. سبحان الله هي فطرة! لكن التأويل يلحقها، ولهذا ترى أن المتكلم ممن ينفي غضب الله إذا دعا على اليهود قال: اللهم أنزل عليهم غضبك. فترى أن الفطرة تقرر هذه المعاني من الصفات، وإذا سأل الله لنفسه أو للمسلمين قال: اللهم إني أسألك رحمتك .. وهلم جرا، فترى أن الفطرة تستقر على هذا، ولهذا ما ترك العامة من المسلمين على ظاهر القرآن إلا ولم يتأثروا فيه، ولهذا يضاف عوام المسلمين بأمصارهم إلى أهل السنة والجماعة، ولو كان يختص بهذا المصر من هم من علماء المعتزلة أو الأشاعرة .. إلى غير ذلك. وبهذا يتبين أن ما يردده البعض أحياناً من أن علماء الأشاعرة هم جمهور علماء الأمة، أو أن الأشاعرة هم جمهور الأمة، ويقصد بذلك استنكار القول عنهم: أنهم مبتدعة أو ضلال وقعوا في ضلال عن الحق .. باطل وخطأ، وإن كان الأشاعرة أصابوا في مسائل كثيرة ووافقوا السنة في مسائل كثيرة، لكنهم ليسوا موافقين للسنة موافقةً محضة، فهم كما قال شيخ الإسلام: أقرب الطوائف الكلامية إلى مذهب أهل السنة والجماعة. وذلك لأن علماء الأمة -وأخصهم الصحابة رضي الله عنهم، وعنهم انتشر العلم في الأرض، وأئمة التابعين ومن بعدهم أهل القرون الثلاثة الفاضلة- ليس فيهم أشعري، بل هؤلاء ظهروا قبول ظهور مدرسة أبي الحسن الأشعري، كذلك سواد المسلمين في عصورهم من العامة وأمثالهم يضافون إلى أهل السنة والجماعة؛ إلا من تلبس من العامة ببدع الأئمة كما يوجد في بعض الطوائف، ولا سيما من الطوائف المتشيعة وأمثالها. [وأيضاً: فإن من ينفى الصفات الخبرية أو الصفات مطلقاً لا يحتاج إلى أن يقول: بلا كيف، فمن قال: إن الله ليس على العرش لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر لما قالوا: بلا كيف. وأيضاً فقولهم: أمروها كما جاءت. يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظها دالة على معاني؛ فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال: أمروا ألفاظها. مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد، أو أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عن ما ليس بثابت لغو من القول]. نفي الكيف عما ليس بثابت من جهة نصه أو معناه لغو من القول؛ لأنه تخصيص للقدر الزائد بالنفي في أمر منتف من أصله، هذا لا يكون، بل هو لون منه.

أصناف النقولات المنقولة في العقيدة الحموية

أصناف النقولات المنقولة في العقيدة الحموية النقولات التي نقلها المصنف يمكن تقسيمها على أصناف: 1 - صنف منها عن السلف. 2 - صنف منها عن بعض علماء الكلام الكبار. 3 - صنف منها عن كبار الفقهاء في المذاهب الأربعة -كبار أصحاب مالك والشافعي وأبي حنيفة وغير ذلك- 4 - صنف منها عن قوم من متأخري المتكلمين، تبين لهم غلط طريقتهم الأولى كـ الجويني. والمصنف هنا لا يريد أن يقرر عقيدة أهل السنة بهذه النقولات كلها، حيث إن من أصحاب هذه النقولات من لا يعتبر في تقرير اعتقاد السلف، لكن مقصوده منها أن يبين أن الطريقة التي حققها هو وقررها هو ومن قبله من علماء أهل السنة ليست كما قال كثير من متأخري الأشاعرة أنها مختصة بالحنابلة، بل هي طريقة شائعة في كلام السلف -الذين هم المعتبر في هذا الباب- كذلك شائعة في كلام بعض أئمة الكلام. وهو ينقل عن بعض الصوفية ليبين أن هذا شائع حتى في المتصوفة، خلافاً لطريقة أبي القاسم القشيري وأبي حامد الغزالي. كذلك ينقل عن الفقهاء ليبين أن هذا ليس اختصاصاً حنبلياً بل هو مشهور عند كبار المالكية، والحنابلة، وأن المحققين من أصحاب الأئمة الأربعة كأئمة أصحاب مالك وأصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة فضلاً عن أصحاب أحمد هم على هذا الاعتقاد، وإن كان الغلط الذي وقع فيه بعض الشافعية والمالكية والحنفية ليس خاصاً بهم، بل من حتى الحنابلة من وقعوا في هذا الغلط. إذاً الصواب ليس مختصاً بالحنابلة، والغلط ليس مختصاً بالحنابلة، بل فيهم صواب وغلط، وإن كان مذهب الصواب فيهم أكثر من غيرهم. ومما يشار إليه هنا: أنه في مناظرة الواسطية قال بعض كبار القضاة من فقهاء الشافعية والمالكية للسلطان: ليقل -يعنون شيخ الإسلام - أن هذا معتقد أحمد بن حنبل أو معتقد الحنابلة. وقد كان شيخ الإسلام استفتح الواسطية بقوله: أما بعد .. فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة. لذلك طرحوا عليه سؤالاً وقالوا: على هذا يكون اعتقاد أئمة الأشعرية الذين ماتوا قبله ليسوا من أهل الفرقة الناجية ولا المنصورة وأنهم في النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (كلها في النار إلا واحدة).

ضرورة التفريق بين حكم المقولة وبين حكم قائلها

ضرورة التفريق بين حكم المقولة وبين حكم قائلها مما ينبه إليه هنا أنه ينبغي لطالب العلم ولا سيما الناظر في مسائل الاعتقاد واختلاف الإسلاميين أن يعي أن تقرير المقالة بقوة وأنها مخالفة للسلف أو مخالفة للكتاب والسنة حتى لو قال: إن المقالة كفرية إذا كانت كذلك في الشرع. فإن هذا لا يعني أن يكون الأخذ بنفس القوة لأصحابها، فإن هناك فرقاً بين المقالة وبين قائلها، فأنت تأخذ المقالة بقوة، لكن إذا جئت إلى صاحبها فكذلك يجب أن تلتزم بلوازم الشرع وتأخذها بقوة، أي: تأخذ بالقوة الشرعية التي هي العدل الشرعي. ولهذا كان جواب شيخ الإسلام على هذا السؤال أن قال: أنا أقول: من اعتقد هذا الاعتقاد -يعني: الذي كتبه في الواسطية- فإنه يكون ناجياً عند الله؛ لأنه الاعتقاد المذكور في القرآن والحديث، وأنا أنذر من خالفه ثلاث سنين أن يأتوا بجملة من الكتاب أو السنة أو كلام أئمة السلف -الأئمة الأربعة أو غيرهم- مخالفة لما ذكرت. ثم قال: وأما من لم يعتقد هذا الاعتقاد وإنما اعتقد في بعضه -غلط في بعض- كما وقع فيه أئمة الأشعرية وغيرهم فإن هذا لا يقال فيه: إنه يكون ممن هم في النار. بل هذا أمره إلى الله. وهذا الحكم يناء على أصل ذكره في درء التعارض وغيره، وهو: أن كل من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول فأخطأه فإن خطأه مغفور له. فالشرط الأول: أنه أراد الحق. الشرط الثاني: أنه اجتهد في طلبه. الشرط الثالث: من جهة الرسول لا من جهة قائله: فأخطأ فإن خطأه مغفور له. أي: من اجتمعت فيه الشروط الثلاثة. فالشرط الأول: وهو أن يكون مراده الحق. فإذا ترك هذا كان كافراً؛ فإن من أراد الباطل في صفات الله يكون كافراً، وكثير من أهل البدع كما يقول شيخ الإسلام: وأهل القبلة المخالفون للسلف في هذا الباب هم في الجملة مريدون للحق وإن كانت إرادتهم يدخلها شيء من التقصير والقصور. كإرادة نصرة المذهب، والعناية بالانتصار للأصحاب، وهذا نقص في الإخلاص والإرادة. قوله: واجتهد في طلبه. يقول: هم في الجملة مقصرون في الاجتهاد في طلب الحق. فمن أعرض عن أخذ الهدى من القرآن إعراضاً فإنه يكون كافراً، لكن لو قصر في طلبه فإنه يكون ظالماً لنفسه. وقوله: من جهة الرسول أي أن الخطأ يغفر إذا كان الاجتهاد يرجع إلى القرآن والسنة، أما إذا كان أعرض عن الكتاب والسنة واتخذ العلوم الفلسفية منهجاً له -كما هي طريقة أبي يعقوب السجستاني وأمثاله من غلاة الباطنية- فإن هذا لا يصار فيه إلى هذا الكلام. ولهذا لا يتوهم متوهم فيقول -مثلاً-: بعض النصارى الآن يظنون أنهم على الحق. فيقال: لأنهم لم يجتهدوا فيه من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يريدوا الحق إرادةً صحيحة، بل مقصودهم الانتصار لدينهم، وهم يعرفون ما فيه من الآيات الدالة على تعدد النبوة بعدهم، أي: ليس في دين النصارى ولا في دين اليهود أن دينهم خاتم الأديان، بل فيه تصريح بذكر النبوات بعدهم.

شرح الحموية [13]

شرح الحموية [13] مذهب السلف والأئمة رحمهم الله هو إثبات الصفات لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه، وقد وردت عنهم روايات كثيرة تدل على ذلك، وممن روي عنهم ذلك من أقوالهم -على سبيل المثال لا الحصر-: الإمام ابن الماجشون، والإمام أبو حنيفة، وشيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي، وهشام بن عبد الله الرازي، ويحيى بن معاذ الرازي، وابن المديني، والترمذي، وأبو زرعة الرازي، ومحمد بن الحسن الشيباني، وأبو عبيد القاسم بن سلام .. وغيرهم رحمهم الله تعالى.

قول ابن الماجشون في إثبات صفات الله عز وجل

قول ابن الماجشون في إثبات صفات الله عز وجل قال المصنف رحمه الله: [وروى الأثرم في السنة وأبو عبد الله ابن بطة في الإبانة وأبو عمر الطلمنكي وغيرهم بإسناد صحيح، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون وهو أحد أئمة المدينة الذين هم مالك بن أنس، وابن الماجشون، وابن أبي ذئب. وقد سئل عما جحدت به الجهمية: أما بعد: فقد فهمت ما سألت في ما تتابعت الجهمية ومن خالفها في صفة الرب العظيم الذي فاقت عظمته الوصف والتدبر وكلت الألسن عن تفسير صفته وانحصرت العقول دون معرفة قدرته وردت عظمته العقول فلم تجد مساغاً فرجعت خاسئة وهي حسيرة. وإنما أمروا بالنظر والتفكر فيما خلق بالتقدير وإنما يقال كيف لمن لم يكن مرة ثم كان. فأما الذي لا يحول ولا يزول ولم يزل وليس له مثل فإنه لا يعلم كيف هو إلا هو. وكيف يعرف قدر من لم يبدأ ومن لا يموت ولا يبلى؟ وكيف يكون لصفة شيء منه حد أو منتهى -يعرفه عارف أو يحد قدره واصف؟ - على أنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه. الدليل على عجز العقول عن تحقيق صفته عجزها عن تحقيق صفة أصغر خلقه لا تكاد تراه صغرا يجول ويزول ولا يرى له سمع ولا بصر; لما يتقلب به ويحتال من عقله أعضل بك وأخفى عليك مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين وخالقهم وسيد السادة وربهم {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] اعرف -رحمك الله- غناك عن تكلف صفة ما لم يصف الرب من نفسه بعجزك عن معرفة قدر ما وصف منها; إذا لم تعرف قدر ما وصف فما تكلفك علم ما لم يصف؟ هل تستدل بذلك على شيء من طاعته أو تزدجر به عن شيء من معصيته؟ فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد {اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ} [الأنعام:71] فصار يستدل -بزعمه- على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال: لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمى عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه لصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] فقال: لا يراه أحد يوم القيامة فجحد والله أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة من النظر إلى وجهه ونضرته إياهم {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] قد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون. إلى أن قال: - وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة; لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدا. وقال المسلمون: (يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب. قالوا: لا. قال: فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا. قال: فإنكم ترون ربكم يومئذ كذلك) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول: قط قط وينزوي بعضها إلى بعض) وقال لـ ثابت بن قيس: (لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة) وقال فيما بلغنا: (إن الله تعالى ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: نعم. قال: لا نعدم من رب يضحك خيرا) إلى أشباه لهذا مما لا نحصيه. وقال تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] وقال تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] وقال تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وقال تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] فوالله ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه وما تحيط به قبضته: إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي ألقي في روعهم وخلق على معرفة قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم سميناه كما سماه ولم نتكلف منه صفة ما سواه -لا هذا ولا هذا- لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف. اعلم -رحمك الله- أن العصمة في الدين أن تنتهي في الدين حيث انتهى بك ولا تجاوز ما قد حد لك فإن من قوام الدين معرفة المعروف وإنكار المنكر فما بسطت عليه المعرفة وسكنت إليه الأفئدة وذكر أصله في الكتاب والسنة وتوارثت علمه الأمة: فلا تخافن في ذكره وصفته من ربك ما وصف من نفسه عيبا; ولا تتكلفن بما وصف لك من ذلك قدرا. وما أنكرته نفسك ولم تجد ذكره في كتاب ربك ولا في حديث عن نبيك -من ذكر صفة ربك- فلا تكلفن علمه بعقلك; ولا تصفه بلسانك; واصمت عنه كما صمت الرب عنه من نفسه فإن تكلفك معرفة ما لم يصف من نفسه مثل إنكار ما وصف منها; فكما أعظمت ما جحده الجاحدون مما وصف من نفسه: فكذلك أعظم تكلف ما وصف الواصفون مما لم يصف منها. فقد -والله- عز المسلمون; الذين يعرفون المعروف وبهم يعرف; وينكرون المنكر وبإنكارهم ينكر; يسمعون ما وصف الله به نفسه من هذا في كتابه وما بلغهم مثله عن نبيه فما مرض من ذكر هذا وتسميته قلب مسلم ولا تكلف صفة قدره ولا تسمية غيره من الرب مؤمن. وما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماه من صفة ربه فهو بمنزلة ما سمي وما وصف الرب تعالى من نفسه. والراسخون في العلم -الواقفون حيث انتهى علمهم الواصفون لربهم بما وصف من نفسه التاركون لما ترك من ذكرها- لا ينكرون صفة ما سمي منها جحدا ولا يتكلفون وصفه بما لم يسم تعمقا; لأن الحق ترك ما ترك وتسمية ما سمى ومن يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا وهب الله لنا ولكم حكما وألحقنا بالصالحين]. هذا النقل عن ابن الماجشون، وهو من كبار أئمة المدينة الذي يبين به أن طريقة أئمة المدينة وغيره من الأئمة مخالفة لطريقة المعتزلة والجهمية التي انتحلوها، وهو مصرح على التفصيل بإثبات صفات الله سبحانه تعالى والبراءة من طريقة التفويض، ومن باب أولى طريقة التشبيه والتعطيل التي يسمونها طريقة التأويل.

قول الإمام أبي حنيفة في إثبات صفات الله عز وجل

قول الإمام أبي حنيفة في إثبات صفات الله عز وجل [وفي كتاب الفقه الأكبر المشهور عند أصحاب أبي حنيفة ; الذي رووه بالإسناد عن أبي مطيع الحكم بن عبد الله البلخي قال: سألت أبا حنيفة عن الفقه الأكبر فقال: لا تكفرن أحدا بذنب ولا تنف أحدا به من الإيمان; وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر; وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولا تتبرأ من أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم; ولا توالي أحدا دون أحد; وأن ترد أمر عثمان وعلي إلى الله عز وجل. قال أبو حنيفة: الفقه الأكبر في الدين خير من الفقه في العلم; ولأن يفقه الرجل كيف يعبد ربه خير له من أن يجمع العلم الكثير. قال أبو مطيع الحكم بن عبد الله: قلت: أخبرني عن أفضل الفقه. قال: تعلم الرجل الإيمان والشرائع والسنن والحدود واختلاف الأئمة. وذكر مسائل الإيمان ثم ذكر مسائل القدر والرد على القدرية بكلام حسن ليس هذا موضعه. ثم قال: قلت: فما تقول فيمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فيتبعه على ذلك أناس فيخرج على الجماعة هل ترى ذلك؟ قال لا. قلت: ولم وقد أمر الله ورسوله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فريضة واجبة؟ قال هو كذلك; لكن ما يفسدون أكثر مما يصلحون من سفك الدماء واستحلال الحرام. قال: وذكر الكلام في قتل الخوارج والبغاة. إلى أن قال: قال أبو حنيفة عمن قال: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض: فقد كفر لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وعرشه فوق سبع سموات. قلت: فإن قال إنه على العرش استوى ولكنه يقول لا أدري العرش في السماء أم في الأرض؟ قال: هو كافر; لأنه أنكر أن يكون في السماء; لأنه تعالى في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. -وفي لفظ-: سألت أبا حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض. قال: قد كفر. قال: لأن الله يقول: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وعرشه فوق سبع سموات قال: فإنه يقول على العرش استوى ولكن لا يدري العرش في الأرض أو في السماء قال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر. ففي هذا الكلام المشهور عن أبي حنيفة عند أصحابه: أنه كفر الواقف الذي يقول: لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض; فكيف يكون الجاحد النافي الذي يقول ليس في السماء; أو ليس في السماء ولا في الأرض؟ واحتج على كفره بقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قال: وعرشه فوق سبع سموات. وبين بهذا أن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] يبين أن الله فوق السموات فوق العرش وأن الاستواء على العرش دل على أن الله بنفسه فوق العرش. ثم إنه أردف ذلك بتكفير من قال إنه على العرش استوى ولكن توقف في كون العرش في السماء أم في الأرض قال: لأنه أنكر أنه في السماء; لأن الله في أعلى عليين; وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل. وهذا تصريح من أبي حنيفة بتكفير من أنكر أن يكون الله في السماء; واحتج على ذلك بأن الله في أعلى عليين وأنه يدعى من أعلى لا من أسفل وكل من هاتين الحجتين فطرية عقلية فإن القلوب مفطورة على الإقرار بأن الله في العلو وعلى أنه يدعى من أعلى لا من أسفل وقد جاء اللفظ الآخر صريحا عنه بذلك. فقال: إذا أنكر أنه في السماء فقد كفر.].

الخلاف في صحة نسبة كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة

الخلاف في صحة نسبة كتاب الفقه الأكبر لأبي حنيفة هذا الكتاب مشهور لـ أبي حنيفة، وإذا قيل: مشهور لـ أبي حنيفة؛ فلا يعني أنه يجزم بأنه صحيح إليه، فهو كتاب مشهور في أصول الدين، وهو يضاف إلى أبي حنيفة على أنه من تصنيفه، أو على أقل تقدير على أنه من إملائه. وقد شرح هذا الكتاب كثير من علماء الحنفية، فشرحه بعض أهل السنة من الحنفية كما يشير إلى ذلك بعض المحققين من الباحثين، وشرحه -وهي الشروح المشهورة أكثر- بعض أعيان الماتريدية، ويذكر أن لـ أبي منصور الماتريدي الحنفي مؤسس المذهب الماتريدي شرحاً على هذا الكتاب. وفي نسبة هذا الكتاب لـ أبي حنيفة خلاف بين أهل العلم، فإن أبا حنيفة رحمه الله لم يصح له كتاب بالجزم في مسائل أصول الدين، لا هذا الكتاب، وهو أشهر الكتب المضافة إليه، ولا غيره من الرسائل: كالوصية، والرسالة الجامعة وغيرهما.

قول الإمام أبي حنيفة في الإيمان

قول الإمام أبي حنيفة في الإيمان هناك قدر محفوظ مما يتعلق بالعقائد عن أبي حنيفة، وهو مشتهر بين أهل العلم، وهو قوله رحمه الله في مسألة الإيمان، فإن المشهور عن أبي حنيفة أنه يقول بقول حماد بن أبي سليمان في مسمى الإيمان، فيجعل الأعمال الظاهرة ليست داخلةً في مسمى الإيمان. وهذا القول يذكره الأحناف في كتبهم، وكذلك يذكره غيرهم من الطوائف، سواء الفقهية أو الكلامية، والأظهر أنه متحقق عنه، وإن كان بعض أعيان المتكلمين -كـ البغدادي وغيره- يشيرون تارةً إلى التردد في ثبوت هذا عن أبي حنيفة، لكن الأظهر أن هذا معروف عنه. فإن إثبات هذا الأمر عنه عليه جمهور أهل المقالات والمتكلمين والفقهاء من الحنفية وغيرهم، وإن لم يكن هذا الإثبات عن تصنيف معروف لـ أبي حنيفة وإنما بالنقل عنه، وهذا ليس غريباً؛ لأن حماد بن أبي سليمان هو الذي قرر هذه المقالة في مسألة الإيمان. وبعض أهل العلم ينزع إلى أن حماد بن أبي سليمان يميل إلى هذه المقالة في الرد على مقالات الوعيدية، وبخاصة مقالات الخوارج والمعتزلة، فكان من باب الرد على الوعيدية أن قرر هذه المقالة، وهذا ليس غريباً؛ لأن كثيراً من مقالات الإرجاء وقعت رداً على طوائف الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم من الوعيدية. فهؤلاء يقولون: إن الإيمان قول واعتقاد. أو يقولون: إن الإيمان يكون بالقول والقلب. ولا يجعلون أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان وإن كانوا يوجبونها، حتى إن حماد بن أبي سليمان وأبا حنيفة ومن وافقهم -في الجملة- في مسألة الأحكام -أي: حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة- على مذهب جمهور أهل السنة. والتحقيق في شأن حماد بن أبي سليمان هو أنه من علماء السنة والجماعة، ولا يصح أن يضاف إلى البدع المطلقة، وإن كان قوله بدعة، لكنه إذا ذكر يضاف إلى أهل السنة والجماعة من حيث الإطلاق. وهذا القول هو -باعتبار ما تقدم في كلام أهل العلم- هو أخف المقالات التي نسبت للمرجئة، وهو ما يعرف بمقالة مرجئة الفقهاء، وهؤلاء يتفقون مع جمهور السلف في الحكم وإن كانوا يقولون: العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، ولا يقرون بأن الإيمان يتفاضل، بل الإيمان عندهم واحد، حتى إن الطحاوي رحمه الله مع تحقيقه ذكر هذا فقال: والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء. ويجعلون التفاضل بالبر والتقوى.

حقيقة الخلاف بين جمهور أئمة أهل السنة وبين مرجئة الفقهاء

حقيقة الخلاف بين جمهور أئمة أهل السنة وبين مرجئة الفقهاء إذا قيل: هل الخلاف بين حماد بن أبي سليمان والجمهور خلاف لفظي أو ليس لفظياً؟ قيل: هذا الحرف -وهو قولك: خلاف لفظي- صار فيه إجمال، فإن معنى هذا الحرف في كتب أهل أصول الفقه أي: الخلاف الذي ليس له ثمرة، فإن قصد أنه خلاف لا ثمرة له، وأنه نزاع لفظي محض فهذا ليس صحيحاً؛ لأن حماداً وأبا حنيفة ومن وافقهم مخالفون للكتاب والسنة في أنهم لم يجعلوا العمل إيماناً، وهذه مخالفة شرعية؛ ولهذا بدَّع السلف رحمهم الله من قال بهذه المقالة، وهم مخالفون كذلك للكتاب والسنة من جهة أنهم لم يروا تفاضل الإيمان، والدلائل متواترة في القرآن والحديث على أن الإيمان يتفاضل، وأنه يزيد وينقص، وإن كان لفظ النقص لم يصرح به في القرآن، ولم يصرح به في السنة في الجملة إلا في مثل قوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (وما رأيت من ناقصات عقل ودين). ولهذا كان السلف يستدلون على نقص الإيمان بطريق إثبات الزيادة، فإن كل ما يزيد فإنه ينقص، قال الإمام أحمد لما سئل عن نقص الإيمان: ألم يقل الله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76] قالوا: بلى. قال: فكل ما يزيد ينقص. وأما الاستدلال بحديث: (وما رأيت من ناقصات عقل ودين) فبعضهم لا يسلم به، معللاً ذلك بأن هذا ليس نقصاً من جهة تقصير العبد حتى يقال: الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وإنما هو أمر قضي على النساء، وهو ما يتعلق بتركها الصوم والصلاة في مسألة الحيض. ولكن التحقيق: أن هذا الحديث دليل على نقص الإيمان؛ لأنه إذا وصف الدين بالنقص -والدين هو الإيمان- بما لا مقصد للعبد ولا أثر له فيه، فمن باب أولى إذا كان بأثره وتفريطه؛ أي: إذا كان الشارع سماه نقصاً مع أنه ليس من جهة العبد وأثره فلأن يكون نقصاً إذا كان من تفريط العبد من باب أولى.

مرجئة الفقهاء لا يكفرون تارك العمل مطلقا

مرجئة الفقهاء لا يكفرون تارك العمل مطلقاً هنا بعض المسائل أيضاً منها: أن حماد بن أبي سليمان ومن معه التزموا أن تارك العمل لا يكفر وبخاصة في مسألة الصلاة، وهم لم يلتزموا هذا من جهة تفصيل الأدلة، كما هي طريقة مالك والشافعي وابن شهاب وأبي ثور ومكحول الشامي وأمثالهم من السلف الذين لا يكفرون تارك الصلاة، فإن هؤلاء لا يكفرونه باعتبار الدلائل التي يستعملونها على التفصيل، بخلاف طريقة حماد وأبي حنيفة؛ فإنهم لا يكفرون تارك الصلاة؛ لأن الصلاة عمل، والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان.

ليس كل من قال بعدم تكفير تارك الصلاة يعتبر من المرجئة

ليس كل من قال بعدم تكفير تارك الصلاة يعتبر من المرجئة لو قيل: هل الذي لا يكفر تارك الصلاة وقع في قول المرجئة؟ نقول: فيه تفصيل، فإن كان معتبره في عدم تكفيره أن الصلاة عمل والعمل لا يدخل في مسمى الإيمان كما هي طريقة أبي حنيفة وأصحابه، فلا شك أن هذا من مقالات المرجئة، وقد عرف حماد ومن معه بأن قولهم من مقالات المرجئة، وذمهم السلف عليه، وذم السلف لمقالة حماد متواترة، وليس هو قول سائر أهل الكوفة؛ فقد ذكر أبو عبيد القاسم بن سلام أعيان الناس من الأئمة الكبار الذين صرحوا أن الإيمان قول وعمل، ونقل عن أعيان الكوفيين أكثر مما نقله عن غيرهم؛ لأن القول بالإرجاء عن حماد شاع في بعض الكوفيين، فحتى لا يظن أن علماء الكوفة قد أطبقوا عليه بيّن أبو عبيد وأمثاله من الأئمة الكبار -كالإمام أحمد في كتاب الإيمان - أن هذا قول شائع في الكوفيين، وأن قول حماد ليس قولاً لسائر الكوفيين. أما من يقول: إن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، أو يزيد وينقص، ولا يكفر تارك الصلاة؛ لأنه لم يظهر له أنه كافر بدلائل معينة مفصلة من الدلائل الشرعية، فهذا القول وإن كان مرجوحاً فيما يظهر -والله أعلم- إلا أنه ليس قولاً بدعياً وليس قولاً منكراً ولا قولاً من أقوال المرجئة ولا أثراً من آثارهم. فإنه كيف يقال: إنه قول من أقوال المرجئة، وأثر من آثارهم، أو هم الذين أحدثوه وقد قال به ابن شهاب ومكحول الشامي ومالك بن أنس والشافعي في الصحيح عنه وأبو ثور وجماعة من الكبار؟! وقد كان ابن شهاب رحمه الله من أعلم الناس بالسنن والآثار، ومن أشد الناس على المرجئة، فلا يمكن أن يكون قد تأثر بمقالات المرجئة. وإن كان يشكل على هذا بعض الشيء ما ذكره إسحاق بن إبراهيم من أن الإجماع قد انعقد على كفر تارك الصلاة، لكن نقول: إن الإجماع الذي ذكره إسحاق فيه بعض التردد، إلا إن قيل: إنه إجماع سكوتي، فهذا قد يسلم به، أما أنه إجماع قطعي كإجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل .. فليس كذلك. أما إن كان إجماعاً سكوتياً فهذا قد يسلم، ولا إشكال فيه في الجملة باعتبار أن طائفة من الصحابة حفظ عنهم أن ترك الصلاة كفر، ولم يحفظ عن أحد من الصحابة خلاف هذا. إذاً: من أقوى الأدلة بعد الاستدلال بظاهر قوله تعالى في آية براءة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] وقوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] والاستدلال بحديث بريدة وجابر بن عبد الله، بعد هذا يقال: أخص دليل بعد ذلك إطباق الصحابة، حيث شاع هذا القول فيهم -أي: أن ترك الصلاة كفر- ولم ينقل عن أحد منهم منازعة في هذا. كذلك يقال في أثر عبد الله بن شقيق: كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفراً غير الصلاة. فهو في الجملة على ظاهره، لكن ترى أنه إجماع سكوتي. وكلمة إجماع سكوتي كلمة مصطلحة، قد يناظر أو ينازع في ثبوتها أو في تقريرها من جهة الاصطلاح، لكن من حيث المدلول هي متحققة، أي: أنه يفرق بها بين الإجماع الذي انضبط انضباطاً تاماً وبين الإجماع الذي نقل عن بعض الأعيان ولم يذكر عن غيره خلافه. ونلاحظ من هذا أن الأئمة الكبار رحمهم الله في استدلالهم أحياناً ينزعون إلى بعض الدلائل من الكتاب أو السنة مع أنه يحفظ لبعض الصحابة قول لم يعرف له مخالف، وإن بعض الأئمة الكبار كذلك -ولا سيما الإمام أحمد وبعض أئمة الحديث- يصيرون إلى الأقوال التي للصحابة ولم يحفظ لهم فيها مخالف. إذاً: المنقول عن الصحابة سواء سمي إجماعاً أو لم يسم إجماعاً هو عند التحقيق دليل قوي على أن تارك الصلاة كافر؛ ولهذا يقال: إنه كافر بظاهر الكتاب والسنة، وظاهر مذهب الصحابة، وهو الذي عليه الجمهور من السلف. وننبه هنا إلى أن الترجيح شيء، والقول بأن تارك الصلاة كافر بالإجماع، وأن المخالفة فيه -أي: القول بأنه ليس كافراً- قول من أقوال المرجئة شيء آخر، بل هو مرتقىً صعب، فإن من يقول: إن الذي لا يكفر تارك الصلاة متأثر بالمرجئة أو دخلت عليه شيء من أقوالهم؛ يلزمه أن يجعل مالكاً وابن شهاب والشافعي ومكحول الشامي، بل الإمام أحمد -كما جاء في رواية عنه قدمها بعض كبار الحنابلة المحققين المعروفين في التحقيق في مذهب السلف، وإن كانت رواية مرجوحة عند التحقيق، والجمهور من الأصحاب رحمهم الله على أنه كافر- يلزمه أن يجعل هذا مطرداً عليهم. إذاً: إذا كان الإجماع انعقد وتم لزم أن مخالفه يكون ممن ضل سبيل المؤمنين، وأنه مبتدع بمخالفته، سواء أضيف إلى المرجئة أو جعل مبتدعاً بمقالته، وإذا كان كذلك -أي: فرضنا صحة الإجماع- حرم الاجتهاد بخلاف الإجماع، بمعنى أنه لا يجوز تقليد مالك ولا تقليد الشافعي ولا تقليد ابن شهاب .. إلخ، أي: حرم تقليد المخالف ولو كان إماماً، وحرم الاجتهاد في المسألة ولو كان المجتهد له إمام من الكبار .. وهذه كلها مرتقيات صعبة. ولا يمكن الاعتماد على نقل ذكره إسحاق بن إبراهيم رحمه الله، وإن كان إماماً مجمعاً على إمامته، فإنك إن استدللت بالإجماع الذي يذكره إسحاق بن إبراهيم رحمه الله فماذا تفعل بمخالفة ابن شهاب ومالك؟ وابن شهاب بإجماع أهل العلم أوثق وأضبط للسنن والآثار، وأدرى بآثار الصحابة من إسحاق بن إبراهيم، ولو كان الصحابة رضي الله عنهم قد انضبط لهم إجماع تام قطعي كإجماعهم في مسألة أن الإيمان قول وعمل وأمثالها لما تجشم ابن شهاب ومالك والشافعي مخالفة الصحابة، خاصة وأن لهم اختصاصاً في ذلك، فإن لـ ابن شهاب اختصاصاً بإجماعات الصحابة وآثارهم، وكذلك الشافعي يعرف مقامه في الإجماع أيضاً وعنايته به .. وهلم جرا. إذاً: هذه مسألة ينبغي العدل فيها، فيقال بأن تارك الصلاة كافر بظاهر الكتاب والسنة وهو مذهب الصحابة، ويقال عن المخالف فيه: إنه خالف الصواب وخالف الراجح، وأن قوله غلط، ولكنه لم يصل إلى أن يكون من أهل الإرجاء أو من أهل البدع أو نحو ذلك. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو من هو في التحقيق يرى أن هذه مسألة فيها نزاع بين الأئمة، وقد ذكر عن الإمام أحمد فيها الرواية المشهورة، وهي أنه كافر، والرواية الأخرى وأثبتها عن أحمد أنه ليس كافراً. إذاً: ينبغي العدل والاعتدال في مسألة تارك الصلاة، وإن كانت حجج المخالفين الذين لا يكفرون تارك الصلاة ضعيفة، وكما قال شيخ الإسلام: ما من دليل يستدلون به إلا وهو يتناول الجاحد كما يتناول التارك.

حكم تارك الزكاة

حكم تارك الزكاة أما مسألة الزكاة ففيها تفصيل: فإن ترك الزكاة جحداً لوجوبها فهذا بالإجماع كافر، وهذا لا يختص بالزكاة بل كل ما ظهر وجوبه وجحد وجوبه كفر الجاحد. وإن تركها ولم يقاتل عليها كإذا كان شخصاً بمفرده تركها ولم يحتسب عليه أصلاً -يعني: لم يُعلم به أصلاً- فهذا التارك في كفره نزاع بين السلف. أما إن تركها وقاتل عليها كأهل الشوكة والمنعة كما وقع في زمن الصديق رضي الله عنه فهؤلاء كفار مرتدون على الصحيح من قولي العلماء، وهو الذي عليه الجمهور من السلف، بل جزم بعض المحققين من الكبار كـ أبي عبيد وغيره أنه إجماع للصحابة، وشيخ الإسلام يميل إلى هذا، وإنما قلت: في أصح قولي العلماء؛ باعتبار ما ذكره المتأخرون، ومعلوم أن إجماع المتقدمين إذا انعقد لا يلتفت إلى قول المتأخرين. أما جمهور المتأخرين من أصحاب الأئمة الثلاثة فإنهم يرون أن هؤلاء بغاة، وأنهم ليسوا من أهل الكفر والردة، ولكن هذا قول باطل، بل الصواب: أن الذين منعوا الزكاة وقاتلوا على منعها كفار، وهو ظاهر مذهب السلف، ولم ينضبط عن أحد من أعيان السلف التصريح بأنهم ليسوا كفاراً، وقد حكاه أبو عبيد إجماعاً للصحابة. وقد كان مالك بن أنس وبعض الكبار من أئمة المدينة والعراق والشام لعظم فقههم يفرقون بين تارك الزكاة المقاتل عليها والذي تركها باختصاصه ولم يقاتل، فإن مالكاً رحمه الله لا يكفر تارك الزكاة، ولكنه إن قاتل عليها كفره .. وهذه النتيجة تفيد أنه لا يسوى بين المسألتين: مسألة الترك وحده، ومسألة الترك مع المقاتلة. إذاً: من ترك وقاتل فهذا كافر في ظاهر مذهب الصحابة والسلف، ولم ينضبط خلاف صحيح فيه. أما إن تركها ولم يقاتل فهذا فيه نزاع مشهور، وعن أحمد رحمه الله فيها روايتان محفوظتان، بل قال الإمام أحمد في رواية: ليس شيء من العمل تركه كفر إلا الصلاة وهذا يدل على أنه يميل إلى أن تارك الزكاة ليس كافراً. كذلك أثر عبد الله بن شقيق الذي رواه الترمذي وغيره، وهو العمدة في هذا يدل على هذا؛ لأنه قال: ما كان أصحاب محمد يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة مما يدل على أن الزكاة لا إجماع فيها عند الصحابة من جهة تركها، أما إن تركها وقاتل فهذه مسألة أخرى، ومن رام التسوية بينهما فقد خالف طريقة السلف، فإن السلف كانوا يفرقون. وقد كان طائفة من كبار أئمة السلف يكفرون تارك الزكاة مطلقاً، قاتل ولم يقاتل، وهذا قول لا ينكر، وهو رواية معروفة في مذهب أحمد رحمه الله، ولكن فرق بين أن يقال: إن في المسألة خلافاً، وبين أن يقال: إن في المسألة إجماعاً. إذاً: من يكفر تارك الصوم حتى ولو صلى وزكى، ويكفر تارك الحج حتى ولو صلى وصام وزكى، أي: يرى كفر تارك أي واحد من المباني الأربعة، فقوله هذا قول لا ينكر، فإن عليه طائفة من السلف كما نص عليه شيخ الإسلام، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، وقال به من الكبار الحكم بن عتيبة وأمثاله من أصحاب مالك، ويحكى قولاً لـ سعيد بن جبير، بل روي عن ابن عباس أنه يقول بهذا المذهب، وإن كان تحقيق القول في الصحابة يحتاج إلى تأمل، لكن المتحقق أنه قول مأثور عن طائفة من السلف فلا ينكر، وإن كان من حيث الرجحان ليس راجحاً. فينبغي لطالب العلم: أن يحقق الفرق بين القول الذي يقول: إنه راجح، وبين القول الذي يقول: إنه إجماع. إذاً: الراجح أن تارك الصلاة كافر، وأن تارك الزكاة المقاتل عليها كافر، وهاتان المسألتان عليهما عامة السلف، بل مسألة الزكاة لم يذكر عن كبار أئمة السلف فيها خلاف كمسألة ترك الصلاة، وإن كانت الصلاة بلا خلاف أعظم من الزكاة، لكن بالمقاتلة يختلف الأمر؛ ولهذا إن قتل على ترك الصلاة فإنه يقتل ردةً بالإجماع، وإن كان بعض الشافعية والمالكية حكوا أنه يقتل فاسقاً، بل وذكر هذا بعض الأصحاب من الحنابلة رحمهم الله، لكن لا شك أن هذا غلط، بل هذا ممتنع كما قال شيخ الإسلام؛ ولهذا كان مالك والشافعي -مع أنهم لا يكفرون تارك الصلاة- يرون قتله. فالمقصود: أن تارك الصلاة كافر عند الجماهير من السلف، وهو ظاهر الكتاب والسنة وظاهر مذهب الصحابة، وتارك الزكاة المقاتل عليها كافر في ظاهر مذهب الصحابة أيضاً، وحكاه طائفة من الكبار إجماعاً خلافاً لجمهور المتأخرين، أما تارك الزكاة الذي لم يقاتل عليها ففيه نزاع مشهور بين أعيان أئمة السلف كـ أحمد وغيره، كذلك تارك الصوم والحج فيه نزاع بين السلف، والجمهور على عدم كفره. فهذا هو أخص ما يقال في هذه المسألة التي تارة يقع فيها خفض أو رفع، فترى من يجزم بأن تارك الصلاة لا يكفر، ويقول: إن هذا هو المتحقق من دلائل الكتاب والسنة، أو من يقول: إن تارك الصلاة يكفر، وهذا إجماع قطعي ضروري .. فكلا هذين القولين فيه بعض التقدم. فهذا مما يتعلق بمسألة أبي حنيفة رحمه الله. وفي تاريخ بغداد وفي السنة لـ عبد الله بن أحمد بعض الكلام في أبي حنيفة، فهذا ينبغي أن نعرض عنه، فإنه لم ينضبط له مذهب مخالف للسلف إلا في مسألة الإيمان، أما ما نقل عنه في مسألة القدر والصفات .. وما نقل عنه في مسألة القرآن ففي الجملة لم ينضبط عنه، وقد صرح شيخ الإسلام رحمه الله في بعض المواضع بأن أبا حنيفة في مسألتي الصفات والقدر على المعروف عن السلف. [وفي النقل عن أبي حنيفة تصريح أن من وقف في مسألة العلو فإنه كافر]. وهذا دليل على أن أبا حنيفة رحمه الله من كبار الأئمة المحققين في مسائل الصفات.

الكلام عن أبي إسماعيل الهروي

الكلام عن أبي إسماعيل الهروي [وروى هذا اللفظ بإسناد عنه شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري الهروي في كتاب الفاروق]. أبو إسماعيل الأنصاري الهروي المعروف بشيخ الإسلام حنبلي متصوف، من أشد المائلين عن علم الكلام الذامين له، والمكفرين للجهمية، وله تصنيف في هذا مشهور، من كتبه الفاروق كما يشير المصنف هنا، كذلك كتاب ذم الكلام وهو كتاب فاضل، فيه آثار متواترة عن كبار أعيان الأئمة سواء الأئمة الأربعة أو غيرهم في ذم العلم الكلامي. ولكنه -أعني: أبا إسماعيل الأنصاري الهروي رحمه الله - ممن يزيدون في إثبات بعض الصفات تارة، يقول شيخ الإسلام رحمه الله في غير ما موضع من منهاج السنة وغيره: وأبو إسماعيل الأنصاري الهروي من المبالغين في ذم الجهمية وتكفيرهم. ولهذا لما ذكر الهروي الأشعري في كتابه ذم الكلام قال: وقد شاع في المسلمين أن رأسهم علي بن الحسن الأشعري لا يصلي ولا يتوضأ. وهذه زيادة، وإنما أذكرها حتى ينتبه إليها طالب العلم، فإن أبا الحسن الأشعري قد أثني عليه فيما وافق فيه الحق كثير، حتى من علماء الحنابلة، ولم ينضبط عن أحد من أهل العلم، بل ولا حتى من أهل التاريخ والأخبار أن الأشعري لم يكن يصلي ولا يتوضأ. فينبغي لطالب العلم دائماً ألا يجعل من الحق طريقاً للاستطالة على الخلق -وهذا ليس من باب الوقوف على أخطاء الهروي فالرجل اجتهد، وربما بلغه هذا بإسناد ظنه صحيحاً فقاله، أو بلغه عن بعض من أهل العلم أو شيء من ذلك-. ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع أنه حنبلي، وممن يثنون على أبي إسماعيل الأنصاري كثيراً، حتى إنه يصفه بشيخ الإسلام -وهو وصف مشهور له عند الحنابلة قبل شيخ الإسلام - إلا أنه تعقب الهروي كثيراً، ووهمه في قوله في الأشعري، بل قال: إن أبا الحسن الأشعري في بعض المسائل أقرب إلى السلف والأئمة من أبي إسماعيل الأنصاري الهروي ولا سيما في مسألة تعليل الأفعال، فإن أبا إسماعيل الأنصاري الهروي يميل إلى الجبر ولا يميل إلى تعليل الأفعال، على طريقة بعض المتصوفة، والأشعري يقرر قريباً من هذا المذهب بالطريقة الكلامية، فهذا الأشعري يقررها تقريراً كلامياً، والهروي يقررها تقريراً صوفياً، والنتيجة في الجملة واحدة، لكن شيخ الإسلام يقول: وأبو الحسن الأشعري في هذا المقام أقرب إلى قول السلف من أبي إسماعيل الأنصاري الهروي. فالمقصود: أن الهروي نفسه له بعض المسائل التي غلط فيها، بل غلطه فيها أشد من غلط أبي الحسن الأشعري، وإن كان قول الأشعري في الصفات لا شك أنه دون قول أبي إسماعيل الأنصاري، فإن قول أبي إسماعيل الأنصاري الهروي فاضل في الجملة، وإن كان أحياناً قد يزيد، لكنه على كل حال أفضل من قول أبي الحسن الذي عرف عنه عدم إثبات الصفات الفعلية بطريقة محققة. كذلك عنده تصوف، وقد غلط في بعض المسائل غلطاً شديداً، وقد وقع هذا في كتابه منازل السائرين، وإن كان ابن القيم رحمه الله يعتذر له كثيراً، لكن عند أغلاط محققة، حتى إن ابن القيم قد صرح بأن في الكتاب بعض الأغلاط المتحققة. فالقصد: أن له بعض الغلط وبعض الصواب، فما كان من صوابه فإنه يقبل، وما كان من خطأه فهو اجتهاد، والله يغفر له.

أقوال بعض أئمة أهل السنة في إثبات صفات الله وإثبات صفة العلو له سبحانه

أقوال بعض أئمة أهل السنة في إثبات صفات الله وإثبات صفة العلو له سبحانه [وروى أيضا ابن أبي حاتم: أن هشام بن عبيد الله الرازي - صاحب محمد بن الحسن - قاضي الري حبس رجلا في التجهم فتاب; فجيء به إلى هشام ليطلقه فقال: الحمد لله على التوبة; فامتحنه هشام ; فقال: أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه؟ فقال: أشهد أن الله على عرشه; ولا أدري ما بائن من خلقه. فقال: ردوه إلى الحبس؛ فإنه لم يتب. وروي أيضاً عن يحيى بن معاذ الرازي أنه قال: إن الله على العرش بائن من الخلق وقد أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا; لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء ضليل وهالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان. وروي أيضا عن ابن المديني لما سئل: ما قول أهل الجماعة؟ قال: يؤمنون بالرؤية والكلام وأن الله فوق السموات على العرش استوى; فسئل عن قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] فقال: اقرأ ما قبلها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7]. وروي أيضا عن أبي عيسى الترمذي قال: هو على العرش كما وصف في كتابه; وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان. وروي عن أبي زرعة الرازي أنه لما سئل عن تفسير قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فقال: تفسيره كما يقرأ هو على العرش وعلمه في كل مكان; ومن قال غير هذا فعليه لعنة الله]. ذكر شيخ الإسلام رحمه الله بعض النقولات عن بعض أئمة السلف الكبار، فروى عن ابن المديني، وعن أبي زرعة الرازي، وعن أبي عيسى الترمذي .. وهذه النقولات عن أعيان أئمة السلف وأهل الحديث الكبار موجودة في كتب السنة المسندة مفصلةً.

قول محمد بن الحسن الشيباني في إثبات صفات الله عز وجل

قول محمد بن الحسن الشيباني في إثبات صفات الله عز وجل ثم قال: [وروى أبو القاسم اللالكائي الحافظ الطبري ; صاحب أبي حامد الإسفرائيني في كتابه المشهور في أصول السنة بإسناده عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة قال: اتفق الفقهاء كلهم -من المشرق إلى المغرب- على الإيمان بالقرآن والأحاديث; التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل: من غير تفسير; ولا وصف ولا تشبيه; فمن فسر اليوم شيئا منها فقد خرج مما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة; فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا; ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا; فمن قال: بقول جهم فقد فارق الجماعة لأنه قد وصفه بصفة لا شيء. محمد بن الحسن أخذ عن أبي حنيفة ومالك وطبقتهما من العلماء. وقد حكى هذا الإجماع وأخبر أن الجهمية تصفه بالأمور السلبية غالباً أو دائماً. وقوله من غير تفسير: أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الأثبات]. الإمام اللالكائي هو صاحب كتاب: شرح أصول اعتقاد أهل السنة، وهو من أخص كتب أهل السنة الموجودة اليوم، وينبغي لطالب العلم ألا يغفل عن النظر فيه، فإنه كتاب فاضل جامع لآثار السلف بطريقة محققة.

قول الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام في إثبات صفات الله عز وجل

قول الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام في إثبات صفات الله عز وجل [وروى البيهقي وغيره بإسناد صحيح عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال: هذه الأحاديث التي يقول فيها: (ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره) .. (وإن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك فيها قدمه) .. (والكرسي موضع القدمين) وهذه الأحاديث في الرؤية هي عندنا حق حملها الثقات بعضهم عن بعض; غير أنا إذا سئلنا عن تفسيرها لا نفسرها وما أدركنا أحدا يفسرها. أبو عبيد أحد الأئمة الأربعة: الذين هم الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد ; وله من المعرفة بالفقه واللغة والتأويل ما هو أشهر من أن يوصف وقد كان في الزمان الذي ظهرت فيه الفتن والأهواء وقد أخبر أنه ما أدرك أحدا من العلماء يفسرها: أي تفسير الجهمية.]. أبو عبيد القاسم بن سلام من أعيان الأئمة الكبار، له تصنيف في أصول الدين، وهو كتاب الإيمان، وله غيره، وهو من المحققين ولا سيما في مسألة الإيمان، ورسالته في الإيمان من أجمع الرسائل في تقرير مذهب السلف والرد على المرجئة.

شرح الحموية [14]

شرح الحموية [14] وردت عن الأئمة رحمهم الله تعالى روايات كثيرة تدل على أن مذهب السلف هو إثبات الصفات على الحقيقة على الوجه اللائق بالله تعالى، وممن ورد عنهم ذلك من أقوالهم -تمثيلاً لا حصراً-: عبد الله بن المبارك، وحماد بن زيد، وسعيد بن عامر الضبعي -إمام البصرة وعالمها- وإمام الأئمة ابن خزيمة، وعباد بن العوام الواسطي، وعبد الرحمن بن مهدي، والأصمعي، وعاصم بن علي بن عاصم، ومالك بن أنس، والشافعي، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة، وابن أبي زمنين المالكي، والخطابي، وأبو نعيم الأصبهاني، ومعمر بن أحمد الأصبهاني، والفضيل بن عياض، والحارث المحاسبي .. وغيرهم رحمهم الله تعالى.

من أقوال الأئمة في إثبات صفات الله عز وجل

من أقوال الأئمة في إثبات صفات الله عز وجل قال المصنف رحمه الله: [وروى اللالكائي والبيهقي بإسنادهما عن عبد الله بن المبارك: أن رجلاً قال له يا أبا عبد الرحمن! إني أكره الصفة -عنى صفة الرب- فقال له عبد الله بن المبارك: وأنا أشد الناس كراهية لذلك ولكن إذا نطق الكتاب بشيء قلنا به وإذا جاءت الآثار بشيء جسرنا عليه ونحو هذا. أراد ابن المبارك: أنا نكره أن نبتدئ بوصف الله من تلقاء أنفسنا حتى يجيء به الكتاب والآثار. وروى عبد الله بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك أنه قيل له: بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه ولا نقول كما تقول الجهمية إنه ههنا في الأرض - وهكذا قال الإمام أحمد وغيره. وروي بإسناد صحيح عن سليمان بن حرب الإمام سمعت حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية. فقال: إنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء. وروى ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن سعيد بن عامر الضبعي -إمام أهل البصرة علما ودينا من شيوخ الإمام أحمد - أنه ذكر عنده الجهمية فقال: أشر قولا من اليهود والنصارى وقد أجمع اليهود والنصارى وأهل الأديان مع المسلمين على أن الله على العرش وهم قالوا: ليس على شيء. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة: من لم يقل: إن الله فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه وجب أن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ثم ألقي على مزبلة لئلا يتأذى بريحه أهل القبلة ولا أهل الذمة. ذكره عنه الحاكم بإسناد صحيح. وروى عبد الله بن الإمام أحمد بإسناده عن عباد بن العوام -الواسطي إمام أهل واسط من طبقة شيوخ الشافعي وأحمد - قال: كلمت بشر المريسي وأصحاب بشر ; فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا: ليس في السماء شيء. وعن عبد الرحمن بن مهدي الإمام المشهور أنه قال: ليس في أصحاب الأهواء شر من أصحاب جهم يدورون على أن يقولوا: ليس في السماء شيء أرى والله أن لا يناكحوا ولا يوارثوا. وروى عبد الرحمن بن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الرحمن بن مهدي قال: أصحاب جهم يريدون أن يقولوا: إن الله لم يكلم موسى ويريدون أن يقولوا: ليس في السماء شيء وإن الله ليس على العرش أرى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا قتلوا. وعن الأصمعي قال: قدمت امرأة جهم فنزلت بالدباغين فقال رجل عندها: الله على عرشه. فقالت: محدود على محدود فقال الأصمعي: كفرت بهذه المقالة. وعن عاصم بن علي بن عاصم - شيخ أحمد والبخاري وطبقتهما- قال: ناظرت جهمياً; فتبين من كلامه أنه لا يؤمن أن في السماء رباً. وروى الإمام أحمد بن حنبل الشيباني قال: أخبرنا سريج بن النعمان قال: سمعت عبد الله بن نافع الصائغ قال: سمعت مالك بن أنس يقول: الله في السماء وعلمه في كل مكان; لا يخلو من علمه مكان. وقال الشافعي: خلافة أبي بكر الصديق حق قضاه الله في السماء وجمع عليه قلوب عباده. وفي الصحيح عن أنس بن مالك قال: كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سموات. وهذا مثل قول الشافعي. وقصة أبي يوسف -صاحب أبي حنيفة - مشهورة في استتابة بشر المريسي حتى هرب منه لما أنكر أن يكون الله فوق عرشه قد ذكرها ابن أبي حاتم وغيره].

قول ابن أبي زمنين في إثبات صفات الله عز وجل

قول ابن أبي زمنين في إثبات صفات الله عز وجل [وقال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين الإمام المشهور من أئمة المالكية في كتابه الذي صنفه في أصول السنة قال فيه: باب الإيمان بالعرش قال: ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق ثم استوى عليه كيف شاء كما أخبر عن نفسه في قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} [الحديد:4] الآية. فسبحان من بعد وقرب بعلمه فسمع النجوى. وذكر حديث أبي رزين العقيلي ; قلت: (يا رسول الله أين ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء ثم خلق عرشه على الماء) قال محمد: العماء السحاب الكثيف المطبق -فيما ذكره الخليل - وذكر آثارا أخر. ثم قال: باب: الإيمان بالكرسي: قال محمد بن عبد الله: ومن قول أهل السنة أن الكرسي بين يدي العرش وأنه موضع القدمين. ثم ذكر حديث أنس الذي فيه التجلي يوم الجمعة في الآخرة وفيه: (فإذا كان يوم الجمعة هبط من عليين على كرسيه ثم يحف الكرسي على منابر من ذهب مكللة بالجواهر; ثم يجيء النبيون فيجلسون عليها). وذكر ما ذكره: يحيى بن سالم صاحب التفسير المشهور: حدثني العلاء بن هلال عن عمار الدهني ; عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن الكرسي الذي وسع السموات والأرض لموضع القدمين; ولا يعلم قدر العرش إلا الذي خلقه. وذكر من حديث أسد بن موسى ; ثنا حماد بن سلمة عن زر عن ابن مسعود قال: ما بين السماء الدنيا والتي تليها مسيرة خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه. ثم قال في باب الإيمان بالحجب قال: ومن قول أهل السنة إن الله بائن من خلقه يحتجب عنهم بالحجب فتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف:5] وذكر آثاراً في الحجب. ثم قال في باب الإيمان بالنزول قال: ومن قول أهل السنة أن الله ينزل إلى سماء الدنيا ويؤمنون بذلك من غير أن يحدوا فيه حدا وذكر الحديث من طريق مالك وغيره. إلى أن قال: وأخبرني وهب عن ابن وضاح عن الزهري عن ابن عباد. قال: ومن أدركت من المشايخ مالك وسفيان وفضيل بن عياض وعيسى بن المبارك ووكيع: كانوا يقولون: إن النزول حق. قال ابن وضاح: وسألت يوسف بن عدي عن النزول قال: نعم أومن به ولا أحد فيه حدا وسألت عنه ابن معين فقال: نعم أقر به ولا أحد فيه حدا. قال محمد: وهذا الحديث يبين أن الله عز وجل على العرش في السماء دون الأرض وهو أيضا بين في كتاب الله وفي غير حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك:16 - 17] وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] يرفعه وقال: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:18] وقال تعالى: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:55] وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]. وذكر من طريق مالك: قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟ قالت: في السماء. قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله. قال: فأعتقها). قال: والأحاديث مثل هذا كثيرة جدا فسبحان من علمه بما في السماء كعلمه بما في الأرض لا إله إلا هو العلي العظيم. وقال قبل ذلك في الإيمان بصفات الله تعالى وأسمائه قال: واعلم بأن أهل العلم بالله وبما جاءت به أنبياؤه ورسله يرون الجهل بما لم يخبر به عن نفسه علما والعجز عن ما لم يدع إليه إيمانا وأنهم إنما ينتهون من وصفه بصفاته وأسمائه إلى حيث انتهى في كتابه على لسان نبيه. وقد قال -وهو أصدق القائلين- {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص:88] وقال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19] وقال: {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] وقال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] وقال: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] وقال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39] وقال: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وقال: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} [الزمر:67] الآية. وقال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وقال: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35] الآية وقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] الآية. وقال: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد:3] ومثل هذا في القرآن كثير. فهو تبارك وتعالى نور السموات والأرض كما أخبر عن نفسه وله وجه ونفس وغير ذلك مما وصف به نفسه ويسمع ويرى ويتكلم هو الأول لا شيء قبله والآخر الباقي إلى غير نهاية ولا شيء بعده والظاهر العالي فوق كل شيء والباطن بطن علمه بخلقه فقال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3] قيوم حي لا تأخذه سنة ولا نوم. وذكر: أحاديث الصفات ثم قال: فهذه صفات ربنا التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها نبيه وليس في شيء منها تحديد ولا تشبيه ولا تقدير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11] لم تره العيون فتحده كيف هو؟ ولكن رأته القلوب في حقائق الإيمان. اهـ].

قول الخطابي في إثبات صفات الله عز وجل

قول الخطابي في إثبات صفات الله عز وجل [وكلام الأئمة في هذا الباب أطول وأكثر من أن تسع هذه الفتيا عشره. وكذلك كلام الناقلين لمذهبهم. مثل ما ذكره أبو سليمان الخطابي في رسالته المشهورة في الغنية عن الكلام وأهله قال: فأما ما سألت عنه من الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنة فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها وقد نفاها قوم فأبطلوا ما أثبته الله وحققها قوم من المثبتين فخرجوا في ذلك إلى ضرب من التشبيه والتكييف وإنما القصد في سلوك الطريقة المستقيمة بين الأمرين ودين الله تعالى بين الغالي فيه والجافي والمقصر عنه. والأصل في هذا: أن الكلام في الصفات فرع على الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه ومثاله. فإذا كان معلوما أن إثبات الباري سبحانه إنما هو إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف. فإذا قلنا يد وسمع وبصر وما أشبهها فإنما هي صفات أثبتها الله لنفسه; ولسنا نقول: إن معنى اليد القوة أو النعمة ولا معنى السمع والبصر العلم; ولا نقول إنها جوارح ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل ونقول: إن القول إنما وجب بإثبات الصفات; لأن التوقيف ورد بها; ووجب نفي التشبيه عنها لأن الله ليس كمثله شيء; وعلى هذا جرى قول السلف في أحاديث الصفات هذا كله كلام الخطابي. وهكذا قاله أبو بكر الخطيب الحافظ في رسالة له أخبر فيها أن مذهب السلف على ذلك. وهذا الكلام الذي ذكره الخطابي قد نقل نحوا منه من العلماء من لا يحصى عددهم مثل أبي بكر الإسماعيلي والإمام يحيى بن عمار السجزي وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الهروي صاحب منازل السائرين وذم الكلام وهو أشهر من أن يوصف وشيخ الإسلام أبي عثمان الصابوني وأبي عمر بن عبد البر النمري إمام المغرب وغيرهم]. الخطابي رحمه الله من كبار أهل العلم المعتبرين المعروفين، لكنه وإن كان مائلاً عن علم الكلام -وهو كـ البيهقي في هذا- فلم يتقلده، بل إن له ذماً فيه، إلا أنه تارةً يوافق بعض أئمة المتكلمين وبخاصة الأشعري ومن هو على شاكلته في بعض الموارد، ولهذا صار الخطابي -وكذلك البيهقي - عند طائفة من الناظرين يضاف إلى الأشعرية على مثل هذا المعنى، من جهة أنهم لم يصححوا العلم الكلامي، ولهم امتداح مفصل لمذهب السلف لا يقع عند كثير من متكلمة الأشاعرة بل عند عامتهم، لكنهم يوافقون الأشعري في بعض الموارد وبخاصة في مسائل الصفات الفعلية.

قول بعض من نسبوا إلى التصوف في إثبات صفات الله عز وجل

قول بعض من نسبوا إلى التصوف في إثبات صفات الله عز وجل [وقال أبو نعيم الأصبهاني صاحب الحلية في عقيدة له قال في أولها: طريقتنا طريقة المتبعين الكتاب والسنة وإجماع الأمة; قال فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله يقولون بها; ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه: لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه. وقال الحافظ أبو نعيم في كتابه محجة الواثقين ومدرجة الوامقين تأليفه: وأجمعوا أن الله فوق سمواته عال على عرشه مستو عليه لا مستول عليه كما تقول الجهمية إنه بكل مكان; خلافا لما نزل في كتابه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] له العرش المستوي عليه والكرسي الذي وسع السموات والأرض وهو قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة:255] وكرسيه جسم والأرضون السبع والسموات السبع عند الكرسي كحلقة في أرض فلاة; وليس كرسيه علمه كما قالت الجهمية; بل يوضع كرسيه يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه; كما قاله النبي صلى الله عليه وسلم وأنه - تعالى وتقدس- يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده والملائكة صفا صفا; كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] وزاد النبي صلى الله عليه وسلم: وأنه تعالى وتقدس يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده فيغفر لمن يشاء من مذنبي الموحدين ويعذب من يشاء. كما قال تعالى: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:129]. وقال الإمام العارف معمر بن أحمد الأصبهاني -شيخ الصوفية في حدود المائة الرابعة في بلاده- قال: أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وموعظة من الحكمة; وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر بلا كيف وأهل المعرفة والتصوف من المتقدمين والمتأخرين قال فيها: وإن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل والاستواء معقول والكيف فيه مجهول. وأنه عز وجل مستو على عرشه بائن من خلقه والخلق منه بائنون; بلا حلول ولا ممازجة ولا اختلاط ولا ملاصقة; لأنه الفرد البائن من الخلق الواحد الغني عن الخلق. وإن الله عز وجل سميع بصير عليم خبير يتكلم ويرضى ويسخط ويضحك ويعجب ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكا وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف شاء: فيقول: (هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر) ونزول الرب إلى السماء بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل. فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وسائر الصفوة من العارفين على هذا. اهـ. وقال الشيخ الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن هارون الخلال في كتاب السنة ثنا أبو بكر الأثرم ثنا إبراهيم بن الحارث يعني العبادي حدثنا الليث بن يحيى قال: سمعت إبراهيم بن الأشعث -قال أبو بكر: هو صاحب الفضيل - قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: ليس لنا أن نتوهم في الله كيف هو؟ لأن الله تعالى وصف نفسه فأبلغ فقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] فلا صفة أبلغ مما وصف به نفسه. وكل هذا النزول والضحك وهذه المباهاة وهذا الاطلاع; كما يشاء أن ينزل وكما يشاء أن يباهي وكما يشاء أن يضحك وكما يشاء أن يطلع. فليس لنا أن نتوهم كيف وكيف؟. فإذا قال الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل: بل أومن برب يفعل ما يشاء. ونقل هذا عن الفضيل جماعة منهم البخاري في أفعال العباد. ونقل شيخ الإسلام بإسناده في كتابه الفاروق فقال: ثنا يحيى بن عمار ثنا أبي ثنا يوسف بن يعقوب ثنا حرمي بن علي البخاري وهانئ بن النضر عن الفضيل. وقال عمرو بن عثمان المكي في كتابه الذي سماه التعرف بأحوال العباد والمتعبدين قال: باب ما يجيء به الشيطان للتائبين وذكر أنه يوقعهم في القنوط ثم في الغرور وطول الأمل ثم في التوحيد. فقال: من أعظم ما يوسوس في التوحيد بالتشكل أو في صفات الرب بالتمثيل والتشبيه أو بالجحد لها والتعطيل. فقال بعد ذكر حديث الوسوسة:- واعلم رحمك الله أن كل ما توهمه قلبك أو سنح في مجاري فكرك أو خطر في معارضات قلبك من حسن أو بهاء أو ضياء أو إشراق أو جمال أو سنح مسائل أو شخص متمثل: فالله تعالى بغير ذلك; بل هو تعالى أعظم وأجل وأكبر ألا تسمع لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] أي لا شبيه ولا نظير ولا مساوي ولا مثل أولم تعلم أنه لما تجلى للجبل تدكدك لعظم هيبته؟ وشامخ سلطانه؟ فكما لا يتجلى لشيء إلا اندك: كذلك لا يتوهمه أحد إلا هلك. فرد بما بين الله في كتابه من نفسه عن نفسه التشبيه والمثل والنظير والكفؤ. فإن اعتصمت بها وامتنعت منه أتاك من قبل التعطيل لصفات الرب -تعالى وتقدس- في كتابه وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال لك: إذا كان موصوفا بكذا أو وصفته أوجب له التشبيه فأكذبه; لأنه اللعين إنما يريد أن يستزلك ويغويك ويدخلك في صفات الملحدين الزائغين الجاحدين لصفة الرب تعالى. واعلم -رحمك الله تعالى- أن الله تعالى واحد لا كالآحاد فرد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد -إلى أن قال- خلصت له الأسماء السنية فكانت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق لم يستحدث تعالى صفة كان منها خليا واسما كان منه بريا تبارك وتعالى; فكان هاديا سيهدي وخالقا سيخلق ورازقا سيرزق وغافرا سيغفر وفاعلا سيفعل ولم يحدث له الاستواء إلا وقد كان في صفة أنه سيكون ذلك الفعل فهو يسمى به في جملة فعله. كذلك قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] بمعنى أنه سيجيء; فلم يستحدث الاسم بالمجيء وتخلف الفعل لوقت المجيء فهو جاء سيجيء ويكون المجيء منه موجودا بصفة لا تلحقه الكيفية ولا التشبيه لأن ذلك فعل الربوبية فيستحسر العقل وتنقطع النفس عند إرادة الدخول في تحصيل كيفية المعبود فلا تذهب في أحد الجانبين; لا معطلا ولا مشبها وارض لله بما رضي به لنفسه وقف عند خبره لنفسه مسلما مستسلما مصدقا; بلا مباحثة التنفير ولا مناسبة التنقير. إلى أن قال: فهو تبارك وتعالى القائل: أنا الله لا الشجرة الجائي قبل أن يكون جائياً; لا أمره المتجلي لأوليائه في المعاد; فتبيض به وجوههم وتفلج به على الجاحدين حجتهم المستوي على عرشه بعظمة جلاله فوق كل مكان -تبارك وتعالى- الذي كلم موسى تكليما. وأراه من آياته فسمع موسى كلام الله؟ لأنه قربه نجيا. تقدس أن يكون كلامه مخلوقا أو محدثا أو مربوبا الوارث بخلقه لخلقه السميع لأصواتهم الناظر بعينه إلى أجسامهم يداه مبسوطتان وهما غير نعمته خلق آدم ونفخ فيه من روحه -وهو أمره- تعالى وتقدس أن يحل بجسم أو يمازج بجسم أو يلاصق به تعالى عن ذلك علواً كبيراً الشائي له المشيئة العالم له العلم الباسط يديه بالرحمة النازل كل ليلة إلى سماء الدنيا ليتقرب إليه خلقه بالعبادة وليرغبوا إليه بالوسيلة القريب في قربه من حبل الوريد البعيد في علوه من كل مكان بعيد ولا يشبه بالناس. إلى أن قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] القائل: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الملك:16 - 17] تعالى وتقدس أن يكون في الأرض كما هو في السماء جل عن ذلك علواً كبيراً اهـ]. هذه النقولات عن الصوفية، وإن كان في بعض الأحرف كلام لا يوافقون عليه على التمام والتفصيل، لكن غرض المصنف بها: أن يبين أن هذا الإثبات الذي ذكره في رسالته وفي كتبه مفصلاً هو مذهب معروف حتى عند المتصوفة. والإشكال في الصوفية أنهم طوائف متباينة تماماً، فمن الصوفية من أضيفوا إلى التصوف، وهم أئمة معتبرون من كبار أهل السنة والجماعة، كـ الفضيل بن عياض وأمثاله، فإن هذا وإن لم يسم نفسه صوفياً إلا أن جمهور كتب الصوفية يضيفونه إليهم. وصنف آخر من الصوفية: وهو من وقع في بدع عملية، أي: قد يكون عنده زيادة في التعبد أو بعض التكلف أو ما يشاكل ذلك، ولكنه من حيث الأصول -أصول الديانة- مستقر على قول أهل السنة والجماعة. وطائفة من الصوفية: يميلون إلى الطرق الكلامية ويركبون عليها الطرق الصوفية كما هي حال القشيري صاحب الرسالة. وطائفة من الصوفية: ينتحلون الطريقة الكلامية والطريقة الصوفية، ويرون الفرق بينهما، لكنهم يجعلون هذا خطاباً وهذا خطاباً، كما هي الطريقة التي انتهى إليها أبو حامد الغزالي صاحب الإحياء، فإنه انتهى إلى طريقتين، بل إلى ثلاث طرق كما ذكر ذلك في كتابه ميزان العمل، فهو يمتدح طريقة المتكلمين باعتبار أنها طريقة جدلية ينازل بها الخصوم؛ ولهذا استعملها في رده على المتفلسفة، ولكنه من حيث التحقيق والمعرفة واليقين كما يقول: فإن اليقين هنا يقع في طريقة الصوفية .. . وطائفة من الصوفية: الصوفية المتفلسفة الذين وقعوا فيما يقارب الطرق الإلحادية، بل في مقالات إلحادية محضة من مقالات الزنادقة من الفلاسفة وغيرهم، كما هي طريقة ابن عربي وابن سبعين والتلمساني

قول الحارث المحاسبي في إثبات الصفات

قول الحارث المحاسبي في إثبات الصفات [وقال الإمام أبو عبد الله الحارث بن إسماعيل بن أسد المحاسبي في كتابه المسمى فهم القرآن قال في كلامه على الناسخ والمنسوخ: وأن النسخ لا يجوز في الأخبار قال: لا يحل لأحد أن يعتقد أن مدح الله وصفاته ولا أسماءه يجوز أن ينسخ منها شيء. إلى أن قال: وكذلك لا يجوز إذا أخبر أن صفاته حسنة عليا أن يخبر بذلك أنها دنية سفلى فيصف نفسه بأنه جاهل ببعض الغيب بعد أن أخبر أنه عالم بالغيب وأنه لا يبصر ما قد كان ولا يسمع الأصوات ولا قدرة له ولا يتكلم ولا كلام كان منه وأنه تحت الأرض لا على العرش جل وعلا عن ذلك. فإذا عرفت ذلك واستيقنته: علمت ما يجوز عليه النسخ وما لا يجوز فإن تلوت آية في ظاهر تلاوتها تحسب أنها ناسخة لبعض أخباره كقوله عن فرعون: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} [يونس:90] الآيات وقال: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31] وقال: قد تأول قوم: أن الله عنى أن ينجيه ببدنه من النار لأنه آمن عند الغرق وقال: إنما ذكر الله أن قوم فرعون يدخلون النار دونه وقال: {فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ} [هود:98] وقال: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:45] ولم يقل بفرعون. قال: وهكذا الكذب على الله; لأن الله تعالى يقول: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى} [النازعات:25] كذلك قوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} [العنكبوت:3] فأقر التلاوة على استئناف العلم من الله عز وجل عن أن يستأنف علما بشيء لأنه من ليس له علم بما يريد أن يصنعه لم يقدر أن يصنعه -نجده ضرورة- قال: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] قال: وإنما قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ} [محمد:31] إنما يريد حتى نراه فيكون معلوما موجودا; لأنه لا جائز أن يكون يعلم الشيء معدوما من قبل أن يكون; ويعلمه موجودا كان قد كان; فيعلم في وقت واحد معدوما موجودا وإن لم يكن وهذا محال. وذكر كلاما في هذا في الإرادة. إلى أن قال: وكذلك قوله: {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15] ليس معناه أن يحدث له سمعا ولا تكلف بسمع ما كان من قولهم وقد ذهب قوم من أهل السنة أن الله استماعا في ذاته فذهبوا إلى أن ما يعقل من أنه يحدث منهم علم سمع لما كان من قول; لأن المخلوق إذا سمع حدث له عقل فهم عما أدركته أذنه من الصوت، وكذلك قوله: {وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة:105] لا يتحدث بصرا محدثا في ذاته وإنما يحدث الشيء فيراه مكونا كما لم يزل يعلمه قبل كونه. إلى أن قال: وكذلك قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] وقوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقوله: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] وقال: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] وقال لعيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [آل عمران:55] الآية وقال: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف:206] وذكر الآلهة: أن لو كان آلهة لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا حيث هو فقال: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] أي: طلبه، وقال: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] قال أبو عبد الله: فلن ينسخ ذلك لهذا أبداً. كذلك قوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3] وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] الآية فليس هذا بناسخ لهذا ولا هذا ضد لذلك. واعلم أن هذه الآيات ليس معناها أن الله أراد الكون بذاته فيكون في أسفل الأشياء أو ينتقل فيها لانتقالها ويتبعض فيها على أقدارها ويزول عنها عند فنائها جل وعز عن ذلك وقد نزع بذلك بعض أهل الضلال; فزعموا أن الله تعالى في كل مكان بنفسه كائنا كما هو على العرش; لا فرقان بين ذلك ثم أحالوا في النفي بعد تثبيت ما يجوز عليه في قولهم ما نفوه; لأن كل من يثبت شيئا في المعنى ثم نفاه بالقول لم يغن عنه نفيه بلسانه واحتجوا بهذه الآيات أن الله تعالى في كل شيء بنفسه كائنا ثم نفوا معنى ما أثبتوه فقالوا: لا كالشيء في الشيء. قال أبو عبد الله: لنا قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ} [محمد:31] {فَسَيَرَى اللَّهُ} [التوبة:105] {إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} [الشعراء:15] فإنما معناه حتى يكون الموجود فيعلمه موجودا ويسمعه مسموعا ويبصره مبصرا لا على استحداث علم ولا سمع ولا بصر. وأما قوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا} [الإسراء:16] إذا جاء وقت كون المراد فيه. وإن قوله: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18] الآية .. {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] {إِذاً لابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] فهذا وغيره مثل قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] هذا منقطع يوجب أنه فوق العرش فوق الأشياء كلها منزه عن الدخول في خلقه لا يخفى عليه منهم خافية; لأنه أبان في هذه الآيات أنه أراد أنه بنفسه فوق عباده; لأنه قال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:16] يعني: فوق العرش والعرش على السماء; لأن من قد كان فوق كل شيء على السماء في السماء وقد قال مثل ذلك في قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} [التوبة:2] يعني على الأرض; لا يريد الدخول في جوفها وكذلك قوله: {يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ} [المائدة:26] يعني: على الأرض; لا يريد الدخول في جوفها وكذلك قوله: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] يعني فوقها عليها. وقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ثم فصل فقال: {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:16] ولم يصل فلم يكن لذلك معنى -إذا فصل قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] ثم استأنف التخويف بالخسف - إلا أنه على عرشه فوق السماء. وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] وقال: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:4] فبين عروج الأمر وعروج الملائكة ثم وصف وقت صعودها بالارتفاع صاعدة إليه فقال: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] فقال: صعودها إليه وفصله من قوله إليه كقول القائل: أصعد إلى فلان في ليلة أو يوم وذلك أنه في العلو وإن صعودك إليه في يوم فإذا صعدوا إلى العرش فقد صعدوا إلى الله عز وجل وإن كانوا لم يروه ولم يساووه في الارتفاع في علوه فإنهم صعدوا من الأرض وعرجوا بالأمر إلى العلو قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ولم يقل عنده. وقال فرعون: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر:36 - 37] ثم استأنف الكلام فقال: {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:37] فيما قال لي إن إلهه فوق السموات. فبين الله سبحانه وتعالى أن فرعون ظن بموسى أنه كاذب فيما قال: وعمد لطلبه حيث قاله مع الظن بموسى أنه كاذب ولو أن موسى قال: إنه في كل مكان بذاته لطلبه في بيته أو في بدنه أو حشه. فتعالى الله عن ذلك ولم يجهد نفسه ببنيان الصرح. قال أبو عبد الله: وأما الآي التي يزعمون أنها قد وصلها - ولم يقطعها كما قطع الكلام الذي أراد به أنه على عرشه - فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [المجادلة:7] فأخبر بالعلم ثم أخبر أنه مع كل مناج ثم ختم الآية بالعلم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] فبدأ بالعلم وختم بالعلم: فبين أنه أراد أنه يعلمهم حيث كانوا; لا يخفون عليه ولا يخفى عليه مناجاتهم. ولو اجتمع القوم في أسفل وناظر إليهم في العلو. فقال: إني لم أزل أراكم وأعلم مناجاتكم لكان صادقا - ولله المثل الأعلى أن يشبه الخلق - فإن أبوا إلا ظاهر التلاوة وقالوا: هذا منكم دعوى خرجوا عن قولهم في ظاهر التلاوة; لأن من هو مع الاثنين فأكثر; هو معهم لا فيهم ومن كان مع شيء خلا جسمه وهذا

شرح الحموية [15]

شرح الحموية [15] للإمام أبي عبد الله محمد بن خفيف رحمه الله تعالى كلام طويل في بيان أن عقيدة السلف هي إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له نبيه صلى الله عليه وسلم من الصفات، على الوجه اللائق به سبحانه وتعالى، ومثله قال القاضي أبو يعلى الحنبلي رحمه الله، وكذلك الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله، وهذا دليل قاطع على أن مذهب السلف هو إثبات الصفات على الوجه اللائق بالله تعالى.

قول ابن خفيف في إثبات الصفات

قول ابن خفيف في إثبات الصفات قال المصنف رحمه الله: [وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن خفيف في كتابه الذي سماه اعتقاد التوحيد بإثبات الأسماء والصفات قال في آخر خطبته: فاتفقت أقوال المهاجرين والأنصار في توحيد الله عز وجل ومعرفة أسمائه وصفاته وقضائه قولا واحدا وشرعا ظاهرا وهم الذين نقلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حتى قال: (عليكم بسنتي) وذكر الحديث وحديث (لعن الله من أحدث حدثا) قال: فكانت كلمة الصحابة على الاتفاق من غير اختلاف - وهم الذين أمرنا بالأخذ عنهم إذ لم يختلفوا بحمد الله تعالى في أحكام التوحيد وأصول الدين من الأسماء والصفات كما اختلفوا في الفروع ولو كان منهم في ذلك اختلاف لنقل إلينا; كما نقل سائر الاختلاف - فاستقر صحة ذلك عند خاصتهم وعامتهم; حتى أدوا ذلك إلى التابعين لهم بإحسان فاستقر صحة ذلك عند العلماء المعروفين; حتى نقلوا ذلك قرنا بعد قرن; لأن الاختلاف كان عندهم في الأصل كفر ولله المنة. ثم إني قائل -وبالله أقول- إنه لما اختلفوا في أحكام التوحيد وذكر الأسماء والصفات على خلاف منهج المتقدمين من الصحابة والتابعين فخاضوا في ذلك من لم يعرفوا بعلم الآثار ولم يعقلوا قولهم بذكر الأخبار وصار معولهم على أحكام هوى حسن النفس المستخرجة من سوء الظن به على مخالفة السنة والتعلق منهم بآيات لم يسعدهم فيها ما وافق النفوس فتأولوا على ما وافق هواهم وصححوا بذلك مذهبهم: احتجت إلى الكشف عن صفة المتقدمين ومأخذ المؤمنين ومنهاج الأولين; خوفا من الوقوع في جملة أقاويلهم التي حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ومنع المستجيبين له حتى حذرهم. ثم ذكر أبو عبد الله: خروج النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتنازعون في القدر وغضبه وحديث: (لا ألفين أحدكم) وحديث: (ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة) فإن الناجية ما كان عليه هو وأصحابه; ثم قال: فلزم الأمة قاطبة معرفة ما كان عليه الصحابة ولم يكن الوصول إليه إلا من جهة التابعين لهم بإحسان; المعروفين بنقل الأخبار ممن لا يقبل المذاهب المحدثة. فيتصل ذلك قرنا بعد قرن ممن عرفوا بالعدالة والأمانة الحافظين على الأمة ما لهم وما عليهم من إثبات السنة. إلى أن قال: فأول ما نبتدئ به ما أوردنا هذه المسألة من أجلها ذكر أسماء الله عز وجل في كتابه وما بين صلى الله عليه وسلم من صفاته في سنته وما وصف به عز وجل مما سنذكر قول القائلين بذلك مما لا يجوز لنا في ذلك أن نرده إلى أحكام عقولنا بطلب الكيفية بذلك ومما قد أمرنا بالاستسلام له -إلى أن قال: - ثم إن الله تعرف إلينا بعد إثبات الوحدانية والإقرار بالألوهية: أن ذكر تعالى في كتابه بعد التحقيق بما بدأ من أسمائه وصفاته وأكد عليه السلام بقوله فقبلوا منه كقبولهم لأوائل التوحيد من ظاهر قوله لا إله إلا الله. إلى أن قال بإثبات نفسه بالتفصيل من المجمل. فقال لموسى عليه السلام: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41] وقال: {وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] ولصحة ذلك واستقرار ما جاء به المسيح عليه السلام فقال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] وقال عز وجل: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] وأكد عليه السلام صحة إثبات ذلك في سنته فقال: (يقول الله عز وجل: من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي) وقال: (كتب كتابا بيده على نفسه: إن رحمتي غلبت غضبي) وقال: (سبحان الله رضا نفسه) وقال في محاجة آدم لموسى: (أنت الذي اصطفاك الله واصطنعك لنفسه) فقد صرح بظاهر قوله: أنه أثبت لنفسه نفسا وأثبت له الرسول ذلك فعلى من صدق الله ورسوله اعتقاد ما أخبر به عن نفسه ويكون ذلك مبنيا على ظاهر قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]. ثم قال: فعلى المؤمنين خاصتهم وعامتهم قبول كل ما ورد عنه عليه السلام بنقل العدل عن العدل حتى يتصل به صلى الله عليه وسلم وإن مما قضى الله علينا في كتابه ووصف به نفسه ووردت السنة بصحة ذلك أن قال: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [النور:35]. ثم قال عقيب ذلك: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35] وبذلك دعاه صلى الله عليه وسلم: (أنت نور السموات والأرض) ثم ذكر حديث أبي موسى: (حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) وقال: سبحات وجهه جلاله ونوره. نقله عن الخليل وأبي عبيد وقال: قال عبد الله بن مسعود: نور السموات نور وجهه. ثم قال: ومما ورد به النص أنه حي وذكر قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] والحديث: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث) قال: ومما تعرف الله إلى عباده أن وصف نفسه أن له وجها موصوفا بالجلال والإكرام فأثبت لنفسه وجها - وذكر الآيات. ثم ذكر حديث أبي موسى المتقدم فقال في هذا الحديث من أوصاف الله عز وجل لا ينام موافق لظاهر الكتاب: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] وأن له وجها موصوفاً بالأنوار وأن له بصراً كما علمنا في كتابه أنه سميع بصير. ثم ذكر الأحاديث في إثبات الوجه وفي إثبات السمع والبصر والآيات الدالة على ذلك. ثم قال: ثم إن الله تعالى تعرف إلى عباده المؤمنين أن قال: له يدان قد بسطهما بالرحمة وذكر الأحاديث في ذلك ثم ذكر شعر أمية بن أبي الصلت. ثم ذكر حديث: (يلقى في النار وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها رجله) وهي رواية البخاري وفي رواية أخرى يضع عليها قدمه. ثم ما رواه مسلم البطين عن ابن عباس: أن الكرسي موضع القدمين وأن العرش لا يقدر قدره إلا الله. وذكر قول مسلم البطين نفسه وقول السدي وقول وهب بن منبه وأبي مالك وبعضهم يقول: موضع قدميه وبعضهم يقول واضع رجليه عليه. ثم قال: فهذه الروايات قد رويت عن هؤلاء من صدر هذه الأمة موافقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم متداولة في الأقوال ومحفوظة في الصدر ولا ينكر خلف عن السلف ولا ينكر عليهم أحد من نظرائهم نقلتها الخاصة والعامة مدونة في كتبهم إلى أن حدث في آخر الأمة من قلل الله عددهم ممن حذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مجالستهم ومكالمتهم وأمرنا أن لا نعود مرضاهم ولا نشيع جنائزهم فقصد هؤلاء إلى هذه الروايات فضربوها بالتشبيه وعمدوا إلى الأخبار فعملوا في دفعها إلى أحكام المقاييس وكفر المتقدمين وأنكروا على الصحابة والتابعين; وردوا على الأئمة الراشدين فضلوا وأضلوا عن سواء السبيل. ثم ذكر: المأثور عن ابن عباس وجوابه لـ نجدة الحروري ; ثم حديث الصورة وذكر أنه صنف فيه كتابا مفردا واختلاف الناس في تأويله. ثم قال: وسنذكر أصول السنة وما ورد من الاختلاف فيما نعتقده مما خالفنا فيه أهل الزيغ وما وافقنا فيه أصحاب الحديث من المثبتة -إن شاء الله-. ثم ذكر الخلاف في الإمامة واحتج عليها وذكر اتفاق المهاجرين والأنصار على تقديم الصديق وأنه أفضل الأمة. ثم قال: وكان الاختلاف في خلق الأفعال هل هي مقدرة أم لا؟ قال: وقولنا فيها أن أفعال العباد مقدرة معلومة وذكر إثبات القدر. ثم ذكر الخلاف في أهل الكبائر ومسألة الأسماء والأحكام وقال: قولنا فيها إنهم مؤمنون على الإطلاق وأمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء عفا عنهم. وقال: أصل الإيمان موهبة يتولد منها أفعال العباد فيكون أصل التصديق والإقرار والأعمال وذكر الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه. وقال: قولنا: إنه يزيد وينقص. قال: ثم كان الاختلاف في القرآن مخلوقا وغير مخلوق فقولنا وقول أئمتنا إن القرآن كلام الله غير مخلوق وإنه صفة الله منه بدأ قولا وإليه يعود حكما. ثم ذكر الخلاف في الرؤية وقال: قولنا وقول أئمتنا فيما نعتقد أن الله يرى في القيامة وذكر الحجة. ثم قال: اعلم رحمك الله أني ذكرت أحكام الاختلاف على ما ورد من ترتيب المحدثين في كل الأزمنة وقد بدأت أن أذكر أحكام الجمل من العقود. فنقول: ونعتقد: أن الله عز وجل له عرش وهو على عرشه فوق سبع سمواته بكل أسمائه وصفاته; كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [السجدة:5] ولا نقول إنه في الأرض كما هو في السماء على عرشه لأنه عالم بما يجري على عباده {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] إلى أن قال: ونعتقد أن الله تعالى خلق الجنة والنار وإنهما مخلوقتان للبقاء; لا للفناء. إلى أن قال: ونعتقد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج بنفسه إلى سدرة المنتهى. إلى أن قال: ونعتقد أن الله قبض قبضتين فقال: هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار. ونعتقد أن للرسول صلى الله عليه وسلم حوضاً ونعتقد أنه أول شافع وأول مشفع وذكر الصراط والميزان والموت وأن المقتول قتل بأجله واستوفى رزقه. إلى أن قال: ومما نعتقد أن الله ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا في ثلث الليل الآخر; فيبسط يده فيقول: ألا هل من سائل الحديث وليلة النصف من شعبان وعشية عرفة وذكر الحديث في ذلك. قال: ونعتقد أن الله تعالى كلم موسى تكليماً. واتخذ إبراهيم خليلا وأن الخلة غير الفقر; لا كما قال أهل البدع. ونعتقد أن الله تعالى خص محمدا صلى الله عليه وسلم بالرؤية. واتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً. ونعتقد أن الله تعالى اختص بمفتاح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34] الآية. و

قول القاضي أبي يعلى الحنبلي في إثبات الصفات

قول القاضي أبي يعلى الحنبلي في إثبات الصفات [وقال القاضي أبو يعلى في كتاب إبطال التأويل لا يجوز رد هذه الأخبار ولا التشاغل بتأويلها والواجب حملها على ظاهرها وأنها صفات الله لا تشبه صفات سائر الموصوفين بها من الخلق; ولا يعتقد التشبيه فيها; لكن على ما روي عن الإمام أحمد وسائر الأئمة. وذكر بعض كلام الزهري ومكحول ومالك والثوري والأوزاعي والليث وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وسفيان بن عيينة والفضيل بن عياض ووكيع وعبد الرحمن بن مهدي والأسود بن سالم وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد ومحمد بن جرير الطبري وغيرهم في هذا الباب. وفي حكاية ألفاظهم طول. إلى أن قال: ويدل على إبطال التأويل: أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها على ظاهرها; ولم يتعرضوا لتأويلها ولا صرفوها عن ظاهرها; فلو كان التأويل سائغاً لكانوا أسبق إليه; لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة.]. ننبه هنا إلى أن المتقدمين قبل هذا العصر كانوا يتوسعون في نقل اسم الكتاب، ومن أمثلة ذلك: أن شيخ الإسلام حينما يذكر كتابه درء تعارض العقل والنقل يسميه في كتبه بأسماء متقاربة، فتارةً يقول: وقد ذكرنا في درء تعارض العقل والنقل، وتارة يقول: وقد ذكرنا فيما صنفناه في موافق المنقول للمعقول أو نحو هذه العبارات. وهنا يقول: إبطال التأويل، وقد طبع هذا الكتاب باسم إبطال التأويلات وهو للقاضي أبي يعلى الحنبلي، من أئمة الحنابلة الكبار، وهو على مذهب أهل السنة والجماعة، المائلين عن علم الكلام وأهله، لكنه رحمه الله وافق كثيراً من المقالات التي عليها أصحاب أبي الحسن الكبار في مسائل الصفات الفعلية، وإن كان رجع عن كثير من ذلك، وإن لم يستتم الرجوع، لكن لا شك أن حاله المتأخرة والأخيرة ليست كحاله الأولى، ففي حاله الأولى كان موافقاً موافقةً ظاهرة للكلابية وفضلاء الأشعرية، لكنه فيما بعد رجع عن كثير من ذلك. فهو في الجملة إمام محقق، وقد صنف كتابه إبطال التأويلات رداً على كتاب تأويل الأخبار لـ أبي بكر بن فورك الأشعري، وقد تقدم ذكر هذا الكتاب في قول المصنف: وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي يذكرها أبو بكر بن فورك. وفي زمن القاضي أبي يعلى حصل نزاع مشهور في زمن الدولة السلجوقية بين الأشعرية والحنبلية، وكان ذلك في زمن أيضاً يقارب زمن أبي القاسم القشيري، حيث صنف القشيري رسالة الشكاية، فحصل بين الأشاعرة والحنابلة بعض الاختلاف الشديد، وكان السلطان إذ ذاك مائلاً إلى الحنابلة في الجملة. وهذا الخلاف مشهور عند أهل التاريخ والأخبار، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله طرفاً منه. ولـ أبي يعلى كذلك تصنيف فاضل في الإيمان، وهو باسم كتاب الإيمان، وهو مطبوع أيضاً.

قول أبي الحسن الأشعري في صفات الله عز وجل

قول أبي الحسن الأشعري في صفات الله عز وجل

قول أبي الحسن الأشعري في كتابه اختلاف المصلين

قول أبي الحسن الأشعري في كتابه اختلاف المصلين [وقال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم، صاحب الطريقة المنسوبة إليه في الكلام في كتابه الذي صنفه اختلاف المصلين ومقالات الإسلاميين. وذكر فرق الروافض والخوارج والمرجئة والمعتزلة وغيرهم. ثم قال: مقالة أهل السنة وأصحاب الحديث، جملة قول أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاء عن الله تعالى; وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يردون شيئا من ذلك وأن الله واحد أحد فرد صمد لا إله غيره لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأن محمدا عبده ورسوله وأن الجنة حق وأن النار حق وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور وأن الله على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وأن له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وأن له عينين بلا كيف كما قال {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وأن أسماء الله تعالى لا يقال: إنها غير الله كما قالت المعتزلة والخوارج. وأقروا أن لله علماً كما قال: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء:166] وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ} [فاطر:11] وأثبتوا له السمع والبصر ولم ينفوا ذلك عن الله كما نفته المعتزلة وأثبتوا لله القوة كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت:15] وذكر مذهبهم في القدر، إلى أن قال: ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق والكلام في اللفظ والوقف من قال باللفظ وبالوقف فهو مبتدع عندهم لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق ويقرون أن الله يرى بالأبصار يوم القيامة كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون; لأنهم عن الله محجوبون قال عز وجل: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] وذكر قولهم في الإسلام والإيمان والحوض والشفاعة وأشياء. إلى أن قال: ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ولا يقولون مخلوق ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار. إلى أن قال: وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم ويسلمون الروايات الصحيحة كما جاءت به الآثار الصحيحة التي جاءت بها الثقات عدل عن عدل حتى ينتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم; لا يقولون: كيف ولا لم؛ لأن ذلك بدعة عندهم. إلى أن قال: ويقرون أن الله يجيء يوم القيامة كما قال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] وأن الله يقرب من خلقه كيف شاء; كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] إلى أن قال: ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار والنظر في الآثار; والنظر في الفقه مع الاستكانة والتواضع; وحسن الخلق مع بذل المعروف; وكف الأذى وترك الغيبة والنميمة والشكاية وتفقد المآكل والمشارب. قال: فهذه جملة ما يأمرون به ويستسلمون إليه ويرونه وبكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب; وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان. وقال الأشعري أيضاً في اختلاف أهل القبلة في العرش فقال: قال أهل السنة وأصحاب الحديث: إن الله ليس بجسم; ولا يشبه الأشياء وإنه استوى على العرش; كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ولا نتقدم بين يدي الله في القول; بل نقول استوى بلا كيف وإن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وأن له يدين كما قال {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وأن له عينين كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] وأنه ينزل إلى سماء الدنيا كما جاء في الحديث ولم يقولوا شيئا إلا ما وجدوه في الكتاب أو جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت المعتزلة: إن الله استوى على العرش بمعنى استولى وذكر مقالات أخرى.]. هذه الجملة يحصل بها المصنف مقاصد كثيرة، وخاصة مع من يرد عليهم من الأشاعرة، منها: أن الأشعري امتدح مقالة أهل السنة امتداحاً محضاً؛ فإذا كان كذلك فكل ما ثبت أنه للسلف ولأهل السنة المتقدمين فإنه يجب أن يصار إليه حتى من قبل الأشاعرة من أصحابه؛ لأن إمامهم صرح بالتزام مذهب السلف، وإذا كان هو خفي عليه بعض المقاصد والألفاظ والأحرف والمسائل في مذهب السلف؛ فإن من بان له ذلك بعده لا يجوز له أن يخالف، حتى على طريقة ومذهب أبي الحسن الأشعري. وفي كلام أبي الحسن بعض المسائل التي صرح الأشعرية المتأخرون بخلافها، فهم مخالفون للسلف ومخالفون من وجه آخر لـ أبي الحسن نفسه، وبخاصة في مسألة الصفات الخبرية: فقد قرر الأشعري في كتبه ثبوت الصفات الخبرية في الجملة لكن لما جاء أبو المعالي الجويني -وإن كان البغدادي يشير إلى شيء من هذا- نفى كثيراً من ذلك، ومن بعده أصبح الأشاعرة من نفاة الصفات الخبرية.

قول أبي الحسن الأشعري في كتابه الإبانة

قول أبي الحسن الأشعري في كتابه الإبانة [وقال أيضاً أبو الحسن الأشعري في كتابه الذي سماه الإبانة في أصول الديانة، وقد ذكر أصحابه أنه آخر كتاب صنفه، وعليه يعتمدون عليه في الذب عنه عندما يطعن عليه -فقال:- فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة فإن قال قائل قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة; فعرفونا قولكم الذي به تقولون وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكلام ربنا وسنة نبينا وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن حنبل - نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون ولما خالف قوله مخالفون; لأنه الإمام الفاضل; والرئيس الكامل; الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال; وأوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين; فرحمة الله عليه من إمام مقدم وجليل معظم وكبير مفهم. وجملة قولنا أنا نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله وبما جاءوا به من عند الله وبما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نرد من ذلك شيئا; وأن الله واحد لا إله إلا هو فرد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا; وأن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وأن الجنة حق والنار حق وأن الساعة آتية وأن الله يبعث من في القبور. وأن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وأن له وجها كما قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وأن له يدين بلا كيف كما قال: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وكما قال: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] وأن له عينين بلا كيف كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14]- وأن من زعم أن أسماء الله غيره كان ضالا وذكر نحوا مما ذكر في الفرق. إلى أن قال: ونقول: إن الإسلام أوسع من الإيمان وليس كل إسلام إيمانا وندين بأن الله يقلب القلوب بين إصبعين من أصابع الله عز وجل وأنه عز وجل يضع السموات على أصبع والأرضين على أصبع كما جاءت الرواية الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إلى أن قال: وإن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ونسلم الروايات الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى أن قال: ونصدق بجميع الروايات التي أثبتها أهل النقل من النزول إلى سماء الدنيا وأن الرب عز وجل يقول: (هل من سائل؟ هل من مستغفر؟) وسائر ما نقلوه وأثبتوه خلافا لما قال أهل الزيغ والتضليل: ونعول فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين وما كان في معناه ولا نبتدع في دين الله ما لم يأذن لنا به ولا نقول على الله ما لا نعلم. ونقول إن الله يجيء يوم القيامة كما قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] وإن الله يقرب من عباده كيف شاء كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] وكما قال: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:8 - 9]. إلى أن قال: وسنحتج لما ذكرناه من قولنا وما بقي مما لم نذكره بابا بابا. ثم تكلم على أن الله يرى واستدل على ذلك; ثم تكلم على أن القرآن غير مخلوق واستدل على ذلك ثم تكلم على من وقف في القرآن وقال لا أقول: إنه مخلوق ولا غير مخلوق ورد عليه. ثم قال: باب ذكر الاستواء على العرش فقال إن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل له: نقول إن الله مستو على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] وقال تعالى {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء:158] وقال تعالى: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} [السجدة:5] وقال تعالى حكاية عن فرعون: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} [غافر:26 - 37] كذب موسى في قوله إن الله فوق السموات، وقال تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ} [الملك:16] فالسموات فوقها العرش فلما كان العرش فوق السموات قال {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] لأنه مستو على العرش الذي هو فوق السموات وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] يعني: جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح:16] ولم يرد أن القمر يملؤهن وأنه فيهن جميعا ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء: لأن الله على عرشه الذي هو فوق السموات فلولا أن الله على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض. ثم قال: فصل وقد قال القائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] أنه استولى وقهر وملك وأن الله عز وجل في كل مكان وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما قال أهل الحق وذهبوا في الاستواء إلى القدرة فلو كان كما ذكروه كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة; لأن الله قادر على كل شيء والأرض فالله قادر عليها وعلى الحشوش وعلى كل ما في العالم فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء -وهو عز وجل مستول على الأشياء كلها- لكان مستويا على العرش وعلى الأرض وعلى السماء وعلى الحشوش والأقذار; لأنه قادر على الأشياء مستول عليها وإذا كان قادرا على الأشياء كلها ولم يجز عند أحد من المسلمين أن يقول: إن الله مستو على الحشوش والأخلية لم يجز أن يكون الاستواء على العرش الاستيلاء الذي هو عام في الأشياء كلها ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص العرش دون الأشياء كلها. وذكر دلالات من القرآن والحديث والإجماع والعقل. ثم قال: باب الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين وذكر الآيات في ذلك. ورد على المتأولين لها بكلام طويل لا يتسع هذا الموضع لحكايته: مثل قوله فإن سئلنا أتقولون لله يدان؟ قيل: نقول ذلك وقد دل عليه قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله مسح ظهر آدم بيده فاستخرج منه ذريته وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده) وقد جاء في الخبر المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله خلق آدم بيده وخلق جنة عدن بيده وكتب التوراة بيده وغرس شجرة طوبى بيده) وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن يقول القائل عملت كذا بيدي ويريد بها النعمة وإذا كان الله إنما خاطب العرب بلغتها وما يجري مفهوما في كلامها ومعقولا في خطابها وكان لا يجوز في خطاب أهل البيان أن يقول القائل: فعلت كذا بيدي ويعني بها النعمة: بطل أن يكون معنى قوله تعالى: {بِيَدَيَّ} [ص:75] النعمة. وذكر كلاما طويلا في تقرير هذا ونحوه]. كتاب الإبانة مشهور لـ أبي الحسن الأشعري، والجمهور من الأشاعرة وغيرهم على أنه كتاب صحيح معتبر للأشعري. وإن كان بعض الناظرين في التصانيف قد تردد في صحة نسبته للأشعري، إلا أن هذا القول ليس بشيء، وإنما أذكره ليعرف غلطه. وهو أفضل كتب الأشعري على الإطلاق، حتى قال شيخ الإسلام رحمه الله: ومن قال منهم -أي: الأشاعرة- بكتاب الإبانة الذي صنفه الأشعري في آخر عمره ولم يظهر مقالةً تناقض ذلك فهذا يعد من أهل السنة، لكن مجرد الانتساب للأشعري بدعة. إذاً: كتب الأشعري على صنفين: الأول: كتب مقاربة لطريقة أهل السنة وتصنيفهم، وإن كان فيها بعض التقصير في التفاصيل ككتاب الإبانة. الثاني: كتب الميل فيها عن مسلك السلف وطريقتهم ظاهر، كما يقع له رحمه الله في اللمع والموجز، فقد غلط فيهما غلطاً ظاهراً، وقد استخدم فيهما طريقة كلامية محضة. ومن المتحقق أن الأشعري لم يكن خبيراً بطريقة السلف؛ لأنه في كتابه مقالات الإسلاميين فصل مقالات الشيعة والخوارج والمعتزلة بتفاصيل مطولة، حتى إنه فصل قول أبي هاشم الجبائي، وقول النظام بتفاصيل مستفيضة، لكنه لما جاء لأهل السنة والجماعة أجمل قولهم إجمالاً، وهذا دليل قاطع على أن الأشعري وإن أعلن انتسابه لأهل السنة والجماعة إلا أنه لم يكن خبيراً بتفاصيل مذهبهم. أما كتابه الرسالة إلى أهل الثغر، فهو كما قيل في الإبانة، وإن كان البعض قد تردد في نسبته إلى أبي الحسن الأشعري، وهو عبارة عن ذكر جمل وإجماعات أهل السنة، وإن كان أحياناً يذكر فيه بعض الإجماعات الغلط، لكنه في الجملة كتاب فاضل. إذاً: كتاب الإبانة والرسالة إلى أهل الثغر هما أجود كتب الأشعري، أما اللمع والموجز ففيهما أغلاط بينة. وهذا التفصيل ينتهي منه البعض -أحياناً- إلى القول الذي قد يشاع تارةً: من

شرح الحموية [16]

شرح الحموية [16] ممن نقل عنهم الإثبات لصفات الله تعالى: أبو بكر بن الطيب الباقلاني -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين للأشعري- فقد ذكر في كتبه كلاماً أثبت فيه لله تعالى الصفات المذكورة في الكتاب والسنة، كاليد والوجه والعلو والاستواء، ونحوها، وممن نقل عنه ذلك: أبو المعالي الجويني -وهو من أصحاب الأشعري- فقد ذكر أن ما يدين الله به هو اتباع سلف الأمة والدليل السمعي القاطع، وإجماع الأمة، ثم ذكر بطلان التأويل وأنه ليس منهجاً للسلف ولا للأئمة.

قول القاضي الباقلاني في إثبات الصفات

قول القاضي الباقلاني في إثبات الصفات قال المصنف رحمه الله: [وقال القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتكلم -وهو أفضل المتكلمين المنتسبين إلى الأشعري، ليس فيهم مثله لا قبله ولا بعده- قال في كتاب الإبانة تصنيفه: فإن قال قائل: فما الدليل على أن لله وجهاً ويداً؟ قيل له قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وقوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] فأثبت لنفسه وجهاً ويداً. فإن قال: فلم أنكرتم أن يكون وجهه ويده جارحة إن كنتم لا تعقلون وجهاً ويداً إلا جارحة؟ قلنا لا يجب هذا كما لا يجب إذا لم نعقل حياً عالماً قادراً إلا جسماً أن نقضي نحن وأنتم بذلك على الله سبحانه وتعالى وكما لا يجب في كل شيء كان قائما بذاته أن يكون جوهرا; لأنا وإياكم لم نجد قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك وكذلك الجواب لهم إن قالوا: يجب أن يكون علمه وحياته وكلامه وسمعه وبصره وسائر صفات ذاته عرضا واعتلوا بالوجود. وقال: فإن قال فهل تقولون إنه في كل مكان؟. قيل له: معاذ الله بل مستو على عرشه كما أخبر في كتابه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] وقال الله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] وقال: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك:16] قال: ولو كان في كل مكان لكان في بطن الإنسان وفمه والحشوش والمواضع التي يرغب عن ذكرها; ولوجب أن يزيد بزيادة الأمكنة إذا خلق منها ما لم يكن وينقص بنقصانها إذا بطل منها ما كان; ولصح أن يرغب إليه إلى نحو الأرض وإلى خلفنا وإلى يميننا وإلى شمالنا وهذا قد أجمع المسلمون على خلافه وتخطئة قائله. وقال أيضا في هذا الكتاب: صفات ذاته التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها: هي الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والإرادة والبقاء والوجه والعينان واليدان والغضب والرضا. وقال في كتاب التمهيد كلاماً أكثر من هذا - لكن ليست النسخة حاضرة عندي - وكلامه وكلام غيره من المتكلمين في مثل هذا الباب كثير لمن يطلبه وإن كنا مستغنين بالكتاب والسنة وآثار السلف عن كل كلام. وملاك الأمر أن يهب الله للعبد حكمة وإيمانا بحيث يكون له عقل ودين حتى يفهم ويدين ثم نور الكتاب والسنة يغنيه عن كل شيء; ولكن كثيرا من الناس قد صار منتسبا إلى بعض طوائف المتكلمين ومحسنا للظن بهم دون غيرهم ومتوهما أنهم حققوا في هذا الباب ما لم يحققه غيرهم; فلو أتى بكل آية ما تبعها حتى يؤتى بشيء من كلامهم. ثم هم مع هذا مخالفون لأسلافهم غير متبعين لهم; فلو أنهم أخذوا بالهدى: الذي يجدونه في كلام أسلافهم لرجي لهم مع الصدق في طلب الحق أن يزدادوا هدى ومن كان لا يقبل الحق إلا من طائفة معينة; ثم لا يتمسك بما جاءت به من الحق: ففيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91] فإن اليهود قالوا لا نؤمن إلا بما أنزل علينا. قال الله تعالى لهم {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:91] أي إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم يقول سبحانه وتعالى لا لما جاءتكم به أنبياؤكم تتبعون ولا لما جاءتكم به سائر الأنبياء تتبعون ولكن إنما تتبعون أهواءكم فهذا حال من لم يقبل الحق لا من طائفته ولا من غيرها مع كونه يتعصب لطائفته بلا برهان من الله ولا بيان.]. القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني، له تصانيف، منها كتاب الإبانة والرسالة الحرة المعروفة بالإنصاف، ومنها -وهو من أشهر كتبه- التمهيد، وهو أخص من نظم المذهب الأشعري على طريقة كلامية تامة، لكنه من فضلاء الأشعرية، وإذا قيل من فضلاء الأشعرية فباعتبار متأخريهم، فإن الباقلاني كان يثبت الصفات الخبرية في الجملة فضلاً عن كثير من الموافقة لأهل السنة في مسائل أخرى. ولهذا اعتبر أفضل أصحاب أبي الحسن الأشعري، حيث إن أبا الحسن الأشعري يعتبر هو أفضل أصحاب المذهب باعتبار أصحابه، ثم تأتي درجة الباقلاني ومن شاكله، فهؤلاء هم الطبقة الثانية، وهم أقرب إلى الأشعري، وإن كان الأشعري أقرب منهم إلى السنة والجماعة، ثم تأتي درجة أبي بكر بن فورك وأمثاله، فهؤلاء دون الباقلاني لكنهم أفضل من أبي المعالي وأمثاله، ثم تأتي طبقة أبي المعالي والبغدادي وأبي حامد الغزالي في الجملة، وإن كان للغزالي اختصاص بما له من التصوف، فهذه أيضاً طبقة، ثم تأتي الطبقة المتأخرة وهي طبقة أبي عبد الله الرازي وأبي الحسن الآمدي، فهؤلاء طبقة أيضاً. وهذا الباب لا يمكن أن يكون مطرداً في الأعيان، بل تارةً يكون كذلك وتارة لا يكون، ولهذا نجد أن الآمدي في بعض المسائل أفضل من أبي المعالي، وأبو المعالي في بعض المسائل أفضل من الآمدي والرازي، والآمدي في الجملة أفضل من الرازي، فإن الرازي من أشد من ضل في هذا المذهب.

قول الجويني في الصفات

قول الجويني في الصفات [وكذلك قال أبو المعالي الجويني في كتابه الرسالة النظامية].

تأثر الجويني بالمعتزلة وميله بالمذهب الأشعري بسبب ذلك

تأثر الجويني بالمعتزلة وميله بالمذهب الأشعري بسبب ذلك أبو المعالي الجويني متكلم أشعري من فقهاء الشافعية، وهو ممن مال بالمذهب الأشعري عن طريقة متقدميهم إلى الطريقة الثانية المتأثرة كثيراً بمذهب المعتزلة؛ ولهذا يقول شيخ الإسلام: إن أبا المعالي الجويني شرب كتب الجبائي -يعني: أبا هاشم الجبائي - فأثرت فيه. ولهذا مال بالمذهب ميلاً واضحاً، سواء من جهة ما يثبت من الصفات، حيث قصر الصفات المثبتة على السبع، أو من جهة طريقة الاستدلال، أو من جهة الجزم ببعض المسائل حتى في مسائل القدر والتعليل ومسائل أخرى، فإنه استطال بهذا المذهب وتأثر بمذهب المعتزلة. وإذا قلنا: تأثر بمذهب المعتزلة؛ فإن تأثره على طريقتين -وهذا معنىً ينبغي ملاحظته-: الأولى: تأثر فوافق المعتزلة في بعض المسائل، كموافقته لهم في عدم ثبوت ما عدا الصفات السبع، وبخاصة نفي الصفات الخبرية. الثانية: وهي تظهر للمتأمل في كتب الجويني كالشامل والإرشاد واللمع، وهي أنه بالغ في الرد على المعتزلة حتى انتقل إلى قول مباين لهم مباينةً شديدة، لكنه ضمن هذه المباينة تباعد عن مذهب أهل السنة، أي: أنه قصد البعد عن المعتزلة فتضمن هذا القصد عنده بعداً أيضاً عن أهل السنة، وهذا هو الذي وقع فيه أبو منصور الماتريدي الحنفي في كتابه التوحيد، فقد كان أخص مقصوده العناية بالرد على المعتزلة وبخاصة الرد على أبي القاسم البلخي الكعبي من المعتزلة، لكنه بالغ في الرد كما وقع للجويني. وحينما نقول: بالغ في الرد؛ لا يعني أنه ظلم المعتزلة، لكنه تكلف في طريقة الرد حتى التزم مقالات تخالف حتى ما عرف في مذهب أهل السنة، بل تخالف ما عرف في مذهب الأشعري نفسه؛ ولهذا يمكن أن يقال: إن طريقة الجويني تقارب طريقة الماتريدي. ومن هنا يتبين أن الماتريدية ليسوا كالأشاعرة، فإن الأشاعرة خير من الماتريدية وبخاصة الأشاعرة الأوائل الذين يسميهم شيخ الإسلام فضلاء الأشاعرة، ويقصد بهم: الأشعري وأئمة أصحابه. إذاً: الماتريدي يقارب طريقة المتأخرين من الأشاعرة، مع أنه معاصر لـ أبي الحسن الأشعري، لكنه أقرب ما يكون إلى طريقة الجويني وأمثاله من متأخرة الأشاعرة، بل الجويني فيما يظهر أقرب من الماتريدي إلى الحق، فإن الماتريدي فيه نزعة فلسفية واضحة، وفيه تقصد في البعد عن مذهب السلف. وحينما أقول: تقصد. فليس المقصود نية، لكنه يطعن في المعروف من مذهب أهل السنة بنفس الطريقة التي كان عليها أئمة المعتزلة الكبار، كقوله: هذا مذهب النوابت والمشبهة والمجسمة .. إلخ، وفضلاء الأشاعرة كـ أبي الحسن والقاضي أبي بكر بن الطيب لا يقاربون الماتريدي فضلاً عن بعض غلاة الماتريدية، وإن كان في الماتريدية من هو خير من أبي منصور الماتريدي، وأقرب إلى السنة والجماعة. أما الأشاعرة فإذا كانت المقارنة بين الأشعرية المتكلمين الذين عرفوا بالعلم الكلامي واختصوا به فليس فيهم من هو خير من أبي الحسن الأشعري وأقرب منه إلى السنة والجماعة، أما إذا كانت بين الأشعرية الذين أضيفوا إلى الأشعرية وهم فقهاء أو لهم اشتغال بالحديث فهذا مقام آخر. [اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن]. وهذه طريقة المتكلمين، وهي طريقة الجويني الأولى. [وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها، وتفويض معانيها إلى الرب]. تقدم أنه لا يصح حمل ما وقع من أبي الحسن الأشعري في كتابه الإبانة من المجملات على أنه تصريح بالرجوع عن مفصلات الغلط، وهذه هي طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ فهو يقول: إن الأشعري يقول في الإيمان: إنه التصديق. ثم قال في بعض المواضع: وإن كان تارةً هو وبعض فضلاء أصحابه يقولون: إنه قول وعمل وقد نص على هذا الأشعري في مقالات الإسلاميين لما ذكر قول أهل السنة فقال: ويرون أن الإيمان قول وعمل، ثم قال: وبكل ما قالوا نقول. لكن شيخ الإسلام يقول: إن الأشعري وإن أطلق هذا الحرف عن أهل السنة ضمن مجموع كلامه إلا أنه يتأوله. كذلك لما ذكر الجويني مذهب السلف هنا، قال: ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل -هذا حق- وإجراء الظواهر على مواردها -وهذا أيضاً حق- وتفويض معانيها إلى الرب. فقوله: وتفويض معانيها إلى الرب مناقض للحرف الذي قبله، وهو قول الجويني أن طريقة السلف هي: إجراء الظواهر على مواردها، فكيف يقول: ويفوضون؛ والإجراء على الظاهر يستلزم الإيمان بأصل المعنى. كذلك ما الموجب لعدم فهم المعنى حينما يقال: السلف يفوضون المعاني إلى الرب؟ هل الخطاب ليس عربياً؟ هل الخطاب من حيث هو ليس مفهوماً؟ الجواب: لا، الخطاب مفهوم، إذاً لماذا فوضوا؟ إنما قال الجويني وأمثاله من المتكلمين أن السلف فوضوا؛ لأنه هو وأمثاله يعتقدون انتفاء الصفات في نفس الأمر، أي: أنه لا يمكن أن تثبت، فبقي: هل السلف يحددون التأويل أو لا يحددونه .. هذا محل النزاع، وهذا وهم. إذاً: يظهر من هذا أن الجويني يتناقض. وبهذا لا يمكن القول: إن الجويني بقوله هذا: وإجراء الظواهر على مواردها رجع إلى مذهب أهل السنة، إلا إن قصد الرجوع الانتمائي، وهذا لا يهوّن شأنه، فإنه من مقاصد العمل الكبرى، وهو قصد اتباع مذهب السلف، فلا شك أن هناك فرقاً كبيراً بين من ضل عن مذهب السلف وهو يقصد اتباعه، وبين من ضل عنه وهو يدري أنه ضل. لكن من حيث الحقائق العلمية: الانتساب ليس هو إصابة المذهب، فلابد عند النظر في مقالات المتأخرين من التفريق بين الجهتين؛ ومن الأمثلة على هذا ما تقدم، وهو أن الأشعري من حين ترك الاعتزال إلى آخر أمره لم يتقلد إلا مذهب أهل السنة، ولم يتقلد مذهب ابن كلاب ألبتة، وليس هناك نقل واحد للأشعري في أي كتاب له يصرح فيه أنه يقول بقول عبد الله بن سعيد بن كلاب. أما كونه متأثراً به فهذا صحيح، ولهذا نجد أن البغدادي يقول: وقال شيخنا عبد الله بن سعيد بن كلاب. ثم يقول: وقال شيخنا أبو الحسن الأشعري. فالأشعرية فضلاً عن الأشعري يعلمون أنهم متأثرون بـ ابن كلاب، لكن أن الأشعري التزم طريقته كانتماء مذهبي .. فلا، أما كحقيقة علمية في مسائل الصفات فقد وافق الأشعري ابن كلاب؛ والدليل على هذا: أن الأشعري في مقالات الإسلاميين فرق بين مقالة ابن كلاب ومقالة أهل السنة والحديث، فقال: ذكر جملة قول أهل السنة والحديث، وقال: ذكر قول عبد الله بن سعيد بن قطان يعني: ابن كلاب، وذكر في موضع آخر جملة قول أصحاب عبد الله بن سعيد بن كلاب؛ فهو يفرق بين المقالتين وإن كان يتوهم -أعني: الأشعري - أن ابن كلاب يوافق أهل السنة في الجملة إلا في مسائل يسيرة.

رأي الجويني في اتباع السلف وطريقة الخلف

رأي الجويني في اتباع السلف وطريقة الخلف [فقال: والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقيدة: اتباع سلف الأمة والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع الأمة وهو حجة متبعة وهو مستند معظم الشريعة. وقد درج صحب رسول الله على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها، وهم صفوة الإسلام والمستقلون بأعباء الشريعة وكانوا لا يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها - فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما: لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل: كان ذلك هو الوجه المتبع فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى; فليجر آية الاستواء والمجيء. وقوله {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:27] وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه]. هذا ثناء عام على مذهب الصحابة، لكن غلط الجويني ليس من هذا الوجه؛ فإن ثناءه على مذهب الصحابة والسلف حق على ظاهره، لكن خطأه من قوله: إن السلف والصحابة -وهم أئمة السلف- درجوا على ترك التعرض لمعانيها، أي: أنهم كانوا مفوضة، فهذا القول غلط، فإنه لم يكن عليه أحد لا من الصحابة ولا من أئمة السلف. ومن هنا يتبين أن أشد أسباب الوهم عند جمهور متكلمة الصفاتية، وطوائف من فقهاء المذاهب الأربعة -حتى من الحنابلة- وبعض الصوفية، وبعض المشتغلين بشروح الأحاديث من الحفاظ المتأخرين: أنهم ظنوا أن باب الصفات لا يصح فيه إلا القول بالتأويل، وفي الجملة يعلمون أن ذلك لا يصار إليه باطراد لاختصاص المعتزلة بالاطراد فيه، فربما تأول متكلمة الصفاتية بعض المسائل دون بعض، أو القول فيما لا يمكن إثباته على التفصيل؛ ويجعلونه مذهب السلف، مع أن مذهب السلف ليس هذا ولا هذا. ففي الرسالة النظامية رجع الجويني عن كثير من جزمه الأول وطريقة التأويل التي تقلدها، لكنه وإن انتسب لأهل السنة إلا أنه لم يحقق مذهبهم في الصفات، ولهذا نقول: إن الجويني رجع إلى التفويض. أما في القدر فقد ذم الجويني في رسالته النظامية مذهب أصحابه الأشاعرة، والذي كان يقرره في كتبه الأولى، وهو أن للعبد قدرة مسلوبة التأثير، وترك ما كان يعتقده قبل في الشامل والإرشاد، وطعن على المذهب طعناً شديداً. ثم قصد إلى مذهب يظنه مذهب أهل السنة، فقال بمسائل مفصلة في القدر. وهذا الرجوع من الجويني ظاهر وجيد، لكن هل أصاب الجويني في مسألة أفعال العباد ومشيئتهم، وما يتعلق بمشيئة الله لأفعال العباد .. إلخ قول أهل السنة المحض أم لا؟ نقول: أما في مسألة القدر -وبخاصة في مسألة أفعال العباد في الرسالة النظامية - فقد أصاب كثيراً من قول السلف الذي يخالف الأشاعرة، لكنه بقي عليه أثر من مذهبه في تفاصيل بعض المسائل التي تبنى على مسألة أفعال العباد، ودخل عليه أثر من كلام المعتزلة في هذه المسألة، وأثر من كلام المتفلسفة؛ ولهذا يمكن أن نقول: إن مادة الجويني في مسألة أفعال العباد في الرسالة النظامية متأثرة بمادة سنية، ومادة اعتزالية، ومادة أصحابه الأشعرية، ومادة فلسفية. أما المادة الفلسفية فليست غرواً، فقد صرح بها حتى بعض الأشاعرة، فقالوا: إنه مال إلى طريقة الحكماء في آخر أمره. يعنون: طريقة المتفلسفة، وحينما نقول: إن فيه مادة فلسفية؛ لا نقوله تبعاً للشهرستاني وأمثاله الذين وصفوه بهذا الوصف؛ فقد بالغ الشهرستاني في وصف مذهب الجويني الأخير بأنه موافق للحكماء، مع أنه لم يكن بنفس الدرجة التي وصفه بها. وكذلك يقال فيما ذكره الرازي عندما أضاف الجويني إلى طريقة الحكماء، وهذا إنما يتحصل بالنظر في كلام الجويني ومعرفة ما يقرره الفلاسفة في هذا الباب: باب الأسباب والتسلسل في التأثيرات، ونزول الأعلى إلى الأسفل .. وهلم جرا، أصابه أثر من هذا واضح، وإن كان ظاهر جمله الأساسية في تقريره للقدر في الرسالة النظامية سنياً، لكن من حيث الحقائق العلمية: فإن بعض الحقيقة سنية، وبعضها اعتزالية، وبعضها أثر من المتفلسفة، وبعضها بقية بقيت من مذهبه الأول.

تعليق للمصنف على ما تقدم نقله من نقولات

تعليق للمصنف على ما تقدم نقله من نقولات [قلت: وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب: ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب، وليس كل من ذكرنا شيئاً من قوله من المتكلمين وغيرهم يقول بجميع ما نقوله في هذا الباب وغيره، ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به، فكان معاذ بن جبل يقول في كلامه المشهور عنه الذي رواه أبو داود في سننه: اقبلوا الحق من كل من جاء به وإن كان كافراً -أو قال: فاجراً- واحذروا زيغة الحكيم. قالوا: وكيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نوراً. أو قال كلاماً هذا معناه.]. هذا البيان -بيان المصنف- هو تعليق مجمل على نقولاته، مبيناً فيه أنه ليس كل من نقل عنه من المتكلمين وغيرهم -كالصوفية وبعض الفقهاء- يعتبر موافقاً له في سائر ما قاله، أو أن هؤلاء الذين نقل عنهم يوافقون أئمة السلف في سائر الموارد، وإنما من باب أن الحق يؤخذ من كل من جاء به. والحقيقة: أن المصنف هنا لم يكن غرضه أن بعض كلام هؤلاء فيه من معاني الحق أو تقريره ما لم يقع ذكره في كلام السلف، إنما قصد إلى هذه النقولات عن بعض أعيان المتكلمين من جهة إقامة الحجة على أتباعهم أو من يوافقهم من أصحابهم الذين غلطوا عليهم وعلى السلف سواءً بسواء؛ والغالب أنه يقصد به المتأخرون من الأشاعرة، ولهذا نقل عن الأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب. وقد تقدم أنه لا يمكن أن تختص طائفة من الطوائف بشيء من الحق لا يقع ذكره في كلام السلف، وقول المصنف: ولو إن كان الحق يقبل من كل من جاء به .. هذا لا إشكال فيه، لكن يفهم على وجهه وهو: أنه لا يمكن لطائفة من الطوائف المخالفة للسلف أن تختص بشيء من الحق في باب الدلائل أو باب المسائل. وإذا قيل: اختصاص؛ أي أنهم يختصون بتحقيقه والعلم به وتقريره؛ ولهذا يقول المصنف رحمه الله مبيناً حقيقة العقلية الصحيحة التي تقع في كلام المتكلمين في بعض الموارد: والفاضل من أدلتهم التي يذكرونها ترى أن الكتاب والسنة جاء به على أتم وجه. فيكون أصله مأخوذاً من أدلة الكتاب وأدلة السنة، أو يقع في كلام السلف رحمهم الله ما هو من جنسه. إذاً: هم لا يختصون بشيء من الدلائل أو المسائل. [فأما تقرير ذلك بالدليل، وإماطة من يعرض من الشبه، وتحقيق الأمر على وجه يخلص إلى القلب ما يبرده من اليقين، ويقف على مواقف آراء العباد في هذه المهامه فما تتسع له هذه الفتوى، وقد كتبت شيئاً من ذلك قبل هذا، وخاطبت ببعض ذلك بعض من يجالسنا، وربما أكتب إن شاء الله في ذلك ما يحصل به المقصود. وجماع الأمر في ذلك: أن الكتاب والسنة يحصل منها كمال الهدى والنور لمن تدبر كتاب الله وسنة نبيه، وقصد اتباع الحق، وأعرض عن تحريف الكلم عن مواضعه، والإلحاد في أسماء الله وآياته]. ولهذا كان العذر في هذا الباب إنما يختص بمن حقق قصد الاتباع والاجتهاد، فهذا إذا أخطأ كان خطأه مغفوراً له، لكن لا بد من اجتماع هذه الشروط، وهو: أن يكون قاصداً الحق مجتهداً في طلبه. وهي القاعدة التي سبق ذكرها في كلام المصنف: أن كل من أراد الحق واجتهد في طلبه من جهة الرسول فأخطأه فإن خطأه مغفور له.

شرح الحموية [17]

شرح الحموية [17] دلائل الكتاب والسنة في إثبات الصفات دلائل محكمة، ليس بينها تناقض ولا اضطراب، وهي كذلك لا تناقض الدلائل العقلية، فإن النصوص التي تثبت أن الله تعالى فوق عرشه لا تناقض بينها وبين النصوص التي تثبت أن الله تعالى معنا .. ونحو ذلك من الآيات والأحاديث التي تثبت الصفات لله تعالى.

كمال الهدى والعلم في الكتاب والسنة

كمال الهدى والعلم في الكتاب والسنة قال المصنف رحمه الله: [ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك يناقض بعضه بعضاً البتة].

دعوى التناقض بين دلائل الكتاب والسنة وبين دلائل العقل دعوى كاذبة

دعوى التناقض بين دلائل الكتاب والسنة وبين دلائل العقل دعوى كاذبة يقرر المصنف هنا أن في الكتاب والسنة كمال العلم والهدى، في هذا الباب وغيره، في دلائله ومسائله، فقوله: ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من ذلك أي: من دلائل الكتاب والسنة، يناقض بعضه بعضاً ألبتة أي: يخالف شيئاً آخر من الدلائل نفسها، بل ولا يحسب الحاسب أن شيئاً من دلائل الكتاب والسنة يخالف دلائل العقل؛ إلا إذا قصد بالدلائل العقلية الدلائل الفاسدة التي سماها أصحابها عقليات، فهذا لا يتناهى، فإن الخطأ في العقل مشهور في بني آدم. أما إذا قصد الدلائل العقلية الصحيحة فإنه لا يقع في شيء من هذه الدلائل معارضة لدلائل الكتاب والسنة؛ لأنه من المتحقق أن دلائل الكتاب والسنة دلائل صحيحة، ومن المعلوم أن الحق لا يعارض الحق، فعلم بهذا: أن القرآن والسنة ليس بينهما شيء من التعارض في أدلتهما، فليس هناك دليل قرآني يعارض دليلاً آخر، ولا دليل من السنة يعارض دليلاً آخر، ولا دليل من القرآن يعارض دليلاً من السنة .. وهلم جرا.

بيان وجه بطلان تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد

بيان وجه بطلان تقسيم الحديث إلى متواتر وآحاد فيما يتعلق بأدلة القرآن فإن المنازعين في الجملة ينتهون فيها إلى التأويل، وأما دلائل السنة فإن من الطرق التي شاعت عند المتكلمين هو عدم قبول الخبر من أصله باعتبار أنه آحاد. وهذه بدعة حدثت في المسلمين بكلام المتكلمين وأمثالهم ومن وافقهم من متأخري الفقهاء وبعض من تكلم في المصطلح فضلاً عن أهل أصول الفقه، بل إن هذا التقسيم بهذا الحد هو تقسيم مبتدع، أما تقسيم الأحاديث النبوية إلى متواتر وآحاد من جهته فليس فيه إشكال. إذاً: الإشكال هو في الحد، فإنه إذا قيل في حد المتواتر: هو ما رواه جماعة عن جماعة يستحيل تواطؤهم على الكذب، وأسندوه إلى شيء محسوس، والآحاد ما دون ذلك .. فهذا حد مبتدع؛ لأنه تكلف في ثبوت سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ليس لهذا الحد مثال في جمهور السنة، بل كما قال بعض متأخري أهل الحديث: أنه لم يقع له حديث يصل إلى هذا الحد، الذي هو حد المتواتر! ثم نقول: ما هي ثمرة هذا التقسيم؟ إن كان يُقصد به ضبط مسائل الإسناد فإننا نرى أن أئمة السنة وأئمة الحديث الأوائل لم يستعملوه، ولكن ترى أنه يذكر لمقصد واحد، وهي مسألة الدلالة، وليس لمسألة ثبوت الحديث، ولهذا اتفق أهل الحديث على ثبوت بعض الأحاديث التي هي آحاد، بل على ثبوت بعض الأحاديث التي هي غريبة، فإنه لم ينقل عن إمام من أئمة السنة أنه طعن في حديث عمر: (إنما الأعمال بالنيات) مع أنه غريب. إذاً هذا الحد ليس له ثمرة من جهة الثبوت، يعني ليس المقصود من وضعه مسألة الثبوت؛ فإن من أكثر الكلام فيه وهم أئمة الكلام أصلاً ليس لهم اختصاص بمعرفة الثابت وغير الثابت من النصوص. حيث إن أئمة المتكلمين ليسوا من أهل العلم بمسائل الإسناد والرواية والرجال والاتصال والانقطاع والتواتر وعدمه، وإنما قرروا هذا الحد في مسألة الدلالة، وعنه رتبوا مسألة الدلالة القطعية والدلالة الظنية، وعنه قالوا: إن ما يتعلق بالاعتقاد لا يقبل فيه إلا المتواتر. وبهذه الطريقة منعوا قبول جمهور ما جاء في السنة النبوية في مسائل الاعتقاد، فهذا حد متكلف مبتدع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث الواحد من أصحابه بأصول الدين إلى قوم من أصناف المشركين، كما بعث دحية بن خليفة الكلبي بكتاب إلى هرقل، فترى أن الذي قابل هرقل الكتاب، والكتاب نقله واحد، وهو الذي حمله دحية بن خليفة الكلبي. إذاً: الحجة كانت تقوم شرعاً في هدي النبي صلى الله عليه وسلم بواحد ثقة؛ مما يدل على أن هذا الحد متكلف ومبتدع، فإنه لو كان لا يقبل في الاعتقاد إلا المتواتر لما كانت الحجة قامت على أهل اليمن ببعث معاذ إليهم .. وهلم جرا في الأقوام الذين بعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من أصحابه. ثم إنه ليس في دلائل الشرع ولا دلائل العقل أن الآحاد لا يقبل في الاعتقاد بحسب الحد الذي حدوه في الآحاد، وهو: أنه كل ما قابل المتواتر، بل على هذا الحد: جمهور السنة لا يقبل في العقيدة، بل على طريقة بعض أهل العلم الذي يقول: إنه لم يصلنا شيء من المتواتر اللفظي بحسب الحد الذي شاع عند المتأخرين. إذاً: كأنه يقال: إن السنة لا تقبل في العقيدة! ولهذا كان الاعتبار في القبول عند الأئمة رحمهم الله: بمسألة الصحة ومسألة تلقي الأمة له بالقبول، ولهذا كان حديث: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) مجمع على ثبوته باتصال سنده وصحته، ومن جهة أخرى بتلقي أئمة السلف له بالقبول وإنكارهم على من تأوله أو طعن فيه. وكما أسلفت أنه ليس في دلائل الشرع ولا دلائل العقل دليل على هذا الحد، وحتى اللغة لا تفيده، فإن المتواتر هو ما شاع وتتابع، والتتابع هنا قد يكون تتابعاً في الرواية أو تتابعاً في القبول والعمل .. إلخ. وأما الاستدلال بمثل ما جاء في الصحيحين في حديث أبي هريرة: (لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي -كما يذكره بعض المتكلمين، وهذا جهل بحقيقة حدهم هم- فانحرف من ركعتين، فقال له ذو اليدين: يا رسول الله! قصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لم أنس ولم تقصر، ثم التفت إلى الناس فقال: ما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: صدق يا رسول الله إلخ) وفي رواية: (قالوا: صدق يا رسول الله! لم تصل إلا ركعتين) فمن يقول: إن خبر الواحد لا يحتج به مستدلاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعمل بخبر ذي اليدين لأنه واحد .. يقال له: هذا ليس صحيحاً؛ لأنه على حدهم حتى مع خبر أبي بكر وعمر يبقى الأمر داخل دائرة الآحاد، لأنه بعد ما روى جماعة عن جماعة .. وإنما هذا يفيد ما قرره كثير من الفقهاء من الحنابلة وغيرهم: أن الإمام إذا كان عنده يقين في نفسه فإنه لا يرجع إلى قول واحد في الصلاة ولو كان ثقةً .. وهذا قول قوي، واستدلالهم بحديث أبي هريرة استدلال مناسب. [مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4]. هذه المسألة أخص المسائل التي استدل بها المتأخرون على أن السلف يستعملون التأويل، فقالوا: لأنهم أثبتوا مسألة العلو والاستواء على العرش مع إثباتهم لمسألة المعية، وقالوا في المعية: إن الله معنا بعلمه في المعية العامة، أو مع أوليائه بنصره وتأييده في المعية الخاصة. قالوا: فهذا من باب التأويل في المعية.

الكلام على لفظ: (حقيقة)

الكلام على لفظ: (حقيقة) [وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه) ونحو ذلك، فإن هذا غلط؛ وذلك أن الله معنا حقيقةً، وهو فوق العرش حقيقةً كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الحديد:4]. لفظة حقيقة هذه لم ترد في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما وقعت في كلام أهل السنة والجماعة كثيراً لما شاع من يطلق ظواهر الألفاظ ويقول: إنها من باب المجاز. فقوله: معنا حقيقة، وهو فوق العرش حقيقة نفي لمجاز المعية ونفي لمجاز العلو، أي: أن المعية والعلو كليهما مقول بالحقيقة، وهما صفتان تليقان بذات الله على معناهما اللائق به؛ ولهذا فرق بين قولك: إن الله معنا حقيقة، وبين ما قد يُطلق فيقول: إن الله معنا بذاته؛ فالمعية الذاتية لم يطلقها أحد من السلف ولا من أهل السنة الكبار كـ شيخ الإسلام وأمثاله، إنما الذي وقع في كلام شيخ الإسلام وبعض علماء السنة أن الله معنا حقيقة، وكلمة حقيقة نفي لطريقة كثير من أهل الكلام أن المعية معية مجازية، فمن هذا الوجه كان هذا الحرف مناسباً.

إثبات صفة المعية لا يستلزم الحلول والمقارنة الذاتية

إثبات صفة المعية لا يستلزم الحلول والمقارنة الذاتية [{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] فأخبره أنه فوق العرش يعلم كل شيء، فهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: (والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه). محل الإشكال بين صفة العلو وصفة المعية: أن طائفةً ظنوا أن المعية تستلزم الحلول والمقارنة الذاتية، ومن هنا ظن من ظن من المتكلمين وأتباعهم أنه وقع في كلام السلف شيء من التأويل في صفة المعية، ومن هنا انغلق الجواب عن هذا المقام في كلام كثير، حتى قال من قال منهم: إن المعية مقولة بالمجاز وليست مقولة بالحقيقة. والصحيح أن مذهب السلف رحمهم الله. وهو الذي عليه الكبار من أهل السنة والجماعة -أن هذه الصفة مقولة بالحقيقة، وأنها لا تستلزم الحلول والمقارنة الذاتية. وننبه هنا إلى ضرورة التفريق بين مقامين لمعرفة معنى أي كلمة: الأول: مقام الإفراد. الثاني: مقام السياق. أي: بين اللفظ المفرد وبين اللفظ المركب في سياق معين -أي: مركب مع ألفاظ أخرى-. فأنت إذا أخذت كلمة مع فهي لفظ مثبت، ومدلول المعية هو المصاحبة والمقارنة، لكن هذه المصاحبة والمقارنة لم تضف ولم تخصص؛ لأن التفسير الآن للفظ المجرد عن الإضافة والتخصيص والتركيب اللفظي. إما إذا وقعت في سياق فقيل: زيد مع عمر، فهذا السياق يكون بحسبه، قد تكون المعية مصاحبةً ذاتية، وقد تكون مصاحبةً علمية، وقد تكون مصاحبة بالنصر والتأييد، وقد تكون مصاحبة بالنسب .. وهلم جرا. فهي مصاحبة لكن المصاحبة متعددة؛ ولهذا إذا قيل: قال السلطان: أنا مع الرعية. فهذا سياق عربي صحيح، ولا يفهم من ذلك ولا يقع في خلد أحد من عقلاء بني آدم أنه معهم بذاته، ولا أنه معهم حتى بعلمه، وإنما أنه معهم بعنايته ونصره ودفاعه عنهم .. إلخ. إذاً: المصاحبة ليست هي المصاحبة الذاتية فقط. فمن تحقق له هذا المعنى زال عنه الإشكال في مسألة المعية زوالاً تاماً: أنه فرق بين اللفظ المجرداً واللفظ المركب في السياق. فهل هذه المصاحبة مصاحبة ذاتية أو علمية أو مصاحبة نصر وتأييد .. إلخ؟ يقال: هذا بحسب السياق، فلما جاءت المعية مضافةً إلى الله امتنع أن تكون معيةً ذاتية حلولية؛ لأن الله بائن عن خلقه؛ ولأن هذا المعنى نقص محض. إذاً فسر السياق القرآني الذي جاء في ذكر المعية بحسب المعنى المناسب له في سياق العرب وكلامهم، ومن قال: إن هذا من باب التأويل أو أن السلف تأولوا المعية .. فهذا مبني على أن المعية تستلزم الحلول والذاتية، وهذا إثباته دونه خرط القتاد لغة وشرعاً وعقلاً، فإنه لا يوجد في لسان العرب ولا في الشرع ولا في العقل أن المعية إذا أطلقت لزم منها الحلول والمصاحبة الذاتية. فإذا كان هذا ليس لازماً بين المخلوقات أنفسها فبين الخالق والمخلوق من باب أولى؛ ولهذا يمتنع أن يقال: ظاهر نصوص المعية أن الله معنا بذاته ولكنا نأولها إلى المعنى اللائق به، بل يقال: ظاهرها أن الله معنا بعلمه أو معنا بنصره وتأييده؛ وليس في ظاهر القرآن ما هو من الباطل الذي يصار إلى نفيه؛ فإن القرآن ظاهره الحق ولا شك، وليس له باطن يخالف الظاهر. وهذا التقسيم -الظاهر والباطن- في نصوص الصفات تقسيم شائع عند طائفة من المتكلمين، لكنهم لا يقابلون الظاهر بالباطن، وإنما يقابلون الظاهر بالمجاز أو نحوه، فلما جاء الباطنية أطلقوا الظاهر والباطن، وجعلوا ما يقابل الظاهر وهو الباطن؛ ولهذا هو ليس من الاصطلاحات الفاضلة.

معنى كلمة (مع) في اللغة

معنى كلمة (مع) في اللغة [وذلك أن كلمة مع في اللغة إذا أطلقت]. إذا أطلقت: أي جردت عن الإضافة والتخصيص فقيل: مع أو: المعية .. فمعنى هذه الكلمة مطلق المصاحبة والمقارنة. [فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال]. من غير وجوب يعني: من غير لزوم، وإن كانت المعية تارة يقصد بها: المقارنة الذاتية، كما إذا قيل: عقلي معي. فهو مقارن لك مقارنة ذاتية حلولية، فقول المصنف هنا: من غير وجوب. أي: هو نفي للوجوب، ولا يعني نفي الوجوب نفي الإمكان. [فإذا قيدت بمعنىً من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى]. أي: أنه إذا كانت مجردة ثم أدخلت في سياق، فإن السياق هو الذي يدل على معنى المصاحبة والمقارنة التي تدل عليها المعية، سواء كانت مصاحبة علمية، أو مصاحبة ذاتية، أو مصاحبة نصر وتأييد أو نحو ذلك؛ ففي المعية العلمية لا بأس أن يقال: معنا بعلمه. أي أنها مصاحبة علم من حيث التفسير، وإن كان الملتزم هو اللفظ القرآني؛ لأن عندنا قاعدة: أنه لا ينتقل إلى لفظ مرادف ليس فيه غرض إلا المرادفة، ويترك اللفظ الذي عبر به في النص، فخير من قولك: مصاحبة علمية، أن تقول: معية علمية؛ لأن لفظ المعية هو اللفظ الشرعي. [فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو النجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي]. ما زلنا نسير والقمر معنا هذه معية ومصاحبة إبصار، فالعرب تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا .. فهل لزم من تلك المعية الحلول والذاتية بينهم وبين القمر؟ الجواب: لا، فهل القضية قضية مصاحبة علمية فهم يعلمون القمر والقمر يعلمهم؟ الجواب: لا، إنما المقصود معية الإبصار، فإذا وقع ذلك بين المخلوقات أنفسها ولم يلزم من ذلك الحلول والذاتية ولم يحتج الكلام إلى التأويل فمن باب أولى إذا كان في كلام الله المضاف إلى نفسه. أي: أننا في قول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا لم نحتج فيه إلى التأويل، فإنه لا أحد يقول: إن ظاهره أن القمر مع العرب، أي: بين يديهم ومعهم حال فيهم، وأن هذا هو المعنى الظاهر، وهو الحقيقة، وأن المجاز أنهم يبصرونه. وهذا يدل على أن لفظ المعية ليس له علاقة بمسألة المجاز بوجه من الوجوه. [ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك؛ وإن كان فوق رأسك، فالله مع خلقه حقيقة، وهو فوق عرشه حقيقة]. أي: أنه لا تعارض بين المعنيين، ولو قيل: إن المعية هي الحلول والذاتية؛ قيل: هذا التحصيل حكم لا بد له من موجب، وهذا الموجب إما أن يكون اللغة أو العقل أو الشرع، والعقل والشرع لا يدلان عليه، واللغة كذلك عند التحقيق، فإن العرب تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا. وهذا بدهي لا يحتاج إلى تأويل.

اختلاف المعية بحسب مواردها

اختلاف المعية بحسب مواردها [ثم هذه المعية تختلف أحكامها بحسب الموارد، فلما قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} [الحديد:4]. إلى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم، شهيد عليكم، ومهيمن عالم بكم، وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه، وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته]. وهذا معنى قول السلف أنه معهم بعلمه؛ لأن هذا هو المناسب للسياق؛ ولهذا ابتدئت الآية بالعلم وختمت بالعلم، فهو معهم بعلمه. وترى أن لفظ المعية هنا له إفادة خاصة، فالله سبحانه وتعالى مع خلقه مطلع عليهم، شهيد عليهم، مهيمن عليهم. [وكذلك في قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] إلى قوله: {هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار: (لا تحزن إن الله معنا) كان هذا أيضاً حقاً على ظاهره، ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد]. أي: ليست معيةً علمية محضة، بل هي معية علمية ومعية نصر وتأييد؛ ولهذا كل معية خاصة تتضمن المعية العامة وزيادة: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] أي: معنا بعلمه ونصره وتأييده؛ ولهذا كانت مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ولم تقع للمشركين، ولو كانت المعية معية علمية لكانت متحققة حتى مع المشركين. وقوله: ودلت الحال أي: دل السياق والمورد. [وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128]. وهذه تفارق المعية العامة، لأنها خصت بالمؤمنين، فدل على أن لها اختصاصاً بهم. [وكذلك قوله لموسى وهارون: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46]. هذه معية خاصة؛ ولهذا قال سبحانه: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ففي صفة السمع والبصر أطلق ولم يضف، أما في المعية فقال: معكما وذلك لأن السمع والرؤية كما أنه يدخل فيهما موسى وهارون كذلك يدخل فيهما فرعون ومن معه، لكن في المعية لا يدخل فرعون ومن معه، لأن هذه المعية هي معية النصر والتأييد، فتفصيل السياق القرآني يدل على هذا: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] ولم يقل سبحانه: أسمعكما وأراكما، بل قال: أسمع وأرى ليشمل هذا ما يقع من فرعون ومن معه كما يقع من موسى وهارون.

الفرق بين التصور والفرض العقلي

الفرق بين التصور والفرض العقلي [هنا المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن: النصر والتأييد. وقد يدخل على صبي من يخيفه فيبكي فيشرف عليه أبوه من فوق السقف فيقول: لا تخف، أنا معك، أو أنا هنا، أو أنا حاضر ونحو ذلك، ينبهه على المعية الموجودة بحكم الحال دفع المكروه، ففرقٌ بين معنى المعية وبين مقتضاها]. هذا محصل الجواب في مسألة المعية: أنه كل من تحقق له الفرق بين معنى المعية ومقتضاها فإنه يزول عنه الإشكال، وأن الإشكال فرع عن التسوية بين معنى المعية وبين مقتضاها، فإن المعنى الكلي للفظة المعية في حال التجريد والقطع عن السياق والإضافة هو مطلق المصاحبة والمقارنة. ومقتضاها: هو مدلولها بحسب السياق، فلكل سياق ما يناسبه، فمن قال: إن المعية هي الحلول والذاتية. قيل: يلزمك أن كل سياق في كلام العرب ورد فيه حرف مع فإنه يحمل على حلول الذات، وهذا لا يلتزمه عاقل، أو على أقل تقدير أنه يلزم منه أن كل سياق جاء في كلام العرب، واستعمل فيه لفظ مع فإنه يدل بظاهره على الحلول والذاتية ويحتاج إلى تأويل .. وهذا لا يلتزمه أحد؛ لأنه ليس هذا هو ظاهر الكلام في جمهور موارد المعية، فإن الناس لا يفهمون من قول العرب: ما زلنا نسير والقمر معنا؛ إلا معنىً واحداً، وهو أنهم يبصرون القمر، وإذا فرض في العقل معنىً آخر تبين بالعقل أنه معنىً ممتنع يفرضه العقل ولا يتصوره، ومعلوم أن العقل يفرض المحال، لكنه لا يتصور المحال، والعبرة ليست بفرض العقل وإنما العبرة بتصوره. وهذه أيضاً قضية عقلية مهمة وهي: التفريق بين فرض العقل وبين تصوره. فمن قال: إن هذا الشيء ثبت بالعقل؛ لأنه كذا .. نقول: هذا فرض عقلي، والشيء لا يكون له أثر إلا إذا تصوره العقل تصوراً صحيحاً، أما إذا فرضه العقل فإن العقل يفرض المحال، ودرجة الفرض في العقل سابقة على درجة التصور، حيث إن الفرض هو المبدأ الأول، فالعقل يفرض الشيء أحياناً ثم يدخل دائرة التصور فلا يقبل التصور؛ فيكون محالاً في العقل. إذاً: فرق بين الفرض العقلي وبين التصور العقلي؛ ولهذا يقولون: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، وليس عن فرضه. والتصور: هو الدرجة الثانية بعد الفرض، وهو دخول المفروض محل القبول العقلي. أي: كأن الفرض بمنزلة السؤال على العقل والتصور بمنزلة الجواب ونحن نعلم أنه ليس كل سؤال يمكن جوابه، فكذلك هنا.

لفظ المعية بين الاشتراك اللفظي والتواطؤ

لفظ المعية بين الاشتراك اللفظي والتواطؤ [وربما صار مقتضاها من معناها فيختلف باختلاف المواضع. فلفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع، يقتضي في كل موضع أموراً لا يقتضيها في الموضع الآخر، فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع، أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها -وإن امتاز كل موضع بخاصية- فعلى التقدير ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق حتى يقال: قد صرفت عن ظاهرها]. وكأنه يمكن أن ينتهى إلى نتيجة، وهي: أن لفظ المعية إما أن يكون مقولاً بالاشتراك اللفظي أو مقولاً بالتواطؤ، فإن كان مقولاً بالاشتراك اللفظي فلكل سياق ما يناسبه، وهذا يزيد المسألة تباعداً ولا يوجب التلازم في حكم المعية. وإن كان مقولاً بالتواطؤ قيل: التواطؤ يقع بقدر واحد كلي، وإنما أوجب ذلك اختلاف السياقات. فسواء فرضت أن اللفظ مقول بالتواطؤ أو مقول بالاشتراك اللفظي فإنه في كلا الحالين لا يستلزم في سائر موارده الحلول والذاتية.

الأشاعرة جبرية في القدر

الأشاعرة جبرية في القدر [ونظيرها من بعض الوجوه: الربوبية والعبودية، فإنهما وإن اشتركا في أصل الربوبية والعبودية، فلما قال: {آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} [الأعراف:121 - 122] كانت ربوبية موسى وهارون لها اختصاص زائد على الربوبية العامة للخلق، فإن من أعطاه الله من الكمال أكثر مما أعطى غيره، فقد ربه ورباه ربوبيةً وتربيةً أكمل من غيره، وكذلك قوله: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً} [الإنسان:6] و {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء:1] فإن العبد تارةً يعنى به المعبد]. أي: أن العبودية في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] عبودية عامة، لكن العبودية المضافة إلى الله سبحانه وتعالى في مثل قوله تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] وقوله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] لها اختصاص، مع أن ثمة اشتراكاً في أصل العبودية، وهي أنهم طوع لأمر ربهم من جهة أنهم لا يخرجون عن أمره الكوني، ولا يخرجون عن قدره، فإن العباد إنما يمضون بقدر الله، وهو الخالق لأفعالهم المقدر لها. ولهذا كان أقوى طريق اعترض به الأشعرية على المعتزلة في قولهم: إن الله لم يخلق أفعال العباد: أن هذا من باب النقص في الربوبية .. وهذا اعتراض صحيح من الأشاعرة، وإن كان الأشاعرة لما تركوا قول المعتزلة في القدر وأبطلوه اتخذوا مذهباً -في الجملة- من جنس مذهب جهم بن صفوان، وإن كانوا من جهة الأحرف والألفاظ يوافقون أهل السنة في الجملة، فقالوا: إن للعبد إرادة وقدرة، ولكنها مسلوبة التأثير. ولهذا صرح بعض أئمة الأشعرية أن قولهم جبر، حتى قال الرازي: العبد عندنا مجبور في صورة مختار. وقال الشهرستاني: والجبر نوعان: جبر غال، هو جبر جهم بن صفوان، وجبر متوسط، وهو الذي سلكه أئمة أصحابنا. وقال الرازي أيضاً: إن العباد ليس لهم في هذا المقام إلا أحد قولين: إما الجبر وإما القدر. أي: نفي القدر، والقول بأن العبد يخلق فعل نفسه .. ولا شك أن الأمر ليس كذلك، فإن القول الذي عند سائر الأنبياء والرسل وفي دين محمد صلى الله عليه وسلم على أتم وجه هو أن العبد ليس مجبوراً وليس مستقلاً بفعله، بل الخالق سبحانه للعبد ولأفعاله. وفرق بين قولك: إن الله هو الخالق لأفعال العباد، وبين قولك: إن الله هو الفاعل لأفعال العباد، فالفاعل حقيقةً هو العبد؛ ولهذا وصف في القرآن بالأفعال، سواء أفعال الطاعات أو أفعال المعاصي، ووصف العباد بأنهم يعصون ويكفرون ويفسقون، وبأنهم يطيعون ويصلون ويصومون .. إلخ، فأضيفت الأفعال من الطاعات والمعاصي إلى العباد، فالعبد هو الفاعل لفعله حقيقة وليس مجازاً كما قال الأشعرية، والله هو الخالق للعبد ولفعله، وخلقه سبحانه وتعالى تارةً يقع بمحض أمره وتارة يقع بتوسط السبب المخلوق من جهته سبحانه. وقد رويت في كتب العقائد والتراجم كثير من القصص التي وقعت بين المعتزلة والأشاعرة حول مسألة القدر، منها: أن الأستاذ أبا إسحاق الاسفرائيني، وهو من علماء الأشاعرة وأساتذتهم الكبار، كان مقرباً من الصاحب بن عباد، الذي كان معتزلياً، وكان بينهما ندامة وصحبة وصداقة؛ ولهذا كانوا يتنادرون في مذهب كل منهم في مسألة القدر، وفي يوم من الأيام كان الصاحب بن عباد في حديقة منزله ومعه الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني، فقطع الصاحب بن عباد ثمرةً من إحدى الشجر يريد التندر بعقيدة الأشعرية، فقال لـ أبي إسحاق: يا أبا إسحاق! من قطع الثمرة؟ -لأن الأشعرية يقولون: العبد له قدرة مسلوبة التأثير، وهو يريد أن يثبت له أنه ليس كذلك- فقال: الذي يستطيع أن يعيدها. أي: الذي يستطيع أن يعيد هذه الثمرة إلى شجرتها، أي: أنت قطعتها لكن لا تستطيع أن ترجعها إلى محلها؛ لأن المعتزلة يقولون: إن القادر هو القادر على الضدين، أي: من يستطيع أن يرفع ويستطيع أن يخفض، يقطع ويعيد، فلما قال له: من قطعها؟ قال: الذي يستطيع أن يعيدها. ومما وقع بينهما أيضاً أن الصاحب بن عباد كان على مائدته يأكل ومعه الأستاذ الاسفرائيني، فتقصد الصاحب بن عباد شيئاً بجانب الاسفرائيني من الطعام فأخذه، فقال: يا أستاذ! من الذي أكل؟ ففي هذه الأثناء شرق بأكله -أي: غص بأكله- فقال له الاسفرائيني: من الذي غص؟ أي: إن كنت قصدت هذا فأنت أحمق، أي: كيف تقصد إلى شيء قد يقع بسببه موتك؟ وقد دخل القاضي عبد الجبار بن أحمد عليهما يوماً فسلم ثم قال: سبحان من تنزه عن الفحشاء! وهو يقصد ذم مذهب الاسفرائيني الذي يقول: إن العبد ليس له أثر في فعله. أي: إذا جعلتم العبد ليس له أثر في الفعل فالفاعل إذاً هو الله، والله منزه عن الفحشاء التي طائفة من العباد يفعلونها، فقال الاسفرائيني مباشرة: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما يشاء! أي: وأنتم قلتم: العبد يخلق فعل نفسه، فصار في ملك الله ما لا يشاء.

الاشتراك أو التواطؤ في اللفظ لا يستلزم التطابق في المعنى في سائر السياقات

الاشتراك أو التواطؤ في اللفظ لا يستلزم التطابق في المعنى في سائر السياقات [فإن العبد تارة يعنى به المعبد فيعم الخلق كما في قوله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] وتارةً يعنى به العابد فيخص ثم يختلفون، فمن كان أعبد علماً وحالاً كانت عبوديته أكمل، فكانت الإضافة في حقه أكمل، مع أنها حقيقة في جميع المواضع]. مقصود المصنف من هذه الأمثلة: أن الاشتراك أو التواطؤ في اللفظ بقدر لا يستلزم التطابق في المعنى في سائر السياقات، وهذا ما سماه البعض الألفاظ المشككة، وهو ما يكون متواطئاً بقدر ولكنه يكون في بعض المعاني والسياقات أحق، كما تقول: بياض الثلج وبياض الفرس، فنسبة البياض في الثلج ليست كبياض الفرس. فاللفظ في الموردين لفظ مشكك، هكذا يقولون من جهة أنه في الثلج أتم ثبوتاً، وقد رجح المصنف أن حقيقة المشكك نوع من المتواطئ. [فمثل هذه الألفاظ يسميها بعض الناس مشكِكةً، لتشكك المستمع فيها هل هي من قبيل الأسماء المتواطئة أو من قبيل المشتركة في اللفظ فقط، والمحققون يعلمون أنها ليست خارجة عن جنس المتواطئة، إذ واضع اللغة إنما وضع اللفظ بإزاء القدر المشترك، وإن كانت نوعاً مختصاً من المتواطئة فلا بأس بتخصيصها بلفظ. ومن علم أن المعية تضاف إلى كل نوع من أنواع المخلوقات كإضافة الربوبية مثلاً، وأن الاستواء على الشيء ليس إلا للعرش، وأن الله يوصف بالعلو والفوقية الحقيقية، لا يوصف بالسفول ولا بالتحتية قط لا حقيقةً ولا مجازاً؛ علم أن القرآن على ما هو عليه من غير تحريف]. أي: أن القرآن على ما هو عليه من غير تأويل في مسألة العلو ومسألة المعية، وقد تقدم أن الفاضل في المناظرة أنه إذا كان النافي ينفي شيئاً من الصفات ألا يسلم له أن يستعمل الألفاظ المجملة المشتركة، فمن ينفي العلو ويقول: إن الله ليس في جهة. يقال له: أخبرنا عن العلو والفوقية؟ فإن قال: إن الله ليس علياً ولا فوق العالم فإنه يكون أتى على المخالفة الصريحة لما في الكتاب والسنة؛ لأن الله قال: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1] وقال في كتابه: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:50] وأمثال ذلك؛ ولهذا بعض المتأخرين ممن قصدوا مذهب أهل السنة جمعوا بين إثبات اللفظ الشرعي الثابت فقالوا: إن الله هو العلي الأعلى، وأنه فوق خلقه بائن عنهم، وأنه ليس في جهة. فقولهم: ليس في جهة، بقية بقيت عليهم من مذهب المخالفين، وحينما نقول: إنها بقية بقيت عليهم من مذهب المخالفين فإننا لا نقصد أن الحق أن يقولوا: إن الله في جهة؛ لأن هذا الحرف باستعمال المستعملين له صار لفظاً مجملاً، وإنما يلتزم اللفظ الشرعي. أما لفظ الجهة فهو لفظ مجمل حادث يفصل في معناه: فإن كان معنىً صواباً قبل، وإن كان غير صواب رد، واللفظ من حيث هو يتوقف فيه، فلا يطلق إثباتاً ولا نفياً.

ليس معنى أن الله سبحانه في السماء أن السماء تحويه

ليس معنى أن الله سبحانه في السماء أن السماء تحويه [ثم من توهم أن كون الله في السماء بمعنى أن السماء تحيط به وتحويه فهو كاذب إن نقله عن غيره، وضال إن اعتقده في ربه]. فهو كاذب إن نقله عن غيره، وبخاصة إن نقله عن السلف. والمعتزلة والمتأخرون من الأشاعرة جمهور أدلتهم التي استدلوا بها من العقل على نفي ما سموه جهةً إنما يدل على نفي الجهة الوجودية -أي: الجهة المخلوقة- كقولهم: لو كان في جهة لكان معه غيرٌ قديم .. فهذا دليل على أنهم فهموا من الجهة الجهة المخلوقة، والله منزه عن الجهات المخلوقة، فإنه بائن عن خلقه فوق سماواته مستو على عرشه. فالمقصود: أنه لو قال قائل: بم نجيب عن أدلة المعتزلة ومتأخري الأشعرية في مسألة العلو؟ قيل: باختصار سائر أدلتهم فرع عن إثبات جهة وجودية مخلوقة -وهي السموات السبع أو جهة مخلوقة أياً كانت هذه الجهة- وأن الله فيها، كما يقال: إن الملائكة في السماء، وإن بني آدم في الأرض .. وهلم جرا، وهذا المعنى ليس محل نزاع عند أهل السنة؛ فإن أهل السنة يسلمون بذلك، بل يكفرون من زعم أن الله في جهة مخلوقة، ويكفرون من فسر السماء بالسموات السبع، أي: بمعنى أن الله فيها حال كما أن الملائكة فيها. وأما من فسر السماء بأنها السموات والله فوقها .. فهذا معنىً معروف. [وما سمعنا أحداً يفهم هذا من اللفظ، ولا رأينا أحداً نقله عن واحد، ولو سئل سائل المسلمين: هل تفهمون من قول الله ورسوله إن الله في السماء إن السماء تحويه؟ لبادر كل أحد منهم إلى أن يقول: هذا شيء لعله لم يخطر ببالنا. وإذا كان الأمر هكذا: فمن التكلف أن يجعل ظاهر اللفظ شيئاً محالاً لا يفهمه الناس منه، ثم يريد أن يتأوله. بل عند الناس أن الله في السماء وهو على العرش واحد، إذ السماء إنما يراد به العلو، فالمعنى: أن الله في العلو لا في السفل، وقد علم المسلمون أن كرسيه سبحانه وتعالى وسع السماوات والأرض، وأن الكرسي في العرش كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وأن العرش خلق من مخلوقات الله لا نسبة له إلى قدرة الله وعظمته، فكيف يتوهم بعد هذا أن خلقاً يحصره ويحويه؟!]. فإذا كان الله أخبر عن كرسيه أنه: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة:255] فكيف يتوهم أن الله سبحانه وتعالى حال في السموات السبع أو غيرها؟! [وقد قال سبحانه: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] وقال: {فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ} [آل عمران:137] بمعنى: على ونحو ذلك]. مقصوده: أن قوله سبحانه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:16] أنه لن يقال: إن ظاهره الحلول في السموات؛ لأن حروف الجر -كما هو معروف عند أهل اللغة- يدخلها التناوب كثيراً، كما في قوله تعالى: {وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:71] فليس المقصود هنا بحرف الجر في الظرفية والحلول وإنما عليها، وهذا تستعمله العرب في كلامها بحسب المقصود، فإنهم تارةً يصرحون بالحرف المناسب لهذا السياق، وتارةً يذكرون حرفاً آخر ليس أصله له ولكن لمعنى يناسب. وهذا يستخدم كذلك في مسائل التعدية واللزوم، فإن الفعل المتعدي بنفسه قد يعطى حكم الفعل اللازم من حيث اللغة؛ لأنه ضُمِّن معناه؛ ومثال هذا قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] مع أن الفعل خالف فعل متعد بنفسه، حيث يقال: خالف زيدٌ عمراً، لكن في هذا السياق: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] عدي الفعل بعن، ولم يقل: فليحذر الذين يخالفون أمره، وذلك لأنه أُعطي حكم الفعل اللازم فعدي تعديته؛ لأنه ضمن معناه؛ وأقرب فعل يناسب السياق هو الفعل أعرض؛ أي أن الفعل خالف ضمن معنى الفعل أعرض ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] قال: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك؛ لعله إذا رد بعض قول النبي صلى الله عليه وسلم أن يقع في قلبه شيء من الزلل فيهلك. ولهذا: ليس كل من خالف الشرع يستحق هذا الوعيد المذكور في هذا السياق؛ لأن المخالفة قد تقع بطريقة الجهل، وظلم النفس الذي يتوب العبد منه ويستغفر، وإنما هذه الفتنة المتوعد بها في السياق تقع لمن أعرض، قال: {فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] أي: يعرضون عن أمره.

شرح الحموية [18]

شرح الحموية [18] من عقيدة أهل السنة والجماعة: أن المؤمنين يرون ربهم سبحانه وتعالى في عرصات القيامة، ويرونه في الجنة، كما دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، أما الكفار فهناك خلاف هل يرون الله تعالى أم لا؟ ولم يخالف في رؤية المؤمنين لربهم إلا المعتزلة والجهمية، أما الأشاعرة فقد قالوا: يرى لا في جهة؛ وهذا من تناقضهم.

أقوال أهل العلم في مسائل الرؤية

أقوال أهل العلم في مسائل الرؤية قال المصنف رحمه الله: [وهو كلام عربي حقيقةً لا مجازاً، وهذا يعلمه من عرف حقائق معاني القرآن، وأنها متواطئة في الغالب لا مشتركة، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه، فلا يبصق قبل وجهه الحديث) حق على ظاهره، فهو سبحانه فوق العرش، وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات، فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه، وكانت أيضاً قبل وجهه، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك، ولله المثل الأعلى، ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخلياً به)]. في هذه الرؤية من جهة حكمها عند أهل السنة ثلاث مسائل:

الاختلاف في رؤية المؤمنين لربهم في عرصات القيامة وفي الجنة

الاختلاف في رؤية المؤمنين لربهم في عرصات القيامة وفي الجنة الأولى: رؤية المؤمنين لربهم في عرصات القيامة وفي الجنة: وهذه مجمع عليها، وفيها نصوص متواترة في الكتاب والسنة، وهي محل النزاع مع الجهمية والمعتزلة، والأشعرية في الجملة -ولا سيما المتأخرين منهم- يقولون: يرى لا في جهة .. وهذا يقوله من ينفي العلو من الأشعرية ويثبتون الرؤية، مع أن التحقيق أن ثبوت العلو في العقل والشرع أظهر من ثبوت الرؤية؛ ولهذا بنت المعتزلة نفي الرؤية على نفي العلو، وأخذه المتأخرون من الأشاعرة عنهم -أعني: نفي العلو- ولكنهم رأوا أن الأشعري وأئمة أصحابه يصرحون بمسألة الرؤية فتابعوهم، فصار قولهم مركباً من قول أئمتهم وقول المعتزلة. فالقصد: أن المتأخرين من الأشاعرة يقولون: يرى لا في جهة. وهذا يقوله بعض شراح الحديث وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة، وهو قول قاله طائفة من متكلمة الأشاعرة، وحقيقته يرجع إلى قول المعتزلة عند التحقيق كما ذكره أبو حامد الغزالي وغيره. وهذه المسألة -مسألة رؤية المؤمنين ربهم في عرصات القيامة وفي الجنة- هي مسألة النزاع الكبرى بين السلف والمخالفين، فقد تواترت النصوص وأجمع السلف على أن المؤمنين يرون ربهم بأبصارهم لا يضامون في رؤيته في عرصات القيامة وفي الجنة.

الاختلاف في رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة

الاختلاف في رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة الثانية: رؤية الكفار والمنافقين لربهم في عرصات القيامة، وهذه المسألة مسألة نزاع بين أهل السنة أنفسهم، وشيخ الإسلام يقول: إنه لم يحفظ عن الصحابة فيها تصريح. وظواهر النصوص فيها بعض التردد، ولهذا ذهب طائفة من أهل السنة إلى أن الكفار من أهل الكتاب والمنافقين وغيرهم لا يرونه، وهذا هو ظاهر قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] وطائفة من أهل السنة قالوا: إنه يراه المنافقون وغبرات من أهل الكتاب، كما جاء في ظاهر بعض النصوص في السنة في الصحيح وغيره. وطائفة قالوا: إنه يراه سائر الكفار، وهذه الرؤية ليست رؤية النعيم التي تقع للمؤمنين. وطائفة توقفوا. وعلى كل هذه المسألة النزاع فيها قوي، وإن كان ظاهر مذهب السلف كما قال شيخ الإسلام: ظاهر كلام كثير من أئمة السلف، وهو الذي عليه الجمهور من أصحاب أحمد: أن الكفار لا يرون ربهم بحال. وكأن شيخ الإسلام يميل إلى هذا القول في الجملة، وإن لم يصرح بنصرته.

الاختلاف في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج

الاختلاف في رؤية النبي عليه الصلاة والسلام لربه ليلة المعراج الثالثة: رؤية النبي صلى الله عليه وآله وسلم لربه ليلة المعراج .. هل رأى ربه أو لم يره؟ آثار الصحابة في هذا جاءت على نوعين: الأول: عن طائفة من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده كما جاء ذلك صحيحاً عن ابن عباس وأبي ذر وغيرهما رضي الله عنهم. وجاء عن بعض الصحابة ذكر الرؤية مطلقة، وهذا جاء حتى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: رآه. الثاني: عن طائفة من الصحابة كـ عائشة، فقد صرحت كما في الصحيحين من حديث مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. ولكن بالقطع: أن الذي كانت عائشة رضي الله عنها تصرح بنفيه هو الرؤية البصرية، والذي صرح ابن عباس رضي الله عنهما وطائفة من الصحابة بإثباته هو الرؤية القلبية، ولم -كما نص شيخ الإسلام - يصح عن واحد من الصحابة أنه صرح بإثبات الرؤية البصرية؛ ومن هنا نزع شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن الصحابة في نفس الأمر ليس بينهم اختلاف، فإن الذي نفته عائشة رضي الله عنها ليس هو الذي أثبته ابن عباس رضي الله عنهما ومن معه، فإن عائشة رضي الله عنها نفت الرؤية البصرية؛ ولهذا استدلت بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:103] وابن عباس صرح برؤية الفؤاد فقال: رآه بفؤاده. والرواية الأخرى المطلقة عن ابن عباس تحمل على المقيدة، وعلى هذه الطريقة يكون مذهب الصحابة منضبطاً أنه لم تقع الرؤية البصرية. لكن هل يقال: أنه رآه بفؤاده أو لا يقال ذلك؟ هذه مسألة اجتهاد. لكن طائفة من أهل العلم يرون أن الخلاف بين الصحابة على حقيقته، وأنه ليس من باب الخلاف اللفظي، بل هو خلاف حقيقي، ومعتبر هؤلاء ما جاء من تصريح بعض الصحابة بإطلاق الرؤية. وقد وردت عن الإمام أحمد رحمه الله نصوص في هذا: فجاء عنه إثبات رؤية الفؤاد، وجاء عنه ذكر الرؤية مطلقاً، وجاء عنه التوقف. وشيخ الإسلام رحمه الله لا ينتصر للمشهور عند متأخري الحنابلة من أن الرواية عن أحمد مختلفة، بل يقول: إن أحمد كـ ابن عباس، أي: أن الرواية عنه ترجع إلى معنىً واحد، فإن التوقف ليس حكماً يصار إليه، وأن الإطلاق يضاف إلى التقييد، فيكون الثابت عن أحمد إثبات رؤية الفؤاد. والمشهور في كلام المتأخرين من أهل العلم -كما يذكره القاضي عياض وغيره- إثبات رؤية البصر، بل القاضي عياض يقول: إن جمهور أهل السنة على إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره. وشيخ الإسلام رحمه الله يقول: إن أكثر أهل السنة على إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج لكنه لا يعني بها الرؤية البصرية، فإنه شاع في كلام أئمة السلف إثبات رؤية الفؤاد التي أثبتها ابن عباس ومن معه من الصحابة. فإذا قيل: إن جمهور أهل السنة على إثبات رؤية الفؤاد .. قيل: هذا صحيح، أما إذا قيل -كما هي طريقة بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ومالك -: إن جمهور أهل السنة على إثبات الرؤية البصرية .. فهذا غلط، فإنه لم يصح عن صحابي هذا التصريح، وكذا جمهور أئمة السلف على هذا المعنى. أما من حيث الراجح في المسألة: فإن الراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة المعراج ببصره؛ لأن هذه مسألة سمعية الدليل فيها يكون مقصوراً على الدلالة القرآنية والدلالة النبوية كسائر مسائل الشريعة وأصول الدين، وليس في القرآن ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره ليلة المعراج، وكذلك ليس في السنة ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره ليلة المعراج، وعند عدم الدلالة لا يجوز إثبات شيء لا يعلم، فضلاً عن كون ظاهر القرآن والسنة يدلان على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه. إذاً لم يدل دليل من القرآن أو السنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، وعند عدم الدليل يلزم عدم إطلاق القول، أي: لا يقال إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه ببصره، فضلاً عن كون ظاهر الدلالة القرآنية والنبوية تدلان على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ير ربه ببصره، بمعنى أن ظاهر النصوص يدل على النفي. ومن الآيات القرآنية الدالة على هذا النفي، قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في معراجه لكان الامتنان والإشادة والثناء بذكر رؤية الباري أولى من ذكر رؤية الآيات .. ولهذا كانت رؤية الباري في الجنة هي أعظم نعيم أهل الجنة: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] قال: (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه الكريم) كما في حديث صهيب في الصحيح. فإن قال قائل: إن الله تفضل عليه بالزيادة فيما بعد. قيل: هذا خبر عما سيصير له، وأيضاً هذا تكلف في توجيه الآية، ثم إن مما يدل على عدمه ما جاء في قوله تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] وهذا بعد انتهاء الأمر، فإنه لم يذكر سبحانه أنه رأى ربه، بل قال: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] فدل على أنه لم يقع له صلى الله عليه وسلم أن رأى ربه ببصره في معراجه. إذاً قوله: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18] دليل على أن الذي وقع له هو رؤية الآيات، وهذا هو الذي ورد في السنة كما في حديث أبي ذر وغيره في الصحيحين لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ظهرت لمستوىً أسمع فيه صريف الأقلام) فهذا هو غاية ما وصل إليه صلى الله عليه وآله وسلم، ولم ير ربه ببصره. أما أن يقال: رآه بفؤاده .. فهذا لا إشكال فيه. وكذلك في السنة ما جاء في الصحيح من حديث أبي ذر، عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لـ أبي ذر: (لو رأيت النبي صلى الله عليه وسلم لسألته. قال: عم كنت تسأل؟ قال: هل رأى ربه؟ فقال: أما إني سألته فقال: رأيت نوراً) وجاء في وجه آخر عند مسلم من رواية عبد الله بن شقيق نفسه أن أبا ذر قال: (سألته فقال: نور .. أنى أراه؟) إذاً مرةً نقل مسلم من حديث عبد الله بن شقيق عن أبي ذر: (نور .. أنى أراه؟) ومرةً نقل: (رأيت نوراً) فقوله: (رأيت نوراً) دليل على أنه لم ير ربه حقيقةً ببصره، وهذا النور -والله أعلم- هو المذكور في حديث أبي موسى الثابت في الصحيح: (إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فلعل هذا النور -والله أعلم- نور الحجاب. وأما قوله: (نور .. أنى أراه؟) فمعناه: أن النور حال دون رؤيته. ومن أهل العلم من يرى أن الروايتين في صحيح مسلم كلاهما محفوظ، ومن أهل العلم من يرى أن أحدهما ليس محفوظاً، وهذا هو الذي مال إليه الإمام أحمد في بعض أجوبته. وأما من يستدل بثبوتها بما جاء عن معاذ بن جبل وغيره في المسند وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي في أحسن صورة ...) فهذه كانت رؤيةً مناميةً، وليس المقصود بها رؤية المعراج.

إثبات الرؤية ليس معارضا للعقل

إثبات الرؤية ليس معارضاً للعقل [فقال له أبو رزين العقيلي: (كيف يا رسول الله! وهو واحد ونحن جميع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله، هذا القمر كلكم يراه مخلياً به وهو آية من آيات الله، فالله أكبر) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم]. وهذا استدلال عقلي، على أن إثبات الرؤية ليس معارضاً للعقل، فهذا القمر كل الناس يروه، ولا يتزاحمون ولا يتضامون في رؤيته، فالله أعظم.

تناقض المعتزلة في مسألة الرؤية

تناقض المعتزلة في مسألة الرؤية [وقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر) فشبه الرؤية بالرؤية، ولم يكن المرئي مشابهاً للمرئي]. فمن زعم أن أحاديث الرؤية من أحاديث التشبيه فقد كذب، فهي أحاديث محفوظة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم أنه رواها نحو ثلاثين من الصحابة، والتشبيه الذي فيها: (كما ترون القمر) إنما هو تشبيه للرؤية بالرؤية وليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي. ومن العجب تناقض المعتزلة في هذا: كيف يقولون إن هذا تشبيه وهم يقولون: إن الله لم يخلق أفعال العباد، وأن العبد هو الذي يخلق فعل نفسه؟! أليس إضافة الخلق الحقيقي إلى العبد هو من باب التشبيه؟ ولهذا قال أهل السنة: إن المعتزلة مشبهة في باب أفعال العباد، فإنهم جعلوها من خلقهم فشبهوا الله بخلقه، حيث جعلوا العبد يخلق أفعاله كما أن الله سبحانه وتعالى هو الفاعل لأفعاله، وكما أنه سبحانه هو الخالق للعباد الذين خلقوا أفعالهم عند المعتزلة. إذاً قول المعتزلة: إن العبد يخلق فعل نفسه .. هو نوع من التشبيه لله سبحانه وتعالى الخالق للعباد أنفسهم، والخالق لمفعولاته سبحانه وتعالى كالسموات والأرض وغيرها.

الكلام عن لفظ الظاهر

الكلام عن لفظ الظاهر [وناجوه كل يراه فوقه قبل وجهه كما يرى الشمس والقمر، ولا منافاة أصلاً. ومن كان له نصيب من المعرفة بالله والرسوخ في العلم بالله؛ يكون إقراره للكتاب والسنة على ما هما عليه أوكد. واعلم أن من المتأخرين من يقول: مذهب السلف إقراره على ما جاءت به، مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد، وهذا اللفظ مجمل فإن قوله: ظاهرها غير مراد. يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين؛ مثل أن يراد بكون الله قِبَل وجه المصلي أنه مستقر في الحائط الذي يصلي إليه، وإن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك، فلا شك أن هذا غير مراد.]. لفظ الظاهر من جهة اللغة قد لا يكون مجملاً، فإن له دلالة متعينة من جهة اللغة في الجملة، وهو وإن لم يرد ذكره في الكتاب والسنة في مقام الأسماء والصفات، إلا أنه قد ورد ذكره في القرآن في سياق آخر، كقوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] لكنه باستعمال المستعملين له صار فيه إجمال، والقاعدة عند أهل السنة والجماعة: أن كل لفظ مجمل حادث فإنه لا يطلق إثباتاً ولا نفياً من جهة لفظه، وأما من جهة معناه فإنه يستفصل فيه. وبهذا يظهر أن الإجمال قد يكون أصلياً في اللفظ، وقد يكون دخله الإجمال من جهة الاستعمال، وإن كان من جهة الأصل ليس مجملاً، والاعتبار بحال اللفظ عند دخوله في هذا العلم أو في هذا الباب أو في هذا المقام، وليس باعتبار أصله اللغوي الذي قد يطلق على معنىً متعين. ومن هنا: احتاج هذا القول إلى التفصيل؛ ولهذا أطلق من أطلق من المتأخرين أن مذهب السلف هو إجراء النصوص على ظاهرها، وأطلق بعضهم أن نصوص الصفات لا تجرى على ظاهرها، فهذا يقال بحسب المقصود من هذا اللفظ. أما إذا قيل: إن مذهب السلف إجراء النصوص على ظاهرها، وهذا الاستعمال فسر بأن الظاهر هو الصفات اللائقة بالله .. فهذا المقصد صحيح -أي: هذا المعنى صحيح- واللفظ من حيث هو في الجملة مناسب لا إشكال فيه. لكن إذا قيل: إن مذهب السلف أن ظاهر النصوص ليس مراداً، فقيل: لم؟ فقيل: لأن ظاهر النصوص إثبات الصفات، ومذهب السلف أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها النصوص .. قيل: هذا غلط لفظاً ومعنىً، فإن السلف يثبتون الصفات في نفس الأمر. وأما من قال: إن ظاهر النصوص ليس مراداً عند السلف؛ لأن ظاهرها التشبيه، والسلف ليسوا مشبهة. قيل له: أما أن السلف ليسو لمشبهة فهذا صحيح، وأما قوله: إن ظاهر النصوص التشبيه .. فهذا غلط على النصوص، ولا يجوز أن يقال: إن ظاهر النصوص هو التشبيه؛ وتبعاً لذلك لا يجوز أن يقال: إن ظاهر النصوص ليس مراداً. فهذا الإطلاق -وهو إطلاق السلب والنفي- لا يصح بحال، سواء فسر الظاهر بالتشبيه، فيكون المعنى صحيحاً واللفظ ليس صحيحاً، أو فسر الظاهر بإثبات الصفات فيكون الغلط من جهة اللفظ وجهة المعنى.

التفويض ليس هو مذهب السلف

التفويض ليس هو مذهب السلف [ومن قال: إن مذهب السلف أن هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى]. قوله: فقد أصاب في المعنى لأن هذه المعاني تشبيه، فأصاب في المعنى من هذا الوجه. [لكن أخطأ القول بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث، فإن هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيناه في غير هذا الموضع، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس، فيكون القائل لذلك مصيباً بهذا الاعتبار، معذوراً في هذا الإطلاق. فإن الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس، وهو من الأمور النسبية، وكان أحسن من هذا: أن يبين لمن اعتقد أن هذا هو الظاهر أن هذا ليس هو الظاهر؛ حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقه لفظاً ومعنى. وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله: الظاهر غير مراد عندهم. أن المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته، ولا يختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازاً ذهنياً، أو جوازاً خارجياً غير مراد .. فهذا قد أخطأ في ما نقله عن السلف أو تعمد الكذب؛ فما يمكن أحد قط أن ينقل عن واحد من السلف ما يدل -لا نصاً ولا ظاهراً- أنهم كانوا يعتقدون أن الله ليس فوق العرش، ولا أن الله ليس له سمع ولا بصر ولا يد حقيقة. وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف، ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف. بمعنى: أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه وتعالى، ولكن السلف أمسكوا عن تأويلها، والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك، ويقولون: الفرق بين الطريقين أن هؤلاء قد يعينون المراد بالتأويل وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره]. هذا القول في التحصيل لمذهب السلف، والفرق بينهم وبين المخالفين لهم: لا شك أنه تحصيل باطل، وإن كان قد شاع عند طائفة من متكلمة الصفاتية. أما أئمة الجهمية والمعتزلة: فإنهم كانوا يعلمون أن الفرق بينهم وبين السلف ليس من جهة تعيين التأويل، بل من جهة إثبات الصفات أو عدم إثباتها؛ ولهذا قد يقال: إن المعتزلة من هذا الوجه أعلم بحال مذهب السلف من كثير من متأخري المتكلمين من الأشاعرة ونحوهم، من جهة أن المعتزلة يدرون أن الخلاف بينهم وبين السلف متحقق في إثبات الصفات أو عدم إثباتها، لا في مسألة تعيين التأويل؛ ولهذا كان المعتزلة الذين أدركوا زمن السلف يصفون مذهب السلف بالتشبيه والتجسيم وأمثال ذلك؛ مما يدل على أنهم يعلمون أن السلف كانوا مثبتةً في نفس الأمر للصفات. وكلام السلف في إثبات الصفات متواتر في كتب السنة وغيرها، بل نص عليه حتى أرباب الكلام من المعتزلة وغيرهم: أن مذهب أهل السنة والحديث إذ ذاك كان على الإثبات. ومن هنا كان هذا التحصيل تحصيلاً باطلاً، وإن كان صاحبه قصد فيه التقريب بين طريقته التي أضافها إلى السنة والجماعة -كما هو حال جمهور الأشاعرة الذين ينتسبون إلى السنة والجماعة- وبين طريقة السلف الأوائل، فإنه من المعلوم أن السلف الأول رحمهم الله من أئمة السنة والحديث عند سائر أجناس الطوائف أنهم ليسوا من أهل التأويل. وإن كان بعض المتكلمين قد أضاف بعض أعيان السلف إلى التأويل، لكن من حيث جملة السلف فإنه متفق عليه بين جميع الطوائف أن السلف لم يشتغلوا به كمذهب يطرد لهم. فلما كان متحققاً أن السلف ليسوا من أهل التأويل صار القول على طريقتين: الأولى: طريقة قدماء المتكلمين، وهي أن السلف مثبتة للصفات، وأن النزاع بينهم وبين مخالفيهم في إثبات الصفات أو عدمه. الثانية: طريقة كثير من متكلمة الصفاتية، بل عليها جمهورهم، وهي أن السلف لا يثبتون الصفات في نفس الأمر، وإذا قلنا: لا يثبتون الصفات .. فالمقصود: الصفات التي ينفيها من ينفيها من متكلمة الصفاتية، أما الصفات التي يثبتها متكلمة الصفاتية فإنهم يقولون: إن السلف كانوا يثبتونها. فهذا التحصيل وإن قصد به أصحابه التقريب بين طريقة السلف وطريقتهم، وفيه ميل إلى مذهب أهل السنة في الجملة إلا أنه يتضمن غلطاً على السلف في مذهبهم، وهو غلط متحقق من جهة أن السلف كانوا مثبتةً للصفات وليسوا مفوضة. [وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف. أما في كثير من الصفات فقطعاً مثل أن الله تعالى فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم -الذي لم يحك هنا عشره- عَلِم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم قد صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك]. وهذا متحقق مطرد في مذهب السلف، وهو موجود في كتب السنة المسندة موصولاً بالأسانيد إلى أعيان أئمة السنة والحديث مع اختلاف أمصارهم وأعصارهم، كلهم يصرحون بإثبات صفات الله، ويردون على المعتزلة والجهمية نفاة الصفات، وهذا التواتر لا تختص به كتب السنة والحديث كما أشار إليها المصنف، بل ذكره حتى أئمة ومتكلمة الصفاتية في بعض الصفات كصفة العلو وأمثالها، فإن ابن كلاب -مثلاً- في كتاب الصفات استدل على ثبوت هذه الصفة بدلائل مفصلة من الكتاب والسنة والعقل والفطرة.

إثبات متقدمي الأشاعرة للصفات الخبرية

إثبات متقدمي الأشاعرة للصفات الخبرية [والله يعلم أني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن من كلام السلف، ما رأيت كلام أحد منهم يدل -لا نصاً ولا ظاهراً، ولا بالقرائن- على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر]. يشير المصنف هنا إلى الصفات الخبرية؛ لأن المتأخرين من متكلمة الصفاتية ينفون الصفات الخبرية كالوجه واليدين وأمثالها، وهذا هو الذي قرره أبو المعالي الجويني في كتبه والأشاعرة من بعده، وكذلك أبو منصور الماتريدي الحنفي مع تقدمه على هؤلاء ومقارنته للأشعري في الزمان، فهؤلاء نفاة للصفات الخبرية مع أن أبا الحسن الأشعري وأبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب، وأبا بكر بن الطيب الباقلاني، وكذا ابن فورك -في المجرد - يقع في كتبهم إثبات ما هو من الصفات الخبرية كالوجه واليدين. والمتأخرون من الأشاعرة ومن يوافقهم في هذا الباب -باب الصفات الخبرية- يقولون: إن مقصود الأشعري وأمثاله بهذا الإثبات هو إجراء اللفظ على ظاهره، مع اعتقاد أن الصفة في نفس الأمر منتفية. ولهذا قال المصنف رحمه الله: والله يعلم أني بعد البحث التام، ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم ما يدل -لا نصاً ولا ظاهراً ولا بالقرائن- على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر. لأنه ليس النزاع مع المتأخرين -من متكلمة الصفاتية ومن هو على طريقتهم- في إطلاق ألفاظها أو سياقاتها القرآنية، إنما النزاع في إثبات الصفة في نفس الأمر؛ ولهذا قرر بعض متأخري الأشعرية أن الأشعري في كتبه التي ذكر فيها الوجه واليدين وأمثال ذلك أنه يطلق ألفاظها ويتوقف في تعيين المراد بها، ولكنه لا يجعل المعنى المتبادر مقصوداً فيها .. وهذا من جنس طريقة التفويض التي أضافوها إلى السلف، مع أن هذا التقرير ليس صحيحاً؛ لأن الأشعري وأئمة أصحابه كانوا ينصون على إبطال قول المعتزلة الذي ينفي هذه الصفات، ويصرحون بإثباتها تصريحاً بيناً، ولو كان الخلاف بينهم وبين المعتزلة في تعيين التأويل لما اشتغلوا بهذا التقرير، وظاهر في كتب الأشعري أنه لم يشتغل كثيراً بمسألة الفرق بينه وبين المعتزلة من حيث تعيين التأويل، لأن هذه ليست هي المسألة الأصل، بل المسألة الأصل: ثبوت الصفة أو عدم ثبوتها. إذاً: باب الصفات الخبرية هو باب مختص؛ لأن متأخري المتكلمين نفوه تبعاً لقدماء المتكلمين من المعتزلة وأمثالهم، وخالفوا طريقة سلفهم من أئمة متكلمة الصفاتية، فضلاً عن مخالفتهم لطريقة السلف. ثم لو فرض جدلاً: أن الأشعري لم يقصد تحقيق الإثبات فيها؛ فإن النتيجة: أن الأشعري قد غلط في باب الصفات الخبرية، وغلطه في هذا ليس مما يصار إليه، بمعنى: أن المعتبر في لزوم الاتباع ليس هو اختصاص الأشعري أو غيره، وإنما هو ما كان عليه جماعة السلف رحمهم الله الذين نص الأشعري في كتبه على أنه تبع لهم، وأنه قاصد لمذهبهم. وقد تواتر في كتب السنة عن أئمة السلف رحمهم الله إثبات الصفات الخبرية على ظاهرها، والقول في هذه الصفات -كالوجه واليدين وأمثالها- كالقول في بقية الصفات؛ فأي لازم يدعيه المتأخرون من متكلمة الصفاتية على مثبتة الصفات الخبرية هو نفسه اللازم الذي قرره وادعاه أئمة الجهمية في سائر الصفات -الصفات الخبرية وغيرها معها-.

لا يلزم لإثبات إجماع السلف على إثبات الصفات النقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة من الصفات

لا يلزم لإثبات إجماع السلف على إثبات الصفات النقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة من الصفات [بل الذي رأيته أن كثيراً من كلامهم يدل -إما نصاً وإما ظاهراً- على تقرير جنس هذه الصفات، ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة]. فهو لا يلتزم أن ينقل عن كل واحد من الأئمة النصوص الصريحة في إثبات كل صفة من الصفات القرآنية والنبوية؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يلتزم هذا في مسألة من المسائل، فإن الإجماع لا يعلم ويستقر -كما هو معلوم- بهذه الطريقة، ولو كان الإجماع لا ينعقد إلا إذا صرح كل إمام بعينه بذكر كل مسألة بعينها من مسائل الصفات بالاطراد لكان ممتنعاً؛ ولهذا انعقد الإجماع على مسائل مع أنها لم تنقل منصوصة عن كل إمام بعينه، فباب الصفات مثله. وهذا إنما قاله المصنف لأن بعض المعترضين من المتكلمة يقولون: أكثر هذا الباب إنما صرح به أحمد وأمثاله من أئمة الحديث، وأما فلان وفلان فليس لهم تصريح بهذا الباب. فالمصنف يقول: إنه ليس هناك إمام من أئمة السلف نقل عنه حرف واحد يدل على نفي شيء من الصفات سواء الصفات الخبرية أو الفعلية أو غيرها، بل المنقول عن جميعهم التصريح بإثبات الصفات، والطعن والرد على المعتزلة، وموافقة الجماعة؛ ولهذا لا يوجد في كتب أهل العلم المعتبرة أحد من أهل العلم حكى الخلاف بين أئمة السلف، بل حتى جماهير المتكلمين من المعتزلة والجهمية والأشعرية يقرون: أن السلف كانوا على قول واحد في هذا الباب. وإنما زعم الخلاف بعض المتأخرين ممن لا يعتبر قوله في هذا الباب كـ أبي الفتح الشهرستاني وأبي محمد بن حزم؛ فإن أبا محمد بن حزم مع سعة علمه وفقهه إلا أن قوله في باب الصفات ليس معتبراً؛ لأنه اختلط عليه هذا الباب اختلاطاً شديداً، بل كما قال شيخ الإسلام في شرح الأصفهانية: إنه قارب قول المتفلسفة، وقول كثير من المعتزلة في هذا الباب خير من قوله. فالمقصود: أنه متحقق عند جمهور الطوائف فضلاً عن أهل السنة أن السلف كان لهم قول واحد مطرد في هذا الباب. فهذا القول الواحد المطرد من المتحقق بالدلائل، وصريح كلام السلف أنه هو إثبات الصفات، وأن هذا المذهب لا يختص بـ أحمد رحمه الله أو غيره من أعيان أئمة الحديث، وإن كان بعض أئمة الحديث كـ أحمد له من الاختصاص بالرد والتقرير ما يقع مثله في سائر مسائل أصول الدين أو حتى مسائل الشريعة. [بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة; وما رأيت أحدا منهم نفاها. وإنما ينفون التشبيه، وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه؛ مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضاً.]. وهذا التصريح المتحقق في كلام السلف -أنهم ينكرون على المعطلة من الجهمية والمعتزلة، وينكرون على المشبهة- دليل على أن مذهبهم ليس هو التشبيه، ودليل على أن مذهبهم ليس هو نفي الصفات في نفس الأمر أو نفي شيء منها؛ وبهذه القاعدة -وهي: أن السلف وسط بين أهل التعطيل وأهل التشبيه- يعلم أن ما قرره كثير من متأخري المتكلمين هو من الغلط على السلف. [كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها. وكانوا إذا رأوا الرجل قد أغرق في نفي التشبيه من غير إثبات الصفات قالوا: هذا جهمي معطل. وهذا كثير جداً في كلامهم]. وهذا متواتر؛ ولهذا لم يكن كلامهم في تأويلات القوم، بل كان جمهوره يقع في نفيهم للصفات؛ فإن ذم السلف للمعتزلة والجهمية في نفيهم الصفات أظهر من ذمهم لاشتغالهم بمسألة التأويل التي هي تبع لمسألة نفي الصفات.

شرح الحموية [19]

شرح الحموية [19] تكلم أهل البدع وطعنوا في أهل السنة قديماً وحديثاً، وأطلقوا عليهم الألقاب الشنيعة، فوصفوهم بأنهم نواصب، وبأنهم مجبرة، وشكاك، ومشبهة، وحشوية ونوابت، وكل هذه الألقاب إنما أطلقوها كذباً وافتراءً وزوراً وبهتاناً؛ فإن أهل السنة هم أصحاب الحق، المتبعون للكتاب والسنة، وهم برآء مما يطعن به فيهم أهل البدع والمحدثات.

إطلاق أهل البدع الألقاب الشنيعة على أهل السنة

إطلاق أهل البدع الألقاب الشنيعة على أهل السنة قال المصنف رحمه الله: [فإن الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئاً من الصفات مشبهاً -كذباً منهم وافتراءً- حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك، حتى قال ثمامة بن الأشرس -من رؤساء الجهمية-: ثلاثة من الأنبياء مشبهة: موسى حيث قال: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} [الأعراف:155] وعيسى حيث قال: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة:116] ومحمد صلى الله عليه وسلم حيث قال: (ينزل ربنا)]. ثمامة بن الأشرس النميري من علماء المعتزلة وأعيانهم المعروفين، كان من أصحاب أبي الهذيل العلاف، وقول المصنف هنا: من رؤساء الجهمية أي: باعتبار نفيه للصفات، فقد كان السلف رحمهم الله يسمون كل معطل للصفات جهمياً، وإن كان مذهبه في كثير من الأصول كالقدر والإيمان وأمثالها يفارق مذهب جهم بن صفوان من حيث الحقيقة العلمية. [وحتى إن جل المعتزلة تدخل عامة الأئمة: مثل مالك وأصحابه، والثوري وأصحابه، والأوزاعي وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وإسحاق بن راهويه، وأبي عبيد وغيرهم في قسم المشبهة. وقد صنف أبو إسحاق إبراهيم بن عثمان بن درباس الشافعي جزءاً سماه تنزيه أئمة الشريعة عن الألقاب الشنيعة ذكر فيه كلام السلف وغيرهم في معاني هذا الباب، وذكر أن أهل البدع كل صنف منهم يُلقِّب أهل السنة بلقب افتراه -يزعم أنه صحيح على رأيه الفاسد- كما أن المشركين كانوا يلقبون النبي صلى الله عليه وسلم بألقاب افتروها].

تسمية الروافض لأهل السنة نواصب

تسمية الروافض لأهل السنة نواصب [فالروافض تسميهم نواصب]. تسميهم نواصب أي: قد نصبوا العداء لآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

تسمية القدرية لأهل السنة مجبرة

تسمية القدرية لأهل السنة مجبرة [والقدرية يسمونهم مجبرة]. يسمونهم مُجْبِرة باعتبار قول أهل السنة في أفعال العباد، وقد كانت القدرية تقول: إن الله لم يخلق أفعال العباد -وهذا متفق عليه بين القدرية من المعتزلة وغيرهم- ثم تنازعوا أيقال: إن العبد يخلق فعله أم يسكت في هذه المسألة؟ وهذا في الحقيقة نزاع لفظي بين القوم، لأن الحقيقة العلمية للفريقين واحدة، وهي أن العبد يخلق فعل نفسه، لكن بعض أئمة المعتزلة تلكأ عن إطلاق هذا الحرف. وقد ذكر الأشعري في مقالاته الخلاف بينهم، وذكر القاضي عبد الجبار بن أحمد في كتبه الخلاف بين أصحابه في هذا. فصاروا يسمون السلف الذين أثبتوا أن الله هو الخالق لأفعال العباد جبريةً، وهذا فرع عن كون المخالفين للسلف في باب القدر قد ضلوا من جهة أنهم ظنوا أن الحق في هذا الباب لا يصح إلا في فرضين فقط: إما أن يكون العبد هو الخالق لفعله، وإما أن يكون مجبوراً على فعله .. فهذا الظن في مسألة القدر هو الذي أوجب أن يقع الجمهور من أهل الكلام وأمثالهم في أحد هذين القولين، فترى أن المعتزلة قدرية في هذا الباب، ووافقهم على ذلك جمهور الشيعة الإمامية بعد المائة الثالثة. وترى أن الجهم بن صفوان ومن تبعه على هذا القول، ومن تقلد هذا القول بنوع تخفيف كما وقع فيه الأشعري في آخر أمره، فإن الأشعري لما ترك المعتزلة، وأعلن توبته من الاعتزال كان قول المعتزلة من حيث القواعد العقلية متحققاً في نفس أبي الحسن، ولكنه رجع عن هذا القول من حيث الصورة العلمية التامة؛ بمعنى: أن القول الذي كان عليه أيام اعتزاله: أن الله لم يخلق أفعال العباد -كما تقوله المعتزلة- وأن العبد هو الخالق لفعله. فلما رجع عن اعتزاله رجع عن هذا القول، لكن كانت الحقيقة العلمية -التي انبنى عليها هذا القول عند أبي الحسن - ثابتةً لم تتزلزل. وهذه الحقيقة تنبني على القول في مسألة الإرادة، وهي تنبني على مسألة -أصلها نظرية فلسفية- صدور الأثر عن مؤثرين، فإن جمهور هؤلاء -جبريةً كانوا أو قدرية- نقلوا المقالة الفلسفية المشهورة: أن الأثر الواحد لا يصدر عن مؤثرين. ومن هنا قال جبريتهم: إن الأثر من جهة الله، وأن العبد مجبور. وقال قدريتهم: إن الأثر من جهة العبد. وإذا كان الأثر من جهة العبد لم يكن الله قد شاء أفعال العباد وأرادها .. ! وبهذا يتبين أن غلط الطوائف في مسألة القدر ليس غلطاً من جهة النصوص، وهذه القضية ينبغي أن تؤكد، ولربما ينبغي أن تشاع في أوقاتها المناسبة حتى مع غير طلبة العلم المتخصصين، وهي أن الطوائف المنحرفة عن مذهب السلف -عن مذهب أهل السنة والجماعة- لم يكن موجب انحرافهم وخطأهم الذي وقعوا فيه: أنه اشتبهت عليهم دلالات من النصوص ففهموها فهماً -أي: من نصوص القرآن والسنة- وفهمها السلف فهماً آخر، فإن هذا تقرير ينبني على الجهل بحقيقة هذه المذاهب. أي: أن هناك فرقاً بين الخلاف الفقهي، كاختلاف مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد والزهري والثوري .. إلخ، والذي يقع فرعاً عن النظر في دلائل الشريعة؛ ولهذا لا ينكر على أحد من المسلمين اتخذ مذهباً من المذاهب الأربعة أو غيرها وقلده لكونه ليس من أهل الاجتهاد، وليس من أهل إمكان النظر كعوام المسلمين الذين يقلدون الشافعي لكونهم من أهل الأمية العلمية، حيث لا يستطيعون النظر في الأدلة وتحصيل المسائل، أو من يقلد من أهل الإسلام أبا حنيفة رحمه الله، أو أحمد بن حنبل .. إلخ، وإن كان طالب العلم الذي لديه قدر من النظر والإمكان ينبغي له أن يلاحظ الراجح من الأقوال، سواء كان الراجح قولاً للشافعية أو قولاً الحنفية أو قولاً المالكية .. إلخ. وإنما صح اعتبار كل مذهب في الجملة، وإن كان بعض الأقوال يعلم أنها مخالفة للنصوص، وذلك بسبب عدم ثبوت الدليل عليها عند إمام ما، كأن يكون أبو حنيفة لم يثبت عنده دليل في مسألة ما، وثبت هذا الدليل عند مالك .. وهلم جرا في أسباب خلاف الفقهاء. لكن في مسائل أصول الدين: فإن دلائلها الشرعية متواترة يمتنع عليها الخلاف، ويمتنع فيها الخلاف. ففي مسألة الصفات -مثلاً- الدلائل الشرعية متواترة على إثبات الصفات، وليس في شيء من النصوص ذكر لمبدأ التشبيه الذي اتخذه هشام بن الحكم وأمثاله، ولا لمبدأ النفي والتعطيل الذي اتخذه من اتخذه من المعتزلة والأشعرية وكذلك في مسألة القدر الدلائل الشرعية صريحة في أن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة، بل إن الضرورة الحسية القاطعة تقود إلى أن العبد ليس مجبوراً، فإن كل من فعل فعلاً يرى من نفسه القدرة على هذا الفعل والقدرة على تركه؛ ولهذا من حكمة الشريعة: أنه إذا لم يصل الأمر إلى حد الجبر لكن تخلف تمام القدرة البشرية سقط التكليف؛ ولهذا لم يكلف الصبي في دين الإسلام إلا إذا بلغ، مع أنه قبل البلوغ لديه قدرة أن يصلي أو لا يصلي، ومع ذلك إن صلى قبل بلوغه فهذا من أدب الإسلام الذي يؤمر به، ويضرب عليه لعشر كما جاء في حديث عمرو بن شعيب، لكن لا يمكن أن يقال: إن الصبي إن ترك الصلاة قبل بلوغه يكون آثماً، ولهذا إذا مات الصبي قبل البلوغ فهو من أهل الجنة؛ لأنه اتفق أهل السنة على أن صبيان المسلمين في الجنة. إذاً: الشريعة لم تكلف الصبي إلا بعد بلوغه؛ لنقص تمام القدرة والإرادة والانضباط فيها عندهم. كذلك النائم رفع عنه التكليف، وفي حديث عمران: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب). إذاً: التكليف في الشريعة مرتبط بثبوت القدرة على وجه صحيح، لا يدخله النقص والكلفة التي تؤثر في إمكان العمل، أو يكون فيه مشقة متناهية في تحقيقه؛ مما يدل على أن مسألة الجبر مسألة ممتنعة، أي: أنه من الممتنع أن يكون الله قد جبر العباد على أفعالهم ويعاقبهم على معاصيهم؛ لأن هذا ليس من عدل الله، والعبد بالحس والفطرة يدرك أنه مختار، وأنه يستطيع أن يفعل هذا ويستطيع أن يترك هذا .. وهلم جرا سواء، كان الفعل خيراً أو شراً. فمذهب الجبر: مذهب يعلم بطلانه بالضرورة الحسية والعقلية والفطرية، فضلاً عن الحكم الشرعي. كذلك المذهب القدري -الذي يقول: إن العبد هو الخالق لأفعاله- مذهب يدل على فساده العقل والفطرة والشريعة، من جهة أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق للعبد، وهو الخالق لإرادة العبد ولقدرته، فإذا كان هو الخالق سبحانه وتعالى للعبد وما فيه من القوى التي يتحصل بها الفعل؛ فمن تمام ذلك أن يقال: إنه هو الخالق لأفعال العباد. وكونه سبحانه هو الخالق لأفعال العباد، وأنها بمشيئته وإرادته لا يعني القول بأن العبد ليس فاعلاً حقيقة، بل العبد فاعل على الحقيقة، ولا تعارض بين المقامين لا في العقل ولا في الشرع. إذاً: مخالفة هذين المذهبين -المذهب القدري والمذهب الجبري- ليست فرعاً عن إشكال من النصوص، بل لقد جاءت تحت بعض القواعد الفلسفية التي دخلت على المسلمين أيام الترجمة، كقاعدة: إن الأثر الواحد لا يصدر عن مؤثرين، أي: إما أن يكون الأثر من الله أو من العبد .. وعن هذه الشبهة الفلسفية التي دخلت على الجهمية والجبرية ومن بعدهم من الأشاعرة، ودخلت على المعتزلة والقدرية المتكلمة، رجح هؤلاء أثر العبد، ورجح هؤلاء الأثر من جهة الخالق. أما قول أهل السنة والجماعة فليس هذا القول ولا هذا القول، بل هو على قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى، فقد وصف الله العباد بالإرادة، ووصفهم بالمشيئة: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [آل عمران:152] فأثبت لهم إرادةً ومشيئةً، ووصف سبحانه أن إرادتهم ومشيئتهم تابعة لمشيئته وقضائه وقدره. فالمقصود: أن هذه المذاهب المخالفة للسلف في أصول الدين إنما يفرق القول فيها عن القول في الخلاف الفقهي؛ لأن الخلاف الفقهي كالخلاف بين الحنابلة والمالكية والحنفية .. إلخ نشأ عن نظر في دلائل الشريعة، بخلاف الخلاف في أصول الدين كالصفات والقدر؛ فإن المخالف للسلف وأهل السنة ليس خلافه معتبراً بالنصوص، وإنما معتبر ببعض القواعد التي زعموها قواعد عقلية، وهي قواعد ملخصة من الفلسفة: كدليل الأعراض، والتركيب، والتخصيص في مسائل الصفات، وكدليل التأثير في مسائل القدر .. وهلم جرا؛ وقد حظيت نظرية التأثير بدراسة مستفيضة في كتب المعتزلة والأشاعرة؛ لأنها هي المحك عندهم في هذا الباب.

تسمية المرجئة لأهل السنة شكاكا

تسمية المرجئة لأهل السنة شكاكاً [والمرجئة تسميهم شكاكاً]. تسميهم شكاكاً؛ لأن جمهور السلف جوزوا الاستثناء في الإيمان، فتقول: فلان مؤمن إن شاء الله، أو تقول: أنت مؤمن إن شاء الله .. وهلم جرا، وكان المرجئة يمنعونه ويرونه شكاً. وموجب هذا: أن المرجئة يرون أن الإيمان واحد لا يزيد ولا ينقص، ومن هنا امتنع الشك فيه .. وهذا صحيح إن كانت المقدمة صحيحة، ومن هنا امتنع الاستثناء فيه .. وهذا ليس بصحيح. أما امتناع الشك فإن الشيء الواحد لا يجوز أن يتردد فيه، ولكنه من حيث المقدمة خطأ، فإن قول المرجئة: بأن الإيمان واحد. غلط؛ فإن الإيمان وهو مركب من قول وعمل واعتقاد، وهو يزيد وينقص كما تواترت بذلك النصوص واتفق عليه السلف، على صريح القرآن في آيات كثيرة كقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] وكقوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76] إلى غير ذلك، فالتصريح بزيادة الإيمان جاء في آيات كثيرة في القرآن. ثم لو فرض جدلاً أن الإيمان واحد فهل الاستثناء فيه هو الشك؟ الجواب: لا؛ لأنه يجوز حتى في الأمور المقطوع بها ذكر مشيئة الله -أي: تعليقها بمشيئة الله- كقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح:27] فقوله: إن شاء الله مع أن هذا الوعد متحقق الوقوع. والسلف رحمهم الله يستثنون في الإيمان لغرضين: الأول: من جهة أن الإيمان قول وعمل واعتقاد، والإيمان المطلق هو الإتيان بالواجبات والانتهاء عن المعاصي، فهذا الإيمان المطلق الذي هو امتثال الأمر والانتهاء عن النهي لا يجزم به أحد لنفسه؛ ومن هنا صار الاستثناء مناسباً في هذا المقام. الثاني: أن الخاتمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى. فلهذين الغرضين صار الاستثناء مناسباً. والأشعري وكثير من أصحابه يستثنون في الإيمان على طريقة ابن كلاب، لكنهم وإن وافقوا السلف في الاستثناء إلا أن تعليل الاستثناء عند ابن كلاب والأشعري ليس هو التعليل الذي كان عليه السلف، فإن ابن كلاب والأشعري يستثنون في الإيمان باعتبار الموافاة، والموافاة ليست هي مسألة ختم الأعمال التي كان بعض السلف يقصدها باستثنائه. فإن ختم الأعمال من جهة أن العبد لا يدري بما يختم له، أما مسألة الموافاة -وهي من مقالات عبد الله بن سعيد بن كلاب، وأخذها عنه الأشعري - فمقصودهم بها: أن إيمان العبد الصحيح هو الذي يوافي به الله، أي: إن كان في قدر الله وعلمه أنه يموت كافراً فإن إيمانه الأول ليس إيماناً صحيحاً، وإن كان في علم الله أنه يموت مؤمناً فكفره الأول ليس كفراً، فالكفر هو ما وافى العبد به ربه، والإيمان هو ما وافى العبد به ربه. وهذا التفسير للكفر والإيمان لا شك أنه مخالف للسلف؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: وما علمت أحداً من السلف علل الاستثناء في الإيمان بمثل ما ذكره عبد الله بن سعيد وتبعه عليه الأشعري ومن وافقه من أصحابه.

تسمية الجهمية لأهل السنة مشبهة

تسمية الجهمية لأهل السنة مشبهة [والجهمية تسميهم مشبهة]. والجهمية تسميهم مشبهة لأن الجهمية نفاة للصفات، وأهل السنة مثبتة للصفات، والجهمية هم أتباع جهم بن صفوان الترمذي المقتول، والذي كان من أئمة الكلام، وهو الذي أظهر مقالة التعطيل.

تسمية أهل الكلام لأهل السنة حشوية ونوابت ..

تسمية أهل الكلام لأهل السنة حشوية ونوابت .. [وأهل الكلام يسمونهم حشوية ونوابت وغثاء وغثرا إلى أمثال ذلك، كما كانت قريش تسمي النبي صلى الله عليه وسلم تارة مجنوناً، وتارةً شاعراً، وتارةً كاهناً، وتارةً مفترياً.]. هذا ليس حكماً في سائر أهل الكلام، وإنما هو قول غلاة المتكلمين، وإلا فمن المتكلمة من لا يسمي أهل السنة كذلك، كفضلاء متكلمة الأشعرية كـ أبي الحسن وفضلاء أصحابه. فالمقصود بأهل الكلام هنا: أي غلاتهم، كمتكلمة الجهمية، والمعتزلة، وغلاة متكلمة الماتريدية، وغلاة متكلمة الأشعرية. وأهل الكلام: ليسوا طائفة مختصة كما أن المعتزلة مدرسة مختصة، والأشاعرة مدرسة مختصة. بل هي إضافة إلى هذا العلم -علم الكلام-. وهم أصناف في الناس: فمنهم الجهمي، ومنهم المعتزلي، ومنهم الماتريدي .. إلخ. وهذا العلم علم مولد في المسلمين، بمعنى أنه لم يعرف قبل الإسلام كالفلسفة، ومن هنا صار ابن سينا وأمثاله لا يعدون في المتكلمين، بل يعدون في المتفلسفة؛ لأنهم نقلة للفلسفة ولم يشتغلوا بالرد عليها. أما المتكلمون فإنهم في الجملة ممن رد على المتفلسفة من الإسلاميين -أو من انتسب للإسلام- أو من قبلهم، فمن أغراض المتكلمين التي قصدوها في علمهم هذا: الرد على كثير من مقالات الفلاسفة كالقول بقدم العالم وغيره؛ ولهذا صنف كثير من المتكلمة في هذا، فكان لـ واصل بن عطاء بعض التصانيف في هذا، ولـ أبي الهذيل العلاف، وإبراهيم بن سيار النظام، ولـ أبي علي الجبائي .. وأمثال هؤلاء من أئمة المعتزلة تصانيف في هذا الباب، وكذلك أئمة الأشعرية صنفوا في الرد على المتفلسفة، كالمصارعة للشهرستاني، وتهافت الفلاسفة لـ أبي حامد الغزالي، وكذلك تصنيف القاضي أبي بكر بن الطيب .. وأمثالهم في هذا الباب. ولربما صح أن يقال: إن ردهم في الجملة مما يحمدون عليه من جهة أنهم قصدوا إبطال الكفر المحض، وإن كان كثير من ردهم قاصراً عن التحقيق، بل إنهم في كثير من ردهم التزموا كثيراً من التعطيل لمسائل الصفات وغيرها بسبب ما ادعوه من الرد؛ ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله: وهم يحمدون في الجملة فيما قصدوا إبطاله من مقالات الفلاسفة الكفرية المناقضة لدين المسلمين كالقول بقدم العالم ونحوه، قال: وإن كان يقع في ردهم ما هو من التقصير والقصور، بل والتزام بعض الحقائق المناقضة لما علم مجيء الرسل به ضرورة، كالقول في إثبات صفات الرب وأمثال ذلك .. فهذا مما يعتدل القدر فيه في هؤلاء المتكلمين. وينبه إلى أن هذا العلم المشهور في تعريفه -كما هو في كتب المتكلمين أنفسهم، أو فيمن صنف في المعارف وحال التاريخ كـ ابن خلدون في مقدمته- أنه الاستدلال على العقائد الإيمانية بالدلائل العقلية، بل إن ابن خلدون وهم وهماً أشد من هذا، حيث قال: إن علم الكلام هو علم يقصد به الاستدلال على عقائد أهل السنة بالدلائل العقلية .. وهذا كحقيقة علمية مجردة غلط أساسي عند ابن خلدون؛ لأن المؤسس لهذا العلم لم ينتسب أصلاً للسنة والجماعة، وهم علماء الجهمية والمعتزلة، والأشاعرة تبع لهم، سواء من حيث الحقيقة العلمية أو من حيث التاريخ، فإن إمام الأشعرية -وهو أبو الحسن الأشعري - متأخر عن جمهور متكلمة المعتزلة والجهمية. فهذا العلم أصلاً لم ينشأ في قوم ينتسبون للسنة، فضلاً عن كونهم يحققونها ويصيبونها. وهو علم -أعني: علم الكلام- مذموم عند أئمة السلف، وهذا متواتر عنهم، والذي ذمه ليس هم علماء الحديث فقط، بل ذمه غيرهم من أئمة الفقهاء كذلك، حتى إن كل إمام من الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد - نقل عنهم أحرف كثيرة في ذم هذا العلم، بل حتى عن أصحابهم كـ محمد بن الحسن وأبي يوسف واللذان هما أخص أصحاب أبي حنيفة. ولهذا: تأول المتكلمون الذين انتسبوا لهؤلاء الأئمة في الفقه هذا الذم لما عرفوه، كما هو واضح في كلام أبي حامد الغزالي، حيث قال: وأما ما جاء عن الشافعي -وهو لابد أن يلاحظ كلام الشافعي، أي: لا يتجاوزه، بحكم أنه ينتسب إليه، فهو شافعي في الفقه وأصوله، بل إنه يزعم أن طريقته في أصول الدين لا تناقض طريقة الشافعي - من ذم علم الكلام فإنما لما فيه إذ ذاك من الألفاظ المجملة الحادثة كلفظ الجوهر والعرض وأمثالها، وكان هذا مناسباً لما هم عليه من ظهور السنة. أما في من بعدهم فلما اختلط الحق مع كثير من مقالات المناقضين لدين الإسلام أوجب أن يكون هذا العلم مما يقصد إلى بيانه وضبط الاعتقاد به، وإن كان فيه مفسدة استعمال الألفاظ الحادثة المبتدعة كلفظ الجوهر والعرض. ثم ذكر الغزالي مثالاً يستدل به على تحصيله، فقال: كما إن لبس ثياب الكفار منهي عنها، وهي من التشبه المنهي عنه في الشريعة. لكن إذا صال الكفار على مصر من أمصار المسلمين، ولم يكن دفع شوكتهم إلا بالغدر بهم بلبس ثيابهم -حتى يستطيع بعض العين من المسلمين أن يدخل في صفهم أو يعرف أخبارهم- فلبس ثيابهم هنا هو مصلحة شرعية يقصد إليها من قبل الشارع. هذا التقرير من أبي حامد لو صح مبناه لكان دقيقاً وصحيحاً علمياً، لكن مبناه على أن السلف -كـ الشافعي وغيره- إنما ذموا علم الكلام لما فيه من الألفاظ الحادثة فقط، وهذا خطأ، فإن السلف ذموا هذا العلم لما اشتمل عليه من المعاني الباطلة، وإن كان هذا الذم متضمناً ذم الألفاظ، ولهذا قال شيخ الإسلام في درء التعارض: وذم السلف لعلم الكلام إنما كان لما اشتمل عليه من المعاني الفاسدة، وإن كان يدخل في هذا الذم ما فيه من الألفاظ الحادثة. وقال في موضع آخر: وذم السلف لعلم الكلام لما فيه من المعاني أعظم من ذمهم لما فيه من حدوث الألفاظ. إذاً: ذم السلف هذا العلم الكلامي لغرضين: الأول: لما اشتمل عليه من المعاني الباطلة. الثاني: لما فيه من الألفاظ المبتدعة. ومن هنا كان جواب الغزالي عن أحد الغرضين فقط، وهو غرض الألفاظ، أما غرض المعاني فإن الغزالي لم يستطع الجواب عنه ولا يستطيع أن يجيب عنه؛ لأن قضية المعاني قضية لزومية لا يمكن الانفكاك عنها ولا التعليل بخلافها. وإنما قرر شيخ الإسلام رحمه الله أن السلف ذموا علم الكلام لما اشتمل عليه من المعاني الباطلة؛ لأنك ترى هذا حقيقةً، فإنه لو لم يكن في هذا العلم إشكال إلا من جهة الألفاظ لما تضمن حقائق علمية تعارض الحقائق القرآنية، ولكانت النتيجة العقلية أن يتضمن أحرفاً وألفاظاً ليست هي الألفاظ الشرعية القرآنية النبوية فقط، لكن هذا العلم أوجب نفي الصفات، والقرآن -كما قرره أئمة السنة والجماعة- جاء بإثبات الصفات، بل كما نص عليه أئمة الكلام أنفسهم من المعتزلة وغيرهم لما قالوا: تعارض العقل والنقل .. فإنهم قصدوا بالعقل الدلائل الكلامية. وبهذا يتبين أن هذا العلم معارض لما جاء في الكتاب والسنة، حتى بشهادة أصحابه الذين قرروا قانون التعارض بين العقل والنقل، وكان جواب علماء السنة: أن العقل ليس معارضاً للنقل؛ وهذه قاعدة مطردة: أنه ليس هناك حكم شرعي في أي رسالة نبوية -وبخاصة في أكمل الشرائع وهي الشريعة المحمدية- يعارض شيئاً من الحقائق أو القوانين العقلية، ومن ظن التعارض فقد وقع له وهم يناسب عقله المعين، ولهذا لا يمكن أن يتفق العقلاء في أمة من الأمم أو طائفة من الطوائف على دلائل عقلية -زعموها- معارضة لأخبار أو تشريعات نبوية. وترى أن الكفار الذين كفروا بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منتهى حالهم يقولون: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] فقولهم: لو كنا نسمع أي: الحكم الشرعي أو النبوة الشرعية والاستجابة للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعوهم إلى التوحيد والإيمان، أو نعقل أي: لو استعملنا حتى العقول لانقدنا إليه؛ ولهذا قال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179] فقدم العقل على السمع والبصر، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46]. فترى دائماً أنه في القرآن عند ذكر المعتبرات في التحصيل يقدم العقل على غيره من الحواس؛ لأنه أقوى القوى الإدراكية وأنظمها، ولهذا تميز به الإنسان عن بقية الحيوان، فإن البهائم تسمع وتبصر لكنها لا تعقل، وهذه تقرر ولا سيما في هذا العصر كثيراً؛ لكثرة من يتكلم بدعوى أن العقل يعارض النقل، التعارض بين الإسلام في كذا والقضية العقلية .. ليس هناك أي مسألة خبرية أو تشريعية يتعارض فيها الخبر الشرعي مع العقل أو الحكم الشرعي مع العقل، إلا أن يكون هذا الشيء الذي قيل إنه شرعي؛ ليس شرعياً في الحقيقة، كأن يكون حديثاً موضوعاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فيظن من يظن أنه حديث وهو يعارض قوانين عقلية منضبطة. أما ما علم أنه شرعي من جهة ثبوته ودلالته فإنه لا يمكن أن يعارض شيئاً مما انضبط في العقل، بل يكون العقل هنا وهماً وليس عقلاً صحيحاً.

الكلام عن القتال الذي وقع بين الصحابة

الكلام عن القتال الذي وقع بين الصحابة [قالوا: فهذه علامة الإرث الصحيح والمتابعة التامة، فإن السنة هي ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، اعتقاداً واقتصاداً وقولاً وعملاً؛ فكما أن المنحرفين عنه يسمونهم بأسماء مذمومة مكذوبة -وإن اعتقدوا صدقها بناءً على عقيدتهم الفاسدة- فكذلك التابعون له على بصيرة الذين هم أولى الناس به في المحيا والممات باطناً وظاهراً. وأما الذين وافقوه ببواطنهم وعجزوا عن إقامة الظواهر، والذين وافقوه بظواهرهم وعجزوا عن تحقيق البواطن، والذين وافقوه ظاهراً وباطناً بحسب الإمكان، فلابد للمنحرفين عن سنته أن يعتقدوا فيهم نقصاً يذمونهم به، ويسمونهم بأسماء مكذوبة -وإن اعتقدوا صدقها- كقول الرافضي: من لم يبغض أبا بكر وعمر فقد أبغض علياً؛ لأنه لا ولاية لـ علي إلا بالبراءة منهما. ثم يجعل من أحب أبا بكر وعمر ناصبياً بناءً على هذه الملازمة الباطلة التي اعتقدها صحيحة أو عاند فيها وهو الغالب]. أي: أن تحصيل إضافة أهل السنة إلى النصب هو من هذا الوجه: أنه من لم يبغض أبا بكر وعمر فإنه لم يوال علياً رضي الله عنهم .. وهذا التلازم ليس صحيحاً، فإن الموالاة ليس من شرطها بغض أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وننبه هنا إلى أن ما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم في مسألة القتال، ينبغي أن يؤخذ كما أخذه السلف رحمهم الله، وهو أن الصحابة في اقتتالهم في مسألة الجمل وصفين -وفي صفين على الوجه الخصوص لظهور الفتنة فيه أكثر- كانوا مجتهدين، وقد ثبت في الصحيحين من حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر) وباتفاق أهل السنة أن علياً رضي الله عنه كان أولى بالحق من غيره، وأنه خليفة من الخلفاء الراشدين، وأن خلافته خلافة شرعية. ولكن من عارضه من الصحابة -كـ معاوية وغيره- كانوا مجتهدين أيضاً، واجتهاد هؤلاء لا يقدح في خلافة علي رضي الله عنه، كما أن فاطمة رضي الله عنها عندما حصل لها تخلف عن بيعة أبي بكر لم يشكل ذلك على صحة خلافة أبي بكر رضي الله عنه .. وهلم جرا. والواجب: الكف عن الطعن في مقاصدهم، بل يحسن الظن بسائر الصحابة لأنهم عدول خيار، بل هم خير هذه الأمة وأفضلها بعد نبيها، وإذا دخل الطعن فيهم دخل الطعن في دين الإسلام ضرورة؛ لأنهم هم الذين رووا الشريعة، وهم الذين حدثوا بأحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولهذا كان من أصول أهل السنة والجماعة كما يذكر المصنف في الرسالة الواسطية: ومن أصولهم سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومسألة الترجيح بينهم ليست هي مسألة الطعن، ولهذا كان السلف يقولون بما دلت عليه الدلائل من أن علياً رضي الله عنه أولى بالحق من غيره. ثم إنه مما يعلم: أن القتال الذي وقع بين الصحابة في صفين جمهور العسكرين -عسكر الشاميين والعسكر الذي كان مع علي - ليسوا من الصحابة، بل كما قال ابن سيرين بإسناد يقول شيخ الإسلام عنه: إنه من أصح الأسانيد على وجه الأرض: أنه لم يدخل في القتال في يوم صفين إلا بضع وثلاثين صحابياً. فكان جمهور العسكرين من مسلمة الفتوح العمرية من أهل العراق وغيره. وهذا الذي يقرر هنا ينبغي أن يضبط بكلام أهل السنة، ولا يلتفت إلى كثير مما ذكره الإخباريون وأهل التاريخ في كتبهم، وإن كان منهم من عرف بالعلم كـ ابن جرير الطبري مثلاً، فإنه في تاريخه لم يلتزم أن لا يذكر إلا ما صح، بل ذكر ذكراً مطلقاً ولم يلتزم صحة ما ذكره في سائر كتابه.

وجوب العدل في نقل المقالات وأخذهم بالشريعة لا بحظ النفس

وجوب العدل في نقل المقالات وأخذهم بالشريعة لا بحظ النفس [وكقول القدري: من اعتقد أن الله أراد الكائنات، وخلق أفعال العباد فقد سلب من العباد الاختيار والقدرة، وجعلهم مجبورين كالجمادات التي لا إرادة لها ولا قدرة. وكقول الجهمي: من قال إن الله فوق العرش فقد زعم أنه محصور، وأنه جسم مركب محدود، وأنه مشابه لخلقه]. هذه كلها ليست لزومات عقلية، بل لزومات حسية، ولهذا قال أهل السنة: إن كل معطل ممثل. فهذه اللزومات لزومات على ما يعرفونه من حال المخلوقين، والله منزه عن حال المخلوقين. [وكقول الجهمية المعتزلة: من قال إن الله علماً وقدرةً فقد زعم أنه جسم مركب]. هذا مبني على التشبيه، وإلا من عرف الله حق معرفته، وعرف أن الله ليس كمثله شيء لم يلزم عنده في إثبات صفات الباري سبحانه هذه اللوزام التي هي لوازم لما عرفه من المحدثات المخلوقات. [وأنه مشبَّه؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بجوهر متحيز، وكل متحيز جسم مركب أو جوهر فرد]. هذا هو دليل الأعراض المشهور عند المعتزلة. والجوهر الفرد هو الجزء من المادة الذي لا يقبل الانقسام. [ومن قال ذلك فهو مشبه لأن الأجسام متماثلة. ومن حكى عن الناس المقالات وسماهم بهذه الأسماء المكذوبة -بناءً على عقيدته التي هم مخالفون له فيها- فهو وربه والله من ورائه بالمرصاد، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله]. قوله: ومن حكى عن الناس. أي: أن من يحكي المقالات في هذا المقام فإنه لابد له من العدل؛ لأن ذكر العقيدة هنا أياً كان معتقدها هو من باب الشهادة، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] وقد جاء في حديث بريدة في السنن: (القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة) قال شيخ الإسلام رحمه الله: فإذا كان هذا يقع في من يقضي بين الناس في أموالهم ودمائهم، فهو من باب أولى يقع في من يقضي بين الناس في مقاصدهم وعقائدهم التي يدينون الله بها. ولهذا يجب على طالب العلم أن يعتدل في ذكر أقوال الناس، حتى لو كان القائل من أهل البدع، فإنه لا يزاد في قوله، بل يذكر قوله كما ذكره هو، ولا يفترى على أحد من خلق الله ولو كان من أهل البدع المخالفين لأهل السنة والجماعة. ولهذا لم يكن من طريقة أهل السنة والجماعة أنهم يؤاخذون غيرهم بالمثل في مسائل الأحكام التي هي من أحكام الجور كما هي طريقة بعض المتكلمين الذين لما ذكروا مسألة التكفير قالوا -كما ذكره بعض الأشاعرة-: نكفر من كفرنا، أما من لم يكفرنا فلا نكفره فإن هذا ليس من باب العدل. وترى أن الصحابة رضي الله عنهم قد كفرتهم الخوارج كما في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومع ذلك لم يذهب الصحابة إلى تكفير الخوارج من باب المقابلة. فهذا الباب لا يؤخذ بحظ النفس وإنما يؤخذ بالشريعة. ولا يجوز أن يضاف إلى أحد من عباد الله ما هو من الأقوال المخالفة لصريح الكتاب والسنة، إلا إذا علم أنه يقول بهذا القول، وأما أخذُ الناس بالظن فهو كما قال الله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] فهذا من الإثم الذي لا يجوز أن يعتبر في هذا المقام. وليس من شرط الإنسان -أقصد: أنه ليس من شرط إيمانه وديانته وصحة مذهبه- أنه يعرف تفاصيل عقائد أعيان الخلق، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم -وهو إمام هذا الدين، وسيد المرسلين- يقول الله تعالى له: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] وكذلك الصحابة رضي الله عنهم، فقد كان المنافقون الذين قال الله فيهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ} [النساء:145] ومع ذلك لم يكن جميع الصحابة يعرفون المنافقين بأعيانهم، وهذا معروف في السنة؛ حيث خص النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة رضي الله عنه بأسماء المنافقين. والمقصد من هذا: أن طالب العلم لا ينبغي له أن يكون من مقاصده الأساسية أن يتتبع فلاناً وفلاناً ماذا يقول وماذا يعتقد، وماذا يقصد وماذا يريد، بل يأخذ الناس بظاهرهم، كما قال عمر رضي الله عنه كما ثبت عنه في صحيح البخاري: إنه لما كان رسول الله كان الوحي ينزل، وأما اليوم فقد انقطع الوحي، وإنَّا آخذوكم بظاهركم. فهكذا ينبغي لطالب العلم ألا يتقحم ما ليس له به علم. وبالمقابل: هذا لا يعني أن طالب العلم يعرض عن البدعة أو عن أهلها، فلا يقع له بيان أو رد أو تحذير، فإن هذا مقام آخر، لكن العدل واجب في هذا المقام، وطالب العلم أخص مقاصده أن يشتغل بتحصيل العلم الشرعي من حفظ كلام الله وكلام رسوله والتفقه فيهما، والاشتغال بعباداته الشرعية التي شرعها الله ورسوله .. هذا هو أخص مقصد لطالب العلم ينبغي أن يلازمه في نفسه وأن يربي عليه غيره. وأما أن يكون العلم غرضاً للتتبعات فهذا ليس من المقاصد الفاضلة.

شرح الحموية [20]

شرح الحموية [20] انقسم الناس في نصوص الصفات إلى ستة أقسام: قسم يجريها على ظاهرها اللائق بالله تعالى، وقسم يجريها على ظاهرها ويجعل هذا الظاهر من جنس صفات المخلوقين، وقسم ينفون الظاهر ويتأولونها ويعينون المراد، وقسم ينفون الظاهر ويقولون: إن الله أعلم بما أراد بها، وقسم يتوقفون ويقولون: يجوز أن يكون ظاهرها هو المراد اللائق بالله، ويجوز أن لا يكون هو المراد، وقسم يتوقفون عن ذلك كله، والصواب في ذلك: هو إثبات ما أثبتته النصوص لله تعالى من الصفات على الوجه اللائق به سبحانه.

أقسام الناس في نصوص الصفات

أقسام الناس في نصوص الصفات قال المصنف رحمه الله: [وجماع الأمر: أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، كل قسم عليه طائفة من أهل القبلة]. المصنف في ختم رسالته قصد بعد ذكره لبعض القواعد والمقاصد في هذه الرسالة إلى ختم هذه الرسالة بأقسام أهل القبلة في نصوص الصفات، فذكر أن القائلين في هذا الباب لا يخرجون عن ستة أقسام، وهذه الأقسام منها ما يكون مختصاً ببعض الطوائف، ومنها ما يكون قولاً يقع ذكره عند بعض الطوائف، وقد يقع ذكر غيره أو تجويز غيره، فقوله هنا: وجماع الأمر أن الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها ستة أقسام، وأن كل قسم منها عليه طائفة من أهل القبلة .. لا يفيد أن كل من وقع في قسم من الطوائف فإنه يمنع غيره، أو لا يشتغل بغيره، كما أنه لا يفيد أن كل قسم من هذه الأقسام تختص به طائفة من الطوائف بإطلاق. وإن كان إذا قيل: إن هذا لا يلزم .. فلا يعني هذا أنه ليس واقعاً، بمعنى: أن كثيراً من هذه الأقسام التي ذكرها المصنف تختص بها بعض الطوائف كالقسم الذي ذكر فيه: إجراءها على ظاهرها اللائق بالله سبحانه وتعالى، وذكر أن هذا هو الذي عليه أهل السنة .. فهذا القسم يختص به أهل السنة والحديث بتحقيقه وتطبيقه. لكن فيما يتعلق -مثلاً- بقسم التفويض من هذه الأقسام؛ فإنه لا تختص به طائفة اختصاصاً مطرداً، بل يذكره من يذكره من الفقهاء، والصوفية، ويجوزه من يجوزه من المتكلمين، ويرجع إليه من يرجع من المتكلمين .. وهلم جرا. ولهذا قد توجد بعض الطوائف من حيث الجملة -ليس بالضرورة من حيث الاطراد- يجوزون أكثر من قسم، كتجويز أكثر الأشعرية مسألة التأويل مع مسألة التفويض، مع أن المصنف جعل التأويل قسماً وجعل التفويض قسماً آخر.

القائلون بإجراء نصوص الصفات على ظواهرها

القائلون بإجراء نصوص الصفات على ظواهرها [قسمان يقولان: تجرى على ظاهرها. وقسمان يقولان: هي على خلاف ظاهرها. وقسمان: يسكتون. أما الأولون فقسمان: أحدهما: من يجريها على ظاهرها ويجعل ظاهرها من جنس صفات المخلوقين .. فهؤلاء المشبهة، ومذهبهم باطل أنكره السلف، وإليه يتوجه الرد بالحق]. مذهب التشبيه ليس قدره في الاشتباه والشيوع كمذهب التأويل، وأخص من تكلم بالتشبيه قوم من متقدمي الرافضة كـ هشام بن الحكم، وهشام بن سالم وأمثالهما، ثم رجع جمهور الرافضة عن هذا المذهب إلى ما يقارب مذهب المعتزلة، وتلقوا عنهم في هذا الباب، ثم وقع في التشبيه كثير من متأخري المتكلمين كـ محمد بن كرام السجستاني وأصحابه، ومذهب هؤلاء يقارب مذهب التشبيه الذي كان عليه هشام بن الحكم، وإن لم يكن مثله. وقد وقع بعض الفقهاء من أصحاب الأئمة في زيادة في الإثبات، فهؤلاء ليسوا مشبهةً، ولكنهم ليسوا على طريقة أهل السنة والحديث المحضة، وهم خير من محمد بن كرام وأمثاله، كما أن محمد بن كرام وأمثاله من المجسمة أقرب إلى طريقة أهل السنة من طريقة أئمة المشبهة كـ هشام بن الحكم وأمثاله. [الثاني: من يجريها على ظاهرها اللائق بجلال الله كما يجري ظاهر اسم العليم والقدير والرب والإله والموجود والذات ونحو ذلك، على ظاهرها اللائق بجلال الله، فإن ظواهر هذه الصفات في حقه المخلوق إما جوهر محدث، وإما عرض قائم به. فالعلم والقدرة والكلام والمشيئة والرحمة والرضا والغضب ونحو ذلك في حق العبد أعراض، والوجه واليد والعين في حقه أجسام، فإذا كان الله موصوفاً عند عامة أهل الإثبات بأن له علم وقدره، وكلاماً ومشيئة]. المقصود بأهل الإثبات هنا: أي من يثبت أصول الصفات وإن لم يلتزم إثبات سائر الصفات، وبهذا دخل فيه أهل السنة كما هو متحقق، ودخل فيه متكلمة الصفاتية كالأشعرية والكلابية والماتريدية وأمثالهم، أي: من يصحح مبدأ الإثبات مقابل من يلتزم تحقيق النفي كما هي طريقة الجهمية وأئمة المعتزلة. [وإن لم يكن ذلك عرضا يجوز عليه ما يجوز على صفات المخلوقين، جاز أن يكون وجه الله ويداه صفات ليست أجساماً يجوز عليها ما يجوز على صفات المخلوقين]. الذي عليه أهل الإثبات من أهل السنة ومتكلمة الصفاتية: أن لله علماً وقدرةً وإرادةً، وهي ليست كصفات المخلوقين، فكذلك يقال: في الوجه واليدين، ليست هي أجساماً كصفات المخلوقين، أي: بجسميتها المخلوقة التي تليق بالمخلوق، وإن كان لفظ الجسم لا يطلق إثباتاً ولا نفياً في حق الله تعالى. وهذا من باب الأصل المعروف: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر، وهذا يتوجه به الرد على متكلمة الصفاتية الذين أثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضها. [وهذا هو المذهب الذي حكاه الخطابي وغيره عن السلف، وعليه يدل كلام جمهورهم وكلام الباقين لا يخالفه، وهو أمر واضح]. قوله: وعليه يدل كلام جمهورهم لا يعني أن طائفة من السلف تخالف هذا المذهب، بل مقصوده: أن التصريح شاع عند جمهورهم، وإن لم يلزم من ذلك أن كل تفصيل في الصفات صرح به كل معين من أعيانهم. [فإن الصفات كالذات، فكما أن ذات الله ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس المخلوقات، فصفاته ثابتة حقيقة من غير أن تكون من جنس صفات المخلوقات. فمن قال: لا أعقل علماً ويداً إلا من جنس العلم واليد المعهودين. قيل له: فكيف تعقل ذات من غير جنس ذوات المخلوقين؟! فمن المعلوم أن صفات كل موصوف تناسب ذاته وتلائم حقيقته، فمن لم يفهم من صفات الرب -الذي ليس كمثله شيء- إلا ما يناسب المخلوق فقد ضل في عقله ودينه.]. كل هذا الاستدلال من باب أن القول في الصفات كالقول في الذات وهذا يقع به الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة، بمعنى: أنهم كما أقروا بأن لله ذاتاً لا تشابه الذوات، أي: لها اختصاصها اللائق بها فكذلك صفاته تكون مناسبة لذاته. [وما أحسن ما قال بعضهم إذا قال لك الجهمي: كيف استوى أو كيف ينزل إلى السماء الدنيا، أو كيف يداه ونحو ذلك، فقل له: كيف هو في ذاته؟ فإذا قال لك: لا يعلم ما هو إلا هو، وكنه الباري تعالى غير معلوم للبشر. فقل له: فالعلم بكيفية الصفة مستلزم للعلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية صفة لموصوف لم تعلم كيفيته، وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي لك؟!]. إذاً: السؤال عن كيفية الصفات فرع عن العلم بحقيقة الذات، وإذا كان متحققاً بضرورة العقل والشرع أنه لم يقع لأحد من خلق الله أنه يحيط بالله علماً بكيفية صفاته وكيفية ذاته؛ فإن القول في كيفية الصفات هو قول في كيفية الذات؛ أي: أن القول في هذه الصفات فرع عن القول في الموصوف فيها. [بل هذه المخلوقات في الجنة قد ثبت عن ابن عباس أنه قال: ليس في الدنيا من ما في الجنة إلا الأسماء، وقد أخبر الله تعالى أنه لا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فإذا كان نعيم الجنة -وهو خلق من خلق الله- كذلك فما ظنك بالخالق سبحانه وتعالى]. هذا من باب قياس الأولى، ووجهه هنا: أن الجنة فيها نعيم يتفق في بعض الموارد من حيث الاسم المطلق مع نعيم الدنيا، ويكون متواطئاً -ليس مشتركاً اشتراكاً لفظياً- من حيث المعنى الكلي، مع أن الحقيقة والماهية مختلفة، فإذا كان كذلك في هذا النعيم وهو مخلوق من مخلوقات الله؛ فبين الخالق والمخلوق من باب أولى، بمعنى: أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، فمن باب أولى بين صفات الله وصفات خلقه التي وقع فيها اشتراك في الاسم المطلق كالعلم والقدرة والسمع والبصر والرضا والغضب وأمثال ذلك. وهذا من أقوى الأوجه في الرد على المخالف الذي يزعم أن إثبات الصفات يستلزم أن تكون أعراضاً كالصفات القائمة بالمخلوقين أو نحو ذلك، وكل من التزم بأن الإثبات يدل على التشبيه لما يراه واقعاً في المخلوقين من الاتصاف بهذه الصفات أو ما هو منها قيل له: هذا لو كان صحيحاً للزم اطراده بين المخلوقات نفسها من باب أولى؛ فيكون نعيم الجنة مماثلاً في الماهية والحقيقة لنعيم الدنيا .. وهو ليس كذلك بإجماع المسلمين. [وهذه الروح التي في بني آدم قد علم العاقل اضطراب الناس فيها، وإمساك النصوص عن بيان كيفيتها، أفلا يعتبر العاقل بها عن الكلام في كيفية الله تعالى مع أنا نقطع أن الروح في البدن، وأنها تخرج منه وتعرج إلى السماء، وأنها تسل منه وقت النزع كما نطقت بذلك النصوص الصحيحة]. وهذا مثل آخر، وهو مثل عقلي تام، أي: تام الدلالة والتحقيق، من جهة أن الروح قد اتفق على وجودها بنو آدم. وأيضاً: من البدهي أن لها صفات ولها اختصاصاً، ومع ذلك فإن كيفية هذه الروح وكيفية صفات هذه الروح لا نعلمها، وإذا كان هذا متحققاً في الروح -وهو: أنا نعلم وجودها، ونعلم أن لها من الصفات ما يناسبها، وما هو من صفات الروح تشترك من حيث الاسم المطلق مع ما هو من صفات الأجسام والأبدان؛ ومع ذلك لا نعلم كيفية الروح ولا كيفية صفاتها- فمن باب أولى أن يتعلق هذا بالخالق، فإن علمنا بصفات الروح لم يوجب أن نعلم كيفية هذه الصفات، كذلك -من باب أولى- علمنا بصفات الله سبحانه وتعالى لا يوجب علمنا بكيفيتها. [لا نغالي في تجريدها غلو المتفلسفة ومن وافقهم حيث نفوا عنها الصعود والنزول والاتصال بالبدن والانفصال عنه وتخبطوا فيها حيث رأوها من غير جنس البدن وصفاته، فعدم مماثلتها للبدن لا يمكن أن تكون هذه الصفات ثابتة لها بحسبها، إلا أن يفسروا كلامهم بما يوافقوا النصوص، فيكونون قد أخطئوا في اللفظ وأنى لهم بذلك؟! ولا نقول: إنها مجرد جزء من أجزاء البدن كالدم والبخار مثلاً، أو صفة من صفات البدن والحياة، وأنها مختلفة الأجساد، ومساوية لسائر الأجساد في الحد والحقيقة كما يقول طوائف من أهل الكلام]. أي: أن الذين تكلموا في هذا الباب من النظار -نظار المتفلسفة والمتكلمة- في الجملة على طريقتين: الأولى: وهي طريقة المتفلسفة، والذين اتخذوا في الروح مبدأ التجريد، أي: جعلوا وجودها وجوداً مجرداً عن التركيب، وهذا قول لا دليل عليه على أقل تقدير، فإن الله تعالى لما ذكر الروح قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85] فالقول في ماهية الروح لم يتكلم أئمة السلف رحمهم الله فيه، أما القول بإثبات وجودها، وأن لها صفات تناسبها .. فهذا أمر متحقق مجمع عليه بين السلف. الثانية: وهي طريقة المتكلمين، فقد جعلوها جزءاً جسمانياً له صفات الأجسام وحقائق الأجسام ولوازم الأجسام، وهذا أيضاً قول لا دليل عليه. إذاً: من حيث الأصل كلا القولين -أعني قول المتفلسفة بالتجريد، أو قول المتكلمة بالجسمانية- أقل ما يقال فيهما: أنهما قولان لا دليل عليهما؛ فإن إدراك ثبوت الوجود وإدراك ثبوت الصفات لا يستلزم إدراك ثبوت الماهية والكيفية، فإن الماهية لا تدرك إلا بالمشاهدة أو بالقياس، والمشاهدة للروح لم تقع، والقياس لم يقع؛ لأنه لم يوجد في الواقع إلا الأجسام، والأجسام لا تناسب القياس على الروح. ومن هنا صار هذا القول من القول بغير علم، ومن هنا لا ينبغي الاشتغال بتفصيل مسألة الروح وماهيتها، بل يتوقف كما هو أدب القرآن: {قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء:85]. وهنا ينبه إلى أن بعض المتكلمين الأشاعرة وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة الذين تكلموا في مسألة الروح -عند تفسير القرآن، أو عند تفسير بعض النصوص النبوية التي ذكرت الروح- أن الوهم يقع لكثير منهم في مقابل قول المتفلسفة، فتراهم يقولون: وذهبت المتفلسفة إلى القول بتجريدها عن الصفات، وأنها وجود مطلق مجرد عن الصفات الثبوتية. بل إن بعض المتكلمين المنتسبين للسنة والجماعة وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة ال

القائلون بنفي ظواهر نصوص الصفات

القائلون بنفي ظواهر نصوص الصفات [وأما القسمان اللذان ينفيان ظاهرها، أعني: الذين يقولون: ليس لها في الباطن مدلول، هو صفة الله تعالى قط]. هؤلاء هم الذين يقولون بنفي الصفات في نفس الأمر أو ينفون ما هو منها، ونفاة الصفات مطلقاً: هم الجهمية وأئمة المعتزلة، ونفاة ما هو من الصفات: هم جمهور متكلمة الصفاتية الذين ينفون الصفات الفعلية، وغلاتهم ينفون الصفات الخبرية. [وأن الله لا صفات له ثبوتية، بل صفاته إما سلبية وإما إضافية وإما مركبة منهما]. هذه طريقة غلاة هذين القسمين، وهم نفاة الصفات في نفس الأمر، الذين يقولون: إنه ليس له صفة ثبوتية في نفس الأمر، بل صفاته إما سلبية -والسلب هو النفي- كقولهم: ليس متكلماً أو ليس سميعاً أو ليس بصيراً، أو تارة ينفون بعض الألفاظ المجملة بالتصريح على خلاف ما هو معروف عند السلف من عدم التصريح بنفي أو إثبات .. وهلم جرا. وإما إضافية الصفات الإضافية: كقول المتفلسفة مثلاً: إنه مبدأ الأشياء، وأنه علة الأشياء، فالقول في المبدأ والعلة يعد من الصفات الإضافية. وإما مركبة منهما المركب منهما كقول المتفلسفة: إنه عاقل ومعقول وعقل. [أو يثبتون بعض الصفات وهي الصفات السبعة]. أو يثبتون بعض الصفات هذا هو النوع الثاني في نفاة الصفات، وهم الذين يثبتون بعضها وينفون بعضها، وهم متكلمة الصفاتية كالكلابية والأشعرية والماتريدية وأمثالهم. وهي الصفات السبعة. أي: الصفات التي استقر عليها المتأخرون من الأشاعرة، وعليها الماتريدية في الجملة، وهي: الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة. [أو الثمانية]. وهي الصفات السبع المتقدمة، مع صفة البقاء كما هي طريقة طائفة من الأشعرية. [أو الخمسة عشر]. كما ذكره الشهرستاني عن طائفة من متكلميهم، وهي الصفات الثمان، ثم يختلفون فيما يزيدون عليها. وثمة غير ذلك كما هي طريقة الأشعري إمام المذهب، وأبي بكر بن الطيب الباقلاني الذين يثبتون الصفات الخبرية في الجملة. [أو يثبتون الأحوال دون الصفات]. كما هي طريقة خلق من المعتزلة، وأخص من تكلم بها من المعتزلة هو أبو هاشم الجبائي، فإن أبا هاشم الجبائي كغيره من المعتزلة ينفي الصفات، ولكنه أثبت الأحوال. فإن العلم -مثلاً- كصفة مختصة بالله يقال فيه: إن لله علماً هو صفة تليق به. لكن المعتزلة تنفي هذه الصفة مع اتفاقها على أن الله عليم. أي: أنهم يثبتون الاسم وحكم الصفة -أي: الحكم المتعلق بها وهو أن الله يعلم أحوال العالم- لكنهم ينفون الصفة من جهة قيامها بالذات. فجاء أبو هاشم الجبائي وأثبت مع حكم الصفة، والاسم الحال -وهو العالمية-، فهو يجعلها حالاً وليست صفة. وجمهور المعتزلة لا ثبت هذه الأحوال، إنما أثبتها أبو هاشم الجبائي ابن أبي علي الجبائي، وتبعه عليها خلق من المعتزلة، وطائفة من متكلمة الصفاتية من الأشعرية وغيرهم كـ القاضي أبي بكر بن الطيب الباقلاني ومن وافقه من متكلمة الأشعرية وبعض الفقهاء من أصحاب الأئمة الذين وافقوا القاضي أبا بكر على إثبات مسألة الأحوال تبعاً لـ أبي هاشم الجبائي. لكن ينبه إلى أن بعض الفقهاء كـ أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي يثبت مسألة الأحوال، ولكن الأحوال التي يثبتها ابن عقيل ليست هي الأحوال التي أثبتها أبو هاشم والباقلاني وأمثالهما من المتكلمة، وإن كان ابن عقيل أيضاً يسميها الأحوال أو الإضافات. [ويقرون من الصفات الخبرية بما في القرآن دون الحديث]. الصفات الخبرية كالوجه واليدين وأمثالها. [على ما قد عرف من مذهب المتكلمين. فهؤلاء قسمان:]. موقف قدماء متكلمة الصفاتية من الصفات الخبرية فيه تفصيل، فهم من حيث الجملة -كـ ابن كلاب والأشعري والباقلاني وابن فورك -يثبتون ما هو من الصفات الخبرية، لكن بعضهم خير من بعض في هذا: فمنهم من يثبت الصفات الخبرية القرآنية دون النبوية، ومنهم من يثبت القرآنية وما هو من النبوية .. وهلم جرا. [قسم يتأولونها ويعينون المراد، مثل قولهم: استوى بمعنى استولى، أو بمعنى: علو المكانة والقدر، أو بمعنى: انتهاء الخلق إليه إلى غير ذلك من معاني المتكلمين.]. فيجمعون بين نفي الصفة وبين تأويل النص، أي: أنهم يجمعون بين نفي الصفة في نفس الأمر وبين تأويل النص الذي ورد في إثباتها .. وهذا هو أصله مذهب الجهمية والمعتزلة. [وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكنا نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجة عما علمناه]. وهذا القسم يقع في كلام متكلمة الصفاتية من أصحاب أبي الحسن وأمثالهم، الذين لا يعينون التأويل وإن كانوا يجزمون بانتفاء الصفة في نفس الأمر، والمقصود بالصفة هنا: الصفة التي ينفونها؛ لأنه تقدم أنهم يثبتون شيئاً من الصفات وينفون شيئاً آخر.

القائلون بالوقف

القائلون بالوقف [وأما القسمان الواقفان: فقوم يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز ألا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك .. وهذه طريقة كثير من الفقهاء وغيرهم]. يفصل المصنف هنا طريقة التفويض، فعلى طريقته هنا يُضاف إلى التفويض: من يعتقد انتفاء الصفة التي فوضها في نفس الأمر، لكنه يفوض اللفظ أو يفوض النص من حيث تعيين المراد، فلا يعين المراد بالنص. والقسم الثاني -وهو المذكور في قوله: وأما القسمان الواقفان-: فهم الذين يجوزون الظاهر ويجوزون عدمه، أي: يجوزون ثبوت الصفة ويجوزون نفيها ولكنهم يفوضون. والفرق بين القسم الثاني من التقسيم الثاني وبين هذا التقسيم يقال فيه: إن الأول مفوض للفظ نافٍ للمعنى، وهذا القسم هو المقصود بقوله: وقسم يقولون: الله أعلم بما أراد بها، لكن نعلم أنه لم يرد إثبات صفة خارجية فهؤلاء مفوضة للفظ نافية للمعنى الظاهر منه، يعني: ينفون الصفة التي دل عليها النص، لكن تعيين المراد يقفون فيه. والثاني يجوز كلا الأمرين، يعني: يجوز ثبوت الصفة ويجوز عدم ثبوتها، وهذا القسم هو المقصود بقوله: فقوم يقولون: يجوز أن يكون ظاهرها المراد اللائق بجلال الله، ويجوز ألا يكون المراد صفة الله ونحو ذلك . ثم قال: وقسم يمسكون عن هذا كله، ولا يزيدون على تلاوة القرآن .. وهؤلاء لا يشتغلون بمسألة التجويز من أصلها، وهذا هو الفرق بينهم وبين القسم الذي قبلهم. إذاً صار المفوضة ثلاثة أقسام: الأول: وهم من يفوض اللفظ دون المعنى، بل يجزم بنفي المعنى ويفوض اللفظ عن تعيين المراد به. وهو القسم المذكور في القسمين الذين ينفون الصفة في نفس الأمر. الثاني: وهم الذين يفوضون اللفظ والمعنى، مع تجويز ثبوت الصفة وعدم ثبوتها. الثالث: وهم الذين يفوضون اللفظ والمعنى، لكنهم لا يشتغلون بمسألة تجويز المتقابلين -أي: ثبوت الصفة وعدم ثبوتها-. والقسم الأول في التفويض -وهو تفويض اللفظ ونفي المعنى- هو الذي يستعمله متكلمة الصفاتية فيما نفوه من الصفات حينما يقولون: إن طريقة السلف في هذه الصفات -أي: الصفات الفعلية التي اتفق متكلمة الصفاتية على نفيها، وأعني بمتكلمة الصفاتية الطوائف الثلاث في هذا المقام: الكلابية، الأشعرية، الماتريدية .. - هي التفويض. ومقصودهم بهذا أنهم مفوضة للفظ مع نفي الصفة في نفس الأمر. والقسم الثاني: وهو الذي اشتغل به كثير من الفقهاء ممن لم يعرف حقيقة مذهب المتكلمين ولا حقيقة مذهب السلف، فلم يتأثر تأثراً بيناً بأحد المذهبين. والطريقة الثالثة: وقعت في كلام بعض أعيان الصوفية وغيرهم. [وقوم يمسكون عن هذا كله ولا يزيدون على تلاوة القرآن وقراءة الحديث معرضين بقلوبهم وألسنتهم عن هذه التقديرات.]. يعني: لا يشتغلون بتجويز المتقابلين، فيفوضون اللفظ والمعنى تفويضاً مطلقاً؛ ولهذا كان أشدهم في التفويض القسم الثالث، وهم الذين يفوضون اللفظ والمعنى ولا يشتغلون بالتجويز بوجه ما. [فهذه الأقسام الستة لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها]. لا يمكن أن يخرج الرجل عن قسم منها هذا هو النتيجة العلمية هنا، وليس المقصود: أن هذه الأقسام الستة هي عبارة عن ست طوائف منضبطة مطردة، بل إن بعض الفقهاء وبعض المتكلمين يستعملون أكثر من طريقة من هذه الطرق الست التي ذكرها المصنف، وإن كان بعض هذه الطرق اطرد قوم على تحقيقه والتزامه كاطراد المعتزلة -وبخاصة أئمة المعتزلة والجهمية- في مسألة التأويل، وكاطراد أئمة السلف على الإثبات اللائق بجلال الله.

الطريق الحق في باب الأسماء والصفات

الطريق الحق في باب الأسماء والصفات [والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها: القطع بالطريقة الثابتة كالآيات والأحاديث الدالة على أن الله سبحانه وتعالى فوق عرشه، ويعلم طريقة الصواب في هذا وأمثاله -بدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك- دلالةً لا تحتمل النقيض، وفي بعضها قد يغلب على الظن ذلك مع احتمال النقيض، وتردد المؤمن في ذلك هو بحسب ما يؤتاه من العلم والإيمان {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40]. ومن اشتبه عليه ذلك أو غيره فليدع بما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي من الليل قال: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك في ما كانوا فيه يختلفون؛ اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم) وفي رواية لـ أبي داود أنه كان يكبر في صلاته ثم يقول ذلك. فإذا افتقر العبد إلى الله ودعاه، وأدمن النظر في كلام الله وكلام رسوله وكلام الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين انفتح له طريق الهدى، ثم إن كان قد خبر نهايات إقدام المتفلسفة والمتكلمين في هذا الباب، وعرف أن غالب ما يزعمونه برهاناً هو شبهة]. الطريق الأول: هو أن يدعو الله أن يوفقه للحق .. وهذا من باب ما يشير به المصنف رحمه الله إلى أن المتكلمين غلب عليهم مسألة الانتصار لمذاهبهم، ولم يكثروا من الالتفات إلى مسألة التبين في هذا الحق الذي زعموه حقاً، فكثرة الالتفات إلى الانتصار تعمي الناظر في هذا الباب عن تحقيق الحق ومعرفته، ولهذا تراهم -أعني: المتكلمين- مقلدةً محضةً في هذا الباب، يقلد بعضهم بعضاً، ومن خالف في هذا فإنه ينزع إلى طريقة أخرى، فإن أبا المعالي الجويني لما خالف سلفه من الأشعرية نزع إلى طريقة قوم سلفه خير منهم وهم المعتزلة .. وهلم جرا. كذلك الرازي لما خالف أصحابه في كثير من المسائل نزع إلى كثير من كلام ابن سينا وأمثاله ممن كلامهم شر من كلام أصحابه .. وهلم جرا. فتعيين المصنف لمسألة الالتفات إلى الشرع من حيث العلم -أي: النظر في نصوص الكتاب والسنة- ومن حيث القصد بالإخلاص والطلب -الإخلاص لله سبحانه، والطلب أي: طلب التوفيق منه- ولهذا كان من أدبه صلى الله عليه وسلم مع ربه: أنه يدعو بهذا الدعاء الذي ذكر المصنف. ولهذا ينبغي لطالب العلم في المسائل التي يقع فيها اضطراب -أحياناً- أو اختلاف شديد أن يلتفت إلى مقام الإخلاص والطلب، ولا يفرض أن هذا الاضطراب يُعرف الحق فيه من غيره بمحض الاختصاص والالتفات إلى السبب العلمي، فإن النظر في الكتب والمراجعة ليس بالضرورة أنه يفيد توفيقاً، وإن كان سبباً شرعياً صحيحاً، لكن ليس بالضرورة أنه يختص بنفسه ويستقل بنفسه في التحصيل. ولهذا لابد من التفات طالب العلم في مقام الاختلاف -وبخاصة في مقام الاضطراب في بعض القضايا- إلى مسألة غير مسألة النظر والمراجعة، وهي: مسألة الإخلاص والطلب، أي: أنه يطلب من الله سبحانه ويسأله أن يوفقه للخير، كما في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا. ثم قال المصنف: ثم إن كان قد خبر نهاية إقدام المتفلسفة لأنه أشار إلى شيء من ذلك فيما نقله عن الرازي والشهرستاني والجويني وغيرهم، وعرف أن القوم ليس لهم علم في هذا الباب محقق لا عقلي ولا شرعي. ثم قال: وعرف أن غالب ما يزعمونه برهاناً هو شبهة. يقصدون بالبرهان القياس اليقيني، وذلك لأن المنطق الأرسطي قسم القياس إلى خمسة أقسام: 1 - القياس البرهاني، وهم يعدونه أصدق القياسات، وأنه يقيني النتيجة. 2 - القياس الجدلي. 3 - القياس الخطابي. 4 - القياس الشعري. 5 - القياس السفسطي. فزعم كثير من المتكلمين أن دلائلهم برهانية .. يرد عليه بأن هذه دعوى، وليس كل مبطل سمى قوله برهاناً يجب أن يكون في نفس الأمر برهاناً، كما أن من سمى قوله إصلاحاً من المنافقين لم يلزم في نفس الأمر أن يكون مصلحاً: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة:11 - 12] فهذا المقام -وهو مقام العلم والعمل- لا يؤخذ بالدعوى والألفاظ؛ ولهذا قال المصنف عن برهانهم: هو شبهة أي: شبهات وأوهام من العقل. ومما يدل على هذا أن المتفلسفة كـ ابن رشد -مثلاً- وصف أدلة المتكلمين بأنها بريئة من البرهان، وأنها أقاييس جدلية كما ذكر ذلك في رده على أبي حامد الغزالي، فهو وابن سينا وأمثالهما من المتفلسفة يطعنون في دلائل المعتزلة والمتكلمين كالأشعرية وغيرهم، ويصفونها بأنها دلائل جدلية لا تفيد يقيناً وقطعاً. وبالمقابل: فإن المتكلمين من المعتزلة والأشعرية وأمثالهم طعنوا في أدلة المتفلسفة كـ ابن سينا وابن رشد وأمثالهم، ووصفوها بأنها أدلة ليست يقينية. ثم إن أبا محمد بن حزم يطعن في أدلة الطائفتين -في أدلة المتكلمين وأدلة المتفلسفة- ويزعم أن ما يقرره في باب الصفات هو المقول بالقياس البرهاني. فترى أن كل طائفة تخالف السلف في هذا الباب تدعي أن قولها هو القول البرهاني، وأن قول الطائفة الأخرى التي هي من جنسها في هذا العلم: كالمتكلمين بعضهم مع بعض، والمتفلسفة بعضهم مع بعض، يرى كل طائفة منهم أن قول مخالفيهم من أصحابهم ليس قولاً برهانياً. ولهذا لما ذكر ابن رشد أصناف الناس ذكرهم على هذا الوجه، فقال: إن أخص الطوائف الكلامية هي الأشاعرة، وأما المعتزلة فلم يصلنا شيء من كتبهم في هذه الجزيرة -يعني: الأندلس- ولكن الظن أنهم من جنس الأشعرية. ثم انتهى إلى أن دلائل الأشعرية ومثلها دلائل المعتزلة -على فرضه- دلائل جدلية، وأن الحق البرهاني مخصوص بقول الحكماء -يعني: المتفلسفة-. ثم مال إلى أن ما قرره ابن سينا ليس برهانياً، إنما هو عرفان وإشراق وتصوف في كثير من الموارد. وبهذا يظهر أن الطعن يتردد بين الطوائف في مسألة البرهانية واليقينية. ومن الأمثلة على ذلك أيضاً: أن ابن حزم سفه أدلة المتكلمين والمتفلسفة، ثم ذكر بعض الأدلة وسماها أدلة برهانية عقلية؛ مع أن هذا الدليل عند التحقيق مأخوذ إما من المتكلمين، أو من المتفلسفة، أو مبني على القانون الأرسطي في المنطق الذي يشترك في معرفته والأخذ به كثير من أهل الفلسفة وأهل الكلام، بل إن ابن حزم وصف بعض الأدلة بالبرهانية، وهي دلائل قد قررها قبله علماء الأشاعرة، لكنه غير في بعض ألفاظها وفي بعض ترتيبها، وإلا الدليل من حيث الحقيقة العلمية هو نفسه الدليل الذي ذكره بعض أئمة الأشعرية أو المعتزلة. فمن هنا: يعرف أن كثيراً من هذا المقام مقول بالدعوى وليس بالتحقيق العلمي.

تنبيهات على كتب محمد عابد الجابري

تنبيهات على كتب محمد عابد الجابري [ورأى أن غالب ما يعتمدونه يؤول إلى دعوى لا حقيقة لها، أو شبهة مركبة من قياس فاسد]. كثير من المتكلمين يقرر أدلته لكن قد لا يلتزم بلفظ البرهان كثيراً، فهذا الاطراد في نسبة ابن رشد وفي نسبة أبي محمد بن حزم أنبه فيه إلى كتب شاعت في هذا العصر، وهي كتب محمد عابد الجابري المغربي، فإن له تصنيفاً في دراسة التراث، نقد العقل العربي، وقد أخرج فيه بعض الكتب، من أخص هذه الكتب تكوين العقل العربي وبنية العقل العربي. والشاهد: أن بعض الشباب قد يتأثرون بهذه الكتب، ويظنون أنها دراسة عميقة متكاملة. وقد قسم هذا الرجل التراث الإسلامي الماضي -سواء سني أو كلامي أو فلسفي، مشرقي أو مغربي .. الخ- إلى ثلاثة أقسام: 1 - القسم البياني: وهو الذي يعتمد على البيان. 2 - القسم العرفاني. 3 - القسم البرهاني. ومن وهم هذا الكتاب -وربما قد تكون نزعة تعصب- أنه أدخل في المعرفة البيانية أهل السنة -المذاهب الفقهية الأربعة- والمعتزلة، والأشاعرة .. إلخ. ثم أدخل في القسم العرفاني فلاسفة المشرق، أي: أنه جعل رموز فلاسفة المشرق عرفانيين -أي: إشراقيين غنوصيين- كـ ابن سينا، وأبي نصر الفارابي، ومن باب أولى السهروردي وأمثالهم. وهو يريد من هذا أن ينتهي إلى أن أرقى معرفة بالتراث هي المعرفة البرهانية. ثم زعم أن البرهان يقع في فلسفة ابن رشد التي ليست عرفانية كفلسفة ابن سينا -أي: إشراقية غنوصية صوفية- أو في نظريات ابن حزم التي قابلت نظريات المتكلمين المشارقة. فجعل البرهان يقع في العرض المغربي عموماً، سواء عند ابن رشد كفلسفة أو عند ابن حزم كنظر. وهذا التقسيم من حيث الحقائق العلمية المجردة تقسيم ساذج، يعني عليه إشكالات علمية مطولة، من أخص الإشكالات: أنه فرض أن ابن سينا والمشارقة من الفلاسفة عرفانيون فقط، مع أن ابن سينا وكثيراً من فلاسفة المشرق كان لديهم المذهب العرفاني والمذهب النظري الذي يستعمله ابن رشد، يعني: لا يؤمنون بالمذهب الواحد. حتى إن ابن سينا لما صنف الشفاء قال: وما أودعناه في هذا الكتاب فهو جرياً على عادة المشائين -يعني: أرسطو وأتباعه- وأما الحق الذي لا جمجمة فيه فهو ما أودعناه في الحكمة المشرقية. فكان ابن سينا ينظِّر تارةً بالطريقة الإشراقية العرفانية، وتارةً بالطريقة العقلية النظرية. وكذلك ما يتعلق بـ ابن حزم؛ فإنه بالغ في برهانية أدلته، وإن كان معتبره في هذا أن ابن حزم يسمي أدلته برهانية، وابن رشد يسمي أدلته برهانية فهذا ليس كذلك، لأن هذه مجرد دعوى، والمحقق يعرف أن جمهور أدلة ابن حزم التي ذكرها في مسائل الإلهيات على وجه الخصوص ملخص من دلائل المعتزلة على وجه الخصوص، ولكن ابن حزم رتب بعض الألفاظ وقربهما للشرع، ووصف الدليل بالبرهانية؛ حتى إنه لتقارب الدليل بينه وبين المعتزلة صارت نتيجة مذهبه في الصفات من جنس مذهب المعتزلة؛ وهذا يصرح به ابن حزم في كتبه كالفصل ونحوه. المقصود: أن هذه الكتب -أعني: كتب الجابري - تحمل أوهاماً علمية واضحة، ومن لم يكن عارفاً بهذه الكتب الكلامية والفلسفية ككتب ابن سينا أو ابن رشد أو المعتزلة والأشاعرة قد لا يكون له إمكانية واضحة لمعرفة النقد العلمي الذي يتوجه لهذه الكتب، فضلاً عن كونه لم يلتزم -بل هو بعيد كثيراً عن هذا- نصرة مذهب أهل السنة، وهذا نقد آخر، لكن هو أيضاً منتقد حتى من حيث الحقائق العلمية المجردة المرتبة.

دعوى الإجماع عند المعتزلة والأشاعرة

دعوى الإجماع عند المعتزلة والأشاعرة [أو قضية كلية لا تصح إلا جزئية، أو دعوى إجماع لا حقيقة له، أو التمسك في المذهب، والدليل بالألفاظ المشتركة]. أو دعوى إجماع بمعنى أن الإجماع الذي يذكره المعتزلة في كتبهم أو الأشاعرة في كتبهم لا يلتفت إليه؛ لأنهم يعنون بالإجماع هنا إجماع طائفتهم، مع أن كثيراً مما قال فيه المعتزلة أو الأشاعرة: إنه إجماع عند طائفتهم، عند التحقيق نجد أن المعتزلة لم تجمع أو أن الأشعرية لم تجمع، بمعنى أنه قد يقول: وقد أجمع أصحابنا -يعني: الأشاعرة- مع أن الأشعرية عند التحقيق قد اختلفوا، ومن ذلك ما حكاه كثير من متأخري الأشعرية أن أصحابهم أجمعوا على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر، مع أن قدماءهم كانوا يثبتونها.

ضرورة معرفة الحق مفصلا

ضرورة معرفة الحق مفصلاً [ثم إن ذلك إذا ركب بألفاظ كثيرة طويلة غريبة عن من لم يعرف اصطلاحهم أوهمت الغر ما يوهمه السراب للعطشان ازداد إيماناً وعلماً بما جاء به الكتاب والسنة، فإن الضد يظهر حسنه الضد، وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيماً وبقدره أعرف إذا هدي إليه.]. وكل من كان بالباطل أعلم كان للحق أشد تعظيماً هذا هو غرض المصنف من نقضه لهذه المذاهب والمناهج. ولكن هنا ينبه: إلى أنه وإن كانت المعرفة بالباطل معرفة رد وإنكار ودفع فاضلة، إلا أنه لا شك أن الأصل هو معرفة الحق بتفصيله، وهنا ينبه إلى أنه في هذا المقام -وبخاصة في مقام الاعتقاد- من الغلط أن يشتغل طالب العلم بمعرفة تفاصيل المناهج المخالفة للسلف، وهو لم يحكم تفاصيل مذهب السلف .. فإن الأصل: معرفة مذهب السلف إجمالاً ثم تفصيلاً، ثم بعد ذلك يعرف مذهب المخالف إجمالاً ثم تفصيلاً إن أمكنه ذلك؛ ولهذا كان علماء السنة من أولهم إلى آخرهم يشتركون في معرفة مذهب السلف على التفصيل، لكن لم يكن جميعهم على معرفة بالأقوال المخالفة على التفصيل؛ بل منهم من اشتغل بمعرفة تفصيلها والرد عليه، ومنهم من عرفها معرفةً مجملة ولم يكن له اختصاص بمعرفة كثير من تفاصيلها. وإن كان ما وقع عليه المصنف -أعني: شيخ الإسلام رحمه الله - من دراسته لكتب المتفلسفة والمتكلمة وغيرهم -لا شك- مما يحمد له ويثنى عليه به، ولا يجوز لأحد أن يقول: إن السلف الأول لم يشتغلوا هذا الاشتغال؛ لأن لكل مقام ما يناسبه، فقد كان في زمن السلف رحمهم الله لم تختلط السنة بالبدعة، فكانت البدعة متميزة عن السنة، وكان المبتدعة إذ ذاك كالخوارج أو الجهمية أو المعتزلة مناقضين لأئمة السنة، ولا ترى أشد مناقضة من كون الخوارج قاتلوا الصحابة، وفي زمن الأئمة كان أئمة المعتزلة كـ ابن أبي دؤاد وأمثاله يفتون بقتل كبار أئمة السنة. لكن فيما بعد لما جاء متكلمة الصفاتية وأمثالهم، وانتسبوا للسنة، وانتسب خلق منهم كـ الأشعري لـ أحمد بن حنبل .. إلخ صار هناك اضطراب واختلاط، ولم تتميز السنة عن البدعة عند كثير من الفقهاء وأهل العلم، ومن هنا: كان هذا الاشتغال بالتفصيل هو التحقيق الموافق لمذهب السلف.

من لم يدخل في علم المنطق فهو في عافية

من لم يدخل في علم المنطق فهو في عافية [فأما المتوسطون من المتكلمين: فيخاف عليهم ما لا يخاف على من لم يدخل فيه، وعلى من قد أنهاه نهايته، فإن من لم يدخل فيه فهو في عافية، ومن أنهاه فقد عرف الغاية]. علم المنطق من لم يدخل فيه فهو في عافية، ومن حققه وأتقنه عرف ما فيه من الحسن في بعض المسائل أو الترتيبات، وما فيه من الوهم والغلط في بعض المقامات. وأما الذي يخاف فيه: وهو أن يكون الناظر له بعض الفهم لعلم الكلام أو بعض الفهم لقواعد المنطق، فهذا العلم الكلامي غالباً ما يؤثر في المعاني والعلم، والمنطق الذي يأخذ منه أخذاً يسيراً في الغالب أنه يتوهم أثره من جهة أنه يتوهم الاتقان والترتيب للأدلة، وهو ليس كذلك.

النظر إلى أهل الكلام يكون من وجهين

النظر إلى أهل الكلام يكون من وجهين [فما بقى يخاف من شيء آخر، فإذا ظهر له الحق هو عطشان إليه قبله. وأما المتوسط فيتوهم بما يتلقاه من المقالات المأخوذة تقليداً لمعظمة هؤلاء. وقد قال بعض الناس: أكثر ما يفسد الدنيا نصف متكلم، ونصف متفقه، ونصف متطبب، ونصف نحوي .. هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد الأبدان، وهذا يفسد اللسان. ومن علم أن المتكلمين -من متفلسفة وغيرهم- في الغالب لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك، يعلم الذكي منهم والعاقل أنه ليس هو فيما يقوله على بصيرة، وأنه حجته ليست ببينة وإنما هي كما قيل فيها: حجج تهافت كالزجاج تخالها ... حقاً وكل كاسر مكسور ويعلم العليم البصير بهم أنهم من وجه مستحقون ما قاله الشافعي رضي الله عنه]. يعني: النظر في أهل الكلام وأمثالهم هو من وجهين عند المصنف: الأول: مستحقون لما قاله الأئمة فيهم، كقول الشافعي: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن كتاب الله وسنته وأقبل على الكلام. الثاني: وهو من نظر إليهم بعين القدر، وذلك من جهة أن القوم ضلوا وقد أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً، وأوتوا عقولاً ولم يؤتوا فهوماً وتحقيقاً في هذه المقامات الشرعية الفاضلة، فمن هذا يقع لهم مقام الرحمة، وهناك يقع لهم مقام العلم. ودائماً طالب العلم بنظره ينظر بعين العلم تارةً وبعين الرحمة تارة، وهذا هو منهج الأنبياء، وهو منهج من آتاه الله علماً اختص به، كما في قوله تعالى: {فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً} [الكهف:65] فالناس يصلحهم مقام الرحمة والرفق، فإن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه، وفي الصحيح: (إن الله رفيق يحب الرفق) وفي الصحيح: (من يحرم الرفق يحرم الخير كله) وهم كذلك يحتاجون إلى العلم؛ فإن الرفق إذا لم يكن بعلم كان تسهيلاً لضلال الخلق، ولم يكن منعاً لضلالهم. [حيث قال: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من أعرض عن كتاب الله وسنته وأقبل على الكلام. ومن وجه آخر: إذا نظرت إليهم بعين القدر -والحيرة مستولية عليهم، والشيطان مستحوذ عليهم- رحمتهم وترفقت بهم، أوتوا ذكاءً وما أوتوا زكاءً، وأعطوا فهوماً وما أعطوا علوماً، وأعطوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون]. لا يعني إيراد هذه الآية أن المصنف يقصد أن المتكلمين يدخلون في مسألة الجحد، ولكن من باب القياس، فإن الكفار الذين آتاهم الله سمعاً وأبصاراً وأفئدةً ما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم .. إلخ، فهذا من باب القياس لا من باب أن المصنف يجعل حكم المتكلمين كحكم الكفار. وهذا التحصيل الأخير من المصنف يقع به لطالب العلم: أن من يشتغل بالنزعات العقلانية في هذا العصر يعرف أنه مهما حاول النظر والتحصيل فإن في القصص الماضية عبرة، وذلك من جهة أنك إذا نظرت إلى أئمة الكلام وقرأت في بعض سيرهم، أو نظرت في بعض كتبهم؛ تحقق لك أن كثيراً منهم كانوا على درجة بالغة من الذكاء والعقل، إلا أن النهاية التي حصلوها نهاية ساذجة بشهادتهم على أنفسهم، كما قال الرازي: نهاية إقدام العقول عقال ... . وكما في قول الشهرستاني: لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... . فتجد أن هذه الشهادات من قوم نظروا وتوسعوا، ومن يتقحم هذا المسلك العقلاني في هذا العصر هم أولى بأن تكون نتيجتهم دون أو مقاربة للنتيجة التي تحصل عليها من تقحم هذا المسلك في زمن سبق، مع أنه يحافظ على الحقيقة التي تقدم ذكرها كثيراً، وهي: أن العقل لا يعارض النقل. [ومن كان عليماً بهذه الأمور تبين له بذلك حذق السلف وعلمهم وخبرتهم حيث حذروا عن الكلام ونهوا عنه، وذموا أهله وعابوهم، وعلم أن من ابتغى الهدى في غير الكتاب والسنة لم يزدد من الله إلا بعداً. فنسأل الله العظيم أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .. آمين. والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين].

شرح الحموية [21]

شرح الحموية [21] تضمنت الرسالة الحموية لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مقاصد عديدة، وهي: بيان إسناد مقالة السلف، وبيان إسناد مقالة التعطيل، وبيان معتبر القول في الاسماء والصفات عند أهل السنة وغيرهم من الطوائف، وبيان صلة نفاة متكلمة الصفاتية بمتكلمة الجهمية والمعتزلة الأوائل، وبيان أصناف المنحرفين عن سبيل السلف، والنقل عن أهل الإثبات، والجمع بين العلو والمعية، وبيان غلط المخالفين في تسمية وعقيدة أهل السنة، وبيان أصناف الناس في الأسماء والصفات، والنظر في حال المخالفين.

المقاصد التي تضمنتها الرسالة الحموية

المقاصد التي تضمنتها الرسالة الحموية تضمنت هذه الرسالة عدة مقاصد، أهمها:- المقصد الأول: بيان إسناد مقالة السلف. المقصد الثاني: بيان إسناد مقالة التعطيل وحال أصحابها. المقصد الثالث: معتبر القول في هذا الباب عند السلف والطوائف الكلامية. المقصد الرابع: صلة نفاة متكلمة الصفاتية بمتكلمة الجهمية والمعتزلة الأوائل في ما وقعوا فيه من النفي والتأويل، وأثر هذا الاتصال في كثير من الفقهاء من أصحاب الأئمة وبعض الصوفية. المقصد الخامس: أصناف المنحرفين عن سبيل السلف في هذا الباب. المقصد السادس: النقل عن جملة المثبتة من أهل السنة أئمة السلف وأئمة أصحابهم ومحققي الفقهاء وبعض المتكلمة والصوفية؛ مما يقرر شيوع مذهب الإثبات، ولو في أصول الصفات. المقصد السابع: الجمع بين علو الرب ومعيته، والرد على من زعم أن قول السلف في المعية هو من باب التأويل الذي نهوا عنه. المقصد الثامن: غلط المخالفين في تسمية وعقيدة أهل السنة. المقصد التاسع: الأقسام الممكنة في آيات الصفات وأحاديثها. المقصد العاشر: النظر في حال المخالفين يقع بنظرين: نظر من جهة العلم، ونظر من جهة القدر.

المقصد الأول: بيان إسناد مقالة السلف

المقصد الأول: بيان إسناد مقالة السلف حيث ابتدأ المصنف رحمه الله رسالته بتقرير مقدمات، وقد تضمنت هذه المقدمات نتائج قطعية من جهة ثبوتها ومن جهة دلالتها، وهذه النتائج إنما كانت قطعيةً لأنها انبنت على مقدمات قطعية الثبوت قطعية الدلالة، وهذه المقدمات وما تحصل عنها من النتائج هي مقدمات نظرية، ويمكن أن نقول بعبارة أخرى: هي أوجه من النظر الشرعي والعقلي يتحصل بتحصيلها لزوماً صحة مذهب السلف، وبطلان مذهب المخالفين لهم. وأما صحة مذهب السلف فيتحقق ذلك من جهة أن المصنف رحمه الله قرر أن نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وما أنزله الله عليه من الكتاب والحكمة .. من جهته هدياً، ومن جهته رسالةً سماوية .. متفق عليه وقطعي بين المسلمين. ثم يقول: فهذا القرآن الذي هو قطعي الهداية عند المسلمين، وهذه السنة النبوية التي هي قطعية الهداية عند المسلمين، لا بد أن يكون القول في أصول الدين قد تضمنه القرآن والسنة؛ ويمتنع أن يكون القرآن الذي نزل هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان، ويمتنع أن تكون السنة النبوية التي هي خير هدي كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (أما بعد .. فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد) تركا باب أصول الدين بغير إحكام .. وهذا القطع ضروري. ثم يقول المصنف: وقد اتفق المسلمون -حتى المخالفون للسلف كالمعتزلة والأشاعرة .. إلخ- على أن القول في صفات الله وأفعاله من القول في أصول الديانة، فإذا كان من أصول الدين بإجماع المسلمين فإن أصول الدين قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء ببيانها وإحكامها ضرورةً، وكذلك القرآن بين هذا الباب أتم البيان، وإذا فرض خلاف ذلك فإنه يعني: أن من أخص أصول الدين -وهو القول في صفات الله وأفعاله- ما لم يبينه الله في كتابه ولا بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم في سنته. وترى أن هذا التحصيل تحصيل قطعي، فإذا تحقق أن هذا من القول في أصول الدين، وأن أصول الدين محكمة في الكتاب والسنة لزم من ذلك ألا يكون الناس محتاجين في هذا الباب -ولا في غيره، لكن في هذا الباب آكد- إلى شيء لم يتضمنه الكتاب والسنة، لا من جهة الدلائل ولا من جهة المسائل، بل هذا الباب دلائله ومسائله مقررة في الكتاب والسنة؛ لأنه أصل من أصول الدين. وإذا كان متقرراً عند المسلمين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علّم المسلمين الآداب العامة كآداب الأكل والشرب وأمثالها، وله في هذا سنة معروفة، فمن باب أولى أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم قد علمهم وبين لهم، وأحكم القول في باب أسماء الرب وصفاته، والذي من خالف ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب فإنه يقع إما في تعطيل الرب عن صفات الكمال، أو في تشبيه الخالق بالمخلوق .. وكلا القولين من مقالات الكفار والملاحدة، بل كان جمهور المشركين لا يقعون في خطأ صريح في هذا الباب، بمعنى أنه كان -من حيث الجملة- مُقَرَاً به، وهذا يتعلق بجنس مسألة الربوبية لا بتحقيق تفصيلها؛ لأن القول في الصفات هو من القول في ربوبية الله تعالى. فإذا كان هذا متحققاً فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ألقى هذا البيان لأصول الدين -ومن أخص أصول الدين القول في الأسماء والصفات- وتلقاه عنه أصحابه، ومن هنا يعلم قطعاً بالتسلسل العلمي العقلي: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا محكمين للحق في باب الأسماء والصفات؛ لأنهم تلقوا من الكتاب وعن نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد تحقق بالضرورة العقلية والشرعية أن القرآن والسنة فيهما البيان؛ فيلزم أن يكون الصحابة قد تلقوا هذا البيان والإحكام. وفرض خلاف ذلك يلزم منه: أن يكون الصحابة إما أنهم لم يفهموا الحق، وإما أنهم قصدوا الإعراض عنه. وكلا الوصفين ممتنع في حق الصحابة؛ لأن الله وصفهم بالعلم والإيمان؛ مما يدل على أنهم محققون لهذا المقام وأمثاله. وقد علم تحقيق الصحابة رضي الله عنهم لأصول الإسلام، وهذا مستفيض متفق عليه بين جمهور الأمة إلا من شذ من الرافضة ونحوهم ممن طعنوا في جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفراً منهم. وإذا كان الصحابة قد أحكموا هذا الباب وعرفوه؛ فيلزم أن يكون التابعون قد تلقوا ذلك عن الصحابة وأخذوا عنهم، وعدم ذلك إما أن يكون سببه: أن الصحابة كتموا الحق الذي علموه، أو أن التابعين أطبقوا على عدم الفهم أو الإعراض عن الأخذ عن الصحابة في هذا الباب .. وكل من هذه الفروضات يعلم امتناعها. وفي آخر زمن التابعين حدثت مقالة التعطيل، واتفق الأئمة إذ ذاك على إنكارها وردها، ثم بعد ذلك ظهرت مقالة التعطيل، وظهرت مقالة التشبيه، وكان موقف الأئمة الذين تلقوا عن التابعين من مقالة التعطيل ومقالة التشبيه موقفاً واضحاً متحققاً، وهو ذمهم لهؤلاء وهؤلاء، وأنهم وسط بين المعطلة والمشبهة. فهذا التسلسل الإسنادي يعلم به: أن مقالة أهل السنة والحديث يتلقاها بعضهم عن بعض؛ ولهذا لما جاء المتأخرون منهم -كـ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - وتكلموا في هذا الباب فإن الكلام الذي قرروه منصوص عليه في كتب السنة المسندة، كالكتب التي عينها المصنف وذكرها في رسالته كالسنة لـ عبد الله بن أحمد، ولـ ابن أبي عاصم وأمثالهما .. فهذا من جهة إسناد مقالة السلف؛ ولهذا تراه متسلسلاً، حيث أخذ كل أئمة عمن قبلهم من أئمة السنة والحديث، فتلقى الصحابة عن نبيهم، وتلقى التابعون عن الصحابة، وتلقى من بعد التابعين عن التابعين، ومن بعدهم عمن قبلهم، وهلم جرا، فتجده إسناداً متسلسلاً يحكون الاتفاق على هذا الباب ولا يذكرون في قولهم شيئاً من الخلاف.

المقصد الثاني: بيان إسناد مقالة التعطيل

المقصد الثاني: بيان إسناد مقالة التعطيل ثم عني المصنف بعد ذلك ببيان إسناد مقالة التعطيل -أي: نفي الصفات التي أظهرها الجهمية والمعتزلة- فقال: إن أول من تكلم بالتعطيل في هذا الباب هو الجعد بن درهم، ثم قتل، ثم أظهر مقالته الجهم بن صفوان الترمذي، وقتل أيضاً، ولكنه أشاعها بعض الشيء فانتشرت هذه المقالة ونسبت إليه. ثم تكلم عن أئمة المعتزلة، مبيناً أنهم وافقوا مقالة جهم في الجملة، وإن كانوا يختلفون مع الجهم بن صفوان في مسألة الأسماء وبعض مسائل هذا الباب، لكنهم يتفقون معه على نفي الصفات. فهذه المقالة إذاً منتهاها من حيث الإسناد العلمي عند المسلمين هو الجعد بن درهم، والجهم بن صفوان، وأمثالهما، حتى ولو قلت: إن منتهى هذه المقالة هو بعض أئمة المعتزلة، وأن طريقة المعتزلة مستقلة عن طريقة جهم كما يفرضها بعض النظار، فأيضاً حتى أئمة المعتزلة الذين تكلموا في هذا الباب ليسوا ممن لهم قدم صدق عند الأمة أو عرفوا بالتحقيق أو السنة والأثر، بل كانوا على خلاف مع أئمة السنة والحديث، ولهم طعن عليهم. فهذا الأخذ عرف وتحقق؛ ولهذا اتفق أئمة السلف على ذم الجهمية والمعتزلة إذ ذاك، وعرفوا ببدعتهم عند جمهور المسلمين، حتى من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة ومن متكلمة الصفاتية: كالكلابية والماتريدية والأشعرية، فإن جميع هذه الطوائف الفقهية والكلامية اتفقوا على ذم الجهمية والمعتزلة؛ وهذا يدل على أن إسناد هذه المقالة ومنتهاها -أعني: مقالة التعطيل- قوم قد أجمع السلف، والفقهاء من بعدهم، وأهل السنة والمنتسبون إليها على ذمهم والطعن فيهم؛ ولهذا لا ترى للمعتزلة قدم صدق محفوظة أو ثناء معروف، وإن كانوا قد يشتغلون ببعض المعارف التي يحسنونها أو يجيدون في بعض الأبواب في أصول الفقه وغيره، لكن هذا لا يكون مطرداً، فضلاً عن أن يكون لهم اختصاص أو تحقيق في باب أصول الدين. فهذا في الجملة هو الإسناد المتحقق. وفيما يتعلق بما بعد ذلك، فإن المصنف يذكر إسناداً يذكره بعض أهل الأخبار، وهو من جهة تلقي الجعد لهذه المقالة، وهو إسناد تارةً يوصل ببعض اليهود وتارةً يوصل ببعض المتفلسفة إلخ. والمتحقق عند النظار من أهل السنة وغيرهم: أن مقالة التعطيل المحضة -وهي نفي أسماء الرب وصفاته أو حتى نفي الصفات نفياً تاماً- مقالة مأخوذة عن قوم من المتفلسفة، سواء صح الإسناد الذي يصلهم ببعض أعيان اليهود أو غيرهم أو لم يصح، فهذا إسناد تاريخي قد لا يكون له ذاك الاعتبار الكثير، لكن باعتبار الحقيقة العلمية فإن هذه المقالة بتمامها -أعني: مقالة التعطيل- على طريقة أئمة الجهمية وأئمة المعتزلة لا شك أنها ليست مقالة لها أصل في الكتاب والسنة، ولا في العقل ابتداءً، فهي ليست مقالة شرعية؛ لأن الكتاب والسنة لم يذكرا هذه المقالة، وليست كذلك مقالة لها ذكر في العقل ابتداءً أو قبول في العقل ابتداءً. والدليل على هذا الكلام: أنه لما جاء المتفلسفة المحضة -أي: الذين نقلوا الفلسفة نقلاً محضاً كـ ابن سينا وأبي نصر الفارابي وأمثالهما، وهم غير أهل الكلام- انتهوا في باب الأسماء والصفات إلى قريب من هذه المقالة، بل إنهم يكادون يتفقون على النتيجة مع أئمة الجهمية وأئمة المعتزلة في مسألة الصفات. وأبو نصر الفارابي وابن سينا يصرحون أن هذه المقالة مقالة منقولة عن طريقة أرسطو وأمثاله من الفلاسفة الذين قبل الإسلام. فالمهم: أن هذا الإسناد ينتهي إلى أعيان اتفق جمهور المسلمين على الطعن عليهم، والطعن عليهم لا يختص بأهل السنة وحدهم، بل حتى جمهور الفقهاء وجمهور الصوفية وجمهور متكلمة الصفاتية يطعنون على أئمة المعتزلة والجهمية، إن لم يكن هذا مذهب لسائرهم، ومن المتحقق بطريقة المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام كـ ابن سينا وغيره أن هذه المقالة بتنظيمها هي مقالة فلسفية، وإن كان المعتزلة وقربوها بعض التقريب إلى مقاصد الإسلام؛ ولهذا أصبحت بطريقة المعتزلة مقالةً مولدة. ولهذا تجد أن المعتزلة خاصة -أعني: أئمة المعتزلة- ينتهون إلى نفي الصفات نفياً تاماً كالانتهاء الذي ينتهي إليه ابن سينا، لكن ابن سينا يستعمل الطريقة الفلسفية المحضة، في حين أن المعتزلة يقربون الطريقة إلى الإسلام، ويستعملون بعض المقدمات الشرعية المجملة، وبعض المقدمات العقلية العامة، وإن كانوا لا يستغنون عن المقدمات الفلسفية، وترى هذا متحققاً في دليل الأعراض الذي استعمله المعتزلة لنفي الصفات، فإنه بالمقارنة بينه وبين دليل التركيب الذي استعمله ابن سينا لنفي الصفات؛ نجد أن كلا الدليلين على طريقة ونمط واحد. ومحصل هذا: أن مقالة التعطيل مقالة ينتهي إسنادها إلى نظريات فلسلفية منقولة ليس عليها أثرة شرعية، بل ولا أثرة عقلية مبتدعة -أي: ابتدعها العقل دون الالتزام بقوانين فلسفية معينة-. ولهذا لا تجد أن الأدلة الكبار التي تستعملها المعتزلة بل حتى الأشعرية -وإن كان هذا مقصداً يأتي التنبيه إليه- إلا وهي تتضمن بعض القوانين الفلسفية التي كان يستعملها أئمة الفلاسفة قبل الإسلام كـ أرسطو وغيره، وإن كان يُعلم أن الإسلاميين الذين تكلموا بهذه المقالات التي كان يتكلم بها أئمة الفلسفة لم يوافقوا أئمة الفلسفة موافقةً مطلقة، ولكن مقالاتهم محصلة من طريقة أولئك. ولهذا انتهى ابن سينا إلى إثبات مسألة الوجود المطلق بشرط الإطلاق، والتزم تقرير التجريد في كتبه تقريراً مطولاً، وانتهى إلى عدم إثبات الصفات الثبوتية مطلقاً، وإنما يقع عنده إثبات صفات السلوب أو الإضافات أو المركبات. وهذا الأسلوب وإن كان غلب عليه النمط الفلسفي إلا أن النتيجة المعتزلية الأولى عند أبي الهذيل العلاف وأبي إسحاق النظام وأمثالهما، ومن باب أولى عند جهم بن صفوان والجعد بن درهم هي من حيث النتيجة واحدة، وإن كان تقرير المتفلسفة كـ ابن سينا أخذ الحروف الفلسفية، في حين أن المتكلمين كأئمة الجهمية وأئمة المعتزلة صارت حروفهم مولدة من أنماط فلسفية وأنماط لغوية الخ. فمن هنا يتحصل: أن هذا الإسناد ينتهي إلى قوم ممن عرف كفرهم وإلحادهم وهم المتفلسفة، وهذا انقطاع صريح في مقالة التعطيل.

المقصد الثالث: بيان معتبر القول في باب الأسماء والصفات عند أهل السنة والطوائف

المقصد الثالث: بيان معتبر القول في باب الأسماء والصفات عند أهل السنة والطوائف المقصد الثالث في كلام شيخ الإسلام رحمه الله، وهو: معتبر القول في باب الأسماء والصفات عند أهل السنة والطوائف. أما عند أهل السنة والجماعة: فإن هذا الباب يُحكم بالكتاب والسنة كما قال الإمام أحمد: نصف الله بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث. فدلائل الكتاب والسنة هي الحاكمة في باب الأسماء والصفات، وإن كان ينبه في هذه الدلائل إلى مسألتين: الأولى: أن دلائل الكتاب والسنة ليست دلائل خبرية محضة كما زعمه كثير من غلاة المتكلمين، وعن هذا قالوا: تعارض العقل والنقل؛ ولهذا يصنف غلاتهم الدلائل النقلية السمعية القرآنية النبوية بأنها دلائل خبرية محضة مبنية على صدق المخبر. ومقصودهم بأنها خبرية محضة: أي أنها لم تتضمن ترتيباً أو تصحيحاً عقلياً، وإنما تصحيحها من جهة أن الذي تكلم بها كالنبي صلى الله عليه وسلم أو جاءت في القرآن الذي قد علم لزوم صدقه. وهذا الطعن في دلائل القرآن قد نبه شيخ الإسلام إلى أنه قد استعمله كثير من غلاة المتكلمين بالتصريح، قال: وهو حال عامتهم وإن لم يفصحوا به. والحق أن دلائل الكتاب والسنة وإن كانت دلائل خبرية من جهة أنها قرآن وحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهي دلائل شرعية -ولا شك- في سائر مواردها، لكنها ليست خبريةً محضةً في سائر الموارد، وإذا قلنا: ليست خبريةً محضة في سائر الموارد؛ بمعنى: أنها ليست مبنية على صدق المخبر فحسب، ولهذا ترى أن من دلائل الكتاب والسنة ما يصححه ويقبله من لم يدخل دين الإسلام ويؤمن بصدق نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ففي القرآن استعملت الأدلة الخبرية المحضة، أي: التي يخبر بها الرب سبحانه وتعالى في كتابه، أو يخبر النبي عن ربه ببعض الصفات السمعية المقصورة على ورود السمع. مثلاً: أخبر سبحانه وتعالى في القرآن في سبعة مواضع أنه استوى على العرش، كقوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] فهذه الآية وأمثالها من آيات الاستواء يقال: إنها دليل خبري محض. أي: ليس له ترتيب عقلي سابق؛ بمعنى أن العقل لا يمكن أن يدرك هذه الصفة قبل ورود الشرع بها، وإن كان العقل بعد ورود الشرع بالصفة لا يمكن أن يقع في معارضته أو مخالفته. كذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة حيث قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ...) فهذا أيضاً دليل نبوي خبري محض، ومعنى قولنا: خبري محض أنه لولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر بنزول الله إلى السماء الدنيا لما كان لأحد أن يصل إلى ذلك. لكن فيما يتعلق بعلو الرب سبحانه وتعالى، فقد جاء ذكره في القرآن أكثر من ذكر الاستواء، ولكن الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى بائن عن خلقه، وأنه علي عليهم، هذا حقيقة يقر بها العقل ابتداءً. كذلك الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى سميع بصير .. هذه حقيقة يقر بها العقل ابتداءً، وإن كان الشرع جاء بها؛ ولهذا قد ترى في بعض الدلائل أو بعض الأخبار القرآنية إخبار عما يقر به العقل ابتداءً؛ فيكون خبر الشارع تقريراً وتحقيقاً وضبطاً لهذا المورد الذي يقر به العقل ابتداءً، وهي معاني الربوبية الأساسية الأولى، والتي فطر جمهور الخلق على الإقرار بها ومعرفتها، وتراها في آيات الله الكونية كثيرة. كذلك يقع في كثير من الدلائل القرآنية والنبوية ما هو من الترتيب العقلي، وإن كان الدليل من حيث هو قرآني، فهو دليل شرعي خبري؛ لكنه غير مقصور على مسألة التصديق المحضة -أي: تصديق المخبر- بل هو تصديق عقلي. مثال ذلك: في قوله تعالى في قصة إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75] فإبراهيم عليه السلام هنا يريد مناظرة قومه الذين كانوا يشركون في الربوبية والألوهية على طريق الصابئة، حيث يرون أن الكواكب لها من التأثير في الحوادث السفلية شيء كثير، وأن الحوادث السفلية -كما هو رأي المتفلسفة- فرع عن أثر الكواكب العلوية. فناظرهم إبراهيم عليه السلام كما في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:75 - 76] فهذه الآية من حيث هي قرآن، لكن هل ألزم إبراهيم قومه هنا بكونهم يعتبرون صدقه أو يعتبرون نبوته أم بطريقة عقلية ملزمة لهم؟ الجواب: بطريقة عقلية ملزمة لهم، فإنه لما رأى الكوكب قال: هذا ربي. يعني: هذا الذي يؤثر في الحوادث، وليس مقصود إبراهيم عليه السلام في هذه المناظرة المفروضة: أن هذا رب العالمين؛ لأن قومه -كما نص شيخ الإسلام كثيراً على هذا المعنى- ما كانوا يعدون الواحد من الكواكب هو رب العالمين، وإنما كانوا يعتبرون لكل نوع من الكواكب اختصاصاً ببعض الآثار السفلية، فالأمطار -مثلاً- فرع عن حركة الزهرة، والرياح فرع عن حركة كذا وهلم جرا. قال شيخ الإسلام: ولهذا كانوا يشركون في الربوبية كما أنهم يشركون في الألوهية. أي: لم يكونوا ينكرون أصل مسألة الربوبية من أصلها، وإنما كانوا يشركون فيها كما هو المعروف في كلام المتفلسفة بالترقي؛ ولهذا لما أخذ ابن سينا عن هؤلاء أثبت مسألة العقول العشرة والنفوس التسعة. ثم قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام:76 - 78] ثم قال تعالى بعد ذلك: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83]. فهذه المناظرة من حيث هي آيات قرآنية يقال: إنها دلائل سمعية قرآنية نقلية؛ ولكن ترى أنها مستعملة بمقدمات عقلية، فالمسلمون يقرون بها باعتبار صدق المخبر وهي أنها قرآن من عند الله وهو أصدق القائلين، وباعتبارها مبنية على الترتيب العقلي كذلك؛ ولهذا يخاطب بها حتى الكفار. ولهذا إذا سمع الكفار بعض مثل هذه الصياغات القرآنية ربما أسلم الواحد منهم عن مثل ذلك، كما ثبت ذلك في قصة جبير بن مطعم -كما في صحيح البخاري -: لما أتى المدينة والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقرأ في صلاة المغرب بالطور، حتى قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35]. فترى أن هذا القياس العقلي الضروري يدل على أن الله هو الخالق لهم؛ لامتناع أن يكونوا خلقوا من غير شيء، ولامتناع أن يكونوا هم خلقوا أنفسهم؛ فيلزم ضرورة أن الله هو الذي خلقهم. كذلك قوله تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] هذا اعتراض من بعض الكفار على مسألة المعاد، قال الله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] وهذا الخطاب للنبي قل للرد على المنكر وإن كان يستفيد منه ويتعظ به الجميع، لكن هو في الأصل هو رد على المنكرين: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس:79] بمعنى أن الله خلق الخلق من العدم، فمن باب أولى أن يعادوا إذا كانوا رميماً، وهذا من القياس العقلي الضروري. وهكذا القرآن تضمن كثيراً من ذلك، وهذا هو مقصود شيخ الإسلام لما قال: إن كثيراً من غلاة المتكلمين يقولون: إن دلائل القرآن والحديث دلائل خبرية محضة. أي: ليس فيها تقرير عقلي، بل هي مجرد أخبار تصديقية، والحق أن القرآن والحديث بعضه خبري محض وبعضه خبري تصديقي من جهة المخبر به، لكنه من جهة ترتيب المقدمات فيه يكون عقلياً، أي: يخاطب سائر العقول. وهذا يتعلق بكوننا نقول: إن مذهب السلف هو اعتبار هذا الباب -بل وغيره- بالكتاب والسنة، وقد ترى أحياناً أنه يقال: هذا الباب معتبر بالكتاب والسنة والإجماع. وأحياناً يقال: هذا الباب معتبر بالكتاب والسنة، ولا فرق بين الأمرين؛ لأن الإجماع لا بد أن يكون عن نص من الكتاب أو السنة. هذا هو معتبر أهل السنة في هذا الباب؛ ولهذا لو قيل: ما موقف أهل السنة من العقل؟ قلنا: لم يبطل القرآن مسألة العقل من أصلها، فإن بعض دلائله -كما أسلفت- مركبة على الطريقة العقلية، وقد اعتبر الله سبحانه وتعالى مسألة العقل، فهو أخص المدارك للوصول إلى الإيمان، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف:179] فقدم المدرك العقلي على مدرك السمع والبصر، وكذلك قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46]. وفي قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف:185] والنظر وإن كان بالبصر إلا أنه يرجع إلى المدرك العقل

المقصد الرابع: بيان صلة نفاة متكلمة الصفاتية بمتكلمة الجهمية والمعتزلة الأوائل

المقصد الرابع: بيان صلة نفاة متكلمة الصفاتية بمتكلمة الجهمية والمعتزلة الأوائل المقصد الرابع: وهو صلة نفاة متكلمة الصفاتية بمتكلمة الجهمية والمعتزلة الأوائل الذين ذمهم السلف. الإشكال في باب الأسماء والصفات لم يقع كثيراً بقول المعتزلة والجهمية وإن كانوا هم الأصل في هذا الباب؛ لأن قول المعتزلة -وبخاصة أئمة المعتزلة- وقول الجهمية قد علم تميزه عن قول أهل السنة والجماعة، وحصل بين أئمة السلف وبين أئمة الجهمية والمعتزلة ما هو معروف من الرد والاختلاف والتمايز، ولم ينتسب أئمة الجهمية والمعتزلة لأهل السنة أو شيء من طرقهم، فهم مباينون للسلف في الانتماء وفي الحقيقة العلمية، ومن هنا لا يكون في قولهم ذاك الإشكال الكثير. لكن لما جاء متكلمة الصفاتية ممن اشتغلوا بشيء من النفي -وأخصهم ثلاث طوائف: الكلابية، والأشعرية، والماتريدية- اتفقوا على ذم المعتزلة والجهمية، حتى إن أكثر ما تراه في كتب الماتريدية والأشاعرة وما نقل عن كتب الكلابية -بل ما في كتب بعض الكلابية كـ الحارث بن أسد المحاسبي - في الغالب أنه ردود مفصلة على المعتزلة. كذلك انتسب متكلمة الصفاتية -في الجملة- لأهل السنة، وهم -في الجملة- يثبتون أصول الصفات -وإن كانوا يختلفون في القدر الذي يثبتونه- والغالب عليهم الانتساب لأحد الأئمة الأربعة في الفقه، وكثير من أئمتهم يعظمون مذهب السلف تعظيماً صريحاً كما هي حال الأشعري وأمثاله .. فلهذه الأسباب ولغيرها أيضاً وقع اشتباه كثير في هذه المذاهب المتأخرة، فتأثر بها طوائف من الفقهاء وبعض الصوفية، بل وشاعت في المتكلمين الذين ينتسبون للسنة والجماعة، والذين يفرضون أنهم مفارقون مباينون لطريقة المعتزلة. وقد عني المصنف كثيراً بالتحقيق في هذا المقصد والتوسط فيه والعدل؛ فقال رحمه الله: وهذه التأويلات الموجودة اليوم بأيدي الناس مثل أكثر التأويلات التي يذكرها أبو بكر بن فورك وأمثاله هي بعينها تأويلات بشر المريسي الذي ذمه السلف .. إلخ. بمعنى أن هؤلاء الطوائف الثلاث ومن وافقهم، وإن كانوا قد خالفوا المعتزلة مخالفة حقيقية في بعض المسائل إلا أنهم فيما نفوه وتأولوه قد أخذوه عن الجهمية والمعتزلة، بمعنى أنه ليس في نفس الأمر في هذا الباب إلا أحد ثلاثة مذاهب، وهي المذاهب التاريخية الأولى: إما مذهب أهل السنة، أو مذهب المعطلة النفاة الجهمية والمعتزلة، أو مذهب المشبهة .. هذه هي المذاهب المعتبرة في هذا الباب من حيث الحقيقة العلمية ومن حيث الحقيقة التاريخية، أما من حيث الحقيقة العلمية فإن الحقيقة العلمية لا تخرج عن هذه الفروضات الثلاث: التشبيه، أو النفي الصريح، أو الإثبات مع التنزيه عن التشبيه كما هي طريقة أهل السنة. وأما الواقع التاريخي الأول فإنه في التاريخ الأول كان الأصل زمن الصحابة إلى آخر زمن التابعين هو قول أهل السنة والجماعة، ثم ظهرت مقالة التعطيل، ثم ظهرت مقالة التشبيه. واستقر الأمر على هذه المقالات الثلاث، حتى جاء متكلمة الصفاتية ومال بعضهم كـ محمد بن كرام السجستاني إلى طريقة التشبيه، ومال جمهورهم إلى شيء من الجمع بين طريقة أهل السنة المحضة وبين طريقة التعطيل؛ ولهذا أثبت الأشعرية بعض الصفات ونفوا البعض الآخر؛ ولهذا يكونون فيما نفوه أو تأولوه فرعاً عن المعتزلة والجهمية؛ ولهذا لا يذم الأشاعرة المعتزلة فيما يتفقون معهم على نفيه، إنما فيما تثبته الأشاعرة، فيصير المذهب الأشعري وأمثاله ملفقاً من قول أهل السنة وقول المعتزلة. وهذا الوصل موضع هام عند المصنف وهو يقع في قوله: وهذه التأويلات .. إلخ. وقيمة هذا الوصل: أنه كما أن السلف اتفقوا على ذم الجهمية والمعتزلة -بل حتى الأشاعرة يذمون المعتزلة والجهمية- كذلك الأشاعرة بسبب هذه الصلة مستحقون لنفس هذا الذم في الجملة.

المقصد الخامس: أصناف المنحرفين عن سبيل السلف

المقصد الخامس: أصناف المنحرفين عن سبيل السلف قال المصنف: والمنحرفون عن سبيلهم ثلاثة أصناف -أي: عن سبيل السلف-: الأول: أهل التخييل: وهم الذين فرضوا نصوص الكتاب والسنة تخييلاً للجمهور، واختصوا الحقيقة العلمية بمن سموهم الحكماء -يعنون الفلاسفة- وهذه طريقة المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متفقه ومتصوف ومتكلم. وقد ظهر المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام بعد علماء الكلام، وكان من أولهم -إن لم يكن هو أولهم كما تذكر بعض الكتب والمصادر: إن أول من تكلم بالطريقة الفلسفية المحضة في التاريخ الإسلامي هو- يعقوب بن إسحاق الكندي، لكن لم يكن له ذاك الشأن المشهور، إنما اشتهر هذا النمط من كلام أبي نصر الفارابي وأبي علي بن سينا. والمتفلسفة في الجملة ينقسمون إلى قسمين: إما نظارية محضة أي يستعملون الطرق الفلسفية النظرية كما هي طريقة أبي الوليد بن رشد وغيره من المتفلسفة، أو عرفانية يستعملون الطرق الباطنية العرفانية التي تنبني على التصوف والإشراق، كما هي طريقة كثير من هؤلاء، وبخاصة الذين انتسبوا إما إلى التشيع وإما إلى التصوف، فإن الباطنية المتفلسفة ينتسبون في الظاهر إلى أحد مذهبين: إما التشيع كما هو شأن أئمة الإسماعيلية والنصيرية، أو إلى التصوف كما هي طريقة أهل وحدة الوجود وأمثالهم كـ ابن عربي وابن سبعين .. إلخ، أو طريقة ابن سينا في بعض أحواله. فالباطنية إذاً: إما باطنية شيعة أو باطنية صوفية. وهم في الحقيقة متفلسفة، وبخاصة في طبقة الأئمة منهم، وإن كان قد ينتسب للإسماعيلية من لا يعرف شيئاً اسمه الفلسفة، بل ربما كان أعرابياً ساذجاً، لكن من حيث أئمة المذهب تراهم متفلسفة أو مقلدة لسلفهم المتفلسفة أصحاب الإشارات والرموز، وهي طريقة تجريدية بعيدة عن الطرق الفلسفية النظرية. وبعض هؤلاء المتفلسفة الذين انتسبوا للإسلام يستعمل كلا المذهبين: المذهب العرفاني والمذهب النظري؛ فيؤمنون بكلا الطريقين كما هو حال ابن سينا؛ فإنه يستعمل الطريقة العرفانية تارة، فتراه إشراقياً تجريدياً غنوصياً، وتراه في بعض كتبه وأحواله نظرياً عقلانياً، بل إنه في كتابه المشهور الإشارات والتنبيهات ركبه من هذه الطريقة وهذه الطريقة، وصرح ابن سينا في غير موضع من كتبه أنه يؤمن بكلا الطريقين. كما تأثر بالمنهج الذي صنعه ابن سينا الغزالي في ميزان العمل، فقد ذكر أن مذهبه ثلاثة: مذهب الجدل بالطريقة الكلامية، ومذهب اليقين بالطريقة الصوفية، ومذهب الإرشاد بطريقة الوعظ بالزواجر والدواعي. هذا الصنف الأول وهم أهل التخييل، وهم ملاحدة زنادقة في الجملة، وهم من حيث الحقائق التي توصلوا إليها هي حقائق فلسفية منقولة، إما عن أرسطو كما هي في الطرق النظرية الغالبة أو عن غيره من الفلاسفة المثاليين، إما عن أفلاطون أو عن غيره. هذا هو الصنف الأول، وكما أسلفت أنه تأخر ظهوره من حيث التاريخ عن المتكلمين، وهؤلاء اتفق المسلمون على ذمهم، وصنف حتى أئمة الكلام في الرد عليهم، ومن ذلك كتاب أبي حامد الغزالي كتابه مقاصد الفلاسفة، ثم تهافت الفلاسفة وقد جزم الغزالي بكفر الفلاسفة في ثلاثة مسائل: مسألة إنكار المعاد الجسماني، والقول بأن الله لا يعلم الجزئيات وإنما يعلم الكليات، والقول بقدم العالم. والمصنف هنا يقول: وهم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من المتفقه. وهو يشير بهذا إلى بعض المتفلسفة الذين اشتهروا بشيء من الفقه كما هو حال أبي الوليد بن رشد صاحب كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد فإنه متفقه على مذهب الإمام مالك، وإن كان فيلسوفاً أكثر ما اشتهر بمسألة الفلسفة، وبخاصة الفلسفة الأرسطية المنسوبة لـ أرسطو طاليس؛ لأنه من أكثر من دافع عنه وانتصر لطريقته. ومتصوف كما هو حال ابن عربي وابن سبعين والتلمساني وأمثالهم، فإن هؤلاء وإن عرفوا بالتصوف إلا أن حقائقهم العلمية مبنية على مقدمات فلسفية محضة، بل نظرية وحدة الوجود قد نص أرسطو في بعض كتبه على أنها نظرية فلسفية، وكتب كثيراً في الرد عليها كما ذكر ذلك ابن سينا، وكما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله. الصنف الثاني: وهم أهل التأويل. وهم الغالب على علماء الكلام، وإن كان ليس كل متكلم هو من أهل التأويل، بل من المتكلمين مشبهة كـ هشام بن الحكم، أو مجسمة كـ محمد بن كرام وأتباعه، لكن جمهور المتكلمين هم من أهل التأويل، وبخاصة أئمة الجهمية والمعتزلة وعامة الأشاعرة والماتريدية، وهم الذين عني المصنف وقصد الرد عليهم؛ لظهور الإشكال في طريقتهم وبخاصة لما انتسب قوم من أصحابها إلى أهل السنة والجماعة، كما هو حال الأشعري وعامة أصحابه. الصنف الثالث: وهم أهل التجهيل. وهذه ليست طائفة مختصة معينة، وإنما هو قول في الصفات شاع في كثير من الطوائف المتأخرة، فاستعمله طائفة من الأشاعرة، واستعمله طائفة من الصوفية، وبعض المنتسبين للسنة من الفقهاء ممن لم يحقق مذهب السلف؛ لأن جمهور الأشاعرة قرروا فيما نفوه من الصفات أن مذهب السلف فيه هو التفويض، وهو الذي يسميه المصنف تجهيلاً.

المقصد السادس: النقل عن أهل الإثبات

المقصد السادس: النقل عن أهل الإثبات بمعنى أن المصنف نقل عن أعيان أئمة السلف ما يدل على إثبات الأسماء والصفات، وهذا نقل يقصد حقيقته قصداً تاماً، ولكنه نقل بعد ذلك عن بعض الفقهاء وبعض الصوفية وبعض المتكلمين ليقرر أن ما قرره المتأخرون من الأشاعرة من الاختصاص الحنبلي في هذه المسألة ليس كذلك، وأن الإثبات وبخاصة لمسألة العلو والصفات الخبرية شائع في جنس طوائف المثبتة من المتكلمين والصوفية والفقهاء. هذا مقصود المصنف من هذا النقل؛ ولهذا ليس كل من نقل عنه المصنف فإنه يلتزم صحة ما نقل عنه، أو أنه يعتبر قول هذا الذي نقل عنه في سائر الموارد كما هو معروف في نقله عن الباقلاني أو عن أبي المعالي الجويني أو عن أبي الحسن الأشعري إلى غير ذلك.

المقصد السابع: الجمع بين العلو والمعية

المقصد السابع: الجمع بين العلو والمعية المقصد السابع: عناية المصنف بعد هذه النقولات بالجمع بين العلو والمعية؛ وهو يقرر أنه ليس في شيء من نصوص الكتاب والسنة تعارض، وليس في شيء من نصوص الكتاب والسنة ما يعارض العقل، بمعنى: أن النصوص لا تعارض بينها من حيث النص مع النص، ولا تعارض بين النصوص والدلائل العقلية الصحيحة. وأخص ما شغب به كثير من أهل التأويل على السلف: مسألة المعية، حيث قال السلف في المعية العامة: إن الله مع خلقه بعلمه وإحاطته، وفي المعية الخاصة قالوا: بنصره وولايته وتأييده. فيبين المصنف أن هذا ليس من باب تأويل المعية، وأن المعية لا تناقض علو الرب سبحانه وتعالى، فالله هو العلي الأعلى، وهو فوق سماواته مستوٍ على عرشه بائن عن خلقه، وهو مع سائر خلقه بعلمه وإحاطته، ومع أوليائه بنصره وتأييده. وذلك لأن لفظ مع في العربية لا يستلزم الحلول والذاتية، بل هو لمطلق المقارنة والمصاحبة، وهذه المقارنة والمصاحبة قد تكون مماسة، أو قد تكون علمية، أو قد تكون نصراً وتأييداً بحسب السياق، وسياقها في القرآن يمتنع أن يكون يقصد به المماسة والذاتية والحلول؛ لأنه في حق الرب سبحانه. إذاً هي مفسرة في المقامين: إما بالعلم والإحاطة أو بالنصر والتأييد، وإن كانت قد تستعمل في الذاتية والمماسة والحلول بين المخلوقات، كما إذا قيل مثلاً: عقلي معي أو يدي معي أو كتابي معي. فقد يكون مماساً حالاً كما هو في مسألة العقل، أو مماساً كما هو في مسألة: كتابي معي. لكن هذه الفروضات ليست لازمة في مسألة المعية، حتى بين المخلوقات؛ فإن العرب تقول: ما زلنا نسير والقمر معنا. ومع ذلك لم يلزم أن يكون حالاً أو مماساً، وإذا كان هذا متحققاً في المخلوقات بعضها مع بعض في معيتها فهو في حق الخالق من باب أولى.

المقصد الثامن: غلط المخالفين في تسمية وعقيدة أهل الحديث

المقصد الثامن: غلط المخالفين في تسمية وعقيدة أهل الحديث عقيدة أهل السنة والجماعة لا تتلقى إلا من كتب أهل السنة والجماعة، وأوصاف أهل السنة والجماعة لا تتلقى إلا من كتب أهل السنة والجماعة؛ ذلك أن المخالفين طعنوا في اسم أهل السنة فسموهم -كما هو شأن الجهمية مثلاً- حشوية مشبهة، والرافضة تسميهم نواصب وهلم جرا من التسميات التي هي من العدوان والبغي على أئمة السنة والحديث من فقهاء الإسلام وأئمتهم. وكذلك عقيدة أهل السنة التي ذكرها كثير من المتكلمين غير معتبرة، بل عقيدتهم تؤخذ من الكتب المصنفة في عقيدتهم، وهي العقيدة المذكورة في الكتاب والسنة؛ وذلك أن كتب المقالات كالمقالات لـ أبي الحسن الأشعري - مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين - أو الملل والنحل للشهرستاني، أو الفَرق بين الفِرق للبغدادي، أو المحصل للرازي أو اعتقادات فرق المسلمين والمشركين وإن كانت تذكر ما تسميه اعتقاد أهل السنة، على أحد حالين: إما أن أصحابها يذكرون قول أهل السنة بشيء من التفصيل، ولكنهم يقصدون بأهل السنة الأشاعرة كما هو شأن البغدادي في كتابه الفَرق بين الفِرَق؛ فإنه خصص مقالة أهل السنة وشرحها شرحاً مفصلاً، لكنه يقصد بها عقيدة الأشاعرة. أو أنهم أحياناً يذكرون قول أهل السنة وهم يعنون الأئمة لكنهم يجملونه إجمالاً شديداً كما هو شأن أبي الحسن الأشعري في كتاب المقالات. أو أنهم يضيفون إلى السلف أو إلى بعضهم ما يعلم أنه غلط عليهم، كما هو شائع في هذه الكتب التي صنفت في المقالات، وصنفها قوم من أئمة الكلام، كما هو شأن الشهرستاني في كتابه الملل والنحل. ولهذا اعتبر الشهرستاني وأمثاله -وإن كانوا من أعلم الناس بالمقالات- من أجهل الناس بمقالات أهل السنة والحديث. إذاً: عقيدة أهل السنة تتلقى من الكتب المصنفة في عقيدة أهل السنة، وقد ذكر المصنف في رسالته هذه كثيراً منها، أو من الكتب المتأخرة بعد ذلك ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية وأمثالها.

المقصد التاسع: بيان الأصناف الممكنة في باب الأسماء والصفات

المقصد التاسع: بيان الأصناف الممكنة في باب الأسماء والصفات يذكر المصنف الأقسام الممكنة في باب الأسماء والصفات، فيذكر ستة أقسام، على كل قسم طائفة من أهل القبلة. وهو لا يقصد بهذا أن كل طائفة التزمت قسماً ورفضت غيره، وإن كان هذا يقع فإن أهل السنة التزموا الإثبات مع التنزيه عن التشبيه، لكن بعض طرق الوقف -الذي هو التفويض- يستعمله بعض من يستعمل التأويل. وهذه الأقسام الستة هي: قسمان ينفيانه، وقسمان يتوقفان، وقسمان يثبتان. ثم فصل المصنف رحمه الله هذه الأقسام التي أجملها. فقال: قسمان يقولان على ظاهرها، ثم إما يجعلون ظاهرها التشبيه وإما يجعلونه الإثبات مع التنزيه عن التشبيه، كما هي طريقة أهل السنة. وقسمان يقولان: ليست على ظاهرها، وقسمان يتوقفان. ثم ذكر أن القسمين اللذين ينفيان ظاهر النصوص إما أنهم ينفون اللفظ والمعنى أو أنهم ينفون المعنى ويتوقفون في اللفظ، ولهذا كانت أقسام المفوضة في كلام المصنف ثلاثة: القسمان الواقفان -وهذا صريح أنهم مفوضة- والقسم الثاني من القسمين اللذين ينفيان ظاهرها، إما أنهم ينفون الظاهر لفظاً ومعنى، أو ينفون المعنى ويسكتون عن اللفظ.

المقصد العاشر: النظر في حال المخالفين

المقصد العاشر: النظر في حال المخالفين أشار المصنف في ختام الرسالة إلى النظر في حال المخالفين، فقد بين في أول رسالته أنهم في قول مختلف، وذكر نقلاً عن الرازي في كتابه أقسام اللذات لما قال: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. ونقل عن الشهرستاني في كتابه نهاية الإقدام: لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم وكذلك نقل عن أبي المعالي الجويني. فبين أن هؤلاء قد استولت عليهم الحيرة، وأنهم لم يحققوا في هذا الباب شيئاً من العلم؛ لأنهم أعرضوا عن محل التحقيق والعلم في هذا الباب وهو الكتاب والسنة، فهم يُذمون من هذا الوجه، ويُطعن على مذهبهم كثيراً، ويبين أنه مذهب مخالف للقرآن والحديث، ومخالف لإجماع السلف. ولكنهم من جهة أخرى، ينظر إليهم بعين القدر والرحمة؛ فإنه يترفق بهم؛ فإن القوم أوتوا ذكاءً ولم يؤتوا زكاءً، وأوتوا عقولاً ولم يؤتوا فهوماً تناسب الفهم الصحيح في كتاب الله وسنة نبيه. ولهذا يمكن أن يقال: إن هذا إشارة إلى أن طالب العلم ينبغي له أن يفرق في هذا المقام بين المقالة وقائلها، وأن الحكم الذي تأخذه المقالة كما إذا قيل القول بخلق القرآن كفر كما تواتر عن السلف، لكن ليس كل من قال: القرآن مخلوق من المعتزلة وغيرهم يقال: إنه كافر، وليس معنى هذا الكلام أنه يمتنع تكفير الأعيان عند السلف؛ وإلا لما كان كفراً حقيقياً، وإنما المقصود أنه لا تلازم بين المقالة وقائلها؛ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الواحد من أهل الصلاة لا يكون كافراً في نفس الأمر إلا إذا كان ما يظهره من الصلاة ونحوها على جهة النفاق. وقال: إن بعض مقالات الجهمية الكفرية وقع فيها بعض من له إيمان معروف من هذه الأمة الذين لم يتبين لهم حقيقة هذه المقالة، وقال: والإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهمية إلا أنه لم يشتغل بتكفير كل من قال بقولهم، بل قد صلى خلف من يقول بخلق القرآن ودعا له واستغفر له. يقصد: المعتصم العباسي؛ فإنه كان من القائلين بخلق القرآن حتى إنه نصره بالسيف، ولكن الإمام أحمد لم ير أنه قد تحقق فيه حكم هذه المقالة الكفرية. فالقاعدة: أنه ثمة فرق بين المقالة وقائلها. وفي هذا الباب للمصنف رسالة لطيفة في المجلد الثالث، وهي شرحه لحديث الافتراق، وقد ذكر فيها بعض القواعد في مسألة أهل القبلة، وتبديع المخالف للسلف، وهل يقال بكفرهم أو لا يقال، وبين غلط بعض الفقهاء الذين كفروا أهل البدع، واحتجوا بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: (كلها في النار إلا واحدة) حيث ففهموا من هذا الجزم لهم بالنار، أو فهموا من هذا أنهم كفار، فبين أن كلا الفهمين غلط، فإنه لا يجزم لسائر المخالفين للسلف بالنار باعتبار سائر أعيانهم، ولا يجزم لهم باعتبار سائر أعيانهم بالكفر، بل جمهورهم على الإسلام وإن كانوا ظالمين لأنفسهم بتقصيرهم في تحقيق الحق واتباعه وطلبه والاجتهاد فيه. وإن كان يقع في بعض الطوائف من هو من أهل الزندقة كما هو حال غلاة الصوفية أو غلاة الجهمية أو الشيعة المؤلهين لـ علي، والذين قتلهم علي رضي الله عنه، عندما ظهر بعضهم في زمنه.

شرح الحموية [22]

شرح الحموية [22] ذكر أهل العلم من أهل السنة والجماعة جملة قواعد في باب الأسماء والصفات تعين على فهم هذا الباب وضبطه، وتعين في الرد على المخالفين في هذا الباب من أهل البدع، وهي قواعد مأخوذة من نصوص الكتاب والسنة، ومن أقوال الأئمة رحمهم الله تعالى.

قواعد في باب الأسماء والصفات

قواعد في باب الأسماء والصفات نشير هنا إلى بعض القواعد في باب الأسماء والصفات بصورة مختصرة، من باب إتمام الفائدة. وهي عشر قواعد من أخص القواعد في هذا الباب:

القاعدة الأولى

القاعدة الأولى الأولى: أن الله موصوف بالنفي والإثبات عند أهل السنة، وأن جمهور الإثبات في الكتاب والسنة أو على طريقة السلف إثبات مفصل، وغالب النفي الغالب أنه نفي مجمل، فمن ذلك الإثبات المفصل لأسماء الله في القرآن: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] ومن الإثبات المفصل في الصفات قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] .. إلى غير ذلك. فالإثبات المفصل والنفي المجمل هو الغالب على الطريقة القرآنية النبوية طريقة أهل السنة والجماعة، ولكن يقع في القرآن إثبات مجمل ونفي مفصل، ومثاله في الأسماء قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف:180] وفي الصفات وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] أي: الوصف الأكمل. ومثال النفي المفصل في القرآن قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] وقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] لكن ينبه إلى أن ما يقع من النفي المفصل فإنه يتضمن ثبوت كمال الضد؛ لأن النفي المحض -أي: الذي لا يتضمن أمراً ثبوتياً- ليس بشيء، فلا يكون كمالاً، بل يكون في جمهور الموارد نقصاً ينزه الله تعالى عنه؛ ولهذا كل نفي مفصل في القرآن فإنه يتضمن ثبوت كمال الضد، فقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] أي: لكمال عدله، وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] أي: لكمال حياته وقيوميته وهلم جرا.

القاعدة الثانية

القاعدة الثانية الثانية: أن القول في الصفات كالقول في الذات، فكما أن الله سبحانه له ذات لا تشابه الذوات، وهو منزه سبحانه وتعالى في ذاته عن خلقه، وذاته ثابتة له بإجماع المسلمين بل بإجماع عامة بني آدم الذين يقرون بوجود الرب سبحانه وتعالى، فإن القول في صفاته كالقول في الذات؛ لأن الصفات مناسبة وتابعة للذات. وهذه القاعدة يرد بها على الجهمية والمعتزلة الذين أثبتوا الذات المنزهة عن الذوات، ونفوا الصفات لأنها تستلزم أن تكون كصفات المخلوقين، فيقال: كما أثبتم لله ذاتاً لا تشابه الذوات يلزم أن يكون له صفات لا تشابه الصفات؛ فإن القول في الصفات فرع عن القول في الذات.

القاعدة الثالثة

القاعدة الثالثة الثالثة: أن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر. وهذه القاعدة يرد بها على نفاة متكلمة الصفاتية من الأشعرية ونحوهم الذين أثبتوا بعض الصفات ولم يروا فيها تشبيهاً، ونفوا بعض الصفات ورأوا في إثباتها تشبيهاً أو تجسيماً أو حدوثاً أو نحو ذلك. فهذه القاعدة تدل على أن القول في الصفات واحد، فمن قال: إن غضب الله يؤول بالإرادة؛ لأن الغضب من صفات المخلوقين. قيل: والمخلوق يتصف بالإرادة. فإذا قال: إرادة تثبت لله ليست كإرادة المخلوقين، قيل: وغضبه ليس كغضبهم .. وهلم جرا.

القاعدة الرابعة

القاعدة الرابعة الرابعة: أنا نعلم ما أُخبرنا به من أسماء الله وصفاته من وجه دون وجه، فنعلمها من حيث المعاني؛ فإنا نعلم معنى السميع والبصير والعليم والحكيم، ونعلم معنى الرضى والغضب والسمع والقدرة والخلق .. إلخ، لكن لا نعلمها من وجه آخر، وهو: كيفية الصفات. كما قال مالك رحمه الله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. فلا تلازم بين العلم بالمعنى والعلم بالكيفية؛ لأن العلم بالكيفية ممتنع؛ لأن الله سبحانه لا يحاط به علماً.

القاعدة الخامسة

القاعدة الخامسة الخامسة: أن لفظ الظاهر صار فيه إجمال واشتراك، فإذا قيل: هل ظاهر النصوص مراد أو ليس مراداً؟ قيل: إن قصد بالظاهر المعنى اللائق بالله سبحانه وتعالى فإن ظاهر النصوص مراد، وإن قصد بالظاهر التشبيه فإن هذا المعنى يعلم أن الرب سبحانه منزه عنه، ولكن لا يسلم ولا يجوز أن يجعل هذا المعنى الباطل هو ظاهر النصوص؛ لأنه يلزم منه أن يكون ظاهر القرآن كفراً، وهذا مما ينزه كتاب الله سبحانه وتعالى عنه.

القاعدة السادسة

القاعدة السادسة السادسة: أن ما علم ثبوته في الكتاب والسنة يثبت، وما علم نفيه ينفى، وما لم يرد بلفظه إثبات ولا نفي من الألفاظ المجملة الحادثة فإنه يتوقف فيه. وإذا كان كذلك فلا يعني هذا أنك لا تنفي نقصاً عن الله إلا إن كان النص القرآني صرح به، فإن هذه قاعدة -كما قال شيخ الإسلام - لم يلتزمها أحد من أهل السنة، بل ولا أحد من الطوائف، فإن القول بأن الله منزه عن الجهل صحيح وبدهي عند المسلمين، لكن التصريح بنفي الجهل لم يرد في القرآن أو السنة، مع أنه منفي عن الله سبحانه وتعالى. إذاً: القاعدة: أن صفات الكمال المنصوص عليها في القرآن كل ما يقابلها ويضادها فإنه يعلم أن الرب منزه عنه، فلما وصف نفسه بالعلم دل على أنه منزه عن الجهل .. وهلم جرا. وإن كان النص تارة يصرح ببعض هذه الأضداد، كقول النبي: (إن ربكم ليس بأعور) فإن الله موصوف بالبصر، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن ربكم ليس بأعور) مع أن من وصف بالبصر على جهة الكمال، فإنه يعلم أنه منزه عن ذلك. أما اللفظ الذي لم يرد ولكنه من الألفاظ الحادثة المجملة التي تحتمل حقاً وباطلاً؛ فإن طريقة السلف في هذا أنهم يتوقفون في اللفظ، ويستفصلون في المعنى، فإن كان صواباً قبل، وإن كان باطلاً رد، أما اللفظ فإنه يتوقف فيه من حيث الأصل، وإن كان مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم لا بأس به عند المناظرة كما قرره المصنف؛ وذلك كلفظ الجهة والجسم ونحوها.

القاعدة السابعة

القاعدة السابعة السابعة: وهي قاعدة فاضلة في هذا المقام، وهي من أخص موارد الغلط عند المخالفين، وهي أن الاشتراك في الاسم المطلق لا يستلزم التماثل في الحقيقة عند الإضافة والتخصيص. وبعبارة أخرى: أن الاشتراك في الاسم المطلق ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص في مثل قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] ذلكم أن الله وصف نفسه بالرضا فقال: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] وأضاف صفة الرضا إلى المخلوقين فقال: {وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] وقال: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] وقال تعالى عن نفسه: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء:58] وقال عن عبده: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] وقال عن نفسه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] وقال عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] وهلم جرا. فهذا التوارد الذي تراه في القرآن في الاسم المطلق ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص، وإلا للزم أن يكون القرآن متناقضاً؛ إذا كان قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] يعني: أنه لا يوصف الله بصفة ثبت اشتراك بينه وبين المخلوق في اسم الصفة المطلق؛ فيلزم من هذا أن يكون القرآن متناقضا؛ لأنه نفى التشبيه وأثبته. وإنما الاشتراك في الاسم المطلق ليس هو التشبيه الذي نفته النصوص؛ لأن الاشتراك في الاسم المطلق ليس له وجود خارجي، إنما وجوده وجود ذهني، والوجود الخارجي من شرطه: الإضافة والتخصيص والتعيين. فإذا قلت: محبة. فهل فهمت أي محبة هنا؟ هل هي محبة الولد لأبيه، أو الأب لابنه، أو الزوج لزوجته، أو هي محبة المؤمن لربه، أو محبة الرب لعبده المؤمن، إذاً: هي لفظة مجردة لا تخصيص فيها ولا إضافة ولا تعيين؛ فإذا أضفت فقلت: محبة المؤمنين لربهم. أو قلت: محبة الله لعبده. أو قلت: محبة زيد لعمر. فعند الإضافة والتخصيص يكون معنى المحبة في المقامات الثلاثة مختلفاً، والماهية والحقيقة مختلفة. إذاً: من طرق الرد على المخالف أن يقال: إن نعيم الجنة الذي وصفه الله في الكتاب أو في ما جاء في السنة النبوية في كثير من الأسماء يشترك مع نعيم الدنيا، ففي الجنة خمر وفي الدنيا خمر، لكن خمر الجنة ليس كخمر الدنيا؛ لأن الله ذم خمر الدنيا بل سماه رجساً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة:90] وهذا مجمع عليه بين المسلمين، فبالضرورة أن خمر الآخرة ليس مثل خمر الدنيا مع أن الاسم واحد، وكذلك الماء وغيره من الأسماء التي ذكرت في الدنيا وذكرت نعيم الآخرة. فمثلما: حصل اشتراك في الاسم المطلق بين الخمر والخمر ولم تتماثل الحقيقة، فمن باب أولى إذا أضيفت صفة إلى الله وجاء اسمها في حق العبد ألا تكون الصفة كالصفة. أي: إذا كان الاشتراك في الاسم المطلق لم يستلزم التماثل في الماهية والحقيقة بين المخلوقات كخمر الدنيا وخمر الآخرة فبين الخالق والمخلوق من باب أولى. إذاً: من ينفي بعض صفات الله كالغضب والرضا ونحوه من الأشاعرة بحجة أن المخلوق يتصف بها أو أن إثباتها يستلزم تشبيهاً يقال: ما قولكم في علم الله؟ ألم تثبتوا لله علماً يليق به مع أن للمخلوق علماً، وأثبتم لله قدرة مع أن للمخلوق قدرة، بل ثبوت صفة القدرة للمخلوق أعرف وأشهر من ثبوت صفة الغضب، ومع ذلك قالوا: إن قدرة الباري ليس كقدرة المخلوق، فيقال: فكذلك الغضب والرضا .. وهلم جرا. فإن كان النافي من المعتزلة والجهمية الذين ينفون كل الصفات كذلك قيل: أنتم أثبتم لله وجوداً مع أن المخلوق موجود، فحصل اشتراك في اسم الوجود، فإما أن تكون ماهية الوجود واحدة وهذا يعلم امتناعه، فإن الله واجب الوجود والمخلوق ممكن الوجود، ومعلوم بالضرورة العقلية والفطرية أن ثمة تبايناً بين وجود الخالق ووجود المخلوق مع الاشتراك في اسم الوجود. فالقول في العلم وغيره كالقول في الوجود، فإن قلتم: إثبات العلم يستلزم أن يكون كعلم المخلوق، قيل: لم لم يلزم ذلك في اسم أو في صفة الوجود؟ إذاً الأشاعرة يرد عليهم بما يثبتونه من الصفات، ومن ينفي كل الصفات يرد عليه بصفة الوجود التي لا يستطيع أحد أن ينفك عنها. وهذا هو السبب في عناية شيخ الإسلام بتقرير قاعدة الوجود والفرق بين أنواع الوجود، وأن الاشتراك باسم الوجود المطلق لم يستلزم التماثل في ماهية وجود الخالق ووجود المخلوق؛ لأنه يتحقق به إبطال لمذهب أصناف المخالفين.

القاعدة الثامنة

القاعدة الثامنة الثامنة: وهي قياس الأولى في حق الله. وهي أن كل كمال ثبت للمخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه فالخالق أولى به .. وهذا هو معنى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل:60] وقد سماه من سماه من أهل السنة لما ذكروا الموقف من القياس بقياس الأولى. فإن الكلام صفة كمال في المخلوق لا نقص فيه بوجه من الوجوه من حيث هو صفة، وإن كان بعض المخلوقين قد يستعمل هذه الصفة في الكفر، والدليل على أنه كمال: أن الله أبطل ألوهية العجل لكونه ليس متصفاً به: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ} [الأعراف:148] فدل على أن عدم اتصافه بالكلام دليل على نقصه، وأن الإله الحق يتصف بالكلام، وكذلك في قول إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً} [مريم:42] حيث استدل إبراهيم على بطلان ألوهية الأصنام بكونها لا تسمع ولا تبصر. فبما أن الكلام والسمع والبصر والإرادة والقدرة كمالات في المخلوق فالخالق أولى بها، ولكنها في حقه ليست كالصفات التي يتصف بها المخلوق. وقلنا: لا نقص فيه بوجه من الوجوه؛ لأن بعض الصفات هي كمال في المخلوق لكنه كمال إضافي وليس كمالاً مطلقاً، أي: أنه كمال بشري، أي: أن الصفة عند تجريدها لا يمكن أن يقال عنها: إنها كمال، لكنها صارت كمالاً باعتبار حال بني آدم. إذاً الكمال الذي إذا اتصف به المخلوق فالخالق أولى به هو: ما كان في المخلوق من الكمال المطلق، وليس المقصود بالمطلق التام، وإنما الذي هو كمال حتى في مقام التجريد، كصفة الإرادة. فإن الإرادة صفة كمال، سواء أضيفت إلى أي شيء. وحتى لا تفهم هذه القاعدة خطأ توضح الفرق بين الكمال المطلق والكمال الإضافي في المخلوق؛ حيث إن بعض الناس إذا سمع هذه القاعدة قال: الشخص الذي يأكل ويشرب أكمل من الشخص الذي لا يأكل ولا يشرب، بل الذي لا يأكل ولا يشرب يكون فيه علة؛ إذاً: الأكل والشرب صفة كمال! فنقول: الأكل والشرب كمال إضافي وليس كمالاً مطلقاً، بمعنى أنه عند التحقيق يعتبر نقصاً .. لماذا؟ لأن طبيعة تركيب الإنسان الجسمانية ينبني بقاؤها على مسألة الأكل فلو لم يأكل ويشرب لانتهى، وهذا نقص في بني آدم، ولهذا كانت الملائكة كما يقول شيخ الإسلام: كانت الملائكة صُمْد. وفي قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] في أشهر التفسيرين عند السلف أن الصمد: السيد، ولكن جاء في رواية عن ابن عباس صححها شيخ الإسلام ونصرها وصوبها وقال: إنها لا تعارض الرواية الأخرى عن ابن عباس والقول الآخر عند السلف أن الصمد: هو الذي لا جوف له. وقال: إن هذا كمال يتصف الله به؛ لأن التجويف نقص. ولهذا ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة لما خلق الله آدم تركه في الجنة ما شاء أن يتركه فجعل إبليس يطوف به -أي: يدور حوله- فرآه أجوف -أي: مجوف الداخل، بمعنى أنه يحتاج لقانون الأكل والشرب والشهوة .. الخ- قال: فلما رآه أجوف؛ عرف أنه خلق خلقاً لا يتمالك؛ ولهذا يأتي الشيطان الإنسان من هذه البوابة كثيراً. فالمقصود: أن الأكل والشرب وإن قيل: إنها كمال في الإنسان إلا أنه كمال إضافي، أي: أن حقيقتها نقص من حيث التكوين الخلقي الأساسي، وفرق بين الكمال الذي هو كمال حتى في حال تجريده وإطلاقه، وبين الكمال الإضافي.

القاعدة التاسعة

القاعدة التاسعة التاسعة: وهي قاعدة أعم من الأولى وأقوى، وهي منبنية على حقيقة عقلية قاطعة، وإن كانت الأولى كذلك، لكن هذه أقوى وأطرد، وأيضاً تتضمن هذه القاعدة إبطال مذهب المخالف. وهي محك النزاع بين السلف ومخالفيهم من نفاة الصفات، وهي: أن ثبوت أحد الوصفين المتقابلين يستلزم العلم بنفي الآخر، وأن نفي أحد المتقابلين يستلزم العلم بثبوت الآخر. ومثالها: أن العلم باتصاف الله سبحانه وتعالى بالعلم يستلزم انتفاء الجهل، والمنفي هنا ليس هو محل خلاف بين المسلمين، فإذا أردت أن تبطل مذهب المخالف تستعملها على طريقة العكس: أن العلم بانتفاء أحد الوصفين المتقابلين يستلزم العلم ضرورة بثبوت الآخر، فتقول للمعتزلة: لما اتفقنا أن الله منزه عن الجهل لزم أن يكون موصوفاً بالعلم. لما اتفقنا أن الله منزه عن العجز لزم أن يكون موصوفاً بصفة القدرة .. وهلم جرا. إذاً: العلم بثبوت أحد الوصفين المتقابلين يستلزم العلم بنفي الآخر، فهذه القاعدة لا يخالف فيها أحد، لكن المصنف يستعمل عكسها للإثبات، يستعمل عكسها، وهو أن العلم بنفي أحد الصفتين يستلزم العلم بثبوت الصفة الأخرى المقابلة، لأن القاعدة تقبل الانعكاس الاطرادي، فهو يستدل بأنه ما دام المخالف يسلم بأن العلم بثبوت الصفة يستلزم نفي ضدها فإن الفرض العقلي الضروري يلزم منه صحة العكس أيضاً؛ لأن القاعدة منبنية على عدم الجمع بين المتقابلين. فمن قال: إن العلم بثبوث أحد الوصفين يستلزم نفي الوصف المقابل؛ لزمه بالضرورة العقلية القاطعة أن يسلم بأن نفي أحد الوصفين يستلزم العلم بثبوت الآخر المقابل، فإن صفة الكمال دائماً يقابلها ويضادها صفة النقص، فإذا علمنا تنزه الباري عن صفات النقص لزم أنه متصف بصفات الكمال. فهذه القاعدة قاعدة اطرادية وهي مبنية على قبضة قوانين العقل، وهو قانون: عدم الجمع بين النقيضين، وهو المذكور في مثل قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ} [الطور:35] فإنهم خلق أنفسهم ممتنع، وخلقهم من غير شيء كذلك ممتنع، إذاً: لزم بالضرورة العقلية أن يكون الله هو الذي خلقهم. وقد اهتم بقاعدة التقابل هذه شيخ الإسلام كثيراً، فقد أشار إليها في الرسالة التدمرية في القاعدة السابعة، وشرحها في كتبه شرحاً مطولاً، وهي محك الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة.

القاعدة العاشرة

القاعدة العاشرة العاشرة: أن القول بنفي الصفات أو ما هو منها في كثير من الموارد هو فرع عن تقرير مسألة الكيفية. فالسلف -كما تقدم- يفرقون بين العلم بالصفة من حيث معناها وبين العلم بها من حيث كيفيتها، والمخالفون لهم يزعمون أن إثبات الصفة يستلزم التشبيه، فيقال: هذا مبني على أن العلم بالصفة يستلزم العلم بكيفيتها، أما من فرق بين المقامين والتزم أن العلم بالمعنى لا يستلزم العلم بالكيفية لم يرد عليه هذا الإشكال، وهذا معنى قول المصنف: أن كل معطل ممثل، وكل ممثل معطل. إذاً: المخالف في كثير من الأحوال جاء من ظن التلازم بين العلم بالمعنى والعلم بالكيفية، حيث أنه يظن أنه إن أثبت المعنى لزم أن يثبت العلم بالكيفية، ثم يبحث في الكيفية فلا يعرف إلا كيفيةً يختص بها المخلوق، فينفي الكيفية وينفي تبعاً لها المعنى الذي ظنه ملازماً لهذه الكيفية. ومن هنا كان التفريق أصلاً في هذا الباب، سواء في تحقيق مذهب السلف أو في الرد على المخالف. هذا محصل الإشارة لهذه القواعد، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا هداةً مهتدين، وأن يرزقنا حسن القول والقصد والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

§1/1